بسم الله الرحمن الرحيم
ألوهية المسيح عليه السلام .
كتبة الاخ:ياسر
من منتدى طريق الايمان
قام بعمل الكتاب
وليد المسلم
walid9almoslm@yahoo.com(1/1)
حقيقة المسيح عليه السلام كما ذكرها القرآن
عرض القرآن الكريم صورة المسيح الحقيقية ، من لحظة ولادته إلى نهاية وجوده على وجه الأرض ، موضحاً حقيقة هذه الشخصية ، وهدف دعوتها ، وأركان رسالتها ، وما أختصها الله سبحانه وتعالى بالمعجزات . وذلك على النحو التالي :
1- عيسى ابن مريم - عليه السلام - هو بشر مخلوق ، وعبد للخالق عز وجل ، وليس هو إله ، ولا بابن إله ، وأمه امرأة طاهرة ظهرت براءتها على لسان رضيعها ، وكانت هذه هي الحقيقة الأولى التي نطق بها المسيح وهو في المهد ، حيث انطقه الله بقدرته العظيمة ، وذلك قوله سبحانه وتعالى : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } [ مريم 29-30 ]
فالمسيح ليس إلا بشراً مخلوقاً ، ونبياً مرسلاً ، كما قال الله سبحانه وتعالى عنه : { إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [ الزخرف : 59 ]
والمسيح عليه السلام لن يستكبر عن الخضوع لخالقه ، بل يتشرف في كونه عبداً للخالق العظيم سبحانه وتعالى ، وهذا مصداق قوله سبحانه وتعالى : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } [ النساء : 172 ]
وما كانت ولادته - عليه السلام - بهذا الشكل المعجز ، إلا لأنه آية للناس ، على قدرة الله سبحانه وتعالى في الخلق .
ولقد سبقه في هذه الطريقة المعجزة التي خلق بها ، في تميزها وغرابتها ، مثل قديم ، وهو آدم أبي البشر - عليه السلام - ، قال الله سبحانه وتعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ]
(1/2)
2- عيسى ابن مريم - عليه السلام - نبي ورسول من عند الله عز وجل ، كغيره من الأنبياء والمرسلين ، جاء ليدعو إلى توحيد الخالق سبحانه وتعالى ، ويصحح انحراف اليهود عن دينهم ، وبعدهم عن شريعتهم { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } [ المائدة : 75 ] .
وقوله تعالى:{ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }[ الزخرف : 63 ]
وقوله تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ البقرة : 253 ]
وقوله تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ } [ الحديد : 27 ]
3- عيسى ابن مريم - عليه السلام - إنسان بار بوالدته ، ليس بجبار ولا شقي .
قال الله سبحانه وتعالى على لسانه : { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } [ مريم : 32 ]
(1/3)
وهذه الحقيقة القرآنية تنفي بوضوح كل ما جاء في الإنجيل الحالي ، من أن المسيح - عليه السلام - كان إنساناً مستهتراً بأمه ، يناديها بكل لا مبالاة قائلاً : (( مالي ولك يا امرأة ؟! )) [ يوحنا 2 : 4 ] ..
4- عيسى ابن مريم - عليه السلام - في القرآن الكريم هو قدوة صالحة ، وأنموذج رائع للإيمان والعبادة والإخلاص لله سبحانه وتعالى ، يقول الله تعالى على لسانه : { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا } [ مريم : 30 _ 31 ]
5- حقيقة رسالة المسيح - عليه السلام - ، ومحدوديتها ، إذ بعثه الله تعالى إلى طائفة محددة من البشرية ، فليست رسالته عامة لكافة الناس ، وإنما هو نبي مرسل إلى بني إسرائيل ، وفقط ، والآيات القرآنية واضحة في هذه النقطة ، حيث تبين محدودية رسالة المسيح ، واختصاصها ببني إسرائيل وحدهم ، يقول الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ } [ الصف : 6 ]
وقوله تعالى : {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ آل عمران : 48 ]
وإن محدودية رسالة المسيح - عليه السلام - واختصاص دعوته ببني إسرائيل ، أمر واضح تماماً في الأناجيل المعتمدة عند المسيحيين حالياً ، فقد صرح بذلك المسيح نفسه ، في قوله : ( لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة ) . ومن الثابت في اللغة أن ( إلا ) هي أداة تفيد الحصر فقد حصر المسيح رسالته ببني إسرائيل .
(1/4)
6- يعرض القرآن الكريم حقيقة المسيح - عليه السلام - ومهمته التي جاء لأجلها ، وأن له وقتاً محدداً سوف يمضي فيه بدعوته إلى الله تعالى ، حيث سيبلغ رسالة ربه المتمثلة في الإنجيل ، وليتابع شريعة وسيرة التوراة ، يقول الله سبحانه وتعالى : { وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ } [ المائدة : 46 ]
7- يذكر القرآن الكريم إحدى أهم وظائف المسيح - عليه السلام - وهي الإخبار والتبشير بمجيء النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ } [ الصف : 6 ]
8 - المسيح - عليه السلام - هو كلمة الله تعالى ، يقول الله عز وجل : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وكيلاً } [ النساء : 171 ]
والمقصود بالكلمة هنا : الأمر الإلهي ، الذي صدر عن الله تعالى بلفظ ( كن ) ، من غير واسطة أب ، فالمسيح مخلوق بالكلمة وليس هو الكلمة .
(1/5)
قال الله سبحانه وتعالى : { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ آل عمران : 47 ]
فالخالق العظيم وهو اللَّه يَخْلُق مَا يَشَاء إذَا قَضَى أَمْرًا" أَرَادَ خَلْقه "فَإِنَّمَا يَقُول لَهُ كُنْ فَيَكُون" أَيْ فَهُوَ يَكُون.
وتعني الكلمة أيضاً بشارة الله تعالى ، وهديته ، وذلك في قوله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ المقربين } [ آل عمران : 45 ] .
9- المسيح - عليه السلام - هو روح من الله تعالى ، يقول الله تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وكيلاً } [ النساء : 171 ]
وهذه الإضافة ( روح الله ) هي إضافة التشريف والإجلال والتكريم كما يقال ( بيت الله ) و ( رسل الله ) و ( نعمة الله ) و ( ناقة الله ) .
وقيل هي اضافة خلق وملك كَمَا قَالَ : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ } [ الْجَاثِيَة : 13 ] أَيْ مِنْ خَلْقه . وكقولك : هذه نعمة منه أي من الله فهذه النعمة خالقها ومالكها هو الله سبحانه وتعالى وعندما نقول روح منه أي مخلوقة ومملوكة لله سبحانه وتعالى .
(1/6)
والقول هنا في كلمة روح منه تدل على أن المسيح من خلق الله فهو روح من الوهاب عز وجل وهذه تفند اعتقاد الطائفة التي زعمت أن المسيح إله غير الله أو بمعنى انه إله مع الله ، فجاء الرد الإلهي بأنه روح منه أي كباقي الأرواح التي خلقها الله سبحانه وتعالى .
ولعل هذه الإضافة لصفة عيسى - عليه السلام - إلى الله تعالى : ( روح الله ) ، هي التي اعتمدها المسيحيون ، وأقاموا على مدلولها أسس دينهم ، في قضية التثليث ، ففسروا هذه الألفاظ تفسيراً محمولاً على الظاهر ، دون الانتباه إلى الدلالة اللغوية لهذه الإضافات .
وكلمة روح هنا ليست خصوصية اختص الله تعالى بها في قرآنه السيد المسيح - عليه السلام - فهناك معان أخرى لكلمة روح ، وهناك من أطلقت عليه هذه اللفظة أيضاً .
يقول الله تعالى عن آدم عليه السلام : { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ]
والقرآن الكريم هو نفسه روح من أمر الله تعالى ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ]
ووحي الله تعالى لكل أنبيائه ، سمي في القرآن روحاً من أمر الله تعالى ، يقول الله تعالى : { يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ } [ النحل : 2 ]
وجبريل أمين الوحي - عليه السلام - سمي في القرآن روحاً من الله تعالى وذلك في قوله تعالى : { فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } [ مريم : 17 ]
(1/7)
وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ } [ الشعراء : 192 ]
وقد سمى القرآن الكريم معونة الله تعالى ، وتأييده ، ونصره للمؤمنين ، عند القتال بالروح منه ، قال الله تعالى : { أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ } [ المجادلة : 22 ]
وإذا انتقلنا إلى كتب النصارى نجد أن كاتب رسالة يوحنا الأولى [ 4 : 1 ] قد صرح بأن الروح التي هي من الله ليست هي الله وإنما هي شخص أو إنسان فقال : (( أيها الأحبة لا تصدقوا كل روح ، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله ؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم ))
إن قول يوحنا : (( لا تصدقوا كل روح )) يفيد أن الروح شخص ، فهو صادق إذا قامت البراهين على صدقه ، وكاذب إن دلت الأدلة على كذبه .
10- معجزات السيد المسيح - عليه السلام - :
السيد المسيح - عليه السلام - نبي كسائر الأنبياء - عليهم السلام - دعا قومه إلى الأيمان بالله تعالى ، وبين لهم شرائع اختلفوا فيها ، ومنهجاً للحياة السعيدة ، يقول الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [ الزخرف : 63 ]
ومع هذه الدعوى إلى الله تعالى : كان لا بد من معجزات تظهر تأييد الله عز وجل لرسوله بدعوته ، وهذه المعجزات تتناسب مع أحوال كل قوم من الأقوام .
والمعجزات المذكورة في القرآن الكريم عن المسيح - عليه السلام - هي :
1- إبراء الأكمة .
2- إبراء الأبرص .
3- إحياء الموتى .
4- نزول المائدة من السماء .
5- تصوير الطين ، والنفخ فيه ، فيصبح حياً بإذن الله سبحانه وتعالى .
6- الإخبار ببعض المغيبات . التي أطلعه الله عليها .
7- الكلام في المهد .
(1/8)
وكل هذه المعجزات هي بأمر الله تعالى وإذنه ، يقول الله سبحانه وتعالى : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ]
والآيات التي ذكرت تلك المعجزات لم تغفل هذه الناحية ، حيث بينت أن هذه المعجزات هي لإثبات نبوة المسيح عليه السلام وكلها تجري بأمر الله تعالى وتأييده .
يقول الله تعالى : { وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 49 ]
وقول الله سبحانه وتعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 112 ]
11- نهاية المسيح عليه السلام :
(1/9)
قد تظاهرت الأدلة من الكتاب والسنة على أن عيسى بن مريم عبدالله - عليه الصلاة والسلام - رفع إلى السماء بجسده الشريف وروحه ، وأنه لم يمت ولم يقتل ولم يصلب ، وأنه ينزل آخر الزمان فيقتل الدجال ، ويكسر الصليب ، ويحرم أكل الخنزير ، ويضع الجزية بمعنى أنه لا يقبل إلا الإسلام ، وثبت أن ذلك النزول من أشراط الساعة ، وقد أجمع علماء الإسلام الذين يعتمد على أقوالهم على ما ذكرناه ، وإنما اختلفوا في معنى التوفي المذكور في قول الله عز وجل : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } [ آل عمران : 55 ] على أقوال :
أحدها : أن المراد بذلك وفاة الموت ، لأنه الظاهر من الآية بالنسبة إلى من لم يتأمل بقية الأدلة والقرائن ، ولأن ذلك قد تكرر في القرآن الكريم بهذا المعنى ، مثل قوله تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } [ السجدة : 11 ] ، وقوله سبحانه :{ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } [ الأنفال : 50 ] وعلى هذا المعنى يكون في الآية تقديم وتأخير .
القول الثاني : معناه القبض ، نقل ذلك ابن جرير في تفسيره عن جماعة السلف ، واختاره ورجحه على ما سواه ، وعليه يكون معنى الآية : إني قابضك من عالم الأرض إلى عالم السماء وأنت حي ورافعك إلي ، ومن هذا المعنى قول العرب : توفيت مالي من فلان أي قبضته كله وافياً .
القول الثالث : إن المراد بذلك وفاة النوم ، لأن النوم يسمى وفاة ، كقوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ الزمر : 42 ]
(1/10)
والقولان الأخيران أرجح من القول الأول .
ومهما يكن من أمر فالحق الذي دلت عليه الأدلة البينة ، وتظاهرت عليه البراهين ، أنه عليه الصلاة والسلام رفع إلي السماء حياً ، وأنه لم يمت ، بل لم يزل عليه السلام حياً في السماء ، إلى أن ينزل في آخر الزمان ويقوم بأداء المهمة التي أسندت إليه ، المبينة في أحاديث صحيحة عن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وسيكون نزوله عليه الصلاة والسلام علامة من علامات الساعة . لقوله سبحانه وتعالى :
{ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } أي أن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ، ويكون نزوله ، علامة من علامات الساعة .
ثم يموت بعد ذلك الموتة التي كتبها الله عليه مصداقاً لقوله تعالى : { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا }
وأما من زعم أن اليهود قد تمكنوا منه وأنهم قتلوه أو صلبوه فصريح القرآن يرد قوله ويبطله ، والأدلة على ذلك كثيرة معلومة ، منها قوله سبحانه وتعالى في شأن عيسى عليه السلام : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ } [ المائدة : 110 ] فقد كف الله سبحانه اليهود عن المسيح حين هموا بقتله وأنجاه من كيدهم .
ومن ذلك قوله تعالى على لسان المسيح : { وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ } ولا شك أن السلام على المسيح حين يموت لا يكون بتعليقه على الصليب ودق المسامير في يديه حتى يموت معذباً.
ومن ذلك قوله تعالى : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [ النساء : 157 ]
(1/11)
12- إبطال وقوع صلب المسيح بالدليل التاريخي :
يدعي النصارى أن المسلمين بقولهم بنجاة المسيح من الصلب ينكرون حقيقة تاريخية أجمع عليها اليهود والنصارى الذين عاصروا صلب المسيح ومن بعدهم.
فكيف لنبي الإسلام وأتباعه الذين جاءوا بعد ستة قرون من الحادثة أن ينكروا ذلك؟ !!
قد يبدو الاعتراض النصراني وجيهاً لأول وهلة، لكن عند التأمل في شهادة الشهود تبين لنا تناقضها وتفكك رواياتهم.
ولدى الرجوع إلى التاريخ والتنقيب في رواياته وأخباره عن حقيقة حادثة الصلب، ومَن المصلوب فيها ؟ يتبين حينذاك أمور مهمة:
- أن قدماء النصارى كثر منهم منكرو صلب المسيح، وقد ذكر المؤرخون النصارى أسماء فرق كثيرة أنكرت الصلب.
وهذه الفرق هي: الباسيليديون والكورنثيون والكاربوكرايتون والساطرينوسية والماركيونية والبارديسيانية والسيرنثييون والبارسكاليونية والبولسية والماينسية، والتايتانيسيون والدوسيتية والمارسيونية والفلنطانيائية والهرمسيون.
وبعض هذه الفرق قريبة العهد بالمسيح، إذ يرجع بعضها للقرن الميلادي الأول ففي كتابه "الأرطقات مع دحضها " ذكر القديس الفونسوس ماريا دي ليكوري أن من بدع القرن الأول قول فلوري: إن المسيح قوة غير هيولية، وكان يتشح ما شاء من الهيئات، ولذا لما أراد اليهود صلبه؛ أخذ صورة سمعان القروي، وأعطاه صورته، فصلب سمعان، بينما كان يسوع يسخر باليهود، ثم عاد غير منظور، وصعد إلى السماء.
ويبدو أن هذا القول استمر في القرن الثاني، حيث يقول فنتون شارح متى: " إن إحدى الطوائف الغنوسطية التي عاشت في القرن الثاني قالت بأن سمعان القيرواني قد صلب بدلاً من يسوع".
وقد استمر إنكار صلب المسيح، فكان من المنكرين الراهب تيودورس (560م) والأسقف يوحنا ابن حاكم قبرص (610م) وغيرهم.
(1/12)
ولعل أهم هذه الفرق النكرة لصلب المسيح الباسيليديون؛ الذين نقل عنهم سيوس في " عقيدة المسلمين في بعض مسائل النصرانية " والمفسر جورج سايل القول بنجاة المسيح، وأن المصلوب هو سمعان القيرواني، وسماه بعضهم سيمون السيرناي، ولعل الاسمين لواحد، وهذه الفرقة كانت تقول أيضاً ببشرية المسيح.
ويقول باسيليوس الباسليدي: " إن نفس حادثة القيامة المدعى بها بعد الصلب الموهوم هي من ضمن البراهين الدالة على عدم حصول الصلب على ذات المسيح".
ولعل هؤلاء هم الذين عناهم جرجي زيدان حين قال: " الخياليون يقولون: إن المسيح لم يصلب، وإنما صلب رجل آخر مكانه ".
ومن هذه الفرق التي قالت بصلب غير المسيح بدلاً عنه: الكورنثيون والكربوكراتيون والسيرنثيون. يقول جورج سايل: إن السيرنثيين والكربوكراتيين، وهما من أقدم فرق النصارى، قالوا : إن المسيح نفسه لم يصلب ولم يقتل، وإنما صلب واحد من تلاميذه، يشبهه شبهاً تاماً، وهناك الباسيليديون يعتقدون أن شخصاً آخر صلب بدلاً من المسيح.
وثمة فِرق نصرانية قالت بأن المسيح نجا من الصلب، وأنه رفع إلى السماء، ومنهم الروسيتية والمرسيونية والفلنطنيائية. وهذه الفرق الثلاث تعتقد ألوهية المسيح، ويرون القول بصلب المسيح وإهانته لا يلائم البنوة والإلهية.
كما تناقل علماء النصارى ومحققوهم إنكار صلب المسيح في كتبهم، وأهم من قال بذلك الحواري برنابا في إنجيله.
ويقول ارنست دي بوش الألماني في كتابه " الإسلام: أي النصرانية الحقة " ما معناه: إن جميع ما يختص بمسائل الصلب والفداء هو من مبتكرات ومخترعات بولس، ومن شابهه من الذين لم يروا المسيح، لا في أصول النصرانية الأصلية.
(1/13)
ويقول ملمن في كتابه " تاريخ الديانة النصرانية " : " إن تنفيذ الحكم كان وقت الغلس، وإسدال ثوب الظلام، فيستنتج من ذلك إمكان استبدال المسيح بأحد المجرمين الذين كانوا في سجون القدس منتظرين تنفيذ حكم القتل عليهم كما اعتقد بعض الطوائف، وصدقهم القرآن ".
وأخيراً نذكر بما ذكرته دائرة المعارف البريطانية في موضوع روايات الصلب حيث جعلتها أوضح مثال للتزوير في الأناجيل.
ومن المنكرين أيضاً صاحب كتاب " الدم المقدس، وكأس المسيح المقدس " فقد ذكر في كتابه أن السيد المسيح لم يصلب، وأنه غادر فلسطين، وتزوج مريم المجدلية، وأنهما أنجبا أولاداً، وأنه قد عثر على قبره في جنوب فرنسا، وأن أولاده سيرثون أوربا، ويصبحون ملوكاً عليها.
وذكر أيضاً أن المصلوب هو الخائن يهوذا الأسخريوطي، الذي صلب بدلاً من المسيح المرفوع.
وإذا كان هؤلاء جميعاً من النصارى، يتبين أن لا إجماع عند النصارى على صلب المسيح، فتبطل دعواهم بذلك.
ويذكر معرِّب " الإنجيل والصليب " ما يقلل أهمية إجماع النصارى لو صح فيقول بأن أحد المبشرين قال له: كيف يُنكر وقوع الصليب، وعالم المسيحية مطبق على وقوعه ؟
فأجابه: كم مضى على ظهور مذهب السبتيين ؟ فأجاب القس المبشر: نحو أربعين سنة.
فقال المعرِّب: إن العالم المسيحي العظيم الذي أطبق على ترك السبت خطأ 1900 سنة، هو الذي أطبق على الصلب.
وأما إجماع اليهود فهو أيضاً لا يصح القول به، إذ أن المؤرخ اليهودي يوسيفوس المعاصر للمسيح والذي كتب تاريخه سنة 71م أمام طيطوس لم يذكر شيئاً عن قتل المسيح وصلبه.
أما تلك السطور القليلة التي تحدثت عن قتل المسيح وصلبه، فهي إلحاقات نصرانية كما جزم بذلك المحققون وقالوا: بأنها ترجع للقرن السادس عشر، وأنها لم تكن في النسخ القديمة.
(1/14)
ولو صح أنها أصلية فإن الخلاف بيننا وبين النصارى وغيرهم قائم في تحقيق شخصية المصلوب، وليس في وقوع حادثة الصلب. { وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه } (النساء: 157) وهذا حال اليهود والنصارى فيه.
ولكن المؤرخ الوثني تاسيتوس كتب عام 117م كتاباً تحدث فيه عن المسيح المصلوب.
وعند دراسة ما كتبه تاسيتوس، يتبين ضعف الاحتجاج بكلامه، إذ هو ينقل إشاعات ترددت هنا وهناك، ويشبه كلامه أقوال النصارى في محمد صلى الله عليه وسلم في القرون الوسطى.
ومما يدل على ضعف مصادره، ما ذكرته دائرة المعارف البريطانية، من أنه ذكراً أموراً مضحكة، فقد جعل حادثة الصلب حادثة أممية، مع أنها لا تعدو أن تكون شأناً محلياً خاصاً باليهود، ولا علاقة لروما بذلك.
ومن الجهل الفاضح عند هذا المؤرخ، أنه كان يتحدث عن اليهود - ومقصده: النصارى. فذكر أن كلوديوس طردهم من رومية، لأنهم كانوا يحدثون شغباً وقلاقل يحرضهم عليها " السامي " أو " الحسن " ويريد بذلك المسيح.
ومن الأمور المضحكة التي ذكرها تاسيتوس قوله عن اليهود والنصارى بأن لهم إلهاً، رأسه رأس حمار، وهذا هو مدى علمه بالقوم وخبرته.
كما قد شكك المؤرخون بصحة نسبة العبارة إلى تاسيتوس، ومنهم العلامة أندريسن وصاحبا كتابي " ملخص تاريخ الدين " و " شهود تاريخ يسوع ".
وقد تحدث أندريسن أن العبارة التي يحتج بها النصارى على صلب المسيح في كلامه مغايِرة لما في النسخ القديمة التي تحدثت عن CHRESTIANOS بمعنى الطيبين، فأبدلها النصارى، وحوروها إلى: CHRISTIANOS بمعنى المسيحيين.
وقد كانت الكلمة الأولى ( الطيبين ) تطلق على عُبّاد إله المصريين "أوزيريس"، وقد هاجر بعضهم من مصر، وعاشوا في روما، وقد مقتهم أهلها وسموهم: اليهود، لأنهم لم يميزوا بينهم وبين اليهود المهاجرين من الإسكندرية، فلما حصل حريق روما؛ ألصقوه بهم بسبب الكراهية، واضطهدوهم في عهد نيرون.
(1/15)
وقد ظن بعض النصارى أن تاسيتوس يريد مسيحهم الذي صلبوه، فحرف العبارة، وهو يظن أنه يصححها. ويرى العلامة أندريسن أن هذا التفسير هو الصحيح.
وإلا كان هذا المؤرخ لا يعرف الفرق بين اليهود والنصارى، ويجهل أن ليس ثمة علاقة بين المسيح وروما.
وهكذا فإن التاريخ أيضاً ناطق بالحقيقة، مُثبت لما ذكره القرآن عن نجاة المسيح وصلب غيره.
وتذكر دائرة المعارف الكتابية سفرا اسمه " أعمال يوحنا " وهو من الأسفار التي حكمت الكنيسة بعدم قراءته وانه من الأسفار الأبوكريفية . و تقول المصادر المسيحية أن هذا السفر من المحتمل أنه قد كتب فيما بين 150 - 180 ميلادية . ومما جاء في هذا السفر أن صلب يسوع كان مجرد مظهر وهمي ، وأن الصعود حدث عقب الصلب الظاهري مباشرة فلا مكان لقيامة شخص لم يمت أصلاً . هذا وقد كان لأعمال يوحنا تأثير واسع كما تذكر الدائرة .
ونجد في مخطوطات ( نجع حمادي ) المكتشفة في مصر؛ حيث كشف بعد الحرب العالمية الثانية عن ثلاثة وخمسين نصاً، تقع في ألف ومائة وثلاثة وخمسين صفحة، ومن هذه النصوص ما تحدث عن نجاة المسيح، وأنه لم يصلب.
ولم يرد في هذه المخطوطات أيُّ ذِكْرٍ لمحاكمة المسيح وصلبه، بل جاء في إنجيل بطرس على لسان بطرس: "رأيته يبدو كأنهم يمسكون به، وقلت: ما هذا الذي أراه يا سيد ؟ هل هو أنت حقاً من يأخذون ؟.. أم أنهم يدقون قدميّ ويديّ شخص آخر ؟.. قال لي المخلص.. من يُدخلون المسامير في يديه وقدميه هو البديل، فهم يضعون الذي بقي في شبهة في العار ! انظر إلي ، وانظر إليه ". [ رؤيا بطرس 24-81.4، نجع حمادي 344 ]( )Pagels.TGGp.72
(1/16)
وفي مخطوطة أخرى من هذه المخطوطات وهي كتاب " سيت الأكبر Second Treatise of Great Seth " جاء على لسان المسيح "كان شخص آخر، هو الذي شرب المرارة والخل، لم أكن أنا... كان آخر الذي حمل الصليب فوق كتفيه، كان آخر هو الذي وضعوا تاج الشوك على رأسه. وكنت أنا مبتهجاً في العُلا.. أضحك لجهلهم ". [ رسالة شيث الكبير الثانية 19-56.6 ، نجع حمادي 332] ( Pagels.TGGp.72-73)
وفي مخطوطة " مقالة القيامة ": ما يدل على أن المسيح مات موتاً طبيعياً، وأن روحه المقدسة لا يمكن أن تموت.
يقول البرفسور بورتون ماك Burton : (( أما بالنسبة لقصة الصلب والقيامة ، فإن مرقس _ أول من كتب القصة _ أخذ الفكرة الأساسية من أسطورة كريستوس غير أنه تجرأ بأن تخيل كيف يمكن أن تبدو قصة الصلب والقيامة لو كتبها تاريخاً فعلياً تمت أحداثه في القدس وهو ما كانت الأسطورة ترفضه ، وهكذا يمكننا أن نفهم قصة مرقس باعتبارها دمجاً لأحداث المسيح الحقيقي مع أسطورة كريستوس )) ويقول البرفسور: (( كافة القصص في الأسفار الأخرى تبدأ من مرقس ، فلا يغير أحد من المؤلفين بعد مرقس أساس القصة ) وأيضا : (( ثم بعد ذلك صار المسيحيون يتخيلون قصة مرقس الخيالية كما لو كانت تاريخاً واقعاً ) ( Mack WWNT p.152 )
وفوق كل ذلك نلاحظ أنه لا يوجد في سفر الأقوال Q ولا في سفر توما Thomas المكتشف حديثاً ، أي إشارة لا من قريب ولا من بعيد عن قصة الآلام والصلب ، مع أنهما كتبا في وقت مبكر أي حوالي ثلاثين عاماً قبل أن تكتب أي من الأسفار الأربعة القانونية .
(1/17)
ومن المعلوم ان المجامع الأولى قد حرمت قراءة الكتب التي تخالف الكتب الأربعة والرسائل التي اعتمدتها الكنيسة فصار أتباعها يحرقون تلك الكتب ويتلفونها ، وما يدرينا أن تلك الكتب التي فقدت وحوربت كانت تنكر الصليب ؟ فنحن لا ثقة لنا باختيار المجامع البشرية لما اختارته فنجعله حجة ونعد ما عداه كالعدم . وها هو مجمع (ترنت) الذي عقد في القرن الخامس عشر والذي صادق على قرارات مجمع ( قرطاج Carthage ) سنة 397 بشأن الأسفار السبعة وحكم بقانونيتها ، فجاءت الكنيسة البروتستنانية بعد ذلك في أوائل القرن السادس عشر ورفضت قرارات هذين المجمعين !
ومن الروعة أن نقارن كل ذلك مع ما ورد في القرآن الكريم بهذا الموضوع : { وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } [ النساء : 4 / 157(1/18)
القرآن الكريم وموقفه من عقيدة تأليه المسيح
إن القران الكريم اثبت بطلان ما عليه النصارى من عقيدة التثليث وتأليه المسيح وقولهم انه ابن الله وغير ذلك.
فقال الله سبحانه وتعالى : (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ )) . وقال عن الحلول والاتحاد الذي أخذته المسيحية من الوثنية القديمة فكان أساس دينهم وبداية التخبط في الغي والضلال : (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) .
وقال سبحانه وتعالى في نسب المسيح إلى الله وجعله ابنا لله : (( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً وما وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً )) .
وقال سبحانه وتعالى : (( مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )) .
وقد رد القرآن الكريم على اعتقادهم ان خلق المسيح من أم بلا أب دليل على ألوهيته فقال القرآن أن عيسى مثل ادم قد خلقه الله من تراب بدون أب ولا أم كما خلق حواء من ادم بدون أم , فالله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يخلق شيئا إنما يقول له كن فيكون : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )) .
(1/19)
لقد شبه الله خلق المسيح بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح فإذا كان الله سبحانه وتعالى قادراً أن يخلقه من تراب ، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان ، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان ؟!
كما رد القرآن الكريم على ألوهية عيسى وأمه واثبت انه لا دخل لعيسى وأمه فيما يدعونه عليهما فقال تعالى : (( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ )) .
فعيسى وأمه لم يطلبا من النصارى عبادتهم وقد تبرأ منهم عيسى وأمه كما تقدم . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من رضي أن يعبد من دون الله دخل النار ) ولكن عيسى ابن مريم وأمه لم يرضيا بعبادتهم من دون الله كما ذكرت الآيات .
كما أن عيسى عليه السلام تبرأ من قومه ووكل أمرهم بعد رفعه إلى الله فهو الشهيد عليهم (( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )) والشاهدين هم المسلمون إتباع خاتم الأنبياء لكونهم أقاموا الحجة عليهم وبرءوا عيسى من هذه المفتريات ودعوا إلى عبادة الله وحده وبغض ما سواه من الآلهة الباطلة وإتباع الحق .
(1/20)
كما آن الله سبحانه وتعالى اثبت بنفسه عدم ألوهية عيسى بالإضافة إلى ما سبق من الأدلة وانه ناقص وبشر ولا يستحق أن يرتفع ويرقى إلى مرتبة الألوهية فهذا إنسان له ما للإنسان ويخضع لما يخضع له الإنسان فهو يأكل ويشرب وبالتالي فعليه ان يلبي نداء الطبيعة ويتغوط وغير ذلك مما يلزم الإنسان في معيشته .
ومن كان حاله هذا فلا يرقى لان يكون إله لان الله لا يأكل (( وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ )) (الأنعام : من الآية14).
قال تعالى : (( مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ )) .
وأخيرا اسرد لكم هذه الآية الكريمة لتكون حسن الختام في هذا الشأن وليتضح الحق ويزهق الباطل .
قال تعالى : (( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )) (المائدة :17).(1/21)
إنسانية يسوع
هنالك الكثير من الأدلة التي يعرضها الإنجيل حول الطبيعة البشرية للمسيح ، حين يذكر بأنه منهمك ، وكان عليه أن يجلس لكي يشرب من البئر [ انجيل يوحنا 4 : 6 ] ونجده يبكي بموت لعازر [انجيل يوحنا 11 : 35 ]. وفوق كل هذا هنالك الوصف لمعاناته في النهاية ، وهذا يجب أن يكون دليلا على إنسانيته : (( الآن نفسي قد اضطربت )) ونجده يشكر ويصلي للرب لكي ينقذه من حتمية الموت [انجيل يوحنا 12 : 27 ] : (( وكان يصلي قائلا يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس. ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت )) [انجيل متى 39:26] . وهذا يشير إلى أن ( آراء ) المسيح وتطلعاته لم تكن مثلما هو عند الرب .
ونجد أن إرادته كانت خاضعة لله فهو يقول : (( أنا لا اقدر أن افعل من نفسي شيئا. كما اسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا اطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني )) [انجيل يوحنا 30:5].
إن الاختلاف بين إرادة المسيح وإرادة الرب ، هو دليل على أن يسوع لم يكن إله.
ونجد أيضا أن يسوع لم تكن له معرفة كاملة عن الرب منذ ولادته (( وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس )) [انجيل لوقا 2 : 52]. (( وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح )) [انجيل لوقا 2 : 40 ] إن كلا الفقرتين تصفان نمو المسيح الجسدي بموازاة مع نموه الروحاني. وإذا كان (( الابن هو الله )) كما يعتقد اثنازيوس والتيار الذي يتزعمه بالنسبة للثالوث فإن هذا الاعتقاد غير ممكن . وحتى في آخر حياته ، اعترف يسوع بأنه لا يعرف موعد رجوعه الثاني ، على الرغم من أن أبيه قد عرف ذلك [ انجيل مرقس 13 : 32 ].
وان حقيقة توسل المسيح من الرب لكي يخلصه من الموت تتعارض مع الفكرة بأنه إله بذاته.
(( إذ قدم بصراخ شديدة ودموع طلبات وتضرعات للقادر أن يخلصه من الموت وسمع له من اجل تقواه )) [الرسالة إلى العبرانيين 5 : 7 ].
(1/22)
هذا وان الكثير من المزامير هي بمثابة نبوءات عن يسوع. وبما أن العهد الجديد يقتبس عدد من فقرات المزامير عن المسيح فقد جاءت في هذه المزامير الكثير من المناسبات التي تؤكد على حاجة المسيح لان يخلصه الرب:-
- مزامير [ 91 : 11 ، 12 ] نراها مقتبسة في انجيل متى [ 6:4 ] في الحديث عن يسوع. وفي المزامير [ 91 : 16 ] تكمن النبوءة عن تخليص يسوع: ((من طول الايام [ أي حياة أبدية ] أشبعه واريه خلاصي )).
- مزامير [ 69 : 1 ، 18 ، 21 ، 29 ] : (( خلصني يا الله... اقترب إلى نفسي بسبب أعدائي أفدني ...يجعلون في طعامي علقماً ، وفي عطشي يسقونني خلاً . . . خلاصك يا الله فليرفعني ))
- مزامير 89 هي تأويل لوعود الرب لداوود عن المسيح. وفي مزامير 89 : 26 يتنبأ عن المسيح : ((هو يدعوني [الرب] أبي أنت. الهي وصخرة خلاصي )) .
لقد سمع الرب صلوات المسيح وأنجاه من الصلب وذلك من أجل روحانيته وليس لموضعه في الثالوث المكذوب . . . لقد أنجا الله يسوع ومجده واعترف يسوع بهذا حين طلب من الرب أن يمجده :[انجيل يوحنا 17 : 5 ] ، [ 13 : 32 ] ، [ 8 : 54 ].
والحقيقة أن الله رفع من شأن المسيح ، وهذا يدل على تفوق الله عليه ، وعلى الفارق بين الله وبين يسوع. ولا يمكن للمسيح أن يكون بأي شكل من الأشكال (( الله في الصميم. وخالد [مع] طبيعتين إلهية وبشرية )) وهذا ما يظهر في البند الأول من 39 بندا التي أقرتها الكنيسة الانجليكانية. ومن تفسير كلمة كيان يمكن أن تكون طبيعة واحدة فقط. وتقول الكنيسة الدليل على ذلك بان المسيح كان من طبيعتنا البشرية.
وصدق الله العظيم إذ يقول :
(( فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ )) سورة مريم الآية : 37(1/23)
العلاقة بين الله والمسيح
إن الله سبحانه وتعالى مذكور مراراً على انه رب المسيح و إلهه ، وان الله سبحانه وتعالى موصوف بـ : (( الله أبو ربنا يسوع المسيح )) [ رسالة بطرس الأولى 1 : 3 ] وكذلك في [ الرسالة إلى أهل افسس 1 : 17 ] : نجد أن الله موصوف بـ (( إله ربنا يسوع المسيح )) .
هذا وعلينا أن نعلم أن كلمة ( رب ) الموصوف بها المسيح لا تعني الإله المعبود بحق ، إنها تعني( معلم ) وهذا هو تفسير يوحنا نفسه كاتب الإنجيل فقد تكفل يوحنا بتفسير كلمة رب الموصوف بها المسيح وذلك في الإصحاح الأول من إنجيله العدد 38 : (( وَالْتَفَتَ يَسُوعُ فَرَآهُمَا يَتْبَعَانِهِ، فَسَأَلَهُمَا: مَاذَا تُرِيدَانِ؟ فَقَالاَ: رَابِّي ، أَيْ يَا مُعَلِّمُ ، أَيْنَ تُقِيمُ؟ ))
ومرة ثانية يورد يوحنا في [ 20 : 16 ، 17 ] حواراً بين المسيح ومريم المجدلية ، تطلق فيه مريم المجدلية على المسيح لفظ ( رب ) ويحرص يوحنا على تفسير اللفظ خلال الحديث بمعنى معلم ، وإليك النص :
(( قال لها يسوع يا مريم فالتفتت تلك وقالت له : ربوئي الذي تفسيره يا معلم ، قال لها يسوع : لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي ، ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم إني اصعد إلي أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ))
ورغم أن العهد الجديد قد كتب بعد سنين من صعود المسيح إلى السماء فانه يؤكد على أن الله هو رب المسيح وأبيه ، والمسيح ينظر إلى الآب على انه ربه .
إن رؤيا يوحنا وهو الكتاب الأخير من العهد الجديد ، يصف الله سبحانه وتعالى بأنه إله المسيح وربه :
(( لإلهه وأبيه [ المسيح ] )) [ رؤيا يوحنا 1 : 6 ] .
وفي الإصحاح الثالث العدد 12 يقول المسيح عن الهيكل : (( هيكل إلهي… اسم إلهي… مدينة إلهي )) وهذا يثبت انه حتى الآن مازال المسيح ينظر إلى الآب على انه ربه وإلهه ولذلك فان [ يسوع ] ليس هو الإله المعبود بحق .
(1/24)
وفي أثناء حياته على الأرض تطلع يسوع لأبيه بما شابه ذلك . ولقد تكلم عن الصعود قائلاً : (( إلى أبي وأبيكم والهي وإلهكم )) [ يوحنا 20 : 17 ] .
والبعض من المحترفين للوظائف الكنسية يدعون ادعاء سخيفاً لا أساس له وهو أن ألوهية المسيح تختلف عن ألوهية باقي البشر وذلك عندما قال : (( إلهي وإلهكم )) فهذه الألوهية ليست كألوهية البشر !! وكأن المسيح لم يقل للسائل الذي طلب منه أول الوصايا وأعظمها : (( اسمع يا اسرائيل الرب إلهنا رب واحد ))
وقد أعلن يسوع المسيح بأن العظمة لله وان الآب أعظم منه وهذا واضح من قوله الوارد في يوحنا [ 14 : 28 ] : (( أبي أعظم مني ))
وفي قوله الوارد في لوقا [ 22 : 42 ] :
(( لتكن لا إرادتي ، بل إرادتك )) نجد فرق واضح وفصل بين إرادة يسوع الناصري وبين إرادة الله ، فرق بين إرادة المخلوق والخالق .
وتتجلى المغايرة بين الله وبين يسوع الناصري عندما قال المسيح :
(( الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الاِبْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَرَى الآبَ يَفْعَلُهُ. فَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الآبُ، يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذلِكَ،لأَنَّ الآبَ يُحِبُّ الاِبْنَ، وَيُرِيهِ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ، وَسَيُرِيهِ أَيْضاً أَعْمَالاً أَعْظَمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ، فَتُدْهَشُونَ.)) يوحنا [ 5 : 19 ]
(( وَأَنَا لاَ يُمْكِنُ أَنْ أَفْعَلَ من نفسي شيئاً ، بَلْ أَحْكُمُ حَسْبَمَا أَسْمَع ُ، وَحُكْمِي عَادِل ٌ، لأَنِّي لاَ أَسْعَى لِتَحْقِيقِ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَةِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. )) يوحنا [ 5 : 30 ] .
ونجد أن المسيح يجسد إنسانيته بكاملها على الصليب المزعوم بقوله : (( إلهي إلهي لماذا تركتني )) [ متى 27 : 46 ] وليس بالإمكان فهم مثل هذه الكلمات لو كان المتكلم هو المسيح المتحد مع الرب والذي صار بالاتحاد شيء واحد .
عزيزي المتصفح :
(1/25)
إن كون المسيح قد صلى للرب (( بصراخ شديد ودموع وتضرعات )) هذا بحد ذاته يشير إلى طبيعة العلاقة بينهما . [ الرسالة إلى العبرانيين 5 : 7 ] .
و قد كتب لوقا في [ 6 : 12 ] ما نصه : (( وفي تلك الأيام خرج إلي الجبل ليصلي ، وقضى الليل كله في الصلاة لله )) وهذا واضح أن الرب لا يمكنه أن يصلي لنفسه طوال الليل كله منفردا .
وحتى الآن ، ما زال المسيح يصلي لله من أجل المؤمنين . الرسالة إلى أهل رومية [ 8 : 26 ، 27 ] .
إن علاقة المسيح بالرب أثناء حياته ، لا تختلف بأساسها مما هي عليه اليوم ، لقد تعامل المسيح مع الله على انه أباه وربه ، وصلى له ، وانه ما زال في نفس المرتبة التي كان عليها خلال حياته على الأرض
لقد كان المسيح عبداً لله وهذا ما نجده في أعمال الرسل [ 3 : 13 ، 26 ] : (( إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، إله آبائنا ، قد مجد عبده يسوع . . . )) ( العهد الجديد المطبعة الكاثوليكية )
وفي اشعياء [ 42 : 1 ] : (( هو ذا عبدي أعضده ))
ولا بد أن تعلم أيها القارئ الكريم أن العبد يعمل بإرادة سيده ، وهو لا يقترن بأي حال من الأحوال مع سيده وهذا قاله المسيح وأكده : (( الحق الحق أقول لكم : ما كان الخادم أعظم من سيده ولا كان الرسول أعظم من مرسله )) [ يوحنا 13 : 16 ] و الكل يعلم أن الابن مرسل من الآب ولاشك أن الرسول ليس بأعظم من مرسله بإقرار المسيح نفسه : (( ولا كان الرسول أعظم من مرسله )) .
