أصول وتاريخ
الفرق الإسلامية
جمع وترتيب
مصطفى بن محمد بن مصطفى
1424 هـ - 2003 م
بسم الله الرحمن الرحيم
... إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فى هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
... { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } (1)، { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذى تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً } (2)، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } (3).
... فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة فى النار.
... أما بعد ...
... فقد بعث الله تعالى محمداً - صلى الله عليه وسلم - برسالته الخاتمة إلى العالمين، فختم به الرسل، وختم برسالته الرسالات، فبلّغ رسول الله الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجمع الكلمة، وبيّن للناس دين الله القويم، وصراطه المستقيم، فآمن به واتبعه من وفقهم الله تعالى فنالوا سعادة الدارين، وتنكب طريقه أهل الضلالة فباءوا بشقاوة الدارين، ولقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ربه، وأمة الإسلام متحدة الكلمة، مجتمعة الرأى، راسخة البناء، شرعها كتاب الله وسنة رسوله، وشعارها لا إله إلا الله محمد رسول الله.
__________
(1) ... آل عمران: 102.
(2) ... النساء: 1.
(3) ... الأحزاب: 70، 71.(1/1)
... ولقد ظلت الأمة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدر غير قليل من عهد أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين مجتمعة على كلمة سواء تعتصم بحبل الله من نوازع التفرق، ودواعى التشتت ملتزمة قول الله تعالى { إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون } (1)، محققة قول الله سبحانه فى وصفها: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون } (2).
... ثم ما لبث المسلمون أن اتبعوا سنن من قبلهم، وساروا على درب الأمم التى مضت كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لتتبعن سَنَن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) رواه البخارى وغيره، فتفرقوا واختلفوا وأصبحوا شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون، وصدق فيهم قول النَّبى - صلى الله عليه وسلم - (افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة) رواه أبو داود من حديث أبى هريرة(3).
... وكان هذا التفرق نتيجة عوامل كثيرة نبينها فى هذا الكتاب بحول الله تعالى، كما سنبين بعون الله سبحانه أهم الفرق ومبادئ كل فرقه، ونبين مواطن الخطأ والصواب(4).
لماذا ندرس أصول وتاريخ الفرق الإسلامية ؟
__________
(1) ... الأنبياء: 92.
(2) ... آل عمران: 110.
(3) ... السلسلة الصحيحة للألبانى/203.
(4) ... انظر مقدمة كتاب تاريخ الفرق الإسلامية د. محمود محمد مزروعة.(1/2)
... يقول محمد العبدة: "وقد يظن البعض أن الحديث عن فرقة بادت -أو كادت- ترف عقلى، أو رياضة فكرية، تنبئ عن ملء حيز من الفراغ فى الوقت والفكر جميعاً، وقد يذهب هذا البعض مذهباً أكثر إيغالاً فى العجب من أولئك الذين يجهدون أنفسهم فى نشر أفكار قد درست، وصحائف قد طويت، وسير قد انقضت، وخاصة والأمر يتعلق بأفكار هى فى الأصح الأغلب دخيلة على الإسلام، مقتاتة على منهجه، هدامة لأصوله ثم لفروعه".
... وإننا لنود أن نقف مع أولئك وقفة نستجلى فيها وجه الحق فيما يبدو إثارته، فإننا نرى أن فهم الدافع إلى كتابة بحث من الأبحاث وتبيينه شافياً معين للقارئ والكاتب معاً على الخوض فى الموضوع بقلم لا يتردد فى نشر ما طوى، أو إظهار ما خفى، وبعقل واع متفهم لما قد يجده من غرائب ينبو عنها الحس الإسلامى السليم، وبقلب عامر بالرغبة فى الوصول إلى الهدف وإحقاق الحق.
... إن إعادة الحديث عن مذاهب مضت، وبيان ما فيها من بطلان وإظهار عوارها هو منهج مستمد من كتاب الله تعالى، فلقد قص علينا القرآن الكريم نبأ قوم لوط وقوم صالح وقوم هود، وما كان من غرور بنى إسرائيل فى دينهم والتوائهم فى عقيدتهم، مقارعاً لهم الحجة بالحجة مفندًا أباطيلهم بعد ذكرها كما قالوها دون حذف أو تبديل، فالحكم فى هذا الصدد هو الغاية التى يهدف إليها من وراء البيان، إن كانت للاعتبار من أحداثها والحذر من أفكارها فإن فى ذلك الفضل كل الفضل، أما إن كانت الأخرى، فهو الفساد وإشاعة الفاحشة لهدم العقول وإماتة القلوب هذه واحدة.(1/3)
... والأخرى: أن الأفكار لا تموت بموت أصحابها، فالفكر نتاج عقلى إنسانى أقرب فى مادته إلى الروح منه إلى الجسد، وحياته أطول أمداً من حياة أصحابه، وبقاؤه مرهون بقوة إشعاعه -حقاً كان أو باطلاً- ثم هى كالجرثومة التى تنتقل عدواها فتصيب الناس بمثل ما أصابت به صاحبها. تلك هى طبيعة الفكر ونتاج العقل، فلا بد من استيعاب تلك الخصيصة التى ثبتت بالاستقراء من خلال تاريخ الفكر الإنسانى عامة.
... ثم ثالثة ... وهى أنك إذا تأملت ما تحصل للبشر من أفكار على امتداد الزمان والمكان، فإنك واجدٌ تشابهاً كبيراً فيما بينهم وستعجب من هذا التشابه، وكأنه مستمد بعضه من بعض.
... ولا شك أن طوائف من تلك الأفكار قد استفادت من بعضها وما ذلك إلا نتيجة استعداد العقل وتوجهاته الأصلية وقوالبه الفكرية والنفسية والأولية التى ركبها الله فيه، فينتج له مع معطيات التفاعل الاجتماعى والنفسى أفكاراً تتشابه فى أصولها إلى حد كبير(1). أهـ.
بيان العقائد الفاسدة من مطالب الدعوة إلى الله تعالى:
... يقول الدكتور ناصر العقل: واعلم أن حماية الدين والعقيدة والشريعة والدفاع عنها وبيان ما يخالفها من مطالب الدعوة إلى الله تعالى، فالدعوة إلى الله تعالى تتضمن غايتين لا تصح الدعوة إلا بهما وهما ركناها:
... الركن الأول: تقرير الدين والعقيدة والشريعة وتعلمها وتعليمها ونشرها والعمل بها.
... والركن الثانى: حماية الدين والعقيدة والشريعة والدفاع عنها وبيان ما يخالفها، وكل ذلك منهج القرآن وعليه عمل النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وأئمة السلف وهو سبيل المؤمنين.
... فإن التصدى لأهل البدع والأهواء والافتراق من سنن الهدى ومن مطالب الدين وغاياته، ومن أبواب الجهاد، وأعلى درجات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وفق غايات الدعوة ومقاصدها.
__________
(1) ... انظر مقدمة كتاب دراسات فى الفرق "المعتزلة بين القديم والحديث" محمد العبده، طارق عبد الحليم.(1/4)
... وكما قال الشيخ بكر أبو زيد -حفظه الله- فى "الرد على المخالف من أصول الإسلام" وهو عنوان كتاب له:
... أما إنه من أبواب الجهاد لحديث أنس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)(1).
... والجهاد بالقلم فرع من الجهاد باللسان، بل هو أبلغ وأعم فائدة.
... ومن هذا المنطلق، وبناء على هذا التصور شرعت مستعيناً بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله فى الكتابة عن الأهواء والافتراق والبدع، ونشأتها وأصولها ومصادرها ورؤوسها ومناهجها وسماتها ومواقف السلف منها، مع الوقوف عند مواطن العبر واستجلاء الفوائد والتركيز على جانب التحذير من مسالك أهل الأهواء عند العرض، وكشف فسادها وزيفها وعوارها، ومع الحرص على عدم التعمق فى تفاصيل المقالات والشبهات، إلا عند الضرورة، والاقتصار على الإجمال وبيان الأصول والمناهج والشواهد على جهة العموم، خوفاً من تلوث القارئ بشبهات القوم كما هو منهج السلف حيث كانوا يعرضون مقولات الأهواء إجمالاً ويردونها تفصيلاً(2).
... ولا بد لدارس أحوال الماضين وأوضاع السابقين أن يلمّ إلماماً واسعاً بذلك الرصيد الذى جمع فأوعى، جمع مآثر الأولين وأخطاءهم، وتلك حصيلة ممتازة وعبرة مستفادة، جديرة بتصحيح مسار الحياة.
__________
(1) ... أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبى وصححه الألبانى فى صحيح الجامع الصغير (3085).
(2) ... انظر كتاب مقدمات فى الأهواء والافتراق والبدع، دكتور ناصر عبد الكريم العقل ص10،11.(1/5)
... ومما يجدر ذكره أن أهم شىء يحث عليه القرآن، ومن أجله أنزل الله الكتب وأرسل الرسل هو تصحيح العقائد وتغيير المجتمعات، فلهذا كان الإلحاح فى القرآن لينظر الناس إلى سنن الذين خلوا من قبل وهى التى على أساسها ترتفع وتنخفض المجتمعات، وعلى أساسها يكافئ الله ويعاقب، وعلى البشر أن يتفهموا هذه السنن حتى ينالوا رحمة الله ويبتعدوا عن انتقامه ... وفى هذا يقول تعالى { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } (1)(2).
أول شبهة وقعت فى الملة الإسلامية
... كانت شبهة إبليس –لعنه الله- هى أول شبهة وقعت فى الخليقة، وكان مصدرها استبداده بالرأى فى مقابلة النص، واختياره الهوى فى معارضته الأمر، واستكباره بالمادة التى خلق منها –وهى النار- على مادة آدم عليه السلام وهى الطين(3).
... وقد انشعبت من هذه الشبهة سبع شبهات وسرت فى الخليقة، وسرت فى أَذهان الناس حتى صارت مذاهب بدعة وضلالة، وتلك الشبهات مسطورة فى شرح الأناجيل الأَربعة، ومذكورة فى التوراة متفرقة على شكل مناظرات بين إِبليس وبين الملائكة، بعد الأَمر بالسجود والامتناع عنه. والمعلوم أن كل الشبهات الناشئة هى من شبهات اللعين إبليس.
... وجاءَ فى التنزيل فى قوله تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌ مُبِينٌ } (4).
__________
(1) ... الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد تأليف/ خالد محمد على الحاج 1/66.
(2) ... الأنفال: 38.
(3) ... الملل والنحل: جـ1 ص 21 وما بعدها.
(4) ... البقرة: 168.(1/6)
... وشبَّه النبى - صلى الله عليه وسلم - كل فرقة ضالة من هذه الأُمة بأُمة ضالة من الأُمم السالفة فقال: (الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هذِهِ الأُمَّةِ إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم)(1). وقال: (والمشبهة يهود هذه الأمة والروافض نصاراها). وقال - صلى الله عليه وسلم - جملة: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذَّةِ بالقذة -ريش السهم- حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)(2).
... وهكذا يمكن أن نقرر فى زمان كل نبى، ودور صاحب كل ملّة وشريعة أن شبهات أمته فى آخر زمانه، ناشئة من شبهات خصماء أول زمانه من الكفار والملحدين، وأكثرها من المنافقين، وإن خفى علينا ذلك فى الأمم السابقة لتمادى الزمان، فلم يخف فى هذه الأمة أن شبهاتها نشأت كلها من شبهات منافقى زمن النبى عليه الصلاة والسلام، إذ لم يرضوا بحكمه فيما كان يأمر وينهى. وشرعوا فيما لا مسرح للفكر فيه ولا مسرى، وسألوا عما منعوا من الخوض فيه والسؤال عنه، وجادلوا بالباطل فيما لا يجوز الجدال فيه.
__________
(1) ... رواه أبو داود والحاكم من حديث ابن عمر، وحسنه الألبانى فى الطحاويه والجامع.
(2) ... رواه الشيخان. سنن: بفتح المهملة أى طريق من كان قبلكم. والمعنى: لتتبعن طريقهم فى كل ما فعلوه، وتشبهوهم فى ذلك كتشابه ريش السهم.(1/7)
... اعتبر حديث ذى الخويصرة التميمى إذ قال: اعدل يا محمد، فإنك لم تعدل. حتى قال عليه الصلاة والسلام: "إن لم أعدل فمن يعدل؟!" فعاد اللعين وقال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله تعالى. وذلك خروج صريح على النبى عليه الصلاة والسلام. وقد صار من اعترض على الإمام المحق خارجياً، فمن اعترض على الرسول، أحق بأن يكون خارجياً، أو ليس ذلك قولاً بتحسين العقل وتقبيحه؟. وحكماً بالهوى فى مقابلة النص، واستكباراً على الأمر بقياس العقل؟. حتى قال عليه الصلاة والسلام: (سيخرج من ضئضىء هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)(1).
... واعتبر حال طائفة أخرى من المنافقين يوم أحد إذ قالوا: { هل لنا من الأمر من شىء } (2). وقولهم: { لو كان لنا من الأمر شىء ما قتلنا ههنا } (3) وقولهم: { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } (4).
... فهل ذلك إلا تصريح بالقدر؟. وقول طائفة من المشركين: { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شىء } (5). وقول طائفة: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } (6) فهل هذا إلا تصريح بالجبر؟.
... واعتبر حال طائفة أخرى جادلوا فى ذات الله، تفكراً فى جلاله، وتصرفاً فى أفعاله حتى منعهم وخوفهم بقوله تعالى: { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون فى الله وهو شديد المحال } (7).
... فهذا ما كان فى زمانه عليه الصلاة والسلام وهو على شوكته وقوته وصحة بدنه، والمنافقون يخادعون فيظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وإنما يظهر نفاقهم بالاعتراض فى كل وقت على حركاته وسكناته، فصارت الاعتراضات كالبذور وظهرت منها الشبهات كالزروع.
__________
(1) رواه البخارى: الضئضىء: الجنس. والأصل والمحتد، يقال: فلان من ضئضىء صدق: أى من محتد صدق.
(2) ... آل عمران: 154.
(3) ... آل عمران: 154.
(4) ... آل عمران: 156.
(5) ... النحل: 35.
(6) ... يس: 47.
(7) ... الرعد: 13.(1/8)
... وأما الاختلافات الواقعة فى حال مرضه عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته بين الصحابة رضى الله عنهم، فهى اختلافات اجتهادية كما قال العلماء، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع، وإدامة مناهج الدين ... وتعميماً للفائدة نذكر بعض الخلافات الاجتهادية التى وقعت بين أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - وهى خلافات ما كانت فى العقيدة ولا فى صلب الإسلام، إنما كانت خلافات سياسية أو إن شئت فقل إدارية.
فأول تنازع:
... وقع فى مرض الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى بإسناده عن عبد الله بن عباس رضى الله عنه قال: لما اشتد بالنبى - صلى الله عليه وسلم - مرضه الذى مات فيه قال: (إِئْتُونى بِدَوَاةٍ وقِرْطَاسٍ أكتبْ لكم كتاباً لا تضلوا بعدى)، فقال عمر رضى الله عنه: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله، وكثر اللغط، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (قوموا عنِّى لا ينبغى عندى التنازع). قال ابن عباس: الرَّزيّة كل الرَّزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الخلاف الثانى:
... فى مرضه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (جهزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه)، فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره –وأسامة قد برز من المدينة-، وقال قوم: قد اشتد مرض النبى عليه الصلاة والسلام فلا تسع قلوبنا مفارقته، والحالة هذه، فنصبر حتى نبصر أى شىء يكون من أمره.
... وإنما أوردت هذين التنازعين، لأن المخالفين ربما عدوا ذلك من الخلافات المؤثرة فى أمر الدين، وليس كذلك، وإنما كان الغرض كله إقامة مراسم الشرع فى حال تزلزل القلوب، وتسكين ثائرة الفتنة المؤثرة عند تقلب الأمور(1).
الخلاف الثالث:
__________
(1) ... ثائرة الفتنة: أسبابها.(1/9)
... فى موته عليه الصلاة والسلام، قال عمر بن الخطاب: من قال أن محمداً قد مات قتلته بسيفى هذا، وإنما رفع إلى السماء كما رفع عيسى عليه السلام. وقال أبو بكر بن أبى قحافة رضى الله عنه: من كان يعبد محمد فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لم يمت ولن يموت. وقرأ قول الله سبحانه وتعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزى الله الشاكرين } (1).
... فرجع القوم إلى قوله، وقال عمر رضى الله عنه: كأنى ما سمعت هذه الآية حتى قرأها أبو بكر.
الخلاف الرابع:
... فى موضع دفنه عليه السلام، أراد أهل مكة من المهاجرين رده إلى مكة لأنها مسقط رأسه، ومأنس نفسه، وموطئُ قدمه، وموطن أهله، وموقع رحله. وأراد أهل المدينة من الأنصار دفنه بالمدينة لأنها دار هجرته، ومدار نصرته. وأرادت جماعة نقله إلى بيت المقدس لأنه موضع دفن الأنبياء، ومنه معراجه إلى السماء، ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة لما روى عنه عليه الصلاة والسلام: (الأنبياء يدفنون حيث يموتون)(2).
الخلاف الخامس:
__________
(1) ... آل عمران: 144
(2) ... روى الترمذى من حديث أبى بكر رضى الله عنه مرفوعًا: (ما قبض الله نبيًا إلا فى الموضع الذى يجب أن يدفن فيه). قال الترمذى: حديث غريب، وصححه الألبانى فى صحيح سنن الترمذى.(1/10)
... فى الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلّ سيف فى الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة فى كل زمان، وقد سهل الله تعالى فى الصدر الأول، فاختلف المهاجرون والأنصار فيها، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير. واتفقوا على رئيسهم سعد بن عبادة الأنصارى، فاستدركه أبو بكر وعمر رضى الله عنهما فى الحال، بأن حضرا سقيفة بنى ساعدة وقال عمر: كنت أُزوِّر(1) فى نفسى كلاماً فى الطريق، فلما وصلنا إلى السقيفة أردت أن أتكلم فقال أبو بكر: مه(2) يا عمر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ما كنت أقدره فى نفسى كأنه يخبر عن غيب، فقبل أن يشتغل الأنصار بالكلام مددت يدى إليه فبايعته وبايعه الناس وسكنت الفتنة، إلا أن بيعة أبى بكر كانت فلتة(3) وقى الله المسلمين شرها، فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فأيما رجل بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فإنها تغرةً(4) يجب أن يقتلا.
... وإنما سكنت الأنصار عن دعواهم لرواية أبى بكر عن النبى عليه الصلاة والسلام: (الأئمة من قريش). وهذه البيعة هى التى جرت فى السقيفة، ثم لما عاد إلى المسجد انثال(5) الناس عليه وبايعوه عن رغبة، سوى جماعة من بنى هاشم وأبى سفيان من بنى أمية، وأمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، كان مشغولاً بما أمره النبى - صلى الله عليه وسلم - من تجهيزه ودفنه وملازمة قبره من غير منازعة ولا مدافعة.
الخلاف السادس:
__________
(1) ... أزور كلاماً: أحسن كلاماً وأقومه وأنمقه.
(2) ... مه: اكفف.
(3) ... فلتة: دون تدبر وتمهل.
(4) ... تغرة: غرر بنفسه تغريراً وتغرة: عرضها للهلاك.
(5) ... انثال عليه الناس: انصبوا عليه وتكاثروا حوله.(1/11)
... فى أمر فدك(1) والتوارث عن النبى عليه الصلاة والسلام، ودعوى فاطمة عليها السلام وراثة تارة وتمليكاً أُخرى، حتى دفعت عن ذلك بالرواية المشهورة عن النبى عليه الصلاة والسلام (نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة).
الخلاف السابع:
... فى قتال مانعى الزكاة، فقال قوم: لا نقاتلهم قتال الكفرة. وقال قوم: بل نقاتلهم. حتى قال أبو بكر رضى الله عنه: لو منعونى عقالاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه. ومضى بنفسه إلى قتالهم، ووافقه جماعة الصحابة بأسرهم. وقد أدى اجتهاد عمر رضى الله عنه فى أيام خلافته إلى رد السبايا والأموال إليهم وإطلاق المحبوسين منهم والإفراج عن أسرهم.
الخلاف الثامن:
... فى تخصيص(2) أبى بكر عمر بالخلافة وقت الوفاة، فمن الناس من قال: قد وليت علينا فظاً غليظاً. وارتفع الخلاف بقول أبى بكر: لو سألنى ربى يوم القيامة لقلت: وليت عليهم خيرهم.
... وقد وقع فى زمانه اختلافات كثيرة فى مسائل ميراث الجد والأخوة والكلالة(3) وفى عَقْلِ(4) الأصابع وديات الأسنان، وحدود بعض الجرائم التى لم يرد فيها نص. وإنما أهم أمورهم: الاشتغال بقتال الروم، وغزو العجم، وفتح الله تعالى الفتوح على المسلمين، وكثرت السبايا والغنائم، وكانوا كلهم يصدرون عن رأى عمر رضى الله عنه، وانتشرت الدعوة وظهرت الكلمة، ودانت العرب، ولانت العجم.
الخلاف التاسع:
__________
(1) ... فدك: قرية شمال المدينة كانت لليهود، ولما انهزم يهود خيبر خشى يهود فدك على أنفسهم فسلموا قريتهم للنبى عليه الصلاة والسلام دون قتال، فكانت خالصة له ينفق منها، وعلى بعض المحتاجين من أبناء بنى هاشم.
(2) ... انظر كلام أبى بكر فى هذا الموضوع: جـ1 ص8 من الكامل للبرد. مصطفى الحلبى.
(3) ... من عدا الولد والوالد من الوراثة، وقيل: الكلالة من مات ولا والد له ولا ولد.
(4) ... العقل: ما يدفع للمجنى عليه كتعويض لما أصابه.(1/12)
... فى أمر الشورى واختلاف الآراء فيها، واتفقوا كلهم على بيعة عثمان رضى الله عنه، وانتظم الأمر واستمرت الدعوة فى زمانه وكثرت الفتوح وامتلأ بيت المال، وعاشر الخلق على أحسن خلق وعاملهم بأبسط يد، غير أن أقاربه من بنى أمية قد ركبوا نُهابر(1) فركبته، وجاروا فجير عليه ووقعت فى زمنه اختلافات كثيرة، وأخذوا عليه أحداثاً كلها محالة(2) على بنى أمية. منها:
- ... رده الحكم بن أمية إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان يسمى طريد رسول الله، وبعد أن تشفع أبا بكر وعمر رضى الله عنهما أيام خلافتهما فما أجابا إلى ذلك، ونفاه عمر من مقامه باليمن أربعين فرسخاً.
- ... ومنها نفيه أبا ذر إلى الرَّبذة(3)، وتزويجه مروان بن الحكم بنته، وتسليمه خمس غنائم إفريقية له وقد بلغت مائتى ألف دينار.
- ... ومنها إيواؤه عبد الله بن سعد بن أبى سرح –وكان رضيعه- بعد أن أهدر النبى عليه الصلاة والسلام دمه، وتوليته إياه مصر بأعمالها وتوليته عبد الله بن عامر البصرة حتى أحدث فيها ما أحدث، إلى غير ذلك مما نقموا عليه، وكان أُمراءُ جنوده: معاوية بن أبى سفيان عامل الشام. وسعد بن أبى وقاص عامل الكوفة، وبعده الوليد بن عقبة، وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر عامل البصرة، وعبد الله بن سعد بن أبى السرح عامل مصر، وكلهم خذلوه ورفضوه حتى أتى قدره عليه وقُتِلَ مظلوماً فى داره، وثارت الفتنة من الظلم الذى جرى عليه ولم تسكن بعد.
الخلاف العاشر:
... فى زمان أمير المؤمنين على رضى الله عنه بعد الاتفاق عليه وعقد البيعة له.
__________
(1) ... مهالك، جمع نهبورة بضم النون فيهما.
(2) ... محالة أى: محمولة ومنسوبة.
(3) ... الربذة: من قرى المدينة.(1/13)
... فأوله: خروج طلحة والزبير إلى مكة، ثم حمل عائشة إلى البصرة ثم نصب القتال معه. ويعرف ذلك بحرب الجمل، والحق أنهما رجعا وتابا، إذ ذكرهما أمراً فتذكراه. فأما الزبير فقتله ابن جرموز بقوس وقت الانصراف، وهو فى النار لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (بشِّر قاتِلَ ابن صفيَّةَ بالنَّار)(1)، وأما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم وقت الإعراض(2) فخر ميتاً.
... وأما عائشة رضى الله عنها فكانت محمولة على ما فعلت، ثم تابت بعد ذلك ورجعت.
... والخلاف بينه وبين معاوية وحرب صفين، ومخالفةُ الخوارج، وحملُهُ على التحكيم، ومغادرةُ عمرو بن العاص أبا موسى الأشعرى، وبقاءُ الخلاف إلى وقت وفاته مشهور.
__________
(1) ... رواه أحمد فى المسند من حديث على بن أبى طالب موقوفًا، وصححه أحمد شاكر فى المسند.
(2) ... وقت الإعراض: وقت أن أعرض عن القتال، أى كف واعتزل الحرب.(1/14)
... وكذلك الخلاف بينه وبين الشُراة(1) المارقين بالنهروان(2) عقداً وقولاً ونصب القتال معه فعلاً ظاهراً معروفاً، وبالجملة كان على رضى الله عنه مع الحق والحق معه، وظهر فى زمانه الخوارج عليه مثل الأشعث بن قيس، ومسعود بن مذكى التميمى، وزيد بن حصين الطائى وغيرهم، وكذلك ظهر فى زمانه الغلاة فى حقه مثل عبد الله بن سبأٍ وجماعة معه، ومن الفريقين ابتدأت البدعة والضلالة، وصدق فيه قول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (يهلكُ فيه اثنان: مُحبٌّ غالٍ ومُبْغِضٌ قَالٍ)(3).
تعريف الافتراق والأهواء والبدع(4)
أولا: الافتراق تعريفه:
الافتراق فى اللغة: ... خلاف الاجتماع قال الله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } (5).
__________
(1) ... الشراة: الخوارج والواحد شارة. سموا بذلك لقولهم شرينا أنفسنا فى طاعة الله.
(2) ... النهروان: عدة قرى بين واسط وبغداد.
(3) ... روى الإمام أحمد فى المسند عن على رضى الله عنه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال له : (إن مثلك مثل عيسى بن مريم) وقال علىّ: "يهلك فىّ رجلان: محب مفرط يقرظنى بما ليس فىّ، ومبغض يحمله شنأنى على أن يبهتنى"، حسنه الشيخ أحمد شاكر فى السند، وفى رواته من ضعفه ابن معين، والحديث ضعفه الهيثمى فى مجمع الزوائد. وقال الألبانى فى ظلال الجنة: سنده ضعيف حديث 987. ولكن صححه الألبانى من حديث علىّ رضى الله عنه موقوفا عند ابن أبى عاصم برقم/ 983 "ليحبنى قوم حتى يدخلوا النار فىّ وليبغضنى قوم حتى يدخلوا النار فى بغضى" وقال الألبانى صحيح على شرط الشيخين.
... وفى نفس الكتاب عن على رضى الله عنه "يهلك فىّ رجلان مفرط فى حبى ومفرط فى بغضى" وحسن إسناده الألبانى.
(4) ... هذا الفصل مختصر من كتاب مقدمات فى الأهواء والافتراق والبدع للدكتور ناصر عبد الكريم العقل.
(5) ... آل عمران: 103.(1/15)
... "والتَّفرُّق والافتراق سواء. ومنهم من يجعل التفرق للأبدان، والافتراق فى الكلام، يقال: فرقت بين الكلامين فافترقا، وفرَّقتُ بين الرجلين فتفرقا"(1).
الافتراق فى الاصطلاح:
... الافتراق فى الشرع يطلق على أمور:
... 1. التفرق فى الدين، والاختلاف فيه، ومن ذلك قوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } . وقوله، - صلى الله عليه وسلم -: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين أو ثنتين وسبعين فرقة..) الحديث(2)، وهو الاختلاف فى الأصول، واختلاف التضاد المؤدى إلى التنازع فى الدين والخروج عن السنة.
... 2. الافتراق عن جماعة المسلمين، فى أمر يقتضى الخروج عن أصولهم فى الاعتقاد أو الشذوذ عنهم فى المناهج، أو الخروج على أئمتهم، أو استحلال السيف فيهم، فهو مفارق. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: (من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه)(3). ولفظ مسلم: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قُتِلَ تحت راية عمية، يغضب للعصبية، ويقاتل للعصبية فليس من أمتى، ومن خرج من أمتى على أمتى، يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفى بذى عهدها فليس منى)(4).
... وقد ذكر أصنافاً من المفارقين الخارجين وهم:
1. ... المفارقون للجماعة.
2. ... والخارجون من الطاعة.
3. ... والخارجون على الأمة بالسيف.
__________
(1) ... انظر لسان العرب، مادة (فرق) 10/301.
(2) ... القاموس المحيط 1185 (فرق).
(3) ... أخرجه أحمد فى المسند5/180 عن أبى ذر، والحاكم فى المستدرك1/117، وأبو داود (4758) وصححه الألبانى، انظر: صحيح الجامع الصغير، الحديث رقم(6286).
(4) ... أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، الحديث (1848)، 3/1477.(1/16)
4. ... والمقاتلون تحت راية عمية وهو الأمر الأعمى الذى لا يستبين وجهه، ومنه قتال العصبية، وقتال الفتنة، ومنه القوميات والشعارات والقبليات، والحزبيات ونحوها. كل ذلك داخل فى المفارقة والأهواء.
... وكل هذه الأصناف وجدت فى أهل الافتراق والأهواء والفرق المتفرقة المفارقة.
والتعريف الشامل للافتراق:
... هو الخروج عن السنة والجماعة فى أصل أو أكثر من أصول الدين الاعتقادية منها أو العملية أو المتعلقة بالمصالح العظمى للأمة، ومنه الخروج على أئمة المسلمين وجماعتهم بالسيف.
وأهل الافتراق:
... هم الفرقة المفترقة عن طريق السنة والجماعة المباينة لنهج السلف الصالح، وهم: أصحاب السيف، الخارجون على أئمة المسلمين، ومنهم أهل الجدل والخصومات فى الدين، وأهل الكلام، وأصحاب البدع والمحدثات فى الدين، كالخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم.
... وفى العصور المتأخرة ظهرت أهواء حادثة، كأصحاب الاتجاهات الحديثة المنحرفة، كالقومية، والبعثية، والعلمانية، فهم كلهم فى سبيل الفرقة، بل غالبهم فى سبيل الردة والخروج من الملة.
... وأهل الافتراق والأهواء كلهم أصحاب بدع، اعتقادية كانت أو قولية أو عملية، أو أحدها أو كلها، فهى غالباً متلازمة.
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة"(1).
... فالفُرْقَةُ: أعظم سمة من سمات أهل البدع والأهواء.
... ومن كان على السنة، وتلبس ببدعة غير مغلظة ولم يكن داعية لها فلا يخرجه ذلك عن السنة، كحال قتادة فى قوله بالقدر، وعبد الرزاق بن همام، والحاكم النيسابورى فى التشيع، وابن حجر والنووى فى تأويلاتهما.
ثانياً: الأهواء تعريفها:
__________
(1) ... الاستقامة1/42.(1/17)
الأهواء لغة: جمع، واحدها هوى(1). وهوى يهوى بمعنى: سقط(2).
... وفى الجملة فإن هذه المعانى للهوى تدور حول: الميل إلى رغبة النفس وشهواتها، ومحبة الشىء وغلبته على القلب، واستحواذ الشياطين، والحيرة والضلال والفجور والظلم.
والهوى شرعا: خلاف الهدى.
... فهو ميل النفس إلى ما ترغبه، وميل القلب إلى ما يحبه إذا خرج ذلك عن حد الشرع والاعتدال. ويكون ذلك فى الشهوات والعقائد والآراء والمذاهب.
وأهل الأهواء:
... هم كل من خالف السنة والجماعة.
وأهل البدع هم:
... كل من أحدث فى الدين ما ليس منه فى الاعتقادات، والأقوال، والأعمال، ولها عند عامة أهل العلم إطلاقان:
... الأول: عام حيث تطلق كلمة (أهل البدع) على كل أهل الأهواء والافتراق والمبتدعات الاعتقادية والقولية والعملية: كالخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة، والجبرية، وغيرهم.
... الثانى: خاص حيث تطلق كلمة (أهل البدع) على أصحاب البدع العملية: كالمقابرية، وأصحاب التوسلات البدعية، والصوفية الطرقية، وبدع الأذكار، والمشاهد، والمزارات، ونحو ذلك.
... والإطلاقان لا يتعارضان بل يتداخلان، لكن قد يكون إطلاق (أهل البدع) على البدع العملية أكثر، لأنها أظهر وأعم، وأكثر فى الناس ويدركها العامة والخاصة (أهل العلم).
... أما البدع الاعتقادية فهى مما لا يدركه إلا أهل العلم، ويخفى أكثره على العامة، والبدع الاعتقادية ليست ظاهرة غالباً.
... هذا مع العلم أن البدع الاعتقادية والعملية تتلازمان على الأغلب.
الفرق بين الاختلاف والافتراق
... المتأمل للنصوص الشرعية التى ورد فيها ذكر الاختلاف والافتراق، وكذلك أقوال أهل العلم، وواقع الأمة يتحصل على ما يلى:
أن الافتراق: أشد أنواع الاختلاف، وثمرة من ثماره.
__________
(1) ... انظر لسان العرب15/170-173، مادة (هوا)، والمعجم الوسيط ص(1012).
(2) ... انظر لسان العرب15/170-173، مادة (هوا)، والمعجم الوسيط ص(1012).(1/18)
إن من الاختلاف ما لا يصل إلى حد الافتراق، وهو أكثر أنواع الخلاف بين الأمة، فالخلاف بين الصحابة والتابعين والأئمة والعلماء لم يصل إلى حد الافتراق ولا التنازع فى الدين.
أن كل افتراق اختلاف، وليس كل اختلاف افتراق.
أن الاختلاف سائغ شرعاً، والافتراق غير سائغ.
أن الافتراق إنما يكون فى أصول الاعتقاد والقطعيات والإجماع، وما يؤدي إلى الشذوذ عن جماعة المسلمين والخروج على أئمتهم، والاختلاف دون ذلك.
الافتراق مذموم كله، والاختلاف ليس كله مذموماً. فإن:
... ... أ. الاختلاف يعذر صاحبه إذا كان مجتهداً، والافتراق لا يعذر صاحبه.
... ... ب. الاختلاف عن اجتهاد يؤجر عليه المجتهد، والافتراق مأزور صاحبه.
... ... جـ. الافتراق يكون عن هوى، أما الاختلاف فلا يلزم منه ذلك.
د. الاختلاف رحمة، وأهله ناجون إن شاء الله، والفرقة عذاب، وأهله هالكون ومتوعدون.
... وقال الشاطبى: "قال (يعنى بعض العلماء): كل مسألة حدثت فى الإسلام واختلف الناس فيها، ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة –علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة حدثت وطرأت، فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة- علمنا أنها ليست من أمر الدين فى شئ، وأنها التى عنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بتفسير الآية، وهى قوله تعالى": { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } .
الضابط فى الحكم بالافتراق:
... تعتبر المفارقة فى حالين:
فيمن خالف أهل السنة والجماعة فى اصل كلى أو قاعدة من قواعد الشرع الكلية.
فيمن خالف فى فروع كثيرة، وجزئيات كثيرة مخرجة عن سمة أهل السنة وهديهم، كبدع الشعائر والعبادات إذا كثرت.
حتمية وقوع الافتراق:(1/19)
... ومما يدل على حتمية الافتراق وأن وقوعه حق وصدق لا محالة، وأن أهل الحق هم الأقلون، وأنهم طائفة من طوائف الأمة، وفرقة من فرقها الكثيرة –أحاديث الغربة- كقوله، - صلى الله عليه وسلم -، من حديث ابن عمر: (إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز(1) بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها)(2).
... وبين، - صلى الله عليه وسلم -، أن الغرباء (أناس صالحون فى أناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم)(3).
... والحديث نص قاطع فى أنه يكون أهل الأهواء والافتراق كثيرين، حتى يشعر أهل الحق والسنة بالغربة فى بعض الأزمان، والله المستعان.
قواعد عامة فى الأهواء والافتراق(4)
1. الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هم القدوة فى الدين:
... قال شيخ الإسلام: "والواجب على كل مسلم يشهد؛ أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أن يكون أصل قصده توحيد الله بعبادته وحده لا شريك له، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يدور على ذلك، ويتبعه أين وجده، ويعلم أن أفضل الخلق بعد الأنبياء هم الصحابة، فلا ينتصر لشخص انتصاراً مطلقاً عاماً إلا لرسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، ولا لطائفة انتصاراً مطلقاً عامة إلا للصحابة –رضى الله عنهم أجمعين- فإن الهدى يدور مع الرسول حيث دار، ويدور مع أصحابه دون أصحاب غيره حيث داروا، فإذا أجمعوا لم يجمعوا على خطأ قط، بخلاف أصحاب عالم من العلماء، فإنهم قد يجمعون على خطأ"(5).
2. مصادر تلقى العقيدة:
__________
(1) ... يأرز: تقبَّضَ وتجمَّعَ.
(2) ... صحيح مسلم، كتاب الإيمان، الحديث(146).
(3) ... أخرجه أحمد فى المسند2/177، 2/222، وصححه الألبانى فى صحيح الجامع الصغير رقم (3816)، وانظر الغرباء الأولون للشيخ سلمان العودة ص47 وما بعدها.
(4) ... هذا الفصل مختصر من كتاب مقدمات فى الأهواء والافتراق والبدع للدكتور ناصر عبد الكريم العقل.
(5) ... منهاج السنة (5/261، 262).(1/20)
مصادر تلقى العقيدة الحق، هى: الكتاب، والسنة، وإجماع السلف. وهذه هى مصادر الدين.
وإذا اختلفت فهوم الناس لنصوص الدين، فإن فهم السلف هو الحجة، وهو القول الفصل فى مسائل الاعتقاد.
ومنهج السلف فى تقرير العقيدة هو الأعلم والأسلم والأحكم. ويتمثل ذلك بآثارهم المبثوثة فى مصنفاتهم، وفى كتب السنة والآثار.
والعقيدة توقيفية لا يجوز تلقيها من غير الوحى.
والعقيدة غيبية فى تفصيلها، فلا تدركها العقول استقلالاً، ولا تحيط بها الأوهام.
وكل من حاول تقرير العقيدة من غير مصادرها الشرعية فقد افترى على الله كذباً، وقال على الله بغير علم.
كما أن العقيدة مبناها على التسليم والاتباع: التسليم لله تعالى، والاتباع لرسوله، - صلى الله عليه وسلم -.
... قال الزهرى: "مِنَ اللهِ –عز وجل- الرسالةُ، وعلى الرسولِ، - صلى الله عليه وسلم -، البلاغُ، وعلينا التسليم"(1).
والصحابة –رضى الله عنهم- وأئمة التابعين وتابعيهم وأعلام السنة كانوا على هدى رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، وسبيلهم هو سبيل المؤمنين، وآثارهم هى السنة والطريق المستقيم. قال الأوزاعى: "عليك بآثار من سلف، وإِنْ رَفَضَك الناس، وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلى وأنت على طريق مستقيم"(2).
... وبهذا يتبين الفارق بين أهل السنة وأهل الأهواء.
... - فأهل السنة يذعنون ويسلمون للوحى، وأهل الأهواء ينازعون فى ذلك.
... - وأهل السنة يتبعون السلف، وأهل الأهواء يجانبون آثار السلف.
... - وأهل السنة يعتقدون أن مبنى الدين على التصديق والإذعان والتسليم والطاعة لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولسبيل المؤمنين، وأهل الأهواء يعتمدون على عقولهم وعلمهم ومعرفتهم وأهوائهم.
__________
(1) ... أخرجه البخارى فى الصحيح، كتاب التوحيد، باب(46)، الفتح13/508.
(2) ... تاريخ الإسلام للذهبى (141-160)/490.(1/21)
... فلذلك تعددت مصادر الدين عند أهل الأهواء، من الرأى، والعقل، والأوهام، والظنون، والذوق، وإيحاء الشياطين، وآراء الرجال، والفلسفات، والروايات الضعيفة والمكذوبة، وما لا أصل له كدعوى الكشف والعلم اللدنى، والتلقى عن مصادر وهمية ومجهولة، والتلقى عن الأمم الضالة والفرق الهالكة.
تنبيه: ... إياك أخى الكريم أن تعتمد فى فهم عقيدة السلف الصالح ومناهجهم فى الدين على كتب المقالات والتاريخ والأدب والتفسير(1) ونحوها، فإن أكثرها مما كتبه خصومهم (إلا القليل).
... فغالب كتب المقالات والنحل من تصنيف المعتزلة، أو الشيعة أو أهل الكلام الذين ينقلون عن هذه الطوائف، والذين يخالفون عقيدة السلف ومناهجهم.
... وأفضل من صنف فى عقائد الفرق من أهل المقالات (غير أئمة الحديث) أبو الحسن الأشعرى، ومع ذلك فهو ينقل كثيراً من كتب المعتزلة وعباراتهم(2).
... فلا تعتمد فى نقل عقيدة السلف وفهمها والحكم عليها على أمثال:
... ... النوبختى (شيعى) ... ... ... ... ... ... والبغدادى (متكلم)
... ... والقمى (شيعى) ... ... ... ... ... ... والاسفرايينى (متكلم)
... ... والكلبى وابنه (شيعيان) ... ... ... ... والشهرستانى (متكلم)
... ... والمسعودى (شيعى معتزلى) ... ... ... والعراقى (متكلم)
... ... والقاضى عبد الجبار (معتزلى) ... ... والغزالى أبو حامد (متكلم صوفى)
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... والرازى (متكلم) ونحوهم.
... إنما تتلقى عقيدة السلف من مصادرهم الخالصة وهى بعد كتاب الله تعالى:
كتب السنة والحديث المعتمدة عند السلف، مثل الصحيحين والسنن الأربعة والموطأ ونحوهم.
__________
(1) ... كالكشاف للزمخشرى، وتفسير الرازى، ونحوهما.
(2) ... انظر الفتاوى لابن تيمية 8/115.(1/22)
مصنفات أئمة الحديث فى العقيدة والرد على الخصوم، وكتب الآثار لهم، أمثال: الإمام أحمد ومالك والشافعى والبخارى والدارمى عثمان بن سعيد، والدارمى صاحب السنن، وابن قتيبة، والطبرى، وابن خزيمة، وابن بطة، واللالكائى، والملطى، والصابونى، والآجرى، والطحاوى، والهروى(1)، وابن عبد البر، وابن رجب، والذهبى.
المصنفات الشاملة فى العقيدة والرد على خصومها لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما.
كتب الرجال التى صنفها أئمة السنة والحديث، كالإمام أحمد والبخارى وابن حجر والذهبى والخطيب البغدادى.. ومن سار على نهجهم.
3. السلف أهل السنة والجماعة لا يختلفون فى أصل من الأصول:
... من سمات أهل السنة والجماعة، "السلف الصالح"، أنهم يختلفون ولم يختلفوا فى أصل من أصول الدين، وقواعد الاعتقاد، فقولهم فى مسائل الاعتقاد قول واحد بحمد الله، كما قال ابن قتيبة: "إن أهل السنة لم يختلفوا فى شئ من أقوالهم إلا فى مسألة اللفظ"(2) يعنى بذلك اللفظ بالقرآن هل هو مخلوق، أو غير مخلوق؟ ومع ذلك فإن خلافهم فى هذا –كما عند البخارى والإمام أحمد-خلاف لفظى حيث يجمعون على الأصل وهو أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق.
... بخلاف أهل البدع، فإنهم لا يوافقون أهل السنة فى الأصول أو بعضها، كما أنهم لا يتفقون على أصولهم، بل كل حزب بما لديهم فرحون، وإن الفرقة الواحدة منهم لا يتفق أفرادها على أصل كل الاتفاق.
... أما عند أهل السنة (بحمد الله تعالى): فهم يتفقون جملة وتفصيلاً أئمتهم وعامتهم على أصول العقيدة.
__________
(1) ... شيخ الإسلام الأنصارى الهروى من أنصار التصوف، وله فيه هفوات لكنه نصر عقيدة السلف وقارع أهل الكلام وكشف عوارهم.
(2) ... التعارض النقل والعقل لابن تيمية 1/263.(1/23)
... فقول أهل السنة فى صفات الله تعالى وأسمائه وأفعاله واحد. وقولهم فى الكلام والاستواء والعلو لا يختلف. وقولهم فى الرؤية وسائر السمعيات لا يختلف. وقولهم فى الإيمان وتعريفه ومسائله واحد. وكذلك أصول الإيمان. وقولهم فى القدر واحد. وقولهم فى الأسماء والأحكام لا يختلف.
... واختلاف أهل السنة إنما كان فى الاجتهاديات من أمور الأحكام، أو فرعيات المسائل الملحقة بالعقيدة مما لا يقطع به بنص قاطع، وذلك:
... كمسالة اللفظ بالقرآن، ومسألة رؤية النبى - صلى الله عليه وسلم - لربه فى المعراج هل كانت يقظة أم مناماً، ومسألة رؤية الله تعالى فى المنام، ومسألة ابن صياد هل هو الدجال الذى يخرج فى آخر الزمان أو غيره، ونحو ذلك.
... وهذه الأمور ونحوها ليست من أصول الاعتقاد، والخلاف فيها دائر مع النصوص، لم يقل السلف برأيهم. والله أعلم.
4. اختلاف الصحابة لم يصل إلى التنازع والافتراق:
... اختلف الصحابة –رضى الله عنهم- بعد رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، فى مسائل مهمة وأمور خطيرة، لكن اختلافهم كان ينتهى إما بالإجماع أو العمل على ما يترجح، أو يفصل فى الأمور الخليفة أو أهل الحل والعقد، أو يبقى الخلاف سائغاً، وفى ذلك كله لم يصل الأمر عندهم إلى حد التنازع فى الدين، ولا الافتراق والخروج على الجماعة، ولم يبغ بعضهم على بعض.
... وقال شيخ الإسلام: "ولهذا لم تحدث فى خلافة عثمان بدعة ظاهرة، فلما قُتِلَ وتفرق الناس حدثت بدعتان متقابلتان: بدعة الخوارج المكفرين لعلى، وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته، أو نبوته أو إلاهيته.
... ثم لما كان فى آخر عصر الصحابة، فى إمارة ابن الزبير وعبد الملك، حدثت بدعة المرجئة والقدرية. ثم لما كان فى أول عصر التابعين فى أواخر الخلافة الأموية حدثت بدعة الجهمية المعطلة والمشبهة الممثلة. ولم يكن على عهد الصحابة شئ من ذلك"(1).
__________
(1) ... منهاج السنة 6/231.(1/24)
5. وكذلك بدع التأويل للصفات لم تحدث فى عهد الصحابة ولا منهم:
... يقول ابن القيم: "وقد تنازع الصحابة –رضى الله عنهم- فى كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الناس إيماناً، ولكن بحمد الله لم يتنازعوا فى مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال"(1).
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات، فإن الخوارج والشيعة حدثوا فى آخر خلافة على، والمرجئة والقدرية حدثوا فى أواخر عصر الصحابة، وهؤلاء كانوا ينتحلون النصوص، ويستدلون بها على قولهم، لا يدعون أنهم عندهم عقليات تعارض النصوص.
... ولكن لما حدثت الجهمية فى أواخر عصر التابعين، كانوا هم المعارضين للنصوص برأيهم، ومع هذا فكانوا قليلين مقموعين فى الأمة.
... وأولهم الجعد بن درهم، ضحى به خالد بن عبد الله القسرى"(2).
6. احذر من ثلاث:
الأولى: احذر زلة العالم ولا تغمطه قدره:
... ليس معصوماً إلا الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، أما غيره فإنه معرض للخطأ والسهو والزلل والهوى والضعف والتقصير والقصور.
... وإن من أخطر ما تتعرض له الأمة فى دينها زلة العالم، لأن العالم قدوة ومحل ثقة الناس، فإذا زل فقد يتبعه الناس فى زلته دون بصيرة.
... فلذلك يجب على أهل العلم وطلابه بيان الزلة إذا حدثت من عالم دون الغض من قدره، ولا الحط من شأنه، بل يجب الاعتذار له، وغمر زلته فى بحر حسناته ومناقبه.
... فإنه لم يسلم من الخطأ أحد من العلماء، وكثير من مجتهدى السلف وقع من أفرادهم ما يخالف السنة، ولم يقدح ذلك فى إمامتهم.
... وأهل السنة إنما يتبعون الدليل، ويدورون معه حيث دار ، ويقتدون بأئمة الهدى، ويُجِلُّونهم، ويعذرون المخطئ، ولا يتبعونه فيما أخطأ فيه.
__________
(1) ... أعلام الموقعين 1/71.
(2) ... درء التعارض 5/244.(1/25)
... قال شيخ الإسلام: "وكثير من مجتهدى السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة، إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة، وإما لآيات فهموا منها ما لم يرد منها، وإما لرأى رأوه وفى المسألة نصوص لم تبلغهم"(1).
... وقد حدثت زلات عظام من أئمة أعلام، ولم يتابعهم السلف على زلاتهم، ولم يسكتوا عنها، ولم يغمطوهم حقهم وعلمهم وقدرهم.
... فقد قال ابن عباس –رضى لله عنهما- بالمتعة، ثم رجع(2)، وكان له قدره قبل وبعد، وفسر مجاهد المقام المحمود بجلوس النبى - صلى الله عليه وسلم - مع الله سبحانه على العرش(3)، وأنكر أكثر السلف هذا التفسير، ولم يقدح ذلك فى إمامة مجاهد وقدره عندهم، وتشيع عبد الرزاق بن همام(4)، ولم ينكر السلف له علمه وقدره، وقال أبو حنيفة بالإرجاء(5)، ولم يوافقه السلف على ذلك، ولم يقدح ذلك بفضله وقدره عند أكثرهم، وهو من هو فى إمامته وجلالة قدره، فانغمرت زلته فى بحار حسناته. وأسهم سعيد بن جبير فى الخروج مع ابن الأشعث على الولاة الظالمين(6) ولم يقره كثير من السلف على فعله، لكنهم عذروه وعرفوا له قدره.
... واعلم أنه لا يتبع زلات العلماء ويتصيد عثراتهم إلا أحد ثلاثة:
إما جاهل متعالم مغرور: يريد أن يظهر من خلال نقد الآخرين.
وإما صاحب هوى: يسعى لانتقاص أئمة الهدى وأهل العلم والفضل، ويريد أن يحول بين الأمة وبين الإقتداء بعلمائها، فيلمزهم ويشوه سمعتهم.
__________
(1) ... الفتاوى لابن تيمية 19/191.
(2) ... انظر المغنى لابن قدامه10/48.
(3) ... انظر تفسير الطبرى 15/145، والتمهيد لابن عبد البر 7/157،158، وعقيدة ابن عبد البر للدكتور سليمان الغصن 56، 57.
(4) ... سير أعلام النبلاء 9/563.
(5) ... الفقه الأكبر بشرح الملا على القارئ 124-129.
(6) ... سير أعلام النبلاء 4/321 وما بعدها، والبداية والنهاية 9/98،99، ومنهاج السنة 4/27، 530.(1/26)
أو مبتدع: يتلمس أدلته وبراهينه على بدعته من أخطاء الأئمة والعلماء وزلاتهم، كمن يستدل على جواز التشيع بفعل عبد الرزاق، وعلى جواز الإرجاء بفعل أبى حنيفة، وعلى جواز الكلام بفعل المحاسبى أو الأشعرى، وعلى جواز التأويل بفعل البيهقى والنووى، وعلى جواز المتعة بقول ابن عباس، وعلى جواز الخروج بفعل سعيد بن جبير.
الثانية: اتق هفوة العابد ولا تُعادِه:
... كثير من بدع الصوفية وشطحاتها وضلالاتها، بدأت من هفوات بعض العباد والنسَّاك الأوائل، من غير سوء قصد منهم، وهكذا البدع أول ما تنشأ من تجاوزات، وهفوات، وزلات، وغفلات يُتَسَاهَل فيها حتى تُستساغ، ثم تنمو وتتطور حتى تكون بدعاً وأصولاً ومناهج فى سبيل الضلالة والغواية.
... وقد حذر النبى - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من بعده من هذا، حينما أرشد أولئك النفر من الصحابة، وحذر الأمة كلها مما هموا به حين هموا بأن يتعمقوا فى العبادة، فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر وأصلى وأرقد وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتى فليس منى)"(1).
... وهذا بيان عظيم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأمته لئلا تقع فيما وقع فيها رهبان النصارى وعباد الأمم الهالكة.
... وفى القرن الثانى وما بعده زادت البدع فى العبادات وغيرها لدى طائفة من العباد والنساك والجهلة، وأنكر عليهم السلف ذلك.
... ثم اتسع نطاق البدع عند جهلة العباد، والسلف ما فتؤوا يحذرون من هذه البدع وأهلها.
__________
(1) ... صحيح البخارى، كتاب النكاح، باب الترغيب فى النكاح، الحديث (5063) من فتح البارى 9/104.(1/27)
... فظهر بين بعض هؤلاء العباد والنساك العزوف عن طلب العلم الشرعى(1) والحديث، كما فعل بشر الحافى وأبو سليمان الدارانى(2)، وتركُ الزواج كما فعل مالك بن دينار ت(131)(3).
... والعزلةُ ومصاحبةُ الكلابِ كما فعل مالك بن دينار كذلك(4).
... وتغليب جانب الخوف فى العبادة كما فعل عطاء السليمى ت (140)(5).
... وتكلم عبد الواحد بن زيد بمصطلحات وأحوال لم يعرفها السلف، فبالغ فى الكلام فى المحبة والشوق والأنس(6) على نحو لم ترد به السنة، واتكأت عليه الصوفية المنحرفة فيما بعد.
... وتكلمت رابعة العدوية ت (180هـ) بما يشبه الحلول(7).
... ثم ظهرت المبالغة فى ترك الحديث وطلب العلم والعزوف عن الزواج وترك طلب المعاش من أمثال أبى سليمان الدارانى ت (205)(8) وبشر الحافى ت (228)(9).
... وخاض المحاسبى ت (243) فى علم الكلام وأخذه إياه عن ابن كلاَّب(10).
... وتكلم السرى السَّقطى ت (253) فى مسألة (الحقائق والإشارات)(11).
... وجاء الجنيد وهو أول من لقب بشيخ الطريقة فى تاريخ التصوف(12) ت(297) وكان قليل الرواية للحديث، وطلب العلم أولاً ثم تركه، وأقبل على التأله والتعبد(13)، وظهر على لسانه شئ من التفسير الصوفى الإشارى(14).
والخلاصة:
__________
(1) ... انظر تلبيس إبليس 163.
(2) ... سير أعلام النبلاء10/472 وتلبيس إبليس395.
(3) ... حلية الأولياء6/269-285.
(4) ... المصدر السابق.
(5) ... المصدر السابق6/215-223.
(6) ... تاريخ الإسلام للذهبى(141-160/512).
(7) ... تاريخ الإسلام(171-180)/119.
(8) ... تلبيس إبليس295.
(9) ... سير أعلام النبلاء للذهبى10/471، 472.
(10) سير أعلام النبلاء11/174.
(11) سير أعلام النبلاء للذهبى12/187.
(12) سير أعلام النبلاء14/66.
(13) ... انظر المصدر السابق.
(14) ... انظر حلية الأولياء10/270.(1/28)
... أن ما سبق يمثل هفوات وزلات وشطحات من أناس صالحين فى الجملة، ولكنهم وقعوا فيها، إما عن جهل، أو تقليد، أو غفلة، أو اجتهاد غير صائب –يغفر الله لنا ولهم- لكنا يجب أن نحذر هفواتهم هذه، ونحذر منها لأنها مبتدعة ومخالفة لسنة الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه وسلف الأمة، وقد أنكرها السلف وحذروا منها.
... كما أن الصوفية المنحرفة الضالة التى ظهرت بعد القرن الثالث اتكأت على هذه الهفوات والزلات والشطحات، واتخذتها ذريعة لبدعها وضلالاتها وطرقها الفاسدة، زاعمة أن لها فى ذلك قدوة من الصالحين، وهذا من تلبيس الشيطان وأتباعه.
الثالثة: وتنبه لغفلة الرجل الصالح ولا تلمزه:
... خلق الله البشر متفاوتين فى الخصال والمواهب والقدرات، فمنهم الذكى الفطن، ومنهم الغافل، ومنهم المغفَّل.
... وقد يتصف بالغفلة بعض الرجال الصالحين، من أهل العلم والفضل والاستقامة، فيحدث منهم ما لا يوافق السنة، فيأخذ الناس عنهم ذلك لمجرد صلاحهم مما يكون فتنة لهم.
... واعلم أن أئمة الهدى وعلماء الإسلام المقتدى بهم فى الدين قديماً وحديثاً كلهم من أهل العلم والفضل والذكاء، وليس فيهم من أهل الغفلة إلا النادر الذى لا حكم له، وإنما أهل الغفلة دون ذلك، فأكثر أهل الغفلة من الصالحين من العباد والنساك والمتصوفة والقصاص (الوعاظ) الذين هم أقل فقها فى الدين، وأبعد عن مجالس العلماء، فتنبه رعاك الله، فإن أكثر أهل البدع والفسق والفجور يرمون العلماء وأعلام الأمة وأهل الحديث بالتغفيل، يلمزونهم بذلك بهتاناً ومكراً وطعناً فى الدين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
ظهور الفرق(1)
__________
(1) ... انظر كتاب الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد 1/75-87.(1/29)
... وما أن استشهد عثمان رضى الله عنه، حتى ابتدأ ظهور الفرق، لأن حادث استشهاده أثار العديد من القضايا، فتلاحقت الأحداث وأخذ بعضها برقاب بعض، فبينما بايع الصحابة علياً رضى الله عنه، رأى معاوية الاقتصاص من قتلة عثمان، ثم اقتتل الفريقان، وظهر التحكيم كوسيلة لرأب الصدع، وألح أصحاب علىٍّ على التحكيم، بالرغم من معارضته، لأنه كان قاب قوسين أو أدنى من الظهور على الفريق الآخر.
... ولما أطاعهم كارهاً، عاد أتباعه فأعلنوا أنه لا حكم إلا لله. وخرجوا عليه وكفروه. واستتبع ذلك انقسام المسلمين إلى ثلاثة أقسام، فريق يؤيد علياً، وفريق يؤيد معاوية، وفريق ثالث أبى الخوض فى النزاع. ومن ثم ظهر التشيع فى بدايته لتأْييد علىّ، ثم تحول إلى عقائد كلامية عند مقتل الحسين بن على فى موقعة كربلاء(1).
... وعن سعيد بن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى –يعنى مقتل عثمان- فلم تُبْق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية، فلم تُبْق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الفتنة الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ(2).
... فالخوارج والشيعة، حدثوا فى الفتنة الأولى، والقدرية والمرجئة فى الفتنة الثانية، والجهمية ونحوهم بعد الفتنة الثالثة، فصار هؤلاء { الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } (3). يقابلون البدعة بالبدعة، أولئك غلوْا فى الوعد، حتى نفوا بعض الوعيد، أعنى المرجئة !!. أولئك غلوا فى التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا فى الإثبات حتى وقعوا فى التشبيه!!.
__________
(1) ... قواعد المنهج السلفى: ص 63-64 للدكتور مصطفى حلمى.
(2) ... طباخ: عقل وقوة.
(3) ... الأنعام: 159.(1/30)
... وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع، ويُعرضون عن الأوائل(1) وينقلون عن اليهود والنصارى والمجوس والصابئين، فإنهم قرؤوا كتبهم فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه فى مسائلهم ودلائلهم، وغيروه فى اللفظ تارة وفى المعنى أخرى، فلبَسوا الحق بالباطل، وكتموا حقاً جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا، وتكلموا حينئذ فى الجسم والعرض والتجسيم نفياً وإثباتاً.
السبب الذى لأجله افترقت فرق المبتدعة
عن جماعة المسلمين(2)
... فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيراً من الأحاديث: أشعرت بوصف لأهل البدعة، وهو الفرقة الحاصلة، حتى يكونوا بسببها شيعاً متفرقة، لا ينتظم شملهم الإسلام، وإن كانوا من أهله، وحكم لهم بحكمه.
... ألا ترى أن قوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم فى شىء } (3)، وقوله تعالى { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً ... } الآية(4)، وقوله { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (5) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرُّق ؟
... وفى الحديث: (وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة)(6).
... والتفرق ناشئ عن الاختلاف فى المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان، وهو الحقيقة، وإن جعلنا معنى التفرق فى المذاهب، فهو الاختلاف، كقوله: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } الآية(7).
... فلا بد من النظر فى هذا الاختلاف، ما سببه؟
... وله سببان:
... أحدهما: لا كسب للعباد فيه، وهو الراجع إلى سابق القدر.
__________
(1) ... شرح العقيدة الطحاوية: ص 593 وما بعدها لمحمد ابن أبى العز.
(2) ... هذا الباب مختصر من كتاب الاعتصام للإمام الشاطبى رحمه الله تعالى.
(3) ... الأنعام: 159
(4) ... الروم: 31-32
(5) ... الأنعام: 153
(6) ... صححه الألبانى (الصحيحة 203، 1492).
(7) ... آل عمران: 105.(1/31)
... والآخر: هو الكسبى، وهو المقصود بالكلام عليه فى هذا الباب، إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة، فإن فيها معنى أصيلاً يجب التثُّبت له على من أراد التفقه فى البدع.
... قال الله تعالى: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (1)، فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبداً، مع أنه لو أراد أن يجعلهم متفقين، لكان على ذلك [قديراً]، لكن سبق العلم القديم أنه إنما خلقهم للاختلاف، وهو قول جماعة من المفسرين فى الآية، وأن قوله: { ولذلك خلقهم } ، معناه: وللاختلاف خلقهم، وهو مروى عن مالك بن أنس، ونحوه عن الحسن.
... وليس المراد ها هنا الاختلاف فى الصور، كالحسن والقبيح، ولا فى الألوان، كالأحمر والأسود، ولا فى أصل الخلقة، كالتام الخَلْقِ والناقص الخَلْقِ، ولا فى الخُلُق، كالشجاع والجبان، ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التى هم مختلفون فيها.
... وإنما المراد اختلاف آخر، وهو الاختلاف الذى بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين، كما قال تعالى: { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه ... } الآية(2)، وذلك الاختلاف فى الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى فى الدنيا والآخرة.
... هذا هو المراد من الآيات التى ذكر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق: أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه:
... أحدها: الاختلاف فى أصل النحلة: وهو قول جماعة من المفسرين، منهم عطاء، قال: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } (3)، قال: اليهود والنصارى والمجوس والحنفية، وهم الذين رحم ربك.
__________
(1) ... هود: 118-119.
(2) ... البقرة: 213.
(3) ... هود: 119.(1/32)
... وأصل هذا الاختلاف هو فى التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه، فإن الناس فى عامة الأمر لم يختلفوا فى أن لهم مدبَّراً يدبَّرهم وخالقاً أوجدهم، إلا أنهم اختلفوا فى تعيينه على آراء مختلفة، من قائل بالاثنين، وبالخمسة، أو بالطبيعة، أو بالدهر، أو بالكواكب ... إلى أن قالوا بالآدميين والشجر والحجارة وما ينحتونه بأيديهم، ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق، لكن على آراء مختلفة أيضاً.
... إلى أن بعث الله الأنبياء مبيِّنين لأممهم حقَّ ما اختلفوا (فيه) من باطله، فعرَّفوا بالحق على ما ينبغى، ونزَّهوا ربَّ الأرباب عما لا يليق بجلاله، من نسبة الشركاء والأنداد، وإضافة الصاحبة والأولاد، فأقرَّ بذلك من أقرَّ به، وهم الداخلون تحت مقتضى قوله: { إلا من رحم ربك } (1)، وأنكر من أنكر، فصار إلى مقتضى قوله: { وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنَّة والناس أجمعين } (2).
... وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة، لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة، وهو قوله: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } (3)، وهو منقول عن جماعة من المفسرين.
... وبقى الآخرون على وصف الاختلاف، إذ خالفوا الحق الصريح، ونبذوا الدين الصحيح.
... والثانى: ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثانى لا بالقصد الأول، فإن الله تعالى حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالاً للظنون، وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة، فالظنيات عريقة فى إمكان الاختلاف، لكن فى الفروع دون الأصول، وفى الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف.
__________
(1) ... هود: 119.
(2) ... هود: 119.
(3) ... آل عمران: 103.(1/33)
... يعنى: أنه فى مسائل الاجتهاد التى لا نص فيها يقطع العذر، بل لهم فيه أعظم العذر، مع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع، أتى فيه بأصل يرجع إليه، وهو قول تعالى: { فإن تنازعتم فى شىء فردوه إلى الله والرسول... } الآية(1)، فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يردَّ إلى الله، وذلك ردُّه إلى كتابه، وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك ردُّه إليه إذا كان حياً، وإلى سنته بعد موته، وكذلك فعل العلماء رضى الله عنهم.
... إلا أن لقائل أن يقول: هل هم داخلون تحت قوله تعالى: { ولا يزالون مختلفين } (2) أم لا؟
... والجواب: أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه:
... أ: أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة، لقوله: { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } (1)، فإنها اقتضت قسمين: أهل الاختلاف، ومرحومين، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف، وإلا كان قسم الشئ قسيماً له، ولم يستقم معنى الاستثناء.
... ب: أنه قال فيها: { ولا يزالون مختلفين } (1)، فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت، وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك، لأن وصف الرحمة ينافى الثبوت على المخالفة، بل إن خالف أحدهم فى مسألة، فإنما يخالف فيها تحرياً لقصد الشارع فيها، حتى إذا تبين له الخطأ فيها، راجع نفسه، وتلافى أمره، فخلافه فى المسألة بالعَرَض لا بالقصد الأول، فلم يكن وصف الاختلاف لازماً ولا ثابتاً، فكان التعبير عنه بالفعل الذى يقتضى العلاج والانقطاع أليق فى الموضع.
__________
(1) ... النساء: 59.
(2) ... هود: 118.(1/34)
... جـ: أنَّا نقطع بأن الخلاف فى مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة، وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضى الله عنهم، بحيث لا يصح إدخالهم فى قسم المختلفين بوجه، فلو كان المخالف منهم فى بعض المسائل معدوداً من أهل الاختلاف –ولو بوجه ما-، لم يصح إطلاق القول فى حقه: إنه من أهل الرحمة، وذلك باطل بإجماع أهل السنة.
... د: أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة فى الفروع ضرباً من ضروب الرحمة، وإذا كان من جملة الرحمة، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجاً من قسم أهل الرحمة.
... فاختلافهم فى الفروع كاتفاقهم فيه.
... والثالث: وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية، وهى أن يقع الاتفاق فى أصل الدين، ويقع الاختلاف فى بعض قواعده الكلية، وهو المؤدى إلى التفرُّق شيعاً.
... فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف، ولذلك صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن أمته تفترق على بضع وسبعين فرقة، وأخبر أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وشمل ذلك الاختلاف الواقع فى الأمم قبلنا.
... ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار، وذلك بعيد من تمام الرحمة.
... والرابع: وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين فى الآية أهل البدع، وأن { من رحم ربك } هم أهل السنة.
... ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقاً، بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل، وهذا مما لا بد من بسطه.
... فاعلموا أن الاختلاف فى بعض القواعد الكلية لا يقع فى العادة الجارية بين المتبحرين فى علم الشريعة، الخائضين فى لجتها العظمى، العالمين بمواردها ومصادرها، والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثانى على ذلك، وإنما وقع اختلافهم فى القسم المفروغ منه آنفاً.
... بل كل خلاف على الوصف المذكور وقع بعد ذلك، فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق:(1/35)
... أحدها: أن يعتقد الإنسان فى نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد فى الدين –ولم يبلغ تلك الدرجة-، فيعمل على ذلك، ويعد رأيه رأياً، وخلافه خلافاً:
... ولكن تارة يكون ذلك (فى) جزئىٍّ وفرع من الفروع، وتارة يكون فى كلىٍّ وأصل من أصول الدين –كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية-، فتراه آخذاً ببعض جزئيات الشريعة فى هدم كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له بادئ رأيه، من غير إحاطة بمعانيها، ولا رسوخ فى فهم مقاصدها.
... وهذا هو المبتدع، وعليه نبَّه الحديث الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقبض الله العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يَبْق عالم، اتَّخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)(1).
... قال بعض العلماء: تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم، وإنما يؤتون من قِبَلِ أنه إذا مات علماؤهم، أفتى من ليس بعالم، فيُؤتَى الناس من قِبَلِهِ، وقد صرِّف هذا المعنى تصريفاً، فقيل: ما خان أمين قط، ولكنه ائتمن غير أمين، فخان. قال: ونحن نقول: ما ابتدع عالم قط، ولكنه استُفْتِىَ من ليس بعالم، فضلَّ وأضلَّ.
... قال مالك بن أنس: بكى ربيعة يوماً بكاء شديداً، فقيل له: أمصيبة نزلت بك؟ فقال: لا! ولكن استُفْتِىَ مَن لا علم عنده.
... والثانى من أسباب الخلاف: اتباع الهوى:
... ولذلك سُمِىَ أهل البدع أهل الأهواء، لأنهم اتَّبعوا أهواءهم، فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك.
__________
(1) ... أخرجه مسلم فى "صحيحه" (2673) (13) فى العلم: باب رفع العلم وقبضه.(1/36)
... وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم، ويدخل فى غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم، أو طلباً للرياسة، فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم، ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكره العلماء ونقله الثقات من مصاحبى السلاطين.
... فالأولون ردُّوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة بعقولهم، وأساؤوا الظن بما صح عن النبى - صلى الله عليه وسلم -، وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة، حتى ردَّوا كثيراً من أمور الآخرة وأحوالها، من الصراط، والميزان، وحشر الأجساد، والنعيم والعذاب الجسميين، وأنكروا رؤية البارى ... وأشباه ذلك، بل صيَّروا العقل شارعاً جاء الشرع أو لا، بل إن جاء، فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل ... إلى غير ذلك من الشناعات.
... والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البنيَّات، وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة، حرصاً على أن يغلب عدوَّه، أو يفيد وليَّه، أو يجرَّ إلى نفسه [نفعاً].
... والثالث من أسباب الخلاف: التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق.
... وهو اتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك، وهو التقليد المذموم، فإن الله ذمَّ ذلك فى كتابه، كقوله: { بل قالوا إنا وجدنا ءاباءنا على أمة ... } الآية(1)، ثم قال: { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه ءاباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } (2).
... وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة، وما أشبه ذلك، لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه.
__________
(1) ... الزخرف: 23.
(2) ... الزخرف: 24.(1/37)
... وهذا الوجه هو الذى مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة (إذا اتفق أن) ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء، فيراه يعمل عملاً، فيظنه عبادة، فيقتدى به، كائناً ما كان ذلك العمل، موافقاً للشرع أو مخالفاً، ويحتج به على من يرشده، فيقول: كان الشيخ فلان من الأولياء، وكان يفعله، وهو أولى أن يُقْتدى به من علماء أهل الظاهر، فهو فى الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه، أخطأ أو أصاب، كالذين قلَّدوا آباءهم سواء، وإنما قصارى قول هؤلاء أن يقولوا: إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى، وما هى إلا مقصودة بالدلائل والبراهين، مع أنهم يرون أن لا دليل عليها، ولا برهان يقود إلى القول بها.
[فصل]
... هذه الأسباب الثلاثة راجعة فى التحصيل إلى وجه واحد، وهو: الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرُّص على معانيها بالظن من غير تثبُّت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ فى العلم.
