المقدمة
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق ، ولم يجعل له عوجا ، أشهد أن لا إله إلا هو شهادة من أسلم وجهه لله ، فلم يجد حرجا ، وأشهد أن محمدا صلّى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، الصادق المصدوق مدخلا ومخرجا ، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله ، وصحبه ، ومن اتخذ دينه منهجا .
وبعد :
فهذا كتاب وضعته للرد على أهل التعطيل والتأويل لصفات الله تعالى ، وقد ذكرت فيه الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع السلف ، من أن نصوص صفات الله تعالى ، الواردة في الكتاب و السنة ، يجب الإيمان بما دلت عليه من صفات لائقة بجلال الله ، وعظمته جل شأنه ، مع تفويض كيفيّاتها ـ لا معانيها ـ إليه سبحانه ، وأن ذلك هو معنى ما أطبق عليه السلف بقولهم : أمروها كما جاءت بلا كيف .
كما ذكرت أهم الشبه التي استدل بها أهل التعطيل والتأويل من كتبهم المعتمدة عندهم ، ونقضتها من كلام أهل العلم ، من أئمة أهل السنة والجماعة ، وأضفت إلى ذلك بعض ما ظهر لي أيضا من الردود .
وقد حاولت أن أجعل القارئ المقتصد لا يحتاج إلى مطالعة غير هذا الكتاب ، إذا اضطر إلى الرد على أهل البدع في هذا الباب ، وأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك ، وإلاّ فالنقص أحرى بي وأولى ، وقد أحاط بي ، واستولى .
هذا وينبغي التذكير بأن إظهار نصوص الكتاب والسنة في صفات الله تعالى ، ونشرها بين الناس ، وتعليمهم طريقة السلف في فهم صفات الله تعالى على سبيل الإجمال ، وترك الناس وفطرتهم تمر عليهم الآيات والأحاديث كما أنزلت ، يفهمون مما يقرؤونه في القرآن والسنة ، على أساس الإثبات مع التنزيه ، وقطع الطمع عن التكييف ، هو منهج السلف في القرون الأولى ، وهو أقوى رد على كل مبتدع .
وإنما ينزل الرد عليهم بدفع شبههم ، منزلة الضرورة ، فإن كانت بدعهم مطوية ، وآراؤهم الرديّة مخفية ، فالواجب الإعراض عنهم بالكليّة .(1/1)
وقد سميت الكتاب ( بأم البراهين ) لأنني اعتنيت فيه بذكر البراهين الجليّة ، على صحة نهج السلف ، في فهم أسماء الله تعالى الحسنى ، وصفاته العليّة .
هذا وأسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم ، وان ينفعني به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، آمين والحمد لله رب العالمين .
حامد بن عبد الله العلي
غرة جمادى الآخرة 1423هـ
الفصل الأول
أقوال الطوائف الإسلامية في صفات الله تعالى ، والقول الصحيح منها والأدلة على صحة ، وبطلان ما سواه
ويشتمل هذا الفصل على هذه المطالب :
أولا : أقوال الطوائف في صفات الله تعالى .
ثانيا : القول الصحيح منها ، وهو مذهب السلف ، والأدلة على صحته .
ثالثا : إبطال مذهبي المفوضة ، والمؤولة في صفات الله تعالى .
كما يتضمن بحثا مهما في بيان أسباب الخطأ في حكاية مذهب السلف عند بعض العلماء والله الموفق .
المطلب الأول
أقوال الطوائف في صفات الله تعالى
القول الأول :
قول من يجعل كل دليل دل على الإخبار عن صفة ولو ظاهراً ، يأخذ منه إثبات صفة لله تعالى انقياداً للسمع ، وهذا القول هو المنقول عن الصحابة والتابعين ، وقال به أئمة الدين المتقدمين كالأئمة الأربعة والليث بن سعد والأوزاعي والسفيانين وعامة فقهاء الأمصار في عصور السلف وعامة أهل الحديث ، وهو قول غالب المنتسبين إلى مذهب الإمام أحمد ، وكثير من المنتسبين إلى المذاهب الأخرى ، وسيأتي بيان ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى .
ويمكن تقسيم الصفات على هذا الأساس إلى : صفات سلبية ، وصفات ثبوتية.
أما الصفات السلبية : فهي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله كالموت ، والنوم.
وأما الصفات الثبوتية : فيمكن تقسيمها إلى ذاتية وفعلية :
فالذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفا بها وهي نوعان : عقلية وخبرية .
فالعقلية كالقدرة والعلم ، والخبرية - وهي التي لا تعرف إلاّ بالسمع - كالوجه واليدين .(1/2)
وأما الصفات الفعلية ، فهي التي تتعلق بمشيئته واختياره ، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها ( وقد تسمى الاختيارية ، أو الأفعال الاختيارية ) ، وهي نوعان أيضاً :
عقلية وخبرية : فالأولى كالخلق والرزق ، والثانية كالمجى والنزول والاستواء .
وقد تكون الصفة ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنه صفة ذاتية لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً ، وباعتبار آحاد الكلام فإنه فعلية لأن الكلام يتعلق بمشيئته واختياره ، يتكلم متى شاء بما شاء كما قال سبحانه (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس:82) (1) .
القول الثاني :
وهو قول من يحدد الصفات بسبع أو ثمان صفات ، وقد يزيد بعضهم على ذلك ، بما سيأتي ذكره وأشهر من قال بهذا القول ، الأشعرية ، والماتوريدية ، ويقسمون الصفات إلى أربعة أقسام :
نفسية ، وسلبية ، ومعاني ومعنوية .(2)
فالنفسية هي الوجود ، والسلبية هي القدم ، والبقاء ، والمخالفة للحوادث ، والقيام بالنفس والمعاني هي سبع صفات زائدة على الذات ، وهي : الحياة ، والإرادة ، والعلم ، والقدرة ، والسمع والبصر ، والكلام ، والمعنوية عندهم هي كونه مريداً وقادراً وحياً ، عليماً ، سميعاً ، بصيراً ، متكلماً .(3)
__________
(1) وينظر في تقسيم صفات الله تعالى على هذا القول : شرح الواسطية للشيخ خليل هراس ص 89 ، والقواعد المثلي للعثيمين ص 21ـ25 ، وشرح الطحاوية لابن أبي العز ص 127 .
(2) متن السنوسية 2.
(3) المصدر السابق ، وقال الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان أن المعنوية على التحقيق هي كيفية اتصاف الله تعالى بصفات المعاني ، كما ذكر أن الصفات السلبية لاتدل على معان وجودية بالمطابقة أضواء البيان ( 2/277ـ 278) .(1/3)
وأصحاب هذا القسم لا يعتبر أكثرهم ما يثبته القسم الأول من الصفات الذاتية صفاتاً ، كالوجه واليدين ، والعين ، بل نصوصها عندهم لا تدل على صفات في نفس الأمر ، وإن كانت في الظاهر كذلك ، ويجب تأويل ظواهرها عندهم .
وكذلك الصفات الفعلية الخبرية كالمجيء والنزول والاستواء ، وإذا اجتمع في طريق الثبوت أن يكون خبرياً حديثياً ، فلا يسلم من التأويل عدد أكثرهم أما الخبري القرآني فيثبته بعضهم .
وأعظم من يقول بهذا القول الأشعرية ، فقد اتفق المنتسبون إلى هذا المذهب على إثبات سبع صفات وهي المتقدم ذكرها (1).
ثم اختلفوا هل لله صفة زائدة عليها وإن كنا لا نعلمها ،فجزم بعضهم بالنفي وجوز بعضهم أن يكون له غيرها وإن كنا لا نعلمها(2).
وزاد المتقدمون من أئمة المذهب الكبار ، صفة اليد والوجه ، كأبى بكر الباقلاني(3) ، وأبى بكر بن فورك(4) ، ونقل الذهبي عن كتاب الإبانة للباقلاني إثباته صفة العلو أيضاً(5) .
__________
(1) المواقف للايجي ص 281ـ 296 .
(2) المصدر السابق ص 296 .
(3) التمهيد له ص 295 .
(4) مشكل الحديث وبيانه ص 174ـ 183 .
(5) مختصر العلو ص 258 .(1/4)
وسبب إثبات هؤلاء لهذه الصفات هو أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب شيخ الاشعري الذي إنحاز إليه أبو الحسن بعد توبته من الاعتزال(1)
، ابن كلاب هو مثبت لهذه الصفات الخبرية الذاتية كالوجه واليدين والعين والعلو(2)
ولهذا فليس لأبي الحسن قولان في هذه الصفات الخبرية على التحقيق ، ولا لأئمة أصحابه المتقدمين ، فالصفات الخبرية القرآنية يثبتها قدماء أئمة الأشعرية وبعض المتأخرين(3) ..
__________
(1) ذكر الشهرستاني أن أبا الحسن الاشعري لما ترك الاعتزال انحاز إلى جماعة منهم ابن كلاب ، وأيد مقالتهم بمناهج كلامية ، وصار ذلك مذهبا لاهل السنة والجماعة ، ذكره في الملل والنحل ص 93 ، وهذا المذهب الكلابي هو الطور الثاني لأبى الحسن ، وغالب المنتسبين إليه من المتقدمين كالباقلاني ، وابن فورك ، على قوله في هذا الطور ، وأما المتأخر ون كأبي المعالي ومن بعده فزادوا على التأويل الذي قاله به في هذا الطور للصفات الاختيارية كما سيأتي ، زادوا تأويل الصفات الذاتية إلا السبع ، وزادوا أيضا إنكار العلو ، ولأبى الحسن طور ثالث وهو إثبات كل الصفات وعدم التأويل مطلقا ، وهو الذي صار إليه بأخرة ، كما يدل على ذلك كتاب ( الإبانة والمقالات) ص 297.
(2) المقالات للاشعري ص 196ـ 299 .
(3) أنظر المجموع لابن تيميه ( 6/52) ، (16/407) ، (12/203) ، وانظر نقض التأسيس ( 2/15) ، ( 2/34ـ 35) ، وانظر الدرء ( 3/380ـ 381) ومن المتأخرين الذين يثبتون الصفات الخبرية القرآنية البيهقي ( البيقهي وموقفه من الإلهيات للغامدي ص 268 .(1/5)
أما متأخرو الأشعرية ، فقد غلوا في التأويل ، كأبى المعالي الجويني ، وهو من أوائل من غلا فيه ، وهو شيخ أبي حامد وهذان مع الرازي والآمدي ، قاربوا المعتزلة فأكثروا من التأويل وأنكروا صفة العلو ، والصفات الخبرية القرآنية التي أثبتها المتقدمون ، وتكلموا في قواعد المذهب على هذا الأساس (1).
لا سيما الرازي فقد غلا في التأويل جدا ، ثم صنفت الكتب والمختصرات لدى الاشعرية ، على هذا النحو من تأويل الصفات إلاّ السبع ، وقد تذكر فيها بعض الصفات الخبرية على أنه قول ثان للأصحاب ولأبي الحسن (2)
ولهذا فإن بعض المفسرين ممن ينتسب إلى هذا المذهب بعد هؤلاء - مثل البيضاوي - يؤولون هذه الصفات خلافاً للمتقدمين من أئمة المذهب ، وقد يذكرون الإثبات على أنه قول ثان للأصحاب(3)
__________
(1) المجموع لابن تيميه 6/52 و 16/407و 12/203 وانظر كذلك نقض التأسيس ( 2/15و 2/34ـ 35) .
(2) انظر المواقف للايجي ص269 مع أن قوله واحد فيها وهو الإثبات (6) ، المجموع ( 12/203) .
(3) البيضاوي 3/12 .(1/6)
أما الصفات الفعلية التي تقوم بذات الله تعالى بمشيئته واختياره وقدرته كالمجيء ، والنزول ، وطي السماوات ، وما شابه هذا من النصوص ، فلا يثبتونها ، ويؤولونها كلها ، حتى الكلام عندهم لا يكون بمشيئته ، واختياره ، ولا يتكلم إذا شاء ، بل هو صفة قديمة قائمة به لا تتعلق بالمشيئة ، ويسمونه الكلام النفسي ، وكذلك ليس يقوم به فعل هو الخلق ، بل الخلق هو المخلوق ، ويسمون هذه الأفعال حلول الحوادث بذاته ويعنون بالحادث ما يسبقه العدم ، وهم يمنعون هذا ولذلك يؤولون ما يدل على خلافه في الظاهر(1) .
وكذلك الصفات الذاتية الحديثة لا يثبتونها (2) لمعارضتها لأدلة عقلية ، وكذلك القرآنية عند من يؤولها ، وسيأتي ذكر أدلتهم في موضعها .
والماتوريدية يوافقون الأشعرية في أكثر ما تقدم ، إلاّ أنهم يثبتون صفتي الوجه واليد (3).
وصفة يسمونها ( التكوين ) يحصل بها الإيجاد والخلق(4) ، وكذلك صفة الحكمة ، عندهم صفة وجودية زائدة على الذات خلافاً للأشعرية الذين يذهبون إلى أنها عبارة عن إتقان العمل وإحكامه(5) .
القول الثالث :
__________
(1) ينظر في مذهبهم في الأفعال الاختيارية التي يطلقون عليها حلول الحوادث ، قواعد العقائد للغزالي ص 185، الإرشاد للجويني ص 45 ، وص 62، والتبصير في الدين للاسفرائيني ص 143، وقال ابن تيميه : ( وذهب آخرون من أهل الكلام الجهمية ، وأكثر المعتزلة والاشعرية إلى أن الخلق هو المخلوق وليس لله عند هؤلاء صنع ولا فعل ولا خلق ولا إبداع إلا المخلوقات بأنفسها ) المجموع 5/529، وقال بل الآيات التي تدل على الصفات الاختيارية التي يسمونها حلول الحوادث كثيرة جدا ، المجموع 6/222، وذكر أنهم أولوا كثيرا من النصوص بسبب هذا القول ، المجموع 1/217/ 287.
(2) ابن تيمية المجموع 6/52.
(3) نظم الفرائد وجمع الفوائد في مسائل الخلاف بين الماتوريدية والاشعرية في العقائد لشيخ زادة 23.
(4) المصدر السابق 28 .
(5) المصدر السابق ص 18 .(1/7)
وهو قول النفاة ، وهم الذين ينفون أن يكون لله صفة زائدة على ذاته ، وأشهر من قال بهذا هم المعتزلة ، قال عبد القاهر البغدادي رحمه الله عن المعتزلة: (يجمعها كلها في بدعتها أمور ، منها نفيها كلها عن الله عز وجل صفاته الأزلية وقولها بأنه ليس لله عز وجل علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا صفة أزلية)(1) .
ومع اتفاقهم على نفي أن يكون لله صفه أزلية ، اختلفت عباراتهم عنها ، فمنهم من جعلها وجوها للذات كأبى الهذيل العلاف ، فالله عنده عالم بعلم هو ذاته ، وقادر بقدرة هي ذاته وكذلك سائر ما أثبته (2) .
ومنهم من جعلها تؤول إلى معنى السلب فمعنى كونه عالماً أي ليس بجاهل ومعنى كونه قادراً أي ليس بعاجز ، وهو قول النظام(3) ومنهم من جعلها أحوالاً وراء الذات كأبى هاشم الجبائى ، قال لله عالمية وقادرية لا علماً وقدرة ، وهذه الأحوال عنده لا موجوده ولا معدومة(4) .
والجهمية توافق المعتزلة في نفي الصفات(5) ، والذي دعا المعتزلة إلى نفي أن يكون لله تعالى صفات لم يزل متصفاً بها كالعلم والقدرة والسمع والبصر ، ظنهم أن ذلك تعدد فيما هو قديم فيلزم أن يكون لله تعالى مماثل في أخص وصفه وهو القدم (6) .
هذا ، ومن الواضح أن أصحاب القول الأول قد انطبق قولهم على جميع الأدلة السمعية ، ولهذا فإنه يقولون : إن صفات الله تعالى ليست من المتشابه ، إن قصد به مالا يعلم معناه إلا الله تعالى ، بل هي معلومة المعنى ، فهي صفات لله تعالى لائقة بجلاه لاتماثل صفات خلقه .
__________
(1) الفرق بين الفرق ص 114 .
(2) المصدر السابق 127، والملل والنحل 1/49.
(3) مقالات الإسلاميين 166.
(4) الملل والنحل 1/80 .
(5) المصدر السابق 1/86.
(6) التمهيد للباقلاني ص 236، ومختصر لوامع الأنوار البهية لمحمد بن سلوم 157، ومجموع ابن تيمية 3/70 .(1/8)
وإن كان قد يطلق على بعض نصوصها أنها من المتشابه ، بمعنى أنه قد يشتبه على مقتصد في العلم معاني بعض نصوص الصفات ، لغموض أو احتمال لعدة معان ، فبرد الراسخين في العلم له إلى المحكم يتبين المعنى المراد ، شأنه في ذلك شأن غيره من أبواب العلم ، وتأويل هذا المتشابه هو تفسيره والراسخون في العلم يعلمونه .
كما يقولون إن بعض نصوص الصفات قد يكون فيها اشتباه ، من جهة إشتباه الشيء بالشيء ، فصفات الله قد يطلق مثلها على المخلوق ، فيحصل الاشتباه من ذلك لغير الراسخين في العلم ، في هذه النصوص الموهمة للتماثل بين الباري والبرية ، ويصح أن يقال إن هذا المتشابه لا يعلم تأويله إلاّ الله إذا جعل التأويل هو حقائق صفات الله وكيفياتها ، وبهذا يندفع التماثل المتوهم .
هذا على قول السلف الذين يثبتون جميع الصفات ، أما القولان الآخران ، فلهما شأن آخر ، فإن أصحابهما قد اصطلحوا على تسمية حمل الظاهر على المعنى المرجوح تأويلاً ، فكان لهذا تأثير في جعل نصوص الصفات من المتشابه ، فإنه ينتج منه أن يكون المراد بها خلاف الظاهر ، إذا طبقت آية المحكمات والمتشابهات عليها .
ولعل صنيع القاضي عبد الجبار الهمداني في كتابه متشابه القرآن ، يمثل موقف المعتزلة من علاقة مسائل العقيدة على وجه العموم والصفات على وجه الخصوص بالمتشابه ، فإنه جعل المتشابه هو الذي (يحتاج إلى زيادة فكر من حيث كان المراد به خلاف ظاهره )(1) ، ويعني بالفكر النظر في الأدلة العقلية ، كما صرح بأن المتشابه (متى امتنع حمله على الظاهر ، فالواجب النظر فيما يجب أن يحمل عليه ، والنظر هو أن تطلب القرآن ...فان كان السامع قد مهدت له الأصول وعرف العقليات وما يجوز فيها وما لا يجوز ، وعلم ما يحسن التكليف فيه وما لا يحسن وعلم من جمل اللغة ما يعرف به أقسام المجاز ومفارقتها للحقائق ، حمله على ما أريد به في الحال)(2)
__________
(1) متشابه القرآن للهمداني 1/32 .
(2) المصدر السابق 1/35 .(1/9)
ولما ذكر ما يتميز به المحكم ، ذكر أنه به يمكن أن يبين للمخالف في التوحيد ، أنه مخالف للقرآن ، وأنه قد تمسك بالمتشابه من القرآن وعدل عن محكمه(1) ، ومعلوم أنهم ـ أي المعتزلة ـ يعنون بالتوحيد نفي الصفات .
ولهذا فإنه يجعل في كتابه هذا مثل قوله تعالى { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: من الآية255] ، وقوله تعالى : { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: من الآية14] ، متشابهاً ويصرح أن المراد خلاف الظاهر(2).
وما حمله على هذا إلاّ قيام ما يطلق عليه الدليل العقلي عنده على امتناع أن يكون لله صفة العلم ، كما سيأتي لاحقا عند ذكر أدلتهم على نفي الصفات .
وهذا التصرف منه مع ما تقدم من النقل عنه ، يدل على أنه يجعل كل ما يخالف اعتقاده الذي أسسه على محض العقل متشابهاً يراد به خلاف الظاهر ، وقد ذكر في كتابه هذا أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه ، فهذا يدل على أنه يجعل ما يخالف قوله متشابها ليتمكن من صرفه عن ظاهره بالتأويل الذي يرى إمكان معرفته ، فيبدو أن هذه هي علاقة المتشابه بآيات الصفات عند المعتزلة .
وقد صنع أصحاب القول الثاني مثل هذا الذي تقدم عن المعتزله ، مثال ذلك: نفيهم صفة العلو واعتبارهم كل ما دل عليه من القرآن متشابهاً ، كقوله تعالى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [الأنعام: من الآية18] ، وقوله {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [النحل: من الآية50] ، وقوله { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: من الآية54] ، وقوله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: من الآية16] ، وقوله {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: من الآية4] ، وقوله {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ } [لأعراف: من الآية206].
__________
(1) المصدر السابق 1/9.
(2) المصدر السابق 1/132، 1/375 .(1/10)
وكذلك كل ما جاء في السمع في ظاهر يدل على إثبات ما نفوه أو نفي ما أثبتوه بالأدلة العقلية جعلوه متشابها ، كما فعل الرازي في تفسيره حيث قال ( فثبت بما ذكرنا أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلاّ عند قيام القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال ) ، ثم جعل هذا المعنى المرجوح هو تأويل المتشابه فقال بعد هذه العبارة (فعند هذا يتعين التأويل)(1) .
ومثل لهذا بقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وقال {فمن تمسك به كان متمسكا بالمتشابهات} بعد أن قدم الدليل العقلي على استحالة ظاهره عنده(2).
فهذا - مع ما يفعله سائر من يجعل نصوص ما لا يثبته من الصفات من المتشابه ثم يحتج بآية { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ .. } الآية [آل عمران: من الآية7]. على أنها على غير ظاهرها - من أصحاب هذا القول أمثلة تكشف أن هؤلاء المخالفين لما كان عليه السلف في باب الصفات ، قد أقحموا باب صفات الله تعالى في المتشابه ، ليتمكنوا من صرفها عن ظاهرها - الذي يزعمون استحالته عندهم بالأدلة العقلية - محتجين بإخبار الآية أن للمتشابه تأويلا .
لكن هؤلاء انقسموا إلى قسمين :
1- قسم لا يعين التأويل - أي المعنى المخالف للظاهر - مع القطع بعدم إرادة الظاهر ويحتج هؤلاء بأن الوقف في الآية على قوله { إلاّ الله } ، وهكذا يستريحون من هذه النصوص المثبته لما نفوه ، وينزلونها منزلة العدم ، بل يلزمهم أنها شر من العدم لأنها - على هذا الرأي - إنما جاءت لإظهار الباطل ، وإرباك العقيدة فحسب .
__________
(1) تفسير الرازي 1/169 .
(2) المصدر السابق 7/148.(1/11)
2- والقسم الآخر يعينه لأن الوصل هو الصحيح في الآية عندهم ، والراسخون في العلم يعلمون التأويل وهؤلاء أحسن ظنا في القرآن من أولئك(1) .
وأصحاب القول الأول ربما نسبوا قولهم هذا إلى السلف ، وربما نسب القول الثاني إليهم أيضاً ، والسر في هذا أن موافقتهم تعظمه النفوس المؤمنة لما جعل الله لهم من لسان صدق في الأمة ، ومن أمثلة هذا قول الزركشي في البرهان عن الآيات المتشابهات في الصفات :
اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث ثلاث فرق :
أحدهما : أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها ، وهم المشبهه .
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول لا يعلمه إلاّ الله ، وهو قول السلف .
الثالث: أنه مؤوله وأولوها على ما يليق به .
والأول باطل والأخيران منقولان عن الصحابة .. ثم قال (وممن نقل عنه التأويل عليّ ، وابن مسعود وابن عباس وغيرهم)(2) .
وقد نسب إليهم أيضاً أنهم لا يزيدون على تلاوة الآيات وقراءة الأحاديث في هذا الباب ، وسيأتي ذلك لاحقا .
ومن المعلوم عن المؤمنين بهذا الدين الحق أن الحق لا يخرج عن إجماع السلف ، فالقول الصحيح هو ما أجمعوا عليه .
وقد نسب إليهم قولان متناقضان ، قول الزركشي هذا ، وما ذكر أول المبحث ، فإذا تحقق مذهبهم وجب المصير إليه ، وتحقيقه هو المبحث الثاني .
المطلب الثاني
تحقيق القول الصحيح في هذا الباب
وبيان أسباب الخطأ في نسبة مذهب السلف الصحيح إليهم
وهو لا يخرج كما تقدم عن إجماع السلف فيجب أولاً تحقيق مذهبهم فإن صح عنهم إجماع في هذا الباب فهو القول الصحيح ، ثم تذكر بعد ذلك الأدلة على صحته من غير الإجماع .
__________
(1) من القائلين بالأول الجويني في أحد قوليه كما في النظامية ص 33 ، والرازي كما في التفسير 7/176، وبالثاني أبو بكر بن فورك كما هو واضح في كتابه مشكل الحديث وتأويله .
(2) البرهان للزركشي 2/78ـ79 .(1/12)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ( ومذهب السلف أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي ، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ....وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله)(1) .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله (هذه الصفات من الاستواء والإتيان والنزول قد صحت بها النصوص ونقلها الخلف عن السلف ولم يتعرضوا لها برد ولا تأويل بل انكروا على من تأولها مع إصفاقهم على أنها لا تشبه نعوت المخلوقين وأن الله ليس كمثله شيء)(2) .
وقال أيضاً ( قد فسر علماء السلف المهم من الألفاظ وغير المهم وما أبقوا ممكنا فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً لبادروا إليه ، فعلم قطعاً أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحق لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ونسكت إقتداء بالسلف معتقدين أنها صفات لله تعالى استأثر الله بعلم حقائقها وأنها لا تشبه صفات المخلوقين)(3) .
وقد دل على أن هذا مذهب السلف في الصفات - مع نقل هذين الإمامين المشهود لهما برسوخ القدم في معرفة المتقدمين ومذاهبهم - نقول كثيرة من أهل العمل بالآثار الذين أفنوا أعمارهم في ضبطها ونقلها ومعرفة صحيحها من سقيمها وفيما يلي طائفة منها ، وقد قصد بعض التطويل فيها ليعلم بذلك ما في كلام الزركشي المتقدم من التسامح في النقل ، وهي على ثلاثة أضرب :
الضرب الأول :
فيه حكاية ما كان عليه السلف ، أو أهل السنة ، أو أهل السمة والحديث عامة في نصوص الصفات بالجملة ، ولا ريب أن ما كان عليه أهل السنة والحديث هو مذهب السلف .
الضرب الثاني :
__________
(1) مجموع الفتاوى 5/ 26 .
(2) سير أعلام النبلاء 11/376 .
(3) المصدر السابق 10/506 .(1/13)
فيه حكاية ما كانوا عليه في بعض الصفات خاصة مما هو من جنس ما يذهب أهل التأويل إلى تأويله بما يدل على مذهبهم في سائرها .
الضرب الثالث :
نصوص خاصة عن أئمة السلف في هذا الباب تدل على أنهم لا يصرفون نصوص الصفات عن ظاهرها ويعلمون معانيها .
أما الضرب الأول : فمن ذلك :
(1) قال الأوزاعي رحمه الله ( كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله عز وجل فوق عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته )(1) .
ومعلوم أنه لا يريد مجرد الإيمان بحروف هذه الجملة (الله عز وجل فوق عرشه) ، ولكنه رحمه الله حكى ما كان عليه التابعون واتباعهم من الإيمان بعلوّ لله على عرشه فهما مما أخبر به سبحانه عن نفسه أنه استوى على عرشه وأنه في السماء ، وقوله (نؤمن بما ورد في السنة من صفاته ) لا يريد قطعا السنة فحسب ، وإنما أراد التنبيه بالسنة على القرآن ، فإذا كان ما في السنة من نصوص الصفات يجب الإيمان به فما في القرآن أولى وأحرى .
(2) قال الإمام الشافعي رحمه الله ( القول في السنة التي أنا عليها ، ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ، ... وأن الله على عرشه في سمائه يقرب من خلفه كيف يشاء ، وينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء ... وذكر سائر الاعتقاد)(2) .
__________
(1) رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 515 ، وقال ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية إسناده صحيح 43 .
(2) مختصر العلو للألباني ص 176 .(1/14)
(3) قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله ( جملة ما عليه أهل الحديث والسنة الإقرار ...ثم قال وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون من ذلك شيئاً .... ثم قال وأن الله سبحانه على عرشه كما قال {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأن له يدين بلا كيف ، كما قال {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: من الآية75]، وكما قال {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: من الآية64] ، وأن له وجها كما قال {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، .... ثم قال ( ويقرون أن الله سبحانه يجيء يوم القيامة كما قال {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22} (1) .
(4) قال الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي (اعلموا رحمكم الله أن مذاهب أهل الحديث ، أهل السنة والجماعة ، الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله ...خلق آدم بيده ويداه . مبسوطتان بلا اعتقاد كيف واستوى على العرش بلا كيف ...وذكر سائر اعتقاد أهل السنة )(2) .
(5) قال الإمام أبو سليمان حمد بن محمد الخطابي رحمه الله ( أما ما سألت عنه من الكلام في الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة الصحيحة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها ) .
قال الذهبي بعد نقله قول الخطابي هذا ( وكذا نقل الاتفاق عن السلف في هذا الحافظ أبو بكر الخطيب ثم الحافظ أبو القاسم التيمي الإصبهاني)(3)
__________
(1) مقالات الاشعري 290ـ295 .
(2) مختصر العلو للذهبي 248 ، وقال في ص 249كان الإسماعيلي شيخ الإسلام رأسا في الحديث والفقه ، وقال أبو إسحاق في طبقات الشافعية ( جمع أبو بكر بين الفقه والحديث ورئاسة الدين والدنيا.
(3) المصدر السابق 257 .(1/15)
(6) قال الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله (أهل السنه مجمعون على الصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلاّ أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك )(1) .
(7) قال الحافظ أبو بكر الخطيب رحمه الله (أما بالكلام في الصفات فأما ما روى منها في السنن والصحاح فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها)(2) .
وانظر إلى التفاوت بين نقل هؤلاء الأئمة الحفاظ عن السلف أنهم يجرون نصوص الصفات على ظاهرها وبين نسبة هذا القول إلى المشبهة .
(8) قال الحافظ أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم تبارك وتعالى بصفاته التي نطق بها كتابه وتنزيله وشهد له بها رسوله على ما وردت به الأخبار الصحاح ونقله العدول الثقات ولا يعتقدون تشبيها لصفاته بصفات خلقه ولا يكيفونها تكييف المشبهه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه تحريف المعتزله والجهمية فيقولون إنه خلق آدم بيده كما نص سبحانه عليه في قوله عز من قائل {يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ..وذكر سائر الاعتقاد)(3) .
قال ابن قدامه في ذم التأويل بعد ذكر مقالة الصابوني ( وذكر الصابوني الفقهاء السبعة ومن بعدهم من الأئمة وسمي خلقاً كثيراً من الأئمة وقال : كلهم متفقون لم يخالف بعضهم بعضا ولم يثبت عن واحد منهم ما يضاد ما ذكرناه)(4) .
__________
(1) المصدر السابق ص 268 .
(2) المصدر السابق 272 .
(3) رسالة عقيدة السلف وأصحاب الحديث للحافظ الصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1/105.
(4) ذم التأويل ص 17 .(1/16)
(9) قال الإمام أبو عيسى الترمذي إثر ما روى حديث أبي هريرة ( إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها ) : ( قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات ونزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا قالوا : قد ثبتت الروايات في هذا ونؤمن به ولا نتوهم ولا نقول كيف ؟ هكذا روى عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث أمروها بلا كيف ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة)(1) .
أما الضرب الثاني ، فمنه :
(1) قال قتيبة بن سعيد رحمه الله ( هذا قول الأئمة في الإسلام والسنة والجماعة : نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه كما قال جل جلاله { الرحمن على العرش استوى } قال الذهبي رحمه الله (فهذا قتيبة في إمامته وصدقه قد نقل الإجماع على هذه المسألة وقد لقى مالكا والليث وحماد بن زيد والكبار )(2) .
(2) قال الإمام إسحاق بن راهوية رحمه الله (قال الله تعالى { الرحمن على العرش استوى } إجماع أهل العلم أنه فوق العرش استوى ، ويعلم كل شيء في أسفل الأرض السابعة )(3) .
__________
(1) جامع الترمذي : 3/24ـ 25 .
(2) مختصر العلو للذهبي ص 187 ، ثم قال الذهبي عن قتيبة : عمر دهرا ، وازدحم الحفاظ على بابه ، قال لرجل : أقم عندنا هذه الشتوة ، حتى أخرج لك عن خمسة أناس مائة ألف حديث ، وهذا يدل على سعة علم هؤلاء بالآثار لان هذا العدد يشمل أقوال الصحابة والتابعين وهو باعتبار طرق الأخبار ، فكل طريق يسمونه حديثا وكذلك يعدون المكرر ، قال الذهبي ( قال أبو عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له ما يدريك ؟ قال ذاكرته فأخذت عليه الأبواب ، فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبى عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر والأثر وفتوى التابعي ، وما فسر ونحو ذلك ) سير أعلام النبلاء 11/187 .
(3) مختصر العلو للذهبي ص 194 .(1/17)
(3) قال الحافظ عمر بن عبد البر رحمه الله (أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل قالوا في تأويل قوله تعالى {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: من الآية7] هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج به)(1) .
(4) قال الحافظ الكبير أبو نعيم أحمد بن عبد الله الإصبهاني (طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ومما اعتقدوه ...ثم قال وأن القرآن في جميع الجهات مقروءاً ومحفوظاً ، ومسموعاً ومكتوباً وملفوظاً كلام الله حقيقة لا حكاية ولا ترجمة ...وأن الأحاديث التي ثبتت في العرش واستواء الله عليه يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو سبحانه مستو على عرشه في سمائه دون أرضه ) ، . قال الذهبي (فقد نقل هذا الإمام الإجماع على هذا القول ولله الحمد )(2) .
(5) قال الحافظ أبو عمر أحمد بن محمد الطلمنكي (أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله {وهو معكم أينما كنتم } ، ونحو ذلك من القرآن أنه علمه وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وقال أهل السنة في قوله {الرحمن على العرش استوى } ، الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز)(3) .
__________
(1) المصدر السابق 268 .
(2) المصدر السابق 261 .
(3) المصدر السابق 264 .(1/18)
(6) قال الإمام أبو عبد الله القرطبي صاحب التفسير الكبير (وقد كان السلف الأول رضي الله عنهم لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى كما نطق كتابه وأخبرت رسله ولم ينكر أحد من السلف أنه استوى على العرش حقيقة وخص العرش بذلك لأنه أعظم المخلوقات وإنما جهلوا كيفية الاستواء فإنه لا تعلم حقيقته قال مالك: الاستواء معلوم - يعني في اللغة - والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة )(1) .
الضرب الثالث : ومنه :
مما يدل على أن السلف تكلموا في معاني نصوص الصفات ، ولم يؤولوها ما ورد من ألفاظ من عند أنفسهم ، تخالف ألفاظ النصوص في هذا الباب ، وتصرفهم في ذلك بعبارات دالة على نفس المعنى ، وكذلك ما ورد عنهم من التصريح بعدم التأويل ، وهذا كثير جداً ، ومن أمثلته عن أشهر علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم :
(1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (الكرسي موضع القدمين)(2) .
