س/200 كم أقسام صفات الله تعالى الثبوتية مع التمثيل وبيان الفرق بينهما ؟
ج/ أقول : صفات الله تعالى تنقسم إلى قسمين : صفات ذاتية وصفات فعلية ، والصفات الذاتية هي الملازمة للذات لا تنفك عنها أزلاً وأبداً ، وأما الصفات الفعلية فهي المتعلقة بالمشيئة، أي متى ما شاء فعلها ومتى شاء لم يفعلها ، ويمثل للصفات الذاتية : بالوجه والبصر والحياة والوجود والسمع والقدم والساق وغير ذلك ، ويمثل للصفات الفعلية : بالنزول إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر ، والرضى والغضب ونحو ذلك والله أعلم.
س/201 هل أسماء الله تعالى مترادفة أم متباينة ؟
ج/ إن هذا السؤال سؤال مجمل يحتاج إلى تفصيل والقاعدة عند أهل السنة رحمهم الله تعالى في ذلك تقول : أسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات ، وبيان ذلك أن يقال : إن التباين يكون بالنظر إلى إن كل اسم من أسمائه جل وعلا يدل على صفة كمال ليست هي الصفة التي يدل عليها الاسم الآخر، فالقدير يدل على القدرة والسميع يدل على السمع ، فالقدير والسميع متباينان من حيث النظر إلى ما تضمناه من الصفات ، لكنهما اسم لذاتٍ واحدة وهي ذات الباري جل وعلا ، والعزيز يدل على صفة العزة والعلي يدل على صفة العلو والعزة ليست هي العلو ، فالعزيز والعلي من حيث النظر إلى صفاتهما متباينان، ولكنهما اسم لذات الباري جل وعلا وهي واحدة ولا تتعدد، والقوي يدل على صفة القوة ، والعليم يدل على صفة العلم ، والقوة ليست هي العلم فهما من هذا الاعتبار متباينان لكنهما اسم لذات واحدة ، وهكذا ، فأسماء الله تعالى إذا نظرت إلى أنها جميعها تدل على ذات واحدة وهي ذات الباري جل وعلا نقول : مترادفة، وإذا نظرت إلى ما تضمنته من الصفات فهي متباينة فلا نقول : متباينة مطلقاً ولا مترادفة مطلقاً بل نقول : مترادفة من حيث الذات ومتباينة من حيث الصفات ، وأضرب لك ثلاثة أمثلة ليتضح لك الأمر أكثر فأقول :(1/1)
المثال الأول : أسماء القرآن ، فإن من أسمائه الذكر والكتاب والهدى والشفاء ، فهذه الأسماء مترادفة من حيث إنها تدل على ذات واحدة وهي ذات القرآن ، لكن كل منها يدل على صفة لا يدل عليها الاسم الآخر ، فهي باعتبار صفاتها متباينة .
المثال الثاني: أسماء النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه محمد وأحمد والعاقب والحاشر وبني الملحمة وبني الرحمة والمقفي وغير ذلك مما ثبت له من أسماء فهذه الأسماء مترادفة إي متفقة من حيث إنها تدل على ذات واحدة وهي ذات النبي صلى الله عليه وسلم لكن كل أسم منها يدل على صفة لا يدل عليها الاسم الآخر فهي من هذا الاعتبار متباينة.
المثال الثالث: أسماء اليوم الآخر فإن من أسمائه يوم القيامة والصاخة والطامة والقارعة ويوم التغابن والواقعة وغير ذلك ، فهذه الأسماء باعتبار دلالتها على يوم واحد مترادفة ولكن كل أسم منها يحمل صفة لا يحملها الاسم الآخر فهي بهذا الاعتبار متباينة ، وبناءً عليه فنقول : أسماء القرآن مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وأسماء النبي صلى الله عليه وسلم مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وأسماء يوم القيامة مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، وكذلك أسماء الله تعالى مترادفة من حيث الذات متباينة من حيث الصفات ، ولعل الجواب قد أتضح والله أعلى وعلم .
س/202 ما أنواع الإضافة إلى الله تعالى ؟ وما القاعدة في ذلك ؟ مع توضيح الإجابة بالأمثلة ؟ ولماذا قال أهل السنة ذلك وحرصوا على بيانه ؟
ج/ أقول : أن الأشياء التي يضيفها الله تعالى إليه نوعان :(1/2)
الأول : إضافة أشياء لا يتصور قيامها بذاتها بل لا يتصور قيامها إلا بغيرها ، فهذه الإضافة إضافة صفة إلى موصوف ، وذلك كإضافة الوجه في قوله تعالى ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن:27) فالوجه عين لا يمكن قيامه إلا بغيره ، فهو إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا أن له وجهاً لائقاً بجلاله وعظمته . ومن ذلك إضافة اليدين في قوله تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: من الآية64) فاليد لا يتصور قيامها إلا بغيرها فهي إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا اليدان ، فله يدان كريمتان لائقتان بجلاله وعظمته . ومن ذلك إضافة العين في قوله تعالى ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39) والعين من الأشياء التي لا تقوم إلا بغيرها فهي إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا أن له عينين تليقان بجلاله وعظمته ومن ذلك قوله تعالى ( فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) (التوبة: من الآية6) وقوله ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ) (لأعراف: من الآية144) فالكلام شيء لا يقوم بذاته بل لا يقوم إلا بغيره فهو إضافة صفة إلى موصوف فنقول : من صفاته جل وعلا الكلام اللائق به جل وعلا ، ومن ذلك قوله تعالى ( وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ) (طه: من الآية81) } فالغضب لا يقوم بذاته بل لا يقوم إلا بغيره فهو إضافة صفةٍ على موصوف فيقول : من صفاته جل وعلا أن له غضباً يليق بجلاله وعظمته ، وهكذا .(1/3)
الثاني : إضافة أعيان قائمة بذاتها أي بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال ، فهذه إضافة تشريف أو إضافة خلق أو إضافة عابدٍ إلى معبوده كقوله تعالى (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ) (لأعراف: من الآية73) والناقة عين قائمة بذاتها منفصلة عن الله كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ) (البقرة: من الآية125) والبيت أي المسجد الحرام عين قائمة بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال فهو إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ ) (الأحزاب: من الآية40) والرسول صلى الله عليه وسلم عين قائمه بذاتها منفصلة عن الله تعالى كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً) (مريم: من الآية17) وجبريل عليه الصلاة والسلام عين قائمة بذاتها منفصلة عن الله تعالى كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً ) (الفرقان: من الآية63) وهؤلاء العباد أعيان قائمه بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وكقوله تعالى ( وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) (المائدة: من الآية32) والرسل أعيان قائمة بنفسها منفصلة عن الله كل الانفصال فهي إضافة تشريف وتكريم ، وهكذا ، وإذا أشكل عليك شيء من الإضافات من أي نوع هي فأرجع إلى سؤال أهل العلم لقوله تعالى ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43) وإياك والتخرص وسلوك طريق العماية وإعمال العقل المجرد عن نور الكتاب والسنة ، والقاعدة في ذلك عند أهل السنة رحمهم الله تعالى تقول : الأشياء المضافة إلى الله تعالى إن كانت لا تقوم بذاتها فإضافة صفة إلى موصوف وإن كانت(1/4)
تقوم بذاتها فإضافة تشريف وتكريم أو خلق ، والذي دعا أهل السنة رحمهم الله تعالى لقول ذلك هو أن المبتدعة يسوون بين الإضافتين إرادةً منهم لنفي صفات الله تعالى فنقول : إن قوله { ويبقى وجه ربك } كقوله { ناقة الله } فكما أن إضافة الناقة له جل وعلا لا تدل على أنها صفته فكذلك إضافة الوجه له لا يدل على أنه صفته بل إضافة الوجه له إضافة تشريف وتكريم كإضافة الناقة ، فأضطر أهل السنة للتفريق بين الإضافتين للرد على هؤلاء الضالين المتهوكين التائهين في باب صفات الله تعالى ، وهذا من توفيق الله تعالى لأهل السنة أعلا الله منارهم وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم وأسكنهم فسيح الجنان وجعلني الله وإياك ممن اهتدى بهديهم وسلك سبلهم والله أعلى وأعلم .
س203/ ما لواجب في الإيمان بأسماء الله تعالى ؟ مع التمثيل؟
ج/ الواجب في ذلك أن تؤمن بثلاثة أمور
الأول : أن تؤمن بها اسما لله تعالى ، أي أن نعتقد أنه أسم له جل وعلا ، فنسميه به .(1/5)
الثاني : أن نؤمن بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم لأن القاعدة المتفردة عند أهل السنة أن كل أسم من أسماء الله تعالى يتضمن صفة من الصفات ، فلا يتم الإيمان بأسمائه جل وعلا إلا إذا آمنا بالصفة التي تضمنها ذلك الاسم ، فالعزيز أسم و العزة صفه والقوي اسم والقوة صفة والحي أسم والحياة صفة والعليم أسم والعلم صفة ، والبصير والسميع اسمان والبصر والسمع صفة وهكذا فأسماء الله تعالى أعلام ونعوت فهي أعلام باعتبار دلالتها على الاسمية ونعوت باعتبار دلالتها على الوصفية وأما الأمر الثالث : فإنه يكون خاصاً بالأسماء التي يكون لصفاتها أثراً متعدٍ ، فإذا كانت صفة هذا الاسم لها أثر متعد فإن من تمام الإيمان له أن تؤمن بهذا الأثر ، فالبصير اسم والبصر صفة ، والأثر هو أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا السماء ، فليحذر العاقل الذي يريد لنفسه النجاة أن يراه الله على حالٍ أو في مكانٍ لا يحبه جل وعلا ، والسميع أسم والسمع صفة وعموم سمع الله تعالى لكل شيء فلا يخفى على سمعه شيء كما قالت عائشة رضي الله عنها{ سبحان من وسع سمعه الأصوات} والعليم اسم والعلم صفة ، والأثر هو أنه يعلم كل شيء فيعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون فلا يخرج شيء عن كونه معلوماً له جل وعلا ، والحكيم أسم والحكمة صفة ، والأثر الإيمان التام بأنه جل وعلا الحكيم في أقداره وأفعاله وشرعه ، والقدير أسم والقدرة صفة ، والأثر هو أن نؤمن بأنه الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمنه ، وهذا شأن الكثير من أسمائه جل وعلا ، وأما إذا كانت الصفة ليس لها أثر متعدٍ فالواجب الإيمان بالأمرين الأولين فقط وذلك كالحي ، فأنه أسم والحياة صفة ولكن ليس لهذه الصفة أثر متعد ، وخلاصة الجواب أن يقال : الواجب في الأسماء أمران : الإيمان بها اسماً والإيمان بما تضمنته من الصفات ، وإذا كانت صفة(1/6)
الاسم لها أثر متعدٍ فيزيد ذلك الاسم بوجوب الإيمان بالأثر المتعدي والله أعلم
س204/ عرف الإلحاد ؟ مع بيان أقسامه ؟
ج/ الإلحاد لغة : هو الميل ، ومنه اللحد لأنه ميل عن سنن القبر ، ومنه الملحد لأنه مائل عن الاعتقاد والعمل الصحيح الموافق للكتاب والسنة ، وشرعاً : الميل عن ما يجب اعتقاده في أسمائه جل وعلا وآياته ، ومن التعريف يتضح أن الإلحاد قسمان : إلحاد في أسماء الله تعالى وإلحاد في آياته والله أعلم .
س205/ ما أنواع الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وما حكمه مع بيان ذلك بالدليل؟
الإلحاد في أسماء الله تعالى أنواع :
الأول : إنكارها جملة أو إنكار بعضها ، كما وقع من الجهمية نفاة الأسماء والصفات ، وكما وقع من المشركين كما قال الله تعالى عنهم ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) (الفرقان:60) فمن أنكر أسماء الله تعالى بعضاً أو كلاً فهو ملحد .
الثاني : إنكار ما تضمنته من الصفات ، فيثبت الاسم ولكنه ينكر الصفة ، كما وقع من المعتزلة فإنهم يقولون : الله عليم بلا علم وقدير بلا قدرة وبصير بلا بصر وسميع بلا سمع وقوي بلا قوة وهكذا في سائر الأسماء ، وقد تقدم لك أن أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى يثبتون الأسماء ويؤمنون بما تضمنه الاسم من الصفة .(1/7)
الثالث : تسمية الله تعالى بما لا دليل عليه ، وهذا تجرؤ على مقام الربوبية والألوهية والأسماء والصفات فتراهم يطلقون على الله تعالى من الأسماء ما لا دليل عليه وذلك كتسمية النصارى له{بالأب} وكقول الفلاسفة الأغبياء الحمقى : الله هو العقل الفعال والعلة الفاعلة والموجب بالذات ، وكقول بعضهم عن الله تقدس اسمه : إنه صاحب الفيوضات ، وغير ذلك من تخرصاتهم وتهوكاتهم وما هي بأول ضلالاتهم ووقاحتهم وقلة أدبهم ، أما أهل السنة رحمهم الله تعالى فإن باب الأسماء عندهم باب توقيفي على الدليل فلا يسمون الله تعالى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم
الرابع : وصفه تعالى بما لا يليق به جل وعلا وتقدس كقول أخبث الطوائف : إنه فقير وقولهم : إنه استراح بعد أن خلق الخلق ، وقولهم أن يده مغلولة ، وقول النصارى : إنه أتخذ صاحبة وولداً ، وكقول بعض حمقى الكلام ، إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا موجود ولا معدوم ولا أبيض ولا أسود ولا فوق السماوات إله يعبد ولا رب يصلى له ويسجد ،وكقول أهل الحلول : إنه خال في خلقه فهو بذاته في كل مكان ، وكقول الاتحادية : إنه عين هذا الوجود وهذا الوجود هو عينه فليس هناك خالق ولا مخلوق بل هما عين واحدة لا تنقسم ولا تتجزأ ، وغير ذلك من صفات النقص والبهتان التي ينبو عنها القلم ويستحي العبد من تسطيرها، فالحمد لله على السلامة والعافية وأسأله جل وعلا أن يثبتني وإياكم على اعتقاد أهل السنة إلى الممات وأن يحشرنا في زمرتهم والله أعلم.
الخامس : أن يشتق من أسمائه جل وعلا أسماء لبعض المعبودات الباطلة ، كتسميتهم اللات من الله والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم ألهاً وهذا إلحاد حقيقة فإنهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم ومعبوداتهم الباطلة.(1/8)
السادس : تشبيه صفاته بصفات خلقه أو تعطيلها ، كما وقع فيه الممثلة والمعطلة. وهذا الإلحاد حرام وجريمة وكبيرة من عظائم الأمور ومن فظائع منكرات الاعتقادات والأقوال وقد يصل بصاحبه إلى الكفر والدليل قوله تعالى ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180) والله أعلم .
س206/ ما أنواع الإلحاد في الآيات ؟ وما معنى كل نوع ؟ مع بيان ذلك بالدليل؟(1/9)
ج/ الإلحاد في الآيات نوعان : إلحاد في الآيات الكونية كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض ونحوها ، وإلحاد في الآيات الشرعية أي القرآن ، فالإلحاد في الآيات الكونية فيكون باعتقاد خالق لها مع الله تعالى أو معين له في خلقها أو أن هناك مدبراً لها معه جل وعلا أو صرف شيء من العبادة لها من دونه جل وعلا ، قال تعالى ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سبأ:22) وقال تعالى ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ) (فاطر: من الآية40) وقال تعالى ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37) وأما الإلحاد في الآيات الشرعية فيكون بإنكارها جملة أو بإنكار بعضها أو تحريفها وإخراجها عن المعاني الصحيحة اللائقة بها أو اعتقاد أن هذا القرآن مخلوق من جملة المخلوقات أو التكذيب بشيء منها ، وهذا الإلحاد حرام وكبيرة من كبائر الذنوب وقد يصل بصاحبه في كثير أحيانه إلى الكفر ، قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (فصلت:40) فنعوذ بالله تعالى من الإلحاد في أسمائه وآياته والله تعالى أعلم .
س207/هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين أم لا ؟ وما الدليل على ذلك ؟(1/10)
ج/ القاعدة عند أهل السنة والجماعة أن أسماء الله تعالى لا تحصر بعدد معين ، والدليل على ذلك ما رواه أحمد وأبن حبان والحاكم بسندٍ صحيح من حديث أبن مسعود رضي الله عنه في حديث الكرب ، وفيه (أسألك بكل أسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك... الحديث ) فهذا الحديث دليل على أن لله أسماء قد استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، فقوله (استأثرت به) أي انفردت بعلمه ، وما استأثر الله به في علم الغيب عنده لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به ، فإن قلت : فماذا تقول في قوله صلى الله عليه وسلم ( إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة ) أوليس هذا دليلاً على الحصر ، وبيان ذلك بضرب مثالين وهما :
الأول : لو قلت لك : إن عندي مائة بيتٍ شعري من حفظها أعطيته ألف ريال ، فهل تفهم من هذا التركيب اللغوي أنه ليس عندي إلا مائة بيت فقط ؟ بالطبع لا ، ولكني حصرت هذه المكافأة فيمن حفظ من أبياتي هذا المقدار .
الثاني : لو قلت لك : إن عندي مائة درهم أعددتها للصدقة فهل تفهم من هذا التركيب أنه لا يوجد عندي إلا هذه الدراهم فقط ؟ بالطبع لا ، وإنما هذه الدراهم هي المعدة للصدقة فقط ، وبناءً عليه فنقول : إن الله تعالى رتب دخول الجنة على من أحصى من أسمائه هذا المقدار ، فكأنه يقول : إن من أحصى من أسمائي تسعة وتسعين اسماً فله الجنة أي أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة وهذا واضح ، ويقال أيضاً : سلمنا أنه يفهم منه الحصر فإن الحديث الثاني ( أو استأثرت به في علم الغيب عندك ) أفادنا أن ما فهمناه من الحصر ليس مقصوداً ، وفهمنا تابع للأدلة ، لا أن الأدلة موقوفة على فهمنا فما وافقه منها قبلناه وما خالفه رددناه فإن هذا مسلك الهالكين من أهل البدع ، وقد انعقدت قلوبنا على أنه لا تعارض بين نصين صحيحين مطلقاً والله أعلم
وقبل ختم الجواب أفيدك فائدتين:(1/11)
الفائدة الأولى : اعلم أن ما ورد مرفوعاً من تعداد هذه الأسماء لا يصح ، فقد قال أبو العباس : إن تعينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بالحديث، وقد تتبعها بعض أهل العلم ، والمرجع في ذلك القرآن وما صح من السنة والله أعلم .
الفائدة الثانية : قوله ( من أحصاها ) والمراد بذلك حفظها لفظاً والإيمان بها وبما تضمنته من الصفات وتمامه أن يتعبد لله بمقتضاها والله أعلم .
س208/ هل آيات الصفات من قبيل المحكم أم من التشابه ؟
ج/ لا يقال من المحكم مطلقاً ولا يقال من المتشابه مطلقاً وبيان ذلك : أن المراد بالمحكم ما اتضح معناه والمتشابه ما خفي معناه ولم يعرف ، وبناءً عليه فنقول : إن آيات الصفات من المحكم باعتبار معانيها بل هي من أعلى درجات المحكم لأننا نعلم معانيها كما قدمنا لك سابقاً ، ومن المتشابه باعتبار كيفياتها لأننا لا نعلمها ولا طريق للعلم بها ، وهذا المذهب الحق وسط بين مذهبين :
الأول : من يرى أنها من المتشابه مطلقاً أي لا يعلم معناها أصلاً فضلاً عن كيفيتها وهم المفوضة .
الثاني : من يرى أنها من المفهوم المعلوم حتى في كيفياتها وهم الممثلة .
فجاء أهل السنة فقالوا : بل هي من المحكم باعتبار ومن المتشابه باعتبار، فهي محكمة باعتبار معانيها ومتشابهة باعتبار كيفياتها، وهذا صورة من صور الوسطية التي تميز بها أهل السنة والجماعة والله أعلم .
س209/ هل ظاهر نصوص الصفات مراد أم غير مراد ؟(1/12)
ج/ أقول : إن الاحتياط في الجواب وإزالة ما عساه أن يرد على السامع من مقاصد أهل السنة والجماعة وبناء عليه فنقول : أن لفظ الظاهر بحسب كثرة الاستعمال صار من الألفاظ المجملة ، فالممثلة والمعطلة يفهمون منها ظاهراً وأهل السنة أهل العقول السليمة والفطر المستقيمة يفهمون منها ظاهراً فإذا كان ذلك كذلك فنقول : إن كنت تريد بالظاهر ما يفهمه أهل السنة والجماعة من هذه النصوص من المعاني اللائقة بالله جل وعلا التي لا تمثيل فيها ولا تعطيل ولا نقص بوجه من الوجوه ، فهذا الظاهر لاشك أنه مراد ، فأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون ولا يمثلون ولا يحرفون ولا يعطلون . فهذا الظاهر مراد ولا شك ، وأضرب لك بعض الأمثلة على ذلك :(1/13)
قوله تعالى { بل يداه مبسوطتان } فالظاهر منها عند أهل السنة إثبات اليدين اللائقتين بالله جل وعلا ، كقوله تعالى { ويبقى وجه ربك } فالظاهر منها عند أهل السنة إثبات الوجه لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته ، وكقوله تعالى ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (لأعراف: من الآية156) فالظاهر منها إثبات الرحمة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته وكقوله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا ......الحديث ) فالظهار منه إثبات النزول في هذا الوقت لله جل وعلا على ما يليق بجلاله وعظمته وكذلك يقال في سائر آيات الصفات ، فإذا كان المراد بالظاهر ما يفهمه أهل السنة من المعاني اللائقة بالله جل وعلا فإننا نقول: هذا الظاهر مراد ، وأما إذا كان يقصد بالظاهر ما يفهمه المبتدعة من الممثلة والمعطلة فإنه ليس بمراد لأنهم يفهمون من هذه الآيات معانٍ لا تليق بالله جل وعلا ، فلا يفهمون منها إلا ما يفهمونه من صفات المخلوقات وهذا ليس بمراد من هذه الآيات ، ولكن نحن ننازعهم أصلاً في أن هذا الذي فهموه ليس هو الظاهر الصحيح الذي دلت عليه آيات الصفات وإنما هو شيء توهموه بعقولهم الفاسدة وإفهامهم العفنة ، وفي الحقيقة أن فهمهم هذا مخالف لما فهمه السلف منها وهو خباية على النصوص وتعطيل لها عن المراد بها ، وهو مخالف أيضاً للعقل الصريح والفطر السليمة والإفهام المستقيمة لأن العقل والشرع يفرضان مباينة الخالق للمخلوق في الذات والصفات ، فهم وإن سموه ظاهر الصفات فإنها تسمية باطلة مردودة بالنقل والعقل والفطرة والله أعلم .
س210/ ما حكم السؤال عن كيفية شيءً من صفات الله تعالى ولماذا ؟ وكيف الجواب لمن سألنا عن شيءً من ذلك ؟(1/14)
ج/ أقول : السؤال عن كيفية صفات الله محرم وجريمة من إقحام العقل والنفس فيما لا مجال لها فيه وهو من زلل القول وخطل الفهم الذي ينبغي لصاحبه التوبة النصوح والاستغفار الكثير منه وذلك لأنه مسلك الهالكين من أهل البدع ومن أبواب الشر التي لو فتحت لأفسدت على الناس عقيدتهم في ربهم جل وعلا ، ولأنه مخالف لمنهج السلف فإن السلف رحمهم الله تعالى لا يعرف عنهم كلمة واحدة في ذلك ولأنه من الأمور الغيبية التي هي خارجة عن حدود العقل وطاقاته فمهما أعملت عقلك في إدراك الكيفية لشيء من صفات الله فلن ترجع إلا بالضلال والخيرة والتيه والشكوك والأسئلة الكثيرة والإشكالات المحيرة التي لا جواب عنها إلا يردع العقل والنفس عن الدخول في ذلك ، فما هلك أهل التمثيل والتعطيل إلا لأنهم وضعوا لصفات الله كيفية من عند أنفسهم فرضيها أهل التمثيل فمثلوا وأباها أهل التعطيل فعطلوا ، فأحذر من سلوك سبيلهم الضال ، وقف حيث وقف السلف في صفات الله العظيم الكبير المتعال ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالرؤية أو بمشاهدة النظير أو بإخبار الصادق عنها وكلها منتفية في حق صفات الله تعالى ، وأما الجواب لمن سألنا عن شيء من ذلك فهناك عدة أجوبة :
الأول : أن نقول له : ما سألت عنه من الصفات معناه معلوم ، وكيفه مجهول والإيمان بها واجب والسؤال عنه بدعه ، وهذا الجواب صحيح سديد باتفاق أهل السنة ، وصالح للإجابة به عن أي صفة قد سئل عن كيفيتها ، فهو وإن ورد في الإجابة عن السؤال عن كيفية صفة الاستواء ، لكن يصلح للجميع لأن المتقرر أن القول في بعض الصفات كالقول في بعضها ، وهذا أوضح .(1/15)
الجواب الثاني : أن نقول : إن كيفية الشيء لا تعلم إلا بعد العلم بكفه ذاته ، فأخبرني أنت عن كفه ذات الباري جل وعلا ، فبالطبع لن يجد جواباً وسيقول لا أعلم كيفية ذاته ، فقل له : إذا كنا أنا وأنت مشتركين في عدم العلم بكيفية الذات فكيف تطالبني بكيفية صفة ذاتٍ لا أعلمها فإن من يجهل كيفية ذات شيء فإنه من باب أولى أن يجهل كيفية صفاتها ، فأنا لا أعلم كيف استواء الله لأنني أصلاً لا أعلم كيف هو في ذاته ولا أعلم كيفية وجهه ويديه وعينيه لأنني أصلاً لا أعلم كيف هو في ذاته جل وعلا ، فالجهل بكيفية الذات مفضي إلى الجهل بكيفية الصفات وقد تقرر عند أهل السنة أن القول في الصفات كالقول في الذات ، فنحن لا نعرف كيفية صفات الله تعالى لأننا أصلاً لا نعرف كيفية ذاته .
الجواب الثالث : أن تبين له أن الكيفية لا يمكن أن تعرف إلا بالرؤية ونحن لم نر الله تعالى ، أو بمشاهدة النظير ، وليس لله مثيل ولا شبيه حتى نستدل برؤية صفاته على صفاته كيف وقد قال تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (الشورى: من الآية11) وقال (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: من الآية65) وقال ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (الاخلاص:4) وقال تعالى ( فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:74) أو بإخبار الصادق صلى الله عليه وسلم عن الكيفية ، وهذا منتفٍ أيضاً فإنه صلى اله عليه وسلم أخبرنا بالصفة ولم يخبرنا بكيفيتها فوجب الوقوف حيث وقف النص ، فبالله عليك : شيء لم أره ولم أر نظيره ولم يخبرني الصادق عن كيفيته ، فكيف أتعرف على هذه الكيفية التي تطالبني بها .
الجواب الرابع : وهو جواب علمي ، وهو بمثابة الكي الذي هو آخر العلاج ، ولعلك عرفته ، فإياك أن تجبن عنه ، بل قم به انتصارا لله تعالى وذباً عن شريعته ، ونترك تفاصيله كتقديرك للمصالح والمفاسد والله أعلم .(1/16)
س211/ ما أقسام التأويل وما المقبول منها والمردود مع بيان ذلك بالأدلة والأمثلة ؟
ج/التأويل ثلاثة أقسام :
الأول : حقيقة الشيء التي يؤول إليها ، وهذا هو استعمال القرآن لهذه اللفظة وما تصرف منها ، أي حقيقة الشيء التي هو عليها في الواقع ، فتأويل الأمر امتثاله وفعله ، كما قالت عائشة رضي الله عنها ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن ) متفق عليه ، أي يوقع حقيقة ما أمر به في القرآن ، وتأويل النهي اجتنابه فتأويل قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً) (الإسراء:32) هو اجتناب الزنى وتأويل قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) (الأنعام: من الآية151) هو ترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن وهكذا ، وتأويل الرؤيا وقوعها أي وقوع حقيقتها في الخارج ومنه قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام ( يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) (يوسف: من الآية100) أي أن سجود أبويه وإخوته له هو حقيقة الرؤيا التي رآها من قبل ، وتأويل الخبر وقوع حقيقته كما قال تعالى مهدداً الذين ينكرون اليوم الآخر ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ) (لأعراف: من الآية53) أي هل ينتظرون إلا وقوع حقيقته على ما أخبرت به الكتب وجاءت به الرسل يوم تأتي حقيقته حينئذ يندمون ولا ت ساعة مندم ، فتأويل اليوم الآخر هو وقوعه وتأويل الصفات هي حقيقتها التي هي عليها في الواقع ومن ذلك أيضاً قول الخضر لموسى عليهما الصلاة والسلام ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: من الآية78) أي سأخبرك بحقيقة ما رأيت من الأمور التي جعلتك تستنكر وتبادر بالإنكار ، ثم قال بعد ذلك أي بعد أن بين له حقيقتها ( ذَلِكَ(1/17)
تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف: من الآية82) أي هذا الذي بينته لك هو الحقيقة التي يؤول إليها ما فعلته ،فهذا هو المعنى الأول .
الثاني : التأويل بمعنى التفسير ، ومنه قول الإمام أبن جرير الطبري في تفسيره العظيم : القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا.............كذا وكذا ، أي تفسير ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لأبن عباس ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) أي تفسير القرآن ومنه قول ابن عباس :أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله ، وقد قيل في بعض الآيات التي ورد فيها لفظ التأويل أنها بمعنى التفسير وهذا من خلاف التنوع لا التضاد ، فهذان المعنيان صحيحان مقبولان متفق عليهما بين أهل العلم ، وهما المأثوران عن السلف الصالح أعلا الله درجتهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في دار كرامته ومستقر رحمته .(1/18)
الثالث : التأويل بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معناه المرجوح ، أو من حقيقته إلى مجازه وهذا النوع من التأويل لا يعرف عن السلف وإنما أحدثه المتأخرون الخلف من المتكلمين في الأصول والفقه وقد تلقفوه من أهل الكلام المذموم الذي أدخل على أهل الإسلام البلاء الكثير والشر المستطير وقد توقف أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في قبوله ورده لأنه من الألفاظ المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً ، وشأنهم فيما كان من هذا القبيل التوقف والإستفصال ، فقالوا : إن كان هذا الصرف بمقتضى الدليل الصحيح الصريح فإنه صرف مقبول ، فما اقتضاه الدليل فأهلاً وسهلاً ، وأما إذا كان صرفاً لا دليل عليه وإنما مبناه على والتخرص والظنون الكاذبة والشهوات والهوى فإنه مردود على صاحبه مضروب به في وجهه ولا كرامة له ، وهو في هذه الحالة وإن سماه أصحابه تأويلاً ليروج وتقبله النفوس إلا أنه في حقيقته تحريف و خلط و باطل ودليل بطلانه أنه مخالف لمنهج السلف الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم فإنهم رحمهم الله تعالى وأعلا درجتهم في الجنة كانوا يقولون عند الظاهر المتبادر من النصوص ولا يتعدونه إلا بمقتضى دليل ، ولأن المتقرر عند أهل العلم أن الأصل هو البقاء على الظاهر الراجح ولا ننتقل إلى المرجوح إلا بدليل ، ولأن الأصل في الكلام الحقيقة فلا يعدل عنها إلى الجاز إلا بقرينه صادقة ، ولأن هذا الصرف الذي لا دليل عليه تحكم في كلام المتكلم بلا إذن منه وهذا لا يجوز في آحاد كلام البشر فكيف بكلام الله جل وعلا وكلام رسله صلوات الله وسلامه عليهم ، ولأن أدلة الشريعة إنما جاءت لإرادة البيان والهدى لا للألغاز والتعمية فكيف يخاطبنا الشارع بكلام له ظاهر وهو في حقيقة الأمر لا يريد منا أن نعتقد ظاهره من غير بيانٍ منه لذلك ، فإن هذا القول يتضمن إخراج هذه النصوص عن مقصود إنزالها الذي هو الهداية ، ولله در الإمام العلامة ابن القيم لما جعله أي التأويل بهذا(1/19)
المعنى من جملة الطواغيت التي أفسدت كثيراً من عقول المسلمين وعلومهم وأدخلت عليهم التمثيل والتعطيل والجير وإنكار القدر والوقيعة في خيار الأمة وسلفها فنعوذ بالله من الخذلان وزيغ القلوب بعد هدايتها والله أعلم .
س212/ أيهما أرجح في الوقف في قوله تعالى ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: من الآية7) أن يكون على لفظ الجلالة الذي هو الاسم الأحسن أم يكون على لفظة { العلم }؟
ج/ أقول : فيه خلاف بين العلماء ، والأرجح أن هذا من قبيل خلاف التنوع لا التضاد ، فإن الوقف يختلف باختلاف ما يقوم في قلب القاري من معاني التأويل السابقة - أعني النوع الأول والثاني فقط - لأنهما المأثوران عن السلف ، فإن قام في قلبه المعنى الأول فالوقف على الاسم الأحسن أي على قوله { إلا الله } لأن الذي يعلم حقيقة ما أخبرت به الرسل على ما هو عليه في الواقع من آيات الصفات واليوم الآخر إنما هو الله تعالى ونحن وإن علمنا معانيها لكن لا يعلم كيفياتها على ما هي عليه إلا الله تعالى وأما إذا كان الذي قام بقلب القارئ المعنى التأويل أي التفسير فالوقف التام على قوله { والراسخون في العلم } وهذا اختيار أبي العباس شيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى . فإذا وقفت على الاسم الأحسن فاعتقد المعنى الأول وإذا وصلت فأعتقد المعنى الثاني والله أعلم .
س213/ ما مذهب أهل السنة في نفس الله تعالى مع بيان ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة ؟ وهل هي من الصفات الذاتية أم الفعلية ؟
ج/ أقول : يعتقد أهل السنة والجماعة أن لله تعالى نفساً لائقة بجلاله وعظمته ، ليست كأنفس المخلوقين ، ومجرد اتفاق أسم نفسه مع أسم نفسنا لا يستلزم اتفاقهما في كيفياتهما(1/20)
كما قدمنا لك سابقاً ، والدليل قوله تعالى ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الأنعام: من الآية54) فقد أضاف النفس إليه وهي لا تقوم بذاتها فدل ذلك على أنها إضافة صفة إلى موصوف جل ربنا وتعالى وتقدس عن أن تكون نفسه كنفس خلقه ، وعز جلاله وتعالت عظمته أن يكون عدماً لا نفس له ، وقال تعالى لكليمه موسى عليه الصلاة والسلام ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (طه:40،41) فثبت أن لله نفساً ، وقال تعالى ( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ) (آل عمران: من الآية28) وقال تعالى عن عيسى عليه السلام ( تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ) فثبت لله نفساً إثباتاً بلا تمثيل ونزهه عن مماثلة خلقه فيها تنزيهاً بلا تعطيل ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقول الله تعالى أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خير منهم ) متفق عليه وإضافة النفس هنا إضافة صفة إلى موصوف ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى صلاة الصبح وجويرية جالسة في المسجد فرجع حين تعالى النهار قال : لم تزالي جالسة بعدي ؟ قالت نعم ، قال : قد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بهن لوزنتهن: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضى نفسه وزنة عرشه "رواه مسلم والشاهد منه قوله ( ورضى نفسه ) فقد أضاف النفس إليه إضافة الصفة إلى الموصوف ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لما قضى الله الخلق كتب كتاباً على نفسه فهو عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي ) متفق عليه ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسى :(1/21)
أنت الذي أشقيت الناس أخرجتهم من الجنة ، قال آدم : وأنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه واصطنعك لنفسه .....الحديث ) متفق عليه وعن أبي ذر رضي الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى ( إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا....الحديث ) رواه مسلم ، ومن الأدلة القطعية أيضاً إجماع أهل السنة فقد أتفق أهل السنة رحمهم الله تعالى على إثبات النفس لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته ، وهو الذي نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ، إذا علمت هذا فأعلم أن صفة النفس من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله تعالى ، والله أعلم
س214/ ما مذهب أهل السنة في علم الله تعالى ؟ مع الدليل ؟ وهل هو من الصفات الذاتية أم الفعلية ؟(1/22)
ج/ أقول : يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى اعتقاداً جازما بيقين راسخ أعظم من رسوخ الجبال الرواسي أن الله تعالى موصوف بالعلم الكامل الشامل الذي لم يسبق بجهل فهو يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون وأنه من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله تعالى أزلاً وأبداً قال تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ ......الآية )وقال تعالى ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) وقال تعالى ( وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ) وقال تعالى ( إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وقال تعالى ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) وفي حديث الاستخارة الطويل ( اللهم إني أستخيرك بعلمك الغيب ......الحديث ) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ثم قرأ هذه الآية ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سبق علم الله في خلقه فهم صائرون إليه ) أخرجه اللاكائي رحمه الله تعالى في شرح العقائد، ودل عليها العقل أيضاً : وذلك من وجوه :(1/23)
الأول : أن العلم في حد ذاته صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها وقد تقرر في القواعد أن ما كان صفة كمال في المخلوق لا نقص فيها بوجه فالخالق أولى بها .