... فإن قيل: فَرضتَ الاختلاف المتكلم فيه فى واسطة بين طرفين، فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما، فلم تفعل، بل رددته إلى الطرف الأول فى الذم والضلال، ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذى لا يضير، وهو الاختلاف فى الفروع.(1/38)
... فالجواب عن ذلك: أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التى ذكرنا، أما الجهة الأخرى، فإن ذكرهم فى هذه الأمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول، وإلا، فلو كان ملحقاً لهم به، لم يقع فى الأمة اختلاف ولا فرقة، ولا أخبر الشارع به، ولا نبَّه السلف الصالح عليه، فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [أن] كانوا مفارقين لها، لم نقل: اتفقت الأمة بعد اختلافها، كذلك لا نقول: اختلفت الأمة أو افترقت الأمة بعد اتفاقها، أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام، وإنما يقال: افترقت وتفترق الأمة إذا كان الافتراق واقعاً فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة، ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة) ثم قال: (وتتمارى فى الفوق- وفى رواية: فينظر الرامى إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه، فيتمارى فى الفوقة-: هل علق بها من الدم شىء)(1)، والتمارى فى الفوق فيه، هل فيه فرث ودم أم لا؟ شك بحسب التمثيل: هل خرجوا من الإسلام حقيقة؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلاً.
... وقد اختلفت الأمة فى تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى، ولكن الذى يَقوى فى النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم، والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم:
__________
(1) ... مضى تخريجه (ص28).(1/39)
- ... ألا ترى إلى صنع على رضى الله عنه فى الخوارج؟ وكونه عاملهم فى قتالهم معاملة أهل الإسلام، على مقتضى قول الله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما... } الآية(1)، فإنه لما اجتمعت الحرورية، وفارقت الجماعة، لم يهيجهم علىُّ، ولا قاتلهم، ولو كانوا بخروجهم مرتدين، لم يتركهم، لقوله عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)(2)، ولأن أبا بكر رضى الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم، فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين.
- ... وأيضاً، فحين ظهر معبد الجهنى وغيره من أهل القدر، لم يكن لهم من السلف الصالح إلا الطرد والإبعاد والعدواة والهجران، ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض، لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين.
- ... وعمر بن عبد العزيز أيضاً لما خرج فى زمانه الحرورية بالموصل، أمر بالكف عنهم على حد ما أمر به علىّ رضى الله عنه، ولم يعاملهم معاملة المرتدين.
- ... ومن جهة المعنى، إنا وإن قلنا: إنهم متبعون للهوى ولِمَا تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فأنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق، ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه، ولو فرضنا أنهم كذلك، لكانوا كفاراً، إذ لا يتأتى ذلك من أحد فى الشريعة إلا مع رد محكماتها عناداً، وهو كفر، وأما من صدق بالشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغاً يظن به أنه متبع للدليل بمثله، لا يقال فيه: إنه صاحب هوى بإطلاق، بل هو متبع للشرع فى نظره، لكن بحيث يمازجه الهوى فى مطالبه، من جهة إدخال الشبه فى المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات، فشارك أهل الهوى فى دخول الهوى فى نحلته، وشارك أهل الحق فى أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة.
__________
(1) ... الحجرات: 90.
(2) ... أخرجه: البخارى (6/149، 12/267- فتح) من حديث ابن عباس.(1/40)
- ... وأيضاً، فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجملة فى مطلب واحد، وهو الانتساب إلى الشريعة، ومن أشد مسائل الخلاف –مثلاً- مسألة إثبات الصفات، حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين، وجدنا كل واحد منهما حائماً حول حمى التنزيه ونفى النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، وإنما وقع اختلافهم فى الطريق، وذلك لا يخل بهذا القصد فى الطرفين معاً، فحصل فى هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع فى الفروع.
- ... وأيضاً، فقد يعرض الدليل على المخالف منهم، فيرجع إلى الوفاق، لظهوره عنده، كما رجع من الحرورية الخارجين على علىٍّ رضى الله عنه ألفان، وإن كان الغالب عدم الرجوع، كما تقدم فى أن المبتدع ليس له توبة، لحديث (إن الله احتجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته)(1).
فصل فى الكلام على حديث الافتراق
الطعن فى حديث الافتراق أو التشكيك فيه وجوابه:
... كثر فى الآونة الأخيرة الطعن فى حديث الافتراق، أو التشكيك فيه بناء على ضعف أكثر أسانيده، وغالب الذين يشككون فى حديث الافتراق، قصدهم وصف الأمة كلها بالسلامة والنجاة والاستقامة، وإزالة الفوارق العقدية والمذهبية، مع العلم أن الإخبار القاطع عن وقوع الافتراق فى الأمة ليس مقصوراً على حديث الافتراق الذى ذكر فيه عدد الفرق الثلاث والسبعين رغم شهرته وصحته بمجموع طرقه وتلقيه بالقبول من الأمة. وهذا الإنكار أو الشك ناتج عن عدة أسباب ترجع إلى حال القائل بهذا القول.
... فالغالب ممن يذهبون هذا المذهب أنه ناتج عن الجهل: الجهل بسنن الله تعالى، والجهل بالشرع (نصوص القرآن والسنة) أو الجهل بالواقع، والجهل بآثار السلف.
... * أما الجهل بسنة الله تعالى: { ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربك } (2)، ومن رحم ربك هم أهل السنة.
__________
(1) ... صححه الألبانى (الصحيحة ح1620).
(2) ... هود: 118،119.(1/41)
... * وأما الجهل بالشرع: فإن النصوص متواترة فى الإخبار عن وقوع الافتراق فى الأمة، فى القرآن والسنة، وقد ذكر طائفة منها وإجماع السلف.
... * وأما الجهل بالواقع: فإن من تأمل حال الأمة اليوم يجد أنها: شيعاً، وأحزاباً، وطوائف مشتتة بين الفرق القديمة والاتجاهات الجديدة، وكل يغنى على ليلاه، فمن لم يدرك هذا الواقع، أو من يتجاهله فهو جاهل. ومن كان قصده جمع شمل الأمة على كلمة سواء وحسن الظن بها، فإن هذا حق لكنه مشروط باتباع الحق وسبيل المؤمنين. لا مجرد دعوى الإسلام.
... أما الجهل بآثار السلف: فإن السلف مُجْمِعُون على أن فى الأمة طوائف فارقت السنة والجماعة: كالخوارج، والشيعة، والقدرية، وأهل الكلام، وغيرهم.
... وقد يكون منكر حديث الافتراق (مرجئ) يرى أن من صدق فهو مؤمن، وأظن هذا الصنف ليس بقليل خاصة بين المفكرين والأساتذة والمشايخ الذين ينتمون للفرق الكلامية، وهم أكثرية فى العالم الإسلامى اليوم.
... وقد يكون من طائفة (الطلقاء) من بعض أصحاب الفكر الإسلامى الحديث، الذين لا يلتزمون العقيدة، ويعتمدون على مجرد العواطف، أو بعض الأدباء الذين يحلمون بجمع الأمة تحت أى شعار.
... أو من طائفة (الزنادقة) كالحداثيين والفلاسفة وغلاة الصوفية والدجاجلة.
... وطائفة منهم لا يستهان بعددها، عرفناهم من الرافضة والباطنية وأتباع الفرق الأخرى، فإنهم من أكثر الناس ترويجاً لدعوى إلغاء الفوارق العقدية، وضرورة التقريب والتقارب بين الفرق، ولا أعرف أحداً يدعو إلى الحق والاجتماع على السنة إلا أهل السنة، وهذا من أبرز سماتهم اليوم، وقبل اليوم، ودائماً بحمد الله. فهم يدعون إلى اجتماع الكلمة على الحق، ووحدة الصف تحت راية التوحيد، وجمع الشمل حول السنة، والاعتصام بحبل الله، لا الشعارات والأهواء.(1/42)
... أما الآخرون فيقولون: نجتمع على ما نحن عليه، ونتقارب ونلغى الفوارق العقدية، وكل على ما هو عليه! وأحسنهم من يقول: "نجتمع ونتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه"، وهذا حق ومن أعظم غايات الدين، إذا قصد به الأحكام والاجتهادات، ولعل هذا مقصود أول من أطلقها فى العصر الحديث(1)، لكنها أريد بها الباطل حينما صارت شعاراً للتجميع العقدى دون تمييز بين الحق، والباطل ولا السنة والبدعة، ولا التوحيد والشرك، بل أرادوا منها التفاف الناس جميعاً تحت شعارات ورايات تقوم على الخلط ومداهنة أهل الأهواء والافتراق، والتنازل عن (السنة والجماعة) (السلف) لئلا نجرح شعور الآخرين! إن هذا هو التفريط فى الحق، والإفراط فى الإرجاء، ومصانعة أهل الأهواء. وقد نهانا الله عن ذلك فقال عز وجل: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } (2).
... هؤلاء وأولئك فيهم المشككة أو الطاعنون فى حديث الافتراق، فافهم رعاك الله.
... صح من حديث أبى هريرة رضى الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتتفرق امتى على ثلاث وسبعين فرقة).
... وخرجه الترمذى هكذا.
... وفى رواية أبى داود، قال: (افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة).
قال الألبانى(3) رحمه الله تعالى:
__________
(1) ... هو حسن البنا رحمه الله.
(2) ... هود: 113.
(3) ... انظر السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الدين الألبانى رحمه الله تعالى (حديث 203/204).(1/43)
... أخرجه أبو داود والترمذى وابن ماجة وابن حبان والآجرى فى "الشريعة" والحاكم وأحمد وأبو يعلى فى "مسنده" من طرق عن محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة مرفوعاً به. وقال الترمذى: "حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". ووافقه الذهبي.(1)
... قلت (الألبانى): وفيه نظر فإن محمد بن عمرو، فيه كلام ولذلك لم يحتج به مسلم، وإنما روى له متابعة، وهو حسن الحديث، وأما قول الكوثرى فى مقدمة "التبصير فى الدين" (ص5) أنه لا يحتج به إذا لم يتابع، فمن مغالطاته، أو مخالفاته المعروفة، فإن الذى استقر عليه رأى المحدثين من المحققين الذين درسوا أقوال الأئمة المتقدمين فيه أنه حسن الحديث يحتج به، من هؤلاء النووى والذهبى والعسقلانى وغيره. على أن الكوثرى إنما حاول الطعن فى هذا الحديث لظنه أن فيه الزيادة المعروفة بلفظ: (كلها فى النار إلا واحدة) وهو ظن باطل، فإنها لم ترد فى شئ من المصادر التى وقفت عليها من حديث أبى هريرة رضى الله عنه من هذا الوجه عنه.
... وقد وردت الزيادة المشار إليها من حديث معاوية رضى الله عنه، وهذا لفظه:
... (ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون فى النار، وواحدة فى الجنة، وهى الجماعة).
... أخرجه أبو داود والدارمى وأحمد وكذا الحاكم والآجرى وابن بطة واللالكائى من طريق صفوان قال: حدثنى أزهر بن عبد الله الهوزنى عن أبى عامر عبد الله بن لحى عن معاوية بن أبى سفيان أنه قام فينا فقال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال … فذكره. وقال الحاكم وقد ساقه عقب حديث أبى هريرة المتقدم:
__________
(1) ... ثم رأيت الحاكم قد أخرجه فى مكان آخر(1/6) وقال: "احتج مسلم بمحمد بن عمرو" ورده الذهبى بقوله: "قلت: ما احتج مسلم بمحمد بن عمرو منفرداً، بل بانضمامه إلى غيره".(1/44)
... "هذه أسانيد تقام بها الحجة فى تصحيح هذا الحديث". ووافقه الذهبى وقال الحافظ فى "تخريج الكشاف" (ص63): "وإسناده حسن".
... والحديث أورده الحافظ ابن كثير فى تفسيره (1/390) من رواية أحمد، ولم يتكلم على سنده بشىء، ولكنه أشار إلى تقويته بقوله: "وقد ورد هذا الحديث من طرق".
... ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى "المسائل" (83/2)(1).
... "وهو حديث صحيح مشهور". وصححه أيضاً الشاطبى فى "الاعتصام" (3/38).
... ومن طرق الحديث التى أشار إليها ابن كثير، وفيها الزيادة، ما ذكره الحافظ العراقى فى "تخريج الإحياء" (3/199) قال:
... "رواه الترمذى من حديث عبد الله بن عمرو وحسنه، وأبو داود من حديث معاوية، وابن ماجة من حديث أنس وعوف بن مالك، وأسانيدها جياد".
... قال (الألبانى): قلت: ولحديث أنس طرق كثيرة جداً تَجَمَّعَ عندى منها سبعة، وفيها كلها الزيادة المشار إليها، مع زيادة أخرى يأتى التنبيه عليها.
... فقد تبين بوضوح أن الحديث ثابت لا شك فيه، ولذلك تتابع العلماء خلفاً عن سلف على الاحتجاج به حتى قال الحاكم فى أول كتابه "المستدرك": (أنه حديث كبير(2) فى الأصول) ولا أعلم أحداً قد طعن فيه، إلا بعض من لا يعتد بتفرده وشذوذه، أمثال الكوثرى الذى سبق أن أشرنا إلى شئ من تنطعه وتحامله على الطريق الأولى لهذا الحديث، التى ليس فيها الزيادة المتقدمة: "كلها فى النار"، جاهلاً بل متجاهلاً حديث معاوية وأنس على كثرة طرقه عن أنس كما رأيت. وليته لم يقتصر على ذلك، إذن لما التفتنا إليه كثيراً، ولكنه دعم رأيه بالنقل عن بعض الأفاضل، ألا وهو العلامة ابن الوزير اليمنى، وذكر أنه قال فى كتابه: "العواصم والقواصم" ما نصه:
__________
(1) ... مخطوط فى المكتبة الظاهرية (فقه حنبلى3).
(2) ... فى الأصل: "كثر". وفى "كشف الخفاء" (1/309) عنه "كثير" وفى "المقاصد" ما أثبته، ولعله الصواب.(1/45)
... "إياك أن تغتر بزيادة" كلها فى النار إلا واحدة" فإنها زيادة فاسدة، ولا يبعد أن تكون من دسيس الملاحدة. وقد قال ابن حزم: إن هذا الحديث لا يصح".
... وقفت على هذا التضعيف منذ سنوات. ثم أوقفنى بعض الطلاب فى "الجامعة الإسلامية" على قول الشوكانى فى تفسيره "فتح القدير" (2/56):
... "قال ابن كثير فى تفسيره: وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين، مروى من طرق عديدة، قد ذكرناها فى موضع آخر. انتهى. قلت: أما زيادة كونها فى النار إلا واحدة "فقد ضعفها جماعة من المحدثين" (!)، بل قال ابن حزم: إنها موضوعة".
... ولا أدرى من الذين أشار إليهم بقوله: "جماعة ..." فإنى لا أعلم أحداً من المحدِّثين المتقدمين ضعف هذه الزيادة، بل أن الجماعة قد صححوها وقد سبق ذكر أسمائهم، وأما ابن حزم فلا أدرى أين ذكر ذلك، وأول ما يتبادر للذهن أنه فى كتابه "الفصل فى الملل والنحل" وقد رجعت إليه، وقلبت مظانه فلم أعثر عليه، ثم إن النقل عنه مختلف، فابن الوزير قال عنه: "لا يصح"، والشوكانى قال عنه: "إنها موضوعة"، وشتان بين النقلين كما لا يخفى، فإن صح ذلك عن ابن حزم، فهو مردود من وجهين:
... الأول: أن النقد العلمى الحديثى قد دل على صحة هذه الزيادة، فلا عبرة بقول من ضعفها.
... والآخر: أن الذين صححوها أكثر وأعلم بالحديث من ابن حزم، لا سيما وهو معروف عند أهل العلم بتشدده فى النقد، فلا ينبغى أن يحتج به إذا تفرد عند عدم المخالفة فكيف إذا خالف؟!
... وأما ابن الوزير، فكلامه الذى نقله الكوثرى يشعر بأنه لم يطعن فى الزيادة من جهة إسنادها، بل من حيث معناها، وما كان كذلك فلا ينبغى الجزم بفساد المعنى لا مكان توجيهه وجهة صالحة ينتفى به الفساد الذى ادعاه. وكيف يستطاع الجزم بفساد معنى حديث تلقاه كبار الأئمة والعلماء من مختلف الطبقات بالقبول وصرحوا بصحته، هذا يكاد يكون مستحيلاً !
... وإن مما يؤيد ما ذكرته أمرين:(1/46)
... الأول: أن ابن الوزير فى كتاب آخر له قد صحح حديث معاوية هذا، ألا وهو كتابه القيم: "الروض الباسم فى الذب عن سنة أبى القاسم"(1) فقد عقد فيه فصلا خاصاً فى الصحابة الذين طعن فيهم الشيعة وردوا أحاديثهم، ومنهم معاوية رضى الله عنه، فسرد ما له من الأحاديث فى كتب السنة مع الشواهد من طريق جماعة آخرين من الصحابة لم تطعن فيه الشيعة، فكان هذا الحديث منها !
... الأمر الآخر: أن بعض المحققين من العلماء اليمانيين من نقطع أنه وقف على كتب ابن الوزير، ألا وهو الشيخ صالح المقبلى، قد تكلم على هذا الحديث بكلام جيد من جهة ثبوته ومعناه، وقد ذكر فيه أن بعضهم ضعف هذا الحديث فكأنه يشير بذلك إلى ابن الوزير. وأنت إذا تأملت كلامه وجدته يشير إلى أن التضعيف لم يكن من جهة السند، وإنما من قِبَلِ استشكال معناه، وأرى أن أنقل خلاصة كلامه المشار إليه لما فيه من الفوائد. قال رحمه الله تعالى فى "العلم الشامخ فى إيثار الحق على الآباء والمشايخ" (ص414):
__________
(1) ... انظر الجزء الثانى منه (ص113-115).(1/47)
... "حديث افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، رواياته كثيرة يشد بعضها بعضاً بحيث لا يبقى ريبة فى حاصل معناها. (ثم ذكر حديث معاوية هذا، وحديث ابن عمرو ابن العاص الذى أشار إليه الحافظ العراقى وحسنه الترمذى) ثم قال: والإشكال فى قوله: "كلها فى النار إلا ملة"، فمن المعلوم أنهم خير الأمم، وأن المرجو أن يكونوا نصف أهل الجنة، مع أنهم فى سائر الأمم كالشعرة البيضاء فى الثور الأسود حسبما صرحت به الأحاديث، فكيف يتمشى هذا؟ فبعض الناس تكلم فى ضعف هذه الجملة، وقال: هى زيادة غير ثابتة. وبعضهم تأول الكلام. قال: ومن المعلوم أنه ليس المراد من الفرقة الناجية أن لا يقع منها أدنى اختلاف، فإن ذلك قد كان فى فضلاء الصحابة. إنما الكلام فى مخالفة تصيِّر صاحبها فرقة مستقلة ابتدعها. وإذا حققت ذلك فهذه البدع الواقعة فى مهمات المسائل، وفيما يترتب عليه عظائم المفاسد لا تكاد تنحصر، ولكنها لم تخص معيناً من هذه الفرق التى قد تحزبت والتأم بعضهم إلى قوم وخالف آخرون بحسب مسائل عديدة.
... ثم أجاب عن الإشكال بما خلاصته:
... إن الناس عامة وخاصة، فالعامة آخرهم كأولهم، كالنساء والعبيد والفلاحين والسوقة ونحوهم ممن ليس من أمر الخاصة فى شىء، فلا شك فى براءة آخرهم من الابتداع كأولهم.(1/48)
... وأما الخاصة، فمنهم مبتدع اخترع البدعة وجعلها نصب عينيه، وبلغ فى تقويتها كل مبلغ، وجعلها أصلاً يرد إليها صرائح الكتاب والسنة، ثم تبعه أقوام من نمطه فى الفقه والتعصب، وربما جددوا بدعته وفرعوا عليها وحملوه ما لم يتحمله، ولكنه إمامهم المقدم وهؤلاء هم المبتدعة حقاً، وهو شئ كبير { تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } (1)، كنفى حكمة الله تعالى، ونفى إقداره المكلف، وككونه يكلف ما يطاق، ويفعل سائر القبائح ولا تقبح منه، وأخواتهن ! ومنها ما هو دون ذلك، وحقائقها جميعها عند الله تعالى، ولا ندرى بأيها يصير صاحبها من إحدى الثلاث وسبعين فرقة.
... ومن الناس(2) من تبع هؤلاء وناصرهم وقوى سوادهم بالتدريس والتصنيف، ولكنه عند نفسه راجع إلى الحق، وقد دس فى تلك الأبحاث نقوضها فى مواضع لكن على وجه خفى، ولعله تخيل مصلحة دنيئة، أو عظم عليه انحطاط نفسه وإيذاؤهم له فى عرضه، وربما بلغت الأذية إلى نفسه. وعلى الجملة فالرجل قد عرف الحق من الباطل، وتخبط فى تصرفاته، وحسابه على الله سبحانه، إما أن يحشره مع من أحب بظاهر حاله، أو يقبل عذره، وما تكاد تجد أحداً من هؤلاء النظار إلا قد فعل ذلك، لكن شرهم والله كثير، فلربما لم يقع خبرهم بمكان، وذلك لأنه لا يفطن لتلك اللمحة الخفية التى دسوها إلا الأذكياء المحيطون بالبحث، وقد أغناهم الله بعلمهم عن تلك اللمحة، وليس بكبير فائدة أن يعلموا أن الرجل كان يعلم الحق ويخفيه، والله المستعان.
__________
(1) ... مريم: 90.
(2) ... وهم القسم الثانى من الخاصة فى تقسيم المؤلف، وستأتى الإشارة إليهم فى كلامه.(1/49)
... ومن الناس من ليس من أهل التحقيق، ولا هيئ للهجوم على الحقائق، وقد تدرب فى كلام الناس، وعرف أوائل الأبحاث، وحفظ كثيراً من غثاء ما حصلوه ولكن أرواح الأبحاث بينه وبينها حائل. وقد يكون ذلك لقصور الهمة والاكتفاء والرضا عن السلف لوقعهم فى النفوس. وهؤلاء هم الأكثرون عدداً، والأرذلون قدراً، فإنهم لم يحظوا بخصيصة الخاصة، ولا أدركوا سلامة العامة. فالقسم الأول من الخاصة مبتدعة قطعاً. والثانى ظاهرهُ الابتداع، والثالث له حكم الابتداع.
... ومن الخاصة قسم رابع ثلة من الأولين، وقليل من الآخرين، أقبلوا على الكتاب والسنة وساروا بسيرهما، وسكتوا عما سكتا عنه، وأقدموا وأحجموا بهما وتركوا تكلف ما لا يعنيهم، وكان تهمهم السلامة، وحياة السنة آثر عندهم من حياة نفوسهم، وقرة عين أحدهم تلاوة كتاب الله تعالى، وفهم معانيه على السليقة العربية والتفسيرات المروية، ومعرفة ثبوت حديث نبوى لفظاً وحكماً. فهؤلاء هم السنية حقاً، وهم الفرقة الناجية، وإليهم العامة بأسرهم، ومن شاء ربك من أقسام الخاصة الثلاثة المذكورين، بحسب علمه بقدر بدعتهم ونياتهم.
... إذا حققت جميع ما ذكرنا لك، لم يلزمك السؤال المحذور وهو الهلاك على معظم الأمة، لأن الأكثر عدداً هم العامة قديماً وحديثاً، وكذلك الخاصة فى الأعصار المتقدمة، ولعل القسمين الأوسطين، وكذا من خفت بدعته من الأول، تنقذهم رحمة ربك من النظام فى سلك الابتداع بحسب المجازاة الأخروية، ورحمة ربك أوسع لكل مسلم، لكنا تكلمنا على مقتضى الحديث ومصداقه، وأن أفراد الفرق المبتدعة وإن كثرت الفرق فلعله لا يكون مجموع أفرادهم جزءاً من ألف جزء من سائر المسلمين: فتأمل هذا تسلم من اعتقاد مناقضة الحديث لأحاديث فضائل الأمة المرحومة".(1/50)
... قلت: وهذا آخر كلام الشيخ المقبلى رحمه الله، وهو كلام متين يدل على علم الرجل وفضله ودقة نظره، ومنه تعلم سلامة الحديث من الإشكال الذى أظن أنه عمدة ابن الوزير رحمه الله فى إعلاله إياه. والحمد لله على أن وفقنا للإبانة عن صحة هذا الحديث من حيث إسناده، وإزالة الشبهة عنه من حيث متنه. وهو الموفق لا إله إلا هو.
... ثم وقفت على كلام لأحد الكتاب فى العصر الحاضر ينكر فى كتابه "أدب الجاحظ" (ص90) صحة هذا الحديث للدفاع عن شيخه الجاحظ! فهو يقول: "ولو صح هذا الحديث لكان نكبة كبرى على جمهور الأمة الإسلامية، إذ يسجل على أغلبيتها الخلود فى الجحيم ولو صح هذا الحديث لما قام أبو بكر فى وجه مانعى الزكاة معتبراً إياهم فى حالة ردة ..." إلى آخر كلامه الذى يغنى حكايته عن تكلف الرد عليه، لوضوح بطلانه لا سيما بعد قراءة كلام الشيخ المقبلى المتقدم. على أن قوله "الخلود فى الجحيم" ليس له أصل فى الحديث، وإنما أورده الكاتب المشار إليه من عند نفسه ليتخذ ذلك ذريعة للطعن فى الحديث. وهو سالم من ذلك كله كما بينا والحمد لله على توفيقه.(1) أهـ.
قال الشاطبى رحمه الله تعالى بعد أن تكلم عن حديث الافتراق:
... فإذا تقرر هذا، تصدى النظر فى الحديث فى مسائل:
إحداها: فى حقيقة هذا الافتراق
... وهو يحتمل أن يكون افتراقاً على ما يعطيه مقتضى اللفظ، ويحتمل أن يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه، فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق، لأنه يلزم أن يكون المختلفون فى مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ، وذلك باطل بالإجماع.
__________
(1) ... انظر السلسلة الصحيحة للألبانى 1/356 : 367، حديث 203، 204.(1/51)
... وإنما يراد افتراق مقيد، وإن لم يكن فى الحديث نص عليه، ففى الآيات ما يدل عليه: قوله تعالى: { ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون } (1)، وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على التفرق الذى صاروا به شيعاً، ومعنى "صاروا شيعاً"، أى: جماعات بعضهم قد فارق البعض، ليسوا على تآلف ولا تعاضد وتناصر، بل على ضد ذلك، فإن الإسلام واحد، وأمره واحد، فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف.
... وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى، فلا بد من التفرق، وهو معنى قوله تعالى: { وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (2).
... وإذا ثبت هذا، نزل عليه لفظ الحديث، واستقام معناه، والله أعلم.
المسألة الثانية
... أن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع فى العداوة والبغضاء فإما أن يكون راجعاً إلى أمر هو معصية غير بدعة.
... وإما أن يرجع إلى أمر هو بدعة، كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التى بنوا عليها فى الفرقة، وهذا هو الذى تشير إليه الآيات المتقدمة والأحاديث، لمطابقتها لمعنى الحديث.
... وإما أن يراد المعنيان معاً.
... فأما الأول، فلا أعلم قائلاً به –وإن كان ممكناً فى نفسه- إذ لم أر أحداً خصَّ هذه بما إذا افترقت الأمة بسبب أمر دنياوى لا بسبب بدعة، وليس ثم دليل على التخصيص، لأن قوله عليه الصلاة والسلام: (من فارق الجماعة قيد شبر ...)(3) الحديث، لا يدل على الحصر، وكذلك: (إذا بويع الخليفتان، فاقتلوا الآخر منهما)(4).
__________
(1) ... الروم: 31-32.
(2) ... الأنعام: 153.
(3) ... أخرجه ابن حبان (ح6233 – الإحسان) وابن خزيمة (930) والحاكم (1/118) والترمذى (2863، 2864). قال الترمذى: حديث حسن صحيح غريب. وصححه الألبانى (صحيح الجامع 6410).
(4) ... أخرجه مسلم (1853) (61) كتاب الأمارة.(1/52)
... وأما الثانى، وهو أن يراد المعنيان معاً، فذلك أيضاً ممكن، إذ الفرقة المنبه عليها قد تحصل بسبب أمر دنياوى لا مدخل فيها للبدع، وإنما هى معاصى ومخالفات كسائر المعاصى.
... وإلى هذا المعنى يرشد قول الطبرى فى تفسير الجماعة –حسبما يأتى بحول الله-.
... غير أن الأكثر فى نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هى بسبب الابتداع فى الشرع على الخصوص، وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء، ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصى التى ليست ببدع، وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله.
المسألة الثالثة
... أن هذه الفرق تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا، فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق، وليس ذلك إلا الكفر، إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور.
... ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة.
... ويحتمل أن (لا) يكونوا خارجين عن الإسلام جملة، وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله، ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل، فلا فائدة من الإعادة.
... ويحتمل وجهاً ثالثاً، وهو أن يكون منهم ممن فارق الإسلام، ومقالته كفر، وتؤدى معنى الكفر الصريح، ومنهم من لا يفارقه، بل انسحب عليه حكم الإسلام، وإن عظم مقاله وشنع مذهبه، لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح.
... ويدل على ذلك الدليل، بحسب كل نازلة وبحسب كل بدعة، إذ لا يشك فى أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر، كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زُلفى، ومنها ما ليس بكفر، كالقول بالجهة عند جماعة، وإنكار الإجماع، وإنكار القياس... وما أشبه ذلك.
... وإذا تقرر نقل الخلاف، فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذى نحن بصدد شرحه من هذه المقالات.
... أما ما صحَّ منه، فلا دليل على شىء، لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق الخاصة.(1/53)
... وأما على رواية من قال فى حديثه: "كلها فى النار إلا واحدة"، فإنما يقتضى إنفاذ الوعيد ظاهراً، ويبقى الخلود وعدمه مسكوتاً عنه، فلا دليل فيه على شىء مما أردنا، إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة، وإن تباينا فى التخليد وعدمه.
ليس كل الفرق الهالكة خارجة عن الملة ولا كافرة:
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن قال: إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفر كفراً ينقل عن الملة، فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة، فليس فيهم من كفر كل واحد من الثنتين وسبعين فرقة، وإنما يكفر بعضهم بعضاً ببعض المقالات"(1).
... وقال: "وأما من يقول ببعض التجهم: كالمعتزلة، ونحوهم الذين يتدينون بدين الإسلام باطناً وظاهراً، فهؤلاء من أمة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، بلا ريب، وكذلك من هو خير منهم: كالكلابية والكرامية.
... وكذلك الشيعة المفضلين لعلى، ومن كان منهم يقول: بالنص والعصمة مع اعتقاده بنبوة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، باطناً وظاهراً، وظنه أن ما هو عليه هو دين الإسلام، فهؤلاء أهل ضلال وجهل، ليسوا خارجين عن أمة محمد، - صلى الله عليه وسلم -، بل هم من الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً"(2).
__________
(1) ... الفتاوى7/218.
(2) ... الفتاوى17/448.(1/54)
... وقال: "وإن كان من الثنتين والسبعين فرقة، فإنه ما من فرقة إلا وفيها خلق كثير ليسوا كفاراً، بل مؤمنين، فيهم ضلال وذنب، يستحقون به الوعيد، كما يستحقه عصاة المؤمنين، والنبى - صلى الله عليه وسلم - لم يخرجهم من الإسلام، بل جعلهم من أمته، ولم يقل: إنهم يخلدون فى النار. فهذا أصل عظيم ينبغى مراعاته، فإن كثيراً من المنتسبين إلى السنة فيهم بدعة من جنس بدع الرافضة والخوارج، وأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بن أبى طالب وغيره لم يكفروا الخوارج الذين قاتلوهم"(1).
... وقال: "فمن كفر من الثنتين والسبعين فرقة كلهم فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان، مع أن حديث الثنتين والسبعين فرقة ليس فى الصحيحين، وقد ضعفه ابن حزم وغيره، لكن حسنه غيره أو صححه، كما صححه الحاكم وغيره، وقد رواه أهل السنن، وروى من طرق وليس قوله: "اثنتان وسبعون فى النار وواحدة فى الجنة بأعظم من قوله –تعالى-: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون فى بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } . (سورة النساء، الآية:10). وقوله: { ومن يفعل ذلك عدواناً وظلماً فسوف نصليه ناراً وكان ذلك على الله يسيراً } . (سورة النساء، الآية:30). وأمثال ذلك من النصوص الصريحة بدخول من فعل ذلك النار"(2).
المسألة الرابعة
... أن هذه الأقوال المذكورة آنفاً مبنية على أن الفرق المذكورة فى الحديث هى المبتدعة فى قواعد العقائد على الخصوص، كالجبرية، والقدرية، والمرجئة، وغيرها، وهو مما ينظر (فيه)، فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص، وهو رأى الطرطوشى.
__________
(1) ... منهاج السنة5/241.
(2) ... منهاج السنة5/248،249.(1/55)
... وفى حديث الخوارج ما يدل عليه أيضاً، فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالهم، وقال فى جملة ما ذمهم به: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات، كما قالوا: حكم (الرجال) فى دين الله، والله يقول: { إن الحكم إلا لله } (1).
... وقال أيضاً فى الحديث: (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)، فذمهم لعكس ما عليه الشرع، لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين، وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد.
... وفى مسلم: قال مجاهد: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة، وإذا أناس فى المسجد يصلون الضحى، فقلنا: ما هذه الصلاة؟ فقال: بدعة.
... قال الطرطوشى: مُحملةٌ عندنا على أحد وجهين: إما أنهم يصلونها جماعة، وإما أفذاذاً على هيئة النوافل فى أعقاب الفرائض.
... وذكر أشياء من البدع القولية مما نصَّ العلماء على أنها بدع، فصح أن البدع لا تختص بالعقائد.
... وقد تقررت هذه المسألة فى كتاب "الموافقات" بنوع آخر من التقرير.
... نعم، ثمَّ معنى آخر ينبغى أن يذكر هنا، وهى:
المسألة الخامسة
... وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية فى معنى كلى فى الدين وقاعدة من قواعد الشريعة، لا فى جزئى من الجزئيات، إذ الجزئى والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا، وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة فى الأمور الكلية، لأن الكليات نص من الجزئيات غير قليل، وشأنها فى الغالب أن لا تختص بمحل دون محل، ولا بباب دون باب.
... واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلى، فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافاً فى الفروع لا تنحصر، ما بين فروع عقائد وفروع أعمال.
__________
(1) ... يوسف: 40.(1/56)
... ويجرى مجرى القاعدة لكلية كثرة الجزئيات، فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة، عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة، كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً.
... وأما الجزئى، فبخلاف ذلك، بل يعد وقوع ذلك من المبتدع له، كالزلة والفلتة، وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين، حيث قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، وأئمة مضلون). ولكن إذا قرب موقع الزلة، لم يحصل بسببها تفرُّق فى الغالب، ولا هدم للدين، بخلاف الكليات.
... فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو فى الدين إذا كان اتباعاً مخلاًّ بالواضحات -وهى أم الكتاب-، وكذلك عدم تفهم القرآن موقع فى الإخلال بكلياته وجزئياته.
المسألة السادسة
... أنَّنا إذا قلنا بأن هذه الفِرَق كفار –على قول من قال به-: أو ينقسمون إلى كافر وغيره، فكيف يعدون من الأمة؟
... وظاهر الحديث يقتضى أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة، وإلا، فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر، لم يُعَدُّوا منها البتة، كما تبين.
... وكذلك الظاهر فى فرق اليهود والنصارى: أن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هوداً ونصارى؟
... فيقال: فى الجواب عن هذا السؤال: إنه يحتمل أمرين:
... (أحدهما): أَنَّا نأخذ الحديث على ظاهره فى كون هذه الفرق من الأمة، ومن أهل القبلة.(1/57)
... والاحتمال الثانى: أن نعدهم من الأمة على طريقة لعلها تتمشى فى الموضع، وذلك أن كل فرقة تدعى الشريعة، وأنها على صوابها، وأنها المتَّبعة للمتبعة لها، وتتمسك بأدلتها، وتعمل على ما ظهر لها من طريقها، وتناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها، وترمى بالجهل وعدم العلم من ناقضها، لأنها تدَّعى أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره، وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام، لأن المرتد، إذا نسبته إلى الارتداد، أقرَّ به، ورضيه، ولم يسخطه، ولم يعادك لتلك الشبهة، كسائر اليهود والنصارى وأرباب النحل المخالفة للإسلام، بخلاف هؤلاء الفرق، فإنهم مدَّعون الموافقة للشارع، والرسوخ فى اتباع شريعة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادِّعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة، ولذلك تجدهم مبالغين قى العمل والعبادة. والشاهد لهذا كله –مع اعتبار الواقع- حديث الخوارج.
... ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: (يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم، وهو عليهم، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم)، فقوله (عليه الصلاة والسلام): "يحسبون أنه لهم" واضح فيما قلنا.
... وفى معنى ذلك من قول ابن مسعود، قال: "وستجدون أقواماً يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم، عليكم بالعلم، وإياكم والتبدُّع والتعمق، وعليكم بالعتيق"، فقوله: "يزعمون كذا"، دليل على أنهم على الشرع فيما يزعمون.
المسألة السابعة : فى تعيين هذه الفرق
... وهى مسألة –كما قال الطرطوشى- طاشت فيها أحلام الخلق، فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها، لكن فى الطوائف التى خالفت فى مسائل العقائد:
... فمنهم من عد أصولها ثمانية، فقال: كبار الفرق الإسلامية ثمانية: المعتزلة، والشيعة، والخوارج، والمرجئة، والنجارية، والجبرية، والمشبهة، والناجية.(1/58)
... فإن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد بتفرُّق أمته أصول [العقائد] التى تجرى مجرى الأجناس للأنواع، والمعاقد للفروع، لعلهم –والعلم عند الله- ما بلغوا هذا العدد إلى الآن، غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة، وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع؟!
... وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت فى دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده، من غير التفات إلى التقسيم الذى ذكرنا، كانت البدع أنواعاً لأجناس، أو كانت متغايرة الأصول والمبانى.
... فهذا هو الذى أراده عليه السلام –والعلم عند الله-، فقد وجد من ذلك عدد كثير من اثنتين وسبعين.
... ووجه صحيح الحديث على هذا أن يخرج من الحساب غلاة أهل البدع، ولا يعدون من الأمة ولا فى أهل القبلة، كنفاة الأعراض من القدرية –لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض- وكالحلولية، والنصيرية، وأشباههم من الغلاة.
... هذا ما قال الطرطوشى رحمه الله تعالى، وهو حسن من التقرير، غير أنه يبقى للنظر فى كلامه مجالان:
... (أحدهما): أن ما اختار من أنه ليس المراد الأجناس، فإن كان مراده مجرد أعيان البدع، وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية، فمشكل، لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت، فكل من ابتدع (بدعة) كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة، فلا تقف فى مئة ولا مئتين، فضلاً عن وقوعها فى اثنتين وسبعين، فإن البدع –كما قال- لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة.
... وقد مرَّ من النقل ما يشعر بهذا المعنى، وهو قول ابن عباس: ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة، حتى تحيا البدع وتموت السنن.
... وهذا موجود فى الواقع، فإن البدع قد نشأت إلى الآن، ولا تزال تكثر، وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين فى العقائد كلها، لكان الذى يبقى أكثر من اثنتين وسبعين، فما قاله –والله أعلم- غير مخلِّص.(1/59)
... (والثانى): أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعيَّن بعد، بخلاف القول المتقدم، وهو أصح فى النظر، لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل، والعقل لا يقتضيه.
... فالأولى ما قاله من عدم التعيين، وإن سلمنا (أن) الدليل قام له على ذلك، فلا ينبغى التعيين.
... أما أولاً: فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها، ويبقى الأمر فى تعيين الداخلين فى مقتضى الحديث مرجئ، وإنما ورد التعيين فى النادر، كما قال عليه الصلاة والسلام فى الخوارج: (إن من ضئضىء هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ..) الحديث، مع أنه عليه السلام لم يعرِّف أنهم ممن شملهم حديث الفرق.
... وأما الثانية: فلأن عدم التعيين هو الذى ينبغى أن يلتزم، ليكون ستراً على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا فى الدنيا بها فى الغالب.
... وأمرنا بالستر على المذنبين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف.
... وأيضاً، فللستر حكمة أخرى، وهى أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة، لكان فى ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التى أمر الله ورسوله بها، حيث قال: { واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا } (1)،وقال: { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } (2)، وقال: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } (3).
... فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة، لزم من ذلك أن يكون منهياً عنه، إلا أن تكون البدعة فاحشة جداً، كبدعة الخوارج، وذكرهم بعلامتهم، حتى يعرفوا، ويلحق بذلك ما هو مثله فى الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد، وما عدا ذلك، فالسكون عنه أولى.
... فمن هنا لا ينبغى للراسخ فى العلم أن يقول: هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان! وإن كان يعرِّف بعلامتهم بحسب اجتهاده، اللهم إلا فى موطنين:
__________
(1) ... آل عمران: 103.
(2) ... الأنفال: 1.
(3) ... آل عمران: 105.(1/60)
... (أحدهما): حيث نبه الشرع على تعيينهم، كالخوارج، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق، ويجرى مجراهم من سلك سبيلهم، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدى المغربى، فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبى - صلى الله عليه وسلم - بهما فى الخوارج، من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان.
... (والثانى): حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها فى قلوب العوام ومن لا علم عنده، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس، وهم من شياطين الإنس، فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشواهد على أنهم منهم، كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره.
... فإذا فقد الأمران، فلا ينبغى أن يُذْكَرُوا ولا أن يُعَيَّنُوا وإن وُجِدُوا، لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء، ومتى حصل باليد منهم أحد، ذاكره برفق، ولم ير أنه خارج من السنة، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعى، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا، فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة، فهو أنجح وأنفع، وبهذه الطريقة دُعِى الخلق أولاً إلى الله تعالى، حتى [إذا] عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة، قوبلوا بحسب ذلك.
... قال أبو حامد الغزالى فى بعض كتبه: أكثر الجهالات إنما رسخت فى قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق فى معرض التحدى والإذلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعى المعاندة والمخالفة، ورسخت فى قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطِّفين محوها مع ظهور فسادها، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التى نطقوا بها فى الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستقراً فى قلب مجنون، فضلاً عن قلب عاقل.(1/61)
... هذا ما قال، وهو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية، فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك، والله أعلم.
وقفة حول الفرق وتحديدها وتعدادها(1)
... اختلف أهل العلم قديماً وحديثاً فى الفرق الثنتين والسبعين الهالكة من هى؟ ومن يدخل فيها من الفرق التى ظهرت ومن يخرج؟ وهل يمكن تعيينها نوعياً وعددياً وإحصاؤها على سبيل الحصر والتحديد؟
... أما الفرقة الناجية فليست محل خلاف بين أهل العلم المعتبرين، لأن تعيينها بالوصف قاطع لا شك فيه، وبَيِّنٌ لا لبس فيه إلا لمن عميت بصيرته، فلا حيلة فيه. فالفرقة الناجية وصفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنها: من كان على ما عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، معلوم منقول مأثور مسطور، وهو السنة وسبيل المؤمنين، وقد تكفل الله تعالى ببقائه وحفظه وبقاء طائفة من الأمة عليه، ظاهرة بالحق، قائمة بالدين، والحمد لله.
... وقبل أن أعرض أقوال أهل العلم، وشبهات أهل الأهواء ومزاعمهم أشير إلى ما تقرر عند جمهور السلف وهو:
أن وقوع الافتراق فى الأمة أمر ثابت قطعاً فى القرآن والسنة، والواقع يشهد له.
أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صح عنه أن عدد الفرق الهالكة: ثنتين وسبعين، والناجية واحدة.
أنه - صلى الله عليه وسلم -، بين أن الفرقة الناجية هم أهل السنة حيث كانوا على ما وصف، أى على ما كان عليه هو - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
أن الفرق الهالكة من أهل النار لكن ليسوا كلهم من المخلدين فى النار.
أن من الفرق من يخرج عن مسمى جميع الفرق، لخروجهم من الملة أصلاً، وليسوا من عداد المسلمين كغلاة الجهمية، وغلاة الرافضة، والباطنية، والفلاسفة الخالصة، وأهل الحلول والاتحاد ووحدة الوجود.
__________
(1) ... من كتاب مقدمات فى الأهواء والافتراق والبدع للدكتور ناصر عبد الكريم العقل.(1/62)
أن تحديد الفرق الثنتين والسبعين على سبيل التعيين، وتوزيع الأعداد تحديداً على أصول الفرق الكبرى أمر غيبى لا دليل عليه، وكذلك تسميتها من باب الأولى، لأن الافتراق يزداد، والأهواء والبدع تتجدد، وتنبعث فى كل عصر، وإلى قيام الساعة، والله أعلم.
أصول الفرق الهالكة عند بعض العلماء وإخراجهم الجهمية الخالصة من الثنتين والسبعين:
... لقد اجتهد بعض الأئمة فى تعيين أصول الفرق الهالكة، وتقسيم عددها على أصول الفرق الكبرى فى زمانهم.
... قال حفص بن حميد: "قلت لعبد الله بن المبارك: على كم افترقت هذه الأمة؟ فقال: الأصل أربع فرق: هم الشيعة، والحرورية، والقدرية، والمرجئة، فافترقت الشيعة على اثنتين وعشرين فرقة، وافترقت الحرورية على إحدى وعشرين فرقة، وافترقت القدرية على ست عشرة فرقة، وافترقت المرجئة على ثلاث عشرة فرقة. قال: قلت يا أبا عبد الرحمن لم أسمعك تذكر الجهمية، قال: إنما سألتنى عن فرق المسلمين"(1).
... ويرى أكثر أهل العلم أن الجهمية الخالصة خارجة من عداد الفرق لأنها كفرت بالتعطيل، وكذلك الباطنية وملاحدة الفلاسفة.
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا قال عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وغيرهما: أصول البدع أربعة: الشيعة، والخوارج، والقدرية، والمرجئة. قالوا: والجهمية ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة.
... وكذلك ذكر أبو عبد الله بن حامد عن أصحاب أحمد فى ذلك قولين، هذا أحدهما، وهذا أرادوا به التجهم المحض، الذى كان عليه جهم نفسه، ومتبعوه عليه، وهو نفى الأسماء مع نفى الصفات، بحيث لا يسمى الله بشىء من أسمائه الحسنى، ولا يسميه شيئاً ولا موجوداً ولا غير ذلك"(2).
__________
(1) ... الإبانة لابن بطة1/379،380.
(2) ... الفتاوى 17/447.(1/63)
... وقال أيضاً: "وشر منه نفاة الأسماء والصفات، وهم الملاحدة من الفلاسفة والقرامطة، ولهذا كان هؤلاء عند الأئمة قاطبة ملاحدة منافقين، بل فيهم من الكفر الباطن ما هو أعظم من كفر اليهود والنصارى، وهؤلاء لا ريب أنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة، وإذا أظهروا الإسلام فغايتهم أن يكونوا منافقين: كالمنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأولئك كانوا أقرب إلى الإسلام من هؤلاء، فإنهم كانوا يلتزمون شرائع الإسلام الظاهرة، وهؤلاء قد يقولون برفعها فلا صوم ولا صلاة ولا حج ولا زكاة، لكن قد يقال: إن أولئك كانوا قد قامت عليهم الحجة بالرسالة أكثر من هؤلاء"(1).
... وقال أيضاً: "والجهمية عند كثير من السلف، مثل: عبد الله بن المبارك، ويوسف بن أسباط، وطائفة من أصحاب الإمام أحمد، وغيرهم، ليسوا من الثنتين والسبعين فرقة التى افترقت عليها هذه الأمة، بل أصول هذه عند هؤلاء هم: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والقدرية، وهذا المأثور عن أحمد، وهو المأثور عن عامة أئمة السنة والحديث، أنهم كانوا يقولون: من قال القرآن مخلوق: فهو كافر، ومن قال: إن الله لا يرى فى الآخرة: فهو كافر، ونحو ذلك"(2).
تحديد الفرق الثنتين والسبعين الهالكة وتسميتها غير ممكن:
__________
(1) ... الفتاوى17/447،448.
(2) ... الفتاوى12/486-487.(1/64)
... لقد حاول بعض العلماء ومؤلفو كتب المقالات تسمية الفرق الثنتين والسبعين وتحديدها عددياً، وتوزيع ذلك على أصول الفرق الكبرى، وممن فعل ذلك الإمام عبد الله بن المبارك(1)، ويوسف بن أسباط، وأبو حاتم الرازى(2)، والملطى فى التنبيه، والبغدادى فى الفَرق بين الفِرق، وابن الجوزى فى تلبيس إبليس، والشهرستانى فى الملل والنحل(3)، والسكسكى فى الرهان(4)، والعراقى فى الفرق المفترقة "الفرق وأصناف الكفرة"(5)، وكل ذلك اجتهاد من هؤلاء لا يسنده دليل، لا سيما وأن المسألة غيبية، فإن النبى، - صلى الله عليه وسلم -، حينما أخبر لم يتجاوز ذلك العدد، وقد أطلق المكان والزمان، فيبقى احتمال خروج الفرق إلى قيام الساعة، وعلى هذا فلا يستطيع أحد أن يحدد هذه الفرق على سبيل الجزم، لأن الأمر غيبى، والله أعلم.
دعوى كل فرقة أنها الناجية مردودة بالنصوص:
... أما ما تتنازعه الفرق من أن كل واحدة تدعى أنها الناجية، فإنه محسوم برده إلى كتاب الله وسنة رسوله، - صلى الله عليه وسلم -، أما الكتاب فمثل قوله تعالى: { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله } (6). فاتباع الرسول، - صلى الله عليه وسلم -، هو الميزان، أما دعوى أهل الأهواء أنهم متبعون للرسول، - صلى الله عليه وسلم -، فهى مردودة بعرض أصولهم على السنة ومنهج السلف، فمن كان على سبيل السلف ونهجهم فهو المحق، ومن خالف السنة وهدى السلف ونهجهم فهو صاحب هوى، ولا تسلم له دعواه، بل ترد.
1. الخوارج(7)
__________
(1) ... انظر الإبانة1/379،380.
(2) ... المصدر السابق377،378،380- 386.
(3) ... ص22.
(4) ... ص21.
(5) ... ص22 رسالة ماجستير تحقيق عبد الله بن سليمان العمر.
(6) ... آل عمران: 31.
(7) ... الكلام على هذه الفرقة مختصر من كتاب "الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها" د. غالب بن علىّ عَواجَى.(1/65)
... الخوارج فرقة كبيرة من الفرق الاعتقادية، وتمثل حركة ثورية عنيفة فى تاريخ الإسلام شغلت الدولة الإسلامية فترة طويلة من الزمن بل ولا يزال لهم وجودهم القوى إلى اليوم.
... ولقد بسطوا نفوذهم السياسى على بقاع واسعة من الدولة الإسلامية فى المشرق وفى المغرب العربى، وفى عُمَان وحضرموت وزنجبار (تنزانيا الآن) وما جاورها من المناطق الأفريقية فى المغرب العربى، ولا تزال لهم ثقافتهم المتمثلة فى المذهب الإباضى المنتشر فى تلك المناطق.
... ولا يخفى كذلك أن بعض أفكار الخوارج المتعلقة بتكفير العصاة لا يزال لها أتباع حتى وقتنا الحاضر.
هل للخوارج مصنفات تحمل آراءهم ؟
... يقول الدكتور غالب بن على: وإذا استثنينا ما كتبه الإباضية –على قِلَّتِهِ- فإننا لا نجد مرجعاً لمعرفة آراء بقية الخوارج إلا ما حكاه عنهم المؤرخون وعلماء الفرق، وفى هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأقوال الخوارج إنما عرفناها من نقل الناس عنهم، لم نقف لهم على كتاب مصنف كما وقفنا على كتب المعتزلة والرافضة والزيدية والكرَّامية والأشعرية، وأهل المذاهب الأربعة، والظاهرية، ومذاهب أهل الحديث، والفلاسفة، والصوفية، ونحو هؤلاء"(1).
... ويقول الدكتور مصطفى حلمى فيما يعزوه إلى الخطيب على بن الحسين الهاشمى: "ومن العسير الوقوف على معتقدات الخوارج من واقع كتبهم نفسها لحرصهم الشديد عليها وهى نادرة إن وجدت، فالغالب أن مكتبات المسلمين عارية عن مؤلفاتهم"(2).
... ويقول الدكتور محمود إسماعيل: "والواقع إن عديداً من المصاعب تعترض سبيل من يتصدى للتأريخ لهذا الموضوع، ففى بعض الأحيان تندر المادة التاريخية .. فعلى الرغم من كثرة ما دون عن تواريخ الخوارج لم يصل إلينا منها إلا القليل النادر"(3).
__________
(1) ... مجموعة الرسائل الكبرى جـ1 ص36.
(2) ... الخوارج ص18.
(3) ... الخوارج فى المغرب الإسلامى ص6 وانظر: ص15.(1/66)
... ويرجع قلة تأليف الخوارج وضياع ما ألفوه إلى طبيعة حياتهم الثورية حيث كانت الثورات والمعارك تأخذ منهم جهودهم وأوقاتهم، فيصعب عليهم وضع المؤلفات فى تاريخهم وتسجيل آرائهم.
... ومما لا شك فيه أن قلة مؤلفات الخوارج وضياعها وندرة ما بقى منها أو عدم إظهاره- مما لا شك فيه أن كل ذلك يضع الصعوبات أمام المؤرخ لهم ويجعله عالة على كتب التاريخ وعلماء الفرق والموسوعات الأدبية القديمة.
... وقد حاولت التغلب على هذه الصعوبة باذلاً فى ذلك غاية جهدى، فرحلت إلى مصر وعمان والكويت، واتصلت ببعض المشتغلين بدراسة الخوارج وكذلك بالمكتبات العامة.
التعريف بالخروج والخوارج:
... عرف الشهرستانى فى الملل والنحل الخوارج تعريفاً سياسياً عاماً، اعتبر فيه الخروج على الإمام المتفق على إمامته الشرعية خروجاً فى أى زمن كان حيث يقول: "كل من خرج على الإمام الحق الذى اتفقت الجماعة عليه يسمى خارجياً، سواء كان الخروج فى أيام الصحابة على الأئمة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسان والأئمة فى كل زمان"(1).
... وقد زاد ابن حزم على ذلك بأن اسم الخارجى يلحق كل من أشبه الخارجين على الإمام على وشاركهم فى آرائهم فقال: "ومن وافق الخوارج من إنكار التحكيم، وتكفير أصحاب الكبائر، والقول بالخروج على أئمة الجور، وأن أصحاب الكبائر مخلدون فى النار، وأن الإمامة جائزة فى غير قريش فهو خارجى"(2).
أسماء الخوارج وألقابهم:
... للخوارج أسماء كثيرة أطلقها عليهم علماء الفرق والمؤرخون. والخوارج يرضون ببعضها وينكرون البعض الآخر. ومن هذه الأسماء ما يأتى:
1. الخوارج:
... وهو أشهر أسمائهم وأكثرها استعمالاً، وقد ورد على ألسنة كتَّاب المقالات والتاريخ وتكاد بقية أسمائهم الأخرى بالنسبة إلى هذا الاسم تختفى وهو الاسم الذى يشمل جميع فرقهم، وهو اسم يحتمل أن يكون مدحاً لهم أو ذماً.
__________
(1) ... الملل والنحل جـ1 ص114.
(2) ... الفصل لابن حزم جـ2 ص113.(1/67)
... فإذا كانت التسمية- كما يريد الخوارج- مأخوذة من قوله تعالى: { ومن يهاجر فى سبيل الله يجد فى الأرض مراغما كثيراً وسعة ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله } (1) فهى تسمية مدح وتكون هذه التسمية منهم، وقد سموا أنفسهم بذلك اعتباراً لهذا المعنى كما ستأتى أقوالهم فى هذا قريباً.
... وأما إذا أخذت التسمية بمعنى الخروج على الأئمة أو على الناس أو عن الدين أو عن على بن أبى طالب رضى الله عنه، فهى ولا شك تسمية ذم لهم ويكون مخالفوهم هم الذين سموهم بهذا الاسم باعتبار هذه المعانى، وهو ما سار عليه كثير ممن كتب عن هذه الفرقة من علماء الفرق وغيرهم(2)، على أن إنكار الخوارج لهذه المعانى إنما هى باعتبار أنهم مخطئون فيها، وإلا فإن الخروج على الأئمة أو على الناس أو عن على بن أبى طالب كانت حقاً فى نظرهم.
... وقد أجمع مؤرخو الفرق على تسميتهم بهذا الاسم (الخوارج)(3).
... وقد وردت روايات عديدة فى فتح البارى معزوة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشير إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر عن الخوارج بهذا الاسم، فعند البزار من طريق الشعبى عن مسروق عن عائشة قالت: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخوارج: فقال: "هم شرار أمتى يقتلهم خيار أمتى". وسنده حسن. ثم أورد ابن حجر فى فتح البارى عدة روايات من هذا القبيل(4).
__________
(1) ... النساء: 100.
(2) ... انظر: مقالات الإسلاميين جـ1 ص207، فتح البارى جـ12 ص283، تاج العروس جـ2 ص3، المعجم الوسيط جـ1 ص224، البحرين فى صدر الإسلام ص127، القاموس الإسلامى ص224 جـ2، المنجد ص169، محيط المحيط ص519، الرائد ص647.
(3) ... انظر: البداية والنهاية ص170 جـ7.
(4) ... فتح البارىجـ12 ص286.(1/68)
... ويروى ابن الجوزى الحديث الآتى بعد أن جاء بسند ينتهى إلى عبد الله بن أوفى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الخوارج كلاب أهل النار)(1).
2. الحرورية:
... نسبة إلى الموضع الذى خرج فيه أسلافهم حينما انشقوا وخرجوا عن جيش الإمام على فاتجهوا إلى هذا الموضع، فنسبت هذه الطائفة إليه وهو موضع قريب من الكوفة يسمى حروراء.
... يقول الأشعرى مبيناً سبب تسميتهم بالحرورية: "والذى سموا له حرورية نزولهم بحروراء فى أول أمرهم"(2)، وهكذا عند البغدادى.
... وقال ابن عباس: "ليس الحرورية بأشد اجتهاداً من اليهود والنصارى وهم يضلون"(3).
3. الشُّراة:
... ويقول الأشعرى فى سبب تسميتهم بالشُّراة: "والذى له سموا شراة: قولهم: شرينا أنفسنا فى طاعة الله أى بعناها بالجنة"(4).
4. المارقة:
... بسبب خروجهم عن جيش الإمام على.
... وقال الشهرستانى: "وهم المارقة الذين اجتمعوا بالنهروان"(5).
5. المُحَكِّمَةُ:
... من أسمائهم أيضاً وهو من أوائل أسمائهم التى أطلقت عليهم، وقد أطلق عليهم بسبب إنكارهم تحكيم الحكمين وقولهم: "لا حكم إلا لله"(6).
... تلك أسماء الخوارج وألقابهم وهم يحبون هذه الأسماء كلها ولا ينكرون منها غير اسم واحد وهو تسميتهم بالمارقة.
... قال الأشعرى: "وهم يرضون بهذه الألقاب كلها إلا بالمارقة، فإنهم ينكرون أن يكونوا مارقة من الدين كما يمرق السهم من الرمية"(7).
نشأة الخوارج:
1. متى خرجوا؟
... يختلف المؤرخون فى تحديد بدء نشأة الخوارج على أقوال أهمها ما يلى:
القول الأول:
__________
(1) ... تلبيس إبليس ص96، صحيح الجامع (3347).
(2) ... مقالات الأشعرى جـ1 ص207، الفرق بين الفرق ص75.
(3) ... التنبيه والرد للملطى ص174.
(4) ... مقالات الأشعرى جـ1 ص207.
(5) ... الملل والنحل جـ1 ص115.
(6) ... مقالات الإسلاميين جـ1 ص217.
(7) ... المقالات جـ1 ص207.(1/69)
... أن أول الخوارج هو ذو الخويصرة أو عبد الله بن ذى الخويصرة التميمى الذى بدأ الخروج بالاعتراض على النبى - صلى الله عليه وسلم - فى قسمة الفىء واتهامه إياه بعدم العدل، وقد ورد فى حديث البخارى تحت "باب من ترك قتال الخوارج للتألف وأن لا ينفر الناس عنه" عن أبى سعيد قال: (بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يقسم جاء عبد الله ابن ذى الخويصرة التميمى فقال: اعدل يا رسول الله فقال: ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟! قال عمر بن الخطاب: دعنى أضرب عنقه. قال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر فى قذذه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر فى نصله فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر فى رصافه فلا يوجد فيه شئ، ثم ينظر فى نضيه فلا يوجد فيه شىء قد سبق الفرث والدم، آيتهم رجل إحدى يديه –أو قال: ثدييه- مثل ثدى المرآة- أو قال: مثل البضعة –تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد: أشهد سمعت من النبى - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن علياً قتلهم وأنا معه جئ بالرجل على النعت الذى نعته النبى - صلى الله عليه وسلم -. قال: فنزلت فيه: { ومنهم من يلمزك فى الصدقات } )(1).
... فهو –على ما يبدو من تبويبه لهذا الحديث- يعتبر ذا الخويصرة أول الخوارج، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ترك قتله للتألف.
... وقد أخرج الإمام مسلم رحمه الله هذا الحديث مع اختلاف فى الألفاظ.
__________
(1) ... أخرجه البخارى جـ8 ص52،53.(1/70)
... وفى بعض الروايات التى ذكرها الإمام مسلم عن أبى سعيد ذكر أوصاف ذلك الرجل دون ذكر أسمه كما فى قوله: "بعث على رضى الله عنه وهو باليمين بذهبة فى تربتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أربعة نفر، الأقرع بن حابس الحنظلى، وعيينة بن بدر الفزارى، وعلقمة بن علاثة العامرى، ثم أحد بنى كلاب، وزيد الخير الطائى، ثم أحد بنى نبهان.
... قال: فغضبت قريش فقالوا: أيعطى صناديد نجد ويدعنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنى إنما فعلت ذلك لأتألفهم. فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين غائر العينين ناتئ الجبين محلوق الرأس، فقال: اتق الله يا محمد. قال: فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فمن يطع الله إن عصيته، أيأمننى على أهل الأرض ولا تؤمنونى؟ قال: ثم أدبر الرجل فاستأذن رجل من القوم فى قتله (يرون أنه خالد بن الوليد)، فقال رسول الله: إن من ضئضئ(1) هذا قوماً يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد".
القول الثانى:
... وهو للقاضى على بن أبى العز الحنفى شارح الطحاوية، الذى يرى أن نشأة الخوارج بدأت بالخروج على عثمان رضى الله عنه فى تلك الفتنة التى انتهت بقتله وتسمى الفتنة الأولى –يقول: "فالخوارج والشيعة حدثوا فى الفتنة الأولى"(2).
القول الثالث:
__________
(1) ... الضئضئ: الأصل.
(2) ... شرح الطحاوية ص472.(1/71)
... أن نشأتهم بدأت بانفصالهم عن جيش الإمام على رضى الله عنه وخروجهم عليه، وهذا الرأى هو الذى عليه الكثرة الغالبة من العلماء إذ يعرفون الخوارج بأنهم هم الذين خرجوا على علىّ بعد التحكيم، ومن هؤلاء الأشعرى فقد أرخ للخوارج، وأقدم من أرخ لهم منهم هم الخارجون على الإمام على وقال عنهم: "والسبب الذى سموا له خوارج خروجهم على علىّ بن أبى طالب"(1).
... وقد أصبح إطلاق اسم الخوارج على الخارجين عن الإمام على أمراً مشتهراً بحيث لا يكاد ينصرف إلى غيرهم بمجرد ذكره.
... هذه هى الأقوال فى بدء نشأة الخوارج، وعلينا فى اختيار ما نراه صحيحاً منها أن نفرق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراؤها الخاصة، ولها تجمعها الذى تحافظ عليه وتعمل به على نصرة هذه الآراء.
... والواقع أن نزعة الخروج –أو بتعبير أدق بدء نزعة الخروج- قد بدأت بذرتها الأولى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتراض ذى الخويصرة عليه. لكن هل كان خروجاً حقيقياً أم كان مجرد حادثة فردية اعترض فيها واحد من المسلمين على طريقة تقسيم الفىء طمعاً فى أن يأخذ منه نصيباً أكبر؟ وهو الأمر الذى سنرجحه فيما بعد.
... وأما القول بأن نشأتهم تبدأ بثورة الثائرين على عثمان رضى الله عنه، فلا شك أن ما حدث كان خروجاً عن طاعة الإمام إلا أنه لم يكن يتميز بأنه خروج فرقة ذات طابع عقائدى خاص لها آراء وأحكام فى الدين، غاية ما هنالك أن قوماً غضبوا على عثمان واستحوذ عليهم الشيطان حتى أدى بهم إلى ارتكاب جريمة قتله، ثم دخلوا بين صفوف المسلمين كأفراد منهم.
__________
(1) ... مقالات الأشعرىجـ1 ص207.(1/72)
... وهكذا يتضح الفرق بين مجرد وجود نزعة الاعتراض أو الثورة خروجاً عن طاعة الإمام، وبين الخروج فى شكل طائفة لها اتجاهها السياسى وآراؤها الخاصة، كخروج الذين خرجوا على علىّ رضى الله عنه منذ وقعة صفين، وهم الذين ينطبق عليهم مصطلح الخوارج بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وهذا هو القول الأخير الذى نختاره ونسير عليه فى هذه الرسالة مؤرخين لهذه الطائفة دارسين لآرائهم.
... والواقع أن هذا هو ما يشهد له واقع تلك الحركة التى أحدثت دوياً هائلاً فى تاريخ هذه الأمة الإسلامية عدة قرون تميزت فيها بآراء ومعتقدات وأنظمة لفتت إليها أنظار علماء التاريخ والفرق الإسلامية، بخلاف ما سبقها من حركات فإنها لم يكن لها أثر فكرى أو عقائدى يذكر.
2. كيف خرجوا بعد قبول التحكيم فى موقعة صفين؟
... لقد تمت البيعة للإمام علىّ بعد مقتل عثمان رضى الله عنهما وقام معاوية بن أبى سفيان -وكان والياً على الشام- يطالب بدم عثمان ويطلب من على تسليم قتلته وبدون هذا فإنه ممتنع عن البيعة له، وكان من رأى على أن يتمكن أولاً من دخول جميع الأمصار فى طاعته، خصوصاً وأن الخارجين كانوا أهل شوكة قوية وقد اندسوا فى الأمصار وأصبح طلبهم إبان هذه الثورة العارمة زيادة فى إيقاد نار الفتنة، أضف إلى ذلك أنه لا بد من التعرف على القتلة الحقيقيين وإقامة الحجة الشرعية عليهم حتى يمكن القصاص منهم، وكان ذلك كله يحتاج إلى وقت لم يمهله معاوية فيه خوفاً أن تطول المدة ويتفرق قتلة عثمان دون عقاب ولكل واحد من على ومعاوية ما يبرر موقفه ليتم الله أمراً كان مقدراً.
... وبدون الدخول فى تفاصيل تاريخية ليس هذا موضعها تطور الخلاف بينهما إلى لقاء حربى فى موقعة صفين المشهورة، حيث كان الإمام علىٌّ على رأس جيشه من أهل العراق وكان معاوية على رأس أهل الشام.(1/73)
... وقد كان لهذه المعركة نتائج حاسمة بالغة الأهمية، ففى أثناء المعركة –وحينما بدت بوادر هزيمة جيش معاوية ولاح النصر فى جانب جيش الإمام على- استشار معاوية عمرو ابن العاص فى المخرج من هذا الأمر فأشار عمرو بن العاص بأن ترفع المصاحف فوق أسنة الرماح فرفع خمسمائة مصحف كما يقول المسعودى(1) وطالبوا أهل العراق بتحكيم كتاب الله فى هذه القضية التى سفكت فيها الدماء، فوافق هذا الطلب قبولاً من أهل العراق.
... أما موقف على بن أبى طالب رضى الله عنه من هذا الطلب، فإن أكثر المؤرخين يذكرون أنه وقف منه موقف الحذر الحازم ورأى من أول وهلة أن هذا الطلب إنما يقصد به إيقاع الفتنة والفرقة بين جيشه من جهة وإعطاء الفرصة لجيش معاوية ليأخذ فترة يستعيد فيها قواه من جهة أخرى، فقد حذر على أصحابه من مغبة قبول هذا الطلب.
... ولهذا أصر على مواصلة القتال وكان له أنصار يقطرون شجاعة وبسالة أمثال الأشتر النخعى الذى أشرف على إلحاق الهزيمة بجيش الشام، لولا منع على له عن مواصلة الحرب تحت تهديد تلك الفئة التى قبلت الدعوة إلى التحكيم.
... ولكن قسماً كبيراً من جيش على رضى الله عنه أبوا إلا إيقاف القتال فوراً والبدء فى مفاوضة التحكيم وأبوا عليه إلا إفساد خطته والرضى برأيهم فى إيقاف الحرب وحملوه على قبوله بالقوة(2). بل أنهم أبدوا موافقتهم عليه فوراً دون أن يستشيروا علياً كما يقول فلهوزن(3)،ووصل بهم الأمر إلى أن هددوا علياً نفسه بأنهم سيفعلون معه إذا لم يوقف القتال ما فعلوا بعثمان أو سيدفعونه برمته إلى معاوية.
__________
(1) ... مروج الذهب جـ2 ص400. والله أعلم عن صحة هذا العدد من المصاحف.
(2) ... الملل والنحل جـ1 ص115.
(3) ... الخوارج والشيعة ص26.(1/74)
... وهم جماعة القراء –الذين صاروا خوارج فيما بعد- فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين قائلين له: يا على أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت إليه وإلا قتلناك كما قتلنا ابن عفان، فوالله لنفعلنها إن لم تجب(1)، وكان أشدهم خروجاً عليه ومروقاً من الدين –كما يقول الشهرستانى- الأشعث بن قيس الكندى، وزيد بن حصين الطائى، ومسعر بن فدكي التميمى"(2).
... وقد اعتقد هؤلاء القراء أن الدين يأمر بذلك، ولهذا فما ينبغى لهم الإعراض عن قبوله واحتجوا بقوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون } (3)، فأرسلوا إلى أهل الشام طالبين منهم أن يبعثوا حكماً من قبلهم وهم يبعثون حكماً من قبلهم، وأن لا يحضر معهما إلا من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه(4).
... ولقد كان الأشعث ممن لعب دوراً مهماً فى هذا النزاع فكان ممن يحبذ قبول التحكيم وكان يطمئن علياً بأن الناس قد سرهم التحكيم، وقد وصف بأن له دوراً مشكوكاً فيه، فقد مر بنا أن الشهرستانى وصفه بأنه من أشد الخارجين على علىّ وأشدهم مروقاً من الدين، ووصفه المسعودى بأنه كان "بدأ هذا الأمر –يعنى التحكيم- والمانع لهم من قتال عدوهم حتى يفيئوا إلى أمر الله"(5)، ويصفه علي يحيى معمر بأنه كان من أكبر صنائع معاوية(6).
__________
(1) ... انظر: تاريخ الطبرى جـ5 ص49، الملل والنحل جـ1 ص114، البداية والنهاية جـ7 ص274، شرح منهج البلاغة جـ2 ص216-218، مروج الذهب جـ2 ص403.
(2) ... الملل والنحل جـ1 ص114.
(3) ... آل عمران: 23.
(4) ... انظر: فتح البارى جـ12 ص284.
(5) ... مروج الذهب جـ2 ص404.
(6) ... الإباضية فى موكب التاريخ جـ2 ص282.(1/75)
... ومن هنا نرى مدى الدور الذى سلكه القراء فى هذا المجال وأنهم كما وصفهم فلهوزن كانوا سريعى الإجابة إلى قبول تحكيم كتاب الله، وأن نداء أهل الشام أحدث "فى أهل العراق الأثر المطلوب خصوصاً فى القراء الأتقياء"(1) كما ذكر.