__________
(1) قال ابن حجر رحمه الله ( أخرج البيهقي بسند جيد عن عبد الله بن وهب قال كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبد الله { الرحمن على العرش استوى } ؟ كيف استوى ، فأطرق مالك فأخذته الرحضاء ، ثم رفع رأسه فقال : الرحمن على العرش استوى ، كما وصف نفسه ، ويقال كيف ، وكيف عنه مرفوع ، وما أراك إلا صاحب بدعة ، أخرجوه ) فتح الباري 13/407، وقال الذهبي هذا ثابت عن مالك ، مختصر العلو 141، وأنظر الرواية في الأسماء والصفات للبيهقي 515 .
(2) رواه الحاكم وقال على شرط الشيخين ووافقه الذهبي 2/282، ورواه أيضا ابن خزيمة في التوحيد 1/249 ، ورواه عبد الله بن الإمام احمد في كتاب السنة 1/301 ، وقال الذهبي في العلو رجاله ثقات أنظر مختصر العلو 102 .(1/19)
(2) وعنه أيضاً قال ( تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في الله فإن بين السماء السابعة إلى كرسيه سبعة آلاف نور والله فوق ذلك تبارك وتعالى)(1) .
(3) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال ( ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وما بين السماء الثالثة والتي تليها وبين الأخرى مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام ، وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام ، والعرش فوق الماء والله عز وجل فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه )(2) .
(4) وعنه قال ( إن العبد ليهم بالأمر من التجارة والإمارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة ( اصرفوه عنه فإنه إن يسرته له أدخلته النار)(3) .
(5) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ( خلق الله أربعة أشياء بيده : العرش والقلم وعدن وآدم ثم قال لسائر الخلق كن فكان )(4) .
__________
(1) رواه البيهقي في الأسماء والصفات 530 ، وأبو الشيخ في العظمة 1/212، وقال ابن حجر موقوف وسنده جيد الفتح 13/383 .
(2) رواه الدارمي في الرد على المريسي 105، والبيهقي في الأسماء والصفات 507، وأبو الشيخ في العظمة ، 2/688، وابن خزيمة في التوحيد 1/243، وقال الذهبي إسناده صحيح ، أنظر مختصر العلو ص 103 ، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية ص 100 ، وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح ، مجمع الزوائد 1/86 .
(3) رواه الدارمي في الرد على الجهمية 46، واللالكائي في السنة 4/668، وقال الذهبي إسناده قوي ، أنظر مختصر العلو 104، وصححه ابن القيم في اجتماع الجيوش ص 100 .
(4) رواه الدارمي في الرد على المريسي ص 35 ، قال حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عبيد بن مهران وهو المكتب حدثنا مجاهد به ، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات ، أنظر تراجمهم في التقريب وفق الترتيب 549، 367، 378، ومجاهد إمام مشهور .(1/20)
(6) عن جعفر بن أبي المغيرة قال ( سألت سعيد بن جبير عن الألواح من أي شيء كانت ؟ قال : من ياقوته كتابه الذهب كتبها الرحمن بيده فسمع أهل السموات صريف القلم وهو يكتبها )(1) .
(7) وعن مجاهد في قوله عز وجل { وقربناه نجيا } قال : ( بين السماء السابعة وبين العرش سبعون ألف حجاب فما زال موسى عليه السلام يقرب حتى كان بينه وبينه حجاب فلما رأى مكانه وسمع صريف القلم {قال رب أرني أنظر إليك} )(2) .
(8) وعنه أنه فسر استوى بمعنى علا على العرش(3) .
(9) قال الاوزاعي : (كان الزهري ومكحول بقولان أمروا هذه الأحاديث كما جاءت )(4)
(10) عن أبي مطيع قال : ( سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقال كفر لأن الله يقول {الرحمن على العرش استوى} وعرشه فوق سماواته )(5) .
__________
(1) رواه الطبري 13/127، وعبد الله بن أحمد في السنة 1/294، وأبو الشيخ بن حيان في العظمة 1/495، كلهم من طريق أبي الجنيد عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير به ، وأبو الجنيد قال عنه يحيى بن معين لا بأس به ، وقال أبو حاتم لا بأس محله الصدق التهذيب ( 9/354) ، وجعفر بن أبي المغيرة قال الذهبي كان صدوقا ، الميزان ( 1/417) وقال في التهذيب ( نقل ابن حبان في الثقات عن أحمد توثيقه ) 2/108 فالإسناد حسن .
(2) رواه البيهقي في الأسماء والصفات ص 508 ، وأبو الشيخ في العظمة ( 2/690) وقال الذهبي هذا ثابت عن مجاهد إمام التفسير ، مختصر العلو ص 132 .
(3) أورده البخاري معلقا وجزم به ، أنظر فتح الباري 13/405، وقال ابن حجر في تغليق التعليق ( قال الفريابي في تفسيره حدثنا ورقاء بن أبي نجيح عن مجاهد فذكره ) 5/345 انتهى ، وهذا إسناد صحيح ورقاء قال عنه الذهبي صدوق أنظر رسالة ( المتكلم فيهم بما لا يوجب الرد ) وقال عنه ابن حجر صدوق التقريب 580 .
(4) ذم التأويل ص 18 ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/431 .
(5) مختصر العلو للذهبي 136 .(1/21)
(11) قال الإمام أبو جعفر الطحاوي في العقيدة التي ألفها (ذكر بيان السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة وأبي يوسف وأبي محمد رضي الله عنهم ... ثم ذكر في هذه العقيدة مثل ما تقدم عن السلف رضي الله عنهم وهي العقيدة المشهورة بالطحاوية .
(12) وعن سفيان الثوري قال الذهبي ( وقد بث هذا الإمام الذي لا نظير له في عصره شيئاً كثيراً من أحاديث الصفات ومذهبه فيها الإقرار والإمرار والكف عن تأويلها)(1) .
(13) وقال مالك (الله - عز وجل - في السماء وعلمه في كل مكان لا يخلو منه شيء وتلا هذه الآية {وما يكون من نجوي ثلاثة إلاّ هو رابعهم ولا خمسة إلاّ هو سادسهم} )(2) .
(14) وعن أحمد بن نصر أنه سأل سفيان بن عيينة فقال : حديث عبد الله (إن الله يجعل السماء على إصبع) وحديث (إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ) ، ( وإن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ) ، (وإنه عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة ) ونحو هذه الأحاديث فقال : هذه الأحاديث نرويها ونقر بها كما جاءت بلا كيف )(3) .
(15) وقال يزيد بن هارون (من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي ) قال الذهبي (والعامة ) مراده بهم جمهور الأمة وأهل العلم )(4) .
(16) وقال الوليد بن مسلم (سألت مالك بن أنس والثوري والليث بن سعد و الأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات فقالوا أمروها كما جاءت )(5) .
__________
(1) مختصر العلو 136 .
(2) السنة لعبد الله بن احمد 1/ 107 .
(3) ذم التأويل لابن قدامة 20 .
(4) مختصر العلو 167 .
(5) روه الدارقطني في الصفات 75، والآجري في الشريعة ص 314، والبيهقي في الأسماء والصفات 453، وابن قدامة في ذم التأويل 20 .(1/22)
(17) وقال الفضيل بن عياض (ليس لنا أن نتوهم في الله كيف وكيف لأن الله وصف نفسه فأبلغ فقل { قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد } فلا صفة أبلغ مما وصف الله به نفسه ، وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة ، وهذا الاطلاع ، كما شاء أن ينزل وكما شاء أن يضحك فليس لنا أن نتوهم أن كيف وكيف ، وإذا قال لك الجهمي أنا أكفر برب يزول عن مكانه فقل أنت أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء ) (1) .
(18) وأما الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه فإن مذهبه في عدم تأويل الصفات وإجراؤها على ظاهرها متواتر عنه ولم يزل جمهور الحنبلية على هذا القول .
خلاصة ما تقدم :
فهذه النصوص عمن هم من أعلم الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الدين وهم كذلك أهل الفتيا والاجتهاد في عصور السلف وما بعده ، تنطق بوضوح متواطئة على أن مذهب السلف الذي لا إختلاف فيه ، هو إجراء نصوص الصفات على ظاهرها مع نفي التشبيه عن الخالق ، وأنهم فهموا من هذه النصوص التي لا يفرقون بين القرآنية والحديثية منها ، أنها تخبر عن صفات الله تعالى الذاتية ، والفعلية ، وهي معلومة المعنى عندهم ، ولولا هذا لما قال ابن عباس (الكرسي موضع القدمين) ولما قال (إن الله فوق النور الذي فوق السموات ) أخذا من أدلة العلو ، ولما قال ابن مسعود مثل هذا ، ولاصح أن يستثني ابن عمر من خلق الأشياء بكلمة كن ، أربعة أمور فحسب ، ويجعلها مما خلقه الله تعالى بيده ، ولا قال سعيد ين جبير (كتبها الرحمن بيده ) ، ومجاهد استوى بمعنى (علا على العرش) ، ولا قال من بعد هؤلاء ، بائن من خلقه ، مستو على عرشه ، يقرب من خلقه ، وما يشبه هذه الألفاظ .
__________
(1) رواه الاثرم في كتاب السنة نقلا عن درء تعارض النقل والعقل 2/23 .(1/23)
ولو أنهم كانوا لم يفهموا من هذه النصوص شيئاً ، أو كانوا يؤولونها لما جاز هذا منهم ، ولصرحوا بذلك وعلمه من هم أعلم الناس ، بأقوالهم وهم الذين تقدم الاعتماد عليهم في النقل.
وقد طبعت مؤلفات كثيرة ، ذكرت مذهب السلف كما ذكر هنا ، وسارت على طريقتهم في العقيدة وهي كثيرة ، كالتوحيد لان خزيمة ، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي ، والسنة لابن أبي عاصم ، والسنة لعبد الله بن أحمد ، والسنة لمحمد بن نصر المروزي ، العلو للذهبي ، والرد على الجهمية للدارمي ، والنقض على المريسي له أيضا ، والشريعة للاجري ، وعقيدة السلف للصابوني ، والرد على الجهمية لابن منده ، وكتاب النزول والصفات للدارقطني ، وغيرها أيضا .
* الرد على من زعم أن السلف كانوا لا يعبرون عن معاني نصوص الصفات ، بغير تلاوتها المجردة ، لانهم لم يكونوا يفهمون منها شيئا :
وهذه الروايات الآنفة الذكر ، إنما قصد بها التمثيل فحسب ، لأن حصرها يتطلب جهداً كبيراً ويوسع البحث جداً ، مع أن هذا الأمر أوضح وأشهر من أن يتكلف له النقل ، لولا وجود من يدّعي خلافه ممن لم يمعن النظر في أقاويل الصحابة والتابعين في كتب التفسير والسنة.
ومن هؤلاء الزركشي رحمه الله كما تقدم عنه في آخر المبحث الأول ، أنه نسب إلى السلف مذهب أهل التأويل ، الذين يقولون ظاهر نصوص الصفات غير مراد، وحكى مذهب السلف ونسبه إلى المشبهة.(1/24)
وليس الإمام الزركشي رحمه الله ممن قصر علمه في الحديث ، لكن يبدو أنه قلد غيره في هذا النقل ، فإن بعض العلماء المتقدمين ، والمتأخرين ، ادعوا أن مذهب السلف ، لا يختلف مع مذهب الخلف في أن الظاهر من النصوص المدعى أنها توهم التشبيه غير مراد ، وأنها لا تدل على صفات الله ، إلاّ أن السلف يفوضون معانيها المراده ، ويلتزمون السكوت عن ذلك وعدم الخوض فيه ، وزاد بعضهم أن من مذهبهم عدم تصريف هذه النصوص ، ولا تغيير ألفاظها ، ولا تقديم ، وتأخير ، شيء من ذلك(1) .
وممن ادّعى ذلك أبو حامد الغزالي رحمه الله في إلجام العوام(2) ، والرازي في أساس التقديس(3) .
والبيجوري شارح جوهرة التوحيد قال ( ((أو فوض)) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره فبعد هذا التأويل فوض المراد من المعنى الموهم إليه تعالى على طريقة السلف وهم من كانوا قبل الخمسمائة وقيل القرون الثلاثة ، الصحابة والتابعون واتباع التابعين وطريقة الخلف أعلم وأحكم)(4) .
ومن المتأخرين ، صاحب كتاب بعنوان : متشابه القرآن(5) .
وقد ذكر في هذا الكتاب مما ينبغي التوجه بالرد عليه ، أن مما يتفرع على مذهب السلف هو عدم تغيير النص الوارد في هذا الباب ، يريد عدم روايته بالمعنى ، ومثل لذلك بأن يقال استوى على العرش ، ولا يقال فوق العرش(6) .
وأعجب شيء زعم هؤلاء الذين يزعمون أن السلف لم يكونوا يغيرون النص الوارد في باب ذكر صفات الله تعالى ، لأنهم كانوا يعاملونها معاملة نصوص بلا معنى.
__________
(1) هو الإمام الغزالي في إلجام العوام ص 70 .
(2) المصدر السابق ص 66 .
(3) ص 182.
(4) 56ـ57 .
(5) ص 115 .
(6) 122ـ 123 .(1/25)
يزعمون أن هذا هو مذهب السلف ، والكتب طافحة بالروايات التي يتصرفون فيها بألفاظهم ، لا سيما في مسألة العلو ، وأشهر كتاب في ذلك كتاب العلو للحافظ الناقد الذهبي وقد تقدم بعض الأمثلة منه ، ولو طولب صاحب كتاب متشابه القرآن ، بنص واحد عن أحد من السلف في النهي عن تغيير ألفاظ نصوص الصفات وأن لا يقال فوق العرش لما قدر عليه ، وغاية ما أمكنه أن يأتي به ليبرهن على صحة دعواه بعض الأقوال التي توهم ما أراد إيهامه ، من أن السلف كانوا لا يفقهون معنى هذه النصوص وهي في الحقيقة ، إذا فسرت بأقوال أخرى لهم ، تبين أنها دالة على ضد ما أراده وهذه الأقوال هي :
(1) قول سفيان بن عيينة (كل ما وصف الله به نفسه فتفسيره تلاوته والسكوت عليه ) ، وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات(1) .
وليس فيه أن آيات صفات لا يعلم معناها بدليل قوله إنها مما وصف الله به نفسه ، فقد صرح أنها من صفات الله ، فمعنى قوله (تفسيره تلاوته أي : أن معناه واضح ، وقوله (والسكوت عليه) أي : لا يؤول ويصرف عن كونه صفة ، ولم يرد عنه أن هذه النصوص لا يعلم المراد منها ، ولا تغير ألفاظها ، بل قد ورد عنه ما ينقض هذه الدعوى فقد قال الذهبي في كتاب السير(2) : قال الحافظ ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الفضل بن موسى(3) ، حدثنا محمد بن منصور الجواز(4) قال رأيت سفيان بن عيينة ، سأله رجل ما تقول في القرآن ، قال (كلام الله منه خرج وإليه يعود) ، وأين في القرآن لفظ (منه خرج) الذي يمنع منه أهل التأويل ، أما المعتزلة ، فأن القرآن مخلوق خلقه في غيره ، وأما غيرهم فقد صرح في شرح العقائد النسفية أن القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق لله وأن الله لا يسمع منه كلام(5) .
__________
(1) 516 .
(2) 8/466 .
(3) قال ابن أبي حاتم ( كتبت عنه وهو صدوق ) الجرح والتعديل 8/60 .
(4) ثقة انظر التقريب 508 .
(5) ص 94ـ 95 .(1/26)
فكأنما سفيان قد أراد بقوله إبطال القولين ، وهو دليل على أنه فهم من النصوص المخبرة عن كلام الله ، أن الله تكلم بالقرآن حقيقة ، خرج منه فسمعه جبريل وموسى وغيرهما من أصفيائه عليهم السلام .
(2) قول الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ومالك والثوري والليث بن سعد (أمروها كما جاءت بلا كيف ) وقد تقدم(1) ، وليس في هذا ما ادعاه ، أما الأوزاعي فقد قال (كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله على عرشه ونؤمن بما ورد في السنة من صفاته)(2) .
وقد أنكر من يزعم أن مذهب السلف إمرار نصوص الصفات ، من غير تغير في ألفاظها ، التعبير عن معانيها بغير التركيب الوارد ، حتى أنكر بعضهم أن يقال فوق العرش ، فليت شعري ، كيف يفسر هؤلاء مقالة الأوزاعي هذه .
وأما مالك فقد تقدم قوله (الله عز وجل في السماء ، وعلمه في كل مكان)(3) ، وأما الثوري فقد تقدم قول الشافعي (القول في السنة التي أنا عليها ورأيت عليها الذين رأيتهم مثل مالك وسفيان وغيرهما ، فذكر أن الله على عرشه في سمائه )(4) .
(3) قول مالك ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) وقد رواه البيهقي في الأسماء والصفات(5) ، وقوله غير مجهول : أي معلوم كونه صفة لله ، يبين هذا ، الرواية التي جوّد إسنادها ابن حجر(6) ، وقد رواها البيهقي أيضاً(7): قال مالك (الرحمن على العرش استوى كما وصف به نفسه ولا يقال كيف ) فذكر أن الاستواء صفة لله ، وترى الذين يزعمون أن مذهب السلف الجمود على ألفاظ نصوص الصفات من غير فهم لمعانيها ، يعرضون عن مثل هذه الرواية الصريحة ، ويوردون الروايات التي تخدم غرضهم فحسب .
__________
(1) انظر ص17 .
(2) وتقدم تخريجه انظر ص 19 هامش 2 .
(3) ص15 .
(4) ص 11
(5) ص516 .
(6) فتح الباري ( 13/407) .
(7) ص 515 .(1/27)
(4) قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن (الكيف مجهول والاستواء غير معقول ) وهذا اللفظ رواه البيهقي في المصدر السابق من طريق عبد الله بن صالح(1)، وقد روى هذا الخبر الذهبي في العلو(2) من طريق سفيان الثوري بلفظ ( الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ) ، ورواه اللالكائي(3) .
ومعلوم أن الثوري لو خالف - وحده - عبد الله بن صالح قدم عليه ، فكيف إذا وافقه ابن عيينة ، وهذا اللفظ ورد عن أم سلمة رضي الله عنها وقال الذهبي إنه ثابت عن ربيعة ومالك ولا يثبت عن أم سلمة(4) .
فهذه الرواية توضح المراد من قول الإمام مالك ، مع أنه يمكن التوفيق بينها وبين رواية ( الاستواء غير معقول ) ، بأن يقال معنى غير معقول ، أي غير معقول الكيفية ، وقوله الكيف مجهول يدل على إثبات صفة الاستواء إذ من لا يثبت الصفة لا يحتاج إلى أن يقول (الكيف مجهول) .
(5) قول الإمام أحمد (نؤمن ونصدق بها ولا كيف ولا معنى) ، عن حديث الرؤية والنزول ، وقصد الإمام نفي المعاني التي يذكرها أهل التأويل ، أي لا معنى غير ما يظهر منها كما قال ابن تيمية رحمه الله (لا كيف ولا معنى أي لا نكيفها ولا نحرفها بالتأويل)(5)، وماذا عسى أن تفسر رؤية المؤمنين ربهم بغير أن يقال يرى المؤمنون فذلك قال ( لا معنى ) أي لا معنى غير هذا.
ولا يزال العجب يتزايد ممن لا يعلم أن الإمام أحمد قد تكلم في معاني نصوص الصفات مع كثرة ذلك عنه ، ومما ورد عنه في ذلك ، قال الخلال ( وأنبأنا أبو بكر المروذي سمعت أبا عبد الله وقيل له إن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام فتبسم أبو عبد الله وقال ما أحسن ما قال عافاه الله)(6) .
__________
(1) ص 516 .
(2) ص 98 .
(3) من طريق سفيان بن عيينة بنفس لفظ الثوري 3/39 .
(4) العلو ص 65 .
(5) درء تعارض العقل والنقل 2/31 .
(6) المصدر السابق .(1/28)
ومن ذلك أيضاً مما يفسر معنى قوله (نرويها كما جاءت ) ما رواه الخلال أيضاً : (قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت ، قال أبي : بلى تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه الأحاديث نرويها كما جاءت )(1) .
ومما يبين أنهم يريدون بقولهم لا نفسرها أي ، لا نتكلم في الكيفية ، أو لا نفسرها بما يخرجها عن كونها صفة الله ما رواه الذهبي بإسناده عن أبي عبيد القاسم بن سلام الإمام المشهور ، أنه ذكر الباب الذي يروي فيه الرؤية ، والكرسي موضع القدمين ، وضحك ربنا ، وأين كان ربنا ، فقال (هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء ن بعضهم عن بعض وهي عندنا حق لا نشك فيه ، ولكن إذا قيل كيف يضحك ؟ وكيف وضع قدمه قلنا لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره)(2) .
وقال الأثرم (قلت لأبي عبد الله حدث محدث وأنا عنده بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه) وعنده غلام فأقبل على الغلام فقال : إن لهذا تفسيراً ، فقال أبو عبد الله (انظر إليه كما تقول الجهمية سواء)(3) .
فهذا مع ما تقدم يدل على أن معنى قولهم أمروها كما جاءت ، كما قال ابن تيمية (فقولهم أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد )(4) .
وأن معنى قولهم بلا تفسير ولا معنى كما قال ابن تيمية ( أي لا نكيفها ولا نحرفها بتأويل)(5) .
__________
(1) المصدر السابق ( 2/39) .
(2) سير أعلام النبلاء 10/505 ، ورواه الدارقطني في الصفات 68 .
(3) مختصر العلو 191 .
(4) مجموع الفتاوى 5/42 .
(5) درء التعارض 2/31 .(1/29)
فما يدعيه الذين يزعمون أن القول بأن الله فوق عرشه تحكم وقول أقرب إلى التجسيم ، قد يفسر بأنهم يتكلمون على وفق مذهبهم في هذا الباب ، أما أن يدعي مدع أن هذا موافق لمذهب السلف ، ويزيد على ذلك أن من مذهبهم عدم إطلاق مثل هذه العبارات ، ولا تغيير ألفاظ النصوص لأنهم يفوضون معانيها ، فهذا قول موغل في الخطأ ، كما دل على ذلك النقول الكثيرة المتقدمة ، لا سيما في باب العلو وقد وجد ذلك أيضاً في أشهر كتب السنة ، فقد روى البخاري عن زينب رضي الله عنها قالت (زوجني الله من فوق سبع سماوات)(1) .
هذا وقد أوقع هؤلاء الذين غلوا على السلف هذا الغلط ، أمران :
الأول : اعتمادهم على من يتعمد ترك الروايات الكثيرة الدالة على حقيقة مذهب السلف مع علمه بها ، ويظهر الروايات المحتملة ليثبت بذلك أن مذهب السلف هو اعتقاد عدم إرادة الظاهر ، ثم السكوت عن الخوض في المراد إيثاراً للسلامة ، ليبني على ذلك أن سكوتهم ليس دليلاً على التحريم ، وبهذا يوهم عدم الخلاف بين الخلف والسلف ، ومن هؤلاء الكوثري كما دل على ذلك تعليقه على ( تعيين كذب المفتري )(2) ومقدمته لكتاب الأسماء والصفات للبيهقي ، وتعليقه على النظامية(3) ، وقد أطنب الشيخ المعلمى في بيان تلبيسه في سبيل أن ينصر مذهبه(4) .
والثاني : اعتماده على من ليس له حظ عظيم في العلم بالأخبار السلفية كالغزالي والرازي رحمهما الله .
* أسباب الخطأ في نقل مذهب السلف :
__________
(1) فتح الباري 13/4040 .
(2) حاشية ص 28 .
(3) ص 33ـ 34 .
(4) في كتابه التنكيل لما في تأنيب الكوثري من الأباطيل ، كما بين ذلك أيضا فضيلة الشيخ الدكتور علي بن ناصر الفقيهي في تعليقه على رسالة الذب عن أبي الحسن الاشعري لابن درباس ص 119 ـ 128 ، ومعه الدكتور احمد عطية الغامدي في مقدمتهما لكتاب الصواعق المرسلة لابن القيم 21ـ 28 .(1/30)
والعجيب من الإمام الزركشي رحمه الله أنه نقل القول بالتأويل عن علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم من الصحابة ، فإن كان يعني التأويل المصطلح عليه - وهو الذي يعنيه - فهو نقل بعيد عن الصواب ، وقد تسامح بعض المفسرين في نقل مثل هذا عن السلف فمن ذلك ما ذكره أبو حيان رحمه الله قال (وقيل عن ابن عباس يداه نعمتاه ) ثم قال ( وقال قوم منهم الشعبي وابن المسيب والثوري نؤمن بها ونقر كما نصت ، ثم أن هذا من قول من لم يمعن النظر في لسان العرب)(1) ، ومن ذلك أيضاً ما نسبه في الفرق بين الفرق إلى علي بن أبي طالب أنه قال : ( إن الله تعالى خلق العرش إظهارا لقدرته لا مكانا لذاته)(2) ، وما نسبه صاحب كتاب التبصير في الدين إليه أنه سئل أين الله ؟ فقال ( إن الذي أين الأيّن لا يقال له أين)(3) ، وقال المؤلف إن هذا أشفى البيان ، كذا قال : مع أن علياً رضي الله عنه يجل عن مثل هذا الكلام ، فإنه من أفسد القياس مع مخالفته الصريحة للكتاب والسنة .
__________
(1) البحر المحيط 3/524 .
(2) 333 .
(3) التبصير في الدين للاسفرائيني 144 .(1/31)
وأعجب من هذا كله أن الأخير ، ذكر ما خاض فيه المتكلمون من مسائل الكلام مثل أن الله تعالى ليس بجسم ، ولا جوهر ، ولا عرض ، وليس له حد ولا نهاية ، ولا مجيء ، ولا ذهاب ، ولا ، ولا ، إلى آخر هذه السلوب ، وأن الله لا تحل فيه الحوادث ولا يقال له أين ، وكلامه واحد ، أمر ، ونهي ، وخبر ، واستخبار ، وأن الاستواء هو القصد ، وما يشبه هذا ، ثم نسب هذا كله وأمثاله ، إلى جميع أهل السنة والجماعة ، وذكر الأئمة الأربعة ، و الأوزاعي ، والليث بن سعد ن والسفيانين ، وأصحاب الحديث ، والرأي ، بل والصحابة والتابعين(1) ، فإن كان لا يدري أن السلف أجمعوا على النهي عن الخوض في مثل هذا ، وعلى إثبات الصفات المذكورة في الكتاب والسنة ، ثم يحكي الإجماع على خلاف الإجماع ، فيا خيْبة المسعى ، وإن كان يدري ، فأمر وأدهى .
ومثل حكاية الإجماع هذه ، ما حكاه بعض المتكلمين من اتفاق المسلمين على أن الأجسام تتناهى في تجزئتها ، وانقسامها ، حتى تصير أفرادا ، وهو الجوهر الفرد(2) ، وكيف يتصور أن يتفق المسلون على مسألة الجوهر الفرد ، التي لم تخطر على بال أحد من الأنام ، حتى تكلم فيها إلاّ أهل الكلام .
وإن كان الخطأ قد وقع في مثل نقل الإجماع على ما هو خلاف الإجماع ، فوقوعه في نسبة بعض الأقوال إلى قائليها أقرب ، وسبب ذلك يرجع إلى ثلاثة أمور :
السبب الأول :
الخطأ في فهم مراد القائل ، وذلك إنما يرجع إلى عدم الإحاطة بجميع أقواله ، ليمكن بذلك فهم مراده ، وتقييد ما أطلقه ، وتفسير ما أبهمه .
ومن أمثلة ذلك ما ورد في بعض ما نقل عن السلف من قولهم ، أمروها كما جاءت بلا تفسير ، وقولهم قراءتها تفسيرها ، فظن من ظن أنهم يريدون الجهل بمعنى الخطاب ، وأنها لا تدل على شيء ، وليس الأمر كذلك ، بل أرادوا بلا تفسير غير ما يفهم منها ، أو بلا تفسير لكيفياتها ويدل على هذا :
__________
(1) التبصير في الدين 164 .
(2) حكاه ابن تيميه عن أبي المعالي المجموع 17/126 .(1/32)
(1) ما جاء في بعض الروايات فمن ذلك : قال الأثرم : ( قلت لأبي عبد الله : حدث محدث وأنا عنده بحديث (يضع الرحمن فيها قدمه ) وعنده غلام ، فأقبل على الغلام فقال إن لهذا تفسيرا ، فقال أبو عبد الله : أنظر إليه كما تقول الجهمية سواء)(1) . ومن ذلك أيضاً: قال محمد بن إبراهيم الأصفهاني سمعت أبا زرعة الرازي وسئل عن تفسير {الرحمن على العرش استوى} فغضب ، وقال تفسيرها كما تقرأ هو على عرشه وعلمه في كل مكان)(2) فهذا يبين ما يقصدون بقولهم بلا تفسير ، أو تفسيرها قراءتها .
(2) وأن في بعض الروايات جاءت كلمة (الكيف) مكان كلمة (التفسير) فمن ذلك : قال الوليد بن مسلم سألت الأوزاعي ومالك والثوري والليث عن الأحاديث التي فيها الصفات فكلهم قالوا أمروها كما جاءت بلا تفسير وفي رواية بلا كيف(3) .
(3) وأنهم يحتجون بها على إثبات الصفة ، كاحتجاجهم بقوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} على أنه فوق العرش ، وذلك أدل شيء على أنهم فهموا من ذلك معنى العلو.
(4) وأنهم يذكرون ألفاظاً من عند أنفسهم تدل على ما دلت عليه الآية ، من أنها صفات لله تعالى كقوله ، له وجه ، وله يد ، وبائن من خلقه ، وما يشبه هذا، فهذا يدل على أنهم فهموا أنها دلت على صفات لله تعالى ، كما يفعل أصحاب الكتب المصنفة في الصفات فيقولون باب صفة الوجه ، باب صفة الاستواء ، وهذا مشهور جداً .
__________
(1) مختصر العلو 190 .
(2) المصدر السابق 203 .
(3) المصدر السابق 142ـ 143 .(1/33)
وفي هذا دلالة على أن عدم جمع الروايات ، هو السبب في نسبة القول بأن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه المخالف للظاهر ، نسبته إلى السلف(1) .
وأما نسبة التأويل إليهم مما يرجع إلى هذا الأمر الأول فله مثالان :
الأول : ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: من الآية42] أن المراد به الشدة ، أي أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة ، وقال أيضاً (عن أمر عظيم)(2) ، وليس هذا من باب التأويل - بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره الذي يدل عليه - فإن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات ، (فانه قال - تعالى – {يوم يكشف عن ساق } ، وهي نكرة في سياق الإثبات لم يضفها إلى الله ، ولم يقل ساقه فمع عدم التعريف والإضافة ، لا يظهر أنه من الصفات إلاّ بدليل آخر ، ومثل هذا ليس بتأويل ، وإنما التأويل صرف الآية عن مدلولها ، ومفهومها ، ومعناها المعروف)(3) .
__________
(1) أي الخطأ في فهم عباراتهم ، بسبب عدم ضمها إلى سائرها ، هو السبب في نسبة هذا القول إليهم ، من بعض الأئمة ، ومن أمثلة هذا قول الإمام الطبري ( لان له المشارق والمغارب وأنه لا يخلو منه مكان ) التفسير 2/528، ويعني بذلك لا يخلو من علمه ، ويدل على أن هذا مراده ، قوله في نفس الكتاب ( وعنى بقوله ( هو رابعهم ) بمعنى أنه مشاهدهم بعلمه ، وهو على عرشه ) 28/12 .
(2) رواه الطبري في التفسير 29/38 .
(3) الفقرة بين القوسين من كلام شيخ الإسلام المجموع 6/394 .(1/34)
الثاني : قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: من الآية115] فقد جاء عن مجاهد أنه قال (قبله الله)(1) ، فظن بعض الناس أنه من باب التأويل وليس كذلك أيضاً فإن الوجه هو الجهة ، يقال قصدت هذا الوجه وسافرت إلى هذا الوجه كما في قوله تعالى {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: من الآية148] ، والجهة هي القبلة ولذلك قال فأينما تولوا ، أي تستقبلوا فقول مجاهد فثم قبلة الله هو باعتبار أن الوجه والجهة واحد ، فهو تفسير في هذا الموضع لهذه الكلمة بحسب اللغة ، وما دل عليه السياق ولو أنه قال وجه الله المراد ذاته ، وليس لله صفة هي الوجه لصح بذلك العقل عنه أنه يقول بجواز التأويل الاصطلاحي(2) .
السبب الثاني :
هو قلة العلم بالأخبار ، والآثار المنقولة ، عن الصحابة ، والتابعين ، وأئمة السلف ، قال ابن تيمية رحمه الله (وأما المتأخرون الذين لم يتحروا متابعتهم ، وسلوك سبيلهم ، ولا لهم خبرة بأقوالهم، وأفعالهم ، بل في كثير مما يتكلمون به في العلم ويعملون به ، لا يعرفون طريق الصحابة والتابعين في ذلك ، من أهل الكلام ، والرأي والزهد ، والتصوف ، فهؤلاء تجد عمدتهم في كثير من الأمور المهمة في الدين ، إنما هو عما يظنونه من الإجماع ، وهم لا يعرفون في ذلك أقوال السلف البتة ، أو عرفوا بعضها ولم يعرفوا سائرها)(3) .
__________
(1) تفسير الطبري 2/536 ، والأسماء والصفات للبيهقي ص 391، ونقل عن الشافعي أنه قال ( يعني والله اعلم فثم الوجه الذي وجهكم الله إليه .
(2) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية 6/16، 2/428، 3/139 .
(3) المصدر السابق 13/25 .(1/35)
وقد تقدم ما يبين صحة هذا الذي حكاه هذا الإمام ، ومما يزيد تأكيد هذا الأمر عدم معرفة بعض المتكلمين في مسائل الصفات والعقائد لأحاديث الصحيحين المشهورة ، قال ابن حجر رحمه الله (واستشكل فهم التخيير من الآية حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرجوا الصحيح على تصحيحه ، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلة الاطلاع على طرقه)(1)
ذكر ابن حجر هذا في شرح حديث ابن عمر الذي رواه الشيخان ، وغيرهما ، قال (لما توفي عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ..مذكر أن عمر قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يصلي على بن أبيّ أتصلي عليه وهو منافق فقال إنما خيرني الله فقال (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم .. الآية فقال سأزيده على السبعين ...الحديث )(2) .
__________
(1) ثم قال ابن حجر : قال ابن المنير مفهوم الآية زلت فيه الأقدام ، حتى أنكر القاضي أبو بكر الباقلاني صحة الحديث ... ولفظ القاضي أبي بكر في التقريب ( هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها ) ، وقال إمام الحرمين في مختصره ، (هذا الحديث غير مخرج في الصحيح) وقال في البرهان ( لا يصححه أهل الحديث ) ، وقال الغزالي في المستصفى ( الأظهر أن هذا الخبر غير صحيح ) وقال الداودي الشارح ( هذا الحديث غير محفوظ ) فتح الباري 8/338 .