الثاني : أن الله تعالى هو الذي أعطى المخلوق هذه الصفة التي هي كمال في ذاتها ومعطي الكمال أولى بالكمال .
الثالث : أنه يستحيل أن يوجد هذا الكون العظيم على هذا النسق الرفيع والنظام البديع وهو غير متصف بالعلم ، وقد أشتد نكير السلف على من أنكرها حتى قالوا : ناظروهم بالعلم فإن أقروا به خصوا وإن جحدوا كفروا وقال الإمام أحمد : ( فإن قال الجهمي ليس له علم كفر، وإن قال له علم محدث كفر حيث زعم أن الله كان في وقت من الأوقات لا يعلم حتى أحدث له علماً فعلم ) أ.هـ
وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وقد أنعقد الإجماع على ذلك ولله الحمد والمنة والله أعلم .
س215/ ما مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في صفة الوجه وهل هو من صفات الذات أم الفعل ؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/24)
ج/يعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى أن لله تعالى وجهاً يليق بجلاله وعظمته وهو من صفاته الذاتية ، قال تعالى ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ) وقال تعالى ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَام ) وقال ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ) رواه مسلم ، وعن جابر رضي الله عنه قال لما نزلت هذه الآية ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ) قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك. قال ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) قال عليه الصلاة والسلام أعوذ بوجهك . قال ( أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قال : هذه أهون أو أسهل ) رواه البخاري . وفي حديث عطاء بن السائب عن أبيه عن عمار بن ياسر رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يقول (( اللهم بعلمك الغيب وقدرتك عن الخلق أجمعين .......وفيه " وأسألك لذة النظر إلى وجهك ") وعن شقيق قال : كنا عند حذيفه فقام شبث بن ربعي فصلى فبصق بين يديه فقال له حذيفة : يا شبث لا تبصق بين يديك ولا عن يمينك فإن عن يمينك كاتب الحسنات ولكن عن يسارك أو من ورائك فإن العبد إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فيناجيه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف عنه أو يحدث حدث سوء . متفق عليه .(1/25)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ) رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ، وقد اجمع أهل السنة والجماعة على إثبات هذه الصفة لله تعالى ، وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س216/ ماذا قال المبتدعة في هذه الصفة ؟ وكيف الرد عليهم ؟
ج/ أقول لقد تجرأ المبتدعة على صفة الوجه كتجرئهم على سائر صفات الباري جل وعلا ، فقالوا : إن لفظ الوجه الوارد في الآيات والأحاديث لا يقصد به إثبات صفة وإنما المراد به الذات ، فيقال لهم : جوابنا على هذا التحريف من وجوه :
الأول : أنه مخالف لمنهج السلف وما أجمعوا عليه وما خالف منهجهم وإجماعهم فهو باطل مردود وإذ لا يمكن أبداً بل لا يتصور أن يكون السلف من الصحابة والتابعين كانوا في معزل عن فهم ما أنزل عليهم ويفهمه هؤلاء المتهوكون الضالون، هذا ما لا يقوله عاقل يعلم ما يقول فضلاً عن كونه مسلماً .
الثاني : أنه مخالف لما يظهر من دلالة النصوص، فإن هذه الأدلة قد أضافت الوجه إلى الله تعالى إضافة الصفة إلى الموصوف والانصراف عن هذا الظاهر المتبادر للفهم السليم لا يجوز إلا بمقتضى دليل صارف ، ولا دليل يصرفنا عن الأصل والظاهر والحقيقة ، فوجب البقاء عليه.
الثالث : أن يقال لهم : إنكم فررتم من إثبات الوجه لله تعالى خوفاً من مماثلة الله بخلقه لأن لهم وجوهاً وقلتم إنه الذات فبالله عليكم أوليست لنا ذوات ؟ بالطبع نعم ، إذاً قد فررتم من شيء ووقعتم في مثله ، فإن قالوا : نحن نقول هي ذات ليست كالذوات ، فنقول قولوا هذا القول في الوجه بادئ الأمر واستريحوا وأريحوا ، وذلك لأنه قد تقرر أن القول في الصفات فرع عن القول في الذات هذا مختصر الجواب عليهم وهو كافٍ والله أعلم.
س217/ ما مذهب أهل السنة في اليدين مع بيان الأدلة ؟ وهل هي صفة ذاتية أو فعلية ؟(1/26)
ج/ يعتقد أهل السنة قاطبة أن لله تعالى يدين اثنتين لائقتين بجلاله وعظمته لا تماثل أيدي المخلوقين ومجرد الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى وأنهما من الصفات الذاتية التي لا تنفك عنه جل وعلا أزلاً ولا أبداً وأهما كريمتان مبسوطتان بالعطاء والنعم قال تعالى ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) (المائدة: من الآية64) وقال تعالى ( لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) (صّ: من الآية75) وقال تعالى ( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) وقال تعالى ( بيده الخير ) وقال تعالى ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (الفتح: من الآية10) وقال تعالى ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر:67) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة في ذكر محاجة موسى لآدم عليهما الصلاة والسلام وفيه أن موسى قال :( أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيك من روحه....(1/27)
الحديث ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لما خلق الله الخلق كتب بيده على نفسه إن رحمتي تغلب غضبي ) وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) وفي المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن أحدكم ليتصدق بالتمرة من طيب ولا يقبل الله إلا طيباً فيجعلها الله تعالى في يده اليمنى ثم يربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل أحد ) وفي رواية " فيقع في كف الرحمن " وفي الصحيح أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يمين الله ملآ لا تغيضها نفقة سماء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغيض ما في يمينه ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقبض الله تعالى يوم القيامة سمواته فيأخذهن بيمينه ويقبض الأراضين ويأخذهن بيده الأخرى ثم نهزهن فيقول : أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ) وفي المتفق عليه من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم فألحفت في المسألة فقال : يا حكيم ما أكثر مسألتك ؟إن هذا المال حلوة خضرة وإنما هو أوساخ الناس وإن يد الله هي العليا ويد المعطي تليها ويد السائل أسفل من ذلك ) وفي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم على منبره يقول : إن موسى سأل ربه فقال يا رب أخبرني بأدنى أهل الجنة منزله ؟ .....وفيه ( فقال : يا رب فأخبرني بأعلاهم منزله قال : هذا ما أردت فسوف أخبرك ، قال : غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها ،لم تر عين ، ولم تسمع أذن ...(1/28)
الحديث ) وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تكون الأرض يوم القيامة خبزه واحدة في يكفوها الرحمن بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر ، نزلاً لأهل الجنة ......الحديث ) وقد أتفق أهل السنة على إثبات هذه الصفة لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ، والله أعلم .
س218/ ماذا قال المبتدعة في هذه الصفة وكيف الجواب عليهم ؟
ج/ أقول : لقد نفى المبتدعة على مختلف طوائفهم هذه الصفة وقالوا : المراد بها القدرة أم النعمة كذا قالوا ولبئس ما قالوا ، والجواب عليهم من وجوه :
الأول : أنه خلاف منهج السلف .
الثاني : أنه لا دليل على هذا الصرف فهو في حقيقته تحريف .
الثالث : أنه مخالف لما ظهر من الأدلة .
الرابع : أن ذلك ممتنع كل الامتناع في قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } وقوله { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } فإن القدرة والنعمة لا يصح أن تأتي مثناة .
الخامس : أنه لو كان المراد باليد القدرة لما كان لآدم عليه السلام فضل على إبليس لعنه الله إذ أن إبليس خلق بقدرة الله تعالى فأنظر كيف لبس إبليس على هذه الطوائف لينكروا ما تميز به أبوهم عليه حسداً وبغضاً وحقداً لآدم وبنيه ، والله أعلم .
س219/ هل يوصف الله تعالى بالكف وهل إحدى يديه شمال ؟ وضح ذلك بالدليل ؟
ج/ أقول : نعوذ بالله تعالى من أن نقول في صفات الله تعالى شيئاً لا دليل عليه ، وبناءً عليه فهذا السؤال فيه فرعان :(1/29)
الأول : الكف فنحن يصف الله تعالى بأن له كفاً يليق بجلاله وعظمته لا تماثل كفوفنا والاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى ، والدليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم ( إن أحدكم ليتصدق بالتمرة إذا كانت من الطيب ولا يقبل الله إلا طيباً فيجعلها الرحمن في كفه فيربها كما يربي أحدكم مهره أو فصيلة حتى تعود في يده مثل الجبل ) وهو في الصحيح ، والشاهد من قوله " في كفه " ففيه إضافة الكف لله تعالى ، وفي رواية "إلا وهو يضعها في كف الرحمن " فنحن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل بل نقول : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ }.(1/30)
الثاني : أتفق أهل السنة والجماعة على إثبات اليدين لله تعالى وأنهما يمين في البذل والعطاء والإنفاق وأن إحداهما يمين في الاسم أيضاً، هذا كله متفق عليه ولكن اختلفوا في أسم اليد الأخرى على قولين : فالأكثر على أنها يمين في الاسم أيضاً واستدلوا على ذلك بالحديث الذي فيه ( وكلتا يدي ربي يمين مباركه ) وبحديث ( وكلتا يديه يمين ) وهما في الصحيح ، فهذه المسألة أعني مسألة اسم اليد الأخرى من المسائل التي ثبت فيها الخلاف بين أهل السنة ، وهو يسير والمرد عند الخلاف إلى الكتاب والسنة ، وقد ذكرت دليل من نفى تسميتها بالشمال ، وذهب بعض أهل السنة إلى أنها شمال في الاسم فقط لكنها يمين في البذل والإنفاق والعطاء ، أي هي يمين في الخير والبركة واستدلوا على ذلك بما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رصي الله عنهما ( يقبض الله تعالى سماواته فيأخذهن بيمينه ثم يهزهن فيقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين فيأخذهن بشماله فيهزهن ويقول أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون ) فأنت ترى هنا أنه سماها بالشمال، وقد قدح في هذه الزيادة جمع من أهل العلم ،ولكن لا داعي للقدح فيها ولا ردها ولا دعوى أنها شاذة أو منكرة ، وبناءً عليه فنقول : إن كانت هذه اللفظة محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نقول بها ونطلق على اليد الأخرى اسم الشمال ونقول فيها ما نقوله في سائر صفاته جل وعلا ، من أنها شمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فنثبتها لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وننزه الله تعالى النقص تنزيهاً بلا تعطيل ، لكن لابد من النظر أولاً في ثبوتها ، والبحث في حال عمر بن حمزة الذي يروي هذا الحديث عن سالم عن ابن عمر ، والله أعلم .
س220/ ما مذهب أهل السنة في صفة الأصابع ؟ مع بيان الدليل؟(1/31)
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رفع الله درجاتهم في الفردوس الأعلى وأعلا منارهم في الدنيا والآخرة وثبت أحياءهم ورحم أمواتهم أن لله تعالى أصابع تليق بجلاله وعظمته وأنها من الصفات الذاتية له جل وعلا ، وأن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى ، والدليل على ذلك ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أتى النبي صلى الله علنه وسلم رجل من اليهود فقال : يا محمد إن الله يجعل السماوات على إصبع والأراضين على إصبع والجبال والشجر على إصبع فيهزهن فيقول : أنا الملك ، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لما يقول الرجل ، ثم قرأ ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ). وروى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه كيف يشاء ) ثم قال : " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك " وهذا الحديث مروي عن عدة من الصحابة ، منهم النواس بن سمعان الكلابي وعائشة أم المؤمنين وأبو ذر جندب بن جنادة رضي الله عنهم وعن سائر أصحابه صلى الله عليه وسلم ، وقد أجمع أهل السنة على إثبات هذه الصفة على ما يليق بجلال الله وعظمته وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س221/ ما مذهب أهل السنة في صفة العين مع بيان ذلك بالأدلة وهل هي من صفات الذات أم الفعل ؟(1/32)
ج/ يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى وغفر لهم وجمعنا بهم في الجنة أن لله عينين اثنتين ذاتيتين لائقتين به جل وعلا ، وأنها لا تماثل أعين العباد ، والاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى قال تعالى ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ) (القمر: من الآية14) وقال تعالى ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه: من الآية39) وقال تعالى ( وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) (هود: من الآية37) وقال تعالى ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) (الطور: من الآية48) وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن ربكم ليس بأعور إلا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية ) متفق عليه ، فنفي العور عنه جل وعلا دليل على أن له عينين اثنتين لائقتين به جل وعلا ، وقال عليه الصلاة والسلام ( إذا قام العبد في الصلاة قام بين عيني الرحمن فإذا التفت قال له ربه : تلتفت إلى خير لك مني ؟ ... الحديث وفيه مقال .
وقد أجمع أهل السنة على إثبات ذلك وهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ولله الحمد والمنة والله أعلم .
س222/ لقد وردت صفتا اليد والعين في الأدلة مفردة ومثناة ومجموعة فأذكر هذه الأدلة وكيف الجمع بينها ؟(1/33)
ج/ أقول : أما صفة اليد مفردة ففي قوله تعالى ( بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) وأما ورودها مثناة ففي قوله تعالى : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ) وأما ورودها مجموعة ففي قوله تعالى ( مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ) أما صفة العين مفردة ففي قوله تعالى ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) وأما ورودها مثناة ففي الحديث ( قام بين عيني الرحمن ) وأما ورودها مجموعة ففي قوله تعالى ( تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ووجه الجمع بينهما أن يقال أما ورودهما مثناة فلا إشكال فيه لأن أهل السنة يثبتوا لله تعالى يدين اثنتين وعينين اثنتين على ما يليق به جل وعلا ، وأما ورودهما مفرده فلا إشكال فيه أيضاً لأنهما لما أفردتا أضيفتا فهما مفرد مضاف وقد تقرر في الأصول أن المفرد المضاف يعم ، فيعم اللفظ كل ما لله من يد وعين ، وقد سيق أنهما اثنتان . وأما ورودهما مجموعه ، فإن النون هنا ليست نون الجمع وإنما هي نون المعظم نفسه ، كقول الملك لمن أعطاه شيئاً : قد أعطيناك هذا بأيدينا ، وإذا رأى الملك شيئاً وسئل عنه فإنه يقول : قد رأيناه بأعيننا ونحو ذلك ، فهذه النون هي نون المعظم نفسه وليست نون الجمع ، فلا إشكال في ذلك ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة وهو أعلى وأعلم .
س223/ ما مذهب أهل السنة في صفة القدم والرجل والساق لله تعالى مع بيان ذلك بالأدلة وهل هذه الصفات من صفات الذات أم الفعل ؟(1/34)
ج/ يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى أن لله قدماً ورجلاً وساقاً لائقة بجلاله وعظمته ، وباتفاقهم أنها لا تماثل المعهود من صفاتنا لأن الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في الصفات ، ولا تثريب على من أثبت ما أثبتته الأدلة وقال بما قالت به النصوص مع علم المعنى والجهل بالكيفية ، وأي عيب بالله عليك أن نقول كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن نثبت لربنا ما أثبته له أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم ، بل التثريب والعيب هو على من يقع في مثل هذه النصوص تحريفاً وإنكاراً وجحوداً وإبطالاً وكأنه أعلم من الله ، وأعلم من نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونعوذ بالله من حال أهل التمثيل والتعطيل ونبرأ إلى ربنا جل وعلا من طريقهما ، فإنه طريق سوءٍ ومدخل ضلاله ، فلا نقل ولا عقل عند هؤلاء الأغبياء و إنما هو التخرص والهوى وإتباع الشهوات ، فهذه الصفات الواردة في السؤال قد وردت به الأدلة فنحن نثبتها لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وننزه الله تعالى من مماثلة خلقه تنزيهاً بلا تعطيل وهذه الصفات من صفات الذات التي لا تنفك عن الله تعالى ، ففي الصحيحين عن انس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ولا يزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها رجله وفي رواية عليها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط ) فقد أضاف الرجل والقدم إليه إضافة الصفة إلى الموصوف ، ولا يصح إن يقال إن الرجل هنا : طائفة من الخلق فإن هذا مخالف لظاهر الدليل بلا برهان ومخالف لما تقرر في منهج السلف رحمهم الله تعالى , وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( تحاجت الجنة والنار فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، وقال الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ؟ فقال الله عز وجل للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما(1/35)
أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما النار فلا تمتلئ حتى يضع رجله فيها فتقول قط قط ........الحديث ) فهنا أضاف الرجل إليه إضافة الصفة إلى الموصوف لأن الرجل والقدم مما لا يقوم بذاته وقد تقرر لنا سابقاً أن الأعيان التي يضيفها الله إليه وهي مما لا يقوم بذاته فإنها إضافة صفة إلى موصوف . وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد نحوه ، وروى أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( افتخرت الجنة والنار .......فذكر الحديث وفيه ....فيلقى في النار أهلها فتقول هل من مزيد قال ويلقى فيها وهي تقول هل من مزيد ، قال فيلقى فيها وهي تقول : هل من مزيد ، حتى يأتيها الله عز وجل فيضع عليها قدمه فتنزوي وتقول : قدني قدني ...... الحديث ) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الطويل ...وفيه ( فيكشف رب العزة عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد في الدنيا ويبقى من كان يسجد رياءً وسمعة فيذهب كما يسجد فينقلب ظهره طبقاً واحداً ) والشاهد منه قوله" ساقه " فإضافة الساق إلى الله تعالى إضافة حقيقية وهي من قبيل إضافة الصفة على الموصوف ، وقد أجمع أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى على ذلك ، وهو الذي نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س224/ ما مذهب أهل السنة في صفة الكلام ، مع بيان ذلك بالأدلة ؟ وهل هو من صفات الذات أم الفعل ؟(1/36)
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رحمة الله عليهم وأجزل لهم الأجر والمثوبة وجزاهم الله تعالى خير ما جزى عالماً عن أمته أن الله تعالى موصوف بالكلام ، فهو جل وعلا يتكلم بما شاء كيفما شاء متى شاء ، وأن كلامه جل وعلا بحرف وصوت يسمعه من شاء الله أن يسمعه وأنه من صفات الذات باعتبار أصل الصفة ومن صفات الفعل باعتبار آحاده وإفراده ، وهذا معنى قول أهل السنة رحمهم الله تعالى " كلام الله قديم النوع حادث الآحاد" وهذه الصفة من الصفات التي كثرت الأدلة عليها وتنوعت في دلالتها ، قال تعالى :( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ) (النساء: من الآية164) وقال تعالى ( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ) (البقرة: من الآية253) وقال تعالى ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً) (النساء: من الآية87) وقال ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) (الأنعام:115) وقال تعالى ( وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ) (لأعراف: من الآية143) وقال تعالى ( وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) (مريم:52) وقال تعالى ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (لأعراف: من الآية22) وقال تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) وقال تعالى ( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ) (القصص:65) وقال تعالى ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ(1/37)
حَكِيمٌ ) (الشورى:51) وكل آية فيها : وقال الله فإنها دليل على إثبات هذه الصفة ، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ) وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس في قصة جلوس جويرية بعد الفجر إلى تعالي النهار فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( قد قلت بعدك أربع كلمات لو وزنت بما قلت لوزنتهن ، سبحان الله وبحمده عدد خلقه ومداد كلماته ورضا نفسه وزنة عرشه ) والشاهد قوله " ومداد كلماته " وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من نزل منزلاً فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل عن منزله ذلك ) رواه مسلم فدل ذلك على أن الله موصوف بالكلام وأنه ليس بمخلوق إذ لا تصح الاستعاذة بمخلوق فلما استعاذ بكلمات الله التامات دل ذلك على أنها ليست بمخلوقه ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم فيقول : لبيك وسعديك ، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج بعث النار .... الحديث ) والشاهد منه " يقول الله " وكذلك " فينادي بصوت " فإن فيه أن كلام الله تعالى بصوت ٍ وروى أبو يعلى الموصلي عن عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يحشر الله العباد أو قال : يحشر الناس حفاة عراة غرلاً ، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان ) ورواه الإمام أحمد في المسند أيضاً ، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً ( إن الله تعالى إذا أحب عبداً نادى يا جبريل أني أحب فلاناً فأحبه فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء إن ربكم يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء فيوضع له القبول في الأرض وإن الله تعالى إذا بغض عبداً نادى يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه فيبغضه جبريل فينادي جبريل إن ربكم عز وجل يبغض فلاناً فأبغضوه .......(1/38)
الحديث) وعن جابر رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف فيقول : (هل من رجل يحملني إلى قومه ؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي عز وجل .... الحديث )رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه ) حديث حسن بطرقه وشواهده ،وثبت في أحاديث كثيرة قوله صلى الله عليه وسلم ( ثلاثة لا يكلمهم الله ) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ( إن الله تبارك وتعالى يقول يا أهل الجنة : فيقولون لبيك وسعديك فيقول ( هل رضيتم ...... وفيه فيقول أحل عليكم رضواني فلا اسخط عليكم أبداً ) وروى الإمام أبن خزيمة في التوحيد وعبد الله بن أحمد في السنة والبيهقي في الاعتقاد وفي الأسماء والصفات أيضاً عن ينار بن مكرم وكانت له صحبة أن أبا بكر رضي الله عنه خاطر قوماً من أهل مكة على أن الروم تغلب فارس فغلبت الروم فنزلت ( الم * غُلِبَتِ الرُّومُ ) (الروم2:1) فأتى قريشاً فقرأها عليهم فقالوا كلامك هذا ؟ قال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي ولكنه كلام الله عز وجل )وهو أثر صحيح . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قصة الإفك ( والله ما كنت أظن أن الله تعالى ينزل براءتي وحياً يتلى ، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى .....)(1/39)
متفق عليه ، وروى الإمام أحمد في الزهد وابنه عبد الله في السنة وأبو بكر بن أبي شيبة في المصنف والحاكم في المستدرك عن قروة بن نوفل الأشجعي قال ( كنت جاراً لخباب فخرجنا يوماً من المسجد وهو آخذ بيدي فقال : " يا هناه ، تقرب إلى الله ما استطعت فإنك لن تقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه يعني القرآن " وهو أثر صحيح ، فأنت ترى توافر هذه الأدلة من الكتاب والسنة والأثر على إثباتها وأما الإجماع فقد أجمع أهل السنة قاطبة على إثبات هذه الصفة لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته بل ودل العقل الصريح على إثباتها أيضاً وبيان ذلك أن يقال : إن الكلام من حيث هو صفة كمال لأن نقيضها نقص وهو البكم والخرس ، وهذه الصفة أعني البكم والخرس لو اتصف بها المخلوق الضعيف العاجز كانت نقصاً بيناً فكيف يصلح إثباتها لمن له الكمال في المطلق سبحانه ؟ وقد تقرر عند أهل السنة أن كل كمال في المخلوق لا يقص فيه فالله أحق أن يوصف به لأنه واهب الكمال ومعطيه ومعطي الكمال أولى بالكمال ، فلما كان يلزم من نفى الكلام عنه وصفة بالنقص الذي هو منزه عنه وجب إثباتها على ما يليق بجلاله وعظمته ولذلك فإن من الأدلة المثبتة لبطلان إلهية الأصنام والأحجار وسلب الكلام عنها كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام ( قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) (الأنبياء:63) وقال تعالى عنه ( مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ) (الصافات:92) بل وقد دل الدليل الفطري أيضاً على إثباتها لله تعالى ، وهو أن الفطر السليمة التي لم تتلوث بعض علم الكلام المذموم ولا بقواعده المخالفة للمعقول والمناقضة للمنقول فإن هذه الفطر تعتقد أحقية الله تعالى بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص ، وصفة الكلام من الكمال فوجب إثباته لله تعالى ، وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا ولله الحمد والمنة ونسأله جل وعلا أن يثبتنا عليه إلى يوم لقاه ليجزينا به الجزاء(1/40)
الأوفى والله أعلم .
س225/ ما عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن مع بيان ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة؟
ج/ عقيدة أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى في القرآن في ثلاث نقاط :
الأولى : أنه كلام الله ، قال تعالى ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ) (التوبة: من الآية6) والمراد حتى يسمع القرآن فدل ذلك على أنه كلام الله تعالى . وقال تعالى ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) (لأعراف: من الآية54) ففرق تعالى هنا بين الخلق والأمر، وهما صفتان من صفاته أضافهما إلى نفسه الكريمة أما الخلق ففعله أما الأمر فقوله ، والأصل في المتعاطفين التغاير إلا بقرينه ، فبان بذلك أن الأمر غير مخلوق والأمر هو القرآن كما ثبت ذلك التفسير عن عامة السلف رحمهم الله تعالى ، وقد تقدم بعض الأدلة على إثبات ذلك الأمر في إجابة السؤال السابق ، وقد أنعقد الإجماع القطعي على ذلك من أهل السنة رحمهم الله تعالى.(1/41)
الثاني : أنه منزل غير مخلوق ، قال تعالى في آيات كثيرة ( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الزمر:1) وقال تعالى ( وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الشعراء:192) وقال تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) (الحجر:9) وقال تعالى ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) (النحل: من الآية102) وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) (النساء: من الآية136) وقال تعالى ( الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ..) (آل عمران: من 1-4) والآيات في ذلك المعنى كثيرة ، وقد أتفق أهل السنة على ذلك الأمر وصرخوا بكفر من قال بأنه مخلوق ، قال عمر بن دينار رحمه الله تعالى أدركت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون : الله الخالق وما سواه مخلوق والقرآن كلام الله تعالى منه خرج وإليه يعود . أ.هـ قال إسحاق بن راهويه رحمه الله تعالى : وقد أدرك عمرو بن دينار أجلةً أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مثل جابر بن عبدالله وأبي سعيد الخدري وعبدالله بن عمر وأبن عباس وعبدالله بن الزبير وأجلةً من التابعين وعلى هذا مضى صدر هذه الأمة وسند الأثرين صحيح .(1/42)
وقال معاوية بن عمار الذهيني قلت لجعفر يعني أبن محمد : إنهم يسألون عن القرآن مخلوق هو ؟ قال : ( ليس بخالق ٍ ولا مخلوق ولكنه كلام الله عز وجل ) وسنده صحيح ، وقال عبدالله بن نافع كان مالك بن أنس إمام دار الهجرة يقول : ( كلم الله موسى ) ويقول ( القرآن كلام الله ) وكان يستفضع قول من يقول القرآن مخلوق " وسنده صحيح ، وسئل سفيان بن عيينه رحمه الله تعالى عن القرآن فقال " كلام الله وليس بمخلوق " وسنده إليه جيد ، وقال عبدالله بن المبارك رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله تعالى ليس بخالق ولا مخلوق ) وسنده صحيح عنه ، وقال وكيع بن الجراح رحمه الله تعالى ( القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوق ) وسنده صحيح عنه ، وقال يزيد بن هارون رحمه الله تعالى ( من قال القرآن مخلوق فهو كافر ) وسنده صحيح عنه ، وقال عبدالله بن إدريس الثقة الثبت : ( القرآن كلام الله ومن الله وما كان من الله عز وجل فليس بمخلوق ) وسنده صحيح عنه ، والآثار في ذلك كثيرة شهيرة ونكتفي بذلك خوف الإطالة والإملال .(1/43)
الثالث : أن القرآن من الله بدأ وإليه يعود ، والمراد بقولهم : ( منه بدأ ) أي أن الله تعالى هو الذي تكلم به ابتداءً كما قال تعالى { قل نزله روح القدس من ربك } وقال تعالى ( الر * كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) وقال تعالى ( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) (النمل:6) وكل آية فيها إثبات تنزيل القرآن من الله تعالى فهي دليل على أنه منه بدأ ، وأما قولهم ( وإليه يعود ) ففيه تفسيرين أصحهما أن المراد أن كلام الله تعالى يسرى عليه في ليلةٍ فيرفع من المصاحف وصدور الحفاظ فلا تبقى في الأرض منه آية ، أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يقبض روحي وإياك قبل أن يرفع كلامه من بيننا فعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يسرى على كتاب الله ليلاً فيصبح الناس ليس في الأرض ولا جوف مسلم منه آية ) حديث صحيح ، ومثله أيضاً حديث أبي هريرة رضي الله عنه فهذا المرفوع ، وأما الموقوف فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ( يسرى على كتاب الله فيرفع إلى السماء فلا يصبح في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة ولا من الإنجيل ولا من الزبور وينتزع من قلوب الرجال فيصبحون ولا يدرون ما هو ) حديث صحيح .(1/44)
وعن شداد بن معقل أن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( لينتزعن هذا القرآن من بين أظهركم ‘ فقال له شداد بن معقل : يا أبا عبدالرحمن كيف ينتزع وقد أثبتناه في صدورنا وأثبتناه في مصاحفنا ، فقال ابن مسعود يسرى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبدٍ منه ولا مصحف منه شيء ويصبح الناس فقراء كالبهائم ثم قرأ عبدالله { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا }وإسناده صالح ، وهذان الأثران لا يقال مثلهما بالرأي لأنه من أمور الغيب فلهما حكم الرفع ، وقول السلف ( منه بدأ ) فيه رد على الجهمية الذين قالوا : بدأ من غيره ، وقولهم ( وإليه يعود ) فإنه يسرى به في آخر الزمان من المصاحف والصدور فلا يبقى في الصدور منه كلمة ولا في المصاحف منه حرف ، قاله شيخ الإسلام أبن تيميه رحمه الله تعالى فهذا اعتقادنا في القرآن الكريم ، أنه كلام الله تعالى وأنه منزل غير مخلوق وأنه من الله بدأ وإليه يعود وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا وندرسه لطلابنا في الحلقات والمدارس . والله أعلم .
س226/ هل يصح إطلاق القول بأن لفظي بالقرآن مخلوق أو قول لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ وضح ذلك بالتفصيل ؟
ج/ لا يصح إطلاق القول بهذا ولا بهذا ، ولا التحدث به أصلاً بل الواجب السكوت عنه وعدم الخوض فيه ، وهذا هو الأسلم للمرء في دينه لكن إذا ابتليت بمن يسأل عنه أو ثارت فتنة في زمنك قيل فيها أحد هذين القولين فأجب بما يلي :(1/45)
أن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أن الألفاظ الجملة لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً وإنما هي موقوفة على الاستفصال ليتميز حقها من باطلها فيقبل الحق ويرد الباطل ، وهاتان الكلمتان الواردتان في السؤال هما من الألفاظ المجملة ، فمن أطلق القول بأن ألفاظنا بالقرآن مخلوقه فهو جهمي ، ومن أطلق القول بأن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقه مبتدع ،هكذا ورد عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمة الله عليه وعلى سائر علماء أهل السنة ، فالأمر فيه تفصيل إذ أنه لا بد أن يفرق بين اللفظ والملفوظ به فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق إن كان يقصد لفظه هو من نبرات صوته وحركة لسانه ولهاته فهذه لاشك أنها مخلوقه وإن كان يقصد الملفوظ به فهو قول باطل لأن ما تلفظ به هو القرآن وهو كلام الله منزل غير مخلوق ، فالصوت والألحان صوت القاري لكنما المتلو قول الباري ، وأصل هذه الكلمة إنما قالها المعتزلة وذلك أنه لما خبت نارهم وانكسرت شوكتهم في عهد المتوكل رحمه الله تعالى ولم يستطيعوا أن يصرحوا بمذهبهم في القرآن كما كانوا يصرحون به في عهد المأمون والمعتصم والواثق ، بحثوا عن كلمة مجملة يستطيعون بها نفث سمومهم بين أهل السنة من حيث لا يشعر بهم أحد فبدل أن يقولوا : القرآن مخلوق ، قالوا : ألفاظنا بالقرآن مخلوقه ، فاستعجل بعض الغيورين من أهل السنة عفا الله عنه وأراد أن يرد كلمتهم هذه بما يناقضها فقال ( ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقه ) وكلا الإطلاقين مجمل كما تقدم وقد تبين لنا أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق إن كان يقصد صوته هو من نبرات كلامه وحركات لسانه وشفتيه ولهاته وفكيه فهذا صحيح وإن كان يقصد الملفوظ به والمقروء والمتلو فهذا باطل وهو ما يريده المعتزلة بقولهم هذا لكنهم تستروا وراء هذه اللفظة المجملة ولذلك قال أهل السنة من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي لأن القرآن وإن كتب في المصاحف وقرئ بالألسنة وحفظ في الصدور فإنه لا يخرج بذلك عن كونه كلام(1/46)
الله منزل غير مخلوق من الله بدأ وإليه يعود.
وأما من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فلا يخلو من حالتين إن كان يقصد بذلك ما تلفظ به أي الملفوظ والمقروء والمتلو فهذا صحيح لا غبار عليه وهو عين اعتقاد أهل السنة رحمهم الله تعالى وإن كان يقصد صوته هو وحركات لسانه ولهاته وشفتيه وفكيه فهذا باطل لأن هذه الأشياء مخلوقه ، وبهذا التفصيل أجاب أهل السنة عن هذه الألفاظ المجملة وهذا هو الحق في هذه المسألة وهو الذي نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله تعالى أعلى وأعلم .
س227/ بماذا استدل من ذهب إلى القول بأن القرآن مخلوق مع بيان الجواب على هذه الشبه ؟(1/47)
ج/ لا دليل لهم على ذلك وإنما هي خيالات وشبه توهموها بفهمهم الفاسد ومذهبهم الرديء العاطل الكالح الباطل فهم يتبعون المتشابه ويتركون المحكم ويعملون بالمجمل ويتركون المبين ويلوون أعناق الأدلة ويحملونها ما لا تحتمل لتتوافق مع قولهم الفاسد البائر فمن ذلك قولهم : قال تعالى ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) (الزمر: من الآية62) والقرآن شيء من الأشياء فهو داخل في عموم هذا النص ، فيكون مخلوقاً ، فأجاب أهل السنة على ذلك الاستدلال بأن عموم ( كل ) لا تقتضي دخول الأشياء جميعها فإن صيغ العموم يكون عموم كل منها بحسبه ألا ترى إلى قوله تعالى عن بلقيس ملكت سبأ ( وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) (النمل: من الآية23) فإنه لا يفهم عاقل أنها أوتيت كل الأشياء فإنها لم تؤت ما أوتي سليمان عليه السلام ، وإنما المراد أنها من شيء يحتاجه الملوك في الغالب ، وكذلك قوله تعالى في ريح عاد { تدمر كل شيء بأمر ربها }ونعلم عقلاً وحساً أنها لم تدمر السماوات والأرض والجبال والجمادات بل حتى المساكن لم تخل في هذه الكلية قال تعالى ( فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ ) (الأحقاف: من الآية25) فدل ذلك على أنها إنما دمرت كل شيء أمرت بتدميره ، وكذلك قوله تعالى( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) فإن معناه عموم خلقه لما يصلح أن يكون مخلوقاً ، وهو هذه العوالم العلوية والسفلية من أرضها وسمائها وأفلاكها وملائكتها وإنسها وجنها وحيواناتها وشجرها ونباتها ومائها ونحو ذلك مما يصلح أن يوصف بكونه مخلوقاً ، لكن الله تعالى بصفاته هو الخالق جل وعلا وما سواه مخلوق ومن صفاته كلامه والقرآن من كلامه فلا يكون مخلوقاً ، إذ كيف بالله عليك يكون شيء منصفاته مخلوقاً ، وقال أهل السنة أيضاً : أيها المعتزلة هل أنتم تقولون إن أفعال العباد الصادرة منهم شيء أم ليست بشيء ؟ بالطبع سيقولون هي شيء من الأشياء ، فقل لهم : فأنتم تخرجونها عن كونها مخلوقة لله(1/48)
تعالى فأين حرصكم على الاستدلال بقوله { الله خالق كل شيء } وقد أخرجتم منه أفعال العباد فقلتم : لم يخلقها الله مع أنها شيء باعترافكم ، وتدخلون كلام الله تعالى في هذا الدليل لأنه شيء من الأشياء ، هذا والله عين التناقض فإنكم بذلك قد أخرجتم من العموم أفعال العباد وهي داخلة فيه بالإجماع ، وأدخلتم في العموم كلام الله وهو خارج منه بالإجماع ، فأين عقولكم ، فحق هؤلاء شفقة بهم وإحساناً إليهم أن يدخلوا في المصحات العقلية لأخذ العلاج اللازم ، عافانا الله وإياك من كل بلاء وقال أهل السنة أيضاً : أيها المعتزلة : قال تعالى ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ) (الأنعام: من الآية19) فهذا يثبت أن الله تعالى شيء وصفاته شيء وهو أكبر الأشياء جل وعلا ، فهل يدخل في هذا العموم ؟ بالطبع سيقولون لا ، فقل ، إن القرآن كلام الله وكلامه صفته وصفته غير مخلوقه فكيف أدخلتموه في هذا العموم والله أعلم .