ثم اعلم أيها القارئ الكريم :
إن المسيح أقر بأن القوة والمسؤولية التي كانت له ، ليست بفضله هو وإنما جاءت له من الله فهو يقول :
(( الحق الحق أقول لكم : لا يستطيع الابن أن بفعل شيئاً من عنده بل لا يفعل إلا ما يرى الآب يفعله . ))
ويقول المسيح : (( أنا لا اقدر أن أفعل من نفسي شيئا... لأني لا اطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني .)) [يوحنا 5 : 19 ] ، [ يوحنا 5 : 30 ] .
(1/26)
لقد أقر المسيح بأن القدرة أو السلطان الذي يمتلكه إنما هو مدفوع له من الله رب العالمين فهو يقول :
(( دفع إلي كل سلطان )) [ متى 28 : 18 ] فقد أعطاه الله سلطان إبراء الأكمه والأبرص وسلطان إحياء الموتى ومغفرة الخطايا و . . . الخ
نعم أيها القارئ الكريم أن المجد لله سبحانه وتعالى الذي منح المسيح هذه المعجزات ولا شك أن المانح غير الممنوح له .
وهذا ما كانت تشهد به الجموع في كل مرة ، حينما كان المسيح يصنع المعجزات أمامهم فكانوا يفرقون بين الله وبين يسوع فكانوا يمجدون الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا وفي نفس الوقت يشهدون للمسيح بالنبوة . لوقا [ 7 : 16 ] فعندما رأى الجموع أعظم معجزة للمسيح وهي قيامه بإحياء الميت ما كان منهم سوى أنهم مجدوا الله قائلين : (( قد قام فينا نبي عظيم ))
وفي لوقا [ 5 : 26 ] عندما رأوا الخرس يتكلمون والعرج يمشون … ما كان منهم سوى أنهم مجدوا إله إسرائيل . وهذا ما يذكره إنجيل متى أيضاً [ 9 : 8 ] .(1/27)
الفرق بين الله ويسوع
إن أحد الاستنتاجات الواضحة من العلاقة بين الرب والمسيح ، نجدها في رسالة بولس إلى تيموثاوس [ 2 : 5 ] فهو يقول : (( لأنه يوجد اله واحد ووسيط واحد بين الله والإنسان يسوع المسيح ))
إن التمعن في هذه الكلمات المشار إليها أعلاه ، يوصلنا إلى الاستنتاجات التالية:-
لأنه يوجد إله واحد فقط ، فلا يمكن أن يكون المسيح إله . وإذا كان الأب هو الرب ، والمسيح هو رب أيضا، فسوف نكون أمام إلهين . (( لكن لنا إله واحد وهو الأب )) [ الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس 8 : 6 ]. لذلك كان من غير المعقول ان يكون هناك كيان آخر ، يسمى ( الله الابن ) كما يزعم أصحاب مقولة الثالوث الكاذبة. (( أليس لنا أب واحد لكلنا ، أليس إله واحد خلقنا )) سفر ملاخي [ 2 : 10 ]
ونجد في العهد القديم أيضاً وصف مماثل ( ليهوه ) بأنه رب واحد وهو الأب : اشعياء [ 63 : 16 ، 64 : 8 ].
فبالإضافة إلى هذا الرب الواحد ، يوجد وسيط . انه الرجل يسوع المسيح ((...و وسيط واحد...)) و لاحظ عزيزي القارئ أن حرف الواو ( و ) يشير إلى أن المسيح يختلف عن الرب .
وأن المقصود بـ (( الوسيط )) هو أن المسيح يتوسط بين الإنسان والرب . ولا يعقل أن يكون الرب وسيطاً وإنما يجب أن يكون إنسانا ذو طبيعة إنسانية . وان قول بولس : (( الإنسان يسوع المسيح )) لا يترك مجالا للشك في صحة هذا التفسير.
ورغم أن المسيح كان (( ابن إنسان )) . وقد جاء في العهد الجديد ذكره مرارا بـ : (( الإنسان يسوع المسيح )) . إلا انه سمي (( ابن العلي )) [ انجيل لوقا 32:1 ] و بما أن الله هو (( العلي )) فتكون له وحده العلياء الاختياري . وبما أن يسوع هو (( ابن العلي )) فهذا يعني انه لا يمكن أن يكون الرب بذاته. وان الاستعمال اللغوي للاب والابن عن الرب وعن المسيح ، يوضح أنهما ليسا ذات الكيان. في حين يتشابه الابن مع أباه إلا أنهما لا يمكن أن يكونا ذاتاً واحدة .
(1/28)
وقد جاءت في الأناجيل فروق واضحة بين الله والمسيح ، وهذه الفروقات تظهر بكل وضوح بأن يسوع لم يكن الرب بذاته :-
- كتب يوحنا في [ 3 : 35 ] : (( الآب يحب الابن وقد دفع كل شيء في يده ))
فلا يمكن أن يكون الابن إله أزلي مساوي للآب في كل شيء والآب هو الذي دفع بيد الابن كل شيء.
- وجاء في يوحنا كذلك الإصحاح الخامس قول المسيح : (( الحق أقول لكم ، لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل ))
وهنا نجد أن الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً .
- وأورد يوحنا في [12 : 49 ] قول المسيح : (( لم أتكلم من نفسي ، لكن الأب الذي أرسلني ، هو أعطاني وصية ماذا أقول ، وبماذا أتكلم ))
وهنا يصرح الابن بأنه لا يتكلم من نفسه بل الآب الذي أرسله هو الذي أعطاه الكلام وأوصاه ماذا يقول !
ونجد الابن نفسه يصرح قائلاً : (( والكلام الذي تسمعونه ، ليس لي ، بل للأب الذي أرسلني )) يوحنا [ 12 : 24 ]
فأي عاقل يقول بعد هذا أن الابن مساوي للأب ؟
- وقد جاء في أعمال الرسل [ 1 : 7 ] : قول المسيح (( ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه ))
فقد نفى الابن عن نفسه السلطان وأثبته للآب !
- (( لأن الله غير مجرب )) [رسالة يعقوب 1: 13 ] و المسيح (( مجرب في كل شيء مثلنا )) [الرسالة إلى العبرانيين 4 : 15 ].
- الله لا يمكنه أن يموت و المسيح مات ثلاثة أيام كما يزعمون .
- ولا يمكن للناس أن يشاهدوا الرب (( الله لم ينظره أحد قط )) يوحنا [ 1 : 18 ] وقد شاهد الناس المسيح
-قال بولس عن يسوع المسيح في رسالته إلى العبرانيين [ 1 : 4 ] : (( بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا ، جلس في يمين العظمة في الأعالي ، صائراً أعظم من الملائكة بمقدار ما ورث اسماً أفضل
منهم )) .
(1/29)
وهنا نسأل أليس في قول بولس أن المسيح صار أعظم من الملائكة دليل على أن المسيح لم يكن أعظم منهم ثم صار أعظم منهم ؟ فلو كان يسوع المسيح هو الله ، فكيف يصير أعظم من الملائكة ؟(1/30)
هل المسيح مشترك مع الله في الطبيعة ؟
إليك أيها القارئ الكريم النصوص الإنجيلية التي تبطل ادعاء بعض المسيحيين بأن المسيح كان مشتركاً مع الله في طبيعته :
وقبل أن نبدأ بسرد الأدلة سنجعل كلمة " الرب " بدلا من المسيح ، لكي تظهر سخافة بعض الطوائف المسيحية التي تدعي بأن يسوع هو الله وانه مشترك مع الله في طبيعته .
كان " الرب " من ثمرة صلب داود :
(( لأَنَّ دَاوُدَ كَانَ نَبِيّاً، وَعَارِفاً أَنَّ اللهَ أَقْسَمَ لَهُ يَمِيناً بِأَنْ يَجِيءَ الْمَسِيحُ مِنْ نَسْلِهِ وَيَجْلِسَ عَلَى عَرْشِهِ )) ( أعمال الرسل 2 : 30 ) .
" الرب " ملفوف بقماط وملقى في مذود للبقر :
(( فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ ، وَلَفَّتْهُ بِقِمَاطٍ ، وَأَنَامَتْهُ فِي مِذْوَدٍ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مُتَّسَعٌ فِي الْمَنْزِلِ. )) لوقا ( 2 : 7 )
سلسلة نسب " الرب " :
(( كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن إبراهيم )) . ( متي 1 : 1 ) .
جنس " الرب " :
(( وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيُخْتَنَ الطِّفْلُ ، سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا كَانَ قَدْ سُمِّيَ بِلِسَانِ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ يُحْبَلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ. )) ( لوقا 2 : 21 )
وهذا يعني أن مريم عليها السلام مرت بكل مراحل الحمل الطبيعية التي تمر بها أي امرأة من حمل ومخاض وولادة ، ولم يكن في ولادتها أي اختلاف عن أي امرأة أخرى منتظرة لوليدها !
" الرب " ينجس أمه 40 يوماً :
(( ثُمَّ لَمَّا تَمَّتِ الأَيَّامُ لِتَطْهِيرِهَا ( أي مريم ) حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدَا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ ( أي المولود ) لِيُقَدِّمَاهُ إِلَى الرَّبِّ ، كَمَا كُتِبَ فِي شَرِيعَةِ الرَّبِّ : كُلُّ بِكْرٍ مِنَ الذُّكُورِ يُدْعَى قُدْساً لِلرَّبّ )) لوقا ( 2 : 22 )
" الرب " رضع من ثدي امرأة :
(1/31)
(( وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ بِهَذَا، رَفَعَتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَيْنِ الْجَمْعِ صَوْتَهَا قَائِلَةً لَهُ : طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ ، وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا! )) ( لوقا 11 : 27 ) .
البلد الذي نشأ فيه " الرب " :
(( وَبَعْدَمَا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمٍ الْوَاقِعَةِ فِي مِنْطَقَةِ الْيَهُودِيَّةِ عَلَى عَهْدِ الْمَلِكِ هِيرُودُسَ )) ( متي 2 : 1 )
عمل " الرب " :
(( أَلَيْسَ هُوَ ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا ؟ أَوَ لَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعاً عِنْدَنَا ؟ )) ( متى 13 : 55 ) .
وسائل تنقل " الرب " وتجواله :
(( بَشِّرُوا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ : هَا هُوَ مَلِكُكِ قَادِمٌ إِلَيْكِ وَدِيعاً يَرْكَبُ عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ !)) ( متي 21 : 25 ) ، (( وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشاً فَرَكِبَ عَلَيْهِ )) . ( يوحنا 12 : 14 ) .
" الرب " يأكل ويشرب الخمر :
(( ثُمَّ جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ، فَقُلْتُمْ : هَذَا رَجُلٌ شَرِهٌ سِكِّيرٌ، صَدِيقٌ لِجُبَاةِ الضَّرَائِبِ وَالْخَاطِئِينَ )) . ( لوقا 7 : 34 ) و ( متي 11 : 19 ) .
" الرب " فقير :
(( فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجَارٌ، وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكَارٌ، أَمَّا ابْنُ الإِنْسَانِ، فَلَيْسَ لَهُ مَكَانٌ يُسْنِدُ إِلَيْهِ رَأْسَهُ )) ( متي 8 : 20 ) .
كان " الرب " يهودياً ، ومتعبداً !! :
(( وَفِي الْيَوْمِ التَّالِي، نَهَضَ بَاكِراً قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَخَرَجَ إِلَى مَكَانٍ مُقْفِرٍ وَأَخَذَ يُصَلِّي هُنَاكَ.)) ( مرقس 1 : 35 )
كان " الرب " يدفع الضريبة بانتظام كبقية الرعية :
(1/32)
(( وَلَمَّا وَصَلُوا إِلَى كَفْرَنَاحُومَ ، جَاءَ جُبَاةُ ضَرِيبَةِ الدِّرْهَمَيْنِ لِلْهَيْكَلِ إِلَى بُطْرُسَ، وَقَالُوا : أَلاَ يُؤَدِّي مُعَلِّمُكُمُ الدِّرْهَمَيْنِ؟ فَأَجَابَ : بَلَى )) . ( متي 17 : 24 ) .
كان " الرب " ابن يوسف النجار :
(( وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي الشَّرِيعَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ فِي كُتُبِهِمْ وَهُوَ يَسُوعُ ابْنُ يُوسُفَ مِنَ النَّاصِرَةِ )) ( يوحنا 1 : 45 ) .
أخوة " الرب " :
(( ولما جاء إلى وطنه وكان يعلمهم في مجتمعهم حتى بهتوا وقالوا . . . أَلَيْسَ هُوَ ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا ؟ أَوَ لَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعاً عِنْدَنَا ؟))(متي 13 : 55 ) .
النشأة الروحية للـ " رب " :
(( وَكَانَ الطِّفْلُ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى ، مُمْتَلِئاً حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ.)) ( لوقا 2 : 40 ) .
النشأة الطبيعية والذهنية والخلقية للـ " الرب " :
(( أَمَّا يَسُوعُ، فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ ، وَفِي النِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ. )) ( لوقا 2 : 52 ) .
لقد كان عمر " الرب " عندما أخذه أبواه إلى أورشليم اثنا عشر عاما :
(( فَلَمَّا بَلَغَ سِنَّ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَالْعَادَةِ فِي الْعِيدِ. وَبَعْدَ انْتِهَاءِ أَيَّامِ الْعِيدِ، رَجَعَا، وَبَقِيَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، )) . ( لوقا 2 : 41 ) .
لقد كان " الرب " مسلوب القوة والإرادة :
(( وَأَنَا لاَ يُمْكِنُ أَنْ أَفْعَلَ شَيْئاً مِنْ تِلْقَاءِ ذَاتِي، بَلْ أَحْكُمُ حَسْبَمَا أَسْمَعُ، وَحُكْمِي عَادِل ٌ، لأَنِّي لاَ أَسْعَى لِتَحْقِيقِ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَةِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. )) ( يوحنا : 5 : 30 ) .
(1/33)
لقد كان " الرب " يجهل الوقت :
(( وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْرِفُهُمَا أَحَدٌ، لاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ، إِلاَّ الآبُ.))
( مرقس 13 : 32 ) .
" الرب " يجهل مواسم المحاصيل :
(( وَفِي الْغَدِ، بَعْدَمَا غَادَرُوا بَيْتَ عَنْيَا، جَاعَ. 13وَإِذْ رَأَى مِنْ بَعِيدٍ شَجَرَةَ تِينٍ مُورِقَةً، تَوَجَّهَ إِلَيْهَا لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا بَعْضَ الثَّمَرِ. فَلَمَّا وَصَلَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ فِيهَا إِلاَّ الْوَرَقَ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَوَانُ التِّينِ. 14فَتَكَلَّمَ وَقَالَ لَهَا: «لاَ يَأْكُلَنَّ أَحَدٌ ثَمَراً مِنْكِ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!» وَسَمِعَ تَلاَمِيذُهُ ذلِكَ. )) ( مرقس 11 : 12 ) .
" الرب " تعلم من خلال التجربة :
(( مع كونه ابنا تعلم الطاعة مما تألم به )) . ( الرسالة للعبرانيين 5 : 8 )
الشيطان يجرب " الرب " أربعين يوما :
(( وَفِي الْحَالِ اقْتَادَ الرُّوحُ يَسُوعَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ ، فَقَضَى فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْماً وَالشَّيْطَانُ يُجَرِّبُهُ. وَكَانَ بَيْنَ الْوُحُوشِ وَمَلاَئِكَةٌ تَخْدُمُهُ. )) ( مرقس 1 : 12 ) .
الشيطان جرب " الرب " أكثر من مرة :
(( ولما أكمل إبليس كل تجاربه فارقه إلى حين )) . ( لوقا 4 : 13 ) .
" الرب " يتوب ويندم ويعترف قبل بدء خدمته العلنية :
(( حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليتعمد عنده )) . ( متي 3 : 13 )
" الرب " جاء لليهود فقط :
(( فأجاب وقال لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة )) . ( متي 15 : 24 )
مملكة " الرب " :
(( ويملك على بيت يعقوب للأبد ولا يكون لملكه نهاية )) . ( لوقا 1 : 33 ) .
غير اليهود في نظر " الرب " كلاب ! :
(( فأجاب وقال ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب )) . ( متي 15 : 26 ) .
" الرب " يجوع :
(1/34)
(( وَبَعْدَمَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيراً،)) . ( متي 4 : 2 ) ، (( وَفِي صَبَاحِ الْيَوْمِ التَّالِي، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمَدِينَةِ، جَاعَ )) ( متي 21 : 18 ) .
" الرب " ينام :
(( وكان هو نائما )) . ( متي 8 : 24 ) ، (( وفيما هم سائرون نام )) .
( لوقا 8 : 23 ) ، (( وكان هو المؤخرة على وسادة نائما )) .( مرقس 4 : 38 ) .
" الرب " يتعب :
(( وكان هناك بئر يعقوب فإذا كان يسوع قد تعب في السفر جلس هكذا على البئر )) . ( يوحنا 4 : 6 ) .
" الرب " ينزعج ويضطرب :
(( انزعج - عيسى - بالروح واضطرب )) . ( يوحنا 11 : 33 ) ،
(( فانزعج يسوع في نفسه )) . ( 11 : 38 ) .
" الرب " يبكي :
(( بكى يسوع )) . ( يوحنا 11 : 35 ) .
" الرب " يحزن ويكتئب :
(( ثم اخذ معه بطرس وابني زبدي وابتدأ يحزن ويكتئب )) . ( متي 26 : 37 ) ، (( فقال لهم نفسي حزينة جدا حتى الموت )) . ( متي 26 : 38 ) .
" الرب " يندهش ويهرع :
(( وابتدأ يدهش ويكتئب وقال لهم نفسي حزينة حتى الموت )) . ( مرقس 14 : 33 ) .
" الرب " ضعيف :
(( فظهر له ملاك في السماء يقويه )) ( لوقا 22 : 43 ) .
" الرب " مذهول من الذعر :
(( وكان يسوع يتردد بعد هذا في الجليل لأنه لم يرد أن يتردد في اليهودية لان اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه )) . ( يوحنا 7 : 11 ) .
" الرب " كان يمشي خائفا من اليهود :
(( فمن ذلك اليوم تشاوروا ليقتلوه فلم يكن يسوع أيضا يمشي بين اليهود علانية )) . ( يوحنا 11 : 53 ) .
" الرب " يفر ويهرب :
(( فطلبوا أيضا ان يمسكوه فخرج من أيديهم )) ( يوحنا 10 : 39 ) .
" الرب " يخرج متخفيا من اليهود :
(( أما يسوع فاختفى وخرج من الهيكل في وسطهم مجتازا ومضى هكذا )) . ( يوحنا 8 : 59 ) .
قبض على " الرب " وأوثقت يديه ومضي به :
(( قبضوا على يسوع وأوثقوه ومضوا به )) . ( يوحنا 12 : 13 ) .
(1/35)
" الرب " يهان ويضرب :
(( والرجال الذين كانوا ضابطين يسوع كانوا يستهزئون به وهم يجلدونه وغطوه وكانوا يضربون وجهه )) . ( لوقا 22 : 63 ) ، (( وحينئذ بصقوا في وجهه ولكموه وآخرون لطموه )) . ( متي 26 : 67 ) .
ونحن نسأل :
هل ينزل رب العالمين من عليائه ويحل في جسد بشري و أن هذا الجسد يساق من قبل اليهود ليحاكم ويلاقي أشد أنواع الإهانة والتحقير من ضرب وجلد وبصق واستهزاء كل هذا ورب العالمين مالك الملك في هذا الجسد حسبما يؤمن المسيحيون ؟ !
هل يليق بخالق السموات والأرض و من له الكمال المطلق أن تكون هذه حاله ؟ !
سبحانك ربنا لا إله إلا أنت نستغفرك، ونتوب إليك، ونعتذر لك عن كل ما لا يليق بك . . .
الخلاصة :
طبقا لما سقناه سالفاً من الاقتباسات التي أخذناها من الأناجيل ، نستخلص إلى أن المسيح ليس مشتركاً مع الله في طبيعته ولم يكن من أي وجهة هو الله ، وبناء على ذلك فإن المسيح ليس هو الله ولم يدعي الألوهية قط . أما ادعاء المسيحيين بأن المسيح هو الله فعليهم ان يقدموا الدليل المنطقي المقنع والنص الصريح القاطع ، أو أن يعترفوا بأنه كفار ، لأنهم جعلوا المخلوق خالقاً وعبدوه .(1/36)
عقيدة تأليه المسيح بين الرفض و القبول
في الأوساط المسيحية عبر التاريخ
يعترف جُلُّ المؤرخين المسيحيين، أن هذا الاعتقاد بإلهية المسيح لم يصبح عقيدة مستقرة و سائدة بين المسيحيين إلا بعد انقضاء عهد الحواريين و عهد التلاميذ الأوائل للمسيح عليه السلام، أي بعد انقضاء قرن على الأقل على انتقال المسيح و رفعه، أما قبل ذلك، أي في القرن الأول لبعثة المسيح، فكانت مذاهب الناس في المسيح لا تزال متشعبة، فغالبية اليهود المعاصرين له أبغضوه وأنكروا رسالته من الأساس و اعتبروه ساحرا و دجالا ـ حاشاه من ذلك ـ و صرفوا جهودهم لمحاربة أتباعه و القضاء على دعوته، و في المقابل آمن به عدد من يهود فلسطين ممن تجرد لله تعالى و كان تقيا مخلصا، و رأوا فيه المسيح المبشر به في الكتب المقدسة السابقة، و من هؤلاء الحواريون، الذين تدل كتاباتهم و رسائلهم أنهم كانوا يرون في المسيح نبيا بشرا، و رجلا أيده الله تعالى بالمعجزات الباهرة ليرد الناس إلى صراط الله الذي ضلوا عنه و ابتعدوا عنه، و ليعلن بشارة الله تعالى بالرحمة و الغفران و الرضوان للمؤمنين التائبين... كما وجد في ذلك القرن الأول و ما بعده يهود تشبعوا بأفكار الفلسفة اليونانية سيما الأفلاطونية الحديثة منها وتشربت بها قلوبهم فنظروا للمسيح و لارتباطه بالله عز و جل بمنظار ما كانوا مشبعين به من تلك الفلسفة حول الإلهيات، و ما تعلمه حول "اللوجوس" أي العقل الكلي الذي ترى فيه أول ما فاض عن المبدأ الأول ـ أي الله ـ فاللوجوس هو الوسيط بين الله في وحدته و بساطته المتناهية و بين العالم المتكثر، و به و فيه خلق الله العالم و الكائنات.... فطابقوا بين المسيح و اللوجوس، و كل هؤلاء كانوا يرون المسيح مخلوقاً لِلَّه، فلم يقولوا بإلهية المسيح و لا ساووه مع الآب في الجوهر.
(1/37)
و أخيرا كان هناك المؤمنون الجدد من الأمميين (الوثنيين) و غالبهم آمن بدعوة التلاميذ بعد رحلة المسيح، و هؤلاء كانوا متشبعين بثقافة عصرهم الوثنية الهيلينية التي تنظر للعظماء من أباطرة أو قادة فاتحين أو فلاسفة عظام، على أنهم أنصاف آلهة أو أبناء آلهة هبطت لعالم الدنيا و تجسدت، لخلاص بني الإنسان و هدايتهم.... فصار كثير منهم ينظرون لشخصية المسيح بنفس المنظار، خاصة أنه كان يعبر عن المسيح في لغة الأناجيل بابن الله، فأخذوا البنوة على معناها الحرفي لوجود نظير لذلك في ثقافتهم الوثنية، و رأوا فيه ابن الله الحقيقي الذي كان إلها فتجسد و نزل لعالم البشر لخلاصهم... و لاقت هذه العقيدة رواجا لدى العوام الذين يعجبون بالغلو في رفع مقام من يقدسونه و يؤمنون به و يرون ذلك من كمال الإيمان به و المحبة له، و قد لعبت عدة عوامل سياسية و ثقافية و اجتماعية و حتى لغوية ـ ليس هنا موضع بسطها ـ لصالح الاتجاه الوثني الأخير في النظر لشخصية المسيح، فساد و انتشر، و شيئا فشيئا صار هو الأصل و صارت مخالفته هرطقة و خيانة لحقيقة المسيح، و صار الموحدون، أي الأتباع الحقيقيون للمسيح، فئات ضئيلة عرضة للاضطهاد، يُنْظَر إليها على أنها مبتدعة ضالة!
(1/38)
لكن هذا لا يعني أن الموحدين انتهوا تماما، بل إن التاريخ و الوثائق تثبت أنه و جدت و لا تزال، في كل عصر من عصور تاريخ المسيحية و حتى يومنا هذا، أعداد غير قليلة من علماء النصارى و عامتهم ممن أنكر تأليه المسيح ورفض عقيدة التجسد و التثليث مؤكدا تفرد الله الآب لوحده بالألوهية والربوبية والأزلية، و أن المسيح مهما علا شأنه يبقى حادثا مخلوقا، هذا و قد حظي أولئك الأساقفة أو البطارقة الموحدون بآلاف بل عشرات آلاف الأتباع والمقلدين، و ليس هاهنا مجال لذكر و استقصاء أسماء كل من نقله التاريخ لنا من أولئك الموحدين الأعلام، و من رام الإطلاع المفصَّل على ذلك فعليه بالكتاب القيِّم المسمى: " عيسى يبشِّر بالإسلام " للبروفيسور الهندي الدكتور محمد عطاء الرحيم، و الذي ترجمه إلى العربية الدكتور (الأردني) فهمي الشما، فقد ذكر فيه مؤلفه الفرق النصرانية الموحدة القديمة و تحدث في فصل كامل عن أعلام الموحدين في النصرانية، استوعب فيها أسماءهم و تراجمهم و كتاباتهم و دلائلهم على التوحيد و أحوالهم و ما لاقوه من اضطهاد و محاربة في سبيل عقيدتهم، ونكتفي هنا بإشارة سريعة لأسماء أشهر الفرق و الشخصيات النصرانية الموحدة البارزة عبر التاريخ: فقد ذكرت المراجع التاريخية النصرانية، التي تتحدث عن تاريخ الكنيسة، أسماء عدة فرق في القرون المسيحية الثلاثة الأولى كانت تنكر التثليث و التجسد و تأليه المسيح و هي: فرقة الأبيونيين، و فرقة الكارينثيانيين، و فرقة الباسيليديين و فرقة الكاربوقراطيين، فرقة الهيبسيستاريين، و فرقة الغنوصيين.و أما أشهر القساوسة و الشخصيات المسيحية الموحدة القديمة التي تذكرها تلك المصادر فهي:
ديودوروس أسقف طرطوس.
بولس الشمشاطي، و كان بطريركا في أنطاكية و وافقه على مذهبه التوحيدي الخالص كثيرون و عرفوا بالفرقة البوليقانية.
الأسقف لوسيان الأنطاكي أستاذ آريوس (توفي سنة 312 م.)
(1/39)
آريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية (250 ـ 336 م.) و قد صار له ألوف الأتباع عرفوا بالآريوسيين و بقي مذهبهم التوحيدي حيا لفترات زمنية طويلة و صار آريوس علما للتوحيد حتى أن كل من جاء بعده إلى يومنا هذا و أنكر التثليث و إلهية المسيح، يصمه رجال الكنيسة الرسميون بأنه آريوسي!!.
يوزيبيوس النيقوميدي أسقف بيروت ثم نقل لنيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية، و كان من أتباع لوسيان الأنطاكي و من أصدقاء آريوس.
أما أشهر الموحدين من رجال الدين و المفكرين المسيحيين المتأخرين فهم :
1) المصلح المجاهد الطبيب الأسباني ميخائيل سيرفيتوسMichael Servitus (1151 ـ 1553): تأثر بحركة الإصلاح البروتستانتية لكنه خطا في الإصلاح خطوات جذرية و جريئة أكثر، فأعلن بطلان عقيدة التثليث و رفض ألوهية المسيح بشدة و كان يسمي الثالوث بـ" الوحش الشيطاني ذي الرؤوس الثلاثة!" و قام بحركة نشطة جدا في الدعوة إلى التوحيد الخالص، و قد اتهمته الكنيسة بالهرطقة و اعتقلته ثم أعدمته حرقا. لكنها لم تستطع إعدام أفكاره وكتاباته التي انتشرت في وسط و شرق أوربا انتشار النار في الهشيم و صار لها عشرات الألوف من الأتباع و المؤيدين.
2) القسيس الروماني فرانسيس ديفيد Francis David (1510 ـ 1579): صار أسقفا كاثوليكيا أولا ثم اعتنق البروتستانتية ثم وصل في النهاية للتوحيد الخالص فأبطل التثليث و نفى ألوهية المسيح، و قد أوجدت أفكاره فرقة من الموحدين في بولونيا و المجر (هنغاريا) و أثرت أفكاره حتى في ملك هنغاريا الذي أصدر بيانا أمر فيه بإعطاء الموحدين حرية العقيدة.
(1/40)
3) اللاهوتي الإيطالي فاوستو باولو سوزيني Fausto Paolo Sozini (1539 ـ 1604): اشتهر باسم سوسيانوس Socianus، نشر كتابا إصلاحيا ينقد عقائد الكنيسة الأساسية من تثليث و تجسد و كفارة و غيرها، ثم توصل للتوحيد الخالص و أخذ يؤكد عليه في كتاباته و رسائله و انتشرت تعاليمه في كل مكان و عرفت مدرسته أو مذهبه اللاهوتي باسم " السوسيانية "، أما مخالفوه فسموا أتباعه بـ " الآريانيين الجدد "(أي أتباع مذهب آريوس القديم). و بعد وفاته جمعت رسائله و كتاباته في كتاب واحد نشر في مدينة "روكوف" Rokow في بولندا، و لذلك أخذ اسم " كتاب العقيدة الراكوفية "، و قد تعرض أتباع السوسيانية لاضطهاد وحشي منظم منذ عام 1638 و حرق الكثير منهم أحياء أو حرموا حقوقهم المدنية و حرقت كتبهم، و في سنة 1658 خُيِّرَ الناس بين قبول الكاثوليكية أو الذهاب للمنفى، فتوزَّع التوحيديون في أطراف أوربا و ظلوا فئات منفصلة لفترات طويلة، و قد لقيت السوسيانية رواجا عميقا في هنغاريا (المجر) ثم بولندا و ترانسلفانيا (إقليم في رومانيا) و انتشرت منها إلى هولندا ثم بريطانيا و أخيرا سرت للولايات المتحدة الأمريكية و كانت وراء نشوء الفرقة الشهيرة التي تسمت باسم التوحيديين The Unitarians.
(1/41)
4) الأستاذ المحقق البريطاني جون بيدل John Biddle (1615 ـ 1662): يعتبر أبا مذهب التوحيد في إنجلترا، حيث قام بنشاط إصلاحي قوي و رائع في بريطانيا و نشر رسائله التوحيدية المدللة بأقوى البراهين المنطقية على بطلان إلهية المسيح و بطلان إلهية الروح القدس، و تفرد الله (الآب) وحده بالإلهية و الربوبية، و قد تعرض هو و أتباعه لاضطهاد شديد و حوكم و سجن عدة مرات و توفي أخيرا و هو سجين بسبب سوء ظروف السجن و سوء المعاملة فيه و قد أثرت أفكاره في الكثيرين من متحرري الفكر في بريطانيا فآمنوا بها و من أشهرهم: السيد ميلتون Milton (1608 ـ 1674) و السيد إسحاق نيوتن Sir Issac Newton (1642 ـ 1727) العالم الفيزيائي الشهير، و أستاذ علم الاجتماع جون لوك John Lock (1632 ـ 1704)، و كلهم ساهم بدوره في نقد عقائد و تعاليم الكنيسة المعقدة غير المفهومة كالتثليث و التجسد و إلهامية كل ما في الكتاب المقدس و... الخ بما كتبوه و نشروه من كتب و أبحاث و رسائل قيمة.
5) القسيس البريطاني توماس إيملين Thomas Emlyn (1663 ـ 1741): و كان من القساوسة البروتستانت المشايخية Presbyterian و نشر كتابا بعنوان: " بحث متواضع حول رواية الكتاب المقدس عن يسوع المسيح " بيَّن فيه بطلان القول بإلهية المسيح و بطلان القول بتساويه مع الآب، فقبض عليه و اتهم بالهرطقة و نفي من بريطانيا لكنه رغم ذلك لم يتوقف عن دعوته للتوحيد التام، و نشر رسائله المدللة بالبراهين القوية من الكتاب المقدس، على نفي إلهية المسيح أو إلهية الروح القدس، و وجوب إفراد الله تعالى وحده بالعبادة و الصلوات، و تعتبر رسائله من أقوى و أحسن ما كتب في هذا الباب و كان عدد القساوسة البريسبيتاريين Presbyterians الذين انضموا إليه و آمنوا بآراء آريوس و غيره من الموحدين في بداية القرن الثامن عشر الميلادي عددا لا يستهان به.
(1/42)
6) القسيس البريطاني ثيوفيلوس ليندسيTheophilos Lindsy (1723 ـ 1808): و كان منظم أول جماعة مصلين موحدة في إنجلترا، و كان يؤكد أنه ليست الكنائس فقط مكان عبادة الله، بل للإنسان أن يختار أي مكان لأداء الأدعية و الصلوات لله وحده فقط.
7) القسيس و العالم البريطاني جوزيف بريستلي Joseph Priestly (1733ـ 1804): و كانت أبعد كتاباته أثرا كتاب "تاريخ ما لحق بالنصرانية من تحريفات"و جاء في مجلدين. و قد أثار هذا الكتاب ثائرة أتباع الكنيسة الرسمية و أمروا بإحراقه فيما بعد، كما ألف كتابا رائعا آخر في دحض التثليث و إبطال ألوهية المسيح سماه " تاريخ يسوع المسيح ". هذا و قد اهتم بريستلي كذلك بالكيمياء و اكتشف الأوكسجين الأمر الذي أكسبه شهرة عالمية. و قد هاجر بريستلي في آخر عمره إلى أمريكا و أنشأ هناك الكنيسة التوحيدية Unitarian Church، و توفي في بوسطن.
8) القسيس الأمريكي ويليام إيليري تشانينغ William Ellery Channing (1780 ـ 1842): كان له الفضل في تطوير و إرساء دعائم الكنيسة التوحيدية في أمريكا و بريطانيا و التي يربو عدد أتباعها اليوم على المائة و الخمسين ألفا على الأقل، و ذلك بفضل مواعظه المؤثرة البليغة و خطبه القوية و محاضراته القيمة، هو و مساعده القسيس رالف والدو أيميرسن Ralph Waldo Emerson. و من الجدير بالذكر أن أفكار فرقة الموحدين Unitarians هذه تسربت إلى قادة الحركة التي قامت بتأسيس مدرسة اللاهوت العصرية في جامعة هارفورد الشهيرة في سنة 1861.
(1/43)
9) البروفيسور البريطاني المعاصر جون هيك John Hick أستاذ اللاهوت في جامعة برمنجهام و صاحب الكتاب الممتاز “ The Myth of God Incarnate” أي: أسطورة الله المتجسد، الذي ترجم للعربية و لعدة لغات عالمية، و يضم مقالات له و للفيف من كبار الأساتذة و الدكاترة في اللاهوت و مقارنة الأديان في جامعات بريطانيا، محورها جميعا ما أشار إليه البروفيسور هيك نفسه في مقدمة كتابه ذاك حيث قال ما نصه:
[ The writers of this book are convinced that another major theological development is called for in this last part of the Twentieth Century. The need arises from growing knowledge of Christian origins and involves a recognition that Jesus was (as he is presented in Acts 2.21) “A man approved by God “ for a special role within the Divine purpose, and that the later conception of him as God Incarnate, The Second Person of the Holy Trinity living a human life, is a mythological or poetic way of expressing his significance for us. ].
و ترجمته: [ إن كُتَّاب هذا الكتاب مقتنعين بأن هناك، في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، حاجة ماسة لتطور عقائدي كبير آخر. هذه الحاجة أوجدتها المعرفة المتزايدة لأصول المسيحية، تلك المعرفة التي أصبحت تستلزم الاعتراف بعيسى أنه كان (كما يصفه سفر أعمال الرسل: 2/21): " رجل أيده الله " لأداء دور خاص ضمن الهدف الإلهي، و أن المفهوم المتأخر عن عيسى و الذي صار يعتبره " الله المتجسد و الشخص الثاني من الثالوث المقدس الذي عاش حياة إنسانية " ليس في الواقع إلا طريقة تعبير أسطورية و شعرية عما يعنيه عيسى المسيح بالنسبة إلينا ].
(1/44)
و أخيرا فإن المتتبع لمؤلفات المحققين الغربيين المعاصرين حول تاريخ المسيحية و تاريخ الأديان و المطالع لما تذكره دوائر المعارف البريطانية و الأمريكية الشهيرة حول المسيح و تاريخ تطور العقيدة النصرانية والأناجيل، يجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء المفكرين و الكتَّاب العصريين لا تماري و لا ترتاب في كون غالب العقائد المعقَّدة للكنيسة النصرانية، لا سيما التثليث و التجسد و الكفارة و الأقانيم... ما هي إلا تعبيرات فلسفية بعدية عن رسالة المسيح التي لم تكن إلا رسالة توحيدية أخلاقية بسيطة. ولم يبق إلا القليل جدا من المفكرين و دكاترة اللاهوت و أساتذة علم الأديان الغربيين ممن لا يزال يرى أن عقائد الكنيسة الرسمية تلك تمثل بالضبط نفس تعاليم المسيح و تعكس حقيقة رسالته.
و في الختام أشير إلى أن كثيرا من الفرق النصرانية الجديدة، التي انشقت عن الكنيسة في قرننا هذا و الذي سبقه، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، تتفق على إنكار إلهية المسيح و إنكار التثليث و رفض فكرة: الله ـ الإنسان، و تنظر لبنوَّة المسيح لله على معنى مجازي لا حرفي، و من أشهر هذه الفرق الجديدة التي قالت بذلك:
فرقة الموحدين أو التوحيديين The Unitarians
فرقة شهود يهْوَه Witnesses' Jehovah
فرقة الروحيين The Spiritualist
فرقة العلم المسيحي The Christian Science
مع العلم أن لكل واحدة من هذه الفرق عشرات الكنائس و عشرات آلاف الأتباع من مختلف الطبقات، لا سيما الطبقات المثقفة العصرية، في الولايات المتحدة الأمريكية و كثير من بلدان العالم الأخرى.
نقلا عن كتاب " الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهية المسيح كما ينفيها القرآن "(1/45)
شهادة الإنجيل على أن يسوع المسيح
كان عبداً لله سبحانه وتعالى
من المعلوم لغةً أن : العبودية تعني الخضوع والذل . وأن العبادة تعني الانقياد والخضوع . والعبد ضد الحر . ونحن البشر كلنا عبيد لله الخالق العظيم . . . وقد صرح المسيح في إنجيل يوحنا بأن العبد يعمل بإرادة سيده ، وهو لا يقترن بأي حال من الأحوال مع سيده : (( الحق الحق أقول لكم : ما كان الخادم أعظم من سيده ولا كان الرسول أعظم من مرسله )) [ يوحنا 13 : 16 ]
فهل كان يسوع الناصري عبداً لله سبحانه وتعالى ؟
الجواب :
لقد كان المسيح عبداً لله سبحانه وتعالى وهذا ما نجده في الأدلة التالية من الكتاب المقدس :
1- لقد بشر النبي اشعياء [ 42 : 1 ] بنبي عظيم ، أول صفاته أنه عبد الله ورسوله وهذه البشارة تقول : (( هو ذا عبدي أعضده )) وقد اعتقد كاتب إنجيل متى أن تلك النبوءة قد تحققت في المسيح ، فاقتبسها ووضعها في إنجيله في الإصحاح الثاني عشر .
والشاهد في هذا الدليل أن الله سماه عبداً على لسان إشعيا .
2- وورد في سفر أعمال الرسل [ 3 : 13 ، 26 ] دليلاً ثانياً يؤكد عبودية يسوع المسيح لله سبحانه وتعالى ، إليك نصه : (( إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، إله آبائنا ، قد مجد عبده يسوع . . . )) ( العهد الجديد المطبعة الكاثوليكية )
علماً بأن الطبعة البروتستانتية ( الإنجيلية ) للكتاب المقدس تستبدل كلمة عبده ، بكلمة فتاه .
وقد اتفقت الترجمتان الإنجليزيتان : الملك جيمس والقياسية ، على استخدام كلمة : Servant مقابل كلمة : عبد ، العربية .
كذلك اتفقت الترجمتان الفرنسيتان : لوي سيجو ، والمسكونية على استخدام كلمة : Serviteur مقابل كلمة : عبد ، العربية .
(1/46)
3- دليل آخر على عبودية يسوع المسيح هو ما جاء في سفر أعمال الرسل [ 4 : 27 ] وإليك النص : (( تحالف حقاً في هذه المدينة هيردوس وبنطيوس بيلاطس والوثنيون وشعوب إسرائيل على عبدك القدوس يسوع الذي مسحته )) ( العهد الجديد المطبعة الكاثوليكية _ منشورات دار المشرق ببيروت )
4- وورد في سفر أعمال الرسل [ 4 : 29 ، 30 ] دليلاً رابعاً يؤكد عبودية يسوع الناصري لله سبحانه وتعالى ، إليك نصه : (( فانظر الآن يا رب إلي تهديداتهم ، وهب لعبيدك أن يعلنوا كلمتك بكل جرأة باسطاً يدك ليجري الشفاء والآيات والأعاجيب باسم عبدك القدوس يسوع ))
( العهد الجديد المطبعة الكاثوليكية _ منشورات دار المشرق ببيروت )
وقد أكد يسوع الناصري عبوديته لله سبحانه وتعالى بأفعاله وأقواله والتي منها :
قيامه بالصلاة وعبادته لله طوال الليل كله ، طبقاً لما ذكره لوقا في إنجيله [ 6 : 12 ] و نصه : (( وفي تلك الأيام خرج إلي الجبل ليصلي ، وقضى الليل كله في الصلاة لله ))
وفي يوحنا [ 11 : 41 ] نجده أتى بأفعال تنافي الألوهية منها : قيامه برفع عينيه إلى السماء ودعائه لله سبحانه وتعالى لكي يستجيب له في تحقيق معجزة إحياء العازر ….