... ولقد تبين مصداق وصفه - صلى الله عليه وسلم - لهم بأنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم وأنهم أهل عبادة، حيث كان المطالبون بقبول التحكيم من جيش على هم القراء الذين صاروا خوارج فيما بعد.
3. ... إكراه الإمام علىّ على قبول التحكيم واختيار أبى موسى الأشعرى نائباً عنه(2):
... والقول بقبول الإمام على للتحكيم مكرهاً هو المشهور فى روايات المؤرخين وعلماء الفرق كما أسلفنا.
... لقد أكره الخوارج الإمام علياً على قبول التحكيم كما ذكرنا آنفاً، وقد أراد أن يتلافى ما فى ذلك التحكيم من مخاطر وذلك بإرسال من يمثله للمفاوضة ممن يرتضيهم فى صدق نية ورجاحة الفكر، ولكن وقف الخوارج مرة أخرى فى طريقه فأبوا إلا إرسال من يرتضونه هم، ذلك أن علياً رضى الله عنه أراد أن يرسل الألمعى الذكى عبد الله بن عباس رضى الله عنهما، فما رضى الخوارج بذلك وقالوا: هو منك، وهم يريدون –على حد زعمهم- رجلاً لم يكن قد انحاز إلى أى من الجانبين فأرادهم على الأشتر لما يعرف من إخلاصه له فأبوا أيضاً، فأكرهوه ثانياً على أن يكون المرسل من قبله رجلاً لم يختره بنفسه(3).
__________
(1) ... الخوارج والشيعة ص25.
(2) ... انظر آخر هذا البحث.
(3) ... انظر: تاريخ الطبرى جـ5 ص51، وانظر: البداية والنهاية جـ7 ص277، شرح نهج البلاغة جـ2 ص228.(1/76)
... وأنا أستبعد –حسب رأيى- أن يقع الحال على ما ذكر، وقد أخطأ بعض الكتاب حينما نبز الصحابى الجليل أبا موسى الأشعرى رضى الله عنه بأنه ما كان مخلصاً لعلىّ ولا كان على جانب من الذكاء والفطنة، وأنه لم يكن أهلاً للمفاوضة ولا كفأ لعمرو ابن العاص إلى آخر ذمهم له، بما يتنافى مع الأدب الواجب لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كان أبو موسى من خيرة الناس عقلاً وعدلاً ونصحاً للمسلمين، فليس هناك دليل على صحة وصفه بهذه الأوصاف القبيحة من عدم الذكاء والنصح، مع ما له من السبق فى الدين وشرف الصحبة والسفارة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن وتوليه ... أمر القضاء وولايته لعمر على العراق، وهى أمور تشهد بفضله ورجاحة عقله.
... ومن المؤسف أن كثيراً من كتاب المسلمين ومؤرخيهم قد انخدعوا بدس الرافضة فى رواياتهم التى تطعن فى فضلاء الصحابة فى تصريحاتهم أو تلميحاتهم، مما يتوجب على من أراد الخير والحق أن يتثبت من صحة تلك الروايات التى ملئت بها كتب الرافضة وسرت إلى كتب بعض أهل السنة عن حسن ظن منهم بصحة تلك الروايات.
... والواقع أن ما أوردته هنا من أن علياً قبل التحكيم مكرهاً إنما هو متابعة لما كتبه علماء الفرق وأهل التاريخ، وإلا فإن فى النفس شكاً كبيراً فى صحة ذلك، فإننى أستبعد أن تكره تلك الشرذمة علياً وجيشه على قبول أمر لم يكونوا مقتنعين به وأن يفرضوا عليه ما أرادوه.(1/77)
... على أن ما يذكره أولئك الكتاب بعد ذلك عن صلابة أمير المؤمنين على فى الثبات على قبول التحكيم، إنما هو دليل واضح على اقتناعه به، كما أستبعد أيضاً أن يكون اختيار على لأبى موسى على كره منه له أيضاً، فهذا قول سخيف، إذا لا يقبل أى شخص أن يفاوض باسمه إلا من ارتضاه وإلا كان أحمق، وحاشا علىٌ من ذلك، خصوصاً وأن المفاوضة هى على أمر له ما بعده فى مجرى حياة الناس، فكيف يجبر الحاكم –خصوصاً مثل على رضى الله عنه- على هذا الضيم؟!
4. وثيقة التحكيم:
... والوثيقة بنصها أوردها الطبرى وابن الأثير وابن أبى الحديد والمسعودى وغيرهم، وهى وثيقة مطولة تقرر فيها رضى الطرفين بالرجوع إلى كتاب الله حكماً بينهم، فإن لم يوجد فإلى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأن كل طرف آمن من الآخر وأن الكل ضد المخالف لما يتفق عليه الحكمان، وأن أجل القضاء إلى رمضان، فإن أحبا تأخيره فلهما ذلك برضاهما، وإذا مات أحدهما فى هذه المدة فعلى الطرف الآخر أن ينظر من يمثله ممن يرى فيه الصلاح، ولكل واحد من الحكمين ما اختار من الشهود.
... ثم كتبت أسماء الشهود من جانب على عشرة من أصحابه ومن جانب معاوية مثلهم، وكتبوا فى آخرها "اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما فى هذه الصحيفة". ولقد تمت كتابة الوثيقة فى يوم الأربعاء (13/2/37هـ) لثلاث عشرة خلت من صفر أو لليلة بقيت –كما يرى بعضهم- سنة سبع وثلاثين من الهجرة، وقد نصت هذه الوثيقة أيضاً على أن يكون التحكيم فى شهر رمضان أى بعد ثمانية أشهر بدومة الجندل، على أن يحضر من كل جانب أربعمائة(1).
5. إنكار الخوارج للتحكيم بعد إكراه الإمام علىّ على قبوله:
__________
(1) ... انظر: تاريخ الطبرى جـ5 ص53/54/57. الكامل لبن الأثير جـ3 ص319/321. مروج الذهب جـ2 ص403. شرح نهج البلاغة جـ2 ص234/235 نقلاً عن نصر بن مزاحم.(1/78)
... وقد أحدث هذا الكتاب ضجة كبيرة بين أهل العراق فحينما دار به الأشعث على الناس يقرأه عليهم فرحاً مسروراً كما وصفه المسعودى، ثارت ثائرتهم فقد غضب عروة بن أدية فضرب عجز دابة الأشعث، قال: أتُحكِّمون فى أمر الله عز وجل الرجال، لا حكم إلا الله.
... حقاً إنه لغريب أمر هؤلاء الخوارج فبعد أن اضطروا علياً إلى قبول التحكيم وكتب الكتاب وأعطيت العهود والمواثيق فى وفاء كل لصاحبه بما شرط، جاء زرعة بن البرج الطائى وحرقوص بن زهير السعدى إلى على يطلبان منه نقض ما عاهد عليه وشرط على نفسه بقولهما له: "تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك، واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال على: قد أردتكم على ذلك فعصيتمونى وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليهم عهوداً وقد قال تعالى: { وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم } "(1).
... ولقد كان ثبات الإمام علىّ على التحكيم والوفاء بعهوده فيه دافعاً للخوارج إلى رفضه والخروج عليه، بل إلى تكفيره بهذا السبب، فقد اتفقوا بالإجماع على تكفيره كما ذكر ذلك كثير من كتاب المقالات(2)، بل وصل بهم الأمر إلى أنهم لا يصححون المناكحات إلا باعتقاد البراءة من على وعثمان، ويقدمون ذلك على كل طاعة(3).
6. كيفية التحكيم:
... سبق أن ذكرنا أن وثيقة التحكيم كتبت فى الثالث عشر من شهر صفر سنة 37هـ، وحدد رمضان من نفس العام موعداً لتمام التحكيم، ولما انتهت المدة وجاء وقت الاجتماع بعث علىّ أربعمائة شخص ورئيسهم شريح بن هانئ الحارثى وعبد الله بن عباس إمامهم فى الصلاة ووالى أمورهم. وبعث معاوية عمرو بن العاص فى أربعمائة رجل ثم التقوا بدومة الجندل بأذرج(4).
__________
(1) ... الكامل لابن الأثير جـ3 ص334.
(2) ... مقالات الأشعرى جـ1 ص167، الفرق بين الفرق ص81.
(3) ... الملل والنحل جـ1 ص115.
(4) ... تاريخ الطبرى جـ5 ص67، الكامل لابن الأثير جـ3 ص329.(1/79)
7. مدى صحة القول بوجود الخداع فى التحكيم:
... هذه هى الصورة التى يثبتها كثير من المؤرخين لكيفية التحكيم وهم بذلك يثبتون أنه قد كان هناك خداع فى التحكيم من جانب عمرو بن العاص، حيث أن الحكمين بعد أن اتفقا على خلع على ومعاوية سراً ثم جاء دور الإعلان أعلن أبو موسى خلع صاحبه علياً وثبت عمرو صاحبه معاوية فتسابا .. إلخ تلك القصة التى تشبه أن تكون هزلاً أكثر منها جداً.
... قال ابن العربى تعقيباً على ما روى فى قضية التحكيم من الخداع:
... "هذا كله كذب صراح ما جرى منه حرف قط، وإنما هو شئ أخبر عنه المبتدعة ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصى الله والبدع"(1).
... ويقول ابن كثير فى وصف الحكمين: "والحكمان كانا من خيار الصحابة .. وإنما نصبا ليصلحا بين الناس ويتفقا على أمر فيه رفق بالمسلمين وحقن لدمائهم، وكذلك وقع ولم يضل بسببهما إلا فرقة الخوارج"(2).
8. إمارة عبد الله بن وهب الراسبى على الخوارج:
... لقد تمت البيعة له فى الكوفة بعد خلافهم الأخير مع الإمام عليّ وقبل أن تنتهى عملية التحكيم نفسها وتظهر نتيجتها.
... فعندما أرسل علىّ أبا موسى للتحكيم اجتمع الخوارج فى منزل عبد الله بن وهب الراسبى فقام فيهم خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثم زهدهم فى الدنيا والرغبة فيما عند الله بإقامة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واحتساب ذلك لثواب الله، ثم قال لهم: "فاخرجوا بنا إخواننا من هذه القرية الظالم أهلها إلى بعض كور الجبال أو إلى بعض هذه المدائن، منكرين لهذه البدع المضلة"، فقام حرقوص ابن زهير وتكلم وزهد فى الدنيا والاغترار بها ثم قال لهم: "ولا تلفتنكم عن طلب الحق وإنكار الظلم، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
__________
(1) ... العواصم من القواصم ص128.
(2) ... البداية والنهاية جـ6 ص216.(1/80)
... فقام حمزة بن سنان الأسدى وقال لهم: "يا قوم إن الرأى ما رأيتم فولوا أمركم رجلاً منكم، فإنه لا بد لكم من عماد وسناد وراية تحفون بها وترجعون إليها". وهنا وقعوا فى مشكلة من سيقبل الخلافة فقد صار كل واحد ممن يصلح لها يحيلها عنه إلى غيره، فقد عرضوها على زيد بن حصين الطائى فأبى، ثم على حرقوص ابن زهير فأبى أيضاً، ثم على حمزة بن سنان فأبى كذلك، ثم شريح بن أوفى العبسى فامتنع، ثم عرضوها على عبد الله بن وهب فقال: "هاتوها أما والله لا آخذها رغبة فى الدنيا ولا أدعها فرقاً من الموت". وهكذا تمت بيعة ذى الثفنات(1) كما كان يقال له من شدة عبادته –فى شهر شوال لعشر خلون منه سنة سبع وثلاثين من الهجرة(2).
محاورات الإمام عليّ للخوارج فى النهروان(3):
... وقعت بين الإمام على وبين الخوارج –قبل نشوب المعركة- عدة محاورات، وحينما طلب منهم على رضى الله عنه بيان أسباب خروجهم عنه أجابوه بعدة أشياء، منها:
لماذا لم يبح لهم فى معركة الجمل أخذ النساء والذرية كما أباح لهم أخذ المال؟
لماذا محى لفظة أمير المؤمنين وأطاع معاوية فى ذلك عندما كتب كتاب الهدنة فى صفين، وأصر معه على عدم كتابة "عَلىُّ أمير المؤمنين"؟
قوله للحكمين: إن كنتُ أهلاً للخلافة فأثبتانى. بأن هذا شك فى أحقيته للخلافة.
لماذا رضى بالتحكيم فى حق كان له.
... هذه أهم الأمور التى نقموا عليه من أجلها كما يزعمون، وقد أجابهم عن كل تلك الشبه ودحضها جميعاً حيث أجابهم عن الشبهة الأولى والتى تدل على جهلهم بما يلى:
أباح لهم المال بدل المال الذى أخذه طلحة والزبير من بيت مال البصرة، ثم هو مال قليل.
__________
(1) ... لخشونة يديه من جراء وضعهما على الأرض.
(2) ... انظر: تاريخ الطبرى جـ5 ص74/75، الكامل لابن الأثير جـ3 ص336.
(3) ... انظر: الفرق بين الفرق ص79، وشرح نهج البلاغة 2/275، الكامل للمبرد: 2/117.(1/81)
النساء والذرية لم يشتركوا فى قتال وهم أيضاً مسلمون بحكم دار الإسلام ولم تكن منهم ردة تبيح استرقاقهم.
قال لهم: لو أبحت لكم استرقاق النساء والذرية فأيكم يأخذ عائشة سهمه فخجل القوم من هذا ورجع معه كثير منهم كما قيل.
وأجابهم على الشبهة الثانية:
بأنه فعل كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية، وذكر –إن صحت الرواية- أنه قال: أخبرنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لى منهم يوماً مثل ذلك.
... والله أعلم بصحة هذه الرواية التى يتناقلها المؤرخون، ذلك أن معاوية رضى الله عنه ما كان يطالب بالخلافة حتى يحق له أن يطلب محو كلمة "أمير المؤمنين". ومعاوية كذلك يعرف أسبقية على وفضله، وإنما النزاع حول أمر آخر غير الخلافة، اللهم إلا أن يكون هذا الفعل من صنيع المفاوضين دون علم معاوية بذلك.
... وأجابهم عن الشبهة الثالثة على افتراض صحة الرواية عنه: بأنه أراد النصفة لمعاوية ولو قال: احكما لى، لم يكن تحكيماً، ثم استدل بقصة وفد نصارى نجران ودعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهم إلى المباهلة لإنصافهم.
... وأجابهم عن الشبهة الرابعة: بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكَّم سعد بن معاذ فى بنى قريظة فى حق كان له.(1/82)
... ثم نشبت المعركة مع من بقى منهم على عناده وهزم الخوارج شر هزيمة، وتذكرُ بعضُ كتب الفرق أنه لم ينجُ من الخوارج إلا تسعة، ولم يقتل من جيش على إلا تسعة(1)، وصار هؤلاء التسعة من الخوارج هم نواة الخوارج فى البلدان التى ذهبوا إليها، وفى هذا نظر(2)، وقتل زعيم الخوارج فى هذه المعركة وهو عبد الله بن وهب الراسبى سنة 37 أو 38هـ.
أسباب خروج الخوارج:
... الراجح أن أسبابا مجتمعة هى التى أدت بهم إلى الخروج، ونوجز أهم الأسباب فيما يلى:
1. النزاع حول الخلافة:
... وربما يكون هذا هو أقوى الأسباب فى خروجهم، فالخوارج لهم نظرة خاصة فى الإمام معقدة وشديدة، والحكام القائمون فى نظرهم لا يستحقون الخلافة، لعدم توفر شروط الخوارج القاسية فيهم، إضافة إلى أنهم فسروا الخلاف بين على ومعاوية رضى الله تعالى عنهما بأنه نزاع حول الخلافة. ومن هنا استسهلوا الخروج على علىّ ومعاوية من بعده.
2. قضية التحكيم:
__________
(1) ... انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبرى 5/89، والبداية والنهاية لابن كثير 6/218، والكامل لبن كثير: 3/345، ومروج الذهب: 2/417، وانظر: اعتراض على يحيى معمر على نتيجة المعركة فى كتابه الإباضية بين الفرق ص68.
(2) ... من جهة تلك النتيجة، حيث التقى أولئك فى معركة مصيرية ثم يقتل فيها كل الجيش ويبقى تسعة، ويسلم الجيش الآخر ولا يقتل منه إلا تسعة فقط، فإن التكلف فى هذه النتيجة ظاهر بخصوص هذا العدد، كما أنه ترده تلك الأحداث المتلاحقة التى أعقبت معركة النهروان من تتابع حركة الخوارج الثورية على على رضى الله عنه –إلى أن استشهد- لتبدأ أقوى مما كانت على الدولة الأموية.
... كما أنه من التكلف أن يقال: إن كل واحد من التسعة الناجين من الخوارج كون مذهب الخوارج فى المنطقة التى ذهب إليها، خصوصاً وأن الروايات فى عدد الباقين فيها اضطراب واختلاف شديد، مما يجعل النتيجة غامضة. والله أعلم بحقيقة الأمر.(1/83)
... فقد أجبروا الإمام علياً على قبول التحكيم، وحينما تم ذلك طلبوا منه أن يرجع عنه بل ويعلن إسلامه، فرد عليهم رداً عنيفاً.
3. جور الحكام وظهور المنكرات:
... هكذا كان الخوارج يرددون فى خطبهم ومقالاتهم، أنَّ الحكّام ظلمة والمنكراتِ فاشيةٌ، والواقع أنهم حينما خرجوا فعلوا أضعاف ما كان موجوداً من المظالم والمنكرات.
... وهناك أسباب أخرى: عوامل اقتصادية، كقصة ذى الخويصرة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وثورتهم الممقوته على عثمان رضى الله عنه، حيث نهبوا بيت المال بعد قتله مباشرة، ونقمتهم على عليّ فى معركة الجمل.
حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم:
... أ. أشرنا فيما مضى إلى أن الخوارج قد كونوا لهم دولة وصار لهم نفوذ، وإذا تتبعنا حركاتهم الثورية فإننا نجدها متصلة عنيفة، ابتداء من خروج المحكِّمة على الإمام عليّ ومن خرج بعدهم على الإمام عليّ فى شكل جماعات حربية تثور هنا وهناك عليه وعلى الحكام الأمويين من بعده حرب عصابات، إلى أن جاء نافع بن الأزرق سنة 64هـ، وبدأ الخوارج يظهرون كفرق كبيرة امتدت إلى عصر الدولة العباسية، لا يَقَرُّ للخوارج قرارٌ أو يستكينون إلا ريثما يتم عددهم وعدتهم يمثلون المعارضة بالتعبير الحديث، وتلك الحركات مدونة فى كتب التاريخ والفرق مما لا نرى التطويل بذكره، لأنها أحداث تاريخية.
ب. فرق الخوارج:(1/84)
... أما فرقهم، فإن من رحمة الله بالناس أن الخوارج تفرقوا فيما بينهم، ولو اتحدوا لكانوا كارثة على المسلمين المخالفين لهم، ويذكر العلماء أنَّ الخوارج كانوا يختلفون ويفترقون لأتفه الأسباب، وحينما جاء نافع بن الأزرق ببعض التفاصيل فى المذهب كحكم التقية والقعدة(1) وأطفال المخالفين لهم فزاد الطين بله والنار اشتعالاً فتفرقوا فرقاً كثيرة قد لا يكون ضرورياً عدها هنا فإن بعض تلك الفرق انتهى فى وقته، وبعضها اندمج مع فرق أخرى، وبعضها رجع عن مقالاته كما فصلته كتب الفرق(2).
جـ. عدد فرق الخوارج:
... إن كتب الفرق الإسلامية لم تتفق على تقسيم فرقهم الرئيسة أو الفرعية على عدد معين، فنجد الأشعرى مثلاً يعد فرق الخوارج أربع فرق، وغيره يعدها خمساً، وبعضهم يعدها ثمانياً، وبعضهم سبعاً، وآخرون خمساً وعشرين، وقد تصل إلى أكثر من ثلاثين فرقة، والواقع أنه يصعب معرفة عدد فرق الخوارج(2)، والسبب فى ذلك يعود إلى:
أن الخوارج فرق حربية متقلبة، فلم يتمكن العلماء من حصرهم حصراً دقيقاً.
أن الخوارج كانوا يتفرقون باستمرار لأقل الأسباب، كما أنهم يختلفون أيضاً لأقلها.
أن الخوارج أخفوا كتبهم إما خوفاً عليها من الناس أو ضناً بها عنهم، مما يجعل دراستهم من خلال كتبهم فى غاية الصعوبة.
__________
(1) ... أى هل يحل لهم المقام بين المخالفين أم لا يحل، ويكون المقيم بينهم كافراً حلال الدم والمال، كما يرى نافع ذلك حتى وإن كان منهم، وحينما وصل نافع إلى إحداث تلك الأمور بينهم انفصلت عنه النجدات بقيادة نجدة بن عامر قائلين لنافع: أحدثت ما لم يكن عمله السلف من أهل النهروان وأهل القبلة، فأجابهم: بأن هذه حجة عرفها وقامت عليه وينبغى الأخذ بهذا، ففارقوه.
(2) ... انظر: مقالات الأشعرى: 1/1983، الفرق بين الفرق للبغدادى ص24،72، إبانة المناهج لجعفر بن أحمد ص155، التنبيه والرد للملطى ص167، تاريخ الفرق الإسلامية ص266،268،271، الاعتصام 2/219.(1/85)
دراسة أهم فرق الخوارج: وهم الإباضية:
... ولا بد من وقفة يسيرة عند هذه الفرقة من الخوارج، نذكر عنهم على سبيل الإيجاز بعض ما قيل عنهم، سواء ما جاء عن المخالفين أو الموافقين لهم، أو ما ذكروه فى كتبهم، ولكون هذه الطائفة لا يزال لها أتباع وأنصار فى أماكن كثيرة من العالم، ولكونهم كانت لهم صولة وقوة، ولكثرة ما جاء من أخبارهم السياسية والعقدية والاجتماعية. فإنها تحتاج إلى دراسة خاصة قد تأخذ حجماً كبيراً لمن أراد أن يتتبع أخبارهم ويقف على مبادئهم.
زعيم الإباضية:
... أما بالنسبة لزعيم الإباضية فإنهم ينتسبون فى مذهبهم –حسبما تذكر مصادرهم- إلى جابر بن زيد الأزدى الذى يقدمونه على كل أحد ويروون عنه مذهبهم، وهو من تلاميذ ابن عباس رضى الله عنه(1).
... وقد نُسِبوا إلى عبد الله بن إباض لشهرة مواقفه مع الحكام(2)، واسمه عبد الله بن يحيى بن إباض المري من بنى مرة بن عبيد، وينسب إلى بنى تميم، وهو تابعى، عاصر معاوية وابن الزبير وكانت له آراء واجه بها الحكام. وهذا هو اسمه المشهور عند الجمهور.
دولة الإباضية:
... قامت للإباضية دولتان، إحداهما فى المغرب والأخرى فى المشرق –عُمَان- تمتع المذهب الإباضى فيهما بالنفوذ والقوة.
... وساعد انتشار المذهب الإباضى فى عُمَان بُعْدُها عن مقر الخلافة، ثم مسالكها الوعرة.
... ويرجع دخول المذهب الإباضى عُمَان إلى فرار بعض الخوارج بعد معركة النهروان إلى هذا البلد، كما يرى بعض العلماء.
موقف الإباضية من المخالفين لهم:
أ. موقفهم من سائر المخالفين:
__________
(1) ... انظر: أجوبة ابن خلفون ص9. وانظر: ترجمة جابر بن زيد أبو الشعثاء فى البداية والنهاية لابن كثير 10/93، وانظر: ما كتبه أحد علمائهم المعاصرين بكير بن سعيد اعوشت فى كتابه دراسات إسلامية فى الأصول الإباضية ص20.
(2) ... الإباضية بين الفرق الإسلامية ص353.(1/86)
... تتسم معاملة الإباضية لمخالفيهم باللين والمسامحة وجوزوا تزويج المسلمات من مخالفيهم.
... وهذا ما يذكره علماء الفرق عنهم، إضافة إلى أنَّ العلماء يذكرون عنهم كذلك أن الإباضية تعتبر المخالفين لهم من أهل القبلة كفارُ نعمةٍ غير كاملي الإيمان ولا يحكمون بخروجهم من الملة، إلا أن المدح ليس بالاتفاق بين العلماء، فهناك من يذكر عن الإباضية أنهم يرون أن مخالفيهم محاربون لله ولرسوله وأنهم يعاملون المخالفين لهم أسوأ المعاملة.
... والحقيقة أن القارئ لكتب علماء الفرق يجد أنهم متعارضون فى النقل عنهم إلا أن يقال: إن طائفة من الإباضية معتدلون وآخرون متشددون.
ب. موقف الإباضية من الصحابة:
موقف الإباضية من الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم:
... من الأمور المتفق عليها عند سائر الخوارج الترضى التام والولاء والاحترام للخليفتين الراشدين أبى بكر وعمر رضوان الله عليهما، لم تخرج فرقة منهم عن ذلك.
... أما بالنسبة للخليفتين الراشدين الآخرين عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضى الله عنهما فقد هلك الخوارج فيهما وذموهما مما برأهما الله عنه.
... ونفس الموقف الذى وقفه الخوارج عموماً والإباضية أيضاً -من الصحابة السابقين–وقفوه أيضاً من طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، وأوجب لهما الورجلانى -أحد علمائهم- النار(1)، وقد بشرهما الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، وهؤلاء يوجبون عليهما النار، فسبحان الله ما أجرأ أهل البدع والزيغ على شتم خيار الناس بعد نبيهم الذين نصروا الإسلام بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ومات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو راض عنهم!!
__________
(1) ... انظر: كشف الغمة ص304، الدليل لأهل العقول ص28.(1/87)
... قال النبى - صلى الله عليه وسلم - (لا تسبوا أصحابى، فوالذي نفسى بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبًا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)(1)، وإنه لمما يحار فيه الشخص هذا الموقف من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان أخص أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - غير مرضيين عند هذه الطوائف من خوارج وشيعة فمن المرضى بعد ذلك؟
عقائد الإباضية:
... من الأمور الطبيعية أن تخرج هذه الفرقة وغيرُها من الفرق عن المعتقد السليم فى بعض القضايا ما دامت قد خرجت عن أهل السنة والجماعة وارتكبت التأويل، ولا بد كذلك أن توجد لها أقوال فقهية تخالف فيها الحق إلى جانب أقوالهم فى العقيدة.
... والذى نود الإشارة إليه هنا أن للإباضية أفكاراً عقدية وافقوا فيها أهل الحق، وعقائد أخرى جانبوا فيها الصواب.
... 1. أما ما يتعلق بصفات الله تعالى: فإن مذهب الإباضية فيها أنهم انقسموا إلى فريقين: فريق نفى الصفات نفياً تاماً خوفاً من التشبيه بزعمهم، وفريق منهم يرجعون الصفات إلى الذات، فقالوا إن الله عالم بذاته وقادر بذاته وسميع بذاته إلى آخر الصفات، فالصفات عندهم عين الذات، فلا يثبتون وجهًا ولا عينًا ولا غير ذلك مما هو ثابت، ويؤولون ذلك بالذات.
... وهذا فى حقيقته نفي للصفات، ولكنه نفي مغطى بحيلة إرجاعها إلى الذات وعدم مشابهتها لصفات الخلق، وقد شنع الورجلانى منهم على الذين يثبتون الصفات بأنهم مشبهة كعباد الأوثان، وأن مذهب أهل السنة هو –حسب زعمه- تأويل الصفات، فاليد النعمة والقدرة، والوجه الذات ومجىء الله مجىء أمره لفصل القضاء، لأن إثبات هذه الصفات لله هو عين التشبيه، كما يزعم.
__________
(1) ... أخرجه مسلم (2541) (222) فى فضائل الصحابة.(1/88)
... ومعلوم لطلاب العلم أن هذا ليس هو مذهب السلف الذين يثبتون الصفات لله كما وصف نفسه فى كتابه الكريم ووصفه به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف ولا تكييف ولا تمثيل. قال ابن تيمية فى بيان مذهب السلف: "إنهم يصفون الله بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل".
... ويقول ابن القيم: "لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء، وأخبر عن نفسه بأفعال، وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويغضب ويسخط ويجىء ويأتى وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه استوى على عرشه، وأن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعاً وبصراً ووجهاً، وأن له يدين وأنه فوق عباده، وأن الملائكة تعرج إليه وتنزل من عنده، وأنه قريب، وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين، وأن السماوات مطويات بيمينه، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك(1).
... فهل يعتبر هذا الوصف تشبيه لله بخلقه؟ { قل ءأنتم أعلم أم الله } (2).
... وطريقة السلف فى إثبات كلِّ صفة لله، أنهم يقولون فيها: إنها معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعة، وأن الله { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (3) وهذه الآية أساس واضح فى إثبات الصفات لله.
... ولم ير أهل السنة أنَّ إثبات الصفات يؤدى إلى التشبيه لمعرفتهم أن الاتفاق فى التسمية لا يستلزم الاتفاق فى الذات، فالله سميع وبصير والإنسان سميع بصير، وبين الذاتين ما يعرفه كل عاقل من الفرق، ومن تصور التشبيه فقد جمع بين التشبيه والتعطيل.
... والحاصل أن الإباضية هنا وافقوا المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من أهل الفرق فى باب الصفات، معتمدين على عقولهم وعلى شبهات وتأويلات باطلة.
__________
(1) ... مختصر الصواعق المرسلة 16-29.
(2) ... البقرة: 140.
(3) ... الشورى: 11.(1/89)
... 2. وأما عقيدة الإباضية فى استواء الله وعلوِّه، فإنهم يزعمون أنَّ الله يستحيل أن يكون مختصاً بجهة ما، بل هو فى كل مكان. وهذا قول بالحلول وقول الغلاة الجهمية، ولهذا فقد فسر الإباضية معنى استواء الله على عرشه باستواء أمره وقدرته ولطفه فوق خلقه، أو استواء ملك ومقدرة وغلبة، وإذا قيل لهم: لم خص العرش بالاستيلاء والغلبة؟ أجابوا بجواب واه قالوا: لعظمته، وقد خرجوا بهذه التأويلات عن المنهج الشرعى إلى إعمال العقل واللغة بتكلف ظاهر مخالف للاعتقاد السليم والمنطق والفطرة.
... 3. وذهبت الإباضية فى باب رؤية الله تعالى إلى إنكار وقوعها، لأن العقل –كما يزعمون- يحيل ذلك ويستبعده، واستدلوا بقوله تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } (1)، وأولوا معنى الآية تأويلاً خاطئاً على طريقة المعتزلة.
... ومن أدلتهم قوله تعالى: { قال رب أرنى أنظر إليك قال لن ترانى ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف ترانى } (2).
... واستدلوا من السنة بحديث عائشة حين سئلت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل رأى ربه ليلة الإسراء؟ فأجابت بالنفى كما رواه صاحب وفاء الضمانة(3)، وقد أورد الربيع بن حبيب صاحب كتاب الجامع الصحيح أو مسند الربيع -الذى هو عندهم بمنزلة صحيح البخارى ومسلم عن أهل السنة، ويعتبرونه أصح كتاب بعد القرآن الكريم كما يزعمون– أورد عدة روايات عن بعض الصحابة تدل على إنكارهم رؤية الله تعالى بزعمه(4).
... والواقع أن كل استدلالاتهم التى شابهوا فيها المعتزلة، إما استدلالات غير صحيحة الثبوت، أو صحيحة ولكن أوَّلوها على حسب هواهم فى نفى الرؤية.
... فإن الآية الأولى ليس فيها نفى الرؤية، وإنما نفى الإحاطة والشمول، فالله يُرَى ولكن من غير إحاطة به عز وجل.
__________
(1) ... الأنعام: 103.
(2) ... الأعراف: 143.
(3) ... وفاء الضمانة ص376، 377.
(4) ... انظر: مسند الربيع بن حبيب 3/35.(1/90)
... وقوله لموسى: { لن ترانى } أى فى الدنيا، وقد علق الله إمكان رؤيته تعالى بممكن، وهو استقرار الجبل.
... وحديث عائشة إنما أرادت نفى أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه فى ليلة الإسراء، وليس المقصود نفى الرؤية مطلقاً، فهذا لم ترده أم المؤمنين، ومن فهم النفى مطلقاً فهو سيئ الفهم جاهل بالنصوص.
... وخلاصة القول فى هذه المسالة، أن رؤية الله تعالى تعتبر عند السلف أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، لا يماري فيها أحد منهم بعد ثبوتها فى كتاب الله تعالى وفى سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وفى أقوال الصحابة رضى الله عنهم وفى أقوال علماء السلف قاطبة رحمهم الله تعالى.
... 4. ومن عقائد بعض الإباضية فى كلام الله تعالى القول بخلق القرآن، بل حكم بعض علمائهم كابن جميع والورجلانى أن من لم يقل بخلق القرآن فليس منهم(1).
... وقد عرف المسلمون أن القول بخلقه من أبطل الباطل، إلا من بقى على القول بخلقه منهم وهم قلة شاذة بالنسبة لعامة المسلمين، وموقف السلف واضح فيها وهو موقف إمام السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، وهو القول بأن القرآن كلام الله تعالى، منه بدأ وإليه يعود، ولا يتسع المقام هنا لبسط شبه القائلين بخلقه وأدلة من يقول بعدم خلقه وردهم على أولئك المخطئين.
... ومن قذف الله الإيمان والنور فى قلبه يعلم أن الله تعالى تكلم بالقرآن، وبَلَّغَةُ جبريل إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - والكلام صفة لله تعالى، ومما ينبغى الإشارة إليه هنا أن بعض الإباضية قد خرج عن القول بخلق القرآن، كصاحب كتاب الأديان(2) وكذا أبو النضر العمانى(3)، وردا على من يقول بخلقه، وبسطا الأدلة فى ذلك وبهذا يتضح أن الإباضية قد انقسموا فى هذه القضية إلى فريقين.
__________
(1) ... مقدمة التوحيد ص19، الدليل لأهل العقول ص50.
(2) ... كتاب الأديان ص104.
(3) ... كتاب الدعائم ص31-35.(1/91)
... 5. وقد اعتدل الإباضية فى مسألة القدر ووافقوا أهل السنة.
... 6. وقد اختلف الإباضيون فى إثبات عذاب القبر. فذهب قسم منهم إلى إنكاره موافقين بذلك سائر فرق الخوارج. وذهب قسم آخر إلى إثباته.
... ومعتقد السلف جميعاً هو القول بثبوت عذاب القبر ونعيمه، كما صحت بذلك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، ومن أنكره فليس له دليل إلا مجرد الاستبعاد ومجرد الاستبعاد ليس بدليل.
... 7. ويثبت الإباضيون وجود الجنة والنار الآن ويثبتون الحوض ويؤمنون بالملائكة والكتب المنزلة.
... 8. وأما بالنسبة للشفاعة: فإن الإباضيون يثبتونها ولكن لغير العصاة بل للمتقين، وكأن المتقى فى نظرهم أحوج إلى الشفاعة من المؤمن العاصى.
... ومذهب أهل السنة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشفع فى عصاة المؤمنين أن لا يدخلوا النار، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها بعد إذن الله ورضاه، وثبت أن الله يقبل شفاعته فى ذلك وشفاعة الصالحين من عباده بعضهم فى بعض.
... 9. وأما الميزان الذى جاءت به النصوص وثبت أن له كفتين حسيتين مشاهدتين توزن فيه أعمال العباد كما يوزن العامل نفسه – فإن الإباضية تنكر هذا الوصف، ويثبتون وزن الله للنيات والأعمال بمعنى تمييزه بين الحسن منها والسيئ، وأن الله يفصل بين الناس فى أمورهم، ويقفون عند هذا الحد غير مثبتين ما جاءت به النصوص من وجود الموازين الحقيقية فى يوم القيامة(1) وعلى الصفات التى جاءت فى السنة النبوية.
... 10. وكما أنكر الإباضية الميزان أنكروا كذلك الصراط، وقالوا: إنه ليس بجسر على ظهر جهنم(2) وذهب بعضهم –وهم قلة- إلى إثبات الصراط بأنه جسر ممدود على متن جهنم. والسلف على اعتقاد أن الصراط جسر على متن جهنم، وأن العباد يمرون عليه سرعة وبطئاً حسب أعمالهم ومنهم من تخطفه كلاليب النار فيهوى فيها.
__________
(1) ... متن النونية ص 25.
(2) ... انظر غاية المراد ص 9.(1/92)
... 11. ووافق –معظم الإباضية- السلف فى حقيقة الإيمان من أنه قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية(1)، وقد خالف بعضهم فذهب إلى أن الإيمان يزيد ولا ينقص وقد نقل الدكتور صابر طعيمة بعض الأدلة من كتبهم على هذا الرأى(2).
... 12. وزيادة الإيمان ونقصه مسألة خالف فيها الإباضية سائر الخوارج الذين يرون أن الإيمان جملة واحدة لا يتبعض، وأن العبد يكفر ويذهب إيمانه بمجرد مواقعته للذنب ويسمونه كافراً ومخلداً فى النار فى الآخرة، إلا أن الإباضية مع موافقتهم للسلف فى الحكم، لكنهم يسمون المذنب كافراً كفر نعمة ومنافقاً.
... وفى الآخرة مخلد فى النار إذا مات من غير توبة(3)، وكان الحال يقتضى أنهم لا يطلقون عليه كلمة الكفر ولا النفاق، ولا يحكمون عليه بالخلود فى النار بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ونجد هنا الإباضية وافقوا أيضا سائر الخوارج فى الحكم على مرتكب الكبيرة بالخلود فى النار إذا مات قبل التوبة، بناء على اعتقاد إنفاذ الوعيد لا محالة.
... واستدلوا بسائر أدلة الخوارج على كفر مرتكب الكبيرة وخلوده فى النار، وأهل السنة لا يرون ذلك، بل يقولون: إذا مات المذنب قبل التوبة فأمره إلى الله وهو تحت المشيئة، ويقولون أيضاً: إن إخلاف الوعد مذموم وإخلاف الوعيد كرم وتجاوز.
... 13. وأما مسألة الإمامة والخلافة فقد ذكر بعض العلماء عن الإباضية فى مسألة الإمامة والخلافة، أن الإباضية يزعمون أنه قد يستغنى عن نصب الخليفة ولا تعود إليه حاجة إذا عرف كل واحد الحق الذى عليه للآخر، وهذا القول أكثر ما شهر عن المُحكِّمة والنجدات. وبالرجوع إلى كتب الإباضية نجد أنهم ينفون هذا القول عنهم ويعتبرونه من مزاعم خصومهم عنهم وأن مذهبهم هو القول بوجوب نصب حاكم للناس.
__________
(1) ... كتاب الأديان ص 53، غاية المراد ص 7.
(2) ... الإباضية عقيدة ومذهباً 116 – 117.
(3) ... متن النونية ص 18.(1/93)
... وموقفهم هذا يتفق مع مذهب أهل السنة في أنهم يرون وجوب نصب الحاكم حتى وإن كانوا جماعة قليلة، فلو كانوا ثلاثة فى سفر لوجب تأمير أحدهم، كما دلت على ذلك النصوص الثابتة، وأن من قال بالاستغناء عن نصب الحاكم فقد كابر عقله وكذب نفسه ورد عليه الواقع من حال البشر، وصار ما يقوله من نسج الخيال، وأدلته على الاستغناء مردودة واهية.
... والخوارج كافة ينظرون إلى الإمام نظرة صارمة هى إلى الريبة منه أقرب، ولهم شروط قاسية جداً قد لا تتوفر إلا فى القليل النادر من الرجال، وإذا صدر منه أقل ذنب فإما أن يعتدل ويعلن توبته وإلا فالسيف جزاؤه العاجل.
... وقد جوَّز الإباضية كأهل السنة صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا تمت للمفضول، خلافاً لسائر الخوارج(1) -كما سيأتي-.
... 14. وجوَّز الإباضية التقية خلافاً لأكثر الخوارج(2).
إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج(3):
... وتشمل المسائل الآتية:
... خاض الخوارج –كغيرهم من الفرق- فى مسائل اعتقادية إلا أن الخوارج بصفة خاصة لم تصل إلينا أكثر آرائهم من كتبهم، وإنما وصلت إلينا من كتب أهل السنة، وقد صح نقل أهل السنة وغيرهم من علماء الفرق الآخرين، وقد ذكرنا فيما مضى السبب فى قبولنا لتلك النقول عن الخوارج، وفيما يلى نذكر أهم المسائل التى كان للخوارج فيها دور بارز:
1. هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط؟
تعريف التأويل فى اللغة:
__________
(1) ... الإباضية بين الفرق الإٍسلامية ص 462.
(2) ... انظر: مسند الربيع بن حبيب 3/12.
(3) ... هذا الفصل منقول من كتاب فرق معاصرة – تأليف دكتور غالب بن على عواجى.(1/94)
... يطلق التأويل فى اللغة على عدة معانى، منها التفسير والمرجع والمصير والعاقبة، وتلك المعانى موجودة فى القرآن والسنة: قال الله تعالى: { هل ينظرون إلا تأويله } (1) وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى دعائه لابن عباس: (اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل)(2).
تعريفه فى الاصطلاح:
... عند السلف له معنيان:
... 1. يطلق بمعنى التفسير والبيان وإيضاح المعانى المقصودة من الكلام، فيقال: تأويل الآية كذا، أى معناها.
... 2. ويطلق بمعنى المآل والمرجع والعاقبة فيقال هذه الآية مضى تأويلها، وهذه لم يأت تأوليها.
... والفرق بينهما: أنه لا يلزم من معرفة التأويل بمعنى التفسير معرفة التأويل الذى هو بمعنى المصير والعاقبة، فقد يعرف معنى النص ولكن لا تعرف حقيقته كأسماء الله وصفاته فحقيقتها وكيفيتها كما هى غير معلومة لأحد بخلاف معانيها.
... 3. وعند الخلف من علماء الكلام والأصول والفقه هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح.
... وهذا التأويل مرفوض عند السلف واعتبروه تحريفاً باطلاً فى باب الصفات الإلهية(3)، وقد ظهر هذا المعنى للتأويل متأخراً عن عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة، بل ظهر مع ظهور الفرق ودخلوا منه إلى تحريف النصوص، وكانت له نتائج خطيرة، إذ كلما توغلوا فى تأويل المعانى وتحريفها بعدوا عن المعنى الحق الذى تهدف إليه النصوص، وبالنسبة لموقف الخوارج فإن العلماء اختلفوا فى الحكم على الخوارج بأنهم نصيون أو مؤولون.
... 1. فذهب بعضهم إلى أن الخوارج نصيون يجمدون على المعنى الظاهر من النص دون بحث عن معناه الذى يهدف إليه، وهذا رأى أحمد أمين(4) وأبى زهرة(5).
__________
(1) ... الأعراف: 53.
(2) ... أخرجه البخارى (143) فى الوضوء ومسلم (2477) فى فضائل الصحابة.
(3) ... كتحريفات الجهمية.
(4) ... ضحى الإسلام 3/334.
(5) ... تاريخ المذاهب الإسلامية 1/66.(1/95)
... 2. وذهب آخرون إلى أن الخوارج يؤولون النصوص تأويلاً يوافق أهواءهم، وقد غلطوا حين ظنوا أن تأويلهم هو ما تهدف إليه النصوص، وعلى هذا الرأى ابن عباس وشيخ الإسلام ابن تيمية(1) وابن القيم(2).
... 3. ومن العلماء من ذهب إلى القول بأن الخوارج ليسوا على رأى واحد فى هذه القضية، بل منهم نصيون ومنهم مؤولون، كما ذهب إلى هذا الأشعرى فى مقالاته(3).
... وهذا هو الراجح فيما يبدو من آراء الخوارج، ولا يقتصر الأمر على ما ذكره من اعتبار بعض الفرق نصيين وبعضهم مؤولين مجتهدين، وإنما يتردد أمر الخوارج بين هذين الموقفين داخل الفرقة الواحدة، والواقع أن لكل من المواقف الثلاثة ما يبرر حكمهم على الخوارج، كما يتضح ذلك جلياً فى مواقف الخوارج المختلفة.
... ويبدو لى أن التأويل الذى نفاه الأستاذ أحمد أمين والشيخ أبو زهرة رحمهما الله إنما هو التأويل الصحيح الذى يفهم صاحبه النص على ضوء مقاصد الشريعة.
... وأما التأويل الذى يثبته للخوارج أصحاب الاتجاه الثانى ويذمونهم به فهو حمل الكلام على غير محامله الصحيحة وتفسيره تفسيراً غير دقيق.
2. موقف الخوارج من صفات الله عز وجل:
... هذه المسألة لم أجد فيما تيسر لى الإطلاع عليه من كتب علماء الفرق بياناً لرأى الخوارج فيها بصفة عامة.
... وقد ذكر الشهرستانى عن فرقة الشيبانية قولاً لأبى خالد زياد بن عبد الرحمن الشيبانى فى صفة العلم لله أنه قال: (إن الله لم يعلم حتى خلق لنفسه علماً، وأن الأشياء إنما تصير معلومة له عند حدوثها)(4).
... وأما بالنسبة لفرقة الإباضية بخصوصهم – فقد تبين من أقوال علمائهم أنهم يقفون منها موقف النفى أو التأويل، بحجة الابتعاد عن اعتقاد المشبه فيها كما تقدم.
__________
(1) ... النبوات ص 89.
(2) ... النونية ص 85.
(3) ... مقالات الأشعرى 1/183.
(4) ... الملل والنحل 1/133.(1/96)
... وموضوع الصفات والبحث فيها يحتاج إلى دراسة مستقلة، وبالرجوع إلى أى كتاب من كتب السلف يتضح الحق فيها بكل يسر وسهولة.
... وأما بالنسبة لما ذكر عن رأى زياد بن عبد الرحمن أو الإباضية، فلاشك أنه لا يتفق مع المذهب الحق –مذهب السلف- ولو كان الأمر يخص زياد بن عبد الرحمن وحده لما كان له أدنى أهمية، ولكن الأمر أخطر من ذلك، فقد اعتقدت الجهمية ذلك أيضاً. وبطلان هذا القول ظاهر والتناقض فيه واضح.
... فإن صفات الله عز وجل قديمة بقدمه غير مخلوقة، وما يخلق الله من الموجودات فإنما يخلقه عن علم وإرادة، إذ يستحيل التوجه إلى الإيجاد مع الجهل، ثم كيف علم الله أنه بغير علم حتى يخلق لنفسه علماً؟ هذا تناقض ظاهر.
3. حكم مرتكبي الذنوب عند الخوارج:
... اختلف حكم الخوارج على أهل الذنوب بعد اتفاقهم بصفة عامة على القول بتكفيرهم كفر ملة. وحاصل الخلاف نوجزه فيما يلى:
... 1. الحكم بتكفير العصاة كفر ملة، وأنهم خارجون عن الإسلام ومخلدون فى النار مع سائر الكفار. وهذا رأى أكثرية الخوارج.
... وعلى هذا الرأى من فرق الخوارج: المحكِّمة والأزارقة والمكرمية والشبيبة من البيهسية واليزيدية والنجدات، إلا أنهم مختلفون فى سبب كفره:
... فعند المكرمية أن سبب كفره ليس لتركه الواجبات أو انتهاك المحرمات، وإنما لأجل جهله بحق الله إذ لم يقدره حق قدره.
... وأما النجدات فقد فصلوا القول بحسب حال المذنب، فإن كان مصراً فهو كافر، ولو كان إصراره على صغائر الذنوب، وإن كان غير مصر فهو مسلم، حتى وإن كانت تلك الذنوب من الكبائر، وهو تفصيل بمحض الهوى والأمانى الباطلة.(1/97)
... 2. أنهم كفار نعمة وليس كفار ملة: وعلى هذا المعتقد فرقة الإباضية كما تقدم. ومع هذا فإنهم يحكمون على صاحب المعصية بالنار إذا مات عليها، ويحكمون عليه فى الدنيا بأنه منافق، ويجعلون النفاق مرادفاً لكفر النعمة ويسمونه بمنزلة بين المنزلتين أى بين الشرك والإيمان وأن النفاق لا يكون إلا فى الأفعال لا فى الاعتقاد(1).
... وهذا قلب لحقيقة النفاق، إذ المعروف أن المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله كان نفاقهم فى الاعتقاد لا فى الأفعال، فإن أفعالهم كانت فى الظاهر كأفعال المؤمنين.
أدلتهم:
... تَلَمَّسَ الخوارج لما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب بعض الآيات والأحاديث، وتكلفوا فى رد معانيها إلى ما زعموه من تأييدها لمذاهبهم، وهى نصوص تقسم الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، قالوا: وليس وراء ذلك الحصر من شىء.
... ونأخذ من تلك الأدلة قوله تعالى:
{ هو الذى خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن } (2).
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (3).
{ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نُجازى إلا الكفور } (4).
... إلى غير ذلك من الآيات.
( ووجه استدلالهم بالآية الأولى:
... أن الله تعالى حصر الناس فى قسمين: قسم ممدوح وهم المؤمنون، وقسم مذموم وهم الكفار، والفساق ليسوا من المؤمنين، فإذًا هم كفار لكونهم مع القسم المذموم واستدلالهم هذا لا يسلم لهم، أن الناس ينحصرون فقط فى الإيمان أو الكفر.
__________
(1) ... نقلاً عن الإباضية بين الفرق الإسلامية عن كتاب المقالات فى القديم والحديث ص 315. وانظر: دراسات إسلامية فى الأصول الإباضية الأصل التاسع ص 60.
(2) ... التغابن: 2.
(3) ... المائدة: 44.
(4) ... سبأ: 17.(1/98)
... فهناك قسم ثالث وهم العصاة لم يذكروا هنا، وذكر فريقين لا يدل على نفى ما عداهما، والآية كذلك واردة على سبيل التبعيض بمن، أى بعضكم كافر وبعضكم مؤمن. وهذا لا شك فى وقوعه، ولم تدل الآية على مدعى الخوارج أن أهل الذنوب داخلون فى الكفر.
( وأما وجه استدلالهم بالآية الثانية:
... فقد زعموا أنها شاملة لكل أهل الذنوب، لأن كل مرتكب للذنب لابد وأنه قد حكم بغير ما أنزل الله. وقد شملت الفساق، لأن الذى لم يحكم بما أنزل الله يجب أن يكون كافراً، والفاسق لم يحكم بما أنزل الله حين فعل الذنب.
... وهذا الاستدلال مردود كذلك، لأن الآية قد تكون واردة على من استحل الحكم بغير ما أنزل الله، أما أن يدعى الشخص إيمانه بالله ويعترف بأن الحق هو حكم الله فليس بكافر، وإنما هو من أصحاب المعاصى حتى تقام عليه الحجة(1).
( وأما وجه استدلالهم بالآية الثالثة:
... فهو أن صاحب الكبيرة لابد وأن يجازى –على مذهبهم- وقد أخبر الله فى القرآن الكريم أنه لا يجازى إلا الكفور، والفاسق ثبتت مجازاته عندهم فيكون كافراً.
... وهذا الدليل مردود عليهم، وينقضه أن الله يجازى الأنبياء والمؤمنين وهم ليسوا كفاراً، وبأن الآية كانت تعقيبا لبيان ذلك العقاب الذى حل بأهل سبأ، وهو عقاب الاستئصال، وهذا ثابت للكفار لا لأصحاب المعاصى(2).
... وأما ما استدلوا به من السنة على بدعتهم فى تكفير العصاة من المسلمين فقد أساءوا فهم الأحاديث وحملوها المعانى التى يريدونها، ومن تلك الأحاديث ما جاء عن أبى هريرة رضى الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
__________
(1) ... انظر: تفسير الفخر الرازى لهذه الآيات من سبأ. وانظر: تفسير الطبرى 6/252، فتح القدير 2/45.
(2) ... انظر : تفسير الفخر الرازى لهذه الآيات من سبأ. وانظر : تفسير الطبرى 6/252، فتح القدير 2/45.(1/99)
... (لا يزنى الزانى حين يزنى وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن)(1).
... ولهم أدلة أخرى نكتفى منها بهذا الحديث.
... فقد فهموا من هذا الحديث نفى الإيمان بالكلية عن من فعل شيئاً مما ذكر فى الحديث، وهذا لا حجة لهم فيه، فإن الحديث –كما يذكر العلماء- إما أن يكون وارداً فيمن فعل شيئاً مما ذكر مستحلاً لتلك الذنوب، أو أن المراد به نفى كمال الإيمان عنهم، أو أن نفى الإيمان عنهم مقيد بحال مواقعتهم لتلك الذنوب.
... ولو كانت تلك الكبائر تخرج الشخص عن الإيمان لما اكتفى بإقامة الحد فيها، ولهذا فقد ذكر بعض العلماء أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاء، ولا يخاض فى معناها.
... وقال الزهرى فى مثل هذه الأحاديث: "أَمِرُّوها كما أَمَرَّهَا مَنْ قبلكم"(2).
... وقد جاء فى حديث أبى ذر رضى الله عنه أنه قال: (ما من عبد قال: لا إله إلا اله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة) قلت: وإن زنى وإن سرق ثلاثاً، ثم قال فى الرابعة: على رغم أنف أبى ذر، قال: "فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبى ذر"(3).
... والكلام فى أهل الكبائر مبسوط فى موضعه من كتب التوحيد وكتب الفرق، والمقصود هنا هو التنبيه على خطأ الخوارج فيما ذهبوا إليه من تكفير أهل الذنوب من المسلمين، مخالفين ما تضافرت النصوص عليه من عدم كفر مرتكبى الذنوب كفر ملة إلا بتفصيلات مقررة فى مذهب السلف.
4. الإمامة العظمى:
__________
(1) ... أخرجه البخارى 8/13، ومسلم 1/54.
(2) ... انظر: شرح النووى لصحيح مسلم 2/41 – 42.
(3) ... أخرجه مسلم 1/66.(1/100)
... هذه هى مشكلة الخوارج الكبرى منذ نشأوا، وطوال عهد الدولة الأموية وزمن متقدم من عهد الدولة العباسية، شغلتهم قضية الإمامة عملياً، فجردوا السيوف ضد الحكام المخالفين لهم، ناقمين عليهم سياستهم فى الرعية من عدم تمكينهم من اختيار إمامهم بأنفسهم، ثم سياستهم الداخلية فى الناس، وشغلتهم فكرياً بتحديد شخصية الإمام وخصائصه ودوره فى المجتمع، وكانوا يظهروا بمظهر الزاهد عن تولى الخلافة حينما يكون الأمر فيما بينهم وحرباً لا هوادة فيها ضد المخالفين لهم.
( حكم الإمامة عند الخوارج:
... الإمامة منصب خطير وضرورة اجتماعية، إذ لا يمكن أن ينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة إلا بحاكم يكون هو المرجع الأخير لحل الخلافات وحماية الأمة، وقد أطبق على هذا جميع العقلاء.
... أما بالنسبة للخوارج فقد انقسموا فيها إلى فريقين:
... الفريق الأول: وهم عامة الخوارج. وهؤلاء يوجبون نصب الإمام والانضواء تحت رايته والقتال معه ما دام على الطريق الأمثل الذى ارتأوه له.
... الفريق الثانى: وهم المحكِّمة والنجدات والإباضية فيما قيل عنهم. وهؤلاء يرون أنه قد يستغنى عن الإمام إذا تناصف الناس فيما بينهم، وإذا احتيج فمن أى جنس كان مادام كفئاً لتولى الإمامة(1).
( ومن مبرراتهم:
استنادهم إلى المبدأ القائل: لا حكم إلا لله، والمعنى الحرفى لهذا المبدأ يشير صراحة إلى أنه لا ضرورة لوجود الحكومة مطلقاً.
أن الحكم ليس من اختصاص البشر بل تهيمن عليه قوة علوية.
إن الضرورى هو تطبيق أحكام الشريعة، فإذا تمكن الناس من تطبيقها بأنفسهم فلا حاجة إلى نصب خليفة.
ربما ينحصر وجود الإمام فى بطانة قليلة وينعزل عن الأغلبية فيكون بعيداً عن تفهم مشاكل المسلمين فلا يبقى لوجوده فائدة.
أن النبى - صلى الله عليه وسلم - لم يشر صراحة ولا وضع شروطاً لوجود الخلفاء من بعده.
__________
(1) ... مقالات الأشعرى 1/205، مروج الذهب 3/236.(1/101)
أن كتاب الله لم يبين حتمية وجود إمام، وإنما أبان وأمرهم شورى بينهم(1).
... هذه مبرراتهم، فهل بقى القائلون بالاستغناء عن نصب الإمام على مبدأهم؟ والجواب بالنفى، فإن المحكِّمة حينما انفصلوا ولوا عليهم عبد الله بن وهب الراسبى، والنجدات حينما انفصلوا تزعمهم نجدة بن عامر، وأما ما قيل عن الإباضية من أنهم يقولون بالاستغناء عن نصب الإمام(2) فإن مصادرهم التى تيسر لى قراءتها تذكر أن هذا القول إنما نسبه إليهم خصومهم، بقصد الإشاعة الباطلة عنهم(3).
... وأما تلك المبررات التى نسبت إلى من ذكرناهم فلا شك أنها مبررات واهية ولا تكفى للقول بالاستغناء عن نصب الخليفة، أما القول بعدم وجود الإنسان الكامل، فإنه لا يمنع من نصب الإمام حيث يختار أفضل الموجودين.
... ومن التصور الساذج القول بتناصف الناس فيما بينهم. وأما انعزال الإمام فإن مدار الأمر على التزامه بواجباته الشرعية وعدم إيجاد الحجب بينه وبين رعيته، وذلك مناط الحكم بضرورة وجود الإمام شرعاً وعقلاً.
... وقد ذهبت الخلفية من الخوارج الإباضية إلى أن كل إقليم أو حوزة يستقل بها إمامها، فلا يجوز لإمام أن يجمع بين حوزتين(4) ويكون لهذه المناطق أئمة بعدد تلك المناطق وهذا باطل ولا يتفق مع روح الإسلام وأهدافه، لأن ذلك يؤدى إلى المشاحنات والعداوة وتفريق كلمة المسلمين، وحينما قرروا أن كل إقليم ينبغى أن يكون مستقلاً عن الآخر لا يخضع إقليم ولا منطقة لمنطقة أخرى – تجاهلوا دعوة المسلمين إلى الاتحاد الذى يكمن فيه عزهم وقوتهم.
( شروط الإمام:
... وضع الخوارج شروطاً قاسية لمن يتولى الإمامة ومنها:
__________
(1) ... أراء الخوارج للطالبى ص 125، عمان تاريخ يتكلم ص 123.
(2) ... كما يذكر لوريمر فى كتابه دليل الخليج 6/3303.
(3) ... الإباضية بين الفرق الإسلامية ص 290.
(4) ... نقلاً عن أراء الخوارج ص 128. لكن عموم الإباضية لا تجيز هذا حسب ما جاء فى مدارج الكمال ص 172.(1/102)
أن يكون شديد التمسك بالعقيدة الإسلامية، مخلصاً فى عبادته وتقواه حسب مفهومهم.
أن يكون قوياً فى نفسه ذا عزم نافذ وتفكير ناضج وشجاعة وحزم.
أن لا يكون فيه ما يُخلُّ بإيمانه من حب المعاصى واللهو.
أن لا يكون قد حُدَّ فى كبيرة حتى ولو تاب.
أن يتم انتخابه برضى الجميع، لا يغنى بعضهم عن بعض.
... ولا عبرة بالنسب أو الجنس كما يقولونه ظاهراً دعاية لمذهبهم وفى باطنهم يملأهم التعصب، وكون الإمام ينتخب برضى أهل الحل والعقد، وهذا مبدأ إسلامى لم يأت به الخوارج، كما يقول بعض المستشرقين دعاية للخوارج.
... ولم يلتفت الخوارج إلى ما صح من الأحاديث فى اشتراط القرشية لتولى الخلافة وتقديم قريش فيها عند صلاحية أحدهم لها.
... لم يشترط الشرع فى الإمام أن يكون ليله قائماً ونهاره صائماً، أو أنه لا يلم بأى معصية، أو أن يكون انتخابه برضى كل المسلمين من أقصاهم إلى أدناهم، لا يغنى بعضهم عن بعض فى مبايعتهم له كما يزعمه الخوارج(1).
( محاسبة الإمام والخروج عليه:
... يعيش الإمام عند الخوارج بين فكى الأسد –عكس الشيعة- فالخوارج ينظرون إلى الإمام على أنه المثل الأعلى وينبغى أن يتصف بذلك قولاً وفعلاً، وبمجرد أقل خطأ ينبغى عليهم القيام فى وجهه ومحاسبته، فإما أن يعتدل وإما أن يعتزل.
__________
(1) ... مدارج الكمال للسالمى ص 171، تاريخ المذاهب الإسلامية ص 1/71. التفكير الفلسفى 1/191 للدكتور عبد الحليم محمود، أراء الخوارج ص 121، عمان تاريخ بتكلم ص 126.(1/103)
... ومن غرائبهم ما يروى عن فرقة البيهسية منهم والعوفية، فقد اعتبر هؤلاء كفر الإمام سبباً فى كفر رعيته، فإذا تركه رعيته دون إنكار فإنهم يكفرون أيضاً(1)، ولا شك أن هذا جهل بالشريعة الإسلامية، وعلى هذا فما تراه من كثرة حروبهم وخروجهم على أئمتهم أو أئمة مخالفيهم يعتبر أمراً طبيعياً إزاء هذه الأحكام الخاطئة.
... وقد حث الإسلام على طاعة أولى الأمر والاجتماع تحت رايتهم إلا أن يظهروا كفراً بواحاً، فلا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق، وينبغى معالجة ذلك بأخف الضرر، ولا يجوز الخروج عليهم ماداموا ملتزمين بالشريعة بأى حال.
( إمامة المفضول:
... اختلف الخوارج فى صحة إمامة المفضول مع وجود الفاضل إلى فريقين:
ذهب فريق منهم إلى عدم الجواز، وأن إمامة المفضول تكون غير صحيحة مع وجود الأفضل.
وذهب الفريق الآخر منهم إلى صحة ذلك، وأنه تنعقد الإمامة للمفضول مع وجود الأفضل، كما هو الصحيح(2).
( إمامة المرأة:
... الإمامة مسئولية عظمى وعبء ثقيل يتطلب سعة الفكر وقوة البصيرة، ويتطلب مزايا عديدة جعل الله معظمها فى الرجال دون النساء، ولا أدل على هذا من اختيار الله عز وجل لتبليغ رسالته من جنس الرجال، وقد أطبق جميع أهل الحق على أن الخلافة لا يصلح لها النساء.
... ولكنا نجد فرقة من فرق الخوارج وهى الشبيبية تذهب إلى جواز تولى المرأة الإمامة العظمى، مستدلين بفعل شبيب حينما تولت غزالة –زوجته وقيل أمه- بعده(3).
( موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم:
... انقسم الخوارج فى نظرتهم إلى المخالفين لهم إلى فريقين:
فريق منهم غلاة.
وفريق آخر أبدى نوعاً من الاعتدال.
__________
(1) ... مقالات الأشعرى 1/194، الطرماح بن حكيم ص 55، الملل والنحل 1/126، الفرق بين الفرق 1 109، التنبيه والرد للمطلى ص 169.
(2) ... الفصل لابن حزم 4/163، الإباضية بين الفرق الإسلامية ص 462، أراء الخوارج لعمار الطالبى 128.
(3) ... الفرق بين الفِرَق ص 110.(1/104)
... ويذكر الأشعرى رحمه الله فى مقالاته أن الخوارج مجموعون على أن مخالفيهم يستحقون السيف، ودماؤهم حلال، إلا فرقة الإباضية فإنها لا ترى ذلك إلا مع السلطان(1).
... واختلف علماء الفرق فى أول من حكم بكفر المخالفين هل هم المحكِّمة الأولى أم هم الأزارقة ومن سار على طريقتهم من فرق الخوارج فيما بعد.
... وبتتبع حركة المحكِّمة الأولى نجد أنهم سبقوا إلى تكفير المخالفين لهم واستحلال دمائهم، والشواهد فى كتب الفرق كثيرة كقتلهم عبد الله بن خباب ابن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيره فى حوادث كثيرة، إلا أن أشد من بالغ فى تكفير المخالفين لهم وأعمل فيهم السيف هم الأزارقة وفرقة منهم تسمى البيهسية، وكذلك أتباع حمزة بن أكرك.
... أما المعتدلون منهم- وهو اعتدال لا يكاد يذكر - فنجد مثلاً الأخنسية منهم يحرمون الغدر بالمخالفين أو قتلهم قبل الدعوة، وجوزوا تزويج المسلمات منهم لمخالفيهم الذين يعتبرونهم مشركين، وكذلك بعض البيهسية.
... ومن أكثر المعتدلين والمتسامحين مع المخالفين هو تلك الشخصية المرموقة عند كافة الخوارج أبو بلال مرداس بن أدية، فقد خرج وهو يقول لمن يلقاه: إنا لا نخيف آمناً ولا نجرد سيفاً، وكان مما أثاره للخروج على الدولة أن زياداً ذات يوم خطب على المنبر وكان مرداس يسمعه فكان من قوله: "والله لآخذن المحسن منكم بالمسىء، والحاضر منكم بالغائب والصحيح بالسقيم.
... وهذا بالطبع لا يحتمله الخوارج فقام إليه مرداس فقال: قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان وما هكذا ذكر الله عز وجل عن نبيه إبراهيم عليه السلام، إذ يقول: { وإبراهيم الذى وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى } (2) وأنت تزعم أنك تأخذ المطيع بالعاصى، ثم خرج عقب هذا اليوم.
... وينبغى أن يعلم أن كل فرقة لابد فيها من غلاة يخرجون على جمهورهم، إلا أن السمة الغالبة على الخوارج الشدة على المخالفين لهم.
__________
(1) ... المقالات 1/204.
(2) ... النجم: 37، 38.(1/105)
... وقد تعود هذه الشدة، إلى ما يراه الخوارج من وجهة نظرهم من خروج مخالفيهم عن النهج الإسلامى وبعدهم عنه، وبالتالى الرغبة فى إرجاع الأمة إلى ما كانت عليه فى أيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأيام أبى بكر وعمر رضى الله عنهما كما يدعى الخوارج.
( حكم الخوارج فى أطفال مخالفيهم:
... لابد وأن يكون فى حكم العقل تمييز بين معاملة الصغير الذى لم يبلغ سن التكليف وبين الكبير المكلف. والخوارج لم يتفقوا على حكم واحد فى الأطفال، سواء كان ذلك فى الدنيا أو فى الآخرة، ونوجز أهم آرائهم فى هذه القضية فيما يلى:
منهم من اعتبرهم فى حكم آبائهم المخالفين فاستباح قتلهم باعتبار أنهم مشركون لا عصمة لدمائهم ولا لدماء آبائهم.
ومنهم من جعلهم من أهل الجنة ولم يجوز قتلهم.
واعتبرهم بعضهم خدماً لأهل الجنة.
ومنهم من توقف فيهم إلى أن يبلغوا سن التكليف ويتبين حالهم.
والإباضية تولوا أطفال المسلمين وتوقفوا فى أطفال المشركين، ومنهم من يلحق أطفال المشركين بأطفال المؤمنين.
... أما القول الأول: فهو للأزارقة، واستدلوا بقول الله تعالى: { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا } (1). وتبعهم فى هذا بعض فرق الخوارج كالعجاردة والحمزية والخلفية.
... وأما القول الثانى: فهو للنجدات والصفرية والميمونية، واستدلوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(2)، والذين توقفوا فى الحكم عليهم قالوا: لم نجد فى الأطفال ما يوجب ولا يتهم ولا عداوتهم إلى أن يبلغوا فيدعوا إلى الإسلام فيقروا به أو ينكروه.
... هذه خلاصة أهم آراء الخوارج فى هذه القضية، والواقع أن هذه المسألة من المسائل الخلافية بين العلماء.
__________
(1) ... نوح: 27.
(2) ... انظر: كتاب الأديان 104.(1/106)
... فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن أطفال المؤمنين إذا ماتوا على الإيمان فإن الله تعالى يدخلهم الجنة مع آبائهم وإن نقصت أعمالهم عنهم لتقر أعين آبائهم بهم، فيكونون مع آبائهم فى الجنة، تفضلا من الله تعالى، على ضوء قوله عز وجل: { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } (1).
... ونقل ابن القيم عن الإمام أحمد أنه قال بأنهم فى الجنة دون خلاف.
... وبعضهم ذهب إلى أنهم تحت المشيئة.
... وجدير بالذكر أن أطفال المؤمنين الذين نتحدث عنهم هنا هم الذين يعتبرهم الخوارج أطفال مشركين.
... وأما أطفال المشركين الذين هم عبده الأوثان ومن فى حكمهم فإن العلماء اختلفوا فيهم اختلافاً كثيراً.
فذهب بعضهم إلى التوقف فلا يحكم لهم بجنة ولا نار وأمرهم إلى الله.
أنهم فى النار.
أنهم فى الجنة.
أنهم فى منزلة بين المنزلتين، أى الجنة والنار.
أن حكمهم حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة، تبعاً لآبائهم حتى ولو أسلم الأبوان بعد موت أطفالهم لم يحكم لأطفالهما بالنار.
أنهم يمتحنون فى عرصات القيامة بطاعة رسول يرسله الله إليهم، فمن أطاعه منهم دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
... وقد استعرض ابن القيم أدلة القائلين بهذه الآراء وانتهى إلى نصرة الرأى الأخير ثم قال: "وبهذا يتألف شمل الأدلة كلها وتتوافق الأحاديث ويكون معلوم الله الذى أحال عليه النبى - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: "الله أعلم بما كانوا عاملين)".
... وأيَّد ابن حزم القول بأن أطفال المشركين فى الجنة، وكذا النووى، وقد توقف شيخ الإسلام فى الحكم عليهم.
__________
(1) ... الطور: 21، وانظر: تفسير ابن كثير 4/241.(1/107)
... وأما استباحة قتل النساء والذرية –كما يرى الخوارج- فقد أخطأوا حين جوزوا ذلك سواء كانوا من المسلمين أو من المشركين، فقد صحت الأحاديث بالمنع من قتلهم، إلا أن يكون ذلك فى بيات لا يتميز فيه الأطفال والنساء فلا بأس من قتلهم إذا وقع دون عمد(1).
الخوارج فى الميزان(2)
... وهذا الباب يتعلق بما لهم وما عليهم فى نقاط يسيرة.
الغلو فى الدين:
... مما لا شك فيه أن الخوارج أهل طاعة وعبادة، فقد كانوا حريصين كل الحرص على التمسك بأهداب الدين وتطبيق أحكامه كاملة، والابتعاد الشديد عن جميع ما نهى عنه الإسلام، وكذلك التحرز التام عن الوقوع فى أى معصية أو خطيئة تخالف الإسلام، حتى أصبح ذلك سمة بارزة فى هذه الطائفة، لا يدانيهم فى ذلك أحد، ولا أدل على ذلك من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء)(3) الحديث.
... وقال عبد الله بن عباس –رضى الله عنهما- يصفهم حينما دخل عليهم لمناظرتهم: "دخلت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهاداً، جباههم قرحة من السجود وأياديهم كأنها ثفن(4) الإبل، وعليهم قمص مرحضة(5) مشمرين، مسهمة وجوههم من السهر"(6).
__________
(1) ... انظر: التفسير القيم ص 451، فتح القدير 5/98، جامع البيان 27/25، طريق الهجرتين 387، الفصل لابن حزم 4/74.
(2) ... انظر كتاب الخوارج – دراسة ونقد لمذهبهم – إعداد ناصر بن عبد الله ***.
(3) ... رواه مسلم: صحيح مسلم بشرح النووى 7/171 كتاب الزكاة باب التحريض على قتل الخوارج – أبو داود 4/244 كتاب السنة، مسند الإمام أحمد – 1/92.
(4) ... الثفن جمع ثفنة: ركبة البعير وغيرها مما يحصل فيه غلظ من أثر البروك.