(2) فتح الباري 8/337 .(1/36)
ومعلوم أن من كان لا يعرف مثل هذه الأحاديث فبضاعته مزجاة في ما هو دون ذلك من أقوال الصحابة والتابعين المنثورة في كتب التفسير وأجزاء الحديث ، فلا يستغرب إذن أن يخطأ مثل هؤلاء في نقل مذهب السلف ، وإن كان في أهم مسائل الدين ، بينما يصيب من يقول ( وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة ، وما رووه من الحديث ، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى ، من الكتب الكبار، والصغار أكثر من مائة تفسير ، فلم أجد - إلى ساعتي هذه - عن أحد من الصحابة ، أنه تأول شيئاً من آيات الصفات ، أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف ، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته ، وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلاّ الله ، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير)(1) .ويقول (والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل لا نصّاً ولا ظاهراً على نفي الصفات الخبرية ...)(2) .
وهاتان عبارتا شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهما تدلان على أن ذكره لمذهب السلف يقوم على استقراء تام ، ولذلك تحدى من يأتي بخلاف ما ذكر ، وأمهل المخالفين ثلاث سنين ، ففتشوا الكتب فظفروا بما تقدم من آية القبلة فحسب ، وهي غير دالة على ما قصدوه(3) .
السبب الثالث:
الاعتماد على طريق ضعيف ، إما من جهة ضعف بعض الرواة أو من جهة خطأ الثقة فيما روى ، ومن أمثلة هذا الأخير :
قال ابن الجوزي (قوله تعالى { إلاّ أن يأتيهم الله } ، كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا ، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال ( المراد قدرته وأمره ) وقد بينه في قوله تعالى {أو يأتي أمر ربك} )(4) .
__________
(1) وهو ابن تيمية رحمه الله مجموع الفتاوى 6/394 .
(2) المصدر السابق 5/109 .
(3) المصدر السابق 6/15 .
(4) زاد المسير 1/225 .(1/37)
ولم يزد ابن الجوزي على هذا ، وهذا الذي ذكره القاضي ، قد رواه حنبل ابن عم الإمام في ذكر محنة أحمد المشهورة ، أنه لما احتج عليه المعتزلة بحديث (اقرؤوا البقرة ، وآل عمران ، فانهما يجيئان يوم القيام كأنهما غمامتان ، تحاجان عن صاحبهما ) في خلق القرآن ، وزعموا أنه لا يوصف بالمجيء والإتيان إلاّ المخلوق ، عارضهم بقوله تعالى {هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} قال : إنما يأتي أمره ، يريد أن الذي يأتي ثواب القرآن ، قال ابن تيمية ( ولم ينقل هذا غيره ممن نقل مناظرة أحمد في ذلك ، فمنهم من قال ، لم يقل أحمد هذا ، وقالوا حنبل له غلطات معروفة وهذا منها )(1) .
وقال الذهبي عن حنبل : له مسائل كثيرة عن أحمد ويتفرد ويغرب(2) ، وقال أبو بكر الخلال ، قد جاء حنبل عن أحمد بمسائل أجاد فيها الرواية ، وأغرب في شيء يسير)(3) .
وذكر ابن تيمية بعد ذلك ، أن من الحنابلة من قال : إنما قال أحمد ذلك إلزاما لهم ، أي كما أنكم تقولون يجيء أمره ، فكذلك قولوا في القرآن ، يجيء ثوابه ، ولا تقولوا مخلوق ، ومنهم من جعل هذا رواية عن أحمد ، وأن ابن الجوزي لما كان يميل إلى التأويل جعل هذا عمدته(4) .
__________
(1) أنظر مجموع الفتاوى 5/399، وحنبل موثق أنظر المنهج الأحمد في تراجم أصحاب أحمد للعليمي 1/345 .
(2) السير 13/52 .
(3) المنهج الأحمد 1/245 .
(4) مجموع الفتاوى 5/400، والحديث السابق ، رواه مسلم بنحوه 1/ 553، وقال ابن تيمية ( وأمد وغيره من أهل السنة ، فسروا الحديث بأن المراد ، يجيء ثواب البقرة وآل عمران كما ذكر مثل ذلك عن مجيء الأعمال في القبر ، وفي القيامة والمراد منه ثواب الأعمال .. ثم قال فلما أمر بقراءتهما ، وذكر مجيئهما يحاجان عن القارئ ، علم أنه أراد قراءة القارئ لهما ، وهو عمله ، وأخبر بمجيء عمله الذي هو التلاوة في الصورة التي ذكرها ، كما أخبر بمجيء غير ذلك من الأعمال 5/399 .(1/38)
ومن المعلوم أن الثقة قد يخطأ ، وأن هذا يعرف باعتبار قوله مع غيره ، فإن نقل الأكثر أو الأوثق ما يدل على أنه أخطأ، طرح خطؤه، وإذا كان هذا مما يعرف به خطأ الثقات ، في نقل الأحاديث النبوية فيحكم عليها بالشذوذ ، فكيف في نقل المذاهب.
ورواية حنبل هذه خالف فيها ما رواه بنفسه عن أحمد، مثل ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله مما رواه حنبل عن أحمد، فذكر كلاما كثيرا في اعتقاده في الصفات وفيه (ونؤمن بالقرآن محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة لشناعة شنعت، وما وصف به نفسه من كلام ونزول، وخلوه بعبده ووضعه كنفه عليه، هذا كله يدل على أن الله يرى في الآخرة … )(1)
أما ما رواه غيره فكثير ، كما قال ابن تيمية رحمه الله (ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية، ويبين أنه لا يقول إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره بل هو ينكر على من يقول ذلك)(2) .
وبهذا المثال يحصل التنبيه على النوع الأول، فإن الذي يخطأ في الاعتماد على نقل الثقة إذا لم يعتبره بغيره، فخطؤه في الاعتماد على رواية الضعيف أولى.
وبهذه الأمور الثلاث حصل الخطأ في حكاية مذهب السلف في هذا الباب في كتب أصول الدين ، والتفسير ، وعلوم القرآن ، وهو منحصر في ثلاث جهات:
الأولى: نسبة القول بأن ظاهر آيات الصفات ليس هو المراد منها وأن المراد هو تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله.
الثانية : نسبة القول بأن ظاهر آيات الصفات غير مراد منها والمراد هو تأويلها الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.
الثالثة : نسبة القول بأنهم لا يزيدون على تلاوة الآيات ولا يفهمون منها شيئاً.
وفيما تقدم من الروايات عنهم ما ينطق بخطأ هذا كله، وفي هذا كفاية في بيان مذهب السلف قاطبة في آيات الصفات عامة.
* تنبيهات مهمة جدا :
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل 2/30 .
(2) مجموع الفتاوى 5/401 .(1/39)
غير أنه ينبغي التنبيه على ثلاثة أمور تفصل ما أجمل من العبارات الحاكية لمذهب السلف وتزيل بعض الإشكال على من لم يمعن النظر في مقالاتهم:
أما الأمر الأول:
فهو معنى قولهم إن الصفات تجرى على الظاهر .
ذلك أن الظاهر صار مشتركا هنا بين شيئين:
أحدهما: أن يقال إن ظاهر هذه الصفات هو مماثلة صفات المخلوقين، فاليد جارحة مثل جوارح العباد، وظاهر الغضب غليان القلب لطلب الانتقام ، وظاهر كونه في السماء أن يكون مثل الماء في الظرف.
والثاني : أن يقال إن الظاهر من هذه الصفات ، هو أنها صفات لله كما يليق بجلاله(1) ، والأول هو قول المشبهة، والثاني هو قول السلف ، ولذلك يقولون استوى كيف شاء ، وينزل كيف يشاء ، وله يد ، ونجهل الكيفية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (فإن ظاهر الكلام هو ما يسبق إلى العقل السليم منه لمن يفهم بتلك اللغة، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع ، وقد يكون بسياق الكلام، وليست هذه المعاني المحدثة المستحيلة على الله تعالى ، هي السابقة إلى عقل المؤمنين، بل اليد عندهم كالعلم ، والقدرة ، والذات ، فكما أن علمنا وقدرتنا، وحياتنا وكلامنا، ونحوها من الصفات أعراضا تدل على حدوثنا ، يمتنع أن يوصف الله سبحانه بمثلها، فكذلك أيدينا ، ووجوهنا ، ونحوها أجساما كذلك محدثة، يمتنع أن يوصف الله بمثلها، ثم لم يقل أحد من أهل السنة ، إذا قلنا لله علما ، وقدرة ، وسمعاً ، وبصراً ، أن ظاهره غير مراد، إذ لا فرق بين ما هو من صفاتنا جسم أو عرض للجسم)(2) .
وقوله (لم يقل أحد من أهل السنة … إلخ ) معناه: إن أكثر الذين يقولون بالتأويل ـ وهؤلاء الأكثر هم المثبتون لبعض الصفات ـ يقولون إن ظاهر السمع والبصر والحياة، والإرادة وغيرها مما يثبتون ـ ليس هو المماثلة لصفات المخلوقين .
__________
(1) ينظر مجموع الفتاوى 6/356ـ 357 .
(2) المصدر السابق 6/347، وينظر كذلك أضواء البيان للشنقيطي 2/286 .(1/40)
بل أن من يثبت بعض الصفات الخبرية كاليد والوجه ، ممن يقول بالتأويل في غيرها لا ،يجعل ظاهر ما يثبته هو المفهوم من صفات المخلوقين.
كما قال الايجي في المواقف: (الخامسة: اليد، قال تعالى {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: من الآية10] ، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: من الآية75] ، فأثبت الشيخ صفتين ثبوتيتين زائدتين، وعليه السلف، وإليه ميل القاضي في بعض كتبه … )(1) .
والشيخ هو أبو الحسن الأشعري، والقاضي هو أفضل المتكلمين من أصحاب الأشعري (أبو بكر الباقلاني)(2) .
وقد قال في التمهيد (باب : في أن لله وجها ويدين، فإن قال قائل: فما الحجة في أن لله عز وجل وجها ويدين، قيل له : قوله تعالى {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، وقوله {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ، فأثبت لنفسه وجها ويدين ..).
ثم لما أبطل تأويلهما قال (فإن قال قائل فما أنكرتم أن يكون وجهه جارحة ، إذ لم تعقلوا يد صفة ووجه صفة لا جارحة؟ يقال له: لا يجب ذلك، كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما ، أن نقضي نحن وأنتم على الله تعالى بذلك .. )(3) .
والمقصود أن كما أن ظاهر هذه الصفات ، لا يماثل ما للمخلوقين عند من يثبتها ، فكذلك ينبغي أن يكون في سائرها .
وهذا لازم للمعتزلة أيضا لأنهم يثبتون الأسماء لله فيقولون حي عليم قدير ، ويؤولون الصفات ، فلابد لهم من القول بأن الظاهر من هذه الأسماء ، ليس مماثلة المخلوق في أسمائه إذ هي الأسماء الحسنى.
__________
(1) المواقف في علم الكلام للعضد الإيجي ص 298 .
(2) أنظر مجموع الفتاوى 5/98 .
(3) تمهيد الأوائل ،وتلخيص الدلائل للباقلاني ص 295ـ 298 .(1/41)
فهذا هو معنى قولهم ـ تجرى على ظاهرها ـ وهو الظاهر الذي يتبادر إلى العقل السليم ، الذي استقر فيه أن الذات الإلهية ، لا تماثل ذوات المخلوقين ، فعلم أن الصفات المتعلقة بها كذلك لا تماثل صفات المخلوقين ، إذ هي فرع عليها فكما أن إثبات الذات إثبات وجود لا كيفية فكذلك إثبات صفاتها(1) .
والمعنى الأول ، أي قول القائلين : (إن ظاهر هذه الصفات هو مماثلة صفات المخلوقين ) ، قد يريده من يقول (يجب إثبات الصفات مع أن الظاهر غير مراد) فإن قصده بهذه الإطلاق فهو مصيب، وإن نقل ذلك عن السلف ـ بهذا المعنى ـ فهو مصيب أيضاً ، إلا أنه قد أخطأ من جهة إطلاقه ما يوهم الغلط عليهم فليتجنب(2) .
كما يجب أيضا تجنب الاحتجاج بقوله تعالى {وما يعلم تأويله إلا الله} على أنه يجب امرار الصفات على ظاهرها وبطلان التأويل ، لأنه الآية ليست من هذا التأويل الاصطلاحي في شيء .
فمن احتج بها على بطلان التأويل الاصطلاحي ، مع قوله بوجوب إمرار الصفات على ظاهرها ، وقع في التناقض، لأنه يبطل التأويل والآية تثبته معلوما لله ، بل الواجب القول : إنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره، أي عدم صرفه عما يدل عليه ، وهو دلالته على الصفات لله تعالى المنزهة عن صفات المخلوقين ، مع أن حقيقة الصفات لا يعلمها إلا الله ، وحينئذ يكون الاحتجاج بالآية على جهل الحقيقة، أي حقيقة الصفات ، وأن الله تعالى وحده حقيقتها ، فيكون احتجاجا صحيحا .
__________
(1) ذكر أن الصفات فرع عن الذات ، مستفاد من كلام ابن تيمية المجموع 3/25، 3/ 47 .
(2) المصدر السابق 3/66ـ 68 .(1/42)
ومثل هذا ، من يحتج بالآية على أننا خوطبنا بما لا يفهمه أحد ، مع قوله الظاهر غير مراد ، وهذا مع أنه خطأ ، فإن الإحتجاج بالآية ، في آيات الصفات ، يوقع في التناقض ، لأنا إذا لم نفهم شيئا من آيات الصفات ، كيف لنا نعرف ، أن لها تأويلا يخالف الظاهر ولا يوافقه ، فإن الظاهر ، وغير الظاهر ، لا يعلم إلا بمعرفة معنى اللفظ ، أو معانيه(1) .
وبهذه الجملة يتضح الفرق بين المذهبين إن شاء الله تعالى.
الأمر الثاني :
وهو أن التأويل المذموم عند السلف ، هو أن تصرف دلالة اللفظ الظاهر على الصفات ، إلى معنى آخر يلزم منه نفي هذه الصفة لمجرد دعوى المشابهة للمخلوقات ، ومخالفة العقل، هذا إذا كان اللفظ يدل على إثبات صفة لله كقوله تعالى {استوى على العرش} ، {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} ، {لما خلقت بيديّ} .
وليس التأويل المذموم ، هو أن يفسر أحد النصين ، بظاهر الآخر، بما يدل على خلاف ظاهر النص المفسَّر ، فإن هذا من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، وتفصيل الأدلة السمعية لبعضها ، وتفسير القرآن بالقرآن محمود، وأما المذموم تفسيره بالرأي المجرد عن البرهان من السنة أو القرآن .
ومن هذا القبيل قوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: من الآية16] بأنه قريب بعلمه ، لأن أدلة القرآن على أن الله على عرشه ، وفوق كل شيء ، كثيرة جداً ، ومتنوعة ، وهي من أحكم أنواع الأدلة فيه ، هذا إن سلِّم أن الظاهر من هذا النص قربه بنفسه ـ سبحانه ـ وسيأتي تفصيل هذا.
__________
(1) مجموع الفتاوى 3/66ـ 68 .(1/43)
ولكن هذا النوع نادر جداً ـ وهو أن يراد بالنص خلاف ظاهره ـ لاسيما في باب الصفات ، وهو مع ذلك وجوده في الحديث أوضح ، أما القرآن فلا يكاد يوجد ، فإنه عند التحقيق يتبين أن أكثر ما أدعى فيه ، أن النص مصروف عن ظاهرة بنص آخر ، منتقض بأن الظاهر ليس هو المُدَّعي ، بل هو ما دل عليه سياق الآية نفسها ، ومعناه اللغوي الصحيح ، وبذلك لا يحتاج إلى التأويل، بمعنى تفسير النص بخلاف ظاهره ، لدلالة نص آخر على ذلك .
وربما ظن من لم يتحقق مذهب السلف في هذا الباب ، أن السلف يجرون اللفظ على المعنى الفاسد الذي ادعى ظهوره ، فأداه هذا إلى القول بوجوب التأويل، كما زعم من زعم ، أن من قول السلف ، أن الله أقرب بذاته إلى الإنسان من حبل وريده ، وإليه من الحاضرين عند وفاته ، لأنه جعل ظاهر قوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، هو أن الله أقرب إليه(1) .
ولئلا يظن مثل هذا ، فإنه ينبغي التنبيه على أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على الصفات ، وجعل ما لا يدل عليه اللفظ ، أو ما يدل عليه ظاهراً من المعاني الفاسدة هو الظاهر، ويستفاد من هذا أيضا ، معرفة أن ما يحتاج فيه إلى صرف المعنى الظاهر في هذا الباب في القرآن قليل ، مع وجوب القول بأن صرفه عن ظاهره لا يكون إلا بالأدلة السمعية(2).
* ذكر أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على صفات الله تعالى :
فمن هذه الأسباب:
السبب الأول :
__________
(1) تفسير المنار 2/168، حكاه عن بعضهم .
(2) مصداقا لقوله تعالى {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف:52] ، وأما القائلون بالتأويل فإن أكثر آيات الصفات التي هي أعظم ما دل عليه القرآن على خلاف الظاهر عندهم وسيأتي تفصيل ذلك كله .(1/44)
أن يجعل ما يضاف إليه ـ سبحانه ـ من صفاته ، ولا يكون كذلك إذ لا يلزم من إضافة الشيء إلى الله أن يكون من صفاته .
ومن أمثلة هذا ما ذكره الرازي، قال: "المسألة الثانية : القائلون بإثبات الأعضاء لله تعالى استدلوا على إثبات الجنب بهذه الآية .
واعلم أن دلائلنا على نفي الأعضاء قد كثرت، فلا فائدة في الإعادة ، ونقول بتقدير أن يكون المراد من هذا الجنب عضوا مخصوصا لله تعالى فإنه يمتنع وقوع التفريط فيه فثبت أنه لابد من المصير إلى التأويل..) .
فقد ذكر هذا المفسر المشهور أن الجنب في قوله تعالى {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: من الآية56] ، ظاهره العضو(1) .
ومعنى الجنب في اللغة لا يستلزم هذا ، ولا سياق الآية يدل على أن هذا هو المعنى الظاهر، كما قال في الصحاح "الجنب الفناء وما قرب من محلة القوم"(2) ، وقال ابن فارس "الجيم والنون والباء أصلان متقاربان أحدهما الناحية والآخر البعد"(3) .
وقال الفراء: "الجنب القرب أي ما فرطت في قرب الله وجواره"(4) ، ولهذا قال بعض السلف (في أمر الله)(5) ، لأنه أمر بالتقرب إليه، والمحافظة على حدوده التي هي حماه وجواره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (أل إن حمى الله محارمه)(6) .
وهي الطريق الموصل إليه كما قال الزجاج "في طريق الله الذي دعاني إليه"(7) ، وهذه العبارات كلها دالة على معانٍ متقاربة، وإذا كان الجنب يطلق على الناحية في أصل اللغة ، فكيف يجعل إذا أضيف إلى الله في سياق نص ، كيف يجعل صفة من صفاته ، بله أن يقال إنه دل على العضو في الظاهر.
__________
(1) تفسير الرازي 27/6 .
(2) الصحاح للجوهري 1/101ـ102 .
(3) معجم مقاييس اللغة 1/483 .
(4) لسان العرب 1/275 .
(5) رواه الطبري عن مجاهد والسدي 24/9 .
(6) رواه البخاري كتاب الإيمان ، فضل من استبرأ لدينه ، فتح الباري 1/136 .
(7) لسان العرب 1/275 .(1/45)
والله عز وجل قد حكى في هذه الآية ما يقوله الساخرون المستكبرون ، يوم لا ينفع الندم ، قال {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:56-59] .
وعامة هذه النفوس الموصوفة بما ذكر في الآيات ، لا تعلم أن لله جنبا بالمعنى الذي توهم من توهم أنه ظاهر اللفظ ، كما لا يتبادر إلى سامع هذه الآيات معنى سوى أنهم فرطوا في أوامر الله ، وقربه ، وطلب جواره ، وما يقارب هذا مما دلت عليه اللغة .
فكيف يجعل ـ مع هذا ـ ظاهر اللفظ عضواً يشابه أعضاء الإنسان، هذا مع أن الإمام الدارمي في رده على المريسي قال (وادعى المعارض زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قول الله {يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله} أنهم يعنون به الجنب الذي هو العضو وليس ذلك على ما يتوهمونه .
فيقال لهذا المعارض: ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك، فإن كنت صادقا في دعواك فأشر بها على أحد من بني آدم قاله)(1) .
وقال ابن القيم (ومن المعلوم أن هذه لا يثبته أحد من بني آدم)(2) .
فإن صح هذا ، أي أنه لم ينقل عن أحد إثبات الجنب بمعنى العضو على الله تعالى ، فإن ما ذكره الرازي قد يكون على طريقة لازم المذهب ، وذلك أن القائلين بإثبات الوجه واليدين ، يلزمهم عنده أنها أعضاء ، ويلزمهم كذلك إثبات كل ما جاء على هذا النحو (كالجنب) وأنه عضو، وهذا يقع فيه كثير ممن يحكي المذاهب فينسبون إليهم أقوالا يظنون أنها تلزمهم وهي ليست بلازمة عند التحقيق.
السبب الثاني :
__________
(1) ص 184 .
(2) كتاب الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة 1/247 .(1/46)
أن يظن كل موضع ذكر فيه ما يشعر بالصفة ، أنه من نصوص الصفات، وأن المراد به الأخبار عن هذه الصفة .
قال ابن تيمية رحمه الله (ولا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قرب نفسه، بل يبقي هذا من الأمور الجائزة وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه ، وهذا كما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء .
وان كان في موضع قد دل على أنه يأتي بنفسه ، ففي موضع آخر دل على انه بعذابه ، كما في قوله تعالى {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} [النحل: من الآية26] ، وقوله تعالي {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: من الآية2] فتدبر هذا، فإنه كثيرا ما يغلط الناس في هذا الموضع ، إذا تنازع النفاة والمثبتين في صفة ودلالة نص عليها، يريد المريد أن يجعل ذلك اللفظ ـ حيث ورد ـ دالا على الصفة وظاهرا فيها)(1) .
وقولة جواز القرب عليه ، مثل له بدنوه – سبحانه – عشية عرفة ،كما روى مسلم عن النبي صلي الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة وانه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته فيقول ما أراد هؤلاء)(2) ، وأما قوله ( ولا يلزم من ذلك أن يكون كل موضع ذكر فيه القرب هو قربه بنفسه "مثل له بقوله تعالي {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: من الآية16] ، وذلك أن المراد هنا قربه بملائكته ، كما تضيف العظماء أفعال عبيدها إليها بأوامرهم ، ومراسيمهم ، واستدل عليه بأن القرب في الآية بزمن ، وهو حين تلقي المتلقيين ، وقعيد عن الشمال ، وهما الملكان ، ومعلوم أنه لو أراد قرب ذاته لم يختص بهذه الحال.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 6/14 .
(2) كتاب الحج ، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة ح 436 .(1/47)
كما استبدل عليه أيضا ، بأنه ذكر بصيغة الجمع مثل {نَتْلُو عَلَيْكَ} [القصص: من الآية3] ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] ، {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يّس: من الآية12] ، { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: من الآية29] .
فإن مثل هذا اللفظ إذا ذكره الله في كتابه ، دل على أن المراد أنه سبحانه يفعل بجنوده من الملائكة ، ومثل هذه الآية قوله تعالى {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80] ، وقوله تعالى {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [قّ: من الآية16] يحتمل أن المراد نحن نعلم وملائكتنا أيضا يعملون ، كما دل عليه الحديث ( إن العبد إذا هم بحسنه فلم يعملها كتبت حسنه)(1) ، فالملائكة يعلمون ما في نفسه بقدرة الله تعالي.
__________
(1) في الحديث ( قال الله تعالى .. فإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة ) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب إذا هم العبد بحسنة كتبت ، وإذا هم بسيئة لم تكتب ح 203 .(1/48)
ومثل هذه الآية {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:85] ، فإن القرآن دل على أن المراد الملائكة ، لأن الآية تصف حال الاختصار ، وقد كثر في القرآن ذكر حضور الملائكة المحتضر، قال تعالي {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: من الآية97] ، {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء: من الآية97] ، وقال {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [لأنفال: من الآية50] ، وقال {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: من الآية93] ، { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: من الآية61] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: من الآية11] .
وقد قال بعض الأئمة أن المراد قربه بعلمه وهو محتمل(1) ، ولكن يدفعه أن العلم محيط بكل شيء وفي باطنه، وكل ذلك بالنسبة إليه سواء ، كما قال {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] ، فلا معني لتخصيص حبل الوريد وغيره(2) .
__________
(1) مثل الإمام أحمد ينظر مختصر العلو للذهبي 190، والإمام الدارمي ينظر رده على المريسي 83، وذكر ابن القيم القولين عن السلف والخلف ، مختصر الصواعق ص 492 .
(2) الكلام المتقدم في القرب ، وما يتعلق به، مختصر بتصرف من كلام ابن تيمية في مواضع من مجموع الفتاوى وهي 5/130، 5/107، 5/512ـ 513، 5/494ـ 509) وانظر كذلك مختصر الصواعق ص 493ـ 494 ، وتفسير ابن كثير 7/376 .(1/49)
وهذه الخلاف بين السلف في معني الآية مع اتفاقهم على جواز القرب لو جاء نص يكون هذا هو الظاهر منه كما في الحديث السابق ، أما في هذه الآية فلا يقال إن الظاهر منها أنه سبحانه وتعالي أقرب بذاته من حبل الوريد فإن السياق بأبي ذلك والقرآن دل على نقيضه فإن الأدلة القاطعة منه دلت على علوه على كل شيء(1) .
وأما القائلون بأن هذا المعنى الفاسد ، أي قرب الله تعالى بذاته من حبل الوريد ، المقتضى للحلول أو الاتحاد ، هو الظاهر فقد انقسموا إلى قسمين:
منهم من قال بوجوب التأويل الاصطلاحي هنا ، وهو حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح ، وأن المراد هو قربه بعلمه ، وهذا المعني صحيح ، ولكن لا يلزم أن يقال إن ظاهر القرآن هو هذا المعني ، ذلك أن القرآن في أعلي درجات البيان ، لاسيما في الخبر عن الله وصفاته ، وفي القول بأن ظاهر القرآن هو ذلك المعنى الفاسد تعارض مع هذه الحقيقة .
غير أن الذي اقتضي هذا القول تجريد اللفظ عن السياق ، فإن السياق هو الذي يدل على المراد ، والمتكلم الذي يريد أن يكون كلامه مبينا ، لابد له من ذكر القرائن ووضع الألفاظ في تركيب يدل على مراده ، والقرائن جعلت الظاهر في الآية ، إما العلم كما قال {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ} [قّ: من الآية16] ، أو الملائكة كما قال {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [قّ: من الآية17] .
__________
(1) وقوله تعالى {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61] جمع بين علوه على كل شيء ، وقرب جنوده من المحتضر ، فهي أقرب ما يفسر به قوله تعالى {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ* وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة:83-85] .(1/50)
ومنهم من التزم هذا المعني الفاسد الباطل وهم القائلون بالوحدة والحلول من المنتسبين إلى التصوف ، وفي بعض كتب التفسير من هذا ما يشينها(1) .
مع أن الآية لا تدل على قول أهل وحدة الوجود بوجه ، فإن قولهم الذي ينبو عنه سمع المؤمن ، يقتضي أن لا يكون لله تعالى ، تميّز بالذات فكيف يكون من هذه صفته ، أقرب إلى شيء من شي ، كما زعموا أنه ظاهر الآية ، فتناقضوا تناقضا قبيحا .
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالي عن عيسي {.. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ ..} [النساء: من الآية171] الآية ، فان الله وان كان متصفا بالكلام ، فليس المراد هنا صفته ، وأن عيسي هو نفس الكلمة ، كلمة الله ( وانما سمي بذلك لأنه بذلك خلق بالكلمة ، على خلاف سنة المخلوقين ، فخرقت فيه العادة ، وقيل له كن فكان)(2) .
فسمي كلمة الله (لأنه ناشي عن الكلمة التي قال له بها كن فكان )(3) ، ولا يلزم من إطلاق كلمة الله على المخلوق هنا ، أن يكون كلامه جل وعز مخلوقا .
__________
(1) في حاشية الجمل على الجلالين علل القول بأن المراد بالقرب من العلم في قوله تعالى {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: من الآية16] بأن الله منزه عن الأمكنة ، وذكر أنه من المجاز ، فهذا يدل على جعل المعنى الفاسد هو الظاهر (4/192) ، وأنظر أيضا تفسير المنار 2/168، وقال الألوسي : ( ولا مجال لحمله على القرب المكاني ، لتنزهه سبحانه عن ذلك ، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذي الأحوال ) التفسير 26/178 .
(2) ينظر ابن تيميه المجموع 6/18 .
(3) تفسير ابن كثير 2/431 .(1/51)
قال ابن تيمية: ( وأما قوله: إن كلمة يراد بها عيسي نفسه، فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب، كقولهم هذا درب ضرب الأمير، ومنه تسمية المأمور به أمرا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمه، والمخلوق بالكلمة كلمة، لكن هذا اللفظ يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد، كقوله { يا مريم أن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسي بن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين} ، فبين أن الكلمة هو المسيح، ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام، { قالت أني يكون لي ولد ولم يمسسني بشر، قال كذلك الله يفعل ما يشاء إذ قضي آمرا فإنما يقول له كن فيكون} .
فبيّن لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء ، إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون ، فدل هذا على أن الولد مما يخلقه الله بقوله { كن فيكون} ، ولهذا قال أحمد بن حنبل ( عيسي مخلوق بالكن، ليس هو نفس الكن)، ولهذا قال في الآية الأخرى { إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقة من تراب ثم قال كن فيكون} ، فقد بين مراده، أنه خلقه بكن لا أنه نفس كن ونحوها من الكلام)(1) .
ومن أمثلة هذا أيضا قوله تعالي {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: من الآية14] ، لا يدل على أعين كثيرة، وقوله تعالي { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: من الآية39] لا يدل على عين واحدة، عند من يثبت صفة العين، بل كل موضع يفسر بحسبه ، بل كل موضع يفسر بحسبه، وذلك أن لفظ العين إذا أضيف إلى اسم جمع ظاهر ، أو مضمر ، فالأحسن جمعه مشاكلة للفظ كما قال {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: من الآية61] .
__________
(1) مجموع ابن تيمية 20/493 .(1/52)
وإذا أضيف إلى مفرد ذكر مفردا ، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد، ففي الإضافة إلى المفرد قال {بيده الملك} ، وفي الإضافة إلى الجمع قال {أو لم يروا أنا خلقنا مما عملت أيدينا أنعاما} ، وقال {بما كسبت أيدي الناس} ، والسلف استدلوا على صفه اليد بن بقوله تعالي (بما خلقت بيدي) وعلى صفه العينين بقول النبي صلي الله عليه وسلم (إن ربكم ليس بأعور)(1) .
والأعور ضد البصير بالعينيين(2) ، ولو جاء لفظ يدل على الصفة في الظاهر لقالوا به فان عمدتهم في هذا الباب هو السمع.
السبب الثالث :
أن يأتي اللفظ في سياق يدل على المراد منه ، ويفسره ، ويجعله في غاية الظهور، فيؤخذ بعيدا عن سياقه ، ويُدَّعي فيه معني فاسد ، حتى يجعل محتاجا إلى التأويل، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية مثالا على هذا ، الحديث القدسي ، وهو قوله الله تعالي ( يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ؟ أما علمت أنك لو أطعمته لو جدت ذلك عندي ؟ … وذكر في الاستسقاء مثله)(3) .
ذكره مثالا لجعل المعني الفاسد هو الظاهر من اللفظ و لا يكون كذلك ، فإن الحديث قد فسر المراد بقول الله استطعمتك ، واستسقيتك فلم يبق في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل(4) .
السبب الرابع :
أن يجعل للفظ معني لا يدل عليه لغة عند التحقيق ، فإذا فسِّر به القرآن أوهم الباطل، فيقال حينئذ بوجوب التأويل .
__________
(1) الحديث رواه البخاري عن عبد الله بن عمر مرفوعا ( وإن الله لايخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده إلى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينيه عنبة طافية ) فتح الباري 13/389 .
(2) ينظر رد الدارمي على المريسي 48 .
(3) رواه مسلم ح 2569 .
(4) ينظر مجموع ابن تيمية 3/44، وكذلك ينظر في أمثلة هذا النوع ، درء تعارض العقل والنقل 5/235ـ 240 .(1/53)
ومثاله لفظ المعية، فقد جُعلت في الظاهر بمعني الاختلاط والامتزاج ، ثم لما كان هذا كفرا عند جميع المسلمين قيل بوجوب التأويل .
و أما عند التحقيق ، فليس ظاهرها إلا المقارنة المطلقة في اللغة ، من غير وجوب مماسة ، أو محاذاة عن يمين وشمال ، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعني .
فإنه يقال ما زلنا نسير والقمر معنا وهو في السماء وكذلك يقال (زوجته معه) بمعني لم يطلقها، وماله معه بمعني لم يفقده، وقال تعالى {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ} [الفتح: من الآية29] .
وليس في ذلك كله وجوب اختلاط ، وقد يدل على الاختلاط عند التقييد بما يناسبه، وإذا كانت المعية لا يلزم منها الامتزاج والحلول فلا يجعل هو الظاهر، بل الظاهر يعلم بحسب السياق المذكورة فيه .
وهو ما يلزم من معية الله ، فإن قوله {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] ، دال على أن حكم هذا المعينة ومقتضاها أنه مطلع عليهم، شهيد عليهم، مهيمن، عالم بهم، وهذا معني قول كثير من السلف أنه معهم بعلمه، وهو ظاهر الخطاب وحقيقته .
وكذلك قوله تعالي {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: من الآية40] ، أي بنصره وتأييده ، فإن هذا هو اللازم من المعية هنا، وإذا كانت المعية لا يلزم منها المخالطة ، فإن فسرت بما دلت عليه باللزوم ، لا يكون هذا من باب التأويل .(1/54)
وقال ابن القيم (فكيف تكون حقيقة المعية في حق الرب ذلك ـ يعني المخالطة ـ حتى يد عي أنه مجاز لا حقيقة ، فليس في ذلك ما يدل على أن ذاته تعالي فيهم ولا ملاصقة لهم، ولا مخالطة ، ولا مجاورة ، بوجه من الوجوه، وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الاقتران في كل موضع بحسبة، يلزم منه لوازم بحسب متعلق )(1) .
الأمر الثالث :
وهو أن قائلا قد يقول: إن ما تقدم حكايته عن مذهب السلف ، فيما أسند إلى الله من الألفاظ الموهمة للتشبيه ، كالوجه واليد والمجيء والاستواء ، انه هو إمرارها على ظاهرها ، وعدم تأويلها ، وأن معني قولهم امرارها على ظاهرها ، ليس هو مماثلة المخلوقات ، أنه قول متناقض .
__________
(1) مختصر الصواعق المرسلة ص 429 ، وينظر أيضا مجموع ابن تيمية ( 5/103ـ 104) و (5/495ـ498) و ( 6/22) ، وبهذا البحث يتبين أن قول أبي المعالي رحمه الله في الإرشاد ( ومما يجب الاعتناء به معارضة الحشوية ، بآيات يوافقون على تأويلها ، حتى إذا سلكوا مسلك التأويل ، عورضوا بذلك السبيل ، فيما فيه التنازع ، فمما يعارضون به ، قوله تعالى { وهو معكم أينما كنتم } فإن راموا إجراء ذلك على الظاهر ، حلوا عقد إصرارهم في حمل الاستواء على العرش على الكون عليه ، والتزموا فضائح لا يبوء بها عاقل ، وأن حملوا قوله { وهو معكم أينما كنتم } وقوله { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ، ولا خمسة إلا هو سادسهم } على الإحاطة بالخفيات ، فقد سوغوا التأويل ) ص 150، أنه قول متهافت ، فإنه لاتعارض بين استواءه على العرش وكونه مع خلقه .(1/55)
وبيانه أنا لانفهم من هذه النصوص إلا ما هو من صفات المخلوقين ، لانا لم نشهد غيرها ، فإن قيل هي على ظاهرها ، لزم التشبيه ، وإن قيل ليس ظاهرها مماثلة المخلوقين لزم أنا لا نعلم معناها بل نفوض ـ أن لم نقل بالتأويل ـ ولا يصح أن نقول تجري على ظاهرها، فحكاية هذه الجملة عنهم مع إبطال التفويض تناقض(1) .