ومن أدلتهم : أيضاً قوله تعالى ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً ) (الزخرف: من الآية3)) فقالوا : الجعل هنا هو الخلق فيكون المعنى إنا خلقناه قرآنا عربياً ، فقال أهل السنة ، وهذا الاستدلال أيضاً ساقط وما فهمتموه من الدليل ليس بشيء وبيان ذلك أن :
( جعل ) في اللغة العربية لها معانٍ فتأتي بمعنى ( خلق ) وتأتي بمعنى ( صَيَّر ) والقاعدة فيها : أن ( جعل ) إذا كانت لا تتعدى إلا إلى مفعول واحد فهي بمعنى ( خلق ) وإذا كانت تتعدى إلى مفعولين فهي بمعنى ( صَيَّر ) فمن أمثلة مجيئها بمعنى خلق قوله تعالى ( وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ) (الأنعام: من الآية1) فهنا بمعنى وخلق الظلمات والنور لأنها لم تتعدى إلا لمفعول واحد ، ومنه قوله تعالى { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها } أي وخلق منها زوجها لأنها لم تتعدى إلا إلى مفعول واحد فقط .(1/49)
وأما إذا تعددت إلى مفعولين فإنها تكون بمعنى صَيَّر ومن ذلك قوله تعالى ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا ) (البقرة: من الآية66) فإن المفعول الأول ( ها ) في قوله ( فجعلناها ) والمفعول الثاني ( نكالاً ) فيكون هنا بمعنى فصيرناها نكالاً ، ومنه قوله تعالى ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً ) (الزخرف: من الآية19) فإن المفعول الأول ( الملائكة ) والمفعول الثاني ( إناثاً ) فتكون بمعنى صير أي وصير الملائكة باعتقادهم الفاسد إناثاً ، ومنه قوله تعالى ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (الزخرف:3) فالمفعول الأول الضمير والمفعول الثاني ( قرآناً ) والمعنى إنا صيرنا أو قلنا قرآناً عربياً ، هذا تفهمه العرب من كلامها ، ولا عبرة بفهم الأعاجم والأنباط وسقطة فارس والروم ، وبالله عليك هل يفهم عاقل من قوله تعالى ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ ) (الزخرف: من الآية19) أي وخلقوا الملائكة ؟ ومن قوله تعالى ( فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ) (الفيل:5) أو فخلقهم كعصف مأكول؟ هل يفهم عاقل أن ( جعل ) هنا بمعنى خلق ؟ولكن المعتزلة قوم بهت والله يحفظنا وإياك من زلل القول والفهم والله أعلم .(1/50)
ومن أدلتهم أيضاً : قوله تعالى ( مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (الأنبياء:2) ومثلها قوله تعالى ( وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (الشعراء:5) فقالوا : والمحدث هو المخلوق ، فقال أهل السنة رحمهم الله تعالى : إن قوله( مُحْدَثٍ ) من الحدوث وهو كون الشيء بعد أن لم يكن والقرآن العظيم حين كان ينزل ، كان كلما نزل منه شيء كان جديداً على الناس لم يكونوا علموه من قبل فهو محدث بالنسبة إلى الناس ، ألا تراه قال ( مَا يَأْتِيهِمْ ) ؟ فهو محدث إليهم حين يأتيهم ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يحدث لنبيه ما شاء وإن مما أحدث لنبيه أن لا تكلموا في الصلاة ) فهل يكون المعنى : إن الله يخلق لنبيه ما شاء ؟ بالطبع لا ، وإنما المراد أنه تعالى يشرع من التشريع الجديد ما شاء وإن مما شرع ألا تكلموا في الصلاة ، فقوله ( محدث ) أي بالنسبة إلى لعباد أي جديد عليهم ، فيكون المعنى : أنه كلما أتاهم ذكر جديد من ربهم أي نزل عليهم شيء جديد من القرآن استمعوه وهم ساهون غافلون لاعبون متشاغلون معرضون فليس المحدث هنا هو المخلوق ، قال أبو العباس قدس الله روحه : ( المحدث في الآية ليس هو المخلوق الذي يقوله الجهمي ولكنه الذي نزل جديداً فإن الله كان ينزل القرآن شيئاً بعد شيء ، فالمنزل أولاً هو قديم بالنسبة إلى المنزل آخراً وكل ما تقدم على غيره فهو لغة العرب ) أ.هـ(1/51)
ومن أدلتهم أيضاً : قوله تعالى في عيسى عليه الصلاة والسلام ( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) (النساء: من الآية171) وقال تعالى ( يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ) (آل عمران: من الآية45) وعيسى مخلوق فتكون الكلمة مخلوقة ، فقال أهل السنة : إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليس هو ( كن ) وإنما هو المكون بـ( كن ) كما قال تعالى ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:59) وقال تعالى ( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (آل عمران:47) فكلمة الله هي قوله ( كن ) وهذه ليست هي عين عيسى عليه السلام حتى تكون هذه الكلمة مخلوقه وإنما عيسى هو أثرها المقصود بقوله ( فيكون ) فعيسى عليه السلام تكوَّن بـ ( كن ) وليس عين ( كن ) فالمعتزلة فهموا أن عيسى هو بعينه ( كن ) وهذا فهم بعيد عن الآية لا تدل عليه أبداً ، فعيسى عليه السلام مخلوق خلقه الله بأمره حين قال له ( كن ) فتكوَّن بهذه الكلمة هذا ما فهمه السلف من الآية وفهمهم حجة على من بعدهم بل هذا هو عين المراد من الآية والله أعلم .
هذه هي مجمل حججهم وأنت ترى أنها مبنية على الفهم الخاطئ من بعض الآيات والله يهدي القلوب ويثبتنا على الاعتقاد الحق وهو أعلى وأعلم .
س228/ ما لدليل على أن كلام الله تعالى بحرف ؟ج/ الدليل على هذه المسألة أوضح من شمس النهار التي أحرقت وأعمت عيون الخفافيش من المبتدعة ، ألا ترى أن الله تعالى قال في القرآن ( الم ) و ( المص ) و ( كهيعص ) و(1/52)
( حم * عسق ) فهل هذه إلا حروف وهي كلام الله تعالى . وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بينما جبريل عند النبي الله صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه فرفع رأسه فقال ( هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم فنزل منه ملك ، فقال: وهذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم وقال : " أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منها إلا أعطيته ) ، والشاهد منه قوله ( لن تقرأ بحرف منها ) فأطلق على الفاتحة وخواتيم سورة البقرة بأنها حروف وهي كلام الله فدل ذلك على أن كلامه جل وعلا بحرفٍ . وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( تعلموا القرآن فإنه يكتب بكل حرف عشر حسناتٍ ويكفر به عشر سيئات أما إني لا أقول ( الم ) ولكن أقول : ألف عشر ولام عشر ، وميم عشر ) حديث صحيح موقوفاً لكن حكم الرفع لأن مثله لا يقال بالرأي ويروى مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه ( لا أقول " الم " حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف ) ، وقال أبن عباس رضي الله عنه ( ما يمنع أحدكم إذا رجع من سوقه أو من حاجته إلى أهله أن يقرأ القرآن فيكون له بكل حرفٍ عشر حسنات ) وسنده جيد ولذلك قال أهل السنة : إن من كفر بحرف منه فقد كفر به كله ، فهذا يفيدك أن كلام الله تعالى بحرف وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س229/ هل يصح أن يقال إن بعض القرآن أفضل من بعض ؟ وضح ذلك بالأدلة ؟(1/53)
ج/ هذا السؤال مجمل وقد تقرر في أجوبة كثيرة أن اللفظ المجمل يحتاج إلى تفصيل فنقول : لا يتفاضل باعتبار المتكلم به ، لأن المتكلم به هو الله تعالى ، فالقرآن كله حروفه ومعانيه من الله تعالى ، من الفاتحة إلى الناس فالمتكلم به واحد ، فهو بهذا الاعتبار لا يتفاضل لأن التفاضل إنما يكون بين شيئين أو أكثر فيقال : هذا أفضل من هذا ، والذي تكلم بالقرآن هو الله تعالى وهو واحد في ذاته وصفاته جل وعلا ، وإن كان المقصود بالتفاضل أي باعتبار دلالة الكلام وما يحمله من المعاني العظيمة فهو بهذا الاعتبار يتفاضل ، فإذاً نقول : هنا اعتباران : فأما باعتبار المتكلم به فلا تفاضل وأما باعتبار دلالته ومعانيه فإنه يتفاضل وعلى ذلك وردت الأدلة ، فقد روى النسائي من حديث أنسٍ رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم في مسيرٍ له فنزل، ونزل رجل إلى جانبه فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ألا أخبرك بأفضل القرآن ؟ قال فتلا عليه ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الفاتحة:2) وسنده صحيح .(1/54)
وعن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال: ألم يقل الله تعالى ( اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ) (لأنفال: من الآية24)(( ثم قال لي لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد( ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل ( لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ فقال (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته )) رواه البخاري وغيره ، وعن أبيُّ بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت الله ورسوله أعلم ، قال يا أبا المنذر أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظم قال قلت : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) قال فضرب في صدري وقال " والله ليهنك العلم أبا المنذر " رواه مسلم في صحيحه ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ ( قل هو الله أحد ) يرددها فلما أصبح جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكأن الرجل يتقالها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن) رواه البخاري وغيره ، وقال الشيخ تقي الدين : والصواب الذي عليه جمهور السلف والأئمة أن بعض كلام الله أفضل من بعض كما دل عليه الشرع والعقل أهوهو ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س230/ ما مذهب أهل السنة في صفة الاستواء مع بيانها بالدليل ؟ وهل هو من صفات الذات أم الفعل ؟(1/55)
ج/ يعتقد أهل السنة رحمهم الله تعالى أن الله تعالى استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته , قال تعالى ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الرعد: من الآية2) وقال ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) وقد ورد إثبات ذلك لله تعالى في سبع آيات من القرآن جمعها الناظم بقوله :
في السجدة الرعد الحديد ويونس وبطه والأعراف والفرقان(1/56)
قال تعالى في سورة السجدة : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (السجدة: من الآية4) وقال تعالى في سورة الرعد : ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الرعد: من الآية2) وقال تعالى في سورة الحديد : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الحديد: من الآية4) وقال تعالى في سورة الأعراف : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (لأعراف: من الآية54) وقال تعالى في سورة طه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) وقال تعالى في سورة يونس : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (يونس: من الآية3) وقال تعالى في سورة الفرقان : ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ) (الفرقان:59) وقد أجمع أهل السنة رحمهم الله تعالى على إثبات هذه الصفة وأنه استواء حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته ، تعالى الله وتقدس على مماثلة خلقه في شيء من صفاته جل وعلا ، والاستواء من الصفات الفعلية . وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س231/ ما معاني الاستواء في لغة العرب ؟ مع تأييدها بالدليل ؟(1/57)
ج/ الاستواء يختلف معناه في اللغة باختلاف وروده مطلقاً أو متعديً بحرف ، فإن ورد مطلقاً فيكون بمعنى النضج والكمال ومنه قوله تعالى ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ) (يوسف: من الآية22) أي لما بلغ كماله وتمامه ، وإذا ورد مقيداً بـ( إلى ) فيكون معناه القصد بإرادة تامة ومنه قوله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ ) (فصلت: من الآية11) أي قصدها بالإرادة التامة .
وإذا ورد مقيداً بالواو فهو بمعنى المساواة ومنه قول العرب : استوى الماء والخشية أي ساواها ، وقول البعض استوى محمد وبكر في العلم ، أي تساويا في العلم ، وهكذا .
وإذا ورد مقيداً بـ( على ) فإنه يكون بمعنى العلو والاستقرار والفوقية ومنه الآيات السبع المذكورة في إجابة السؤال السابق فاستواء الله تعالى على عرشه معلوم معناه في اللغة لكنه مجهول الكيف والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والله أعلم .
س232/ ما العلة في إنكار كثير من الفرق لهذه الصفة مع ثبوتها بالأدلة الصحيحة الصريحة المتواترة ؟(1/58)
ج/ العلة في ذلك أنهم مثلوا استواء الله على عرشه باستواء المخلوق على كرسيه أو على ظهر الفلك والدابة فاستوجب لهم ذلك لوازم باطلة فأرادوا أن يفروا منها ، فلزم عليهم أن الله محتاج إلى العرش وأنه يكون محيطاً به وأنه لو أبعد العرش لخر الرب كذا قالوا بكل وقاحة وقلة أدب ، فلم يجدوا إلا أن يحرفوا هذه الصفة بالاستيلاء ، فقالوا : معنى استوى استولى ، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه ويلزم منه أن العرش كان مملوكاً لغيره جل وعلا ثم استولى عليه ، وهو مخالف لدلالة اللغة ومخالف لمنهج السلف والأدهى والأمر أنهم يحرفون نصوص الاستواء ويخرجونها عن دلالتها لبيت من الشعر لا يعرف قائله كل ذلك سببه لأنهم مثلوا استواء الله على عرشه باستواء المخلوق على ظهور الفلك والرواحل ولو أنهم قالوا بما قال به أهل السنة لما لزم عليهم هذه اللوازم الباطلة التي بنيت على باطل ، فالقوم يتقلبون من باطلٍ إلى باطل نعوذ بالله من حال أهل الأهواء والبدع والله أعلم .
س233/ ما مذهب أهل السنة في صفة العلو إجمالاً ؟ وهل هو صفة ذاتٍ أم فعل ؟
ج/ يعتقد أهل السنة اعتقادا جازماً لا ريب فيه أن الله تعالى في العلو المطلق بذاته جل وعلا وأنه من صفاته الذاتية التي لا تنفك عنه أزلاً وأبداً ، وهذه الصفة من الصفات التي أشتد فيها خلاف أهل القبلة من أمة الإجابة أفردها بعض أهل السنة بمؤلفات خاصة ككتاب العلو للعلي الغفار للإمام الذهبي ، واجتماع الجيوش الإسلامية للإمام ابن القيم وغيرها من الكتب فالله تعالى له العلو المطلق في ذاته وصفاته ، ونعني بعلو الصفات أن كل صفة أثبتها النص له جل وعلا فله كمالها المطلق جل وعلا ، فالعلو بكل اعتباراته ثابت لله تعالى وهو من صفاته الذاتية وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا والله أعلم .
س234/ ما أوجه دلالة النقل على إثبات هذه الصفة العظيمة ؟(1/59)
ج/ لقد تنوعت دلالة النقل على إثبات هذه الصفة تنوعاً لا يدع لدى العاقل أدنى مجال للشك في أن الله تعالى متصف بها ولا يخالف في إثباتها إلا أعمى القلب أعمى البصر ..
فمن الأوجه : التصريح بها كقوله تعالى ( وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (الشورى: من الآية4) وقوله تعالى ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) (الأعلى:1)
ومن الأوجه : التصريح بالفوقية لقوله تعالى ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) (النحل:50) وقال تعالى ( يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ) (الفتح: من الآية10) وفي الحديث ( لقد حكمت فيكم بحكم الله من فوق سبع سماوات )
ومن الأوجه : التصريح بأن الأشياء تنزل من عنده ، كقوله تعالى ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) وقوله تعالى ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء) (النحل: من الآية89) والآيات في هذا المعنى كثيرة .
ومن الأوجه : التصريح بصعود الأشياء ورفعها إليه كقوله تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: من الآية10) وقوله تعالى عن عيسى ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) (النساء: من الآية158) وكحديث عروجه صلى الله عليه وسلم الطويل إلى السماء السابعة وفرض الصلاة عليه هناك .
ومن الأوجه : التصريح بعروج الملائكة والأمر إليه كقوله تعالى ( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (المعارج:4) وقوله تعالى ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (السجدة:5) ولا تعرج إلا لمن كان في العلو .(1/60)
ومن الأوجه : التصريح بأنه استوى على العرش ، والعرش هو سقف المخلوقات وأعلاها كما في الآيات التي سقناها في إثبات صفة الاستواء .
ومن الأوجه : التصريح بأنه في السماء كقوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ) ( الملك :16ـ17) وكقول الجارية ( في السماء ) وأقرأها النبي صلى الله عليه وسلم وشهد لها بالإيمان .
ومن الأوجه : التصريح بأنه ترفع إليه الأيدي في الدعاء كحديث ( إن الله تعالى يستحي من عبده إذا رفع اليدين أن يردهما صفراً ) ولا ترفع إلا لمن كان في العلو .
ومن الأوجه : التصريح بأنه ينزل إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر كما سيأتي سياقه في الأحاديث إن شاء الله تعالى ، ولا ينزل إلا من كان في العلو .(1/61)
ومن الأوجه : الإشارة الحسيه إليه إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم بربه وما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله في اليوم الأعظم قال لهم : إنكم مسؤولون فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء وينكبها إليهم قائلاً اللهم اشهد اللهم اشهد ) وغير ذلك من الأوجه ، فإنها تدل دلالة قطعية على إثبات هذه الصفة لله تعالى ، لا كما يقوله المعطلون الجاحدون المخالفون للمنقول والمناقضون للمعقول وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات ) وفي الصحيح من حديث أبي هريرة ( لما خلق الله الخلق كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش إن رحمتي تغلب غضبي) وقال عليه الصلاة والسلام في رقية المريض ( ربنا الله الذي في السماء تقدس أسمك أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء أنزل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع ) رواه أبو داود في كتاب الطب .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال ( ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء ) وفي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته ( رفع يده أو إصبعه إلى السماء وقال " في الرفيق الأعلى ثلاثاً ثم قضى " والأدلة من السنة على هذه الصفة لا تكاد تحصر ، فراجع الكتب التي ذكرت لك للاستزادة من البراهين الساطعة ليزداد اطمئنان قلبك وتكون على نور وبصيرة والله أعلم .
س235/ هل دل العقل والفطرة على إثبات هذه الصفة ؟(1/62)
ج/ نعم ، قد دل الدليل العقلي والفطري على إثبات هذه الصفة ، فأما الدليل الفطري فإن من المتقرر في الفطر السليمة التي لم تتلوث بعض أهل الكلام ، أن الله تعالى في العلو ، فإن من قام بقلبه حاجة وحلت عليه ضرورة وأراد أن يدعو الله تعالى بكشف حاجته وما به من ضر ، قلبه لا يتجه إلى أسفل ولا إلى اليمين ولا الشمال ولا إلى الخلف بل يجد في قلبه ضرورة طلب جهة العلو ولذلك نجده من حيث يشعر أو لا يشعر يتجه ببصره ورأسه ويديه إلى السماء لأن فطرته تعلم جزماً أن مفرج الكربات وقاضي الحاجات ومغيث اللهفات في العلو , ولا عبرة بمن تلوثت فطرته وأفسدت بالشبهات التي يمليها شياطين الإنس والجن , فهذا أمر لا تنكره الفطرة بل قد استقرأوها عليه وأما دلالة العقل فمن
وجوه :
الأول : أن ضد العلو السفل أو المحاذاة والسفل نقص والمحاذاة توجب المساواة وهي نقص في حق الله تعالى والله منزه عن النقص فحيث انتفى السفل والمحايثة ثبت العلو وهو المطلوب .
الثاني : أن البشر يستشرفون أن يكونوا في العلو لعلمهم أنها كمال ولذلك تجد عليه القوم من الملوك والأمراء يعلون بنيانهم ويكونون في أعلاه ، ويتشرف أحدهم إذا أجتمع رعيته في الشوارع أن يشرف عليهم من أعلا شرفات قصره ليكلمهم ويأمرهم و ينهاهم ولله المثل الأعلى فهو ملك الملوك وجبار السماوات والأرض العلي الأعلى ، فحيث كان ذلك كمالاً في المخلوق فالخالق أحق أن يتصف به لأن كل كمالٍ ثبت للمخلوق لا نقص فيه فالله أحق بالاتصاف به والله أعلم .
س236/ ما مذهب أهل السنة في صفة المعية مع بيان أقسامها ، موضحاً ذلك بالأدلة ؟
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن الله جل وعلا مع خلقه معية تليق بجلاله وعظمته ، وأنها قسمان :(1/63)
معية عامة ومعية خاصة ، فالمعية العامة من مقتضياتها العلم والإحاطة والهيمنة والقدرة والتدبر ، والمعية الخاصة من مقتضياتها الحفظ والنصر والتأييد ، فمن أدلة العامة قوله تعالى ( وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ) (الحديد: من الآية4) وقوله تعالى ( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (المجادلة: من الآية7) "" وأما الخاصة فمن أدلتها قوله تعالى ( لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (التوبة: من الآية40) وقوله تعالى ( إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) (طه: من الآية46) وقوله تعالى ( قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ) (الشعراء:15) وهذه معية خاصة مخصوصة بشخص ، ومنه المعية الخاصة المقيدة بوصف كقوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) (النحل:128)(1/64)
وقوله تعالى ( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (لأنفال: من الآية46) وأمثال ذلك ، وكلها حق على حقيقتها على ما يليق بجلاله وعظمته ، وتفسير السلف رحمهم الله تعالى للمعية العامة بالعلم والإحاطة والهيمنة والتدبر وتفسيرهم للخاصة بالنصر والتأييد والحفظ ليس تفسيراً بالحد الجامع المانع وإنما هو تفسير للشيء ببعض مقتضياته ، وإلا فالقول الجامع في هذه الصفة أن يقال : أن من صفاته المعية فنحن نثبتها لله تعالى من غير تمثيل ولا تكييف ومن غير تحريف ولا تعطيل لأن الله تعالى ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: من الآية11) فبان ذلك أن معية الله لخلقه ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف ، أنها حق على حقيقتها لكنها معية تليق بجلاله وعظمته ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق وأنها لا تقتضي أن يكون الله تعالى مختلطاً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم والله أعلم.
س237/ هل هناك تعارض بين كونه تعالى فوق عرشه في العلو المطلق وأنه معنا ؟ وضح الجواب ؟
ج/ لا تعارض في ذلك البتة ، لكن احذر من أن ينقدح في ذهنك مماثلة الله في صفاته بخلقه فإنه لا يتعارض إلا في ذهن من جعل صفات الباري وقدرته كصفات خلقه وقدرتهم وأما من قدّر الله حق قدره وعلم علم اليقين أنه ليس كمثله شيء فإنه أبداً لا يمكن أن يثور في شيء من هذه الإشكالات الباردة التي يوردها نفاة الأسماء والصفات ، وقد جمع العلماء بين ذلك فقالوا : الجمع بين ذلك من وجوه :
الأول : أن الأدلة جمعت بينهما والأدلة لا يمكن أن تأتي بالمحال أبداً ، فهي وإن أتت أحياناً بما يحار فيه العقل لكنها لا تأتي أبداً بما يتعارض مع العقول السليمة من الآفات الدخيلة .(1/65)
الثاني : أن العلو والمعية قد يجتمعان في حق المخلوق الضعيف والعاجز ، فإن العرب تقول في أسفارها : مازلنا نسير والقمر معنا ، والقمر في العلو ومع ذلك يقولون إنه معنا ,فإذا كان ذلك متصوراً في حق المخلوق العاجز الضعيف ، أفيكون محالاً في حق الخالق القادر القوي من كل وجه ؟
الثالث : سلمنا جدلاً أنه ممتنع في حق المخلوق ، فإن امتناعه في حق المخلوق لا يلزم منه امتناعه في حق الخالق ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وهو العلي في قربه ودنوه والقريب في علوه وفوقيته جل وعلا ، والله أعلم .
س238/ هل تجوز الإشارة الحسية عند ذكر شيء من صفات الله تعالى ؟ وضح ذلك بالدليل ؟
ج/ لا يخلو الأمر من حالتين :(1/66)
الأولى : إن أريد بهذه الإشارة عين المماثلة فهي حرام ، لأن المتقرر عند أهل السنة والجماعة أننا لا نعلم كيفية صفات الله تعالى ، وأن الله ليس كمثله شيء ولم يكن له كفواً أحد وليس له سمي ولا ند ولا نضير ، فإذا كان مقصود صاحب هذه الإشارة أن هذا هو عين كيفية صفة الله تعالى فهو حرام ولا شك في ذلك ، وأما إن كان يقصد بذلك إرادة تحقيق إثبات الصفة لله تعالى فهذا لا بأس به ، لكن من الأحسن تركه سداً لذريعة انقداح المماثلة وخصوصاً عند العوام الذين يخشى عليهم من ذلك والدليل على جوازه ما رواه أبو داود في سننه بسند قوي على شرط مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ) (النساء:58) ويضع إصبعه ، قال يونس ووضع أبو هريرة إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه قال البيهقي رحمه الله تعالى :( وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله تعالى لبيان محلهما من الإنسان ) إ.هـ
وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر ( يقبض الله سمواته فيأخذهن بيمينه ويقبض الأرضين ويأخذهن بيده الأخرى ثم يهزهن ويقول أنا الملك ، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم ويهزهما فأهتز أصل المنبر حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الإرادة حقيقة الهز لا أن الهز كالهز أي كما أن هذا هو الهز الصادر مني على وجه الحقيقة فأنا أريد حقيقة الهز الصادر من الله تعالى على وجه الحقيقة ولكن على الكيفية التي لا يعلمها إلا الله تعالى والله أعلم .
س239/ ما مذهب أهل السنة في صفة النزول مع بيان ذلك بالدليل ؟(1/67)
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة أن الله جل وعلا ينزل في ثلث الليل الآخر نزولاً يليق بجلاله وعظمته وأنه من الصفات الفعلية وقد تواتر الدليل من السنة بإثباته فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل ربنا عز وجل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يسألني فأعطيه من يدعوني فأستجيب له من يستغفرني فأغفر له ) وقد روى هذا الحديث عدة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري وجابر بن عبدالله ورفاعة بن عرابه الجهني وجبير بن مطعم وعثمان بن أبي العاص وأبي الدرداء وعلي بن أبي طالب وعبدالله بن مسعود وأبن عباس وأم المؤمنين عائشة وأم سلمة وعبادة بن الصامت وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم بألفاظ مختلفة لكنها متفقة في إثبات صفة النزول لله تعالى فيجب الإيمان بها وتفويض كيفيتها إلى الله عز وجل
قال الناظم :
والله ينزل دون كيف يا فتى نحو السماء إذا مضى الثلثان
فيقول هل من سائل فأجيبه هل من منيب طالب الغفران
وعلى إثباتها أجمع أهل السنة والجماعة فنثبتها لله جل وعلا من غير تحريف ولا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل ونقول أن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
س240/ ماذا قال أهل البدعة في هذه الصفة ؟ مع بيان الجواب على ذلك ؟
ج/ المبتدعة أبعدهم الله تعالى قد أبت نفوسهم قبول وصف الله تعالى بهذه الصفة ورأوا بأفهامهم الفاسدة وعقولهم الكاسدة أن إثبات ذلك لله تعالى يوجب اتصافه بالنقص ففروا من إثباتها إلى تحريفها وتعطيلها فقالوا : إن إضافة النزول إلى الله تعالى إضافة مجازية لا حقيقة وإنما الذي ينزل أمره أو رحمته أو ملك من الملائكة ، وأما الله تعالى فإنه منزه عن النزول ، وهذا هو شأنهم في سائر الصفات التي لا تتوافق مع مذاهبهم وعقولهم , فقال أهل السنة جوابنا على ما قلتموه من عدة أجوبة :(1/68)
الأول : أن فهمكم هذا مخالف لما فهمه السلف وأجمعوا عليه فهو باطل لأنه مخالف للحق وما خالف الحق فهو باطل .
الثاني : أنه صرف للفظ عن دلالته الظاهرة إلى شيء آخر بلا دليل أو قرينة صارفة وقد تقرر أن الأصل هو البقاء على الأصل والظاهر حتى يرد الناقل .
الثالث : أنكم جعلتم في الكلام شيئاً محذوفاً والأصل عدم الحذف ، وعدم التقدير، ومخالف الأصل عليه الدليل .
الرابع : أن أمر الله ورحمته نازلة بالليل والنهار فلم قيدتم نزولهما في هذا الوقت فقط ؟ إن هي إلا أهواء أتبعتموها أنتم وأسلافكم ما نزل الله بها من سلطان .
الخامس : هل يتصور بالله عليكم أن يقول الأمر والرحمة والملك ، من يسألني فأعطيه من يدعوني فأستجيب له من يستغفر فأغفر له ، فهل يمكن أن يصدر هذا الكلام من أحدٍ إلا الله عز وجل ، فهو الذي يعطي السائلين ويجيب الداعين ويغفر للمستغفرين فالقوم أصلاً لم يفكروا بعقولهم في عواقب تحريفهم هذا وإنما همهم كيف الفرار من إثبات هذه الصفة فقط فوقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ذلك والله أعلم .
س341/ قد يتوهم البعض في قوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ) (الملك: من الآية16) وما شابهها وقول الجارية لما سئلت أين الله قالت ( في السماء ) أن الله تعالى داخل السماء أي أنها تقلُّهُ أو تظله ؟ فما الجواب لإزالة ذلك الإيهام ؟
ج/ أقول هذا الوهم لا يرد إلا في ذهن من لم يقدر الله تعالى حق قدره ولم يعرف أنه تعالى العظيم في ذاته وصفاته وأفعاله ، ومع ذلك فقد كشف أهل السنة النقاب عن هذا الوارد فقالوا جوابنا من وجهين :(1/69)
الأول : أن حرف ( في ) في الآية والحديث لا يراد به الظرفية وإنما يقصد به أنه بمعنى ( على ) ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قال عز وجل ( وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ) (طه: من الآية71) والمراد عليها ، وقال تعالى ( فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ) (التوبة: من الآية2) والمراد عليها ، فقوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) (الملك: من الآية16) أي على السماء هذا الجواب الأول .
الثاني : سلمنا أن المراد بـ( في ) الظرفية لكن لا نسلم أن المراد بالسماء هذه الأطباق السبعة بل المراد بها العلو فإن كل ما علاك فهو سماء ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قال عز وجل في وصف الشجرة الطيبة (ٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم: من الآية24) أي في العلو، وقال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ) (الفرقان: من الآية48) والمطر ينزل من السحاب فسمي السحاب سماء لعلوه ، فقوله تعالى ( أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) أي من في العلو ، والله له العلو المطلق جل وعلا ، وبهذين الجوابين لا يبقى ثمة إشكال ولله الحمد والمنة والله أعلم .
س242/ ما مذهب أهل السنة في صفة المجيء والإتيان مع بيان الأدلة على ذلك ؟ وهل هما من صفات الذات أم الفعل ؟(1/70)
ج/ يعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في الجنة أن لله تعالى مجيئاً وإتياناً يوم القيامة لائقاً بجلاله وعظمته لا يماثل مجيء المخلوقين ولا إتيانهم ، فليس كمثله شيء في مجيئه وإتيانه ومجرد الاتفاق في الاسم لا يستلزم الاتفاق في المسمى فنثبتها لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل وننزهه عن مماثلة خلقه تنزيهاً بلا تعطيل ، فما أسلم ذلك المذهب وما أبرده على القلوب وما أوضحه وأحكمه وأعلمه فنسأل الله تعالى أن يميتنا عليه . والمجيء والإتيان من صفات الله الفعلية المتعلقة المشيئة ، قال تعالى ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً) (الفجر:22) وقال تعالى ( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ) (البقرة:210) وفي الحديث الصحيح ( فيأتيهم الله تعالى في صورته التي يعرفون ) وقد حرفها المبتدعة بمجيء أمره ، وهذا مخالف للأدلة ومخالف لمنهج السلف ، وإقحام لفظه في السياق لا برهان عليها ، ومخالفة للأصل بلا مقتضٍ والله أعلم .
س243/ ما مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في الرؤية ؟ وأذكر الأدلة المثبتة لذلك ؟(1/71)
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة ويشهدون أن الله تعالى يرى يوم القيامة رؤية حقيقة عياناًً بالأبصار فيرى في عرصات يوم القيامة ويرى بعد دخول الجنة ، كما يرى القمر ليلة البدر والشمس صحواً ليس دونها سحاب ، وكل ذلك على الكيفية التي يريدها الله تعالى ، لا ندخل في هذا الباب متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا بل نثبت ما أثبته النص ونسكت عما سكت عنه ونقف حيث وقف السلف رحمهم الله تعالى ، والأدلة على الرؤية قد بلغت مبلغ التواتر ، فمن القرآن قوله تعالى ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (القيامة:23:22) وقال تعالى ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (يونس:26) وقد فسر أعلم الخلق بربه هذه الزيادة بأنها رؤية الله تعالى ، وقال تعالى ( لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ) ( قّ:35 ) وأما من السنة فأحاديث كثيرة ، منها حديث صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم ؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار ؟ قال : فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم ) ثم تلا هذه الآية ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) رواه مسلم ، وفي الصحيح عن جرير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر وكما ترون الشمس ليس دونها سحاب فإن استطعتم على أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن أناساً قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا لا يا رسول الله(1/72)
فقال : هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها حجاب ؟ قالوا لا يا رسول الله قال : فإنكم ترونه كذلك ) وهذان الحديثان فيهما تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي ، أي أن رؤية الله تعالى يوم القيامة ستكون في أعلى درجات الوضوح فلا مضارة فيها ولا خفاء ولا لبس ولا شك .
وعن أبي سعيد الخدري نحو حديث أبي هريرة وهو في الصحيح أيضاً ، وقد وردت أحاديث الرؤية من طريق الصديق وأنس وجابر وجرير البجلي وحذيفة وأبي هريرة وزيد بن ثابت وصهيب وعبادة بن الصامت وأبن عباس وابن عمر وأبن مسعود ولقيط بن عامر وأبي رزين وعلي بن أبي طالب وعدي بن حاتم وعمار بن ياسر وفضالة بن عبيد وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري وبريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنهم وأرضاهم وجمعنا بهم في الجنة ، وقد أخرج اللالكائي في شرح السنة من طريق مفضل بن غسان قال : سمعت يحيى بن معين يقول : عندي سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صحاح . أهـ
قلت : وهذا ما نعتقده بقلوبنا وننطقه بألسنتنا .