فلمن كان يتوجه ببصره إلي السماء إذا كان الأب حال فيه ؟
وغيرها من الأدلة . . .
فها هي كتبكم يا نصارى تشهد بأن يسوع الناصري هو عبد من عباد الله سبحانه وتعالى
والعبد يعمل بإرادة سيده ، وهو لا يقترن بأي حال من الأحوال مع سيده : (( الحق الحق أقول لكم : ما كان الخادم أعظم من سيده ولا كان الرسول أعظم من مرسله )) [ يوحنا 13 : 16 ]
فهل قبلتم المسيح كعبد لله ورسول من عنده ؟
وصدق الله العظيم إذا يقول :
{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً } سورة النساء :172(1/47)
شهادة الأناجيل على بطلان ألوهية المسيح
(1) جاء في إنجيل يوحنا [ 17 : 3 ] أن المسيح عليه السلام توجه ببصره نحو السماء قائلاً لله : (( وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته . ))
فإذا كان النصارى يقولون أن الله قد تجسد في جسد المسيح يسوع ، فمن هو الإله الذي كان يخاطبه يسوع ؟
ومن ناحية أخرى ألم يلاحظ النصارى تلك الكلمات : (( ويسوع المسيح الذي أرسلته )) ، ألا تدل تلك الكلمات على أن يسوع المسيح هو رسول تم إرساله من قبل الله ؟
ولاشك أن المرسل غير الراسل ، وإذا أمعن النصارى التفكير إلا يجدون أن هذا الكلام يتفق مع كلام الذي أسموه (( الهرطوقي أريوس )) الذي كان يقول بأن المسيح ما هو إلا وسيط بين الله والبشر ؟ ! .
لقد شهد المسيح أن الحياة الأبدية هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن يسوع رسول الله وهو عين ما يؤمن به المسلمون جميعاً. وحيث أن الحياة الأبدية حسب قول المسيح هي التوحيد الحقيقي فيكون التثليث الحقيقي هو الموت الأبدي والضلال .
وبعد هذا نجد :
أن النص السابق من إنجيل يوحنا يبرهن لنا الآتي :
أولاً : أنه يوجد إله حقيقي واحد وأن يسوع لا يعرف شيئاً عن التثليث أو الأقانيم بقوله : ( أنت الإله الحقيقي وحدك ) .
ثانياً : وأن يسوع المسيح لم يدع الألوهية لأنه أشار إلى الإله الحقيقي بقوله : ( أنت الإله الحقيقي ) لا إلى ذاته .
ثالثاً : لقد شهد يسوع المسيح بأنه رسول الله فحسب بقوله :( ويسوع المسيح الذي أرسلته ) .
إن المسيح لم يقل : (( إن الحياة الأبدية أن يعرفوكم أنكم ثلاثة أقانيم وأنكم جميعاً واحد ))
وإن المسيح لم يقل : (( إن الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله المكون من ثلاثة أقانيم الآب والابن والروح القدس ))
بل لقد شهد المسيح أن الحياة الأبدية هي شهادة أن لا إله إلا الله وأن يسوع رسول الله .
(1/48)
(2) كتب لوقا في [4 : 18 ] : ما نصه (( وَعَادَ يَسُوعُ إِلَى مِنْطَقَةِ الْجَلِيلِ بِقُدْرَةِ الرُّوحِ؛ وَذَاعَ صِيتُهُ فِي الْقُرَى الْمُجَاوِرَةِ كُلِّهَا. وَكَانَ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِ الْيَهُودِ إلي أن قال ، وَوَقَفَ لِيَقْرَأَ. فَقُدِّمَ إِلَيْهِ كِتَابُ النَّبِيِّ إِشَعْيَاءَ، فَلَمَّا فَتَحَهُ وَجَدَ الْمَكَانَ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ: رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْفُقَرَاءَ؛ أَرْسَلَنِي لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاقِ . . . ))
فإذا كانت هذه النبوءة التي جاءت على لسان النبي اشعياء هي نبوءة عن المسيح فإنها تقول (( روح الرب علي )) أي وحي الله وأنه لم يقل روح الرب هي ذاتي أو أقنومي أو جزئي أو نفسي وقد وورد في الكتاب المقدس أن روح الرب حلت على ألداد وميداد كما في سفر العدد [ 11: 26 ] وعلى صموئيل كما في الإصحاح العاشر الفقرة السادسة من سفر صموئيل . وقد قالها النبي حزقيال عن نفسه في سفره كما في الإصحاح الحادي عشر الفقرة الخامسة يقول حزقيال (( وحل عَلَيَّ رُوحُ الرَّبِّ )) .
ثم إن قوله : (( أرسلني لأنادي للمأسورين بالإطلاق . . . )) هو دليل على انه نبي مرسل وليس هو الرب النازل إلي البشر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
ثم إن ما جاء في انجيل لوقا [ 4: 34 ] من قول المسيح : (( لا بد لي أن أبشر المدن الأخرى بملكوت الله لأني لهذا أرسلت )) لهو نص واضح آخر على أن المسيح رسول مرسل من الله ليس إلا وأن الله لم يأت بنفسه جل جلاله !!
(3) جاء في إنجيل لوقا [ 7 : 16 ] أن المسيح بعدما أحيا الميت الذي هو ابن وحيد لامرأة أرملة حدث أن جميع الناس الحاضرين مجدوا الله قائلين : (( قد قام فينا نبي عظيم ، وتفقد الله شعبه وذاع هذا الخبر في منطقة اليهودية وفي جميع النواحي المجاورة . ))
(1/49)
أيها القارئ الكريم أن هذا لدليل صريح على بشرية المسيح وأنه عبد رسول ليس إلا ، فإنه بعد أن أحيا هذا الميت استطاع جميع الحاضرين أن يفرقوا بين الله وبين المسيح فمجدوا الله وشهدوا للمسيح بالنبوة وشكروا الله إذ أرسل في بني إسرائيل نبياً ، ويسمون أنفسهم شعب الله إذ أن الله ( تفقده ) أي اهتم به ، وأرسل فيهم نبياً جديداً وتأمل عزيزي القارئ لقول الإنجيل : (( قد قام فينا نبي عظيم وتفقد الله شعبه )) وتأمل كيف أن المسيح أقرهم على هذا القول ولم ينكره عليهم وتأمل كيف ذاع ذلك في كل مكان .
(4) وإذا قرأنا رواية لوقا [ 7 : 39 ] نجده يذكر أن الفريسي بعدما رأى المرأة تبكي وتمسح قدمي المسيح بشعرها قال في نفسه : (( لو كان هذا نبياً ، لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه .))
فإن قول الفريسي هذا يدل على أنه داخله الشك في نبوة المسيح ، وهذه الرواية تثبت بالبداهة أن المسيح عليه السلام كان معروفاً بالنبوة ومشتهراً بها ، ويدعيها لنفسه ، لأن الفريسي داخله الشك فيما هو معروف له والمشهور بادعائه ، وإلا لكان قال : لو كان هذا هو الله لعرف من هي هذه المرأة التي تلمسه . وهذا أمر ظاهر عند كل من لديه مسحة عقل من المسيحيين .
وهنا أود أن أسرد إليك أيها القارئ الكريم الأدلة الدامغة من الأناجيل التي تثبت أن المسيح عليه السلام لم يكن معروفاً إلا بالنبوة ، وسيتضح من هذه الأدلة أن المسيح والمؤمنين به وأعدائه اتفقت كلمتهم على صفة النبوة إثباتاً له من نفسه والمؤمنين به أو إنكاراً له من جانب أعدائه .
أولاً : ورد بإنجيل لوقا [ 24 : 19 ] : أن تلميذين من تلاميذ المسيح وصفوه بالنبوة وهو يخاطبهم ولم ينكر عليهم هذا الوصف فكانا يقولان : (( يسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام الله وجميع الشعب )) .
(1/50)
ثانياً : ورد بإنجيل يوحنا [ 9 : 17 ] قول الرجل الأعمى : (( قالوا أيضاً للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث أنه فتح عينيك فقال إنه نبي )) .
ثالثا : وفي رسالة أعمال الرسل [ 3 : 22 ] حمل بطرس قول موسى عليه السلام الوارد في العهد القديم عن المسيح قوله (( إن نبياً مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم . )) فموسى عليه السلام صرح بأن الله سبحانه وتعالى سيقيم لهم نبياً ولم يقل سينزل لهم الرب .
رابعا : ورد بإنجيل متى [ 21 : 10 ، 11 ] أن المسيح لما دخل أورشليم ارتجت المدينة كلها وسألت من هذا ؟ فكانت الإجابة من الجموع الغفيرة من المؤمنين والتلاميذ الذين دخلوا مع المسيح مدينة القدس هي : (( هذا يسوع النبي من ناصرة الجليل!! )) كل الجموع تسأل ، وكل المؤمنين يجيبون وعلى رأسهم تلاميذ المسيح قائلين ( هذا يسوع النبي ) فهل هناك أعظم من هذه الشهادة التي شهد بها كل المؤمنين وسمع بها الجموع الغفيرة في أورشليم ؟! وتفرق الجمع بعد ذلك على معرفة هذه الحقيقة وهي أن المسيح نبي كريم وليس إلهاً .
خامساً : ورد بإنجيل يوحنا [ 6 : 14 ] ان الناس الذين رأوا معجزة تكثير الطعام التي صنعها المسيح فآمنوا بها قالوا : (( إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم )) فأقرهم المسيح ولم ينكر عليهم وصفهم له بالنبوة وكانوا جمع كثير بنحو 5 آلاف رجل فدل هذا على أن المسيح لم يدع الألوهية ولم يكن يعرف عن ألوهيته المزعومة شيئاً .
سادساً : جاء في إنجيل متى [ 13 : 57 ] ان المسيح لما رأى أهل الناصرة يحاربونه وينكرون معجزاته رد عليهم قائلاً : (( ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته )) فالمسيح لم يقل لهم أني إله وانما قال لهم فقط إنني نبي ولا كرامة لنبي في بلده ، فالألوهية لم تكن تخطر ببال المسيح عليه السلام مطلقاً .
سابعا : وفي انجيل لوقا [ 13 : 33 ] يتكلم المسيح وهو يعرض نفسه قائلا : (( لا يمكن أن يهلك نبي خارجاً عن أورشليم ))
(1/51)
فهذا إقرار من المسيح عليه السلام بأنه نبي من جملة الأنبياء وليس للأنبياء كلهم إلا طبيعة واحدة وهي الطبيعة الآدمية فتأمل .
ثامناً : ونستنتج من كلام أعداء المسيح النافي لنبوة المسيح الوارد في لوقا [ 7 : 25 ] أن المسيح كان مشتهراً بالنبوة ولم يدع الألوهية لذلك فهم ينفون نبوته قائلين : (( إنه لم يقم نبي من الجليل ))
وخلاصة ما تقدم من أدلة :
إنه إذا كان المؤمنون بالمسيح وأعدائه والمسيح نفسه كلامهم لا يتعدى نبوة المسيح إثباتاً ونفياً فهل يجوز لأحد بعد ذلك أن يرفض تلك الأقوال جميعها في صراحتها ويذهب إلى القول بأنه إله؟ ونجد أنه حتى أمه مريم كانت تخاف عليه ولو كانت تعلم لاهوته لما خافت لوقا 2 : 48 : (( وقالت له أمه يا بنيّ لماذا فعلت بنا هكذا .هو ذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين .))
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ( مريم :35 )
(5) جاء في إنجيل متى في الإصحاح الخامس قول المسيح : (( لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْغِيَ الشَّرِيعَةَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأُلْغِيَ، بَلْ لأُكَمِّلَ.))
إن هذا لهو نص واضح لكل ذي عينين بأن المسيح رسول قد مضت من قبله الرسل وأنه واحد ممن سبقوه ، وليس رباً أو إلهاً ، وانه ما جاء إلا ليعمل بالشريعة التي سبقته وهي شريعة موسى ويكمل ما بناه الانبياء قبله ولو كان المسيح هو رب العالمين حسبما يؤمن المسيحيون ما كان ليصح بتاتاً أن يقول لهم : (( ما جئت لألغي بل لأكمل )) فلا شك أن المسيح حلقة في سلسلة الأنبياء والمرسلين وليس هو رب العالمين كما يعتقد المسيحيون .
(1/52)
وقد جاءت نصوص واضحة الدلالة على أن المسيح عليه السلام عندما كان يدعو تلاميذه، ويعلمهم لم يكن يدعوهم إلا على أنه رسول من الله سبحانه وتعالى وانه كان يدعوهم إلى توحيد الله، وعبادته ، انظر إلى قوله في يوحنا في [12 : 49 ] : (( لم أتكلم من نفسي ، لكن الأب الذي أرسلني ، هو أعطاني وصية ماذا أقول ، وبماذا أتكلم ))
ونجده يقول للتلاميذ في متى [ 5 : 16 ] : (( هكذا فليضيء نوركم أمام الناس ليروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات )) . ويقول لهم في انجيل متى [ 7 : 11 ] : (( أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه )) ويقول في الفقرة 21 من نفس الاصحاح : (( ما كل من يقول لي : يا رب ! يدخل في ملكوت السموات ، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات )) . وغيرها من النصوص.
(6) ذكر لوقا في [ 22 : 43 ] أن المسيح بعدما وصل وتلامذته الي جبل الزيتون واشتد عليه الحزن والضيق حتى أن عرقه صار يتصبب كقطرات دم نازلة (( ظَهَرَ لَهُ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ يقويه ! ))
ونحن نسأل :
كيف يحتاج ابن الله المتحد مع الله إلى ملاك من السماء ليقويه ؟
ألستم تزعمون ان للمسيح طبيعة لاهوتية ؟
فهل هذا الملك أقوى من الله ؟!!
ومن المعلوم أن الملاك مخلوق وانتم تدعون أن المسيح خالق فكيف يقوي المخلوق خالقه ؟
أين كان لاهوت المسيح ؟!
أما كان الاولى به أن يظهر طبيعته اللاهوتية المزعومة بدلاً من أن يكتئب ويحزن ويشتد عليه الضيق والخوف ويظهر بمظهر الجبناء ؟!!
أم ان الأمر ليس ألوهية ولا أقنومية وأن المسيح هو رسول من رسل الله يحتاج إلى المعونة والمدد من الله ؟
(1/53)
(7) يحدثنا متى في [ 14 : 15 ] عن معجزة إشباع الآلاف من الجياع بخمسة أرغفة وسمكتين فيقول : (( وَأَمَرَ الْجُمُوعَ أَنْ يَجْلِسُوا عَلَى الْعُشْبِ. ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الْخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ إِلَى السَّمَاءِ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ الأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَاهَا لِلتَّلاَمِيذِ، فَوَزَّعُوهَا عَلَى الْجُمُوعِ.فَأَكَلَ الْجَمِيعُ وَشَبِعُوا.))
لقد قام المسيح برفع نظره نحو السماء قبل أن يقوم بالمعجزة وقبل أن يبارك ، ويحق لنا أن نتساءل :
لماذا رفع المسيح نظره إلى السماء ؟ ولمن يتجه ويطلب إذا كان الآب متحداً به ؟! أم أن المسألة واضحة وهي أنه كان يدعو خالق السموات والأرض ليمنحه القوة على تحقيق المعجزة ؟
وقد تكرر منه هذا الفعل حينما أحيا لعازر ، فإنه ورد بإنجيل يوحنا [ 11 : 41 ] عنه الأتي : (( وَرَفَعَ يَسُوعُ عَيْنَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: «أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ دَوْماً تَسْمَعُ لِي. وَلكِنِّي قُلْتُ هَذَا لأَجْلِ الْجَمْعِ الْوَاقِفِ حَوْلِي لِيُؤْمِنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي )).
إن قيام المسيح بأن رفع نظره نحو السماء هو فعل منافي للألوهية لأن هذا الفعل يأتيه الإنسان عادة عندما يطلب الإمداد السماوي من الله وهذا لا يتفق مع كون المسيح صورة الله وان الآب حال فيه كما يزعم المسيحيون .
تأمل أيها القارئ الكريم إلي قول المسيح : (( لأجل الجمع الواقف حولي ليؤمنوا أنك أرسلتني ))
فالهدف من عمل هذه المعجزة هي أن يعلم الجميع أن المسيح رسول الله وقد كانت الجموع حوله تنتظر هذه المعجزة وأن كل ما طلبه المسيح هو أن يشهدوا له بالرسالة فقط .
(1/54)
(8) جاء في مرقس[ 13 : 32 ] أن المسيح بعدما سئل عن موعد الساعة قال : (( وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْرِفُهُمَا أَحَدٌ، لاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ، إِلاَّ الآبُ.))
ونحن نسأل :
إذا كان الابن هو الأقنوم الثاني من الثالوث حسبما يعتقد المسيحيون فكيف ينفي الابن عن نفسه العلم بموعد الساعة ويثبته للأب فقط ؟! ولا يصح أن يقال أن هذا من جهة ناسوته لأن النفي جاء عن الابن مطلقاً واثبت العلم بالموعد للأب فقط . وان تخصيص العلم بموعد الساعة للأب فقط هو دليل على بطلان ألوهية الروح القدس . وأن لا مساواة بين الأقانيم المزعومة .
(9) قال المسيح في يوحنا [ 1 : 51 ] : (( الحق أقول لكم من الآن سترون السماء مفتوحة وملائكة الله صاعدين نازلين على ابن الإنسان ))
ونحن نسأل :
إذا كان المسيح يصرح بأن ملائكة الله سوف تنزل عليه من السماء بالأوامر الإلهية ولتأييده فأين هو إذن الإله خالق الملائكة الذي حل بالمسيح والمتحد معه ؟!!
(10) كتب لوقا في [ 3 : 23 ] ما نصه : (( ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة ))
أيها القارئ الكريم :
إن المسيح كما يذكر لوقا لما بدأ دعوته كان عمره ثلاثين سنة والسؤال الذي يطرح نفسه هو أنه إذا كان المسيح هو رب العالمين المتجسد فماذا كان يفعل الإله رب العالمين قبل تلك الفترة وطوال الثلاثين سنة ؟! هل كان يتمشى في شوارع القدس ؟!
(11) كتب متى في [ 3 : 13 ] ما نصه :
(1/55)
(( حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه، و لكن يوحنا منعه قائلاً: أنا محتاج أن أعتمد منك و أنت تأتي إلي؟ فأجاب يسوع و قال له اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمل كل برٍّ، حينئذ سمح له. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، و إذا السماوات قد انفتحت له فرأى روح الله نازلا مثل حمامة و آتيا عليه و صوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت )).
من البديهي أنه لو كان المسيح هو الله نفسه الذي تجسد و نزل لعالم الدنيا ـ كما يدعون ـ لكانت رسالته مبتدئة منذ ولادته، و لكان روح القدس ملازما له باعتباره جزء اللاهوت الذي لا يتجزأ ـ كما يدعون ـ، و لما احتاج إلى من ينزل عليه بالوحي أو الرسالة، ولم يكن هناك أي معنى أصلا لابتداء بعثته بهبوط روح القدس عليه و ابتداء هبوط الملائكة صاعدين نازلين بالوحي و الرسائل عندما بلغ الثلاثين من العمر واعتمد على يد يوحنا النبي! فهذا النص و النصوص الأخرى التي تبين كيفية بدء البعثة النبوية للمسيح، لأكبر و أوضح دليل ـ عند ذوي التجرد و الإنصاف ـ على بشرية المسيح المحضة و عدم ألوهيته و أنه ليس الله المتجسد بل عبدٌ رسولٌ و نبيٌّ مبعوثٌ برسالة من الله كسائر الأنبياء و الرسل و حسب.
ولنقرأ ما كتبه لوقا في [ 3 : 21 ] عن بدء بعثة المسيح بنزول روح القدس عليه :
(( و لما اعتمد جميع الشعب اعتمد يسوع أيضا و إذ كان يصلي انفتحت السماء و نزل عليه الروح القدس بهيئة جسمية مثل حمامة و كان صوت من السماء قائلا: أنت ابني الحبيب بك سررت. و كان يسوع عند بدء رسالته في نحو الثلاثين من عمره... و رجع يسوع من الأردن وهو ممتلئ من الروح القدس ))
و نحن نسأل أصحاب التثليث : أليس هذا النص أوضح دليل على نفي ألوهية المسيح ونفي التثليث ؟
فأولاً : لو كان المسيح إلها متجسدا لما احتاج لروح القدس ليهبط عليه !
(1/56)
ثانياً : لو كان التثليث حقا لكان المسيح متحدا دائما و أزلا مع روح القدس، لأن الثلاثة واحد فما احتاج أن يهبط عليه كحمامة!
وكيف ينادي الله عند اعتماد المسيح و ابتداء بعثته قائلاً : ( هذا ابني الحبيب )، مع انه من المفروض أن اللاهوت متحد به من البداية و لأن الله لا يمكن أن تنفصل عنه إحدى صفاته .
ثالثاً : أليس ما كتبه متى ولوقا يبطل زعمكم أن الثلاثة واحد فالروح القدس منفصل عن الذات وهو نازل بين السماء والأرض والابن صاعد من الماء !
أليس هذا دليلا على أن الوحدة المزعومة بين الأقانيم لا وجود لها ؟! .
وبعد هذا نسأل :
هل المسيح وحده الذي امتلأ من الروح القدس كما كتب لوقا أم شاركه آخرون مما تنقض معه الخصوصية ؟
الجواب : هناك آخرون امتلئوا من الروح القدس وهم كثيرون طبقاً للآتي :
ورد بسفر أعمال الرسل [ 6 : 5 ] عن استفانوس ما نصه : (( فاختاروا استفانوس رجلاً مملوءاً من الإيمان والروح القدس ))
وورد في إنجيل لوقا [1 : 5] عن يوحنا المعمدان ما نصه :(( ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس )) .
وكذلك امتلأ زكريا والد يوحنا المعمدان من الروح القدس طبقاً لما ذكره لوقا في الإصحاح الثامن وغيرهم مما لا يسع المقام لذكرهم .
(12) جاء في إنجيل متى [ 4 : 6 ] أن الشيطان بعدما أخذ المسيح إلي المدينة المقدسة وأوقفه على حافة سطح الهيكل قال له : (( إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلي أسفل لأنه قد كتب : يُوْصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَيَحْمِلُونَكَ عَلَى أَيْدِيهِمْ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ قَدَمَكَ بِحَجَرٍ!))
في هذا النص إقرار من المسيح للشيطان بأنه قد كتب عنه في العهد القديم أن الله يوصي ملائكته به ليحملونه ويحفظونه ونجد أن هذا ثابت بالمزمور الواحد والتسعين . والسؤال الآن هو :
إذا كان المسيح هو رب العالمين وأن الأب متحد معه وحال فيه فكيف يوصي الله ملائكته به لكي يحفظونه .
(1/57)
فهل رب العالمين الذي ظهر في الجسد بحاجة إلي ملائكة تكون حفظاً وحماية له ؟!!
أليس هذا دليل من الأدلة الدالة على فساد معتقد المسيحيين في ألوهية المسيح ابن مريم عليه السلام ؟
(13) جاء في أنجيل مرقس [ 1 : 12 ] : أن المسيح تم أربعين يوماً يجرب من الشيطان يقول النص :
(( وَفِي الْحَالِ اقْتَادَ الرُّوحُ يَسُوعَ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، فَقَضَى فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْماً وَالشَّيْطَانُ يُجَرِّبُهُ. وَكَانَ بَيْنَ الْوُحُوشِ وَمَلاَئِكَةٌ تَخْدُمُهُ. ))
ونحن نقول :
إذا كان المسيح هو رب العالمين حسبما يعتقد المسيحيون فهل يعقل أو يتصور أن الشيطان الرجيم تسلط على رب العالمين طوال أربعين يوماً ؟!!
وقد يقول المسيحيون حسبما يعتقدون في لاهوت وناسوت المسيح بإن الشيطان جربه كإنسان ولم يجربه كإله .
فنقول أن النص الوارد في متى [ 4 : 3 ] يثبت حسب اعتقادكم أن الشيطان جربه كإله ، يقول النص : (( فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ، فَقُلْ لِهَذِهِ الْحِجَارَةِ أَنْ تَتَحَوَّلَ إِلَى خُبْزٍ! )) ولم يقل له ان كنت ابن الإنسان !
ونقول أيضاً لو إن إبليس كان يقصد ناسوت المسيح فقط لخاطب نصفه ولم يخاطبه كله كما جاء في رواية متى .
وقد كتب متى في [ 4 : 8 ] : ان إبليس أخذ المسيح إلي قمة جبل عال جداً ، وأراه جميع ممالك العالم ، وقال له : (( أعطيك هذه كلها إن جثوت وسجدت لي ! ))
ونحن نسأل :
كيف يطمع إبليس في أن يسجد له وأن يخضع له من فيه روح اللاهوت . . . ؟ !
ومن العجب أن الشيطان لا يبقى ويثبت مع وجود الملك ، فكيف يطمع ويثبت فيمن يعتقد ربوبيته و أنه صورة الله ؟
ألا يستحي المسيحيون وهم يقرأون هذا الكلام!! ألا يستحون وهم يعتقدون ان من فيه اللاهوت والربوبية قد صحبه إبليس، وعرض عليه السجود له مقابل أن يملكه الدنيا !
(1/58)
(14) وقد كتب متى في الإصحاح الأول ابتداء من الفقرة الأولى حول تجربة إبليس للمسيح أن إبليس كان يقود المسيح إلي حيث شاء فينقاد له . فتارة يقوده إلي المدينة المقدسة و يوقفه على جناح الهيكل وتارة يأخذه إلي جبل عال جداً . . . ونحن نسأل كيف يمكن لعاقل بعد هذا الكلام أن يقول أن رب العالمين كان في جسد المسيح وكان هذا الجسد بهذه حاله مع إبليس .؟!!
لقد حكمتم يا نصارى بإيمانكم هذا بأن الإله الخالق الحال في الجسد قد سحبه الشيطان ، وردده وجرت عليه أحكامه !
(15) كتب متى في [ 12 : 14 ] ومرقس في [ 3 : 6 ] أن الفريسيين تشاوروا على المسيح لكي يقتلوه ، فلما علم يسوع انصرف من مكانه . . . وكتب يوحنا في[ 11 : 53 ] : أن اليهود لما قرروا قتل المسيح فمن ذلك اليوم لم يعد المسيح يتجول بينهم جهاراً ، بل ذهب إلى مدينة اسمها أفرايم . . .
ولا يخفى عليك أيها القارئ الكريم من خلال هذين النصين أن انصراف المسيح كان هرباً من اليهود ، وأن رب العالمين حسب اعتقاد المسيحيين كان في جسد المسيح ، فكيف يتصور ويعقل أن رب العالمين كان في جسد وكان هذا الجسد يتجنب اليهود من مدينة إلى مدينة هرباً منهم !!
كيف يمكن لعاقل أن يصور رب العالمين بهذه الصورة ويعبد إلهاُ كانت هذه أحواله مه هذا الجسد ؟!
(16) كتب متى في [26 : 67 ] أن اليهود عذبوا المسيح وبصقوا في وجهه وضربوه وهذا نص ما كتب : (( فبصقوا في وجه يسوع ولطموه ، ومنهم من لكمه )) وجاء في إنجيل لوقا في [ 22 : 63 ] :
(( وأخذ الذين يحرسون يسوع يستهزئون به ويضربونه ويغطون وجهه ويسألونه : من ضربك ؟ تنبأ ! وزادوا على ذلك كثيراً من الشتائم . ))
أننا نجد من خلال هذه النصوص :
أن اليهود اتخذوا المسيح لعبةً يلعبون بها إهانةً له وتحقيراً لشأنه ، وليت شعري ألم يكن في زمن المسيح من هو ذا شهامة ومروءة ، يدافع عنه ؟
(1/59)
أين كان هؤلاء الألوف الذين حكت عنهم الأناجيل بأنهم آمنوا به ، وشفى كثيراً من أمراضهم المزمنة ، أين تلك الجموع الغفيرة التي خرجت لملاقاته ، حين دخوله أورشليم ، وهو راكب الجحش والأتان معاً !
ويح أمة اتخذت نبيها إلهاً ، ووصفته بأنه جبار السموات والأرض ، ثم تصفه بالذل و الهوان والضعف والاستسلام لأضعف خلقه ، وهم اليهود ، فأصبح هذا الإله الذي خلق الكون بما فيه وخلق كل البشر أسيرا ومهاناً بأيديهم وأي إهانة أعظم من أن يضرب هذا الإله ؟
فهل ترضى يا مسيحي أن يكون لك رباً كهذا يعامل معاملة المجرمين الخارجين عن القانون على أيدي اليهود ؟
و هل ترضي يا مسيحي أن يكون لك رباً نزل إلى الأرض ليدخل في بطن أمه ويتغذى جنيناً تسعة أشهر ويخرج مولوداً ملطخاً بالدماء وتمر عليه سائر أطوار ومستلزمات الطفولة ؟
ثم أن ما حكته الأناجيل أن اليهود عذبوا المسيح فبصقوا في وجهه وضربوه ولكموه وجلدوه هو أمر مناقض لما ذكره متى في [ 4 : 5 ] في حق المسيح من أن الله سبحانه يوصي ملائكته به فيحملونه على أيديهم لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ قَدَمَهَ بِحَجَرٍ .
ونحن نسأل :
هل ينزل رب العالمين من عليائه ويحل في جسد بشري و أن هذا الجسد يساق من قبل اليهود ليحاكم ويلاقي أشد أنواع الإهانة والتحقير من ضرب وجلد وبصق واستهزاء كل هذا ورب العالمين مالك الملك في هذا الجسد حسبما يؤمن المسيحيون ؟ !
هل يليق بخالق السموات والأرض و من له الكمال المطلق أن تكون هذه حاله ؟ !
سبحانك ربنا لا إله إلا أنت نستغفرك، ونتوب إليك، ونعتذر لك عن كل ما لا يليق بك . . .
( 17) جاء في إنجيل متى [7 : 11] قول المسيح:(( أبوكم الذي في السموات يهب خيرات للذين يسألونه ))
ويقول المسيح في الفقرة الحادية والعشرين من نفس الإصحاح : (( ما كل من يقول لي : يا رب ! يدخل في ملكوت السموات ، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات ))
(1/60)
ويقول أيضاً في [ 12 : 5 ] من إنجيل متى : (( من يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي ))
وجاء أيضاً في إنجيل متى [ 16 : 17 ] قول المسيح لبطرس : (( طُوبَى لَكَ يَاسِمْعَانَ فَمَا أَعْلَنَ لَكَ هَذَا لَحْمٌ وَدَمٌ، بَلْ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.))
تأمل عزيزي القارئ في كلام المسيح لسمعان فإنه لم يقل له طوبى لك فإنني أنا الذي أعلنت لك هذا أو الآب المتجسد هو أعلن لك هذا وإنما قال له أبي الذي في السموات هو أعلن لك هذا !
وقد صرح المسيح مراراً وتكراراً من خلال النصوص السابقة بأن الأب موجود في السموات ، والسؤال الذي نوجهه للنصارى هو :
كيف يصرح المسيح بأن الأب موجود في السماء مع أنكم تدعون أن الأب متجسد فيه ومتحد معه ؟
فلو كان الأب متحد معه وهو صورة هذا الآب لأمتنع أن يشير إليه في السماء !
وبمعنى آخر لو كان المسيح هو الإله ، لامتنع أن يشير إلى إله آخر في السموات .
وإذا قلتم أن أقنوم الابن يشير إلى أقنوم الأب ، نقول لكم أن هذا يمنع الوحدة ما بين الأقانيم المزعومة ويؤكد انفصالها واستقلالها . .
(( لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ))
(18) كتب يوحنا في [ 20 : 17 ] أن المسيح قال لمريم المجدلية : (( قولي لهم إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ))
ونحن نسأل :
إذا كان المسيح هو صورة الله على الأرض وأن الآب متجسد فيه ، فمن هو يا ترى هذا الإله الذي سوف يصعد إليه المسيح ؟!
إذا قلتم أن أقنوم الابن سوف يصعد إلى أقنوم الأب فثبت امتناع الوحدة بين هذه الأقانيم المزعومة وثبت الانفصال بينها وأنه إله على الأرض وإله في السماء وهذا هو الشرك بأم عينه .
وقد قال المسيح في إنجيل يوحنا [ 14 : 28 ] : (( أبي أعظم مني ))
وإننا تعجب كيف يكون الأب أعظم من الابن وهما شيء واحد وجوهر واحد لذات واحدة وقدرة واحدة حسب ما يؤمن به المسيحيون ؟!
(1/61)
فلو كان الابن هو جوهر واحد مع الآب لما فرق الابن بينه وبين الآب .
(19) كتب بولس في الرسالة الأولى لكورنثوس [ 15 : 28 ] ما نصه :
(( وَعِنْدَمَا يَتِمُّ إِخْضَاعُ كُلُّ شَيْءٍ لِلابْنِ، فَإِنَّ الابْنَ نَفْسَهُ سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ اللهُ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ! ))
أيها القارئ الكريم :
لقد بين بولس أن المسيح سيخضع في النهاية لله، و هذا بحد ذاته من أوضح الأدلة على عدم ألوهية المسيح لأن الإله لا يخضع لأحد، كما أن في قوله : (( فَإِنَّ الابْنَ نَفْسَهُ سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ )) دلالة أخرى على عدم ألوهية المسيح لأن مفاد هذا النص أن الله تعالى هو الذي كان قد أخضع للمسيح كل شيء، مما يعني أن المسيح لم يكن يستطع، بذاته و مستقلا عن الله، أن يسخر و يخضع الأشياء. فهل مثل هذا يكون إلها ؟!!
ومن جهة أخرى :
نقول لأصحاب التثليث لا شك أن الخاضع هو غير المخضوع له ، فأين الوحدة والمساواة بين الأقانيم عندما يخضع الابن للأب ؟!
ثم كيف يخضع الابن للأب مع أنكم تدعون أن الآب والابن إله واحد لجوهر واحد وقدرة واحده وان الآب هو عين الابن والابن هو عين الآب وهما شيء واحد أم أنكم تؤمنون بتعدد الآلهة وان لله شريكاً في الملك سيخضع له في النهاية ؟
(20) جاء في إنجيل متى [23 : 9 ] ان المسيح قال لأتباعه :
(( ولا تدعوا لكم أباً على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السموات ، ولا تدعوا معلمين ، لأن معلمكم واحد المسيح ))
(1/62)
من المعروف أنه في لغة الإنجيل، كثيرا ما يعبر عن الله بالآب، و هنا كذلك ، فقول عيسى لأتباعه : (( لا تدعوا لكم أبا على الأرض لأن أباكم واحد الذي في السماوات )) يعنى ليس لكم إله إلا الله وحده الذي في السماوات، و هذا صريح في نفي ألوهية كل أحد ممن هو على الأرض، و يدخل في هذا النفي المسيح كذلك لكونه على الأرض .لقد سمى المسيح نفسه معلماً في الأرض لهم ، وشهد أن إلههم في السماء واحد .
فهل يفقه المسيحيون هذه النصوص أم على قلوب أقفالها ؟!
(21) كتب متى في [21 : 18 ـ 19] و مرقس [ 11 : 11 ـ 4] ما نصه :
(( فدخل يسوع أورشليم... و في الغد لما خرجوا من بيت عنيا جاع. فنظر شجرة تين من بعيد عليها ورق و جاء لعله يجد فيها شيئا فلما جاء إليها لم يجد شيئا إلا ورقا. لأنه لم يكن وقت التين. فأجاب يسوع و قال لها : لا يأكل أحد منك ثمرا بعد إلى الأبد!.))
إن هذا النص يبين أن المسيح لما رأى الشجرة من بعد، لم يدر و لم يعلم أنها في الواقع غير مثمرة، بل توقع لأول وهلة أن تكون مثمرة، لذلك ذهب باتجاهها، لكن لما اقترب منها ظهر له أنها غير مثمرة فعند ذلك غضب عليها و لعنها!.
و في هذه القصة سنجد عدة دلائل واضحة على نفي لاوهوت يسوع المسيح :
فأولاً : عدم علمه منذ البداية بخلو الشجرة من الثمر يؤكد بشريته المحضة لأن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء.
و ثانياً : كونه جاع تأكيد آخر على أنه بشر محض يحتاج للغذاء للإبقاء على حياته.
فإن قالوا بأنه جاع بحسب ناسوته، قلنا أفلم يكن لاهوته قادرا على إمداد ذلك الناسوت (أي الجسد)؟! خاصة أنكم تدعون أن اللاهوت طبيعة دائمة له و حاضرة لا تنفك عنه!!
(1/63)
و ثالثاً : أنه لما وجد الشجرة غير مثمرة لعنها و بقي جائعا! و لو كان إلها لكان عوضا عن أن يلعنها و يبقى جائعا، يأمرها أمرا تكوينيا أن تخرج ثمرها على الفور، لأن الله لا يعجزه شيء بل يقول للشيء كن فيكون، فكيف يُصْرَفون عن هذه الدلائل الواضحات و الآيات البينات! و هل بعد الحق إلا الضلال؟
(22) كتب يوحنا في [ 10 : 23 ] ما نصه : (( كَانَ يَسُوعُ يَتَمَشَّى فِي الْهَيْكَلِ فِي قَاعَةِ سُلَيْمَانَ. فَتَجَمَّعَ حَوْلَهُ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: حَتَّى مَتَى تُبْقِينَا حَائِرِينَ بِشَأْنِكَ؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ حَقّاً، فَقُلْ لَنَا صَرَاحَةً. فَأَجَابَهُمْ يَسُوعُ: «قُلْتُ لَكُمْ، وَلكِنَّكُمْ لاَ تُصَدِّقُونَ. وَالأَعْمَالُ الَّتِي أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي، هِيَ تَشْهَدُ لِي.))
أيها القارئ الكريم :
تأمل إلي قول اليهود للمسيح : (( إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ حَقّاً، فَقُلْ لَنَا صَرَاحَةً )) فإنهم لم يقولوا له : إن كنت الله أو أبن الله ، لأنهم لم يعلموا من دعواه ذلك ، ولا اختلاف عند اليهود أن الذي انتظروه هو إنسان نبي مرسل ، ليس بإنسان إله كما يزعمون . فتأمل !
( 23) وإذا تأملنا في سؤال يوحنا المعمدان للمسيح عندما أرسل للمسيح من يسأله : (( أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر )) متى [ 11 : 2 ] سنجد أن هذا السؤال من يوحنا المعمدان يدل على ان المسيح نبي مرسل وهو المسيح الذي بشرت به التوراة ، ولا يوجد نص واحد في التوراة يقول أن الله سيأتي بنفسه إلي الأرض . فتأمل .
(1/64)
(24) لقد جاء في إنجيل يوحنا [ 10 : 31] نصاً واضحاً يسقط تماماً ادعاء المسيحيين من أن رب العالمين حل في جسد المسيح وذلك عندما قال المسيح لليهود في الفقرة الثلاثين من الإصحاح العاشر (( أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ!)) أنكر عليه اليهود هذا القول وسارعوا لرجمه بالحجارة ، فعرفهم المسيح وجه خطأهم في الفهم بأن هذه العبارة لا تقتضي ألوهيته وبين لهم أن استعمال اللفظ على سبيل المجاز وليس على حقيقته وإلا لزم منهم أن يكونوا كلهم آلهة !
تأمل معي أيها القارئ الكريم في نص المحاورة بين المسيح واليهود بعد أن قال لهم (( أنا والآب واحد )) :
(( فتناول الْيَهُودُ، أيضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَرَيْتُكُمْ أَعْمَالاً صَالِحَةً كَثِيرَةً مِنْ عِنْدِ أَبِي، فَبِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» فأجابه اليهود قائلين : ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك ولكن لأجل التجديف ، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلهاً فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي شَرِيعَتِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ ؟ فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو أُولئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ آلِهَةً وَالْكِتَابُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ فَهَلْ تَقُولُونَ لِمَنْ قَدَّسَهُ الآبُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَالَمِ: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: أَنَا ابْنُ اللهِ ؟ ))
لا شك عزيزي القارئ أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح : (( أنا والآب واحد )) إنه يدعي الألوهية فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه ، ويرجموه ، فرد عليهم المسيح خطأهم ، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته ، لآن ( آساف ) قديماً أطلق على القضاة أنهم آلهة ، بقوله الثابت في المزمور الثاني والثمانين الفقرة السادسة [82 : 6 ] : (( أنا قلت : إنكم آلهة ، وبنو العلي كلكم )) .
(1/65)
ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة ، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطاناً أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله .
وبموجب هذا المنطق السهل الذي شرحه المسيح لليهود ، ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله .
ولا يقتضي كل من التعبيرين أن في المسيح ، أو أن في القضاة لاهوتاً حسبما فهمه اليهود خطأ .
هذا ولو لم يكن ما ضربه المسيح لهم من التمثيل جواباً قاطعاً لما تخيلوه من إرادة ظاهر اللفظ ، لكان ذلك مغالطة منه وغشاً في المعتقدات المفضي الجهل بها إلي سخط الله ، وهذا لا يليق بالأنبياء المرسلين الهادين إلي الحق .
فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد ، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم المثل ، فيكون قد أمرهم بعبادة غيره ، وصرفهم عن عبادته ، والتقدير أنه هو الإله الذي يعبد ، فيكون ذلك غشاً وضلالة من المسيح لهم وهذا لا يليق بالأنبياء والمرسلين فضلاً ممن يدعى فيه الألوهية .
هذا وقد أطلق الكتاب المقدس لفظ الله على كثيرين ولم يقل أحد أن فيهم طبيعة لاهوتية طبقاً للآتي :
1- ورد في سفر القضاة [ 13 : 21 ، 22 ] إطلاق لفظ الله على الملك : يقول النص (( وَلَمْ يَتَجَلَّ مَلاَكُ الرَّبِّ ثَانِيَةً لِمَنُوحَ وَزَوْجَتِهِ. عِنْدَئِذٍ أَدْرَكَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ. فَقَالَ مَنُوحُ لاِمْرَأَتِه نموت موتاً لأَنَّنَاقَدْ رَأَيْنَا الله.))