وهذه الشبهة هي ـ وغيرها ـ أدت إلى أن قال أهل التأويل : إن نصوص الصفات أو بعضها ليست دالة على الصفات على الحقيقة ، وإنما تطلق على سبيل المجاز ، ولما وافقهم غيرهم على أن هذه النصوص ليس لها معني في الظاهر إلا مماثلة المخلوقين ، وكانوا مع ذلك ممن يحرم التأويل ، قالوا : لا ندري ما أريد بهذه النصوص ، ولا نتكلم فيها فجعلوها بمنزله الكلام الأعجمي الذي لا يفهم .
وذلك أن هذه الألفاظ التي أطلقت على الخالق في الكتاب والسنة وهي ذلك تطلق على المخلوق ، ولا يخلوا الأمر فيها: إما أن تكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر .
أو حقيقة فيهما، فهذه ثلاثة أقسام .
فقال قوم هي حقيقة في الخالق مجاز في المخلوق ، وقال قوم حقيقة في المخلوق مجاز في الخالق ثم اختلفوا :
__________
(1) ممن أشار على دعوى تناقض من يقول ( إن هذه النصوص معلومة المعنى وهي على ظاهرها ) أبو المعالي في الإرشاد ص 60 ، وقال بعض المعاصرين : (فظاهر الاستواء ،هو الجلوس والقول به قول بالجسمية،فإن قال ابن تيمية إنه اشتراك في الاسم لا في الحقيقة فليس إلا أن يفسره بالظاهر السابق فيلزم الجسمية ، أو يفسره بغير المحسوس ، وذلك تأويل ) ص 70 ، ومع أنه ينازع في أن الاستواء هو الجلوس ، غير أن الذي يلزم به في الرد عليه ، أن يقال : البصر هو انعكاس صورة المرئيات في عضو ، فإن قال إن الله تعالى يوصف بالبصر ، فإن فسره بالظاهر يلزم الجسمية ، وإن قال هو إدارك المبصرات فهو قول المعتزلة نفات الصفات .(1/56)
فقال الجهمية والمعتزلة كلها مجاز، وقالت الأشعرية وغيرهم بعضها، وهي الصفات الخبرية على خلاف بينهم أيضا في ذلك.
وقال السلف ومن اتبع طريقتهم من الفقهاء والمحدثين والمفسرين وغيرهم حقيقة فيهما ،ومقالات السلف تدل على أنها تطلق عليهما بطريق المتواطئة أو المشككة.
وهذه الجملة تدل على أن الإشكال المتقدم عظيم الموقع ، لذا يجب الاعتناء بالانفصال عنه .
فيقال: إن هذا التناقض المدعي لازم أيضا لمن يثبت الصفات العقلية ، وهي السمع والبصر والإرادة والحياة والعلم والقدرة والكلام ،وهم جمهور القائلين بالتأويل لأننا لم نشهد هذه الصفات إلا في المخلوقات .(1/57)
ولازم أيضا لمن يثبت أي صفة لله تعالى ، بل ويلزم كذلك من يثبت وجود الله تعالى وإن لم يصفه بصفة ، فإنا لم نشهد موجوداً إلا جسما أو عرضا قائما به(1) .
__________
(1) قال ابن تيمية رحمه الله : فإنك إن قلت ـ أي أيها المعتزلي ـ إثبات الحياة ، والعلم ، والقدرة ، يقتضي تشبيها ، أو تجسيما ، لأنا لانجد في الشاهد متصفا بالصفات إلا ما هو جسم ، قيل لك : ولانجد في الشاهد ما هو مسمى ، حي ، عليم ، قدير ، إلا ما هو جسم ، فإن نفيت ما نفيت لكونك ، لم تجده في الشاهد ، إلا للجسم ، فانف الأسماء ، بل وكل شيء لانك لا تجده إلا للجسم ) المجموع 3/20 ، والجسم عند المتكلمين هو ما يقبل القسمة من الجواهر، والجوهر هو المتحيز ،وهو القابل بالذات للإشارة الحسية ، فإذا قبل القسمة ، فهو الجسم ، وإن لم يقبلها ، لا فعلا ، ولا وهما ، ولا فرضا ، فهو الجوهر الفرد ، بناء على أن الأجسام تنقسم إلى ما يصير إلى الجزء الذي لايتجزء ، وعندهم الجوهر منحصر في هذين القسمين ، وأقل ما يتركب منه الجسم ، جوهران من الجواهر المنفردة ، ينظر شرح المواقف للجرجاني 2/343ـ 345، شرح العقائد النسفية للتفتازاني ص 49 وأما العرض عندهم فهو موجود قائم بمتحيز ، وأدخلوا تحت هذه القسمين ، كل ما يشاهد ، أو يحس كالهواء ، فهو جسم ، أما الضوء ، واللون ، فهما عرضان ، ينظر المواقف للايجي ، وهم مع ذلك ينفون أن يكون الله تعالى جسما ، أو عرضا ، ولا يعرف في الشاهد موجود غير هذين ، فيلزمهم أنه غير موجود ، نقول هذا من باب الإلزام ، وليس إثبات هذه الألفاظ أو نفيها ، إذ سيأتي الكلام على هذا لاحقا إن شاء الله تعالى .(1/58)
لم نشهد موجودا إلا جسما أو عرضا قائما به ، ونحن مع ذلك لم نشهد وجود الله ، ولم نعرف ماهيته ، ولا نظيراً له سبحانه ، إذ ليس لها نظير، أفيقال : إنا إذا أثبتنا وجوده ، يلزمنا تشبيهه سبحانه بوجود ما سواه ، أم يقال : إذا قلنا وجوده ليس مشابها لوجود سواه ، يلزمنا التفويض في معني الوجود وأنا لا نعقل منه شيئا ؟!!
* وقفة مهمة جدا تحل إشكالات كثيرة في هذا الباب :
حل عقدة باب الصفات :
فإن قيل فما حل هذه العقدة ، بعد هذه الحجة الجدلية، فالجواب: أن الناس اختلفت طرائقهم في اقتحام هذه العقبة ، التي العقبة هذا الباب حقاً، إلا أن الخروج منها إلى الصراط المستقيم له باب واحد وسواه مفض إلى سحيقة أو تناقض .
فإن ناساً قد التزموا نفي كل شي لئلا يقعوا في التشبيه، قال أبو المعالي: (اعلموا أشدكم الله أن من أعظم أركان الدين نفي التشبيه، وقد أفتتن فيه فئتان، وابتلي به طائفتان فغلت طائفة ونقت جملة صفات الإثبات ، ظنا أن المصير إلى إثباتها مفض إلى التشبيه وإلى ذلك صار من أثبت الصانع من الفلاسفة ، وإليه ميل بعض الباطنية ، فزعموا أن القديم لا يوصف بالوجود ولكن يقال أنه ليس بمعدوم ، وكذلك لا يوصف بكونه حيا قادراً ، بل يقال ليس بميت ولا عاجز ولا جاهل ..)(1) .
وقال الشهرستاني رحمه الله عن الجهم بن صفوان : (وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم أشياء منها قوله : لا يجوز أن يوصف الباري تعالى بصفة يوصف بها خلقه ، لأن ذلك يقتضي تشبيها )(2) .
__________
(1) الشامل للجويني الكتاب الأول، الجزء الأول ، 1/169 ، وتعليق رشاد سالم على درء التعارض 5/187 .
(2) الملل والنحل 1/86 .(1/59)
وذكر ابن تيمية رحمه الله أنه قرأ لأبي يعقوب السجستاني - أحد الباطنية - في كتاب الأقاليد الملكوتية أنه التزم أن الله يقال عنه (لا موجود ولا ليس بموجود ، ولا معدوم ولا ليس بمعدوم ) ، وذلك أنه ابتدأ أولاً بأن الله ليس بموجود فأورد على نفسه أن هذا تشبيه بالمعدومات ، فقال ( لا موجود ولا معدوم ) ثم أورد على نفسه أن هاتين قضيتان مختلفتان بالسلب والإيجاب ، ويلزم من صدق أحدهما كذب الأخرى فاضطر أن يقول جملته المتقدمة فرارا من التشبيه ، ومع ذلك فقد أورد عليه ابن تيمية التشبيه بالممتنعات لأن هذه الجملة صفة الممتنع(1) .
فهذه هي الهوة السحيقة.
ورام قوم الخروج بأن قالوا إن هذه الألفاظ مقولة على الخالق والمخلوق بطريق الاشتراك اللفظي .
قال ابن تيمية ( وقد رام طائفة من المتأخرين كالشهرستاني والآمدي والرازي - في بعض كتبه - ونحوهم ، أن يجيبوا هؤلاء - أي أمثال هذا الضال المذكور آنفا - عن هذا بأن لفظ (الموجود) و(الحي) و(العليم) ، و (القدير) ، نحوها من الأسماء تقال على الواجب والممكن بطريق الاشتراك اللفظي ، كما يقال لفظ المشتري على الكوكب والمبتاع ، وكما يقال سهيل على الكوكب والرجل المسمّى بسهيل ...
ثم قال : وهؤلاء متناقضون في هذا الجواب ، فإنهم وسائر العقلاء يقسمون الوجود إلى واجب ، وممكن ، وقديم ، ومحدث ، وأمثال ذلك ، مع علمهم بأن التقسيم لا يكون في الألفاظ المشتركة ، إن لم يكن المعنى مشتركاً ، سواء كان متماثلاً ، أو متفاضلأ ، ً ومنهم من يخص المتفاضل بتسميته مشككاً ...
ثم قال : فأما مثل سهيل ، فلا يقال سهيل ينقسم إلى الكوكب والرجل إلاّ أن يراد يطلق على هذا وهذا ، ومعلوم أن مثل هذا التقسيم ، لا يراد به الإخبار عن الإطلاق في اللغة ، وإنما يراد به تقسيم المعنى المدلول عليه باللفظ ...
__________
(1) الدرء 5/324 .(1/60)
ثم قال : ثم هم مع هذا التناقض موافقون في المعنى للملاحدة ، فإنهم إذا جعلوا أسماء الله تعالى كالحي ، والعليم ، والقدير ، والموجود ، ونحو ذلك مشتركة اشتراكاً لفظياً ، لم يفهم منها شيء إذا سمي بها الله ، إلا أن يعرف ما هو ذلك المعنى الذي يدل عليه إذا سمي الله)(1) .
ومعلوم أن المعنى الذي يدل عليه لفظ الموجود ، ونحوه المطلق على الباري جل وعز ، لا يمكن أن نفهمه إلاّ إذا كان بين هذا الإطلاق ، واطلاقه على الشاهد من المخلوقات قدراً مشتركاً ، يمكننا به فهم الخطاب ، وهذا الإطلاق هو المسمى بالأسماء المتواطئة ، أو المشككة .
__________
(1) المصدر السابق .(1/61)
ولهذا فإن الأكثر على أن اسم الوجود حقيقة في الواجب ، والممكن , وأنه مقول عليهما بطريق التواطؤ العام ، أو التشكيك ، إذا جعل المشكك نوعاً آخر(1) .
وقد ذكر ابن تيمية أن أحداً لم يجعل هذه الأسماء مقولة بالاشتراك اللفظي إلاّ شرذمة من المتأخرين وقد تقدم بطلانه(2) .
__________
(1) قال الجرجاني : (المشكك هو الكلي الذي لم يتساو صدقه على أفراده بل كان حصوله في بعضها أولى أو أقدم من البعض الآخر ، كالوجود في الواجب أولى ، وأقدم وأشد مما في الممكن ) التعريفات 216 ، والكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه ، وقد أورد على قسم المشكك أن الاسم إذا كان يطلق على القدر المشترك ، من غير دخول الاختلاف بين المسميات في التسمية فهو المتواطئ ، وإن دخل فالاشتراك اللفظي ، فلا حقيقة للمشكك ، وأجاب القرافي : ( أن كلا من المتواطئ والمشكك ، موضوع للقدر المشترك ، ولكن الاختلاف إن كان بأمور من جنس المسمى فهو المصطلح على تسميته بالمشكك ، وإن كان بأمور خارجة عن مسماه كالذكورة ، والأنوثة ، والعلم ـ يعني في اسم الإنسان ـ فهو المصطلح على تسميته بالمتواطئ ) ينظر نهاية السول 2/45ـ 47 ، وقد ذكر ابن تيمية ، أن قدماء نظار الفلاسفة ، على أن المشكك متواطئ باعتبار القدر المشترك ، المجموع 9/147 ، فعلى هذا إن أريد بإطلاق هذه الأسماء على الخالق والمخلوق بطريق التواطيء أن الصدق على الأفراد متفاوت فحق ، بل هو أعظم تفاوت على الإطلاق ، وإن أريد التساوي فلا قطعا ، وأما المشكك فقاطع في المراد .
(2) المجموع 20/442، ومما ذكر صاحب شرح المقاصد ( والجمهور على أنه له ـ أي الوجود ـ مفهوما واحدا ، مشتركا بين الموجودات ، إلا أنه عند المتكلمين حقيقة واحدة ، تختلف بالقيود والإضافات ) 1/341، ثم ذكر أنه مع ذلك قد يطلق على الموجودات بالتشكيك لأنه في الواجب أولى وأقدم وأشد ، على ما فهم من كلامه ( 1/354ـ 355) .(1/62)
وإذا تبين هذا ، فالجواب عن الإشكال المتقدم بأن يقال : نحن نفهم من هذه الألفاظ ما دلت عليه من القدر الذي تتواطأ عليه ، ولا نعلم حقيقة ما يمتاز به الخالق ، غير أننا نعلم أن ما يختص الله به من هذه الأسماء التي فهمنا معناها عند الإطلاق ، أعظم مما يخطر في البال ، أو يدور في الخيال .
ومثال ذلك العلم ، فعند الإطلاق نفهم من هذه الكلمة معنى ، فإذا قيل (علم الله ) علمنا أن ما اختص الله به من هذا المعنى أعظم من أن نحيط به علماً ، أو نعرف كنهه ، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله ، ولولا هذا القدر المشترك من المعنى الذي يأخذه الذهن عند الإطلاق ، ثم يقيد به عند الاختصاص بالخالق ، ما يتميز به الخالق ، مما لا نستطيع حده بحد ، لما أمكن معرفة الله تعالى بوجه من الوجوه(1) .
ويتوجه على هذه الجملة سؤال وفي الجواب عنه مزيد تفصيل وتوضيح ، فيقال :
فإن قيل : وكيف يصحّ أن يقال : إن بين أسماء الله ، وصفاته ، وأسماء خلقه وصفاتهم ، قدراً مشتركاً ، ألا يوجب هذا التشبيه ؟
فالجواب : أن التشبيه كلمة ، قد صار فيها إجمال ، بحسب استعمال المتكلمين في هذا الباب ، فيجب أولاً معرفة المحذور من معناها شرعاً.
__________
(1) ينظر مجموع ابن تيمية 3/10 .(1/63)
ذلك أن التشبيه جاء في السمع ، بلفظ التمثيل في قوله تعالى { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: من الآية11] وهو أدلّ على المقصود ، ومعنى الآية أن الله تعالى لا يماثله شيء فيما يختص به من صفات الكمال ، أما أن تدل على أن ما يتصف الله به من الصفات لا يمكن أن يتصف غيره بجنسها ، فليس فيها ولا دلّت عليه اللّغة ، فقد نفى الله التماثل بين صنفين من بني آدم قال تعالى : {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: من الآية38] فنفى الله التماثل للتفاوت في بعض الصفات مع اشتراكهم في أكثرها ، ومثل هذا قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر:19] ، وقوله {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: من الآية22] ، وقوله {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: من الآية20] (1) .
وإذا كانت الأدلة الشرعية لا تدل على أن التشابه من بعض الوجوه ، يقتضي تماثلهما في جميع الأشياء ، فليس في الآية أن وجود قدر مشترك بين الأسماء التي تطلق على الله وخلقه ، يوجب التماثل المنفي بقوله {ليس كمثله شيء} .
ولهذا فقد اعترف أساطين الكلام ، أن ما قد يسمى التشبيه من بعض الوجوه بين الخالق والمخلوق ، لازم لجميع المسلمين ، ويعنون به ما يطلق من الأسماء والصفات على الخالق والمخلوق ولو كان مجرد صفة الوجود ، قال الرازي رحمه الله (وان عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله شبيها بخلقه من بعض الوجوه ، فهذا لا يقتضي الكفر ، لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود ، وشيء ، وعالم ، وقادر ، والحيوانات كذلك وذلك لا يوجب الكفر)(2) .
__________
(1) ينظر الدرء 6/7 ، 7/113ـ 114 .
(2) نقلا عن تلبيس الجهمية 1/382 .(1/64)
وقال أبو المعالي (وقال في بعض مقالاته - أي أبو الحسن - المشبه من يعترف بالتشبيه ، فأما من ينكره ويثبت مع التجسيم والغلو فيه للرب ، صفاتا لا يجوز ثبوتها إلاّ للمخلوقات فلا نسميه مشبهاً تحقيقاً ، إذ المشبه من يعتقد تشابه الرب ، والمحدث من كل وجه ، إذ حقيقة المثلين ، المتشابهين في جملة الصفات ..)(1) .
ولهذا أيضاً أنكر الأئمة الغلو في النفي ، خشية الوقوع في التعطيل ، وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال لا يشبه الأشياء ، وليس كمثله شيء ، ونحو ذلك أما قوله ( بوجه من الوجوه ) فامتنع منها ، وذلك أنه عرف أن مضمون ذلك التعطيل المحض ، فإنه يقتضي أنه ليس بموجود ، ولا شيء ، ولا حي ، ولا عليم ، ولا قدير ، ويقتضي إبطال جميع أسمائه الحسنى(2) .
وبهذا يعلم أن إثبات قدر مشترك من معنى الأسماء المقولة على الخالق والمخلوقات ، ليس فيه التمثيل المحذور شرعاً ،غير أنه لا يخفي أن إطلاق هذه اللفظة وهي (أن الله يشبه خلقه من بعض الوجوه) خطأ ، والإمام أحمد إنما أنكر النفي لئلا يتوهم التعطيل ، فكذلك ينبغي أن تمنع هذه الجملة لئلا يتوهم التشبيه الممنوع شرعاً وعقلاً ، وهو (أن يماثل الله شيء من خلقه فيما يجب له من صفاته ، أو أن يثبت شيء من خصائص المخلوقين لله سبحانه وتعالى ) ، إذ هو تعالى ليس كمثله شيء لا في أسمائه ، ولا في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، قال الإمام أحمد : ( من قال بصر كبصري ويد كيدي وقدم كقدمي فقد شبه الله بخلقه ، وهذا يحده وهذا كلام سوء)(3) .
__________
(1) الشامل للجويني 1/169 .
(2) الدرء 5/183 .
(3) 2/32 .(1/65)
فهذه المقالة تبيّن أن المحذور من التشبيه ، هو ما يستلزم من نعت الله تعالى بالنقص ، والحدوث ، ولا ريب أن وصفه بخصائص المخلوقين تمثيل له بما هو ناقص حادث ، أما مجرّد نعته بالصفات التي يصحّ إطلاقها على المخلوقات ، مع العلم بقدر مشترك من المعنى في الإطلاقين ، والقطع بأن ما اختص الله به لا يماثل ما يختص به المخلوق ، فليس في هذا نقص بوجه من الوجوه.
قال أبو المعالي رحمه الله رداً على الفلاسفة ومن تابعهم في نفي الصفات (ويقال لهم أتثبتون الصانع المدبر أم لا تثبتونه ؟ فإن أثبتوه لزمهم من الحكم بإثباته ما حاذروه فإن الحادث ثابت فاستويا في الثبوت ، ...ثم قال : وإن قالوا نعتقد الثبوت ولا ننطق به ، قلنا كلامنا في الحقائق لا في الإطلاقات ، فإن قالوا فصفوا الإله بالثبوت والوجود ولا تنطقوا به ، واعتقدوا وجود الحادث ولا تنطقوا به لتنتفي المماثلة لفظاً ، فإن المماثلة لفظاً مما يتوقى في العقائد ، قلنا يتوقى اللفظ لأدائه إلى الحدوث أو إلى النقص ، فكل ما لا يؤدي إلى الحدوث أو إلى النقص لا نكترث به ، ثم محاذرة التعطيل أولى من محاذرة التشبيه )(1) .
وهذا القدر المشترك الموجود في الأسماء المشككة ، الذي به أمكن فهم خطاب الله تعالى عن نفسه ، وأسمائه ، وصفاته ، وأفعاله ، لا يستلزم وجود شيء في الخالق هو بعينه في المخلوق ، وإنما هو أمر مطلق كلي ، ولا يوجد إلاّ في الذهن ، ولا يختص بأحدهما دون الآخر ، فلا يقع بينهما اشتراك لا فيما يختص بالباري ولا فيما يختص بالبرية ، وعند التخصيص يقال علم الله ، وحياة الله ، فهذا ذكر لما يتميز به الخالق فلا يماثله فيه المخلوق ، ولو كان القدر المشترك هو شيء موجود في الخارج يشترك فيه الباري وخلقه ، لكان هذا تشابها بينهما والشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من ذلك الوجه له ما وجب له وامتنع عليه ما امتنع عليه(2) .
__________
(1) نقلا عن الدرء 5/189 .
(2) المجموع 3/74ـ 75 .(1/66)
فثبت بهذا أن إثبات القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه ولا نفي ما يستحقه ، فليس ممتنعاً ومثال هذا في المخلوقات ، أن اسم الوجود يطلق بالتواطؤ على العرش ، والبعوض ، فيقال هذا موجود ، وهذا موجود ، لا تفاقهما في مسمى الوجود ، وهو يطلق عليهما بالتواطؤ قطعاً ، لأن قدراً مشتركاً من المعنى يوجد بينهما ، ولا ريب أن عاقلاً لا يقول إن وجود العرش كوجود البعوض ، لاتفاقهما في مسمى الوجود(1) .
ولا أن الاسم يطلق عليهما بالاشتراك اللفظي فقط ، ولكن قد يتوهم متوهم ، أن هذا القدر المشترك هو شيء موجود في الخارج يشتركان فيه ، وليس كذلك بل هو وجود ذهني محض ولا يوجد في الخارج إلاّ الأعيان التي لكل واحد منها ما يخصه لا يشاركه فيه شيء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمي صفاته بأسماء ، وكانت تلك الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره ، وسمي بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم ، مضافة إليهم ، توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص ، ولم يلزم من اتفاق الاسمين وتماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص اتفاقهما ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص ) ، وقال أيضاً ( سمي الله نفسه حيا فقال { الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم } وسمي بعض عباده حياً ، فقال { يخرج الحي من الميت } وليس هذا الحي مثل هذا الحي ، لأن قوله الحي اسم لله مختص به وقوله {يخرج الحي من الميت } اسم للحي المخلوق مختص به ، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجردا عن التخصيص ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج ، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسمين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق)(2) .
__________
(1) المصدر السابق 3/10 .
(2) المصدر السابق .(1/67)
وقال أيضاً ( هكذا القول في جميع الصفات ، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلابد أن يدل على قدر تتواطأ فيها المسميات ، ولولا ذلك لما فهم الخطاب ، ولكن نعلم أن ما اختص الله به وامتاز عن خلقه ، أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال)(1)
فإن قيل فإن التفاوت بين الخالق والمخلوق أعظم من أن يتصور ، بقدر ما بينهما من التفاوت في الذات ، فهلا مُثِّل لهذا بمثال في المخلوقات ، يقرب القول من التصور .
فالجواب نعم ، هذه الروح نفهم ذهابها ، وإيابها ، وصعودها ، ونزولها ، والعقول قاصرة عن تكييفها ، لأنّا لم نشهد لها نظيراً ، فلم يمنع عدم مشاهدة نظيره من فهم الخطاب ، ولم يمنع جهلنا بكيفية الروح ، أن نعلم صفاتها التي أخبر الله عنها في القرآن .
وكذلك ما في الجنة ، ماءها ، وثمارها ، وسائر ما فيها من النعيم ، ليس كما في الدنيا وما بينهما من التفاوت عظيم حتى قال ابن عباس (ما في الجنة في الدنيا إلاّ الأسماء)(2) .
__________
(1) .المصدر السابق ( 3/24) ، وانظر في هذا البحث ، والجواب على الإشكال المتقدم في أول التنبيه شرح الطحاوية ص 103ـ 107، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ( اتفاق المسمين في بعض الأسماء والصفات ، ليس هو التشبيه ، والتمثيل التي نفته الأدلة السمعيات ، والعقليات ، وإنما نفت اشتراكهما فيما يختص به الخالق ، مما يختص بوجوبه ، أو جوازه ، أو امتناعه ، فلا يجوز أن يشركه في مخلوق ، ولا يشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى ) المجموع 3/23 .
(2) الأثر رواه الطبري في التفسير 1/392 ، وهناد بن السري في الزهد 1/49 ، وعزاه السيوطي في الجامع الصغير إلى الضياء في المختارة ، وصححه محققه ، وعزاه إلى أبي نعيم والبيهقي رقم ( 5410) ، وزاد في الدر المنثور ممن رواه ، مسدد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في البعث ( 1/38) ، وانظر في المثلين ، الروح والجنة ، المجموع 3/28ـ 33، 5/346 ـ 350 .(1/68)
ثم نحن نفهم الخبر عن الجنة ، ولولاه ما هتكت نحور المجاهدين ، ولا تشققت أقدام العابدين .
فالله عز وجل أعظم وأجل ، قال ابن تيمية (فإذا استعملت خاصة معينة - أي الأسماء المشككة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس - دلت على ما يختص به المسمى ، لم تدل على ما يشركه فيه غيره في الخارج .
فإن ما يختص به المسمى لا شركة فيه بينه وبين غيره ، فإذا قيل علم زيد ، ونزول زيد ، واستواء زيد ، ونحو ذلك لم يدل هذا الأعلى ما يختص به زيد من علم ونزول ونحو ذلك ، لم يدل على ما يشركه فيه غيره .
لكن لما علمنا أن زيدا نظير عمرو ، علمنا أن علمه نظير علمه ، ونزوله نظير نزوله ، واستواءه نظير استوائه ، فهذا علمناه من جهة القياس ، والمعقول ، والاعتبار ، لا من جهة دلالة اللفظ ، فإذا كان هذا في صفات المخلوق ، فذلك في الخالق أولى .
فإذا قيل : علم الله ، وكلام الله ، ونزوله ، واستواؤه ، ووجوده ، وحياته ، ونحو ذلك لم يدل ذلك على ما يشركه فيه أحد من المخلوقين بطريق الأولى ، ولم يدل ذلك على مماثلة الغير له في ذلك ، كما دل في زيد وعمرو ، لأنا هناك علمنا التماثل من جهة القياس والاعتبار ، لكون زيد مثل عمرو .
وهنا نعلم أن الله لا مثله ، ولا كفؤ ، ولاند ، فلا يجوز أن نفهم من ذلك أن علمه مثل علم غيره، ولا كلامه مثل كلام غيره ، ولا استواءه مثل استواء غيره ، ولا نزوله مثل نزول غيره ، ولا حياته مثل حياة غيره ، ولهذا كان مذهب السلف والأئمة إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقين)(1) .
وبهذا يمكننا أن نقول فيما نطلقه على الله كصفة الوجه ، واليد ، والمجيء ، والاستواء ، أن القول فيها كالقول في صفة العلم ، والسمع ، والبصر وغيرها ، نعلم المعنى عند الإطلاق ، ونستطيع به فهم الخطاب ، ونجهل كيفية ما يختص الله به من هذه الصفات عند التخصيص .
__________
(1) المصدر السابق 5/329 .(1/69)
وقد يقال إن صفة السمع ، والبصر، والعلم ، وأمثالها ، يمكن تصور ما تقدم فيها ، أما الوجه ، واليد ، والاستواء ، والنزول ، وأمثالها ، فإنا لا نعقل منها إلاّ ما هو جارحة ، وحركة ، وانتقال ، فكيف يقال نعلم المعنى ، ولا نعلم ما يختص بالله .
كما قال الايجي في المواقف ( الوجه وضع للجارحة ، ولم يوضع لصفة أخرى ، بل لا يجوز وضعه لما لا يعقله المخاطب ، فتعين المجاز ، ثم ذكر أنه الوجود)(1) .
ولا ريب أن قائل مثل هذا لم يحسن النظر فيما يقول ، فإن السمع لا نعقل منه في المخلوق إلاّ ما هو عرض متعلق بعضو ، والبصر انعكاس صورة المرئيات في عضو ، والإرادة ميل القلب إلى الشيء ، ومعلوم أنه لا يقال لا نعقل من هذه الصفات شيئاً بالنسبة إلى الله .
وأما ما ذكره الإيجي في المواقف فقد أجاب عنه أبو بكر ابن فورك قال (فأما ما ذهب إليه المعتزلة من تشبيه ذلك بوجه الثوب، ووجه الحائط ، فغلط من التمثيل ، من قبل أن وجه الثوب ، والحائط ، ليس هو نفس الثوب ، والحائط ، بل هو ما واجه به ، وأقبل به ، وكذلك وجه الأمر ما ظهر منه في الرأي الصحيح ، دون ما لم يظهر ، وإذا لم يجز في اللغة استعمال معنى الوجه على معنى الذات على الحقيقة في موضع ، وقد ورد إطلاق الكتاب والسنة بذلك ، لم يكن لما ذهبت إليه المعتزلة وجه ، ووجب أن يحمل الأمر فيه على ما قلنا أنه وجه صفأأة ، ولا يقال هو الذات ولا غيرها)(2) .
فهذا يبين أن الوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، قال ابن القيم ( والوجه في اللغة مستقبل كل شيء ، لأنه أول ما يواجه منه ، ووجه الرأي والأمر ما يظهر أنه صوابه ، وهو في كل بحسب ما يضاف إليه ، فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمانا ، وإن أضيف إلى حيوان ن كان بحسبه ، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه ، وإذا أضيف إلى من {ليس كمثله شيء} كان وجهه تعالى كذلك .
__________
(1) المواقف في علم الكلام للايجي 298 .
(2) مشكل الحديث وبيانه 173 .(1/70)
وكذلك اليد تضاف إلى الملك ، والجن ، والحيوان ، والإنسان ، وهي في ذلك كله صفات متعلقة بالذات ، ثم إذا أضيفت وخصصت ناسبت ما أضيفت إليه ، فاختلفت اختلافاً عظيماً ، فإذا أضيفت إلى من ليس كمثله شيء كانت كذلك(1) .
ولا ينتقض هذا بأن اليد تطلق ويراد بها القدرة والنعمة - فتخرج عن كونها صفة متعلقة بالذات غير القدرة والنعمة - وذلك لثلاثة أوجه .
الأول : قال ابن القيم : ( إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله {خلقت بيدي} يأبى حمل الكلام على القدرة ، لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه ثم عدى الفعل إلى اليد ، ثم ثناها ، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك كتبت بالقلم ، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه)(2) .
الثاني : قال الباقلاني في التمهيد ( ويدل على فساد تأويلهم أيضاً - أي بالقدرة والنعمة - أنه لو كان الأمر على ما قالوه ، لم يغفل عن ذلك إبليس وعن أن يقول ( وأي فضل لآدم عليّ يقتضي أن أسجد له ، وأنا أيضاً بيدك خلقتني ، التي هي قدرتك ، وبنعمتك خلقتني ؟ وفي العلم بأن الله تعالى فضل آدم عليه بخلقه بيده دليل على فساد ما قالوه )(3) .
__________
(1) ينظر مختصر الصواعق المرسلة 419 .
(2) المصدر السابق 404 .
(3) ينظر في مثال صفة اليد وأدلة إثباتها صفة لله تعالى مختصر الصواعق ص 298، وص 305، وص 408 .(1/71)
الوجه الثالث : قال ابن القيم ( إن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلاّ في حق من له يد حقيقية ، فهذه موارد استعمالها ، من أولها إلى آخرها ، مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك ، فاليد المضافة إلى الحي ، إما أن تكون يداً حقيقية أو مستلزمة للحقيقية ، وأما أن تضاف إلى من ليس له يد حقيقية ، وهو حي متصف بصفات الأحياء ، فهذا لا يعرف البتة ، وسر هذا أن الأعمال ، والأخذ ، والعطاء ، والتصرف ، لما كان باليد ، وهي التي تباشره ، عبروا بها عن الغاية الحاصلة بها وهذا ، يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصحّ استعمالها في مجرد القوة والنعمة والإعطاء)(1) .
وهذان المثالان يوضحان أن الوجه واليد ، فيما أضيفا إليه من الأمور يدلان على قدر من المعنى متواطئاً ، مشتركاً فيها ، هو صفة من صفات المضاف إليه ، وعند التخصيص تختلف هذه الصفة ، اختلافاً بحسب اختلاف المضاف إليه ، والقدر الذي حصل به الاشتراك غير الذي حصل به الامتياز ، وبهذا علمنا أنها صفات لله تعالى، وجهلنا حقيقة ما امتاز الله به من هذه الصفات .
وعلى هذين المثالين تقاس سائر الصفات الفعلية والذاتية ، كالاستواء والنزول ، والعينين ، يعلم أنها صفات لله من حيث يعلم معناها في لغة التخاطب ، ونجهل حقيقة ما يمتاز الله به وهو التأويل الذي لا يعلمه إلاّ الله ، ويعلم كذلك من أحكام هذه الصفات ما جاء في السمع ، فكما علمنا أن من أحكام صفة السمع أن الله يسمع المسموعات ، ومن أحكام صفة البصر أن الله يبصر المبصرات ، وأن الله يعلم كل شيء بصفة العلم ، كذلك نعلم أن من أحكام صفة اليد أن الله يقبض بها السموات ، وأنه خلق آدم بها ففضله على سائر من خلقه بكلمة كن .
__________
(1) ينظر مختصر الصواعق 406 .(1/72)
وهذا هو المخرج الصحيح من الأشكال المتقدم في أول التنبيه ، وهو الصراط المستقيم الذي سار عليه سلف الأمة ، والذي هو في غاية الاستقامة والتناسب ، والسر في عدم تناقض مذهب السلف ، عدم تفريقهم بين الصفات ، وجعلها فرعاً عن الذات ، واتباع السمع ومن اتبعته فلا يختلف قوله ، قال تعالى {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: من الآية82] .
ويدل على صحة مذهبهم أدلة كثيرة جداً ، وفيما يلي من هذا المبحث أهم الأدلة من الكتاب والسنة والمعقول الصريح .