س244/ هل أثبت المبتدعة رؤية الله تعالى ؟ وبماذا احتجوا وكيف الجواب عن استدلالتهم؟
ج/ بالطبع لم يثبتوها بل حرفوها إلى رؤية الثواب والجزاء والنعيم فقط ، وهذا كعادتهم قبحهم الله تعالى فيما لا يتوافق مع عقولهم الرديئة وأفهامهم المنتنة ويا ليت الأمر وقف على الإنكار والتحريف فقط بل استدلوا على نفيهم هذا بأدلة من القرآن فقالوا : قال تعالى لموسى عليه السلام ( قَالَ لَنْ تَرَانِي ) (لأعراف: من الآية143) ولن هذه تفيد التأبيد عندهم فهذا نفي للرؤية على وجه الإطلاق ، كذا قالوا ، فقال أهل السنة : لنا على استدلالكم هذا عدة أجوبة :(1/73)
الأول : أن ( لن ) لا تفيد النفي المؤبد حتى وإن قرنت بلفظ الأبد ، بدليل قوله تعالى عن اليهود ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ) (الجمعة7:6) ومع ذلك فإنهم يتمنونه في الآخرة إذا دخلوا النار كما في قوله تعالى ( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ) (الزخرف:77) وخلاصة هذا الوجه هو أن نفي الرؤية في ذلك الوقت لا يلزم منه انتفائه مطلقاً وإنما هذا شيء قاله بعض صناديد المعتزلة ولذلك قال ابن مالك :
( ومن يرى النفي بـ ( لن ) مؤبدا
فقوله أردد وسواه فاعضدا )
الثاني : أن الله تعالى قال ( لَنْ تَرَانِي ) ولم يقل : إني لا أرى أولست بمرئي ، أو لا تجوز رؤيتي ، والفرق بين الجوابين ظاهر ، بل قال ( لَنْ تَرَانِي ) ففي ذلك دليل على أنه يرى ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر عن رؤيته .
الثالث : أن الله تعالى بين السبب في عدم رؤيته وهو عدم تحمل النفس ذلك بدليل أنه تعالى لما تجلى للجبل حصل للجبل ما حصل من الإندكاك فأعلمه الله تعالى بذلك أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟ فهذا دليل على أن المانع ضعف القوى البشرية عن رؤيته ولذلك فإن هذه القوى تضاعف في الجنة حتى يتمكن أهلها من رؤيته كما ثبتت بذلك الأدلة .
الرابع : أنه لو كانت رؤيته تعالى محال لما كان كليم الله تعالى يتكلف السؤال عنها لأنه أعلم الناس بربه في زمانه فلا يتصور منه أن يسأل ما لا نجوز على الله تعالى فلما سألها موسى علم بذلك أنها مما يمكن ولكن ثمة مانع وهو الضعف البشري ، فلا يمكن أن يكون هؤلاء المتهوكون الحمقى أشد تنزيهاً وأعلم بالله من كليمه ورسوله الكريم .(1/74)
الخامس : أنه تعالى تجلى للجبل ، فإذا جاز أن يتجلى للجبل الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته ؟ لكن الله تعالى أعلم موسى بأن الرؤية الآن لا تمكن .
السادس : سلمنا جدلاً أن هذه الآية فيها شيء من النقاش فلا تعدو بذلك أن تكون من المتشابه وقد تقرر في الأصول أن المتشابه يرد إلى المحكم والأدلة المثبتة للرؤية من الكتاب والسنة كثيرة وتأيدت بالإجماع القطعي الذي يكفر من خالفه ، فإذا قدروا على الدخول على هذه الآية فهل بالله عليك يقدرون على كل الأدلة المثبتة للرؤية ؟ بالطبع لا إلا مع العناد والاستكبار ، وهذا التسليم جدلي ، وإلا فالآية من المحكم كما سبق في الأجوبة والله تعالى أعلى وأعلم .(1/75)
وقالوا أيضاً : قال تعالى ( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ) (الأنعام: من الآية103) فهذا نفي للإدراك الذي هو الرؤية ، كذا قالوا ، فقال أهل السنة : إن المنفي في هذه الآية ليس الرؤية وإنما هو الإدراك أمر يعقب الرؤية فهي تفيد أنه يرى ولكنه لا يدرك رؤية كما أنه يعلم ولكن لا يحاط به علماً ، فكل إدراك رؤية وليس كل رؤية إدراكاً ، أولا ترى إلى قوله تعالى ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) (الشعراء:61) فاثبت الرؤية ونفى الإدراك ، فالإدراك أمر زائد على الرؤية ، ففي الحقيقة أن هذه الآية دليل لنا لا لهم ، لأنه لما نفى الإدراك علمنا أن هناك رؤية إذ لو لم يكن هناك رؤية أصلاً لما نفى الإدراك ، وأضرب لك مثالاً : أنت ترى المساء لكن هل تدركها كلها ؟ الجواب لا ، فعندك رؤية بلا إدراك ، ومثال آخر : أنت ترى الأرض لكن هل تدركها كلها ؟ الجواب لا فعندك رؤية بلا إدراك ، فالله تعالى وله المثل الأعلى يرى ولكن لا يدرك وذلك لكمال كبره وعظمته وعزته جل وعلا ، فالمعتزلة فهموا أن معنى الإدراك هو الرؤية وهذا خطأ وضلال بل الإدراك هو الإحاطة , فلا حجة لأحدٍ في مخالفة ما ثبت به النص والله أعلم .
س245/ هل من أسمائه جل وعلا ( القديم ) مع توضيح ذلك ؟
ج/ لا ليس من أسمائه القديم وذلك لأمرين :
الأول : أن أسماء الله تعالى مبناها على التوقيف أي على ورود الدليل ولم يأت فيما أعلم نص صحيح بذلك فحيث لم يثبت في ذلك شيء فإن الأصل عدمه فلا يجوز تسمية الله تعالى به .
الثاني : أن أسماء الله تعالى أسماء حسنى وذلك لاشتمالها وتضمنها صفات كمال من كل وجه ، والقديم صفته القدم وهذه الصفة لا كمال فيها ، فلا يصح تسمية الله تعالى به ، وتستبدل باسمه الثابت بالإجماع ( الأول ) الذي ليس قبله شيء جل وعلا والله أعلم .
س246/ هل يمكن أن يتعارض النقل مع العقل ؟(1/76)
ج/ لا ، لا يمكن هذا أبداً ، ولذلك فإن أهل السنة رحمهم الله تعالى قرروا في ذلك قاعدة عظيمة وهي قولهم : ( لا يتعارض نص صحيح ، وعقل صريح ) ويقصدون العقل الصريح أي السليم من الآفات الدخيلة على العقل ، وقد ألف فيها أبو العباس تقي الدين كتابه الكبير، ورد تعارض العقل والنقل فأتى فيه بما لم يأت به أحد ، جزاه الله خيراً ورفع نزله في الفردوس الأعلى وحشرنا وإياه في زمرة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فإذا وجد ما يوهم التعارض فانظر أولاً في صحة النقل ، أعني إذا كان من السنة فإذا ثبتت صحته فانظر في صراحة العقل وسلامته من الآفات الدخيلة عليه ، فإذا توفر الأمران فإنه أبداً لا يمكن أن يتعارض النقل مع العقل ، فإن الذي أنزل النص هو الذي خلق العقل وهو أصدق حديثاً وأحسن قيلاً من خلقه ، والنقل ما نزل إلا لهداية العقل وإخراجه من ظلمات الشرك والبدعة والغفلة والمعصية إلى نور التوحيد والسنة والطاعة فكيف يجعل معارضاً له ، ولذلك فإنه لا يدعي وجود هذه المعارضة إلا أهل البدع ، وأما أهل السنة فإنه لا يعرف عنهم في ذلك حرف واحد ، والله أعلم .
س247/ ما حكم التسمي بأسماء الله تعالى ؟ مع الدليل ؟
ج/ أقول : هذه المسألة لا تخلو من حالتين :
الأولى : أما الأسماء الخاصة به جل وعلا كـ ( الله ) و ( رب العالمين ) و ( الرحمن ) و ( الإله ) ونحوها فإنه لا يجوز التسمي بها قولاً واحداً ، لأنها لا يصح أن تطلق إلا عليه جل وعلا إذ لا يستحقها غيره عز وجل .(1/77)
الثانية : بقية الأسماء كالرحيم والكريم والعزيز والسميع والبصير ونحوها ، فهذا يجوز التسمي بها بشرطين ، شرط أصلي لازم ، وشرط تكميلي ، فأما الشرط الأصلي اللازم فألا يراعى في التسمية معنى الصفة ، أي لا يسمي أحد بالكريم لأن من صفاته البارزة الكرم ، ولا يسمى أحد بالقوي لأن من صفاته البارزة القوة ، ولا يسمى أحد بالجواد لأن من صفاته الجود ، ولا يسمى أحد بالحكم لأن من صفاته البارزة فصل الحكومات بين الناس والرضا بحكمه ، وهكذا فإذا روعي في التسمية معنى الصفة فإنه يمنع ودليل حديث أبي شريح وأنه كان يكنى أبا الحكم فلما سأله النبي صلى الله عليه وسلم عن علة ذلك قال : إني إذا اختصم قومي حكمت بينهم فرضوا بحكمي ، فقال ( ما أحسن هذا ، فكم لك من الولد ، فعدهم وذكر أن أكبرهم شريح ، فقال : أنت أبو شريح ) حديث صحيح ، فقد غير النبي صلى الله عليه وسلم كنيته لأنه روعي أو نقول : روقب فيها معنى الصفة ، مع أن من أصحابه من كان اسمه الحكم ، كالحكم بن هشام رضي الله عنه وأرضاه ، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يراقب فيه معنى الصفة ، فهذا دليله من الأثر ، وأما النظر فلأن ذلك فيه لزوم الأدب مع الله تعالى وسلوك مسلك المتعبدين المتواضعين الذين يقدرون الله تعالى حق قدره وفيه احترام لأسمائه وصفاته جل وعلا وتعظيمها وهذا من تعظيم من تسمى واتصف بها عز وجل ولأنه إذا رضى بذلك فإن ذلك نوع مضاهاة لله تعالى في أسمائه وصفاته جل وعلا ، فهذا الشرط كما ذكرت لك شرط أساسي مهم جداً ،(1/78)
وأما الشرط التكميلي فهو أن يكون الاسم غير محليً بالألف واللام كأن يقال : ( كريم ) بدون ( أل ) أو ( عزيز ) بدون ( أل ) أو ( جواد ) بدون ( أل) وهكذا ، وذلك لأن الألف واللام لها شأن عندنا في لغة العرب وهي أنها تفيد استغراق أجزاء المسمى ما لم يتقدم قرينة عهد فإذا قلت : العزيز دخل فيه كل معاني العزة ، وإذا قلت الكريم دخل فيه كل معاني الكرم ، وهكذا ، وهذا خاص بالله جل وعلا , وهذا المعنى يزول إذا جردتها من
( أل ) وقلنا : إن ذلك شرط تكميلي لأمرين :
الأول : لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الحكم بن هشام على التسمي بذلك مع أنه معرف بـ ( أل ) مما يدل على أن الأمر فيه تسامح .
الثاني : أن العامة غالباً لا يريدون معنى الاستغراق العام الذي يدخل فيه أجزاء المسمى كلها فإن هذا المعنى لا يقصدونه أبداً وإنما يفهمون أن ( أل) لمجرد التعريف فقط , فأمر هذا الشرط سهل ، لكن الورع ترك التسمي بأسماء الله مطلقاً خروجاً من الخلاف وبعداً عن مطلق المضاهاة وادعى لخضوع القلب وانقياده لله تعالى في مقامات التعبد والله أعلم .
س248/ ما مذهب أهل السنة في صفة الرضى والغضب والسخط والكره ؟ وهل هي صفات فعلية أم ذاتية ؟(1/79)
ج/ مذهب أهل السنة في ذلك هو مذهبهم في سائر صفات الله تعالى وهو الإيمان بها ووصف الله تعالى بها مع اعتقاد أنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير فنثبتها لله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، وهي من قبيل الصفات الفعلية المتعلقة بالمسيئة التي توجد عند وجود مقتضياتها إذا أرادها الله تعالى ، على ما يليق بجلاله وعظمته , وأن معانيها معلومة ولكن نفوض علم كيفياتها إلى الله تعالى , قال تعالى ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) (البينة: من الآية8) وقال تعالى ( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) (الفتح: من الآية18) وقال تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) وقال تعالى ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (محمد:28) وقال تعالى ( وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ )(التوبة: من الآية46) وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات هذه الصفات ، وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها الله جل وعلا متى شاء وكيفما شاء وأهل السنة يثبتون ذلك إثباتاً بلا تمثيل وينزهون الله تعالى عن مماثلة خلقه تنزيهاً بلا تعطيل والله أعلم .
س249/ ما مذهب أهل السنة في صفة الفرح والضحك مع بيانها بالدليل ؟ وهل هي صفة ذاتية أم فعلية ؟(1/80)
ج/ يؤمن أهل السنة الجماعة رحمهم الله تعالى بأن من صفاته جل وعلا الفرح والضحك ، فيثبتون هاتين الصفتين كسائر صفاته جل وعلا من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل لأن الله تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لله أشد فرحاً بتوبة عبده من راحلته .........الحديث ) متفق عليه ، وقال عليه الصلاة والسلام ( يضحك الله تعالى إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة .... الحديث ) متفق عليه ، وفي الحديث الآخر ( أتدرون مما أضحك ، من ضحك الله تعالى حين قال له " أتستهزئ بي وأنت رب العالمين ) رواه مسلم ، وهما من الصفات الفعلية التي يفعلها الله متى شاء وكيفما شاء ، فمعنى الفرح والضحك معلوم ، وكيفه مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة والله أعلم .
س250/ ما البلايا والمصائب التي وقع فيها أهل البدع وكانت سبب ضلالهم وتخريفهم في باب الاعتقاد ؟
ج/ هذا سؤال مهم جداً ، وبيانه أن يقال : الأسباب كثيرة يجمعها ما يلي :
الأول : عدم حصرهم أدلة الاعتقاد في الكتاب والسنة ، فإنهم يستدلون بالمنطق والفلسفة ويسمونها العقليات ، وهي في حقيقتها جهليات وخرافات ووساوس شيطانية ، فهم يسوقون ما يجب اعتقاده في الله من عقولهم وقواعدهم المنطقية الفلسفية , أو مواجيدهم وأذواقهم العفنة ، ومكاشفاتهم الإبليسية ، وقد نص الدليل على أن من طلب الهدى في غير الكتاب والسنة أضله الله ولذلك فهم يعرضون النصوص على عقولهم فما وافقها أخذوه وما خالفها ردوه واتهموه فيقرون ما تقره عقولهم وإن لم يكن عليه دليل ، وينفون ما نفته عقولهم وإن كانت الأدلة قد تواترت على إثباته وهذا هو السبب العظيم في ضلالهم .(1/81)
الثاني : أنهم لا يأخذون الكتاب والسنة على فهم السلف بل يبتدعون من عندهم المعاني الغريبة والاصطلاحات العويصة ويقولون : هذا معنى هذا النص ، وقد تقرر في القواعد أنه لا بد من فهم الكتاب والسنة فهماً يوافق فهم السلف ، فهم أكبر عقولاً وأصح فهوماً وأعمق علوماً ممن أتى بعدهم ، فالمبتدعة مثلاً يفهمون من نصوص الصفات معانٍ بعيدة كل البعد عن فهم السلف ، فهم لا يفهمون منها إلا ما يفهمونه من صفاتنا ، وأما السلف فإنهم يثبتون لله ما أثبته لنفسه ويعتقدون أنه ليس كمثله شيء , وهكذا فالمبتدعة على اختلاف فرقهم لا يعتمدون فهم السلف للنصوص أبداً ولا ينظرون فيه فأنت ترى أن هؤلاء المبتدعة قد جمعوا بين بليتين فهم لا يقتصرون على الكتاب والسنة في مسائل الاعتقاد ولا يفهمونها على فهم السلف ، فنعوذ بالله من حال أهل الأهواء .
الثالث : أنهم يبنون استدلالهم على القواعد المناقضة للمعقول والمخالفة للمنقول والمعارضة لمنهج السلف في الاستدلال ، فهم يستدلون بالمتشابه ويدعون المحكم ويأخذون بطرف من النصوص ويدعون الآخر ويقدمون العقل على النقل ويثبتون أمور الغيب بالقياس ويأخذون بالمجمل ويدعون المبين ويفسرون بعض ألفاظ القرآن على غير ما تعرفه العرب من كلامها وهكذا فالقوم يقعدون القاعدة على ما تمليه عقولهم القاصرة وينزلون النصوص عليها فوقعوا في الضلال ومخالفة النصوص .
الرابع : أنهم يخوضون في النصوص بلا علم ولا برهان ولا يقفون حيث وقف النص بل يقحمون عقولهم فيما لا مجال لها فيه كخوضهم في باب القدر وباب الصفات ونحوها والسلامة في الوقوف عند ما وقف عليه النص .
الخامس : كثرة جدالهم وخصوماتهم ومرائهم .(1/82)
السادس : اعتمادهم على الألفاظ البدعية المجملة وبناء معتقدهم عليها كلفظ الجوهر والعرض والجهة والجسم والحيز ونحوها ، وهذه الألفاظ ، ألفاظ محدثة بدعية لا تعرف عن أحد من السلف ، وأضرب لك مثالاً : المعتزلة ينفون عن الله الصفات ويقعون في آيات الصفات وأحاديثها تحريفاً بسبب أنهم إذا أثبتوا لله الصفات لا يستلزم ذلك أن يكون جسماً والأجسام متماثلة ، فانظر كيف بنوا معتقدهم في الصفات على هذا اللفظ المجمل ، فكم رووا بهذه الألفاظ المجملة من النصوص وحرفوا من الصفات والله المستعان .
السابع : الفهم الفاسد للنصوص ، كفهم الخوارج لبعض النصوص، وكفهم أهل التمثيل والتعطيل لنصوص الصفات ، وكفهم الجبرية والقدرية لنصوص القدر ، وكفهم المرجئة والوعيدية لنصوص الوعد والوعيد ، وهكذا ، فهذا الفهم الفاسد هو الذي أوصلهم إلى هذه النتيجة الفاسدة والله المستعان .
الثامن : اعتمادهم في اعتقادهم على الأحاديث الموضوعة والضعيفة ، وذلك كالرافضة لعنهم الله تعالى ، فإنهم يعتمدون في أمر معتقدهم على المرويات المكذوبة والأحاديث الموضوعة الملفقة على آل البيت .
التاسع : تقديم آراء الرجال وقواعد المذاهب على قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يقبلون من النصوص إلا ما وافق مذهبهم وكلام مبتدعيهم .
العاشر : اعتقادهم التعارض بين العقل والنقل وبين الحقيقة والشريعة .
الحادي عشر : اعتمادهم على الأهواء والشهوات وتحكيمها في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهذه بعض الأسباب ويظهر غيرها بالتأمل والله أعلم .
س251/ بماذا يعرف أهل البدع ؟
ج/ منها : الوقيعة في أهل السنة ووصفهم بالأوصاف القبيحة المستهجنة التي هي بهم أليق وهم بها ألصق.
ومنها : عقد الولاء والبراء على المسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان .
ومنها : إتباع الهوى والإعراض عن الدليل .(1/83)
ومنها : أنهم لا يذكرون ألا ما لهم فقط ، ويكتمون ما عليهم أو يكذبون به ويعرضون عنه ويقدحون فيه ، وأما أهل السنة فيذكرون مالهم وما عليهم مع الإجابة عنه .
ومنها : إتباع المتشابه كما قال تعالى ( فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (آل عمران: من الآية7) وفي الصحيحين من حديث عائشة مرفوعاً ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاؤلئك الذين سماهم الله فاحذروهم )
ومنها : كثرة التنقل والتبديل والتغيير فلا يثبتون على شيء فمذاهبهم غالباً تخضع للمستجدات والمتغيرات والأحداث والأهواء والشهوات وأقوال متبوعيهم ، ومن نصبوه إماماً لهم ، ولكثرة جدالهم ومن جعل دينه عرضاً للخصومات أكثر التنقل ولأن هذه المذاهب الفاسدة أصلاً لم تبن على أسس ثابتة بل بنيت على أهواء متغيرة وأفكار متبدلة وشهوات متلونة .
ومنها : معارضة الكتاب والسنة بالأقيسة الفاسدة والمعقولات الكاسدة .
ومنها : دعواهم أن الأدلة لا تفي بالدين ولا بكفي لتنظيم حياة الناس ، وهم في ذلك بين مصرح وملمح .
ومنها : كثرة الاختلاف والفرقة فيما بينهم , وهذا أمر واضح فلا تجدهم يتفقون على شيء , فانظر إلى فرق الخوارج وفرق الشيعة وفرق المعتزلة وهكذا , وهذا من أبرز صفاتهم .(1/84)
ومنها : أنهم يتسمون بالأسماء المحدثة , فمنهم من ينتسب إلى مؤسس الفرقة كالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري والجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان الترمذي ، والماتريدية نسبة إلى أبي منصور الماتريدي والكلابية نسبة إلى محمد بن سعيد بن كلاب ونحو ذلك ، أو ينتسبون إلى أصل بدعهم كالخوارج لأنهم خرجوا على عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه أو لأنهم خرجوا على المسلمين وإمامهم ، والجبرية نسبة إلى قولهم بالجبر وسلب العباد مطلق القدرة والاختيار ، والقدرية نسبة إلى نفيهم للقدر السابق وقولهم : إن العبد هو الذي يخلق فعله ، ونحو ذلك ، وأما أهل السنة رحمهم الله تعالى فإنهم لا يتسمون
إلا باسم الإسلام والإيمان أو ما دل عليه الدليل أو وقع اتفاق الصدر الأول عليه والله أعلم
ومنها : التعصب للآراء وعدم الرجوع للحق ولو بعد بيان الحق ، بل يتعامون عن الحق تعامياً عجيباً ولا نقول ألا كما قال تعالى ( فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: من الآية46).
ومنها : بغض أئمة الحديث وأهل الأثر ، وبالجملة : بعض أئمة الإسلام والدين كالصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان كالإمام أحمد والثوري والأوزاعي وأبن عيينة وأبن المدني والبخاري وأبن تيميه وابن القيم ومحمد بن عبدالوهاب رضي الله عنهم وأرضاهم فإذا سمعت الرجل يقع في أحد من أئمة الإسلام والسنة فاعلم أنه صاحب بدعة وهوى والله المستعان . فهذه أشهر علامات أهل البدع نعوذ بالله منهم ومن حالهم والله أعلم .
س252/ عرف الإيمان شرعاً ؟ مع ذكر الأدلة على كل ما تذكر ؟
ج/ الإيمان شرعاً : هو الاعتقاد بالجنان والقول باللسان والعمل بالجوارح والأركان .(1/85)
فقولهم : ( الاعتقاد بالجنان ) يدل عليه قوله تعالى ( وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ ) (الحجرات: من الآية14) وقوله تعالى ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) (المجادلة: من الآية22) وقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) (المائدة: من الآية41) وقال النبي صلى الله عليه وسلم ( يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه ).(1/86)
وقولهم : ( وقول باللسان ) يدل عليه قوله تعالى ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ......... الآية ) (البقرة:136) فأمرهم هنا بالقول ولم يكتف منهم بمجرد ما في القلب ، ومثلها قوله تعالى ( قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ .....الآية ) (آل عمران:84) وقوله تعالى ( وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: من الآية14) وقوله تعالى ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران: من الآية64) وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله ) وفي الصحيحين أيضاً من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ) وفيهما من حديث أبي هريرة مرفوعاً ( الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) واتفق أهل العلم أن الكافر إذا أراد الإسلام فإنه لا بد من التلفظ بالشهادتين بحيث يسمع نفسه على الأقل ولا يكتفي بالإقرار القلبي .
وأما قولهم : ( وعمل بالجوارح والأركان ) فيدل عليه قوله تعالى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (البقرة: من الآية143) أي صلاتكم كما ورد ذلك في الصحيح ، وقوله تعالى :(1/87)
( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) (البينة:5) وفي الصحيحين عن ابن عباس في حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بأربع أمرهم بالإيمان بالله وحده وقال : أتدرون ما الإيمان بالله وحده قالوا الله ورسوله أعلم ، قال ( شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا من المغنم الخمس ) وهذه كلها أعمال جوارح وقد سماها إيماناً ، وقال عليه الصلاة والسلام ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) حديث صحيح وقال عليه الصلاة والسلام ( إن البذاذة من الإيمان ) حديث صحيح ، وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ) وله من حديث ابن مسعود ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) فجعل تغير المنكر ومجاهدة أصحابه باليد واللسان من الإيمان وهي أعمال جوارح ، وفي الحديث السابق (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وهي عمل وقد جعلها من جملة شعب الإيمان ، فهذه بعض الأدلة على هذه العقيدة العظيمة التي انفرد بها أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى والله أعلم .
س253/ ما مذهب أهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه ؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/88)
ج/ مذهب أهل السنة في ذلك هو أن الإيمان يزيد حتى يبلغ كماله وتمامه إذا جاء العبد بموجبات زيادته , وينقص حتى ينتهي كله إذا جاء العبد بموجبات نقصانه ، وهذا ما تواترت به الأدلة ، فمن أدلة زيادته قوله تعالى ( وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً )(المدثر: من الآية31) وقوله تعالى ( لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ ) (الفتح: من الآية4) وقوله تعالى ( وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً )(مريم: من الآية76) وقوله تعالى ( وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ) (لأنفال: من الآية2) وقوله تعالى ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً ) (آل عمران: من الآية173) وقال عليه الصلاة والسلام ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) وقال عليه الصلاة والسلام ( من أحب في الله وأبغض في الله فقد استكمل الإيمان ) وقال عليه الصلاة والسلام ( الطهور شطر الإيمان ) وفي حديث ( رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما هو دون ذلك قالوا: فما أولته يا رسول الله قال : الدين ) وقد كان ابن مسعود يقول ( اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً ) أخرجه الطبراني في الكبير بإسناد جيد . وكان معاذ بن جبل يقول للرجل من إخوانه اجلس بنا نؤمن ساعة فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه ) رواه ابن أبي شيبة وسنده صحيح . وعن عمار بن ياسر أنه قال : ( ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق مع الإقتدار ) رواه البخاري تعليقاً.(1/89)
وأما نقصانه فقد وردت به أدلة كثيرة أيضاً ، فمنها ما مضى من الآيات فإن فيها إثبات الزيادة وكل شيء يقبل الزيادة فإنه يقبل النقصان ، ومنها : حديث أنس في الصحيح مرفوعاً ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه برة من خير ، ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) والمراد بالخير هنا الإيمان ، كما في الرواية الأخرى ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزمن برةٍ من أو خردلةٍ أو ذرةٍ من إيمان ) .
ومنها : حديث أبي سعيد السابق في إنكار المنكر وفيه ( وذلك أضعف الإيمان) .
ومنها : حديث ابن مسعود السابق أيضاً وفيه ( وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل )
ومنها : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً وفيه ( ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن قلت وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله ؟ قال : ( أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ) قلت : بلى ، قال ( فذلك من نقصان عقلها ، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟ قلت : بلى ، قال ( فذلك من نقصان دينها ) متفق عليه .
ومنها : حديث الشفاعة وهو في الصحيح وفيه ( فأخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرةٍ من إيمان ) .
فهذه الأدلة تفيدك إفادة قطعية إن شاء الله تعالى بما قرره أهل السنة رحمهم الله تعالى في هذه المسألة من أن الإيمان يزيد وينقص والله أعلم .
س254/ ما أسباب زيادته ونقصه ؟
ج/ ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى أن زيادة الإيمان لها أسباب :
منها : معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته .
ومنها : التفكر في آيات الله تعالى الكونية والشرعية .
ومنها : فعل الطاعة .
ومنها : ترك المعصية .(1/90)
فهذه الأشياء تجمع أسباب زيادة الإيمان، وضد كل واحد منها سبب من أسباب النقص ، فالجهل بالله تعالى ينقص الإيمان ، وعدم التفكر في الآيات الكونية والشرعية سبب للنقص ، وفعل المعصية سبب للنقص ، والله أعلم .
س255/ ما العلاقة بين الإسلام والإيمان ؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟
ج/ الإسلام والإيمان مرتبتان من مراتب الدين ومنزلتان من منازله كما ثبت ذلك في حديث جبريل المشهور لما سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وقال في آخره ( هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم ) رواه مسلم ، وهاتان المرتبتان متتاليتان فالأولى الإسلام والثانية الإيمان ، وبناءً عليه فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ، قال تعالى ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: من الآية14) فأول ما يدخل العبد في الدين يوصف بالإسلام حتى يدخل الإيمان في قلبه بما يأتي به من التصديق والعمل الصالح ، فهذا وجه من أوجه العلاقة بينهما ، وخلاصتها أن يقال : إن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً ، فبينهما عموم من وجه واحد فقط ، والوجه الثاني أنهما إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا ، أي إذا ذكر أحدهما في النص فإنه يدخل معه الآخر الذي لم يذكر ، فيصدق المذكور في النص عليهما ، وإذا ذكرا معاً في نص واحدٍ فإنهما يختلفان أي يحمل كل واحدٍ منهما معناً خاصاً ، فيكون الإسلام معناه الأعمال الظاهرة من الشهادتين والصيام والصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال الجوارح ، ويكون معنى الإيمان الأعمال الباطنة أي أعمال القلوب من التصديق والإقرار والمحبة والإنابة والرجاء والتوكل والخوف ونحوها ، وإليك بعض الأمثلة :
فمن الأمثلة على افتراقهما(1/91)
قوله تعالى ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ ) (آل عمران: من الآية19) أي والإيمان وقوله تعالى ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً ) (آل عمران: من الآية85) أي وغير الإيمان وقوله تعالى ( فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران: من الآية64) أي ومؤمنون وهكذا ، وفي حديث وفد عبد القيس مرفوعاً ( آمركم بالإيمان بالله وحده ) ثم فسره بأركان الإسلام فقال : شهادة ألا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا خمساً من المغنم ) متفق عليه ، ومن ذلك حديث سعد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى رهطاً وسعد جالس .... وفيه ( مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمناً فقال ( أو مسلماً ) ثلاث مرات .
ومثال اجتماعهما
قوله تعالى ( قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا ) (الحجرات: من الآية14) ففرق بينهما لأنهما في نص واحد وكذلك حديث جبريل المشهور فإنه قد فسر الإسلام بأعمال الجوارح وفسر الإيمان بأعمال القلوب ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة وخلاصة الجواب أن يقال : العلاقة بينهما من وجهين :
الأول : أن كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن .
الثاني : أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا . والله أعلم
س256/ ما صورة الاستثناء في الإيمان ؟ وما حكمه بالتفصيل ؟
ج/ صورته أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله . والناس فيها على طرفين ووسط وخير الأمور الوسط ، فمن الناس من يوجب هذا القول أي يوجب قول ( إن شاء الله ) بعد قوله ( أنا مؤمن ) فيوجبه مطلقاً ولهم في ذلك مأخذان :
الأول : أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموفاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك فلا عبرة به .(1/92)
الثاني : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله وترك ما نهاه عنه كله فإذا قال الرجل أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين والقائمين بجميع ما أمروا به وترك ما نهوا عنه فيكون من أولياء الله المقربين وهذا من تزكية النفس وقد نهى الله عنه في قوله تعالى ( فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ) (لنجم: من الآية32) وقوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ) (النساء:49) وقال عليه الصلاة والسلام ( الله أعلم بأهل البر منكم ) ومن الناس من يمنعه مطلقاً وهم الذين يجعلون الإيمان جزءً لا يزيد ولا ينقص وهم المرجئة ، ومأخذهم في ذلك قولهم نحن نعلم قطعاً أننا مؤمنون كعلمنا قطعاً أننا مسلمون ، وتعليق الإيمان بالمشيئة شك في الإيمان والشك في الإيمان كفر ، ولذلك فهم يسمون من يجيز تعليق الإيمان بالمشيئة بالشكاكين ، أما مذهب أهل السنة فإنهم يفصلون في ذلك تفصيلاً يجمع الأدلة كلها فهم أسعد بالحق والصواب المؤيد بالدليل من الفريقين السابقين وهم الوسط في هذه المسألة كما أنهم الوسط في سائر أمور الاعتقاد وخلاصة مذهبهم أنهم قالوا : إن كان القصد من الاستثناء الشك في وجود أصل الإيمان فهذا حرام لأنه مفض إلى الوقوع في الحرام ، وما أفضى إلى الحرام فهو حرام .(1/93)
وهذا لا خلاف فيه ، وإن كان يقصد به الشك في كماله فهو مندوب حسن جداً لأن كمال الإيمان من الأمور التي لا تدرك بالحس وإنما مبناها على الدليل ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة ، ويلحق بذلك من أستثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة فهو حسن أيضاً وما عدا ذلك فجائز ، ونقول بتفصيل أوضح : يكون الاستثناء حراماً إذا كان للشك في أصل الإيمان ويكون واجباً إذا خيف على نفسه الرياء إذا تركه ، ويكون مستحباً إذا كان للشك في كماله أو أزاد عدم علمه بالعاقبة ، ويكون مباحاً فيما عدا ذلك والله أعلم .
س257/ ما حكم الأفعال التي نفي الإيمان عن فاعلها أو تاركها ؟ مع توضيح ذلك بالأمثلة وبيان القاعدة في ذلك ؟
ج/ القاعدة في ذلك أن كل فعل نفى الإيمان عن فاعله فلأنه حرام ، وكل فعل نفى الإيمان عن تاركه فلأنه واجب وهذا الأمر من الأشياء التي يعرف بها وجوب الشيء أو حرمته ، بل وهو من الأشياء التي يعرف بها الكبيرة فإن الكبيرة تعرف بأشياء كثيرة ومنها قولهم :
( أو نفي إيمان ) أي أن هذه الأشياء والأفعال التي نفي الإيمان عن أصحابها دليل على أنها كبيرة من كبائر الذنوب ، فإن المنفي هنا هو كمال الإيمان الواجب فإن من الممتنع شرعاً أن ينفى الإيمان عن فاعل المكروه أو تارك المستحب ، بل لا ينفي الإيمان الكامل إلا عن فاعل الحرام أو بارك الواجب ، والأمثلة على ذلك لا تكاد تحصر ودونك بعضها :
فمنها : حديث أبي هريرة في الصحيحين مرفوعاًً ( لا نزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ويشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) وكان أبو هريرة يلحق معهن ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن ولا يغل حين يغل وهو مؤمن ) فهذه الأفعال نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن فاعلها فهو دليل على حرمتها وأنها كبيرة من كبائر الذنوب .(1/94)
ومنها : ما في الصحيحين من حديث أنس مرفوعاً ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه ) فهذا دليل على وجوب ذلك أي يجب عليك أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك .
ومنها : ما في الصحيحين من حديث أنس مرفوعاً ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ) فهذا دليل على وجوب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة كل أحد من الخلف لأنه فعل نفى الشارع الإيمان عن تاركه فهذا دليل وجوبه .
ومنها : حديث ( لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له ( فهذا دليل على وجوب أداء الأمانة وحفظ العهد . وعلى ذلك فقس والله أعلم .