وواضح أن الذي تراءى لمنوح وامرأته كان الملك .
2- ورد في سفر الخروج [ 22 : 8 ] إطلاق لفظ الله على القاضي : يقول النص : (( وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم ، هل يمد يده إلى ملك صاحبه ))
فقوله : إلى الله ، أي : إلى القاضي
(1/66)
3- وكذلك أيضاً جاء في سفر الخروج [22 : 9] إطلاق لفظ الله على القاضي : يقول النص (( في كل دعوى جنائية من جهة ثور أو حمار أوشاة أو ثوب أو مفقود ما ، يقال : إن هذا هو ، تقدم إلى الله دعواها ، فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين ))
فقوله إلى الله ، أي : إلى القاضي نائب الله .
4- كما أطلق الكتاب المقدس لفظ إله على القاضي فقد ورد في المزمور [ 82 : 1 ] : (( الله قائم في مجمع الله ، في وسط الآلهة يقضي ))
5- وأطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على الأشراف فقد ورد في المزمور [ 138 : 1 ] قول داود عليه السلام : (( أحمدك من كل قلبي ، قدام الآلهة أعزف لك ))
6- وأطلقه على الأنبياء كموسى في سفر الخروج [7 : 1 ] :
يقول النص : (( قال الرب لموسى : انظر أنا جعلتك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك ))
والخلاصة :
لو كان إطلاق كلمة الله أو إله على المخلوق يقتضي أن اللاهوت حل فيه للزم بناء على النصوص السابقة أن يكون الملك والقاضي والأشراف يكونون آلهة ، وهذا لم يقل به أحد .
ولكن بالنظر لكون الملائكة والقضاة نواباً عن الله أطلق عليهم كلمة الله وبالنظر إلي أن أولئك الأشراف فيهم صفة المجد والقوة اللتين يوصف بهما الله ، أطلق عليهم لفظ الله مجازاً .
وبعد كل ما قد ذكرناه نقول أن الواجب فهمه من قول المسيح : (( أنا و الآب واحد )) إنما يريد أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله ، كما يقول رسول الرجل : أنا ومن أرسلني واحد ، ويقول الوكيل : أنا ومن وكلني واحد ، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه ، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته، ويطالب له بحقوقه وكذلك قول المسيح : (( من رآني فقد رأى الآب )) يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي وهذا ما يقتضيه السياق الذي جاءت به هذه الفقرات لأن أسفار العهد الجديد اتفقت على عدم إمكان رؤية الله طبقاً للآتي :
1- ورد في إنجيل يوحنا [ 1 : 18 ] :
(1/67)
(( الله لم يره أحد قط ))
2- ما ورد في إنجيل يوحنا [ 5 : 37 ] : (( والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته ))
3- ما ورد في رسالة يوحنا الأولى [ 4 : 12 ] :
(( الله لم ينظره أحد قط ))
4- ويقول بولس في رسالته الأولى إلي تيموثاوس [ 6 : 16 ] عن الله :
(( الذي لم يره أحد ولا يقدر أن يراه ))
فإذا تقرر ذلك فليس معنى قول المسيح (( الذي رآني فقد رأى الآب )) ان الذي يرى المسيح يرى الله لأن ذلك طبقاً للأدلة السابقة من المحال .فلا بد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل و تساعد عليه النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى.
و بمراجعة بسيطة للأناجيل نجد أن مثل هذا التعبير جاء مرات عديدة ، دون أن يقصد به قطعا أي تطابق و عينية حقيقية بين المفعولين .
مثلاً في إنجيل لوقا [10/16] يقول المسيح لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد للتبشير:
(( الذي يسمع منكم يسمعني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني ))
و لا يوجد حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله : (( من يسمعكم يسمعني )) على أن المسيح حالٌّ بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته !
و كذلك جاء في إنجيل متى [10/40] أن المسيح قال لتلاميذه : (( من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي أرسلني )) .
و مثله ما جاء في إنجيل لوقا [9 / 48] من قول المسيح في حق الولد الصغير :
(( من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني و من قبلني يقبل الذي أرسلني ))
و وجه هذا المجاز واضح و هو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو ممثلا عن نفسه فكل ما يُعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص المرسِل أيضا.
(1/68)
وإذا عدنا للعبارة وللنص الذي جاءت فيه ، سنرى أن الكلام كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح و أنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته و أفعاله و أقواله و تعاليمه هي طريق السير و الوصول إلى الله ، وهذا لا شك فيه فكل قوم يكون نبيهم ورسولهم طريقا لهم لله ، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم و ما زلت تريد رؤية الله، و معلوم أن الله تعالى ليس جسما حتى يرى ، فمن رأى المسيح و معجزاته و أخلاقه و تعاليمه التي تجلى فيها الله تبارك و تعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله فالرؤيا رؤيا معنوية .
و جاء نحو هذا المجاز أيضا ، في القرآن الكريم ، كثيراً كقوله تعالى : (( وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى )) الأنفال : 17 أو قوله سبحانه : (( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ )) الفتح : 10 أو قوله : (( مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ )) النساء : 80 .
ولقد ورد في رسالة بولس إلي أهل غلاطية [ 3 : 28 ] قوله : (( لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع ))
ونحن نسأل هل يعني هذا القول أن أهالي غلاطية متحدون في الجوهر والقوة وسائر الصفات ، أو أنهم متحدون في الإيمان بالمسيح وفي شرف متابعته وهذا هو الأقرب للفهم والعقل .
لقد ورد بإنجيل يوحنا [ 17 : 11 ] القول المنسوب للمسيح في صلاته لتلاميذه :
(( أيها الآب القدوس _ احفظهم في اسمك الذي أعطيتني _ ليكونوا واحداً كما نحن ))
فهل يفهم أن هذا الاتحاد بين التلاميذ هو اتحاد في الجوهر والذات وسائر الصفات ؟
(1/69)
لاشك أن هذا الفهم محال إذا لا بد أن يكون المقصود أن يكونوا جميعاً واحداً في حب الخير وان تكون غايتهم ورغباتهم واحدة نظير الاتحاد الذي بين المسيح وبين الله في إرادة الخير والمحبة للمؤمنين وهذا ما يفيده قول المسيح الوارد في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر الفقرة الثانية والعشرين : (( وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد )) .(1/70)
نقض أدلة النصارى على ألوهية المسيح
قول المسيح : أنا والآب واحد
يزعم النصارى أن قول المسيح : (( أنا و الأب واحد )) هو دليل على لاهوته .
الرد على هذا الاستدلال :
العجب من النصارى أنهم يستدلون من قول المسيح (أنا والآب واحد) على ألوهيته مع ان هذه العبارة جاءت ضمن محاورة جرت بين المسيح واليهود وهذه المحاورة من شأنها تسقط تماما ادعائهم بألوهية المسيح :
أولاً : عندما قال المسيح لليهود في الفقرة الثلاثين من الإصحاح العاشر من إنجيل يوحنا : (( أَنَا وَالآبُ واحد )) أنكر عليه اليهود هذا القول وسارعوا لرجمه بالحجارة ، فعرفهم المسيح وجه خطأهم في الفهم بأن هذه العبارة لا تقتضي ألوهيته وبين لهم أن استعمال اللفظ على سبيل المجاز وليس على حقيقته وإلا لزم منهم أن يكونوا كلهم آلهة !
تأمل معي أيها القارئ الكريم في نص المحاورة بين المسيح واليهود بعد أن قال لهم(( أنا والآب واحد )) :
(( فتناول الْيَهُودُ، أيضاً حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ. فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: أَرَيْتُكُمْ أَعْمَالاً صَالِحَةً كَثِيرَةً مِنْ عِنْدِ أَبِي، فَبِسَبَبِ أَيِّ عَمَلٍ مِنْهَا تَرْجُمُونَنِي؟» فأجابه اليهود قائلين : ليس من أجل الأعمال الحسنة نرجمك ولكن لأجل التجديف ، وإذ أنت إنسان تجعل نفسك إلهاً فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَلَيْسَ مَكْتُوباً فِي شَرِيعَتِكُمْ: أَنَا قُلْتُ إِنَّكُمْ آلِهَةٌ ؟ فَإِذَا كَانَتِ الشَّرِيعَةُ تَدْعُو أُولئِكَ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمْ كَلِمَةُ اللهِ آلِهَةً وَالْكِتَابُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ فَهَلْ تَقُولُونَ لِمَنْ قَدَّسَهُ الآبُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْعَالَمِ: أَنْتَ تُجَدِّفُ، لأَنِّي قُلْتُ: أَنَا ابْنُ اللهِ ؟
(1/71)
لا شك عزيزي القارئ أن معنى هذه المحاورة أن اليهود فهموا خطأ من قول المسيح:(( أنا والآب واحد )) إنه يدعي الألوهية فأرادوا لذلك أن ينتقموا منه ، ويرجموه ، فرد عليهم المسيح خطأهم ، وسوء فهمهم بأن هذه العبارة لا تستدعي ألوهيته ، لآن ( آساف ) قديماً أطلق على القضاة أنهم آلهة ، بقوله الثابت في المزمور الثاني والثمانين الفقرة السادسة [82 : 6 ] : (( أنا قلت : إنكم آلهة ، وبنو العلي كلكم )) .
ولم يفهم أحد من هذه العبارة تأليه هؤلاء القضاة ، ولكن المعنى المسوغ لإطلاق لفظ آلهة عليهم أنهم أعطوا سلطاناً أن يأمروا ويتحكموا ويقضوا باسم الله .
وبموجب هذا المنطق السهل الذي شرحه المسيح لليهود ، ساغ للمسيح أن يعبر عن نفسه بمثل ما عبر به آساف عن أولئك القضاة الذين صارت إليهم كلمة الله .
ولا يقتضي كل من التعبرين أن في المسيح ، أو أن في القضاة لاهوتاً حسبما فهمه اليهود خطأ .
هذا ولو لم يكن ما ضربه المسيح لهم من التمثيل جواباً قاطعاً لما تخيلوه من إرادة ظاهر اللفظ ، لكان ذلك مغالطة منه وغشاً في المعتقدات المفضي الجهل بها إلي سخط الله ، وهذا لا يليق بالأنبياء المرسلين الهادين إلى الحق .
فإن كان المسيح هو رب العالمين الذي يجب أن يعبد ، وقد صرفهم عن اعتقاد ذلك بضربه لهم المثل ، فيكون قد أمرهم بعبادة غيره ، وصرفهم عن عبادته ، والتقدير أنه هو الإله الذي يعبد ، فيكون ذلك غشاً وضلالة من المسيح لهم وهذا لا يليق بالأنبياء والمرسلين فضلاً ممن يدعى فيه الألوهية .
هذا وقد أطلق الكتاب المقدس لفظ الله على كثيرين ولم يقل أحد أن فيهم طبيعة لاهوتية طبقاً للآتي :
(1/72)
1- ورد في سفر القضاة [ 13 : 21 ، 22 ] إطلاق لفظ الله على الملك : يقول النص (وَلَمْ يَتَجَلَّ مَلاَكُ الرَّبِّ ثَانِيَةً لِمَنُوحَ وَزَوْجَتِهِ. عِنْدَئِذٍ أَدْرَكَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ. فَقَالَ مَنُوحُ لاِمْرَأَتِه نموت موتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللهَ. )
وواضح أن الذي تراءى لمنوح وامرأته كان الملك .
2- ورد في سفر الخروج [ 22 : 8 ] إطلاق لفظ الله على القاضي :
يقول النص : (( وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم ، هل يمد يده إلى ملك صاحبه ))
فقوله : إلى الله ، أي : إلى القاضي
3- وكذلك أيضاً جاء في سفر الخروج [ 22 : 9 ] إطلاق لفظ الله على القاضي :
يقول النص (( في كل دعوى جنائية من جهة ثور أو حمار أو شاة أو ثوب أو مفقود ما ، يقال : إن هذا هو ، تقدم إلى الله دعواها ، فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين ))
فقوله إلى الله ، أي : إلى القاضي نائب الله .
4- كما أطلق الكتاب المقدس لفظ إله على القاضي فقد ورد في المزمور [ 82 : 1 ] : (( الله قائم في مجمع الله ، في وسط الآلهة يقضي ))
5- وأطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على الأشراف فقد ورد في المزمور [ 138 : 1 ] قول داود عليه السلام :
(( أحمدك من كل قلبي ، قدام الآلهة أعزف لك ))
6- وأطلقه على الأنبياء كموسى في سفر الخروج [7 : 1 ] :
يقول النص : (( قال الرب لموسى : انظر أنا جعلتك إلهاً لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك ))
والخلاصة :
لو كان إطلاق كلمة الله أو إله على المخلوق يقتضي أن اللاهوت حل فيه للزم بناء على النصوص السابقة أن يكون الملك والقاضي والإشراف يكونون آلهة ، وهذا لم يقل به أحد .
ولكن بالنظر لكون الملائكة والقضاة نواباً عن الله أطلق عليهم كلمة الله وبالنظر إلي أن أولئك الأشراف فيهم صفة المجد والقوة اللتين يوصف بهما الله ، أطلق عليهم لفظ الله مجازاً .
(1/73)
وبعد كل ما قد ذكرناه نقول ان الواجب فهمه من قول المسيح : (( أنا و الآب واحد )) إنما يريد أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله ، كما يقول رسول الرجل : أنا ومن أرسلني واحد ، ويقول الوكيل : أنا ومن وكلني واحد ، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه ، ويؤدي عنه ما أرسله به ويتكلم بحجته ، ويطالب له بحقوقه .
ثانياً : هذا التعبير الذي أطلقه المسيح على نفسه ، بأنه و الآب واحد، أطلقه بعينه تماما على الحواريين عندما قال في نفس إنجيل يوحنا : (( و لست أسأل من أجل هؤلاء فقط، بل أيضا من أجل الذي يؤمنون بي بكلامهم ليكون الجميع واحدا كما أنك أنت أيها الآب فيَّ و أنا فيك ، ليؤمن العالم أنك أرسلتني ، و أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ، ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد . أنا فيهم و أنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد )) إنجيل يوحنا 17/ 20 ـ 23.
إذن فالوحدة هنا ليس المقصود منها معناها الحرفي ، أي الانطباق الذاتي الحقيقي ، و إنما هي وحدة مجازية أي الاتحاد بالهدف و الغرض و الإرادة، و هذا ظاهر جدا من قوله( ليكونوا هم أيضا واحدا فينا ) و قوله : ( ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد، أنا فيهم و أنت فيَّ ليكونوا مكملين إلى واحد ) ، حيث أن المسيح دعا الله تعالى أن تكون وحدة المؤمنين الخلَّص مع بعضهم البعض مثل وحدة المسيح مع الله ، و لا شك أن وحدة المؤمنين مع بعضهم البعض وصيروتهم واحداً ليست بأن ينصهروا مع بعض ليصبحوا إنساناً واحداً جسماً و روحاً !! بل المقصود أن يتحدوا مع بعضهم بتوحد إرادتهم و مشيئتهم و محبتهم و عملهم و غرضهم و هدفهم و إيمانهم…الخ أي هي وحدة معنوية ، فكذلك كانت الوحدة المعنوية بين الله تعالى و المسيح .
(1/74)
و يؤكد ذلك أن المسيح دعا الله تعالى لوحدة الحواريين المؤمنين ليس مع بعضهم البعض فحسب بل مع المسيح و مع الله تعالى أيضاً ، بحيث يكون الجميع واحداً ، فلو كانت وحدة المسيح مع الله هنا تجعل منه إلهاً، لكانت وحدة الحواريين مع المسيح و مع الله تجعل منهم آلهة أيضا!! و للزم من ذلك أن المسيح يدعو الله تعالى أن يجعل تلاميذه آلهة، و خطورة ذلك ـ كما يقول الإمام أبي حامد الغزالي ـ ببال من خلع ربقة العقل، قبيح، فضلا عمن يكون له أدنى خيار صحيح، بل هذا محمول على المجاز المذكور، و هو أنه سأل الله تعالى أن يفيض عليهم من آلائه و عنايته و توفيقه إلى ما يرشدهم إلى مراده اللائق بجلاله بحيث لا يريدون إلا ما يريده و لا يحبون إلا ما يحبه و لا يبغضون إلا ما يبغضه، و لا يكرهون إلا ما يكرهه، و لا يأتون من الأقوال و الأعمال إلا ما هو راض به، مؤثر لوقوعه، فإذا حصلت لهم هذه الحالة حسن التجوز .
و يدل على صحة ذلك أن إنسانا لو كان له صديق موافق لغرضه و مراده بحيث يكون محباً لما يحبه و مبغضاً لما يبغضه كارهاً لما يكرهه، جاز أن يقال : أنا و صديقي واحد. و يتأكد هذا المعنى المجازي لعبارة المسيح إذا لا حظنا الكلام الذي جاء قبلها و أن المسيح كان يقول أن الذي يأتي إلي و يتبعني أعطيه حياة أبدية و لا يخطفه أحد مني، لأن أبي الذي هو أعظم من الكل هو الذي أعطاني أتباعي هؤلاء و لا أحد يستطيع أن يخطف شيئا من أبي، أنا و أبي واحد، يعني من يتبعني يتبع في الحقيقة أبي لأنني أنا رسوله و ممثل له و أعمل مشيئته فكلانا شيء واحد. و هذا مثل قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم عن سيدنا محمد ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) ، و أعتقد أن قصد الوحدة المجازية واضح جداً .
(1/75)
و قد جاء نحو هذا التعبير بالوحدة المجازية مع الله ، عن بولس أيضا في إحدى رسائله و هي رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس ( 6 / 16 ـ17 ) حيث قال : ( أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول : يكون الاثنان جسدا واحدا ؟ و أما من التصق بالرب فهو روح واحد )، و عبارة الترجمة العربية الكاثوليكية الجديدة : ( و لكن من اتحد بالرب صار و إياه روحا واحدا ) .
فكل هذا يثبت أن الوحدة هنا لا تفيد أن صاحبها هو الله تعالى عينه ـ تعالى الله عن ذلك ـ و إنما هي وحدة مجازية كما بينا .
و يشبه هذا عندنا في الإسلام ما جاء في الحديث القدسي الشريف الصحيح الذي رواه أبو هريرة عن خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال : إن الله تعالى يقول (... و ما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها... الحديث )
و لا شك أنه ليس المقصود من الحديث أن الله تعالى يحل بكل جارحة من هذه الجوارح، أو أنه يكون هذه الجوارح بعينها !! لأن هذا من المحال، بل المقصود أنه لما بذل العبد أقصى جهده في عبادة الله و طاعته، صار له من الله قدرة و معونة خاصتين، بهما يقدر على النطق باللسان، و البطش باليد.. وفق مراد الله عز و جل و طبق ما يشاؤه الله تعالى و يحبه . ( من كتاب الأستاذ سعد رستم )
ثالثاً : جاء في إنجيل يوحنا [ 17 : 11 ] أن المسيح طلب من الآب أن يحفظ تلامذته فقال : (( يا أبت القدوس احفظهم باسمك الذي وهبته لي ليكونوا واحداً كما نحن واحد ))
فهنا ذكر المسيح وجه شبه بينه وبين تلاميذه ، ولما كان المسلم به أن وجه الشبه بين المشبهين لا بد أن يكون متحققاً في طرفي التشبيه ، كان من غير الجائز أن يكون وجه الشبه بين وحدة المسيح بالآب ، ووحدة التلاميذ بعضهم ببعض ، هو الجوهر والمجد والمقام .
(1/76)
لأن هذا المعنى لو كان موجوداً في المشبه به ، وهو وحدة المسيح بالآب على الفرض والتقدير ، فهو قطعاً غير موجود في المشبه وهو وحدة التلاميذ بعضهم ببعض .
لذلك اقتضى القول بأن وجه الشبه هو الغاية والطريق وإرادة الخير والمحبة دون أن تكون هناك خصومة أو مخالفة أو عداوة .
فالتشبيه في قول المسيح : (( ليكونوا واحداً كما نحن )) يفسر لنا معنى الوحدة في قوله : (( أنا والآب واحد )) .
قول المسيح : من رآني فقد رأى الآب
يستدل النصارى على لاهوت المسيح بقوله الوارد في إنجيل يوحنا : (( من رآني فقد رأى الآب ))
الرد على هذا الاستدلال :
إن ما أراده المسيح من هذه العبارة هو : أنه من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي ، وهذا ما يقتضيه السياق الذي جاءت به هذه الفقرة لأن أسفار العهد الجديد اتفقت على عدم إمكان رؤية الله طبقاً للآتي :
- ورد في إنجيل يوحنا [ 1 : 18 ] :
(( الله لم يره أحد قط ))
- ما ورد في إنجيل يوحنا [ 5 : 37 ] :
(( والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته ))
- ما ورد في رسالة يوحنا الأولى [ 4 : 12 ] :
(( الله لم ينظره أحد قط ))
- ويقول بولس في رسالته الأولى إلى تيموثاوس [ 6 : 16 ] عن الله :
(( الذي لم يره أحد ولا يقدر أن يراه ))
فإذا تقرر ذلك فليس معنى قول المسيح (( الذي رآني فقد رأى الآب )) ان الذي يرى المسيح يرى الله لأن ذلك طبقاً للأدلة السابقة من المحال . فلا بد من المصير إلى مجاز منطقي يقبله العقل و تساعد عليه النصوص الإنجيلية المماثلة الأخرى .
و بمراجعة بسيطة للأناجيل نجد أن مثل هذا التعبير جاء مرات عديدة ، دون أن يقصد به قطعا أي تطابق و عينية حقيقية بين المفعولين .
مثلاً في إنجيل لوقا [10/16] يقول المسيح لتلاميذه السبعين الذين أرسلهم اثنين اثنين إلى البلاد للتبشير:
(1/77)
(( الذي يسمع منكم يسمعني و الذي يرذلكم يرذلني و الذي يرذلني يرذل الذي أرسلني ))
و لا يوجد حتى أحمق فضلا عن عاقل يستدل بقوله : (( من يسمعكم يسمعني )) ، على أن المسيح حال بالتلاميذ أو أنهم المسيح ذاته !
و كذلك جاء في إنجيل متى [10/40] أن المسيح قال لتلاميذه : (( من يقبلكم يقبلني و من يقبلني يقبل الذي أرسلني )) .
و مثله ما جاء في إنجيل لوقا [9 / 48] من قول المسيح في حق الولد الصغير :
(( من قبل هذا الولد الصغير باسمي يقبلني و من قبلني يقبل الذي أرسلني ))
و وجه هذا المجاز واضح و هو أن شخصا ما إذا أرسل رسولا أو مبعوثا أو ممثلا عن نفسه فكل ما يُعَامَلُ به هذا الرسول يعتبر في الحقيقة معاملة للشخص المرسِل أيضا.
وإذا عدنا للعبارة وللنص الذي جاءت فيه ، سنرى أن الكلام كان عن المكان الذي سيذهب إليه المسيح و أنه ذاهب إلى ربه، ثم سؤال توما عن الطريق إلى الله، فأجابه المسيح أنه هو الطريق، أي أن حياته و أفعاله و أقواله و تعاليمه هي طريق السير و الوصول إلى الله ، وهذا لا شك فيه فكل قوم يكون نبيهم ورسولهم طريقا لهم لله ، ثم يطلب فيليبس من المسيح أن يريه الله، فيقول له متعجبا: كل هذه المدة أنا معكم و ما زلت تريد رؤية الله، و معلوم أن الله تعالى ليس جسما حتى يرى ، فمن رأى المسيح و معجزاته و أخلاقه و تعاليمه التي تجلى فيها الله تبارك و تعالى أعظم تجل، فكأنه رأى الله فالرؤيا رؤيا معنوية .
و جاء نحو هذا المجاز أيضا ، في القرآن الكريم، كثيراً كقوله تعالى : (( و ما رميت إذا رميت و لكن الله رمى )) الأنفال/ 17. أو قوله سبحانه : (( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم )) الفتح / 10، أو قوله : من يطع الرسول فقد أطاع الله )) النساء / 80.
ولقد ورد في رسالة بولس إلي أهل غلاطية [ 3 : 28 ] قوله : (( لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع ))
(1/78)
ونحن نسأل هل يعني هذا القول أن أهالي غلاطية متحدون في الجوهر والقوة وسائر الصفات ، أو أنهم متحدون في الإيمان بالمسيح وفي شرف متابعته وهذا هو الأقرب للفهم والعقل .
لقد ورد بإنجيل يوحنا [ 17 : 11 ] القول المنسوب للمسيح في صلاته لتلاميذه :
(( أيها الآب القدوس _ احفظهم في اسمك الذي أعطيتني _ ليكونوا واحداً كما نحن ))
فهل يفهم أن هذا الاتحاد بين التلاميذ هو اتحاد في الجوهر والذات وسائر الصفات ؟
لاشك أن هذا الفهم محال إذا لا بد أن يكون المقصود أن يكونوا جميعاً واحداً في حب الخير وان تكون غايتهم ورغباتهم واحدة نظير الاتحاد الذي بين المسيح وبين الله في إرادة الخير والمحبة للمؤمنين وهذا ما يفيده قول المسيح الوارد في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر الفقرة الثانية والعشرين : (( وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد )) .
قول المسيح : أنا في الآب والآب في
ويستدل المسيحيون من هذا النص بالاتحاد والحلول بين الله والمسيح .
الرد على هذا الاستدلال :
أولاً : أن في الكتاب المقدس عدة فقرات بحق الحواريين والمؤمنين تشبه عبارة((أنا في الآب والآب في )) ومع ذلك فالمسيحيين لا يفسرونها كما فسروا قول المسيح : (( أنا في الآب والآب في )) .
فلو كان قول المسيح (( أنا في الآب والآب في )) دليل على الاتحاد والحلول لأصبح جميع الحواريين والمؤمنين مثله سواء بسواء ذلك لأن المسيح قال لهم في إنجيل يوحنا [ 14 : 20 ] :
1 - ( ( في ذلك اليوم تعلمون أني أنا في أبي و أنتم في وأنا فيكم ))
2 - وورد في رسالة يوحنا الأولى في الإصحاح الثاني قوله : (( إن ثبت فيكم ما سمعتموه من البدء
فأنتم أيضاً تثبتون في الابن وفي الآب ))
3- وأيضاً جاء في نفس الرسالة [ 4 : 13 ] قوله : (( بهذا تعرف أننا نثبت فيه وهو فينا )) أي الله
4- ونفس المعنى أيضاً جاء في [ 3 : 24 ] من نفس الرسالة .
(1/79)
فمن هنا عزيزي القارئ نرى كيف أننا لا نستطيع الأخذ بظاهر الكلام ، وإلا لأصبح المسيح والحواريون وجميع المؤمنين آلهة كذلك ، حسب ظاهر ما قيل .
فيفهم عزيزي القارئ أن معنى كون المسيح في الآب أي ثبوته فيه بالمحبة والرضا ، ومعنى كون المؤمنين في المسيح أي ثبوتهم فيه بالمحبة والطاعة لما جاء به من عند الله ويكون الهدف والقصد واحد وهو هداية الناس إلي الله .
وبهذا نعلم بأن الحديث عن الروابط بين الله والمسيح ، أو بين المسيح والمؤمنين ، أو بين الله والمؤمنين لا يسمح بالحديث عن (( روابط بين جواهر )) أو (( اتصال ذات بذات )) وإنما غاية القول فيه أن يكون حديثاً عن صلات روحية معنوية . والله المستعان .
ثانياً : تطرف النصارى بالفهم بعد تشبعهم بفكرة الاتحاد والحلول :
وتطرف النصارى في فهمهم للاتحاد والحلول أدى إلي القول بأن المسيح هو الله ، وليس نبياً كسائر الانبياء ، لأن الآب ( وهو الله ) حسب قولهم حال فيه ومتحد معه ، ويستدلون على ذلك بما ورد بإنجيل يوحنا [ 14 : 10 ، 11 ] من قول منسوب للمسيح :
(( الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي لكن الآب الحال في هو يعمل الأعمال ))
لذلك يقول النصارى إن عبارة _ الحال في _ تفيد اتحاد المسيح بالآب مما يدل على حسب قولهم إن المسيح هو الله .
الرد :
ويرد على ذلك بأن :
هذا الحلول في المسيح هو حلول رضا الله ومحبته وقداسته ورضاه في المسيح ، ومواهبة القدسية فيه ، ويستدل على هذا بالآتي :
أولاً : في العهد الجديد :
1- ورد في رسالة يوحنا الأولى [ 3 : 24 ] في وصف الله :
( من يحفظ وصاياه يثبت فيه وهو فيه ، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا ، من الروح الذي أعطانا )
2- وورد في رسالة يوحنا الأولى [ 4 : 12 ، 13 ] :
( إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فيه ، ومحبته قد تكلمت فينا ، بهذا نعرف أننا نثبت فيه وهو فينا )
ثانياً : في العهد القديم :
1- ورد في المزمور [ 68 : 16] :
(1/80)
( ولماذا أيتها الجبال المسنمة ترصدن الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه ، بل الرب يسكن فيه إلي الأبد )
2- وورد في مزمور [ 135 : 21 ] :
( مبارك الرب من صهيون الساكن في أورشليم )
وهنا طبقاً للنصوص السابقة نجد أنفسنا بين أحد أمرين :
الأمر الأول :
إن من يؤمن بالمسيح ويحفظ وصاياه وأحب المؤمنين به يثبت الله فيه ، ويثبت هو في الله ، وهذا الحلول بعينه بلا مزية أو فرق بين المسيح وبينه ، وبذلك يتحد الجميع بالله وبحلولهم في الله ، والله يحل فيهم ، ويكون كل واحد من هؤلاء المؤمنين بالمسيح أو ممن يحفظ وصاياه ، هو الله شأنه شأن المسيح نفسه طبقاً لمنطق النصارى في الحلول .
وكذلك الأمر بالنسبة لاتحاد الله وحلوله في بالجبل أو بمدينة أورشليم ، فيكون الجبل ا ومدينة أورشليم هو الله طبقاً للمنطق السابق .
وهذا بالبداهة منطق خاطئ بالنسبة لمادة الحلول ، ومادة الثبوت ، ومادة السكن ، والتي جاءت مترادفة في النصوص السابقة متحدة في معناها .
الأمر الثاني :
هو الجنوح إلي التأويل في معنى الألفاظ السابقة وذلك بأن نؤول ثبوت الله فيمن يحفظون وصاياه ، وفيمن يحبون المؤمنين به ، أو فيمن يحبون بعضهم بعضاً ، أو فيمن يؤمنون بالمسيح بثبوته فيهم بالمحبة والرضا .
كذلك سكنى الله في الجبل أو في مدينة أورشليم ، وتأويل ذلك هو وضع اسم الله المقدس عليها ، وجرياً على قاعدة المساواة في التأويل ، يجب تأويل ما ورد من حلول الله في المسيح بحلوله فيه بالمحبة والقداسة والطاعة والرضا وهذا هو المعنى الذي يجب الأخذ به .
ثالثاً : ورد في الكتاب لمقدس أن روح الله حلت على حزقيال وألداد وميداد كما أن روح الله تحل في المؤمنين ، ولم يقل أحد إن واحداً من هؤلاء متحد مع الله ، أو أنه هو الله طبقاً للآتي :
1- ورد في سفر حزقيال [ 11 : 5 ] : قول حزقيال النبي :
( وحل علي روح الرب )
2- ورد في سفر العدد [ 11 : 26 ] عن ألداد وميداد :
(1/81)
( فحل عليهما الروح )
3- ورد برسالة يعقوب [ 4 : 5 ] قول يعقوب :
( الروح الذي حل فينا يشتاق إلي الغيرة والحسد )
4- ورد في رسالة بطرس الأولى [ 4 : 14 ] قول بطرس :
( لأن روح المجد والله يحل عليكم )
فإذا كانت روح الله حلت على حزقيال وألداد وميداد وتحل على النصارى وفيهم ولم يقل أحد بأن واحد من هؤلاء متحد مع الله أو أنه الله ، فلماذا القول بذلك في المسيح ، لمجرد الأخذ بظاهر كلمة متشابهة دون البحث وإجراء التأويل الذي يتفق مع باقي النصوص ؟!
عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا
ويستدل المسيحيون أيضاً بما اقتبسه متى في الإصحاح الأول من إنجيله بنبوءة سابقة جاءت في سفر إشعياء في الاصحاح السابع يقول متى : (( وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل : (( هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه ( عمانوئيل ) الذي تفسيره الله معنا )) .
الرد على هذا الاستدلال :
أن هذا الاستشهاد الذي قام به متى من سفر اشعياء هو استشهاد خاطئ لأن كلام اشعياء لا ينطبق على المسيح فإن له قصة تدل على المراد به :
أولاً : لو قمنا بقراءة الإصحاح من سفر اشعياء كاملا لرأينا أن هذه الفقرة لا تتنبأ عن المسيح القادم بل هي وعد الله لأحاز بن يوثان ملك يهوذا على لسان النبي إشعيا بأنه سوف يعطيه آية وعلامة لزوال ملك أعدائه وقد بين له النبي اشعياء آية خراب ملك أعدائه وزواله وهي أن امرأة شابة تحبل و تلد ابناً يسمى
(1/82)
( عمانوئيل ) ثم تصبح أرض أعداءه خراباً قبل أن يميز هذا الصبي بين الخير والشر فتقول الفقرة السادسة عشر من الإصحاح السابع من سفر إشعيا (( لأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ الصَّبِيُّ كَيْفَ يَرْفُضُ الشَّرَّ وَيَخْتَارُ الْخَيْرَ، فَإِنَّ إِسْرَائِيلَ وَأَرَامَ اللَّتَيْنِ تَخْشَيَانِ مَلِكَيْهِمَا تُصْبِحَانِ مَهْجُورَتَيْن)) أي أن احاز سوف ينتصر على .........( إِسْرَائِيلَ وَأَرَام ) ، قبل أن يميز الصبي بين الخير و الشر.
ثانياً : وإذا رجعنا غلى النص العبري حسب النسخة المسوريه لسفر اشعياء نرى أن الكلمة المترجمة إلى"عذراء" في النص العبري هي كلمة " شابة و ليس عذراء كما في الترجمة العربية، و هكذا نرى ان الترجمة العربية لم تكن أمينة في ترجمة النص من سفر اشعياء.
ثم نرى كيف قام كاتب الإنجيل المنسوب إلى متى باستعمال كلمة "عذراء" بدل كلمة " شابه" عند اقتباسه لهذه الآية من سفر اشعياء لجعلها نبوة تحققت في المسيح عليه السلام.
ثالثاً : ثم إن المسيح عليه السلام لم يدعى "عمانوئيل " بل يسوع.
رابعاً : أن كلمة عمانوئيل التي فسرها الإنجيل بمعنى (( الله معنا )) كما تصدق على المسيح تصدق على كل من يؤمل منه الخير ويرجى من جهته الإحسان . . إذ ليس معنى الله معنا ، أن الله بذاته مشخص وموجود معنا ، بل الموجود معنا هو عونه ورعايته ، كقول القائل : (( الله معنا )) إنما يقصد به معونة الله وتوفيقه ورعايته ، وعلى هذا ، فإن ( عمانوئيل ) هو مبعوث من عند الله ليعين ويرعى قومه ! وأنه إذا كان اسم المولود لاشعياء ليس اسمه عمانوئيل ، فكذلك المسيح ليس اسمه ( عمانوئيل ) وإنما جاء لفظ عمانوئيل في نبوءة اشعياء صفةً لهذا المولود ، وليس اسماً له .
هذا وقد أثبتنا ان هذه النبوءة قد تحققت في زمن اشعياء النبي وتحقق معها كل ما ورد منها من أحداث .
خامساً : صيغة الأفعال هي في الماضي.
(1/83)
و هكذا نرى كيف قام كاتب انجيل متى بخطأ الاستشهاد بفقرات من العهد القديم لا تتعلق بالمسيح من قريب أو بعيد، بالإضافة إلى تحريفه لكلمة "شابه" و استبدالها بكلمة "عذراء" لتحقق نبوته المزعومة. ثم إن هذا الخطأ إن دل على شيء فإنما يدل على أن متى قد كتب إنجيله بغير إلهام لأن الملهم من الله لا يقع بمثل هذا الخطأ .
سادساً : وإذا فرضنا جدلاً أن نبوءة اشعياء تنطبق على المسيح وأن ( عمانوئيل ) معناه ( الله ) فلا يمكن أن نتخذ من تسمية المسيح الله دليلاً على كونه هو الله ، فإن الكتاب المقدس أطلق اسم الله على غير المسيح كما أطلقه على المسيح تماماً فقد أطلق اسم الله على الملاك وعلى القاضي وعلى الأنبياء كموسى وعلى الأشراف كما ذكرنا سالفاً في الرد على عبارة ( أنا والآب واحد ) فبما أن هؤلاء جميعاً يطلق عليهم اسم الله كالمسيح فإما يعتبرون جميعاً آلهة حسب المعنى الظاهر وهو محال عقلاً ، أو يئول الظاهر ويكون لفظ الله قد أطلق عليهم بالمعنى المجازي أو التشبيهي ولأجل الاحتراز بين لفظ الإله بالمعني المجازي والإله بالمعني الحقيقي أعلن المسيح عليه السلام ذلك في إنجيل يوحنا [ 17 : 3 ] بقوله : (( وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ))
ثم إن المسيح عليه السلام لم يرض أن يوصف بالصلاح طبقاً لما كتبه متى في [ 19 : 16 ، 17 ] ونصه : (( وَإِذَا واحد يَتَقَدَّمُ إِلَيْهِ وَيَسْأَلُ: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، أَيَّ صَلاَحٍ أَعْمَلُ لأَحْصُلَ عَلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ؟» فَأَجَابَهُ المسيح : (( لماذا تدعوني صالحاً ، ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله ))
ونحن نسأل :
إذا كان المسيح يقول للسائل لماذا تدعوني صالحاً ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله فمن هو إذن المسيح ؟؟
نريد أن نعرف من هو المسيح ؟؟!
(1/84)
إذا كان المسيح لم يرض بأن يوصف بالصلاح ، فكيف يرضى بأن يوصف بالألوهية ؟!!
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (المائدة : 75) صدق الله العظيم
قال الرب لربي : اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك
يتخذ المسيحيون من قول المسيح لليهود في إنجيل لوقا [20 : 42 ] : (( كيف يُقال للمسيح أنه ابن داود، و داود نفسه يقول في كتاب المزامير قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟)) دليلاً على لاهوته .
الرد على هذه الشبهة:
الحقيقة أن من يتأمل تلك الجملة التي استشهد بها السيد المسيح من سفر المزامير معتبرا إياها بشارة في حقه، يراها دليلا واضحا على نفي ألوهيته المسيح لا على إثبات ألوهيته !
أولاً : عبارة المزامير تقول : قال الرب (أي الله) لربي (أي المسيح) اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطأً لقدميك ، و بناء على هذه الجملة لا يمكن أن يكون المقصود من كلمة ربي الثانية هو الله أيضا، و ذلك لأن المعنى سيصبح عندئذ : قال الله لِلَّه اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك !! و كيف يجلس الله عن يمين نفسه!؟
ثانياً : إذا كان ربي الثانية إلهاً فإنه لا يحتاج لأحد حتى يجعل أعداءه موطئا لقدميه ، بل هو نفسه يسخر أعداءه بنفسه و لا يحتاج إلى من يسخرهم له ! فتأمل …
ثالثاً : أن مخاطبة الله لإله آخر تعني وجود إلهين اثنين و هذا يناقض عقيدة التوحيد التي هي أساس الرسالات السماوية ! فهذا كله يؤكد أن ربي الثانية ليس الله و لا بإله ثان بل لا بد أن يكون معناها شيئا غير ذلك، فما هو؟
(1/85)
رابعا : إن المفهوم اللفظي للنص يكذب ما يفهمه النصارى منه ، فالمسيح عليه السلام لم يضع أعدائه في مواطئ قدميه ، بل كان يهرب من أعدائه كما في الأناجيل بل إنهم ضربوه ولكموه وجلدوه كما تحكي الأناجيل .
الحقيقة أن ما يريده المسيح من عبارته تلك هو تذكير اليهود بمقامه العظيم ـ الذي تشير إليه عبارة نبيهم داود ـ قائلا لهم : كيف تعتبرون المسيح مجرد ابنٍ لداود مع أن داود نفسه اعتبر المسيح الآتي المبشر به و الذي سيجعله الله دائنا لبني إسرائيل يوم الدينونة : ربَّاً له: أي سيدا له و معلما ؟!
و بمراجعة بسيطة للأناجيل ندرك أن لفظة الرب تستخدم بحق المسيح بمعنى السيد و المعلم، و قد سبقت الإشارة لذلك و لا مانع أن نعيدها هنا، فقد جاء في إنجيل يوحنا [1 : 38] : (( فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟ و جاء فيه أيضا: [ 20 : 16] : (( قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له: ربوني! الذي تفسيره يا معلم ))
وإذا رجعنا لمزامير داود في العهد القديم وجدنا أن البشارة هي الفقرة الأولى من المزمور رقم 110، و لفظها ـ كما في الترجمة الكاثوليكية الحديثة :
(( قال الرب لسيّدي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك" العهد القديم / ص 1269.))
فما عبر عنه المسيح بلفظة ربي هو في الحقيقة بمعنى سيدي و لا حرج فالمقصود واحد .
لذلك نجد أن الترجمات العربية المختلفة للعهد الجديد ، خاصة القديمة منها كانت تستخدم لفظة السيد في مكان لفظة الرب ، و لفظة المعلم في مكان لفظة رابِّي .