(5) ... قال ابن الأثير: رحمه الله – (وعليهم قمص مرحضة: أى مغسولة) النهاية فى غريب الحديث والأثر (2/208).
(6) ... تلبيس إبليس – ص 91.(1/108)
... وعن جندب الأزدى: قال: "لما عدلنا إلى الخوارج ونحن مع على ابن أبى طالب كرم الله وجهه فانتهينا إلى معسكرهم، فإذا لهم دوى كدوى النحل من قراءة القرآن"(1).
... هذا حال الخوارج: فقد كانوا أهل صوم وصلاة وتلاوة للقرآن، لكنهم تجاوزوا حد الاعتدال إلى درجة الغلو والتشدد(2) حيث قادهم هذا التشدد إلى مخالفة قواعد الإسلام بما تمليه عليهم عقولهم، كالقول بتكفير صاحب الكبيرة(3) مثلاً وقد مر معنا بيان ذلك.
... ومنهم من بالغ فى ذلك حتى على كل من ارتكب ذنباً من الذنوب ولو كان صغيراً فإنه كافر مشرك مخلد فى النار(4) وكذلك أيضا ما سبق بيانه من رأيهم فى الخروج على الأئمة حيث رأوا الخروج على الإمام ولو لأتفه الأسباب ورأوا أن ذلك من إقامة الدين(5).
... كان من نتيجة هذا التشدد الذى خرج بهم عن حدود الدين وأهدافه السامية، أن كفروا كل من لم ير رأيهم من المسلمين ورموهم بالكفر أو النفاق، حتى أنهم استباحوا دماء مخالفيهم(6) ومنهم من استباح قتل النساء والأطفال من مخالفيه كالأزارقة مثلاً(7).
__________
(1) ... تلبيس إبليس – ص 93.
(2) ... انظر الخوارج فى الإسلام – عمر أبو النصر – ص 43. ...
(3) ... انظر نوادر الأصول – محمد الحكيم الترمذى ص 54.
(4) ... انظر الفصل – ابن حزم 4/191، وانظر الخوارج فى الإسلام – عمر أبو النصر – ص 44.
(5) ... انظر تلبيس إبليس – ابن الجوزى – ص 95.
(6) ... انظر الشريعة الآجرى: ص 22.
(7) انظر تلبيس إبليس –ابن الجوزى- ص 95.(1/109)
... لا شك أن الخوارج بما اتصفوا به من الجهل والتشدد والجفاء قد شوهوا محاسن الدين الإسلامى تشويهاً غريباً، وهم فى تعمقهم قد سلكوا طريقاً ما قال به محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا دعا إليه القرآن، ولذلك حذر النبى - صلى الله عليه وسلم - عن التعمق والتشدد فى الدين لأنه مخالفة للاعتدال وسماحة الإسلام وأخبر أن المتنطع مستحق للهلاك والخسران، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً(1).
... بهذا يتبين لنا شذوذ الخوارج، وكذلك من سار على منهجهم المبنى على التعسف والتشدد المخالف لسماحة الإسلام ويسره، فإن الإسلام دين اليسر والسماحة، ويبين هذا قوله عليه الصلاة والسلام فى الحديث الصحيح الذى يرويه أبو هريرة رضى الله عنه أنه قال: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا)(2) الحديث.
__________
(1) ... رواه مسلم/ النووى شرح صحيح مسلم 16/220 – كتاب العلم باب هلك المتنطعون، ورواه أبو داود: سنن أبى داود 4/281 كتاب السنة – باب لزوم السنة، ورواه أحمد – المسند 1/386.
(2) ... رواه البخارى – فتح البارى 1/93 كتاب الإيمان – باب الدين يسر، ورواه أحمد: المسند 5/69.(1/110)
... إن الجهل بالدين بلية عظمى، وهو صفة ذم لا صفة مدح، والجهل ضد العلم وأشد درجات الجهل هبوطاً إذا كان الجاهل لا يعلم أنه جاهل، فهذا هو الجهل المركب، فكيف إذا اعتقد الجاهل أنه أعلم من غيره، فلا شك أن هذا هو منتهى الجهل والحماقة، فإذا كان الأمر كذلك فكيف بمن يقف أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقول له: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل) والذى قال هذا هو أصل الخوارج وهو: (ذو الخويصرة التميمى) فمن أين كان يريد العدل وقد نسب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الجور؟ ومن الذى يعدل إذا لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعدل؟ وماذا يرجى لهذه الأمة من الخير إذا لم يكن نبيها يعدل؟ وهذا هو ما أجاب به رسول اله - صلى الله عليه وسلم - ذا الخويصرة حينما قال مقالته، فقال النبى - صلى الله عليه وسلم -: (ويلك ومن يعدل إن لم أكن أعدل لقد خبتُ وخسرتُ إذا لم أكن أعدل)(1) وقد رُوِيَت (خبتَ وخسرتَ) بفتح التاء ورُوِيَت بضمها.
... فعلى رواية فتح التاء نسبة الخيبة والخسارة إلى المخاطب ويشمل بقية الأمة إذا لم يكن نبيها يعدل، وبضمها تكون نسبة الخيبة والخسارة إلى المتكلم نفسه وهو النبى -- صلى الله عليه وسلم -- لأنه والحالة هذه جائر وحاشاه عن ذلك.
... ومن جهالاتهم الشنيعة موقفهم من أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب –رضى الله عنه- إذ طلبوا منه أن يقر على نفسه بالكفر ثم يستقبل التوبة(2) فهل يليق بمسلم قد آمن بالله ودخل فى الإسلام طائعا مختارًا لم يخالط إيمانه شك ولا ريب أن يعترف بالكفر عند أمر لا يستوجبه.
__________
(1) ... قد تقدم ذكر هذا الحديث انظر: ص 72.
(2) ... انظر تلبيس إبليس – ابن الجوزى- ص 93 وانظر فتح البارى 12/284.(1/111)
... ومن جهالاتهم الشنيعة أيضا، أنهم وجدوا عبد الله بن خباب –رضى الله عنه- ومعه أم ولد له حبلى(1) فناقشوه فى أمور، ثم سألوه رأيه فى عثمان وعليّ –رضى الله عنهما- فأثنى عليهما خيرا، فنقموا عليه، وتوعدوه بأن يقتلوه شر قتلة فقتلوه وبقروا بطن المرأة(2).
... ومر بهم خنزير لأهل الذمة فقتله أحدهم، فتحرجوا من ذلك وبحثوا عن صاحب الخنزير وأرضوه فى خنزيره.
... فيا للعجب! أتكون الخنازير، أشد حرمة من المسلمين عند أحد يدعى الإسلام(3) !! لكنها عبادة الجهال، التى أملاها عليهم الهوى والشيطان، نسأل الله السلامة والعافية.
... قال ابن حجر –رحمه الله-: "إن الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذمة فقالوا نفى لهم بعهدهم وتركوا قتال المشركين، واشتغلوا بقتال المسلمين، وهذا كله من آثار عبادة الجهال الذين لم تنشرح صدورهم بنور العلم ولم يتمسكوا بحبل وثيق منه، وكفى أن رأسهم رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره ونسبه إلى الجور، نسأل الله السلامة"(4).
... وبهذا يتبين لنا أن الجهل كان من الصفات البارزة فى تلك الطائفة التى هى إحدى الطوائف المنتسبة إلى الإسلام، فالجهل مرض عضال يُهلك صاحبه من حيث لا يشعر، بل قد يريد الخير فيقع فى ضده(5) كما قال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } (6).
شق عصا الطاعة واستباحة دماء المسلمين وأموالهم:
__________
(1) ... انظر: تلبيس – إبليس – ابن الجوزى – ص 93.
(2) ... انظر: تاريخ الطبرى 5/82، وانظر فتح البارى: شرح صحيح البخارى 12/283 و297 وانظر: الفرق بين الفرق – البغدادى ص 57.
(3) ... انظر: فتح البارى – شرح صحيح البخارى 12/285.
(4) ... فتح البارى شرح صحيح البخارى 12/301.
(5) ... انظر نوادر الأصول – محمد الحكيم الترمذى – ص 54.
(6) ... الكهف: 103، 104.(1/112)
... لما فارق الخوارج جماعة المسلمين تميزوا بآراء خاصة فارقوا بها جماعة المسلمين، ورأوها من الدين الذى لا يقبل الله غيره، ومن خالفهم فيها فقد خرج من الدين فى زعمهم فأوجبوا البراءة منه. بل إن منهم من غلا فى ذلك، فأوجبوا قتال من خالفهم واستحلوا دماءهم(1).
... قال ابن تيمية –رحمه الله-: "وظهرت الخوارج بمفارقة أهل الجماعة واستحلال دمائهم وأموالهم"(2).
... فمن ذلك أنهم قتلوا عبد الله بن خباب بغير سبب غير أنه لم يوافقهم على رأيهم(3).
... وقال ابن كثير –رحمه الله-: "فجعلوا يقتلون النساء والولدان، ويبقرون بطون الحبالى، ويفعلون أفعالا لم يفعلها غيرهم"(4).
... هذا موقفهم من عامة المسلمين. وأما موقفهم من الولاة، فقد شقوا عصا الطاعة وسعوا فى تفريق كلمة المسلمين يوضح هذا مواقفهم مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب –رضى الله عنه- حيث تخلوا عنه وخالفوه فى أحرج المواقف، وعصوا أمره، وليت الأمر اقتصر على ذلك، بل طالبوه بوقف القتال بعدما شارف جيشه على الانتصار على أهل الشام، بل إنهم ربما هددوه بالقتل إذا لم يوقف القتال، فبعث إلى قائده يأمره بوقف القتال(5).
صلابتهم وحماستهم لمبدئهم:
... لقد امتازت الخوارج بصفات طيبة وخصال حميدة، غير أنها لم تكتف فى تلك الصفات عند الحد المعقول، بل تجاوزته إلى درجة التهور، ومجاوزة الحد توقع فى الضد.
__________
(1) ... انظر منهاج السنة النبوية – ابن تيمية 3/62.
(2) ... كتاب النبوات – ابن تيمية ص 129، وانظر المغنى – ابن قدامة 3/105.
(3) ... انظر الفرق بين الفرق –البغدادى- ص 57.
(4) ... البداية والنهاية 3/294.
(5) ... انظر البداية والنهاية 4/247، وانظر مقالات الإسلاميين – الأشعرى 1/13.(1/113)
... فمن تلك الصفات، حماستهم لمبدئهم وتعصبهم لعقيدتهم فقد كانوا من أخلص الناس لعقيدتهم، ومن أبسل الناس فى الدفاع عنها(1)، غير أن ذلك الإخلاص كان يصاحبه الانحياز لناحية معينة فلم يسلم من التعصب ولا من التعمق، ولذلك كانت هذه الفرقة من أشد الفرق دفاعا عن مذهبها، وحماسة لآرائها(2)، مما جعلهم يندفعون وراء فكرتهم غير مبالين بما ينالهم فى سبيلها(3)، من قتال أو طرد أو اضطهاد، ولذلك صار الخوارج رجالاً ونساء مثلا فى الشجاعة والجرأة، والمتتبع لتاريخهم يجد ألوانا من البطولة والتضحيات فقد كانت الفئة القليلة منهم تتصدى للجيوش العظيمة فلا ينالون منها إلا بعد عناء وزحوف ومعارك كثيرة دامية(4).
... وهذا كله نابع من اعتقادهم أن مذهبهم هو الحق الذى لا يجوز غيره، ولا يقبل الله دينًا سواه، ومن أخل بشىء من تعاليمه، فلا حظ له من الدين. الأمر الذى جعل من المستحيل أن يلتقوا مع أحد من المسلمين فى فكرة أو رأى، ولذا كان قبول الأعذار من مخالفيهم شيئاً غريبا عن منهجهم وطبعهم(5).
... ولهذا كانوا يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان(6) كما أخبر بذلك النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الحديث الآتى قريبا إن شاء الله.
حكمهم فى نظر علماء الإسلام:
__________
(1) ... انظر الخوارج فى الإسلام –عمر أبو النصر- ص 46.
(2) ... انظر المذاهب الإسلامية –محمد أبو زهرة- ص 98.
(3) ... انظر دراسات فى الفلسفة الإسلامية – عبد اللطيف محمد العبد ص 154.
(4) ... انظر الخوارج فى الإسلام – عمر أبو النصر ص 89، وانظر – فتح البارى 12/291.
(5) ... انظر دراسات فى الفلسفة الإسلامية – عبد اللطيف محمد العبد ص 154 وانظر تلبيس إبليس – ابن الجوزى – ص 95، وانظر منهاج السنة النبوية – ابن تيمية 3/60-61.
(6) ... انظر كتاب النبوات – ابن تيمية ص 131.(1/114)
... عرفنا فيما تقدم من هذا البحث شيئاً من صفات الخوارج وشيئا مما يمكن أن يقال عنهم من مدح أو ذم، ومن ذلك أنهم كانوا أهل عبادة، نعم، فقد كانوا مداومين على الصلاة والصيام وقراءة القرآن، وقد شهد لهم النبى - صلى الله عليه وسلم - بذلك حيث قال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وعملكم مع عملهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)(1) الحديث.
... وشهد لهم التاريخ بذلك، فمن قرأ تاريخهم وسيرهم عرف ذلك عنهم، ولكنهم مع هذا كله يحملون قلوبا عميًا وآذانا صمًا، ونفوسًا شريرة، أبعدتهم عن الحق وصدتهم عن الهدى حتى أصبحوا فى معزل عن الإيمان وأهله، وظنوا أن ما معهم هو الحق، وتأولوا القرآن على ما تمليه عليهم نفوسهم(2) حتى عمدوا إلى آيات نزلت فى الكفار فجعلوها فى المؤمنين.
... ولذلك (كان ابن عمر –رضى الله عنهما- يراهم شرار خلق الله، وقال: (إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت فى الكفار فجعلوها فى المؤمنين)(3).
... لهذا حذرنا منهم النبى - صلى الله عليه وسلم - وإن ظهر منهم ما ظهر من العبادة، كما حذرنا منهم صحابته –رضوان الله عليهم- بل حذرنا الله سبحانه وتعالى فى كتابه العزيز ممن تكون فيه تلك الصفات(4): فقال تعالى: { قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم فى الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً } (5).
__________
(1) ... متفق عليه – انظر فتح البارى 9/99 وقد سبق ذكره.
(2) ... انظر كتاب الشريعة – محمد بن الحسين الآجرى – ص 21.
(3) ... فتح البارى – شرح صحيح البخارى 12/282.
(4) ... انظر كتاب الشريعة – محمد بن الحسين الآجرى – ص 21.
(5) ... الكهف: 103، 104.(1/115)
... ولهذا اتفقت الأمة قديما وحديث على ذم الخوارج وتضليلهم وأنهم قوم سوء وعصاة لله عز وجل، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن صلوا وصاموا واجتهدوا فى العبادة(1) لأنهم كانوا فى هذا كله يعملون بما يرضى أنفسهم لا بما يرضى الله ورسوله.
... فقد أخرجهم الشيطان من الدين عن طريق التعمق والزيادة لا عن طريق التفريط والتقصير، وذلك أنهم لم يلتزموا حدود الشريعة فيما أتوه من العبادة، بل تجاوزوا ذلك حتى خرجوا من الدين، وهذا هو المروق الذى وصفهم به النبى(2) - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية)(3).
... وقال عليه الصلاة والسلام فى ذى الخويصرة حينما طلب عمر ابن الخطاب منه أن يأذن له فى قتله. فقال: (دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية)(4).
... وقد ثبت هذا عند عامة علماء المسلمين، فأجمعوا على الحكم بفسق الخوارج وضلالتهم.
... وفيما يلى سوف أذكر إن شاء الله حكمهم عند علماء المسلمين، وذلك من ناحيتين:
الأولى: حكم قتالهم.
الثانية: حكم تكفيرهم.
حكم قتال الخوارج:
... لقد تقدم فى هذا البحث ذكر الخوارج وصفاتهم وما ورد فيهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرفنا شيئا مما أحدثوه فى الإسلام. فهؤلاء لا شك فى وجوب قتالهم وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.
__________
(1) ... انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام – ابن تيمية 28/218 وانظر: الشريعة للآجرى – ص 21.
(2) ... انظر ملخص تاريخ الخوارج: محمد شريف سليم – ص 121 – 122.
(3) ... متفق عليه: فتح البارى 12/ 283 وقد سبق ذكره.
(4) ... متفق عليه: صحيح مسلم بشرح النووى 7/165 وقد سبق أيضاً.(1/116)
... فمن كتاب الله قوله تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله } (1) الآية.
... فهذا أمر واضح يدل على وجوب قتال الفئة الباغية حتى تفىء وترجع إلى جماعة المسلمين، والخوارج حينما ظهروا فارقوا جماعة المسلمين وبغوا عليهم وناصبوهم العداء فوجب قتالهم.
... وهكذا كلما خرجوا فى أى فترة من التاريخ فقتالهم واجب بكتاب الله. وقد دلت السنة على وجوب قتال الخوارج، وقد استفاضت عن النبى - صلى الله عليه وسلم - الأحاديث فى ذم الخوارج والأمر بقتالهم، وهى أحاديث ثابتة فى الصحيحين وغيرهما:
... من ذلك ما رواه على ابن أبى طالب –رضى الله عنه- قال: سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يأتى فى آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن فى قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)(2).
... بهذا الحديث ونحوه استدل من يرى جواز قتلهم ابتداء وإن لم يبدءوا بحرب، وهذا إذا أظهروا بدعتهم، وكذلك استدل به على جواز قتل المقدور عليه منهم.
... قال ابن تيمية –رحمه الله-: "فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم، فهذا فيه قولان للفقهاء، هما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم"(3).
... وقال ابن قدامة –رحمه الله-: (والصحيح إن شاء الله أن الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والإجهاز على جريحهم لأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بقتلهم ووعده بالثواب لمن قتلهم } (4).
__________
(1) ... الحجرات: 9.
(2) ... متفق عليه والرواية للبخارى، وانظر فتح البارى 9/99، وانظر صحيح مسلم بشرح النووى 7/169 وقد سبق ذكره فى الباب الأول.
(3) ... فتاوى شيخ الإسلام 28/499.
(4) ... المغنى – ابن قدامة 8/107.(1/117)
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (اتفق على قتالهم سلف الأمة وأئمتها)(1).
... وإنما وجب قتال الخوارج لإفسادهم أمر المسلمين، وتفريق كلمتهم وإضعافهم أمام عدوهم، قال ابن هبيرة "إن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين، والحكمة فيه أن فى قتالهم حفظ رأس مال الإسلام، وفى قتال أهل الشرك طلب الربح، وحفظ رأس المال أولى"(2).
حكم تكفير الخوارج:
... لقد اتفقت الأمة على ذم الخوارج وتضليلهم، وعلى وجوب قتالهم، وأما التكفير فإن مسألته صعبة جدا، ما لم يكن سببه ظاهرًا صريحًا أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن مسالة التكفير أو عدمه مسألة من أشد المسائل إشكالا: إذ أن إخراج أحد من الإيمان بغير يقين أمر عظيم، وكذا إدخال أحد من الكفار فى الإسلام وعده من المؤمنين والحال أن حقيقته الكفر هو أيضا أمر عظيم وخطير، ومن أجل هذا وقع الخلاف فى تكفير الخوارج وغيرهم من أهل البدع المظهرين للإسلام.
... والمشهور فى ذلك قولان للعلماء: فمنهم من جعلهم بغاة حكمهم حكم أهل البغى، ومنهم من ألحقهم بالمرتدين وحكم بكفرهم(3).
( أدلة القول الأول:
... وقد احتج من ذهب إلى القول الأول وهو عدم تكفيرهم بحجج منها ما يلى:
... أولا: أنهم قد نطقوا بالشهادتين ودخلوا فى الإسلام(4).
__________
(1) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام – ابن تيمية 28/512، وانظر – ص 513، وانظر كتاب النبوات لابن تيمية – ص 129 – 130.
(2) ... فتح البارى شرح صحيح البخارى 12/301.
(3) ... انظر: شرح النووى على صحيح مسلم 7/160 وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 28/500، 518 وانظر فتح البارى شرح صحيح البخارى 12/285، 300.
(4) ... انظر فتح البارى شرح صحيح البخارى 12/300.(1/118)
... ثانياً: أنهم لم يصرحوا بالكفر، وإن قالوا أقوالا تؤدى إليه، لكن الحكم بالكفر لابد من قيام المقتضى له، وانتفاء موانعه(1).
... ثالثاً: مواظبتهم على أركان الإسلام ومحافظتهم عليها وعدم تفريطهم فى شىء منها(2).
... رابعاً: إجماع علماء المسلمين على أن الخوارج فرقة من فرق المسلمين، لم يخرجهم أحد من تلك الفرق بصفة العموم. وإن أخرجت بعض طوائف منهم للقطع بكفرهم كاليزيدية والميمونية(3)، وقد سبق الكلام عنهم وبيان سبب كفرهم.
... خامساً: أن عليا –رضى الله عنه- حينما سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال من الكفر فروا. وأنهم ليسوا مشركين ولا منافقين(4) فلم يكفرهم، بل بين فرارهم من الكفر.
... سادساً: أنه لم يكفرهم أحد من الصحابة –فيما أعلم- لا علىّ ولا غيره دليل ذلك أنهم لم يعاملوهم معاملة الكفار فإنهم فى الحرب لم يجهزوا على جريحهم ولم يسبوا نساءهم وذراريهم ولم يغنموا أموالهم(5)، ولو كفروهم لعاملوهم معاملة المرتدين.
( أدلة الفريق الثانى:
... أما أصحاب القول الثانى الذين قالوا بتكفير الخوارج فقد استدلوا بما يلى:
... أولاً: استدلوا بما روى عن أبى سلمة وعطاء بن يسار أنهما أتيا أبا سعيد الخدرى فسألاه عن الحرورية أسمعت النبى - صلى الله عليه وسلم -؟ قال لا أدرى ما الحرورية سمعت النبى - صلى الله عليه وسلم - يقول: يخرج فى هذه الأمة –ولم يقل منها -.
__________
(1) ... انظر فتح البارى 12/300، وانظر شرح النووى على صحيح مسلم 7/160 وانظر فتاوى ابن تيمية 28/501.
(2) ... انظر فتح البارى 12/300.
(3) ... انظر فتح البارى 12/300.
(4) ... انظر: المغنى لابن قدامة 8/106، وانظر فتح البارى 12/301. وانظر منهاج السنة النبوية 3/60.
(5) ... انظر: منهاج السنة النبوية 3/60.(1/119)
... ثانياً: استدلوا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى ذى الخويصرة (إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية)(1).
... وفى رواية ثانية (يمرقون من الإسلام)(2) وفى أخرى (يمرقون من الدين)(3).
... ووجه استدلالهم فى الحديث حيث شبه خروج الخوارج من الدين بمروق السهم من الرمية سابقاً للفرث والدم حتى لا يعلق به شىء من ذلك فكذلك الخوارج ليس فى قلوبهم شىء من الدين.
... ثالثاً: واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام فى الخوارج (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وفى رواية (لأقتلنهم قتل ثمود)(4)، وكل منهم إنما هلك بالكفر وعلى هذا فالخوارج كفار مثلهم.
... رابعاً: كفرهم بعض العلماء لتكفيرهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما حكموا بالكفر على كل من خالف معتقدهم فكانوا هم أحق بالاسم منهم، ولأن تكفير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتضمن تكذيبه فى شهادته لهم بالجنة ومن كذب الرسول فهو كافر(5).
... خامساً: استدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - فى الخوارج (هم شر الخلق أو من أشر الخلق يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق)(6)، فدل هذا على أنهم كفار إذ لا يمكن أن يكون أشر الخلق من المسلمين(7).
( القول المختار:
__________
(1) ... صحيح مسلم بشرح النووى 7/159 وقد سبق تخريجه.
(2) ... نفس المرجع 7/162، فتح البارى 12/290.
(3) ... نفس المرجع السابق 7/163، فتح البارى 12/283، 290.
(4) ... قد سبق تخريج هذا الحديث، انظر ص 210.
(5) ... انظر فتح البارى 12/299 – 300 وانظر التبصير فى الدين الأسفرايينى ص 146.
(6) ... رواه مسلم: انظر صحيح مسلم بشرح النووى 7/167 وقد سبق تخريجه فى الباب الأول.
(7) ... انظر شرح النووى على صحيح مسلم 7/167، وانظر فتح البارى 12/299.(1/120)
... والمختار هو القول الأول وهو عدم الحكم بكفرهم، لأن التكفير باب خطير والتساهل به يوقع المسلمين فى مصائب وأمور عظيمة والمتساهل به قد يقع فى مثل ما وقع به الخوارج حيث كفروا المسلمين.
... ولذا ينبغى الاحتراز منه ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل(1) فمن لم يأت بمكفر ظاهر نشهد به عليه فلا نكفره من أى فرقة من فرق المسلمين كان.
... لقوله تعالى: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل فى قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك رءوف رحيم } (2)، ولا تخلو فرقة من الثنتين والسبعين، من المؤمنين وإن كان فيهم ضلال ولهم ذنوب(3).
... وفرقة الخوارج ولا شك هى إحدى تلك الفرق ولا شك أن من بدعهم ما هو كفر، ولكن لا يخلو أن يوجد فيهم من لا يعتقد تلك البدع المكفرة ولا يقول بها، كما أنه قد يوجد فيهم المتأول وإن كان تأويله فاسداً(4). وهذا مثل تكفيرهم للمسلمين سواء من الصحابة أو من دونهم، فهم قد بنوا أقوالهم على مقدمات باطلة، حيث بالغوا فى التشدد فحكموا على مرتكب المعصية بالكفر وربما اتهموا بالذنب من لم يفعله حتى وقعوا فيما وقعوا فيه من استباحة دماء المسلمين ورميهم بالكفر(5).
... وعدم القول بتكفير الخوارج لا ينافى الحديث: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) والخوارج قد كفروا بعض المسلمين ونحن لا نقول إن من كفر المسلم فإنه لا يكفر لكننا قد لا نستطيع الجزم بأن فلانا كافر لعدم ظهور ما نتيقن به كفره وإن كان هو عند الله كافرا.
__________
(1) ... انظر فتح البارى 12/300، 301.
(2) ... الحشر: 10.
(3) ... انظر منهاج السنة النبوية 3/60.
(4) ... انظر مجموع الفتاوى شيخ الإسلام 28/500.
(5) ... انظر فتح البارى 12/300، وانظر رسالة الكفر الذى يعذر صاحبه بالجهل وحكم من يكفر غيره من المسلمين للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبا بطين – ص 9.(1/121)
... وأما قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (هم شر الخلق) فقد حمله من لم يكفرهم على أن المقصود بذلك شر الخلق أى من المسلمين(1) أو أن المقصود بقوله (هم شر الخلق) أى أنهم شر على المسلمين من غيرهم فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم لا اليهود ولا النصارى فإنهم كانوا مجتهدين فى قتل كل مسلم لم يوافقهم، مستحلين لدماء المسلمين وأموالهم وقتل أولادهم مكفرين لهم وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ومع هذا فالصحابة والتابعون لهم بإحسان لم يكفروهم ولا جعلوهم مرتدين ولا اعتدوا عليهم بقول ولا فعل بل اتقوا الله فيهم وساروا فيهم السيرة العادلة(2).
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "ومما يدل على أن الصحابة لم يكفروا الخوارج، أنهم كانوا يصلون خلفهم، وكان عبد الله بن عمر –رضى الله عنه- وغيره من الصحابة كانوا يصلون خلف نجدة الحرورى، وكانوا أيضا يحدثوهم ويفتونهم ويخاطبونهم، كما يخاطب المسلم المسلم، كما كان عبد الله بن عباس يجيب نجده الحرورى لما أرسل إليه يسأله عن مسائل وحديثه فى البخارى وكما أجاب نافع بن الأزرق عن مسائل مشهورة وكان نافع يناظره فى أشياء بالقرآن، كما يتناظر المسلمان ومازالت سيرة المسلمين على هذا، ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق –رضى الله عنه-"(3) وقال ابن حجر: "ذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق وأن حكم الإسلام يجرى عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام"(4).
... وقال أيضا: "والذى ينبغى؛ الاحتراز عن التكفير ما وُجِدَ إليه سبيلا"(5).
... وقال ابن قدامة –رحمه الله-: "وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم".
__________
(1) ... انظر شرح النووى على صحيح مسلم 7/167.
(2) ... منهاج السنة النبوية 3/62.
(3) ... منهاج السنة النبوية 3/62.
(4) ... فتح البارى – شرح صحيح البخارى 12/300.
(5) ... فتح البارى – شرح صحيح البخارى 12/300.(1/122)
... قال ابن المنذر ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين. وقال ابن عبد البر فى الحديث الذى رويناه: قوله: (يتمارى فى الفوق) يدل على أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشىء بحيث يشك فى خروجهم منه.
... وروى عن على (أنه لما قاتل أهل النهروان قال لأصحابه لا تبدءوهم بالقتال وبعث إليهم أقيدونا(1) بعبد الله بن خباب، قالوا: كلنا قتله). فحينئذ استحل قتالهم لإقرارهم على أنفسهم بما يوجب قتلهم.
... وذكر ابن عبد البر عن علىّ –رضى الله عنه-: (أنه سئل عن أهل النهروان أكفار هم؟ قال من الكفر فروا. قيل فمنافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا قيل فما هم؟ قال: هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا علينا وقاتلونا فقاتلناهم)(2).
2. الشيعة
مقدمة:
يقول د.غالب عواجي(3):
... "والشيعة -كطائفة ذات أفكار وآراء- غلب عليهم هذا الاسم وهم من أكذب الفرق على أئمتهم، ومن أخطرها على المسلمين(4)
__________
(1) ... أقيدونا: القود هو طلب القصاص.
(2) ... المغنى – ابن قدامة – 8/106، والأثر المروى عن على رضى اله عنه رواه عبد الرازق فى المصنف 10/150 وابن أبى شيبه فى المصنف 15/332 بسند صحيح ورواه البيهقى فى السنن الكبرى 8/174.
(3) ... انظر كتاب"فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام" د. غالب بن علي عواجي ص166-167.
(4) ... يقول إحسان إلهي ظهير في شريط مسجل (عن عقائد الشيعة):
... "الشيعة الآن لهم نشاط كبير في البلاد العربية وغير البلاد العربية وفي البلاد التي فيها أقليات مسلمة، فقد ملأوا العالم بمنشوراتهم ومفترياتهم وأكاذيبهم، لكن قَلَّ من يدرك هذا الخطر ... فلذلك وجب على المسلم الذي يعتقد الاعتقاد الصحيح أن يقف في وجه هذا السيل العارم.
... الشيعة الآن تطلق على قوم يختلفون معنا في الأصول، وكثير من الأخوة يفهمون أن اختلافنا معهم كاختلافنا مع المذاهب الأخري الفقهية، وبعض السذَّج يقولون أن اختلافنا في الفروع!، والشيعة الآن لا يستثنى منهم أحدٌ ، وهذه اللفظة عندما تطلق الآن لا يراد بها إلا الشيعة الإثنى عشرية". أهـ(1/123)
، وذلك بسبب:
استعمالهم التقية المرادفة للكذب.
تظاهرهم بنصرة أهل البيت، حيث انخدع بهم كثير من عوام المسلمين(1)
__________
(1) ... ويقول إحسان إلهي ظهير في شريط مسجل أيضاً:
... "الشيعة كلهم يدَّعون أنهم موالون لأهل البيت ومحبون لهم، وهذه الكلمة استعملوها خداعاً ومكراً ليخدعوا بها السذج من الناس، إن كثيراً منا وحتى الخاصة لا يعرفون ماذا يقصدون من وراء لفظة أهل البيت، كثير يفهمون أنهم يقصدون أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ! هم يكفِّرون العباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه، ويكفِّرون أمهات المؤمنين وهن أهل البيت أصلاً وحقيقة، لأن لفظة أهل البيت لم ترد في القرآن إلا مرتين، وفي المرتين لم ترد هذه اللفظة إلا للأزواج.
... في سورة هود: { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ... } الآية، أطلقت على زوج ابراهيم عليه السلام.
... وفي سورة الأحزاب: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلَ البيتِ ... } الآية.
... فأهل البيت حقيقة في الأزواج، وهم قاطبة عن بكرة أبيهم يكفِّرون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا خديجة رضي الله عنها، وهم لا يطلقون على أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كلمة اللعن والطعن، وهم متهمون عائشة -رضي الله عنها التي نزلت براءتها في أربعة عشر آية- بالفسق والفجور عياذاً بالله.
... فهم أكبر أعداء لأهل البيت وهم يدَّعون أنهم محبون لأهل البيت.
... يقول الكاشي منهم في كتابه"رجال الكاشي"، وهو من أقدم الكتب عندهم:
... في قوله تعالى { ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً } [الإسراء: 72] يقول: نزلت في العباس. وكذلك يكفِّرون عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ولا يعتقدون بإيمان عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أخو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
... إذن فماذا يقصدون من وراء هذا الادعاء؟!!
... يقول كبيرهم أو كبير مجرميهم محسن الأمين في كتابه"أعيان الشيعة": "الشيعة قوم يهوون هواء إثرة علي رضي الله عنه ويوالونه وأولاده".
... فيقصدون بأهل البيت علي رضي الله عنه وأولاده رضي الله عنهم أجمعين.
... ومن الغرائب أيضاً أنهم لا يعدون جميع أولاد علي رضي الله عنه من أهل البيت إلا الحسن والحسين. والمعروف أن علياً رضي الله عنه له أربعة عشر ولداً وثماني عشرة بنتاً.
... وأغرب من ذلك أنهم لا يجعلون فاطمة رضي الله عنها من أهل البيت فلا يعدون أولادها أم كلثوم وزينب من أهل البيت. والحسن عدُّوه من أهل البيت وأخرجوا أولاد الحسن جميعاً من أهل البيت.
... والحسين عدُّوه من أهل البيت وأخرجوا جميع أولاده من أهل البيت إلا علي بن الحسين الملقَّب بزين العابدين، وعلي بن الحسين يخرجون جميع أولاده من أهل البيت إلا واحداً وهو محمد الملقَّب بالباقر.
... ومحمد الباقر يخرجون جميع أولاده من أهل البيت إلا واحداً وهو جعفر(الصادق)، ويخرجون جميع أبناء جعفر من أهل البيت إلا ابنه موسى (الكاظم).
... وهكذا حصروا كلمة أهل البيت في الأئمة الإثنى عشر المعروفون عندهم". أهـ(1/124)
.
بغضهم لأهل السنة بسبب تعاليم خاطئة وضعها بعض كبرائهم نتج عنها نفور الشيعة وعدم الوصول –بعد محاولات كثيرة من جانب أهل السنة- إلى التقارب.
... وقد قام التشيع في ظاهر الأمر على أساس أن علياً رضي الله عنه وذريته هم أحق الناس بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن علياً أحق بها من سائر الصحابة بعهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - كما زعموا في رواياتهم التي اخترعوها وملأوا بها كتبهم.
... ومن الملاحظ على هذه الفرقة أنها كانت باباً واسعاً لكل طامع في تحقيق أغراضه من أهل الأهواء:
1. ... إذ تشيع قوم إيماناً بأحقية أولاد علي بالخلافة حسبما سمعوا من النصوص التي لفَّقها علماء التشيع.
... وتشيع قوم كرهوا الحكم الأموي ثم العباسي فقاموا بتلك الثورات العديدة التي سجلها علماء الفرق والتاريخ تحت غطاء دعوى التشيع لأهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
... وتشيع آخرون للانتقام من الإسلام كالباطنية.
... وتشيع قوم لتحقيق مطامع سياسية كالمختار مثلاً.
2. ... ولأن الشيعة أيضاً لا يتحرون النصوص الصحيحة، ولا يهتمون بإيصال السند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، لهذا فإن أكثر أحاديثهم رويت عن الأئمة(1)
__________
(1) ... ويقول إحسان إلهي ظهير في شريط مسجل أيضاً في معنى الحديث عند القوم:
... "الحديث عندنا ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير.
... والحديث عندهم: كل ما ثبت عن أئمتهم الإثنى عشر بما فيهم المولود وغير المولود، والمعدوم والغائب!! فكل ما نقل عنهم فهو حديث عندهم مثل ما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... وهم يعتقدون أيضاً أن القرآن حُرِّف وغُيِّر وبُدِّل، نقص منه كثير وزيد فيه، وهذا قولهم جميعاً عن بكرة أبيهم، يقولون إن هذا ثُلث القرآن، أما الثُلث الباقي فهو محفوظ عند الإمام الغائب.
... يقول الكُلَيْني في "الكافي"، -وهو عندهم كالبخاري عند أهل السنة- يذكر أن جعفر قال:
... "لو وجد القرآن كما أنزل لألفيتنا مُسَمِّين" ، وقال: "أما العترة فقتلوهم وأما القرآن فحرفوه" كذباً عليه. وقالوا: أن قوله تعالى { تبت يدا أبي لهب وتب } زيادة في القرآن.
... وقال إحسان إلهي ظهير:
... وقد أوردت في كتاب"الشيعة والقرآن" –الذي مُنع في البلاد المسلمة المهددة من الخوميني 1200 ألف ومائتان حديث من كتبهم على أن القرآن محرَّف ومُغيَّر وزِيد فيه ونُقص منه كثير.(1/125)
.
3. ... ولأنهم كذلك أهل عاطفة نحو أهل البيت –فيما يظهرون للناس- فلذا يكفي لتوثيق الشخص عندهم أن يكون ظاهره الغلو في أهل البيت، ويكون بذلك من الثقات الأثبات".أهـ
التأسيس وأبرز الشخصيات:
... "الإثنا عشر إماماً الذين يتخذهم الشيعة الإمامية أئمة لهم يتسلسلون على النحو التالي(1):
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، الذي يلقبونه بالمرتضى، رابع الخلفاء الراشدين وصهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد مات غيلة حينما أقدم الخارجي عبد الرحمن بن ملجم على قتله في مسجد الكوفة في 17رمضان سنة40هـ.
الحسن بن علي رضي الله عنهما، ويلقبونه بالمجتبى (3-50هـ).
الحسين بن علي رضي الله عنهما، ويلقبونه بالشهيد (4-61هـ).
علي زين العابدين بن الحسين (38-95هـ)، ويلقبونه بالسَّجَّاد.
محمد الباقر بن علي زين العابدين (57-114هـ)، ويلقبونه بالباقر.
جعفر الصادق بن محمد الباقر (83-148هـ)، ويلقبونه بالصادق.
موسى الكاظم بن جعفر الصادق (128-183هـ)، ويلقبونه بالكاظم.
علي الرضا بن موسى الكاظم (148-203هـ)، ويلقبونه بالرضى.
محمد الجواد بن علي الرضا (195-220هـ)، ويلقبونه بالتقي.
علي الهادي بن محمد الجواد (212-254هـ)، ويلقبونه بالنقي.
الحسن العسكري بن علي الهادي (232-260هـ)، ويلقبونه بالزكي.
محمد المهدي بن الحسن العسكري (256-...هـ)، ويلقبونه بالحجة القائم المنتظر.
... يزعمون أن الإمام الثاني عشر قد دخل سرداباً في دار أبيه بسُرَّ مَنْ رأى ولم يعد، وقد اختلفوا في سِنه وقت اختفائه فقيل أربع سنوات وقيل ثماني سنوات، غير أن معظم الباحثين يذهبون إلى أنه غير موجود أصلاً وأنه من اختراعات الشيعة، ويطلقون عليه لقب (المعدوم أو الموهوم)".أهـ
__________
(1) ... "الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة"، د. مانع بن حماد الجهني، ص55.(1/126)
ويقول د. ناصر القفاري(1):
... ومعظم الفرق التي خرجت عن الجماعة ضعف نشاطها اليوم، وفتر حماسها وتقلَّص اتباعها، وانكفأت علي نفسها، وقلَّت منابذتها لأهل السنة.
... أما طائفة الشيعة فإن هجومها على أهل السنة وتجريحها لرجالهم وطعنها في مذهبهم، وسعيها لنشر التشيع بينهم يزداد يوماً بعد يوم.
... ولعل طائفة الإثنى عشرية هي أشد فرق الشيعة سعياً في هذا الباب لإضلال العباد إن لم تكن الفرقة الوحيدة التي تكثر من التطاول على السنة والكيد لها على الدوام مما لا تجده عند فرقة أخرى.
وذلك لأسباب منها:
أولاً: ... أن هذه الطائفة بمصادرها في التلقي وكتبها وتراثها تمثل نحلة كبرى، حتى أنهم يسمون مسائل اعتقادهم:"دين الإمامية" لا مذهب الإمامية، وذلك لانفصالها عن دين الأمة، وبحسبك أن تعرف أن أحد مصادرها في الحديث عن الأئمة يبلغ مائة وعشرة مجلدات وهو "بحار الأنوار" لشيخهم المجلسي (ت 1111هـ).
ثانياً: ... اهتمام هذه الطائفة بنشر مذهبها والدعوة، وعندها دعاة متفرغون ومنظمون، ولها في كل مكان –غالباً- خلية ونشاط، وتوجه جل اهتمامها في الدعوة لنحلتها في أوساط أهل السنة، ولا أظن أن طائفة من طوائف البدع تبلغ شأو هذه الطائفة في العمل لنشر معتقدها والاهتمام بذلك.
... وهي اليوم تسعى جاهدة لنشر مذهبها في العالم الإسلامي، وتصدير ثورتها، وإقامة دولتها الكبرى بمختلف الوسائل.
... وقد تشيع بسبب الجهود التي يبذلها شيوخ الإثنى عشرية الكثير من شباب المسلمين.. ومن يطالع كتاب "عنوان المجد في تاريخ البصرة ونجد" يهوله الأمر، حيث يجد قبائل بأكملها قد تشيعت.
__________
(1) ... أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية عرض ونقد للدكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري ج1 ص 8 وما بعدها.(1/127)
... وقد تحولت سفارات دولة الشيعة في إيران إلى مراكز للدعوة إلي مذهبها في صفوف الطلبة والعاملين المسلمين في العالم، وهي تهتم بدعوة المسلمين أكثر من اهتمامها بدعوة الكافرين.
... ولا شك أن المسؤولية كبيرة في إيضاح الحقيقة أمام المسلمين، ولاسيما الذين دخلوا في سلك التشيع حباً لأهل البيت واعتقاداً منهم أن هذا الطريق عين الحق وطريق الصدق.
ثالثاً: ... أن هذه هي الطائفة الشيعية الكبرى في عالم اليوم، وقد احتوت معظم الفرق الشيعية التي وجدت على مسرح التاريخ، حتى قيل بأن لقب الشيعة إذا أُطلق لا ينصرف إلا إليها.
رابعاً: ... هذه الفرقة لها اهتمام دَعائي في الدعوة للتقارب مع أهل السنة، وقد أقامت المراكز، وأرسلت الدعاة وأنشأت الجمعيات التي ترفع شعار الوحدة الإسلامية.
خامساً: هذه الطائفة تكثر من القول بأن مذهبها لا يختلف عن مذهب أهل السنة، وأنها مظلومة ومفترى عليها، ولها اهتمام كبير بالدفاع عن مذهبها، ونشر الكتب والرسائل الكثيرة له، وتتبع كتب أهل السنة ومحاولة الرد عليها، مما لا يوجد مثله عند طائفة أخرى.
سادساً: كثرة مهاجمة هذه الطائفة لأهل السنة، ولاسيما صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطعنها في أمهات كتب المسلمين، عبر مؤلفاتهم التي يخرج منها سنوياً العشرات من الكتب…كذلك مهاجمتها بعنف وضراوة لكل من يكتب عنها أو يتعرض لمذهبها بالنقد تحت ستار أن هذه الكتابات تعيق التقريب وتعرقل مساعي الوحدة الإسلامية، فانصرفت أكثر الأقلام عن الكتابة عنها.
... ولقد كتب أسلافنا عن الإثنى عشرية، وهي التي يسمونها بالرافضة، وكان لمصنفاتهم أثرها، كما في كتابات أبي نعيم، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والمقدسي، والفيروز آبادي، وما في كتب الفرق والعقيدة، ولكن تلك الكتابات كانت قبل شيوع كتب الشيعة وانتشارها، وجملة منها يحمل صفة الرد على بعض مؤلفات الشيعة، ولا تدرس الطائفة بعقائدها وأفكارها بشكل شامل.(1/128)
... كما أن الإثنى عشرية لمهارتها في التَّقِّية قد خفي أمرها حتى نجد في شرح صحيح مسلم القول بأن الإمامية لا تكفر الصحابة، وإنما ترى أنهم أخطأوا في تقديم أبي بكر. ونرى شيخ الإسلام ابن تيمية -على اهتمامه بالمذهب الرافضي ونقده- يقول: حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله. بينما هذه القضية تجدها اليوم مقررة في أمهات كتبهم في عشرات الروايات والعديد من الأبواب.
... كما أن أهم كتب الشيعة وهو"أصول الكافي" لا تجد له ذكراً عند الأشعري أو ابن حزم أو ابن تيمية، وهو اليوم الأصل المعتمد عند الطائفة في حديثها عن الأئمة الذي هو أساس مذهبها.
... وأيضاً فإن طبيعة هذا المذهب أنه يتطور من وقت لآخر، ويتغير من جيل لجيل، حتى أن الممقاني أكبر شيوخهم في هذا العصر يقول: إن ما يعتبر غلواً عند الشيعة الماضين أصبح اليوم من ضرورات المذهب. هذه الطبيعة المتغيرة تقتضي التعرف على الوجه الحقيقي للإثنى عشرية في عصرنا.
... كما أن جل الردود التي تسود المصنفات التي كتبها الأئمة السابقون –رحمة الله عليهم أجمعين- هي على شبهات يثيرها الشيعة من كتب السنة نفسها، فيرد عليها أهل السنة مبينين أن تلك النصوص التي يتمسك بها الشيعة إما موضوعة وإما ضعيفة، أو بعيدة عن استدلالهم الفاسد.
... لكن الشيعة لا تؤمن بكتب أهل السنة كلها أصلاً، وهي تثير هذه الشبهات إلى اليوم لتحقيق أمرين:
الأول: إشغال أهل السنة بهذه الشبهات، حتى لا يتفرغوا لنقد كتبهم ونصوصهم ورجال رواياتهم.
الثاني: إقناع الحائرين والمتشككين من أهل طائفتهم بدعوى أن ما هم عليه من شذوذ هو موضع اتفاق بين السنة والشيعة.
... ولكن كتب الشيعة اليوم قد توفرت بشكل لم يعهد من قبل… فينبغي أن تكون من أهم ركائز الدراسة والنقد، لأن الحجة على كل طائفة إنما تقام بما تصَّدقه وتؤمن به.(1/129)
تعريف الشيعة(1):
التعريف اللغوي:
... يقول ابن دريد (المتوفى سنة 321هـ): "فلان من شيعة فلان أيّ: ممن يرى رأيه، وشيعت الرجل على الأمر تشييعاً إذا أعنته عليه، وشايعت الرجل على الأمر مشايعةً وشياعاً إذا مالأته عليه".
... وقال الأزهري (المتوفى سنة 370هـ): "والشيعة أنصار الرجل وأتباعه، وكل قوم اجتمعوا على أمرهم شيعة. والجماعة شيَع وأشياع، والشيعة: قوم يهوون هوى عترة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوالونهم".
... وقال ابن منظور (المتوفى سنة 711هـ): "والشيعة أتباع الرجل وأنصاره، وجمعها شيَع، وأشياع جمع الجمع، وأصل الشيعة: الفرقة من الناس، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى علياً وأهل بيته، حتى صار لهم اسماً خاصاً، فإن قيل: فلان من الشيعة عرف أنه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أيّ: عندهم، وأصل ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة".
... فالشيعة والتشيع والمشايعة في اللغة تدور حول معنى المتابعة، والمناصرة، والموافقة بالرأي، والاجتماع على الأمر، أو الممالأة عليه. ثم غلب هذا الاسم كما يقول صاحب اللسان، والقاموس، وتاج العروس على كل من يتولى علياً وأهل بيته. وهذه الغلبة محل نظر، لأنه إذا تأمل الباحث في المعنى اللغوي للشيعة والذي يدل على المتابعة والمناصرة، ثم نظر إلى أكثر فرق الشيعة التي غلب إطلاق هذا الاسم عليها يجد أنه لا يصح تسميتها بالشيعة من الناحية اللغوية، لأنها غير متابعة لأهل البيت على الحقيقة، بل هي مخالفة لهم ومجافية لطريقتهم ...
__________
(1) ... أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية عرض ونقد للدكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري ج1 ص 30 وما بعدها.(1/130)
... ولعل هذا ما لاحظه شريك بن عبد الله حينما سأله سائل: أيهما أفضل أبو بكر أو علي؟ فقال له: أبو بكر. فقال السائل: تقول هذا وأنت شيعيّ! فقال له: نعم، من لم يقل هذا فليس شيعياً، والله لقد رقى هذه الأعواد علي، فقال ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، فكيف نرد قوله، وكيف نكذبه؟ والله ما كان كذاباً(1).
... فالإمام شريك لاحظ أن غير المتابع لعلي لا يستحق اسم التشيع، لأن معنى التشيع وحقيقته المتابعة… ولهذا آثر بعض الأئمة أن يطلق عليهم اسم الرافضة.
... وقد لجأ المتابعون لأهل البيت على الحقيقة، والذين كانوا يلقبون بالشيعة، لجأوا إلى ترك هذا اللقب لما غلب إطلاقه على أهل البدع المخالفين لأهل البيت، كما يشير صاحب التحفة الإثنى عشرية إلى ذلك فيقول:"إن الشيعة الأولى تركوا اسم الشيعة لما صار لقباً للروافض والإسماعيلية، ولقبوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة".
لفظ الشيعة في القرآن ومعناه:
... ومادة شيع وردت في كتاب الله العظيم في اثني عشر موضعاً، وقد أجمل ابن الجوزي معانيها بقوله: "وذكر أهل التفسير أن الشيع في القرآن على أربعة أوجه:
... أحدها: الفرق، ومنه قوله تعالى: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيَعا } (2)، وقوله: { ولقد أرسلنا من قبلك في شيَع الأولين } (3)، وقوله: { وجعل أهلها شيَعا } (4)، وقوله: { من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيَعا } (5).
__________
(1) ... وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد روى عن علىّ من نحو ثمانين وجها أنه قال: على منبر الكوفة خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر، ورواه البخارى وغيره. انظر منهاج السنة: 4/137، وقد جاء ذلك فى كتب الشيعة أيضا. انظر تلخيص الشافى: 2/428 عن إحسان إلهى ظهير: الشيعة وأهل البيت ص 52.
(2) ... الأنعام: 159.
(3) ... الحجر: 10.
(4) ... القصص: 4.
(5) ... الروم: 32.(1/131)
... والثاني: الأهل والنسب، ومنه قوله تعالى: { هذا من شيعته وهذا من عدوه } (1) أراد من أهله في النسب إلى بني إسرائيل.
... والثالث: أهل الملة، ومنه قوله تعالى: { ثم لننزعن من كل شيعة } (2)، وقوله: { ولقد أهلكنا أشياعكم } (3)، وقوله: { كما فُعل بأشياعهم } (4)، وقوله: { وإن من شيعته لإبراهيم } (5).
... والرابع: الأهواء المختلفة، قال تعالى: { أو يلبسكم شيَعا } (6).
... ويشير ابن القيم –رحمه الله تعالى- في نص مهم له إلى أن لفظ الشيعة، والأشياع غالباً ما يستعمل في الذم، ويقول: ولعله لم يرد في القرآن إلا كذلك كقوله تعالى: { ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتياً } (7)، وكقوله: { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } ، وقوله: { وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فُعل بأشياعهم من قبل } . ويعلل ابن القيم لذلك بقوله: وذلك والله أعلم لما في لفظ الشيعة من الشياع، والإشاعة التي هي ضد الائتلاف والاجتماع، ولهذا لا يطلق لفظ الشيع إلا على فرق الضلال لتفرقهم واختلافهم(8).
__________
(1) ... القصص: 15.
(2) ... مريم: 69.
(3) ... القمر: 51.
(4) ... سبأ: 54.
(5) ... الصافات: 83.
(6) الأنعام: 65.وزاد الدامغاني وجهاً خامساً وهو: الشيع والإشاعة، واستشهد له بقوله سبحانه: { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا } النور: 19، يعني أن تفشو الفاحشة، والوجه الثاني الذي استدل له ابن الجوزي بآية القصص، استدل بها نفسها الدامغاني أن من معاني الشيعة: الجيش، واتفقا فيما سوى ذلك من المعاني.
(7) ... مريم: 69.
(8) ... بدائع الفوائد 1/155، وهذا في الغالب لأنه ورد في القرآن { وإن من شيعته لإبراهيم } .(1/132)
... هذه ألفاظ الشيعة في كتاب الله ومعانيها، وهي لا تدل على الاتجاه الشيعي المعروف،وهذا أمر يدرك بداهة، لكن الغريب في الأمر أن نجد عند الشيعة إتجاهاً يحاول ما وسعته المحاولة أو الحيلة أن يفسر بعض ألفاظ الشيعة الواردة في كتاب الله بطائفته، ويؤول كتاب الله على غير تأويله، ويحمّل الآيات ما لا تحتمل تحريفاً لكتاب الله وإلحاداً فيه، فقد جاء في أحاديثهم في تفسير قوله سبحانه: { وإن من شيعته لإبراهيم } (1) قالوا أن إبراهيم من شيعة علي(2). وهذا مخالف لسياق القرآن وأصول الإسلام، وهو نابع من عقيدة غلاة الروافض الذين يفضلون الأئمة على الأنبياء، فهذا التأويل أو التحريف يجعل خليل الرحمن أفضل الرسل والأنبياء بعد محمد - صلى الله عليه وسلم - يجعله من شيعة علي… وهو أمر يعرف بطلانه من الإسلام بالضرورة، كما هو باطل بالعقل والتاريخ ... وهو من وَضْعِ وضَّاعٍ لا يحسن الوضع … ولا يعرف كيف يضع.
... والذي قاله أهل السنة في تفسير الآية والمنقول عن السلف أن إبراهيم من شيعة نوح عليه السلام وعلى منهاجه وسنته، وهذا التفسير هو الذي يتمشى مع سياق الآية، لأن الآيات التي قبل هذه الآية كانت في نوح عليه السلام، ويلاحظ أن من مفسري الشيعة من أخذ بقول أهل السنة، وأعرض عما قاله قومه في تأويل الآية.
لفظ الشيعة في السنة ومعناه:
__________
(1) ... الصافات: 83.
(2) ... البحراني/ تفسير البرهان: 4/20، وانظر: تفسير القمي: 2/323، والمجلسي/ بحار الأنوار: 68/12-13، عباس القمي/سفينة البحار: 1/732، البحراني/ المعالم الزلفى ص 304، الطريحي/ مجمع البحرين : 2/356، وقد نسبوا هذا التفسير –كذباً وافتراءً- إلى جعفر الصادق، ودينه وعلمه ينفيان ذلك.(1/133)
... ورد لفظ الشيعة في السنة المطهرة بمعنى الأَتْبَاع، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في الرجل الذي قال للنبي –- صلى الله عليه وسلم -- : لم أرك عدلت ...، قال فيه عليه الصلاة والسلام: "سيكون له شيعة يتعمقون في الدين حتى يخرجوا منه" ... الحديث(1)، وكذلك في الحديث الذي أخرجه أبو داود في المكذبين بالقدر وفيه: "وهم شيعة الدجال"(2).
... فالشيعة هنا مرادفة للفظ الأصحاب، والأتباع، والأنصار.
__________
(1) ... مسند احمد 12/3-5[2/219]، قال عبد الله بن الإمام أحمد : ولهذا الحديث طرق في هذا المعنى صحاح، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح. ورواه ابن أبي عاصم في السنة 2/454 قال الألباني: إسناده جيد ورجاله كلهم ثقات.
(2) ... سنن أبي داود 5/67[4692من حديث حذيفة]، قال المنذري: وفي إسناده عمر مولى غفرة لا يحتج بحديثه، ورجل من الأنصار مجهول، (المنذري): مختصر أبي داود 7/61، ورواه أيضاً الإمام أحمد 5/407[وضعفه الألباني في السنة 329،ولكن حَسَّنَ أصل الحديث دون هذه اللفظة من حديث جابر وحديث ابن عمر، انظر السنة 328].(1/134)
... ومن خلال مراجعتي لمعاجم السنة لم أر استعمال لفظ الشيعة على الفرقة المعروفة بهذا الاسم إلا ما جاء في بعض الأخبار الضعيفة أو الموضوعة والتي جاء فيها لفظ الشيعة كدلالة على أتباع علي مثل حديث: "فاستغفرت لعلي وشيعته"(1)، وحديث: "مثلي كمثل شجرة أنا أصلها، وعلي فرعها… والشيعة ورقها"(2)، وحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي: "أنت وشيعتك في الجنة"(3).
... وقد ورد في بعض الأخبار أنه سيظهر قوم يدعون التشيع لعلي يقال لهم الرافضة، فقد روى الإمام ابن أبي عاصم أربع روايات في ذكر الرافضة، وقال الشيخ الألباني في تحقيقه لأسانيدها بأنها ضعيفة(4). وقد أخرج الطبراني –بإسناد حسن كما يقول الهيثمي- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا علي سيكون في أمتي قوم ينتحلون حب أهل البيت، لهم نبز، يسمون الرافضة، قاتلوهم فإنهم مشركون".
... وقد نبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة، لأن اسم الرافضة لم يعرف إلا في القرن الثاني. وفي ظني أن هذا لا يكفي في الحكم بكذب الأحاديث، إذ لو صحت أسانيدها لكانت من باب الإخبار بما سيقع، وأن الله أخبر نبيه بما سيكون من ظهور الروافض، كما أوحى الله إليه بشأن ظهور فرقة الخوارج، وإن كانت بذرة الخوارج وجدت في حياته - صلى الله عليه وسلم -.
لفظ الشيعة ومعناه في كتب الحديث الإثنى عشرية:
__________
(1) ... قال العقيلي: لا أصل له، وذكره الكتاني من الأحاديث الموضوعة: (تنزيه الشريعة 1/414).
(2) ... أورده ابن الجوزي في الموضوعات: 1/397، والشوكاني في الفوائد المجموعة من الأحاديث الموضوعة ص 379.
(3) ... وهو حديث موضوع، انظر ابن الجوزي/ الموضوعات: 1/397، والذهبي/ ميزان الاعتدال: 1/421، ترجمة جميع بن عمر بن سوار، والشوكاني/ الفوائد المجموعة ص: 379.
(4) ... هذه الروايات كلها في ذم الروافض، انظر السنة: 978، 979، 980، 981.(1/135)
... وفي كتب الحديث عند الشيعة يتكرر في كثير من رواياتهم وأحاديثهم التي ينسبونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى الإمام علي والحسن والحسين وبقية أئمتهم الإثني عشر يتكرر لفظ الشيعة كمصطلح يدل على فرقتهم، وعقيدتهم، وأئمتهم، ذلك أنهم يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي غرس بذرة التشيع وتعهدها بالسقي حتى نمت وأينعت(1) ... بل وصل بهم الأمر في هذا إلى وضع روايات تدل على أن لفظ الشيعة –كمصطلح لطائفتهم- معروف قبل زمن رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاء في أحاديثهم في تفسير قوله سبحانه: { وإن من شيعته لإبراهيم } أي: أن إبراهيم من شيعة علي، بل بلغ بهم الزعم إلى القول: "أن الله أخذ ميثاق النبيين على ولاية علي، وأخذ عهد النبيين على ولاية علي" وأن "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء"(2). إلى آخر هذه الدعاوى وسيأتي بسط ذلك في نشأة التشيع.
لفظ الشيعة في التاريخ الإسلامي:
__________
(1) ... ففى أصول الكافى فى مسألة النص على الأئمة من الله ورسوله والأئمة -كما يزعمون- ذكر ثلاثة عشر بابا ضمنها مائة وعشرة أحاديث (أصول الكافى: 1/286-328).
(2) ... البحراني/تفسير البرهان: 1/26- أصول الكافي: 1/437.(1/136)
... في الأحداث التاريخية في صدر الإسلام وردت لفظ الشيعة بمعناه اللغوي الصرف، وهو المناصرة والمتابعة، بل إننا نجد في وثيقة التحكيم بين الخليفة علي، ومعاوية –رضي الله عنهما- وورد لفظ الشيعة بهذا المعنى، حيث أطلق على أتباع علي شيعته، كما أطلق على أتباع معاوية شيعته، ولم يختص لفظ الشيعة بأتباع علي، ومما جاء في صحيفة التحكيم: "هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وشيعتهما… (ومنها): وأن علياً وشيعته رضوا بعبد الله بن قيس، ورضي معاوية وشيعته بعمرو بن العاص… (ومنها): فإذا توفي أحد الحكمين فلشيعته وأنصاره أن يختاروا مكانه. (ومنها): وإن مات أحد الأميرين قبل انقضاء الأجل المحدود في هذه القضية فلشيعته أن يختاروا مكانه رجلاً يرضون عدله"(1).
... وقال حكيم بن أفلح رضي الله عنه: "لأني نهيتها –يعني عائشة- أن تقول في هاتين الشيعتين شيئاً"(2). وقد أورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذا النص، ليأخذ منه دلالة تاريخية على عدم اختصاص علي باسم الشيعة في ذلك الوقت(3).
... وجاء في التاريخ أن معاوية قال لبسر بن أرطاة حين وجهه إلى اليمن: "أمض حتى تأتي صنعاء فإن لنا بها شيعة"(4)، فإذن لم يظهر مصطلح الشيعة دلالة على أتباع علي فحسب حتى ذلك الوقت.
__________
(1) ... الدينورى / الأخبار الطوال ص194-196، وانظر تاريخ الطبرى: 5/53-54، محمد حميد الله/ مجموعة الوثائق السياسية ص: 281-282.
(2) ... هذا جزء من حديث طويل فى صحيح مسلم فى باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أو مرض: 2/168، 170.
(3) ... انظر: منهاج السنة: 2/67 (تحقيق د. محمد رشاد سالم).
(4) ... تاريخ اليعقوبى: 2/197.(1/137)
... ويبدو أن بدء التجمع الفعلي لمن يدعون التشيع، وابتداء التميز بهذا الاسم بدأ بعد مقتل الحسين سنة 61هـ، يقول المسعودي: وفي سنة خمس و ستين تحركت الشيعة في الكوفة(1). وتكونت حركة التوابين، ثم حركة المختار (الكيسانية) وبدأت الشيعة تتكون وتضع أصول مذهبها… وأخذت تتميز بهذا الاسم.
... من هنا يتضح أن اسم الشيعة كان لقباً يطلق على أية مجموعة تلتف حول قائدها، وإن كان بعض الشيعة يحاول أن يتجاهل الحقائق التاريخية ويدعي بأن الشيعة "هم أول من سموا باسم التشيع من هذه الأمة"(2)، ويتناسوا بأن معاوية أطلق أيضاً على أتباعه كلمة الشيعة، ولكن الوقائع التاريخية تقول بأن لقب الشيعة لم يختص إطلاقه على أتباع علي إلا بعد مقتل عليّ –رضى الله عنه- كما يرى البعض(3)، أو بعد مقتل الحسين كما يرى آخرون(4).
- صلى الله عليه وسلم - تعريف الشيعة اصطلاحاً:
أ. تعريف الشيعة في كتب الإثنى عشرية:
1. التعريف الأول:
... يعرف شيخ الشيعة القمي(5) (المتوفى سنة 301هـ) الشيعة بقوله: "هم شيعة علي ابن أبي طالب"، وفي موضع آخر يقول: "الشيعة هم فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته".
__________
(1) ... مروج الذهب: 3/100.
(2) ... القمى/المقالات والفرق ص: 15، النوبختى/ فرق الشيعة ص: 18.
(3) ... محمد أبو زهرة/ الميراث عند الجعفرية ص: 22.
(4) ... على سامى النشار/ نشأة الفكر الفلسفى: 2/35.
(5) ... سعد بن عبد الله القمي هو عند الشيعة جليل القدر، واسع الأخبار، له كثير من التصنيف، ثقة. من كتبه: الضياء في الإمامة، ومقالات الإمامية. توفي سنة 301هـ، وقيل 299هـ.(1/138)
... ويوافقه على هذا التعريف شيخهم النوبختي(1)حتى في الألفاظ نفسها.
2. التعريف الثاني:
... يقول شيخ الشيعة وعالمها في زمنه المفيد(2) بأن لفظ الشيعة يطلق على"…أتباع أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه على سبيل الولاء والاعتقاد لإمامته بعد الرسول صلوات الله عليه وآله بلا فصل، ونفي الإمامة عمن تقدمه في مقام الخلافة، وجعل الاعتقاد متبوعاً لهم غير تابع لأحد منهم على وجه الاقتداء". ثم يذكر أنه يدخل في هذا التعريف الإمامية والجارودية(3) الزيدية، أما باقي فرق الزيدية فليسوا من الشيعة، ولا تشملهم سمة التشيع.
__________
(1) ... الحسن بن موسى النوبختي (أبو محمد متكلم، فيلسوف، قال الطوسي: كان إمامياً حسن الاعتقاد، له مصنفات كثيرة منها: كتاب الآراء والديانات. أنظر الذهبي/ سير أعلام النبلاء 15/327.
(2) ... محمد بن محمد بن عمران العكبري الملقب بالمفيد، نال في زعمهم شرف مكاتبة مهديهم المنتظر، وله قريب من مائتي مصنف. قال الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة الضلال. هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه. ومات سنة 413هـ.
(3) ... الجارودية: فرقة من فرق الزيدية وتنسب إلى أبي الجارود زياد بن المنذر الهمداني الأعمى الكوفي. قال عنه أبو حاتم: كان رافضياً، يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنهم… ومن مقالة الجارودية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نص على عليّ رضي الله عنه بالإشارة والوصف دون التسمية والتعيين، وأن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غيره ... انظر في أبي الجارود والجارودية: رجال الكشي ص151، 229، 230( وهي ست روايات في ذمه تضمن بعضها كونه كذاباً كافراً، ومع ذلك فمفيدهم ينظمه فى سلك التشيع، لأن التشيع فى تعريفه هو هذا الغلو). انظر: ابن حجر، تهذيب التهذيب: 3/386، والبغدادى، الفرق بين الفرق: ص30، والأشعرى، مقالات الإسلاميين: 1/140.(1/139)
3. التعريف الثالث للشيعة:
... وإذا كان المفيد لا ينص في تعريفه للتشيع على مسألة النص والوصية، فإننا نرى شيخهم الطوسي يربط وصف التشيع بالاعتقاد بكون عليّ إماماً للمسلمين بوصية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبإرادة من الله. فالطوسي هنا يجعل الاعتقاد بالنص هو أساس التشيع، ولهذا يخرج الطوسي السليمانية(1) الزيدية من فرق الشيعة لأنهم لا يقولون بالنص، بل يقولون: "إن الإمامة شورى، وأنها تصلح بعقد رجلين من خيار المسلمين، وأنها قد تصلح في المفضول.. ويثبتون إمامة الشيخين أبي بكر وعمر، ولم يخرجوهم من دائرة التشيع فحسب، بل اعتبروهم نواصب. ولم يكتفوا بذلك فقد جاء في رجال الطاشي أن الزيدية شر من النواصب(2).
__________
(1) ... السليمانية: فرقة من فرق الزيدية تنسب إلى سليمان بن جرير الزيدي، وهي تسمى بالسليمانية عند كثير من أصحاب الفرق. انظر: مقالات الإسلاميين 1/143، اعتقادات فرق المسلمين ص 78 ، الملل والنحل: 1/159، التبصير في الدين ص 17.
(2) ... والنواصب: هم قوم يدينون ببغض عليّ رضي الله عنه (ابن منظور/ لسان العرب 1/762)، ولكن الروافض تذهب في مفهوم النصب مذهباً آخر –كما ترى- حتى تجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبياً (مجموع فتاوى شيخ الإسلام 5/112) بل من قدم أبا بكر على عليّ فهو ناصبي (ابن إدريس/ السرائر ص 471، الحر العامل/ وسائل الشيعة 6/341-342.(1/140)
... ويلاحظ أن مسألة النص هي محل اهتمام الشيعة البالغ في القديم والحديث، فنرى مثلاً في القديم شيخهم الكليني يعقد في كتابه الكافي ثلاثة عشر باباً في مسألة النص على الأئمة يضمنها مائة وتسعة أحاديث، ونرى في الحاضر أحد الروافض يؤلف كتاباً في ستة عشر مجلداً في حديث من أحاديثهم التي يستدلون بها على ثبوت النص على عليّ وهو حديث الغدير، ويسمي كتابه باسم الغدير(1)، فلا غرابة في أن يربط الشيعة وصف التشيع بقضية النص، لكن الملفت للنظر أن هذا الاهتمام والمبالغة يسري في كل عقائدهم التي هي محل استنكار وتكذيب من جمهور المسلمين، فتراهم في كل عقيدة من هذه العقائد التي هذا شأنها، يجعلونها هي عمود التشيع وأساسه، ويبالغون في إثباتها، ولكن حينما يعرِّف شيوخهم التشيع لا يذكرون هذه العقائد في التعريف، مع أنهم يعلقون الوصف بالتشيع على الإيمان بها، ولا تشيع بدونها، كمسألة الرجعة مثلاً، قالوا في أحاديثهم: "ليس منا من لم يؤمن بكرَّتِنا". ومع ذلك لا ترى لها ذكراً في تعريف التشيع، وكذلك مسألة العصمة، والإيمان بخلافة ولد عليّ وغيرها، بل تجد هذه المبالغة حتى في مسائل الفقه وقضايا الفروع كمسألة المتعة، قالوا: "ليس منا من لم..يستحل متعتنا". فالقوم ليسوا على منهج واضح سليم في ذلك.
ب. تعريف الشيعة في المصادر الأخرى:
1. تعريف الأشعري للشيعة:
... ولعل من أقدم من عرَّف الشيعة من أصحاب المقالات والفرق (من غير الشيعة) الإمام الأشعري حيث قال: "إنما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا علياً رضي الله عنه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2).
2. تعريف ابن حزم:
__________
(1) ... كتاب الغدير لشيخهم المعاصر: عبد الحسين الأميني النجفي، وهو مليء بالأكاذيب والطامات والكفر البواح. انظر مسألة التقريب بين السنة والشيعة للمؤلف ص66 وما بعدها.
(2) ... مقالات الإسلاميين 1/65.(1/141)
... قال: "ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحقهم بالإمامة وولده من بعده فهو شيعي، وإن خالفهم فيما عدا ذلك مما اختلف فيه المسلمون، فإن خالفهم فيما ذكرنا فليس شيعياً".
... ولكن من يقرأ كلام الشيعة عن عقائدهم كالإمامة، والعصمة، والتقِّية وغيرها يرى أنهم يغالون في كل عقيدة من عقائدهم بحيث يربطون وصف التشيع بالإيمان بتلك العقيدة –كما سلف- ولعل هذا هو ما لاحظه الشهرستاني حينما قدم لنا تعريفاً للشيعة يعتبر من أجمع التعاريف لأصول التشيع وأكثرها شمولاً.
3. تعريف الشهرستاني(1):
... يقول الشهرستاني: "الشيعة هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصاً ووصية، إما جلياً أو خفياً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده. وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن الدين لا يجوز للرسل عليهم السلام إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله. ويجمعهم القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر. والقول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً وعقداً إلا في حالة التقية، ويخالفهم بعض الزيدية في ذلك".