س258/ ما مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة في الدنيا مع تأييد ذلك بالأدلة ؟ موضحاً وسطيتهم بذكر أقوال المخالفين إجمالاً ؟(1/95)
ج/ يعتقد أهل السنة والجماعة رحمهم الله تعالى أن فعل الكبيرة له تأثير في نقص الإيمان كما وردت بذلك الأدلة ، لكنه ليس النقص الكامل بحيث لا يكون معه شيء من الإيمان ، بل هو نقص يتفاوت بتفاوت عظم هذه المعصية وصغرها ، فالنقص الذي يحدثه القتل أعظم من النقص يحدثه حلق اللحية وإسبال الثوب ، وهكذا ، فالمحرمات تتفاوت فيما يترتب عليها من العقوبات والآثام ، كما أن الواجبات تتفاوت أجورها وما يترتب عليها ، ففعل المعصية ينقص الإيمان ، لكنه ليس النقص المطلق ، أي أنه نقص من إيمانه بقدر هذه الكبيرة التي فعلها لكن يبقى معه شيء من الإيمان ، فخلاصة مذهب أهل السنة في ذلك أنهم لا يعطونه الإيمان المطلق ولا يسلبونه مطلق الإيمان وبعبارة أخرى نقول : مرتكب الكبيرة مؤمن بما بقي معه من الإيمان وفاسق بما فعله من العصيان . أو نقول : هو مؤمن بإيمانه وفاسق بكبيرته ، والدليل على أن فعل الكبيرة تنقص الإيمان حديث أبي هريرة السابق ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ....... الحديث ) أي لا يكون مؤمناً تاماً ولا يكون له نور الإيمان كما قاله الإمام البخاري رحمه الله تعالى ، فهذه المعاصي من الزنى وشرب الخمر والسرقة والانتهاب والغلول أوجبت نقص الإيمان مما يدل على أن فعل المعصية ينقص الإيمان ، عن أبي هريرة مرفوعاً ( والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قالوا : من يا رسول الله قال ( من لا يأمن جاره بوائقه ) فهذه المعصية وهي أذى الجار وإسرار العداوة له وتربص حلول الدوائر به أوجبت نقص الإيمان ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي مسعود مرفوعاً ( لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ) فهذه المعصية العظيمة أوجبت نقص الإيمان الذي تحصل به النجاة يوم القيامة .(1/96)
وفي الصحيحين من حديث أبن مسعود مرفوعا (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) والوصف بالفسوق والكفر الأصغر دليل على أن هاتين المعصيتين قد أثرتا تأثيرا بليغا في نقص الإيمان مما يدل على أن فعل المعصية ينقص الإيمان بقدر هذه المعصية . وفي الصحيحين من حديث حذيفة (لا يدخل الجنة قتات)أي نمام ، فهذه المعصية أنقصت الإيمان الواجب نقصا كبيرا بحيث أن صاحبها حكم عليه بأنه لا يدخل الجنة ،والنصوص على ذلك كثيرة جدا لا تكاد تحصر، وتفيد بمجموعها أن فعل المعاصي ينقص الإيمان ، والدليل على أن فاعل الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء فإتباع بالمعروف وأداءً إليه بإحسان )) فوصف القاتل بأنه أخٌ للمقتول مما يدل على أنه لا يزال على الإيمان مع اتصافه بالقتل فعلمنا بذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج عن مسمى الإيمان ومن ذلك قوله تعالى ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما ) فسماهم مؤمنين مع اتصافهم بقتال بعضهم بعضاً ـ وقال في آخرها ( إنما المؤمنون إخوة) فوصفهم بالإيمان وجعلهم إخوة مما يدل على أنه لا يزال بينهم أخوة الإيمان ، فعلمنا بذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج العبد من دائرة الإيمان بالكلية ، وفي حديث عياض الملقب حماراً أنه كان يشرب الخمر فيؤتى به فيجلد فلعنه أحد الصحابة فقال عليه الصلاة والسلام ( لا تلعنه فوالله أني لا أعلم إلا أنه يحب الله ورسوله ) ومن المعلوم أن شرب الخمر من الكبائر ومع ذلك أثبت له أنه يحب الله ورسوله أي هو مؤمن ، فأثبت له الإيمان مع تلبسه بهذه الكبيرة فعلمنا بذلك أن ارتكاب الكبيرة لا يخرج العبد من مسمى الإيمان بالكلية .(1/97)
وقد أتفق أهل السنة على ذلك إذا علمت هذا فاعلم أن المرجئة يقولون : فاعل الكبيرة له الإيمان المطلق أي أن إيمان أفسق الناس كإيمان أصلح الناس ففعل الكبيرة غير الشرك لا يؤثر في نقص الإيمان . وأما الوعيدية فقالوا : من فعل الكبيرة فإنه يخرج من دائرة الإيمان ومسماه بالكلية ، فلا ينفع إيمان مع فعل الكبيرة فهم سلبوه مطلق الإيمان ، فقال أهل السنة : ولا يسلبه مطلق الإيمان . فمذهب أهل السنة وسط بين المذهبين، فلم يعطوه الإيمان المطلق كما فعلت المرجئة ولم يسلبوه مطلق الإيمان كما فعلت الوعيدية . والله أعلم .
س259/ ما مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة في الآخرة مع بيان مذهب المرجئة والوعيدية ؟ وتوضيح منهج الوسطية في ذلك ؟(1/98)
ج/ نعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً عليها فإنه تحت مشيئة الله تعالى ، فإن شاء غفر له كبيرته وأدخله الجنة ابتداءً وإن شاء عذبه في النار بقدر كبيرته ثم يخرجه منها ويدخله الجنة انتقالاً ، ويعتقدون م ذلك أنه لا يخلد أحد من أهل القبلة في النار خلود الكفار ، وإن طالت فترة عذابهم فمآلهم إلى الجنة ، والدليل على ذلك حديث أنس في الصحيح مرفوعاً ( يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن حبة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير ) وفي السنن من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن حافظ عليهن لم كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عهد عند الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه ) حديث صحيح ، وفي الصحيح عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه ) وقال أهل السنة ذلك لأن فاعل الكبيرة قد أجتمع فيه الموجبات ، فما فعله من الكبائر موجب لعقوبته وما عنده من الإيمان موجب لإثابته . فأجتمع فيه موجب الثواب وموجب العقاب فلا نجزم له بأحد الأمرين بل نكل أمره إلى الله تعالى فإن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ، وبتوضيح أكثر نقول : إعلم رحمك الله تعالى أن مذاهب أهل القبلة في مرتكب الكبيرة في الآخرة هو نتيجة لمذاهبهم فيه في الدنيا .(1/99)
فأما الوعيدية فقد سلبوه مطلق الإيمان فقالوا : إنه في الآخرة إلى النار خالداً مخلداً فيها لا يخرج منها أبد الآباد.
وأما المرجئة فقد قالوا إن مرتكب الكبيرة له الإيمان المطلق فقالوا : هو في الآخرة إلى الجنة مباشرة ولا اعتبار بما فعله من الكبائر لأنها لم تنقص إيمانه .
وأما أهل السنة فقالوا :لا نقول إلى الجنة مباشرة ولا إلى النار مباشرة بل هو تحت المشيئة ، فتوسطوا بين المذهبين الضالين ، وهذا من توفيق الله تعالى لأهل السنة والله أعلى وأعلم .
س260/ ما سبب ضلال هاتين الفرقتين ؟ وما سبب تسميتها بذلك ؟ وأي الفرق هم ؟
ج/ أما سبب ضلالهم فلأنهم زعموا أن الإيمان جزء واحد لا يزيد ولا ينقص ، بل هو ثابت في حق كل أحدٍ ما لم يأت العبد بما يناقضه ، وهذا المناقض هو الكفر والشرك عند المرجئة لا غير ، فالذي يؤثر في الإيمان عند المرجئة هو الشرك فقط لا فعل الكبيرة ، تغليباً منهم للرجاء التي دلت عليها أدلة الوعد ، وأما الوعيدية فالناقض عندهم هو كل كبيرة ، فكل كبيرة تعد ناقضة للإيمان من أساسه وكذلك تغليباً منهم للخوف والتهديد التي دلت عليه أدلة الإيمان أي لا يذهبه بالكلية إلا الكفر والشرك ، وأما فعل الكبيرة فإنها مضادة لكماله الواجب أي أن الكبيرة تنقصه عن كماله الواجب ، فلا يجتمع الكمال الواجب مع فعل الكبيرة أبداً ، لكنها - أي فعل الكبيرة لا تناقض أساسه ويكون أهل السنة بذلك قد أخذوا بأدلة الوعيد والوعد فأعملوا جميع الأدلة الشرعية وهذا هو منهج الوسطية .فالمرجئة عبدوا الله بالرجاء فقط ، والوعيدية عبدوا الله بالخوف فقط وأما أهل السنة فعبدوا الله بالخوف والرجاء فأنتج ذلك لهم الخشية ، فالخشية مزيج من الخوف والرجاء ، جعلنا الله وإياك من أهل السنة .(1/100)
وسميت المرجئة بذلك لأنهم يغلبون جانب أدلة الوعد المفيدة لتغليب الرجاء ، وقيل : بل الإرجاء هو التأخير فلأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان سموا بالمرجئة، قلت : وكلا الأمرين صحيح فسموا مرجئة لهذا ولهذا . وهم الأشاعرة وبعض الأحناف والماتريدية والجهمية والكلابية ، فهولاء في باب أسماء الأحكام والدين يسمون مرجئة ، وأما الوعيدية فسموا بذلك لأنهم لا يعلمون إلا بأدلة الوعيد فقط ويتركون أدلة الوعد ، وهم الخوارج والمعتزلة ، فهؤلاء في باب الكلام على مرتكب الكبيرة نسميهم الوعيدية والله أعلم .
س261/ ما الضابط في معرفة الكبيرة ؟ مع بيان هذا الضابط بضرب مثال ؟
ج/ الضابط في معرفة الكبيرة هي أنها كل ذنب ختم بلعنة أو غضب أو نار أو توعد عليه بعقاب خاص في الآخرة أو نفي عن صاحبه الإيمان أو بأنه ليس منا .
فمثال ما ختم بلعنة حديث علي مرفوعاً ( لعن الله من ذبح لغير الله لعن الله من لعن والديه لعن الله من آوى محدثاً لعن الله من غير منار الأرض ) رواه مسلم .
ومثال ما ختم بغضب قوله تعالى ( ومن قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالاً فيها وغضب عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ) وحديث ابن مسعود ( من حلف على يمين صبر ) .
ومثال ما ختم بنارٍ حديث ( فما أسفل الكعبين في النار) .
ومثال ما ثبت فيه الوعيد عليه بخصوصه حديث ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل كان له فضل ماءٍ بالطريق فمنعه من ابن السبيل ورجل بايع إمامه لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط ورجل أقام سلعته بعد العصر فقال والله الذي لا إله إلا غيره لقد أعطيت بها كذا وكذا فصدقه رجل ..) متفق عليه .
ومثال ما نفي عن صاحبه الإيمان حديث أنس ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) .(1/101)
ومثال ما قيل فيه ( ليس منا ) حديث ابن مسعود ( ليس منا من ضرب الحدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية ) وحديث ابن عمر وأبي موسى ( من حمل علينا السلاح فليس منا ) ونحو هذه الأدلة ، والمسألة خلافية وهذا هو الراجح إن شاء الله تعالى واختاره شيخ الإسلام والله أعلم .
س262/ ما أسباب تكفير السيئات ؟
ج/ أسباب تكفير السيئات هي :
الأول : التوبة ، قال تعالى ( إلا من تاب ) وقال ( فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ) وفي الحديث ( ويتوب الله على من تاب ) وقال عليه الصلاة والسلام ( والتوبة يجب ما قبلها ) والأدلة في ذلك كثيرة .
الثاني : الاستغفار ، قال تعالى ( وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) وقال تعالى ( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ) وذكر أهل العلم أن الاستغفار يتضمن التوبة والتوبة تتضمن الاستغفار وكل واحد منها يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ، وأما عند الاقتران فيكون الاستغفار طلب وقاية شر ما مضى ، والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله ، فيقال في التوبة والاستغفار ما يقال في الإسلام والإيمان ، والفقير والمسكين ، والكفر والشرك عن أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا .
الثالث : الحسنات الماحية ، قال تعالى ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) وقال عليه الصلاة والسلام ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها ) حديث صحيح ، وفي الحديث ( الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) وهو في الصحيح .(1/102)
الرابع : المصائب الدنيوية ، قال صلى الله عليه وسلم ( ما يصيب المسلم من وصب ٍ ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفّر الله به من سيئاته ) متفق عليه ، وعن أبي هريرة قال : ( لما نزلت ( من يعمل سوءاً يجز به ) بلغت من المسلمين مبلغاً شديداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قاربوا و سددوا ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى النكبة ينكبها أو الشوكة يشاكها ) رواه مسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام لأم السائب ( لا تسبي الحمى فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد ) رواه مسلم .
الخامس : عذاب القبر وتقدم الكلام عليه .
السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات .
السابع : ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقةٍ أو حج ونحو ذلك .
الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده .
التاسع : المقاصّة عند القنطرة وهو ما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرةٍ بين الجنة والنار فيتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا نقُّوا وهذبوا أذن لهم بدخول الجنة ..... الحديث ) رواه البخاري .
العاشر : شفاعة المؤمنين له يوم القيامة وسيأتي الكلام عليها بعد قليل إن شاء الله تعالى .
الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين من غير شفاعه كما قال تعالى ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) وسيأتي دليلها في الشفاعة إن شاء الله تعالى ، فهذه الأسباب هي مجموع ما ذكره أبو العباس وتلميذه أبن القيم وتابعهم على ذلك شارح الطحاوية والله أعلم .
س263/ عرف الشفاعة ؟ وما الأصل فيها عند أهل السنة والجماعة ؟(1/103)
ج/ الشفاعة مأخوذة من الشفع ضد الوتر ، وهي انضمام شيء إلى شيء ، أي انضم وتر إلى وتر فصار شفعاً ، والمراد بها في عرف أهل الاعتقاد : السؤال لفصل القضاء والتجاوز من الذنوب وتخفيف العذاب وزيادة الثواب لمستحقه ، فهذا التعريف يدخل فيه جميع الأنواع المذكورة والتي ثبتت بها الأدلة ، وهو تعريف للشفاعة في الآخرة وإلا فالشفاعة في الأصل : طلب الخير للغير ، إذا علمت هذا فاعلم أن الأصل في شفاعة الآخرة التوقيف على الدليل ، أي أنه لا يجوز أن يثبت منها إلا ما ورد الدليل به فقط وأما ما لا دليل عليه فالأصل عدمه لأن هذه الشفاعات من أمور الغيب وقد تقرر أن أمور الغيب مبناها على التوقيف ، فما صح به الدليل قلنا به ومالا فلا وكما أنه لا يجوز أن يثبت منها إلا ما أثبته الدليل ، فكذلك لا يجوز إنكار أو تأويل ما ثبت به الدليل ، بل الواجب التصديق والإقرار به وترك المراء والجدال فيما ثبت به النص ، ولا يتعارض نص صحيح مع عقل صريح ، والعقل تابع للنص وخادم له ، والنص هو السيد المطاع ، فانتبه لهذا فإن هذا الباب أعني باب الشفاعة باب قد زلت فيها الأقدام وضلت فيه الأفهام وسبب ذلك عدم اعتماد هذا الأصل المبارك والله ولي التوفيق .
س264/ ما أقسام الناس في الشفاعة ؟
ج/ أقول : الناس في الشفاعة ثلاث طوائف
طرفان ووسط:ـ
الأولى : طائفة أنكرها كاليهود والنصارى والخوارج والمعتزلة الذين ينكرون الشفاعة في أهل الكبائر فخالفوا الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة وناقضوا إجماع الأمة.(1/104)
الثانية : طائفة غلت في إثبات الشفاعة حتى تجاوز بهم الحد الشرعي فجوزوا طلبها من الأموات كالأنبياء والأولياء والصالحين،حتى أثبتوها لبعض الجمادات كما قال الله تعالى ((ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى)) وقال عنهم ((هؤلاء شفعاؤنا عند الله )) فرد الله عليهم وكذبهم في زعمهم هذا فقال (( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع )) وقال تعالى (( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )) وقد عاب الله تعالى على الذين اتخذوا شفعاء من دونه وهم لا يملكون شفاعة ولا يعقلون لأنهم إما أموات غير أحياء وإما جمادات فقال تعالى (( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعاً له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون )) وقال تعالى (( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له )) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون في معبوداتهم هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن .
الثالثة : أهل السنة والجماعة : فقد أثبتوا الشفاعة الشرعية واعتمدوا ما جاء في شأنها في الكتاب والسنة وأنها لا تطلب إلا من الله تعالى ، وسيأتي في الأسئلة بعدها زيادة توضيح لذلك والله أعلم .
س265/ هل الشفاعة ف الآخرة عامة أم خاصة ؟
ج/ كنها ما هو عام ومنها ما هو خاص ، ونعني بالخاص أي بالنبي وحده صلى الله عليه وسلم ، ونعني بالعام ، أي لسائر النبيين والملائكة والصديقين والشهداء والصالحين ومن مات صغيراً ولعامة المؤمنين ، فأما الشفاعات الخاصة فثلاث :
الأولى : الشفاعة العظمى ، الثانية : الشفاعة في أهل الجنة ليدخلوا الجنة ، الثالثة : الشفاعة في عمه أبي طالب ، وأما الشفاعات العامة فأربع :
الأولى : الشفاعة فيمن أستحق النار إلا يدخلها ، الثانية : الشفاعة فيمن دخلها من أهل القبلة ممن معه أصل الإسلام أن يخرج منها ، الثالثة : الشفاعة في أهل الأعراف(1/105)
الرابعة : الشفاعة في رفعة الدرجات في الجنة ، فصارت الشفاعات بذلك سبع شفاعات ، ثلاث منها خاصة به صلى الله عليه وسلم والباقي عام له ولسائر المؤمنين والله أعلم .
س266/ ما المراد بالشفاعة العظمى وما دليلها ؟
ج/ المراد بها شفاعته صلى الله عليه وسلم في أهل الموقف لفصل القضاء بينهم ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون أشفع لنا إلى ربك فيقول لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن فيأتون إبراهيم فيقول : لست لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله ، فيأتون موسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته فيأتون عيسى فيقول : لست لها ولكن عليكم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم فيأتوني فأقول :ـ أنا لها فاستأذنت على ربي لي ويلهمني محامد أحمده بها الآن فاحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال: يا محمد ارفع راسك وقل يسمع لك واشفع تشفع وسل تعط، فأرفع راسي وأقول : يا رب أمتي أمتي - الحديث الطويل - متفق عليه وقد أجمع السنة على إثباتها. فإذا جمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فإن الشمس تدنو منهم والعرق يبلغ منهم كل على قدر أعماله فيبلغ الناس من الكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون فيقول بغض الناس لبعض ألا ترون إلى ما قد بلغكم ألا ترون ما أنتم فيه ، ألا ترون من يشفع لكم إلى ربكم .(1/106)
فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام ، كلهم يعتذر عن ذلك ويقول ( إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، ويذكر ما عنده مما أخطأ فيه ، فيقول آدم عليه السلام ( وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته نفسي نفسي ، ويقول نوح عليه السلام ( وإنه كانت لي دعوة دعوتها على قومي نفسي نفسي ، وإبراهيم عليه السلام ذكر تعريضاته الثلاث ، وموسى يقول ( وإني قتلت نفسًا لم أمر بقتلها نفسي نفسي ، وأما عيسى فلا يذكر ، وينتهي الأمر إلى خاتم الأنبياء وأفضل المرسلين صلى الله عليه وسلم فيقول : أنا لها ، فيشفع عند ربه فيفصل بين الناس في القضاء ، وهذه الشفاعة المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون كما قال الله تعالى (( عيسى أن يبعث ربك مقامًًا محمودا )) وكما ذكرت أن هذه الشفاعة خاصة به صلى الله عليه وسلم والله أعلم .
س267/ما المقصود بالشفاعة لدخول الجنة مع ذكر دليلها ؟
ج/ المقصود بها أن أهل الجنة إذا جاءوا إليها وجدوا أبوابها مغلقة ويكون أول من يفتح له النبي صلى الله عليه وسلم فيدخلها وقد دخل بعده أمته ثم بقية الأمم ، ودليلها حديث أنس عند مسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح فيقول الخازن من أنت ؟ فأقول : محمد ، فيقول : بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك ) وفي لفظ له ( أنا أول شفيع في الجنة ) والله أعلم .
س268/ ما المراد بالشفاعة في عمه أبي طالب وما دليلها ؟(1/107)
ج/ المراد بها شفاعة تخفيف لا إخراج وهي خاصة بأبي طالب فقط وإلا فالأصل في عموم الكفار والمشركين أنهم لا تنفعهم الشفاعة ولا يأذن لأحد أصلاً بالشفاعة فيهم كما قال تعالى (( فما تنفعهم شفاعة الشافعين )) ، ففي الصحيح عن العباس بن عبد المطلب أنه قال ( يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك قال ( نعم هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ، وفي لفظ ( وجدته في غمرات من النار ، فأخرجته إلى ضحضاح ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عند عمه أبو طالب فقال : ( لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه ) وللبخاري ( يغلي من أم دماغه ) ولمسلم عنه مرفوعاً ( إن أدنى أهل النار عذاباً من ينتعل بنعلين من نار يغلي دماغه من حرارة نعليه ) والله أعلم .
س269/ ما المراد بالشفاعة في أهل الكبائر ؟ وما دليلها ؟ ومن الذي أنكرها ؟(1/108)
ج/ المراد بذلك أن من الأمة من يموت مصراً على بعض الكبائر ، وقد ذكرنا أنه عند أهل السنة تحت المشيئة . فإذا شاء الله عذابه فإنه لا يخلو من أحوال إما أن يأذن بالشفاعة فيه فلا يدخل النار أصلاً بل يغفر له ويدخل الجنة ابتداءً ، وإما أن يدخل النار ثم يؤذن بالشفاعة فيه بعد دخولها فيخرج منها إلى الجنة انتقالاً ، وذلك يعود إلى مشيئة الله جل وعلا وهذه الشفاعة قد تواترت على إثباتها الأدلة ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ( لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة ) وفي الصحيح أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه ) وعن أنس مرفوعاً ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) وفي الصحيح أيضاً عن حماد بن زيد قال قلت لعمرو بن دينار : أسمعت جابر بن عبدالله يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة ؟ قال : نعم ، وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ( فيقول الله عز وجل شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا فحماً فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة ، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل وفي الصحيح من حديث أبي سعيد السابق والطويل وفيه ( حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله تعالى في استيفاء الحق من المؤمنين يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون : ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فتحرَّمُ صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ، فيقولون : ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول : ارجعوا فمن وجدتم في(1/109)
قلبه مثقال دينارٍ من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ، ثم يقول : ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه ، فيخرجون منها خلقاً كثيراً ، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً ) وفي الصحيح من حديث أبي سعيد أيضاً مرفوعاً ( أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم الله إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيئ بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم .... الحديث ) وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فيدخلون الجنة ويسمون بالجهنميين ) وفي البخاري أيضاً عن أنس رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( إذا كان يوم القيامة شفعت وقلت يارب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة ، فيدخلون ثم أقول : أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء فيدخلون ) وفي الحديث في فضائل الشهداء ( و يشفع في سبعة من أهله ) وغير ذلك من الأدلة ، وكما ذكرت لك أن هذا النوع من الشفاعة قد تواترت به الأدلة ، وقد أجمع أهل السنة رفع الله نزلهم في الدنيا والآخرة على إثباته ولكن أبى المبتدعة إلا إنكارها والتكذيب بها ، فقد أنكرها الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ، وحري بهم ألا يوفقوا لها يوم القيامة ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، وعميت أعينهم عن هذه الأدلة النيرات المتواترات لِوهمٍ توهموه ومذهب ٍ انتحلوه وخرافات أصّلوها واعتمدوها وعارضوا بها نصوص الوحي المطهر عافانا الله وإياكم من كل بلاء وفتنة ونعوذ به جل وعلا من حال أهل الأهواء والله أعلم .
س270/ ما دليل الشفاعة في رفعة الدرجات في الجنة ؟(1/110)
ج/ دليلها قوله تعالى (( والذين آمنوا وأتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهينة )) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما توفي أبو سلمة ( اللهم أغفر لأبي سلمة وأرفع درجته في المهديين ) والله أعلم .
س271/ من أهل الأعراف ؟
ج/ أهل الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فيوقفون بين الجنة والنار ، يرون أهل الجنة يدخلون فيقولون (( سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون )) ويرون أهل النار يدخلونها (( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين )) فيأذن الله تعالى بالشفاعة فيهم فيشفع فيهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون ، ويستدل على الشفاعة فيهم ببعض عمومات الأدلة السابقة كحديث ( شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ) وغير ذلك والله أعلا وأعلم .
س272/ ما شروط الشفاعة ؟ مع بيانها بالأدلة ؟
ج/ شروط الشفاعة شرطان : الإذن و الرضى قال تعالى (( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه )) وقال تعالى (( ولا يشفعون إلا لمن أرتضى )) وقال تعالى (( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى )) والله أعلم .
س273/ ما لقاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل ؟ مع شرح معناها الإجمالي ؟(1/111)
ج/ القاعدة المعتمدة عند أهل السنة في باب التوسل تقول : ( الأصل في التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح الصريح ) وبيانها أن يقال أن المتقرر عند أهل الإسلام أن باب التعبد لله تعالى باب توقيفي على الدليل ، فلا يجوز إثبات شيء منها إلا إذا أثبته الدليل فما أثبته الدليل مها أثبتنها وما نفاه منها نفيناه وما لم يثبته ولم ينفه فالأصل عدمه من المعلوم أن باب التوسل من أبواب العبادات فهو عبادة لأن مبناه على أنك تتقرب إلى الله تعالى باتخاذه الوسيلة المعينة المحبوبة له جل وعلا ، وحيث كان عباده فالأصل فيه التوقيف تفريعاً على القاعدة في العبادات ، وبناءً عليه فلا يجوز لك أيها الأخ المبارك أن تتوسل بشيء وتعتقد من جملة ما يتوسل به إلا وعليه دليل من الكتاب أو صحيح السنة ، وما لا دليل عليه فأحذره ، فليس باب التوسل مفتوحاً للشهوات وآراء الرجال والهوى والأحاديث الضعيفة أو الموضوعة أو الأذواق ، بل هو باب توقيفي على الدليل فما ورد الدليل بجواز التوسل به فيجوز التوسل به ، وما لم يرد على جوازه دليل فقف منه موقف المنع لأن الأصل في باب التوسل التوقيف على الدليل الشرعي الصحيح والله أعلم .
س274/ ما المراد بلفظ (الوسيلة والتوسل) في الكتاب والسنة وكلام الصحابة؟ مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/112)
ج/ اعلم أن الوسيلة تختلف باختلاف الإطلاق : فالوسيلة في كتاب الله تعالى يراد بها التقرب إليه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وطاعة رسله وهي الوسيلة العامة التي يطالب بها كل أحد وذلك كما في قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون)) فابتغاء الوسيلة إليه يراد بها التقرب له بالعمل بما يرضيه وبالمناسبة فإنه لم يرد لفظ الوسيلة في القرآن إلا في هذا الموضع فقط. وأما الوسيلة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم يراد بها المنزلة التي في الجنة التي لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجوا أن أكون أنا هو فنم سأل الله لي الوسيلة حلت له الشفاعة ) رواه مسلم.وفي حديث جابر مرفوعا ( من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته حلت له شفاعتي) حديث صحيح .
وأما الوسيلة في كلام الصحابة فإنما يراد بها طلب الدعاء فقط ، فإذا وجدت في كلامهم أنهم كانوا يتوسلون بكذا وكذا ،فاعلم أن المراد بذلك أنهم يطلبون منه أن يدعو لهم ، وذلك كما في حديث أنس أنهم كانوا إذا قحطوا يقول عمر رضي الله عنه (اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك صلى الله عليه وسلم فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا ، قم يا عباس ، فيقوم فيدعو فيسقون) فقوله (كنا نتوسل بنبيك) إي كنا نطلب الدعاء منه . وقوله ( وإنا نتوسل بعم نبيك ) أي ونحن الآن نطلب منه أن يدعو لنا ،فهذه الإطلاقات الثلاث للفظ الوسيلة يجب التفريق بينها ، فإن من فرق بينها فقد أحكم بذلك شيئا كثيرا من مسائل هذا الباب الشائك الذي ضلت فيه أقوام وزلت فيه أقدام والله أعلم.
س/275 ما الوسائل التي ثبت الدليل بجواز التوسل مع تأييد ذلك بالأدلة؟(1/113)
ج/ لقد أثبت الدليل الشرعي الصحيح الصريح جواز التوسل بعدة أشياء:
الأول : التوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى قال الله تعالى ((ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ))
الثاني : التوسل بالصفات ، وله أدلة كثيرة وذلك كما في حديث الاستخارة ( اللهم إني أستخيرك بعلمك الغيب وأستقدرك بقدرتك ...... الحديث) ومنه دعاء سليمان عليه السلام(( وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين ))ومنه حديث بريدة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : الله إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال ( لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب) رواه أبو داود والترمذي ولبن ماجه بإسناد صحيح، وغير ذلك من الأدلة.
الثالث : التوسل إلى الله تعالى بذكر الحال ، ومنه قوله تعالى عن نوح عليه السلام " رب إن قومي كذبون فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين" وقوله تعالى عنه أيضا" رب إني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر" وقوله تعالى عن موسى "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير" ومنه الحديث المشهور في السير أنه صلى الله عليه وسلم قال لما طرده أهل الطائف (اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ..... الحديث)(1/114)
الرابع : التوسل إلى الله تعالى بدعاء الحي الحاضر القادر، ودليله حديث أنس في الصحيح أن رجلا دخل المسجد من نحو دار القضاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب فقال : يا رسول الله هلكت الأموال وجاع العيال وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال ( الله أغثنا ) ثلاثا قال أنس فلا والله ما في السماء من سحاب ولا قزعة حتى خرجت من وراء سلع سحابة سوداء ثم توسطت السماء فأمطرت فلا والله ما رأينا الشمس أسبوعا كاملا ..... الحديث) ومنه حديث أنس في طلب عمر رضي الله عنه من العباس أن يدعو للمسلمين ، وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة ، ولم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية ، وكذا فغل معاوية رضي الله عنه لما أصابهم القحط في الشام فإنه أمر يزيد بن الأسود أن يتقدم الناس ويدعو ، ومنه أيضا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لقي أويساً القني أن يطلب منه أن يدعو له ، ومنه أيضا حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو له أن يرد الله تعالى عليه بصره ، ومنه أيضا طلب أم سليم منه صلى الله تعالى عليه وسلم أن يدعو لأنس ، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة.
الخامس : التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة ، ودليله حديث ابن عمر في توسل الثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة ، وسدت عليهم باب الغار فقال بعضهم لبعض ( إن الله تعالى لن ينجيكم من أمر هذه الصخرة إلا |أن تدعو الله تعالى بصالح أعمالكم) فتوسل الأول ببره بوالديه، وتوسل الثاني بعفته وخوفه من الله تعالى ، وتوسل الثالث بأمانته وحفظ عهده وفي آخره ( فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) متفق عليه.(1/115)
السادس : التوسل إلى الله تعالى بالإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى (( ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فأغفر لنا ذنوبنا وكفرعنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار .....الآيات )) وقوله تعالى (( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فأغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار )) وهذا السادس يدخل في الأمر الخامس لأنه من جملة الأعمال الصالحة فالأعمال الصالحة من أعظم ما يتوسل به العبد ، فهذه الوسائل الست هو التي دل الدليل الشرعي الصحيح الصريح على جواز التوسل بها والله أعلم .
س276/ ما أقسام التوسل بالأسماء والصفات ؟ مع بيان ما تقول بالمثال ؟
ج/ التوسل بالأسماء والصفات قسمان :
توسل عام وتوسل خاص ، والمراد بالتوسل العام أي أن تقول اللهم أني أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى ، هكذا على وجه العموم ، فهذا جائز كما مضى بلا شرط ، والمراد بالتوسل الخاص أن تتوسل باسم معين أو صفة معينة ، فيشترط حينئذٍ مناسبة الاسم والصفة للسؤال ، فإذا سألت الرزق فتوسل باسم الله الرزاق والكريم والجواد و المعطي ونحوها ، وإذا سألت المغفرة والرحمة فتوسل باسمه الرحمن الرحيم الغفور الودود التواب الرؤوف ونحوها ، وإذا سألت هلاك ظالم فتوسل باسمه الجبار والقوي والمهيمن والعزيز والقدير ونحوهما ، وكذلك يقال في الصفات ، فلا بد أن يكون الاسم أو الصفة المتوسل بها مناسبة لسؤالك الذي تريد أن يحققه الله لك ، والله أعلم .
س277/ ما حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ مفصلاً الجواب مع ضرب المثال ؟
ج/ أقول : التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أنواع :
... الأول : التوسل به بمعنى طاعته فيما أمر واجتناب ما نهى عنه وزجر وتصديقه فيما أخبر وألا يعبد الله إلا بما شرع ، فهذا حقيقة دين الإسلام وزبدة رسالة الشريعة التي بعث بها صلى الله عليه وسلم .(1/116)
الثاني : التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه فهذا جائز في حياته فقط وأما بعد وفاته فلا يجوز ، وقد قدمنا الأدلة على جوازه في حياته ، وأما الدليل على عدم الجواز بعد وفاته فلأنه لا يملك حينئذ لنفسه نفعاً ولا ضراً وفاقد الشيء لا يعطيه ، ولأن الصحابة كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعباس مع أنه صلى الله عليه وسلم كان مدفوناً بجوارهم في حجرة عائشة فعدم إتيانهم لقبره وسؤاله إجماع منهم على عدم الجواز ولأنه صلى الله عليه وسلم قال ( أشتد غضب الله تعالى على قومٍ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) وقال ( اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد ) وقصده للدعاء عنده من اتخاذه من اتخاذه عيداً ووثناً ومسجداً فهو باب مفض إلى ذلك فلا بد من سده ، فحيث لم يفعله أحد من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف فلا يجوز فعله إذ لو كان ذلك مما يجوز لنبهوا عليه ، وفي المختارة أن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رأى رجلاً يجيئ إلى فرجةٍ كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو فنهاه وقال : ألا أحدثك حديثاً سمعته عن أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( لا تتخذوا قبري عيداً وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني ) فطلب الدعاء منه بعد مماته من الشرك الأكبر المخرج من الملة ، فإنه لا يدعى إلى الله تعالى ، وأما دعاء الأموات أياً كانوا فإنه من الشرك الأكبر ، نعوذ بالله منه .(1/117)
الثالث : التوسل إلى الله بجاهه ، وهذا لا يجوز لأنه لا جاه له عند الله ، نعوذ بالله من قول ذلك ، بل هو أعظم الخلق عند الله جاهاً وأعلاهم منزلة ، لكن قد قدمت لك أن الأصل في التوسل التوقيف على الدليل ، ولم يأت الدليل الشرعي الصحيح في جواز التوسل بذلك ، بل ولا يعرف عن أحد من الصحابة في ذلك حرف واحد ، وكل ما يروى في التوسل بجاهه فكذب مختلق موضوع لعن الله واضعه وعامله بما توعد به الكاذبين على نبيه صلى الله عليه وسلم فبان بذلك أن التوسل به ثلاثة أنواع ، نوع جائز وهو الأول بل هو حقيقة الدين ، لكن قلت جائز بالنسبة للنوعين قبله فقط وإلا فهو أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات ، ونوعان ممنوعان . والله أعلم .
س278/ هل الأفضل طلب الدعاء من الغير أم الأفضل تركه ؟(1/118)
ج/ هذا يختلف باختلاف ما يقوم بقلب الطالب فإن قام بقلبه حب نفع نفسه وأخيه بدعاء الملك له ، فإنه ما دعا أحد لأخيه بظهر الغيب إلا أجابه ملك وقال ( آمين ولك بالمثل ) فأنا قام في قلبي حب نفع أخي بدعاء الملائكة له فأمرته أن يدعو لي حباً لانتفاعه هو بدعاء الملك له مع انتفاعي أنا أيضاً بدعائه فهذا جائز لا بأس به وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم لعمر ( لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك ) وأما إذا لم يتم في قلب الطالب إلا انتفاعه هو فقط بهذا الدعاء فهذا جائز أيضاً لكن تركه أفضل ، فإنه صلى الله عليه وسلم قد أخذ العهد على بعض أصحابه ألا يسألوا الناس شيئاً فكان سوط أحدهم يسقط فينزل ويأخذه ولا يقول لمن تحته ناولنيه ) ولأن منزلتك في قلب غيرك تخف بقدر سؤالك له ، ولأن قلبك ولا بد أن تتعلق شعبة منه بالمطلوب الدعاء منه والمستحب للعبد في كل أحواله أن يتعلق قلبه بالله التعلق الكامل ، ولأن الداعي لك قد لا يقوم في قلبه الإلحاح وشدة الافتقار وصدق اللجأ لله تعالى كما يقوم بقلبك أنت ، لأنك صاحب الحاجة ، وليس النائحة الثكلى كالمستأجرة ، فدعاؤك لنفسك في هذه الحالة أكمل لأنه أتم في تحقيق مراتب العبودية في الدعاء من كمال الافتقار وغاية الذل وصدق اللجأ لله تعالى ويكره الإنسان أن يترك هذه الأحوال القلبية الكاملة اتكالاً على دعاء غيره له ، ولأن سؤال غيرك أن يدعو لك فيه نوع ذلة ومسكنة له وقد يكون فيه إيذاء لذلك المسئول ، والله أعلم .