المطلب الثالث
الأدلة على صحة مذهب السلف في الصفات ، وإبطال مذهبي المفوضة والمؤولة
كان ما تقدم من هذا المبحث في تحقيق أن مذهب السلف الذي لم يختلفوا فيه في الصفات ، هو أنها معلومة المعنى ، ولا تصرف عن ظاهرها ، بمعنى كونها صفات لله غير أن كيفياتها لا يعلمها إلاّ الله تعالى :
وفيما يلي ذكر الأدلة على صحة هذا المذهب ، ومن المفيد قبل الخوض في ذلك ذكر الأقسام الممكنة في الأقوال في هذا الباب ، ليكون محل النزاع أكثر وضوحاً ، ويتضح كيف تتوجه الأدلة بتأكيد مذهب السلف ونقض غيره وذلك :
أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام :
قسمان يقولان تجري على ظاهرها .
وقسمان يقولان على خلاف ظاهرها.
وقسمان يسكتان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (أما الأولان فقسمان ، أحدهما من يجريها على ظاهرها ، ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين ، فهؤلاء المشبهة ، ومذهبهم باطل .
والثاني من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله ، فإن ظواهر هذه الصفات في حق المخلوق إما جوهر محدث أو عرض قائم به ، فالعلم والقدرة والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض ، والوجه واليد والعين أجسام .(1/73)
فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات ، بأن له علما ، ً وقدرة ، وكلاماً ، ومشيئة ، وإن لم يكن ذلك عرضا ، يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين ، جاز أن يكون وجه الله ، ويداه ، وعينه ، ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوق .
وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف ، ويدل عليه كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه ، وهو أمر واضح فإن الصفات كالذات ، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقية ، من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين ، فصفاته ثابتة حقيقية من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقين ... ثم قال : أما القسمان اللذان ينفيان ظاهرهما أعني الذين يقولون ليس لها في الباطن مدلول صفة الله تعالى قط ... ثم ذكر أقسام هؤلاء وأن منهم من ينفيها كلها ، ومنهم من يثبت سبعا ، أو ثمان ، أو خمسة عشر ، ثم ذكر القسمين الأخيرين وأن منهم من يقول يجوز أن يراد ظاهرها اللائق بالله ويجوز أن لا يكون المراد صفة لله.
ومنهم من يمسك عن ذلك كله ولا يزيدون عن تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين عن هذه التقديرات )(1) .
وهذا التقسيم يكشف جميع طرق المتنازعين في هذا الباب ، وإذا كانت طريقة التشبيه باطلة بالإجماع ، فلم يبق في ساحة التنازع غير طريقة التفويض بقسميها - وهما القسمان الساكتان - مع قسم الذين يقولون لا نعلم ما أريد بها إلاّ أن ظاهرها غير مراد ، لأنهم مؤيدون لأهل التفويض في أن نصوص الصفات لا يعلم معناها ، وطريقة التأويل الذين يعينون المراد ، وطريق السلف .
وفيما يلي ذكر أهم ما يستدل به على أن نصوص الصفات معلومة المعنى ، وأن تأويلها لا يجوز ، وهو مذهب السلف ، وبذلك يتبين بطلان طريقة التفويض وطريقة التأويل ، فلنبدأ أولاً بذكر أدلة بطلان طريقة التفويض:
الدليل الأول :
__________
(1) ينظر المجموع 5/113ـ 117، 16/398ـ399 .(1/74)
أن الله تعالى أمر بتدبر القرآن أجمع ولم يستثن منه شيئاً ، قال {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ:29] ، وقال {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: من الآية82] ، وقال {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:68] ، وفي هذه الآية حض الكفار والمنافقين على تدبر القرآن فدل على إمكانهم فكيف بالمؤمنين.
وقال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] ، ولم يستثن منه شيئاً لا يعقل ولا ريب أن أعظم ما دل عليه القرآن ما أخبر الله به عن صفاته ، فكيف يذم من تدبر أعظم ما دلّ عليه وتعلم معانيه وأحكامه ، كيف والقرآن مليء بآيات الصفات ، ومنها التي أدعي أنها توهم التشبيه كالاستواء في سبع آيات ، والمجيء ، والإتيان ، والتجلي ، والعين ، والوجه ، واليد ، وذكر ما يدل على أنه فوق العرش ، في آيات كثيرة لا تحصي إلاّ بكلفة.
الدليل الثاني :
أن الله تعالى ذم من لا يفهم القرآن فقال {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً) (الاسراء: 45-46] ، وقال تعالى { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: من الآية78] ، فلو كان المؤمنون لا يفقهون أعظم ما دل عليه لكانوا مشاركين للكفار والمنافقين فيما ذمهم الله تعالى به .(1/75)
وقال تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:171] ، وقال {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:16] ، فقد ذم من لم يكن حظه من السماع إلاّ سماع الصوت دون فهم المعنى واتباعه ، فكيف يكون أراد من نصوص الصفات ما ذمه الله من السماع الخالي من الفهم والعقل(1) .
وقال أيضاً {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78] ، قال ابن جرير { لا يعلمون ما في الكتاب الذي أنزله الله ولا يدرون ما أودعه من حدوده وأحكامه وفرائضه كهيئة البهائم } ثم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل هذا(2) .
الدليل الثالث :
أن الله أخبر عن القرآن أنه أنزله تبيانا لكل شيء قال تعالى {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: من الآية89] ، ومقتضى كونه تبيانا لكل شيء وجود البيان الشافي فيما يجب ويستحيل ويجوز بالنسبة لله فيه .
الدليل الرابع :
__________
(1) ينظر مجموع ابن تيمية 5/158ـ 159 .
(2) تفسير ابن جرير 1/259ـ 260 .(1/76)
أن الله أخبر عن القرآن وغيره من الكتب الإلهية أنه حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قال تعالى {وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: من الآية213] ، والقول بأن آيات الصفات لا يعلم معناها إلاّ الله يلزم منه أن الخلاف الذي وقع بين أهل هذا الدين في أعظم مسائله ليس في القرآن الحكم فيه وهذا خلاف ما دل عليه القرآن من أنه حاكم بين الناس .
الدليل الخامس:
أن القرآن مليء بآيات الصفات كما تقدم والقول بأنها لا يعلم معناها ، ويجب فيها التفويض الكلي يلزم منه أن الله تكلم في كثير من القرآن بما لا فائدة فيه وهو محال إذ يلزم منه العبث وهو نقص.
الدليل السادس :
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم في نصوص الصفات في أحاديث كثيرة وفي الصحيحين من ذلك جملة وافرة ، فمما رواه البخاري : قال عليه الصلاة والسلام (لما خلق الله الخلق كتب في كتابه وهو يكتب على نفسه وهو وضع عنده على العرش - إن رحمتي تسبق غضبي)(1) .
وقال (إن الله لا يخفي عليكم أن الله ليس بأعور وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى)(2) .
وقال ( يجمع الله المؤمنين يوم القيامة كذلك فيقولون : لو استشفعنا إلى ربنا يريحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم فيقولون يا آدم أما ترى الناس ، خلقك الله بيده ...الحديث)(3) .
وقال (يد الله ملآى لا يغيضها نفقة .. وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفعه)(4) .
وعن عبد الله بن مسعود ( أن يهودياً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إن الله يمسك السماوات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع والشجر على إصبع والخلائق على إصبع ثم يقول أنا الملك فضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت نواجذه تعجباً وتصديقاً له)(5) .
__________
(1) فتح الباري 13/384 .
(2) فتح الباري رقم الحديث 38913 .
(3) فتح الباري 13/392 .
(4) فتح الباري 13/393 .
(5) المصدر السابق .(1/77)
وقال (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته)(1) .
وقال (إنكم سترون ربكم عيانا)(2) .
وقال ( إن الله تبارك وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ... الحديث)(3) .
وقال (يتنزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفر ني فاغفر له)(4) .
وقال (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض)(5) .
وهذه النصوص غيض من فيض ، فإنها لكثرتها قد صنفت فيها مصنفات خاصة ، يكثر فيها ذكر أحاديث الصفات ، كالكتب المسماة بكتب السنة ، ككتاب السنة لابن أبي عاصم ، وللمروزي ، ولعبد الله ابن أحمد، وللالكائي ، والصفات للدارقطني ، والتوحيد لابن خزيمة ، وغيرها وفيها من النصوص، ما لا يحصى إلاّ بكلفة ، فهل يقال إنها كلها لا يفهم معناها ، والواجب السكوت عنها ، وإن هذا هو مذهب السلف؟ وإذا قيل إن فائدة ذكرها في القرآن التعبد بتلاوتها فحسب - مع أن هذا باطل - فما فائدة ذكرها في الأحاديث ، وهل يلزم من ذلك إلاّ نسبة العبث إلى مقام النبوة الرفيع.
الدليل السابع :
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم ببعض الأحاديث فجاءت كالتفسير للقرآن كما قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) النحل (44) ، فمن هذه الأحاديث قول النبيّ -صلى الله عليه وسلم- (يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض}(6)
__________
(1) المصدر السابق 13/419 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق 13 / 461 .
(4) المصدر السابق 13/466 .
(5) المصدر السابق 13/367 .
(6) تقدم تخريجه قريبا .(1/78)
فهذا كالتفسير لقول الله تعالى {وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} ، ومنها ما رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (قال قلت يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ، قال هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً قلنا لا ، قال فإنكم لا تضارون في رؤية ربكم يومئذ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما ...وفي الحديث إن الله يأتي يوم القيامة لمن كان يعبده من بر أو فاجر فيقول ( أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فلا يكلمه إلاّ الأنبياء فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونها ؟ فيقولون الساق فيكشف عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد لله رياء وسمعة فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقا واحداً ... الحديث )(1) .
وأول هذا الحديث كالتفسير لقول تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] ، وقوله يكشف عن ساق فما بعده كالتفسير لقول الله تعالى {يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون} ، وذكر أن الله يأتي لعباده كالتفسير لقول الله {وجاء ربك والملك صفا صفا} .
__________
(1) ينظر فتح الباري 13/421 .(1/79)
ومنها ما رواه البخاري أيضاً قال النبيّ صلى الله عليه وسلم ( الله أرحم بعباده من هذه بولدها ) هو كالتفسير لقول الله تعالى {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: من الآية156] ، ومعلوم هذه الصيغة (أرحم) قاطعة في إرادة الحقيقة فكيف يصنع من يقول الرحمة هي إرادة الثواب(1) .
فإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتكلم بما هو كالتفسير للقران ، ويأتي بألفاظ أخرى تدل على نفس معاني القرآن في هذا الباب ، فكيف يقال لا يعمل معاني القرآن ، ، وهل يفسر القرآن بما لا يعلم معناه .
الدين الثامن :
__________
(1) صيغة ( أفعل التفضيل ) تدل على أن من هي له ، فيه زيادة على غيره في المعنى الذي هي مشتقة منه ، ينظر شرح الوافية نظم الكافية لابن الحاجب ص 331، فقوله ( أرحم ) دال على أن الصفة تطلق على الخالق والمخلوق ، وهي في الخالق أعلى وأكمل ، وقد ورد في سبب الحديث أن امرأة التقطت ولدها من السبي ، فألصقته بثديها ، فقال أترون هذه تلقي ولدها في النار ، أو كما قال ، قالوا لا ، فذكر الحديث ، وينظر في هذا المعنى ، مختصر الصواعق لابن القيم ص 379 .(1/80)
إن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجيبهم بما فيه الخبر عن بعض الصفات ، ومعلوم أن الجواب المشتمل على ما لا يفهم معناه ، عيّ منزه عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فمن ذلك ما رواه مسلم عن مسروق قال : سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) عن هذه الآية {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون } ، قال : أما إنا سألنا عن ذلك فقال (أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال : تشتهون شيئاً ؟ قالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ، ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فما رأوا أنهم لن يتركوا من يسألوا ، قالوا : يارب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا)(1) .
فهذه الألفاظ المذكورة في الجواب من ذكر اطلاع الله إلى الشهداء ، وخطابه لهم مباشرة ، وفعل ذلك ثلاث مرات ن وهم مع ذلك في جواره مما يفسر قوله تعالى (أحياء عند ربهم يرزقون) ، إما أنها معلومة المعنى فيكون السائل قد استفاد من الجواب، وإما أن يقال لا يعلم معنى هذا ، ولا نتكلم في ذلك فينسب إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العبث والعيّ.
الدليل التاسع :
__________
(1) رواه مسلم حديث رقم 1887 .(1/81)
أن القول بأن آيات الصفات أو بعضها لا يعلم معناها يلزم منه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، لم يكن يفهم معان هذه الآيات كقوله تعالى {استوى على العرش} ، {وجاء ربك} ، {تجلى ربك} ، {ويبقى وجه ربك} ، {خلقت بيدي} ، وغيرها ولا يفهم معاني ما كان يتكلم به من أمثال ما تقدم في الدليل السادس ، ومعلوم أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، ربما تكلم بالأحاديث الطويلة ، وأدخل فيها بعض الألفاظ التي تدل على الصفات ، مثل حديث الشفاعة الذي ذكر فيه الإتيان والتكليم وغيرها ، فهذا القول يلزم منه أنه كان إذا أتى على هذه الألفاظ سرده دون أن يعلم معناها ، إذ لو كان يعلم دلالتها على شيء ، لوجب عليه بيانه للناس وعدم كتمانه وقد علم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقل يوما هذه الألفاظ لا تعتقدوا ظاهرها ، فإن لها معنى لا يعلمه إلاّ الله(1) .
الدليل العاشر:
وهو أن هذا القول ، أعني القول بتفويض معاني نصوص الصفات ، قد يفتح باب الإلحاد ، فيقول الملحدون إن نبيّ هذا الدين لا يعرف معاني ما أنزل عليه ، وأصحابه الذين علمهم كذلك مثله ، فينبغى طلب هذه الأمور المهمة من جهة غيره ، فإن قيل لهم هذا مما لا يمكن لاحد منعوا ، وقالوا : إن ما في القرآن : إن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلاّ الله ، لكن من أين لكم أن الأمور الإلهية لا تعلم بالأدلة العقلية التي يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب والخبر(2) .
الدليل الحادي عشر:
__________
(1) ينظر في هذا الدليل المجموع 16/412ـ 413 .
(2) ينظر مجموع ابن تيمية 16/414 .(1/82)
إنا نعلم أن الصحابة كانوا يعلمون معاني آيات الصفات لأن العادة المطردة توجب اعتناء السلف بالكتاب المنزل عليهم لفظاً ومعنى ، فإن من قرأ كتاباً في الطب والحساب وغير ذلك فلابد أن تكون نفسه راغبة في فهمه وتصور معانيه ، فكيف بالذين قرءوا كتاب الله الذي به هداهم وعرفهم الحق من الباطل ، فمن المعلوم أن رغبتهم في فهمه وتصور معانيه أعظم الرغبات بل رغبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تعريفهم معاني القرآن أعظم من تعريفهم حروفه(1).
خلاصة ما تقدم:
أن هذه الحجج الدامغة ، دافعة لا محالة ، هذه المقالة ، إلى الحضيض ، فلم يبق إلاّ أن يقال هذه النصوص المخبرة عن الله سواء قيل كلها أو بعضها ، معناها معلوم للراسخين في العلم ، ثم لا يخلو الأمر إما أن يقال ذلك المعنى هو ظاهرها وأنها صفات لله تعالى لائقة به ، وإما أن يقال بل معناها غير ذلك ولا تدل على صفات الله وهي طريقة التأويل.
* الأدلة على بطلان طريقة التأويل :
ويدل على بطلانها أدلة :
الدليل الأول :
أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد (وهو حقيقة التأويل) ، وقد وصف الله آياته بأنها بينات ، مبينات وقال {ولا يأتونك بمثل إلاّ جئناك بالحق وأحسن تفسيرا) ، فكيف يقال إن أعظم ما دل عليه القرآن مصروف عن ظاهره(2) .
الدليل الثاني :
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تلا آيات التنزيل على العام والخاص وتكلم بألفاظ كثيرة في هذا الباب للعلماء والأعراب ، ولو كان ظاهره غير مراد لوجب أن يقترن بهذا كله ما يبين أن ما أتلوه عليكم وأذكره لكم من النزول وإتيان الرب يوم القيامة ، والأصابع ، وأن الله ليس بأعور ، وأن يد الله ملآى وبيده الأخرى الميزان وإن الله كتب في كتاب عنده فوق العرش ، وأني لا زلت اختلف بين ربي وموسى ليلة المعراج في شأن الصلاة .
__________
(1) المصدر السابق 5/157 .
(2) ينظر مختصر الصواعق ص 38 .(1/83)
أن ذلك كله ليس على ظاهره ، وإياكم أن تعتقدوه على ظاهره فلما علم أنه -صلى الله عليه وسلم- لم ينطق قط بمثل هذا لاح أنه أراد أن يعتقد ظاهره مع التنزيه(1) .
يزيده وضوحاً: أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر أحاديث الصفات في المجامع ، وعلى المنبر ، ولم يذكر مع ذلك ما يدل على أنه يريد خلاف الظاهر من أن هذه صفات الله وأفعاله ، فمن ذلك ما رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر قال : رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر وهو يقول يأخذ الجبار عز وجل سماواته وأرضه بيديه فيقول أنا الله ، أنا الملك ، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه ، حتى أني أقول أساقط هو برسول الله -صلى الله عليه وسلم- (2) .
ومن ذلك ما رواه مسلم أيضاً من حديث جابر في ذكر حجة الوداع ، وفيه أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ، وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ، قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة ، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم أشهد ، اللهم اشهد )(3) ، وذكره اللهم فاشهد مع إشارته إلى السماء في هذا المجمع العظيم ، في خطبة يوم عرفة ، الذي يحضره عوام المسلمين وعلماؤهم ، مع عدم اقتران ذلك بما يصرف هذا الظاهر ، قاطع في إرادة الظاهر .
الدليل الثالث:
__________
(1) ينظر المجموع 5/67، وأضواء البيان2/286 .
(2) رواه مسلم حديث رقم 2788وما بعده .
(3) رواه مسلم حديث رقم 147 .(1/84)
أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- سأل بعض المؤمنين عن بعض ما يتعلق بهذا الباب فلما أجيب بالإثبات سكت عن المجيب بل جعل ذلك دليلاً على صحة الإيمان ومعلوم أن هذا قاطع في عدم إرادة خلاف الظاهر ، ومن ذلك ما رواه مسلم عن عطاء بن الحكم السلمي ، وفي الحديث أنه ضرب جارية له قال : فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعظم ذلك علىّ ، قلت يا رسول الله أفلا أعتقها ، قال : إئتني بها ، فأتيته بها فقال: أين الله؟ قالت في السماء ، قال من أنا قالت أنت رسول الله قال أعتقها فإنها مؤمنة(1) .
قال الذهبي بعد هذا الحديث (هذا حديث صحيح أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وغير واحد من الأئمة في مصنفاتهم يمرونه كما جاء ولا يتعرضون له بتأويل ولا تحريف ، وهكذا كل من يسأل أين الله ؟ يبادر بفطرته ويقول في السماء ففي الخبر مسألتان : إحداهما شرعية قول المسلم أين الله ؟ وثانيهما قول المسؤول : في السماء ، فمن أنكر هاتين المسألتين فكأنما ينكر على المصطفى(2) .
الدليل الرابع :
وهو إجماع السلف على عدم تأويل هذه النصوص بلا استثناء شيء منها ، وقد تقدم ذكر ما يدل على أن هذا إجماع متيقن ، والإجماع حجة قاطعة فيجب المصير إليه ، وقد اعترف أكابر أهل التأويل أن السلف لم يؤولوا هذه الصفات لكنهم أرادوا بهذه المقالة أنهم ـ أي السلف ـ لم يعينوا المراد مع اعتقادهم أن هذه النصوص لا تدل على الصفات - أي النصوص التي توهم التشبيه - وقد تقدم بطلانه ، أي بطلان زعم أهل التأويل هذا .
__________
(1) رواه مسلم حديث رقم 573 .
(2) ينظر الذهبي مختصر العلو ص 81 .(1/85)
غير أنه يستفاد من قول أهل التأويل هذا ، أن أحداً من السلف لم ينطق بلفظ يدل على تأويل نصوص الصفات باتفاق الفريقين ، وممن ذكر هذا عن السلف أمام الحرمين أبو المعالي في النظامية ومنه قوله (فلو كان تأويل هذه الآي ، والظواهر مسوغا أو محتوما لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة ، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع(1) ، وقال ابن حجر بعد أن ذكر قول أبي المعالي هذا ( وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم الأئمة ، فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة)(2) .
الدليل الخامس :
وهو أن التأويل قد صار إليه أهله ، لما قالوا إن ظاهر كثير من نصوص الصفات هو التشبيه والتجسيم فلابد من إرادة غير الظاهر ، وهذا يلزم منه أمور باطلة تدل على أن هذا القول باطل وهي :
(1) أن يكون ظاهر القرآن والسنة كفراً وضلال في مواضع كثيرة ، وهذا ينافي بالهدى والرحمة وشفاء الصدور في كثير من الآيات(3) .
(2) أن يكون الحق والصواب في هذا الباب العظيم لم يبين بياناً واضحاً في القرآن، بل أريد من العباد أن يفهموا خلاف ظاهر كثير من نصوصه من قوله (ليس كمثله شيء ) كما زعموا ، وهذا شبيه بالألغاز ينافي وصف القرآن بأنه تبيان لكل شيء .
__________
(1) النظامية ص 33 .
(2) فتح الباري 13/406ـ 407 ، وانظر ما نقل عن الأئمة المذكورين ، وقوله بشهادة صاحب الشريعة يقصد بذلك حديث ( خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم .. الحديث ) رواه البخاري ، ينظر فتح الباري 5/259 .
(3) ينظر أضواء البيان 2/285 .(1/86)
(3) أن يكون خطاب الله ورسوله في هذا الباب قد تنوع تنوعاً كثيراً بما ظاهره خلاف الحق وهذا واضح في مسألة العلو ، فقد جاء تارة بأنه {استوى على العرش} ، وتارة بأنه {القاهر فوق عباده} وتارة بأنه {العلي الأعلى} ، وتارة (بأنه الملائكة تعرج إليه) ، وتارة (بأن الكتاب ينزل من عنده) ، وتارة (بأنه في السماء) ، وتارة (بأنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ) ، وتارة (بأن النبيّ عرج إليه وكلمه) ، وتارة ( بأن المؤمنين يرونه فوقهم يوم القيامة) ، وغير ذلك ، ثم أريد من العباد ألا يعتقدوا أن الله فوق العالم بل يعتقدوا أنه ليس في شيء من الجهات ، ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولا يشار إليه بالإشارة الحسية ، ولا يأتي لفظ واحد يدل نصّاً ولا ظاهراً على هذه العقيدة بل يترك لكافة المؤمنين أن يعتقدوا ذلك من محض عقولهم وقدرتهم على استنباط ذلك من قوله (ليس كمثله شيء )(1) .
وكذلك يلزم أن يكون خطاب الله ورسوله استعمل فيه أسلوب التأكيد والإعادة والتكرير على أمر ما ، ومع ذلك فهو فيما استعمل فيه هذه الأساليب ليس على ظاهره مثل قوله {وكلم الله موسى تكليما} فإنه ليس على ظاهره عند أهل التأويل أما المعتزلة فكلامه مخلوق وأما غيرهم فكلام الله النفسي لا يسمع منه وإنما ألقي في روع موسى المعنى فليس الخطاب على ظاهره أيضاً .
ومثل ذكر الاستواء مرات عديدة على العرش مادحا نفسه به في سبع مواضع من القرآن ، فيلزم إذا قيل بعدم إرادة الظاهر أن يكون الخطاب أكد وأعيد وكرر على ظاهر غير مقصود وهذا يلزم منه نسبة التلبيس إلى الكتاب والسنة وهذا من أعظم الباطل .
الدليل السادس :
__________
(1) ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق المرسلة ص 41ـ 46 .(1/87)
وهو أن عقيدة الإسلام سهلة ، يمكن لأدنى الناس علماً أن يفهمها والقول بتأويل هذه النصوص يعكس الأمر ، فإنه لا عسر على الأمة من أن يراد منهم ، أن يفهموا كونه سبحانه لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا متصلا به ، ولا منفصلاً عنه ، ولا مباينا ، ولا محايثا له ، ولا يرى بالأبصار عيانا ، ولا له يد ، ولا وجه ، مع كثرة النصوص التي ظاهرها خلاف هذا ، يفهموا ذلك كله من قوله {قل هو الله أحد} ، {ليس كمثله شيء} (1) .
الدليل السابع :
أن القول بالتأويل وأن نصوص الصفات على خلاف ظاهرها يفتح باب الزندقة والإلحاد ، وذلك أن الزنادقة سيحتجون بجواز تأويل نصوص الصفات على جواز تأويل نصوص المعاد وأنها على خلاف ظاهرها(2) فيقولون المقصود بنصوص الحشر التمثيل لما يحصل للروح من نعيم من دون الجسد ، إن كانوا ممن ينكر حشر الأجساد .
أو يقولون باطن هذه النصوص لا يدل على المعاد وإنما قصد بالظاهر تمثيل ما يحصل للروح من نعيم في أجساد أخرى ، إن كانوا ممن يقول بالتناسخ إلى غير ذلك من دهاليز الزندقة .
__________
(1) ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 46 .
(2) ينظر مجموع ابن تيمية 5/32ـ 33 .(1/88)
ولما ظهر مضمون هذين الدليلين لبعض من تجرد لما يسمى بعلم النظر ، وتبين له أن القول بتأويل ظواهر بعض النصوص المقتضية للتشبيه عنده ، يجعل الاعتقاد عسيرا على الأمة ن وقد يؤدي إلى فسادهم ، قال وهو السعد التفتازاني في شرح المقاصد : ( فإن قيل إذا كان الدين الحق نفي الجهة والحيز ، فما بال الكتب السماوية والأحاديث النبوية مشعرة في مواضع لا تحصى بثبوت ذلك من غير أن يقع في موضع واحد منها تصريح بنفي ذلك وتحقيق(1) كما كررت الدلالة على وجود الصانع ووحدته وعلمه وقدرته وحقيقة المعاد وحشر الأجساد في عدة مواضع ، وأكد غاية التأكيد مع أن هذا أيضاً حقيق بغاية التأكيد ، والتحقيق ، كما تقرر في فطرة العقلاء مع اختلاف الأديان والآراء من التوجه إلى العلو عند الدعاء ومد الأيدي إلى السماء ؟ أجيب : بأنه لما كان التنزيه عن الجهة مما تقصر عنه عقول العامة ، حتى تكاد تجزم بنفي ما ليس في جهة ، كان الأنسب في خطابهم والأقرب إلى صلاحهم ، والأليق إلى دعوتهم الحق ، ما يكون ظاهرا في التشبيه ، وكون الصانع في أشرف الجهات مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق عما هو من سمة الحدوث)(2) .
فلينظر العاقل بعد هذا ، ما الذي أدى إليه جعل ظواهر الشريعة تقتضي التشبيه ، ثم تسليط التأويل عليها من شبه القرمطة وعقائد الباطنية ، وانظر كيف صرح هذا الإمام في علم الكلام أن بعض ما يدل على التأويل لا يصلح لجمهور أمة الإسلام .
وقوله ( مع تنبيهات دقيقة على التنزيه المطلق ) هو معنى الألغاز وهو غير لائق بالقرآن الموصوف بأعلى درجات البيان كما تقدم في الدليل الخامس .
__________
(1) كذا بالأصل .
(2) نقلا عن التنكيل للمعلمي 2/357 .(1/89)
وكلما ازداد الرجل مما يسمى بعلم النظر، زاد توغلاً في هذا الخطر ، كما صنع ابن رشد الذي زعم (أن الشريعة قسمان ظاهر ومؤول وأن الظاهر فرض الجمهور والمؤول هو فرض العلماء ... ولا يحل أن يفصحوا بتأويله - أي الظاهر - للجمهور)(1) .
ثم زعم أن أكثر ظواهر الآيات ونصوص الصفات يجب إلقائها إلى الجمهور ، وإن اقتضت التجسيم على زعمه خوفاً عليهم من التعطيل(2) ، ولأنهم يعسر عليهم فهم دليل نفي الجسمية(3) ، ولئلا يسلك الشك إلى قلوبهم في أمر المعاد(4) ، ثم لما ذكر بعض النصوص التي ادعي أنها تقتضي الجسمية (كاطلاع الباري إلى أهل المحشر ) وأنه هو الذي يتولى حسابهم وحديث النزول والرؤية قال (فيجب إلاّ يصرح للجمهور بما يؤول إلى إبطال هذه الظواهر فإن تأثيرها في نفوس الجمهور إنما هو إذا حملت على ظاهرها ، وأما إذا أوّلت فإنما يؤول الأمر فيها إلى أحد أمرين : إما أن يسلط التأويل على هذه وأشباه هذه في الشريعة فتتمزق الشريعة كلها ... وإما أن يقال في هذه كلها إنها من المتشابهات ، وهذا كله إبطال للشريعة محولها من النفوس من غير أن يشعر الفاعل لذلك بعظيم ما جناه على الشريعة)(5) .
فهذا تصريح من هذين الإمامين فيما يسمى بصناعة البرهان ، أن التأويل ، يجعل بعض عقيدة الإسلام عسيرا على الأمة ، وقد يؤدي إلى هتك الدين كله ، واستدلا بذلك على أن الواجب إظهار خلاف الحق لهم وعدم إلقاء التأويل إليهم ، والحق أن الأولى أن يستدل به على بطلان التأويل ، إذ كيف يكون الحق الذي جاء به الرسول فيما يجب لله ويستحيل لا يناسب فطرة العباد ، فهذا ما جناه التأويل على الدين .
الدليل الثامن :
أن القول بتأويل نصوص الصفات لا يخلو الأمر فيه :
__________
(1) ينظر مناهج الأدلة في عقائد الملة ص 133 .
(2) المصدر السابق ص 171 .
(3) المصدر السابق 170 .
(4) المصدر السابق 172 .
(5) المصدر السابق 172ـ 173 .(1/90)
إما أن يقال بتأويلها كلها أو بعضها ، ولاريب أن القول بتأويلها كلها وأن الله أراد بذكر صفة العلم والسمع والبصر ، والحياة وكل ما وصف به نفسه خلاف الظاهر ، من أبطل الباطل وأعظم الإفتراء على الشريعة .
فلم يبق إلاّ أن يقال بتأويل بعضها وهو تحكم محض إذ العلة التي أوجبت تأويل الكل لا زالت في البعض وهو اقتضاء التجسيم ، ولا يستطيع صاحب التفريق أن يأتي بحجة مستقيمة عليه ، فإن قال لأن هذه التي أوجبت فيها التأويل توجب التشبيه ، والتجسيم قال منازعن الذي يؤول الكل وكذلك السمع والبصر والكلام يوجب التجسيم وإذا بطل القسمان ، بطل القول بتأويل الصفات(1) .
الدليل التاسع:
وهو أن تأويل الصفات في أكثر النصوص ، لا يخرجها إلاّ إلى معنى يحتاج إلى تأويل آخر بالنظر الدليل الذي أوجب التأويل الأول ، فمن ذلك تأويل الرحمة بالإرادة ، لأن ظاهر الرحمة رقة في القلب ، فإن الإرادة كذلك ينبغي أن تحتاج إلى تأويل لأنها ميل القلب إلى الشي وكلاهما يقتضي التشبيه ، ومن ذلك تأويل اليد بالقدرة ، كلاهما يوصف به الخالق والمخلوق ، فإذا قيل الإرادة والقدرة يوصف بها الخالق على ما يناسب ذاته والمخلوق كذلك بما يناسب نقصه ، مع تشابه الإطلاقين فيهما فلماذا لا يقال كذلك بالرحمة واليد وغيرهما يوصف الله بهما ولا يوجب ذلك تشبيهاً فإذا كان التأويل لا يصنع شيئاً إلاّ تحريف النص كان هذا دليلاً على بطلانه(2) .
الدليل العاشر :
__________
(1) ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 18ـ 19 ، وأضواء البيان للشنقيطي 2/275ـ 276) .
(2) ينظر في هذا الدليل مختصر الصواعق ص 22ـ 23، ومجموع فتاوى ابن تيمية 3/26 .(1/91)
أن التأويل لو كان حقاً وأن ظاهر النصوص غير مراد ، بل هي من باب المجاز للزم من ذلك جوار نفيها عند الإطلاق فيقال ليس بحي ، ولا قدير ، ولا عليم ، ولا سميع ، وكذلك يقال لا يحب ، ولا يرحم ، ولا يرضى ن ولم يستو ، ومعلوم أنه لا يجوز إطلاق النفي على ما أثبته الله ، وإذا كان الملزوم باطل فاللازم باطل(1) .
خلاصة ما تقدم:
والخلاصة أن هذه الأدلة العشرة واضحة في بيان بطلان تأويل نصوص الصفات ، وهي مع ما تقدم من أدلة بطلان التفويض فيها لا تدع ريبا في صحة طريقة في نصوص الصفات .
وقد استدل أهل التأويل بأدلة وهي أقرب إلى الشبهات منها إلى الحجج ، ولذا لم تذكر على سبيل المقارنة مع أدلة الطريقة السلفية ، وقد جعلوها عمدتهم في ادعاء أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب صرفه عن ظاهره بالتأويل وإنه ينبغي ذكرها والجواب عنها ليتبين بذلك العلاقة الصحيحة التي بين نصوص الصفات والمتشابه ، وهو موضوع المبحث الثالث.
انتهى الجزء الأول
قائمة المحتويات
- المقدمة ................................................................... ص 2
- الفصل الأول : أقوال الطوائف الإسلامية في صفات الله تعالى والقول الصحيح منها والأدلة على صحة وبطلان ما سواه .......................................... ص 3
- المطلب الأول : أقوال الطوائف في صفات الله تعالى ................... ص 4
- القول الأول ......................................................... ص 4
- القول الثاني ........................................................ ص 4
- القول الثالث ........................................................ ص 7
- المطلب الثاني : تحقيق القول الصحيح في هذا الباب وبيان أسباب الخطأ في نسبة مذهب السلف الصحيح إليهم .......................................... ص 11
__________
(1) ينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/197 .(1/92)
- أضراب أقوال السلف في الصفات .................................. ص 11
- الضرب الأول ..................................................... ص 12
- الضرب الثاني .................................................... ص 14
- الضرب الثالث .................................................... ص 15
- الخلاصة .......................................................... ص17
- الرد على من زعم أن السلف كانوا لا يعبرون عن معاني نصوص الصفات بغير تلاوتها المجردة لأنهم لم يكونوا يفهمون منها شيئا ................... ص 18
- أسباب الخطأ في نقل مذهب السلف ................................. ص 22
- تنبيهات مهمة جدا .................................................. ص 28
- التنبيه الأول ...................................................... ص 28
- التنبيه الثاني ..................................................... ص 30
- ذكر أسباب الخطأ في الاستدلال بالنصوص على صفات الله تعالى ص 31
- التنبيه الثالث ..................................................... ص 37
- وقفة مهمة تحل إشكالات كثيرة ...................................... ص 39
- المطلب الثالث : الأدلة على صحة مذهب السلف في الصفات وإبطال مذهبي المفوضة والمؤولة ......................................................... ص 48
- الأدلة على صحة مذهب السلف ...................................... ص 49
- الأدلة على بطلان طريقة التأويل ..................................... ص 54(1/93)
الفصل الثاني
أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها
ويشتمل هذا الفصل على هذه المطالب :
المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة .
المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية .
المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات .
المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .
المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ، في الاستواء وكلام الله تعالى ورؤيته جل وعلا .