وختاماً نقول : كيف يكون المسيح إلهاً لداود وغيره ، وداود يقول في مزاميره في نبوءة عن المسيح : (( أَقْسَمَ الرَّبُّ وَلَنْ يَتَرَاجَعَ: «أَنْتَ كَاهِنٌ إِلَى الأَبَدِ عَلَى رُتْبَةِ مَلْكِيصَادَقَ )) مزمور [ 110 : 4 ، 5 ] وقد استشهد بها بولس في رسالته إلي العبرانيين [ 5 : 6 ]
قول المسيح أنا قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن
(1/86)
وللرد على هذا الاستدلال نقول :
إن صح ما ذكره يوحنا ونسبه للمسيح عليه السلام من قوله : (( قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن )) فإن هذا القول لا يفيد في ألوهية المسيح بشيء ولا كونه الأقنوم الثاني من الثالوث الوثني ، وإنما يعني أنه في علم الله الأزلي أن الله جل جلاله سيخلق المسيح بعد خلق إبراهيم وموسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى .ففي علم الله الأزلي متى سيخلق المسيح وكل الأنبياء وذلك قبل خلق إبراهيم وسائر الأنبياء . لأن الله جلت قدرته إن لم يكن عالماً ، لكان ذلك نقصاً في حق الإله والنقص محال على الله عز وجل .
وإذا كان المسيح إلهاً لأنه قال عن نفسه : (( قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن )) فماذا يكون سليمان بن داود عندما يقول في سفر الأمثال [ 8 : 22 _ 30 ] : (( أنا كنت مع الله من الأزل قبل خلق العالم وكنت ألعب بين يديه في كل حين وكنت عنده خالقاً ))
والذي يقرأ بداية الإصحاح الأول من سفر الأمثال سيعرف أن الكلام لسليمان فيكون سليمان أولى بالألوهية من المسيح .
وماذا يكون إرميا الذي قال عنه الرب : (( قبل أن أصورك في البطن عرفتك ، وقبل أن تخرج من الرحم قدستك )) ارميا [ 1 : 4 ، 5 ]
وماذا يكون ملكي الذي له صفات وخصائص تفوق صفات وخصائص المسيح إذ يقول عنه الكتاب : .....(( لأن ملكي صادق هذا كاهن الله العلي . . . ملك السلام بلا أب وبلا أم وبلا نسب لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة وهو مشبه بابن الله . . . )) [ الرسالة إلى العبرانيين 7 : 1_ 3 ]
يقول الأستاذ الباحث سعد رستم في معرض رده على هذه الشبهة :
(1/87)
أولا : كون الشخص وجد قبل إبراهيم أو قبل يحيى (عليهما السلام) أو حتى قبل آدم أو قبل خلق الكون كله، لا يفيد، بحد ذاته، ألوهيته بحال من الأحوال، بل أقصى ما يفيده هو أن الله تعالى خلقه قبل خلق العالم أو قبل خلق جنس البشر، مما يفيد أنه ذو حظوة خاصة و مكانة سامية و قرب خصوصي من الله ، أما أنه هو الله ، فهذا يحتاج لنص صريح آخر، و لا يوجد شيء في العبارة المذكورة أعلاه بنص على ذلك على الإطلاق ، و هذا لا يحتاج إلى تأمل كثير.
ثانيا : هذا إن أخذنا ذلك التقدم الزماني على ظاهره الحرفي، مع أنه من الممكن جدا أن يكون ذلك من قبيل المجاز، بل قرائن الكلام تجعل المصير إلى المعنى المجازي متعينا ، و هذا يحتاج منا لذكر سياق تلك العبارة من أولها:
جاء في إنجيل يوحنا [ 8 : 56 ـ 59] : (… و كم تشوق أبوكم إبراهيم أن يرى يومي، فرآه و ابتهج. قال له اليهود: كيف رأيت إبراهيم، و ما بلغت الخمسين بعد ؟ فأجابهم : الحق الحق أقول لكم: كنت قبل أن يكون إبراهيم فأخذوا حجارة ليرجموه ، فاختفى و خرج من الهيكل. ))
(1/88)
فقبلية عيسى المسيح على إبراهيم هنا، لا يمكن أن تكون قبلية حقيقية في نظر النصارى، لا باعتبار ناسوت المسيح المنفك عن اللاهوت طبقا لاعتقادهم، لأن ولادة عيسى الإنسان كانت بعد إبراهيم اتفاقا، و لا باعتبار حصول الحقيقة الثالثة المدعاة له أي تعلُّق اللاهوت بالناسوت ، لأن ذلك تم مع ولادة المسيح من العذراء و روح القدس الذي تم أيضا بعد إبراهيم اتفاقا.و لا يمكن أن يكون قصده سبق المسيح على إبراهيم باعتبار لاهوته الأزلي المدَّعى، بقرينة أن بداية الكلام كانت عن رؤية إبراهيم لهذا اليوم، أي يوم بعثة المسيح و رسالته، و ابتهاج إبراهيم به، فالكلام إذن عن رؤية المسيح المبعوث في الأرض، و هذا تم بعد إبراهيم اتفاقا، فلم يبق إلا أن يكون المراد بالقبلية علم الله السابق بتقدير إرسال عيسى في هذا الوقت، و ما يترتب عليه من الإرشاد و الرحمة بالعباد. فإن قيل: أيُّ خصوصية للمسيح في ذلك، إذ أن هذا المحمل ـ أي علم الله السابق ـ مشترك بينه و بين سائر الأنبياء، بل جميع البشر؟
فالجواب : أنه عليه السلام لم يذكر ذلك في معرض الخصوصية، و إنما ذكره قاطعا به استبعاد اليهود لسرور إبراهيم و فرحه بيومه، و تصحيحا لصدقه فيما أخبر و لصحة رسالته، ببيان أن دعوى رسالته ثابتة في نفس الأمر و مقررة سابقا و أزلا في علم الله القديم .و قد ورد مثل ذلك في ألفاظ خاتم المرسلين سيدنا محمد حيث قال : (( كنت نبيا و آدم بين الروح و الجسد )) والحديث صحيح وينظر إلي (( السلسة الصحيحة )) للألباني ( 4 : 471 ) رقم ( 1856 ) وأخرجه الإمام أحمد ( 4:66 ) .
قول المسيح : أَنْتُمْ مِنْ تَحْتُ. أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ. وَأَنَا لَسْتُ مِنْهُ
قالوا : ففي هذا النص أكد اختلافه عنا نحن البشر و أنه ليس من هذا العالم المادي بل هو من فوق و أنه نزل إلى الأرض من السماء ، فكل هذا يدل على أنه إلهٌ نزل و تجسَّد.
(1/89)
الرد على هذه الشبهة:
إن المسيح قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضا، فقد جاء في إنجيل يوحنا هذا [15 : 19] : (( لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته و لكن لأنكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم ))
و في الإصحاح 17 من هذا الإنجيل أيضا يقول عيسى في دعائه لأجل التلاميذ :
(( أنا قد أعطيتهم كلامك و العالم أبغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم. لست أسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير. ليسوا من العالم كما أني لست من العالم )) يوحنا [ 17 : 14 ـ 15].
فقال في حق تلاميذه أنهم ليسوا من العالم و سوَّى بينه وبينهم في عدم الكون من هذا العالم ، فلو كان هذا مستلزماً للألوهية كما زعموا ، للزم أن يكونوا كلهم آلهة ـ و العياذ بالله ـ بل التأويل الصحيح للعبارة الإنجيلية هو : أنا لست من أبناء هذه الدنيا، أي الراكنين إليها المطمئنين بها الراغبين بها، بل من طلاب الله و الآخرة، الذين ليس في قلبهم تعلق و حب إلا لِلَّه، فأنا من أهل ذلك العالم العلوي القدسي عالم الأطهار و الملائكة ، لأنه هو قبلتي و وجهتي و منه جئت برسالة الله و إليه أعود بعد أدائها. فتعبيره نوع من المجاز، و هو مجاز شائع معروف، يقال فلان ليس من هذا العالم ، يعني هو لا يعيش في الدنيا و لا يهتم بها و لا بمفاتنها بل همُّهُ كله الله و الدار الآخرة فقط. وكذلك الحال بالنسبة للحواريين . وإلا لكان الحواريين آلهة سواء بسواء وهذا باطل .
تسمية المسيح بابن الله
يدعي المسيحيون بأن المسيح أطلق عليه عبارة ابن الله وهذا دليل على ألوهيته .
الرد :
أن لفظ ابن الله لم يقتصر في الكتاب المقدس على المسيح بل اطلق لفظ ابن الله على كثيرين غير المسيح فهي تسمية عامة والدليل على ذلك :
(1/90)
ورد في سفر صموئيل الثاني [ 7 : 14 ] ان الرب يقول عن النبي سليمان : (( أَنَا أَكُونُ لَهُ أَباً وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْناً ))
وفي سفر الخروج [ 4 : 22 ] أن الرب يقول عن إسرائيل : (( إسرائيل ابني البكر )) وفي المزمور التاسع والعشرين الفقرة الأولى يقول النص : (( قدموا للرب يا أبناء الله . . . قدموا للرب مجداً وعزاً . ))
وفي المزمور الثاني الفقرة السابعة أن الرب قال لداود : (( أنت ابني وأنا اليوم ولدتك ))
وفي العهد الجديد يقول المسيح في انجيل متى الإصحاح الخامس : (( طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون ))
والخلاصة أيها القارئ الكريم
إن لفظ ( ابن الله ) أطلق في الكتاب المقدس على كل من له صلة بالله من الأنبياء والشرفاء والمؤمنين وعلى كل مستقيم بار .
والقاعدة :
إن كل الذين ينقادون بروح الله هم ( أبناء الله ) كما جاء في رسالة بولس لأهل رومية فهو يقول (( لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله )) [ رو 8 : 14 ]
وكل من يعمل الخطايا والآثام ، فقد أطلق عليه ( ابن إبليس ) فقد جاء في سفر أعمال الرسل [ 13 :10 ] أن بولس قال عن الساحر اليهودي الذي يدعي النبوة كذباً:((أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس))
فمن هنا نرى أيها القارئ الكريم انه من كان قريباً من الله منقاداً له ويعمل بمشيئته ويمتثل أمره فهو ابنه ومن كان قريباً من إبليس ويعمل المعاصي والآثام فهو ابن له .
وبالتالي فلا حجة ولا يلزم من إطلاق لفظ ابن الله على المسيح أن ندعي فيه الألوهية إنما غاية ما يرمي إليه ذلك الإطلاق أن المسيح عبد بار لله منقاد له يعمل بمشيئته ويمتثل أمره . شأنه شأن باقي أنبياء ورسل الله الكرام الذين بعثهم الله لهداية البشر وكان خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول الأستاذ / سعد رستم في كتابه ( الأناجيل الأربعة ورسائل بولس ويوحنا تنفي ألوهيته كما ينفيها القرآن :
(1/91)
.... لدى تتبعنا لاستخدام عبارة ( ابن الله ) في الأناجيل نرى أن هذا التعبير يقصد به معنى الصالح البار الوثيق الصلة بالله و المتخلِّق بأخلاق الله. فقد جاء في إنجيل مرقس [15 : 39] : (( و لما رأى قائد المائة، الواقف مقابله ، أنه صرخ هكذا ، و أسلم الروح، قال: حقا كان هذا الإنسان ابن الله )) نفس هذا الموقف أورده لوقا في إنجيله فنقل عن قائد المائة أنه قال عن المسيح: ((بالحقيقة كان هذا الإنسان بارَّاً ))، فما عبر عنه مرقس في إنجيله بعبارة ( ابن الله ) عبر عنه لوقا بعبارة ( باراً ) ، مما يبين أن المراد من عبارة ابن الله ليس إلا كونه بارا صالحا .
(1/92)
و بهذا المعنى كان يستخدم اليهود ـ مخاطَبي المسيح ـ لفظة ( ابن الله ) ، التي لم تكن غريبة عليهم ، بل شائعة و مستخدمة لديهم بالمعنى الذي ذكرناه ، و لذلك نجد مثل ا، أن أحد علماء اليهود و اسمه " نتنائيل" لما سمع من صديقه فيليبس، عن نبيٍّ خرج من مدينة الناصرة، استنكر ذلك في البداية، لكنه لما ذهب ليرى عيسى بنفسه، عرفه عيسى و قال فيه : (( هو ذا إسرائيلي خالص لا غش فيه ))، فقال له نتنائيل: (( من أين تعرفني ؟ )) ، أجابه يسوع : (( قبل أن يدعوك فيليبس و أنت تحت التينة، رأيتك! )) فأجابه نتنائيل : (( رابِّي! أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل )) [يوحنا 1 : 5 ـ 49] و مما لا شك فيه، أن مقصود نتنائيل ، كإسرائيلي يهودي موحد، عالم بالكتاب المقدس، من عبارة ابن الله هذه، لم يكن : أنت ابن الله المولود منه و المتجسد! و لا مقصوده : أنت أقنوم الابن المتجسد من الذات الإلهية !! لأن هذه الأفكار كلها لم تكن معروفة في ذلك الوقت، و لا تحدث المسيح نفسه عنها، لأن هذه الحادثة حدثت في اليوم الثاني لبعثة المسيح فقط، بل من الواضح المقطوع به أن مقصود نتنائيل من عبارته أنت ابن الله : أنت مختار الله و مجتباه، أو أنت حبيب الله أو من عند الله، أو أنت النبي الصالح البار المقدس، و نحو ذلك. هذا و مما يؤكد ذلك، أن لقب ( ابن الله ) جاء بعينه، في الإنجيل، في حق كل بارٍّ صالح غير عيسى ، كما استعمل ( ابن إبليس ) في حق الإنسان الفاسد الطالح. ففي إنجيل متى [5 : 9] : (( طوبى لصانعي السلام فإنهم أبناءُ الله يُدْعَوْنَ )) ، و فيه أيضا: (( و أما أنا فأقول لكم أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم ، و صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم، و يطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات )) متى [5 : 44 ـ 45].
(1/93)
و في إنجيل لوقا [6 : 35] : (( بل أحبوا أعداءكم و أحسنوا و أقرضوا و أنتم لا ترجون شيئا فيكون أجركم عظيما و تكونوا بني العَلِيِّ فإنه منعم على غير الشاكرين و الأشرار . ))
فسمَّى الأبرار المحسنين بلا مقابل المتخلِّقين بخُلُقِ الله بِ ( أبناء العلي ) و (أبناء أبيهم الذي في السموات ) ....
و في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا يقول : (( و أما الذين قبلوه ( أي قبلوا السيد المسيح ) ، و هم الذين يؤمنون باسمه ، فقد مكَّنهم أن يصيروا أبناء الله )) [ 1 : 12] .
كل هذا مما يوضح أنه في لغة مؤلفي الأناجيل و اللغة التي كان يتكلمها السيد المسيح ، كان يُعَبَّرُ بـ ِ: ( ابن الله ) عن كل : رجل بار صالح وثيق الصلة بالله مقرب منه تعالى يحبه الله تعالى و يتولاه و يجعله من خاصته و أحبابه ، و وجه هذه الاستعارة واضح، و هو أن الأب جُبِلَ على أن يكون شديد الحنان و الرأفة و المحبة و الشفقة لولده ، حريصا على يجلب له جميع الخيرات و يدفع عنه جميع الشرور، فإذا أراد الله تعالى أن يبين هذه المحبة الشديدة و الرحمة الفائقة و العناية الخاصة منه لعبده فليس أفضل من استعارة تعبير كونه أبا لهذا العبد و كون هذا العبد كابن له.
و قد جاء في بعض رسائل العهد الجديد ما يوضح هذا المجاز أشد الإيضاح و لا يترك فيه أي مجال للشك أو الإبهام :
(1/94)
فقد جاء في رسالة يوحنا الأولى [ 5:1 ـ 2 ] قوله : (( كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح فقد ولد من الله. و كل من يحب الوالد يحب المولود منه أيضا. بهذا نعرف أننا نحب أولاد الله إذا أحببنا الله و حفظنا وصاياه . )) و في آخر نفس هذه الرسالة : (( نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطئ بل المولود من الله يحفظ نفسه و الشرير لا يمسه )) [ 5 : 18 ]. و أيضا في الإصحاح الثالث من نفس تلك الرسالة، يقول يوحنا: ((كل من هو مولود من الله لا يفعل خطيَّة لأن زرعه يثبت فيه و لا يستطيع أن يخطئ لأنه مولود من الله، بهذا أولاد الله ظاهرون و أولاد إبليس... الخ )) رسالة يوحنا الأولى: [3: 9ـ10].
و في الإصحاح الرابع من تلك الرسالة أيضا : (( أيها الأحباء لنحب بعضنا بعضا لأن المحبة هي من الله و كل من يحب فقد ولد من الله و يعرف الله )) رسالة يوحنا الأول ى: [ 4 : 7 ]
و في رسالة بولس إلى أهل رومية [8 : 14 ـ 16]: (( لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله. إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله .))
و في رسالة بولس إلى أهل فيليبس [2 : 14 ـ 15]:(( افعلوا كل شيء بلا دمدمة و لا مجادلة. لكي تكونوا بلا لوم و بسطاء أولاد الله بلا عيب في وسط جيل معوج و ملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم .))
ففي كل هذه النصوص استعملت عبارات : ابن الله ، أبناء الله ، أولاد الله ، و الولادة من الله ، بذلك المعنى المجازي الذي ذكرناه .
فإن قيل: إنما سمى الإنجيل عيسى بِ "الابن الوحيد " لله مما يفيد أن بنوَّته لله بنوَّة فريدة متميزة لا يشاركه فيها أحد فهي غير بنوَّة أنبياء بني إسرائيل، لِلَّه، وغير بنوَّة المؤمنين الأبرار الصالحين عموما أو بنوَّة شعب بني إسرائيل لله.. الخ، .
فجوابه:
(1/95)
أولاً : إن الكتاب المقدس جاء فيه أن الله سبحانه وتعالى قال لموسى : (( إسرائيل ابني البكر )) [ خروج 4 : 22 ] و في سفر إرميا، يقول الله تعالى: (( لأني صرت لإسرائيل أبا، و أفرايم هو بكري )) [ إرميا 31 : 9 ] ومن المعروف أن البكر أولى وأفضل عند أبيه من غير البكر ، فالبكر أجل قدراً عند والده من غير البكر على مالا يخفى ، والكتاب المقدس يشهد بأن للولد الأكبر سهمين في الميراث ولغيره سهم واحد [ تثنية 21 : 15 ، 17 ] .
ثانيا : بما أن البنوة لله تعني الانقياد لله والعمل بمشيئته (( لأن كل الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله. )) [ رو 8 : 14 ] فتكون عبارة "الابن الوحيد " للمسيح هي كناية عن شدة قرب المسيح لله من بين قومه وذلك لطاعته وانقياده له وهو المبلغ عنه.
ثالثاً : إن عبارة "الابن الوحيد" في الكتاب المقدس لا تعني بالضرورة الانفراد و الوحدانية الحقيقية بل قد يقصد بها الحظوة الخاصة و المنزلة الرفيعة، يدل على ذلك أن سفر التكوين من التوراة يحكي أن الله تعالى امتحن إبراهيم فقال له: (( يا إبراهيم ! فقال: هاأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه، اسحق، و اذهب إلى أرض المريا…)) [ تكوين: 22/1ـ2 ]
(1/96)
فأطلق الكتاب المقدس على اسحق لقب الابن الوحيد لإبراهيم، هذا مع أنه، طبقا لنص التوراة نفسها، كان إسماعيل قد وُلِد لإبراهيم، قبل إسحق، كما جاء في سفر التكوين : (( فولدت هاجر لأبرام ابنا و دعا أبرام اسم ابنه الذي ولدته هاجر: إسماعيل. كان أبرام ابن ست و ثمانين لما ولدت هاجر إسماعيل لأبرام )) [ تكوين: 16 / 15 ـ 16 ] ، ثم تذكر التوراة أنه لما بلغ إبراهيم مائة سنة بشر بولادة إسحق [ التكوين: 17 : 15 إلى 20 ] ، و بناء عليه لم يكن اسحق ابناً وحيداً لإبراهيم بالمعنى الحقيقي للكلمة، مما يؤكد أن تعبير " الابن الوحيد " لا يعني بالضرورة ـ في لغة الكتاب المقدس ـ معنى الانفراد حقيقة، بل هو تعبير مجازي يفيد أهمية هذا الابن و أنه يحظى بعطف خاص و محبة فائقة و عناية متميزة من أبيه، بخلاف سائر الأبناء، و لا شك أن محبة لله تعالى للمسيح و عنايته أعظم من عنايته جميع من سبقه من الأنبياء لذا صح إطلاق تعبير : (( ابني الوحيد )) عليه.
رابعاً : إن الكتاب المقدس قد أطلق على غير المسيح أوصافاً وأسماء لا تليق إلا بالله وحده وهي أكبر وأعظم من إطلاق عبارة الابن الوحيد في حق المسيح ومع ذلك لم يقل أحد من الناس أنهم آلهة ، فعلى سبيل المثال :
1- ورد في سفر القضاة [ 13 : 21 ، 22 ] إطلاق لفظ الله على الملك : يقول النص (وَلَمْ يَتَجَلَّ مَلاَكُ الرَّبِّ ثَانِيَةً لِمَنُوحَ وَزَوْجَتِهِ. عِنْدَئِذٍ أَدْرَكَ مَنُوحُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ. فَقَالَ مَنُوحُ لاِمْرَأَتِه نموت موتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللهَ. ) وواضح أن الذي تراءى لمنوح وامرأته كان الملك .
2- ورد في سفر الخروج [ 22 : 8 ] إطلاق لفظ الله على القاضي :
يقول النص : (( وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم ، هل يمد يده إلى ملك صاحبه )) فقوله : إلى الله ، أي : إلى القاضي .
(1/97)
3- وكذلك أيضاً جاء في سفر الخروج [ 22 : 9 ] إطلاق لفظ الله على القاضي :
يقول النص (( في كل دعوى جنائية من جهة ثور أو حمار أو شاة أو ثوب أو مفقود ما ، يقال : إن هذا هو ، تقدم إلى الله دعواها ، فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه باثنين )) فقوله إلى الله ، أي : إلى القاضي نائب الله .
4- كما أطلق الكتاب المقدس لفظ إله على القاضي فقد ورد في المزمور [ 82 : 1 ] : (( الله قائم في مجمع الله ، في وسط الآلهة يقضي ))
5- وأطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على الأشراف فقد ورد في المزمور [ 138 : 1 ] قول داود عليه السلام :
(( أحمدك من كل قلبي ، قدام الآلهة أعزف لك )) .
في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله
يستدل المسيحيون على لاهوت المسيح المزعوم بما ورد في افتتاحية إنجيل يوحنا حيث يقول النص : (( في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله هذا كان في البدء عند الله ..))
وللرد على هذا الاستدلال نقول :
أولاً : بالتأمل في هذا النص سنجد أن فيه إبطال لعقيدة التثليث ، لأنه يتحدث عن الله والكلمة فقط ولا يوجد أثر للأقنوم الثالث المزعوم وهو الروح القدس !
فإذا كان الروح القدس هو إله حق مساوي للأب والابن في كل شيء وأن له كل المجد الذي للأب والابن . فلماذا لم يذكر في هذه الافتتاحية المهمة ؟
ثانيا : أن قول يوحنا : (( وكان الكلمة الله )) يؤدي إلى القول أن الجسد هو الله لأن يوحنا يقول : (( والكلمة صار جسداً )) وهنا أصبح للكلمة كيان مستقل إلهي وهذا تصور شيطاني لا عقلاني لا يقلبه إلا وثني .
ثم إذا كانت الكلمة هي الله والكلمة صارت جسداً فهذا يعني صيرورة الله جسدا وهذا تغيير في الله والكتاب يعلمنا أن الله لا يتغير [ ملاخي 3 : 6 ]
(1/98)
ثم أن هذه العبارة تستلزم لوازم باطلة في حق الله سبحانه وتعالى لأنه إذا كانت الكلمة هي الله والكلمة صارت جسداً كما هو ظاهر النص فهذا يعني أن كل ما وقع لهذا الجسد من قبل اليهود من ضرب وجلد هو واقع على الكلمة لأن الكلمة صارت جسدا ، وهذا من أبطل الباطل في حق الله الكامل المنزه عن كل نقص
ثالثاً : لا يوجد في الأناجيل الأربعة وما ألحقوه بها من رسائل دليل واحد على أن المسيح أشار إلى نفسه بأنه الكلمة .
رابعاً : بالرجوع إلى النص اليوناني سنجد أن كلمة الله الأولى الواردة في النص معرفة بأداة التعريف التي تعادل الألف واللام والثانية غير معرفه وهي ( ثيؤس ) باليوناني ، وهنا المشكلة التي تحتم أن تكون الترجمة الحقيقية " وكانت الكلمة إله " وليس " وكان الكلمة الله " لأن كلمة ( إله ) في اصطلاح الكتاب المقدس - بشكل عام - لا تعني بالضرورة الله المعبود بحق ، بل تأتي أحياناً على معنى السيد والرئيس المطاع أو على معنى ملاك عظيم . و بعض الترجمات تقرر ذلك مثل ترجمة العالم الجديد التي تنص على :
.In the beginning was the Word, and the Word was with God, and the Word was divine" New World "Translation
و كذلك هذه الترجمة وتسمى العهد الجديد ترجمة أمريكية :
.In the beginning the Word existed. The Word was with God, and the Word was divine." The New Testament, An American Translation, Edgar Goodspeed and J. M. Powis Smith, The University of Chicago Press, p. 173
و فى قاموس الكتاب المقدس لجون ماكنزى طبعة كوليير صفحة 317 :
Jn 1:1 should rigorously be translated 'the word was with the God [=the Father], and the word was a divine being.'" The Dictionary of the Bible by John McKenzie, Collier Books, p. 317
(1/99)
والخلاصة أن وضع الكلام يسمح بهذه المعاني و كلها تدل على مخلوق له خصائص إلهية و لكن ليس الإله الأعلى الذي يستحق العبادة .
والمهم الذي أيضاً نريد معرفته هو انه لدينا كلمتين مختلفتين في الاصل اليوناني قد ترجمتا بلفظة واحدة وهي الله في افتتاحية يوحنا .
وإليكم بعض الشواهد من الكتاب المقدس التي تؤكد أن كلمة ( إله لا تعني بالضرورة الله المعبود بحق ) :
(1) جاء في سفر الخروج من التوراة قول الله تعالى لموسى عليه السلام :
(( قد جعلناك إلها لفرعون و أخاك هارون رسولك )) [الخروج: 7 / 1]
(2) و في المزمور الثاني و الثمانين من سفر المزامير قول الله تعالى لداود عليه السلام :
(( الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي.. (إلى قوله) : أنا قلت إنكم آلهة و بنو العلي كلكم لكن مثل الناس تموتون و كأحد الرؤساء تسقطون )) [ المزامير: 82 / 1، 6 ـ 7.]
وهذه بعض الأمثلة أيضاً للكلمة الغير معرفة ( ثيؤس ) اليونانية وهي تشير إلى أشياء أخرى :
( 3) كورنثوس الثانية 4 : 4
(( الذين فيهم اله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله.))
في هذا المثل نجد أن نفس اللفظة استعملت للدلالة على الشيطان .
(4) يوحنا 10 : 34
(( أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا قلت أنكم آلهة .))
كلمة آلهة هنا هي أيضا ثيؤس اليونانية و المسيح قد يطلق على احد انه اله و لكن لن يطلق عليه انه الله أبدا ...!!!!
(5) أعمال 10 : 40
(( قائلين لهرون اعمل لنا آلهة تتقدم أمامنا. لان هذا موسى الذي أخرجنا من ارض مصر لا نعلم ماذا أصابه. ))
نفس الكلمة هنا بمعنى آلهة
(6) أعمال 10 43
(( بل حملتم خيمة مولوك ونجم إلهكم رمفان التماثيل التي صنعتموها لتسجدوا لها. فأنقلكم إلى ما وراء بابل.))
اله الوثنيون هنا هو أيضا " ثيؤس " نفس اللفظة .
(7) أعمال 14 : 11
(1/100)
(( فالجموع لما رأوا ما فعل بولس رفعوا صوتهم بلغة ليكأونية قائلين ان الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا ))
حتى بولس هو أيضا حاصل على نفس اللفظة اليونانية ؟؟
(8) أعمال 19 : 26
(( وانتم تنظرون وتسمعون انه ليس من افسس فقط بل من جميع اسيا تقريبا استمال وازاغ بولس هذا جمعا كثيرا قائلا إن التي تصنع بالأيادي ليست آلهة. ))
(9) كورونثوس 8 : 5
(( لأنه وان وجد ما يسمى آلهة سواء كان في السماء أو على الأرض كما يوجد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون.))
و كل الأمثلة السابقة كانت الكلمة في الأصل ثيؤس .
وحيث يتفق مفسروا العهد القديم أن المقصود بالآلهة و ببني العلي : الرؤساء و القضاة و الملائكة الذين هم أعضاء البلاط الإلهي ـ إذا صح التعبير ، و أن لقب آلهة و أبناء الله، لهم، ليس إلا لقبا تشريفيا لا أكثر، و لا يعني أبدا أنهم شركاء الله تعالى في ذاته و لاهوته، كيف ومن تعاليم التوراة الأساسية وحدانية الله تعالى!
بناء عليه، فعبارة " و إله هو الكلمة " معناها: و كائنٌ روحيٌّ عظيم بل رئيسٌ للكائنات وعظيمٌ مقرب من الله هو الكلمة.
هذا و مما يرجح هذه القراءة و يوجب المصير إلى هذا التفسير، هو أننا لو قلنا أن الكلمة هي الله لصار منطوق النص هو :
[ في البدء كان الله، و كان الله عند الله ! و كان الله هو الله، الله كان في البدء عند الله !! ]
ولاشك أن هذا المنطوق يجعل افتتاحية يوحنا نصاً مختل المبنى غير مستقيم المعنى، بل لا معنى له و لا يصح .
و من البديهي أن الشيء لا يكون عند نفسه، فلا يصح أن نقول كان زيد عند زيد!!
أما على التفسير الذي ذكرناه، فإذا صار الإله المُنَكَّر بمعنى الكائن الروحي العظيم الذي هو غير الله، صح أن نعتبره كان عند الله.
خامساً : ولكي نتأكد من صحة التفسير الذي ذكرناه لنسأل يوحنا عن ما هي العلاقة عنده بين المسيح عليه السلام والله سبحانه من خلال ما سطره في إنجيله :
(1/101)
يوحنا [ 13 : 16] : (( الحق الحق اقول لكم انه ليس عبد اعظم من سيده ولا رسول أعظم من مرسله ))
الكاتب هنا واضح جدا ، الله أعظم من من يرسله أو الراسل أعظم من المرسل ، فإذا كان الرسول ليس بأعظم من مرسله كما يقول المسيح ، وان هناك فرق بين الراسل والمرسل ، فلنثبت من كلام يوحنا أن الابن قد وقع عليه الإرسال وانه مرسل من الله :
قال يوحنا في رسالته الأولى : (( إن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به )) [ 4 : 9 ]
ويقول أيضاً : (( لان الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله. لأنه ليس بكيل يعطي الله الروح )) [ يوحنا 3: 34 ]
ويقول : (( الآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي )) [ يوحنا 5 : 37 ]
و هل من يريد أن يقنعنا أن المسيح و الله واحد يكتب مثل هذا ؟؟
يوحنا [ 14 : 28 ] (( سمعتم أني قلت لكم أنا اذهب ثم آتي إليكم .لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب .لان أبي أعظم مني .))
هل يستطيع أي شخص أن يذهب إلى نفسه و تكون نفسه أعظم منه لاحظ نحن ننقل كلام يوحنا !
يوحنا [ 17 : 1 ] (( تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال أيها الآب قد أتت الساعة .مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضا ))
و هذه معناها على مذهبهم انه يخاطب نفسه قائلا مجدت نفسي حتى امجد نفسي !!!!
يوحنا [ 17 : 24 ] : (( أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم .))
هل الله أحب نفسه قبل خلق العالم و أعطى نفسه مجدا .
و الخلاصة هنا أن هذا العدد في بداية انجيل يوحنا لا ينسجم حتى مع بقية إنجيل يوحنا نفسه .
سادساً : هل كلمة ( ثيؤس ) اليونانية تعني الله ثلاثي الأقانيم أم أقنوم الآب فقط ؟ بمعنى آخر إذا قلت : ( أن الكلمة كان الله ) هل يعني هذا أن الله هنا هو الآب أم هم الله ذو الثلاثة أقانيم ؟؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1/102)
وهذا مقال آخر يفند الاستدلال بهذه العبارة :
في البدء كان الكلمة . والكلمة كان عند الله . وكان الكلمة الله
لقد وردت هذا الكلمات في بداية الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا لذلك استدل المسيحيون بها على أن المسيح ليس مخلوقاً دون الآب ، لكنه مساو له في الجوهر ، والآب معناها الله .
ويرد على هذا الاستدلال بالآتي :
أولاً : علينا أن نلاحظ _ أولاً وقبل كل شيء _ أن هذه الكلمات الواردة في أول إنجيل يوحنا هي ليست من كلمات (( المسيح )) وإنما كلمات (( يوحنا )) فالمسيح لم يقل مثل هذه الكلمات بتاتاً وبالدراسة المتسعة والإطلاع سنجد أنها كلمات لشخص يهودي اسمه (( فيلون السكندري )) ( 20 ق . م _ 40 م ) عاش في العصر الهلنستى بالإسكندرية ، وهو فيلسوف ومفكر كان متأثراً بالفلسفة اليونانية ، فقد كان يعتبر أن العقل أو اللوجوس هو الذي صدر عنه وجود كل المخلوقات . وكان يكني هذا ( اللوجوس ) بقوله ( الكلمة ) ومن المعروف أن يوحنا كتب إنجيله بعد وفاة ( فيلون ) واستعار منه ( مصطلح الكلمة )
ومع هذا نقول للنصارى الذين يستدلون بهذه الفقرة على لاهوت المسيح :
ما هي الكلمة اليونانية التي تقابل لفظ الجلالة ( الله ) المعبود بحق ؟
والجواب هو :
أن الكلمة اليونانية التي تعني ( الله ) وهو المعبود بحق هي : هوثيوس Hotheos وعندما يكون الإله غير جدير بالعبادة ، فإن اليونان كانوا يستخدمون لفظة أخرى هي : تونثيوس Tontheos وعندما ترجمت عبارة يوحنا ( وكان الكلمة الله ) من اليونانية القديمة إلي الإنجليزية ، قام مترجمو الإنجيل باستخدام الحرف الكبير عند ترجمتهم عبارة ( وكان الكلمة الله )
) في حين أن الكلمة الموجودة بالأصل اليوناني هي كلمة Tontheos ) وليس ( Hotheos
ولقد كان من الضروري أن تكتب الكلمة الدالة على لفظ الجلالة god وليس God كما فعل مترجمو الإنجيل الغير أمناء .
ونحن نسأل :
(1/103)
لماذا استخدمتم الحرف الكبير ( gG) بدلاً من الحرف الصغير :
إنكم تخدعون الناس وتتلاعبون بترجمة أصول كتابكم المقدس .
ولقد جاء بالعهد القديم نص يقول فيه الرب لموسى بسفر الخروج : (( أنا جعلتك إلهاً لفرعون ))[ 7 : 1 ]
ولقد قمتم بترجمة النص إلي الإنجليزية هكذا :
I have made you a god to pharoah .
مما يدل على أنكم تميزون بين الإله المعبود بحق والإله عندما يكون غير جدير بالعبادة ، فلماذا لم تلتزموا الدقة والأمانة عند ترجمة كلمة Tontheos عندما وردت بأول فقرة من أول أصحاح بإنجيل يوحنا ؟
إن هذا هو ما تريدون أن تعتقدوه . إن هذا هو ما تريدون للناس أن يعتقدوا .
ولتوضيح الأمر لك عزيزي المتصفح إليك هذا المثال :
عندما تقول : عبد اليونان القدامى آلهة كثيرة ، فإنك تقول بالإنجليزية :
The Ancient Greeks worshpped many gods .
وعندما تقول : نحن نعبد إلهاً واحداً ، فإنك تقول بالإنجليزية :
We worship one God.
فعندما يكون الإله معبوداً بحق تستخدم في بدايته الحرف الكبير G وعندما لا يكون معبوداً بحق تستخدم في بدايته الحرف الصغير g ولقد تلاعب مترجمو إنجيل يوحنا عن اليونانية ، فجعلوا كلمة ( الله ) الواردة في أول إصحاح من إنجيل يوحنا مبدوء بحرف كبير ، وكان من الضروري أن يبدأ بحرف صغير لأنها ترجمة لكلمة Tontheos وليست ترجمة لكلمة Hotheos اليونانية .
ثانياً : إن الكلمة المذكورة في الفقرة هي كلمة التكوين ، ذلك أنه لما كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الله ، ما يعلو عقول البشر ، عبر عنه كتبة الأسفار بقولهم في المزمور الثالث والثلاثين الفقرة التاسعة ( لأنه قال فكان هو أمر فصار ) وفي الترجمة الحديثة للكتاب المقدس : (( قال كلمةً فكان وأمر فصار ))
(1/104)
فكلمة قال ، وكلمة أمر ، هي كلمة التكوين ، وهو ما ورد في بسفر التكوين الإصحاح الأول : ( وقال الله ليكن نور فكان نور ) فكلمة ليكن هي كلمة التكوين . وفي المزمور [ 33 : 6 ] يقول النص (( بكلمة الرب صنعت السموات ))
ولما كان قد فقد في تكوين المسيح وحمل أمه بما جعله الله سبباً للحمل وهو التلقيح بماء الرجل لما في الرحم ، أضيف هذا التكوين إلي كلمة الله وأطلقت الكلمة على المكون إيذاناً بذلك أو إشارة له وهذا من قبيل المجاز .
هذا وان جميع المفسرين من السلف ذكروا أن معنى تسمية المسيح بكلمة الله ، أي أن الله سبحانه وتعالى _ قد خلقه بالكلمة وهي ( كن ) ، وأن الكلمة نفسها ليست ذات المسيح ، فالمسيح مخلوق بالكلمة وليس هو الكلمة .
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران : (( قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )) (آل عمران : 47)
فقد بينت هذه الآية الكريمة انه لما تعجبت مريم عليها السلام من ولادة هذا الولد من غير أب أجابها الملاك مقرراًً أن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون ، فدل ذلك على أن هذا الولد مما يخلقه الله بقوله ( كن فيكون ) فلهذا قال الإمام أحمد : عيسى مخلوق بالكن ، وليس هو نفس الكن
ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في آية أخرى : (( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون ))
(1/105)
ثالثاً : وهناك وجه آخر لإطلاق وتسمية المسيح بكلمة الله ، وذلك للإشارة إلي ما جاء بكلام الأنبياء عنه وبشارتهم به فقد ورد في سفر أرميا [ 33 : 14 ] قوله : (( ها أيام تأتي يقول الرب : وأقيم الكلمة الصالحة التي تكلمت بها إلي بيت إسرائيل وإلي بيت يهوذا في تلك الأيام )) فهنا المراد بالكلمة الصالحة هي كلمة الوعد والبشرى بالمسيح المنتظر .
وورد في سفر اشعياء [ 2 : 3 ] قوله : (( لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب ))
يكون إنما سمي المسيح بالكلمة على معنى أنه الكلمة السابق بها الوعد ، والبشارة من الله لأنبياء الشريعة
ومما يؤكد هذا النظر أنه كثيراً ما يطلق لفظ ( الكلمة ) في الكتاب المقدس ويراد بها كلمة الوعد والبشرى
وإليك الأدلة أيها القارئ الكريم :
- ورد في المزمور الخامس بعد المائة الفقرة الثانية والأربعين ما نصه :
(( لأنه ذكر كلمة قدسه مع إبراهيم عبده ))
- وورد في سفر أخبار الأيام الأول [ 16 : 15 ] ما نصه :
(( اذكروا إلي الأبد عهده الكلمة التي أوصى بها إلي ألف جيل الذي قطعه مع إبراهيم ))
ويكون على ذلك أن إضافة الكلمة لله هي للاحتراز عن الكلمة التي للشيطان وهي التي لا تصدق وهذا طبقاً لما جاء في سفر الأمثال الإصحاح الثلاثين الفقرة الخامسة يقول النص : (( كل كلمة من الله نقية ))
فيتضح أن كلمة الله نقية وكلمة الشيطان رديئة ولذلك لزم إضافة الكلمة المعبر بها عن المسيح بالوعد والبشرى به لله سبحانه وتعالى .
ولم يرد أيها القارئ الكريم في الكتاب المقدس ذكر صريح للأقنوم الثاني حتى يحمل لفظ الكلمة عليه ، كما يقول المسيحيون بأن الكلمة في قول يوحنا في إنجيله بقوله ( وكان الكلمة الله ) . وأن المراد بذلك في اعتقادهم هو الأقنوم الثاني وهو المسيح من الثالوث ، إذ أن عبارة أقنوم لم ترد مطلقاً في أي سفر في العهد القديم ولا في العهد الجديد .
(1/106)
رابعاً : إن إطلاق لفظ الله على الكلمة ، وهي المعني عنها بالمسيح ، لا يعني إطلاقاً كون المسيح مساوياً لله ومتحد معه ، بل غاية ما فيه إطلاق لفظ الله على المسيح ، وليس هذا بالأمر الغريب في الكتاب المقدس لأن الكتاب المقدس أطلق لفظ الله على الملاك كما في سفر القضاة [ 13 : 21 ، 22 ]
وأطلق الكتاب المقدس لفظ الله على القاضي كما في سفر الخروج [ 22 : 8 ] وأطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على الشرفاء كما في المزمور الثاني والثمانين الفقرة الأولى .
كما أطلق الكتاب المقدس لفظ الآلهة على القضاة الدينيين كما في المزمور الثاني والثمانين الفقرة السادسة
والخلاصة :
أنه إذا كان في الكتاب المقدس مباحاً إطلاق لفظ الله على كل من الملاك ، والقاضي ، والرجل الشريف ، كما أطلق لفظ إله على القضاة الدينيين وعلى الملاك وعلى الشريف ، فهل يسوغ القول أن إطلاق لفظ الله على المسيح يقتضي ألوهيته ومساواته لله ؟ إنه لو كان الأمر كذلك لكان كل من المذكورين متحدين مع الله ومتساويين معه ، ولم بقل أحد بذلك لبطلانه ، لذلك كان القول باتحاد المسيح بالله ومساواته لرب العالمين باطل .