س279/ ما حكم شد الرحل إلى قبور الأنبياء والأولياء للتبرك بها والدعاء عندها مع الدليل ؟(1/119)
ج/ هذا الأمر من أشد المنكرات وأعظم المحرمات وأكبر الوسائل لتعظيمها واتخاذها أوثانا تعبد من الله تعالى ومن اتخاذها عيدا ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا ) وفي الصحيح أيضا أنه قال ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يحذر ما صنعوا قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا ) وفي الصحيح أيضا عنه أنه قال ( ألا إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك) فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ولا فعلها الصحابة لا عند قبره صلى الله عليه وسلم ، ولا عند غيره ، وهي من جنس الشرك وأسبابه، ولا يفهم أحمق أرعن جاهل غبي أخرق أن كلامنا هذا فيه إنقاص من قدر الأنبياء والأولياء فإن هذا لا يفهمه إلا من عشعش الشيطان في قلبه وبيض وفرخ وعمره بسوء الظن، لأن تعظيم الأنبياء إنما يكون بالإيمان بهم وطاعتهم وموالاتهم ونصرتهم ، وتعزيرهم، وتوقيرهم بما هو مشروع، فالتعبد مبناه على الدليل والإتباع لا على الهوى والابتداع فليس كل أحد يعمل في دينه ما يشتهي بل مصداق المحبة الصادقة أتباع المحبوب فيما يأمر به فيمتثل ، وفيما ينهى عنه فيجتنب وفيما يخبر به فيصدق ، وما شرع لنا على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم النهي عن شد الرحال لغير هذه المساجد الثلاثة ـ أعني إذا كان القصد التعبد ـ كما نهي عن الدعاء عند القبور ورفع ترابها والبناء عليها والكتابة عليها وتجصيصها وزخرفتها وإسراجها والذبح عندها والنذر لها وبناء المساجد عليها والصلاة عندها كل بذلك مما شرع لأمته ، فواجب على الأمة أتباعه فيه وأن يكون هوانا تبعاً لما جاء به صلى الله عليه وسلم وأن لا تأذي الأموات بفعل هذا الشرك عندهم و جريمة نكرا ،(1/120)
في حق التوحيد لما فيه من فتح باب الشرك على مصراعيه ، وهل بالله عليك دخل الشرك وفساد الأحوال والاعتقاد إلا بسبب الغلو في الأولياء والصالحين وقبورهم والعكوف عندها ، فاللهم أصلح أحوال المسلمين واكفنا شرور أنفسنا ونزغات الشيطان الرجيم والله أعلم .
س280/ كيف توجه قول الأعمى ( اللهم إني أتوجه لك بنبيك صلى الله عليه وسلم ) فإن بعض المبتدعة يستدل به على جواز التوسل بجاه النبي وصلى الله عليه وسلم وبدعائه بعد مماته ؟(1/121)
ج/ أقول: لا إشكال في هذا الحديث أبدًا لكن يجب أن تفهم أولا : أنه لا يمكن أبدًا أن تتعارض النصوص الشرعية التي ثبتت صحتها ، ولا يمكن أن يكون فيها ما يدعو إلى نهي عنه أبدا ، فيجب عليك أن تعتقد ذلك وما ورد عليك مما تتوهم فيه مخالفة أو معارضة فعليك بالاستعانة بالله تعالى في كشفه ثم بسؤال أهل العلم الراسخين في بيانه ، وهذا الحديث قد وردت فيه روايات يبين بعضها بعضًا ويفسر بعضها بعضًا ففي جامع الترمذي إن هذا الأعمى قال( اللهم إني أسالك وأتوسل إليك بنبيك ممد صلى الله عليه وسلم في الرحمة لي اللهم شفعه في ) وقد تقدم لك أن التوسل في عرف الصحابة يراد به طلب الدعاء من الغير ولذلك ففي روية في جامع الترمذي وسنن ابن ماجه أن هذا الأعمى قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( ادع الله أن يعافيني فقال له إن شئت دعوت وإن شئت صبرت ، قال : فادعه ) فهذا يبين أن هذا التوجه المذكور في حديث السؤال إنما يراد به طلب الدعاء منه ، لا أنه توسل بذاته أو بجاهه كما قد فهمه بعض الغالطين ، ويوضح ذلك لفظ النسائي فإن الأعمى قال للنبي صلى الله عليه وسلم ( ادع الله أن يكشف لي عن بصري ....... الحديث. ) وفي المسند أن ذلك الأعمى قال : ادع الله أن يعافيني ، فهذا الحديث كحديث عمر السابق ( اللهم إنا كنا نتوسل بنبيك ....... الحديث. ) فهذان الحديثان شيء واحد . فالتوجه المذكور والتوسل الوارد غنما يراد به طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الشفاعة منه وهو حي وهذا أمر لا تنازع فيه بل قد ذكرنا أن حديث الأعمى من جملة الأدلة على جوازه ويوضح ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم بعد موته إنما كانوا يتوسلون بغيره بدلاً عنه ، فلو كان التوسل به حياً وميتاً سواء لما عدلوا عن التوسل به بعد موته إلى التوسل بعمه العباس رضي الله عنه ، وهذا واضح إن شاء الله تعالى والله أعلم .(1/122)
س281/ هل ثبت في زيادة قبره صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص شيء من السنة ؟
ج/ لا ، لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبره ولا قبر غيره على وجه الخصوص شيء ، وما يروى في ذلك فإنما هو موضوع أو شديد الضعف باتفاق أهل المعرفة بالحديث ، كقولهم : ( من زارني وزار قبر أبي الخليل في عام واحد ضمنت له الجنة ) قال أبو العباس عنه : كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أهـ وقال النووي : باطل ليس هو مروياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في كتابٍ صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة أهـ ومن ذلك قولهم : ( من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ) ولا يصح من أساسه بل هو شديد الضعف بمرة ويقرب أن يكون موضوعاً ، ومن ذلك قولهم ) من حج فلم يزرني فقد جفاني ) وهذا الحديث لا أصل له بل هو من المكذوبات والموضوعات كما قاله ابن عبدالهادي في الصارم المنكي .
بل قال شيخ الإسلام عن هذه الأحاديث كلها مكذوبة موضوعة ، وقد تقرر في الأصول والقواعد أن الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة وحيث لم يصح في ذلك شيء فالأصل هو الاستدلال على استحباب الزيارة بالأحاديث العامة الواردة في الباب لكن من غير شد رحلٍ لا لقبره ولا لقبر غيره والله أعلم .
س282/ عرف البدعة لغة وشرعاً ؟ ... ... ...
ج/ البدعة لغة : هي الشيء المخترع لا على مثال سابق ، ومنه قوله تعالى (( قل ما كنت بدعاً من الرسل )) أي ما كنت أول من أرسل ، فقد أرسل قبلي رسل كثير ، ومنه قوله تعالى (( ورهبانية ابتدعوها ))أي اخترعوها وأبتدؤها من عند أنفسهم ، ومنه قوله تعالى (( بديع السموات والأرض )) وذلك لإبداعه لها وإحداثه لها لا على مثال سابق .(1/123)
والبدعة اصطلاحاً : إحداث شيء في الدين ليس عليه أمر الشارع ، وهذا التعريف ألصق باللفظ النبوي الذي لا يداخله الريب ولا تعتريه المناقضة والاختلاف ، أعني ما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) ولمسلم ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) وقوله ( وإياكم ومحدثات الأمور ) وإن شئت فقل في تعريفها : طريقة في الدين مخترعة تضاهي الطريقة الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد له سبحانه ، وهذا تعريف الشاطبي وإن شئت الاختصار فقل : التعبد لله بما لا دليل عليه والله أعلم .
س283/ ما حكم البدعة الشرعية مع ذكر بعض النصوص الآمرة بالإتباع والناهية عن الابتداع ؟(1/124)
ج/ أما حكمها فقد أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم غاية الإيضاح بما لا يدع مجالاً للمناقشة ولا للإيرادات التافهة الباردة وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ( وكل بدعة ضلالة ) وقد تقرر أن ( كل ) من أقوى صيغ العموم فهذه كلية عامة لا يخرج عنها شيء مما يصح وصفه بالبدعة فكل ما يدخل تحت هذا المسمى فإنه محكوم عليه بأنه ضلالة ولا شك أن هذه الضلالة تتفاوت بتفاوت هذه البدع، وقد تقرر عند العلماء أن الأصل هو البقاء على الأصل حتى يرد الناقل ،وتقرر أيضا أن الأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص وبناء عليه فمن اعتقد في بدعة في الدين أنها حسنة فإنه مطالب بالدليل، لأنه ناقل عن الأصل ، وقد تقرر في الأصول أن الدليل يطلب من الناقل عن الأصل لا من الثابت عليه،وعلى ذلك مضى سلف الأمة، وقد تكاثرت الأدلة بالأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع، فمن ذلك: قوله تعالى ( أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين مالم يأذن به الله ) وقال تعالى ( فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تفلحون ) وقال تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقال الله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ولمسلم ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وله عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا خطب الناس ( أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) وللبخاري عنه أنه قال ( جاءت الملائكة للنبي صلى الله عليه وهو نائم فقالوا :إن لصاحبكم هذا مثلا فاضربوا له(1/125)
مثلا فقال بعضهم إنه نائم وقال بعضهم إن العين نائمة والقلب يقضان........ وفيه أنهم قالوا: فمن أطاع محمدا فقد أطاع الله ومن عصى محمدا فقد عصى الله ، ومحمد فرق بين الناس) وعن العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه قال ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا فقال ( أوصيكم بتقوى الله تعالى والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) وسنده صحيح. وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال : هذا سبيل الله تعالى ، ثم خط خطوطا عن يمينه وشماله، وقال هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه) حديث صحيح. وفي الحديث الذي يصح بمجموع طرقه( وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة ، وهي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) وقد توا تر عن السلف أنهم كانوا يقولون : اقتصاد في سنة ، خير من اجتهاد في بدعة. ويقولون: ما ابتدع قوم بدعة إلا رفع من السنة بقدرها. ويقولون: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم. وكان سفيان بقول: لا يستقيم قول ولا عمل إلا بموافقة السنة. وفي الصحيح في أحاديث الحوض وأن قوما يذادون عنه كما يذاد البعير الضال فأقول( أصيحابي أصيحابي، فيقولون: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول : سحقا سحقا) وكان ابن عمر يقول :( كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة) وسنده صحيح.(1/126)
وقال محمد بن أسلم (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" قال أخلصه وأصوبه ،قيل يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل ، حتى يكون خالصا صوابا، والخالص ما كان لله تعالى والصواب ما كان على السنة. والأدلة والآثار في ذلك كثيرة، وأوصي الأحباب القراء بمراجعة الاعتصام للشاطبي ، والباعث لأبي شامة، وكتاب ابن وضاح المسمى بـ(ما جاء في البدع)والأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي،والحوادث والبدع للطرطوشي، رحم الله علماء الإسلام الرحمة الواسعة ورفع نزلهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في جنات النعيم.والله تعالى أعلى وأعلم.
س284/ ما الفرق بين البدعة والمعصية؟ وأيهما أحب إلى إبليس ؟(1/127)
ج/أقول : تتفق البدعة والمعصية بأن كلا منهما مخالفة للمتقرر شرعا ، ولكن تزيد البدعة بأن فاعلها ينوي التقرب إلى الله تعالى بهذا الفعل أو القول،فهو في قرارة نفسه لا يرى أنه قد خالف الشرع في شيء وإنما يرى أنه متقرب إلى الله تعالى بذلك ، وإما المعصية فإن العاصي يعلم حال مقارفته لهذه الفعلة إنه عاص بذلك، ولا يقوم في قلبه التعبد لله تعالى بهذا الفعل ، فالزاني يزني وهو يعلم أنه يعصي ربه بذلك، ولكن غلبة الشهوة وقوة داعي الشيطان وضعف الإيمان حمله على ذلك، والسارق يسرق وهو يعلم أنه عاص بذلك ، وشارب الخمر والذي يأكل الربا وقاتل النفس بلا حق والعاق لوالديه وحالق اللحية ومسبل الثوب ونحوهم كلهم يفعلون ذلك وهم يقرون في أنفسهم أن هذا معصية، ولا يرجون بها تقربا أو ثوابا ، أما من يطوف حول القبر أو يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يدعو الأموات أو ينذر لهم ، أو يقول الذكر الجماعي أدبار الصلوات ونحو هذا فإنه يفعل ذلك وهو المبالغة في التعبد والتقرب إلى الله تعالى ، فالبدعة ينوي صاحبها القربة والمعصية لا ينوي صاحبها ذلك، ولذلك فإن المتقرر عند السلف رحمهم الله تعالى أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ، لأن صاحب البدعة لا يرى أنه مخطئ بل يرى أنه على صواب ولذلك فالتوبة منها تحتاج إلى إقناعه أولا بخطأِ فعله هذا وأنه بدعة والكثير من المبتدعة لا تقبل نفسه النزع عن هذه البدعة لاعتياده عليها ، ورسوخها في قلبه، وأنها من موروثات آبائه وبني قومه، وأما صاحب المعصية فلأنه يعلم قبح فغلته وأنها حرام وموجبة لعذاب الله تعالى وسخطه فإنه بالتذكير والوعظ يزدجر عنها ويتوب منها غالبا، ولذلك فالتوبة في العصاة أكثر من التوبة في المبتدعة ، ولا أعني بذلك أن صاحب البدعة لا يتوب ، كلا ، فإني لا أقصد ذلك أبدا ، بل باب التوبة مفتوح يلجه كل مذنب ، ولكن أعني أن توبته منها طريقها أن يعلم بقبحها، وهذا يحتاج إلى كشف(1/128)
الشبهة عن قلبه وبيان وجه المخالفة ، أسأل الله جل وعلا أن يهدي كل مبتدع ، وأن يصلح باطنه وظاهره، وأن يهديه إلى طريق السنة ويشرح صدره لقبول الحق واعتماده والله أعلم .
س285/ ما أقسام البدعة باعتبار تعلقها بأبواب الدين ؟ مع بيان ذلك بالأمثلة ؟
ج/ تنقسم البدعة بهذا الاعتبار إلى قسمين : بدعة في باب العلميات ، وبدعة في باب العمليات ، ونعني بالعلميات أي العقائد ونعني بالعمليات أي أمور الفقه ، فمن البدع ما يسمى بالبدع العقدية أي لها تعلق بالعمل بالاعتقاد ، ومن البدع ما يسمى بالبدع العملية أي لها تعلق بالعمل ، وقد يجتمعان في بعض الصور فتكون عقدية عملية ، فمن أمثلة البدع في الاعتقاد بدع القدرية والخوارج والمعتزلة والجهمية والاشاعرة والماتريدية والكلابية والرافضة ويرهم من الفرق التي تنتسب للقبلة ، فالبدع التي أتى بها هؤلاء بدع عقدية أو نقول : بدع في باب العلميات فإنكار الصفات بدعة عقدية ، وإنكار القدر بدعة عقدية وإخراج الأعمال عن مسمى الإيمان بدعة عقدية ، وإنكار قدرة العبد واختياره بدعة عمليه ، واعتقاد كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار بدعة عقدية وغير ذلك .
وأما البدعة المعملية فأنواع :
فمنها : ما يكون بدعة في أصل العبادة وذلك بأحداث عبادة ليس لها أصل في الشرع كإحداث صلاة غير مشروعة أو صيام غير مشروع أو عيد غير مشروع كأعياد الميلاد والأم ورأس السنة أو اتخاذ بعض الموالد لبعض الأنبياء أو الأولياء ، عيداً ، وكالطواف حول القبور والأمثلة على ذلك كثيرة .
... ومنها : ما يكون في الزيادة على القدر المشروع في هذه العبادة كما لو زيد ركعة ميلاً في صلاة الظهر أو العصر .
ومنها : ما يكون في صفة أداء العبادة كفعل عبادة على صفة غير مشروعة وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة .(1/129)
ومنها : ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع أ تخصيص فعلها في مكان معين لم يخصصه الشرع كتخصيص ليلة النصف من شعبان وليلته بصيام أو قيام فإن أصل الصيام والقيام مشروع لكن هذا التخصيص يحتاج إلى دليل ، وكتخصيص مكان معين باعتقاد أفضلية فعل الصلاة فيه كمقبرة مثلاً أو مسجد فيه قبراً أو مكان صلى فيه نبي أو ولي ونحو ذلك ، فهذا التخصيص يحتاج إلى دليل وإنك لو سبرت البدع المحدثة في الشرع كلها لم تجدها تخرج عن هذين القسمين ، إما أن تكون في باب العقائد وأما أن تكون في باب العمليات فهذا تقسيمها باعتبار تعلقها بأبواب الدين والله أعلم .
س286/ ما أقسام البدعة باعتبار حكمها الشرعي ؟ مع بيان ذلك بالأمثلة ؟(1/130)
ج/ تنقسم البدعة باعتبار حكمها الشرعي إلى قسمين بدعة مكفرة وبدعة غير مكفرة ، أي من البدع ما يحكم عليه بأنه كفر ، ومن البدع ما لا يصل إلى درجة الكفر بل يبقى في درجة الظلم والفسق ، فمثال البدعة المكفرة بدعة الجهمية أتباع الجهم بن صفوان الترمذي ، فإن بدعة هؤلاء كفروا ببدعتهم وقد تقلد كفرهم خمسمائة عالمٍ من أهل السنة وذكر بعض أهل السنة المتأخرين اتفاق أهل السنة على أن الجهمية كفار خارجون عن الثلاث وسبعين فرقة ولا أن يوصفوا بأنهم من أهل القبلة ، ومن البدع المكفرة بدعة القول بخلق القرآن ولذلك فقد أتفق السلف على أن من قال بخلق القرآن فإنه كافر ، ومن البدع الكفرة بدعة القدرية الذين ينكرون علم الله السابق والكتابة السابقة ويزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف ، وقد أتفق على تكفيرهم من تأخر موته من الصحابة كابن عمر وأنس وأبي سعيد وأبي هريرة وغيرهم ، وسار أهل السنة على هذا الاتفاق ولذلك قالوا : ناظروهم في العلم في العلم فإن أنكروه كفروا وإن أثبتوه غلبوا ، ومن البدع المكفرة بدعة دعاء الأموات والذبح لهم والاستغاثة لهم في كشف الملمات وتفريج الكربات ، والركوع والسجود إلى القبور والحلف بغير الله تعظيما له كتعظيم الله تعالى ، كل ذلك بدع مكفرة ، وهذه بعض الأمثلة . وأما البدع التي لا تصل إلى حد الكفر ، فكبدعة شد الرحال إلى القبور وبدعة الأذكار الجماعية أدبار الصلوات وبدعة تخصيص مكان أو زمان معين ببعض العبادات وبدعة إخراج العمل من الإيمان وبدعة تكفير مرتكب الكبيرة ، ونحو ذلك ، والله أعلم .
س287/ كيف الجواب على من يقول : أن من البدع ما يكون حسناً ويستدل بقول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس على أبيّ رضي الله عنه في صلاة التراويح فخرج فقال ( نعمت البدعة هذه ) ؟
ج/ أقول : لا دلالة في هذا القول على ما يريده هذا المدعي وبيان ذلك من وجوه :(1/131)
الجواب الأول : أننا عرفنا البدعة الشرعية إحداث شيء في الدين ليس عليه أمر الشارع ، والاجتماع في صلاة التراويح مما عليه أمر الشارع ففي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله صلة الله عليه وسلم فلما أصبح قال : قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان فدل هذا الحديث على كونها سنة فإن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً دليل على صحة القيام في المسجد جماعة في رمضان ، وامتناعه عنه بعد ذلك عن الخروج ليس بنسخ لهذا الحكم بل علله بخوفه أن يفرض عليهم هذا القيام ، فرحمة بأمته أمتنع من الخروج وهذا التي يخشاه قد زال بموته صلى الله عله وسلم فإن قلت: فلو كان كذلك فلماذا لم يفعل في عهد أبي بكر؟ فأقول: يرجع ذلك لأمرين :
أولاً : أما لأنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم عليه كان عنده وعنده من جمعهم إلى إمام واحد أول الليل .
... ثانياً : ضيق زمانه رضي الله عنه عن النظر في ذلك الفرع مع شغله التام بأهل الردة وغير ذلك مما هو أوكد من صلاة التراويح ، فالاجتماع في صلاة التراويح شيء كان أول من فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو مشروع ، فعلم بذلك أن قول عمر رضي الله عنه
( نعمة البدعة هذه ) أنه لا يقصد بها البدعة الشرعية إنما يقصد بها البدعة اللغوية .(1/132)
الجواب الثاني : أنه لا يظن بمن هو دون عمر رضي الله عنه من الصحابة أن يخالف ما كان يسمعه كل خطبة من فم النبي صلى الله عليه وسلم من قوله ( وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) فإنه لا يتطرق إلى مؤمن عرف قدر الصحابة وشدة ورعهم وتحريهم للمتابعة التامة وحذرهم الشديد من المخالفة ولو في الأمور اليسيرة ولا يتطرق إلى قلبه أي يخالف أحدهم ذلك النهي الذي تواتر سماعهم له فإنهم كانوا يسمعونه الفينة بعد الفينة فكيف يظن ذلك بعمر رضي الله عنه الخليفة الثاني أمير المؤمنين ، أن يحسن بدعه في الشرع كان يسمع كثيرا أنها ضلالة ؟ هذا لا يكون أبداً وأقسم بالله تعالى أنه لا يكون ، فدل ذلك على أنه بقوله ( نعم البدعة هذه ) أنه لا يريد الشرعية وإنما يريد بها معناها اللغوي لأن البدعة باعتبار معناها اللغوي منها ما هو حسن .
الجواب الثالث : سلمنا جدلاً أنه يريد الشرعية ، فإنه لا كلام لأحد كائنا من كان مع النص الصحيح الصريح من المعصوم صلى الله عليه وسلم ، فكل قول أو فعل يخالف ما ثبت من قوله وفعله فإنه رد على صاحبه ، وأقوال العلماء يستدل لها لا يستدل بها ، وكل يوزن بما معه من الحق لا أن الحق يوزن بالرجال ، وكل يأخذ من قوله ويترك إلا قول محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإيمان به تقدم قوله صلى الله عليه وسلم على قول كل أحد قال تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين الله و الرسول )) فلا يعارض قوله صلى الله عليه وسلم بقول أحد كائناً من كان قفوله هو السيد المتبوع المطاع وهو الميزان الذي توزن به الأقوال ، فما وافقه من الأقوال فهو المقبول وما خالفه فهو المردود والله أعلم .(1/133)
الجواب الرابع : أن صلاة التراويح في رمضان خلف إمام مما أنعقد عليه الإجماع المعلوم بالضرورة قطعاً وثبت عليه عمل المسلمين من عهد عمر رضي الله عنه إلى عهدنا هذا لم ينكره منكر من المسلمين ، فإن كان بعض أهل العلم قد استطاع القدح في حجة الإجماع فلا أظنه يستطيع أن ينكر أن هذا من الإجماع ، والإجماع حجة شرعيه وما ثبت بالإجماع فلا يكون أبداً بدعة شرعية . والله أعلم .
الجواب الخامس : أن المقرر في الأصول ومقاصد الشريعة أن المتشابه يرد المحكم ، وأن المجمل يرد إلى المبين فقول هذا إن سلمنا أنه من المتشابه أو المجمل أو المبهم فإن الواجب فيه رد الأمر إلى المحكم المبين الواضح ، ولا يخفاك أيها الأخ المبارك أن الأدلة والآثار التي سقنا طرفاً يسيراً منها والتي تحذر من الابتداع وتأمر بالإتباع ، ولا يخفاك أنها من الشهرة الوضوح والأحكام والبيان بما لا يدع أدنى أدنى أدنى مجال للشك في حكم كل البدع الشرعية ، فكيف بالله عليك تعارض هذه الأدلة والواضحات المتواترات معنىً المحكمات دلالةً النيرات نهجاً الصحيحات سنداً بقولٍ محتمل متشابه ؟ هذا إذا سلمنا جدلاً أن قول عمر من المتشابه ، فكيف وقد جزمنا سابقاً أنه لا يريد إلا البدعة اللغوية فقط ؟ فالأمر واضح عجزت عيون الخفافيش عن مقاومة نور الشمس والله أعلم .
س288/ يستدل بعض محسني البدع على تحسين بدعهم بقوله صلى الله عليه وسلم ( من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) فما وجه استدلالهم به وكيف الإجابة عنه ؟(1/134)
ج/ أقول : أما هذا الحديث فقد رواه مسلم رحمه الله تعالى ورفع نزله في الفردوس الأعلى وجمعنا به في الجنة نحن وسائر إخواننا وأخواتنا من المسلمين ، وهو واضح الدلالة بين المقصود لا يدل على ما يرده محنوا البدع لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما ، وبيان ذلك أن يقال : إن الحديث فيه ( من سن في الإسلام سنة حسنة ) فليس فيه سوى ذكر السنة الحسنة والسيئة ولم يرد ذكر للبدعة ، والسنة في اللغة الطريقة ، فالمقصود بالحديث : أن من أتى بطريقة حسنة فسنها للناس فهو من المثابين عليها ولا يمكن تعرف طريفة ما أنها حسنة إلا بدلالة الشرع على تحسينها ، فعندما توصف الطريقة بأنها حسنه كما في الحديث فإن ذلك يدل على أن لها أصلاً في الشرع كذلك قال أهل العلم في هذا الحديث ومناسبة الحديث تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق( السنة الحسنة ) إلا على أمر له أصل في الشرع فإن سبب الحديث أنه جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفد من العرب كانوا على غاية من الحاجة والفقر وحث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التصدق عليهم فجاء رجل من الأنصار فتصدق بصدقة كبيرة ثم تتابع الناس من بعده على التصدق حتى تجمع قدر كبير من الصدقات فأعجب فعل الأنصاري النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحديث فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما قصد بالسنة الحسنة فعل الأنصاري من ابتدائه بالصدقة في تلك الحادثة والصدقة مشروعة من قبل ، فتقرر بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أطلق السنة الحسنة على ما هو مشروع في الدين فلا مجال لإقحام البدع تحت دائرة السنة الحسنة إذ البدعة لا أصل لها في الشرع ، ولا يمكن أن توصف بأنها حسنة أبداً وقد وصفها أهل أعلم الخلق بالشريعة بأنها ضلالة وبأنها رد ، فظهر بهذا بطلان استدلال محسني البدع بهذا الحديث ، بل الحديث حجة عليهم فإنه قال ( ومن سن في الإسلام سنة سيئة ) والبدع كلها سيئة ، فأنظر كيف انقلب الاستدلال عليهم وذلك لأنه(1/135)
لا يمكن أبداً أن تقر نصوص الشريعة البدعة بأي شكل كانت ، بل تظافرت نصوص الشريعة كتاباً وسنة مع وفور الآثار عن الصحابة والتابعين والسلف على أنها مردودة وضلالة . والله أعلم .
س289/ أذكر بعض الضوابط والقواعد المهمة لمعرفة البدعة مع شيء يسير من شرحها؟
ج/ أقول : لقد ذكر أهل العلم رحمهم الله تعالى بعض القواعد والضوابط المهمة لمعرفة البدعة والتميز بينها وبين السنة ودونك بعضها :
القاعدة الأولى : كل إحداث في الدين فهو رد ، وهذا مأخوذ من الحديث المعروف ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) والمراد بالإحداث هنا أي اختراع قول أو فعل لا دليل عليه من الكتاب والسنة أو ما تفرع عنها من الإجماع والقياس الصحيح ، وهذه القاعدة هي أم القواعد في الباب وما بعدها من القواعد والضوابط فإنه متفرع عنها .
القاعدة الثانية : الأصل في العبادات الحظر والتوقيف وهذه القاعدة كالتعبير الثاني لمعنى القاعدة الأولى.
القاعدة الثالثة : الأصل في العبادات الإطلاق عن الزمان والمكان والصفة المعينة ، وهذه القاعدة أيضاً من الأصول المهمة لمعرفة البدع ، فتقول : أن من قيد عبادة بصفة معينة فإن هذا القيد يتوقف قبوله على الدليل ومن قيّدها بوقت معين فإن هذا القيد يتوقف قبوله على الدليل المعين ، ومن قيد عبادة بمكان معين فإن هذا القيد أيضاً قبوله على الدليل الرعي الصحيح الصريح فمن أعطاه الله فهم هذه القاعدة فقد أوتي خيرا كثيرا .
القاعدة الرابعة : لا يستدل على شرعية الوصف بشرعية الأصل ، بل لا بد للوصف الزائد على الأصل من دليل خاص ولا يحق أن يعمل العبادات على الوصف المخترع الذي لا دليل عليه ، بل هذا الوصف يتطلب دليلاً زائداً على مجرد دليل الأصل ، وإذا أردت شرحاً بتفصيل فارجع إلى كتابنا تحرير القواعد وجمع الفرائد والله أعلم .(1/136)
القاعدة الخامسة : الأحكام الشرعية تفتقر في ثبوتها للأدلة الصحيحة الصريحة ، وهذه القاعدة مع القاعدة قبلها تنسف كل ما يحتج به المبتدعة ، وبيان ذلك أن يقال : إن المبتدعة إذا طلب منهم البرهان على ما اخترعوه فإنهم يستدلون بأحد أمرين ـ وهذا في الأغلب ـ الأمر الأول : إما أن يستدلون عليها بحديث ضعيف أو موضوع فجوابهم حينئذ يكون بالقاعدة الخامسة أي بهذه القاعدة ، الأمر الثاني : وإما أن يستدلون عليها بدليل الأصل الذي لم يتعرض أصلاً للوصف الذي يفعلونها عليه ، فيكون الجواب عليه حينئذ بالقاعدة الرابعة التي تقول :شرعية الأصل لا تستلزم شرعية الوصف ، وبهذا نكون قد سددنا عليهم أبوابا كثيرة يلجون منها والحمد لله .(1/137)
القاعدة السادسة : كل فهم في نصوص الصفات والقدر واليوم الآخر مخالف لفهم السلف فهو بدعة ، أو نقول : ما لم يرد في الكتاب ولا في السنة ولم يأثر عن الصحابة والتابعين من المعتقدات فهو بدعة وهذا الأصل يتضح به فضل السلف على الخلف ، فإن السلف رحمهم الله تعالى ورفع نزلهم في جنات عدن وجمعنا بهم في الجنة وحشرنا في زمرتهم كانوا يفهمون من نصوص الصفات واليوم الآخر فهماً خاصاً موافقاً لمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو أنهم ينظرون لها من جهتين من جهة المعنى ومن جهة الكيف فأما معانيها فإنها معلومة عندهم ، لأنها باللسان العربي فوجب حملها على المعاني المتقررة عندنا في هذا اللسان العربي ، وأما كيفياتها فإنهم يوكلون علمها لله تعالى ، وباختصار نقول : السلف يعلمون معاني نصوص الصفات واليوم الآخر ويفوضون كيفيتها لله تعالى ، وأما القدر فإنهم كانوا يفهمون نصوصه أيضاً فهماً خاصاً جامعاً للأدلة كلها فيثبتون القدر السابق علما وكتابة وخلقاً ومشيئة ويثبتون أن للعباد قدرة ومشيئة ، والله خالق ذواتهم وصفاتهم وأفعالهم فهذا فهمهم في هذه الأبواب ، وبناء عليه فكل فهم محدث يخالف هذا الفهم فإنه بدعة ، وذلك كفهم الجهمية والمعتزلة والاشاعرة والمتردية لنصوص الصفات ، وكفهم الفلاسفة أهل التخييل لنصوص اليوم الآخر ، وكفهم الجبرية والقدرية لنصوص القدر ، فكل هذه الفهوم باطلة بدعة مردودة على أصحابها لمخالفتها لفهم السلف ، وكل فهم يخالف فهم السلف فهو بدعة فأنظر كيف عرفنا بدعاً كثيرة ببركة هذه القاعدة ، وهذا يبين لك أهمية معرفة القواعد وإجادة التفريع عليها .(1/138)
القاعدة السابعة : كل تعبد قولي أو فعلي لا يعرف عن السلف فهو بدعة ، كالاحتفال بالمواليد ، فإنه ليس معروفاً عن السلف والطواف حول القبور والعكوف عندها ودعاءها والذبح أو النذر لها وتسبيحها وإسراجها ووضع الأشجار الخضراء عليها وتزويقها والكتابة عليها وتجصيصها ، وعمل الختمة لها ، وتوزيع الطعام والشراب في المقبرة بعد الدفن ، وتحية العلم والسلام الملكي على مختلف أنواعه وتنوع ضروبه فإن السلام الشرعي هو قول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما السلام بالموسيقى وضرب الطبول ووقف العساكر معظمين لا يتحركون إكباراً واحتراما لهذه الموسيقى فإنه لا يشك أدنى من له اشتغال بالعلم أنه من البدع المنكرة وبذلك يفتي أهل العلم وهو من الحق الذي يجب التصريح به بلا مداهنة أو مجاملة والله من وراء القصد ، وأعياد الميلاد ، والذكر الجماعي والسماع الجماعي ، والتعبد لله بلبس الصوف ، والهيام في البراري ومعاشرة الوحوش طلباً للكرامة ، والتعبد لله بتحريم بعض الحلال كنكاح أو طعام أو لباس ، وتخصيص شيء لا يسجد إلا عليه كما يفعل الرافضة ، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة مما قد أنتشر وعمة به البلوى في كثير من بلاد الإسلام ، أسأله جل وعلا أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وبلادنا ، وخصوصاً بلاد الحرمين رفع الله نزل ولاتها وعلمائها ووفقهم لما فيه الخير والبر وصلاح المسلين فإنه قادة أهل السنة وحماة الإسلام وربان السفينة أسال الله أي يحفظهم بالإسلام ويحفظ الإسلام بهم . والله أعلم .(1/139)
القاعدة الثامنة : كل فعل توفر سبب فعله على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فالمشروع تركه وقد شرحتها في تلقيح الأفهام ، وهي من الردود القوية على أهل البدع ، ويخل فيها من البدع ما لا حصر لها كالطواف حول القبور ودعاء أصحابها من دون الله تعالى والذبح والنذر لها ، وكسوتها والعكوف عندها ، وإسراج القبور ووضع الورود والزهور عليها ورفعها والكتابة عليها ويدخل فيها كل الموالد والأعياد التي أبتدعها أهل التصوف والرفض ـ ويدخل فيها كل الصلوات المبتدعة التي لا دليل عليها كصلاة الرغائب إحياء ليلة النصف من شعبان ونحو ذلك ، ويدخل فيها كل أصناف الأذكار البدعية المعروفة عند أهل الأهواء والبدع وغير ذلك من الأشياء التي كانت أسباب فعلها متوفرة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فإنه لم يفعلها لا هو ولا أحد من أصحابه فتركه لها يدل على أنها ليست من الشريعة في صدر ولا ورد ، فأمسك بهذا الأصل فإنه خيراً عظيماً والله أعلم.(1/140)
القاعدة التاسعة : لا مدخل للعادات في أمور التشريع أي أن العادات الموروثة إذا كانت مخالفة للشروع فإنه يجب اطراحها وإلغاؤها وإبطالها واستبدالها بالمشروع ولا يجوز الاحتجاج على مفكرها بأنها من عوائد القوم وسلومهم وأعرافهم التي ورثوها كابراً عن كابر ، فإن هذه الحجة حجة إبليسية شركية قديمة وهي من الردود التي كان يفزع إليها الأمم الكافرة قال تعالى (( بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها أنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون )) وقال تعالى عنهم (( ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق )) والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً ، وتأتي هذه القاعدة رادة على هؤلاء وتقول : لا مدخل للعادات في أمور التشريع ، أي لا يجوز اعتقاد جواز التعبد بقولٍ أو فعلٍ بحجة أنه من عاداتنا وتقاليدنا وموروثات الآباء والأجداد والله أعلم .