المطلب الأول
إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة
قد يستدل القائلون بتأويل الصفات ومن يجعل منهم نصوصها من المتشابه الذي لا يراد ظاهره بأدلة كثيرة ، وقد ينزعون في بعض الأحيان إلى الاستدلال بالسمع ، لكن تعويلهم الأعظم على الأدلة العقلية(1) وهي متنوعة .
وفي تفصيل القول فيها تطويل يخرجنا عن مقصود هذا الكتاب ، غير أن لهم في هذا الباب أدلة تجري مجرى الأصول لغيرها ، ومنها تفرع كثير من الاستدلال العقلي عندهم ، فإذا ذكرت وبين وجه الجواب عنها اتضح بذلك السبيل الذي اتبعوه في الحكم على هذه النصوص بالتشابه بالمعنى الذي أرادوه .
__________
(1) كما ذكر الرازي في تفسيره 7/170، ولهذا قال في المواقف في علم الكلام ( ودلائله يقينية يحكم بها العقل ، وقد تأيدت بالنقل ) ص 8 ، فجعل الاعتماد على الأدلة العقلية ، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب .(2/1)
ويتضح بذلك أيضاً طريق الجواب عن غيرها من الأدلة العقلية بما ينقض زعم من زعم ، أن الأدلة العقلية قد تناقض الوحي الإلهي ، وإن الواجب في هذه الحال التصرف فيه ليلائمها ويتفق معها ، فإن لم يستطع ذلك قدمت الأدلة العقلية على نصوص الوحي ، وأحسن الظن فيها ـ أي نصوص الوحي ـ : بأنها مما يراد به الابتلاء ، لا اعتقاد ما دلت عليه.
* ولابد من تقديم جملة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة فيقال :
أما الركن الأول :
فهو أن هؤلاء المتكلمين - وهم القائلون بتأويل نصوص الصفات - قد اعتقدوا مسائل رأوها قاطعة ، دل عليها براهين محكمة ، وبنوا عليها أموراً عظيمة كإثبات وجود الله ، وأنه صانع العالم ، ورأوا أنها إذا ابتنى عليها هذا الذي هو أصل الدين ، فلا يجوز تقديم ما جاء في السمع عليها ، لأن في ذلك تقديم الفرع على أصله .
وبيان هذا أنهم قسموا ما في العالم من الموجودات إلى قسمين :
جواهر وأعراض ، ولتكون القسمة حاصرة ، جعلوا الجوهر هو المتحيز ، وهو ما يشار إليه بالذات الإشارة الحسية .
والعرض موجوداً قائما بمتحيز ثم جعلوا الجواهر قسمان : ما يقبل القسمة ، وهو الجسم ، وما لا يقبلها لا وهماً ، ولا فعلاً ن ولا فرضا ، ً وهو الجوهر الفرد .
واعتقد أكثرهم أن الأجسام متركبة في الحقيقة من هذه الجواهر الصغيرة التي هي في غاية الحقارة ، وهي في حقيقة الأمر متماثلة تتجمع لتكون الأجسام .
والأجسام كلها في هذا العالم متكونة منها(1) ، لا فرق بين جسم وآخر في أن أصله هذه الجواهر ، والاختلاف الظاهر فيها راجع إلى اختلاف الأعراض القائمة بها .
__________
(1) ينظر في الجواهر والأجسام المواقف ص 182ـ 188، شرح العقائد 46ـ 56 .(2/2)
فجسم النار وجسم الثلج متماثلان إلا أن أعراضاً قامت بالجسم الناري كالحرارة والطافة جعلته بهذه الصفة ، والبرودة والرطوبة جعلت الثلج بهذا الشكل ، واختلاف أحجام الأجسام راجع إلى كثرة هذه الجواهر فيها وقلتها وهذه الجواهر متماثلة(1) .
وطائفة قليلة لم تعتقد قسمة الأجسام إلى هذه الجواهر الصغيرة ، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن الجسم هو ما يمكن الإشارة إليه مما ينقسم ، ويعنون بانقسامه أن يتميز فيه شيء عن شيء ، فيكون فيه يمين ويسار أو فوق وتحت ، وإن كان انقسامه بمعنى انفصاله إلى أجزاء مما لا يقع .
وأما الأعراض فهي كالألوان ، والطعوم ، والروائح ، والأصوات ، وما يسمونه الكيفيات النفسية كالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل ما لايمكن الإشارة إليه من الموجودات ، ولا يقوم بنفسه كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وزعم أكثرهم أن الأجسام لا تخلوا من الأعراض ، أما من قال بالجواهر الفردة فلأنها متركبة منها فلا تخلوا من عرض الاجتماع ، وقال بعضهم لاتخلوا من الحركة ، والسكون ، أو الاجتماع ، والافتراق ، وقال بعضهم : لا تخلوا من جميع أنواع الأعراض(2) .
__________
(1) ينظر في تفصيل القول بتماثل الأجسام مع المصدرين السابقين ، درء التعارض 1/116، 5/194ـ 2020، 7/112ـ 114 ، وقد ذكر أن القول الصحيح في انقسام الأجسام أنها تتجزأ حتى تصير إلى أجسام أخرى ،كما يستحيل الماء إلى هواء بالحرارة وأن القول بالجوهر الفرد لا يقول به أكثر العقلاء ، والأجسام غير متماثلة عندهم أيضا ، وينظر كذلك تلبيس الجهمية 1/518، والدرء 3/442، 445، وقد عزى الجرجاني القول بتماثل الأجسام إلى المتكلمين ، التعريفات للجرجاني 75، والآمدي كذلك ، نقلا عن الدرء 4/176 .
(2) ينظر الإرشاد للجويني ص 44ـ 45، والتمهيد للباقلاني ص 39ـ 40 ، وشرح العقائد ص 55ـ 57 ، والمواقف ص 101 .(2/3)
واشتهر عند الأشعرية أن العرض لا يبقى زمانين ، بل هي ـ أي الأعراض ـ تتجدد حالاً فحالاً ولما أورد عليهم بأن المشاهدة قاضية ببقاء الأعراض قالوا : لا دلالة لها كالماء الدافق من الأنبوب يجري مستمراً وهو أمثال تتوارد(1) .
هذا و لهم في هذه المباحث تفاصيل ، وجدال طويل ومعارضات ، وأدلة يسودون بها الصفحات في الجوهر والعرض ، فكم تناظروا في الجوهر الفرد ، وهل السكون عرض ، وأن الأجسام متماثلة في الأصل ، وينقض بعضهم قول بعض في تفاصيل تتعلق بالجواهر والأعراض ، مما لا يخفى على المطلع على طائفة من كتبهم ولو كانت قليلة.
لكن هذه الجملة المتقدمة أظهرت أعظم مسائل جواهرهم وأعراضهم ، بما فيهم المعتزلة وهي مادة غالب كلامهم في باب الصفات ، وإنما قدمت لتتضح دلائلهم فيما يأتي.
وأما الركن الثاني :
فهو أن المتكلمين أحدثوا طرقاً في إثبات حدوث العالم وصانعه ، بنوا عليها صحة الدين ، ورأوا اطرادها ، وقد بنوها على ما تقدم في الركن الأول .
ورؤوسها ثلاث طرق ، وهي :
الطريقة الأولى :
يقولون فيها ما مثاله(2) العلم أما جوهر أو عرض ، فإذا ثبت حدوثهما فالعالم حادث ، ونحن نثبت حدوث الأعراض ونبني عليه حدوث الجواهر ، فنقول : إن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض البتة ، فأما إن صح وجود الجوهر الفرد ، فلا تنفك الجواهر عن عرض الاجتماع ، أو الافتراق ، وأما إن لم يصحّ فالحركة والسكون ، أو غيرها من الأعراض .
__________
(1) ينظر المواقف 101، والتمهيد ص 38 .
(2) ينظر في هذه الطريقة ، الإرشاد للجويني ص 39ـ 48، ولمع الأدلة له ص 76ـ 80، التمهيد 41، 42، شرح العقائد ص 54ـ 56 .(2/4)
والأعراض حادثة لأنها تتعاقب على محالها التي هي الجواهر ، فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ونعلم حدوث السابق من حيث عدمت ، لأن وجود الشيء بعد عدمه أو عدمه بعد وجوده دليل على حدوثه ، والحوادث لابد لها من مبدأ ، إذ لا يصحّ حوادث متسلسلة لا أول لها ، ويعنون بالحادث ما سبقه عدم .
فينتج من هذه المقدمات حدوث الجواهر إذ ما لا ينفك عن الحوادث التي لها مبدأ ، حادث مثله ضرورة ، فينتج حدوث العالم ، إذ هو بأسره ، جوهر أو عرض ، والحادث لابد له من محدث أحدثه وهو الله تعالى .
وقد عد بعضهم هذه الطريقة ، العمدة في إثبات وجود الله ، وجعل الدين مبنيا عليها(1) .
الطريقة الثانية :
وهي مبنية على القول بتماثل الأجسام ، وأشهر من قال بها أبو المعالي رحمه الله ، فإنه استدل بأن الأجسام في الأصل متماثلة ، وإنما يحصل الاختلاف بينها لاختصاص كل جسم بأعراض تخصه ، كما تقدم بيانه ، واختصاص كل جسم بما له من الصفات دون غيرها - كالحيز الذي هو فيه دون غيره ، والحد والنهاية الذي هو عليها دون غيرها - مفتقر إلى مخصص خصصه على هذه الصفات ، والمفتقر إلى غيره حادث والحادث لابد له من محدث وهو الله جل وعز.
وقد يسمون هذه الطريقة ، طريقة إمكان الأعراض ، والممكن عندهم هو ما لايجب وجوده ولا عدمه ، والواجب يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه وظاهر أن الممكن محدث والمحدث بحاجة إلى محدث(2) .
__________
(1) حكاه ابن تيمية عن أبي المعالي ، الدرء 1/303، ويدل عليه كلامه في الإرشاد ص 151 .
(2) ينظر في هذه الطريقة ، الرسالة النظامية 16ـ 27، وقد ذكر ابن رشد أن الذي استنبطها هو أبو المعالي ، ثم شرحها ابن رشد بإيجاز ووضوح ، مناهج الأدلة ص 144، وينظر أيضا مقدمة الدكتور محمود حسين للكتاب ص 15 ، وكذلك الدرء لان تيمية 3/75ـ 76، وهذه الطريقة تنصب على إثبات الصانع بدون توسط إثبات حدوث جميع الجواهر ، كما صرح بذلك الرازي فيما نقل عنه في المصدر السابق .(2/5)
الطريقة الثالثة :
وهي مبنية على تركيب الأجسام من الجواهر المفردة ، ويقال فيها : إن الأجسام مركبة ، والمركب مفتقر إلى أجزائه ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، والممكن محدث ، وإذا كانت الأجسام ممكنة محدثة فالأعراض التي لا تقوم إلاّ بها أولى بالإمكان والحدوث ، فالعالم محدث والمحدث لابد له من محدث(1) .
استنباط مما مضى :
ويستنبط من هذه الطرق ، أنها كلها ، مبنية على الجسم ، بالاصطلاح الذي وضعوه ، ومضمونها أن الشيء إذا كان في جهة ، ويشار إليه فهو جسم حادث ، وإن دليل حدوثه من ثلاث جهات:
الجهة الأولى : عدم انفكاكه عما يطرأ ويزول فهذا يدل على الحدوث.
الجهة الثانية : اعتوار الصفات الجائزة إياه - أي التي يجوز ألا تكون كما هي - كوجوده في حيز معين أو مقدار معين وحد معينين ، دون غيرها - فهذا يدل على افتقاره إلى مخصص وهو دليل على الإمكان ، والممكن لابد له من مؤثر يرجح جانب وجوده على عدمه فهو محدث.
الجهة الثالثة: تركيبه دليل على افتقاره إلى ما تركب منه والافتقار دليل الإمكان .
ملحوظة :
__________
(1) ينظر شرح المواقف للجرجاني 3/2، 5 .(2/6)
يلاحظ أن الطرق السابقة هي استدلال بحدوث الجواهر ، وإمكانها كما هي الأولى والثالثة ، وإمكان الصفات - وهي الأعراض - كما هي الثانية ، وبقي الاستدلال بحدوث الصفات ، وقد يذكر مع الطرق السابقة أيضاً ، لكن الطريقة الأولى والثانية أشهر ، والأولى من الثانية وهي في الأصل للمعتزلة(1)
( والاستدلال بحدوث الصفات ، هو جزء من طريقة القرآن فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدث في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان ، وغير ذلك من الحوادث ، لكن القائلين بالجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا إستدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها لكن تغير صفاتها)(2) .
ولهذا يقول الرازي في التمثيل لهذه الطريقة ( مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء انساناً )(3) وليس في هذا دليل على حدوث الجواهر الحاملة لهذه الأعراض - كما لا يخفى - ولهذا عاد الأشعري رحمه الله بعد ذكر هذه الطريقة إلى الاستدلال على حدوث النطفة - التي مثل بها لهذه الطريقة - بعدم انفكاكها عن الأعراض كما ذكر في الطريقة الأولى السابقة(4) .
__________
(1) ممن ذكرها الرازي فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون بالإمكان ، أو الحدوث ، وكلاهما إما في الذات ، وإما في الصفات ، وينظر معالم أصول الدين للرازي ص 38 ، وذكر مثل هذا في المواقف ص 266، وقد اقتصر على هذه الطريقة الأشعري في اللمع ص 17ـ 18 ، واقتصر على الأولى كل من الجويني في إرشاده ولمعه ، والباقلاني في تمهيده ، والتفتازاني كما تقدم عنهم جميعا ، وكذلك اقتصر عليها السنوسي في شرح أم البراهين (151ـ 154) .
(2) ينظر كلام ابن تيمية الدرء 3/83 .
(3) عزاه في حاشية الدرء إلى نهاية العقول في دراية الأصول للرازي مخطوط ، ينظر العزو في الدرء 3/ 82 .
(4) ينظر اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص 18ـ 19 .(2/7)
كما أن هذه الطريقة ليس فيها ما يقتضي إلاّ يكون صانع العالم جسماً ، بالمعني الكلامي ، كما قال الرازي ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها ، أن الأول يقتضي ألا يكون الفاعل جسماً ، والثاني لا يقتضي ذلك )(1) ، واقتضاء طريقة الإمكان لما ذكر بسبب بناؤها على تماثل الأجسام .
وسيأتي الكلام على هذه الطريقة القرآنية ، وأنها ليست في حدوث الصفات فحسب ، بل الله تعالى أشهدنا حدوث الذوات ، والصفات ، ليجعل ذلك دليلاً على نفسه تبارك وتعالى .
وهكذا ، استعمل أهل الكلام ، الجواهر والأعراض ، وأحكامهما لاثبات حدوث العالم ثم إثبات صانعه ، وهو الله عز وجل ، فرأوا أن الاستدلال بالسمع مبني على هذه الأدلة العقلية ، التي اثبت بها وجود الله منزل الوحي - سبحانه وتعالى - ، فقدموها ، وحكموا بها على الوحي كما سيأتي عند ذكر أدلتهم على أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب حمله على خلاف ظاهره .
فإن هذه الطرق أنتجت لهم الأدلة التي سيستدلون بها على معارضة السمع وصرفه عن ظاهره .
المطلب الثاني
ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية
الدليل الأول :
أن إثبات الصفات لله ، على أنها معاني زائدة على ذاته لا يخلو الأمر فيها ، إما أن تكون حادثة فيلزم حلول الحوادث بذاته ، أو تكون قديمة فيلزم أن يكون لله تعالى مماثلا في أخص وصفه وهو القدم ، فيتعدد القدماء ، وما لا يلزم منه إلاّ الباطل فهو باطل(2) .
وفيما تقدم ما يبين معنى قولهم (يلزم حلول الحوادث) وأنهم استدلوا بهذا على حدوث ما تحل به الحوادث ، ولذلك منعوا هذا هنا .
الدليل الثاني :
__________
(1) ينظر العزو إلى كتاب الرازي دراية الأصول الذي مر ذكره آنفا .
(2) ينظر شرح الأصول الخمسي لعبد الجبار الهمداني ص 195ـ 196 .(2/8)
أن إثبات الصفات ، نسبة للأعراض إليه سبحانه وتعالى ، والأعراض لا يجوز أن يوصف الله بها إذ هي دليل على أن ما قامت به فهو جسم حادث(1).
الدليل الثالث :
أن إثبات الصفات يلزم منه نسبة التركيب إلى الله ، وانه مركب من الذات والصفات والمركب مفتقر إلى غيره فهو ممكن ، والله تعالى واجب الوجود بنفسه(2).
وقد تقدم كيف جعل التركيب دليلاً على الإمكان والحدوث ،وأنه من البراهين المستعملة في إثبات حدوث العالم الذي يعتمد عليه إثبات الصانع منزل المحكم والمتشابه .
وهذه الأدلة هي أهم ما يستدلون به على نفي الصفات ، ومن هنا جاء القول بأن نصوص الصفات من المتشابه عندهم ، لأنها تدل على خلاف ما قررته هذه البراهين المحكمة عندهم ، كما قال القاضي عبد الجبار (فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول )(3) ، فمثل هذه الأدلة حملته على جعل نصوص الصفات من المتشابه الذي عرفه بأنه (ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد)(4) ، فهذه هي أهم أدلة المعتزلة .
المطلب الثالث
ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات
وأما أدلة غيرهم من أهل التأويل ، فما هي ببعيد عن هذه الأدلة ، بل هي نابعة من عين واحدة ، وهذا بيان أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية ، ثم صفة العلو ، ثم الصفات الذاتية ، كالوجه واليدين.
النوع الأول : أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية :
استدلوا على تأويل آيات ، وأحاديث صفات الأفعال ، التي تدل على أن الله يقوم به من الصفات ما يتعلق بالمشيئة ، كالمجيء يوم القيامة والنزول في ثلث الليل الأخير واستوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً ونداؤه لموسى لما جاء عند شاطئ الوادي الأيمن وغير هذه النصوص التي تدل على أفعال الله في وقت دون وقت .
__________
(1) المصدر السابق 201 .
(2) ينظر المجموع 6/339 .
(3) متشابه القرآن له 1/8 .
(4) المصدر السابق 1/19 .(2/9)
بأنها يلزم من ظاهرها قيام الحوادث بذات الله ، والحوادث هي ما سبقه العدم ، ولهذا السبب قالوا ليس لله صفة تقوم به إلاّ أن تكون قديمة غير متعلقة بالمشيئة ، ولهذا قالوا بالكلام النفسي ، وإن الله (يخلق لمن يشاء من عباده علما ضرورياً بكلامه ، من غير توسط حروف وصوت ودلالة )(1) ، وقال من قال منهم إن كلامه لا يسمع(2) ، خشية القول بأن الله يتكلم في دون وقت ، فيكون وجود بعض أفراد الكلام سبقه عدمه وهو معنى الحدوث الذي إذا قام بالشيء دل على حدوثه .
وبه استدل على حدوث العالم واثبات الصانع ، ولهذا جعل أبو المعالي القول بظاهر حديث النزول يؤدي إلى (طرفي نقيض إحداهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في دليل حدوث العالم )(3)
__________
(1) هذه عبارة الغزالي في المستصفى 120 .
(2) ينظر شح العقائد النسفية 94ـ 95 .
(3) أما أبو المعالي فعبارته ( ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام ، وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ... إلخ ) الإرشاد 151، وقوله ( التحول وتفريغ مكان وشغل غيره ) يريد به حلول الحوادث ، ولذلك قال إنه يلزم منه القدح في دليل حدوث العالم ، وقد ذكر في أوائل كتابه أن الدليل على حدوث العالم قيام الأعراض الحادثة ، في جواهر العالم ، والأعراض الحادثة تتجدد ، وتأتي وتزول ، هذا مع أن المثبتين للنزول لا يقولون هو تفريغ مكان وشغل غيره ، بل هذا لا يقوله إلا من لايفهم من صفات الله تعالى ، إلا ما يلزم من نقص المخلوقات ، بل يقولون ينزل كيف يشاء نزولا ندرك حقيقته ، وينظر أيضا في دليهم على نفي الصفات الفعلية قواعد العقائد 186 .(2/10)
وجعل الرازي أول البراهين الدالة على تأويل المجيء قوله (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب فإنه لا ينفك عن المحدث ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم ان كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب وجب أن يكون محدثاً مخلوقاً فالإله القديم يستحيل أن يكون كذلك(1) .
قال ابن تيمية ( وبهذه الطريقة ، نفوا أن يقوم به فعل من الأفعال ، فنفوا أن يكون الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً)(2) .
وهكذا استدل هؤلاء على تأويل نصوص هذا النوع من الصفات بالدليل الذي اخترعه المعتزلة واثبتوا به وجود الصانع سبحانه.
النوع الثاني: أهم أدلة تأويل صفة العلو :
الدليل الأول :
إن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون منقسماً أو غير منقسم ، فإن كان منقسماً كان مركباً ، وقد تقدم ما يلزم من التركيب ، وأن لم يكن منقسماً كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ ، وذلك باطل باتفاق العقلاء ، هذا على القول بوجود الجوهر الفرد ، ومن ينفي الجوهر الفرد يقول كل ما كان مشاراً إليه ، فإنه لابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسماً فثبت أن القول بأنه مشار إليه يفضي إلى الباطل فهو باطل(3).
الدليل الثاني :
قال أبو المعالي (والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة ، شاغل لها ، متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها ، وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلوا عنها وما لا يخلوا عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر ) .
__________
(1) أساس التقديس 102 .
(2) بيان تلبيس الجهمية 1/143 .
(3) ينظر هذا الدليل في أساس التقديس ص 45، وتفسير الرازي 11/173، وقدمه في الموضعين .(2/11)
وقد اقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة(1) ، وهي مبنية على الدليل الذي استدل به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الجواهر بحدوث الأعراض فقبول الاجتماع والافتراق دليل على حلول الحوادث الدال على حدوث ما حلت به ، إذا الاجتماع والافتراق ، أعراض وما قامت به الأعراض لا يخلوا منها وهي حادثة .
وما قامت به الحوادث حادث كما تقدم بيانه في أدلة حدوث العالم ، وقد صرح هذا الإمام بأن طرد دليل حدوث الجواهر يوجب القول بنفي العلو ، قال في الإرشاد ( إذ سبيل الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحرث ما اثبتوا متحيزاً ، وإن تفضوا الدليل فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجوهر)(2) .
الدليل الثالث :
أن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون غير متناه وهو باطل ،وإما أن يكون متناهيا فيلزم أن يكون مفتقراً إلى من خصصه بهذا المقدار دون غيره ، وإما أن يكون متناهيا من بعض الجوانب دون بعض ، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الآخر وذلك يوجب القسمة والتجزئة(3) .
النوع الثالث : أهم ما استدلوا به على نفي صفات الذات .
وأهم ما استدلوا به على نفيها ، أنها توجب التجسيم ، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى : أنها لا تطلق إلاّ على الأجسام في الشاهد .
الجهة الثانية : أنها تدل على التركيب وهو من صفات الأجسام .
__________
(1) لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل الملة للجويني 95 .
(2) الإرشاد للجويني ص 9 ، واستدل الغزالي بأن القول بالجهة يوجب حلول الحوادث من جهة أنه إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا ، وكلاهما أعراض حادثة ، ينظر قواعد العقائد ص 158، واقتصر أيضا على هذه الحجة .
(3) ينظر تفسير الرازي 12/ 174، وأساس التقديس له .(2/12)
ثم يقولون بعد هذا أن القول بالجسم يلزم منه الحدوث من جهة الأعراض أو التركيب أو الانقسام ويلزم التماثل مع سائل الأجسام عند من يقول به فيجوز عليه ما يجوز عليها من النقص والحدوث ، ولهذا قد يقولون اختصاراً أنها توجب التشبيه ، والمقصود عندهم أن الأجسام متماثلة ، وهو قول عامة المتكلمين(1) .
أما الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر:
كالمحبة ، والرحمة ، والرضا ، والغضب ، والحياء .
فقد سلكوا في نفيها مسلكين :
الأول : من جهة كونها صفات فعلية ، يلزم منها حلول الحوادث ، وهذا في مثل ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حديث الشفاعة من أن الله يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله(2) ، ومثل قول الله تعالى {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: من الآية31] ، فإن ظاهره أن المحبة تكون بعد الاتباع ، ولهذا يقولون ظاهره التغير(3) .
الثاني : من جهة أنها تدل على النقص والحدوث.
أما المحبة ، فقد قيل في دليل نفيها أن الله تعالى يتقدس أن يميل أو يمال إليه ، حكاه الجويني عن طائفة من الأصحاب(4) ، ويظهر أن المراد ما ذكره ابن تيمية عمن ينفيها أنه احتج بأن المحبة تقتضي مناسبة بين المحب والمحبوب ، توجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ، وهذا يقتضي الحاجة ، إذا ما لا يحتاج إليه الحي لا يحبّه ، والله غني لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه(5) .
__________
(1) ينظر في هذا الدليل تفسير الرازي ( 12/42، ومجموع الفتاوى 6/69، 6/109، 13/303.
(2) رواه البخاري الفتح 8/395 .
(3) التمهيد للباقلاني 47 .
(4) الإرشاد 212 .
(5) مجموع ابن تيمية 11/358، وينظر كذلك 10/74، 6/69، 6/114 .(2/13)
أما الرحمة والغضب والرضا والحياء وأمثالها : فلأن الرحمة خور في الطبيعة ، والغضب غليان الدم في القلب لطلب الانتقام ، والرضى رقة وسكون في الطبع والحياء انكسار ، وهذه أمارات النقص ولا يجوز أن يتصف الله بها(1) .
ملاحظات على هذه الأدلة :
ويلاحظ على هذه الأدلة التي هي عمدتهم في حكمهم على نصوص الصفات أنها من المتشابه الذي لا يراد به الظاهر مما دل عليه ، أمور :
الأول : أن ينبوعها واحد ، وهو ما أحدث من القول في الجواهر والأعراض ، ثم بناء إثبات وجود الله على ذلك ، ومعلوم أن مصدر هذه البدع من كتب الفلسفة .
الثاني: أن الألفاظ المستعملة عندهم ، لا سيما التي ينفون بها عن الله ما ينفون ، كالجسم والجوهر والعرض والتركيب والانقسام والحيز ، اصطلاحات خاصة بهم ، يريدون بها معاني خاصة لا يعرفها أكثر الناس من لغتهم ولا من عرفهم ، وقد يتوهم السامع انهم ينفون بها ما يعلمه من معناها اللغوي وليس الأمر كذلك كما سيأتي بيانه .
الثالث: انهم يستعملون فيما يبحثون فيه في المطالب الإلهية ، قياس الخالق على المخلوق قياساً شمولياً أو تمثيلياً .
يوضح ذلك مثال ، وهو أن :
حقيقة دليلهم في نفي العلو هو انهم يقولون :
ظاهر الشرع أن الله في جهة ،وكل ما كان في جهة فهو جسم ، حادث فظاهر الشرع أن الله جسم حادث ، وهذا هو قياس الشمول بعينه .
وأما قياس التمثيل فمثل أن يقال : المجودات في جهة أجسام حادثة في الشاهد ، والله تعالى في ظاهر النصوص في جهة ، فالله تعالى في ظاهر النصوص جسم حادث قياساً للغائب على الشاهد ، ثم ينتج من القياسين وجوب صرف الظاهر.
__________
(1) ينظر تفسير الرازي 1/262، والتمهيد للباقلاني ص 47 ، ومجموع ابن تيمية 6/117ـ 123.(2/14)
وهذا لا يستطاع الانفصال عنه ، وذلك أن الذي يريد أن لا يعول إلاّ على العقل في هذه الأمور الغيبية لابد له من استعمال القياس ، ولازم قياس التمثيل أن الله تعالى يدخل هو وغيره تحت قضية كلية واحدة تستوي أفرادها ، ولازم قياس التمثيل أن لله تعالى مماثل لا يقاس عليه وسيأتي الكلام على هذا وبطلانه .
فهذا إجمال لأهم أدلة أهل التأويل لصفات الله تعالى .
المطلب الرابع
الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى
ويتجه في تنظيم الرد أن ينفصم إلى شقين :
الأول عام .
والثاني أجوبة تفصيلية على أفراد الأدلة .
* أما الشق الأول العام في الرد على القائلين بتأويل نصوص الصفات :
فينشطر إلى قسمين أيضا :
أما القسم الأول فيقال فيه :
ما بنيت عليه هذه المقالة ، وهي أن نصوص الصفات من المتشابه المؤول ، من الأدلة العقلية ، التي اعتبرت محكمة لاستكمالها ما ينبغي اشتراطه لافضاء النظر العقلي إلى العلم ، قد تنازع فيها أرباب النظر والكلام أنفسهم ، وبعض القائلين ببعض هذه الأدلة في وقت رجع عنها في وقت آخر وأبطلها .
ويوضح هذا أمور :
الأول : إن قولهم في الدليل الأول ، الجواهر لا تتعري عن الأعراض ، والأعراض حادثة فالجواهر كذلك ، قد تنازع فيها أرباب الكلام أنفسهم ، فخالف في المقدمة الأولى بعض المعتزلة ، وأورد أبو المعالي في الرد عليهم ما هو من جنس ما يردون به عليه(1) .
__________
(1) ينظر الإرشاد للجويني 44، فقد جوز الصالحي من المعتزلة خلو الجواهر عن الإعراض ، وإذا جاز هذا سقط هذا الدليل على حدوث الجواهر ، وبالتالي لايمكن جعل هذا الدليل حجة في صرف ظواهر الوحي التي تقضي باتصاف الله تعالى بالصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء وغيره ، ولهذا قال أبو المعالي ( فإذا جوز الخصم عروّ الجواهر عن الحوادث مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث ) ص 46 .(2/15)
وأما المقدمة الثانية ، فقد قال ابن رشد ( وذلك إن الجسم السماوي وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد ، الشك في حدوث أعراضه ، كالشك في حدوث نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه)(1)، يريد أن الأجسام السماوية لا يمكن الاستدلال على حدوثها بحدوث الأعراض القائمة بها لأنها لم يشاهد حدوث أعراضها .
فهذا يوضح أن ما بنوا عليه قاعدتهم الكلية وهي إن ما يقوم به ( ما يأتي ويزول هو حادث ) ، أمور مشكوك فيها ، ولا يصح إن يصرف الشرع عن ظاهره لأدلة عقلية متنازع فيها ، لا يقوم عليها دليل عقلي قاطع .
ولهذا فقد صرح كبرائهم أنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ما سموه (حلول الحوادث بذات الله ) ، ذكر ابن تيمية ذلك عن الرازي في كتابه المطالب العالية ، وذكر أنه آخر كتبه الكلامية ، وعن الآمدي في كتابه أبكار الأفكار(2) .
وهذا يبين أنه لا يجوز معارضة الوحي بأدلة عقلية قد تنازع فيها العقلاء ، وليس المقصود هنا إثبات قدم الجواهر ، والأعراض ، فإن المسلمين بل وأرباب الملل متفقون على أن الله خالق كل شيء ، وموجده من العدم .
وليس إثبات هذا مقصوراً على طرق المتكلمين ، وإنما المقصود هنا ، أنهم جعلوا ما ليس مسلما صارفا للنصوص السمعية القطعية عن ظاهرها وهذا لا يجوز قطعا.
الثاني: إن دليلهم الثاني في إثبات حدوث العالم مبني على تماثل الأجسام وعلى أنها مركبة من الجواهر الفردة ومعلوم إن هذا لا يمكن إثباته ، ولهذا توقف فيه الأذكياء منهم ، كماعزي ابن تيمية التوقف فيه إلى أبي المعالي ، والرازي من الأشعرية ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة(3) .
__________
(1) ينظر مناهج الأدلة 149 .
(2) ينظر جامع الرسائل تحقيق محمد رشاد سالم 2/8ـ9 .
(3) ينظر تلبيس الجهمية 1/496، وصرح التفتازاني في شرح العقائد بضعف أدلة الجوهر ، وحكى عن الرازي التوقف فيه ص 52 .(2/16)
ولهذا قال ابن رشد ( وان عنوا بالجوهر الجزء الذي لا ينقسم ، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ، ففيه شك ليس باليسير وذلك إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه ، وفي وجوده ، أقاويل متضادة شديدة التعاند)(1)
وبهذا يعلم إن ما يستدل به على نفي العلو من أنه يلزم منه أن يكون ما هو في جهة جسماً مركباً من الجواهر ، و يكون جوهراً فرداً ، مبني على تخيلات لا أدلة عقلية.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن العجب أن كلامه - الآمدي - وكلام مثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام ، وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وان القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة ، ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها ، فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاماً بلا علم ، بل بخلاف الحق ، مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] )(2) .
الثالث : أن قولهم في الدليل الثالث على حودث العالم ، المركب ممكن لأنه مفتقر لأجزائه وهي غيره ، قد ضعفه بعضهم أيضاً ، وذكر أن العقل لا يوجب أن المركب حادث ما لم يجب حدوث أجزائه(3) .
__________
(1) مناهج الأدلة 138 .
(2) ينظر الدرء 4/176 .
(3) كما نقل ابن تيمية عن الآمدي الدرء 4/247 .(2/17)
فهذا أيضاً يدل على أن ما توهم أنه دلالات محكمة ، لا أحكام فيها ، بل إذا نشط مخترعوها لإبطالها فما أسهل ذلك ، ولهذا فان هؤلاء الجدليين يثبتون أموراً تارة ، وينفون ما أثبتوه تارة أخرى ، كما دل على ذلك ما تقدم(1) .
وهو مما يدل على صدق مقالة الآلوسي التي نقلها عنه رشيد رضا في المنار قال ( وقد صرح السيد الآلوسي تبعاً لغيره من المحققين العارفين بما حققناه هنا فيعلم الكلام والمتكلمين على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق فقال ما نصه ( وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا )) ، ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلاّ قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالعقل بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال ))(2) .
ومن المعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بإثبات الصانع بهذه الطرق التي يلزم منها نفي الصفات ، ولو كان أصل الدين متوقفاً عليها - كما يقوله بعضهم - لما قبل صلى الله عليه وسلم إيمان متبعيه حتى يلقنهم أحكام هذه الجواهر والأعراض وكيف تدل على حدوث العالم واثبات صانع.
__________
(1) ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية في المصدر السابق ، أن عالما مشهورا في الكلام والجدل اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما ، فقال له ( بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم من المعارضة فما وجدته ) وقال ابن تيمية أيضا ( وكذلك حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال ( أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي ، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء ، وبالعكس ، وأصبح وما ترجح عندي شيء 3/263 .
(2) تفسير الآلوسي 11/124 .(2/18)
ولهذا صرح العلماء بذم هذه الطرق وذم الكلام فيما هذا سبيله مما ليس فيه فائدة في الحياة الدنيا بله أن يكون فيه نفع ديني بوجه(1)
والعلم بافتقار المحدث إلى محدث وبأن العالم محدث ،أبين في العقل من يتكلف له هذه التنطعات .
وإلا ما سمّي الله ما في الكون مما يدل على وجوده آيات ، والآية هي العلامة الواضحة التي تدل على الشيء بلا حاجة إلى توسط أمور أخرى كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ، وقال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: من الآية53] ، وقد تنوعت آيات الذكر الحكيم وبهرت العقول في الاستدلال على الربوبية بما هو أوضح وأقرب إلى الفطرة من كلام المتكلمين .