__________
(1) ... محمد بن عبد الكريم بن أحمد أبو الفتوح المعروف بالشهرستاني. قال السبكي: كان إماماً مبرزاً مقدماً في علم الكلام والنظر، برع في الفقه والأصول والكلام، ومن تصانيفه: الملل والنحل، نهاية الإقدام، وغيرهما، توفي سنة 548هـ، وكانت ولادته عام 467، وقيل 479هـ. انظر طبقات الشافعية: 6/128-130، مرآة الجنان: 3/284-290.(1/142)
... ومن هذا التعريف يتبين أن جميع فرق الشيعة ما عدا بعض الزيدية يتفقون على وجوب اعتقاد الإمامة، والعصمة، والتقية، وسنرى أن الإثنى عشرية يقولون بعقائد أخرى كالغيبة، والرجعة، والبداء .. وغيرها.
- صلى الله عليه وسلم - التعريف المختار للشيعة(1):
... وفي نظري أن تعريف الشيعة مرتبط أساساً بأطوار نشأتهم، ومراحل التطور العقدي لهم، فالتشيع في العصر الأول غير التشيع فيما بعده.
... فعلى هذا يكون التعريف للشيعة في الصدر الأول: أنهم الذين يقدمون علياً على عثمان فقط(2).
... ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن: الشيعة الأولى الذين كانوا على عهد عليّ كانوا يفضلون أبا بكر وعمر(3)، وقد منع شريك بن عبد الله –وهو ممن يوصف بالتشيع- إطلاق اسم التشيع على من يفضل علياً على أبي بكر وعمر، وذلك لمخالفته لما تواتر عن عليّ في ذلك، والتشيع يعني المناصرة والمتابعة لا المخالفة والمنابذة.
__________
(1) ... أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، للدكتور ناصر بن عبد الله بن علي القفاري ج1 ص 53 وما بعدها.
(2) ... وهم وإن سموا بالشيعة فهم من أهل السنة، لأن مسألة عثمان وعلي.. ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها، لكن المسألة التي يضلل فيها هي مسألة الخلافة.. وقد كان بعض أهل السنة اختلفوا في عثمان وعلي –رضي الله عنهما- بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر – أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان، وسكتوا، أو ربَّعوا بعليّ، وقدم قوم علياً، وقوم توقفوا. لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان.
(3) ... منهاج السنة 2/60 ، تحقيق محمد رشاد سالم.(1/143)
... لكن لم يظل التشيع بهذا النقاء والصفاء، والسلامة والسمو.. بل إن مبدأ التشيع تغير، فأصبحت الشيعة شيعاً، وصار التشيع قناعاً يتستر به كل من أراد الكيد للإسلام والمسلمين من الأعداء الموتورين الحاسدين.. ولهذا نرى بعض الأئمة لا يسمون الطاعنين بالشيخين بالشيعة، بل يسمونهم بالرافضة، لأنهم لا يستحقون وصف التشيع. ومن عرف التطور العقدي لطائفة الشيعة لا يستغرب وجود طائفة من أعلام المُحَدِثين، وغير المحدثين من العلماء الأعلام أطلق عليهم لقب الشيعة، وقد يكونون من أعلام السُّنة، لأن للتشيع في زمن السلف مفهوماً وتعريفاً غير المفهوم والتعريف المتأخر للشيعة، ولهذا قال الإمام الذهبي في معرض الحديث عمن رمي ببدعة التشيع من المحدثين:
... "إن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى: كغلو التشيع، أو كالتشيع بلا غلو، فهذا كثير في التابعين وأتباعهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدَّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيِّنة.
... ثم بدعة كبرى: كالرفض الكامل، والغلو فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر –رضي الله عنهما- والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة، وأيضاً فما أسْتَحضِر -الآن في هذا الضرب- رجلاً صادقاً، ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم، والتَّقِّية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله؟ حاشا وكلا.
... فالشيعي الغالي في زمان السلف وعُرْفِهم هو: من تكلم في عثمان والزبير، وطلحة، ومعاوية، وطائفة ممن حارب علياً –رضي الله عنه- وتعرض لسبهم.
... والغالي في زماننا وعُرْفِنَا هو: الذي يكفِّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين، فهذا ضال مفتر(1).
ويقول الحافظ ابن حجر:
__________
(1) ... الذهبي/ ميزان الاعتدال 1/5-6 ، وابن حجر/ لسان الميزان 1/9-10.(1/144)
... "والتشيع محبة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدمه على أبي بكر وعمر فهو غالٍ في تشيعه، ويطلق عليه رافضي، وإلا فشيعي، فإن انضاف إلى ذلك السبُّ أو التصريح بالبغض، فغالٍ في الرفض، وإن اعتقد الرجعة في الدنيا، فأشد في الغلو"(1).
وقال رحمه الله في "التهذيب" أيضاً:
... "التشيع في عرف المتقدمين هو: اعتقاد تفضيل عليّ على عثمان، وأن علياً كان مصيباً في حروبه، وأن مخالفه مخطئ، مع تقديم الشيخين وتفضيلهما.
... وربما اعتقد بعضهم أن علياً أفضل الخلق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كان معتقِد ذلك ورعاً، ديناً، صادقاً، مجتهداً،فلا تُرَدُّ روايته بهذا، لاسيما إذا كان غير داعية.
... وأما التشيع في عرف المتأخرين: فهو الرفض المحض، (أي السب والشتم)، فلا تقبل رواية الرافضي الغالي، ولا كرامة"(2).
نشأة الشيعة وجذورها التاريخية:
يقول الدكتور ناصر القفاري(3):
... إن الشيعة بأصولها ومعتقداتها لم تولد فجأة، بل مرت بمراحل كثيرة، ونشأت تدريجياً..وانقسمت إلى فرق كثيرة. ولا شك أن التتبع التاريخي والفكري للمراحل والأطوار التي مر بها التشيع يحتاج إلى بحث مستقل، ولهذا سيكون الحديث هنا عن: أصل النشأة وجذورها التاريخية، ولا يعنينا تتبع مراحلها ونشوء فرقها.. وسنبدأ بعرض رأي الشيعة من مصادرها المعتمدة عندها، ثم نذكر بعد ذلك آراء الآخرين.
__________
(1) ... هدْي الساري مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر العسقلاني، ص 483 فصل في تمييز أسباب الطعن في المذكورين.
(2) ... تهذيب تهذيب الكمال لابن حجر، 1/93-94، ترجمة أبان بن تغْلِب الربعي أبو سعد الكوفي(كان مذهبه مذهب الشيعة). وأبان هذا من رجال مسلم والأربعة أصحاب السنن. وانظر: التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي تأليف محمد البنداري ص11.
(3) ... في كتاب أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية عرض ونقد. ج1 ص57 ومابعدها.(1/145)
... فالمنهج العلمي والموضوعية توصيان بأخذ آراء أصحاب الشأن فيما يخصهم أولاً.
رأي الشيعة في نشأة التشيع:
... لم يكن لهم رأي موحد في هذا، ونستطيع أن نستخلص ثلاثة آراء في نشأة التشيع كلها جاءت في كتبهم المعتمدة، وسنتعقب كلَّ رأي بالمناقشة والنقد.
الرأي الأول:
... أن التشيع قديم قبل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه ما من نبي إلا وقد عرض عليه الإيمان بولاية علي. وقد وضع الشيعة أساطير كثيرة لإثبات هذا الشأن، ومن ذلك ما جاء في الكافي عن أبي الحسن قال: "ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، ولن يبعث الله رسولاً إلا بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، ووصية علي عليه السلام"(1).
... "وعن أبي جعفر في قول الله عز وجل { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسيَ ولم نجد له عزما } ، قال: عهدنا إليه في محمد والأئمة من بعده فترك ولم يكن له عزم(2)، وإنما سمي أولو العزم أولي العزم لأنه عهد إليهم في محمد والأوصياء من بعده، والمهدي وسيرته، وأجمع عزمهم على أن ذلك كذلك والإقرار به(3)".
نقد هذا الرأي:
... هناك من الآراء والمعتقدات ما يكفي في بيان فسادها مجرد عرضها، وهذا الرأي من هذا الصنف إذ أن فساده وبطلانه من الأمور المعلومة بالضرورة.. وكتاب الله بين أيدينا ليس فيه شيء من هذه المزاعم.
... لقد كانت دعوة الرسل –عليهم السلام- إلى التوحيد لا إلى ولاية علي والأئمة كما يفترون.
__________
(1) ... الكليني/ أصول الكافي: 1/437.
(2) ... وهذا تفسير بعيد عن الآية .. بل إلحاد في آيات الله، وقد جاء تفسير الآية عن السلف وغيرهم: "ولقد وصينا آدم وقلنا له: { إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة } فنسي ما عهد إليه في ذلك(أي ترك) ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس الذي حسده. قال قتادة: { ولم نجد له عزما } أي صبراً. تفسير الطبري 16/220-222.
(3) ... الكليني/ الكافي: 1/416(1/146)
... قال الله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (1). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..."(2) .
... وعن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل…"(3).
... فلم يرد في السنة الصحيحة إلا ما ينقض هذا الرأي، كما أن "أئمة السلف متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتين"(4) .
... فأين ما يزعمون من أمر ولاية علي؟
... وإذا كانت ولاية علي مكتوبة في جميع صحف الأنبياء، فلماذا ينفرد بذكرها الروافض، ولا يعلم بها أحد غيرهم؟ ولماذا لم يعلم بذلك أصحاب الديانات، بل لماذا لم تسجل هذه الولاية في القرآن وهو المهيمن على الكتب كلها، والمحفوظ من رب العزة جل علاه.
... إن هي إلا دعوى بلا برهان، والدعاوى لا يعجز عن التنطع بها أحد إذا لم يكن له من دينه أو عقله أو حيائه ما يحميه.
__________
(1) ... الأنبياء: 25.
(2) ... رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } 1/11، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله 1/51-52، وغيرهما.
(3) ... رواه البخاري ومسلم بألفاظ متقاربة، وما ذكره لفظ مسلم، انظر: صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة 2/108، وصحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين 1/50-51.
(4) ... شرح الطحاوية: ص 75.(1/147)
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذه كتب الأنبياء التي أخرج الناس ما فيها من ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس في شيء منها ذكر عليٍّ ... وهؤلاء الذين أسلموا من أهل الكتاب لم يذكر أحد منهم أنه ذكر عليٌ عندهم فكيف يجوز أن يقال: أن كلاً من الأنبياء بعثوا بالإقرار بولاية عليّ، ولم يذكروا ذلك لأممهم، ولا نقله أحد منهم"(1) .
... وكيف تتطاول هذه الأساطير على الأنبياء فتزعم أن آدم -عليه السلام- وبقية الأنبياء -ما عدا أولي العزم- قد تركوا أمر الله في الولاية، إن هذا إلا بهتان عظيم، فالولاية باطلة والافتراء على الأنبياء باطل.
... ومن المفارقات العجيبة: ذلك الغلو الذي لا يقف عند حد في مسألة عصمة الأئمة .. وهذا الجفاء في حق صفوة الخلق، وهم الأنبياء، أليس ذلك دليلاً على أن واضعي هذه الأساطير هم قوم قد فرغت عقولهم ونفوسهم من العلم والإيمان، وشحنت بالحقد والتآمر على المصلحين والأخيار، وأرادوا الدخول على الناس لإفساد أمرهم من طريق التشيع؟، بلى: إنه لا يتجرأ على مثل هذه الافتراءات إلا زنديق، وكأنهم بهذه المقالة يجعلون أتباع الأئمة أفضل من أنبياء الله –ما عدا أولي العزم- لأن الأتباع اتبعوا، والأنبياء تركوا، إنَِّ هذا لهو الضلال المبين.
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/46.(1/148)
... وأين عقول هؤلاء القوم الذين يصدقون بهذه الترهات! كيف يؤخذ على من قبلنا من الأنبياء وأممهم الميثاق على طاعة علي في إمامته "هذا –كما يقول شيخ الإسلام- كلام المجانين، فإن أولئك ماتوا قبل أن يخلق الله علياً فكيف يكون أميراً عليهم، وغاية ما يمكن أن يكون أميراً على أهل زمانه، وأما الإمارة على من خلق قبله، وعلى من يخلق بعده، فهذا من كذب من لا يعقل ما يقول، ولا يستحي مما يقول… وهذا من جنس قول ابن عربي الطائي وأمثاله من ملاحدة المتصوفة الذين يقولون: إن الأنبياء كانوا يستفيدون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء والذي وجد بعد محمد بنحو ستمائة سنة، فدعوى هؤلاء في الإمامة من جنس دعوى هؤلاء في الولاية، وكلاهما يبني أمره على الكذب والغلو والشرك والدعاوى الباطلة، ومناقضة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة(1) .
... فما الغاية والهدف من هذه المقالة التي لا يخفى كذبها على أحد؟
... هل الغاية صد الناس عن دين الله؟!.
... لأن هذا معلوم بطلانه بداهة، فإذا رفعوا هذه الدعوى ونسبوها للإسلام، واطلع عليها أصحاب تلك الديانات وغيرهم، ورأوا بطلانها في العقل والنقل شَكُّوا في الإسلام نفسه .
... ثم ماذا يقول أهل العلم والعقل عن هذا التحليل الغريب لفساد الأشياء أو صلاحها من الجمادات والنباتات والمياه…إلخ، وأن هذا بسبب موقفها من ولاية علي.
... ماذا يقول العالم عن هذا ... هل هذا هو الدين الذي يريدون أن يقدموه للناس ؟ أو أن الهدف تشويه الإسلام والصد عنه.
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/78.(1/149)
... ولا يستغرب هذا الرأي من الشيعة، فهم أهل مبالغات غريبة يكذبون بالحقائق الواضحات، والأخبار المتواترات، ويصدقون بما يشهد العقل والنقل بكذبه.. وإذا كانوا يقولون بهذا الرأي فيمن يدعون إمامته، فإنهم أيضاً يقولون في أعداء الأئمة وأعداء الشيعة –في اعتقادهم- ما يقارب هذا الرأي فقد قالوا في الخليفتين الراشدين العظيمين: أبي بكر وعمر، قالوا –مثلاً- : "وقع في الخبر أن القائم -رضي الله عنه- إذا ظهر يحييهم ويلزمهم بكل ذنب وفساد وقع في الدنيا حتى قتل قابيل وهابيل، ورمي أخوة يوسف له في الجب، ورمي إبراهيم في النار وسايرها، وكذا روي عن الصادق: "أنه ما أزيل حجر من موضعه، ولا أريقت محجمة دم إلا وهو في أعناقهما- يعني الخليفة الأول والثاني-(1) .
الرأي الثاني: (من آراء الشيعة)
... ويزعم بعض الروافض في القديم والحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الذي وضع بذرة التشيع، وأن الشيعة ظهرت في عصره، وأن هناك بعض الصحابة الذين يتشيعون لعلي ويوالونه في زمنه - صلى الله عليه وسلم -.
... يقول القمي: "فأول الفرق الشيعة، وهي فرقة علي بن أبي طالب المسمون شيعة علي في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته، منهم المقداد بن الأسود الكندي، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب بن جنادة الغفاري، وعمار بن ياسر المذحجي.. وهم أول من سموا باسم التشيع من هذه الأمة(2). ويشاركه في هذا الرأي النوبختي، والرازي.
مناقشة هذا الرأي:
__________
(1) ... البحراني/ درة نجفية: ص 37، وانظر رجال الكشي: ص 205-206، وانظر الأنوار النعمانية: 1/82.
(2) ... المقالات والفرق: ص 15.(1/150)
... أولاً: يلاحظ أن من أول من قال بهذا الرأي القمي في كتابه"المقالات والفرق" والنوبختي في كتابه"فرق الشيعة". وقد يكون من أهم الأسباب لنشأة هذا الرأي هو أن بعض علماء المسلمين أرجع التشيع في نشأته وجذوره إلى أصول أجنبية، وذلك لوجود ظواهر واضحة تثبت ذلك سيأتي الحديث عنها. فبسبب ذلك قام الشيعة بمحاولة إعطاء التشيع صفة الشرعية، والرد على دعوى خصومهم برد التشيع إلى أصل أجنبي، فادعوا هذه الدعوى، وحاولوا تأييدها وإثباتها بكل وسيلة، ووضعوا روايات كثيرة في ذلك(1). ونسبوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزعموا أنها رويت من طرق أهل السنة، وهي روايات لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه، أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة(2) .
آراء غير الشيعة في نشأة التشيع:
القول الأول:
... أن التشيع ظهر بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث وُجِدَ من يرى أحقية علي رضي الله عنه بالإمامة. وهذا الرأي قال به طائفة من القدامى والمعاصرين، منهم العلامة بن خلدون، وأحمد أمين، وبعض المستشرقين.
... يقول ابن خلدون: "اعلم أن مبدأ هذه الدولة –يعني دولة الشيعة- أن أهل البيت لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرون أنهم أحق بالأمر، وأن الخلافة لرجالهم دون من سواهم"(3) .
مناقشة هذا الرأي:
__________
(1) ... في كتب الموضوعات عند أهل السنة روايات كثيرة من وضع الروافض في هذا الباب، انظر مثلاً: الموضوعات لابن الجوزي: 1/338وما بعدها، والشوكاني/ الفوائد المجموعة ص342 وما بعدها، والكتاني/ تنزيه الشريعة 1/351 وما بعدها، ولهم وسائل الطرق ومسالك الاستدلال والاحتجاج على أهل السنة كتب عنها د. ناصر القفارى في رسالته: فكرة التقريب ص 51 وما بعدها.
(2) ... ابن خلدون/ المقدمة 2/527 تحقيق د. علي عبد الواحد وافي.
(3) ... العبر: 3/170-171.(1/151)
... ولو كان هذا الرأي القائل بأحقية القرابة بالإمامة يمثل البذرة والنواة للتشيع لكان له ظهور ووجود زمن أبي بكر وعمر، ولكنه رأى إن ثبت فهو كسائر الآراء التي أثيرت في اجتماع السقيفة، ما إن وُجِدَ حتى اختفى بعد أن تمت البيعة .. واجتمعت الكلمة .. واتفق الرأي من الجميع.
القول الثاني:
... أن التشيع لعلي بدأ بمقتل عثمان رضي الله عنه، يقول ابن حزم: "ثم ولي عثمان، وبقي اثني عشر عاماً، وبموته حصل الاختلاف، وابتدأ أمر الروافض(1). والذي بدأ غرس بذرة التشيع هو عبد الله بن سبأ اليهودي(2)، والذي بدأ حركته في أواخر عهد عثمان. وأكد طائفة من الباحثين القدماء والمعاصرين على أن ابن سبأ هو أساس المذهب الشيعي والحجر الأول في بنائه(3)
__________
(1) ... الفصل: 2/8. وانظر الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة ص 6 للشيخ عثمان بن عبد الله الحنفي.
(2) ... عبد الله بن سبأ رأس الطائفة السبئية وكانت تقول بألوهية علي، كما تقول برجعته وتطعن في الصحابة ... أصله من اليمن وكان يهودياً يتظاهر بالإسلام، رحل لنشر فتنته إلى الحجاز فالبصرة فالكوفة، ودخل دمشق في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخرجه أهلها، فانصرف إلى مصر وجهر ببدعته. قال ابن حجر: عبد الله ابن سبأ من غلاة الزنادقة ضال مضل، أحسب أن علياّ حرَّقه بالنار.أهـ. وقد تكاثر ذكر أخبار فتنته وشذوذه وسعيه في التآمر هو وطائفته في كتب الفرق والرجال والتاريخ وغيرها من مصادر السنة والشيعة جميعاً.
(3) ... انظر مثلاً ابن تيمية الذي يعتبر ابن سبأ أول من أحدث القول بالعصمة لعلي، وبالنص عليه في الخلافة وأنه أراد إفساد دين الإسلام، كما أفسد بولس دين النصارى: مجموع الفتاوى 4/518، وكذلك ابن المرتضى في المنية والأمل ص125، ومن المعاصرين أبو زهرة الذي ذكر أن عبد الله بن سبأ هو الطاغوت الأكبر الذي كان على رأس الطوائف الناقمين على الإسلام الذين يكيدون لأهله، وأنه قال برجعة علي، وأنه وصِي محمد، ودعا إلى ذلك. وذكر أبو زهرة أن فتنة ابن سبأ وزمرته كانت من أعظم الفتن التي نبت في ظلها المذهب الشيعي: انظر تاريخ المذاهب الإسلامية 1/31-33، وسعيد الأفغاني الذي يرى أن ابن سبأ أحد أبطال جمعية سرية (تلمودية) غايتها تقويض الدولة الإسلامية، وأنها تعمل لحساب دولة الروم: انظر عائشة والسياسة ص60، والقصيمي في الصراع1/41.(1/152)
. وقد تواتر ذكره في كتب السنة والشيعة على حد سواء.
... ونبتت نابتة من شيعة العصر الحاضر تحاول أن تنكر وجوده بجرة قلم دون مبرر واقعي، أو دليل قاطع(1)، بل ادعى البعض منهم أن عبد الله بن سبأ هو عمار بن ياسر(2). وهذه الدعوى أو المحاولة هي حيلة لتبرئة يهود من التآمر على المسلمين .. كما هي محاولة أو حيلة لإضفاء صفة الشرعية على الرفض .. والرد على دعوى خصومهم برد أصل التشيع إلى أصل يهودي.
... وقد اتفق القدماء من أهل السنة والشيعة على السواء على اعتبار ابن سبأ حقيقة واقعية، وشخصية تاريخية فكيف ينفي ما أجمع عليه الفريقان. أما القول بأن ابن سبأ هو عمار بن ياسر فهو قول يرده العقل والنقل والتاريخ، وكيف تلصق تلك العقائد التي قال بها ابن سبأ بعمار بن ياسر، وهل هذا إلا جزء من التجني على الصحابة والطعن فيهم.
... ولست بحاجة إلى دراسة هذه المسألة فقد خرجت دراسات موضوعية ومستوفية لهذه القضية(3)، فلا حاجة للوقوف عندها طويلاً.
القول الثالث:
... ويقول بأن منشأ التشيع كان سنة 37هـ.
__________
(1) ... وهو مرتضى العسكري في كتابه: "عبد الله بن سبأ" ص 35 وما بعدها.
(2) ... وهو: علي الوردي في كتابه(وعاظ السلاطين) ص 274، وقلده في هذا الشيعي الآخر: مصطفى الشيبي في كتابه0الصلة بين التصوف والتشيع) ص 40-41.
(3) ... من أبرز هذه الدراسات وأهمها: رسالة "عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة" للدكتور سلمان العودة، وقد توفرت لديه أدلة قاطعة على وجود ابن سبأ وسعيه في الفتنة. وهي دراسة جادة ومستوفية، وقد ناقش المشككين والمنكرين والقائلين أن ابن سبأ هو عمار بن ياسر، وأثبت زيف هذه الأقوال بالحجة والبرهان.(1/153)
... ويبدو أن هذا القول يربط نشأة التشيع بموقعة صفين، حيث وقعت سنة 37هـ بين الإمام علي ومعاوية –رضي الله عنهما- وما صاحبها من أحداث، وما أعقبها من آثار، ولكن هذا الرأي لا يعني بداية الأصول الشيعية حيث أننا لا نجد في أحداث هذه السنة فيما نقله المؤرخون من نادى بالوصية، أو قال بالرجعة، أو دعا إلى أصل من أصول الشيعة المعروفة.
القول الرابع:
... بأن التشيع ولد إثر مقتل الحسين. يقول شتروتمان(1) (Strotnmann, R):
... "إن دم الحسين يعتبر البذرة الأولى للتشيع كعقيدة"(2).
- صلى الله عليه وسلم - الرأي المختار:
... والذي أرى: أن الشيعة كفكر وعقيدة لم تولد فجأة، بل إنها أخذت طوراً زمنياً، ومرت بمراحل.. ولكن طلائع العقيدة الشيعية وأصل أصولها ظهرت على يد السبئية باعتراف كتب الشيعة التي قالت بأن ابن سبأ أول من شهد بالقول بفرض إمامة علي، وأن علياً وصِي محمد –كما مر- وهذه عقيدة النص على عليّ بالإمامة، وهي أساس التشيع كما يراه شيوخ الشيعة كما أسلفنا ذكره في تعريف الشيعة. وشهدت كتب الشيعة بأن ابن سبأ وجماعته هم أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأرحامه وخلفاؤه وأقرب الناس إليه رضي الله عنهم، والطعن في الصحابة الآخرين، وهذه عقيدة الشيعة في الصحابة كما هي مسجلة في كتبهم المعتمدة. كما أن ابن سبأ قال برجعة علي، والرجعة من أصول الشيعة.
... وهذه أهم الأصول التي تدين بها الشيعة، وقد وُجِدَت إِثر مقتل عثمان رضي الله عنه، وفي عهد علي رضي الله عنه.
أصل التشيع، أو أثر الفلسفات القديمة في المذهب الشيعي:
__________
(1) ... رودلف شتروتمان من المستشرقين المتخصصين في الفرق ومذاهبها، وله عنها مباحث، من آثاره: الزيدية، وأربعة كتب إسماعيلية. وانظر: نجيب العقيقي/ المستشرقون: 2/788.
(2) ... دائرة المعارف الإسلامية: 14/59.(1/154)
... اختلفت أنظار العلماء والباحثين في مرجع الأصول العقدية للتشيع، فمن قائل بأنها ترجع لأصل يهودي، ومن قائل بأنها ترجع لأصل فارسي، ومن قائل بأن المذهب الشيعي كان مباءة للعقائد الأسيوية كالبوذية(1) وغيرها.
- صلى الله عليه وسلم - الرأي المختار في أصل التشيع:
__________
(1) ... البوذية: هم اتباع بوذا، ولها انتشار بين عدد من الشعوب الأسيوية وتتباين عقائد الأتباع حول هذه النحلة…وانظر عن البوذية: محمد سيد كيلاني / ذيل الملل والنحل ص13، 26، 31، محمد أبو زهرة / الديانات القديمة: ص 53، سليمان مظهر/ قصة الديانات ص 73.(1/155)
... والذي أرى أن التشيع المجرد من دعوى النص والوصية ليس هو وليد مؤثرات أجنبية، بل إن التشيع لآل البيت وحبهم أمر طبيعي، وهو حب لا يفرق بين الآل، ولا يغلو فيهم، ولا ينتقص أحداً من الصحابة، كما تفعل الفرق المنتسبة للتشيع، وقد نما الحب وزاد للآل بعدما جرى عليهم من المحن والآلام بدءاً من مقتل علي، ثم الحسين…إلخ. هذه الأحداث فجرت عواطف المسلمين، فدخل الحاقدون من هذا الباب، ذلك أن آراء ابن سبأ لم تجد الجو الملائم لتنمو وتنتشر إلا بعد تلك الأحداث.. لكن التشيع بمعنى عقيدة النص على علي، والرجعة والبداء والغيبة وعصمة الأنبياء..إلخ، فلا شك أنها عقائد طارئة على الأمة دخيلة على المسلمين، ترجع أصولها لعناصر مختلفة، ذلك أنه قد ركب مطية التشيع كل من أراد الكيد للإسلام وأهله، وكل من احتال ليعيش في ظل عقيدته السابقة باسم الإسلام من يهودي ونصراني ومجوسي وغيرهم. فدخل في التشيع كثير من الأفكار الأجنبية والدخيلة، كما سيتبين من الدراسة الموسعة لأصولهم، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أن المنتسبين للتشيع قد أخذوا من مذاهب الفرس والروم واليونان والنصارى واليهود وغيرهم أموراً مزجوها بالتشيع، ويقول: وهذا تصديق لما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وساق بعض الأحاديث الواردة في أن هذه الأمة ستبع سنن من كان قبلها...، وقال بأن هذا بعينه صار في المنتسبين للتشيع(1).
ويقول سليمان العودة(2) - الخاتمة ونتائج البحث:
... الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على من أكمل الله به الرسالات.. وبعد : فإن الذي يبرز من خلال البحث عدة نقاط نجملها فيما يلي:
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/147.
(2) ... في كتابه: عبد الله بن سبأ وأثره في إحداث الفتنة في صدر الإسلام ص 231 وما بعدها.(1/156)
البحث يكشف عن حقيقة وجود عبد الله بن سبأ وجوداً تؤكده الروايات القديمة وتفيض به كتب المقالات والفرق، والغالبية من كتب التراث وأخبار الشيعة المتقدمين، وسار على نهج هؤلاء المحققون من الباحثين المحدثين.
يبدو أن أول من شكك في وجود ابن سبأ بعض المستشرقين، ثم دعم هذا الغالبية من الشيعة المحدثين، وأنكر بعضهم وجوده، وبرز مع هذه المجموعة من أولع بآراء المستشرقين، ومن تأثر بكتابات الشيعة المحدثين، لكن هؤلاء وأولئك ليس لهم من دعائم الشك إلا الشك ذاته، وقد سبق البيان..
التوصل إلى حقيقة وجود ابن سبأ يكشف لنا عن الغموض المكتنف لبعض روايات الفتنة، ويجلِّي عاملاً خطيراً من عوامل الفتنة المنتهية بقتل الخليفة عثمان رضي الله عنه.
كما يكشف البحث أيضاً أثر ابن سبأ وأعوانه في الفتنة في خلافة علي رضي الله عنه، مبرزاً الدور الذي قاموا به في وقعة الجمل، ويستمر دورهم في الإفساد حتى بعد أن استقر الأمر لعلي.
ونقف في الأخير على حقيقة اتباع ابن سبأ، فهو ليس وحده بل هناك طائفة تقول بقوله وتعتقد ما يعتقده، وقد نسبت إليه وأطلق عليها السبئية.
البحث وإن كان ينتهي دون أن يحدد نهاية ابن سبأ، بعد أن يثبت وجوده بعد استشهاد علي، إذ أنه قال لمن جاء ينعى إليه قتل علي: لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة ما صدقنا أنه يموت، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً !!، نقول مع هذا الغموض في تحديد النهاية(1) الذي يقابله غموض في المبدأ والنشأة، فإن ذلك لا ينتصب دليلاً على الإنكار أو حتى عاملاً من عوامل التشكيك، وقد سبق توضيح ذلك.
ومع ذلك فإنني أخلص من هذا البحث مؤكداً النتائج الآتية:
... أولاً: أن عبد الله بن سبأ هو أصل التشيع، والبراهين على ذلك ما يلي:
__________
(1) ... ترجم الزركلي لابن سبأ في الأعلام، فلم يحدد مولده، أما وفاته فقال: نحو سنة 40هـ ج4/220.(1/157)
... أ. عقائد الشيعة لا تختلف كثيراً عن الأفكار والمعتقدات التي جاء بها عبد الله بن سبأ، فمثلاً إذا قال الشيعة في القرآن –كما جاء في الكافي- معزواً إلى أبي عبد الله (جعفر الصادق)(1) أنه قال:
... "وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، قال أبو بصير –راوي الخبر- قلت: وما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد(2)".
... إذا قال الشيعة ذلك وجدنا أصل معتقدهم هذا قد جاء به عبد الله بن سبأ حينما قال: إن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي ..(3).
... وإذا كان من عقائد الشيعة المغالاة في الأئمة –وخاصة علي- حتى عقد فخر الشيعة: الشيخ المفيد المتوفى سنة413 هـ في إحدى كتبه باباً سماه: "القول في علم الأئمة (ع)(4) بالضمائر والكائنات، وإطلاق القول عليهم بعلم الغيب، وكون ذلك لهم في الصفات"(5).
... وقبله قال الكليني (328هـ): "إن الإمام إذا شاء أن يعلم علم"(6). وعقد بعد ذلك باباً "إن الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم"(7).
__________
(1) ... هذه الرواية كغيرها من الروايات الكثيرة التي ينسبها الشيعة كذباً وزوراً إلى جعفر الصادق عليه رحمة الله، ذلك الرجل الذي أخذ عنه الإمامان أبو حنيفة ومالك، وقال عنه أبو حنيفة ما رأيت أفقه منه ولقد دخلني له من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور، كما قيل عنه أنه فقيه إمام، توفي سنة 148هـ. وانظر الكاشف للذهبي 1/186، تقريب التهذيب 1/132، معجم المؤلفين 3/145.
(2) ... الكليني: الكافي 1/239.
(3) ... الجوزجاني: الضعفاء 3/ ب.
(4) ... (ع): أى عليهم السلام.
(5) ... أوائل المقالات ومنشورات المكتبة الحيدرية/ النجف 1393هـ – 1973م، ص 80.
(6) ... الأصول من الكافي للكليني 1/ 258.
(7) ... المصدر نفسه 1/ 258.(1/158)
... ومن الشيعة المحدثين يقول الخميني:" إن للإمام مقاماً محموداً ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون"(1) . ويقول أيضاً: "وإن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل"(2) .
... إذاً اعتقد المتقدمون والمتأخرون من الشيعة بهذه العقيدة، التي تعطي الأئمة صفات الألوهية فإننا نجد أن ابن سبأ هو الذي وضع لهم أساس هذه العقيدة –كما تقدم بيانه- حتى قال ابن قتيبة: عبد الله بن سبأ أول من كفر من الرافضة وقال على رب العالمين(3).
... وإذا كان من بين العقائد التي جاء بها ابن سبأ القول بالوصية والرجعة –كما تقدم- وجدنا الشيعة يدينون بها، ففي الأصول: "..فكان علي عليه السلام، وكان حقه الوصية التي جعلت له، والاسم الأكبر، وميراث العلم، وآثار علم النبوة.."(4) .
... ويقول الشيعة عن الرجعة: "واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات إلى الدنيا قبل يوم القيامة، وإن كان بينهم في معنى الرجعة خلاف.."(5)
... وإذا كان عبد الله بن سبأ أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم(6)وجدنا كتب الشيعة تمتلئ بسب الصحابة والبراءة من أعمالهم حتى قال شيخهم المفيد:
... "واتفقت الإمامية والزيدية والخوارج على أن الناكثين والقاسطين من أهل البصرة والشام أجمعين كفار ضُلاَّلٌ ملعونون بحربهم أمير المؤمنين (ع) وأنهم بذلك في النار مخلدون" !!(7).
__________
(1) ... الحكومة الإسلامية للخميني ص 52.
(2) ... الحكومة الإسلامية للخوميني ص 52. ...
(3) ... المعارف ص 267.
(4) ... الكليني: الأصول من الكافي 1/294.
(5) ... الشيخ المفيد: أوائل المقالات ص51.
(6) ... القيمي: المقالات والفرق ص20، النوبختي: فرق الشيعة ص19.
(7) ... أوائل المقالات: ص 48.(1/159)
... ويقف الكليني عند الآية { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم } (1) ليقول: إنها نزلت في فلان وفلان وفلان آمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول الأمر وكفروا حيث عرضت عليهم الولاية(2).
... وهو يقصد في فلان وفلان وفلان: أبو بكر وعمر وعثمان، كما أبان عن ذلك شارح الكافي(3).
... والقول بالبداء من عقائد السبئية، كما أشار إلى ذلك الملطي وغيره(4) والشيعة يقولون بالبداء، حتى عقد الكليني في كتاب التوحيد "باب البداء" وساق فيه من الأخبار: "ما تنبأ نبي قط حتى يقر لله خمس خصال : بالبدأ والمشيئة والسجود والعبودية والطاعة"(5).
... ونقل أيضاً: "لو يعلم الناس ما في القول بالبدأ من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه"(6).
... ولعل في ذلك كفاية لبيان الحقيقة، وإلا فقد يجد الدارس لأفكار عبد الله بن سبأ عند المقارنة بينها وبين عقائد الشيعة أشياء غير هذه..
... ب. ولا يستطيع الشيعة البراءة من ابن سبأ والسبئية، وذلك لأن من بين السبئية أفراد، بل علماء من الشيعة، فجابر الجعفي (أحد السبئية) يقول عنه الذهبي:"من أكابر علماء الشيعة" (7) كما أشار إلى رافضيته ابن حجر العسقلاني(8).
__________
(1) ... الملاحظ أن هذه الآية التي ذكرها الكليني جزء من الآية 137من سورة النساء، وجزء من الآية 90من سورة آل عمران.
(2) ... الأصول من الكافي: 1/320.
(3) ... الصافي شرح الكافي: ط. إيران(بالفارسية) نقلاً عن إحسان إلهي ظهير : الشيعة والسنة ص42.
(4) ... الملطي: التنبيه والرد ص 19، وانظر : إحسان إلهي ظهير: الشيعة والسنة ص63.
(5) ... الأصول من الكافي: 1/148.
(6) ... المصدر نفسه: 1/148. وانظر ابن حجر: لسان الميزان 6/76.
(7) ... الكاشف: 1/178.
(8) ... تهذيب التهذيب : 2/49، والتقريب: 1/123.(1/160)
... والمغيرة بن سعيد قال عنه ابن حبان: شيخ من حمقى الروافض(1) وفي لسان الميزان ما يؤكد ذلك. أما الكلبي (وهو واحد من السبئية أيضاً)فالذي حفظ عنه علماء الجرح والتعديل هو إفراطه في التشيع(2).
... جـ. وفوق هذا وذاك فهناك نصوص صريحة تدل –من قريب أو بعيد- على أن عبد الله بن سبأ هو أضل الرافضة، فابن قتيبة –كما مر- يقول: وكان ابن سبأ أول من كفر من الرافضة، ويقول الأسفرايني عن ابن سبأ: كان من غلاة الرافضة، ونقل مثل ذلك الذهبي(3) .
... ويكشف ابن تيمية الحقيقة أكثر فيقول: ".. وأول من ابتدع الرفض كان منافقاً .."، وينقل في موضع آخر قول أهل العلم: "إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ"(4). ويقول في"منهاج السنة": "..إن أول من ابتدع الرفض والقول بالنص على علي وعصمته كان منافقاً زنديقاً أراد إفساد دين الإسلام..".
... ولم تكن هذه التصريحات قصراً على أهل السنة وحدهم، بل ذكرها بعض علماء الشيعة، فالقمي –مثلاً- أثناء حديثه عن ابن سبأ وما جاء به يقول: "..فمن هنا قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهودية(5) دون أن يعلق على ذلك شيئاً في موضعه ومثل ذلك يصنع النوبختي في فرقه(6).
... وأخيراً يقول المستشرق الألماني"فلهوزن": "إن مذهب الشيعة الذي ينسب إلى عبد الله بن سبأ على أنه مؤسسه إنما يرجع إلى اليهود أقرب من أن يرجع إلى الإيرانيين .."(7).
__________
(1) ... المجروحين 3/7.
(2) ... تهذيب التهذيب: 9/180.
(3) ... التبصير في الدين: ص 108 . والمغني في الضعفاء 1/339.
(4) ... الفتاوى 3/353، 28/ 483 . ومنهاج السنة 3/261 .
(5) ... المقالات والفرق ص 20.
(6) ... فرق الشيعة: ص 20.
(7) ... الشيعة والخوارج: ص 170، 171.(1/161)
... ثانياً: من خلال الموازنة والتحقيق يتبين أن السبئية أصل تفرعت عنه فرق أخرى من فرق الضلال التي نبتت في مجتمع المسلمين، كما أن ابن سبأ لم ينته شأنه بموته وإنما استمرت آثاره –في مجتمع المسلمين- بفعل من جاء بعده متأثراً بأفكاره، ومتشبعاً بمعتقداته.
فرق الشيعة(1):
... حفلت كتب المقالات والفرق بذكر فرق الشيعة وطوائفهم…والملفت للنظر هو كثرة هذه الفرق، وتعددها بدرجة كبيرة حتى تكاد تنفرد الشيعة بهذه السمة أو قل بهذا البلاء..، فبعد وفاة كل إمام من الأئمة عند الشيعة تظهر فرق جديدة، وكل طائفة تذهب في تعيين الإمام مذهباً خاصاً بها.. وتنفرد ببعض العقائد والآراء عن الطوائف الأخرى، وتدعي أنها هي الطائفة المحقة.
... ولكن من الملاحظ –كما سيأتي- في عرض آراء وعقائد الإثنى عشرية قد استوعبت جل الآراء والعقائد التي قالت بها الفرق الشيعية الأخرى، وأنها كانت بمثابة النهر الذي انسكبت فيه كل الجداول والروافد الشيعية المختلفة.
__________
(1) ... أصول مذهب الشيعة الإمامية: عرض ونقد د. ناصر القفاري ص 90 ومابعدها.(1/162)
... فهذه الفرق لم تفن -كما يقال- بل إن أكثرها باقٍ، وهو يطل علينا من خلال الفكر الإثنى عشري، وقد انحصرت الفرق الشيعية المعاصرة بثلاث فرق هي: ... 1. الاثنا عشرية، ... ... ... 2. الإسماعيلية(1)
__________
(1) ... الإسماعيلية: وهم الذين قالوا: الإمام بعد جعفر إسماعيل بن جعفر، ثم قالوا بإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر، وأنكروا إمامة سائر ولد جعفر، ومن الإسماعيلية انبثق القرامطة والحشاشون والفاطميون والدروز وغيرهم، وللإسماعيلية فرق متعددة وألقاب كثيرة تختلف باختلاف البلدان، إذ لهم كما يقول الشهرستاني دعوة في كل زمان، ومقالة جديدة بكل لسان، وأما مذهبهم فهو كما يقول أبو حامد الغزالي وغيره: "إنه مذهب ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض"، أو كما يقول ابن الجوزي: "فمحصول قولهم تعطيل الصانع وإبطال النبوة والعبادات وإنكار البعث، ولكنهم لا يظهرون هذا في أول أمرهم. ولهم مراتب في الدعوة، وحقيقة المذهب لا تعطى إلا لمن وصل إلى الدرجة الأخيرة، وقد أطلع على أحوالهم وكشف أستارهم جملة من أهل العلم، كالبغدادي الذي أطلع على كتاب لهم يسمى: "السياسة والبلاغ الأكيد والناموس الأكبر"، ورأى من خلاله أنهم دهرية زنادقة يتسترون بالتشيع، والحمادي اليماني الذي اندس بينهم وعرف حالهم وبين ذلك في كتابه "كشف أسرار الباطنية"، وابن النديم الذي اطلع على "البلاغات السبعة" لهم، وقرأ "البلاغ السابع"، ورأى فيه أمراً عظيماً من إباحة المحظورات والوضع من الشرائع وأصحابها… وغيرهم، ولهم نشاطهم اليوم، كما لهم كتبهم السرية. قال أحدهم: وإن لنا كتباً لا يقف على قراءتها غيرنا ولا يطلع على حقائقها سوانا"(مصطفى غالب/ الحركات الباطنية في الإسلام ص67، وانظر أبو حاتم الرازي الإسماعيلي/ الزينة: ص287 ضمن كتاب "الغلو والفرق الغالية"، أبو حامد الغزالي/ فضائح الباطنية: ص37 وما بعدها، الملل والنحل: 1/167، 191، والبغدادي/ الفرق بين الفرق: ص294، 621، ابن النديم/ الفهرست: ص267، 268، الملطي/ التنبيه والرد: ص218، والمقدسي/ البدء والتاريخ: 5/124، الإسفراييني / التبصير في الدين، ابن الجوزي/ تلبيس إبليس: ص99، وانظر الإسماعيلية: إحسان إلهي ظهير). ...(1/163)
،
... ... 3. الزيدية(1).
... وطائفة الإثنى عشرية هي أكبر هذه الطوائف اليوم، كما كانت تمثل أكثرية الشيعة وجمهورها في بعض فترات التاريخ.
ألقاب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية:
... من الألقاب التي يطلقها بعض كتب الفرق والمقالات وغيرهم على الاثنى عشرية ما يلي:
1. الشيعة:
__________
(1) ... الزيدية: وهم اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(الملل والنحل: 1/154، مقدمة البحر الزخار: ص40)، وسموا بالزيدية نسبة إليه(يحي بن حمزة/ الرسالة الوازعة ص28، والسمعاني/ الأنساب: 6/340)، وقد افترقوا عن الإمامية حينما سئل زيد عن أبي بكر وعمر فترضى عنهما فرفضه قوم فسموا رافضة.. وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدية لاتباعهم له وذلك في آخر خلافة هشام بن عبد الملك سنة إحدى وعشرين أو اثنين وعشرين(منهاج السنة: 1/21، الرسالة الوازعة: ص87-88). والزيدية يوافقون المعتزلة في العقائد(انظر المقبلي/ العلم الشامخ: ص319، الملل والنحل: 1/162، والرازي/ المحصل: ص247). والزيدية فرق : منهم من لم يحمل من الانتساب إلى زيد إلا الاسم فهم روافض في الحقيقة يقولون إن الأمة ضلت وكفرت بصرفها الأمر إلى غير علي، وهؤلاء الجارودية أتباع أبي الجارود، ومنهم من يقترب من أهل السنة كثيراً وهم أصحاب الحسن بن صالح حي الفقيه القائلون بأن الإمامة في ولد علي رضي الله عنه(ويقول ابن حزم: إن الثابت عن الحسن ابن صالح هو أن الإمامة في جميع قريش) ويتولون جميع الصحابة إلا أنهم يفضلون علياً على جميعهم.. (انظر ابن حزم/ الفصل: 2/266، وانظر في اعتدال الزيدية الحقة في مسألة الصحابة: ابن الوزير/ الروض الباسم ص49-50، المقبلي/ العلم الشامخ: ص326)، وانظر بحثي عن الزيدية في فكرة التقريب ص146 وما بعدها (سلمان العودة).(1/164)
... لقب الشيعة في الأصل يطلق على فرق الشيعة كلها، ولكن هذا المصطلح اليوم إذا أطلق –في نظر جمع من الشيعة وغيرهم- لا ينصرف إلا إلى طائفة الاثنى عشرية.
2. الإمامية:
... قال ابن خلدون: "وأما الاثنا عشرية فربما خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم"(1).
... ويقول شيخ الشيعة في زمنه "المفيد" :"الإمامية هم القائلون بوجوب الإمامة، والعصمة، ووجوب النص"(2).
... والشهرستاني يقول:"الإمامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه نصاً ظاهراً، وتعييناً صادقاً من غير تعريض بالوصف، بل إشارة إليه بالعين(3).
... ومثله الأشعري حيث يقول:".. وهم يدعون الإمامية لقولهم بالنص على إمامة علي بن أبي طالب"(4)
3. الاثنا عشرية:
... هذا المصطلح لا نجده في كتب الفرق والمقالات المتقدمة، ولعل أول من ذكره المسعودي(5) (ت 349هـ) من الشيعة. أما من غير الشيعة فلعله عبد القادر البغدادي (ت429هـ) حيث ذكر أنهم سموا بالاثنى عشرية لدعواهم أن الإمام المنتظر هو الثاني عشر من نسبه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه(6).
4. القطعية:
__________
(1) ... تاريخ ابن خلدون: 1/201.
(2) ... العيون والمحاسن: 2/91.
(3) ... الملل والنحل: 1/162.
(4) ... مقالات الإسلاميين: 1/86.
(5) ... التنبيه والإشراف: ص198.
(6) ... الفرق بين الفرق: ص64.(1/165)
... وهو من ألقاب الاثنى عشرية عند طائفة من أصحاب الفرق كالأشعري والشهرستاني والإسفراييني وغيرهم(1). وهم يسمون القطعية لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر الصادق(2). ومنهم من يعتبر القطعية فرقة من فرق الإمامية وليس من ألقاب الاثنى عشرية(3).
5. أصحاب الانتظار:
... لَقَّبَ الرازي الاثنى عشرية بأصحاب الانتظار، وذلك لأنهم يقولون بأن الإمام بعد الحسن العسكري ولده محمد بن الحسن العسكري، وهو غائب وسيحضر .. ويقول: وهذا المذهب هو الذي عليه إمامية زماننا(4).والانتظار للإمام مما يشترك في القول به جمع من فرق الشيعة على اختلاف بينهم في تعيينه، ولا يختص به طائفة الاثنى عشرية.
6. الرافضة:
... ذهب جمع من العلماء إلى إطلاق اسم الرافضة على الاثنى عشرية كالأشعري في المقالات، وابن حزم في الفصل(5).
__________
(1) ... مقالات الإسلاميين: 1/90-91، الملل والنحل: 1/169، التبصير في الدين: ص33، الحور العين: ص166.
(2) ... انظر: القمي/ المقالات والفرق: ص89، الناشئ الأكبر، مسائل الإمامة ص47، الأشعري/ مقالات الإسلاميين: 1/90، عبد الجبار الهمداني/ المغني ج20، القسم الثاني ص 176، المسعودي/ مروج الذهب: 3/221.
(3) ... مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص19-20. ولا شك أن القطعية هم أسلاف الاثنى عشرية، وسموا بهذا بعد القطع بإمامة موسى، وافترقوا بذلك عن الإسماعيلية.. ولكن إذا لاحظنا أن الشيعة تختلف بعد موت كل إمام، فإن فرقة القطعية قد حل بها هذا الانقسام.. وانفصل منها فرق لم تعتقد بالاثنى عشر. أي أنه قد صار من فرق القطعية من لم يكن من الاثنى عشرية، فالقطعية أعم من الاثنى عشرية.
(4) ... اعتقادات فرق المسلمين والمشركين: ص84-85.
(5) ... مقالات الإسلاميين: 1/88، الفصل: 4/157-158.(1/166)
... يقول أبو الحسن الأشعري: "وإنما سموا رافضة لرفضهم إمامة أبي بكر وعمر"(1).
... هذا وهناك أقوال أخرى في سبب تسميتهم بالرافضة، على أن هناك من أصحاب الفرق من أطلق اسم الرافضة على عموم فرق الشيعة.
7. الجعفرية:
... وتسمى الاثنا عشرية بالجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق إمامهم السادس –كما يزعمون- وهو من باب التسمية للعام باسم الخاص.
اعتقاد الشيعة في مصادر الإسلام(2):
... القرآن – السنة – الإجماع.
أولاً: اعتقادهم في القرآن الكريم:
... وفيه ثلاث مباحث.
المبحث الأول - اعتقادهم في حجية القرآن:
... سنقسم هذا المبحث إلى مسائل ثلاث: الأولى قولهم: إن القرآن ليس بحجة إلا بقَيِّم، والثانية: حصر علم القرآن ومعرفته بالأئمة، والثالثة: زعمهم بأن قول الإمام يخصص عام القرآن، ويقيد مطلقه..إلخ.
المسألة الأولى: ... اعتقادهم أن القرآن ليس حجة إلا بقَيِّم:
__________
(1) ... مقالات الإسلاميين: 1/89، وانظر أيضاً في سبب التسمية بالرافضة: الشهلاستاني/ الملل والنحل: 1/155، والرازي/ اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص77، والإسفراييني/ التبصير في الدين: ص34، الجيلاني/ الغنية: 1/76، ابن المرتضى/ المنية والأمل: ص21. وقيل سموا رافضة ..لتركهم نصرة النفس الزكية(ابن المرتضى/ المنية والأمل: ص21، وانظر هامش رقم 1 ص111، وقيل لتركهم محبة الصحابة(علي القاري/ شم العوارض في ذم الروافض، الورقة 254 ب(محظوظ) وقيل لرفضهم دين الإسلام(انظر: الإسكوبي/ الرد على الشيعة، الورقة 23(مخطوط) وانظر: محي الدين عبد الحميد/ هامش مقالات الإسلاميين: 1/89).
(2) ... هذا الباب مختصر من كتاب أصول مذاهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية عرض ونقد وتأليف دكتور: ناصر بن عبد الله بن على القفارى.(1/167)
... فالقرآن العظيم هو الشاهد والدليل والحجة، ولكن شيخ الشيعة ومن يسمونه بـ [ثقة الإسلام (الكليني)] يروي في كتابه: أصول الكافي والذي هو عندهم كصحيح البخاري عند أهل السنة يروي ما نصه: "… أن القرآن لا يكون حجة إلا بقَيِّم.. وأن علياً كان قَيِّم القرآن وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجة على الناس بعد رسول الله".
... فماذا يعنون بهذه العقيدة: أيعنون بذلك أن النص القرآني لا يمكن أن يحتج به إلا بالرجوع لقول الإمام؟ وهذا يعني أن الحجة هي في قول الإمام لا فى قول الرحمن.
... والمتأمل لتلك المقالة التي تواترت في كتب الشيعة يلاحظ أنها من وضع عدو حاقد أراد أن يصد الشيعة عن كتاب الله سبحانه، ويضلهم عن هدى الله، فما دامت تلك المقالة ربطت حجية القرآن بوجود القَيِّم، و القَيِّم هو أحد الأئمة الإثنى عشر، لأن القرآن فُسِّرَ لرجل واحد وهو عليّ، وقد انتقل علم القرآن من علي إلى سائر الأئمة الاثنى عشر، كل إمام يعهد بهذا العلم إلى من بعده، حتى انتهى إلى الأمام الثاني عشر وهو غائب مفقود عند الإثني عشرية منذ ما يزيد على أحد عشر قرناً، ومعدوم عند طوائف من الشيعة وغيرهم.. فما دامت هذه المقالة ربطت حجية القرآن بهذا الغائب أو المعدوم فكأن نهايتها أن الاحتجاج بالقرآن متوقف لغياب قَيِّمِهِ أو عدمه، وأنه لا يرجع إلى كتاب الله، ولا يعرج عليه في مقام الاستدلال، لأن الحجة في قول الإمام فقط، وهو غائب فلا حجة فيه حينئذ.
المسألة الثانية: ... اعتقادهم بأن الأئمة اختصوا بمعرفة القرآن لا يشركهم فيه أحد:(1/168)
... فإنه مما عُلِمَ من الإسلام أن عِلْمَ القرآن لم يكن سراً تتوارثه سلالة معينة، ولم يكن لعلي اختصاص بهذا دون سائر صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الصحابة رضوان الله عليهم هم الطليعة الأولى الذين حازوا شرف تلقي هذا القرآن عن رسول البشرية محمد بن عبد الله ونقله إلى الأجيال كافة.. ولكن الشيعة تخالف هذا الأصل وتعتقد أن الله سبحانه قد اختص أئمتهم الاثنى عشر بعلم القرآن كله، وأنهم اختُصوا بتأويله، وأن من طلب علم القرآن من غيرهم فقد ضل!.
... جاء في أصول الكافي في خبر طويل عن أبي عبد الله قال: "إن الناس يكفيهم القرآن لو وجدوا له مفسراً، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله فسره لرجل واحد، وفسره للأمة شأن هذا الرجل وهو علي بن أبي طالب".
... وجاء في طائفة من مصادر الشيعة المعتمدة لديهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "إن الله أنزل علىّ القرآن وهو الذي من خالفه ضل، ومن يبتغي علمه عند غير علي هلك"(1).
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهذا ابن عباس نقل عنه من التفسير ما شاء الله بالأسانيد الثابتة ليس في شيء منها ذكر عليّ، وابن عباس يروي عن غير واحد من الصحابة، يروي عن عمر وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف وعن زيد بن ثابت وأبي بن كعب وأسامة بن زيد وغير واحد من المهاجرين والأنصار. وروايته عن عليّ قليلة جداً، ولم يُخَرِّج أصحاب الصحيح شيئاً من حديثه عن علي، وخَرَّجُوا حديثه عن عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم… وما يعرف بأيدي المسلمين تفسير ثابت عن علي، وهذه كتب الحديث والتفسير مملوءة بالآثار عن الصحابة والتابعين، والذي منها عن علي قليل جداً، وما ينقل من التفسير عن جعفر الصادق عامته كذب على جعفر(2).
__________
(1) ... وسائل الشيعة: 18/138، وانظر: بحار الأنوار: 7/302، 19/23، الطبري(الرافضي) /بشارة المصطفى ص: 16، آمالي الصدوق ص: 40.
(2) ... منهاج السنة: 4/155.(1/169)
... بعد: فهذه المقالة مؤامرة، الهدف منها الصدّ عن كتاب الله سبحانه والإعراض عن تدبره فالقرآن في دين الشيعة لا وسيلة لفهم معانيه إلا من طريقة الأئمة الإثنى عشر، أما غيرهم فمحروم من الانتفاع به.
المسألة الثالثة: ... اعتقادهم بأن قول الإمام ينسخ القرآن ويقيد مطلقه ويخصص عامه..
... ومسألة النسخ والتخصيص والتقييد… ليست إلا جزءاً من وظيفة الأئمة الكبرى وهي (التفويض في أمر الدين) والتي يقررها صاحب الكافي في باب يعقده في هذا الشأن بعنوان: "باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى الأئمة عليهم السلام في أمر الدين".
... ولعل المتأمل لهذه المقولة، والمحلل لأبعادها يدرك أن الهدف من هذه المقالة تبديل دين الإسلام، وتغيير شريعة سيد الأنام.
... وهذه الدعوى تقوم على أن دين الإسلام ناقص ويحتاج إلى الأئمة الاثنى عشر لإكماله، وأن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لم يكمل بهما التشريع ..(1/170)
... وهذه العقائد أصبحت من أصول الاثنى عشرية(1)، لأنها شربت مذاهب الغلاة حتى الثمالة.. وقد أشار أبو جعفر النحاس (المتوفى سنة 338هـ) إلى هذه المقالة ولم ينسبها لأحد فقال: "وقال آخرون: باب الناسخ والمنسوخ إلى الإمام، ينسخ ما شاء"(2) وعدَّ ذلك من عظيم الكفر ثم بين بطلانه بقوله: "لأن النسخ لم يكن إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بالوحي من الله عز وجل إما بقرآن مثله على قول قوم، وإما بوحي من غير القرآن(3) فلما ارتفع هذان بموت النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتفع النسخ(4).
المبحث الثاني - اعتقادهم في تأويل القرآن:
... وفيه مسألتان: الأولى: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر.
والثانية: قولهم بأن جلّ القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم.
المسألة الأولى: اعتقادهم بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر:
... جاء في أصول الكافي للكليني ما نصه: "..عن محمد بن منصور قال: سألت عبداً صالحاً(5) عن قول الله عز وجل: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } (6). قال فقال: إن القرآن له ظهر وبطن، فجميع ما حرم الله في القرآن هو الظاهر، والباطن من ذلك أئمة الجور، وجميع ما أحل الله تعالى في الكتاب هو الظاهر والباطن من ذلك أئمة الحق.
__________
(1) ... انظر دعوى الاثنى عشرية أن الأئمة يوحى إليهم وتهبط عليهم الملائكة، فصل السنة من هذه المسألة، وانظر قول الاثنى عشرية بأن الأئمة تظهر عليهم المعجزات/ مبحث الإيمان بالأنبياء من هذه الرسالة.
(2) ... الناسخ والمنسوخ: ص8.
(3) ... يعني سنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: { وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى } [النجم: 3-4].
(4) ... الناسخ والمنسوخ: ص 8-9.
(5) ... يعنون به موسى الكاظم والذي يعتبرونه إمامهم السابع(انظر أصول الكافي: الهامش: 1/374).
(6) ... الأعراف: 33.(1/171)
... تقرر هذه الرواية الواردة في كتبهم الأربعة مبدأ أن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر مخالفة تامة، وتضرب المثل بما أحل الله وحرم في كتابه من الطيبات والخبائث، وأن المقصود بذلك رجال بأعيانهم هم الأئمة الاثنا عشر، وأعداؤهم وهم كل خلفاء المسلمين.. وهذا التأويل لا أصل له من لغة أو عقل أو دين، وهو محاولة لتغيير دين الإسلام من أساسه ودعوة إلى التحلل والإباحية؟!.
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "من ادعى علماً باطناً، أو علماً بباطن وذلك يخالف العلم الظاهر كان مخطئاً، إما ملحداً زنديقاً، وأما جاهلاً ضالاً…وأما الباطن المخالف للظاهر المعلوم، مثل ما يدعيه الباطنية القرامطة من الإسماعيلية والنصيرية وأمثالهم. ثم يقول:" وهؤلاء الباطنية قد يفسرون: { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } (1) أنه عليّ، وقوله: { فقاتلوا أئمة الكفر } (2) أنهم طلحة والزبير، { والشجرة الملعونة في القرآن } (3) بأنها بنو أمية(4).
__________
(1) ... يس: 12.
(2) ... التوبة: 12.
(3) ... الإسراء: 60.
(4) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 13/236-237.(1/172)
... هذه التأويلات التي ينقلها ابن تيمية وينسبها للباطنية موجودة بعينها عند الاثنى عشرية، فالتأويل المذكور في الآية الأولى: { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } جاء عندهم في خمس روايات أو أكثر(1)، وسجل في طائفة من كتبهم المعتمدة(2)، وليس في الآية أية دلالة على هذا التأويل(3). وكذلك الآية الثانية { فقاتلوا أئمة الكفر } ورد تأويلها بذلك في طائفة من كتبهم المعتمدة(4)، وبلغت رواياتها عندهم أكثر من ثمان روايات(5)، ومثلها الآية الثالثة { والشجرة الملعونة } جاء تأويلها عند الاثنى عشرية بما قاله شيخ الإسلام في أكثر من اثنتى عشرة رواية(6)، وتناقل هذا التأويل مجموعة من مصادرهم المعتمدة(7).
المسألة الثانية: قولهم بأن جل القرآن نزل فيهم وفي أعدائهم:
__________
(1) ... انظر: اللوامع النورانية في أسماء علي وأهل بيته القرآنية: هاشم البحراني: ص321-322.
(2) ... انظر من ذلك: تفسير القمي: 2/212.
(3) ... قال السلف في تفسير الآية: أن الإمام المبين هنا هو أم الكتاب، أي وجميع الكائنات مكتوبة في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ.(انظر تفسير ابن كثير: 3/591).
(4) ... انظر البرهان: 2/106-107.
(5) ... راجع المصدر السابق.
(6) انظر البرهان: 2/224-225.
(7) انظر: تفسير القمي: 2/21.(1/173)
... يقول الشيعة بأن: "جل القرآن إنما نزل فيهم (يعني في الأئمة الاثنى عشر) وفي أوليائهم وأعدائهم، مع أنك لو فتشت في كتاب الله وأخذت معك قواميس اللغة العربية كلها وبحثت عن اسم من أسماء هؤلاء الاثنى عشرية فلن تجد لها ذكراً، ومع ذلك فإن شيخهم البحراني يزعم بأن علياً وحده ذكر في القرآن (1154) مرة، ويؤلف في هذا الشأن كتاباً سماه: "اللوامع النورانية في أسماء علي وأهل بيته القرآنية" يحطم فيه كل مقاييس لغة العرب، ويتجاوز فيه أصول العقل والمنطق، ويفضح من خلاله قومه علي رؤوس الأشهاد بتحريفاته التي سطرها في هذا الكتاب وجمعها –وقد كانت متفرقة قد لا تعرف- من طائفة من مصادرهم المعتبرة عندهم.
... وتأتي بعض رواياتهم لتقول: "إن القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، وربع حرام، وربع سنن وأحكام، وربع خبر ما كان قبلكم ونبأ ما يكون بعدكم، وفصل ما بينكم"(1). وهذا يعني أنه ليس للأئمة ذكر صريح في القرآن.
... وفي كتاب"البحار" أحد مصادرهم المعتمدة عندهم في الحديث أبواب كثيرة هي بمثابة قواعد وأصول في تفسير القرآن عندهم، وقد حشر في هذه الأبواب روايات كثيرة كلها تذهب هذا المذهب في كتاب الله سبحانه، ولعله يكفي أن تقرأ عناوين بعض هذه الأبواب لتدرك مدى مجافاتها للغة العرب، ومناقضتها للعقل، ومنافاتها لأصول الإسلام، وأنها من أعظم الإلحاد في كتاب الله، والتحريف لمعانيه. ولنستعرض قسماً من هذه العناوين فيما يلي. قال المجلسي:
... باب أنهم عليهم السلام آيات الله وبيِّناته وكتابه.. وفيه (20) رواية(2).
__________
(1) ... أصول الكافي: 2/627.
(2) ... انظر: بحار الأنوار: 23/206-211.(1/174)
... وباب أنهم السبع المثاني، وفيه (10) روايات(1). وباب أنهم عليم السلام الصافون والمسبحون وصاحب المقام المعلوم وحملة عرش الرحمن، وأنهم السفرة الكرام البررة، وفيه (11) رواية(2). وباب أنهم كلمات الله، وفيه (25) رواية(3). وباب أنهم حرمات الله، وفيه (6) روايات(4).
... وباب أنهم الذكر وأهل الذكر، وفيه (65) رواية(5). وباب أنهم أنوار الله، وفيه (42) رواية(6).
... وباب أنهم خير أمة وخير أئمة أخرجت للناس، وفيه (24) رواية(7).
... وباب أنهم المظلومون، وفيه (37) رواية(8). وباب أنهم المستضعفون، وفيه (13) رواية(9).
... فالأئمة كما ترى في هذه الأبواب يكونون أحياناً ملائكة، وأحياناً كتباً سماوية، أو أنواراً إلهية..إلخ. ومع ذلك فهم المظلومون المستضعفون.
... وهي دعاوى لا تحتاج إلى نقد فهي مرفوضة لغة وعقلاً، فضلاً عن الشرع وأصول الإسلام، وهي عناوين يناقض بعضها بعضاً.. ولكنه يمضي في هذا النهج حتى يفسر الجمادات ويؤولها بالأئمة، يقول: باب أنهم الماء المعين، والبئر المعطلة، والقصر المشيد، وتأويل السحاب، والمطر، والظل، والفواكه، وسائر المنافع بعلمهم وبركاتهم. وقد أورد في هذا الباب إحدى وعشرين رواية(10)، انتخبها كعادته من طائفة من كتبهم المعتمدة.
... ويغلو ويشطط ويتجاوز الحد، ليصل إلى أوصاف الرب جل جلاله فيقول: باب انهم جنب الله، وروحه، ويد الله وأمثالها ويذكر فيه ستاً وثلاثين رواية(11).
__________
(1) ... المصدر السابق: 24/114-118.
(2) ... المصدر السابق: 24/87-91.
(3) ... المصدر السابق: 24/173-184.
(4) ... المصدر السابق: 24/185-186.
(5) ... المصدر السابق: 23/172-188.
(6) ... المصدر السابق: 23/304-325.
(7) ... المصدر السابق: 24/153-158.
(8) ... المصدر السابق: 24/221-231.
(9) ... المصدر السابق: 24/167-173.
(10) ... المصدر السابق: 24/100-110.
(11) ... المصدر السابق: 24/191-203.(1/175)
... ويجعلهم هم الكعبة والقبلة.. ويعقد باباً لهذا بعنوان: باب أنهم رضي الله عنهم حزب الله وبقيته وكعبته وقبلته، وأن الأثارة من العلم علم الأوصياء، ويقدم في هذا الباب سبع روايات(1).
... ويمضي في هذا الشطط في طائفة من الأبواب عرضها يمثل في الحقيقة أبلغ رد وأعظم نقد لمذهب الشيعة، وهو ينسف بنيانهم من القواعد، وهو يؤكد عظمة هذا الدين الإسلامي، فبضدها تتميز الأشياء –فلولا المر ما عرف طعم الحلو- فهذه التأويلات أشبه ما تكون بمحاولات مسيلمة الكذاب، وهي تعطي الدليل القاطع على أنها ليست من عند الله سبحانه، يعرف هذا من له أدنى صلة بلغة العرب فضلاً عن دين الإسلام وقواعده وأصوله، لأن الله أنزل هذا القرآن سبحانه أنزل هذا القرآن بلسان عربي مبين…وإن من له أدنى صلة باللسان العربي –كما قلت- يدرك أن هذه الأبواب وتلك الروايات إلحاد في كتاب الله، وتحريف لكلامه سبحانه عن مواضعه. وأن مثل هذه التحريفات لا تلتبس إلا على أعجمي جاهل بالإسلام ولغة العرب، ولعلها برهان واقعي على أن من حاول المساس بكتاب الله سبحانه سقط في هذا الدرك الهابط، وليس هذا النهج في كتب الروايات والأحاديث فحسب، فأنت إذا طالعت عمدة التفسير عند هذه الطائفة "وأصل أصول التفسير"(2) لديها، وهو تفسير القمي ألفيته قد أخذ من تلك التفاسير الباطنية بنصيب وافر، ومثله تفسير العياشي، وهو من كتب التفسير القديمة المعتمدة عندهم، وعلى نفس الطريق تجد تفسير البرهان، وتفسير الصافي وغيرها، وهي تعتمد على تفسير الآيات –كما زعموا- أنه بالمأثور عن جعفر الصادق أو بقية الاثنى عشر.
... وحسبنا أن نذكر أمثلة من رواياتهم في هذا الباب:
أصل هذه التأويلات وجذورها، وأمثلة لها:
أ. أصل هذه التأويلات:
__________
(1) ... المصدر السابق: 24/211-213.
(2) ... انظر مقدمة تفسير القمي: 1/16.(1/176)
... مضى القول بأن كتب الشيعة تزعم أن القرآن لا يحتج به إلا بقَيِّم، وأن هذا القَيِّم والمتمثل بالاثنى عشر عنده علم القرآن كله ولا يشركه في ذلك أحد، ثم جعلت لهذا القَيِّم وظيفة "المشرع" في تخصيص عام النصوص وتقييد مطلقها وبيان مجملها، ونسخ ما شاء منها، لأنه مُفَوَّض في أمر الدين كله، ثم بررت ضرورة وجود هذا القَيِّم لتأويل القرآن بقولها: بأن للقرآن معاني باطنة تخالف الظاهر، ثم كشفت عن علم هذا الباطن المدخر عند الأئمة بأنه يعني الأئمة الاثنى عشر وأعدائهم (وهم الصحابة والتابعين لهم بإحسان) ومعظم موضوعات القرآن لا تتعدى –عندهم- هذا الشأن، ثم وضعت هذه النظريات موضع التنفيذ حيث قام شيوخ الشيعة بوضع مئات الروايات في تفسير معاني القرآن بالأئمة أو مخالفيهم أو بعقيدة أخرى من عقائدهم التي شذوا بها عن جماعة المسلمين.
... ويرى بعض الباحثين(1) أن أول كتاب وضع الأساس لهذا اللون من تفسير الشيعة هو تفسير القرآن الذي وضعه في القرن الثاني للهجرة (جابر الجعفي)(2)
__________
(1) ... جولد سيهر/ مذاهب التفسير الإسلامي ص: 303-304.
(2) ... جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي الكوفي، توفي سنة(127هـ)، قال ابن حبان: كان سبئياً من أصحاب عبد الله بن سبأ. كان يقول أن علياً يرجع إلى الدنيا. وروى العقيلي بسنده عن زائدة أنه قال: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال النسائي وغيره: متروك. وقال يحى: لا يكتب حديثه ولا كرامة. قال ابن حجر: ضعيف رافضي. وانظر ميزان الاعتدال: 1/379-380، تقريب التهذيب 1/123، والضعفاء للعقيلي: 1/191-196.
... أما هذا الجعفي في كتب الشيعة فأخبارهم في شأنه متناقضة، فأخبار تجعله ممن انتهى إليه علم أهل البيت، وتضفي عليه صفات أسطورية من علم الغيب ونحوه، وأخبار تطعن فيه… لكنهم يحملون أخبار الطعن فيه على التقية، ويقولون بتوثيقه كعادتهم في توثيق من على مذهبهم وإن كان كاذباً. انظر: وسائل الشيعة: 20/51، رجال الكشي: ص191، جامع الرواة: 1/144.(1/177)
.
... وقد نقلت لنا بعض كتب أهل السنة نماذج من تأويلات الشيعة لكتاب الله، ولكن ما انكشف لنا اليوم أمر لا يخطر على البال. ويبدو أن ما نسبه بعض أئمة السنة لغلاة الشيعة من تأويلات قد ورثتها الاثنى عشرية. فالإمام الأشعري(1)، وكذلك البغدادي(2)، والشهرستاني(3) وغيرهم يحكون عن المغيرة بن سعيد أحد الغلاة باتفاق السنة والشيعة، والذي تنسب إليه طائفة المغيرية(4) أنه ذهب في تأويل الشيطان في قول الله جل شأنه: { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } (5) بعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
... وهذا التأويل بعينه قد ورثته الاثنا عشرية، ودونته في مصادرها المعتمدة، حيث جاء في تفسير العياشي، والصافي، والقمي، والبرهان، وبحار الأنوار(6) عن أبي جعفر في قول الله: { وقال الشيطان لما قضي الأمر } (7) قال: هو الثاني، وليس في القرآن شيء { وقال الشيطان } إلا وهو الثاني.
... فكأن كتب الاثنى عشرية تزيد على المغيرة بوضع هذا الإلحاد في كتاب الله قاعدة مطردة.