س290/ ما حكم بغض أهل البدع ؟ وعلى أي صيغة يكون هذا البغض ؟(1/141)
ج/ بغض أهل البدع واجب من واجبات الشريعة يثاب فاعلة امتثالاً ويستحق العقاب تاركه ، وهو من الولاء والبراء الذي هو ركيزة من ركائز الاعتقاد وكما هو معلوم قال تعالى (( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان .. الآية ) وغير ذلك من النقول ، وأما صفة هذا البغض فإنه نختلف باختلاف البدعة ، إن البدعة تتفاوت فمن البدع ما يكون مكفراً ومنها ما يكون مفسقاً ومها ما يكون عقدياً ومنها ما يكون عملياً ومنها ما يكون حقيقياً ومنها ما يكون إضافياً وهكذا ، ويختلف أيضا باختلاف حالة المبتدع فمنهم المستور ومنهم المعلن والداعية ومنهم والمعاند المكابر ومنهم المتأول المخطي ، لكن بالنظر العام نقول : ما كان من البدع مفراً فإنه يجب أن نبغ صاحبها البغض المطلق ، وما لم يكن مكفراً منها فإننا نبغض صاحبها بقدر ما معه من المخالفة أي نبغضه مطلق البغض لا البغض المطلق ، وأما التفصيل في آحاد المبتدعة فإنه متروك في حال المسئول عنه والله أعلم .
س291/ هل تقبل توبة المبتدع إذا تاب ؟ وعلى أي شيء يحمل كلام من قال من السلف أنه لا توبة له ؟(1/142)
ج/ لقد تقرر في الأدلة من الكتاب والسنة أن من أذنب ثم تاب وأتى بشرائط التوبة فإن الله يتوب عليه قال تعالى (( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً )) فقوله ( الذنوب ) جمع دخلت عليه الألف واللام الإستغراقية وقد أكد هذا العموم بقوله ( جميعاً ) والأصل هو البقاء على العموم حتى يرد المخصص ، وقال تعالى (( والذين لا يدعون مع الله إلهً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فاؤلئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ومن تاب وعمل صالحاً فإنه يتوب إلى الله متابا )) وقال تعالى (( حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير )) روى الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما في حديث الإفك الطويل( إن العبد إذا اعترف بذنب ثم تاب تاب الله عليه ) وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه) وفي الصحيح ( ويتوب الله على من تاب ) وفي الصحيحين أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن ناسا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا وزنوا وأكثروا ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما فعلنا كفارة، فنزلت " والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ..... الآية" وقوله تعالى " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ...... الآية" وفي صحيح مسلم من حديث أبي موسى مرفوعا ( إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيئ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ) وفي جامع الترمذي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعا ( إن الله تعالى يقبل توبة العبد مالم يغرغر) وغير ذلك من الأدلة .(1/143)
فقد دلت هذه الأدلة الدلالة الصريحة على قبول توبة المذنبين والمسيئين من أهل البدع وغيرهم ، وإذا كان صاحب الكفر والشرك إذا تاب منه وصدق في ذلك تاب الله عليه فلأن تقبل توبة المبتدع من باب أولى ، وهذا فيه فتح باب للمذنبين أن لا يقنطوا من رحمة الله تعالى ، ولا يتمادوا في معاصيهم ، وفي الحديث ( والتوبة تهدم ما كان قبلها ) وهذا هو المعروف عن جماهير أهل السنة ، وأما من صرح منهم بأنه لا توبة له فإنما يريد بذلك أنه لا يوفق لها غالبا وهذا صحيح ، ولا يقصدون أنه لا تقبل منه إذا صدق فيها ، فإن هذا الفهم مخالف لدلالة الكتاب والسنة، وحاشا السلف من مخالفة الكتاب والسنة، وإنما يقصدون ما ذكرته لك قبل قليل ، والواجب حمل كلامهم جماعات ووحدانا على ما يوافق الكتاب والسنة، وبيان ذلك أن أول منازل التوبة العلم بقبح الفعل ليتوب منه والمبتدع يرى أنه على حق والصواب فكيف يتوب مما يراه صوابا وحقا في نفسه، ولهذا فالبدعة لا يتاب منها غالبا أي لا يوفق صاحبها غالبا للتوبة منها والله أعلم.
س292/ ما حكم الصلاة خلف أهل البدع بالتفصيل؟
ج/ هذه المسألة من المسائل الدقيقة التي يختلف الحكم فيها باختلاف حال البدعة والمبتدع فأقول وبالله التوفيق:(1/144)
أولا : إن كان هذا المبتدع محكوما بكفره فلا تصح الصلاة خلفه باتفاق أهل السنة سواء كان داعية إلى بدعته أو غير داعية، ومن صلى خلفه فعليه الإعادة مطلقا لأنه ائتم بمن ليس من أهل الصلاة أصلا ، وعلى ذلك يحمل كلام بعض السلف من نهيهم عن الصلاة خلف من حكموا بكفره من أهل البدع كالجهمية والرافضة والقدرية ، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أنه سئل عن الصلاة خلف القدري فقال ( لا يصلى خلفه أما لو صليت خلفه لأعدت ) وعن سلام بن مطيع رحمه الله تعالى أن سئل عن الجهمية فقال ( كفار ولا يصلى خلفهم) وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى ( لا أصلي خلف رافضي ولا جهمي ولا قدري) وغير ذلك من النقول عن بعض أئمة السلف ، رحمهم الله تعالى ، فهذا أولا.(1/145)
ثانيا : وأما إن كان لا يكفر ببدعته وكان داعية إليها فإنه لا يصلى خلفه أيضا إلا إذا كان هو إمام الجمع والجماعات التي لا تصلى إلا خلفه ، فإنها حينئذ تصلى خلفه ولا إعادة بل المتخلف عن الصلاة خلف هذا الرجل معدود من أهل البدع ، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان رضي الله عنه وهو محصور فقال : إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى ويصلي لنا إمام فتنة ونتحرج، فقال : ( الصلاة أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسن الناس فإحسن معهم وإذا أساؤا فاجتنب إساءتهم) وقد صلى بعض الصحابة خلف أهل البدع كما روى أبو زمنين عن سوار بن شبيب قال ( حج نجدة الحروري في أصحابه فوادع ابن الزبير فصلى هذا بالناس يوما وليلة ، وهذا بالناس يوما وليلة، فصلى ابن عمر خلفهما فاعترض رجل فقال : يا ابن عمر تصلي خلف نجدة الحروري؟ فقال ابن عمر : إذا نادوا حي على خير العمل أجبنا وإذا نادوا حي على قتل النفس قلنا : لا، ورفع بها صوته . قال ابن حزم رحمه الله تعالى : لا نعلم أحدا من الصحابة رضي الله عنهم امتنع من الصلاة خلف المختار ، وعبيد الله بن زياد ، والحجاج، ولا فاسق أفسق من هؤلاء أ.هـ قال أبو العباس رحمه الله تعالى : ومما يدل على أن الصحابة لم يكونوا يكفروا الخوارج أنهم كانوا يصلون خلفهم ، وكان عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وغيره من الصحابة يصلون خلف نجدة الحروري . أ.هـ كلامه.
وخلاصة الكلام أن المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وكان داعية إليها لا يصلى خلفه ولا كرامة له ، إلا إذا كان هو إمام المسلمين أو نائبه الذي لا تقام الجمعة والجماعة إلا خلفه ، فيصلى خلفه ولا يتخلف عن ذلك إلا مبتدع كما نص عليه السلف والصلاة خلفهم صحيحة فلا إعادة عليه والحالة هذه والله أعلم.(1/146)
ثالثا: وأما إذا كان لا يكفر ببدعته ولم يكن داعية إليها وهو من عامة الأئمة أي أنه يمكن إقامة الصلاة خلفه فإن الأمر في تفصيل أيضا فإن كان في ترك الصلاة خلفه تعطيل لهذه الجماعة فإنه يصلى خلفه لأنه إذا تعارضت المصالح والمفاسد وكانت المفاسد أكبر فإن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة ، وإن كان لا يؤدي ترك الصلاة خلفه إلى تعطيل الجماعة في المسجد فإنه لا يصلى خلفه وهذا من باب الزجر بالهجر ويبحث عن الإمام الأتقى وقد تقرر في القواعد أنه كلما كان الإمام أجمع للصفات المعتبرة شرعاً كلما كانت الصلاة أكمل بل ويكون ترك الصلاة خلفه من باب الوجوب إذا كان يفيد زجره عن بدعته التي يعتقدها أو يفعلها ، وولي الأمر مطالب أن لا ينصب في الإمامة إلا الأتقى فهذا التفصيل هو الذي يتألف به كلام أهل العلم وفعلهم . والله أعلم .
س293/ ما المنهج السليم الذي يسلكه المسلم عند الفتن ؟
ج/ هذا سؤال عظيم القدر جليل المنزلة وخصوصاً في هذه الأزمنة التي كثرة فيها تنوع فيه الشبهات والتبس فيه الحق بالباطل ، وخلاصة المنهج السليم في أمور :
الأول : الاعتصام بالكتاب والسنة فإنهما النجاة من كل فتنة فهما المعين الصافي الذي لا شوب ولا كدر، وهما الأصلان التي شهدت الأدلة على أن من تمسك بهما فهو على الهدى والبر والخير والصلاح قال تعالى (( واعتصموا بحبل الله جميعاً )) فلا نجاة إلا بالاستمساك بهما والعض عليهما بالنواجذ ، قال عليه الصلاة والسلام ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي ) وقال ( فعليكم بسنتي وسنت الخلفاء الراشدين المهديين بعدي تمسكوا بها واعتصموا وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور ) قال تعالى (( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله ورسوله ذلك خير وأحسن تأويلا )) وقد تقدم في السؤال الأول بعض النقول فيما يؤيد ذلك.(1/147)
الثاني : لزوم الجماعة والحذر من الفرقة فعن أبن عمر رضي الله عنه قال : إن عمر رضي الله عنه خطب بالجابية فقال ( من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد ) أخرجه الترمذي وأحمد وغيرهما وهو صحيح بمجموع طرقه وقال عليه الصلاة والسلام ( يد الله على الجماعة الشيطان مع من يخالف الجماعة) أخرجه النسائي . قال ابن القيم رحمه الله تعالى ( وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق وإتباعه ون التمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر إلى كثرة أهل البدع بعدهم ) أ.هـ كلامه رحمه الله تعالى . وقال عليه الصلاة والسلام ( يد الله على الجماعة فإذا شذ الشاذ منهم أختطفه الشيطان كما يخطف الذئب الشاة من الغنم ) وهو حديث صحيح بشواهده .
الثالث : رد الأمر إلى الرسول وإلى اؤلي الأمر وهم اؤلوا العلم ، قال تعالى (( إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى اؤلي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) فلا ينبغي أن يصدر في أمر الفتن عن الاصاغر وأحداث الأسنان والغوغائيين الذين همهم إثارة الفتن وإذكاء نارها من الذين لا يعرفون بعلم ولا فهم ولا فقه ولا بمراعاة المصالح والمفاسد ، وإنما مقصود الواحد منهم أن يروي غليله ويطفي غيض قلبه على المخالف فالواجب ألا يؤبه لهؤلاء الأباعد الأصاغر وحق كلامهم أن يطرح ولا يسمع ، بل ولا يمكنون أصلا من مخاطبة العامة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ، وأن يحث الناس ويوجهون إلى الالتفاف حول العلماء الموثوقين في علمهم وديانتهم وأمانتهم فلا تأخذ الأحكام من هؤلاء ، ولا تزال الأمة بخير ما صدرت عن علمائها الراسخين الذين لا يحركهم ولا يوفقهم إلا مراعات المصالح والمفاسد ، وهم كثير في هذا الزمان ولله الحمد والمنة .(1/148)
الرابع : حبس اللسان وكفه عن الخوض في هذه الفتن ، فإن الفتن كالظلم والغياهب التي تعمي البصر والبصيرة ، فالواجب أن لا تؤخذ في هذه الفتن كلمة منك إلا وأنت على علم كامل تام بعواقبها ، وكم من كلمة صدرت من رجل لم يعلم عواقبها ، زادت النار ناراً ، فأحبس عليك لسانك وليسعك بيتك وأبك على خطيئتك ، ودع الأمر لأهل العلم ، وكم وكم من طويلب علم أستعجل بالكلام في بعض الفتن ، فندم وصفق بكفه على ما رأى من الأثر السيئ هذه الكلمة ، فالرفق الرفق والقصد القصد ، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ، وأنظر حادثة الإفك ، وأي فتنة هي ؟ فإنها فتنة عظيمة وواقعة فادحة اهتزت فيها قلوب وتحركت فيها السنة فما سلم إلا من كف لسانه وأحسن الظن ، قال تعالى (( إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم )) فما سلم في الفتن إلا من شكت فلا تتفوهوا غلا بما فيه جمع الكلمة وتأليف القلوب وإزالة الشحناء ، فاحرص على هذا الأمر تنجو بإذن الله تعالى وتحمد عواقبه ، وعند الصباح يحمد القوم السرى .(1/149)
الخامس : الترفق في الأمور وخصوصاً في إصدار الأحكام فإنه الفتن يكثر فيها الهرج والمرج والقيل والقال وتكثر فيها التصريحات ولتفنن وكالات أنباء في نقل الأخبار على ما تريده من زيادة ونقص ويخدم مصالح أحرى ، فاحذر من أن تتعجل في بناء حكم بمجرد خبر سمعته أو جريدة قرأتها أو تحليل أخباري سمعته ، فإن الأحكام على الغير شأنها عظيم وخطرها جسيم وعواقبها وخيمة ، وفي الفتن قد يخفى الحق وتختلط الحقيقة بغيرها ويلتبس الأمر على كثير من أهل العلم فضلاً عن العامة ، وتكثر الإشاعات الأراجيف فكان لزماً على العاقل أن لا يصدر الأحكام بناءً على شيء من الإشاعات والأراجيف ، وقد ندبنا إلى الرفق في الأمور كلها ، فترفق وتأن فإن في التأني السلامة وفي العجلة الندامة ، حتى إذا انجلت الفتنة وظهر نور الحق واختفى غيهب الباطل وتميزت الأمور فأمشي حينئذ على نور من الله وبصيرة .
السادس : الامتثال على أمر الله تعالى بتزكية النفس بالإكثار من الطاعة وصدق التوبة ، وإعظام اللجأ والتضرع إليه ، بالدعاء الصادق والقلب الحاضر أن يكفي الأمة شر الفتن ما ظهر منها وما بطن فإن هذه الفتن التي تنزل بالأمة هي في حقيقتها مذكرات وموقظات ومواعظ فعلى العبد أن ينظر فيها بعين الاتعاظ والاعتبار وأن يستفيد منها الدروس ، وإن من أعظم ما يستفيده العبد من ذلك علمه اليقيني بحاجته التامة لربه جل وعلا وافتقاره الذاتي لله تبارك وتعالى الافتقار الذي لا ينفك عنه أبدا فإن مطالعة هذا الافتقار هو عين سعادة العبد ، والغفلة عنه هو عين شقاوته فكم من قلب استفاق من غفلته فيها ، وكم من غوي ضال صار مهتدياً راشداً فيها وكما قال تعالى (( ولا تحسبوه شراً لكم بل هو خيرا لكم )) وقال تعالى (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )) .
س294/ هل يصلى على أهل البدع ؟(1/150)
ج/ أقول : الصحيح في هذه المسألة هو التفصيل ، فلا نقول : يصلى عليهم مطلقاً ، ولا نقول : لا يصلى عليهم مطلقاً ، بل نقول : إن كان هذا المبتدع الذي مات محكوما بكفره ببدعته كالجهمية والرافضة والإسماعيلية والنصيرة فإنه لا يصلى عليه ، لأن صلاة الجنازة مخصوصة بالمسلم الذي مات على الإسلام وهذا المبتدع مات كافرا فلا يجوز الصلاة عليه ، بل أقول : لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدعى له بالرحمة ولا يدفن في مقابر المسلمين بل بوادي في البرية ، وذلك على للاتفاق على أن صلاة الجنازة والتغسيل والتكفين إنما تكون للمسلمين فقط ، وقد حكمنا على هذا المبتدع أنه كافر بهذه البدعة ، فيعامل معاملة الكفار ، فهذا إذا كان يكفر ببدعته ، وأما إذا كان هذا المبتدع الذي مات ليس محكوما بكفره بهذه البدعة كالأشعري والمعتزلي وصاحب الذكر الجماعي ونحو هؤلاء ، فإن الأصل أنه مسلم وبدعته هذه لا تخرجه عن أصل الإسلام وقد تقرر في القاعدة أنه يصلى على كل من مات مسلما ، هذا هو الأصل ، لكن إن كانت المصلحة أن يتخلف عن الصلاة عليه إمام المسلمين أو نائبه وأهل العلم والديانة والصلاح فإنهم يتركون الصلاة عليه ، زجرا للعامة عن مواقعة هذه الفعلة التي مات عليها ، فإن الناي إذا علموا أن أهل العلم والصلاح تخلفوا عن الصلاة عليه من أجل هذه البدعة أو هذه المعصية فإنه لا شك أنهم يحذرون من مواقعتها ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلي على الغال ولا على قاتل نفسه ولا على من استدان ومات ولا وفاء له حتى تحمله أحد الصحابة ، وهذا يدخل تحت باب الزجر بالهجر وهو تأديب نافع جدا له أثره الحميد لكن مبناه على مراعاة المصالح والمفاسد فهذا القول هو الذي يجمع ما قاله أهل العلم في هذا الباب وتتفق به نصوصهم والله أعلم .
س295/ ما حكم ساب الرسول صلى الله عليه وسلم مع بيان ذلك بالأدلة ؟(1/151)
ج/ سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر وردة وجرم عظيم وموبقة من موبقات الآثام ، وقد أجمع أهل الصدر الأول على أنه يجب قتله ، قال ابن المنذر : أجمع عامة العلماء على أنه يجب على سابه القتل ، قاله أحمد ومالك والليث والشافعي .أهـ وقد حكى الإجماع أيضا أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي . وكذا يقله إسحاق بن راهويه فإنه قال : أجمع المسلمون ِأن سب الله أو سب الرسول أو دفع شيء مما أنزل أو قتل نبياً أنه كافر وإن كان مقرا بكل ما أنزل الله . أهـ . ويقله الخطابي أيضا فإنه قال : ( لا أعلم أحدا اختلف في وجوب قتله ) أهـ . وقال محمد بن سحنون ( أجمع العلماء على أن شاتم الرسول المتنقص له كافر ومن شك في كفره فإنه يكفر وأما الأدلة على إثبات هذا الحكم فمن الكتاب والسنة ، والإجماع ، فأما الإجماع فقد تقدم نقله ، وأما ففي مواضع :
منها : قوله تعالى (( إن الذين يؤذون لله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً )) قال أبو العباس : وهذه توجب قتل من آذى الله ورسوله ونحن لم نعاهدهم على أن يؤذوا الله ورسوله . أهـ قلت : من الإيذاء سبه وتنقصه بقول أو فعل ، فإن فاعله ملعون بلعنة الله مطرود عن رحمته متوعد يوم القيامة بالعذاب المهين وهذا يدل على كفره.
ومنها : قوله تعالى (( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن .....الآية )) إلى قوله(1/152)
(( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .....الآية )) إلى قوله (( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ذلك الخزي العظيم )) فعلم بذلك أن إيذائه صلى الله عليه وسلم محادة لله ولرسوله لأن ذكر الإيذاء هو الذي اقتضى ذكر المحادة فيجب أن يكون داخلاً فيه ، فالإيذاء له صلى الله عليه وسلم من المحادة لله ورسوله ، وما يحاددهما جزاءه نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ، وسبه وتنقصه من اعظم الإيذاء فيكون من أعظم المحادة فيكون صاحبه متوعدا بهذه العقوبة البليغة مما يدل على أنه كافر عدو لله ورسوله محارب لله ورسوله ، ويوضح هذا ما رواه عبدالرزاق وأبو نعيم في الحلية وابن حزم في المحلى أن رجلاً كان يسب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( من يكفيني عدوي ) وصححه ابن حزم .
ومنها : قوله تعالى (( يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزؤا إن الله مخرج ما تحذرون ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم )) وهذا نص أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر صريح ، فدلت الآية أن كل متنقص رسول الله صلى الله عليه وسلم جادا أو هازلاً فإنه يكفر ، وسبه من تنقصه فهو كفر .(1/153)
ومنها : قوله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إنه سميع عليم ، يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون )) فإذا ثبت أن رفع الصوت والجهر به فوق صوته يخاف على صاحبه منه أن يكفر به ويحبط عمله وهو لا يشعر ، لأن فيه سوء أدب واستخفاف وهو لا يشعر بذلك ، فكيف بمن يسبه ويستخف به ويؤذيه مع قصه لذلك وتعمده له ؟ فلا ريب أنه يكون كافراً بطريق الأولى . وقد ذكر أبو العباس في الصارم المسلول آيات أخرى ، فارجع إليها إن شئت ، وأما السنة فأحاديث ، فمنها ما رواه الشعبي عن علي رضي الله عنه أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فخنقها رجل حتى ماتت ، فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم دمها ، رواه أبو داود واستدل به الإمام أحمد كما في رواية ابنه عبدالله عنه ، وقد روي أن الرجل كان أعمى ، وجود إسناده أبو العباس في الصارم المسلول وقال : وهو حديث جيد وهو متصل لأن الشعبي رأى عليا ولو كان مرسلا فهو حجة وفاقا لأن الشعبي صحيح المراسيل عندهم ليس له مرسل إلا صحيح . أهـ وهذا صريح في جواز قتلها لأجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم ووقوعها فيه ، فإذا كان هذا حال أهل الذمة إذا فعلوا ذلك فالمسلم والمسلمة إذا فعلا ذلك فإنهم يدخلون في دلالة النص من باب أولى .(1/154)
ومنها : ما روى ابن عباس رضي الله عنهما : أن أعمى كانت له أم ولدٍ تشتم النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه ، فأخذ المغول ووضعه في بطنها واتكأ عليه فقتلها ثم ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأهدر دمها ، رواه أبو داود والنسائي واستدل به أحمد ، وصححه الحاكم وقال الحافظ في البلوغ ( رواته ثقات ) وقد تكون هذه القصة هي عين المذكورة سابقا وقد تكون غيرها ووجه الدلالة منها واضحة وهو أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل لأن السب ارتداء فهذا دليل على ما قررناه من حكم سابه صلى الله عليه وسلم .
ومنها : قصة كعب بن الأشرف اليهودي ، وهي مخرجة في الصحيحين ، وقد احتج بها الشافعي على أن الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يقتل وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( من لكعب بن الأشرف فإنه قد آذى الله ورسوله فقام محمد بن سلمة فقال : أتحب أن أقتله يا رسول الله ؟ قال ( نعم ) قال : فأذن لي أن أقول شيئا ، فإذن له ...الحديث وفيه أنهم ( قتلوه ) وكان كعب قد هجا النبي صلى الله عليه وسلم فكانت عقوبته ما علمت وهي القتل وهو ذمي فكيف لو فعله مسلم فهذا دليل أن ساب الرسول يقتل.
ومنها : ما رواه النسائي بسند صحيح عن عبدالله بن أبي برزة قال : أغلظ رجل لأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقلت : أقتله ؟ فانتهرني وقال : ليس هذا الأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وفي رواية : أن رجلا شتم أبا بكرٍ ، فذكره ، وهي عند أبي داود وهذا يفيد أن المتقرر عند أبي بكر أن قتل الساب إنما هو إذا كان المشتوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما غيره فلا ، فهو من جملة خصائصه صلى الله عليه وسلم قال أبو العباس : وقد استدل به جماعات من العلماء على قتل ساب الرسول منهم : أبو داود وإسماعيل بن إسحاق وأبو بكر عبد العزيز والقاضي أبو يعلى وغيرهم ) أ.هـ(1/155)
ومنها : قصة ابن أبي سرح ، وهي مما أتفق عليها أهل العلم واستفاضت عندهم استفاضة تغنى عن رواية والآحاد ، ومع ذلك فقد صححها الحاكم ووافقه الذهبي وصححه شيخ الإسلام والألباني ، رحم الله الجميع رحمة واسعة وذلك انه يوم فتح مكة اختبأ عبدالله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان رضي الله عنه فجاء به حتى أوقفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، بايع عبدالله فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يا أبي ، فبايعه بعد الثلاث ، ثم أقبل صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال ( أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله ) فقالوا : ما ندري يا رسول الله ما في نفسك ألا أومأت لنا بعينك ؟ فقال ( إنه ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين ) رواه أبو داود والنسائي .
س296/ ما عقيدة أهل السنة رحمهم الله تعالى في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ مع ذكر شيء من فضائلهم ؟(1/156)
ج/ يعتقد أهل السنة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى وجمعنا بهم في جنات النعيم وثبت أحيائهم وغفر لأمواتهم أن الصحابة أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم رضي الله عنه ورضوا عنه وأنهم ثقات عدول أثبات ، وندين لله تعالى بحبهم بلا إفراط ولا تفريط ويتبرءون من طريقة الروافض والخوارج قال تعالى (( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم )) وقال تعالى (( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجر عظيما )) وقال تعالى (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا )) وقال عليه الصلاة والسلام ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) وقال عليه الصلاة والسلام ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدكم ولا نصيفه ) ويدينون لله تعالى بسلامة قلوبهم وألسنتهم للصحابة جميعا ولا يذكرونهم إلا بالجميل ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير سواء السبيل قال تعالى (( والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا أغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )) ونعتقد الاعتقاد الجازم أنهم أكبر هذه الأمة عقولا وأكثرهم وأصحهم علوما وأعلاهم فهوما وأسلمهم صدورا وأشدهم إتباعا ، وأرفعهم قدرا وأنهم الواسطة بيننا وبين نبينا صلى الله عليه وسلم في إبلاغ الشريعة أنهم قاموا بما(1/157)
أوجبه الله عليهم من البلاغ أتم القيام ، فقلوبنا سليمة عليهم فلا غل ولا حقد ولا كراهة لأحد منهم وأنهم أمنة هذه الأمة كما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة عن أبيه رضي الله عنه قال : ( صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي العشاء قال : فجلسنا ، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( مازلتم ههنا ) ؟ فقلنا : يا رسول الله صلينا معك المغرب ثم قلنا : نجلس حتى نصلي معك العشاء ، قال ( أحسنتم ) أو ( أصبتم ) قال : فرفع رأسه إلى السماء وكان كثيرا ما يرفع رأسه إلى السماء ، فقال ( النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما توعد ) وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( يأتي على الناس زمان نغزو فئام من الناس فيقال لهم : فكيم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم فئام من الناس فيقال لهم : فكيف من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم : هل فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : نعم ، فيفتح لهم ، ولمسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير ؟ فقال : ( القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث ).(1/158)
والصحيح عند الجمهور رحمهم الله تعالى أن هذه الأفضلية والخيرية في قرن الصحابة هي باعتبار الأفراد وليس بالنسبة إلى المجموع ، إذ الصحبة لا يعد لها شيء ولمشاهدتهم النبي صلى الله عليه وسلم وذبهم عنه ونصرة دين الإسلام وحرصهم على ضبط الوحي الذي تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فما من خصلة من خصال الخير إلا والصحابة قد ضربوا فيها أكبر الحظ والنصيب ، وهم أحق الأمة بقوله صلى الله عليه وسلم ( نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها فأداها كما سمعها ........الحديث ) وقال ابن عمر رضي الله عنهما : من كان مستنا فليستن بمن قد مات ، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا خير هذه الأمة ، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم أختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم ونقل دينه فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا على الهدى المستقيم ) وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير القلوب فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ . وسيأتي إن شاء الله تعالى شيء من ذكر الفضائل في سياق الأسئلة بحوله سبحانه وقوته ، وخلاصة الأمر أن اعتقاد أهل السنة في الصحابة رضي الله عنهم مجمل في أمور :
الأول : أننا نحبهم ولا نفرط في حب أحد منهم .
الثاني : أننا نبغض في الله من أبغضهم .
الثالث : أنهم خير هذه الأمة وأفضلها على الإطلاق لا كان ولا يكون مثلهم وأن الله تعالى رضي عنهم ورضوا عنه .
الرابع : أنهم عدول ثقات أثبات لا يبحث عن عدالتهم .
الخامس : سلامة ألسنتنا وقلوبهم عليهم والله تعالى أعلى وأعلم .
س297/ ما حكم سب الصحابة مع بيان ذلك بالدليل ؟(1/159)
ج/ أما سبهم فموبقة عظيمة وجريمة وخيمة ، وهو محرم التحريم الشديد بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول فأما الكتاب فلأنه تعالى ذكرهم في غير آية أنه رضي الله عنهم ورضوا ووعدهم الثواب الجزيل والأجر العظيم ومن المعلوم أن هذا ثناء حسن وكل من أثنى الله عليه خيرا في القرآن فإنه يموت على ذلك ، فسبهم مصادمة لهذه الآيات وجاحدة لمدلولها فكيف يسب من قال الله فيهم (( والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم )) وكيف يسب من قال الله فيهم (( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً )) وكيف يسب من قال الله تعالى فيهم (( محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرعٍ أخرج شطئه فآزره فأستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجراً عظيما )) وكيف يسب من قال الله تعالى فيهم (( لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون )) وكيف يسب من قال الله تعالى فيهم (( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يأتيه من يشاء والله واسع عليم )) وأقول أيضا : إنه لا يختلف اثنان من أهل السنة أن الصحابة أكمل هذه الأمة إيماناً فقد حققوا فيه المراتب العالية ، وقد توعد الله تعالى من يؤذي المؤمنين والمؤمنات بالعذاب الشديد فقال (( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثماً مبيناً )) والسب من الإيذاء ، بل وأعظم من ذلك(1/160)
فإن سب صحابة الرجل الذين يصحبهم في حله وسفره وسائر أحواله هم أخص الناس به ، فسبهم وتنقصهم هو حقيقته سب ونقص له ، وبناءً عليه فسب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم سب له وتنقصهم والقدح فيهم وهو في حقيقته تنقص له وقدح فيه وهو من إيذائه وقد قال الله تعالى (( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً )) فمن آذى الصحابة فقد آذى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن آذى النبي صلى الله عليه وسلم فقد آذى الله تعالى ، فنعوذ بالله من حال أهل الأهواء الذين جعلوا سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دينا يدينون به وقربة يتقربون بها ودينا لهم ، وأما دلالة السنة على تحريم سب الصحابة فأدلة كثيرة فمن ذلك ما رواه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه ) ولمسلم ، كان بين خالد أبن الوليد وبين عبدالرحمن بن عوف شيء فسبه خالد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تسبوا أصحابي ..........الحديث ) ، وهو نص صحيح صريح في تحريم السب .(1/161)
ومنها : ما رواه الإمام أحمد في المسند من هذا الحديث أيضا لكن من رواية بن مالك رضي الله عنه قال : كان بين خالد بن الوليد و عبدالرحمن بن عوف كلام فقال خالد لعبدالرحمن بن عوف : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ـ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ـ فقال : ( دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد ذهبا أو مثل الجبال ذهبا لما بلغتم أعمالهم ) فهذان الحديثان اشتملا على النهي الأكيد والتحذير الشديد عن سب الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ، قال النووي رحمه الله تعالى ( وأعلم أن سب الصحابة رضي الله عنهم حرام ، من فواحش المحرمات سواء من لابس الفتن منهم وغيره لأنهم مجتهدون في تلك الحروب متأولون ) أ.هـ والنهي في الحديثين المتقدمين موجبه من النبي صلى الله عليه وسلم لمن تأخر إسلامه وهو من جملة الصحابة ولا شك فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحالٍ مع الصحابة لا شك أنه داخل في هذا النهي من باب أولى .
ومنها : روى أبو داود في سننه بإسناده إلى رباح بن الحارث فقال : كنت قاعدا عند فولان ، في مسجد الكوفة وعنده أهل الكوفة فجاء سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل فرحب به وحياه وأقعده عند رجله على السرير ، فجاء رجل من أهل الكوفة يقال له قيس بن علقمة فأستقبله فسب وسب فقال سعيد : من يسب هذا الرجل ؟ فقال : يسب علياً ، فقال : ألا أرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبون عندك ثم لا تنكر ولا تغير ؟ أنا سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول ( أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وعبدالرحمن بن عوف في الجنة وأبو عبيدة في الجنة ) وسكت عن العاشر ، فقالوا : من هو العاشر ؟ فقال : سعيد بن زيد ـ يعني نفسه ـ ثم قال : والله لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر فيه وجهه خير من عمل أحدكم ولو عُمِّر عمر نوح ) .(1/162)
ومنها : ما رواه ابن بطة بإسناد صحيح إلى أبن عباس رضي الله عنهما قال : ( لا تسبوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي صلى الله عليه وسلم ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنة ) .
ومنها : ما رواه أبو نعيم في أخبار أصبهان بإسناده أن يزيد بن هزاري لقي سعيد بن جبير بأصبهان فقال له : أن رأيت أن تفيدني مما عندك ؟ فحبس دابته وقال : قال لي أبن عباس : أحفظ عني ثلاثا : إياك والنظر في النجوم فإنه يدعو إلى الكهانة ، وإياك والنظر في القدر ، فإنه يدعو إلى الزندقة وإياك وشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكبك الله على وجهك في النار يوم القيامة ) وقد أنعقد إجماع أهل العلم على تحريم سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تأيد ذلك بالمعقول أيضاً وذلك من وجوه :
الأول : أن سبهم مفض إلى ترك ما بلغوه من اشرع ، إذ كيف يأخذ التشريع ممن يستحق اللعنة ، ففي الحقيقة أن سبهم يؤدي على نسف الشريعة ، وناهيك بهذا الأمر فضاعة وجرما فكان سبهم حراما وعظيمة من عظائم الآثام لأنه يفض إلى هذه النتيجة الخطيرة . وهو الذي يريده الرافضة عليهم لعائن الله المتتابعة ، فالطعن في الصحابة والتجريح لهم مفاده إبطال جميع الأحكام الشرعية التي هم نقلتها ورواتها والمبلغون لها .
الثاني : أن المتقرر عند عامة العقلاء من المسلمين أنه لا تعارض نص صحيح مع عقل صريح ، وقد أثبت النص من الكتاب والسنة عدالتهم وأنهم خير الأمة وأزها قلوبا وأكبرها عقولا وأصحهم فهوما وأن الله رضي عنهم ورضوا عنه وقد شهدت بعض النصوص لآحادهم بالجنة ، فهذا هو مقتضى النص ، فحيث ثبت أن هذا مقتضى النص فيكون أيضا هو مقتضى العقل فالعقل يقضى بما قضى به النص ، وسبهم وتنقصهم والقدح فيهم مناقض لدلالة النص ومبطل لها فيكون ضمنا مناقضا لمقتضى العقل ومصادما له فإن بذلك أن سبهم مناقض للمعقول ومصادم للمنقول .(1/163)
الثالث : أن الذي يعلم السر وأخفى ويعلم ما كان وما سيكون قد سطر لهم في كتابه أجمل الذكر والثناء وأعظم المدح ، وأخرج ذلك مخرج الأخبار التي لا يدخلها النسخ وأخبر أن كتابه هذا سيبقى إلى أن يرفع في آخر الزمان ، ولا تزال هذه الآيات التي فيها الثناء على الصحابة ومدحهم تقرأ في الربط والمدارس والمساجد والدور وتحفظ في الصدور ، فمحال مع ذلك أن يكون الحال قد أختلف ، وأن هذه الآيات لا تصح في دلالتها لأنها تمدح قوما حقهم السب والشتائم هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ، بل نقول : أن كل من أثنى الله عليه في القرآن خيرا فإنه سيموت على ذلك ولا شك إذ لا تبديل في القرآن ولا تغير ولا زيادة ولا نقص فما مدحهم الله هذا المدح ولا أثنى عليهم هذا الثناء إلا لأنهم أهله في حياتهم وبعد مماتهم وهذا وضح كل الوضوح إن شاء الله تعالى .