__________
(1) ذم العلماء للكلام مشهور حدا ، كقول الشافعي حكمي على أهل الكلام ، أن يضربوا بالحديد والنعال ويطاف بهم بين العشائر والقبائل ،ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام ) وقول أحمد ( لا يفلح صاحب كلام أبدا ) ، وقال مالك ( لاتجوز شهادة أهل البدع ، وقال ابن خويز منداد ( أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا ، هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل البدع ، وقال أبو يوسف ( من طلب العلم بالكلام تزندق ) ينظر الدرء 7/146ـ 159، ومجموع ابن تيمية 16/472، 473، وبيان تلبيس الجهمية 1/101، 123، وقال أبو حامد وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه ، وهيهات ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة ، وبعد التغلل في إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ) إحياء علوم الدين 1/97 .(2/19)
مثل ذكر خلق السموات وبروجها والشمس والقمر والليل والنهار ، وما في الأرض من جبال وأنهار ، وجنات وأشجار ، والفلك التي تجري في البحار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وتصريف الرياح وإنزال الأمطار ، فإذا أخذت هذه الآيات بمجامع قلب الشاك ، التفت إلى قلبه فوجد فيه العلم بأن لهذه الحوادث محدثاً علماً ضرورياً فطرياً ، (فهذه الطريق هي الصراط المستقيم الذي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى)(1) فإن الإنسان مركوز في فطرته أن الحوادث التي يشهدها لابد لها من محدث ، وان لهذا العالم مبدعاً أبدعه ، فإذا نبه على ما في الكون من آيات تدل على خالقه اشتاقت فطرته إليه (2).
ويدل على هذا أن الأمم التي بعث إليها الأنبياء كانوا مقرين بوجود الله وأنه خالقهم ، وإنما بعثت الرسل ليعبدوا الله وحده ،وأما فرعون فلم ينكر الرب بجهل ولكن جحوداً ، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: من الآية14] .
__________
(1) ما بين القوسين عبارة ابن رشد في مناهج الأدلة 153، وينظر في هذا الدليل الشرعي لاثبات الصانع ، الذي أشار إليه ابن رشد هنا ، مناهج الأدلة لان رشد 150ـ 153، ومع أن هذا الرجل فيلسوف إلا أنه صرح أن طريقة القرآن في إثبات وجود الله ، تخالف طرق المتكلمين ، وأنها تنحصر في طريقين ، طريقة العناية ، وطريقة الاختراع ، ومثل للأولى وللثانية بالآيات ، وقال ابن تيمية بعد أن ذكر كلامه : قلت ذكره لهذين النوعين ،كلام صحيح حسن في الجملة ، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها ) تلبيس الجهمية 1/176، وينظر كذلك هذا المصدر 1/176ـ 181 .
(2) كما يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ) رواه البخاري ينظر فتح الباري 3/246 .(2/20)
وإذا علم أن معرفة الخالق لا تحتاج إلى هذه الطرق الملتوية التي التزم أصحابها من أجلها نفي الصفات ، علم أن هؤلاء المتكلمين أضاعوا أوقاتهم فيما أقر به غالب بني آدم بما فطروا عليه ، ومن طرأ عليه الشك فإن طريقة القرآن كافيه في إزالته ، ومن أنكر فلجحود وهوى ولا تنفع الحجة حينئذ.
ولما كانت هذه الطرق التي سلكوها مبتدعة ، أفضت إلى ما هو بدعة في الشرع وجناية على القرآن والسعة واتهامهما بإظهار خلاف الحق في هذا الباب العظيم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً السبب في مخالفة أهل التأويل للكتاب والسنة : (وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة مثل (متحيز ) ، (ومحدود) ، (وجسم) ، (ومركب) ،ونحو ذلك ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث ولإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليه من جهة النصوص فصاروا أحزابا ...)(1)
وأما القسم الثاني فيقال فيه:
إن هذه الأدلة المتقدمة ترجع إلى استعمال القياس في المطالب الإلهية كما تقدم التنبيه عليه ،وأنه يلزم منه أن يكون الله وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها في قياس الشمول ، أو يكون هو سبحانه والمقيس عليه مستويان في قياس التمثيل .
__________
(1) ينظر مجموع ابن تيمية 13/304 .(2/21)
وبطلان هذا أوضح من أن يتكلف الرد عليه ، وهو يدل على بطلان أدلتهم ، فإن الله تعالى لا يستدل عليه بالشاهد من جهة هذين القياسين ، ولكن يصح أن يستدل عليه بالشاهد من جهة قياس الأولى الذي ليس فيه المحذور من القياسين المتقدمين ، فإذا دخل في قضية كلية مع غيره لا يجعل مستوياً مع أفرادها في حكم لكن يجعل له المثل الأعلى ، ومثاله أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً ، والله تعالى أحق بالغني عن كل محل من كل قائم بنفسه.
وإذا استدل عليه بالشاهد يقال مثلاً : كل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده ، فالله تعالى أحق به إذ هو واجب الوجود ، وكل نقص يتنزه عن موجود لكمال وجوده فالموجود الواجب أحق بالتنزه عنه(1) .
وبهذا يمكن الاستدلال العقلي على بعض الصفات فإن السمع والبصر والعلم كمال في المخلوق فواهب الكمال أحق به ، وكذلك الرحمة والكلام فإن الذي يقدر على الكلام أكمل من الذي لا يقدر عليه ، والذي يرحم أكمل من الذي لا يرحم ، وكذلك الذي يغضب في موضع الغضب أكمل من الذي لا يغضب ، فالله تعالى أولى بهذه الكمالات من المخلوقات .
وقد استعمل في القرآن هذه الطريقة في التنبيه على الاقيسة العقلية التي تسمى في القرآن (ضرب الأمثال) كما قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] ، فبين أن الذي ينزهون أنفسهم عنه ، الله تعالى أولى بالتنزه عنه .
وكما استدل بالنشأة الأولى على الآخرة ،وبخلق السموات والأرض على خلق الناس ، إذ القادر على الإبداع قادر على الإعادة ، والقادر على خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى من باب أولى(2) .
__________
(1) ينظر في إبطال استعمال القياسين ، والتمثيل لقياس الأولى درء التعارض 7/322ـ 323 .
(2) ينظر في ذكر أمثلة هذا القياس من القرآن الدرء 7/363 .(2/22)
وكقول الله تعالى : {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28] .
يقول الله تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك للمالك يشرك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم ، فكيف ترضون ذلك لي ، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟ وهذا يبين أن الله تعالى أحق بكل كمال من كل أحد(1) .
ولو إن أهل التأويل استعملوا هذا القياس فحسب لما أوقعهم في التأويل ، وذلك انهم لما قاسوا الله على خلقه ، جعلوا ما يلزم من إطلاق الصفات عليه هو بعينه اللازم من إطلاقها على مخلوقاته ، ولذلك يقولون النزول تفريغ مكان وشغل آخر، والاستواء يقتضي الحاجة إلى العرش والرحمة ضعف ورقة ، ومثل هذه العبارات التي تدل على أنهم يقيسون الله على خلقه تعالى عن ذلك .
وإذا كان بعض المخلوقات لا يصح قياسه على غيره في لوازم ما يطلق عليه من الصفات ، فالروح لها نزول ، وصعود ، وأفعال ، ولا يلزم من ذلك ما يلزم من أفعال البشر للاختلاف بينهما فكيف بالله تعالى .
* أما الشق الثاني ، وهو الرد التفصيلي :
1ـ : الجواب عن أدلة المعتزلة :
الجواب عن الدليل الأول:
وهو قولهم ، إثبات الصفات يلزم منه مشاركة الله في صفة القدم أو حلول الحوادث ، ويقال في الجواب: (أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال ، صفات الذات وصفات الفعل)(2) (ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن ، تعالى عن ذلك)(3) ، ولكن إثبات الصفات وان الله لم يزل متصفا بها لا يلزم منه أن يكون الإله أكثر من واحد.
__________
(1) ينظر الرسالة الأكملية لابن تيمية 17 .
(2) شرح الطحاوية 126 .
(3) شرح الطحاوية 129 .(2/23)
فليس يجب إن تكون صفة الإله إلها ، ووصف الصفة بالقدم ليس المراد أنها توصف بها على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكنها تكون قديمة بقدم موصوفها ، فإن الصفة تابعة للموصوف ، قديمة بقدمه وباقية ببقائه ونحن إذا ذكرنا الله بلفظ مظهر أو مضمر ، دخل في مسمى اسمه صفاته ، فمن قال دعوت الله أو عبدته لم يرد بذلك انه دعا ، أو عبد ذاتا مجرده عن الصفات ، فإن وجود مثل هذه الذات في الأعيان ممتنع ، وإنما المراد أنه دعا أو عبد الله الحي القيوم القدير السميع البصير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال(1) .
وأما أفراد بعض صفات الله مما يحدث في وقت دون وقت ، فليس فيه تجدد صفة لله تعالى قال شارح الطحاوية (أن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم ، وكان متكلماً بالأمس لا يقال أنه حدث له الكلم ، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة بمعنى أنه يتكلم إذا شاء وفي حال فعله يسمى متكلماً بالفعل)(2)
وإطلاقهم على هذا حلول الحوادث لا يصيره ممنوعاً ما لم يمنع من ذلك الكتاب والسنة .
الجواب عن الدليل الثاني :
وهو قولهم إثبات الصفات يلزم منه الأعراض الدال الجسمية ، وهو باطل إذ لا يلزم من إثبات الصفات إن تكون كصفات المخلوقين أعراضاً دالة على حدوثهم ، كما لا يلزم من إثباتكم أسماء الله فتقولون هو حي عليم قدير أن يكون حادثاً لأن ما يسمى بهذه من المخلوقات حادث ، وإثبات صفات الله فرع عن إثبات ذاته فكما إن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ليست أعراضاً تدل على الحدوث كصفات المخلوقين(3) .
الجواب عن الدليل الثالث :
__________
(1) ينظر ابن تيمية السلفي للشيخ خليل هراس ص 98، وما هنا عبارة عن اختصاره لكلام ابن تيمية في منهاج السنة 1/233، 237 .
(2) ص 128 .
(3) 20 .(2/24)
وأما قولهم بالتركيب فهو من تأثرهم بالمنطق اليوناني الذي هو أصل هذا البلاء ، فإنهم يعنون بالتركيب في إثبات الصفات ، وأنها زائدة على ذاته وما يفهم من كل صفة يختلف عما يفهم من الأخرى ، يعنون به مثل تركيب الأنواع من الجنس والفصل ، كما يقال الإنسان حيوان ناطق ، فالحيوانية مشتركة بينه وبين سائر الأنواع ، والناطقية يمتاز بها عن غيره ، وجعلوا الإنسان مركب من هذين الأمرين ، ثم جعلوا هذا المعنى هو التركيب الذي يلزم من إثبات الصفات وقالوا هو ممتنع يلزم منه الافتقار ، واستعملوا كلمة التركيب يوهمون بها نفي النقص عن الله وهم إنما أرادوا هذا المعنى الخاص بهم .
فيقال لهم ( هذا التركيب أمر اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج كما أن ذات النوع من حيث هي عامة ليس لها ثبوت في الخارج ، فإن الإنسان الموجود في الخارج ليس فيه ذوات متميزة بعضها حيوانية وبعضها ناطقية وبعضها ضاحكية وبعضها حاسية ، بل العقل يدرك منه معنى ونظير ذلك المعنى ثابت لنوع آخر فيقول : فيه معنى مشترك ، ويدرك فيه معنى مختصاً ثم يجمع بين المعنيين فيقول هو مؤلف بينهما)(1) .
فهل يجوز أن يجعل هذا التخيل الذهني حقيقة واقعة ، ثم يقال إن إثبات الصفات ظاهرة التركيب؟ بل الذات الحية العالمة لا يتصور انفكاكها عن صفة الحياة والعلم .
فهذا ما شغبت له المعتزلة على ظاهر نصوص الوحي ، غاية ما فيه تخيلات أخذوها من ملاحدة الفلاسفة.
2ـ : الرد على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات:
الجواب عن أدلة تأويل صفات الأفعال كالمجيء والاستواء
__________
(1) ما بين القوسين كلام ابن تيمية مع بعض التصرف المجموع 6/346، وما تقدم كذلك من نفس المصدر ، وينظر كذلك في الجواب على دليل التركيب الدرء 5/142ـ 145 .(2/25)
وهو ما يسمونه حلول الحوادث ، وهو فرع عن قياس أفعال الله تعالى وصفاته بأفعال المخلوقين وصفاتهم وإن ما يلزم إذا أطلقت عليهم هو ما يلزم الباري سبحانه إذا أطلقت عليه ، وفيما تقدم كفاية في الجواب عن هذه الشبهة ، وقال شارح الطحاوية (وحلول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام ، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب أو سنة ، وفيه إجمال : فإن أريد بالنفي انه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن فهذا نفي صحيح ، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ولا يتكلم بما شاء ، إذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان ، كما يلي بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل ).(1)
الجواب عن أدلة نفي العلو ، وتأويل النصوص الدالة عليه :
أما قولهم إن إثبات العلو يقتضي التجسيم ، ثم يلزم بعد ذلك ما يلزم الأجسام من التماثل عند من يقول به أو الافتقار إلى المخصص أو الانقسام والتركيب فالجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الألفاظ المجملة ، يريدون بها تعظيم ما يزعمون أنه يعارض الوحي ، وإلاّ فإذا بين ما يريدون بها ظهر بطلانها لكل من لم تنحرف فطرته.
فإن التجسيم ، تفعيل من الجسم ، والجسم المعقول في اللغة ، وعرف الناس الجسد وهو البدن ، فإذا نفوه توهم السامع أنهم ينفون عن الله البدن الذي هو من جنس أبدان المخلوقات .
__________
(1) شرح الطحاوية 129.(2/26)
وإنما يريدون به المنقسم مما يشار ، والذي لا ينقسم هو الجوهر الفرد ، هذا عند عامتهم ، وقد يريد به بعضهم ماله عمق وأبعاد وتميز لجهاته ، ثم يقولون إذا أشير إليه لزم أن يكون منقسماً أو مركباً أو جوهراً فرداً وكله باطل ، فإذا أريد بنفي الجسم أي ليس من جنس أبدان المخلوقات فهو حق ، بل هو سبحانه ليس من جنس ما هو ليس بجسم بالمعنى اللغوي ، من مخلوقاته كالروح والهواء والملائكة فإنه سبحانه لا مثله ولا كفؤ له(1) .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس مركباً من الأجزاء ، المفردة فيقال :
أولاً : تركب الأجسام من ذلك لا يعلمه جمهور العقلاء ، وليس عليه برهان صحيح
وثانياً : لا ريب أن الله تعالى ليس مركباً من أجزاء كتركب المخلوقات من أجزائها تعالى عن ذلك .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس منقسماً فيقال :
ما تعنون بالانقسام : إن عنيتم أن ذاته لا تقبل التفريق والتجزئة والانفصال فهو حق وإن عنيتم انه لا تتميز ذاته عن غيره بحيث يشار إليه وينظر إليه يوم القيامة فهو باطل.
ومثل هذا يقال في جميع ما اصطلحوا عليه وجعلوه قانونا يحكم على نصوص الكتاب والسنة ، بأن المراد منها خلاف الظاهر .
مثل لفظ الافتقار ، فإن عني به أن الله مفتقر إلى غيره مما هو خارج عن ذاته فباطل وليس في إثبات صفاته هذا المعنى ، ولا في إثبات علوه على خلقه .
ومثل لفظ الجهة ، وقولهم لو كان فوق العالم للزم أن تحويه الجهة وللزم أن تكون قديمة معه وللزم أن لا يكون عاليا عليها ، ونحو ذلك من الكلام المشتبه ، فإن الجهة إما يراد بها أمر وجودي فإن كان كذلك فهو مخلوق ومن يقول بالعلو على المخلوقات لا يقال له : يلزمك أن يكون ليس عاليا على بعضها فإن هذا لا معنى له
وإن كانت أمراً عدمياً - وهو الصحيح - بمنزلة الأشياء الإضافية ، فلا يلزم من الأمر العدمي كل هذه اللوازم إذ هو لا شيء ، ومثل هذا يقال في الحيز والمكان.
__________
(1) ينظر في هذا الجواب المجموع 17/317 .(2/27)
وبمثل هذا التفصيل يجاب عن سائر ما يشغبون به على نصوص الوحي من الألفاظ المجملة المشتبه ، ويبين أنها مباحث عقلية محضة متنازع فيها وأكثرها باطل ، والصحيح منها لا يخالف الكتاب والسنة(1) .
الجواب عن أدلة نفي صفات الذات :
أما قولهم يلزم التجسيم لأنها في الشاهد لا تكون إلاّ للأجسام ، فالجواب عنه ، أن صفات المعاني كذلك لا تكون في الشاهد إلاّ للأجسام ، هذا على سبيل المعارضة وقد تقدم ما يريدون بلفظ الجسم والرد عليهم .
وأما قولهم تدل على التركيب ، كما فعل المعتزلة في سائر الصفات ، فإن عنوا بذلك ما عناه المعتزلة فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أنه قد ركبه مركب ، أو كان متفرقاً فاجتمع ، أو ما يمكن تفريقه ، فهذا لا يقوله مؤمن بالله تعالى ، وإن عنوا تركيب الجواهر المفردة ، فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أن هذه الصفات متمايزه والمفهوم من بعضها ليس هو المفهوم من الآخر فليس في هذا محذور ، ولا هو ممتنع على الله تعالى عما يقولون(2) .
الجواب عما ذكروه في نفي المحبة ، وسائر ما ذكر:
__________
(1) ينظر في الجواب على أدلة نفي العلو ، مجموع الفتاوى ( 17/ 313ـ 325) ، والدرء ( 4/156ـ 162) و ( 4/220 فما بعدها ، وينظر في مسألة الجهة ، كتاب أقاويل الثقات لمرعي الكرمي ص 92ـ 95 .
(2) ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 6/109، وهذه الألفاظ كالجسم ، والجوهر ، والتركيب ، والانقسام ، لاتثبت ، ولا تنفى إلا بعد الاستفسار عن معانيها ، فما كان حقا اثبت ولم يستعمل إلا اللفظ الذي لا يحتمل غيره ، وما كان باطلا نفي ولا تطلق هذه الألفاظ المشتبهة على الله تعالى لما فيها من الإجمال الذي يشتمل على الحق والباطل ، أفاده ابن تيمية المجموع 17/304 .(2/28)
أما المحبة فيقال : ما المراد بقولكم مناسبة بين الخالق والمخلوق أهو التوالد أو القرابة أو المماثلة فكله باطل ، أم المراد هو الموافقة في معنى من المعاني ، فهذا حق ، فإن الله وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم ، محسن يحب المحسنين ، مقسط يحب المقسطين وليس في هذا إلاّ إثبات صفات الكمال لله ، ليس فيه نقص بوجه من الوجوه .
وأما قولهم يقتضي الحاجة فيلزمهم مثله في الإرادة ، فإنها لا تكون إلاّ لمناسبة بين المريد والمراد ، وملائمة بينهما في ذلك تقتضي الحاجة ، وإلاّ فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده فهل يقال فيها ظاهرها غير مراد ، أم يقال إرادة الله تعالى لائقة به لا يلزمها ما يلزم من إرادة المخلوقات من النقص ، فكذلك المحبة(1) .
وأما ما جعل ظاهره النقص والتغير كالرحمة والغضب والرضا والحياء ، فيجاب عنه بعدم تسليم أن الرحمة خور في الطبيعة لأنه مذموم والرحمة محمودة ، وكذلك الحياء محمود ، وليس هو انكسار كما قيل ، والغضب ليس هو غليان الدم لطلب الانتقام ، وقد يقارنه ذلك ، وقد لا يكون للانتقام ، ويقال أيضاً إن كل ما يلزم من رحمة المخلوق وغضبه ورضاه وحياءه فليس بلازم لله تعالى إذ هو ليس كمثله شيء في صفاته ، كما أنه لا يلزم من إثبات السمع لله ، ما يلزم من صفة السمع للمخلوق من الاعتماد على الهواء في نقل الصوت وغير ذلك .
__________
(1) ينظر مجموع ابن تيمية 6/117 .(2/29)
قال ابن عابدين في حاشيته، : (وهل وصفه سبحانه بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام ، أو إرادته لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة على الله ، فيراد غايتها ؟ ، المشهور الثاني والتحقيق الأول ، لأن الرحمة التي هي من الأعراض هي القائمة بنا ، ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض ، ولم يقل أحد : أنها في حقه تعالى مجاز )(1) .
قال العلامة الألوسي المفسر (كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا ، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى ، لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين ، وأين التراب من رب الأرباب ، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة لله لاستحالة اتصافه بما نتصف به .
فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ، ما نعلمه منها فينا ، ارتكاب المجاز أيضاً فيها إذا أثبتت لله تعالى ، وما سمعنا أحداً قال بذلك ، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك ، وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها ، فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبته إليه عز شأنه ، أو بتركه كذلك ، واثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه ، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته )(2) .
وما قاله هذان الإمامان في صفة الرحمة ، يقال مثله في سائر الصفات التي فينا أعراض نفسانية كالغضب والرضى والحياء ، يوصف الله بها كما يوصف بسائر صفاته وتجهل حقائقها كما تجهل حقيقة ذاته جل عز .
__________
(1) يعني لم يقل أحد من أهل السنة ، ينظر حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/7 .
(2) تفسير الآلوسي 1/60 .(2/30)
وبهذا الجواب يتبين قيمة الأدلة العقلية التي زعم أنها تصرف نصوص الصفات عن ظاهرها ، وتلقى بها في حظيرة المتشابه بالمعنى الذي أراده أهل التأويل.
وهذه الأجوبة تعضد ما ذكر في البراهين المحكمة الدالة على صحة مذهب السلف ، من أنه يستحيل أن يظهر الله سبحانه وتعالى غير الحق في الكتاب المهيمن على سائر كتبه ، ثم يحيل الناس في معرفة الحق على أدلة عقلية في غاية الخفاء ، ولا يفهمها إلاّ من هو حاد الذهن ، ذكي العقل ، بله أن يعرف نسبتها إلى الحق أو الباطل .
مثال هذا لازم قولهم إن هذه الظواهر الكثيرة في إثبات العلو لا يراد ظاهرها ، أن يكون الله سبحانه وتعالى عما يقولون ، قد أظهر خلاف الحق الذي أراد من المؤمنين أن يعتقدوه ، ثم أحالها في معرفة ما يعتقدونه على معرفة أن العلو يلزم منه الجسمية وذلك بطريقة الجواهر والأعراض .
وأن المشار إليه لا يكون إلاّ جسماً والجسم إما منقسم ، وإما جوهر فرد ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، أما الأول فلأنه يلزم منه الافتقار ، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه أو يلزم منه الافتقار إلى مخصص خصصه بهذا القدر دون غيره ، إلى آخر ما يماثل هذا الكلام .
مثل ما ذكره إمام المتأخرين من أهل التأويل ، أبو المعالي ، قال : (كل مختص بجهة شاغل لها متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر)،(1) واقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة ، ثم قال بعد هذا الدليل ( فإذا سألنا عن قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى } قلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قوله استوى فلان على المملكة أي استولى عليها واطردت له )(2) .
__________
(1) لمع الأدلة للجويني 95 .
(2) المصدر السابق .(2/31)
وهذا كالتصريح بأن القعدة التي صرفت هذا الظاهر هي هذا الكلام الشبيه بالألغاز ، فهل يلزم من هذا إلاّ أن الله أظهر في آياته الباطل ، وأحال الناس في أعظم مسائل الدين على ما هو شبيه بالألغاز .
* خلاصة مهمة جدا :
وبما تقدم نستخلص النتائج التالية :
الأولى :
أن القول الصحيح في باب الصفات ، هو مذهب السلف ، وهو إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، بعد النظر الصحيح في النص ، ومعرفة معناه حسب اللغة والسياق وسائر ما يستعان به على تفسير النصوص الشرعية ، فإذا تبين دلالته على صفة لله تعالى أثبتت ولم تصرف عن ذلك لتوهم تشبيه أو تجسيم أو دعوى مخالفة العقل .
الثانية :
أن جميع الصفات تثبت على هذه الطريقة ، ولا يفرق بين ما ذكر في القرآن والحديث ، وما دل عليه العقل وما لا يدل عليه .
الثالثة :
أن دعوى مخالفة نصوص الصفات ، لأدلة عقلية لا يتطرق إليها الشك ساقطة ، فإن هذه الأدلة المتقدمة هي أعظم ما عول عليه المؤولة ، فإذا كانت بهذه المثابة فكيف بغيرها.
الرابعة :
أن بعض نصوص الصفات يصحّ أن تكون من المتشابه بالمعنى الذي رجح في هذا البحث ، وذلك من جهتين :
الأولى : الاشتباه الحاصل للقاصر في العلم لغموض أو تعدد في معان اللفظ ، الذي يكون له أكثر من معنى ، أو تعارض متوهم بين معان نصوص القرآن كما ظنه بعض الناس بين نصوص العلو والمعية ، وهذا التشابه نسبي إضافي يزول بعد رده إلى المحكم ، ويرجع إلى الوضوح ، وهذا عام في هذا الباب وغيره.(2/32)
الثانية : تشابه خاص يكون في مثل هذا الباب ، وهو أن من صفات الله ما يلق أيضاً على المخلوقات فيشتبه أيضاً على غير الراسخين في العلم ، ويظنون في هذه النصوص الظنون الباطلة ، وهذا التشابه المنسوب إلى هذه الآيات ، يزول بعد رده إلى المحكم أيضاً ، وإن كان قد يبقى على من لم يرسخ في العلم ، ويحاول طلب حقيقته فيؤدي إلى الفتنة ، إذ هو طالب لما لا سبيل إلى الدنو منه ، بله الوقوف على حقيقته ، وفتنته إما إنكار الصفات ، صفات الله ، أو تشبيهها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك ، وأما الراسخون فعلموا أن هذه من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلاّ الله فلا يزالون يسألون الله العصمة من الوقوع في الفتنة قائلين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] .
والذي يدل على صحة إطلاق المتشابه على بعض الصفات ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه(1) .
وكذلك فعل الأئمة فالإمام أحمد سمى ما نمسك به الجهمية متشابها ، قال (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بشراً كثيراً )(2).
__________
(1) ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 483، والإسناد المنقول ظاهر الصحة ، قال المصنف ( وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس ، فذكره .
(2) ينظر رسالة الرد على الجهمية ، للإمام احمد ص 65، ضمن مجموعة عقائد السلف ، وذكر ابن تيمية أن كلام احمد يحتمل إرادته التشابه اللازم لبعض الآيات ، وذكر ما يدل على جواز هذا الإطلاق ينظر المجموع 17/383 .(2/33)
والفتنة التي وقعت في هذا الباب هي أعظم فتنة وقعت بين المسلمين ، فأحرى ما ينطبق عليه قوله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: من الآية7] ، هو هذا الباب .
لكن لا يخفي أن أكثر نصوص الصفات ، لا يتطرق إليها التشابه بوجه ، وهي محكمة غاية الإحكام كاتصاف الله تعالى بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والرضوان ومحبته للطيب ومقته للخبيث ، وأنه فوق كل شيء ولا يخفي عليه شيء ، ولا يعجزه شيء ، وليس كمثله شيء وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى .
المطلب الخامس
تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم
وتتمة لهذا البحث ، نتناول ثلاثة أمثلة ، لصفات وصف الله تعالى بها نفسه في الكتاب ، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة ، ثم شن الغارة عليها أهل الكلام والتأويل الباطل ، وصرفوها عن ظاهرها ، اتباعا لأدلة زعموها عقلة قطعية ، وقد تقدم أنها
شبه تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وهذه الأمثلة هي : في صفة الاستواء ، و الكلام ، والرؤية .
* المثال الأول : آيات الاستواء :
فإن الله تعالى قد تمدح ومدح نفسه في سبع آيات من كتابه باستوائه على العرش ، ولم يذكر صفة الاستواء إلاّ مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله ، جل وعلا:(2/34)
قال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] .
وقال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3] . وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2] .
وقال تعالى { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } (طه:4-6).
وقال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] .
وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4] .(2/35)
وقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] .
وقد فسر السلف الاستواء بالعلو على العرش ، كما تقدم عن مجاهد(1) ، وهو معناه في اللغة كما روى اللالكائي عن أبي العباس ثعلب أنه قال {(ستوى على العرش : علا)(2) ، وروى أيضاً عن داود بن علي الإصبهاني الظاهري قال : كنا عند ابن الأعرابي - اللغوي المشهور - فأتاه رجل فقال له : ما معنى قول الله عز وجل {الرحمن على العرش استوى} فقال هو على العرش كما أخبر ، فقال يا أبا عبد الله : ليس هذا معناه ، إنما معناه استولى ، قال أسكت ما أنت ولهذا ، لا يقال : استولى على الشيء إلاّ أن يكون له مضاد)(3) .
وقال الحافظ في الفتح (ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع ، وقال أبو عبيد والفراء بنحوه)(4) .
فهذه نصوص محكمة لا شك في دلالتها على أن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق به ، وقد أجمع على هذا السلف وقال بقولهم كثير من العلماء في مختلف العصور إلاّ من ظن أن ذلك يعارض دليل إثبات الصانع ، من أهل الكلام وقد تقدم الكلام عليه.
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول من هذا الكتاب .
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/399 .
(3) المصدر السابق 3/399، وعزاه الحافظ في الفتح إلى كتاب الفاروق للهروي 13/406، وينظر أيضا الذهبي مختصر العلو 195، واللسان 14/414 .
(4) فتح الباري 13/406 .(2/36)
ومع هذا كله فقد ادعي بعض من لا يثبت هذه الصفة أن اللفظ من الألفاظ المتشابهه التي تحتمل عدة معاني يريد بذلك إبطال دلالته على ما أجمع عليه السلف، قال ابن القيم (ومن هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه { الرحمن على العرش استوى } فقل له : العرش له عندنا له ستة معان ، والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول ويكفيك مؤونته .
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت واصحابك مشبها ، وقد قال لك نفس ما قال الله ، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك ، لأنه لم يتعد النص .
وأما قولك للعرش سبعة معان أو نحوها ، وللاستواء خمسة معان فتلبيس منك ، وتمويه على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلاّ معنى واحد ، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معيناً وهو عرش الرب ، جل جلاله الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلاّ من نابذ الرسل.
وقولك: الاستواء له عدة معان ، تلبيس آخر ، فإن الاستواء المعدي بأداة (على) ليس له إلاّ معنى واحد ، وأما الاستواء المطلق فله عدة معان ، فإن العرب تقول (استوى كذا) إذا انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى (ولما بلغ أشده واستوى) ، وتقول : (استوى وكذا) إذا ساواه ، نحو قولهم استوى الماء والخشبة واستوى الليل والنهار ، وتقول (استوى إلى كذا) ، إذا قصد إليه علوا وارتفاعا ، نحو استوى إلى السطح والجبل ، و(استوى على كذا ) أي إذا ارتفع عليه وعلا عليه ، لا تعرف العرب غير هذا فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه ، كما هو نص في قوله (ولما بلغ أشده واستوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه لا يحتمل غيره)(1) .
__________
(1) ينظر الصواعق المرسلة 1/195ـ 196 .(2/37)
ولا ريب أن الاستواء في الآيات السابقة يدل على معنى العلو ، لا غيره فهو محكم ، وقد دخل الاشتباه على من دخل عليه من أهل التأويل ، لا من تعدد ما يراد باللفظ لكن من وجه آخر وهو كون الاستواء يطلق على الخالق والمخلوق فيشتبه على غير الراسخين في العلم من هذه الجهة ، وإن كان قد حاول كثير ممن اشتبهت عليهم هذه الآيات أن يدعوا أن معنى الاستواء فيها ليس هو العلو، والذي حملهم على ذلك ظنهم أن جعله بهذا المعنى يقتضي التجسيم .
وبهذا يعلم أن ما ذكره السيوطي في الإتقان من التأولات في معنى الاستواء كله خلاف الحق(1) والحق أن الاستواء هو العلو ، والله أعلم.
* المثال الثاني : آيات الكلام :
وهذه المسألة ، مسألة الكلام لها طرفان ، أحدهما صفة الكلام لله تعالى ، والثاني تكلم العبد بكلام الله .
وقد اتفق المنتسبون إلى القبلة على نسبة الكلام إلى الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في وجه ذلك وأهم الأقوال هي :
القول الأول :
وهو قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث وهو أن الكلام صفة من صفات الله تعالى يتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء ، والقرآن كلامه تكلم به على الحقيقة ، قال شارح الطحاوية ( تاسعها : انه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة)(2) .
واتفق أصحاب هذا لقول على أن القرآن تكلم به رب العزة على الحقيقة ، فسمعه جبريل وبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه ، وعلى الإنكار على من يقول إن القرآن مخلوق ، وجاء عن كثير منهم تكفير قائل هذه المقالة.
__________
(1) الإتقان 2/8ـ 9 .
(2) ص180 .(2/38)
روى اللالكائي عن عمرو بن دينار أنه قال (سمعت مشيختنا من سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق)(1) ، ثم ذكر اللالكائي من مشيخته من الصحابة والتابعين خلقا(2) .
ثم روي عن خمسمائة رجلا من التابعين واتباعهم ومن بعدهم كلهم يقول القرآن كلام الله غير مخلوق.(3)
ثم قال (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين ، على إختلاف الأعشار ومضي السنين والأعوام)(4) .
ثم روى عن مالك وابن أبي ليلى وابن عيينه وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك ، وابن الماجشون وغيرهم تكفير من يقول القرآن مخلوق(5) .
وقيام الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن المقام الذي صيره إماما لأهل السنة معلوم مشهور (( ومواجهته للخلفاء والقضاة وأهل البدع بكلمة الحق وصبره الذي يضرب به المثل في غالب كتب التراجم والتاريخ مسطور ، وما كان إنكاره وإنكار علماء السنة في وقته إلاّ على قولين ، قول من يقول إن الله لا يوصف بالكلام ، وقول من يقول إن القرآن المنزل مخلوق .
والأدلة على صحة هذا القول وموافقته للوحي المنزل كثيرة جداً ، فإنهم قالوا بمقتضى ما دلت عليه أي الكتاب وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، التي تنص على أن الله يتكلم وينادي ويناجي ويقول ، وأنه يتكلم بكلام في وقت ويتكلم بغير عين هذا الكلام في وقت آخر ، كما نادي موسى لما بلغ الوادي المقدس وينادي ويتكلم يوم القيامة بكلام ، لم يتكلم بعينه قبل يوم القيامة وهو كثير جداً لا يستطاع حصره إلاّ بكلفة شديدة ولكن يذكر بعض ذلك ، فمن ذلك :
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/235 .
(2) المصدر السابق 2/235ـ 236 .
(3) المصدر السابق 2/234ـ 312 .
(4) المصدر السابق 2/312 .
(5) المصدر السابق 2/313ـ 330 .(2/39)
قال ابن تيمية (هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع ، فقال تعالى {ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون} ، {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة واقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } وقال {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} ، وذكر سبحانه ندائه لموسى في سورة (طه) و (مريم) و(الطس) الثلاث ، وفي سورة النازعات ، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى }فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } وقال تعالى {هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } وقال { وما كنت بجانب الغربي إذ نادينا} ، واستفاضت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت : نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : أن الله يتكلم بلا صوت وبلا حرف ، ولا أنه انكر أن يتكلم بصوت أو حرف)(1) .