__________
(1) ... مقالات الإسلاميين: 1/73.
(2) ... الفرق بين الفرق: ص 240.
(3) ... الملل والنحل: 1/177.
(4) ... المغيرية: أتباع المغيرة بن سعيد، عدَّهم أصحاب الفرق من غلاة الشيعة، نسب إليه القول بألوهية علي، ودعوى النبوة، والتجسيم، وضلالات أخرى، وقد جاء في كتب الإثنى عشرية ذمه ولعنه عن الأئمة. قتله خالد بن عبد الله القسري سنة 119هـ. انظر تاريخ الطبري: 7/128-130، الأشعري: مقالات الإسلاميين: 1/69-74.
(5) ... الحشر:: 16.
(6) ... تفسير العياشي: 2/223، الكاشاني/تفسير الصافي: 3/84، تفسير القمي: انظر الكاشاني 3/84، ولم أجده في الطبعة التي عندي، البحراني/ البرهان: 2/309، بحار الأنوار: 3/378(ط. كمباني).
(7) ... إبراهيم: 22.(1/178)
... وفي الكافي عن أبي عبد الله قال:"وكان فلان شيطاناً"(1)، قال المجلسي في شرحه على الكافي: المراد بفلان عمر(2).
ب. أمثلة من تأويلات الشيعة لآيات القرآن:
... حين احتج شيخ الشيعة في زمنه –والذي إذا أطلق لقب"العلامة" عندهم انصرف إليه (ابن المطهر الحلي) – على استحقاق علي للإمامة بقوله:"البرهان الثلاثون قوله تعالى: { مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } قال علي وفاطمة، { بينهما برزخ لا يبغيان } النبي - صلى الله عليه وسلم - { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } الحسن والحسين. حينما احتج ابن المطهر بذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذا وأمثاله إنما يقوله من لا يعقل ما يقول، وهذا بالهذيان أشبه منه بتفسير القرآن، وهو من جنس تفسير الملاحدة والقرامطة الباطنية للقرآن، بل هو شر من كثير منه. والتفسير بمثل هذا طريق الملاحدة بل هو شر من كثير منه، والتفسير بمثل هذا طريق الملاحدة على القرآن والطعن فيه، بل تفسير القرآن بمثل هذا من أعظم القدح فيه والطعن فيه(3).
... وأقول كيف لو رأى شيخ الإسلام ما أودع في الكافي والبحار وتفسير العياشي والقمي والبرهان وتفسير الصافي وغيرها من تحريف لمعاني القرآن سموه تفسيراً !!.
__________
(1) ... الكليني/ الكافي(المطبوع بهامش مرآة العقول: 4/416).
(2) ... مرآة العقول: 4/416.
(3) ... منهاج السنة: 4/66.(1/179)
... وبين يدي مجموعة كبيرة من هذا اللون.. يستغرق عرضها المجلدات، ركام هائل من الروايات.. حجبت الشيعة عن نور القرآن وهديه.. فالتوحيد الذي هو أصل دعوة الرسل، وجوهر رسالتهم… هو عندهم ولاية الإمام فيروون عن أبي جعفر أنه قال:"ما بعث الله نبياً قط إلا بولايتنا والبراءة من عدوناً وذلك قول الله في كتابه: { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } (1). ورواياتهم في هذا الباب كثيرة، كما سيأتي(2).
__________
(1) ... النحل: 36. تفسير العياشي: 2/261.
(2) ... في مبحث: عقيدتهم في توحيد الألوهية.(1/180)
... والإله في كتاب الله هو الإمام، فقوله تعالى: { لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد } (1) قال: أبو عبد الله- كما يزعمون- يعني بذلك ولا تتخذوا إمامين إنما هو إمام واحد(2) .والرب هو الإمام عندهم. وقد يلتمس لهم في هذا التأويل عذر، لأن الرب في اللغة له استعمالات أخرى كرب البيت، ورب المال بمعنى صاحب ولكن يمنع من ذلك أن تأويلهم للرب في الإمام جرى في آيات هي نص في الله سبحانه ولا تحتمل وجهاً آخر. وفي قوله سبحانه عن المشركين: { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا } (3) قال القمي في تفسيره: "الكافر: الثاني (يعني عمر- رضي الله عنه وأرضاه-) كان على أمير المؤمنين عليه السلام ظهيراً(4). فاعتبر أمير المؤمنين علياً هو الرب. وقال الكاشاني "في البصائر"(5) عن الباقر- عليه السلام –أنه سئل عن تفسيرها فقال (كما يفترون): "إن تفسيرها في بطن القرآن: علي هو ربه في الولاية، والرب هو الخالق الذي لا يوصف"، فهذا قد يفهم منه أن علياً هو الرب الذي لا يوصف –كما يفترون-، لأن الآية نص في حق الباري سبحانه؟!.
... والصراط المستقيم في قوله تعالى: { اهدنا الصراط المستقيم } هو أمير المؤمنين(6) عندهم.
... والشمس هي علي، فيروون عن الصادق في قوله: { والشمس وضحاها } (7) قال: "الشمس أمير المؤمنين، وضحاها: قيام القائم". فهل يعني هذا أنه لما مات أمير المؤمنين اختفت الشمس من الوجود؟، والناس في ظلمة حتى يشرق ضحى القائم المنتظر؟
__________
(1) ... النحل: 51.
(2) ... تفسير العياشي: 2/261، البرهان في تفسير القرآن: 2/373.
(3) ... الفرقان: 55.
(4) ... تفسير القمي: 2/115.
(5) ... يعني بصائر الدرجات لشيخهم الصفار.
(6) ... تفسير القمي: 1/28.
(7) ... الشمس: 1، البرهان: 4/467.(1/181)
... والمسجد، والمساجد، والكعبة، والقبلة هي الإمام والأئمة، فيروون عن الصادق في قوله تعالى: { وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد } (1) قال يعني الأئمة. وفي رواية أخرى عنه في قوله تعالى: { خذوا زينتكم عند كل مسجد } (2) قال يعني الأئمة.وفي قوله تعالى: { وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً } (3) قال: إن الإمام من آل محمد فلا تتخذوا من غيرهم إماماً(4)، ويقول الصادق- عندهم-: ".. نحن البلد الحرام، ونحن كعبة الله، ونحن قبلة الله"(5).
... والسجود: هو ولاية الأئمة وبهذا يفسرون قوله تعالى { وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } (6) حيث قالوا: أى يدعون إلى ولاية علي في الدنيا".
... ولعل مثل هذه الروايات هي السبب في شيوع عبادة الأئمة، وأضرحتهم، وعمارة المشاهد وتعطيل المساجد، لأن المشاهد هي المساجد، والإمام هو كعبة الله وقبلته، ولهذا صنفوا كتباً سموها"مناسك المشاهد" أو "مناسك الزيارات"، أو"المزار"(7)، واعتنوا ببيان فضائلها وآدابها، وأخذت هذه المسائل في كتبهم المعتمدة قسماً كبيراً-كما سيأتي تفصيله.
__________
(1) ... الأعراف: 29، تفسير العياشي: 2/12.
(2) ... الأعراف: 31، تفسير العياشي: 2/13.
(3) ... الجن: 18.
(4) ... الجن: 18، البرهان: 4/393.
(5) ... بحار الأنوار: 24/303.
(6) ... القلم: 43، تفسير القمي: 2/383.
(7) ... مثل كتاب: مناسك الزيارات للمفيد، وكتاب المزار لمحمد بن علي الفضيل، والمزار لمحمد المشهدي.(1/182)
... وتأويلهم لكثير من آيات القرآن بالإمامة والأئمة يربو على الحصر وكأن القرآن لم ينزل إلا فيهم، ولقد تجاوزوا في هذه الدعاوى كل معقول، وأسرفوا في تأويلاتهم إلى ما يشبه هذيان المعتوهين حتى قالوا: إن النحل في قوله سبحانه: { وأوحى ربك إلى النحل.. } هم الأئمة، وروى القمي بإسناده إلى أبي عبد الله قال: "نحن النحل التي أوحى الله إليها { أن اتخذي من الجبال بيوتاً } أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة { ومن الشجر } يقول: من العجم { ومما يعرشون } يقول: من الموالي"(1). وجمع المجلسى رواياتهم في هذا المعنى في باب بعنوان: "باب نادر في تأويل النحل بهم عليهم السلام"(2)، كما جاء بروايات تقول: إن الأئمة هم الماء المعين والقصر المشيد، والسحاب والمطر والفواكه وسائر المنافع الظاهرة"(3).
__________
(1) ... النحل: 68، تفسير القمي: 1/387.
(2) ... بحار الأنوار: 24/110-113.
(3) ... انظر: بحار الأنوار: 24/100-110.(1/183)
... وبعد.. فإن المتأمل لآيات القرآن بمقتضى اللغة العربية التي نزل بها: { إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون } (1) لا يجد فيه ذكراً لما يدَّعون، والروايات التي يذكرونها يكفي في بيان فسادها مجرد عرضها، فهي تحمل بنفسها ما يهدم بنيانها من الأساس، فهل يصدق أحد أن لعلي في القرآن (1154) اسماً؟! وهل يدخل في عقل أحد أن من أسماء علي البعوض والذباب؟!، وهل يوافق مؤمن على القول بأن ما ورد من آيات عن اليوم الآخر هي خاصة برجعة الأئمة؟، وكيف تناقش من يقول بأن آيات الإيمان والمؤمنين هي في الأئمة الإثنى عشر، وآيات الكفر والكافرين هي في الصحابة؟، وإنني هنا أذهب إلى القول بأن هذا المستوى الذي هبط إليه هؤلاء هو من معجزات هذا الدين العظيم، فما من أحد ادّعى نبوة أو وحياً وأراد أن يضع في الدين ما ليس منه إلا وفضحه الله على رؤوس الأشهاد، وتالله إن هذه المقالات التي لا يمكن بحال أن تتفق مع العقل والنقل ولا اللغة والدين هي من أعظم فضائح القوم وعوراتهم.. وبها يكشف الله سبحانه وتعالى كذبهم وبهتانهم.
المبحث الثالث - هل الشيعة تقول بأن في كتاب الله نقصاً أو تغييراً ؟
مدخل للموضوع:
... وجاء هذا المبحث بهذه الصيغة الاستفهامية لثلاثة أسباب:
... أولاً: أن طائفة من أعلام الاثنى عشرية يتبرأون من هذه المقالة، مثل الشريف المرتضى، وابن بابويه القمي وغيرهما.
... ثانياً: أن إجماع المسلمين كلهم قام على أن كتاب الله سبحانه محفوظ بحفظ الله له { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } (2). ومن قال أن في القرآن نقصاً وتحريفاً فليس من أهل القبلة وليس من الإسلام في شيء، ومن هنا فإن العدل يقتضي أن نحتاط في دراستنا لهذه المسألة أبلغ الاحتياط، وأن نعدل في القول، فلا نرمي طائفة بهذه المقالة إلا بعد الدراسة والتثبت.
__________
(1) ... يوسف: 2.
(2) ... فصلت: 42.(1/184)
... ثالثاً: أن هناك طائفة من المفكرين يرمون الشيعة بالقول بهذا الكفر، ويعممون ذلك، ولا شك بأن الشيعة فِرقٌ، والشيعة طبقات فلا يصح أن يقال مثلاً بأن متقدمي الشيعة يقولون بهذه المقالة(1)، ولا يقبل أن يقال بأن الزيدية تقول بهذه الفرية.. فأسلوب التعميم غير مرضي ولا مقبول.
... وأقول إن دراسة هذه المسألة ليست من أجل الرد والنقض، إنما هي لبيان هل الشيعة تقول بهذه المقالة أم لا؟، وفي ثبوت ذلك أكبر فضيحة للشيعة يهدم بنيانها من الأساس ويزلزل كيانها من القواعد، ولن يقبل منها قول ولا يسمع منها كلمة.. ومن ذا الذي يمس كتاب الله ويقبل منه مسلم قولاً أو يرتضي منه حكماً. ومن ثم فنحن نكتب هذه الدراسة لبيان حقيقة نسبة هذه المسألة للشيعة، لأن من حاول المساس بكتاب الله والنيل من قدسيته فإنه بعيد عن الإسلام وإن تسمى به، وأنه يجب كشفه لتعرف الأمة عداوته، لأنه يحارب الإسلام في أصله العظيم وركنه المتين.
نتائج الموضوع:
... أولاً: يحتمل أن هذه الأسطورة نشأت عند الشيعة في القرن الثاني والذي تولى كبرها بعض الغلاة، وكان من أسبابها خلو كتاب الله مما يثبت بدعهم في الإمامة، والصحابة وغيرها.
__________
(1) ... وقد انساق"إحسان إلهي ظهير" وراء مقالة صاحب فصل الخطاب، بأنه لا يوجد من أنكر مقالة التحريف من الشيعة في القرون المتقدمة إلا هؤلاء الأربعة(يعني ابن بابويه القمي والمرتضى والطبرسي والطوسي) فقال إحسان: والحاصل أن متقدمي الشيعة ومتأخريهم جميعاً متفقون على أن القرآن محرف مغير فيه .(الشيعة والسنة ص122 ط. دار الأنصار). والحقيقة أن هذه القضية بدأت عند الشيعة متأخرة عن نشأة الشيعة نفسها، وأن أوائل الشيعة ليسوا على هذا الضلال، وأن فرقاً من الشيعة ليست على هذا"الباطل".(1/185)
... ثانياً: أكبر كتب الشيعة المعتمدة عندهم قد روت هذا الكفر، جاءت معظم هذه الروايات صريحة في ذلك لا يمكن حملها على أنهم يقصدون تأويل الآية، أو بيان القراءات التي وردت فيها، بل جاءت تصرح بأن الآية هكذا والصحابة –بزعمها- غيرت ذلك، مثل الألفاظ التالية:"هذه الآية مما غيروا وحرفوا.."(1) يعنون الصحابة، وقولهم "أنزل الله سبعة بأسمائهم فمحت قريش ستة وتركوا أبا لهب"(2)، "كانت فيه أسماء رجال فألقيت"(3)، وقولهم "هكذا والله نزل به جبرائيل على محمد ولكنه فيما حرف من كتاب الله"(4)، وقولهم "بلى والله إنه لمثبت فيها وأن أول من غير ذلك لابن أروى"(5)، ومثل ذلك كثير. فمن يقل من الشيعة أن رواياتهم الواردة في كتبهم من جنس روايات القراءات، ونسخ التلاوة، فهو يتستر على هذا الكفر، ويساوي بين الحق والباطل.
... ثالثاً: ادعى جمع من شيوخهم استفاضة هذه "الأساطير" وكثرتها في كتبهم المعتمدة، وهذا طعن في كتبهم لا في كتاب الله سبحانه، ولهذا حاول بعض عقلائهم الخروج بالمذهب من هذا "المأزق" الذي وقع فيه، أو التستر على هذه الفضيحة.. لكن هذه الأسطورة كانت رواياتها تزيد –عبر القرون- رغم إنكار المنكرين، وتبنى إشاعتها طائفة من الزنادقة الذين اندسوا في الشيعة. ولا ريب بأن من يقل بهذه الأسطورة فليس من الإسلام في شيء، ولا علاقة له بكتاب الله ودينه، ولا برسول الإسلام، وأهل بيته بل له دين آخر غير دين الإسلام.
__________
(1) ... بحار الأنوار: 92/55.
(2) ... رجال الكشي: ص290، بحار الأنوار: 92/54.
(3) ... تفسير العياشي: 1/12، بحار الأنوار: 92/55.
(4) ... بحار الأنوار: 92/56.
(5) ... تفسير فرات: ص177، بحار الأنوار: 92/56.(1/186)
... لكن القائلين بتغير القرآن الناقلين لتلك الأساطير كالمجلسي في "بحار الأنوار" والطبرسي في "فصل الخطاب" نراهم يستشهدون من كتاب الله، ويفتتحون كل باب من أبواب كتبهم بآيات من القرآن، كما يفعل المجلسي في بحاره، والطبرسي في "مستدرك الوسائل" وغيرهما، بل إن الطبرسي الذي كتب في فصل الخطاب ما كتب قد عقد في كتابه "مستدرك الوسائل" باباً بعنوان: باب استحباب الوضوء لمس كتاب الله ونسخه، وعدم جواز مسه المحدث والجنب كتابة القرآن(1). بل إن شيخ الشيعة المجلسي الذي قال –كما سلف- باستفاضة تلك الأساطير وأنها لا تقصر عن أخبار الإمامة، يقول مع ذلك: "بأن الذي بين الدفتين كلام الله تعالى على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان"(2).
... ثم استشعر التناقض بين هذا القول وبين أساطيرهم في تحريف القرآن فقال: "فإن قال قائل كيف يصح القول بأن الذي بين الدفتين هو كلام الله على الحقيقة من غير زيادة ولا نقصان، وأنتم تروون عن الأئمة عليهم السلام أنهم قرؤوا:"يسألونك الأنفال" وهذا بخلاف ما في المصحف الذي في أيدي الناس، قيل له.. إن الأخبار التي جاءت بذلك أخبار آحاد لا يقطع على الله بصحتها، فلذلك وقفنا فيها، ولم نعدل عما في المصحف الظاهر على ما أمرنا به.. مع أنه لا ننكر أن تأتي القراءة على وجهين منزلتين أحدهما ما تضمنه المصحف، والثاني كما جاء به الخبر كما يعترف مخالفونا به من نزول القرآن على وجوه شتى"، ثم أشار إلى بعض القراءات(3).
__________
(1) ... مستدرك الوسائل: 1/43.
(2) ... بحار الأنوار: 92/75.
(3) ... الموضع نفسه من المصدر السايق.(1/187)
... فما دام هذه نهاية الذين أثاروا تلك العقائد الكفرية، فلماذا أثاروا تلك المفتريات وتناقلوها.. الجواب واضح من خلالا ما سبق أن عرضناه وهو اقناع قومهم وأتباعهم بصحة ما هم عليه من معتقدات، وإن آيات من القرآن قد حذفها الصحابة تشهد لمذهبهم، ولهذا لاحظنا أنهم أيضاً ادعوا نزول كتب إلهية غير القرآن، وفزعوا إلى التفسير الباطني، كل ذلك لإثبات شذوذهم.. فإذن تحولت تلك الدعاوى إلى مجرد محاولات للتخلص من الإلزامات الواردة عليهم بخلو كتاب الله مما يثبت عقائدهم، ولكن تلك الروايات كان لها آثارها على فرق الشيعة(1)، بل على الاثنى عشرية نفسها، فإن الإخباريين منهم يقدمون أخبارهم على كتاب الله كما سلف. حتى أشيع بأن الاثنى عشرية لهم مصحف خاص بهم..
... رابعاً: كما أن لهم روايات تقول بالتحريف، فإن عندهم روايات أخرى تنفي هذا الباطل وتنكره مثل قول إمامهم:"واجتمعت الأمة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع فرقها، فهم في حالة الاحتجاج عليه مصيبون، وعلى تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:"لا تجتمع أمتي على ضلالة"(2). ومثل ما جاء عندهم في ثواب قراءة القرآن(3). وفضل حامل القرآن(4)، ووجوب عرض أحاديثهم عليه(5). والتمسك به إلى قيام الساعة، وهذا يبطل أن يكون محرفاً أو مخفياً عند منتظرهم.
__________
(1) ... كالدروز الذين اتخذوا لهم مصحفاً سموه: "مصحف المنفرد بذاته". انظر: مصطفى الشكعة/ إسلام بلا مذاهب، مقدمة الطبعة الخامسة، الخطيب/ عقيدة الدروز ص183-184.
(2) ... انظر: الشعراني: تعاليق علمية(على شرح الكافي للمازندراني) 2/414.
(3) ... انظر: أصول الكافي: كتاب فضل القرآن: 2/611.
(4) ... المصدر السابق: 3/603.
(5) ... المصدر السابق: باب الرد إلي الكتاب والسنة: 1/59.(1/188)
... خامساً: تبين لنا أن هذه الأسطورة حملت بذاتها باطلها، وتبين من عناصر تكوينها فسادها، وكان مجرد عرضها كافياً في الرد عليها ويكفي في بيان كذب الروافض.. أن علي بن أبي طالب الذي هو عند أكثرهم إله خالق، وعند بعضهم نبي ناطق، وعند سائرهم إمام معصوم ولي الأمر وملك، فبقى خمسة أعوام وتسعة أشهر خليفة مطاعاً ظاهر الأمر.. والقرآن يقرأ في المساجد في كل مكان وهو يؤم الناس به، والمصاحف معه وبين يديه، فلو رأى فيه تبديلاً كما تقول الرافضة أكان يقرهم على ذلك؟، ثم أتى ابنه الحسن وهو عندهم كأبيه فجرى على ذلك.
... فكيف يسوغ لهؤلاء النوكى أن يقولوا إن في المصحف حرف زائداً أو ناقصاً أو مبدلاً مع هذا ؟!.
... ولقد كان جهاد من حرف القرآن وبدل الإسلام أوكد عليه من قتال أهل الشام الذين إنما خالفوه في رأي يسير رأوه ورأى خلافه فقط، فلاح كذب الرافضة ببرهان لا محيد عنه، والحمد لله رب العالمين(1).
ثانياً: اعتقادهم في السُّنة:
... الشيعة تقول بالسنة ظاهراً وتنكرها باطناً، إذ أن معظم رواياتهم وأقوالهم تتجه اتجاها مخالفاً للسنة التي يعرفها المسلمون، في الفهم والتطبيق، وفي الأسانيد والمتون، ويتبين ذلك فيما يلي:
قول الإمام كقول الله ورسوله:
__________
(1) ... ابن حزم/ الفصل: 2/216-217. والنوكى: جمع أنْوَك وهو الأحمق. وقيل الجاهل والعاجز: انظر لسان العرب. وجاء جمعه على وزن فعلى لأنه مما يصاب به مما يكره كقتلى وغرقى وجرحى وهلكى وموتى..وكثيراً ما يستخدم الإمام ابن حزم –رحمه الله- هذه اللفظة في الحمل على مخالفيه.(1/189)
... فالسنة عندهم هي: "كل ما يصدر عن المعصوم من قول أو فعل أو تقرير"(1)، ولكن الشيعة تعطي صفة العصمة لآخرين غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتجعل كلامهم مثل كلام الله وكلام رسوله، وهم الأئمة الاثنى عشر لا فرق عندهم في هذا بين هؤلاء الاثنى عشر وبين من لا ينطق عن الهوى، ولا فرق في كلام هؤلاء الاثنى عشر بين سن الطفولة، وسن النضج العقلي، إذ إنهم –في نظرهم- لايخطئون عمداً ولا سهواً ولا نسياناً طوال حياتهم- كما سيأتي في مسألة العصمة.
... وقد جاء في الكافي ما يعدونه حجة لهم في هذا المذهب وهو قول أبي عبد الله –كما يزعم صاحب الكافي- "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحديث رسول الله قول الله عز وجل"(2).
... وذكر شارح الكافي أن هذا القول يدل على "أن حديث كل واحد من الأئمة الظاهرين قول الله عز وجل ولا اختلاف في أقوالهم كما لا اختلاف في قوله تعالى"(3).
... بل قال: "يجوز من سمع حديثاً عن أبي عبد الله رضي الله عنه أن يرويه عن أبيه أو عن أحد من أجداده، بل يجوز أن يقول قال الله تعالى"(4)وهذا صريح في جواز نسبة أقوال البشر إلى الله سبحانه. ثم ذكر أن بعض رواياتهم تدل على جواز ذلك بل أولويته"(5).
... وهذه الروايات صريحة في استساغتهم الكذب البواح الصراح حيث ينسبون –مثلاً- لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما لم يقله، بل قاله بعض أحفاده ممن لم يشتهر عنه العلم.
__________
(1) ... محمد تقي الحكيم/ الأصول العامة للفقه المقارن ص: 122.
(2) ... أصول الكافي: كتاب فضل العلم، باب رواية الكتب والحديث: 1/53، وسائل الشيعة: 18/58.
(3) ... المازندراني/ شرح جامع (على الكافي) 2/272.
(4) ... الموضع نفسه من المصدر السابق.
(5) ... الموضع نفسه من المصدر السابق.(1/190)
... وهم يقولون بهذا القول من منطلقين خطيرين، وقاعدتين أساسيتين عندهم في هذه المسألة.
الأصل الأول: علم الأئمة يتحقق عن طريق الإلهام والوحي:
... علم الأئمة يتحقق -في نظرهم- عن طريق الإلهام وحقيقته كما قال صاحب الكافي في روايته عن أئمته "النكت في القلوب"(1).
... والإلهام ليس هو الوسيلة الوحيدة في هذا بل صرح صاحب الكافي أن هناك طرقاً أخرى غيره، حيث ذكر في بعض رواياته أن من وجوه علوم الأئمة"النقر في الأسماع"(2)إذن هناك وسيلة أخرى غير الإلهام وهو نقر في الأسماع بتحديث الملك(3)، وهو يسمع الصوت ولا يرى الملك.
... وتتحدث رواية أخرى لهم عن أنواع الوحي للإمام فتذكر أن جعفراً قال: "إن منا لمن ينكت في أذنه، وإن منا لمن يؤتى في منامه، وإن منا لمن يسمع صوت السلسلة تقع علىالطشت (كذا)، وإن منا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرائيل وميكائيل"(4).
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/264.
(2) ... أصول الكافي: 1/264.
(3) ... المازندراني/ شرح جامع(على الكافي) 6/44. ... ...
(4) ... بحار الأنوار: 26/358، بصائر الدرجات: ص: 63.(1/191)
... وثمة روايات أخرى في البحار بهذا المعنى(1). وكأنهم بهذا المقام أرفع من النبي الذي لا يأتيه إلا جبرائيل، وتأتي روايات تبين هذه الصورة التي أعظم من جبرائيل وميكائيل بأنها الروح(2) عندهم، وقد خصها صاحب الكافي بباب مستقل بعنوان: باب الروح التي يسدد الله بها الأئمة، وذكر فيها ست روايات(3) منها: "عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله تبارك وتعالى: { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } قال: خلق من خلق الله عز وجل أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخبره ويسدده، وهو مع الأئمة من بعده"(4).ومعلوم أن الروح في هذه الآية المراد بها القرآن، كما يدل عليه لفظ الآية { أوحينا } ، وقد سماه الله سبحانه روحاً لتوقف الحياة الحقيقية على الاهتداء به(5). وكأن هذه الدعاوى حول الوحي للإمام قد غابت عن مفيدهم (المتوفى سنة 413هـ) أو صنعت فيما بعد إذ رأينا المفيد يقرر الاتفاق والإجماع على "أنه من يزعم أن أحداً بعد نبينا يوحى إليه فقد كفر وأخطأ.."(6)، أو يكون قوله هذا تقية.
__________
(1) ... انظر بحار الأنوار: 26/53 وما بعدها.
(2) ... وقد ورد في معاني الأخبار لابن بابويه تفسير للروح بأنها –كما يقول إمامهم-: "عمود من نور بيننا وبين الله عز وجل". عيون الأخبار: ص354.
(3) ... أصول الكافي: 1/273-274.
(4) ... المصدر السابق: 1/273.
(5) ... شرح الطحاوية: ص 4.
(6) ... أوائل المقالات: ص 39.(1/192)
... بل إن الأئمة تذهب إلى عرش الرحمن –كما يزعمون- كل جمعة لتطوف به فتأخذ من العلم ما شاءت. قال أبو عبد الله: "إذا كان ليلة الجمعة وافى رسول الله صلى الله عليه وآله العرش ووافى الأئمة عليهم السلام معه ووافينا معهم، فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لأنفدنا"(1).
... بل جاء في البحار تسع عشرة رواية تذكر بأن الله ناجى علياً، وأن جبرائيل يملي عليه.."(2).
الأصل الثاني: خزن العلم وإيداع الشريعة عند الأئمة:
... جاء في الكافي عن موسى بن جعفر قال –كما يزعمون- "مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث، فأما الماضي فمفَسر، وأما الغابر فمزبور، وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا"(3). وفي البحار، وبصائر الدرجات ثلاث روايات بهذا اللفظ(4).
... العلم الحادث هو ما تقدم بيانه، وهو كما أشارت الرواية يعد من أفضل علومهم، لأنه كما يقول بعض شيوخهم حصل لهم من الله بلا واسطة(5). أي من الله مباشرة بلا واسطة ملك من الملائكة، وهذا يشبه قول غلاة الصوفية مثل ابن عربي.
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/254، بحار الأنوار: 26/88-89، بصائر الدرجات: ص 36.
(2) ... بحار الأنوار: 39/151-157.
(3) ... أصول الكافي: 1/264.
(4) ... بحار الأنوار: 26/59، بصائر الدرجات ص 92.
(5) ... المازندراني/ شرح جامع: 6/44.(1/193)
... أما الماضي المفَسر والغابر المزبور فقد أوضح شارح الكافي معناهما بقوله يعني: الماضي الذي تعلق علمنا به، وهو كل ما كان مفسراً لنا بالتفسير النبوي، والغابر المزبور الذي تعلق علمنا به هو كل ما يكون مزبوراً مكتوباً عندنا بخط علي رضي الله عنه وإملاء الملائكة مثل الجامعة وغيرها". فبهذا يتبين أن العلم المستودع عند الأئمة نوعان: كتب ورثوها عن النبي، أو علم تلقوه مشافهة منه - صلى الله عليه وسلم -، وفحوى هذا الاعتقاد الذي يعتبر من ضرورات مذهبهم وأركان دينهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلَّغ جزءاً من الشريعة وكتم الباقي وأودعه علياً فأظهر عليٌّ منه جزءاً في حياته، وعند موته أودعه الحسن، وهكذا كل إمام يظهر منه جزءاً حسب الحاجة ثم يعهد بالباقي لمن يليه إلى أن صار عند إمامهم المنتظر.
... هذه بعض الخطوط العامة لهذه العقيدة الخطيرة في مذهب الشيعة.
النقد:
... هذه المزاعم الخطيرة التي دونها الروافض في المعتمد من كتبهم تحمل أموراً خطيرة:
... تحمل دعوى استمرار الوحي الإلهي، وهو باطل.. قامت الأدلة النقلية والعقلية على بطلانه، وأجمع المسلمون على أن "الوحي قد انقطع منذ مات النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوحي لا يكون إلا لنبي، وقد قال الله سبحانه: { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخَاتَم النبيين } (1).
... ثم هي تدعي أن الدين لم يكمل، وهي مخالفة صريحة لقول الله سبحانه: { اليوم أكملت لكم دينكم.. } (2). كما تزعم بأن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - لم يبلغ جميع ما أنزل إليه، وأنه لم يمتثل أمر ربه في قوله: { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } (3)، وهذا إزراء بحق رسول الله، ولهذا وجد من فرق الشيعة من يقع في رسول الله(4)..
__________
(1) ... الأحزاب: 40.
(2) ... المائدة: 3.
(3) ... المائدة: 67.
(4) ... وهي طائفة العلبائية.(1/194)
... وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - البلاغ المبين، وبين الدين، وأقام الحجة على العالمين، وأعلن ذلك بين المسلمين، ولم يسر لأحد بشيء من الشريعة ويستكتمه إياه، قال تعالى: { ..لتبيننه للناس ولا تكتمونه } (1)فهو بيان للناس وليس لفئة معينة من أهل البيت، وقال تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولائك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا.. } (2)، وقال: { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } (3).
... "فالدين قد تم وكمل لا يزاد فيه ولا ينقص منه ولا يبدل"(4) لا من إمام مزعوم، ولا من غائب موهوم.
__________
(1) ... آل عمران: 187.
(2) ... البقرة: 159-160.
(3) ... النحل: 64.
(4) ... ابن حزم/ المحلى: 1/26.(1/195)
... وقد ودع المصطفى الدنيا بعد أن بلغ الدين كله وبين جميعه كما أمره ربه، وأعلم بذلك المسلمين أجمع "فلا سر في الدين عند أحد"(1). قال - صلى الله عليه وسلم -:"تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"(2)، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: "صدق الله ورسوله فقد تركنا على مثل البيضاء"(3). وقال أبو ذر رضي الله عنه: لقد تركنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً(4). وقال عمر رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله مقاماً فأخبرنا عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه"(5). وقال الإمام الشافعي: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها"(6). بل قال جعفر الصادق -كما تنقل كتب الشيعة نفسها-:"إن الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك الله شيئاً يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن؟ إلا وقد أنزله الله فيه"(7). فكل ما تنسبه الشيعة بعد هذا كذب.
__________
(1) ... المصدر السابق: 1/15.
(2) ... هذا جزء من حديث رواه ابن ماجة في سننه، المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين: 1/16، وأحمد في مسنده: 4/126، والحاكم في مستدركه: 1/96، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، باب ذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: تركتكم على مثل البيضاء، وروى عدة روايات في هذا المعنى صحح الألباني معظمها.
(3) ... رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة: 1/26.
(4) ... روى هذا الأثر الإمام أحمد في مسنده: 5/153.
(5) ... صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى: { وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده } ج4 ص73.
(6) ... الرسالة: ص 20.
(7) ... أصول الكافي: 1/59.(1/196)
... والرافضة ليست على شيء في مخالفتها في هذا الأصل العظيم الذي "هو أصل أصول العلم والإيمان، وكل من كان أعظم اعتصاماً بهذا الأصل كان أولى بالحق علماً وعملاً"(1).
... إن الحق الذي لا ريب فيه أن الله أكمل لنا ديننا { اليوم أكملت لكم دينكم.. } (2)، وكل دعوى بعد ذلك فهي باطل وزور…
... وكل هذه الدعاوى أرادت منها هذه الزمرة إثبات ما تزعمه في الأئمة.. فزادت وغلت في ذلك.. فانكشف بذلك أمرها.. والشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده.
مرويات الصحابة:
__________
(1) ... معارج الوصول: ص 2، وانظر: موافقة صحيح المنقول: 1/13. ...
(2) ... المائدة: 3.(1/197)
... يقول محمد حسين آل كاشف الغطا -أحد مراجع شيعة هذا العصر- في تقرير مذهب طائفته في ذلك: "إن الشيعة لا يَعْتَبِرون من السنة (أعني الأحاديث النبوية) إلا ما صح لهم من طرق أهل البيت.. أما ما يرويه مثل أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص ونظائرهم فليس لهم عند الإمامية مقدار بعوضة"، فهو هنا يقرر أن مذهب الشيعة هو قبول"ما صح لهم من طرق أهل البيت"(1)
__________
(1) ... قوله: "ما صح لهم من طرق أهل البيت" هذا تعبير فيه شيء من التمويه والخداع، لأن من لا يعرف طبيعة مذهب الشيعة يظن أن العمدة عندهم هو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء من طرق آل البيت، في حين أنهم يعدون الواحد من الاثنى عشر كالرسول لا ينطق عن الهوى، وقوله كقول الله ورسوله، ولذلك يندر وجود أقوال الرسول في مدوناتهم، لأنهم اكتفوا بما جاء عن أئمتهم، كما أن قوله"أهل البيت" إنما يعني بعضهم فليس كل آل البيت يصلحون –عندهم- طريقاً للرواية، لأن آل البيت ليسوا جميعاً أئمة، فالرواية عن ذرية فاطمة من ولد الحسن رضي الله عنه لا تعتبر روايتهم، لأن من بعد الحسن من ذريته ليسوا أئمة عندهم، وغاية أمرهم أن يعتبروا مجرد رواة يخضعون للرد والقبول، ولذلك كفر الاثنى عشرية كل من خرج وادعى الإمامة من آل البيت(ماعدا الأئمة الاثنى عشر عندهم). أصول الكافي: 1/372 رقم 1، 3.
... ويلاحظ أن الطوسي في"الاستبصار" يرد روايات زيد بن علي(الاستبصار: 1/66). فتعبير آل كاشف الغطا فيه شيء من التمويه والخداع، لأن الكتاب وضع للدعاية للتشيع في العالم الإسلامي.(1/198)
دون ما سواه من روايات صحابة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم --، وإذا عرفنا أن الاثنى عشرية تعني بأهل البيت"الأئمة الاثنى عشر"، والذي أدرك الرسول -- صلى الله عليه وسلم --منهم وهو مميز هو أمير المؤمنين على، وعليه فهل يتمكن أمير المؤمنين من نقل سنة الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- كلها للأجيال.. كيف وهو لا يكون مع الرسول-- صلى الله عليه وسلم --في كل الأحيان.. فقد كان الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- يسافر ويستخلفه في بعض الأحيان كما في غزوة تبوك، كما كان على يسافر ورسول الله في المدينة فقد بعثه رسول الله إلى اليمن، وكذلك ألحقه بأبي بكر حين أرسله لأهل مكة، بالإضافة إلى حال الرسول-- صلى الله عليه وسلم -- في بيته والتي يختص بنقلها زوجاته أمهات المؤمنين رضى الله عنهم وهذا من أسرار وحكم تعددهن.. فإذن علي لا يمكن أن يستقل بنقل سنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- وحده فكيف يقولون بأنهم لا يقبلون إلا ما جاء عن طريقه، كما أن هذه المقالة، وهي حصر نقل سنة رسول الله-- صلى الله عليه وسلم -- بواحد يفضي إلى فقدان صفة التواتر في نقل شريعة القرآن، وسنة سيد الأنام-- صلى الله عليه وسلم -- "ولهذا اتفق المسلمون على أنه لا يجوز أن يكون المبلغ عنه العلم واحداً؛ بل يجب أن يكون المبلغون أهل التواتر الذين يحصل العلم بخبرهم للغائب.."(1).
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/138. ويقول شيخ الإسلام أيضاً: وخبر الواحد لا يفيد العلم بالقرآن والسنن المتواترة، وإذا قالوا ذلك الواحد المعصوم يحصل العلم بخبره قيل لهم فلابد من العلم بعصمته أولاً وعصمته لا تثبت بمجرد خبره قبل أن تعرف عصمته لأنه دور، ولا تثبت بالإجماع فإنه لا إجماع فيها، وعند الإمامية إنما يكون الإجماع حجة لأن فيهم الإمام المعصوم فيعود الأمر إلى إثبات عصمته بمجرد دعواه، فعلم أن عصمته لو كانت حقاً لابد أن تعلم بطريق آخر غير خبره.(منهاج السنة: 4/139).(1/199)
... كما أن جل بلاد الإسلام بلغهم العلم عن رسول الله من غير طريق علي رضى الله عنه(1) وعامة من بَلَّغَ عنه - صلى الله عليه وسلم - من غير أهل بيته -فضلا أن يكون هو علي وحده- فقد بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسعد بن زرارة إلى المدينة يدعو الناس إلى الإسلام، ويعلم الأنصار القرآن، ويفقههم في الدين، وبعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين في مثل ذلك، وبعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن، وبعث عتاب بن أسيد إلى مكة فأين قول من زعم أنه لا يبلغ عنه إلا رجل من أهل بيته"(2).
... وقد قال بعض أهل العلم إنه "لم يرو عن علي إلا خمسمائة وستة وثمانون حديثاً مسندة يصح منها نحو خمسين حديثاً"(3).فهل سنة الرسول هي هذه فقط
ثالثاً: عقيدتهم في الإجماع:
... والشيعة لا ترى إجماع الصحابة والسلف أو إجماع الأمة إجماعاً، ولها في هذا الباب عقائد مخالفة نذكرها فيما يلي:
أولاً: الحجة في قول الإمام لا في الإجماع:
__________
(1) ... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "…فإن جميع مدائن الإسلام بلغهم العلم عن الرسول من غير علي، أما أهل المدينة ومكة فالأمر فيها ظاهر، وكذلك الشام والبصرة، فإن هؤلاء لم يكونوا يروون عن علي إلا شيئاً قليلاً، وإنما كان غالب علمه في الكوفة، كانوا يعلمون القرآن والسنة قبل أن يتولى عثمان فضلاً عن علي، وفقهاء أهل المدينة تعلموا الدين في خلافة عمر، وتعليم معاذ لأهل اليمن ومقامه فيهم أكثر من علي ولهذا روى أهل اليمن عن معاذ بن جبل أكثر مما رووا عن علي، وشريح وغيره من أكابر التابعين إنما تفقهوا على معاذ بن جبل، ولما قدم علي الكوفة كان شريح فيها قاضياً وهو وعبيدة السلماني تفقها على غيره، فانتشر علم الإسلام في المدائن قبل أن يقدم علي الكوفة. (منهاج السنة: 4/139).
(2) ... منهاج السنة: 3/15.
(3) ... ابن حزم: الفصل: 4/213، منهاج السنة: 4/139..(1/200)
... نقلت كتب الأصول عند أهل السنة أن الشيعة تقول: "إن الإجماع حجة لا لكونه إجماعاً، بل لاشتماله على قول الإمام المعصوم، وقوله بانفراده عندهم حجة"(1).
... ونستطلع فيما يلي رأى الشيعة من مصادرها، يقول ابن المطهر الحلى: "الإجماع إنما هو حجة عندنا لاشتماله على قول المعصوم، فكل جماعة كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أقوالها، فإجماعها حجة لا لأجل الإجماع"(2)وبمثل هذا قال عدد من شيوخهم(3).
... وحتى يتجلى لك الفرق جلياً بين مذهب أهل السنة في القول بحجية الإجماع، وبين مذهب الشيعة في ذلك، فلك أن تتصور أنه لو صدر من إمامهم محمد الجواد، والذي قالوا بإمامته وهو ابن خمس سنين(4): لو صدر منه وهو في هذا العمر قول أو رأى، أو نسب إليه عن طريق جماعة من الروافض أنه يقول في أمر شرعى بحكم، أو قول، وخالفته في ذلك الأمة الإسلامية جميعاً، فإن الحجة في رأيه لا في إجماع الأمة(5).
... وهذا مذهب في غاية البطلان لا يحتاج إلى مناقشة.
... ولهذا قرر المفيد أن هذا مما شذت به طائفته، فقال: "وهذا مذهب أهل الإمامة خاصة، ويخالفهم فيه المعتزلة والمرجئة والخوارج وأصحاب الحديث..".
ثانياً: ما خالف العامة ففيه الرشاد:
__________
(1) ... الإسنوي/ نهاية السول: 3/247.
(2) ... ابن المطهر/ تهذيب الوصول إلى علم الأصول: ص70، ط. طهران 1308هـ.
(3) ... انظر: المفيد/ أوائل المقالات ص 99-100، قوامع الفضول ص305، حسين معتوق/ المرجعية الدينية العليا ص16، وراجع كتب الأصول عندهم عامة.
(4) ... انظر: بحار الأنوار: 25/103.
(5) ... وقد جاء في أصول الكافي القول بإمامة الإمام، ولو كان عمره ثلاث سنين. انظر: أصول الكافي، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي جعفر الثاني: 1/321، وانظر: المفيد/ الإرشاد ص298، الطبرسي/ أعلام الورى: ص331. وفيهما "ولو كان ابن أقل من ثلاث سنين"، وبحار الأنوار: 25/102-103.(1/201)
... الإجماع عند جمهور المسلمين ينظر فيه إلى إجماع الأمة، لأن الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة.قال تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيراً } (1) وقال-- صلى الله عليه وسلم --: "لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس"(2).
__________
(1) ... النساء: 115، فمن خرج عن إجماع الأمة فقد اتبع غير سبيل المؤمنين(انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/194)، ولذلك عول الإمام الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته بهذه الآية الكريمة، وذلك بعد التروي والفكر الطويل، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها (تفسير ابن كثير: 1/590). ولشيخ الإسلام تحقيق بديع حول هذه الآية والإجماع، (انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 19/ 178، 179، 192 وما بعدها، وانظر تفسير القاسمي: 5/459 وما بعدها).
... قال الإمام ابن كثير قوله: { ويتبع غير سبيل المؤمنين } هذا ملازم للصفة الأولى، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع، وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك.. ومن العلماء من ادعى تواتر معناها (تفسير ابن كثير: 1/590).
(2) ... رواه مسلم في كتاب الجهاد، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم" 2/1524. والحديث بهذا المعنى أخرجه أيضاً البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" 8/149. ...(1/202)
... وروى عنه - صلى الله عليه وسلم - عدة روايات في أن هذه الأمة "لا تجتمع على ضلالة"(1)
__________
(1) ... قال السخاوي: حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة في المرفوع وغيره(المقاصد الحسنة: ص460). فروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "إن الله أجاركم من ثلاث خلال(ومنها) وأن لا تجتمعوا على ضلالة، رواه أبو داود في سننه: 4/452، رقم 4253، قال الحافظ في التلخيص: في إسناده انقطاع، وقال في موضع آخر: سنده حسن(عون المعبود: 11/426)، وروى أحمد عن أبي بصرة الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سألت الله عز وجل أن لا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها"(المسند 6/396) قال الحافظ في التلخيص: "..رجاله ثقات لكن فيه راوٍ لم يسم"(عون المعبود: 11/326)، وروى الترمذي عن ابن عمر "أن الله تعالى لا يجمع أمتي أو قال أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة، ويد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ إلى النار" قال أبو عيسى: حديث غريب من هذا الوجه (سنن الترمذي 4/466، رقم 2167)، وقال ابن حجر في تخريج المختصر: حديث غريب خرجه أبو نعيم في الحلية، واللالكائي في السنة، ورجاله رجال الصحيح، لكنه معلول، فقد قال الحاكم: لو كان محفوظاً حكمت بصحته على شرط الصحيح، لكن اختلف فيه على معتمر بن سليمان على سبعة أقوال، فذكرها، وذلك مقتضي للاضطراب والمضطرب من أقسام الضعيف(عن فيض القدير 2/271). ورواه ابن ماجة بلفظ: "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة"(سنن ابن ماجة: كتاب الفتن، باب السواد الأعظم 2/1303، رقم 3950)، وأورده السيوطي في الجامع ورمز له بالصحة(فيض القدير: 2/431) لكن قال السندي: "وفي الزوائد في إسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف(حاشية السندي على سنن ابن ماجة: 2/464)، وقال العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي: جاء الحديث بطرق في كلها نظر (لمصدر السابق)، وقال ابن حجر: "له طرق لا يخلو واحد منها من مقال"(عن فيض القدير: 2/200)، وقد أورده أصحاب الأصول محتجين به. انظر: المستصفى: 1/175، والأحكام للآمدي: 1/219.
... [قال جامعه: رواية أبي داود ضعفها الألباني في السنن، ولكن قال: الجملة الثالثة (يعني محل الشاهد) صحيحة، الصحيحة 1331. وراجع الضعيفة 1510-ورواية الترمذي صححها الألباني في السنن دون طرفها الأخير- ورواية ابن ماجة ضعفها جداً في السنن دون محل الشاهد- ورواية أحمد قال محققوا مسند الرسالة: صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لإبهام الراوي عن أبي بصرة (45/200-ح 27224 الرسالة، 6/396 الميمنية)- وتفسير ابن كثير: الآية 65 من سورة الأنعام، والطبري نفس الآية - وانظر: السنة لابن أبي= =عاصم: 80، 82، 83، 84، 85، 92، والمشكاة 173، والضعيفة 4896، وصحيح الجامع 1844، الطبراني في الكبير (2171)، الحاكم 1/116، ومجمع الزوائد 7/221، 222].(1/203)
.
... هذا بالنسبة لجمهور المسلمين، أما طائفة الشيعة فالنظر عندهم في الإجماع إلى الإمام لا إلى الأمة، والاعتبار بمن دان بإمامة الاثنى عشر بشرط أن يكون من ضمنهم الإمام، أو يكون إجماعهم كاشفاً عن قول الإمام -كما قدمنا- ولا يلتفت إلى اتفاق العلماء المجتهدين من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
... بل الأمر أعظم من عدم اعتبار إجماعهم، حيث تعدى ذلك إلى القول بأن مخالفة إجماع المسلمين فيه الرشاد، وصار مبدأ المخالفة أصلاً من أصول الترجيح عندهم، وأساساً من أسس مذهبهم، وجاءت عندهم نصوص كثيرة تؤكد هذا المبدأ وتدعو إليه.
... ففي أصول الكافي سؤال لأحد أئمتهم يقول: إذا "... وجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامة (يعني أهل السنة) والآخر مخالفاً لهم بأي الخبرين يؤخذ؟ فقال: ما خالف العامة ففيه الرشاد، فقلت (القائل هو الراوي) جعلت فداك، فإن وافقها الخبران جميعاً؟ قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل إليه حكامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر، قلت: فإن وافق حكامهم الخبرين جميعاً؟ قال: إذا كان ذلك فارجئه حتى
تلقى إمامك، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات"(1).
... وذكر ثقتهم الكليني أن من وجوه التمييز عند اختلاف رواياتهم قول إمامهم: "دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم"(2).
... وقال أبو عبد الله-كما يفترون-"إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم"(3).
__________
(1) ... الكليني/ أصول الكافي: 1/67-68، ابن بابويه القمي/ من لا يحضره الفقيه: 3/5، الطوسي/ التهذيب: 6/301، الطبرسي/ الاحتجاج ص194، الحر العاملي/ وسائل الشيعة: 18/75-76.
(2) ... أصول الكافي/ خطبة الكتاب ص8، وانظر: وسائل الشيعة: 18/80.
(3) ... وسائل الشيعة: 18/85.(1/204)
... هذه النصوص في منتهى الخطورة، وهى من وضع زنديق ملحد أراد الكيد للأمة ودينها، وأراد أن يفتح للقوم باباً واسعاً للخروج من الإسلام، حيث يتجهون إلى مخالفة كل أمر من الدين عليه أمة الإسلام. وكيف يدعو قوم هذه عقائدهم إلى التقريب؟! وكيف يزعمون إمكانية اللقاء مع أهل السنة الذين يكون الرشد في خلافهم؟!
عقيدتهم في أصول الدين(1)
أولاً: عقيدتهم في توحيد الألوهية:
... وهذا التوحيد هو الذي دعت الرسل إليه، وهو أصل النجاة، وأساس قبول العبادات { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (2).
... فهل حافظت الشيعة على هذا الأصل الأصيل، والركن المتين، أم أن اعتقادها في الأئمة قد أثر على عقيدتها في توحيد الله سبحانه؟ هذا ما سنتناوله بالحديث فيما يلي، حيث سأعرض لسبعة مباحث –إن شاء الله-.
المبحث الأول
نصوص التوحيد جعلوها في ولاية الأئمة
... أ. ففي قوله سبحانه: { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك } (3) جاء في الكافي -أصح كتاب عندهم في الرواية-، وفي تفسير القمي -عمدة تفسيرهم، وفي غيرها من مصادرهم المعتمدة(4)، تفسيرها بما يلي: "يعني إن أشركت في الولاية غيره"(5)، وفي لفظ آخر: "لئن أمرت بولاية أحد مع ولاية علي من بعدك ليحبطن عملك"(6). وقد ساق صاحب البرهان في تفسير القرآن أربع روايات لهم في تفسير الآية السابقة بالمعنى المذكور(7).
__________
(1) ... هذا الباب مختصر من كتاب أصول مذاهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية عرض ونقد، تأليف دكتور: ناصر ابن عبد الله بن على القفارى ج2 ص425 وما بعدها.
(2) ... النساء: 48، 116.
(3) ... الزمر: 65.
(4) ... أصول الكافي: 1/427 رقم (76)، تفسير القمي: 2/251، وانظر البرهان: 4/83، وتفسير الصافي: 4/328.
(5) ... هذا لفظ الكليني في الكافي.
(6) ... هذا لفظ القمي في تفسيره.
(7) ... البرهان: 4/83.(1/205)
... ب. وفي قوله سبحانه: { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا.. } (1).
... وهذه الآية –كما هو واضح- تبين ما عليه أهل الشرك من إعراض عن عبودية الله وحده، وهي جواب للمشركين حين طلبوا الخروج من النار، والرجعة إلى الدنيا فقالوا: فهل إلى خروج من سبيل } فكان جوابهم: { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } وتركتم توحيده { وإن يشرك به } غبره من الأصنام أو غيرها { تؤمنوا } بالإشراك به وتجيبوا الداعي إليه(2).
... ولكن الشيعة تروي عن أئمتها في تأويل الآية غير ما فهمه المسلمون منها.
... تقول عن أبي جعفر في قوله عز وجل: { ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم } بأن لعلي ولاية { وإن يشرك به } من ليست له ولاية { تؤمنوا فالحكم لله العلي الكبير } (3).
... وهكذا لا تكاد تخلو آية من آيات القرآن في موضوع التوحيد والنهي عن الشرك إلا وراموا تحريفها وتعطيل معناها وتحويلها إلى ولاية علي والأئمة ولو كانت صريحة واضحة بينة.
... وأخذوا من هذه النصوص وغيرها الحكم بتكفير من عداهم من المسلمين. قال المجلسي: "اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر –يعني في نصوصهم- على من لا يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام، وفضل عليهم غيرهم يدل على أنهم كفار مخلدون في النار"(4).
المبحث الثاني
الولاية أصل قبول الأعمال عندهم
__________
(1) ... غافر: 12.
(2) ... أنظر: تفسير الطبري: 24/48، تفسير البغوي: 4/93-94، تفسير ابن كثير: 4/79-80، السعدي: 6/512.
(3) ... البرقي/كنز جامع الفوايد ص277، بحار الأنوار: 23/364، وانظر تفسير القمي: 2/256، أصول الكافي: 1/421، البرهان: 4/93-94، تفسير الصافي: 4/337.
(4) ... بحار الأنوار: 23/390.(1/206)
... إن التوحيد هو أصل قبول الأعمال، والشرك بالله سبحانه هو سبب بطلانها، قال تعالى: { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (1)، ولكن الشيعة جعلوا ذلك كله لولاية الإثنى عشر، وجاءت رواياته لتجعل المغفرة والرضوان والجنات لمن اعتقد الإمامة وإن جاء بقراب الأرض خطايا، والطرد والإبعاد والنار لمن اتقى الله لا يدين بإمامة الاثنى عشر، فقالوا "إن الله عز وجل نصب علياً علماً بينه وبين خلقه، فمن عرفه كان مؤمناً، ومن أنكره كان كافراً، ومن جهله كان ضالاً، ومن نصب معه شيئاً كان مشركاً، ومن جاء بولايته دخل الجنة(2).
المبحث الثالث
اعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله والخلق
... وإذا كان المسلمون يعتقدون أن الرسل هم الواسطة بين الله والناس في تبليغ أمر الله وشرعه، فإن الاثنى عشرية تعتقد أن هذا المعنى موجود في الأئمة، لأنهم يتلقون من الله –كما مر في عقيدتهم في السنة- وتزيد على ذلك فتجعل لهم من خصائص الألوهية ما يخرج بمن يؤمن به من دين التوحيد إلى دين المشركين، حين تجعل هداية الخلق إليهم، وأن الدعاء لا يقبل إلا بأسمائهم، وأنهم يستغاث بهم عند الشدائد والملمات، ويُحَج إلى مشاهدهم، والحج إليها أفضل من الحج إلى بيت الله، وكربلاء أفضل من الكعبة، ولزيارة أضرحة الأئمة مناسك وآداب سموها مناسك المشاهد، وجعلوها تُحَجُّ كما يُحَجُّ بيت الله الذي جعله الله قياماً للناس، ويطاف بها كما يطاف بالبيت، وتتخذ قبلة كبيت الله الحرام. وسأعرض –إن شاء الله- لهذه المسائل من خلال النقل الأمين –بحول الله- من كتب الشيعة المعتمدة عندها.
المسألة الأولى: قولهم لا هداية للناس إلا بالأئمة:
... قال أبو عبد الله: "بلية الناس عظيمة إن دعوناهم لم يجيبونا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا"(3).
__________
(1) ... النساء: 48.
(2) ... أصول الكافي: 1/437.
(3) ... أمالي الصدوق: ص363، بحار الأنوار: 23/99.(1/207)
المسألة الثانية: قولهم لا يقبل الدعاء إلا بأسماء الأئمة:
... قالوا: لا يفلح من دعا الله بغير الأئمة، ومن فعل ذلك فقد هلك.
... جاء في أخبارهم عن الأئمة: "من دعا الله بنا أفلح، ومن دعا بغيرنا هلك واستهلك"(1). وبلغت جرأتهم في هذا الباب أن قالوا: "إن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بهم صلوات الله عليهم أجمعين"(2).
... وجاءت روايات كثيرة في هذا المعنى في عدد من مصادرهم المعتمدة وهذا "الزعم" الخطير يهدف بطريقة ماكرة، وأسلوب مقنع إلى "تأليه الأئمة" وأنهم ملجأ المحتاجين ومفزع الملهوفين وأمان الخائفين وقبلة الداعين، ولا تستجاب الدعوات إلا بذكر أسمائهم، فأي فرق بين هذا وبين ما يزعمه المشركون في أصنامهم؟
... نعم هناك فرق، وهو أن المشركين في وقت الشدة يخلصون الدعاء لله أما هؤلاء فإنهم يشركون في الرخاء والشدة.
... تقول إحدى رواياتهم" عن الرضا عليه السلام قال: لما أشرف نوح عليه السلام دعا الله بحقنا فدفع الله عنه الغرق، ولما رمى إبراهيم في النار دعا الله بحقنا فجعل الله النار عليه برداً وسلاماً، وإن موسى عليه السلام لما ضرب طريقاً في البحر دعا الله بحقنا فجعله يبساً، وإن عيسى عليه السلام لما أراد اليهود قتله دعا الله بحقنا فنجى من القتل فرفعه الله(3).
المسألة الثالثة: الاستغاثة بالأئمة:
__________
(1) ... الطبري/ بشارة المصطفى: ص117-119، البحار: 23/103، وسائل الشيعة: 4/1142.
(2) ... وهو أحد أبواب بحار الأنوار: 26/319.
(3) ... بحار الأنوار: 26/325.(1/208)
... هناك"رقاع" تكتب، وتوضع على قبور الأئمة، لأن قبور الأئمة وأضرحتهم التي لا تنفع ولا تضر هي –بزعمهم-مناط الرجاء ومفزع الحاجات.قالوا: "إذا كان لك حاجة إلى الله عز وجل فاكتب رقعة على بركة الله، واطرحها على قبر من قبور الأئمة إن شئت، أو فشدها واختمها واعجن طيناً نظيفاً واجعلها فيه، واطرحها في نهر جار، أو بئر عميقة، أو غدير ماء، فإنها تصل إلى السيد عليه السلام وهو يتولى قضاء حاجتك بنفسه"(1).
... ثم ذكروا أنه يكتب في هذه الرقعة:"بسم الله الرحمن الرحيم كتبت إليك يا مولاي صلوات الله عليك مستغيثاً…، فأغثني يا مولاي صلوات الله عليك عند اللهف، وقدم المسألة لله عز وجل في أمري قبل حلول التلف وشماتة الأعداء، فبك بسطت النعمة عليّ، واسأل الله(الخطاب للإمام في قبره) جل جلاله لي نصراً عزيزاً.."(2).
المسألة الرابعة: قولهم إن الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلى بيت الله:
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "حدثني الثقات أن فيهم من يرى الحج إلى المشاهد أعظم من الحج إلي البيت العتيق، فيرون الإشراك بالله أعظم من عبادة الله وحده، وهذا من أعظم الإيمان بالطاغوت"(3).
... هذه المسألة التي قال عنها عالم من أكبر علماء أهل السنة المعنيين بتتبع أمر الرافضة والرد عليهم بأنه قد وصله خبرها عن طريق بعض الثقات هي اليوم مقررة ومعلنة في كتب الاثنى عشرية في عشرات من الروايات تنص على أن زيارة المشهد أفضل من الحج إلى بيت الله الحرام.
... جاء في الكافي وغيره:"إن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة، وأفضل من عشرين عمرة وحجة"(4).
زيارة كربلاء يوم عرفة أفضل من سائر الأيام:
__________
(1) ... بحار الأنوار: 94/29.
(2) ... بحار الأنوار: 94/29-30.
(3) ... منهاج السنة: 2/124.
(4) ... فروع الكافي: 1/324.(1/209)
... مما يكشف أن هذه الروايات هي ثمرة مؤامرة ضد الأمة لصرفها عن بيت ربها والعمل على إفساد أمرها وتفريق إجتماعها.. والحيلولة دون تلاقيها في هذا المؤتمر السنوي العام..أن هذه الروايات خصت زيارة الحسين يوم عرفة بفضل خاص، تقول:"من أتى قبر الحسين عارفاً بحقه في غير يوم عيد كتب الله له عشرين حجة وعشرين عمرة مبرورات مقبولات، ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجة ومائة عمرة..ومن أتاه يوم عرفة عارفاً بحقه كتب الله له ألف حجة وألف عمرة مبرورات متقبلات، وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل"(1).
المبحث الرابع
قولهم إن الإمام يُحَرِّم ما يشاء ويُحِلُّ ما يشاء
... من أصول التوحيد: الإيمان بأن الله سبحانه هو المشرع وحده سبحانه، يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء لا شريك له في ذلك، ورسل الله يبلغون شرع الله لعباده، ومن ادعى أن له إماماً يحل ما يشاء ويحرم ما يشاء فهو داخل في قوله سبحانه: { أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } (2)، فأشرك مع الله غيره.
... والشيعة تزعم في رواياتها أن الله سبحانه وتعالى"خلق محمداً وعلياً وفاطمة فمكثوا ألف دهر ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها وفوض أمورهم إليها، فهم يحلون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون"(3).
المبحث الخامس
قولهم إن تراب قبر الحسين شفاء من كل داء
... تقول الشيعة –مخالفة بذلك النقل والعقل والطب والحكمة- بأن تربة الحسين هي الكفيلة لشفاء الأدواء والأسقام بشتى أنواعها وأشكالها.
__________
(1) ... انظر الكليني: /فروع الكافي: 1/324.
(2) ... الشورى: 21.
(3) ... أصول الكافي: 1/441، بحار الأنوار: 25/340.(1/210)
... ولقد ذكر صاحب البحار ما يصل إلى ثلاث وثمانين رواية عن تربة الحسين وفضلها وآدابها وأحكامها، فجعلت هذه الروايات من هذه التربة البلسم الشافي من كل داء، والحصن الحصين من كل خوف(1)، يشرب منها المريض فيتحول إلى صحيح، كأن لم يكن به بأس(2). ويحنك بها الطفل فتكون مأمنه من الأخطار(3)، وتوضع مع الميت في قبره لتقيه من العذاب، ويمسك بها الرجل يعبث بها ساهياً يقلبها فيكتب له أجر المسبحين، لأنها تسبح بيد الرجل من غير أن يسبح(4).
المبحث السادس
دعاؤهم بالطلاسم والرموز، واستغاثتهم بالمجهول
__________
(1) ... جاء في أخبارهم "…عن الحارث بن المغيرة قال: قلت لأبي عبد الله –عليه السلام- إني رجل كثير العلل والأمراض، وما تركت دواء إلا تداويت به، فقال لي: أين أنت من طين قبر الحسين بن علي فإنه شفاء من كل داء وأمناً من كل خوف.(أمالي الطوسي: 1/326، وبحار الأنوار: 101/119.
(2) ... وقد اخترعوا في ذلك حكايات وأساطير، وكل واحد من أصحاب هذه الحكايات يسوق قصة مرضه، وتعذر شفائه، وما أن يأكل من طين الحسين حتى ينهض كأن لم يكن به علة، يقول أحدهم في نهاية حكايته: "فلما أستقر الشراب في جوفي فكأنما نشطت من عقال".(بحار الأنوار: 101/120-121، كامل الزيارات: ص275).
(3) ... قال أبو عبد الله: "حنكوا أولادكم بتربة الحسين فإنه أمان".(كامل الزيارات ص278، بحار الأنوار: 101/124).
(4) ... جاء في تهذيب الأحكام للطوسي "عن محمد الحميري قال: كتبت إلى الفقيه (إمامهم المنتظر) أسأله هل يجوز أن يسبح الرجل بطين القبر؟ وهل فيه فضل؟ فأجاب –وقرأت التوقيع ومنه نسخت- : تسبح به فما من شيء من التسبيح أفضل منه، ومن فضله أن المسبح ينسى التسبيح ويدير السبحة تكتب له ذلك التسبيح (تهذيب الأحكام: 6/75، بحار الأنوار: 101/132-133). وفي رواية أخرى عندهم: "إذا قلبها ذاكراً الله له عشرين حسنة" (تهذيب الأحكام 6/75، بحار الأنوار 101/132).(1/211)
من أمثلة تلك الطلاسم قالوا:"حرز لأمير المؤمنين صلوات الله عليه للمسحور، والتوابع (الجني يتبع الإنسان حيث يذهب) والمصروع والسم والسلطان والشيطان وجميع ما يخافه الإنسان.. وهذه كتابته:
... بسم الله الرحمن الرحيم أي كنوش أي كنوش أرشش عطنيطنيطح يا مطيطرون فريالسنون ما وما ساما سويا طيطشا لوش خيطوش ..إلى آخر هذه الطلاسم ثم رسم رموزاً غريبة على شكل خطوط متداخلة..ومن عوذات الأئمة وأحرازهم بالألفاظ الغريبة قولهم كما يزعمون:"بيا آهيا شراهيا.."..إلخ(1)
المبحث السابع
استخارتهم بما يشبه أزلام الجاهلية
... وقد أدخلت طائفة الاثنى عشرية الاستخارة بالأزلام في دينها وأضافت عليها بعض الإضافات وسموها الرقاع. وعقد الحر العاملي لهذا باباً بعنوان"باب استحباب الاستخارة بالرقاع وكيفيتها"(2)، وذكر في هذا الباب جملة من أحاديثهم في ذلك بلغت خمس روايات، أما المجلسي فقد ذكر أنواعاً من الاستخارات تدخل في هذا المعنى في أبواب ثلاثة وهي: باب الاستخارة بالرقاع، وباب الاستخارة بالبنادق، وباب الاستخارة بالسبحة والحصى(3).
ثانياً: عقيدتهم في توحيد الربوبية:
... لقد بين أهل العلم أن الإيمان بربوبية الله سبحانه أمر قد فطر عليه البشر، وأن الشرك في الربوبية باعتبار إثبات خالقَين متماثلَين في الصفات والأفعال لم يثبت عن طائفة من الطوائف في التاريخ البشري، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثَم خالقاً خلق بعض العالم(4).
__________
(1) ... بحار الأنوار: 94/193، 222،229، 265، 297.
(2) ... وسائل الشيعة: 5/208-213.
(3) ... بحار الأنوار: 91/226-251.
(4) ... انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 3/96-97، شرح العقيدة الطحاوية: ص17-18.(1/212)
... ولهذا كان السؤال هل تأثر هذا الأصل في دين الشيعة، بمعنى هل وجد الإشراك الجزئي عندهم، باعتبار ما يولونه الأئمة من اهتمام، وما يعطونهم من أوصاف، وما يضيفونه عليهم من ألقاب؟ سيتبين هذا من خلال التتبع لما جاء عن أئمتهم في كتبهم المعتمدة، ورواياتهم المعتبرة عندهم، حيث أعرض خمسة مباحث: أولها: قولهم أن الرب هو الإمام، وثانيها: اعتقادهم أن الدنيا والآخرة للإمام، وفي المبحث الثالث: قولهم إن السحاب والرعد هو من أمر الأئمة، ومسخر للأئمة، وهو ما أسميته (إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة)، وفي المبحث الرابع: قولهم بحلول جزء إلهي في الأئمة، وفي الخامس: زعمهم تأثير الأيام بالنفع والضر.
المبحث الأول
قولهم أن الرب هو الإمام
... جاء في أخبارهم أن علياً –كما يفترون عليه- قال: أنا رب الأرض الذي يسكن الأرض به(1).
المبحث الثاني
قولهم بأن الدنيا والآخرة كلها للإمام يتصرف بها كيف يشاء
... عقد صاحب الكافي لهذا باباً بعنوان: "باب أن الأرض كلها للإمام"، ومما جاء فيه: عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء جائز له ذلك من الله.."(2).
المبحث الثالث
إسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة
... كل ما يجري في هذا الكون فهو بأمر الله وتقديره لا شريك له سبحانه، لكن في كتب الاثنى عشرية ما يثير العجب في هذا حيث تدعي بأن لأئمتها أمراً في ذلك، تقول رواياتهم:
__________
(1) ... مرآة الأنوار: ص59، وقد نقل ذلك عن بصائر الدرجات للصفار.
(2) ... انظر: أصول الكافي: 1/407-410.(1/213)
... "عن سماعة بن مهران قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فأرعدت السماء وأبرقت، فقال أبو عبد الله عليه السلام : أما إنه ما كان من هذا الرعد ومن هذا البرق فإنه من أمر صاحبكم، قلت من صاحبنا؟ قال: أمير المؤمنين عليه السلام"(1)
المبحث الرابع
الجزء الإلهي الذي حل بالأئمة
... وترد عندهم روايات تدعي بأن جزءاً من النور الإلهي حل بعلي.
... قال أبو عبد الله:"ثم مَسَحَنا بيمينه فأفضى نوره فينا". "...ولكن الله خلطنا بنفسه.."(2).
... وهذا الجزء الإلهي الذي في الأئمة –كما يزعمون- أعطوا به قدرات مطلقة، ولذلك فإن من يقرأ ما يسمونه معجزات الأئمة وتبلغ مئات الروايات يلاحظ أن الأئمة أصبحوا كرب العالمين –تعالى الله وتقدس عما يقولون- في الإحياء والإماتة والخلق والرزق(3).. إلا أن رواياتهم تربط هذا بأنه من الله كنوع من التلبيس والإيهام.
__________
(1) ... المفيد/الاختصاص ص327، بحار الأنوار: 27/33، البرهان: 2/482.
(2) ... أصول الكليني: 1/440،441،442،445.
(3) ... انظر: بحار الأنوار، باب جوامع معجزاته(يعنون علياً): 42/17-50، وفيه 17 رواية.(1/214)
... فهذا –مثلاً- عليّ يُحيِى الموتى: جاء في الكافي عن أبي عبد الله قال: إن أمير المؤمنين له خؤولة في بني مخزوم وإن شاباً منهم أتاه فقال: يا خالي إن أخي مات وحزنت عليه حزناً شديداً، قال فقال: تشتهي أن تراه؟ قال: بلى، قال: فأرني قبره، قال فخرج ومعه بردة رسول الله متزراً بها، فلما انتهى إلى القبر تلملمت شفتاه ثم ركضه برجله فخرج من قبره وهو يقول بلسان الفرس، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ألم تمت وأنت رجل من العرب؟ قال: بلى ولكنا متنا على سنة فلان وفلان (أي أبي بكر وعمر) فانقلبت ألسنتنا"(1). بل إن علياً –كما يزعمون- أحيى موتى مقبرة الجبانة بأجمعهم(2)، وضرب الحجر فخرجت منه مائة ناقة(3).
... هذا سلمان –كما يفترون- "لو أقسم أبو الحسن على الله أن يحيي الأولين والآخرين لأحياهم"(4).
... هذا الغلو هو بلا شك ارتضعوه من أفاويق المذاهب الوثنية التي تدعي في أصنامها ومعبوداتها ما للرب سبحانه من أفعال، ويكفي في فساده مجرد تصوره، إذ هو مخالف للنقل والعقل، والسنن الكونية كما هو منقوض بواقع الأئمة وإقراراتهم، ورسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - يقول –كما أمره ربه- { قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله } (5).
المبحث الخامس
قولهم بتأثير الأيام والليالي بالنفع والضر
... قال الله سبحانه: { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } (6). فالضر والنفع من الله وحده، وليس للأنواء والأيام والليالي وغيرها تأثير في ذلك، والشيعة تخالف هذا بدعواها أن في بعض الأيام شؤماً لا تقضى فيه الحاجات:
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/457، وانظر بحار الأنوار: 41/192.
(2) ... بحار الأنوار: 41/194. ...
(3) ... المصدر السابق: 41/198.
(4) ... السابق: 41/201.
(5) ... الأعراف: 188.
(6) ... النحل: 53.(1/215)
... قال أبو عبد الله:"لا تخرج يوم الجمعة في حاجة، فإن كان يوم السبت وطلعت الشمس فاخرج في حاجتك"، وقال:"السبت لنا، والأحد لبني أمية"(1).