الرابع : أنه يستحيل في العقل السليم الاستحالة التامة أن يكون القوم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه ونصرة دينه وإقامة شرعه وإبلاغ أحكامه أن يكونوا يستحقون اللعنة في باطن الأمر ، بل العقل السليم يرفض الرفض الأكيد أن يكون هؤلاء القوم أعلا الأمة فضلا وأكبرهم قدرا وأزكاهم عقولا وابرهم قلوبا وأعظمهم إتباعا وأشدهم تمسكا ، ومن يقول غير ذلك فإنه لا عقل عنده ولا نقل يعتمد عليه ، بل ليس عنده إلا الهوى والجهل والحمق وإتباع الشيطان نعوذ بالله من حاله .
الخامس : إن من نظر في سيرة القوم بالعدل والإنصاف فإنه يعلم قطعا علو فضل الصحابة وأنه لا يكون إلا يكون مثلهم ، ولذلك فإنه لا يقدح فيهم ولا يثرب عليهم إلا الجاهل بحقيقة حالهم ، وما هم عليه من كمال العلم النافع والعمل الصالح ، رضي الله عنهم وأرضاهم ورفع نزلهم في جنات عدن وجمعنا بهم في الجنة والله أعلم .
س298/ ما حكم ساب الصحابة رضوان الله عليهم مع بيان ذلك بالتفصيل ؟
ج/ أقول : أختلف العلماء في ذلك على قولين مشهورين :(1/164)
... الأول : ذهب جمع من أهل العلم إلى القول بتكفير من سب الصحابة رضي الله عنهم أو إنتقصهم وطعن في عدالتهم وصرح ببغضهم وأن من كان هذه صفته فقد أباح دم نفسه وحل قتله إلا أن يتوب من بعد ذلك ويترحم عليهم ويترضى عنهم ، وممن قال بذلك عبدالرحمن بن أبي أبزى وعبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي وأبو بكر بن عياش وسفيان بن عيينة ومحمد بن يوسف الفريابي وبشر بن الحارث والمروزي ومحمد بن بشار العبدي وغيرهم كثير ، وهو قول بعض العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية .
... الثاني : وذهب فريق آخر من أهل العلم إلى أن ساب الصحابة لا يكفر بسبهم بل يفسق ويضلل ويعزر التعزير البليغ ، ويزجر الزجر الشديد حتى يرجع عن ارتكاب هذا الجرم الخطير الشنيع وهذا أن القولان في الحقيقة ليس من خلاف التضاد وإنما من خلا ف التنوع أي أن أصحاب القول الأول لا يقصدون بقولهم كل صور السب ، أي لا يكفرون بكل سب ، وإنما يقصدون صور مخصوصة وأصحاب القول الثاني لا يقصدون أن الساب لا يكفر أبدا وإنما يعنون صورا مخصوصة ، ولذلك فالقول الجامع لهذه المسألة هو التفصيل في حكم ساب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكر هذا التفصيل جمع من أهل العلم وهو كما يلي :
الأول : أما سب جميعهم ، أي سبهم على وجه العموم فهذا كفر ولا شك وذلك كلعنهم جميعهم أو اعتقاد أنهم ارتدوا إلا نفراً يسيراً أو القدح فيهم بما يوجب سقوط عدالتهم ويقدح في أمانتهم وديانتهم ، فهذا كله كفر ولا شك لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم ، وقال أبو العباس : ( بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق ) أهـ(1/165)
الثاني : سب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما شببا يقدح في عدالتهم وديانتهم كاعتقاد كفرهم أو أنهم كتموا شيئا من الوحي أو أنهم خانوا النبي صلى الله عليه وسلم فهذا أيضا فاعله كافر ولا شك في كفره لمخالفته النصوص الكثيرة المتواترة التي وردت في فضلهما وعلو قدرهما كما سيأتي طرف منها إن شاء الله تعالى .
الثالث : سب عائشة رضي الله عنها بما برأها الله جل وعلا منه ، فهذا كفر بلا شك ، ومن يشك في كفره فهو كافر لأنه مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام براءتها من ذلك بالكتاب والسنة ، فحقيقة قوله تكذيب الكتاب والسنة ، وفاعل ذلك لا شك في كفره نعوذ بالله من أن تتفوه ألسنتنا بشيء من ذلك .
الرابع : إذا اقترن بالسب دعوى أن عليا إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا أيضاً لا شك في كفره ، بل لا شك في كفر من توقف في كفره ، ومثله أيضاً من زعم أن القرآن نقص منه آيات وأنها كتمت فهو كافر الكفر الأكبر المخرج من الملة . والعياذ بالله .
الخامس : أن يسب بعضهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك ، فهذا لا يكفر بذلك ولكن فاعله يستحق التعزير الشديد والتأديب البليغ الذي يردعه وأمثاله عن هذا القول العظيم في خير الخلق بعد الأنبياء ، قال أبو العباس ( وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم ) أ.هـ فهذا التفصيل هو الذي يجمع ما نقل عن أهل العلم في ذلك ، والله يتولانا وإياك وهو أعلى وأعلم .
س299/ هل الصحابة يتفاضلون ؟ وضح الجواب إجمالاً ؟(1/166)
ج/ نعم وهذا مما لا شك فيه ، فأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي فهؤلاء أفضل الأمة بل هم أفضل الخلق بعد الأنبياء ، وأفضل هؤلاء الشيخان أبو بكر وعمر وأفضلهما أبو بكر فهو أفضل الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم ثم يأتي بعد هؤلاء الأربعة في الفضل بقية العشرة المبشرين بالجنة ، عبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعد ابن أبي وقاس وسعيد ابن زيد والزبير ابن العوام وطلحة أبن عبيد الله و المتقرر عند أهل السنة رحمهم الله تعالى أن المهاجرين أفضل من الأنصار وأن الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى ، وأن أهل بدر وبيعة الرضوان أفضل من غيرهم فرضي الله عنهم وأرضاهم وأعلا درجاتهم في جنات عدن ولا حرمنا الله تعالى الحشر معهم والاجتماع بهم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر والله أعلم .
س300/ أذكر شيئا مما جاء في فضل أبي بكر رضي الله عنه ؟
ج/ أقول : ينبغي للمسلم أن يعتقد الاعتقاد الجازم أن أفضل البشر بعد الأنبياء هو صديق هذه الأمة أبو بكر عبدالله ابن عثمان ابن عامر القرشي التميمي وقد ورد في فضله من الأدلة من الكتاب والسنة ما لا يخفى ولكن يذكر لك بعضه :
فمن ذلك : قوله تعالى (( وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى * وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى )) فإن غالب المفسرين ذكروا أن سبب نزولها هو إنفاق أبي بكر ماله في شراء الأرقاء والضعفاء من الذين أسلموا من يد من يعذبهم من صناديد قريش وهذا فيه أبلغ الثناء وعظيم الوعد وأكبر البشارة بالنجاة والفوز بعالي الدرجات(1/167)
ومن ذلك : قوله تعالى (( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني أثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا )) وقال عليه الصلاة والسلام ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) فالآية دالة على فضل أبي بكر إذ جعله الله ثاني النبي صلى الله عليه وسلم وسماه صاحبه وأخبر أنه معهما وأنه أنزل السكينة عليهما وأيدهما بجنود من عنده وما ذلك إلا لأن أبا بكر رضي الله عنه قد بلغ الغاية في الفضل .
ومن ذلك : قوله تعالى (( والذي جاء بالصدق وصدق به أؤلئك هم المتقون )) وقد فسرها علي رضي الله عنه بأنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه .
ومن ذلك : قوله تعالى (( وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين )) فقد فسرها العبادلة عبدالله بن عباس وبن مسعود وبن عمر بأن صالح المؤمنين هو أبو بكر وعمر وقاله مجاهد الضحاك .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان في الصحيحين من حديث أنس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه حدثه قال نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال : ( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ) .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وقال ( إن الله خيّر عبد بين الدنيا وبين ما عنده فأختار ما عنده ) قال فبكى أبو بكر فعجبنا لبكائه فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخيّر وكان أبو بكر أعلمنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن مِنْ أمَنِّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام ومودته لا يبتنّ في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر ) وهو عند مسلم أيضا .(1/168)
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك ؟ قال ( عائشة ) فقلت من الرجال قال( أبوها ) قلت ثم من ؟ قال ( ثم عمر ابن الخطاب ) فعد رجالا .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( بين راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي فالتفت إليه فقال من لها يوم السبع يوم ليس لها راعي غيري وبين رجل يسوق بقرة قد حمل عليها فالتفت إليه فكلمته فقالت إني لم أخلق لهذا ولكني خلقت للحرث ) فقال الناس ( سبحان الله ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( فأني أومن بذلك وأبو بكر وعمر ابن الخطاب .
ومن ذلك : ما رواه البخاري في صحيحة بإسناده إلى محمد بن الحنفية قال : قلت لأبي أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبو بكر . قلت : ثم من . قال : عمر . وخشيت أن يقول عثمان . قلت : ثم أنت . قال : ما أنا إلا رجل من المسلمين .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بسنده إلى ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا نخير بين الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم .(1/169)
ومن ذلك : ما رواه البخاري أيضاً بإسناده إلى أبي الدرداء رضي الله عنه قال : كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذٌ بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبتيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما صاحبكم فقد غامر . فسلم وقال يا رسول الله إنه قد كان بيني وبين ابن الخطاب شيئاً فأسرعت إليه ثم ندمت فسألته أن يغفر لي فأبى علي فأقبلت إليك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثاً ) ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبا بكر فسأل عنه فلم يجده فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليه فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر حتى أشفق أبو بكر فجثى على ركبتيه فقال : يا رسول الله أنا كنت أظلم مرتين فقال : النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركو لي صاحبي مرتين فما أوذي بعدها .
ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : من أصبح منكم اليوم صائماً . قال أبو بكر : أنا . قال : فمن تبع منكم اليوم جنازة . قال أبو بكر : أنا . قال : فمن أطعم منكم اليوم مسكيناً . قال أبو بكر : أنا . فقال رسول الله صلى عليه وسلم ( ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة .
ومن ذلك : ما روى البخاري في صحيحه بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال ( أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان ) وقد لقبه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا اللقب الشريف الذي يفيد ثبوت منزلة الصديقية له وأنت خبير بأن هذه المنزلة تعقب منزلة النبيين كما في سورة النساء قال تعالى (( ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا )) .(1/170)
ومن ذلك : ما ثبت في البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها ( مروا أبا بكر فليصلي بالناس ) والإمامة في الصلاة منزلة عالية وخصوصاً إذا كان الآمر بها المعصوم عليه السلام فإنه لم يكن ليختار لإمامة المسلمين في عهدة إلا أفضلهم وأعلاهم قدراً وأوفرهم علماً .
ومن ذلك : ما رواه البخاري في صحيحة بسنده من حديث أبي هريرة يرفعه للنبي عليه السلام وفيه ( فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان ) فقال أبو بكر رضي الله عنه " ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب من ضرورة ، وقال : هل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله . قال : نعم ، وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر " . ومن المعلوم أرجائه عليه السلام واقع محقق فهذه بعض الأدلة الدالة على فضل خليفة رسول الله رضي الله عنه .
س301/ أذكر شيئا من فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؟
ج/ يجب على المسلم أن يعتقد اعتقادا جازما أن أفضل الصحابة بعد أبي بكر هو فاروق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد وردت الأدلة الكثيرة الدالة على فضله وأذكر لك طرفا منها :
فمن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال النبي عليه الصلاة والسلام رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالريمصاء امرأة أبي طلحه وسمعت خشفة فقلت من هذا فقال هذا بلال ورأيت قصرا بفنائه جارية فقلت لمن هذا ؟ فقال لعمر ( فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غيرتك ) فقال عمر بأبي وأمي يا رسول الله أعليك أغار ، ومثله أيضا ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة .(1/171)
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى حمزة بن أسيد الأنصاري عن أبيه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام بين أنا نائم بقدح لبن فشربت حتى إني أنظر إلى الري يخرج من أظفاري ثم ناولت فضلي عمر قالوا فما أولته يا رسول الله قال ( العلم ) ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء حق .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله عليه السلام يقول ( بين أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها دون ذلك . وعرض عليّ عمر وعليه قميص يحبره) قالوا فما أولته يا رسول الله قال( الدين ) فهذان الحديثان فيهما تزكية لأبي حفص رضي الله عنه في علمه وديانته .
ومن ذلك : ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث سعد ابن أبي وقاص قال : قال رسول الله عليه السلام ( يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجاً إلا سلك فجاً آخر ) .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال ( أُريت في المنام أني أنزع بدلو بكره على قليب فجاء أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين نزعا ضعيفا والله نغفر له ثم جاء عمر بن الخطاب فاستالت غربا فلم أرى عبقريا يفري فرية حتى روي الناس وضربوا بعطن .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام ( لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فإنه عمر ) .
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس رضي الله عنه قال : قال عمر رضي الله عنه وافقت ربي في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى )) وآية الحجاب قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر و الفاجر فنزلت آية الحجاب ، وأجتمع نساء النبي عليه السلام في الغيرة عليه فقلت لهن ((عسى ربه أن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن )) فنزلت هذه الآية .(1/172)
ومن ذلك : ما رواه الحاكم والترمذي وأحمد بسند حسن من حديث عقبه بن عامر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله عليه السلام يقول ( لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب ، ومن مناقبه العظيمة أيضا تبشير النبي عليه السلام بالجنة كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى قال كنت مع النبي عليه السلام في حائط من حيطان المدينة فجاء رجل فاستفتح فقال النبي عليه السلام ( أفتح له وبشره بالجنة ) ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال النبي عليه السلام فحمد الله ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي عليه السلام ( أفتح له وبشره بالجنة ) ففتحت له فإذا هو عمر بن الخطاب فأخبرته بما قال النبي عليه السلام فحمد الله ..........الحديث )
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى عبدالله بن مسعود قال :( ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر ) ولأبن أبي شيبة الطبراني من طريق القاسم بن عبد الرحمن قال : قال عبدالله بن مسعود ( كان إسلام عمر عزا وهجرته نصرا وإمارته رحمة والله ما استطعنا أن نصلي حول البيت ظاهرين حتى أسلم عمر ) وقال عبد الله أبن عباس رضي الله عنهما ( أول جهر بالإسلام عمر بن الخطاب ) وروى الترمذي بإسناده إلى أبن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام قال اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب ) وكان أحبهما إليه عمر فهذه طائفة يسيرة من الأحاديث الآثار التي تضمنت شيئا من مناقبه رضي الله عنه وجمعنا به في جنات الفردوس الأعلى .
س302/ أذكر شيئا من فضائل عثمان رضي الله عنه ؟(1/173)
ج/ أن فضائله رضي الله عنه كثيرة وقد صحت بها الأدلة الشهيرة ومن المعلوم عند جمهور أهل السنة أن أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر هو عثمان رضي الله عنه فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وهو ثالث الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين المأمور بإتباعهم والإقتداء بهم وهو أحد السابقين إلى الإسلام وقد هاجر الهجرتين إلى الحبشة والمدينة وهو الملقب بذا النورين لأنه تزوج ابنتي الرسول عليه السلام واحدة بعد واحده رقية وأم كلثوم وقد بايع عنه النبي عليه السلام بإحدى يديه وأذكر لك بعض الأحاديث في فضله فأقول :
من ذلك : ما رواه الإمام البخاري بإسناده إلى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : كنا في زمن النبي عليه السلام لا نعدل بأبي بكر أحد ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النبي عليه السلام لا نفاضل بينهم .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان في الحديث السابق أعني حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وفيه ( ثم جاء رجل يستأذن فسكت هنيهة ثم قال ( ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه فإذا هو عثمان بن عفان رضي الله عنه )
ومن ذلك : ما رواه البخاري بإسناده إلى أبي عبدالرحمن أن عثمان رضي الله عنه حوصر أشرف عليهم فقال أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي عليه السلام ألستم تعلمون أن رسول الله عليه السلام قال ( من حفر رومه فله الجنة ) فحفرتها ، ألستم تعلمون أنه قال ( من جهز جيش العسرة فله الجنة ) فجهزته فصدقوه بما قال فهذا الحديث يتضمن منقبتين عظيمتين له رضي الله عنه وقد ضمن النبي عليه السلام لفعلها دخول الجنة .
ومن ذلك : ما سبق من قوله عليه السلام ( أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق شهيدان )(1/174)
ومن ذلك : ما رواه الإمام أحمد بإسناده إلى عبد الرحمن أبن سمره قال : جاء عثمان أبن عفان إلى النبي عليه السلام بألف دينار في ثوبه حين جهز عليه السلام جيش العسرة قال فصبها في حجر النبي عليه السلام فجعل النبي عليه السلام يقلبها بيده ويقول ( ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم ) يرددها مراراً .
ومن ذلك : ما رواه الإمام مسلم في صحيحه بسنده إلى عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كان مضطجعا في بيتها كاشفا عن ساقيه أو فخذيه فاستأذن أبو بكر فإذن له وهو على تلك الحال ثم أستأذن عمر فأذن له وهو كذلك ثم أستأذن عثمان فجلس رسول الله عليه السلام وسوى ثيابه ) وفي آخره ( أن النبي عليه السلام قال ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة فهذا الحديث تضمن فضيلة ظاهرة لعثمان رضي الله عنه وبيان أنه جليل القدر حتى عند الملائكة ، وفي لفظ آخر قال رسول الله عليه السلام ( أن عثمان رجل حييّ وأني خشيت أن أذنت له على تلك الحال ألا يبلغ إلي في حاجته .
ومن مناقبه أيضا : أجماع الصحابة على خيرته وأفضيلته بعد الشيخين ولذلك اختاروه خليفة لهم فإجماعهم على توليته الخلافة وليس على أنه أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما جميعا .
ومن مناقبه العظيمة : وحياته الكبيرة أنه جمع الناس على مصحف واحد وكفى الأمة شرا كبيرا وبلاءً عظيما وهو الاختلاف في الكتاب وقد شكر له هذا العمل من جاء بعد من المسلمين وأهل السنة .
ومن مناقبه العظيمة : أن النبي عليه السلام شهد له أنه سيكون مستمرا على الهدى المستقيم عند حلول الفتنة كما روى الحاكم بإسناده إلى مره بن كعب قال سمعت رسول الله عليه السلام يذكر فتنة فقربها فمر به رجل مقنع في ثوب فقال عليه السلام ( هذا يومئذ على الهدى ) فعمت إليه فإذا هو عثمان رضي الله عنه فأقبلت بوجهه فقلت هو هذا فقال (نعم ) .(1/175)
ومن مناقبه العظيمة : أنه منع الصحابة من أن يريقوا دم أحد من المسلمين بسبه وذلك لكمال صبره ورضاه بما قضاه الله وقدره . وقد كان يلح على الصحابة كثيرا إلا يعتلوا أحدا دفاعا عنه لعلمه رضي الله عنه أنه شهيد فأراد أن يلقى الله جل وعلا ولا يطلبه أحد بدم . ومناقبه كثيرة ولعل فيما مضى كفاية والله أعلم .
س303/ أذكر شيئا من فضائل علي رضي الله عنه ؟
ج/ أقول : لقد اجمع أهل السنة والجماعة رفع الله نزلهم في الفردوس الأعلى ، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أفضل الخلق بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ، فهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد الستة أصحاب الشورى وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ وهو رابع الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين المأمور بالإقتداء بهم ، وهو من السابقين الأولين بالإسلام ، وقد تربى في حجر النبي صلى الله عليه وسلم وهو زوج أبنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها وقد شهد المشاهد كلها غير تبوك ، وقد لواء النبي صلى الله عليه وسلم بيده في مواطن كثيرة ولقد وردت الأدلة الكثيرة في إثبات فضله .
فمن ذلك : ما رواه الشيخان بسندهما من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر ( لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ) قال فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه ، فأرسلوا إليه ، فأتي به ، فبصق في عينيه وأعطاه الراية وقال ( أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم أدهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم ) وهذه منقبة عظيمة وشهادة من أصدق الخلق صلى الله عليه وسلم .(1/176)
ومن ذلك : ما رواه الشيخان بسندهما من حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : ( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) وهذا في بيان منزلة علي رضي الله عنه منه ومكانته العظيمة عنده عليه الصلاة والسلام .
ومن ذلك : ما رواه الشيخان رضي الله عنهما من حديث سهل بن سعد قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت فاطمة فلم يجد عليا ً ، فقال ( أين أبن عمك فقالت كان بيني وبينه شيئا فغاضبني فخرج فلم يقل عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان ( أنظر أين هو ) فجاء فقال : يا رسول الله هو في المسجد راقد ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد شقط رداؤه عن شقه وأصابه تراب فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه ويقول : ( قم أبا تراب ، قم أبا تراب ) وهذا فيه بيان علو منزلته عند النبي صلى الله عليه وسلم حيث مشى إليه ومسح عنه التراب واسترضاه وتلطفه وكناه بهذه الكنية التي هي أحب إليه من كل شيء ، فرضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في الفردوس الأعلى .
ومن ذلك : ما رواه مسلم في صحيحه رضي الله عنه قال : قال علي رضي الله عنه(والذي فلق الحب وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي صلى الله عليه وسلم أني ، أنه لا يجيبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق ) ولا تخفى دلالة هذا الحديث عن فضله وأنه معقد للولاء والبراء فاللهم أنا نشهدك على حبه .
ومن ذلك : ما رواه البخاري رضي الله عنه بسنده إلى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي ( أنت مني وأنا منك ) .(1/177)
ومن مناقبه العظيمة : رضي الله عنه أنه من أصحاب الكساء ، وحديثه معروف فإنه لما نزل قوله تعالى (( فقل تعالوا ندعوا أبنائنا وأبنائكم )) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال ( اللهم هؤلاء أهلي ) رواه مسلم في صحيحه ، ومن فضائله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دعا له بقوله ( اللهم ثبت لسانه وأهدي قلبه ) كما رواه الحاكم في المستدرك وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وأقره الذهبي .
ومن مناقبه أيضا : ما رواه الحاكم أيضا بإسناده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ( شكى علي بن أبي طالب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام فينا خطيبا فسمعته يقول : أيها الناس لا تشكوا عليا فوالله إنه لأخشى في ذات الله وفي سبيل الله ) قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه فوافقه الذهبي .
ومن مناقبه العظيمة : وفضائله الكبيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أبنته فاطمة وزوجها عليا وولدهما الحسن والحسين يكونان معه يوم القيامة في مكان واحد ، كما رواه الحاكم في المستدرك وصححه ووفقه الذهبي .
ومن مناقبه : أن عمر رضي الله عنه كان يتعوذ من معضلة ٍ ليس لها أبو حسن ، وروى البخاري بسنده إلى ابن العباس قال : قال عمر رضي الله عنه : أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي ، وفضائله كثيرة مشهورة ، وقبل الختام أحب التنبيه على أمر مهم وهو أني أحذرك كل التحذير مما وضعته الرافضة لعنهم الله من المكذوبات في فضله رضي الله عنه وأرضاه فإنهم قوم بهت كذابون دجالون ، قطع الله ألسنتهم وأراح الأمة من شرهم وقد تصدى لفضح هذه المرويات وبيان زيفها وكذبها شيخ الإسلام والمسلمين أبو العباس بن تيميه رحمه الله تعالى في كتابه الكبير منهاج السنة ، فعلي رضي الله عنه قد ثبت له من الفضائل ما ذكرت لك ، وهو غني عن هذه الأباطيل والمرويات الكاذبة الفاجرة والله يحفظنا وإياك من زلل اللسان والعمل.(1/178)
س304/ ما عقيدة أهل السنة في الخلافة ؟
ج/ يعتقد أهل السنة رضي الله عنهم وأرضاهم أن الخليفة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الخلق إليه وأحقهم بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ورفع نزله في الجنات الفردوس الأعلى ، ثم عمر فاروق الإسلام أبو حفص ، رضي الله عنه ثم عثمان ذو النورين ثم علي رضي الله عنهم وأرضاهم ولا حرمنا الله الحشر معهم ومرافقتهم في الجنة ، وهذا ما نعتقده بقلوبنا ونقوله بألسنتنا وندونه في كتبنا ونعوذ بالله من زيغ القلوب بعد هداها ، ومن الحور بعد الكور ، ومن النقص بعد الكمال والله أعلم .
س305/ كيف تمت الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه ؟(1/179)
ج/ أقول : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقله الله إليه في جنته ودار كرامته ، اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعده بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة ، وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فقصدا نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين ولما انتهوا إليهم حصل بينهم حوار في أمر الخلافة حيث اضطرب أمر الأنصار فجعلوا يطلبون الأمر لأنفسهم أو الشركة فيه مع المهاجرين ، فأعلمهم أبو بكر رضي الله عنه إن الإمامة لا تكون إلا في قريش وأحتج عليهم بقوله صلى الله عليه وسلم ( الأئمة من قريش ) فأذعنوا لذلك رضي الله عنهم وأرضاهم وانقادوا طائعين وبايعوا أبا بكر رضي الله عنه واجتمعوا على إمامته واتفقوا على خلافته وانقادوا لطاعته وأنقطع الحوار في هذه المسألة باجتماعهم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه ، وقد روى هذه القصة الإمام البخاري في صحيحه وإنما ذكرت لك معناها ، وقد أذعن سعد بن عبادة رضي الله عنه بذلك وأعترف بصحة ما قال الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من أن قريشا هم ولاة هذا الأمر ، فقال : صدقت نحن الوزراء وأنتم الأمراء كما في مسند الإمام أحمد ، وقد حسن إسناده شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى . فهذا هو الحق في هذه المسألة ودع عنك ما يقوله أهل الإفك قطع الله ألسنتهم أخرس أفواههم ، فإنهم ما قدروا الصحابة حق قدرهم ، عاملهم الله بعدله لا بعفوه وأرانا الله فيهم عجائب قدرته والله أعلم.
س306/ هل ثبتت الخلافة لأبي بكر الصديق بالنص أم بالاختيار ؟ وأذكر بعض الأدلة على ما تقول ؟(1/180)
ج/ أن هذه المسألة ليست من المسائل الكبار عند أهل السنة وإنما المهم أن تثبت خلافته وأنه أحق بها من غيره وأنه أفضل الأمة بعد نبينا صلى الله عليه سلم وأن تثبت أيضا وقوع الإجماع على خلافته وإن حصل في بداية الأمر شيء من الخلاف لكن قد انعقد الإجماع على أنه أحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا اعتقدت ذلك فسواءً قلت : قد تثبتت خلافته بالنص ، أو قلت : بالاختيار ، كل ذلك نتيجته واحدة وبأي القولين قلت فالأمر سهل يسير والخلاف فيه سائغ لكن الذي يترجح والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل الأمة على خلافته وأخبر أنه يرضاها وقد عزم على الكتابة بذلك لكن علم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين لا يبغون عن أبي بكر حولا فروى الشيخان رضي الله عنهما في صحيحهما بسندهما عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم فأمرها أن ترجع إليه ، فقالت : أرأيت إن جئت فلم أجدك ـ كأنها تقول الموت ـ فقال عليه الصلاة والسلام ( إن لم تجديني فأتي أبا بكر ) قال ابن حزم ( وهذا نص جلي على استخلاف أبي بكر ) أهـ وروى الشيخان أيضا بسندهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه ( ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا فإني أخاف أن يتمنى متمنٍ ويقول قائل: أنا أولى ، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر ) وعند الإمام أحمد في المسند عنها رضي الله عنها قالت لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبدالرحمن بن أبي بكر ( أئتني بكتف أو لوح حتى أكتب لأبي بكر كتابا لا يختلف عليه ) فلما ذهب عبدالرحمن ليقوم قال(1/181)
( أبا الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر ) وكذلك اختياره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الإمامة الصلاة ، فلما رضيه للإمامة الشرعية وقدمه فيها على غيره ، فإنه من باب أولى أن يرضاه ويقدمه على غيره في الإمامة الدنيوية ، وكذلك قال بعض الصحابة : قد رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ، وهذا من باب قياس الأولى وهو حجة بالاتفاق .(1/182)
وقد روى أبو عبدالله الحاكم في المستدرك بإسناده إلى عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال :(لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت الأنصار ، منا أمير ومنكم أمير قال : فأتاهم عمر رضي الله عنه وقال : يا معشر الأنصار أليتم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمّر أبا بكر يؤم الناس ، فإنكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر ، فقالت الأنصار ، نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر ) فالتحقيق في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دل المسلمين على استخلاف أبي بكر رضي الله عنه وأرشدهم إلى ذلك بأمور كثيرة من أقواله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار راضٍ بذلك حامدٍ له مع همه بأن يكتب في ذلك كتابا لكن لما علم أن المسلمين يتجمعون على خلافته ترك الكتابة اكتفاءً بذلك ، واختار هذا القول أبو العباس بن تيمية رضي الله عنه ، وأذكرك بارك الله فيك أن هذه المسألة أي مسألة دليل خلافته هل كانت بالنص الخفي أم الجلي هي من المسائل التي يسوغ فيها الخلاف لاحتمال الدليل وبناءً عليه فلا تفسيق فيها ولا تأثيم ولا تبديع ، أي أنه لا يخرج على من قال : ثبتت بالنص الجلي ، أو قال : ثبتت بالنص الخفي ، وإنما الذي تعظم مخالفته هو القدح في خلافته أصلاً أو القدح في أحقيته بها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول لك : لقد انعقد الإجماع من أهل السنة سلفا وخالفا على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه ورفع نزله في الجنة وجمعنا به في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر والله أعلم
س307/ ما مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى فيما وقع بين الصحابة من الخلاف والقتال؟(1/183)
ج/ مذهبهم في ذلك أفضل المذاهب على الإطلاق لأن مبناه على تعظيم قدرة الصحابة وعلو منزلتهم في قلوبهم ، فما من فرقة عظمت الصحابة كأهل السنة ، وما فرقة عرفت للصحابة فضلهم ومنزلتهم كأهل السنة ولذلك فهم يعتقدون وجوب السكوت وحبس اللسان وعدم الخوض فيما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم مع الاعتقاد الجازم أنهم فيما وقع بينهم مجتهدون وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المجتهد المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد فهم رضي الله عنهم دائرون بين الأجرين والأجر فالمصيب منهم له أجران والمخطئ له أجر واحد فهم مأجورون على كل حال ، ويعتقد أهل السنة أيضا أن غالب المرويات في الخلافة بينهم كذب وزور وكثير منه ضعيف من جهة سنده ، والصحيح منه نزر قليل يسير هم فيه مجتهدون ونشهد أن لهم من الفضائل والمحاسن ما يوجب مغفرة ما صدر من بعضهم من الخطأ إن صح عنه ذلك ونشهد بالله انهم أحق الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا الخلاف لم يدخل فيه غلا نزر يسير منهم ، وأنهم بشر لا ملائكة ، وأن العصمة إنما هي في إجماعهم لا في قول آحادهم مع مخالفته غيره له ، ولا ندخل في هذا الخلاف ، ونقول : كما أن الله تعالى عصم أيدينا منهم ، فلنحرص على عصمة ألسنتنا منه ونعوذ بالله من أن نجعل صحابة الحبيب صلى الله عليه وسلم فاكهة مجالسنا بالجرح والتثريب بل نفديهم بأرواحنا وقلوبنا وأموالنا وكل ما نملكه ولا يُمَسَّا أحدهم بسوء أو طعن ولا نقول إلا كما قال ربنا جل وعلا (( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم )) والله ربنا أعلى وأعلم .
س308/ ما عقيدة أهل السنة في الشهادة بالجنة والنار ؟(1/184)
ج/ مذهب أهل السنة رحمهم الله تعالى في ذلك التفصيل ، فالشهادة بالجنة ، إما أن تكون عامة وإما خاصة أي للمعين ، فأما العامة فكقولنا : المؤمنون في الجنة والكفار في النار ، فهذه الشهادة لا إشكال فيها ، وإما الخاصة : فإنهم لا يشهدون لأحد بعينه أنه من أهل الجنة أو أنه من أهل النار إلا من شهد له النص بذلك ، فمن اثبت النص الصحيح انه من أهل الجنة فهو من أهل الجنة ومن أثبت النص أنه من أهل النار فهو من أهل النار ، ومن لم يرد فيه النص فلا نقول أنه من أهل الجنة ولا من أهل النار ، بل نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب فممن شهد له النص له بالجنة العشرة المبشرين بالجنة وبلال وثابت بن قيس بن شماس ، وعكاشة بن محصن ، وغيرهم فهؤلاء نشهد أنهم من أهل الجنة إبداءً بأعيانهم ، وممن شهد له النص بأنه من أهل النار أبو لهب وأبو جهل وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف وعمرو بن لحي ووالد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمه أبو طالب والوليد بن المغيرة وامرأة أبي لهب وامرأة نوح وامرأة لوط وإبليس ، وقارون وفرعون وهامان والسامري من قوم موسى وغيرهم ، فهؤلاء نشهد أنهم من أهل النار بأعيانهم لثبوت النصوص بذلك ، ويبقى من لم يرد فيه النص بعينه لا نشهد له بعينه أنه من أهل النار ولا من أهل الجنة وإنما نرجو للمحسن الثواب ونخاف على المسيء العقاب والله أعلم .
رقم السؤال ... السؤال ... رقم الصفحة
س200 ... كم أقسام صفات الله تعالى الثبوتية مع التمثيل وبيان الفرق بينهما ؟ ... 217
س201 ... هل أسماء الله تعالى مترادفة أم متباينة ؟ ... 217
س202 ... ما أنواع الإضافة إلى الله تعالى ؟ وما القاعدة في ذلك ؟ مع توضيح الإجابة بالأمثلة ؟ ولماذا قال أهل السنة ذلك وحرصوا على بيانه ؟ ... 218
س203 ... ما لواجب في الإيمان بأسماء الله تعالى ؟ مع التمثيل؟ ... 221
س204 ... عرف الإلحاد ؟ مع بيان أقسامه ؟ ... 222
س205 ... ما أنواع الإلحاد في أسماء الله جل وعلا وما حكمه مع بيان ذلك بالدليل؟ ... 222(1/185)
س206 ... ما أنواع الإلحاد في الآيات ؟ وما معنى كل نوع ؟ مع بيان ذلك بالدليل؟ ... 224
س207 ... هل أسماء الله تعالى محصورة بعدد معين أم لا ؟ وما الدليل على ذلك ؟ ... 224
س208 ... هل آيات الصفات من قبيل المحكم أم من التشابه ؟ ... 226
س209 ... هل ظاهر نصوص الصفات مراد أم غير مراد ؟ ... 226
س210 ... ما حكم السؤال عن كيفية شيءً من صفات الله تعالى ولماذا ؟ وكيف الجواب لمن سألنا عن شيءً من ذلك ؟ ... 228
س211
س212
س213
س214
س215
س216
س217
س218
س219
س220
س221
س222
س223
س224
س225
س226
س227
س228
س229
س230
س231
س232
س233
س234
س235
س236
س237
س238
س239
س240
س241
س242
س243
س244
س245
س246
س247
س248
س249
س250
س251
س252
س253
س254
س255
س256
س257
س258
س259
س260
س261
س262
س263
س264
س265
س266
س267
س268
س269
س270
س271
س272
س273
س274
س275
س276
س277
س278
س279
س280
س281
س282
س283
س284
س285
س286
س287
س288
س289
س290
س291
س292
س293
س294
س295
س296
س297
س298
س299
س300
س301
س302
س303
س304
س305
س306
س307
س308
الفهرس(1/186)