خامساً : أن قوله ( في البدء ) كما يحتمل الأزل ، يحتمل غيره ، كما هو وارد في سفر التكوين [ 1 : 1 ]
( أ ) ( في البدء خلق الله السموات والأرض ) . أي في أول التكوين أو الخلق لا في الأزل .
( ب ) وكما في قوله في إنجيل متى إصحاح 8 ( ولكن من البدء لم يكن هذا ) . أي من عهد الزيجة . لا في الأزل .
( ج ) وكما في قوله في إنجيل لوقا [ 1 : 2 ] : ( كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء ) أي من أول خدمة المسيح لا في الأزل .
( د ) وكما في قوله في إنجيل يوحنا [ 6 : 64 ] : ( لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ) أي من ابتداء خدمته وإتيان التلاميذ إليه لا في الأزل .
(1/107)
( هـ ) وكما في قوله في إنجيل يوحنا [ 8 : 44 ] : ( ذاك كان قتالاً للناس من البدء ) أي منذ خلق الإنسان الأول لا من بدء نفسه ، لأنه كان في البدء ملاك نور .
( و ) وكما في رسالة يوحنا الأولى [ 2 : 7 ] قوله : ( بل وصيته قديمة كانت عندكم من البدء ) . أي أشار به إلى بداءة إيمانهم بالمسيح .
( ز ) وكما في قوله في إنجيل يوحنا [ 16 : 4 ] : ( ولم أقل لكم من البداءة لأني كنت معكم ) . أي من بداءة خدمته . لا من الأزل .
( ح ) وكما في رسالة يوحنا الأولى [ 2 : 5 ] قوله : ( والآن أطلب منك بالبرية لا كأني أكتب إليك وصية جديدة بل كانت عندنا من البدء ) أي منذ سمعنا الانجيل . لا منذ الازل .
سادساً : ان عندية المسيح في قول يوحنا ( والكلمة كان عند الله ) هي عندية منزلة وتشريف ، وليست عندية اتحاده بالله ، فهذه العندية هي عندية محسوسة وليست عندية اتصال واتحاد ، لاستحالة ذلك كله على الله .
ونظير ذلك هو الآتي :
- جاء في سفر التكوين [ 4 : 1 ] :
(( وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قابين ، وقالت : اقتنيت رجلاً من عند الرب ))
- وجاء بسفر التكوين [ 19 : 24 ] :
(( وأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب ))
ونظير ذلك ما جاء في القرآن الكريم عن إسماعيل بن إبراهيم عليها السلام يقول الله تبارك وتعالى في سورة مريم :
-(( وكان عند ربه مرضياً ))
وفي وصف الشهداء يقول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران :
- (( أحياء عند ربهم يرزقون ))
ومن ناحية أخرى نقول أن العندية تقتضي المغايرة في قوله ( والكلمة كان عند الله )
فإن قول يوحنا : (والكلمة كان عند الله ) لا يتفق مع قوله ( وكان الكلمة الله )
لأنه إذا كان الله عين الكلمة لا يصح أن تكون الكلمة عنده ، لأن العندية تقتضي المغايرة .
فكيف تكون الكلمة هي الله وكيف هي عنده ؟
(1/108)
لقد انفرد يوحنا بذكر هذه العبارة في صدر إنجيله وهي عبارة في غاية التهافت والركاكة فهو يقول : (( في البدء كان الكلمة . والكلمة كان عند الله . وكان الكلمة الله )) وهذا كما ترى عزيزي القارئ كلام مضطرب من جهة لفظه فإن ذلك بمنزلة قول القائل : الكلام عند المتكلم والمتكلم هو الكلام ، والعلم عند العالم والعالم هو العلم ، والدينار عند الصيرفي والصيرفي هو الدينار ، وذلك هو الجنون .
يقول الأستاذ أحمد السيد موسى في معرض رد على هذه العبارة :
مما يؤكد تناقض الإنجيل وتحريفه ، أنه قد جاء في أول يوحنا كلام غريب لا يقبله إلا من فقد عقله ، حيث يقول العدد : (( في البدء كان الكلمة . والكلمة كان عند الله . وكان الكلمة الله ))
يعني أن عيسى كان في بدايته كلمة ، وهل الكلمة هي التي تنطق بنفسها أم ينطق بها غيرها ؟
لا شك أن الكلمة تأتي من نطق الغير بها ، إذاً من الذي نطق بكلمة كن عيسى فكان ؟ أليس هو الله ؟ ومعنى أن الكلمة كانت عند الله ، أي نطق الله بها وهي كلمة كن عيسى فكان . .
أما أن تتحول الكلمة التي نطق الله بها فتكون هي الله نفسه في الوقت فهذا جنون ، هل رأيت إنساناً نطق بكلمة ، ثم تحولت هذه الكلمة في الحال لتصبح هي نفس الإنسان الذي نطبق بها ؟!
هل تتحول القصيدة التي ألقاها شاعر إلى أن تكون هي نفس الشاعر ؟! أم أن الشاعر هو ناطق ، والقصيدة منطوقة بفمه فيكون هو ناطقها أي موجدها وصانعها ، والقصيدة مصنوعة مصوغة بإرادته ؟
إن أدركت هذا ، فافهم الفرق بين الله تعالى الخالق وبين عيسى المخلوق بكلمة الله وقدرته . .
قول المسيح : و ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء .
الرد على هذه الشبهة :
(1/109)
أولا: في هذه الآية ، جملة محرفة مضافة ، و هي جملة " الذي هو في السماء " الأخيرة. و قد أقر بذلك شراح الأناجيل ، كما جاء ذلك في كتاب تفسير الكتاب المقدس حيث قال : " الذي هو في السماء: هذه العبارة لم ترد في أقدم المخطوطات ". و لذلك فإن الترجمة العربية الجديدة المنقحة للكتاب المقدس التي قامت بها الرهبانية اليسوعية ، حذفت هذه الجملة من ترجمتها و أوردت النص كما يلي : " فما من أحد يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء و هو ابن الإنسان ". ( راجع العهد الجديد للمطبعة الكاثوليكية )
ثانيا: لو أخذنا النزول من السماء على معناه الحرفي فليس فيه أي إثبات لإلهية المسيح ، إذ أن نزول الشخص أو الكائن من السماء إلى الأرض لا يفيد ألوهيته لا من قريب ولا من بعيد، فكثير من الكائنات الملكوتية نزلت من السماء، كجبريل مثلا الذي كان ينزل من السماء إلى الأرض حاملا رسالات الله أو منفذا أمرا من أوامر الله عز و جل، كما أنه في كثير من الأحيان، هبطت بعض الملائكة إلى الأرض آخذة لباسا بشريا، كالملائكة الثلاثة، الذين جاؤوا لزيارة إبراهيم و بشارته ثم ذهبوا إلى لوط u ليطمئنوه حول نزول العذاب على قومه الفاسقين.
فأقصى ما يفيده مثل هذا النص، لو أخذ على معناه الحرفي، هو أن المسيح كان مخلوقا بالروح قبل أن يلد كإنسان على الأرض، ثم لما جاء وقته نزل بأمر الله إلى الأرض و ولد كسائر البشر بالجسد و الروح. فأين في هذا أي دليل على ألوهيته؟ !
ثالثا : و الحقيقة أن هذا التعبير بنزول المسيح من السماء لا يقصد به معناه الحرفي بل هو ذو معنى مجازي، و لفهمه على وجهه الصحيح لا بدَّ أن نقرأ ذلك النص و تلك الآية ضمن سياقها ، فقصة هذا الكلام تبدأ من أول الإصحاح الثالث في إنجيل لوقا هكذا :
(1/110)
" كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيسا لليهود. هذا جاء إلى يسوع ليلا و قال له يا معلم نعلم أنك قد أتيت من الله معلما لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه. أجاب يسوع و قال له: الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله. قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد و هو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية و يولد؟ أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء و الروح لا يقدر أن يرى ملكوت الله. المولود من الجسد جسد هو، و المولود من الروح هو روح. لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق. الريح تهب حيث تشاء و تسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي و لا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح . أجاب نيقوديموس و قال له: كيف يمكن أن يكون هذا ؟ أجاب يسوع و قال له: أنت معلم إسرائيل و لست تعلم هذا ؟ الحق الحق أقول لك، إننا إنما نتكلم بما نعلم و نشهد بما رأينا و لستم تقبلون شهادتنا. إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات. و ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء " يوحنا : 3 / 1 ـ 13 .
(1/111)
قلت: بتأمل هذا النص يتبين لنا أن المسيح يمثل للولادة الروحية الجديدة بالولادة من فوق أو الولادة من الروح ، و أن من لم يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله، فالولادة من فوق أو من الروح، تعبير مجازي عن الانقلاب الروحي الشامل للإنسان الذي يشرح الله تعالى فيه صدره و يفتح قلبه و بصيرته لنوره، فتتغير كل رغباته و هدفه في الحياة حيث يخرج عن عبادة ذاته و حرصه على الدنيا لتصبح إرادته مستسلمة و موافقة لإرادة الله و يصبح هدفه هو الله تعالى و رضوانه و محبته و صحبته و جواره في دار السلام لا غير، فكأنه بهذا ولد من جديد، و من هذا المنطلق يقول المسيح عن نفسه أنه نزل من السماء: أي أنه رسول الله و مبعوث السماء، اجتباه الله و قدسه و جعله سفيره إلى الخلق، فهذا معنى نزوله من السماء، بدليل مقارنته و مشابهته بين هذا النزول من السماء و بين الولادة من فوق التي يجب أن يحصل عليها كل إنسان لكي يرى ملكوت الله. و لو رجعنا لتفسير الكتاب المقدس لوجدناه يفسر العبارة بتفسير غير بعيد عما ذكرناه فيقول: " لم يصعد أحد إلى السماء، و مع ذلك فقد أراد الله أن يكون هناك نزول من السماء إلى الأرض قد أتى يسوع من السماء بمعرفة كاملة لله، ليعلن اللهَ للناس " .
قول المسيح : و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا
و وجه استدلالهم بهذا النص أن غفران الخطايا أمر منحصر بالله ، فإذا كان للمسيح ذلك السلطان ، فهذا يعني أنه الله تعالى.
الرد على هذه الشبهة:
لاحظ أيها القارىء الكريم أن المسيح قال : (( أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا )) متى [ 9 : 6 ]
وإذا سألنا المسيح نفسه من أين لك هذا السلطان ؟
سنجد الإجابة واضحة بقوله الوارد في متى [ 28 : 18 ] : (( دفع إلي كل سلطان ))
إذن انه ليس سلطانه هو ! ولكن الله هو الذي أعطاه إياه !
(1/112)
فقد أعطاه الله سلطان إبراء الأكمه والأبرص وسلطان إحياء الموتى ومغفرة الخطايا و . . . الخ
إذن من أين جاءه هذا السلطان ؟ الإجابة من الله سبحانه وتعالى
إذن المجد لله سبحانه وتعالى الذي منح المسيح هذه المعجزات
وهذا ما شهد به الجموع في كل مرة ، حينما كان المسيح يصنع المعجزات أمامهم فكانوا يمجدون الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا . متى [ 9 : 8 ]
وفي لوقا [ 5 : 26 ] عندما رأوا الخرس يتكلمون والعرج يمشون … ما كان منهم سوى أنهم مجدوا إله إسرائيل .
وفي لوقا [ 7 : 16 ] عندما رأى الجموع أعظم معجزة للمسيح وهي قيامه بإحياء الميت ما كان منهم سوى انهم مجدوا الله قائلين : (( قد قام فينا نبي عظيم ))
نعم أيها القارئ الكريم إن الأناجيل تصرخ قائلة : المجد لله وليس للمسيح . أنه سلطان الله وليس سلطان المسيح . . .
ثم إن النص لا يدل على أن قيام المسيح بغفران الخطايا دليل على لاهوته لأن النص صرح بأن من قام بذلك هو ابن الإنسان فالمسيح قال (( أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا )) متى [ 9 : 6 ]
فالقول بأن المسيح غفر لأنه إله هو قول يرده النص نفسه .
يقول الأستاذ سعد رستم في معرض رده على هذه الشبهة :
أولا: لمناقشة هذه الشبهة علينا أن نرجع إلى النص الكامل للواقعة التي جاء هذا الكلام للمسيح فيها.
يبتدأ الإصحاح التاسع من إنجيل متى بذكر هذه الواقعة فيقول:
(1/113)
(( فدخل السفينة و اجتاز و جاء إلى مدينته. و إذا مفلوج يقدمونه إليه مطروحا على فراش. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج ثق يا بني. مغفورة لك خطاياك. و إذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم هذا يجدف. فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم. أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم و امش؟ و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا. حينئذ قال للمفلوج. قم احمل فراشك و اذهب إلى بيتك. فقام و مضى إلى بيته. فلما رأى الجموع تعجبوا و مجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا )) متى : [9 : 1].
هناك أمران في هذا النص تنبغي ملاحظتهما لأنهما يلقيان ضوءا على حقيقة سلطان السيد المسيح لغفران الخطايا :
الأول: أن المسيح لم يقل للمفلوج : ثق يا بني لقد غفرتُ لك خطاياك! بل أنبأه قائلا: مغفورة لك خطاياك. و الفرق واضح بين الجملتين، فالجملة الثانية لا تفيد أكثر من إعلام المفلوج بأن الله تعالى قد غفر ذنوبه ، و ليس في هذا الإعلام أي دليل على ألوهية المسيح، لأن الأنبياء و الرسل المؤيدين بالوحي و المتصلين بجبريل الأمين، يطلعون، بإطلاع الله تعالى لهم ، على كثير من المغيبات و الشؤون الأخروية و منها العاقبة الأخروية لبعض الناس ، كما أخبر نبينا محمد (صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) عن بعض صحابته فبشرهم أنهم من أهل الجنة و عن آخرين فبشرهم أنهم من أهل النار.
(1/114)
ثانيا: قد يشكل على ما قلناه قول المسيح فيما بعد : و لكن لتعلموا أن لابن الإنسان سلطانا على الأرض أن يغفر الخطايا، فنسب غفران الخطايا لنفسه. قلنا : آخر النص يجعلنا نحمل هذه النسبة على النسبة المجازية، أي على معنى أن ابن الإنسان (المسيح) خوله الله أن يعلن غفران خطايا، و ذلك لأن الجملة الأخيرة في النص السابق تقول: " فلما رأى الجموع ذلك تعجبوا و مجدوا الله الذي أعطى الناس سلطانا مثل هذا ، فالغافر بالأصل و الأساس هو الله تعالى، ثم هو الذي منح هذا الحق للمسيح و أقدره عليه، لأن المسيح كان على أعلى مقام من الصلة بالله و الكشف الروحي و لا يتحرك إلا ضمن حكمه و إرادته فلا يبشر بالغفران إلا من استحق ذلك.
و مما يؤكد أن غفران المسيح للذنوب هو تخويل إجمالي من الله تعالى له بذلك، و ليس بقدرة ذاتية له ، هو أن المسيح، في بعض الحالات، كان يطلب المغفرة للبعض من الله تعالى فقد جاء في إنجيل لوقا [23 : 34] : فقال يسوع: (( يا أبتاه ! اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون.))
فانظر كيف طلب من الله غفران ذنبهم و لو كان إلها يغفر الذنوب بذاته و مستقلا، كما ادعوا، لغفر ذنوبهم بنفسه.
فهذا السلطان بغفران الخطايا الذي أعطاه الله تعالى للمسيح، شبيه بذلك السلطان الذي منحه المسيح أيضا لحوارييه حين قال:
(( فقال لهم يسوع أيضا: سلام لكم. كما أرسلني الآب أرسلكم أنا. و لمّا قال هذا نفخ و قال لهم: اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له. من أمسكتم خطاياه أمسكت )) يوحنا : [20 : 21 ، 23]
(1/115)
و شبيه بذلك السلطان الذي منحه لبطرس رئيس الحواريين حين قال له : (( طوبى لك يا سمعان بن يونى، إن لحما و دما لم يعلنا لك. لكن أبي الذي في السموات. و أنا أقول أيضا: أنت بطرس و على هذه الصخرة أبني كنيستي و أبواب الجحيم لن تقوى عليها. و أعطيك مفاتيح ملكوت السموات. فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السموات ، و كل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السموات )) متى : [11 / 17 18]
فكما أن هذا السلطان بغفران الخطايا الذي ناله بطرس خاصة و الحواريون عامة، بإذن الله، عبر المسيح، لا يفيد ألوهيتهم؛ فكذلك امتلاك المسيح لذلك السلطان، بإذن الله، لا يفيد ألوهيته.
صعود المسيح إلي السماء حياً
يدعي المسيحيون أن المسيح صعد حياً إلي السماء ، وهو حي فيها الآن مما يفيد ألوهيته !
الرد على هذه الشبهة :
إننا نقول أن الصعود لم يكن منفرداً به المسيح حتى تدعون إنه إله ، ألم يرد في كتابكم المقدس في سفر الملوك الثاني [ 2 : 11 ، 12 ] أن النبي إيليا قد صعد إلي السماء حياً وترك أليشع خلفه يبكي و إنه إلي الآن حي فيها ؟
يقول النص : (( وفيما هما _ أي إيليا وأليشع _ يسيران ويتكلمان إذا مركبة من نار وخيل من نار فصلت بينهما ، فصد إيليا في العاصفة إلي السماء ))
ثم ألم يرد في كتابكم المقدس في سفر التكوين [ 5 : 24 ] أن أخنوخ صعد حياً إلي السماء وأنه حي فيها ؟
يقول النص : (( وسار أخنوخ مع الله ولم يوجد ، لأن الله أخذه ))
فلو كان الصعود إلي السماء دليل على الالوهية لكان أخنوخ وإيليا إلهين . وهذا ما لم يقل به أحد .
ثم إن المسيح عليه السلام لم يصعد من ذاته إلي السماء بل أُصْعِدَ إلي السماء ، أي أن هناك قوة أخرى قامت بإصعاده أو رفعه إلي السماء وإليك الدليل من إنجيل لوقا [ 24 : 51 ] : (( وَبَيْنَمَا كَانَ يُبَارِكُهُمْ، انْفَصَلَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ ))
(1/116)
فإذا كان الله قد تجسد في جسد المسيح ، فمن الذي قام بعملية الإصعاد هذه ؟!
إطلاق لفظ رب على المسيح
يستدل المسيحيون بتسمية المسيح رباً على ألوهيته .
الرد على هذه الشبهة :
من المجازات الواردة في الأناجيل استعمال لفظ ( رب ) في حق المسيح بمعنى معلم وهذا هو تفسير يوحنا نفسه في الإصحاح الأول الفقرة الثامنة والثلاثين من إنجيله فقد فسر كلمة رب بمعنى معلم . وإليك النص :
(( فالتفت يسوع ونظرهما يتبعانه فقال لهما : ماذا تطلبان ، فقالا : ربي الذي تفسيره يا معلم أين تمكث ؟ فقال لهما : تعاليا وانظرا فأتيا ونظرا أين يمكث ومكثا عنده ذلك اليوم . ))
ملاحظة :
إن جملة : ( الذي تفسيره يا معلم ) المعترضة، هي ليوحنا نفسه مؤلف الإنجيل و ليست لأحد من الشراح، فهي من متن الإنجيل نفسه وليست مضافة . )
لقد فسر يوحنا كلمة رب في صلب الإنجيل نفسه بأنها تعني المعلم ، فعيسى بالنسبة لتلاميذه هو معلمهم وأستاذهم .
ومرة ثانية يورد يوحنا في [ 20 : 16 ، 17 ] حواراً بين المسيح ومريم المجدلية ، تطلق فيه مريم المجدلية على المسيح لفظ ( رب ) ويحرص يوحنا على تقسير اللفظ خلال الحديث بمعنى معلم ، وإليك النص :
(( قال لها يسوع يا مريم فالتفتت تلك وقالت له : ربوئي الذي تفسيره يا معلم ، قال لها يسوع : لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلي أبي ، ولكن اذهبي إلى أخوتي وقولي لهم إني اصعد إلي أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ))
وقد أطلق الكتاب المقدس كلمة رب على غير المسيح في نصوص كثيرة طبقاً لما سيأتي ، فلو كان في إطلاق لفظ ( رب ) على المسيح أن يكون إلهاً للزم أن يكون كذلك على غيره ممن أطلق عليه ذلك اللفظ .
فقد أطلق الكتاب المقدس لفظ الرب على الكاهن والقاضي وذلك في سفر التثنية [ 19 : 17 ] يقول النص : (( يقف الرجلان اللذان بينهما خصوصة أمام الرب )) والرب هنا هو القاضي والكاهن .
(1/117)
وأطلق الكتاب المقدس لفظ الرب على الملك وذلك في سفر الخروج [ 4 : 24 ]
يقول النص : (( وحدث في الطريق في المنزل أن الرب التقاه وطلب أن يقتله ))
فهذا الرب الذي لقي موسى في الطريق ، هو الملك أراد أن يقتل موسى .
وسمي الملك رباً في سفر القضاة أربع مرات وذلك في الإصحاح السادس ابتداء من الفقرة الحادية عشرة .
وقد جاء في إنجيل . . . [ 4 : 19 ] ما يفيد إن لفظ ( الرب ) كان يقال في ذلك الوقت على سبيل الاحترام أيضاً ودليل ذلك المرأة السامرية التي طلب منها المسيح عليه السلام أن تسقيه ، مما أثار تعجبها ، ولذلك قالت له : (( يا رب أرى أنك نبي ))
فالمرأة هنا لا تعرف المسيح ولا تؤمن به بل هي تشك حتى في مجرد أن يكون نبي ، ورغم ذلك تقول له ( يا رب ) فإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ان هذا اللفظ يراد به الاحترام ولا يعني الالوهية في شيء .
ويكفي أن نعرف أن يوحنا نفسه فسر كلمة رب بمعنى معلم في [ 1 : 38 ] من إنجيله .
و من الجدير ذكره هنا ، أنه حتى في اللغة العربية ، قد تطلق لفظة الرب ، المطلقة من غير أي إضافة، على الملِك و السيد، كما ذكر صاحب لسان العرب حيث قال أن أهل الجاهلية يسمون الملك : الرب، و أنه كثيرا ما وردت كلمة الرب مطلقةً، في أشعارهم ، على معنى غير الله تعالى .
كما جاء في لسان العرب : الرب : يطلق في اللغة على المالك ، و السيد ، و المدبر ، و المربي، و القيِّم ، و المنعم و السيد المطاع ....
و قد وردت في القرآن الكريم بهذا المعنى عدة مرات، من ذلك الآيات التالية :
(( يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا )) سورة يوسف / 41
(( و قال للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين )) سورة يوسف / 42.
(( فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن )) سورة يوسف /50.
أيها القارئ الكريم :
(1/118)
كل هذه الأمثلة أوردتها للتأكيد على أن لفظة ( الرب ) لا ينحصر معناها في الله تعالى الخالق الرازق، بل كثيرا ما تأتي بمعنى المالك الآمر و السيد المطاع والمعلم وهذا المعنى الأخير هو المراد في لغة العهد الجديد و لغة التلاميذ عندما يطلق على المسيح و هو الذي كان يعنيه بولس من لفظة الرب عندما يطلقها على السيد والمعلم المسيح ، فليس في هذه اللفظة أي دليل على ألوهيته.
ومما يؤكد ذلك قول المسيح نفسه لتلميذين من تلاميذه عندما طلب منهما إحضار الحمار أو الجحش له : (( وان سألكما احد لماذا تحلانه فقولا له هكذا أن الرب محتاج إليه . )) [ لوقا 19 : 31 ]
فهل لو كان المسيح رب بمعنى الإله المعبود بحق : يقول : أن الرب محتاج إليه ؟
سجود بعض التلاميذ للمسيح
يستدل المسيحيون بسجود بعض التلاميذ للمسيح على ألوهيته .
والرد على هذا الاستدلال هو بالآتي :
لقد جاء في الكتاب المقدس في كثير من نصوصه ذكر سجود البشر للأنبياء و أحيانا سجود النبي للنبي بل حتى أحيانا سجود الأنبياء للبشر ، مما يؤكد أنه في عرف الكتاب المقدس لا يعتبر السجود عبادة محضة خاصة بالله ، بل هو أعم من ذلك ، فقد يكون عبادة ، و قد يكون مجرد خضوع واحترام للمسجود له ، و بالتالي في هذه الحالة الأخيرة يجوز أداؤه لغير الله . و ليس هذا خاصاً بالكتاب المقدس بل أثبت القرآن أيضا ذلك الأمر في قصصه عن الأمم السابقة ، فكل مسلم يعرف أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، و يعرف قصة سجود أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر ليوسف كما في سورة يوسف. لكن دعنا الآن نذكر الشواهد من الكتاب المقدس :
( 1 ) جاء في سفر التكوين [ 23 : 7 ] ما نصه : (( فقام إبراهيم و سجد لشعب الأرض لبني حث )) وفي الفقرة 12 من نفس الإصحاح نجد ما نصه : (( و سجد إبراهيم أمام شعب الأرض ))
( 2 ) وجاء في سفر التكوين [ 33 : 3 ـ 7 ] : أن يعقوب سجد و نساؤه و أولاده لعيسو عندما التقوا به .
(1/119)
( 3 ) وفي سفر التكوين أيضا [ 42 : 6 ] ، [ 43 : 26 ، 28] : أن إخوة يوسف سجدوا له.
( 4 ) وورد في سفر التكوين أيضا [ 48 : 12 ] : أن يوسف سجد أمام وجه أبيه.
( 5 ) وفي سفر الخروج [ 18 : 7 ] : أن موسى خرج لاستقبال حميه و سجد و قبله.
( 6 ) وفي سفر صموئيل الأول [ 24 : 8 ، 9 ] : أن داود : (( نادى وراء شاول قائلا يا سيدي الملك ، فلما التفت شاول إلى وراءه ، خر داود على وجهه إلى الأرض و سجد ))
( 7 ) وفي سفر صموئيل الأول أيضا [25 : 23 ، 24] ما نصه :
(( و لما رأت أبيجائيل داود أسرعت و نزلت عن الحمار و سقطت أمام داود على وجهها و سجدت إلى الأرض و سقطت على نعليه و قالت: علي أنا يا سيدي هذا الذنب و دع أمتك تتكلم... ))
( 8 ) وفي سفر الملوك الأول [ 1 : 16 ] : (( فخرت بششبع و سجدت للملك ( داود ) )).
( 9 ) وفي سفر الملوك الأول أيضا ِ[ 1 : 22 ، 23 ] ما نصه : (( و بينما هي تتكلم مع الملك إذ وصل ناثان النبي . فأخبروا الملك ( داود ) قائلين هو ذا ناثان النبي . فدخل إلى أمام الملك (داود) و سجد للملك على وجهه إلى الأرض ))
و الشواهد على ذلك كثيرة ونكتفي بما ذكرناه .
قول بولس : الله ظهر في الجسد ، تبرر في الروح ، تراءى للملائكة ، كُرِزَ به بين الأمم ، أومِنَ به في العالم ، ُ رفِع في المجد .
رسالته الأولى إلى تيموثاوس [ 3 : 16 ] كما في الترجمة التقليدية البروتستانتية .
الرد على هذه الشبهة :
أولاً : من المعلوم لدينا أن كلام بولس على تقدير صحة نسبة الرسائل إليه ، ليس بمقبول عندنا لأنه عندنا من الكاذبين الذين كانوا قد ظهروا في الطبقة الأولى، وإن كان مقدساً عند أهل التثليث، فلا نشتري قوله بحبة . [ إظهار الحق ]
(1/120)
ثانياً : إن ذكر لفظ الجلالة " الله " كفاعل لفعل " ظهر " إنما هو اجتهاد و تصرف من المترجم و لا وجود لهذه اللفظة في الأصل اليوناني بل فعل " ظهر " فيها مذكور بدون فاعل ، أي مذكور بصيغة المبني للمجهول (أُظْهِرَ ) ، كما هو حال سائر أفعال الفقرة : كُرِزَ به بين الأمم ، أومنَ به في العالم...
و قد اتبعت الترجمة العربية الحديثة الكاثوليكية الأصل اليوناني بدقة فذكرت فعل ظهر بصيغة المبني للمجهول ، و لم تأت بلفظ الجلالة هنا أصلا ، و إليكم ما ذكرته بعين حروفه :
( و لا خلاف أن سر التقوى عظيم . قد أُظهِرَ في الجسد ، و أُعلِن بارا في الروح و تراءى للملائكة و بُشِّر به عند الوثنيين و أومن به في العالم، و رُفِعَ في المجد ) . ( راجع العهد الجديد الطبعة الكاثوليكية )
و نفس الأمر في الترجمتين الحديثتين المراجعتين الفرنسية و الإنجليزية . و بهذا يبطل استدلالهم بالفقرة على ألوهية المسيح ، لأن الذي ظهر في الجسد هو المسيح ، الذي كان كائنا روحيا فيما سبق ـ إذ هو أول خليقة الله حسب عقيدة بولس ـ و ليس الله .
بالإضافة إلى أن بعض الجمل اللاحقة تؤكد أن الذي ظهر ليس الله و لا هو بإله ، كعبارة : أُعلِنَ باراً في الروح ، أو عبارة رُفِعَ في المجد . حيث أ نه من البديهي أن الله تعالى الممجد في علاه القدوس أزلاً و أبداً ، لا يمكن أن يأتي أحد و يرفعه في المجد أو يعلنه باراً في الروح !! إنما هذا شأن العباد المقربين و الرسل المكرمين و حسب .
ثالثا : هناك من تأول العبارة بأن الظهور لا يأخذ بمعناه الحرفي ولكن المعنى أن الله ظهر برسالته وآياته التي صنعها رسوله . ومع هذا يجب أن نلاحظ أن هذه الكلمات ليست كلمات المسيح عليه السلام إنها كلمات بولس وأفكار بولس التي سعى لترويجها بين الناس في عصره . ولم يقل المسيح عليه السلام يوم قط : (( أنا الله )) . ولم يقل المسيح للناس يوم قط : (( أعبدوني )) .
(1/121)
وصف المسيح بأنه صورة الله
يعتقد المسيحيين ان المسيح صورة الله ، وأنه الله القدير .
ويرد على ذلك بالآتي :
أولاً : إن القول بكون المسيح ( هو صورة الله ) معناه أنه هو غير الله سبحانه وتعالى ، لأن كون شيء على صورة شيء لا يقتضي أنه هو ، بل بالعكس يفيد أنه غيره ، فمثلاً صور الآلهة المعبودة من دون الله والمصنوعة من الذهب والنحاس والخشب هي بالقطع ليست عين الإله المعبود ، وبناء على هذا المثال فإن القول بأن المسيح ( هو صورة الله ) يفيد بلا شك أنه غيره لا عينه .
ثانياً : إن كون المسيح ( هو صورة الله ) معناه أن الله جعله نائباً عنه في إبلاغ شريعته الأدبية والروحية إلي من أرسل إليهم ، والدليل على ذلك قول بولس نفسه في رسالته الأولى إلي أهل كورنثوس [ 11 : 7 ] :
(( فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه لكونه صورة الله ومجده ، وأما المرأة فهي مجد الرجل ))
فهذا معناه أن الله أناب الرجل عنه في سلطانه على المرأة ، ومقتضى هذا السلطان أن لا يغطي رأسه بخلاف المرأة .
ثالثاً: إن الله خلق آدم كما خلق المسيح ، فلا ميزة للمسيح في هذا المعنى فقد ورد في سفر التكوين [ 1 : 26 ] قوله :
(( قال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا فخلق الله الإنسان على صورته ، على صورة الله خلقه ))
كما ورد نفس المعنى في سفر التكوين [ 9 : 9 ] قوله :
(( لأن الله على صورته عمل الإنسان ))
أن وصف بولس للمسيح بأنه (( صورة الله ))، ليس فيه أي تأليه للمسيح، لأن هذه الصفة تكررت بعينها مرات عديدة في الكتاب المقدس بعهديه القديم و الجديد، و وصف بها الإنسان، بشكل عام و الرجل بشكل عام أيضا، و يفهم من تتبع موارد استعمالها في الكتاب المقدس أنها تعني نوع من التشابه العام أو العلاقة و الترابط بين الإنسان ككل و الله .
(1/122)
فقد جاء في سفر التكوين من التوراة الحالية : (( و قال الله : لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا و ليتسلط على أسماك البحر و طيور السماء و البهائم و جميع وحوش الأرض و جميع الحيوانات التي تدب على الأرض، فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه ذكرا و أنثى... )) تكوين [ 1 / 26 ـ 27]
يقول مفسرو التوراة أن المقصود بكون الإنسان خلق على صورة الله هو ما يتميز به الإنسان عن الجمادات و النباتات و الحيوانات بالعقل الكامل و القدرة على النطق و التعبير عما يريد و بالإرادة و الاختيار الحر و بالاستطاعة و القدرة، فضلا عن السمع و البصر و الحياة و الإدراك و العلم… الخ ، أي أن هناك تشابه عام بين صورة الله في صفاته و الإنسان، لذا قال سبحانه أنه خلق الإنسان على صورته، و بتعبير آخر أن الله شاء أن يخلق مخلوقا تنعكس و تتجلى فيه ومضة من صفاته تعالى من العقل و الإرادة و الاختيار و الحياة و العلم و المعرفة و الكلام و القدرة و السمع و البصر... الخ.
و لما كانت صفات الكمال، من قوة و قدرة و عقل و حكمة، موجودة في الرجل أكثر من المرأة ، لذا نجد بولس يعبر عن الرجل ـ كل رجل ـ بأنه " صورة الله " فيقول مثلا في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس [11 / 7 ] :
(( و أما الرجل فما عليه أن يغطي رأسه لأنه صورة الله و مجده ))
و طبعا كلما ترقى الإنسان في الكمالات و تخلق أكثر بأخلاق الله، كلما صار أكثر عكسا لصفات الله، و كلما تجلت فيه أسماء الله و صفاته الحسنى كالعلم و القدرة و العزة و العدل و الحلم و الكرم و الرحمة و الرأفة و الصبر و القداسة.... أكثر، لذا نجد بولس يتكلم عن نفسه و عن سائر الأولياء و القديسين فيقول:
(( و نحن جميعا نعكس صورة مجد الرب بوجوه مكشوفة كما في مرآة ، فتتحول إلى تلك الصورة و نزداد مجدا على مجد و هذا من فضل الرب الذي هو روح )) قورنتس [ 3 / 18]
(1/123)
كما يقول في موضع آخر موصيا المؤمنين بالتخلُّق بأخلاق الله و العيش حياة مسيحية كاملة :
(( أما الآن فألقوا عنكم أنتم أيضا كل ما فيه غضب و سخط و خبث و شتيمة. لا تنطقوا بقبيح الكلام و لا يكذب بعضكم بعضا، فقد خلعتم الإنسان القديم و خلعتم معه أعماله، و لبستم الإنسان الجديد ذاك الذي يجدد على صورة خالقه ليصل إلى المعرفة )) رسالة بولس إلى أهل قولسي [ 3 / 8 ـ 10] فإذا كانت صفة ( صورة الله ) تقتضي الألوهية، فبمقتضى كلام بولس نفسه ينبغي أن يكون جميع القديسين بل جميع الرجال آلهة! و هذا ما لا يتفوه به عاقل و لا يشك في بطلانه أحد.
و لا شك أن الأنبياء هم المظهر الأتم و الأكمل لأسماء الله الحسنى و صفات جلاله و جماله، فمن هذا المنطلق يعبر بولس عن المسيح بعبارة ( صورة الله )
ومن جانب آخر :
نقول للمسيحيين انتم تدعون ان الله سبحانه وتعالى ، أراد أن يؤنس البشرية ويقترب منها بصورة يتجلى فيها ، فجاء بالمسيح عليه السلام لذلك .
وللرد على هذا الادعاء نقول لكم :
إن المسيح عليه السلام أنتم تقرون وتقولون : أنه كان طفلاً ، ثم تدرج في المراحل ، وصار ينمو حتى صار كبيراً .
فأي صورة من صور حياته المرحلية تمثل الله سبحانه وتعالى لتؤنس البشرية ؟
إن كانت صورته وهو طفل ، فقد نسيتم صورته وهو في الشباب وان كانت صورته وهو في الشباب فقد نسيتم صورته وهو في دور الكهولة .
فالله سبحانه وتعالى على أي صورة من هذه الصور إذن ؟!
أم هو على كل هذه الصور ؟!
إن كان هو الله على كل هذه الصور ، فالله على هذا أغيار ، أي يتغير ، من طفل إلي شاب إلي كهل . ورب العالمين منزه عن ذلك .
ثم نقول للمسيحيين :
إن كان الله أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالإله ، فما هي المدة التي عاشها المسيح في الدنيا بين البشر ؟ ثلاثون سنة .
إذن الله قد آنس الناس بنفسه ثلاثين سنة فقط .
وكم عمر الكون قبل المسيح ؟ إنه ملايين السنين .
(1/124)
في هذه الملايين من السنين الماضية ، ترك الله خلقه بلا إيناس ، وبدون أن يبدو لهم في صورة ، ثم ترك خلقه بعد المسيح بلا صور ، ورب مثل هذا رب ظالم لا يستحق العبادة ، لأنه آنس خلقه ثلاثين سنة وترك الناس قبل ذلك وبعد ذلك بدون صورة .
يستدل النصارى على لاهوت المسيح بما جاء في رؤيا يوحنا من قوله : أنا الألف و الياء، و الأول و الآخر، و البداية و النهاية
الرد على هذه الشبهة :
الحقيقة أن هذه الشبهة واهية للغاية و بطلانها أوضح من الشمس، و ذلك لسببين :
أولا: أن هذه العبارات : (( أنا الألف و الياء... الخ ))، التي تكررت في الرؤيا عدة مرات إنما ينقلها الملاك ، الذي ظهر ليوحنا في رؤياه، عن قول الله عن نفسه ، لا عن قول المسيح عن نفسه !
نظرة بسيطة لأول مرة جاءت فيها هذه العبارة في أول إصحاح من سفر رؤيا يوحنا هذا توضح ذلك :
(( من يوحنا إلى الكنائس السبع في آسية. عليكم النعمة و السلام من لدن الذي هو كائن و كان و سيأتي، و من الأرواح السبعة الماثلة أمام عرشه، و من لدن يسوع الشاهد الأمين و البكر من بين الأموات و سيد ملوك الأرض. لذاك الذي أحبنا فحلنا من خطايانا بدمه، و جعل منا مملكة من الكهنة لإلهه و أبيه، له المجد و العزة أبد الدهور آمين. ها هو ذا آتٍ في الغمام. ستراه كل عين حتى الذين طعنوه، و تنتحب عليه جميع قبائل الأرض. أجل، آمين. أنا الألف و الياء " هذا ما يقوله الرب الإله، الذي هو كائن و كان و سيأتي و هو القدير.)) رؤيا يوحنا: [ 1: 4 ـ 8]
فنلاحظ بوضوح أن قائل أنا الألف و الياء هو : الرب الإله الذي هو كائن و كان و سيأتي، و هو غير المسيح، بدليل أنه عطفه عليه في البداية عندما قال : عليكم النعمة و السلام من الذي هو كائن و كان و.. و من الأرواح السبعة... و من لدن يسوع الشاهد...، و العطف يقتضي المغايرة.
(1/125)
ثانيا : إن هذه العبارة حتى لو قلنا أنها للمسيح، فلا تتضمن نصا في تأليهه، لأنه يمكن تفسير عبارته : ( أنا الأول و الآخر و البداية و النهاية ) بمعنى:أنا أول خلق الله ( أو بكر كل خليقة على حد تعبير يوحنا ) فبهذا يكون الأول و البداية، و الحاكم يوم الدينونة بأمر الله، فبهذا يكون الآخر و النهاية لعالم الخليقة، و ما دام هذا الاحتمال وارد، فالاستدلال بالعبارة ساقط، كيف و مثل هذه العقيدة الخطيرة تقتضي الأدلة القطعية الصريحة التي لا تحتمل أي معنى آخر .
ثالثاً : ثم لو افترضنا أن المسيح هو الألف والياء فإن ملكي صادق الكاهن هو بلا بداية وبلا نهاية كما جاء في الرسالة إلى العبرانيين [ 7 : 1 _ 3 ] !!!!
رابعاً : أن نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، لا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون…(انظر الرؤيا 4/8)، فهي تشبه إلى حد بعيد ما يراه في نومه من أتخم في الطعام والشراب، وعليه فلا يصح به الاستدلال.
يقول المهندس محمد فاروق الزين في كتابه المسيحية والإسلام والاستشراق صفحة 233 :
(1/126)
"الرؤيا" هو بحث كتبه يوحنا العراف - الملقب باللاهوتي - في أواخر الستينيات من القرن الأول، لم يكن يعتبر سفراً مقدساً وقت كتابته وحتى حلول القرن الرابع الميلادي، إذ بعد مؤتمر نيقية 325 م طلب الإمبراطور الوثني قسطنطين من يوزيبيوس Eusebius أسقف قيسارية إعداد " كتاب مسيحي مقدس للكنيسة الجديدة، وليس مؤكداً إن يوزيبيوس في ذلك الوقت قرر إدخال كتاب " الرؤيا " ضمن أسفار العهد الجديد ، ذلك أن بعض المراجع المسيحية لم تكن تؤمن بصحة معلوماته، وعليه أن " الرؤيا " أضيف إلى " الكتاب المسيحي المقدس " بعد زمن يوزيبيوس بكثير .