القول الثاني:
قول المعتزلة، القائلين إن كلام الله خلق من خلق الله وهو حرف وأصوات يخلقها الله تعالى بائناً عنه، ولا يوصف بصفة الكلام كما لا يوصف بشيء من الصفات أصلاً، ولهذا ذكر القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة، مسألة القرآن في قسم أفعال الله (2) . وهم بهذا القول ينسبون إلى الله تعالى ما يقوم بغيره من الصفات وهو مما يعلم بطلانه قطعاً ، وليس المقصود هنا الكلام على هذا القول ، لكن ذكر ما تبين الفرق بينه وببين القول الثالث .
القول الثالث:
__________
(1) مجموع ابن تيمية 12/304 .
(2) ينظر شرح الأصول الخمسة ص 528 .(2/40)
هو قول الأشعرية وقولهم في الكلام والقرآن يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنهم قالوا كلام الله صفة قائمة به لازمة لذات الله ، أزلا وأبداً كلزوم صفة الحياة والعلم ، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ليس بحرف ولا صوت وانقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والنداء والاستفهام بحسب التعلق ، أي صفة واحدة متعلقة بمتعدد ، كتعلق العلم الواحد بجميع المعلومات عندهم ، ويسمون هذا ( الكلام النفساني ) ، أما القرآن المؤلف من السور والآيات فمخلوق عندهم خلق إما في اللوح المحفوظ أو في جبريل أو في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، قال الأيجي في المواقف (قالت المعتزلة - أصوات وحروف يخلقها الله في غيره - يعني كلام الله - كاللوح المحفوظ أو جبريل ، أو النبيّ ، وهو حادث ، وهذا لا ننكره لكن نثبت أمراً وراء ذلك هو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات.(1)
فالقرآن عبارات مخلوقة دالة على الكلام النفسي عندهم ، ويسمى القرآن كلام الله مجازاً عند بعضهم، وعند البعض الآخر يطلق ( كلام الله ) بالاشتراك اللفظي على المعنى القائم بالذات وعلى المخلوق المؤلف من السور والآيات الدالة على المعنى القائم بذات الله الذي هو صفة من صفاته وهو المسمي بالكلام النفسي.
قال السعد في شرح العقائد ( فإن قيل لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه بأن يقال ليس النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى والإجماع على خلافه وأيضا المعجز المتحدى به، هو كلام الله حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور والآيات، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة .
__________
(1) ص 294 .(2/41)
قلنا : التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، ومعنى الإضافة كونه صفة لله تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ) (1)
فالقرآن كما هو واضح من كلام السعد هذا - عند أصحاب هذا القول - مخلوق، دال على المعنى الواحد القائم بذات الله اللازم له لزوم الحياة والعلم والصفات الغير متعلقة بمشيئته وقدرته، وكذلك التوراة، والعبرانية والإنجيل السرياني، عبارات دالة على ذلك المعنى الواحد، فكلام الله معنى ، إن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وكل هذه العبارات مخلوقة(2) .
وهذا المصنف المنقول كلامه في أول المثال، يبدوا أنه ممن يوافق أصحاب هذا المذهب، في أصل مذهبهم وإن خالفهم في تأويل النصوص الناقضة لهذا المذهب كما سيأتي.
__________
(1) ينظر شرح العقائد ص 94 ـ 95، وينظر في هذا المذهب ، أصول الدين للبغدادي ص 106، إرشاد الجويني ص 117 ـ 119 ، المستصفى للغزالي ص 120 ، قواعد العقائد له ص 182ـ 183 .
(2) ينظر في هذا التبصير في الدين ص 150 ، مجموع ابن تيمية 12/165 .(2/42)
والذي دعاهم إلى اختراع هذا القول الغريب (1) ، الذي دعاهم إلى هذا الاختراع ، هو إنكارهم قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمون هذه المسألة (حلول الحوادث )(2) ، مع إرادتهم موافقة السلف الذين يثبتون صفة الكلام لله تعالى ويعظمون الإنكار على من قال كلام الله مخلوق بل ويكفرونه مع أن أئمة الدين المتقدمين في عصور السلف لم يفرقوا في إنكارهم بين من ادعى أن الكلام مخلوق أو ادعى أن القرآن مخلوق .
ومسألة قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى والكلام التي يسميها هؤلاء حلول الحوادث ، ويجعلون نصوصها من المتشابه المراد به خلاف الظاهر قد مضى الكلام عليها ، وابطال قولهم فيها جملة وتفصيلاً ، والمقصود هنا الكلام على هذا المثال خاصة بما يبين أثر معرفة المحكم والمتشابه في تفسير آيات هذا النوع ، والتي تقدم بعضها .
وينبغي تقديم ما يدل على بطلان هذا القول في كلام الله ثم الرد على تأويلاتهم بما ، وبه يتبين أن هذه الآيات محكمة لا اشتباه فيها عند الراسخين في العلم ، وإنما اشتبهت على من تعلق بشبه من الكلام ، قدمها على نصوص الوحي .
ويدل على بطلان قولهم في كلام الله أدلة أهمها :
الدليل الأول :
__________
(1) ذكر أبو نصر السجزي في كتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت ، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان في أن الكلام لايكون إلا حرفا وصوتا حتى خالف في ذلك ابن كلاب ومن تبعه ص 89 ، وكذلك ذكر ابن تيمية أنه لم يقل بهذا القول في الكلام إلا هذه الطائفة المجموع 6/528 .
(2) ينظر قواعد العقائد للغزالي ص 185 .(2/43)
أن قوله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164] وقوله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [لأعراف: من الآية143] ، وقوله { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:11-13] ، دليل على أنه تكليم سمعه موسى ، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ، ومن قال إنه يسمع فهو مكابرة ، ودليل على أنه نادى والنداء لا يكون إلاّ صوتاً مسموعاً ولا يعقل لفظ النداء بغير صوت مسموع(1) .
الدليل الثاني :
أن الله تعالى قال { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ، وهؤلاء المشركون إنما كانوا يقولون إنما يعلم محمداً هذا القرآن العربي بشر ، لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط ، بدليل قوله { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه لسان أعجمي ، وهذا القرآن ألفاظ عربية ، فدل هذا على أن القرآن لفظه ومعناه من الله لا من غيره(2) .
الدليل الثالث :
__________
(1) ينظر مجموع الفتاوى 12/130 .
(2) المصدر السابق 12/123 .(2/44)
أن قوله تعالى {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ، وقوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ، دليل على وقوع النداء بظرف محدود وهو ذلك اليوم ، يوم القيامة ، وكذلك قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [البقرة: من الآية34] وقوله {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: من الآية30] وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين ، فإن أصحاب هذا القول يقولون إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته لزوم الحياة لذاته(1) .
الدليل الرابع :
أن القول بأن الكلام معنى واحد يلزم منه التناقض فإن موسى مثلاً إن كان سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه ، فقد تبعض ، وكلاهما ينقض قولهم فإنهم يقولون إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض(2) .
الدليل الخامس :
إن قولهم معنى واحد هو أمر بكل مأمور وخبر عن كل مخبر به وسائر ما ذكروه غير متصور ، ولهذا كان أبو محمد ابن كلاب رأس هذه الطائفة ومخترع هذه المقالة ، لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول هو معنى يناقض السكوت والخرس(3) .
الدليل السادس :
أنه معلوم بالاضطرار أنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك هو معنى القرآن ، بل معاني هذا ليست معان هذا ، وكذلك معنى {قل هو الله أحد} ليس هو معنى {تبت يدا أبي لهب} ، ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين وإذا جوز ان تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً ، فليجوز أن يكون العلم والكلام والسمع والبصر صفة واحدة(4) .
__________
(1) مجموع ابن تيمية 12/130ـ 131 .
(2) ينظر شرح الطحاوية 197.
(3) ينظر المجموع لان تيمية 6/295ـ 296، 12/194 .
(4) المصدر السابق 12/122، وشرح الطحاوية 191.(2/45)
فهذا أهم ما يدل على بطلان قولهم ، وهم قد جعلوا الكلام اسماً للمعنى فقط ، واطلاقه على اللفظ من قبيل مجاز ، لأنه دال عليه ، وقالوا بناء على هذا أن القرآن ليس كلام الله حقيقة لأن الكلام هو المعنى أما الألفاظ فتسمى كلاماً من باب المجاز .
والصحيح المعلوم من اللغة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً كما يتناول اسم الإنسان الروح والبدن جميعاً ، ومما يدل قطعا على هذا الحديث المتفق عليه (أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت له أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )(1) ، والحديث الذي رواه النسائي وأبو داود وعلقه البخاري بصيغة الجزم (إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنما أحدث إلاّ تكلموا في الصلاة )(2) .
وقد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب أثناء الصلاة من معاني تتعلق بغير الصلاة من أمور الدنيا أنها لا تبطل الصلاة وإنما يبطل الصلاة التكلم بذلك ، فعلم باتفاق المسلمين أن هذا ليس بكلام(3) .
وقد استدلوا على قولهم ببيت من الشعر ، قال شارح الطحاوية (وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فاستدلال فاسد ، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا : هذا خبر واحد ، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه ، وتلقيه بالقبول والعمل به ، فكيف وهذا البيت قد قيل انه موضوع ، منسوب إلى الأخطل ، وليس في ديوانيه ؟ وقيل إنما قال (إن البيان ففي الفؤاد ) ، وهذا أقرب إلى الصحة(4).
__________
(1) رواه البخاري الفتح 9/388 .
(2) رواه النسائي في سننه 3/19، وأبو داود 1/567 .
(3) شرح الطحاوية 191 .
(4) قال الإمام أبو نصر السجزي رحمه الله في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ( وتعلقوا بشبه منها قول الأخطر أن البيان لفي الفؤاد ... فذكر البيت ، ثم قال : فغيروه وقالوا : إن الكلام لفي الفؤاد ) 92 .(2/46)
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت والناسوت ، أي شيء من الإله بشيء من الناس . أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه)(1) .
ويدل على أن اسم الكلام يتناول اللفظ والمعنى أنه إذا أريد استعماله في حديث النفس خاصة فإنه يقيد بما يدل عليه ، فيقال : قلت في نفسي ، وحدث نفسه ، ونحوه فإن أطلق دل على اللفظ والمعنى معاً ، فهذا ما يدل على بطلان هذا القول .
وقد سلكوا في تأويل النصوص الكثيرة الدالة على ضد قولهم مسلكين مشهورين ، إبطال تأويل النصوص المؤيدة لمذهب السلف :
أما المسلكان : فالأول :
وهو مسلك غريب وقول عجيب ، ما ذكره في حاشية على شرح أم البراهين قال (ليس معنى كلم الله موسى تكليما أنه ابتداء الكلام بعد أن كان ساكتا ، ولا أنه بعد ما كلمه سكت ، وانما المعنى أنه أزال الحجاب عن موسى وخلق له سمعاً وقواه حتى أدرك كلامه القديم ثم منعه بعد ذلك ورده لما كان عليه قبل سماع كلامه)(2) .
__________
(1) شرح الطحاوية ص 198، وينظر مجموع الفتاوى 6/296ـ 297 .
(2) حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص 113 ، وانظر المستصفى للغزالي 120 ، فقد ذكر قريبا من عبارته ، وهذا التأويل بمني على جواز سماع الكلام النفسي ، وقد قال به بعض الاشعرية ينظر نظم الفرائد ص 15، 16 .(2/47)
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم أنهم يقولون (إن التكليم والنداء ليس إلاّ مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ، ولا تكليم بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته ... فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي)(1) .
ولا ريب أن هذا التأويل المتكلف لم يخطر على بال أحد سمع آيات القرآن الواردة في هذا الصدد من نزولها إلى يومنا هذا ، ما لم يتلقنه من أصحاب هذا المذهب ، ثم عليه بعد ذلك أن يرغم نفسه على تصوره إن استطاع ذلك ، نعم ، لا سيما إذا فسر له سماع هذا الكلام النفسي بأن مصحح السماع هو الوجود كما أن مصحح الرؤية كذلك ، كما يقولون ، وقد التزم من أجل هذا جواز رؤية الروائح والملموسات والطعوم(2) .
__________
(1) مجموع ابن تيمية 12/132، 12/175 .
(2) أما الرؤية ـ أعني رؤية الروائح .. إلخ ، فذكره في المواقف ص 302 ، جوابا على من ألزمهم بأن مالا يوجد لاتصح رؤيته ، فذكروا أن مصحح الرؤية الوجود فقط ، والتزموا من اجل ذلك صحة رؤية الروائح والمطعومات ، والملموسات ، وأما السماع فكذلك نقله في نظم الفرائد عن الاشعري ، أنه يتعلق بكل موجود والكلام النفسي موجود فيصح سماعه ص 16 ، وحكاه ابن القيم عن الاشعري ومن اتبعه قال ( وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ، ويشم ، ويذاق ، ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود فكل موجود تعلق الادراكات كلها به ، كما قرره في مسالة رؤية ما ليس في جهة من الرائي ) مختصر الصواعق لابن القيم 513 .(2/48)
ويكفي في نقض هذا التأويل المتكلف ، مصادمته الواضحة لنصوص الكتاب والسنة ، التي تنص على أن الله كلم موسى ، وناداه ، وناجاه ، وسأله فأجاب ، ورد عليه ، فهل هذا كله كان أزلاً ، وسيبقى أبداً ملازما لذات الله ، كلزوم الحياة ، وكيف يعقل أنه لم يزل ربنا تعالى ، ينادي موسى ويكلمه ، قبل أن يخلق السموات والأرض، ويجيب على قوله {رب أرني أنظر إليك } بقوله {لن تراني} قبل وجود الكائنات ، والتأويل إذا بلغ إلى هذا الحد ، فلا يلام من يسميه تلاعبا بكتاب الله .
والمسلك الثاني :
هو أن الله خلق صوتا في الشجرة ، أو في الهواء فسمعه جبريل أو غيره ، فالذي سمعه موسى ، وتسمعه الملائكة ، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، ليلة المعراج من كلام الله ، أصوات وحروف مخلوقة خلقها الله فدلت على المعنى الواحد اللازم لذات الله ، ومع أنها متعددة ، متبعضة ، إلاّ أنها دالة على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، وهذا المسلك هو الذي تقدم عن الايجي أنه حكاه وقال لا ننكره ، وحكاه الرازي عن أهل السنة من أهل ما وراء النهر ، ويقصد بهم أصحاب الكلام النفساني(1) .
وبهذا المسلك - وكذلك الذي قبله - صرح أصحاب هذا القول بخلق القرآن ، فأما الأولون فقالوا إن الله تعالى خلق في جبريل إدراكا أدرك به المعنى النفسي ، فعبر عنه بألفاظه فكان القرآن ، أو أن جبريل ألقى المعنى إلى محمد فأنشأه بلفظه(2) .
وهذا تصريح بخلق القرآن ، فإن المخلوقات وأفعالها كلها مخلوقة .
__________
(1) ينظر تفسير الرازي 22/16 .
(2) قال أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ( وأيضا فلو كان غير حرف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارات بحكم ، إما أن يكون الله أحدثها في صدر أو لوح أو أنطق بها بعض عبيده ، فتكون منسوبة إليه ص 191.(2/49)
وأما هؤلاء فيقولون : خلق في جبريل ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الهواء حروفاً ، هي القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغ جبريل هذا المخلوق للنبي صلى الله عليه وسلم(1) .
فإذن أوّل ما يدل على بطلان هذا المسلك - وكذلك الذي قبله - أنه تصريح بخلق القرآن ، الذي اتفقت الأمة وكلمة أهل العلم في عصور السلف على إنكاره والبراءة من قائله ، وهو مع ذلك تناقض بين من قائله - أن كان من أصحاب هذا المذهب - فإنه إنما يحتج على المعتزلة الذين ينسبون الكلام إلى الله مع قيامه بغيره - لأنهم يقولون حروف وأصوات يخلقها في غيره - بأن الموصوف بالشيء هو ما قام به ذلك الشيء ، ولا يوصف الشيء بما قام في غيره ، كما قال السعد في شرح العقائد ( والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه تعالى متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محالها ، وإيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وإلاّ لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً )(2) .
فمن ينكر على المعتزلة نسبة الكلام إلى الله مع القول بأنه أوجده في غيره ، كيف ينسب إلى الله الكلام الذي أوجده في غيره ، فيقول القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق خلقه الله في غيره ، كاللوح المحفوظ أو جبريل أو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو مع ذلك كلام الله.
فإن قال : إنما هذا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، لزمه أن كل كلام خلقه الله فهو كلامه ، وهذا يشمل كل كلام في الوجود وهذا من أبطل الباطل ، وما قال به إلاّ أهل وحدة الوجود من الزنادقة المنتسبين إلى التصوف .
__________
(1) مجموع ابن تيمية 12/378 .
(2) شرح العقائد النسفية 92ـ 93 .(2/50)
فهذا أهم ما يدل على بطلان هذين التأويلين ، والحق الذي لا ريب فيه أن الآيات التي نصت على اتصاف الله بالكلام هي على ظاهرها اللائق بالله تعالى ، وأن الله تعالى موصوف بصفة الكلام ، وهو متكلم بما شاء متى شاء ، كيف شاء ، بكلام سمعه موسى ويسمعه جبريل وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، بصوت لا يماثل صوت المخلوقين كما أن سائر صفاته لا تماثل صفات المخلوقين .
ولينظر إلى هذا الاعتقاد ما أحسنه وأسهله وأوفقه لنصوص الوحي ، وذلك القول مع ما جر إليه من تأويلات ، ما أشد تكلفة ، وأبعد تصوره ، وأصعبه على النفوس السليمة ، يتجرعه المؤمن ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الباطل من كل مكان ، فالحمد لله الذي جعل عقيدة الإسلام سهلة ميسورة قريبة إلى النفوس والفطرة واضحة في التصور والعلم .
فليس في آيات الكلام اشتباه ، ولا هي من المتشابه عند أهل الرسوخ في العلم ، ولكنها إنما اشتبهت على من عارضها بعقله الضعيف ، واصطلاحهم على أن المتشابه هو ما يراد به خلاف ظاهره هو الذي أدى إلى تأويل آلاف النصوص وجعلها من المتشابه وإدعاء أنها من المراد به خلاف الظاهر قال ابن القيم (ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاثة آلاف ، فكل آية ، وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول وكل أثر فيه ذلك إذا استقرئت زادت على هذا العدد)(1) .
وبما مضى يتبين أن الآيات الواردة في مسألة كلام الله تعالى وأنه يكلم ملائكته وجبريل ومن شاء من أصفيائه ، ويكلم من شاء يوم القيامة وأهل الجنة وهي كثيرة جداً في القرآن كلها محكمة لا اشتباه فيها عند أهل العلم الراسخين فيه من أهل السنة ، وتفسيرها تلاوتها واعتقاد ظاهر ما دلت عليه مع تنزيه الله عن مماثلة خلقه .
__________
(1) مختصر الصواعق لابن القيم 518 .(2/51)
ويبقى الكلام في قوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: من الآية6] ، وهو الطرف الثاني من مسألة الكلام ، وهو قراءة العباد كلام الله وتسمى مسألة اللفظ وهذه المسألة من المسائل الدقيقة وقد اشتبهت على كثير ممن ينتسب إلى السنة والحديث .
وسبب اشتباه هذه المسألة أن الكلام ، وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي ، فالذي يبلغ بلفظه الكلام الذي تكلم به غيره يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت له في الأول .
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب ، مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها كالشمس مثلاً ، فوجودها الخارجي شيء ، ووجودها الذهني شيء ، ووجودها اللساني شيء ، ووجودها في الكتاب شيء ، أما العلم مثلاً فتتحد فيه المرتبتان الذهنية والخارجية ، والكلام تتحد فيه المرتبتان اللفظية والخارجية ، فلا جرم حصل الاشتباه العظيم في مسألة تكلم العباد بالقرآن(1) .
__________
(1) ينظر في علاقة مسألة الكلام بمراتب الوجود ، مختصر الصواعق المرسلة ص 535، مجموع الفتاوى 12/239 ، 12/289، 12/385 .(2/52)
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانا واضحا لهذا الإشكال ويحسن إيراده بألفاظه قال رحمه الله (ومما ينبغي أن يعرف ، أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم ، به ، فإذا أنشد المنشد ، قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه ، مع أن أصوات المنشدين له تختلف ، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد ، وكذلك من روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) فإن هذا الكلام كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لفظه ومعناه ويقال لمن رواه أدي الحديث بلفظه ، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه ، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم )(1) .
وقال ( ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلهم كلام محدث يحدث بحديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كقوله ( إنما الأعمال بالنيات ) قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، أو هذا كلامه بعينه ، لأنهم قد علموا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه وتكلم بصوته ، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه ، فالكلام كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته والمبلغ له بلغة بفعل نفسه وصوت نفسه ، فإذا قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه ، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته ، بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون صوت حسن ، وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلغ له ، ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء كتجويد الحروف وتحسين الصوت ولهذا قال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله }(2) .
__________
(1) مجموع ابن تيمية 12/171 .
(2) المصدر السابق .(2/53)
وقال رحمه الله ( كما في الاسم والمسمى ، فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ، ودعا به أناس متعددون ، فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد ، فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال ذلك هذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وقاله غير المؤذن ، فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله ، كما أن المسمى هو الله ورسوله )(1) .
فقوله تعالى {فأجره حتى يسمع كلام الله} المقصود الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما سمع بواسطة التالي وصوته.
والمشار إليه عند قراءة القارئ للقرآن ، (بهذا كلام الله ) ليس هو ما يمتاز به قارئ عن قارئ إذ كان من المعلوم ، أن ما يسمع من كل قارئ فهو كلام الله وأن صوت هذا القارئ ليس هو صوت ذلك ، بل المشار إليه ، هو الحقيقة المتحدة ، وهو كونه كلام الله بقراءة جميع القراء .(2)
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الاشتباه لا ينحل إلاّ لمن يتيقن أمرين :
الأول : أن الله تكلم بالقرآن بكلام سمعه جبريل منه سماعاً حقيقياً وأنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاه عليه وعرضه عليه فسمعه -صلى الله عليه وسلم- وبلغه للأمة كما سمعه ولم يزل ينقل بالتواتر كما تكلم الله به أول مرة كلاماً حقيقياً بصوت نفسه سبحانه وتعالى .
الثاني : أن الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ، فلا يقال عمن روى حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا كلامك ، وقولك ، بل يقال كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله .
ولا تشتبه هذه المسألة إلاّ على من ينكر أحد هذين الأمرين أو يجهله ، وبهذا فقوله تعالى {حتى يسمع كلام الله} هو كلام الله بأصوات القارئين فلا إشكال ولا إشتباه فيه إذا رد إلى المحكم.
فهذا ما يتعلق بهذا المثال .
* المثال الثالث : آيات الرؤية :
__________
(1) المصدر السابق 12/291 .
(2) المصدر السابق 12/281 .(2/54)
وهي من المسائل الكبار التي خالف فيها أهل البدع السنة ، واتبعوا ما تشابه عليهم من القرآن كما قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ، عند قوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } .
قال (يدل على أن الله تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار والعيون ، على وجه ، في كل وقت من غير تخصيص)(1) .
وقد أثبتها أهل السنة واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة .
وأما الكتاب فقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
وقد صرح ابن كثير رحمه الله بتواتر أحاديث الرؤية .
ومما يدل على ذلك من كتاب الله أيضاً قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال ابن كثير ( قال الإمام الشافعي رحمه الله : هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي - رحمه الله - في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دل منطوق قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم - عز وجل - في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنات الفاخرة)(2) .
ومما يدل على الرؤية من كتاب الله أيضاً قوله تعالى { قال رب أرني انظر إليك ...} ، قال شارح الطحاوية رحمه الله ( الاستدلال منها على ثبوت الرؤية من وجوه :
الأول : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال (إني أعظك أن تكون من الجاهلين ).
__________
(1) متشابه القرآن لعبد الجبار 1/255 .
(2) تفسير ابن كثير 8/373 .(2/55)
الثالث : أنه تعالى قال {لن تراني} ولم يقل (إني لأرى ) أو ( لا تجوز رؤيتي ) أو ( لست بمرئي ) ، والفرق بين الجوابين ظاهر ، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعام ، فقال أطعمنيه ، فالجواب الصحيح أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال إنك لن تأكله ، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى ثم ذكر وجوها أخرى ، هذه أهمها.(1)
وقد تقدم ما يدل على ذلك من السنة ويدل على ذلك أيضاً إجماع المسلمين قبل حدوث بدعة إنكار الرؤية .
وقد استدل المعتزلة بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار} كما تقدم عن القاضي عبد الجبار ، وجعل الزمخشري قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } محكما ، وقوله تعالى { إلى ربها ناظرة } متشابها(2) .
وحاول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه القرآن ، تأويل ما استدل على الرؤية من آية الأعراف ، وحاول الزمخشري تأويل قوله تعالى { إلى ربها ناظرة } بما يقطع ببطلانه .
أما قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] .
__________
(1) شرح الطحاوية ص 207 ، وقوله عندهم في الوجه الأول يعني المعتزلة ، فإنهم لا يجوزون على الأنبياء حتى الصغائر فكيف بجهل ما يستحيل على الله .
(2) الكشاف 1/412 .(2/56)
قال القاضي عبد الجبار (قالوا : ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز إن يرى ،وما يدل على أنه يجوز أن يظهر ويتجلى ويحتجب ، فقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك } فلو لم تجز الرؤية عليه لم يكن ليسأل ذلك ، كما لا يجوز أن يسأل ربه اتخاذ الصاحبة والولد ، إلى ما شاكله من الأمور المستحيلة عليه )(1) .
ثم قال ( وقد اختلف أجوبة شيوخنا رحمهم الله في ذلك ، فمنهم من قال إنما سأل ذلك عن لسان قومه ، لأنهم سألوه ذلك فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه ، فلم يقنعوا بجوابه ، وأرادوا أن يرد ذلك من الله تعالى ، ولذلك قال تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: من الآية153] ، ولذلك قال الله تعالى {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} ولو كانت المسألة صدرت عنه لأمر يخصه لم يجز أن يقول ذلك ، وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب)(2) .
وهذا أحسن ما حكى عن شيوخه من تأويلات وهو كما لا يخفى من ابعد التأويل ولا يدل عليه الخطاب من قريب ولا من بعيد .
فإن قوله تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:153] .
__________
(1) متشابه القرآن له 1/291 .
(2) 1/293 .(2/57)
مع قوله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55-56] ، يدل على أنهم سألوا رؤية الله عن عناد وتعنت ، كما يفسره قوله تعالى { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فادعوا أنهم لن يؤمنوا إلاّ إذا رأوا الله جهرة ، فعاقبهم الله بالصاعقة ، فماتوا ثم بعثهم ،وفي تعقيب أخذه لهم على سؤالهم (بالفاء ) دلالة على وقوع صعقهم عقيب سؤالهم ، وقوله تعالى ثم اتخذوا العجل دليل على أن اتخاذهم العجل قد وقع لما انطلق موسى إلى ميقات ربه وكلمه ، فأخبره سبحانه {فإنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } ، وفي هذا دلالة على أن سؤال موسى رؤية ربه كان بعد سؤال قومه الذي وقع منهم قبل ذلك تعنتا وعنادا ، فعوقبوا عليه ، فكيف يعود موسى ويسأل ربه أن يجعل الذين أخذهم الله بالصاعقة يرونه بعد أن كانت عقوبتهم بسبب طلبهم الرؤية ؟ وكيف يطلبون الرؤية بعد أن صعقوا عقوبة على طلبها ؟
وأيضاً فإن موسى قال {رب أرني أنظر إليك } وهذا صريح في أنه طلب الرؤية لنفسه ، فتركه ما دل عليه الخطاب لأمور بعيدة مجرد تحكم .(2/58)
وأيضاً فإن السياق يدل على أن موسى طلب الرؤية لنفسه فإن الله قال { ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك } فعقب طلب الرؤية على سماع الكلام ، ففيه إشارة إلى أنه لما سمع الكلام استأنس وظن أن الله يعطيه الرؤية كذلك في الدنيا فبين له ربه سبحانه أنه لا تجوز في الدنيا ، إذ لا تطيقها الجبال الرواسى فكيف بالبشر الضعيف في بنيته الدنيوية الضعيفة ، ولهذا قال بعد ذلك { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } ، أي خذ نعمتي عليك وأشكر عليها ، وهي الكلام والرسالة ، ولا تطمع فيما لا يكون لأحد ولا طاقة لأحد به(1) .
وقوله ( وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب ) ، لا معنى له ، فإن بني إسرائيل لم يسمعوا ما جرى بين موسى وربه من الخطاب ولم يروا دك الجبل ، وإلاّ لصعقوا كما صعق موسى ، بل كانوا في أثناء هذا يعبدون العجل ، كما قص القرآن ، فما فائدة أن يسأل موسى ربه أن يري نفسه بني إسرائيل مع علمه أنه مجال لتزول الشبهة عنهم إذا لم يكن بنوا إسرائيل شاهدين لهذا ، فما أبعد هذا .
وبالجملة فهذا إلى اللعب أقرب منه إلى التأويل ، وهو دليل واضح على أن أهل البدع يجعلون الآية من المتشابه لمجرد مخالفتها لمذهبهم ، يريدون بذلك صرفها عن نقض أقوالهم ، فالله المستعان .
وأما قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فإنه يدل على الرؤية من وجوه :
الأول : أن لفظ ( نظر ) إذا عدي بإلى دل على نظر العين ، كما أنه إذا عدي بفي دل على التفكر كما قال تعالى {أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } ، وإذا عدي بنفسه فمعناه الانتظار { انظرونا نقتبس من نوركم } (2) .
__________
(1) تفسير ابن كثير 3/471 .
(2) ينظر شرح الطحاوية 205 .(2/59)
قال الجوهري ( النظر : تأمل الشيء بالعين ، وكذلك النظران بالتحريك ، وقد نظرت إلى الشيء)(1) .
وقال ابن فارس ( النون والظاء والراء أصل صحيح ، يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه ، فيقال نظرت إلى الشيء ، أنظر إليه إذا عاينته ... ويقولون نظرته أي انتظرته )(2) .
الثاني : أنه أضافه إلى الوجوه التي محل الأبصار فهذه قرينة تدل على أن المراد نظر العين(3) .
الثالث : أن المقام بيان النعيم ، فالمناسب ذكر تمتعهم بالنظر إلى الله ولو قيل أن المراد ينظرون رحمة ربهم لكان في ذلك تنقيص لهم لأن المنتظر للشيء مشغول القلب بوقت حصوله .
الرابع : في قوله {وجوه يومئذ ناضرة} إشارة إلى رؤية الله عيانا ، فكأنها اكتسبت النضرة.بسبب رؤية الله تعالى كما أن من يرى الشيء الحسن يتبين أثر ذلك في وجهه ، فكيف بمن يرى الله تعالى .
فهذه الوجوه تبطل تأويل النظر بانتظار الثواب كما فعل القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن.
وأما قول الزمخشري ( إلى ربها ناظرة ، تنظر إلى ربها خاصة ، لا ننظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، إلاّ ترى إلى قوله - إلى ربك يومئذ المستقر - إلى ربك يومئذ المساق - إلى الله تصير الأمور - إلى الله المصير - وإليه ترجعون - عليه توكلت وإليه أنيب - كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلاق كلهم )(4) .
ثم جعل هذا دليلاً على أن معنى النظر إلى الله عنده ( أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم ) كما قال(5) .
__________
(1) الصحاح 2/830 .
(2) معجم مقاييس اللغة 5/444 .
(3) شرح الطحاوية 205 .
(4) الكشاف 4/192 .
(5) المصدر السابق .(2/60)
فجوابه أن الاختصاص على ظاهره فإن الله تعالى إذا تجلى لأهل الجنة ينظرون إليه ، كما تواتر في السنة ، فلا تتوجه الوجوه والأنظار إلاّ إليه وكأنها لا ترى إلاّ هو ، وسبحان الله ، كيف يتصور أن تطلب العيون نظراً إلى غير الله إذا تجلى بعظمته ، وكيف لا تعمى عن سواه إذا أزال رداء الكبرياء عن وجهه الكريم ؟ بل هذا أعظم لذّات الجنة وليس بين هذا النعيم وسائر نعيم الجنة وجه مقارنة أصلاً كما تقدم في حديث مسلم (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ).
وفي الوجوه الأربعة المتقدمة رد على قوله ( والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم).
وأما الاستدلال بقوله { لا تدركه الأبصار } فقد اشتبه عليهم ويتبين برده إلى المحكم معنا الصحيح ، فإنه لا ريب أن ما دلت عليه الآيات السابقة والأحاديث المتواترة من حصول رؤية المؤمنين ربهم ، محكم غاية الأحكام ، فقوله تعالى { لا تدركه الأبصار} لا يدل على عدم الرؤية بل هو أدل على وقوع الرؤية ، وذلك أن الآية ذكرت في ( سياق التمدح ومعلوم أن المدح ، إنما يكون بالصفات الثبوتية .
أما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال قيوميته ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره ، ونفي الأكل والشر المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته ، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا وجوديا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه .(2/61)
فمعنى الآية إذن ، يرى ولكن لا يدرك ولا يحاط به فيكون قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن (الإدراك) ، هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى { فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا} الشعراء (62) ، فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الأدراج ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر ، وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه)(1) .
وهذا ختام كتاب ( أم البراهين ) والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين .
قائمة المحتويات
- الفصل الثاني : أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها ..................... ص 2
- المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة ..................................... ص 3
- مقدمة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة ............... ص 3
- الركن الأول ............................................................ ص 3
- الركن الثاني ............................................................ ص 5
- المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية ......... ص 8
- المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات ........................ ص 9
- أهم أدلة نفاة الصفات الفعلية ............................................. ص 9
- أهم أدلة نفاة صفة العلو ................................................ ص 10
__________
(1) شرح الطحاوية 208 .(2/62)
- أهم أدلة نفاة صفات الذات .............................................. ص 11
- ملاحظات على هذه الأدلة ............................................... ص 12
- المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .. .................................................................................. ص 14
- الشق الأول : الرد العام ................................................. ص 14
- القسم الأول .......................................................... ص 14
- القسم الثاني ......................................................... ص 18
- الشق الثاني : الرد التفصيلي ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة المعتزلة ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات ..................... ص 21
- الجواب على أدلة تأويل نفي العلو وتأويل النصوص الدالة عليه ..... ص 21
- الجواب على أدلة نفي صفات الذات .................................. ص 22
- الجواب على ما ذكروه في نفي المحبة ............................... ص 23
- خلاصة مهمة جدا .................................................... ص 25
- المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ........ ص 27
- المثال الأول : آيات الاستواء ............................................ ص 27
- المثال الثاني : آيات الكلام ............................................... ص 29
- أهم أقوال المنتسبين إلى القبلة في توجيه نسبة الكلام إلى الله ....... ص 29
- القول الأول : قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث ............. ص 29
- القول الثاني : قول المعتزلة ...................................... ص 31(2/63)
- القول الثالث : قول الأشاعرة ..................................... ص 31
- الأدلة على بطلان قولهم في كلام الله ................................. ص 32
- المثال الثالث : آيات الرؤية .............................................. ص 39(2/64)