ثالثاً: عقيدتهم في أسماء الله وصفاته:
المبحث الأول
الغلو في الإثبات (التجسيم)
... اشتهرت ضلالة التجسيم بين اليهود، ولكن أول من ابتدع ذلك بين المسلمين هم الروافض، ولهذا قال الرازي:"اليهود أكثرهم مشبهة، وكان بدء ظهور التشبيه في الإسلام من الروافض مثل هشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، ويونس بن عبد الرحمن القمي، وأبي جعفر الأحول(2).
... وكل هؤلاء الرجال المذكورين هم ممن تعدهم الاثنى عشرية في الطليعة من شيوخها، والثقات من نقلة مذهبها.
... وقد حدد شيخ الإسلام أول من تولى كبر هذه الفرية من هؤلاء فقال: "وأول من عُرِفَ في الإسلام أنه قال إن الله جسم هو هشام بن الحكم"(3).
... وقد نقل أصحاب الفرق كلمات مغرقة في التشبيه والتجسيم منسوبة إلى هشام بن الحكم وأتباعه تقشعر من سماعها جلود المؤمنين. يقول عبد القاهر البغدادي:"زعم هشام بن الحكم أن معبوده جسم ذو حد ونهاية وأنه طويل عريض عميق وأن طوله مثل عرضه…"(4).
... وقال ابن حزم: "قال هشام إن ربه سبعة أشبار بشبر نفسه"(5).
... وقد يقال إن ما سلف من أقوال عن هشام وأتباعه هي من نقل خصوم الشيعة فلا يكون حجة عليهم. مع أن تلك النقول عن أولئك الضُّلال قد استفاضت من أصحاب المقالات على اختلاف اتجاهاتهم، وهم أصدق من الرافضة مقالاً، وأوثق نقلاً، وهي تثبت أن الرافضة هم الأصل في إدخال هذه البدعة على المسلمين.
__________
(1) ... من لا يحضره الفقيه: 1/95-2/342، وسائل الشيعة: 8/253.
(2) ... اعتقاد فرق المسلمين والمشركين: ص97.
(3) ... منهاج السنة: 1/20.
(4) ... الفرق بين الفرق: ص65.
(5) ... الفصل: 5/40.(1/216)
... لكن القول بأن نسبة التجسيم إليهم قد جاءت من الخصوم، ولا شاهد عليها من كتب الشيعة قد يتوهمه من يقرأ إنكار المنكرين لذلك من الشيعة، وإلا فالواقع خلاف ذلك.
... وقد كان لهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي بالذات دور ظاهر في اتجاه التجسيم عند الشيعة كما تذكر ذلك مجموعة من رواياتهم.جاء في أصول الكافي وغيره".. عن محمد بن الرخجي قال"كتبت إلي أبي الحسن عليه السلام أسأله عما قال هشام بن الحكم في الجسم وهشام بن سالم في الصورة فكتب دع عنك حيرة الحيران واستعذ بالله من الشيطان ليس القول ما قال الهاشمان(1).
... وكان الأئمة يتبرءون منهما ومن قولهما، وحينما جاء بعض الشيعة إلى إمامهم وقال له: "إني أقول بقول هشام "قال إمامهم (أبو الحسن علي بن محمد)" ما لكم ولقول هشام؟ إنه ليس منا من زعم أن الله جسم ونحن منه براء في الدنيا والآخرة"(2).
... فأنت ترى أن كبار متكلميهم قد غلوا في الإثبات، حتى شبهوا الله جل شأنه بخلقه وهو كفر بالله سبحانه، لأنه تكذيب لقوله سبحانه { ليس كمثله شيء } (3) وعطلوا صفاته اللائقة به سبحانه فوصفوه بغير ما وصف به نفسه، وإمامهم كان ينكر عليهم هذا المنهج الضال، ويأمر بالالتزام في وصف الله، بما وصف به نفسه، ورواياتهم في هذا الباب كثيرة(4).
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/105، وبحار الأنوار: 3/288.
(2) ... ابن بابويه/ التوحيد: ص104، بحار الأنوار: 3/291.
(3) ... الشورى: 11.
(4) ... لمعرفة المزيد من الشواهد انظر كتاب: التوحيد لابن بابويه، باب أنه عز وجل ليس بجسم ولا صورة ص: 97-104، وفيه عشرون رواية، وأصول الكافي: باب النهي عن الجسم والصورة: 1/104-106، وفيه ثماني روايات.(1/217)
... فهذا الاتجاه إلى الغلو في الإثبات، قد طرأ على الإثبات الحق الذي عليه علماء أهل البيت وأصبح المذهب يتنازعه اتجاهان اتجاه التجسيم الذي تزعمه هشام، واتجاه التنزيه الذي عليه أهل البيت كما تشير إليه روايات الشيعة نفسها، وكما هو"ثابت مستفيض في كتب أهل العلم"(1).
المبحث الثاني
التعطيل عندهم
... بعد هذا اللغو في الإثبات بدأ تغيير المذهب في أواخر المائة الثالثة حيث تأثر بمذهب المعتزلة في تعطيل الباريء سبحانه من صفاته الثابتة له في الكتاب والسنة، وكثر الاتجاه إلى التعطيل عندهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه كالموسوي الملقب بالشريف المرتضى، وأبي جعفر الطوسي، واعتمدوا في ذلك على كتب المعتزلة. وكثيراً مما كتبوه في ذلك منقول عن المعتزلة نقل المسطرة، وكذلك ما يذكرونه في تفسير القرآن في آيات الصفات والقدر ونحو ذلك هو منقول من تفاسير المعتزلة(2).
... ولهذا لا يكاد القارىء لكتب متأخري الشيعة يلمس بينها وبين كتب المعتزلة في باب الأسماء والصفات فرقا، فالعقل-كما يزعمون-هو عمدتهم فيما ذهبوا إليه، والمسائل التي يقررها المعتزلة في هذا الباب أخذ بها شيوخ الشيعة المتأخرون كمسألة خلق القرآن، ونفى رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، وإنكار الصفات.
... بل إن الشبهات التي يثيرها المعتزلة في هذا، هي الشبهات التي يثيرها شيوخ الشيعة المتأخرون.
... وهؤلاء المعطلة قد رد عليهم أئمة الإسلام وبينوا باطلهم ولن نكرر القول ونبديء فيه ونعيد .. ولكن الذي يمكن أن يضاف في هذا المجال بعد ظهور الكتاب الشيعي وانتشاره هو تصوير هذه المسألة من كتب الشيعة ومن خلال روايات الشيعة عن أئمتها ، وكلام شيوخهم المبني على مجاراة أهل التعطيل.
وسأختار[مسألتين] في ذلك:
المسألة الأولى: قولهم بأن القرآن مخلوق:
__________
(1) ... منهاج السنة: 20/144.
(2) ... انظر منهاج السنة: 1/229،356.(1/218)
... يقول آية الشيعة محسن الأمين:"قالت الشيعة والمعتزلة القرآن مخلوق"(1).
... وهذا بناءً على إنكارهم لصفة الكلام لله وزعمهم أن الله سبحانه "يوجد الكلام في بعض مخلوقاته كالشجرة حين كلم موسى، وكجبرائيل حين أنزله بالقرآن"(2). هذا بعض ما يقوله شيوخهم في هذا الأمر(3). وإذا رجعت إلى الروايات التي ينقلونها عن (آل البيت) وجدتها تخالف في أكثرها ما يذهب إليه هؤلاء، فمن ذلك: ما جاء في تفسير العياشي: "عن الرضا أنه سئل عن القرآن فقال… إنه كلام الله غير مخلوق.."(4).
... وأول من قال بهذه المقالة الجعد بن درهم(5).
__________
(1) ... أعيان الشيعة: 1/461.
(2) ... المصدر السابق: 1/453.
(3) ... وقد سئل شيخ الإسلام عمن قال ذلك فأفتى بكفره وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال بأنه يكفر ولو قال: أنا لا أكذب قوله تعالى: { وكلم اللهُ موسى تكليماً } [النساء: 164]، بل أقر بأن هذا اللفظ حق ولكن أنفي معناه وحقيقته، وقال بأن هؤلاء هم الجهمية الذين اتفق السلف والأئمة على أنهم من شر أهل الأهواء والبدع، حتى أخرجهم كثير من الأئمة عن الثنتين والسبعين فرقة (انظر: مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية: 1/474، أو مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/502، وقال في موضع آخر إن سلف الأمة وأئمتها كفروا الجهمية الذين قالوا: إن الله خلق كلاماً في بعض الأجسام سمعه موسى وفسر التكليم بذلك: (مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/533).
(4) ... العياشي: 1/8.
(5) ... قال ابن حجر: الجعد بن درهم عداده في التابعين، مبتدع ضال زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة: (لسان الميزان: 2/105، ميزان الاعتدال: 1/399، ابن نباتة: سرح العيون: ص293-294.(1/219)
... قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: "أول من أتى بخلق القرآن جعد بن درهم(1)، فهو أول من قال بمبدأ التعطيل في هذه الأمة ثم تلقى ذلك عنه الجهم بن صفوان"(2).
... ويشير البعض إلى أن هذه المقالة ترتد أصولها إلى مؤثرات أجنبية، فقد ذكر ابن الأثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهما أن الجعد أخذ ذلك –أي القول بخلق القرآن- عن أبان بن سمعان، وأخذه هذا من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يقول بخلق التوراة، وكان طالوت زنديقاً وهو أول من صنف لهم في ذلك ثم أظهره الجعد بن درهم(3)، كما يذكر الخطيب البغدادي أن والد بشر المريسي وهو أحد كبار القائلين بخلق القرآن من المعتزلة كان يهودياً(4).
[المسألة الثانية]: الرؤية:
... لقد ذهبت الشيعة الإمامية بحكم مجاراتها للمعتزلة إلى نفي الرؤية وجاءت روايات عديدة ذكرها ابن بابويه في كتابه التوحيد وجمع أكثرها صاحب البحار تنفي ما جاءت به النصوص من رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة فتفتري –مثلاً- على أبي عبد الله جعفر الصادق بأنه سئل"عن الله تبارك وتعالى هل يرى في المعاد؟ فقال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً..إن الأبصار لا تدرك إلا ما له لون وكيفية، والله خالق الألوان والكيفية"(5).
المبحث الثالث
وصفهم الأئمة بأسماء الله وصفاته
__________
(1) ... اللالكائي/ شرح أصول اعتقاد أهل السنة: ص382.
(2) ... انظر: ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية: 1/127، مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 5/20، وانظر: درء تعارض العقل والنقل: 5/244.
(3) ... انظر: ابن الأثير/ الكامل: 5/294، ابن تيمية/ الحموية: (ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 5/20-21.
(4) ... تاريخ بغداد: 7/61.
(5) ... بحار الأنوار: 4/31 وعزاه إلى أمالي الصدوق.(1/220)
... لقد خرجوا ببدعة ثالثة أحدثوها في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، حين زعموا أن الأئمة هم أسماء الله، فأسماء الله سبحانه التي ذكرها في كتابه هي –على حد زعمهم- عبارة عن الأئمة الاثنى عشر، وهذا يتضمن تعطيل الله من أسمائه الحسنى، واعطاءها بعض البشر، ويزعمون أن النص من "المعصوم"قد ورد بذلك وهذا إفك عظيم افتروه فويل لهم مما يفترون، روى الكليني في أصول الكافي عن أبي عبد الله في قول الله عز وجل: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } قال: "نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملاً إلا بمعرفتنا"(1).
... الله سبحانه يقول: { ولله الأسماء الحسنى } وهؤلاء يقولون نحن الأسماء الحسنى، فأي محاداة لله وكتابه أعظم من هذا، إن من معين هذه النصوص المظلمة تستقي طوائف الباطنية الملاحدة والتي تذهب لتأليه الأئمة..ومن مائها الآسن ترتوي.
... وزعموا أن أمير المؤمنين علياً قال: "أنا عين الله وأنا يد الله وأنا جنب الله وأنا باب الله"(2). وقال –كما يفترون- :"أنا علم الله وأنا قلب الله الواعي، ولسان الله الناطق، وعين الله الناظرة، وأنا جنب الله وأنا يد الله"(3).
... وقد ذكر المجلسي ستاً وثلاثين رواية تقول أن الأئمة هم وجه الله ويد الله(4).
... وفي رجال الكشي وغيره قال علي –كما يفترون- "أنا وجه الله، أنا جنب الله، وأنا الأول، وأنا الآخر، وأنا الظاهر، وأنا الباطن"(5).
__________
(1) ... الأعراف: 180، أصول الكافي: 1/143-144.
(2) ... أصول الكافي: 1/415، بحار الأنوار: 24/194.
(3) ... ابن بابويه/ التوحيد: ص164، بحار الأنوار: 24/ 198.
(4) ... بحار الأنوار: 24/191-203.
(5) ... رجال الكشي: ص211 رقم(374)، وانظر: بحار الأنوار: 24/180، بصائر الدرجات: ص151.(1/221)
... كما أنهم أضافوا إلى الأئمة أيضاً بعض صفات الرب سبحانه كالعلم بالغيب، وعقد لذلك صاحب الكافي باباً بعنوان: "باب أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم الشيء"، وضمنه طائفة من رواياتهم. وعقد باباً آخر بعنوان:"باب أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا "(1)، وذكر فيه جملة من أحاديثهم.
... وقد عثرت وسط هذا الركام من هذه الدعاوى الغبية الملحدة حول الأئمة على بعض النصوص التي روتها كتب الشيعة والتي تجرد الأئمة من هذه الصفات التي خلعوها عليهم وهي لا تنبغي إلا للحق جل شأنه. قال أبو عبد الله –كما يروي صاحب الكافي- :"يا عجباً لأقوام يزعمون أنا نعلم الغيب، ما يعلم الغيب إلا الله عز وجل، لقد هممت بضرب جاريتي فلانة فهربت مني، فما علمت في أي بيوت الدار هي.."(2). ولو كان أبو عبد الله كما يزعم الكليني في أبوابه التي عقدها بعد ذكره لهذا النص، لو كان يعلم ما يكون ولا يخفى عليه الشيء وإذا شاء أن يعلم علم لم يخف عليه موضع الجارية.
... وروايات الشيعة تكشف نفسها بنفسها وتتناقض نصوصها.
رابعًا: اعتقادهم في الإيمان وأركانه:
المبحث الأول
قولهم في الإيمان والوعد والوعيد
المسألة الأولى: مفهوم الإيمان عندهم:
... لقد أدخل الاثنا عشرية الإيمان بالأئمة الاثنى عشر في مسمى الإيمان(3). ولهذا قال ابن المطهر الحلي: إن"مسألة الإمامة(إمامة الاثنى عشر).. هي أحد أركان الإيمان المستحق بسببه الخلود في الجنان والتخلص من غضب الرحمن"(4).
المسألة الثانية: الشهادة الثالثة:
__________
(1) ... انظر: أصول الكافي: 1/258،260،262.
(2) ... أصول الكافي: 1/257.
(3) ... وقد نسب الأشعري هذا المذهب إلى جمهور الرافضة، انظر: مقالات الإسلاميين: 1/125.
(4) ... منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: ص1.(1/222)
... وبمقتضى هذا الإيمان الذي لا يعرفه سوى الاثنى عشرية، فإنهم اخترعوا شهادة ثالثة، هي شعار هذا الإيمان الجديد، هي قولهم: "أشهد أن علياً ولي الله" يرددونها في أذانهم، وبعد صلاتهم، ويلقنونها موتاهم. فالإقرار بالأئمة مع الشهادتين يقال بعد كل صلاة، وعقد الحر العاملي باباً في هذا المعنى(1).
... وجاء في أخبارهم عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:"لو أدركت عكرمة(2) عند الموت لنفعته، فقيل لأبي عبد الله عليه السلام: بماذا كان ينفعه؟ قال: يلقنه ما أنتم عليه"(3)، وعن أبي بصير عن أبي جعفر قال:"…لقنوا موتاكم عند الموت شهادة أن لا إله إلا الله والولاية"(4).
... ويلقن هذه الشهادة عند إدخاله للقبر(5)، وكذلك عند انصراف الناس عنه، وبوب لذلك المجلسي فقال:" باب استحباب تلقين الولي الميت الشهادتين والإقرار بالأئمة عليهم السلام بأسمائهم بعد انصراف الناس"(6)، وساق في ذلك جملة من رواياتهم.
المسألة الثالثة: القول بالإرجاء:
... هذا وإذا كان الإيمان عندهم هو الإقرار بالأئمة الاثنى عشر، فقد أصبحت معرفة الأئمة عندهم كافية في الإيمان ودخول الجنان فأخذوا بمذهب المرجئة رأساً. ولهذا عقد صاحب الكافي باباً بعنوان:"باب أن الإيمان لا يضر معه سيئة، والكفر لا ينفع معه حسنة"، وذكر فيه ستة أحاديث منها قول أبي عبد الله:"الإيمان لا يضر معه عمل، وكذلك الكفر لا ينفع معه عمل"(7).والإيمان حسب مصطلحهم هو حب الأئمة أو معرفتهم.
__________
(1) ... انظر: وسائل الشيعة: باب استحباب الشهادتين والإقرار بالأئمة بعد كل صلاة: 4/1038.
(2) ... يعني عكرمة مولى ابن عباس العلامة الحافظ المفسر (انظر: سير أعلام النبلاء: 5/12).
(3) ... فروع الكافي: 1/34.
(4) ... فروع الكافي: 1/34.
(5) ... انظر أخبارهم في ذلك في: فروع الكافي: 1/53، تهذيب الأحكام: 1/91، وسائل الشيعة: 2/843.
(6) ... وسائل الشيعة: 2/862.
(7) ... أصول الكافي: 2/463-464.(1/223)
المسألة الرابعة: قولهم في الوعد:
... وجاءت أخبارهم تقول: بأن الأئمة يملكون الضمان لشيعتهم بدخول الجنة، وقد شهدوا بذلك لبعض أتباعهم على وجه التعيين، فهم يعدون بالثواب ويحققونه.
... ومن نصوصهم في هذا ما جاء في رجال الكشي: "..عن زياد القندي عن علي بن يقطين، أن أبا الحسن قد ضمن له الجنة"، وفي رواية أخرى عن عبد الرحمن الحجاج، قال قلت لأبي الحسن رضي الله عنه: إن علي بن يقطين أرسلني إليك برسالة أسألك الدعاء له، فقال: في أمر الآخرة؟ قلت: نعم، قال: فوضع يده على صدره ثم قال: ضمنت لعلي بن يقطين ألا تمسه النار"(1).
... إن مثل هذه المزاعم تبين أن واضعي هذه الأساطير هم فئة من الزنادقة الذين يؤمنون بقرآن ولا بسنة، وهدفهم إفساد هذا الدين، فلم يجدوا مكاناً لتحقيق ذلك إلا في محيط التشيع، وعلي بن يقطين الذي ضمن له هؤلاء الزنادقة"جنتهم" قد يكون شريكاً لهم في المذهب، فقد ذكر الطبري في حوادث سنة 169 هـ بأنه قُتِلَ على الزندقة(2).
المسألة الخامسة: قولهم في الوعيد:
... قال المفيد: "اتفقت الإمامية على أن الوعيد بالخلود في النار متوجه إلى الكفار خاصة دون مرتكبي الذنوب من أهل المعرفة بالله تعالى والإقرار بفرائضه من أهل الصلاة".وأنهم بارتكابهم الكبيرة لا يخرجون عن الإسلام وإن كانوا يفسقون بما فعلوه من الكبائر والآثام(3).
__________
(1) ... رجال الكشي: ص431، وأورد الكشي عدة روايات متشابهة لما ذكر: ص431-432.وانظر في مسألة الضمان هذه: أصول الكافي: 1/474،475، رجال الكشي: ص447-448، 484، ورجال الحلي: ص98،185.
(2) ... تاريخ الطبري: 8/190.
(3) ... أوائل المقالات: ص14،15.(1/224)
... وهذا القول في ظاهره موافق لمذهب أهل السنة، لكنهم خرجوا عن تحقيق هذا المذهب من طريق آخر، حيث توسعوا في مفهوم الكفر والمكفرات، ولذلك "اتفقت الإمامية على أن أصحاب البدع كلهم كفار، وأن على الإمام أن يستتيبهم عند التمكن بعد الدعوة لهم وإقامة البينات عليهم فإن تابوا عن بدعهم وصاروا إلى الصواب وإلا قتلهم لردتهم عن الإيمان، وأن من مات منهم على تلك البدعة فهو من أهل النار"، واتفقت على القول بكفر من حارب أمير المؤمنين علياً وأنهم "كفار ضُلاَّل ملعونون بحربهم أمير المؤمنين وأنهم بذلك في النار مخلدون"(1).
... وهكذا حكمهم في كل من خالفهم، ولذلك قال ابن بابويه:"واعتقادنا في من خالفنا في شيء واحد من أمور الدين كاعتقادنا في من خالفنا في جميع أمور الدين"(2).فهم من هذا الباب وعيدية، ولهذا قال شيخ الإسلام بأن متأخري الشيعة وعيدية في باب الأسماء والأحكام(3).
المبحث الثاني
قولهم في أركان الإيمان
الإيمان بالملائكة:
... وقد نال هذا الركن من أركان الإيمان نصيبه، فالملائكة خلقوا من نور الأئمة، وهم خدمة الأئمة، ومنهم طوائف قد كلفوا بزعمهم للعكوف على قبر الحسين..إلخ.
... تقول أخبارهم: "خلق الله من نور وجه علي بن أبي طالب سبعين ألف ملك يستغفرون له ولمحبيه إلى يوم القيامة"(4).
... وأحياناً يقولون:"خلق الله الملائكة من نور علي"(5).
... وقد زعموا أن ملائكة الرحمن من لا وظيفة له إلا البكاء على قبر الحسين، والتردد لزيارته، قالوا:"وكل الله بقبر الحسين أربعة آلاف ملك شعث غبر يبكون إلى يوم القيامة.."(6).
__________
(1) ... السابق: 16،10.
(2) ... الاعتقادات: ص 116، وانظر: الاعتقادات للمجلسي: ص100.
(3) ... الفتاوى: 6/55.
(4) ... كنز جامع الفوايد: ص334، بحار الأنوار: 23/ 320. ...
(5) ... المعالم الزلفى: ص249.
(6) ... وسائل الشيعة: 10/318، فروع الكافي: 1/325.(1/225)
... وزيارة قبر الحسين هي أمنية أهل السماء، قالوا: "وليس شئ في السماوات إلا وهم يسألون الله أن يؤذن لهم في زيارة الحسين ففوج ينزل وفوج يعرج"(1).
... وقالوا إن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا"(2).
... وجاء في أخر حديث طويل لهم إن جبريل دعا أن يكون خادماً للأئمة، قالوا فجبريل خادمنا"(3).
... وقد قال شيخ الإسلام -رحمه الله-وهو يرد على ابن المطهر نقله لمثل هذا اللقب للملائكة قال: "فتسمية جبريل رسول الله إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - خادماً عبارة من لا يعرف قدر الملائكة وقدر إرسال الله لهم إلى الأنبياء…"(4).
... وكيف يطلق هذا اللقب "الوضيع" في من وصفه الله بقوله: { إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين } (5) فالمراد بالرسول الكريم هنا جبريل، وذي العرش رب العزة سبحانه.
... ولهم دعاوي في هذا الباب كثيرة، وكأنه لا وظيفة للملائكة إلا أمر أئمتهم الاثنى عشر، أو كأنهم ملائكة الأئمة لا ملائكة الله!
الإيمان بالكتب:
... والشيعة قد تأثر هذا الجانب عندها بمقتضى عقائدها التي انفردت بها عن سائر المسلمين في مسألة الإمامة وغيرها، فآمنت بكتب ما أنزل بها من سلطان، حيث ادعت أن الله سبحانه أنزل على أئمتها كتباً من السماء، كما أنزل كتبه على أنبيائه.
... كما زعمت بأن لدى الأئمة الاثنى عشر الكتب السماوية التي نزلت على جميع الأنبياء فهم يقرءونها ويحتكمون إليها.
... وإليك بيان هاتين القضيتين، من خلال النقل الأمين من كتب الشيعة المعتمدة.
المسألة الأولى: دعواهم تنزل كتب إلهية على الأئمة:
__________
(1) ... الطوسي/ التهذيب: 2/16.
(2) ... بحار الأنوار: 26/335.
(3) ... بحار الأنوار: 26/344-345.
(4) ... منهاج السنة: 2/158.
(5) ... التكوير: 19-20.(1/226)
... ولعل جذور هذه المقالة بدأت في عصر علي-رضى الله عنه-كما أشارت إلى ذلك إحدى روايات الإمام البخاري-رضى الله عنه- عن أبى جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما في هذه الصحيفة ؟ قال: العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر"(1).
... وفي رواية أخرى للبخاري جاء السؤال: "هل عندكم شئ من الوحي إلا ما في كتاب الله"(2) (وهى تفسر المراد بالكتاب).
... قال ابن حجر: وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك، لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت –لاسيما علياً-أشياء من الوحى-خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لم يطلع غيرهم عليها، وقد سأل علياً عن هذه المسألة أيضاً قيس ابن عباد، والأشتر النخعي وحديثهما في مسند النسائي"(3).
... وفي كتاب أحوال الرجال أن عبد الله بن سبأ زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي"(4).
... إذن كانت دعوى السبئيين تشير إلى علم مخزون عند علي، فهذه أصل الدعوى، وقد تطورت واتخذت صوراً وأشكالاً متعددة كلها ترجع إلى دعوى أن عند آل البيت ما ليس عند الناس والتي نفاها أمير المؤمنين علي نفياً قاطعاً وما تفرع من الباطل فهو باطل، فالفرع له حكم أصله.
... وإليك بكل أمانة بعض ما وجدناه في كتبهم المعتبرة عندهم من هذه الدعاوى والمزاعم:
أ- "مصحف فاطمة":
... تدعي كتب الشيعة نزول مصحف على فاطمة بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) ... صحيح البخاري –مع الفتح- 1/204.
(2) ... صحيح البخاري –مع الفتح- 6/167.
(3) ... فتح الباري: 1/204.
(4) ... الجوزجاني/ أحوال الرجال ص38.(1/227)
... تقول إحدى روايات الكافي عن مصحف فاطمة: "… إن الله تعالى لما قبض نبيه صلى الله عليه وآله دخل على فاطمة عليها السلام من وفاته من الحزن مالا يعلمه إلا الله عز وجل فأرسل الله إليها ملكاً يسلي غمها ويحدثها فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين رضى الله عنه فقال: إذا أحسست بذلك، وسمعت الصوت قولي لي فأعلمته بذلك فجعل أمير المؤمنين رضى الله عنه يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفاً.. أما إنه ليس فيه شئ من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون"(1).
... فتفيد هذه الرواية بأن الغرض من هذا المصحف أمر يخص فاطمة وحدها وهو تسليتها وتعزيتها بعد وفاة أبيها - صلى الله عليه وسلم - وأن موضوعه"علم ما يكون" وما أدرى كيف يكون تعزيتها بإخبارها بما يكون وفيه –على ما تنقله الشيعة-قتل أبنائها وأحفادها، وملاحقة المحن لأهل البيت…
... ثم كيف تعطي فاطمة"علم ما يكون" "علم الغيب" ورسول الهدى يقول كما أمره الله: { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } (2) فهل هي أفضل من رسول الله؟
... وتقول هذه الرواية بأن علياً هو الذي كتب ما أملاه الملك رغم أن رواياتهم الأخرى تقول بأنه بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان منشغلاً بجمع القرآن.والكذب لا محالة له من التناقض والاختلاف.
... ويقولون بأن مصحفهم هذا ثلاثة أضعاف القرآن.
... جاء في الكافي"عن أبي بصير قال: دخلت على أبي عبد الله-ثم ذكر حديثاً طويلاً في ذكر العلم الذي أودعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند أئمة الشيعة -كما يزعمون- وفيه قول أبي عبد الله: "وإن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام قلت(القول للراوي) وما مصحف فاطمة؟ عليها السلام قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ما فيه من قرآنكم حرف واحد"(3).
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/240، بحار الأنوار: 26/44، بصائر الدرجات: ص43.
(2) ... الأعراف: 188.
(3) ... أصول الكافي: 1/239.(1/228)
... فهذه الأسطورة التي يرويها"ثقة الإسلام عندهم" بسند صحيح عندهم كما يقرره شيوخهم(1) تقول: "إن مصحفهم يفوق المصحف في حجمه، ويخالفه في مادته..فهل معنى هذا أن كتاب الله أقل من مصحف فاطمة، وأن مصحف فاطمة أكمل وأوفى من كتاب الله سبحانه الذى أنزله الله سبحانه { تبياناً لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين } (2)، وجعله دستوراً ومنهاج حياة للأمة إلى أن تقوم الساعة، وهل الأمة محتاجة إلى كتاب آخر غير كتاب الله ليكمل به دينها، وإذا فقدته فهي لم تستكمل أسباب الهداية والخير، وهي اليوم قد فقدته، إذ لا وجود له باعتراف الجميع.. ثم كيف يكون كتاب تسلية وتعزية –كما تقول روايتهم السابقة- أكمل من كتاب الله سبحانه؟ أليس هذا الزعم آية في التحلل من العقل والجرأة على الكذب؟.
... وقد وقفت على نص عندهم جاء في الكافي، يناقض هذه الدعوى، وهو عن أبي عبد الله –الذي يفترون عليه كل تلك الافتراءات- قال:"إن الله عز ذكره ختم بنبيكم النبيين فلا نبي بعده أبداً، وختم بكتابكم الكتب فلا كتاب بعده أبداً، وأنزل فيه تبيان كل شيء وخلقكم وخلق السموات والأرض ونبأ ما قبلكم وفصل ما بينكم وخبر ما بعدكم وأمر الجنة والنار وما أنتم صائرون إليه"(3)، وهذا نص لا يحتاج إلى تعليق فهو يكذب كل هذه الدعاوى وينفي وقوعها نفياً قاطعاً.
المسألة الثانية: دعواهم بأن جميع الكتب السماوية عند الأئمة:
__________
(1) ... انظر: الشافي شرح أصول الكافي: 3/197.
(2) ... النحل: 89.
(3) ... صحيح الكافي: 1/31، أو أصول الكافي: 1/269، وانظر : مفتاح الكتب الأربعة: 8/64-65.(1/229)
... تدعي الشيعة بأن عند الاثنى عشر كل كتاب نزل من السماء وأنهم يقرأونها على اختلاف لغاتها، وعقد صاحب الكافي باباً لهذا الموضوع بعنوان: (باب أن الأئمة عندهم جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنتها)(1) وضمنه طائفة من رواياتهم. ومثله فعل صاحب البحار فذكر باباً بعنوان: (باب في أن عندهم صلوات الله عليهم كتب الأنبياء عليهم السلام يقرؤونها على اختلاف لغاتها)(2) وذكر في هذا الباب (27) حديثاً من أحاديثهم.
الإيمان بالرسل:
... وضلال الشيعة في هذا الركن يتمثل في عقائد متعددة كقولهم بأن الأئمة يوحى إليهم، كما سبق إثباته في "فصل السنة" وفي مسألة الإيمان بالكتب. وكقولهم بعصمة الأئمة وضرورة اتباع قولهم، فهم أعطوهم بهذا معنى النبوة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فمن جعل بعد الرسول معصوماً يجب الإيمان بكل ما يقوله فقد أعطاه معنى النبوة وإن لم يعطه لفظها"(3).
... وبالغوا في الضلالة حينما زعموا أن الأنبياء عليهم السلام هم أتباع لعلي، وأن منهم من عوقب لرفضه ولاية علي، حتى جاء في أخبارهم عن حبة العرني قال: "قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن الله عرض ولايتي على أهل السموات وأهل الأرض أقر بها من أقر، وأنكرها من أنكر، أنكرها يونس فحبسه الله في بطن الحوت حتى أقر بها"(4).
الإيمان باليوم الآخر:
... لهم في هذا الركن العظيم أقوال منكرة، وبدع كثيرة.. فآيات القرآن في اليوم الآخر أولوا معناها بالرجعة. وهذه حيلة ماكرة من واضعي هذه النصوص لإنكار أمر اليوم الآخر بالكلية، وأقل ما فيها أنها تصرف قلوب الشيعة عن ذلك اليوم، أو تمحو معاني اليوم الآخر من نفوسهم، لأنهم لا يقرأون في آيات اليوم الآخر إلا تأويلات شيوخهم له بالرجعة.
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/227.
(2) ... بحار الأنوار: 26/180.
(3) ... منهاج السنة: 3/174.
(4) ... بحار الأنوار: 26/282، بصائر الدرجات: ص22.(1/230)
... ومن بدعهم أيضاً قولهم بأن أمر الآخرة للإمام. يقول صاحب الكافي في أخباره:" الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء جائز له ذلك من الله"(1).
الإيمان بالقدر:
... يقول شيخ الإسلام ابن تيمية بأن "قدماء الشيعة كانوا متفقين على إثبات القدر، وإنما شاع فيهم نفي القدر من حين اتصلوا بالمعتزلة"(2).
... وهذا كان في أواخر المائة الثالثة، وكثر بينهم في المائة الرابعة لما صنف لهم المفيد وأتباعه(3).
... كما أن"سائر علماء أهل البيت متفقون على إثبات القدر"(4) .
ويمكن أن يقال:
... قد كان في القديم الإثبات هو الأصل والنفي طارئ نتيجة التأثر بالاتجاه الاعتزالي، وعند المتأخرين النفي هو الكثير الغالب، والإثبات موجود عند البعض.
خامسًا: أصولهم ومعتقداتهم الأخرى التي تفردوا بها:
... وفيه ثمانية فصول:
الفصل الأول: الإمامة. ... ... الفصل الثاني: عصمة الإمام.
الفصل الثالث: التَّقِّيَّة. ... ... الفصل الرابع: المهدية والغيبة.
الفصل الخامس: الرجعة. ... الفصل السادس: الظهور.
الفصل السابع: البداء. ... ... الفصل الثامن: الطينة.
الفصل الأول
الإمامة
مفهوم الإمامة عند الشيعة ومنشؤها:
... لعل أول من تحدث عن مفهوم الإمامة بالصورة الموجودة عند الشيعة هو ابن سبأ، الذي بدأ يشيع القول بأن الإمامة هي وصاية من النبي، ومحصورة بالوصي، وإذا تولاها سواه يجب البراءة منه وتكفيره، فقد اعترفت كتب الشيعة بأن ابن سبأ "كان أول من أشهر القول بفرض إمامة عليّ، وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه وكفرهم"(5).
استدلالهم على مسألة الإمامة:
__________
(1) ... أصول الكافي: 1/409.
(2) ... منهاج السنة: 2/29.
(3) ... السابق: 1/229.
(4) ... السابق: 2/29.
(5) ... رجال الكشي: ص108-109.(1/231)
... من أصول الروافض "أنه لا يجوز للرعية اختيار إمام، بل لابد فيه من النص"(1). "فالإمامة لا تكون إلا بالنص"(2). وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص على عليّ وأولاده(3)، فهم الأئمة إلى أن تقوم الساعة. وقد رأينا بدايات هذه العقيدة على أيدي السبئية، والهاشمية والشيطانية. إلا أن شيوخ الشيعة ادعوا أن هذا الأمر هو من شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأقوال أئمة أهل البيت ...
... وأخذوا يستدلون على ذلك "بنصوص ينقلونها ويؤولونها على مقتضى مذهبهم لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون في طريقه أو بعيد عن تأويلاتهم الفاسدة"(4).
أدلتهم من القرآن:
... قال شيخ الطائفة –كما يلقبونه- الطوسي: "وأما النص على إمامته من القرآن فأقوى ما يدل عليه قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } (5). وقال الطبرسي:"وهذه الآية من أوضح الدلائل على صحة إمامة علي بعد النبي بلا فصل"(6). ويكاد شيوخهم يتفقون على أن هذا أقوى دليل عندهم حيث يجعلون له الصدارة في مقام الاستدلال في مصنفاتهم(7).
__________
(1) ... الحر العاملي/ الفصول المهمة في أصول الأئمة ص142.
(2) ... المظفر/ عقائد الإمامية ص103.
(3) ... الكليني/ أصول الكافي: باب ما نص الله ورسوله على الأئمة: 1/286 وما بعدها.
(4) ... ابن خلدون/ المقدمة: 2/572 (تحقيق د. علي عبد الواحد وافي).
(5) ... المائدة: 55. تلخيص الشافي: 2/10.
(6) ... مجمع البيان: 2/128.
(7) ... نظر-مثلاً-ابن المطهر الحلي في منهاج الكرامة، حيث اعتبره البرهان الأول ص147، وشبر في حق اليقين: 1/144، والزنجاني في عقائد الإمامية الاثنى عشرية: 1/81-82.(1/232)
... أما كيف يستدلون بهذه الآية على مبتغاهم؟ فإنهم يقولون:"اتفق المفسرون والمحدثون من العامة والخاصة أنها نزلت في علي لما تصدق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة وهو مذكور في الصحاح الستة"(1).
... و"إنما" للحصر باتفاق أهل اللغة، و"الولي" بمعنى الأولى بالتصرف المرادف للإمام والخليفة(2).
... فأنت ترى أن الشيعة تعتمد في استدلالها بالآية بما روي في سبب نزولها، لأنه ليس في نصها ما يدل على مرادهم، فصار استدلالهم بالرواية لا بالقرآن، فهل الرواية ثابتة، وهل وجه استدلالهم سليم؟ يتبين هذا بالوجوه التالية:
__________
(1) ... قوله"الصحاح الستة" تسمية غير سليمة، لأن أهل السنة لا يعدون جميع الكتب الستة صحاحاً، ولذا يسمونها بالكتب السته، ولكن الروافض أصحاب مبالغات وليس هذا بكثير على من يتعمد الكذب على الله ورسوله.
(2) ... شبر في حق اليقين: 1/144، والزنجاني في عقائد الإمامية الاثنى عشرية: 1/81-82.(1/233)
... أولاً: أن زعمهم بأن أهل السنة أجمعوا على أنها نزلت في علي هو"من أعظم الدعاوى الكاذبة، بل أجمع أهل العلم بالنقل على أنها لم تنزل في علي بخصوصه، وأن علياً لم يتصدق بخاتمه في الصلاة، وأجمع أهل العلم بالحديث على أن القصة المروية في ذلك من الكذب الموضوع"(1). وقوله إنها مذكورة في الصحاح الستة، كذبٌ إذ لا وجود لهذه الرواية في الكتب الستة(2). وقد ساق ابن كثير الآثار التي تروى في أن هذه الآية نزلت في علي حين تصدق بخاتمه، وعقب عليها بقوله:"وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها"(3).
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/1.
(2) ... وهو من الكذب الذي لا يستحي الشيعة من إثباته، والغريب أن هذا الزعم يجري على ألسنة آياتهم في هذا العصر كشبر والزنجاني، فهل يخفى عليهم أن هذا لا وجود له في الكتب الستة؟! وقد توافرت اليوم الفهارس والمعاجم التي تكشف الحقيقة (راجع المعجم المفهرس لألفاظ الحديث، ومفتاح كنوز السنة، لفظ علي بن أبي طالب، وراجع الكتب المعنية بجمع الروايات المتعلقة بتفسير الآيات وسبب نزولها: مثل (الدر المنثور: 3/104-106)وغيره، أو المعنية بجمع روايات الكتب الستة: كجامع الأصول فلا تجد لدعواهم أصلاً، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : "وجمهور الأمة لم تسمع هذا الخبر ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة لا الصحاح ولا السنن ولا الجوامع ولا المعجمات ولا شيء من الأمهات" (منهاج السنة: 4/5).
(3) ... تفسير ابن كثير: 2/76-77.(1/234)
... ثانياً: أن هذا الدليل الذي يستدلون به ينقض مذهب الاثنى عشرية لأنه يقصر الولاية على أمير المؤمنين بصيغة الحصر"إنما" فيدل على سلب الإمامة عن باقي الأئمة، فإن أجابوا على النقض بأن حصر الولاية في بعض الأوقات، أعني وقت أمامته لا وقت إمامة من بعده، وافقوا أهل السنة في أن الولاية العامة كانت له وقت كونه إماماً لا قبله، وهو زمان خلافة الثلاثة(1).
... ثالثاً: أن الله تعالى لا يثني على الإنسان إلا بما هو محمود عنده، إما واجب وإما مستحب، والتصدق أثناء الصلاة ليس بمستحب باتفاق علماء الملة، ولو كان مستحباً لفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولحض عليه، ولكرر فعله،وإن في الصلاة لشُغلاً، وإعطاء السائل لا يفوت إذ يمكن للمتصدق إذا سلم أن يعطيه، بل إن الاشتغال بإعطاء السائلين يبطل الصلاة كما هو رأي جملة من أهل العلم(2).
... رابعاً: أنه لو قدر أن هذا مشروع في الصلاة لم يختص بالركوع فكيف يقال: لا ولي إلا الذين يتصدقون في حال الركوع، فإن قيل هذا أراد بها التعريف بعلي، قيل له أوصاف علي التي يعرف بها كثيرة ظاهرة فكيف يترك تعريفه بالأمور المعروفة ويعرف بهذا الأمر الذي لا يعرفه إلا من سمعه وصدق به، وجمهور الأمة لا تسمع هذا الخبر ولا هو في شيء من كتب المسلمين المعتمدة(3).
... خامساً: وقولهم أن علياً أعطى خاتمه زكاة في حال ركوعه فنزلت الآية: مخالفة للواقع، ذلك أن علياً رضي الله عنه لم يكن ممن تجب عليه الزكاة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان فقيراً، وزكاة الفضة إنما تجب على من ملك النصاب حولاً، وعلى لم يكن من هؤلاء.
__________
(1) ... انظر: روح المعاني: 6/168.
(2) ... انظر: منهاج السنة: 1/208-4/5.
(3) ... السابق: 4/5.(1/235)
... كذلك فإن إعطاء الخاتم في الزكاة لا يجزي عند كثير من الفقهاء إلا إذا قيل بوجوب الزكاة في الحلي، وقيل إنه يخرج من جنس الحلي، ومن جوز ذلك بالقيمة فالتقويم في الصلاة متعذر، والقيم تختلف باختلاف الأحوال(1).
... سادساً: لما تبين أن الروايات التي أولوا بمقتضاها الآية باطلة سنداً ومتناً، فلا متمسك لهم حينئذ بالآية بوجه سائغ، بل إن الآية حجة عليهم لأنها جاءت بالأمر بموالاة المؤمنين والنهي عن موالاة الكافرين(2)، وليس للرافضة –فيما يظهر من نصوصها وتاريخها- من ذلك نصيب.
... وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:"إنه من المعلوم المستفيض عند أهل التفسير خلفاً عن سلف أن هذه الآيات نزلت في النهي عن موالاة الكفار، والأمر بموالاة المؤمنين"(3).
... سابعاً: قولهم:"إن المراد بقوله: { إنما وليكم } الإمارة لا يتفق مع قوله سبحانه: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ، فإن الله سبحانه لا يوصف بأنه متول على عباده، وأنه أمير عليهم، فإنه خالقهم ورازقهم وربهم ومليكهم له الخلق والأمر.
... ثامناً: إن الفرق بين الوَلاية بالفتح والوِلاية بالكسر معروف في اللغة، فالوَلاية ضد العداوة وهي المذكورة في هذه النصوص ليست هي الوِلاية بالكسر التي هي الإمارة، وهؤلاء الجهال يجعلون الولي هو الأمير ولا يفرقون بين اللفظتين، مع أنه واضح"أن الولاء بالفتح وهو ضد العداوة، والاسم منه مولى وولي، والوِلاية بالكسر والاسم منها والي ومتولي"(4).
... ولهذا قال الفقهاء: إذا اجتمع في الجنازة الوالي والولي فقيل يقدم الوالي وهو قول أكثرهم، وقيل يقدم الولي، فلفظ الولي والوَلاية غير لفظ الوالي(5).
__________
(1) ... السابق: 4/5.
(2) ... حتى وإن ثبت أن لها سبب نزول خاص، فالعبرة بعموم النص لا بخصوص السبب.
(3) ... منهاج السنة: 4/5.
(4) ... المقدسي/ رسالة في الرد على الرافضة: ص220-221. وراجع مختار الصحاح: مادة: "ولي".
(5) ... منهاج السنة: 4/8.(1/236)
... ولو أراد سبحانه الولاية التي هي الإمارة لقال: "إنما يتولى عليكم".. فتبين أن الآية دلت على الموالاة المخالفة للمعاداة الثابتة لجميع المؤمنين بعضهم على بعض(1)، ولهذا جاء { والذين آمنوا } بصيغة الجمع.
... وإذا كانت هذه أقوى أدلتهم –كما يقول شيوخهم- تبين أنهم ليسوا على شيء، ذلك أن الأصل أن يستعمل في هذا الأمر العظيم –والذي هو عند الشيعة أعظم أمور الدين، ومنكره في عداد الكافرين- صيغة واضحة جلية يفهمها الناس بمختلف طبقاتهم، يدركها العامي كما يدركها العالم، ويفهمها اللاحق كما يفهمها الحاضر، ويعرفها البدوي كما يعرفها الحضري، فلما لم يستعمل مثل ذلك في كتاب الله دل على أنه لا نص كما يزعمون، فليست الآية المذكورة –وغيرها مما يستدلون به- من ألفاظ الاستخلاف المعروفة في لغة العرب، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، فأين يذهب الشيعة بعد هذا؟ إما إلى كفر بالقرآن وهو كفر بالإسلام، وإما ترك الغلو والتطرف والتعصب والرجوع إلى الحق، وهذا هو المطلوب.
... هذه أقوى آية يستدلون بها من كتاب الله، ويسمونها آية الولاية، ولهم تعلق بآيات أخرى ذكرها ابن المطهر الحلي، وأجاب عنها شيخ الإسلام بأجوبة جامعة(2).
أدلتهم من السنة:
__________
(1) ... السابق: 4/8. وانظر تفسير الفخر الرازي: 12/25، وتفسير الألوسي: 6/167.
(2) ... وقد قدم الدكتور علي السالوس في رسالة له الإمامة عند الجعفرية والأدلة من القرآن العظيم عرضاً للآيات القرآنية الكريمة التي يستدل بها الإمامية لقولهم بالإمامة، وانتهى من ذلك إلى أن استدلالاتهم تنبني على روايات متصلة بأسباب النزول، وتأويلات انفردوا بها ولم يصح شيء من هذا ولا ذاك بما يمكن أن يكون دليلاً يؤيد مذهبهم.(1/237)
... أما السنة المطهرة فقد تعلق الشيعة في إثبات النص من طرق أهل السنة بما ورد في فضائل علي رضي الله عنه، ويلاحظ أن باب الفضائل مما كثر فيه الكذب، ويقال بأن الشيعة هم الأصل فيه. يقول ابن أبي الحديد: "الكذب في أحاديث الفضائل جاء من جهة الشيعة"(1).
... ولهذا تجد في كتب الموضوعات الأحاديث الموضوعة في حق علي أكثر من غيره من الخلفاء الأربعة.
__________
(1) ... شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/134 (عن السنة ومكانتها في التشريع: ص76).(1/238)
... والفضائل الواردة في حق علي رضي الله عنه ليست من ألفاظ النصوص والوصايا والاستخلاف، لا في لغة العرب ولا في عرفهم ولا في شريعة الإسلام ولا في عقول العقلاء، إنما هي فضائل أدخلها هؤلاء في الدعاوى. وقد قام ابن حزم بحصر الأحاديث الواردة في فضائل علي فقال:"وأما الذي صح من فضائل علي فهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي"(1) وهذا لا حجة فيه للرافضة(2)
__________
(1) ... ونص الحديث كما أخرجه البخاري-أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى تبوك واستخلف علياً، فقال: أتخلفني في الصبيان والنساء؟ فقال: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي" (صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب المغازي، باب غزوة تبوك: 8/12-ح4416)، ورواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب: 2/1870-ح 2404، والترمذي: كتاب المناقب: 5/640،641-ح 3730،3731، وابن ماجة: المقدمة: 1/42،43-ح 115، وأحمد: 1/170، 173، 174، 175، 177، 179، 182، 184، 185، 330- 3/32، 338- 6/369، 438. ...
(2) ... يقول ابن حزم في إثبات ذلك: "وهذا لا يوجب له فضلاً على من سواه ولا استحقاق الإمامة بعده عليه السلام، لأن هارون لم يلِ أمر بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام، وإنما ولي الأمر بعد موسى عليه السلام يوشع بن نون فتى موسى وصاحبه الذي سافر معه في طلب الخضر عليهما السلام، كما ولي الأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحبه في الغار الذي سافر معه إلى المدينة.
... وإذا لم يكن علي نبياً كما كان هارون نبياً، ولا كان هارون خليفة بعد موت موسى على بني إسرائيل، فصح أن كونه رضي الله عنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمنزلة هارون من موسى إنما هو في القرابة فقط.
... وأيضاً فإنما قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا القول إذ استخلفه على المدينة في غزوة تبوك، فقال المنافقون: استقله (كذا في الأصل المحقق من الفِصل، ولعلها استثقله) فخلفه فلحق علي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشكى ذلك إليه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينئذ: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، يريد عليه السلام أنه استخلفه على المدينة مختاراً، ثم قد استخلف عليه السلام قبل تبوك وبعد تبوك على المدينة في أسفاره رجالاً سوى علي رضي الله عنه فصح أن هذا الاستخلاف لا يوجب لعلي فضلاً على غيره، ولا ولاية الأمر بعده، كما لم يوجب ذلك لغيره من المستخلَفين (الفصل: 4/159-160).
... وتشبيه علي بهارون ليس بأعظم من تشبيه أبي بكر بإبراهيم وعيسى، وتشبيه عمر بنوح وموسى (كما روى ذلك الإمام أحمد في مسنده: 1/383- ح3632، والحاكم في مستدركه: 3/21-22، وروى الترمذي في كتاب الجهاد طرفاً منه: 4/213، فإن هؤلاء الأربعة أفضل من هارون، وكل من أبي بكر وعمر شبه باثنين لا بواحد، فكان هذا التشبيه أعظم من تشبيه علي، مع أن استخلاف علي له فيه أشباه وأمثال من الصحابة، وهذا التشبيه ليس لهذين فيه شبيه، فلم يكن الاستخلاف من الخصائص، ولا التشبيه بنبي في بعض أحواله من الخصائص (المنتقى: 314-315).
... وانظر في إبطال احتجاج الرافضة بهذا الحديث: شرح النووي على صحيح مسلم: 15/174، الإمامة، والرد على الرافضة لابي نعيم: ص 221-222، منهاج السنة: 4/87 وما بعدها، المنتقى ص212،213،311،314، فتح الباري: 7/74، المقدسي/ الرد على الرافضة: ص201-208، مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص163،164، السالوس/الإمامة عند الجعفرية في ضوء السنة: ص33-34.(1/239)
.
... وقوله عليه السلام: "لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسولَه، ويحبه اللهُ ورسولُه"(1)، وهذه صفة واجبة لكل مسلم وفاضل(2).
... وعهده عليه السلام:"أن علياً لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق"(3).
... وقد صح مثل ذلك في الأنصار رضي الله عنهم:"أنه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر"(4).
__________
(1) ... أخرجه البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب: 7/70 البخاري مع الفتح، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب: 2/1871-1873.
(2) ... أي ليس هذا الوصف من خصائص علي بل غيره يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ولكن فيه الشهادة لعينه بذلك كما شهد للأعيان العشرة بالجنة، فهو ليس من خصائصه فضلاً عن أن يكون نصاً على إمامته وعصمته، والرافضة الذين يقولون أن الصحابة ارتدوا بعد موته - صلى الله عليه وسلم - لا يمكنهم الاستدلال بهذا، لأن الخوارج تقول لهم هو ممن ارتد أيضاً، قال الأشعري: أجمعت الخوارج على كفر علي (المقالات: 1/167)، وأهل السنة يبطلون قول الخوارج بأدلة كثيرة لكنها مشتركة تدل على إيمان الثلاثة..(انظر منهاج السنة: 4/98،99).
(3) ... أخرجه الترمذي: في كتاب المناقب: 5/643- ح3736، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(4) ... الحديث أخرجه مسلم بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر" كتاب الإيمان باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان وعلاماته، وبغضهم من علامات النفاق: 1/86-ح 130، وهناك أحاديث في الأنصار مطابقة للفظ الوارد في علي رضي الله عنه، منها ما أخرجه الشيخان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق" البخاري –مع الفتح- كتاب مناقب الأنصار، باب حب الأنصار من الإيمان: 7/113- ح3783،3784، ومسلم في الموضع السابق. ...(1/240)
... وأما:"من كنت مولاه فعلي مولاه"، فلا يصح من طريق الثقات أصلاً.
... وأما سائر الأحاديث التي تتعلق بها الرافضة فموضوعة، يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها(1). وقد نقل هذا النص عن ابن حزم شيخ الإسلام ابن تيمية وعقب عليه بقوله:" فإن قيل لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله:"أنت مني وأنا منك"(2)، وحديث المباهلة(3)، والكساء(4)
__________
(1) ... الفصل: 4/ 224. ...
(2) ... راجع صحيح البخاري مع الفتح، كتاب الصلح: 5/303،304- ح2699، وكتاب المغازي، باب عمرة القضاء: 7/499 –ح4251.
(3) ... وهو في مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص قال: "..لما نزلت هذه الآية: { فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم } [آل عمران: 61] دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال اللهم هؤلاء أهلي". صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه: 2/1871. وهذا" لا دلالة فيه على الإمامة ولا على الأفضلية.. والمباهلة إنما تحصل بالمقربين إليه، وإلا فلو باهلهم بالأبعدين في النسب وإن كانوا أفضل عند الله لم يحصل المقصود" (انظر تفصيل الرد على الروافض في احتجاجهم بهذا الحديث في: منهاج السنة: 4/34، والمقدسي/ رسالة في الرد على الرافضة ص243-245.
(4) ... وهو في مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط(كساء) مرحّل(هو الموشى المنقوش عليه صور رحال الإبل) من شعر أسود فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً } [الأحزاب، 33]: صحيح مسلم، كتاب فضائل الصحاية، باب فضائل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -: 2/1883- ح2424، وانظر: في الرد على تعلق الرافضة بهذا الحديث: منهاج السنة: 4/20-25، وانظر المقدسي/ رسالة في الرد على الرافضة ص264، مختصر التحفة: ص155-156.(1/241)
، قيل: مقصود ابن حزم الذي في الصحيح من الحديث الذي لا يذكر فيه إلا علي، وأما تلك ففيها ذكر غيره، فإنه قال لجعفر:"أشبهت خلقي وخلقي، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا،وحديث المباهلة والكساء فيهما ذكر علي وفاطمة وحسن وحسين رضي الله عنهم، فلا يرد هذا على ابن حزم(1).
... ولكن الرافضة قد توسعوا في هذا الباب، واختلقوا الروايات، وزادوا على النصوص الصحيحة نصوصاً كاذبة.. وقد ذكرت كتب الموضوعات جملة منه الروايات التي يستند إليها الروافض(2)، قال ابن الجوزي:" فضائله –يعني علياً- الصحيحة كثيرة، غير أن الرافضة لم تقنع، فوضعت له ما يضع ولا يرفع"(3).
... وقد جمع ابن المطهر الحلي جل ما يحتجون به في هذا الباب، وكشف شيخ الإسلام ما فيها من حق وباطل في"منهاج السنة"(4).
... هذا وكما ذكرنا ما يراه الشيعة أنه أقوى أدلتهم من القرآن في إثبات الإمامة بحسب مفهومهم، نذكر أيضاً ما يرونه أقوى أدلتهم من السنة ونبين مافيه..
عمدة أدلتهم من السنة:
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/86.
(2) ... انظر مثلاً: الموضوعات لابن الجوزي: 1/338 وما بعدها. ...
(3) ... المصدر السابق: 1/338.
(4) ... ولاسيما في المجلد الأخير منه، وقد قام د. علي السالوس بجمع كل الأحاديث المتصلة بالإمامة والموجودة في الكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ودرسها سنداً ومتناً، وانتهى إلى أن السنة النبوية لا تؤيد ما ذهب إليه الجعفرية في مسألة الإمامة بل تنقضه بأحاديث صحيحة ثابتة. (انظر: الإمامة عند الجعفرية في ضوء السنة).(1/242)
... عمدة أدلتهم هو ما يسمونه"حديث الغدير"، وقد بلغ من اهتمام الروافض في أمره ان ألف أحد شيوخهم المعاصرين كتاباً من ستة عشر مجلداً يثبت به صحة هذا الحديث وشهرته سماه:"الغدير في الكتاب والسنة والأدب". فهم يرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما وصل إلى غدير خم(1) بعد منصرفه من حجة الوداع بيَّن للمسلمين أن وصيته وخليفته من بعده علي بن أبي طالب، حيث أمره الله عز وجل بذلك في قوله: { يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } (2).
... وقد أورد شيخهم المجلسي في هذا المعنى (105) من أحاديثهم، وقال:"إنا ومخالفينا قد روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام يوم غدير خم وقد جمع المسلمون فقال: أيها الناس ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا: اللهم بلى، قال صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله.."(3).
... والحديث احتج به ابن المطهر وأجاب عليه شيخ الإسلام جواباً شافياً(4)، كما ناقش الإمام محمد بن عبد الوهاب شيخهم المفيد في إيراده هذا الحديث بالصورة التي تراها الشيعة(5). وتعرض لهذا الحديث معظم أهل السنة الذين ردوا على الروافض(6).
ونوجز جواب أهل السنة فيما يلي:
__________
(1) ... خمّ: وادٍ بين مكة والمدينة عند الجحفة به غدير، وهذا الوادي موصوف بكثرة الوخامة: (معجم البلدان: 2/389).
(2) ... المائدة: 67.
(3) ... بحار الأنوار: 37/108-253، 37/225.
(4) ... انظر: منهاج السنة: 4/9-16، 84-87، المنتقى: ص422-425، 466-468.
(5) ... انظر: رسالة في الرد على الرافضة: ص 6-7.
(6) ... انظر: أبو نعيم/الإمامة والرد على الرافضة ص13، والقدسي/ رسالة في الرد على الرافضة: ص221-224، الطفيل/ المناظرة بين أهل السنة والرافضة: ص15-16ـ الألوسي/ روح المعاني: 6/192-199.(1/243)
... أن الحديث زاد الوضَّاعون فيه، ولا يصح منه في نظر طائفة من أهل العلم في الحديث إلا قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه(1)، بينما يرى بعض أهل العلم أن الحديث لا يصح منه شيء البتة. قال ابن حزم: “وأما: من كنت مولاه فعلي مولاه، فلا يصح من طريق الثقات أصلاً"(2). ونقل عن البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه(3).
__________
(1) ... محمد بن عبد الوهاب/ رسالة في الرد على الرافضة ص13.
... والحديث أخرجه ابن ماجة: 1/43، وأخرجه الترمذي بسنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كنت مولاه فعلي مولاه" قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: الترمذي: كتاب المناقب، باب مناقب علي بن أبي طالب: 5/633- ح 3713، وابن ماجة بسنه عن البراء بن عازب قال: "أقبلنا مع رسول الله في حجته التي حج فنزل في بعض الطرق فأمر الصلاة جامعة، فأخذ بيد علي فقال: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فهذا ولي من أنا مولاه، اللهم والِ من والاه، اللهم عادِ من عاداه" : ابن ماجة: 1/43، المقدمة- ح 116. لكن قال في الزوائد: إسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان (أحد رجال سند ابن ماجة)، وأخرجه الإمام أحمد 1/84، قال الشيخ أحمد شاكر: الحديث متنه صحيح، ورد من طرق كثيرة، وطرقه أو أكثرها في مجمع الزوائد (انظر المسند: 2/56 تحقيق شاكر، ومجمع الزوائد: 9/103-109).
(2) ... ابن حزم/ الفصل: 4/224، وانظر ابن تيمية: منهاج السنة: 4/86، والذهبي/ المنتقى(مختصر منهاج السنة) ص467.
(3) ... منهاج السنة: 4/86.(1/244)
... قال شيخ الإسلام: "أما قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، فليس هو في الصحاح، لكن هو مما رواه أهل العلم وتنازع الناس في صحته"(1). وأما قوله: اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله، فهو كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث"(2).ثم بين شيخ الإسلام أن الكذب يعرف من مجرد النظر في متنها، لأن قوله: اللهم انصر من نصره.. خلاف الواقع التاريخي الثابت(3) فلا تصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما قوله: اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، فهو مخالف لأصل الإسلام، فإن القرآن قد بين أن المؤمنين إخوة مع قتالهم وبغي بعضهم على بعض"(4).
... قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بعد ذكره لخلاف أهل العلم في ثبوت قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، إن لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله فلا كلام، فإن قاله فلم يرد به قطعاً الخلافة بعده، إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه، وهذا الأمر العظيم لابد أن يبلغ بلاغاً مبيناً.. والموالاة ضد المعاداة، وهذا حكم ثابت لكل مؤمن، فعلي رضي الله عنه من المؤمنين الذين يتولون المؤمنين ويتولونه، وفي هذا الحديث إثبات إيمان علي في الباطن، والشهادة له بأنه يستحق الموالاة باطناً وظاهراً، ويرد ما يقوله فيه أعداؤه من الخوارج والنواصب، ولكن ليس فيه أنه ليس في المؤمنين مولى غيره، فكيف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - له موالٍ وهم صالحوا المؤمنين(5).
__________
(1) ... منهاج السنة: 4/86.
(2) ... منهاج السنة: 4/16.
(3) ... فإنه قاتل معه أقوام يوم صفين فما انتصروا، وأقوام لم يقاتلوا فما خذلوا، كسعد الذي فتح العراق لم يقاتل معه، وكذلك أصحاب معاوية وبني أمية الذين قاتلوه فتحوا كثيراً من بلاد الكفار، ونصرهم الله (مجموع فتلوى شيخ الإسلام: 4/418).
(4) ... الموضع نفسه من المصدر السابق.
(5) ... منهاج السنة: 4/86.(1/245)
... وبعد أن عرضنا لأهم دليل عندهم من كتاب الله، وأقوى دليل عندهم من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ندع استعراض باقي أدلتهم إلى كتب أهل السنة التي تتبعت شبه الروافض التي يثيرونها من كتب السنة وأتت عليها من القواعد.
... ولا شك أن التعرف على هذه الشبه والرد عليها أمر ميسور، إذ يكفي الرجوع إلى منهاج السنة وما ماثله من كتب أهل السنة.. ولكن استعراضها كلها في بحثنا يستوعب المجلدات ولن يأتي بجديد.. ولذلك اقتصرنا على أقوى دليل عندهم من الكتاب والسنة.
... وسبب آخر في غاية الأهمية أن هؤلاء الروافض لا يؤمنون أصلاً بما جاء عن طريق أهل السنة ولو كان في غاية الصحة –كما سلف- لكن هم يثيرون هذه الشبهات ليحققوا بها أمرين –فيما أرى-:
... الأول: إقناع المتشككين والحائرين من أتباعهم، وذلك بخداعهم أن هذه العقائد متفق عليها بين السنة والشيعة، ولكن أهل السنة يكابرون.
... الثاني: إشغال أهل السنة بهذه المسائل والدفاع عنها حتى لا يتمكنوا من الوصول إلى كتب الروافض المعتمدة في الحديث والرجال والتفسير ودراستها بعين بصيرة ناقدة.. وكشف الأمر أمام الأتباع الجهلة..
... ولذا أقول إن علماء السنة قدموا جهداً عظيماً في مواجهة الأمر الأول، وأما الثاني فإن عدم توفر كتب الروافض –فيما يظهر- حال بينهم وبين نقدها وكشف ما فيها، إلا في العصور المتأخرة، حيث بدأ علماء الهند والباكستان في الإسهام في ذلك. والموضوع مازال بحاجة إلى مواصلة هذا الطريق وتضافر الجهود بدراسات علمية موضوعية تبين الحقيقة وتكشف الزيف إمام أولائك المغرورين والمخدوعين.
النص في كتب الشيعة:
... أصل قول الرافضة هو دعوى النص(1).. وقد تنوعت احتجاجاتهم على مسألة النص:
1. ... فهي تارة: كتب إلهية تنزل من السماء في النص على علي والأئمة، ولكن هذه الكتب غابت منذ سنة 260 هـ مع الغائب المنتظر..
__________
(1) ... منهاج السنة: 3/356.(1/246)
2. ... وهي أخرى: نصوص صريحة في القرآن في النص على الإثنى عشر، ولكن هذه النصوص اختفت من القرآن بفعل الصحابة.
3. ... وهي ثالثة: نصوص صريحة من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الأمة اجتمعت على كتمانها، وكان أول من أظهر القول بها، كما في رجال الكشي وغيره ابن سبأ.
4. ... وهي تارة رابعة: تأويلات باطنية لآيات القرآن بالأئمة، ولكن لا يعرف هذه التأويلات إلا الأئمة..
... والكتاب الوحيد الذي تطمئن الشيعة إلى كل كلمة فيه هو كتاب نهج البلاغة، مع أنه لم يجمع إلا في القرن الرابع عن أمير المؤمنين في القرن الأول وليس له سند معروف، فإذا كان هذا هو عمدة كتبها فما حال الكتب الأخرى؟ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ليس أحد من الإمامية ينقل هذا النص بإسناد متصل فضلاً عن أن يكون متواتراً".
... ومع ذلك إذا أردنا أن نحتكم إلى نهج البلاغة نجد فيه ما ينفي دعوى النص ويهدم كل ما زعموه في هذا الباب، أو يثبت التناقض والتناقض دليل بطلان المذهب.
... جاء في نهج البلاغة: أن أمير المؤمنين علياً قال: لما أراده الناس على البيعة: "دعوني والتمسوا غيري، فإننا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن تركتموني فإني كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم وأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً"(1)
__________
(1) ... نهج البلاغة: ص136.
... وقال المفيد في الإرشاد: ومما حفظ العلماء من كلام أميرالمؤمنين أنه قال: " أتيتموني فقلتم بايعنا، فقلت: لا أفعل، فقلتم: بلى، فقلت: لا، وقبضت يدي فبسطتموها، ونازعتكم فجذبتموه –كذا- وتداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى ظننت أنكم قاتلي، وإن بعضكم قاتل بعضاً لدي فبسطت يدي فبايعتموني…" : الإرشاد: ص130-131ط.الأعلمي، بيروت، ص143-144 ط. الحيدرية بالنجف. فهل يقول مثل هذا الكلام من يتطلع للخلافة، ويطوف بفاطمة على بيوت الصحابة يطالب بالبيعة، إلى آخر أساطير الشيعة في هذا الباب، وهل يبقى لدعوى النص على الإمامة وكفر من خالفه بعد هذا القول مكان.. إذ هل يخطر بالبال أن يدعو عليٌ الناس إلى الكفر، ذلك أن من لم يبايع الإمام المنصوص عليه هو كافر في قواميس الشيعة.. وعليٌ هنا يرفض البيعة!!.(1/247)
.
... وهذا النص يدل على أنه لم يكن منصوصاً عليه بالإمامة من جهة الرسول وإلا لما جاز أن يقول: “دعوني إلخ، ولعلي إلخ، وأنا لكم إلخ"(1).
الفصل الثاني
عصمة الإمام
... أما معنى العصمة عند الشيعة فيختلف بحسب أطوار التشيع وتطوراته، لكن يظهر أن مذهب الشيعة في عصمة الأئمة قد استقر على ما قرره شيخ الشيعة في زمنه المجلسي صاحب بحار الأنوار المتوفى سنة(1111هـ) في قوله: “اعلم أن الإمامية اتفقوا على عصمة الأئمة عليهم السلام من الذنوب صغيرها وكبيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلاً لا عمداً ولا نسياناً ولا لخطأ في التأويل ولا للإسهاء من الله سبحانه(2).
... فالمجلسي يسبغ على أئمته العصمة من كافة الأوجه المتصورة للعصمة من المعصية كلها، صغيرة أو كبيرة، العصمة من الخطأ والعصمة من السهو والنسيان.
... وهذه الصورة من العصمة التي يرسمها المجلسي، ويعلن اتفاق الشيعة عليها لم تتحقق لأنبياء الله ورسله كما يدل على ذلك صريح القرآن والسنة، وإجماع الأمة، فهي غريبة على الأصول الإسلامية، بل إن النفي المطلق للسهو والنسيان عن الأئمة تشبيه لهم بمن لا تأخذه سنة ولا نوم.
استدلالهم على عصمة الأنبياء:
استدلالهم بالقرآن:
... رغم أن كتاب الله سبحانه ليس فيه ذكر للإثنى عشر أصلاً –كما مر- فضلاً عن عصمتهم، إلا أن الإثنى عشرية تتعلق بالقرآن لتقرير العصمة، ويتفق شيوخهم على الاستدلال بقوله -سبحانه-: { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } (3).
... وبهذه الآية صدر المجلسي بابه الذي عقده في بحاره بشأن العصمة بعنوان
"باب .. لزوم عصمة الإمام"(4).
__________
(1) ... محمود شكري الألوسي/ تعليقات على ردود الشيعة 0مخطوط).
(2) ... بحار الأنوار: 25/211. ...
(3) ... البقرة: 124.
(4) ... بحار الأنوار: 25/191.(1/248)
... استدلوا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلا معصوماً من القبايح، لأن الله-سبحانه- نفى أن ينال عهده الذي هو الإمامة ظالم، ومن ليس بمعصوم فقد يكون ظالماً إما لنفسه، وإما لغيره.
نقد استدلالهم:
... أولا: اختلف السلف في معنى العهد على أقوال:
... قال ابن عباس والسدى: إنه النبوة، قال: لا ينال عهدي الظالمين "أي نبوتي"، وقال مجاهد: الإمامة، أي لا أجعل إماماً ظالماً يقتدي به، وقال قتادة وإبراهيم النخعي وعطاء والحسن وعكرمة: لا ينالُ عهدُ اللهِ في الآخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش..
... فالآية-كما ترى- اختلف السلف في تأويلها، فهي ليست في مسألة الإمامة أصلاً في قول أكثرهم، والذين فسروها بالإمامة قصدوا إمامة العلم والصلاح والاقتداء، لا الإمامة بمفهوم الرافضة.
... ثانياً: لو كانت الآية في الإمامة فهي لا تدل على العصمة بحال، إذ لا يمكن أن يقال بأن غير الظالم معصوم لا يخطئ ولا ينسى ولا يسهو… إلخ .
أدلتهم من السنة:
... ويتمسكون بروايات من طرق أهل السنة للاحتجاج بها على أهل السنة، وإقناع قومهم بأن ما هم عليه موضع إجماع، وهى ما بين كذب أو بعيد عن استدلالهم، وقد مضى الحديث فيها في فصل الإمامة.
... أما الكلينى في الكافي فقد عقد مجموعة من الأبواب في معنى العصمة المزعومة ساق فيها أخباراً بسنده عن الإثنى عشر يدعون فيها أنهم معصومون بل وشركاء في النبوة، بل ويتصفون بصفات الألوهية، وقد مر في باب اعتقادهم في أصول الدين أمثلة من ذلك.
الفصل الثالث
التَّقِيَّة(1)
تعريفها:
__________
(1) ... قال ابن حجر: التقية: الحذر من إظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير: فتح الباري: 12/314.(1/249)
... يعرف المفيد التقية عندهم بقوله:" التقية كتمان الحق وستر الاعتقاد فيه، وكتمان المخالفين، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين أو الدنيا"(1).
... فالمفيد يعرف التقية بأنها الكتمان للاعتقاد خشية الضرر من المخالفين وهم أهل السنة كما هو الغالب من إطلاق هذا اللفظ عندهم، أي هي إظهار مذهب أهل السنة (الذي يرونه باطلاً)، وكتمان مذهب الرافضة الذي يرونه هو الحق، من هنا يرى بعض أهل السنة: أن أصحاب هذه العقيدة هم شر من المنافقين لأن المنافقين يعتقدون أن ما يبطنون من كفر هو باطل، ويتظاهرون بالإسلام خوفاً، وأما هؤلاء فيرون أن ما يبطنون هو الحق، وأن طريقتهم هي منهج الرسل والأئمة(2).