وقد كتب ديونيسيوس Dionysius أسقف الإسكندرية ، الذي كان معاصراً ليوزيبيوس، أن يوحنا مؤلف " الرؤيا " ليس هو الحواري يوحنا بن زبيدي قطعاً، وأضاف أنه لا يستطيع فهم " الرؤيا " ، وأن الكثيرين من معاصريه انتقدوا " الرؤيا " بشدة . ، وذكروا أن المؤلف لم يكن حوارياً ولا قديساً ولا حتى عضواً في الكنيسة بل هو سيرنثوس Cerinthus الذي تزعم الطائفة المنحرفة المعروفة باسمه . Eusebius HTC p. 88,89,240-243 ، Mack WWNT p.288
ومع هذا فسيبقى السؤال مطروحاً دائماً وأبداً :
هل ادعى المسيح عليه السلام بنفسه أنه الله ؟
هل قال بنفسه : إنني أنا الله فاعبدوني ؟
والإجابة : أنه ليس هناك قول صريح واحد في أي من الأسفار الـ 66 عند البروتستانت أو الـ 73 عند الكاثليك يقول فيه المسيح : أنني أنا الله فاعبدوني !!
وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته .
قول يوحنا : كل شيء به كان ، وبغيره لم يكن شيء ، مما كان . فيه كانت الحياة ، والحياة كانت نور الناس .
يستخلص النصارى من هذا النص لاهوت الكلمة ، أي لاهوت المسيح ، وأن المسيح هو مصدر حياة سائر الأحياء .
الرد على الاستدلال :
(1/127)
أولاً : علينا أن نلاحظ _ أولاً وقبل كل شيء _ أن هذه الكلمات الواردة في أول إنجيل يوحنا هي ليست من كلمات (( المسيح )) وإنما كلمات (( يوحنا )) فالمسيح لم يقل مثل هذه الكلمات بتاتاً .
ثانيا : ما دام قائل هذا الكلام هو يوحنا، فلنثبت معاً بالدلائل أن يوحنا هذا يؤمن بأن الله الآب هو الإله الحقيقي وحده وهو إله المسيح و خالقه و مرسله، ومن ثم يُفهَم هذا النص أو يُفسَّر على نحو يتسق و ينسجم مع عقيدته التوحيدية تلك :
أقوال يوحنا الصريحة التي تنفي إلهية المسيح و تؤكد أنه عبدٌ مخلوقٌ ِللهِ عز و جل :
(1) أما نصه على أن الله تعالى إله المسيح و بالتالي فالمسيح عبد مربوب لله، فقد جاء في رؤيا يوحنا الكشفية (1 / 6) حين قال:
"... و من لدن يسوع المسيح الشاهد الأمين و البكر من بين الأموات و سيد ملوك الأرض، ذاك الذي أحبنا فحلنا من خطايانا بدمه، و جعل منا مملكة من الكهنة لإلهه و أبيه... "
(2) و أما نصه على أن المسيح مخلوق لله سبحانه وتعالى ، فجاء وضحا في رسالته الأولى (2/ 1) في قوله:
" أكتب إليك ما يقول الأمين (المسيح)، الشاهد الأمين الصادق، بدء خليقة الله... "
(3) و أما أن المسيح يستمد من الله و بالتالي لا يمكن أن يكون إلهاً لأن الله غني بذاته، فقد جاء ذلك مثلاً في رؤياه الكشفية أيضا (1 /1) حين يقول:
" هذا ما كشفه يسوع المسيح بعطاء من الله "
(4) و أما عن الغيرية الكاملة و التمايز و الاثنينية بين الله: الآب و المسيح عليه السلام فالأمثلة عليه كثيرة من كلام يوحنا نكتفي بهذا الشاهد من رسالته الأولى(2/1):
" و إن خطئ أحد فهناك شفيع لنا عند الآب و هو يسوع المسيح البار "
(1/128)
(5) ثم إن نفس النصوص الإنجيلية، التي استقيناها في الفصل الأول من إنجيل يوحنا، النافية لإلهية عيسى و المثبتة لعبوديته، تصلح كذلك للكشف عن عقيدة يوحنا مؤلف ذلك الإنجيل حول عدم إلهية المسيح إذ من البديهي أن الرجل دوَّن في إنجيله ما يعتقده أو أنه كان يعتقد بما دونه، و نكتفي هنا بإشارة سريعة لثلاث نصوص قاطعة من إنجيل يوحنا:
" قال لها يسوع: لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي. و لكن اذهبي إلى أخوتي و قولي لهم: إني أصعد إلى أبي و أبيكم و إلهي و إلهكم " إنجيل يوحنا:20 / 17.
" تكلم يسوع بهذا و رفع عينيه نحو السماء و قال: أيها الآب، قد أتت الساعة... و هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، و يسوع المسيح الذي أرسلته... " إنجيل يوحنا: 17 / 1 ـ 3.
" فقال لهم يسوع: لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم أعمال إبراهيم، و لكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني و أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله " إنجيل يوحنا:8/40.
و أعتقد أن ما ذكر أعلاه يكفي ـ لمن تجرد للحق و أنصف و جانب التقليد و التعصب ـ للتأكد من عقيدة يوحنا التوحيدية و أنه لم يعلِّم التثليث و لا أن الله هو المسيح، بل أفرد الله تعالى وحده بالإلهية، فينبغي أن يبقى هذا بالبال عند مناقشتنا التالية للشبهات التي استندوا إليها من كلام يوحنا.
ثالثاً : أن النتائج التي استخلصها النصارى من النص أعلاه كان بسبب تفسيرهم الخاطئ لعبارة : (( كل شيء به كان ، وبغيره لم يكن شيء مما كان )) .
فصرفوها إلى الخلق دون أي قرينة لهم على ذلك ، والصحيح أن هذه العبارة تتعلق بالديانة الجديدة التي أتى بها المسيح ، كالتخليص والتبشير والتعليم ، وتفهيم الناس معاني الناموس الروحية ، وهدايتهم وإرشادهم ، وتحسين أخلاقهم وغير ذلك ، مما يرجع لمعنى الحياة الجديدة الدينية الواردة في الفقرة الرابعة
(1/129)
رابعاً : أن ما ورد في الفقرة الرابعة من قوله : (( فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس )) ليس الحياة التي عناها سفر التكوين [ 2 : 7 ] وهي الخلق ، بل المراد بها الحياة الدينية الجديدة التي أتى بها المسيح ، وقد فسرها أجل وأوضح تفسير قول المسيح نفسه ، والمنسوب إليه في إنجيل يوحنا [ 5 : 39 ] :
(( فتشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدبة )) أي حياة روحية .
وهذا وأن الخلق بالمعنى الروحي أو التجديد الروحي معروف ومعهود ومصطلح عليه في سائر الأسفار بالكتاب المقدس والأمثلة كالآتي :
1- ورد بمزمور [ 51 : 10 ] قول داود :
(( قلباً نقياً أخلق في يا الله ، وروحاُ مستقيماً جدد في داخلي ))
2- ورد برسالة بولس الثانية إلى كورنثوس [ 5 : 17 ] :
(( إذاً : إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة )) فهذه الخليقة الجديدة هي تغير الشخص بالإيمان والتوبة تغيراً عظيماً ، ودعي ( خليقة ) لأنه بدء حياة جديدة في النفس تدوم إلى الأبد .
3- ويوضح ذلك بجلاء ما ورد برسالة بولس إلى أفسس [ 4 : 22 - 25 ] قوله :
(( أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور ، وتجددوا بروح ذهنكم ، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق . . . ))
وإذا تقرر معنى الخلق بأنه التجدد الروحي بالإيمان بالمسيح ورسالته فيكون المقصود بالنص الوارد بإنجيل يوحنا [ 1 : 3 ] :
(( كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان .))
(1/130)
أن كل شيء من نوع التجديد الديني والحياة الروحية والنور القلبي ، كان بواسطة المسيح ، بدليل قوله على اثر هذا النص في الفقرة الرابعة : (( فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس )) . أي الحياة الروحية بالإيمان به لأنها هي الحياة الحقيقية ، أما الحياة المادية فليست حياة بل يشترك فيها الحيوان مع الانسان ، وليس ذلك فقط ، بل يشترك في هذه الحياة المادية الحشرات والهوام مع الإنسان .
وصف المسيح بأنه ديان
الرد على هذه الشبهة :
هل في إدانة المسيح للأحياء والأموات أي ألوهية ؟؟ أو بتعبير آخر .. هل في ذلك ما يؤهله ليكون إلها ؟؟
وهل هذه الدينونة ملكٌ له ؟؟
حقيقة أنّ نصوص الأناجيل لا تقول ذلك ... بل تقول أنّ هذه الدينونة هي سلطان دُفع للمسيح من الله .. أي أن المسيح لا حول له ولا قوة في إدانة العالم من غير دفع الله هذا السلطان له !
يوحنا:5:27 وأعطاه سلطانا أن يدين أيضا لأنه ابن الإنسان.
وهذا السلطان دُفع إلى كثيرين ممن سيدينون مع المسيح ولو لزم ذلك تأليه المسيح لأصبح تلاميذ المسيح آلهة يشاركونه في المُلك لأن متى يقول :
" فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر " (متى 19/28).
وفي لوقا " لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيّ، تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر " (لوقا 22/30) .
والأعجب من ذلك أنّ بولس و القديسيون سيشاركون في إدانة الملائكة والعالم بأسره مع المسيح
1كورنثوس6:2 ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم.فان كان العالم يدان بكم أفأنتم غير مستاهلين للمحاكم الصغرى. 3 ألستم تعلمون أننا سندين ملائكة فبالأولى أمور هذه الحياة.
فالاستدلال بأن دينونة المسيح للعالم دليلا على ألوهيته , استدلال ضعيف وساقط للغاية والأناجيل نفسها تنقضه .
(1/131)
وها هو يوحنا يقول : لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم (يوحنا 3/17)(1/132)
أدلة النصارى النصية على ألوهية المسيح
تؤمن الفرق النصرانية- رغم اختلافها في طبيعة المسيح - تؤمن بأن المسيح إله متجسد، وتؤيد دعواها بعشرات النصوص التي وردت في العهد الجديد أو القديم، وتتحدث عن ألوهيته ، منها النصوص التي سمته رباً وإلهاً أو ابناً لله، ومنها النصوص التي أفادت أن فيه حلولاً إلهياً، ومنها النصوص التي أضافت خلق المخلوقات إليه ثم ما ظهر على يديه من معجزات إلهية كتنبئه بالغيب وإحيائه الموتى…
ملاحظات عامة :
وتفحص المحققون أدلة النصارى وسجلوا ملاحظات هامة في هذا الباب:-
- أنه لا يوجد نص واحد في الكتاب المقدس يصرح فيه المسيح بألوهيته أو يطلب من الناس عبادته، وفي هذا الصدد يتحدى ديدات كبير قساوسة السويد قائلاً: "أضع رأسي تحت مقصلة لو أطلعتموني على نص واحد قال فيه عيسى عن نفسه: أنا إله. أو قال: اعبدوني".
القس فندر فيقول في كتابه"مفتاح الأسرار" مبرراً عدم تصريح المسيح بألوهيته في العهد الجديد:"ما كان أحد يقدر على فهم هذه العلاقة والوحدانية قبل قيامه وعروجه…فلو قال صراحة لفهموا أنه إله بحسب الجسم الإنساني…إن كبار ملة اليهود أرادوا أن يأخذوه ويرجموه، والحال أنه ما كان بين ألوهيته بين أيديهم إلا عن طريق الألغاز".
والخوف من اليهود لا يقبل نسبته للإله أو حتى للمسيح الذي رأيناه يواجه اليهود مرراً فيقول: "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراءون…أيها العميان…لأنكم تشبهون القبور المكلسة، أيها الحيات والأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم" (متى 23/13-34)، فكيف له بعد ذلك أن يغمض على البشرية في إظهار حقيقته، ففي ذلك إضلال وتلبيس.
- ثم إن أقوى ما يتعلق به النصارى من الدليل لا يوجد إلا في إنجيل يوحنا ورسائل بولس، بينما تخلو الأناجيل الثلاثة من دليل واضح ينهض في إثبات ألوهية المسيح.
(1/133)
بل إن خلو هذه الأناجيل عن الدليل هو الذي دفع يوحنا – أو كاتب يوحنا - لكتابة إنجيل عن لاهوت المسيح، فكتب ما لم يكتبه الآخرون، وجاءت كتابته مشبعة بالغموض والفلسفة الغريبة عن بيئة المسيح البسيطة التي صحبه بها العوام من أتباعه.
- إن عدم الدليل الصحيح جعل النصارى يحرفون في طبعات الأناجيل، ومن ذلك إضافتهم نص التثليث الصريح الوحيد في (يوحنا (1) 5/7) ومثله في قول بولس "الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس(1)3/16) فالفقرة كما قال المحقق كريسباخ: محرفة، إذ ليس في الأصل كلمة "الله" بل ضمير الغائب "هو"، ومن الممكن أن يعود على الله أو على غيره.
و مثله جاء في التراجم القديمة "عظيم هو سر التقوى الذي ظهر في الجسد " فأحالته الترجمات الحديثة إلى دليل على الحلول فقالوا: "عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسد" (تيموثاوس(1)3/16).
أولاً : نصوص نسبت إلى المسيح الألوهية والربوبية
ويستمسك النصارى بالألفاظ التي أطلقت على المسيح لفظ الألوهية والربوبية، ويرونها دالة على ألوهية المسيح، وفي أولها أنه سمي يسوع، وهي كلمة عبرانية معناها: يهوه خلاص.
ومن ذلك ما اعتبروه نبوءة عنه في إشعيا " لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد." (إشعيا9/6).
كذا في قول داود: "قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. يرسل الرب قضيب عزك من صهيون. تسلط في وسط أعدائك. شعبك منتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طل حداثتك، أقسم الرب ولن يندم. أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق". (المزمور 110/ 1-4)، فسماه داود رباً.
(1/134)
كما يرى النصارى نبوءة أخرى دالة على ألوهية المسيح في قول إشعيا "لكن يعطيكم السيد نفسه آية.ها العذراء تحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل" (إشعيا 7/14).
ويرون تحققه بالمسيح كما بشر الملاك يوسف النجار خطيب مريم "فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع، لأنه يخلّص شعبه من خطاياهم. وهذا كله كان لكي يتم ما قيل من الرب بالنبي القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل، الذي تفسيره الله معنا" (متى 1/18-23)، فتسميته الله معنا دليل عند النصارى على ألوهيته.
ومثله جاء في النص الجديد قول بولس : "المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد" (رومية9/5) ومثله قول توما للمسيح: "ربي وإلهي " (يوحنا 20/28)، كما قال بطرس له: "حاشاك يا رب" (متى 16/22)، وقال أيضاً: "هذا هو رب الكل" (أعمال 10/36)، وجاء في سفر الرؤيا عن المسيح: " وله على ثوبه وعلى فخذه اسم مكتوب : ملك الملوك ورب الأرباب" (الرؤيا 17/14) وغير ذلك من النصوص مما أطلق على المسيح كلمة رب أو إله، فدل ذلك عندهم على ألوهيته وربوبيته.
الأسماء لا تفيد ألوهية أصحابها
لكن هذه الإطلاقات ما كان لها أن تجعل من المسيح رباً وإلهاً، إذ كثير منها ورد في باب التسمية، وتسمية المخلوق إلهاً لا تجعله كذلك.
فقد سمي بولس وبرنابا آلهة لما أتيا ببعض المعجزات " فالجموع لما رأوا ما فعله بولس رفعوا أصواتهم قائلين: إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا." (أعمال 14/11)، فقد كان من عادة الرومان تسمية من يفعل شيئاً فيه نفع للشعب :إلهاً، ولا تغير التسمية في الحقيقة شيئاً , ولا تجعل من المخلوق إلهاً، ولا من العبد الفاني رباً وإلهاً.
وقد سمي إسماعيل باسمه العبراني معناه: "الله يسمع"، ومثله يهوياقيم أي: "الله يرفع"، ويهوشع "الرب خلص"، وغيرهم … ولم تقتض أسماؤهم ألوهيتَهم.
(1/135)
وجاء في سفر الرؤيا: "من يغلب فسأجعله في هيكل إلهي، ولا يعود يخرج إلى خارج، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي- أورشليم الجديدة -النازلة من السماء من عند إلهي واسمي الجديد" (الرؤيا 3/12)، وجاء في التوراة: "فيجعلون اسمي على بني إسرائيل" (العدد 6/27) ومع ذلك فليسوا آلهة.
فكما أطلق إرمياء على المسيح "الرب برنا" (إرمياء23/6) أطلقه أيضاً على أورشليم في (إرمياء 33/14-16)، وسماها حزقيال: "يهوشمة" (حزقيال 48/35)، وهي كلمة عبرانية معناها:"الرب برنا"، وترجمها قاموس الكتاب المقدس:"الرب هناك". ( قاموس الكتاب المقدس، لمجموعة من العلماء اللاهوتيين، ص1097)
هل سمي المسيح الرب والإله ؟
لا يسلم المسلمون بصحة صدور كثير من تلك العبارات الصريحة التي يزعم العهد الجديد أنها صدرت من التلاميذ، فقد كانت محلاً للتحريف المقصود كما وقع في ( يوحنا (1) 5/7-8 ) ، كما قد يقع التحريف بسبب سوء الترجمة وعدم دقتها، فكلمة "الرب" التي ترد كثيراً في التراجم العربية كلقب للمسيح هي في التراجم الأجنبية بمعنى: "السيد" أو "المعلم"، فالمقابل لها في الترجمة الإنجليزية هو: lord، ومعناها: السيد، وفي الفرنسية : "le mait "، ومعناها: المعلم، وهكذا في سائر التراجم كالألمانية والإيطالية والأسبانية.
وما أتت به الترجمة العربية ليس بجديد، بل هو متفق مع طبيعة اللغة التي نطق بها المسيح ومعاصروه فكلمة: "رب" عندهم تطلق على المعلم، وتفيد نوعاً من الاحترام والتقدير كما قالت المرأة السامرية للمسيح: "يا رب أرى أنك نبي" (يوحنا 4/19)، فليس المقصود من كلامها وصف المسيح بالربوبية.
وفي إنجيل يوحنا أن المسيح كان يخاطبه تلاميذه: يا رب، ومقصودهم: يا معلم، فها هي مريم المجدلية تلتفت إليه وتقول: "ربوني الذي تفسيره: يا معلم…وأخبرت التلاميذ أنها رأت الرب" (يوحنا 20/16-17).
وخاطبه اثنان من تلاميذه: "رب الذي تفسيره: يا معلم" (يوحنا 1/38).
(1/136)
ولم يخطر ببال أحد من التلاميذ المعنى الاصطلاحي لكلمة الرب حين أطلقوها على المسيح، فقد كانوا يريدون : المعلم والسيد، ولذلك شبهوه بيوحنا المعمدان حين قالوا له: " يا رب علمنا أن نصلي كما علم يوحنا تلاميذه". (لوقا 11/1).
وأما قول توما للمسيح "ربي وإلهي" فهو لم يقع منه في مقام الخطاب للمسيح، بل لما رأى المسيح حياً، وقد كان يظنه ميتاً استغرب ذلك، فقال متعجباً: "ربي وإلهي" (يوحنا 20/28)، ومما يؤكد صحة هذا الفهم أن المسيح أخبر في نفس السياق بأنه سيصعد إلى إلهه (انظر يوحنا 20/17)، وعليه فالألوهية هنا لو أريد بها المسيح فهي مجازية غير حقيقية.
ولو فهم المسيح أنه أراد ألوهيته لما سكت المسيح عليه السلام، فقد رفض عليه السلام حتى أن يدعى صالحاً، إذ لما ناداه بعض تلاميذه: " أيها المعلم الصالح... فقال له: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد، وهو الله " (متى 19/17) فكيف يقبل أن يدعى رباً وإلهاً على الحقيقة؟
واستعمال لفظة الرب بمعنى : السيد، شائع في اللغة اليونانية، يقول ستيفن نيل: "إن الكلمة اليونانية الأصلية التي معناها: "رب" يمكن استعمالها كصيغة للتأدب في المخاطبة، فسجان فلبي يخاطب بولس وسيلة بكلمة: "سيدي" أو "رب"، يقول سفر الأعمال: " أخرجهما وقال: يا سيدي ماذا ينبغي أن أفعل لكي أخلص. فقالا: آمن بالرب يسوع المسيح، فتخلص أنت وأهل بيتك" (أعمال 16/30)… وكانت اللفظة لقباً من ألقاب الكرامة… ".
وبخصوص الاستدلال بالمزمور " قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك". (المزمور 110/ 1)، فهو لا يراد به المسيح بحال من الأحوال، بل المراد هو المسيح المنتظر، الذي وعد به بنو إسرائيل، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
(1/137)
وقد أخطأ بطرس حين فهم أن النص يراد به المسيح، فقال: "لأن داود لم يصعد إلى السموات. وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً، فلما سمعوا نخسوا في قلوبهم" (أعمال 2/29-37).
ودليل الخطأ في فهم بطرس، وكذا فهم النصارى، أن المسيح أنكر أن يكون هو المسيح الموعود على لسان داود، "فيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً: ماذا تظنون في المسيح (أي الذي تنتظره اليهود)، ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود. قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة. ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتة" (متى 22/41-46).
فالمسيح سأل اليهود عن المسيح المنتظر الذي بشر به داود وغيره من الأنبياء، "ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟" فأجابوه: "ابن داود"، فخطأهم وقال: " فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه "، وفي مرقس: " كيف يقول الكتبة أن المسيح ابن داود؟ لأن داود نفسه قال بالروح القدس: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فداود نفسه يدعوه رباً. فمن أين هو ابنه؟! " (مرقس 12/37).
وهو ما ذكره لوقا أيضاً " وقال لهم: كيف يقولون أن المسيح ابن داود. وداود نفسه يقول في كتاب المزامير: قال الرب لربي: اجلس عن يميني، حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإذا داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه". (لوقا 20/40-44).
وبخصوص ما جاء في إشعيا من التنبؤ بعمانوئيل، فهي ليست عن المسيح، الذي لم يتسم بهذا الاسم أبداً، ولم ينادَ به إطلاقاً.
(1/138)
والقصة في سفر إشعيا تتحدث عن قصة قد حصلت قبل المسيح بقرون، فقد جعل الله من ميلاد عمانوئيل علامة على زوال الشر عن بني إسرائيل في عهد الملك آحاز، وخراب مملكة راصين يقول إشعيا: " ثم عاد الرب فكلم آحاز قائلاً:.. ولكن يعطيكم السيد نفسه آية. ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمانوئيل. زبداً وعسلاً يأكل، متى عرف أن يرفض الشر ويختار الخير. لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير، تخلى الأرض التي أنت خاش من ملكيها، يجلب الرب عليك وعلى شعبك وعلى بيت أبيك أياماً لم تأتي منذ يوم اعتزال أفرايم عن يهوذا أي ملك أشور.
ويكون في ذلك اليوم أن الرب يصفر للذباب الذي في أقصى ترع مصر وللنحل الذي في أرض أشور... لأنه قبل أن يعرف الصبي أن يدعو: يا أبي ويا أمي تحمل ثروة دمشق وغنيمة السامرة قدام ملك أشور" (إشعياء 7/10- 8/4)، فالنص يتعلق بأحداث حصلت قبل المسيح بقرون، وذلك إبان الغزو الأشوري لفلسطين.
وهذا النص الذي ذكره لوقا، وكذا النص الذي في إشعيا، قد تم تحريفهما عن الأصل ليصبحا نبوءة عن المسيح وأمه العذراء، وكانت الترجمات القديمة للتوراة مثل ترجمة أيكوئلا وترجمة تهيودوشن، وترجمة سميكس والتي تعود للقرن الثاني الميلادي، قد وضعت بدلاً من العذراء : المرأة الشابة، وهو يشمل المرأة العذراء وغيرها.
ويذكر العلامة أحمد ديدات أن النسخة المنقحة (R.S.V) والصادرة عام 1952م قد استبدلت كلمة العذراء في إشعيا بـ " الصبية "، ولكن هذا التنقيح لا يسري سوى على الترجمة الإنجليزية.
(1/139)
وبخصوص نبوءة النبي إشعيا " لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام، لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته، ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد" (إشعيا9/6)، فإن أياً من هذه الأسماء لم يتسم به المسيح، فأين سمي عجيباً أو مشيراً أو قديراً أو أباً أو رئيس السلام، فليس في الكتاب المقدس نص يذكر أنه سمي بهذه الأسماء.
فإن قالوا المراد أن هذه صفات هذا الابن الموعود، فهي أيضاً لا تنطبق على المسيح بحال، فهي تتحدث عن نبي غالب منتصر يملك على قومه، ويكون وارثاً لملك داود، وكل هذا ممتنع في حق المسيح، ممتنع بدليل الواقع والنصوص.
فالمسيح لم يملك على قومه يوماً واحداً، بل كان فاراً من بني إسرائيل، خائفاً من بطشهم، كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم. "وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً، انصرف أيضاً إلى الجبل وحده" (يوحنا 6/15)، لقد هرب منهم، وذلك لأن مملكته ليست دنيوية زمانية، ليست على كرسي داود، بل هي مملكة روحية في الآخرة "أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يوحنا 18/36).
كما أن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام، وهو لا ينطبق على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال: " لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه، والابنة ضد أمها، والكنّة ضد حماتها، وأعداء الإنسان أهل بيته " (متى 10/34 - 36)، فهل يسمى بعد ذلك رئيس السلام؟
(1/140)
ثم إن إشعيا يتحدث عن قدير، وليس عن بشر محدود لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه: " أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً، كما أسمع أدين" (يوحنا 5/30)، وفي نص آخر يقول لليهود: "الحق الحق أقول لكم: لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك، فهذا يعمله الابن كذلك" (يوحنا 5/19).
ثم إن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية يهوياقيم أحد أجداد المسيح، فقد ملك على مملكة يهوذا، فأفسد، فقال الله فيه: "هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً، وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم " ( إرميا 36/30 - 31 ).
والمسيح من ذرية هذا الملك الفاسق كما في سفر الأيام الأول "بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه" (الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح.
وهو اسم أسقطه متى من نسبه للمسيح، بين يوشيا وحفيده يكنيا، فقال: " وآمون ولد يوشيا. ويوشيا ولد يكنيا وإخوته عند سبي بابل " (متى 1/10-11).
ولا يخفى على القارئ النبيه سبب إسقاطه اسم هذا الجد من أجداد المسيح من سلسلة نسب المسيح.
إطلاقات لفظ الألوهية والربوبية في الكتاب المقدس
ثم لو صح الإطلاق والترجمة، فإنه ليس من دلالة لهذه الألفاظ على ألوهية المسيح، فإطلاق كلمة الرب والإله معهود على المخلوقات في الكتاب المقدس.
فمما ورد في كتب أهل الكتاب إطلاق لفظة "الرب" و "الإله" على الملائكة، فقد جاء في سفر القضاة، وهو يحكي عن ظهور ملاك الرب لمنوح وزوجه: " ولم يعد ملاك الرب يتراءى لمنوح وامرأته، حينئذ عرف منوح أنه ملاك الرب، فقال منوح لامرأته: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله" (القضاة 13/21-22) ومراده ملاك الله.
(1/141)
وظهر ملاك الله لسارة وبشرها بإسحاق"وقال لها ملاك الرب…فدعت اسم الرب الذي تكلم معها: أنت إيل رئي". (التكوين 16/11-13) فأطلقت على الملاك اسم الرب.
ومثله تسمية الملاك الذي صحب بني إسرائيل في رحلة الخروج بالرب "وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود سحاب ليهديهم في الطريق، وليلاً في عمود نار ليضيء لهم.... فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر إسرائيل وسار وراءهم. وانتقل عمود السحاب من أمامهم، ووقف وراءهم" (الخروج 13/21- 14/19)، فسمي الملاك رباً.
ومما جاء في التوراة إطلاق هذه الألفاظ على الأنبياء فقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (انظر الخروج 4 /16).
ومنها قول الله لموسى: " فقال الرب لموسى: انظر. أنا جعلتك إلهاً لفرعون. وهارون أخوك يكون نبيّك" ( الخروج 7/1 ) أي: مسلطاً عليه.
وقد عهد تسمية الأنبياء (الله) مجازاً أي رسل الله فقد " كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله: هلم نذهب إلى الرائي. لأن النبي اليوم كان يدعى سابقاً الرائي" (صموئيل(1)9/9).
وأطلقت لفظة "الله" وأريد منها القضاة، لأنهم يحكمون بشرع الله، ففي سفر الخروج "إن قال العبد…يقدمه سيده إلى الله، ويقربه إلى الباب..." (الخروج20/5-6).
وفي السفر الذي يليه فيه "وإن لم يوجد السارق يقدم صاحب البيت إلى الله ليحكم هل لم يمد يده إلى ملك صاحبه…فالذي يحكم الله بذنبه يعوض صاحبه" (الخروج 22/8-9).
وفي سفر التثنية "يقف الرجلان اللذان بينهما الخصومة أمام الرب أمام الكهنة" (التثنية 19/17).
ومثله "الله قائم في مجمع الله، في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور 82/1)، ومقصده أشراف بني إسرائيل وقضاتهم.
(1/142)
بل يمتد هذا الإطلاق ليشمل كل بني إسرائيل كما في قول داود في مزاميره: " أنا قلت: إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم. لكن مثل الناس تموتون" (المزمور 82/6)، وهذا الذي استشهد به عيسى عندما قال: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة. إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله. ولا يمكن أن ينقض المكتوب. فالذي قدسه الآب، وأرسله إلى العالم أتقولون له: إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله. " (يوحنا 10/34).
وتستمر الكتب في إطلاق هذه الألفاظ حتى على الشياطين، والآلهة الباطلة للأمم، فقد سمى بولس الشيطان إلهاً، كما سمى البطن إلهاً، وأراد المعنى المجازي فقال عن الشيطان: "إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين، لئلا تضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح" (كورنثوس(2)4/5)، وقال عن الذين يتبعون شهواتهم ونزواتهم: "الذين إلههم بطنهم، ومجدهم في خزيهم…" (فيلبي 3/19) ومثله ما جاء في المزامير " لأني أنا قد عرفت أن الرب عظيم، وربنا فوق جميع الآلهة." (المزمور 135/5)، وألوهية البطن وسواها ألوهية مجازية غير حقيقية.
وهذه لغة الكتاب المقدس في التعبير، والتي يخطئ من يصر على فهم ألفاظها حرفياً كما يخطئ أولئك الذين يفرقون بين المتشابهات، وفي كتاب "مرشد الطالبين" : وأما اصطلاح الكتاب المقدس فإنه ذو استعارات وافرة غامضة خاصة العهد العتيق…و اصطلاح العهد الجديد أيضاً هو استعاري جداً، وخاصة مسامرات مخلصنا، وقد اشتهرت آراء كثيرة فاسدة لكون بعض معلمي النصارى شرحوها شرحاً حرفياً…"
كما أن المسيح وهو يسمع بمثل هذه الاستعارات والآلهة المجازية أوضح بأن هناك إلهاً حقيقياً واحداَ، هو الله، فقال: "الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت، أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/3)، وهي ما تعني بوضوح: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله. وهو ما يعتقده المسلمون فيه عليه الصلاة والسلام
(1/143)
ومثل تلك الاستعارات ورد في القرآن كما في قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام لصاحبه في السجن [ اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه ] (يوسف: 42)، فمقصوده الملك.(1/144)
بنوة المسيح لله
وتتحدث نصوص إنجيلية عن المسيح وتذكر أنه ابن الله، ويراها النصارى أدلة صريحة على ألوهية المسيح، فهل يصح هذا الاستدلال؟
هل سمى المسيح نفسه ابن الله ؟
أول ما يلفت المحققون النظر إليه أنه لم يرد عن المسيح- في الأناجيل- تسميته لنفسه بابن الله سوى مرة واحدة في يوحنا 10/37، وفيما سوى ذلك فإن الأناجيل تذكر أن معاصريه وتلاميذه كانوا يقولون بأنه ابن الله.
لكن المحققين يشككون في صدور هذه الكلمات من المسيح أو تلاميذه، يقول سنجر في كتابه "قاموس الإنجيل": ليس من المتيقن أن عيسى نفسه قد استخدم ذلك التعبير".
و يقول شارل جنيبر: "المسيح لم يدع قط أنه المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه بأنه ابن الله، فهذه لغة استخدموها المسيحيون فيما بعد في التعبير عن عيسى".
قال العالم كولمن بخصوص هذا اللقب: "إن الحواريين الذين تحدث عنهم أعمال الرسل تأسَوا بمعلمهم الذي تحفظ على استخدام هذا اللقب ولم يرغب به فاستنوا بسنته" .
و يرى جنيبر أن المفهوم الخاطئ وصل إلى الإنجيل عبر الفهم غير الدقيق من المتنصرين الوثنيين فيقول:"مفهوم "ابن الله" نبع من عالم الفكر اليوناني".
و يرى البعض أن بولس هو أول من استعمل الكلمة، وكانت حسب لغة المسيح (عبد الله) وترجمتها اليونانية servant ، فأبدلها بالكلمة اليونانية pais بمعنى طفل أو خادم تقرباً إلى المتنصرين الجدد من الوثنيين.
المسيح هو أيضاً ابن الإنسان
ثم هذه النصوص التي تصف المسيح أنه ابن الله معارضة بثلاث وثمانين نصاً من النصوص التي أطلقت على المسيح لقب " ابن الإنسان " فلئن كانت تلك التي أسمته ابن الله دالة على ألوهيته فإن هذه مؤكدة لبشريته، صارفة تلك الأخرى إلى المعنى المجازي.
(1/145)
ومنها قول متى " قال له يسوع: للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار.وأما ابن الإنسان فليس له، أين يسند رأسه." (متى 8/20)، وأيضاً قوله: " ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه" (مرقس 14/21)، وقد جاء في التوراة: " ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم". (العدد 23/9) فالمسيح ليس الله.
أبناء كثر لله، فهل هم آلهة ؟
ولفظ البنوة الذي أطلق على المسيح أطلق على كثيرين غيره، ولم يقتضِ ذلك ألوهيتهم.
منهم آدم الذي قيل فيه: "آدم ابن الله" (لوقا 3/38).
وسليمان فقد جاء في سفر الأيام "هو يبني لي بيتاً …أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً" (الأيام (1)17/12-13).
ومثله قوله لداود " أنت ابني، أنا اليوم ولدتك " (المزمور 2/7)
كما سميت الملائكة أبناء الله "مثلَ الملائكةِ وهم أبناء الله " (لوقا 20/36).
وسمت النصوص أيضاً آخرين أبناء الله، أو ذكرت أن الله أبوهم ، ومع ذلك لا يقول النصارى بألوهيتهم. فالحواريون أبناء الله ، كما قال المسيح عنهم: " قولي لهم : إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم " (يوحنا 20/17).
وقال للتلاميذ أيضاً: " فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل" (متى 5/48).
وعلمهم المسيح أن يقولوا: "فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك.. " (متى 6/9)، وقوله :" أبوكم الذي في السماوات يهب خيرات للذين يسألونه" (متى 6/11)، فكان يوحنا يقول: " انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله." (يوحنا(1) 3/1)
بل واليهود كما في قول المسيح لليهود: "أنتم تعملون أعمال أبيكم.فقالوا له: إننا لم نولد من زنا. لنا أب واحد، وهو الله" (يوحنا 8/41).
(1/146)
كما يطلق هذا الإطلاق على الشرفاء والأقوياء من غير أن يفهم منه النصارى ولا غيرهم الألوهية الحقيقية "أن أبناء الله رأوا بنات الناس أنهن حسنات.فاتّخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا.... إذ دخل بنو الله على بنات الناس وولدن لهم أولاداً. هؤلاء هم الجبابرة الذين منذ الدهر ذوو اسم" (التكوين 6/2).
ومن الممكن أن يعم كل شعب إسرائيل "يكون عدد بني إسرائيل كرمل البحر الذي لا يكال ولا يعدّ ويكون عوضاً عن أن يقال لهم: لستم شعبي، يقال لهم: " أبناء الله الحي" ( هوشع 1/10).
ونحوه: " لما كان إسرائيل غلاماً أحببته، ومن مصر دعوت ابني" (هوشع 11/1).
ومن ذلك أيضاً ما جاء في سفر الخروج عن جميع شعب " فتقول لفرعون هكذا: يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. فقلت لك: أطلق ابني ليعبدني فأبيت" (الخروج 4/22) وخاطبهم داود قائلاً: "قدموا للرب يا أبناء الله، قدموا للرب مجداً وعزّاً" (المزمور 29/1)
ومثله قوله: "لأنه من في السماء يعادل الرب. من يشبه الرب بين أبناء الله" ( المزمور 89/6).
وفي سفر أيوب: "كان ذات يوم أنه جاء بنو الله ليمثلوا أمام الرب "(أيوب 1/6).
وقال الإنجيل عنهم: "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يُدعون" (متى 5/9).
وعليه فلا يمكن النصارى أن يجعلوا من النصوص المختصة بالمسيح أدلة على ألوهيته ثم يمنعوا إطلاق حقيقة اللفظ على آدم وسليمان و… وتخصيصهم المسيح بالمعنى الحقيقي يحتاج إلى مرجح لا يملكونه.
معنى البنوة الصحيح
والمعنى المقصود للبنوة في كل ما قيل عن المسيح وغيره إنما هو معنى مجازي بمعنى حبيب الله أو مطيع الله.
لذلك قال مرقس وهو يحكي عبارة قائد المائة الذي شاهد المصلوب وهو يموت فقال:"حقاً كان هذا الإنسان ابن الله " (مرقس 15/39).
ولما حكى لوقا القصة نفسها أبدل العبارة بمرادفها فقال:"بالحقيقة كان هذا الإنسان باراً" (لوقا 23/47).
(1/147)
ومثل هذا الاستخدام وقع من يوحنا حين تحدث عن أولاد الله فقال:"وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا : أولاد الله. أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12).
ومثله يقول :"الذي يسمع كلام الله من الله" (يوحنا 8/47).
و مثل هذه الإطلاق المجازي للبنوة معهود في الكتب المقدسة التي تحدثت عن أبناء الشيطان، وأبناء الدهر (الدنيا)…(انظر يوحنا 8/44، لوقا 16/8).
وأما المعنى الحقيقي للبنوة فقد نطقت به الشياطين، فانتهرها المسيح، ففي إنجيل لوقا " كانت شياطين أيضاً تخرج من كثيرين وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله. فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم عرفوه أنه المسيح". (لوقا 4/41).
بكورية المسيح بين الأبناء
لكن النصارى يرون تميزاً مستحقاً للمسيح في بنوته عن سائر الأبناء، فهم لا ينازعون في صحة الإطلاق المجازي عندما ترد لفظ البنوة بحق سائر المخلوقات.
لكن النزاع إنما يكمن في تلك الأوصاف التي أطلقت على المسيح ويثبتها النصارى على الحقيقة محتجين بأمور، منها: أنه قد جاء وصف المسيح بأنه الابن البكر أو الوحيد لله (انظر عبرانيين1/6، يوحنا3/18) أو أنه سمي ابن الله العلي ( انظر لوقا 1/32، 76)، أو أنه ابن ليس مولوداً من هذا العالم كسائر الأبناء، بل هو مولود من السماء، أو من فوق (انظر يوحنا 1/18).
ولكن ذلك كله تثبت النصوص أمثاله لأبناء آخرين.
فالبكورية وصف بها إسرائيل: " إسرائيل ابني البكر" (الخروج 4/22-23).
وكذا افرايم "لأني صرت لإسرائيل أباً، وإفرايم هو بكري" (إرميا 21/9).
وكذا داود "هو يدعوني: أنت أبي وإلهي وصخرة خلاصي، وأنا أيضاً أجعله بكراً، فوق ملوك الأرض علياً". (المزمور 89/26-27).
و لئن قيل في المسيح أنه ابن الله العلي، فكذلك سائر بني إسرائيل "و بنو العلي كلكم" (مزمور 82/6).
وكذا تلاميذ المسيح فهم أيضاً بنو العلي" أحبوا أعداءكم…فيكون أجركم عظيماً، وتكونوا بني العلي" (لوقا 6/35).(1/148)
النزول من السماء
وتذكر الأناجيل بأن المسيح قد أتى من فوق أو من السماء و"الذي يأتي من فوق هو فوق الجميع" (يوحنا 3/31)، ويرون صورة ألوهيته مشرقة في قوله" أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (يوحنا 8/23)، فدل ذلك - وفق رأي النصارى - على أنه كائن إلهي فريد.
لكن المقصود من المجيء السماوي هو إتيان المواهب والشريعة، وهو أمر يستوي به مع سائر الأنبياء، ومنهم يوحنا المعمدان فقد سأل المسيح اليهود: "معمودية يوحنا من أين كانت من السماء؟ أم من الناس؟ ففكروا في أنفسهم قائلين: إن قلنا من السماء، فيقولوا لنا :فلماذا لم تؤمنوا به؟ وإن قلنا: من الناس، نخاف من الشعب…" (متى 21/25-26).
وأما النازلون على الحقيقة من السماء فهم كثر ، ولا تعتبر النصارى أيا منهم آلهة، منهم الملائكة، "لأن ملاك الرب نزل من السماء" (متى 28/2).
وكذا صعد أخنوخ إلى السماء "وسار أخنوخ مع الله، ولم يوجد، لأن الله أخذه" (التكوين 5/24)، ومن المعلوم أن "ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء" (يوحنا 3/13)، فأخنوخ مثله، ولا يقولون بألوهيته.
وكذا إيليا صعد إلى السماء " ففصلت بينهما فصعد إيليا في العاصفة إلى السماء."(ملوك (2) 2/11).
وتذكر الأناجيل أن التلاميذ، هم أيضاً مولودين من فوق أو من الله، أي مؤمنين به، ففي يوحنا: "و أما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه" (يوحنا 1/12) فالمقصود بالولاد، الولاد الروحي، بحيث يتغير قلب الإنسان الخاطئ تغيراً عظيماً كاملاً مستمراً، كأنه ولد ثانية، ويحدث ذلك عند توبته وإيمانه.
و المؤمنون بالمسيح مولودون من فوق بما أعطاهم الله من الإيمان، فهم كسائر المؤمنين كما قال المسيح: "الحق الحق أقول لكم: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله" (يوحنا 3/3).
(1/149)
وكذا قال: "كل من يؤمن أن يسوع هو المسيح، فقد ولد من الله" (يوحنا (1) 5/1).
وقال: " كل من يصنع البر مولود منه" (يوحنا (1)2/29).
وقول المسيح: " أما أنا فلست من هذا العالم " ليس دليلاً على الألوهية بحال، فمراده اختلافه عن سائر البشر باستعلائه عن العالم المادي بل هو من فوق ذلك الحطام الذي يلهث وراءه سائر الناس.
وقد قال مثل هذا القول في حق تلاميذه أيضاً بعد أن لمس فيهم حب الآخرة والإعراض عن الدنيا، فقال: " لو كنتم من العالم لكان العالم يحب خاصته، لكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يبغضكم العالم" (يوحنا 15/19).
وفي موضع آخر قال عنهم: " أنا قد أعطيتهم كلامك، والعالم أبغضهم، لأنهم ليسوا من العالم كما أني لست من العالم" ( 17/14-15)، فقال في حق تلاميذه ما قاله في حق نفسه من كونهم جميعاً ليسوا من هذا العالم، فلو كان هذا على ظاهره، وكان مستلزماً الألوهية ، للزم أن يكون التلاميذ كلهم آلهة ، لكن تعبيره في ذلك كله نوع من المجاز، كما يقال: فلان ليس من هذا العالم، يعني هو لا يعيش للدنيا و لا يهتم بها، بل همُّهُ دوماً رضا الله والدار الآخرة.(1/150)
الحلول الإلهي في المسيح
و يرى النصارى أن بعض النصوص تفيد حلولاً إلهياً في عيسى، ومنها " لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه" (يوحنا 10/38)، وفي موضع آخر " الذي رآني فقد رأى الآب ...الآب الحال في " (يوحنا 14/9-10)، وقوله "أنا والآب واحد" (يوحنا 10/30).
فهذه النصوص أفادت – حسب قول النصارى - أن المسيح هو الله، أو أن حلولاً إلهياً حقيقياً لله فيه.
حلول الله المجازي على مخلوقاته
وقد تتبع المحققون هذه النصوص فأبطلوا استدلال النصارى بها، فأما ما جاءت من ألفاظ دلت على أن المسيح قد حل فيه الله-على ما فهمه النصارى- فإن فهمهم لها مغلوط .
ذلك أن المراد بالحلول حلول مجازي كما جاء في حق غيره بلا خلاف، ونقول مثله في مسألة الحلول في المسيح.
و هو ما أشارت إليه نصوص أخرى منها ما جاء في رسالة يوحنا "من اعترف بأن يسوع هو ابن الله، فالله يثبت فيه، وهو في الله، ونحن قد عرفنا وصدقنا المحبة التي لله فينا، ومن يثبت في المحبة يثبت في الله، والله فيه" (يوحنا(1)4/15-16).
ومثله فإن الله يحل مجازاً في كل من يحفظ الوصايا ولا يعني ألوهيتهم ، ففي رسالة يوحنا: "ومن يحفظ وصاياه يثبت فيه، وهو فيه، وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا" (يوحنا(1) 3/24) فليس المقصود تقمص الذات الإلهية لهؤلاء الصالحين، بل حلول هداية الله وتأييده عليه.
وكذا الذين يحبون بعضهم لله، "إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا، ومحبته قد تكملت فينا. بهذا نعرف أننا نثبت فيه، وهو فينا". (يوحنا (1)4/12-13)
وكما في قوله عن التلاميذ: " أنا فيهم، وأنت في" (يوحنا 14 /19)، ومثله يقول بولس عن المؤمنين: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً" (كورنثوس (2) 6/16-17) فالحلول في كل ذلك مجازي.
(1/151)
فقد أفادت هذه النصوص حلولاً إلهياً في كل المؤمنين، وهذا الحلول هو حلول مجازي بلا خلاف، أي حلول هدايته وتوفيقه، ومثله الحلول في المسيح.
كما تذكر التوراة حلول الله - وحاشاه - في بعض مخلوقاته على الحقيقة، ولا تقول النصارى بألوهية هذه الأشياء، ومن ذلك ما جاء في سفر الخروج "المكان الذي صنعته يا رب لسكنك" (الخروج 15/17)، فقد حل وسكن في جبل الهيكل، ولا يعبد أحد ذلك الجبل.
وفي المزامير: "لماذا أيتها الجبال المسمنة ترصدون الجبل الذي اشتهاه الله لسكنه، بل الرب يسكن فيه إلى الأبد" (المزمور 68/16).
أنا والآب واحد
قول المسيح: "أنا والآب واحد" أهم ما يتعلق فيه أولئك الذين يقولون بألوهية المسيح، وقد فهموا منه وحدة حقيقية جهر بها المسيح أمام اليهود وفهموا منه أنه يعني الألوهية.
ولفهم النص نعود فنقرأ السياق من أوله، فنرى بأن المسيح كان يتمشى في رواق سليمان في عيد التجديد، فأحاط به اليهود وقالوا :"إلى متى تعلق أنفسنا. إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً.
أجابهم يسوع: إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أنا أعملها باسم أبي هي تشهد لي، ولكنكم لستم تؤمنون، لأنكم لستم من خرافي كما قلت لكم: خرافي تسمع صوتي، وأنا أعرفها فتتبعني، وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي، أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد" (يوحنا10/24-30).
فالنص من أوله يتحدث عن قضية معنوية مجازية، فخراف المسيح أي تلاميذه يتبعونه، فيعطيهم الحياة الأبدية، أي الجنة، ولن يستطيع أحد أن يخطفها منه (أي يبعدها عن طريقه وهدايته) لأنها هبة الله التي أعطاه إياها، ولا يستطيع أحد أن يسلبها من الله الذي هو أعظم من الكل، فالله والمسيح يريدان لها الخير، فالوحدة وحدة الهدف لا الجوهر، وقد نبه المسيح لهذا حين قال بأن إرادة الله أعظم من إرادته.
(1/152)
لكن اليهود في رواق سليمان كان فهمهم لكلام المسيح سقيماً - أشبه ما يكون بفهم النصارى له -، لذا " تناول اليهود أيضاً حجارة ليرجموه، …لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً"
فعرف المسيح خطأ فهمهم لكلامه، واستغرب منهم كيف فهموا هذا الفهم وهم يهود يعرفون لغة الكتب المقدسة في التعبير المجازي فأجابهم: " أليس مكتوباً في ناموسكم: أنا قلت إنكم آلهة" ومقصده ما جاء في مزامير داود: "أنا قلت إنكم آلهة، وبنو العلي كلكم" (المزمور82/6).
فكيف تستغربون بعد ذلك مثل هذه الاستعارات وهي معهودة في كتابكم الذي جعل بني إسرائيل آلهة بالمعنى المجازي للكلمة؟! فالمسيح أولى بهذه الوحدة من سائر بني إسرائيل" إن قال: آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله.. فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدف لأني قلت: إني ابن الله. إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي.." (يوحنا10/37)، وهكذا صحح المسيح لليهود ثم للنصارى الفهم السيئ والحرفي لوحدته مع الآب.
وهذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة معهود في النصوص خاصة عند يوحنا، فهو يقول على لسان المسيح: "ليكون الجميع واحداً كما أنت أيها الآب في، وأنا فيك، ليكونوا (أي التلاميذ) هم أيضاً واحداً فينا.. ليكونوا واحداً كما أننا نحن واحد... أنا فيهم وأنت في" (يوحنا 17/20-23)، فالحلول في المسيح والتلاميذ حلول معنوي فحسب، وإلا لزم تأليه التلاميذ، فكما المسيح والآب واحد، فإن التلاميذ والمسيح والآب أيضاً واحد، أي وحدة الهدف والطريق، لا وحدة الذوات، فإن أحداً لا يقول باتحاد التلاميذ ببعضهم أو باتحاد المسيح فيهم.
وفي موضع آخر ذكر نفس المعنى فقال عن التلاميذ: " أيها الأب القدوس، احفظهم في اسمك الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن" (يوحنا 17/11).
ومثله "تعلمون أني أنا في أبي، وأنتم في، وأنا فيكم" (يوحنا 14/20).
(1/153)
ومثله قوله:"إله وآب واحد للكل، الذي على الكل وبالكل، وفي كلكم" (أفسس 4/6).
ومثله يقول بولس: "فإنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم، وأسير بينهم، وأكون لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً". (كورنثوس (2) 6/16-17)
ومثله قول المسيح لتلاميذه:" أنا الكرمة، وأنتم الأغصان، الذي يثبت في، وأنا فيه، هذا يأتي بثمر كثير" (يوحنا 15/5)، أي : يحبني ويطيعني ويؤمن بي فهذا يأتي بثمر كثير.
و المعنى الصحيح لقوله: "لكي تعرفوا وتؤمنوا أن الآب في وأنا فيه" (يوحنا 10/38) أن الله يكون في المسيح أي بمحبته وقداسته وإرشاده وتسديده، لا بذاته المقدسة التي لا تحل في الهياكل "العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" (أعمال 7/48).
وقد تكرر هذا الأسلوب في التعبير عن وحدة الهدف والمشيئة في نصوص كثيرة منها قول بولس " أنا غرست، وأبلوس سقى، …الغارس والساقي هما واحد، فإننا نحن عاملان مع الله" (كورنثوس(1)3/6-9).
ومثله جاء في التوراة في وصف الزوجين "يترك الرجل أباه وأمه، ويلتصق بامرأته، ويكونان جسداً واحداً" (التكوين 2/24)، وغير ذلك من أمثلة وحدة المشيئة والهدف.(1/154)
الذي رآني فقد رأى الآب
ومن أهم ما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح قول المسيح "الذي رآني فقد رأى الآب"(يوحنا 14/9) ولفهم النص نعود إلى سياقه.
فالسياق من أوله يخبر عن أن المسيح قال لتلاميذه: "أنا أمضي لأعد لكم مكاناً، وإن مضيت وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم " وقصده بالمكان الملكوت .
فلم يفهم عليه توما فقال :" يا سيد لسنا نعلم أين تذهب، فكيف نقدر أن نعرف الطريق " ، لقد فهم أنه يتحدث عن طريق حقيقي وعن رحلة حقيقية، فقال له المسيح مصححاً ومبيناً أن الرحلة معنوية وليست حقيقية مكانية: "أنا هو الطريق والحق والحياة ". (يوحنا14/1-6)، أي إتباع شرعه ودينه هو وحده الموصل إلى رضوان الله وجنته، كما في قول بطرس: " بالحق أنا أجد أن الله لا يقبل الوجوه. بل في كل أمة الذي يتقيه ويصنع البر مقبول عنده" (أعمال 10/34).
ثم طلب منه فيلبس أن يريهم الله، فنهره المسيح وقال له:" ألست تعلم أني أنا في الأب، والأب في، الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10) أي كيف تسأل ذلك يا فلبس، وأنت يهودي تعلم أن الله لا يرى، فالذي رآني رأى الآب ،حين رأى أعمال الله (المعجزات) التي أجراها على يد المسيح .
يشبه هذا النص تماماً ما جاء في مرقس " فأخذ ولداً وأقامه في وسطهم، ثم احتضنه، وقال لهم: من قبِل واحداً من أولاد مثل هذا باسمي يقبَلني، ومن قبلني فليس يقبلني أنا، بل الذي أرسلني" (مرقس 9/37)، فالنص لا يعني أن الطفل الذي رفعه المسيح هو ذات المسيح، ولا أن المسيح هو ذات الله، ولكنه يخبر عليه الصلاة والسلام أن الذي يصنع براً بحق هذا الطفل، فإنما يصنعه طاعة ومحبة للمسيح، لا بل طاعة لله وامتثالاً لأمره.
(1/155)
فالرؤية هنا معنوية، أي رؤية البصيرة لا البصر، ولهذا التأويل دليل قوي يسوغه، وهو أن عيسى لم يدع قط أنه الآب، ولا يقول بمثل هذا من النصارى أحد سوى الأرثوذكس الذين هم أيضاً لا يقولون بأن المسيح هو الآب، لكنهم يقولون: الآب هو الابن، فالمعنى الحقيقي القريب للرؤية مرفوض.
ومما يؤكد أن الرؤيا معنوية أنه قال بعد قليل: " بعد قليل لا يراني العالم أيضاً، أما أنتم فترونني" (يوحنا 14 /19 ) فهو لا يتحدث عن رؤية حقيقية ، إذ لا يتحدث عن رفعه للسماء، فحينذاك لن يراه العالم ولا التلاميذ، لكنه يتحدث عن رؤية معرفية إيمانية يراها التلاميذ، وتعشى عنها وجوه العالم الكافر.
ويشهد له ما جاء في متى: يشهد له ما جاء في متى: " ليس أحد يعرف الابن إلا الأب، ولا أحد يعرف الأب إلا الابن " (متى 11/27)، فهو المقصود من الرؤية المذكورة في النصوص السابقة، ونحوه قوله: "فنادى يسوع وقال: الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي بل بالذي أرسلني. والذي يراني يرى الذي أرسلني. .. لأني لم أتكلم من نفسي، لكن الآب الذي أرسلني هو أعطاني وصية، ماذا أقول وبماذا أتكلم. وأنا أعلم أن وصيته هي حياة أبدية.
فما أتكلم أنا به فكما قال لي الآب هكذا أتكلم" (يوحنا 12/ 44-51)، فالمقصود بكل ذلك رؤية المعرفة، وقوله: " والذي يراني يرى الذي أرسلني" ولا يمكن أن يراد منه أن الذي رأى الآب المرسِل قد رأى الابن المرسَل، إلا إذا كان المرسِل هو المرسَل، وهو محال للمغايرة التي بينهما كما قال المسيح: "أبي أعظم مني" (يوحنا 14/28)، وقال: "أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل" (يوحنا 10/29).
(1/156)
ومثل هذا الاستعمال الذي يفيد الاشتراك في الحكم بين المسيح والله، والذي عبر عنه هنا بالرؤية، مثل هذا معهود في العهد القديم والجديد، ففي العهد القديم لما رفض بنو إسرائيل صموئيل " وقالوا له: هو ذا أنت قد شخت، وابناك لم يسيرا في طريقك. فالآن اجعل لنا ملكاً يقضي لنا كسائر الشعوب، فساء الأمر في عيني صموئيل... فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوت الشعب في كل ما يقولون لك، لأنهم لم يرفضوك أنت، بل إياي رفضوا " (صموئيل (1) 8/4-7)، إذ رفضهم طاعة صموئيل هو في الحقيقة عصيان لله في الحقيقة، ولذا قال: "أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر، أنت لم تكذب على الناس بل على الله، أليس وهو باق كان يبقى لك، ولما بيع ألم يكن في سلطانك، فما بالك وضعت في قلبك هذا الأمر.أنت لم تكذب على الناس بل على الله" (أعمال 5/4-5).
وكذا من يرى المسيح فكأنه يرى الله، ومن قبِل المسيح فكأنما قبل الله عز وجل، يقول لوقا: "من قبِل هذا الولد باسمي يقبلني. ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني " (لوقا 9/48)، وكذا من رأى الآب فقد رآني، لأنه " الكلام الذي أكلمكم به لست أتكلم به من نفسي، لكن الأب الحال في هو يعمل الأعمال…" (يوحنا 14/10).
وقوله: "أنا هو الطريق والحق والحياة" يقصد فيه المسيح الالتزام بتعليمه ودينه الذي أنزله الله عليه، فذلك فقط يدخل الجنة دار الخلود، كما قال في موطن آخر: "يدخل ملكوت السموات بل الذي يفعل إرادة أبي" (متى 7 /21)، فالخلاص بالعمل الصالح والبر " أقول لكم إنكم أن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السموات .. ومن قال: يا أحمق، يكون مستوجب نار جهنم" (متى 5/20-23).
(1/157)
ويتأكد ضعف الاستدلال بهذا الدليل للنصارى "الذي رآني فقد رأى الآب" إذا آمنا أن رؤية الله ممتنعة في الدنيا، كما قال يوحنا: " الله لم يره أحد قط" (يوحنا 1/18)، وكما قال بولس: " لم يره أحد من الناس، ولا يقدر أن يراه، الذي له الكرامة والقدرة الأبدية " (تيموثاوس(1) 6/16)، فيصير النص إلى رؤية المعرفة.(1/158)
المسيح صورة الله
و من أدلة النصارى على ألوهية المسيح ما قاله بولس عنه: "مجد المسيح الذي هو صورة الله" (كورنثوس(2)4/4)، وفي فيلبي "المسيح يسوع أيضاً الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائر في صورة الناس" (فيلبي 2/6-7) ويقول عنه أيضاً "الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
لكن هذه الأقوال صدرت عن بولس، ولا نراها عند أحد من تلاميذ المسيح وحوارييه، وهذا كاف لإضفاء نظرة الشك والارتياب عليها.
ثم إن الصورة تغاير الذات، وصورة الله هنا تعني نائبه في إبلاغ شريعته كما قال بولس في موضع آخر عن الرجل : " فإن الرجل لا ينبغي أن يغطي رأسه، لكونه صورة الله ومجده، وأما المرأة فهي مجد الرجل" (كورنثوس(1)11/7)، ومعناه أن الله أناب الرجل في سلطانه على المرأة.
كما أن كون المسيح على صورة الله لا يمكن أن يستدل به على ألوهيته، فإن آدم يشارك الله في هذه الصورة كما جاء في سفر التكوين عن خلقه: "قال الله: نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا… فخلق الإله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه" (التكوين 1/26-27).
فإن أصر النصارى على الجمع بين الصورة وألوهية المسيح فإن في الأسفار ما يكذبهم فقد جاء في إشعيا "اجتمعوا يا كل الأمم…لكي تعرفوا وتؤمنوا بي… قبلي لم يصور إله، وبعدي لا يكون. أنا أنا الرب، وليس غيري مخلص" (إشعيا 43/9-11).(1/159)
أزلية المسيح
ويتحدث النصارى عن المسيح الإله الذي كان موجوداً في الأزل قبل الخليقة، ويستدلون لذلك بأمور، منها ما أورده يوحنا على لسان المسيح أنه قال: " إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا " (يوحنا 8/56-58)، ففهموا منه - باطلاً – أن وجوده قبل إبراهيم يعني أنه كائن أزلي.
ويقول يوحنا عن المسيح: "هو ذا يأتي مع السحاب، وستنظره كل عين، والذين طعنوه…أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية" (الرؤيا1/7-8) أي الأول والآخر.
كما جاء في مقدمة يوحنا ما يفيد وجوداً أزلياً للمسيح قبل خلق العالم " في البدء كانت الكلمة، الكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله، هذا كان في البدء عند الله" (يوحنا1/1-2) فهذه النصوص مصرحة برأي النصارى بأزلية المسيح وأبديته، وعليه فهي دليل ألوهيته.
ويخالف المحققون في النتيجة التي توصل إليها النصارى، إذ ليس المقصود الوجود الحقيقي للمسيح كشخص، بل المقصود الوجود القدري والاصطفائي، أي اختيار الله واصطفاؤه له قديم ، كما قال بولس عن نفسه وأتباعه " كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين" (أفسس 1/4) أي اختارنا بقدره القديم، ولا يفيد أنهم وجدوا حينذاك، وهذا الاصطفاء هو المجد الذي منحه الله المسيح، كما في قوله: "والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يوحنا 17/5)، وهو المجد الذي أعطاه لتلاميذه حين اصطفاهم واختارهم للتلمذة كما الله اختاره للرسالة "وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني" (يوحنا 17/22)
ومثله عرف إبراهيم المسيح قبل خلقه، لا بشخصه طبعاً، لأنه لم يره قطعاً " فقد رآني وابتهج بي"، فالرؤية مجازية، وهي رؤية المعرفة، وإلا لزم النصارى أن يذكروا دليلاً على رؤية إبراهيم للابن الذي هو الأقنوم الثاني.
(1/160)
وقول يوحنا على لسان المسيح أنه قال: "من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا " (يوحنا 8/56-58)، لا يدل على وجوده في الأزل، وغاية ما يفيده النص إذا أخذ على ظاهره أن للمسيح وجوداً أرضياً يعود إلى زمن إبراهيم، وزمن إبراهيم لا يعني الأزل.
ثم لو كان المسيح أقدم من إبراهيم وسائر المخلوقات، فإن له لحظة بداية خُلق فيها، كما لكل مخلوق بداية، وهو ما ذكره بولس: "الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15)، فهو مخلوق، لكنه بكر الخلائق أي أولها، والخلق يتنافى مع الأزلية.
وممن شارك المسيح في هذه الأزلية المدعاة، ملكي صادق كاهن ساليم في عهد إبراهيم، فإن بولس يزعم أن لا أب له ولا أم، ويزعم أن لا بداية له ولا نهاية، أي هو أزلي أبدي، يقول: "ملكي صادق هذا ملك ساليم كاهن الله العلي…بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له، ولانهاية حياة، بل هو مشبه بابن الله، هذا يبقى كاهناً إلى الأبد" (عبرانيين 7/1-3)، فلم لا يقول النصارى بألوهية ملكي صادق الذي يشبه بابن الله، لكثرة صور التشابه بينهما ؟ بل هو متفوق على المسيح الذي يذكر النصارى أنه صلب ومات، وله أم بل وأب حسب ما أورده متى ولوقا، في حين ملكي صادق قد تنزه على ذلك كله؟
ومنهم سليمان حين قال عن نفسه: "أنا الحكمة أسكن الذكاء، وأجد معرفة التدابير…الرب قناني أول طريقه، من قبل أعماله منذ القديم، منذ الأزل مسحت، منذ البدء، منذ أوائل الأرض، إذ لم يكن ينابيع كثيرة المياه، ومن قبل أن تقرر الجبال أُبدئت، قبل التلال أبدئت …" (الأمثال 8/12-25).
وقول بعض النصارى أنه كان يتحدث عن المسيح لا دليل عليه , فسليمان هو الموصوف بالحكمة في الكتاب المقدس ، كما في سفر الأيام "مبارك الرب إله إسرائيل الذي صنع السماء والأرض، الذي أعطى داود الملك ابناً حكيماً صاحب معرفة وفهم، الذي يبني بيتاً للرب وبيتاً لملكه" (أيام (2) 2/12).
(1/161)
وكلمة "منذ الأزل مسحت" لا تدل على المسيح، إذ لفظ "المسيح" لقب أطلق على كثيرين غير المسيح عيسى ممن مسحهم الله ببركته من الأنبياء كداود وإشعيا (المزمور 45/7، وإشعيا 61/1)، فلا وجه لتخصيص المسيح بهذا اللقب.
ثم إن الحكمة لم تطلق أصلاً على المسيح، ولم يختص بها، فلا وجه في الدلالة على ألوهية المسيح بهذا النص قطعاً.
أما نصوص سفر الرؤيا والتي ذكرت أن المسيح الألف والياء، وأنه الأول والآخر، فلا تصلح للدلالة في مثل هذه المسائل، فهي كما أشار العلامة ديدات وجميع ما في هذا السفر مجرد رؤيا منامية غريبة رآها يوحنا، ولا يمكن أن يعول عليها، فهي منام مخلط كسائر المنامات التي يراها الناس، فقد رأى يوحنا حيوانات لها أجنحة وعيون من أمام، وعيون من وراء، وحيوانات لها قرون بداخل قرون…(انظر الرؤيا 4/8)، فهي تشبه إلى حد بعيد ما يراه في نومه من أتخم في الطعام والشراب، وعليه فلا يصح به الاستدلال.
ثم في آخر هذا السفر مثل هذه العبارات صدرت عن أحد الملائكة كما يظهر من سياقها، وهو قوله:" أنا يوحنا الذي كان ينظر ويسمع هذا.وحين سمعت ونظرت خررت لأسجد أمام رجلي الملاك الذي كان يريني هذا. فقال لي: انظر لا تفعل. لأني عبد معك ومع إخوتك الأنبياء والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب.اسجد للّه. وقال لي: لا تختم على أقوال نبوة هذا الكتاب لأن الوقت قريب.. وها أنا آتي سريعاً، وأجرتي معي. أنا الألف والياء. البداية والنهاية. الأول والآخر" (الرؤيا 22/8-13) وليس في ظاهر النص ما يدل على انتقال الكلام من الملاك إلى المسيح أو غيره.
مقدمة إنجيل يوحنا
وأما ما جاء في مقدمة يوحنا " في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البدء عند الله. كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان" ( يوحنا 1/1-3 ) فقد كان للمحققين معه وقفات عديدة ومهمة منها :
(1/162)
- ينبه ديدات إلى أن هذا النص قد انتحله كاتب الإنجيل من فيلون الإسكندراني ( ت40م ) ، وأنه بتركيباته الفلسفية غريب عن بيئة المسيح وبساطة أقواله وعامية تلاميذه، وخاصة يوحنا الذي يصفه سفر أعمال الرسل بأنه عامي عديم العلم، فيقول: " فلما رأوا مجاهرة بطرس ويوحنا، ووجدوا أنهما إنسانان عديما العلم وعاميان تعجبوا " ( أعمال 4/13 ).
- كما ينبه ديدات إلى أن ثمة تلاعباً في الترجمة الإنجليزية، وهي الأصل الذي عنه ترجم الكتاب المقدس إلى لغات العالم.
ولفهم النص على حقيقته نرجع إلى الأصل اليوناني .
فالنص في الترجمة اليونانية تعريبه هكذا "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله" وهنا يستخدم النص اليوناني بدلاً من كلمة (الله) كلمة ( hotheos ) ، وفي الترجمة الإنجليزية تترجم ( God ) للدلالة على أن الألوهية حقيقة.
ثم يمضي النص فيقول "و كان الكلمة الله" و هنا يستخدم النص اليوناني كلمة ( tontheos ) وكان ينبغي أن يستخدم في الترجمة الإنجليزية كلمة ( god ) بحرف صغير للدلالة على أن الألوهية مجازية، كما وقع في نص سفر الخروج "جعلتك إلهاً لفرعون" (الخروج 7/1)، فاستخدم النص اليوناني كلمة( tontheos ) وترجمت في النص الإنجليزي ( god ) مع وضع أداة التنكير( a ) .
لكن الترجمة الإنجليزية حرفت النص اليوناني لمقدمة يوحنا فاستخدمت لفظة ( God ) التي تفيد ألوهية حقيقة بدلاً من ( god ) التي تفيد ألوهية معنوية أو مجازية، فوقع اللبس في النص، وهذا ولا ريب نوع من التحريف.
ولو غض المحققون الطرف عن ذلك كله فإن في النص أموراً ملبسة تمنع استدلال النصارى به على ألوهية المسيح.
أولها: ما معنى كلمة "البدء"؟ ويجيب النصارى أي الأزل.
لكن ذلك لا يسلم لهم، فإن الكلمة وردت في الدلالة على معانٍ منها:
- وقت بداية الخلق والتكوين كما جاء في " في البدء خلق الله السموات والأرض" (التكوين1/1).
(1/163)
- وترد بمعنى وقت نزول الوحي، كما في قول متى "و لكن من البدء لم يكن هذا" (متى 19/8).
وقد تطلق على فترة معهودة من الزمن كما في قول لوقا "كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء" (لوقا 1/2)، أي في أول رسالة المسيح.
ومثله "أيها الإخوة لست أكتب إليكم وصية جديدة بل وصية قديمة كانت عندكم من البدء. الوصية القديمة هي الكلمة التي سمعتموها من البدء" ( يوحنا (1) 2/7).
ومثله أيضاً "ولكن منكم قوم لا يؤمنون.لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه" (يوحنا6/64).
ومثله " أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا. ذاك كان قتالاً للناس من البدء ولم يثبت في الحق، لأنه ليس فيه حق"(يوحنا 8/44).
ومثله " فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع : أنا من البدء ما أكلمكم أيضاً به" (يوحنا 8/25).
وعليه فلا يجوز قول النصارى بأن المراد بالبدء هنا الأزل إلا بدليل مرجح.
ويرجح الشيخ العلمي في كتابه الفريد "سلاسل المناظرات" بأن المعنى هنا هو بدء تنزل الوحي على الأنبياء أي أنه كان بشارة صالحة عرفها الأنبياء كما في (إرميا 33/14).
ثانيها: ما المقصود بالكلمة؟ هل هو المسيح؟ أم أن اللفظ يحتمل أموراً أخرى، وهو الصحيح. فلفظة "الكلمة" لها إطلاقات في الكتاب المقدس، منها الأمر الإلهي الذي به صنعت المخلوقات، كما جاء في المزامير" بكلمة الله صنعت السماوات" (المزمور 13/6).
ومثله: " وقال الله: ليكن نور فكان نور" (التكوين 1/3) و منه سمي المسيح كلمة لأنه خلق بأمر الله من غير سبب قريب، أو لأنه أظهر كلمة الله، أو أنه الكلمة الموعودة على لسان الأنبياء.
وأما المعنى الذي يريده النصارى بالكلمة، وهو الأقنوم الثاني من الثالوث، فلم يرد في كتب الأنبياء البتة.
(1/164)
ثالثها: " وكان الكلمة الله " غاية ما يستدل بها أن المسيح أطلق عليه: الله، كما أطلق على القضاة في التوراة " الله قائم في مجمع الله. في وسط الآلهة يقضي. حتى متى تقضون جوراً وترفعون وجوه الأشرار" (المزمور82/1)، والشرفاء في قول داود: " أحمدك من كل قلبي، قدام الآلهة أرنم لك" (138/1)، وقد قال الله لموسى عن هارون: " وهو يكون لك فماً، وأنت تكون له إلهاً " (انظر الخروج 4 /16) وغيرهم كما سبق بيانه .
رابعها: "والكلمة كان عند الله"، والعندية لا تعني المثلية ولا المساواة. إنما تعني أن الكلمة خلقت من الله كما في قول حواء: " اقتنيت رجلاً من عند الرب" (التكوين 4/1)، فقايين ليس مساوياً للرب، ولا مثله، وإن جاءها من عنده، وجاء في موضع آخر" وأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من عند الرب" (التكوين 19/24).(1/165)
إسناد الخالقية للمسيح
كما أسندت بعض النصوص الخالقية للمسيح، فتعلق النصارى بها، ورأوها دالة على ألوهيته ومنها قول بولس عن المسيح: " فإن فيه خلق الكل: ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواء أن كان عروشاً أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق" (كولوسي1/16-17)، وفي موضع آخر يقول:"الله خالق الجميع بيسوع المسيح" (أفسس3/9)، ومثله ما جاء في مقدمة يوحنا " كان في العالم، وكون العالم به، ولم يعرفه العالم" (يوحنا 1/10)، ومثله في (عبرانيين1/2).
و لا يسلم المحققون أن المقصود من هذه النصوص أن المسيح خلق الخلائق خلقة الإيجاد، بل المقصود الخلقة الجديدة، وهي خلقة الهداية التي تحدث عنها داود وهو يدعو الله: "قلباً نقياً اخلق فيّ يا الله، وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" (مزمور51/10).
ومثله قال بولس عن المؤمنين بالمسيح:"إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة" (كورنثوس(2)5/17).
وقال: "لأنه في المسيح ليس الختان ينفع شيئاً ولا الغرلة، بل الخليقة الجديدة" (غلاطية6/15).
وفي موضع آخر يقول: "تلبسوا الإنسان المخلوق الجديد بحسب الله في البر". (أفسس4/24).
وقال عن المسيح: "بكر كل خليقة" (كولوسي1/15)، أي أنه أول المؤمنين وأول المسلمين، وعلى هذا الأساس اعتبر يعقوب التلاميذ باكورة المخلوقات فقال: "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب1/18).
و عليه فإن المقصود من خلق المسيح للبشر هو الخلق الروحي، إذ جعله الله محيياً لموات القلوب وقاسيها.
لكن الحق أن النصوص التي يتعلق بها النصارى لا تتعلق بالبشر فقط، إذ فيها أنه خلق ما في السماوات والأرض، وهذا يمنع صرف النص إلى الخليقة الجديدة.
لكن هذه النصوص مبالغة معهود مثلها في النصوص التوراتية والإنجيلية، ومن ذلك قول موسى لبني إسرائيل : "هو ذا أنتم اليوم كنجوم السماء في الكثرة" (التثنية1/10).
(1/166)
ومثله في قوله: " وكان المديانيون والعمالقة وكل بني المشرق حالّين في الوادي كالجراد في الكثرة.وجمالهم لا عدد لها، كالرمل الذي على شاطئ البحر في الكثرة" (القضاة 7/12).
ويقول متى: " فصرخ يسوع أيضا بصوت عظيم وأسلم الروح، وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل. والأرض تزلزلت، والصخور تشققت. والقبور تفتحت، وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين. وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين."(متى 27/51).
وتصل المبالغة عند يوحنا أقصاها حين قال: "وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة". (يوحنا21/25) …
ولا يمكن أن يكون المسيح خالقاً للسماوات والأرض وما بينهما، إذ هو ذاته مخلوق، وإن زعمت النصارى أنه أول المخلوقين، لكنه على كل حال مخلوق، والمخلوق غير الخالق، " الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كولوسي 1/15).
إن الذي عجز عن رد الحياة لنفسه عندما مات لهو أعجز من أن يكون خالقاً للسماوات والأرض. " فيسوع هذا أقامه الله" (أعمال 2/32)، ولو لم يقمه الله لم يقم من الموتى، وفي موضع آخر: "ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه الله من الأموات " (أعمال 3/15).(1/167)
إسناد الدينونة للمسيح
وتتحدث الأسفار عن المسيح وأنه ديان الخلائق يوم القيامة، يقول بولس: "أنا أناشدك إذاً أمام الله والرب يسوع المسيح العتيد أن يدين الأحياء والأموات عند ظهوره وملكوته" (تيموثاوس (2) 4/1) فيرون في ذلك دليلاً على ألوهيته لأن التوراة تقول: "الله هو الديان" (المزامير 50/6)،
لكن ثمة نصوص تمنع أن يكون المسيح هو الديان" لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص به العالم. الذي يؤمن به لا يدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد" (يوحنا 3/17)، فالمسيح لن يدين أحداً، وهو ما أكده يوحنا بقوله: " وإن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آت لأدين العالم بل لأخلص العالم، من رذلني ولم يقبل كلامي فله من يدينه (أي الله وشرعه). الكلام الذي تكلمت به هو يدينه في اليوم الأخير" (يوحنا 12/47-48).
وإن أصر النصارى على أن الدينونة من أعمال المسيح فإن آخرين يشاركونه فيها، وهم التلاميذ الاثني عشر بما فيهم الخائن يهوذا الأسخريوطي " فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر" (متى 19/28).
وفي لوقا " لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسيّ، تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر" (لوقا 22/30)(1/168)
غفران المسيح الذنوب
ومما يستدل به النصارى على ألوهية المسيح ما نقلته الأناجيل من غفران ذنب المفلوج والخاطئة على يديه، والمغفرة من خصائص الألوهية، وعليه فالمسيح إله يغفر الذنوب، فقد قال للخاطئة مريم المجدلية: "مغفورة لك خطاياك " (لوقا 7/48)، كما قال للمفلوج: " ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك " وقد اتهمه اليهود بالتجديف فقالوا: " قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف " (متى 9/3).
لكنا إذا رجعنا إلى قصتي الخاطئة والمفلوج فإنا سنرى وبوضوح أن المسيح ليس هو الذي غفر ذنبيهما، ففي قصة المرأة لما شكّ الناس بالمسيح وكيف قال لها: "مغفورة خطاياك"، وهو مجرد بشر، أزال المسيح اللبس، وأخبر المرأة أن إيمانها هو الذي خلصها، ويجدر أن ننبه إلى أن المسيح لم يدع أنه هو الذي غفر ذنبها، بل أخبر أن ذنبها قد غُفر، والذي غفره بالطبع هو الله تعالى.
والقصة بتمامها كما أوردها لوقا: "وأما هي فقد دهنت بالطيب رجليّ، من أجل ذلك أقول لك: قد غُفرت خطاياها الكثيرة، لأنها أحبت كثيراً، والذي يغفر له قليل يحب قليلاً، ثم قال لها: مغفورة لك خطاياك، فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: من هذا الذي يغفر خطايا أيضاً؟! فقال للمرأة: إيمانك قد خلّصك، اذهبي بسلام" (لوقا 7/46-50)
وكذا في قصة المفلوج لم يدع المسيح أنه الذي يغفر الذنوب، فقد قال للمفلوج: "ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك" فأخبر بتحقق الغفران، ولم يقل : إنه هو الغافر لها، ولما أخطأ اليهود، ودار في خلدهم أنه يجدف، وبخهم المسيح على الشر الذي في أفكارهم، وصحح لهم الأمر، وشرح لهم أن هذا الغفران ليس من فعل نفسه، بل هو من سلطان الله، لكن الله أذن له بذلك، كما سائر المعجزات والعجائب التي كان يصنعها، وقد فهموا منه المراد وزال اللبس من صدورهم، "فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا ".
(1/169)
والقصة بتمامها كما أوردها متى كالتالي: " قال للمفلوج: ثق يا بني، مغفورة لك خطاياك، وإذا قوم من الكتبة قد قالوا في أنفسهم: هذا يجدّف، فعلم يسوع أفكارهم فقال: لماذا تفكرون بالشر في قلوبكم؟ أيما أيسر أن يقال مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال قم وامش؟ ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا، حينئذ قال للمفلوج: قم احمل فراشك واذهب إلى بيتك، فقام ومضى إلى بيته، فلما رأى الجموع تعجبوا، ومجدوا الله الذي أعطى الناس سلطاناً مثل هذا" (متى 9/3-8).
وهذا السلطان دفع إليه كما دفع كثير غيره من الله تبارك وتعالى: "التفت إلى تلاميذه وقال: كل شيء قد دفع إليّ من أبي" (لوقا 10/22)، وإلا فهو لا حول له ولا قوة، قد قال في موضع آخر: " دفع إليّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض" (متى 28/18)، لكنه ليس سلطانه الشخصي، بل هو قد دفع إليه من الله.
وسلطان غفران الخطايا دفع أيضاً إلى غير المسيح، فقد دفع إلى التلاميذ، وأصبح بإمكانهم غفران الذنوب التي تتعلق بحقوقهم الشخصية بل وكل الذنوب والخطايا، ومغفرتهم للذنوب الشخصية يقول عنه: "إن غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أيضاً أبوكم السماوي، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضاً زلاتكم" (متى 6/14-15)، فيما يعطيهم يوحنا صكاً مفتوحاً في غفران أي ذنب وخطيئة، فيقول: "من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أمسكت "(يوحنا 20/28)، فهم كالمسيح عليه السلام.
(1/170)
وقد ورثت الكنيسة عن بطرس والتلاميذ هذا المجد وهذا السلطان، فأصبح القسس يغفرون للخاطئين عن طريق الاعتراف أو صكوك الغفران، واعتمدوا في إقرار ذلك على وراثتهم للسلطان الذي دفع لبطرس "أنت بطرس... وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وكل ما تحله على الأرض يكون محلولاً في السماوات.." (متى 16/19 )، فلو غفر بطرس أو البابا وارثه لإنسان غفرت خطيئته من غير أن يقتضي ذلك ألوهيته.
وهذا السلطان دفع لكل التلاميذ " الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء، وأقول لكم أيضاً: إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قبل أبي الذي في السموات" (متى 18/18-20)، لكنه كما لا يخفى لا يعني ألوهيتهم لأنه ليس حقاً شخصياً لهم، بل هبة إلهية وهبت لهم ولمعلمهم المسيح. هذا ما يذكره الكتاب المقدس.
ولما كان المسيح لا يملكه من تلقاء نفسه فقد طلب من الله أن يغفر لليهود، ولو كان يملكه لغفر لهم ولم يطلبه من الله كما في لوقا " فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم، لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لوقا 23/34).(1/171)
السجود للمسيح
وتتحدث الأناجيل عن سجود بعض معاصري المسيح له، ويرون في سجودهم له دليل ألوهيته واستحقاقه للعبادة، فقد سجد له أب الفتاة النازفة " فيما هو يكلمهم بهذا إذا رئيس قد جاء، فسجد له " (متى 9/18)، كما سجد له الأبرص "إذا أبرص قد جاء وسجد له "(متى 8/2)، وسجد له المجوس في طفولته " فخروا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم " ( متى 2/11 ).
فيما رفض بطرس سجود كرنيليوس له، وقال له : "قم أنا أيضاً إنسان" (أعمال 10/25)، فقد اعتبر السجود نوعاً من العبادة لا ينبغي إلا لله، وعليه يرى النصارى في رضا المسيح بالسجود له دليلاً على أنه كان إلهاً.
ولا ريب أن السجود مظهر من مظاهر العبادة، لكنه لا يعني بالضرورة أن كل سجود عبادة، فمن السجود ما هو للتبجيل والتعظيم فحسب، فقد سجد يعقوب وأزواجه وبنيه لعيسو بن إسحاق حين لقاءه " وأما هو فاجتاز قدامهم، وسجد إلى الأرض سبع مرات، حتى اقترب إلى أخيه.. فاقتربت الجاريتان هما وأولادهما وسجدتا، ثم اقتربت ليئة أيضاً وأولادها وسجدوا. وبعد ذلك اقترب يوسف وراحيل، وسجدا " (التكوين 33/3-7).
كما سجد موسى عليه السلام لحماه حين جاء من مديان لزيارته "فخرج موسى لاستقبال حميه، وسجد، وقبّله" (خروج 18/7)، وسجد إخوة يوسف تبجيلاً لا عبادة لأخيهم يوسف " أتى إخوة يوسف، وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض" (التكوين 42/6)، واستمرت هذه العادة عند بني إسرائيل " وبعد موت يهوياداع جاء رؤساء يهوذا، وسجدوا للملك " (الأيام (2) 24/7).
وكل هذه الصور وغيرها لا تفيد أكثر من الاحترام، وعليه يحمل سجود من سجد للمسيح، فيما كان رفض بولس وبطرس لسجود الوثنيين لهما بسبب أن مثل هؤلاء قد يكون سجودهم من باب العبادة، لا التعظيم، خاصة أنهم يرون معجزات التلاميذ، فقد يظنونهم آلهة لما يرونه من أعاجيبهم.(1/172)