... والتقية في الإسلام غالباً إنما هي مع الكفار، قال تعالى: { إلا أن تتقوا منهم تقاه } قال ابن جرير الطبري: “التقية التي ذكرها الله في هذه الآية إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم"(3).
... وأجمع أهل العلم على أن التقية رخصة في حال الضرورة، قال ابن المنذر: “أجمعوا على أن من أكره على الكفر حتى خشى على نفسه القتل فكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أنه لا يحكم عليه بالكفر.. ولكن من اختار العزيمة في هذا المقام فهو أفضل، قال ابن بطال: “وأجمعوا على أن من أكره على الكفر واختار القتل أنه أعظم أجراً عند الله"(4).
... ولكن التقية التي عند الشيعة خلاف ذلك، فهي عندهم ليست رخصة بل هي ركن من أركان دينهم كالصلاة أو أعظم، قال ابن بابويه: “اعتقادنا في التقية أنها واجبة من تركها بمنزلة من ترك الصلاة"(5).
__________
(1) ... شرح عقائد الصدوق: ص 261 (ملحق بكتاب أوائل المقالات).
(2) ... ابن تيمية: رسالة في علم الظاهر والباطن، ضمن مجموعة الرسائل المنيرية: 1/248.
(3) ... آل عمران: 28، تفسير الطبري: 6/316 (تحقيق شاكر).
(4) ... فتح الباري: 12/ 314،317.
(5) ... الاعتقادات: ص114.(1/250)
... قال الصادق: “لو قلت أن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً"(1). بل نسبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" تارك التقية كتارك الصلاة"(2)، ثم زادوا في درجة التقية فجعلوها "تسعة أعشار الدين".
... ثم لم يكفهم ذلك فجعلوها هي الدين كله، ولا دين لمن لا تقية له، جاء في أصول الكافي وغيره: أن جعفر بن محمد قال:" إن تسعة أعشار الدين في التقية، ولا دين لمن لا تقية له"(3).
... أما سبب هذا الغلو في أمر التقية فيعود إلى عدة أمور منها:
... أولاً: أن الشيعة تعد إمامة الخلفاء الثلاثة باطلة، وهم ومن بايعهم في عداد الكفار، مع أن علياً بايعهم، وصلى خلفهم وجاهد معهم، وزوجهم وتسرى من جهادهم، ولما ولي الخلافة سار على نهجهم، ولم يغير شيئاً مما فعله أبو بكر وعمر، كما تعترف بذلك كتب الشيعة نفسها، وهذا يبطل مذهب الشيعة من أساسه، فحاولوا الخروج من هذا التناقض المحيط بهم بالقول بالتقية.
... ثانياً: أنهم قالوا بعصمة الأئمة وأنهم لا يسهون ولا يخطئون ولا ينسون، وهذه الدعوى خلاف ما هو معلوم من حالهم.. حتى أن روايات الشيعة نفسها المنسوبة للأئمة مختلفة متناقضة، حتى لا يوجد خبر منها إلا وبإزائه ما يناقضه كما اعترف بذلك شيخهم الطوسي، وهذا ينقض مبدأ العصمة من أصله.
... فقالوا بالتقية لتبرير هذا التناقض والاختلاف والتستر على كذبهم.
__________
(1) ... بحار الأنوار: 75/412،414.
(2) ... جامع الأخبار: ص110، بحار الأنوار: 75/412
(3) ... أصول الكافي: 2/217، بحار الأنوار: 75/423.(1/251)
... ثالثاً: تسهيل مهمة الكذابين على الأئمة ومحاولة التعتيم على مذهب أهل البيت، بحيث يوهمون الأتباع أن ما ينقله (واضعوا مبدأ التقية) عن الأئمة هو مذهبهم، وأن ما اشتهر وذاع عنهم وما يقولونه ويفعلونه أمام المسلمين لا يمثل مذهبهم، وإنما يفعلونه تقية فيسهل عليهم بهذه الحيلة رد أقوالهم والدس عليهم، وتكذيب ما يروى عنهم من حق، فتجدهم مثلاً يردون كلام الإمام محمد الباقر أو جعفر الصادق الذي قاله أمام ملأ من الناس، أو نقله العدول من المسلمين، بحجة أنه حضره بعض أهل السنة فاتقى في كلامه، ويقبلون ما ينفرد به الكذبة أمثال جابر الجعفي بحجة أنه لا يوجد أحد يتقيه في كلامه.
الفصل الرابع
المهدية والغيبة عند فرق الشيعة
... فكرة الإيمان بالإمام الخفي أو الغائب توجد لدى معظم الشيعة، حيث تعتقد في إمامها بعد موته أنه لم يمت، وتقول بخلوده واختفائه عن الناس، وعودته إلى الظهور في المستقبل مهدياً، ولا تختلف هذه الفرق إلا في تحديد الإمام الذي قدرت له العودة، كما تختلف في تحديد الأئمة وأعيانهم والتي يعتبر الإمام الغائب واحداً منهم.
... وتعتبر السبئية –كما يقول القمي والنبختي والشهرستاني وغيرهم- أول فرقة قالت بالوقف على عليّ وغيبته(1)، حيث زعمت"أن علياً لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً"، ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة، وأقمت على قتله سبعين عدلاً لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل، ولا يموت حتى يملك الأرض".
__________
(1) ... القمي/ المقالات والفرق ص19-20، النوبختي/ فرق الشيعة ص22، الشهرستاني/ الملل والنحل: 1/174.(1/252)
... ثم شاع التوقف على الإمام وانتظار عودته مهدياً بعد ذلك بين فرق الشيعة.. فبعد وفاة كل إمام من آل البيت تظهر فرقة من أتباعه تدعي فيه هذه الدعوى.. وتنتظر عودته، وتختلف فيما بينها اختلافاً شديداً في تحديد الإمام الذي وقفت عليه وقدرت له العودة –في زعمهم- ولذلك قال السمعاني:"ثم إنهم في انتظارهم الإمام الذي انتظروه مختلفون اختلافاً يلوح عليه حمق بليغ"(1).
الاستدلال على وقوع الغيبة:
... عني الإمامية عناية شديدة بالبرهنة على صحة عقيدتهم في غيبة المهدي.. وقد اتجهوا إلى كتاب الله سبحانه يبحثون فيه عن سند لعقيدتهم، فلما لم يجدوا فيه ما يريدون استنجدوا كعادتهم بالتأويل الباطني المتسم بالتكلف الشديد والشطط البالغ وأوَّلوا عدة آيات من كتاب الله بهذا المنهج.
... جاء في أصل أصول التفاسير عندهم (تفسير القمي) في قوله سبحانه: { والنهار إذا تجلى } . قال: النهار هو القائم عليه السلام منا أهل البيت..
... وجاء في أصح كتبهم الأربعة في قوله سبحانه: { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً فمن يأتيكم بماء معين } قال:"إذا غاب عنكم إمامكم فمن يأتيكم بإمام جديد. وفي تفسير العياشي في قوله سبحانه: { وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر } قال: "خروج القائم وأذان دعوته إلى نفسه".
... والأمثلة في مثل هذا اللون من التأويل كثيرة حتى ألفوا في هذا كتباً مستقلة مثل:"ما نزل من القرآن في صاحب الزمان"و"المحجة فيما نزل في القائم الحجة".
الفصل الخامس
الرجعة
__________
(1) ... الأنساب: 1/345.(1/253)
... الرجعة من أصول المذهب الشيعي، فمن رواياتهم" ليس منا من لم يؤمن بِكَرَّتِنَا". وقال ابن بابويه في الاعتقادات" واعتقادنا في الرجعة أنها حق. وقال المفيد: "واتفقت الإمامية على وجوب رجعة كثير من الأموات". وقال الطبرسي والحر العاملي وغيرهما من شيوخ الشيعة: بأنها موضع "إجماع الشيعة الإمامية، وأنها من ضروريات مذهبهم"، وأنهم" مأمورون بالإقرار بالرجعة واعتقادها وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات ويوم الجمعة وكل وقت كالإقرار بالتوحيد والنبوة والإمامة والقيامة".
... ومعنى الرجعة: الرجوع إلى الدنيا بعد الموت، ويشير ابن الأثير: أن هذا مذهب قوم من العرب في الجاهلية معروف عندهم.
... وقد ذهبت فرق شيعية كثيرة إلى القول برجوع أئمتهم إلى هذه الحياة، ومنهم من يقر بموتهم ثم رجعتهم، ومنهم من ينكر موتهم ويقول بأنهم غابوا وسيرجعون- كما مر في مبحث الغيبة- وكان أول من قال بالرجعة ابن سبأ، إلا أنه قال بأنه غاب وسيرجع ولم يصدق بموته..
... وكانت عقيدة الرجعة خاصة برجعة الإمام عند السبئية، والكيسانية وغيرها، ولكنها صارت عند الاثنى عشرية عامة للإمام وكثير من الناس. ويشير الألوسي إلى أن تحول مفهوم الرجعة عند الشيعة من رجعة الإمام فقط إلى ذلك المعنى العام كان في القرن الثالث(1).
استدلالهم على الرجعة:
... يرى شيخ المفسرين عندهم أن من أعظم الأدلة على الرجعة قوله سبحانه: { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } (2)، حيث يقول ما نصه" هذه الآية من أعظم الأدلة على الرجعة، لأن أحداً من أهل الإسلام لا ينكر أن الناس كلهم يرجعون يوم القيامة من هلك ومن لم يهلك"(3).
__________
(1) ... روح المعاني: 20/27.
(2) ... الأنبياء: 95.
(3) ... تفسير القمي: 2/76.(1/254)
... مع أن الآية حجة عليهم، فهي تدل على نفي الرجعة إلى الدنيا إذ معناها كما صرح به ابن عباس وأبو جعفر الباقر وقتادة وغير واحد حرام على أهل كل قرية أهلكوا بذنوبهم أنهم يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة(1).
الفصل السادس
الظهور
... أى ظهور الأئمة بعد موتهم لبعض الناس ثم عودتهم لقبورهم، وهذه العقيدة غير رجعة الأئمة، وقد بوب لها المجلسي بعنوان" باب أنهم يظهرون بعد موتهم، ويظهر منهم الغرائب"(2).. فالأئمة يظهرون بعد موتهم، ويراهم.. بعض الناس، وهذا الظهور غير مرتبط بوقت معين كالرجعة بل هو خاضع لإرادة الأئمة حتى نسبوا لأمير المؤمنين أنه قال: "يموت من مات منا وليس بميت". وتذكر أساطيرهم أن أبا الحسن الرضا كان يقابل أباه بعد موته، ويتلقى وصاياه وأقواله(3).
... ورجعة الأموات قبل يوم القيامة باطلة بالنقل وإجماع المسلمين-كما سلف-وهذه الخرافات تعتبر من فضائحهم وعوراتهم التي هي قائمة في مذهبهم ولعلها من حكمة الباري سبحانه إذ ما من قوم أرادوا أن ينسبوا لله دينا ما أنزله إلا وفضحهم على رؤوس الأشهاد كما أثبتت ذلك الوقائع والأيام..
الفصل السابع
البداء
... من أصول الإثنى عشرية القول بالبداء على الله سبحانه وتعالى حتى بالغوا في أمره، فقالوا" ما عبد الله بشئ مثل البداء"(4) و"ما عظم الله عز وجل بمثل البداء"(5)، "ولو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا من الكلام فيه"(6)، "وما بعث الله نبياً قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر الله بالبداء"(7).
__________
(1) ... انظر: تفسير ابن كثير: 3/205.
(2) ... بحار الأنوار: 27/303-304.
(3) ... بحار الأنوار: 27/303.
(4) ... أصول الكافي، كتاب التوحيد: باب البداء: 1/146.
(5) ... أصول الكافي: 1/146.
(6) ... أصول الكافي: 1/148.
(7) ... أصول الكافي: 1/148.(1/255)
... ويبدو أن الذي أرسى أسس هذا المعتقد عند الاثنى عشرية هو الملقب عندهم بثقة الإسلام وهو شيخهم الكليني (ت 328 أو 329 هـ) حيث وضع هذا المعتقد في قسم الأصول من الكافي، وجعله ضمن كتاب التوحيد، وخصص لهم باباً بعنوان "باب البداء"، وذكر فيه ستة عشر حديثاً من الأحاديث المنسوبة للأئمة.
... ولعل القارئ المسلم يعجب من أمر هذه العقيدة، التي لا يعرفها المسلمون، وليس لها ذكر في كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مع أنها من أعظم ما عبد الله به، ومن أصول رسالات الرسل، وفيها من الأجر ما لو علم به المسلم لأصبحت تجري على لسانه دائماً كشهادة التوحيد (كما يزعمون).
... إذا رجعت إلى اللغة العربية لتعرف معنى البداء تجد أن القاموس يقول: بدا بدواً وبدوّاً وبداءة: ظهر. وبدا له في الأمر بدواً وبداء وبداة: نشأ له فيه رأي(1). فالبداء في اللغة –كما ترى- له معنيان:
الأول: ... الظهور بعد الخفاء، تقول بدا سور المدينة أي: ظهر.
والثاني: ... نشأة الرأي الجديد، قال الفراء: بدا لي بداء أي: ظهر لي رأي آخر، وقال الجوهري: بدا له في الأمر بداء أي: نشأ له فيه رأي(2).
... وكلا المعنيين ورد في القرآن، فمن الأول قوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } (3). ومن الثاني قوله: { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين } (4).
... وواضح أن البداء بمعنييه يستلزم سبق الجهل وحدوث العلم وكلاهما محال على الله سبحانه، ونسبته إلى الله سبحانه من أعظم الكفر، فكيف تجعل الشيعة الاثنا عشرية هذا من أعظم العبادات وتدعي أنه ما عظم الله عز وجل بمثل البداء، سبحانك هذا بهتان عظيم.
__________
(1) ... القاموس المحيط: مادة: بدو: 4/302.
(2) ... الصحاح: 6/2278، ولسان العرب: 14/66.
(3) ... البقرة: 284.
(4) ... يوسف: 35.(1/256)
... وهذا المعنى المنكر يوجد في كتب اليهود، فقد جاء في التوراة التي حرفها اليهود وفق ما شاءت أهواءهم نصوص صريحة تتضمن نسبة معنى البداء إلى الله سبحانه(1).
... ويبدو أن ابن سبأ اليهودي قد حاول إشاعة هذه المقالة، التي ارتضعها من "توراته" في المجتمع الإسلامي الذي حاول التأثير فيه باسم التشيع وتحت مظلة الدعوة إلى ولاية عليّ، ذلك أن فرق السبئية "كلهم يقولون بالبداء وأن الله تبدو له البدوات"(2).
استدلالهم على البداء:
... وبعد أن استقرت مسألة البداء عندهم كعقيدة بمقتضى روايات الكليني وأضرابه، حاول شيخ الشيعة –كعادتهم- البحث في كتاب الله عن سند لدعواهم.
... وكأنه لم يكفهم أن نسبوا هذه الفرية إلى الله، حتى زعموا أن كتاب الله أثبت فريتهم، فتعلقوا بقوله سبحانه: { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } (3).
... ويلحظ أن أول من استدل بهذه الآية على فرية البداء هو المختار بن أبي عبيد، وتابعه شيوخ الشيعة، ووضعوا روايات في ذلك أسندوها لبعض علماء آل البيت لتحظى بالقبول(4).
__________
(1) ... جاء في التوراة: "فرأى الرب أنه كثر سوء الناس على الأرض .. فندم الرب على خلقه الإنسان على الأرض وتنكد بقلبه، وقال الرب: لأمحون الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض.." : سفر التكوين، الفصل السادس، فقرة: 5.
(2) ... الملطي/ التنبيه والرد: ص19.
(3) ... الرعد: 39.
(4) ... انظر: أصول الكافي: 1/146.(1/257)
... واستدلالهم بهذه الآية على أن المحو والإثبات بداء شطط في الاستدلال، وتعسف بالغ، ذلك أن المحو بعلمه وقدرته وإرادته، من غير أن يكون له بداء في شيء، وكيف يتوهم له البداء وعنده أم الكتاب، وله في الأزل العلم المحيط: { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } ، { ..عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } (1).
... وأمثالها من الآيات، وتوهم البداء لله تكذيب لكل هذه الآيات، وقد بين الله تعالى في آخر الآية أن كل ما يكون منه من محو وإثبات وتغيير، واقع بمشيئته ومسطور عنده في أم الكتاب(2).
الفصل الثامن
الطينة
... هذه العقيدة من مقالاتهم السرية، وعقائدهم التي يتواصون بكتمانها حتى من عامتهم، لأنه لو اطلع العامي الشيعي على هذه العقيدة"تعمد أفعال الكبار لحصول اللذة الدنيوية، ولعلمه بأن وبالها الأخروي إنما هو على غيره"(3).
... والذي تولى إرساء هذه العقيدة –فيما يظهر- هو شيخهم الكليني الذي بوب لها بعنوان"باب طينة المؤمن والكافر" وضمن ذلك سبعة أحاديث في أمر الطينة"(4).
__________
(1) ... الأنعام: 59، سبأ: 3.
(2) ... وانظر في الرد عليهم أيضاً: المستصفى للغزالي: 1/110، مختصر الصواعق: 1/110، الأحكام للآمدي: 3/111، وانظر تفسير الآية: زاد المسير: 4/337-338، شرح الطحاوية: ص94، الطبري: 13/170، فتح القدير: 3/88، محاسن التأويل للقاسمي: 13/373-373، البغوي: 3/22-23، ابن كثير: 2/559-561، الألوسي: 13/169-170، السعدي: 4/116-117 ولم يقل أحد منهم بمثل شناعة الرافضة.
(3) ... انظر: الأنوار النعمانية: 1/295.
(4) ... أصول الكافي: 2/2-6.(1/258)
... وهذه العقيدة أوسع تفصيل لها هو رواية ابن بابويه في علل الشرائع حيث استغرقت عنده خمس صفحات وختم بها كتابه(1)، ورأى بعض شيوخهم المعاصرين أن هذا كمسك الختام فقال:"إنه ختم بهذا الحديث الشريف كتاب علل الشرائع"(2).
... وملخص ذلك يقول بأن الشيعي خلق من طينة خاصة، والسني خلق من طينة أخرى، وجرى المزج بين الطينتين بوجه معين، فما في الشيعي من معاصي وجرائم هو من تأثره بطينة السني، وما في السني من صلاح وأمانة هو بسبب تأثره بطينة الشيعي، فإذا كان يوم القيامة فإن سيئات وموبقات الشيعة توضع على أهل السنة، وحسنات أهل السنة تعطى للشيعة.
... وعلى هذا المعنى تدور أكثر من ستين رواية من رواياتهم.
... ويمكن أن يستنبط سبب القول بهذه العقيدة من الأسئلة التي وجهت للأئمة والشكاوى التي رفعت إليهم، فالشيعة يشكون من انغماس قومهم بالموبقات والكبائر، ومن سوء معاملة بعضهم لبعض، ومن الهم والقلق الذي يجدونه ولا يعرفون سببه.
... ولكن يعزو إمامهم ذلك كله لتأثر طينة الشيعي بطينة السني في الخلقة الأولى.
الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم:
... فقد بيَّن الدكتور ناصر القفاري في رسالته عن الشيعة:
- الصلة في مصدر التلقي.
- صلتهم بالفرق القديمة.
-الصلة العقدية بين القدامى والمعاصرين.
... ثم قال: وبهذا يتبين أن المعاصرين هم أخطر من سابقيهم، لأنهم ورثوا كل ما صنعته القرون من الدسّ والتزوير، واعتبروا تلك مصادر معتمدة.. ووفرت لهم "الطباعة الحديثة" انتشار الكتب عنهم.. وكان ضعف المسلمين سبباً في زيادة نشاطهم، وكان فشو الجهل وضعف السنة عاملاً من عوامل التأثر بهم وتأثير ضلالهم. (ثم تكلم بعد ذلك عن):
دولة الآيات:
__________
(1) ... انظر: علل الشرائع: ص606-610.
(2) ... انظر: بحار الأنوار (الهامش): 5/233.(1/259)
... وبعد أن تبين صلة الشيعة المعاصرين بقدمائهم، وأن الارتباط قائم ووثيق بينهم، بل إن ما كان يعد غلواً عند الماضين أصبح ضرورياً عند المعاصرين، فهل ثمة حاجة بعد ذلك للوقوف عند دولتهم؟ أليس الأمر قد اتضح لكل ذي عينين؟ وأن تخصيص دولتهم الحاضرة بالدراسة والتقويم يعود إلى أمرين أساسيين:
الأول: ... أنها طرحت بلسان زعيمها، ونص دستورها فكرة جديدة في محيط التشيع الاثنى عشري، أثارت جدلاً بين شيوخ الشيعة بين مؤيد ومعارض. تلك هي فكرة نقل وظائف المهدي وصلاحياته بعد طول غيبته وتأخر خروجه إلى الفقيه الشيعي بالكامل، حيث أن الخميني استولى تماماً على وظائف مهديهم المنتظر بعد قيام دولته.
السبب الثاني: ... بأنه قيل إن هذه الدولة هي التي تمثل الإسلام في هذا العصر، وشيوخها هم المراجع للمسلمين، ومؤسسها من المجددين، وراج هذا على بعض المسلمين، وقيل بعد قيام دولتهم بأنه قد عاد "المذهب الشيعي إلى نقائه الأصيل ولاء لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وحباً لآل بيته حباً صادقاً لوجه الله لا يفقد صاحبه احترام غيرهم من المسلمين وخصوصاً صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"(1).
... وزعمت بعض الصحف "أن ردود الفعل التي أحدثتها (حركة الخميني) كان مبعثها أن حركة الخميني حركة إسلامية مائة في المائة"(2).. ورشحت مجلة المعرفة التونسية الخميني لنيل جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام(3).
__________
(1) ... مجلة البلاغ، العدد 512، 9 ذي القعدة 1399هـ.
(2) ... مجلة الاعتصام، العدد الخامس، السنة الثانية والأربعون، ربيع أول 1399هـ.
(3) ... انظر: مجلة المعرفة التونسية، العدد 9، السنة الخامسة، ذي الحجة 1399هـ.(1/260)
... ومضت على هذا النهج مجلات أخرى كالرائد، والدعوة، والرسالة، والأمان، وغيرها(1). وهذه المجلات كلها منتسبة لأهل السنة.
... وقد كتب بعض المنتمين لأهل السنة كتابات عن الخميني وثورته، يشيد بها، ويعدها المثال الصادق للحكومة الإسلامية(2).
... وأصدرت بعض الحركات الإسلامية بيانات تثني وتؤيد المنهج الخميني حتى جاء في بيان التنظيم الدولي للإخوان المسلمين وصف حكم الخميني بأنه "الحكم الإسلامي الوحيد في العالم"(3).
... فكانت فتنة مدلهمة لا تزال بعض آثارها باقية، وإن أفاق البعض وتبينت له الحقيقة، إلا أن منهم من لا يزال يعد ما يثار عن شيعة الخميني إنما هي "ضجة مفتعلة"(4).
... وقد استغل الشيعة هذا الجو بالدعاية لمذهبهم ونشره، وساهمت هذه الحملة الإعلامية الدعائية في الصحف الإسلامية علة إخفاء الحقيقة أمام شباب المسلمين، لأنها هي لا تعرف شيئاً من الخلاف بين الشيعة والسنة إلا أنه خلاف حول من يستحق الولاية: عليّ أم أبو بكر، وتلك أمة خلت، وليس هذا الخلاف بأمر ذي بال اليوم.
__________
(1) ... انظر: الرائد الألمانية، العدد34، ذي الحجة 1398 هـ ص 25-26. والدعوة المصرية، العدد 30، في 1/12/1398 هـ ص8. والرسالة اللبنانية، العدد 29، جمادى الثانية 1399 هـ . والأمان اللبنانية، العدد، 31، 9 شوال 1399 هـ .
(2) ... مثل: الخميني الحل الإسلامي والبديل، تأليف فتحي عبد العزيز ونشرته دار المختار الإسلامي، و"مع ثورة إيران" وهو البحث الثالث من البحوث التي يصدرها المركز الإسلامي في آخن، وكتاب "نحو ثورة إسلامية" لمحمد عنبر.
(3) ... انظر: الشيعة والسنة ضجة مفتعلة، وهو من سلسلة الكتب التي تصدرها دار المختار الإسلامي: ص52.
(4) ... المصدر السابق.(1/261)
... فكان هذا الوضع مجالاً خصباً لنشر الفتنة والرفض.. ومن هنا فإنه لابد من بيان الحقيقة ونشرها بين الناس. ولابد من نقض دعوى الجديد والتجديد، وحكاية التغيير وتقويمها، ولعل دراسة فكر مؤسسها، ومواد دستورها، هي التي يمكن على ضوئها إصدار حكم موضوعي محايد في أمرها.
فكر مؤسسها:
... من خلال الرجوع إلى ما كتبه الخميني في "كشف الأسرار"، و"تحرير الوسيلة"، و"الحكومة الإسلامية"، و"مصباح الإمامة والولاية"، و"رسائل التعادل والترجيح والتقية"، و"دروس في الجهاد والرفض"، و"سر الصلاة" .. وغيرها. يتبين أن له مجموعة من الاتجاهات، لعل أهمها ما يلي:
أولاً: الاتجاه الوثني:
... في كتابه كشف الأسرار ظهر الخميني داعياً للشرك ومدافعاً عن ملة المشركين حيث يقول، تحت عنوان :"ليس من الشرك طلب الحاجة من الموتى": "يمكن أن يقال إن التوسل إلى الموتى وطلب الحاجة منهم شرك، لأن النبي والإمام ليس إلا جمادين فلا يتوقع منهما النفع والضرر".
... والجواب: إن الشرك هو طلب الحاجة من غير الله، مع الاعتقاد بأن هذا الغير هو إله ورب، وأما إذا طلب الحاجة من الغير من غير هذا الاعتقاد فذلك ليس بشرك، ولا فرق في هذا المعنى بين الحي والميت، ولهذا لو طلب أحد حاجته من الحجر والمدر لا يكون شركاً، مع أنه قد فعل فعلاً باطلاً.
... ومن ناحية أخرى نحن نستمد من أرواح الأنبياء المقدسة والأئمة الذين أعطاهم الله قدرة.
فقد اشتمل هذا النص على ما يلي:
أ. ... اعتقاده أن دعاء الأحجار والأصنام والأضرحة من دون الله لا يكون شركاً، إلا إذا اعتقد الداعي أنها هي الإله والرب. وهذا باطل من القول وزور، لأن هذا هو الشرك الأكبر بعينه.(1/262)
ب. ... اعتقاده أن الأئمة الأموات لهم قدرة على النفع والضر. ويقول بأنهم يستمدون منهم ذلك. وهذا من الشرك الأكبر بلا ريب، فالأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.. وهل يوجد فرق بين هذا وشرك مشركي قريش.. وغيرهم من مشركي الأمم التى كان غالب شركهم من هذا الباب.
جـ. ... دعواهم الإحاطة الكاملة للأرواح على هذا العالم، ثم خاض في ركام الفلسفة لإثبات مدعاه.
... والإحاطة بهذا العالم لله وحده { وكان الله بكل شيء محيطاً } (1)، والروح مخلوقة مدبرة، وهي بعد مفارقتها للجسد في نعيم أو عذاب، وليس لها من أمر الإحاطة بالعالم نصيب، ولكن الشيء من معدنه لا يستغرب فمن يجمع بين إلحاد الفلاسفة وغلو الرافضة لا يخرج منه إلا هذا وأشنع.
اعتقاده تأثير الكواكب والأيام على حركة الإنسان:
... لا يزال فكر الخميني أسير أوهام الشرك والمشركين، فهو يزعم أن هناك أياماً منحوسة من كل شهر يجب أن يتوقف الشيعي فيها عن كل عمل، وأن لانتقال القمر إلى بعض الأبراج تأثيراً سلبياً على عمل الإنسان، فليتوقف الشيعي عن القيام بمشروع معين حتى يتجاوز القمر ذلك البرج المعين.
... ومما يشهد لاتجاه الخميني هذا ما جاء في تحرير الوسيلة، حيث يقول:"يكره إيقاعه (يعني عقد الزواج) والقمر في برج العقرب، وفي محاق الشهر، وفي أحد الأيام المنحوسة في كل شهر وهي سبعة: يوم3، ويوم5، ويوم13، ويوم16، ويوم21، ويوم24، ويوم25 (وذلك من كل شهر)(2).
__________
(1) ... النساء: 126.
(2) ... تحرير الوسيلة: 2/238.(1/263)
... هذا معتقد الخميني فيصدق فيه ومن تبعه قول صاحب التحفة الاثنى عشرية:"إن الصابئين كانوا يحترزون عن أيام يكون القمر بها في العقرب، أو الطرف، أو المحاق وكذلك الرافضة.. وكانت الصابئة يعتقدون أن جميع الكواكب فاعلة مختارة، وأنها هي المدبرة للعالم السفلي، وكذلك الرافضة"(1).
حقيقة الشرك عند الخميني:
... وإذا كانت وثنية المشركين ليست عنده بشرك.. فما هو الأمر الذي يكون شركاً في نظره؟.
... يقول:"توجد نصوص كثيرة تصف كل نظام غير إسلامي بأنه شرك، والحاكم أو السلطة فيه طاغوت، ونحن مسؤولون عن إزالة آثار الشرك من مجتمعنا المسلم، ونبعدها تماماً عن حياتنا"(2).
... فأنت ترى أن مفهوم الشرك عنده هو أن يتولى على بلاد المسلمين أحد من أهل السنة فحاكمها حينئذ مشرك، وأهلها مشركون، فدين هؤلاء الولاية، لا التوحيد، ولذلك فإن الشرك قد ضرب بجرانه في أقطارهم.
ثانياً: الغلو في التصوف (أو القول بالحلول والاتحاد):
... وتتمثل صورة التصوف عنده في أوضح مظاهرها في كتابه"مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية" ثم كتابه الآخر "سر الصلاة".. وفيما يلي بيان لبعض اتجاهاته الصوفية الغالية:
أ- قوله بالحلول الخاص:
... يقول عن أمير المؤمنين علي: "خليفته (يعني خليفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -) القائم مقامه في الملك والملكوت، المتحد بحقيقته في حضرة الجبروت واللاهوت، أصل شجرة طوبى، وحقيقة سدرة المنتهى، الرفيق الأعلى في مقام أو أدنى، معلم الروحانيين، ومؤيد الأنبياء والمرسلين عليّ أمير المؤمنين"(3).
__________
(1) ... مختصر التحفة: ص299، وراجع باب ما جاء في التنجيم، من كتاب التوحيد مع شرحه فتح المجيد ص365.
(2) ... الحكومة الإسلامية: ص33-34.
(3) ... مصباح الهداية: ص1.(1/264)
... فانظر إلى قوله "المتحد..باللاهوت" تجده كقول النصارى باتحاد اللاهوت بالناسوت(1)، ومن قبل زعمت غلاة الشيعة أن الله حل في عليّ(2)، ولا تزال مثل هذه الأفكار الغالية والإلحادية تعشعش في أذهان هؤلاء الشيوخ كما ترى.
... ومن منطلق دعوى حلول الرب بعلي –كما يفتري- ينسب الخميني لأمير المؤمنين علي أنه يقول:"كنت مع الأنبياء باطناً ومع رسول الله ظاهراً"(3). ويعلق عليه فيقول:"فإنه عليه السلام صاحب الولاية المطلقة الكلية والولاية باطن الخلافة.. فهو عليه السلام بمقام ولايته الكلية قائم على كل نفس بما كسبت، ومع كل الأشياء معية قيومية ظلية إلهية ظل المعية القيومية الحقة الإلهية، إلا أن الولاية لما كانت في الأنبياء أكثر خصهم بالذكر".
... فأنت ترى أن الخميني يعلق على تلك الكلمة الموغلة في الغلو والمنسوبة زوراً لأمير المؤمنين بما هو أشد منها غلواً وتطرفاً فهو عنده ليس قائماً على الأنبياء فحسب، بل على كل نفس، ويختار الآية المختصة بالله سبحانه ليصف بها المخلوق، قال تعالى: { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } (4).
... أي أنه سبحانه: "حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة" قال تعالى: { وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهوداً إذ تفيضون فيه } (5).
... قد تبينت الحقيقة لكل ذي عينين، فماذا بعد القول بأن علياً هو القائم على كل نفس غلواً، إذ هو تأليه صريح.
ب- قوله بالحلول والاتحاد الكلي:
__________
(1) ... الناسوت: هو اتحاد الإله بالإنسان.
(2) ... انظر القول بالحلول عند فرق غلاة الشيعة في مقالات الإسلاميين: 1/83-86، وأشار الشهرستاني إلى أن غلاة الشيعة كلهم متفقون على القول بالحلول (الملل والنحل: 1/175).
(3) ... مصباح الهداية: ص142.
(4) ... الرعد: 33.
(5) ... يونس: 61، تفسير ابن كثير: 2/556.(1/265)
... وتجاوز الخميني مرحلة القول بالحلول الجزئي، أو الحلول الخاص بعلي إلى القول بالحلول العام.. فهو يقول –بعد أن تحدث عن التوحيد ومقاماته حسب تصوره- "النتيجة لكل المقامات والتوحيدات عدم رؤية فعل وصفة حتى من الله تعالى، ونفى الكثرة بالكلية، وشهود الوحدة الصرفة.."(1).
... ويبدو أن قوله" عدم رؤية فعل وصفة حتى من الله تعالى للتأكيد على مذهب الاتحادية، لأن رؤية فعل متميز، وإثبات صفة معينة لله يعني إثبات الغيرية والتثنية وهذا شرك عندهم.
... ثم ينقل عن أحد أئمته أنه قال:"لنا مع الله حالات هو هو ونحن نحن، وهو نحن ونحن هو"(2).
... ثم يعلق على ذلك بقوله:"وكلمات أهل المعرفة خصوصاً الشيخ الكبير محي الدين مشحونة بأمثال ذلك مثل قوله: الحق خلق، والخلق حق، والحق حق، والخلق خلق. وقال في نصوصه:"إن الحق المنزه هو الحق.. ثم نقل جملة من كلمات ابن عربي.. وقال:"لا ظهور ولا وجود إلا له تبارك وتعالى، والعالم خيال في خيال عند الأحرار"(3).
... ثم قال: وقوله: { إياك نعبد } "رجوع العبد إلى الحق بالفناء الكلي المطلق"(4).
ثم تراه كثيراً ما يستدل على مذهبه في وحدة الوجود. يقول ابن عربي والذي يصفه بالشيخ الكبير(5)، وهكذا يتبين أن الخميني قد أخذ مذهب أهل الحلول والاتحاد.
ثالثاً: دعوى النبوة:
... أفرزت لوثات التصوف، وخيالات الفلسفة عنده دعوى غربية، وكفراً صريحاً، حيث رسم للسالك أسفاراً أربعة:
... ينتهي السفر الأول إلي مقام الفناء وفيه السر الخفي والأخفى.. ويصدر عنه الشطح، فيحكم بكفره، فإن تداركته العناية الإلهية.. فيقر بالعبودية بعد الظهور بالربوبية"(6)كما يقول.
__________
(1) ... مصباح الهداية: ص134.
(2) ... مصباح الهداية: ص114.
(3) ... مصباح الهداية: ص114،123.
(4) ... سر الصلاة: ص 178.
(5) ... انظر –مثلاً- ص 84،94،112 من مصباح الهداية.
(6) ... مصباح الهداية: ص148.(1/266)
... وينتهي السفر الثاني عنده إلى أن "تصير ولايته تامة، وتفنى ذاته وصفاته وأفعاله في ذات الحق وصفاته وأفعاله، وفيه يحصل الفناء عن الفنائية أيضاً الذي هو مقام الأخفى، وتتم دائرة الولاية"(1).
... أما في السفر الثالث فإنه "يحصل له الصحو التام ويبقى بإبقاء الله، ويسافر في عوالم الجبروت والملكوت والناسوت، ويحصل له حظ من النبوة، وليست له نبوة التشريع، وحينئذ ينتهي السفر الثالث ويأخذ في السفر الرابع"(2).
... وبالسفر الرابع" يكون نبياً بنبوة التشريع"(3).
... فمراحل السفر عنده: الفناء، والولاية وفيها الفناء عن الفناء، والنبوة بلا تشريع، ثم النبوة الكاملة، وهي تتضمن أن النبوة مكتسبة عن طريق "رياضات" ومجاهدات أهل التصوف، وهي دعوى ترتد إلى أصول فلسفة صوفية قديمة، ولذا قال القاضي عياض: "ونكفر… من ادعى النبوة لنفسه، أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها كالفلاسفة وغلاة الصوفية"(4).
... فهذه المقالة كفر صريح، وإلحاد مكشوف، كفر بالنبوة والأنبياء، وخروج عن دين الإسلام، ويبدو أنه يدعي لنفسه سلوك هذه "المقامات".. وقد ذكر في كتابه الحكومة الإسلامية "أن الفقيه الرافضي بمنزلة موسى وعيسى"(5).
... وينبغي ألا يغيب عن البال أن مقام الإمامة عندهم أعلى من مقام النبوة –كما سبق ذكره- وسيأتي ذكر ذلك أيضاً من كلام الخميني نفسه، ومع ذلك فإن الخميني لا يُدْعَي في إيران إلا بالإمام أي بالوصف الذي هو فوق وصف النبوة عندهم(6).
__________
(1) ... المصدر السابق: ص148-149.
(2) ... مصباح الهداية: ص149.
(3) ... مصباح الهداية: ص149.
(4) ... الشفاء: 2/1070-1071.
(5) ... الحكومة الإسلامية: ص 95.
(6) ... مصطلح الإمام عند الشيعة يختلف تماماً في مفهومه عند أهل السنة، ولذلك لا يلفت استعمال الشيعة له أنظار أهل السنة.(1/267)
... ولهذا قال مرتضى كتبي، وجان ليون(1): "بالنسبة للغالبية العظمى من الشعب الإيراني لم يعد روح الله الخميني آية الله إنما الإمام، وهو لقب نادراً ما أعطي في تاريخ الشيعة"(2).
... وقد أكد هذا المعنى أحد المسئولين الإيرانيين ويدعى فخر الحجازي حين قال: "إن الخميني أعظم من النبي موسى وهارون"، فنال بهذا القول رضى الخميني فعينه نائباً عن طهران ، ورئيساً لمؤسسة المستضعفين أعظم مؤسسة مالية في البلاد(3).
رابعاً: الغلو في الرفض:
... بالنسبة لاتجاه الخميني في التشيع فإنه يأخذ بالمذهب الغالي والمتطرف وهو مذهب غلاة الروافض. ومما يدل على ذلك أنه يعتمد مقالة غلاتهم في تفضيل الأئمة على أنبياء الله ورسله، فيقول:"إن من ضرورات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل.. وقد ورد عنهم أن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل"(4).
... وهذا هو مذهب غلاة الروافض كما يقرر ذلك عبد القادر البغدادي، والقاضي عياض، وشيخ الإسلام ابن تيمية(5).
... وترى الخميني ينسب هذا المذهب لكل المعاصرين، وأن هذا من الضرورات عندهم، فالمعاصرون هم –بناءً على ذلك- من غلاة الروافض في حكم أئمة الإسلام. وليس ذلك فحسب، بل عقيدة الخميني في أئمته هي عقيدة الغلاة في حكم كبار شيوخ الشيعة في القرن الرابع يدل على ذلك أنه يذهب إلى القول بأن أئمته "لا يتصور فيهم السهو والغفلة"(6).
__________
(1) ... مرتضى كتبي: أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة طهران، وجان ليون فاندورن: صحافي فرنسي.
(2) ... المجتمع والدين عند الإمام الخميني، وقد نشر هذا البحث في "الموند" الفرنسية، ثم طبع في كتاب باسم "إيران..ص216".
(3) ... موسى الموسوى/ الثورة البائسة: ص147.
(4) ... الحكومة الإسلامية: ص52.
(5) ... انظر: أصول الدين: ص298، والشفاء: 2/290، ومنهاج السنة: 1/177.
(6) ... الحكومة الإسلامية: ص91.(1/268)
... هذا والخميني في بقية عقائده لا يختلف عن عقائد الاثنى عشرية التي تحدثت عنها صفحات هذا البحث، وذلك في تكفيره لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1) ولأهل السنة عموماً، حتى ينعتهم بالنواصب –ما عدا من يسمونهم بالمستضعفين- بل هو يأخذ بالرأي المتطرف من آراء قومه في ذلك، وهو معاملتهم كالحربي، حبث قال:"والأقوى إلحاق الناصب بأهل الحرب في إباحة ما اغتنم منهم وتعلق الخمس به، بل الظاهر جواز أخذ ماله أينما وجد، وبأي نحو كان، ووجوب إخراج خُمُسه.
... فتبين أن خميني من غلاة الروافض، بل هو يأخذ من آرائهم ما هو أكثر شذوذاً، ويتعمد مخالفة أهل السنة وإن خرج عن ذلك فهو تقيَّة..
خامساً: قوله بعموم ولاية الفقيه:
... تعتقد الاثنى عشرية أن الولاية العامة على المسلمين منوطة بأشخاص معينين بأسمائهم وعددهم، قد اختارهم الله كما يختار أنبيائه.. وهؤلاء الأئمة أمرهم كأمر الله، وعصمتهم كعصمة رسل الله، وفضلهم فوق فضل أنبياء الله.
... ولكن آخر هؤلاء الأئمة –حسب اعتقادهم- غائب منذ سنة 260 هـ، ولذا فإن الاثنى عشرية تحرم أن يلي أحد منصبه في الخلافة حتى يخرج من مخبئه، حتى تقول:"كل راية ترفع قبل أن يقوم القائم فصاحبها طاغوت وإن كان يدعو إلى الحق".
__________
(1) ... حتى أنه يقرر في كتابه"تحرير الوسيلة" مشروعية التبري من أعداء الأئمة في الصلاة –وأعداء الأئمة في قاموس الشيعة هم صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا ثلاثة أو سبعة –(تحرير الوسيلة: 1/169) وهو في كتابه: كشف الأسرار: ص112وما بعدها.(1/269)
... لكن غيبة الحجة طالت، وتوالت قرون قاربت الاثنى عشر دون أن يظهر، والشيعة محرومون من دولة شرعية حسب اعتقادهم، فبدأت فكرة القول بنقل وظائف المهدي للفقيه تداعب أفكار المتأخرين منهم. ويقول الخميني:" قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي أكثر من ألف عام، وقد تمر ألوف السنين قبل أن تقتضى المصلحة قدوم الإمام المنتظر في طول هذه المدة المديدة، هل تبقى أحكام الإسلام معطلة؟ يعمل الناس من خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج والقوانين التي صدع بها نبي الإسلام - صلى الله عليه وسلم - وجاهد في نشرها وبيانها وتنفيذها طيلة ثلاثة وعشرين سنة، هل كان ذلك لمدة معلومة؟ هل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عاماً مثلاً؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأن الإسلام منسوخ"(1).
... ثم يقول:"إذن فإن كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ أحكام الإسلام، ويدعو إلى تعطيلها وتجميدها، وهو ينكر بالتالي شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف"(2).
... فخميني يرى لهذه المبررات التي ذكرها ضرورة خروج الفقيه الشيعي وأتباعه للاستيلاء على الحكم في بلاد الإسلام نيابة عن المهدي، وهو يخرج بهذا عن مقررات دينهم، ويخالف وصايا أئمتهم الكثيرة في ضرورة انتظار الغائب وعدم التعجيل بالخروج.
فصل في الحكم على الشيعة(3)
المبحث الأول
الحكم عليهم بأنهم مبتدعة وليسوا بكفرة
__________
(1) ... الحكومة الإسلامية: ص26.
(2) ... السابق: ص26-27.
(3) ... هذا الفصل منقول من كتاب أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية عرض ونقد تأليف د. ناصر بن عبد الله بن علي القفاري. ص 1249 ومابعدها.(1/270)
... قال الإمام النووي(1): "إن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع"(2).
... وقد فهم الشيخ ملا علي القاري من هذا النص أن النووي لا يرى تكفير الروافض لدخولهم في"أهل البدع" ولكنه أشار إلى أن الرافضة يتطور مذهبها ويتغير، وأن متأخري الرافضة ليسوا كسابقيهم، وإن رافضة زمانه غير الرافضة الذين يتحدث عنهم النووي وغيره من أهل العلم. فعقب على كلام النووي هذا وقال: "قلت: وهذا في غير حق الرافضة الخارجة في زماننا، فإنهم يعتقدون كفر أكثر الصحابة فضلاً عن سائر أهل السنة والجماعة، فهم كفرة بالإجماع بلا نزاع"(3).
... وأقول الدليل على أن الإمامية في عصر النووي لا يكفرون الصحابة، أو أن الإمام رحمه الله، لم يعرف ذلك عنهم، وهذا هو الأقرب لوجود روايات تكفر الصحابة في أصول الرافضة الموضوعة من قَبْلِ النووي، والدليل على ذلك أن النووي يذكر في شرح مسلم أن الإمامية لا يكفرون الصحابة، ويرى أن التكفير إنما هو عند غلاة الشيعة(4).
المبحث الثاني
القول بكفرهم
... وقد ذهب إلى هذا كبار أئمة الإسلام، كالإمام مالك وأحمد والبخاري وغيرهم..
... وفيما يلي نصوص فتاوى أئمة الإسلام وعلمائه في الروافض المسمون بالاثنى عشرية والجعفرية. وفي مقالاتهم التي اشتهروا بها، وثبتت في مدوناتهم الأساسية.
__________
(1) ... يحى بن شرف بن حسن بن حسين النووي. قال ابن كثير: شيخ المذهب(يعني الشافعي) وكبير الفقهاء في زمانه، توفي سنة 676هـ. (البداية والنهاية: 3/278-279).
(2) ... شرح النووي على صحيح مسلم: 2/50.
(3) ... مرقاة المفاتيح: 9/137.
(4) ... شرح النووي على صحيح مسلم: 15/173.(1/271)
... وأبدأ بذكر فتوى الإمام مالك، ثم الإمام أحمد، ثم الإمام البخاري، ثم أذكر بعد ذلك فتاوى الأئمة الباقين حسب تاريخ وفياتهم.. وقد اخترت فتاوى الأئمة الكبار، أو من عاش مع الروافض في بلد واحد، أو كتب عنهم ودرس مذهبهم من علماء المسلمين.
الإمام مالك:
... روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: قال مالك: الذي يشتم(1) أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لهم اسم، أو قال نصيباً في الإسلام(2).
... وقال ابن كثير –عند قوله سبحانه-: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار.. } . قال: "ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك"(3).
... قال القرطبي:"لقد أحسن مالك في مقالته وأصاب في تأويله. فمن نقص واحداً منهم، أو طعن عليه في روايته(4)فقد رد على الله رب العالمين، وأبطل شرائع المسلمين(5).
الإمام أحمد:
__________
(1) ... وقد ثبت فيما مضى أنهم يرون اللعن للصحابة ديناً وشرعة ويصرحون بتكفيرهم إلا ما لا يتجاوز أصابع اليد.
(2) ... الخلال/ السنة: 2/557، قال محقق الرسالة: إسناده صحيح.
(3) ... الفتح: 29. تفسير ابن كثير: 4/219، وانظر روح المعاني للآلوسي: 26/116، وانظر أيضاً في استنباط وجه تكفيرهم من الآية/ الصارم المسلول: ص579.
(4) ... وقد مضى مرجع الشيعة في هذا العصر أن روايات الصحابة كأبي هريرة وعمرو بن العاص وسمرة بن جندب لا تساوي عندهم جناح بعوضة.
(5) ... تفسير القرطبي: 16/297.(1/272)
... رويت عنه روايات عديدة في تكفيرهم..
... روى الخلال عن أبي بكر المروذي قال: سألت أبا عبد الله عمن يشتم أبا بكر وعمر وعائشة؟ قال: ما أراه على الإسلام(1).
... وقال الخلال: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد قال: سمعت أبا عبد الله قال: من شتم أخاف عليه الكفر مثل الروافض، ثم قال: من شتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نأمن أن يكون قد مرق عن الدين(2).
... وقال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن رجل شتم رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما أراه على الإسلام(3).
... وجاء في كتاب السنة للإمام أحمد قوله عن الرافضة:"هم الذين يتبرأون من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ويسبونهم وينتقصونهم ويكفرون الأئمة إلا أربعة: علي وعمار والمقداد وسلمان، وليست الرافضة من الإسلام في شيء(4).
... والإثنى عشرية تكفر الصحابة إلا قليلاً لا يتجاوز أصابع اليد، وتلعنهم في دعواتها وزياراتها، ومشاهدها، وأمهات كتبها.. وتكفر أتباعهم إلى يوم الدين.
... قال ابن عبد القوي:"وكان الإمام أحمد يكفر من تبرأ منهم (أي الصحابة) ومن سب عائشة أم المؤمنين ورماها مما برأها الله منه، وكان يقرأ { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً إن كنتم مؤمنين } (5).
__________
(1) ... الخلال/ السنة: 2/557، قال محقق الرسالة: إسناده صحيح، وانظر: شرح السنة لابن بطة: ص161، والصارم المسلول: ص571.
(2) ... الخلال/ السنة: 2/558، قال محقق الرسالة: إسناده صحيح.
(3) ... الخلال/ السنة: 2/558، وانظر: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي: ص214.
(4) ... السنة/للإمام أحمد: ص 82، تصحيح الشيخ إسماعيل الأنصاري.
(5) ... الآية رقم: 17 من سورة النور، والنص من كتاب ما يذهب إليه الإمام أحمد/ للإمام أبي محمد رزق الله بن عبد القوي التميمي، المتوفى سنة 480 هـ الورقة21.(1/273)
... ولكن ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى أن فى تكفير الروافض نزاعاً عن أحمد وغيره(1).
... وما مضى من نصوص عن الإمام أحمد صريحة في قوله بتكفيرهم، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية إلى وجه من لم يكفر الروافض في سبهم للصحابة، وبه يزول التعارض المتوهم في نصوص أحمد.. فقال:
... "وأما من سبهم سباً لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد ونحو ذلك فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير، ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم"(2). يعني فمن سبهم سباً يقدح في عدالتهم ودينهم فيحكم بكفره عند أهل العلم، فكيف الحال إذاً بمن يحكم بردتهم؟!!
البخاري:
... قال رحمه الله: "ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم ولا يعادون ولا يناكحون ولا يشهدون ولا تؤكل ذبائحهم(3).
عبد الله بن إدريس(4):
... قال:"ليس لرافضي شفعة إلا لمسلم"(5).
__________
(1) ... الفتاوى: 3/352.
(2) ... الصارم المسلول: ص 586، وانظر: ص 571 في توجيه القاضي أبي يعلى لرواية عدم التكفير.
(3) ... الإمام البخاري/ خلق أفعال العباد: ص125.
(4) ... عبد الله بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، قال أبو حاتم: هو حجة يحتج بها، وهو إمام من أئمة المسلمين، وقال أحمد: كان نسيجًا وحده، وقال ابن سعد: كان ثقة مأموناً كثير الحديث حجة صاحب سنة وجماعة، توفي سنة: 192هـ(تهذيب التهذيب: 5/144-145، الجرح والتعديل لابن أبي حاتم: 5/8-9، وهو من أعيان أئمة الكوفة (الصارم المسلول: ص570). والكوفة مطلع الرفض فهو أدرى بهم وبمذاهبهم، لأن أهل البيت أدرى بما فيه.
(5) ... الصارم المسلول: ص570، السيف المسلول على من سب الرسول/ علي بن عبد الكافي السبكي، الورقة 71 أ (مخطوط).(1/274)
عبد الرحمن بن مهدي(1):
... قال البخاري: قال عبد الرحمن بن مهدي: هما ملتان: الجهمية، والرافضية(2).
الفريابي(3):
... روى الخلال قال: أخبرني حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: حدثنا موسى بن هارون بن زياد قال: سمعت الفريابي ورجل يسأله عمن شتم أبا بكر، قال: كافر، قال فيصلى عليه، قال: لا. وسألته كيف يصنع به وهو يقول لا إله إلا الله، قال: لا تمسوه بأيديكم ارفعوه بالخشب حتى تواروه في حفرته(4).
أحمد بن يونس(5):
__________
(1) ... الإمام الحافظ العلم عبد الرحمن بن مهدي بن حسان بن عبد الرحمن العنبري البصري (ت 198هـ). (تهذيب التهذيب: 6/279-281).
(2) ... خلق أفعال العباد للبخاري: ص125، وانظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 35/415.
(3) ... محمد بن يوسف الفريابي، روى عنه البخاري 26 حديثاً، وكان من أفضل أهل زمانه، توفي سنة (212هـ) (تهذيب التهذيب: 9/535).
(4) ... الخلال/ السنة: 2/566، قال محقق الكتاب: في إسناده موسى بن هارون بن زياد لم أتوصل إلى معرفته. وقد نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية في الصارم المسلول: ص570 إلى الفريابي على سبيل الجزم.
(5) ... أحمد بن يونس: هو ابن عبد الله ينسب إلى جده، وهو إمام من أئمة السنة، ومن أهل الكوفة منبت الرفض فهو أخبر بالروافض ومذاهبهم أيضاً، قال أحمد بن حنبل لرجل: اخرج إلى أحمد بن يونس فإنه شيخ الإسلام، وقد أخرج له أصحاب الكتب الستة، وقال أبو حاتم: كان ثقة متقناً، وقال النسائي: كان ثقة، وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقاً صاحب سنة وجماعة، وذكر ابن حجر أن ابن يونس قال: أتيت حماد بن زيد فسألته أن يملي عليّ شيئاً من فضائل عثمان رضي الله عنه، فقال: من أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، فقال: كوفي يطلب فضائل عثمان، والله ما أمليتها عليك إلا وأنا قائم وأنت جالس. وقد توفى سنة 227هـ (تهذيب التهذيب: 1/50، وتقريب التهذيب: 1/29).(1/275)
... قال: لو أن يهودياً ذبح شاة، وذبح رافضي لأكلت ذبيحة اليهودي ولم آكل ذبيحة الرافضي، لأنه مرتد عن الإسلام(1).
أبو زرعة الرازي(2):
... قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، لأن مؤدى قوله إلى إبطال القرآن والسنة(3).
ابن قتيبة(4):
... قال: بأن غلو الرافضة في حب علي المتمثل في تقديمه على من قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته عليه، وادعاءهم له شركة النبي - صلى الله عليه وسلم - في نبوته، وعلم الغيب للأئمة من ولده، وتلك الأقاويل والأمور السرية قد جمعت إلى الكذب والكفر أفراط الجهل والغباوة(5).
عبد القادر البغدادي(6):
__________
(1) ... الصارم المسلول: ص570، ومثل هذا المعنى قاله أبو بكر بن هانئ (الموضع نفسه من المصدر السابق)، وانظر السيف المسلول على من سب الرسول/ علي بن عبد الكافي السبكي: الورقة: 71 أ(مخطوط).
(2) ... عبد الله بن عبد الكريم بن يزيد بن فروخ المخزومي بالولاء أبو زرعة الرازي من حفاظ الحديث وكبار الأئمة، كان يحفظ مائة ألف حديث، ويقال: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة ليس له أصل ... . توفي سنة 264هـ.
(3) ... انظر الكفاية: ص49.
(4) ... أبو محمد عبد الله بن مسلم الدينوري، صاحب المصنفات البديعة المحتوية على علوم جمة نافعة كما يقول ابن كثير، توفي سنة 276هـ. (انظر: وفيات الأعيان: 3/42-44، تاريخ بغداد: 10/170-171، البداية والنهاية: 11/48.
(5) ... الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة: ص47 مطبعة السعادة بمصر 1349هـ.
(6) ... عبد القادر بن طاهر بن محمد البغدادي التميمي الإسفراييني أبو منصور، كان يلقب"صدر الإسلام" في عصره، ويدرس في سبعة عشر فناً، توفي سنة 429هـ. (انظر: السبكي/طبقات الشافعية: 5/136-145، القفطي/ انباه الرواه: 2/185-186، السيوطي/ بغية الوعاة: 2/105.(1/276)
... يقول: أما أهل الأهواء من الجارودية والهشامية والجهمية والإمامية الذين كفَّروا خيار الصحابة… فإنا نكفرهم، ولا تجوز الصلاة عليهم عندنا، ولا الصلاة خلفهم(1).
... وقال: وتكفير هؤلاء واجب في إجازتهم على الله البداء، وقولهم بأنه قد يريد شيئاً ثم يبدو له، وقد زعموا أنه إذا أمر بشيء ثم نسخه، فإنما نسخه لأنه بدا له فيه.
... وما رأينا ولا سمعنا بنوع من الكفر إلا وجدنا شعبة منه في مذهب الروافض…(2).
القاضي أبو يعلى(3):
... قال: وأما الرافضة فالحكم فيهم.. إن كفَّر الصحابة أو فسَّقهم بمعنى يستوجب النار فهو كافر(4).
... والروافض كما تبين بعد انتشار أصولهم يكفرون أكثر الصحابة.
ابن حزم:
... قال: وأما قولهم ( يعني النصارى) في دعوى الروافض تبديل القرآن فإن الروافض ليسوا من المسلمين(5)، إنما هي فرقة حدث أولها بعد موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخمس وعشرين سنة.. وهي طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر.
... وقال: ومن قول الإمامية قديماً وحديثاً أن القرآن مبدل..، ثم قال: القول بأن بين اللوحين تبديلاً كفرٌ صريح وتكذيب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... وقال: ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن وأنه المتلو عندنا.. وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض، وهم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإسلام وليس كلامنا مع هؤلاء، وإنما كلامنا مع أهل ملتنا.
__________
(1) ... الفرق بين الفرق: ص357.
(2) ... الملل والنحل: ص52-53 تحقيق البير نصري نادر.
(3) ... محمد بن الحسين بن محمد خلف بن الفراء أبو يعلى عالم عصره في الأصول والفروع، توفي سنة 458هـ. انظر: طبقات الحنابلة: 2/193-230.
(4) ... المعتمد: ص267.
(5) ... يعني فلا حجة في كلامهم على المسلمين، ولا على كتابهم.(1/277)
... وقال: واعلموا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكتم من الشريعة كلمة فما فوقها، ولا أطلع أخص الناس به من ابنةٍ أو ابن عمٍ أو زوجة أو صاحب على شيء من الشريعة كتمه عن الأحمر والأسود ورعاة الغنم، ولا كان عنده عليه السلام سرٌ ولا رمز ولا باطن غير ما دعا الناس كلهم إليه، فلو كتمهم شيئاً لما بلغ كما أُمر، ومن قال هذا فهو كافر…(1).
الإسفراييني(2):
... نقل جملة من عقائدهم كتكفير الصحابة، وقولهم إن القرآن قد غير عما كان ووقع فيه الزيادة والنقصان، وانتظارهم لمهدي يخرج إليهم ويعلمهم الشريعة.. قال: بأن جميع فرق الإمامية التي ذكرناها متفقون على هذا، ثم حكم عليهم بقوله: وليسوا في الحال على شيء من الدين، ولا مزيد على هذا النوع من الكفر إذ لا بقاء فيه على شيء من الدين(3).
أبو حامد الغزالي(4):
__________
(1) ... الفصل: 2/213، 5/40، 2/274-275، والإحكام في أصول الأحكام: 1/96. وهذا الاعتقاد الذي يكفر ابن حزم معتقده قد أصبح اليوم من أصول الاثنى عشرية، ويؤكد على القول به شيوخهم المعاصرون والغابرون. كما تقدم.
(2) ... أبو المظفر شهفور بن طاهر بن محمد الإسفراييني الإمام الأصولي الفقيه المفسر، له تصانيف منها: التفسير الكبير، التبصير في الدين، توفي عام 471هـ. وانظر طبقات الشافعية: 5/11، والأعلام: 3/260.
(3) ... التبصير في الدين: ص24-25.
(4) ... محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الغزالي، قال ابن كثير: كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة، من كتبه: فضائح الباطنية، توفي سنة 505هـ. انظر: البداية والنهاية: 12/173-174، مرآة الجنان: 3/177-192.(1/278)
... قال: ولأجل قصور فهم الروافض(1) عنه ارتكبوا البداء، ونقلوا عن علي رضي الله عنه أنه كان لا يخبر عن الغيب مخافة أن يبدو له تعالى فيه فيغيره(2)، وحكوا عن جعفر بن محمد أنه قال: ما بدا لله في شيء كما بدا له في إسماعيل أي في أمر ذبحه(3)..وهذا هو الكفر الصريح، ونسبة الإله تعالى إلى الجهل والتغير، ويدل على استحالته ما دل عليه أنه محيط بكل شيء علماً(4)..
__________
(1) ... من درس مذهب الرافضة في البداء عرف أنه ليس بقصور فهم، ولكنه نهج متعمد ساقهم إليه غلوهم في الأئمة، وهذا القول من الغزالي يشبه كلام الآمدي (في الإحكام: 3/109) حيث قال: إن الرافضة خفي عليهم الفرق بين النسخ والبداء، وقد علق على ذلك الشيخ عبد الرزاق عفيفي فقال: من تبين حال الرافضة ووقف على فساد دخيلتهم وزندقتهم بإبطان الكفر وإظهار الإسلام، وأنهم ورثوا مبادئهم عن اليهود، ونهجوا في الكيد للإسلام منهجهم عرف أن ما قالوه من الزور والبهتان (يعني في أمر البداء) إنما كان عن قصد سيء وحسد للحق وأهله وعصبية ممقوتة دفعتهم إلى الدس والخداع وإعمال معاول الهدم سراً وعلناً للشرائع ودولها القائمة عليها. (هامش: الإحكام في أصول الأحكام: 3/109-110).
(2) ... وهذه الرواية موجودة عند المجلسي في البحار، وعزاها إلى "قرب الإسناد" (بحار الأنوار: 4/97) وفي خبر آخر نسبوا هذا القول إلى علي بن الحسين (انظر: تفسير العياشي: 2/215، بحار الأنوار: 4/118، البرهان: 2/299، تفسير الصافي: 3/75).
(3) ... انظر هذه الرواية في كتاب التوحيد لابن بابويه: ص336.
(4) ... المستصفى: 1/110.(1/279)
... ويقول الغزالي: فلو صرح مصرح بكفر أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .. فقد خالف الإجماع وخرقه، ورد ما جاء في حقهم من الوعد بالجنة والثناء عليهم والحكم بصحة دينهم وثبات يقينهم وتقدمهم على سائر الخلق في أخبار كثيرة.. ثم قال: فقائل ذلك إن بلغته الأخبار واعتقد مع ذلك كفرهم فهو كافر.. بتكذيبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن كذبه بكلمة من أقاويله فهو كافر بالإجماع(1).
القاضي عياض(2):
... قال رحمه الله: نقطع بتكفير غلاة الرافضة في قولهم إن الأئمة أفضل من الأنبياء(3).
__________
(1) ... فضائح الباطنية: ص149.
(2) ... عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته، توفي سنة 544هـ. وانظر: وفيات الأعيان: 3/483، والعبر للذهبي: 2/467، الضبي: بغية الملتمس ص437، النباهي/ناريخ قضاة الأندلس: ص101.
(3) ... الشيعة المعاصرون يعدون هذا الكفر من ضرورات مذهبهم ومنكر الضروري كافر عندهم.. يقول شيخهم الممقاني: ومن ضروريات مذهبنا أن الأئمة عليهم السلام أفضل من أنبياء بني إسرائيل كما نطقت بذلك النصوص المتواترة .. ولا شبهة عند كل ممارس لأخبار أهل البيت عليهم السلام (يعني أئمته الاثنى عشر) أنه كان يصدر من الأئمة عليهم السلام خوارق للعادة نظير ما كان يصدر من الأنبياء بل أزيد، وأن الأنبياء والسلف انفتحت لهم باب أو بابان من العلم، وانفتحت للأئمة عليهم السلام بسبب العبادة والطاعة التي تذر العبد مثل الله إذا قال للشيء كن فيكون جميع الأبواب. (تنقيح المقال: 3/232). فانظر كيف فضلهم في البداية على الأنبياء، وانتهى إلى أنهم مثل الله تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً .. فماذا بعد هذا من زندقة وإلحاد؟!!.(1/280)
... وكذلك يحكم بكفر من قال: بمشاركة علي في الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده، وأن كل إمام يقوم مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في النبوة والحجة، وأشار بأن هذا مذهب أكثر الرافضة(1). وكذلك من ادعي منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة(2). وقال: وكذلك نكفر من أنكر القرآن أو حرفاً منه، أو غير شيئاً منه، أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية(3).
السمعاني(4): (ت 562هـ)
... قال رحمه الله: واجتمعت الأمة على تكفير الإمامية لأنهم يعتقدون تضليل الصحابة، وينكرون إجماعهم، وينسبونهم إلى ما يليق بهم(5).
__________
(1) ... وتجد ذلك عند الاثنى عشرية في زعمهم أن الإمامة أرفع درجة من النبوة، وأن الأئمة حجة على الناس كالرسل.
(2) ... وهذا ما يقول به الروافض.
(3) ... هنا ملاحظة مهمة، وهي أن بعض الأئمة ينسبون القول بتغيير القرآن إلى الإسماعيلية، في حين أنه من أقوال الاثنى عشرية، والإسماعيلية لم تخض في القرآن بهذا القول، وإنما سلكت التأويل الباطني.
(4) ... الإمام الحافظ المحدث أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي السمعاني مصنف الأنساب وغيره، رحل وسمع الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ، قال ابن كثير: وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ وتكلم عليها إسناداً ومتناً وهو مفيد جداً، توفي سنة: 562هـ.
(5) ... الأنساب: 6/341، وقوله: "إلى ما يليق بهم" كذا في الأصل، وإذا كان الضمير يعود إلى الرافضة فالعبارة مستقيمة، أي ينسبون الصحابة إلى ضلال يليق بالرافضة أنفسهم، وأما إذا كان الضمير يعود إلى الصحابة ففي العبارة تصحيف ولعل صحتها: "إلى ما لا يليق بهم".(1/281)
الرازي(1):
... يذكر الرازي أن أصحابه من الأشاعرة يكفرون الروافض من ثلاثة وجوه:
... أولها: أنهم كفَّروا سادات المسلمين، وكل من كفَّر مسلماً فهو كافر لقوله عليه السلام: "من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما" فإذن يجب تكفيرهم.
... وثانيها: أنهم كفَّروا قوماً نص الرسول عليه السلام بالثناء عليهم وتعظيم شأنهم، فيكون تكفيرهم تكذيباً للرسول عليه السلام.
... وثالثها: إجماع الأمة على تكفير من كفَّر سادات الصحابة(2).
ابن تيمية:
... قال رحمه الله: من زعم أن القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، فلا خلاف في كفرهم.
... ومن زعم أن الصحابة ارتدوا بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره، لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضا عنهم والثناء عليهم.
... بل من يشكك في كفر هذا؟! فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي: { كنتم خير أمة أخرجت للناس } (3)وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم، وأن سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام(4).
... وقال شيخ الإسلام: أنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج(5).
__________
(1) ... محمد بن عمر بن الحسين المعروف بالفخر الرازي، مفسر متكلم فقيه أصولي من تصانيفه: التفسير الكبير، والمحصول وغيرهما، نسب له نوع تشيع، توفي سنة 606هـ. (لسان الميزان: 4/426، السيوطي/ طبقات المفسرين: ص115، عيون الأنباء: ص414-427).
(2) ... الرازي: نهاية العقول: الورقة 212 أ (مخطوط).
(3) ... آل عمران: 110.
(4) ... الصارم المسلول: ص586-587.
(5) ... مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 28/482.(1/282)
... وأنهم كفروا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما لا يحصيه إلا الله، فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعاني التنزيل.
... فإن الله قد ذكر في كتابه من الثناء على الصحابة، والرضوان عليهم والاستغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته.. وذكر في كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولي الأمر ما هم خارجون عنه.
... وذكر في كتابه من مولاة المؤمنين وموادتهم والإصلاح بينهم ما هم خارجون عنه.
... وذكر في كتابه من تحريم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم وتحريم الغيبة والهمز واللمز ما هم أبعد الناس عنه.
... وذكر في كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف، والنهي عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه. وذكر في كتابه من طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه. وكذلك من حقوق أزواجه ما هم براء منه.
... وذكر في كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه، فإنهم مشركون لأنهم أشد الناس تعظيماً للمقابر التي اتخذت أوثاناً من دون الله.
... وقد ذكر الله في كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به.
... وذكر في كتابه أنه على كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء، وأنه ما شاء الله كان لا قوة إلا بالله ما هم كافرون به.(1/283)
... ثم قال شيخ الإسلام: ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإسلام بتأويل سائغ.. فهو غالط جاهل بشريعة الإسلام.. لأن هؤلاء خارجون عن نفس شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته شراً من خروج الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ، فإن التأويل السائغ هو الجائز الذي يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين في موارد الاجتهاد، وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل اليهود والنصارى، وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء(1).
... ولكن شيخ الإسلام وهو يكفر أصحاب هذه المقالات، إلا أن تكفيره للمعين مشروط عنده بقيام الحجة وبلوغ الرسالة، ولذلك أفتى في الرافضة الذين تم القبض عليهم بالفتوى التالية:
فتوى شيخ الإسلام في الرافضة بعد الاستيلاء عليهم:
... يقول رحمه الله: وقد علم أنه بساحل الشام جبل كبير فيه ألوف من الرافضة يسفكون دماء الناس ويأخذون أموالهم، وقتلوا خلقاً عظيماً، وأخذوا أموالهم، ولما انكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح والأسارى وباعوهم للكفار والنصارى بقبرص، وأخذوا من مر بهم من الجند، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء، وحمل بعض أمرائهم راية النصارى، وقالوا له: أيما خير المسلمون أو النصارى؟ فقال: بل النصارى، فقالوا له: مع من تحشر يوم القيامة؟ فقال: مع النصارى، وسلموا إليهم بعض بلاد المسلمين.
__________
(1) ... انظر: الفتاوى: 28/484-486.(1/284)
... ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم وكتبت جواباً مبسوطاً في غزوهم(1)..وذهبنا إلى ناحيتهم، وحضر عندي جماعة منهم وجرت بيني وبينهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلما فتح المسلمون بلدهم، وتمكن المسلمون منهم نهيتهم عن قتلهم، وعن سبيهم، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا(2).
... وهذه الفتوى من إمام أهل السنة في وقته تبين أن أهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول، ولا يكفرون كل من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق بخلاف أهل الأهواء الذين يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه(3).
ابن كثير(4):
... ساق ابن كثير بعض الأحاديث الثابتة في السنة، المتضمنة نفي دعوى النص والوصية التي تدعيها الرافضة لعلي، ثم عقب عليها بقوله:
... ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله في حياته وبعد وفاته، من أن يفتاتوا عليه فيقدموا غير من قدمه، ويؤخروا من قدمه بنصه، حاشا وكلا، ومن ظن بالصحابة رضوان الله عليهم ذلك فقد نسب بأجمعهم إلى الفجور، والتواطؤ على معاندة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومضادتهم في حكمه ونصه، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام، وكان إراقة دمه أحق من إراقة المدام(5).
__________
(1) ... لعله ما جاء في الفتاوى: 28/398.
(2) ... منهاج السنة: 3/39.
(3) ... الموضع نفسه من المصدر السابق.
(4) ... الإمام المحدث المفتي البارع –كما قال الذهبي- أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، قال الشوكاني: له تصانيف مفيدة منها: التفسير، من أحسن التفاسير إن لم يكن أحسنها، توفي سنة: 774هـ. (ابن حجر/ الدرر الكامنة: 1/373-374، الشوكاني/ البدر الطالع 1/1530.
(5) ... البداية والنهاية: 5/252، والمدام هى الخمر.(1/285)
... ومن الثابت عن الرافضة –كما مر- أنها تدعي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نص على عليّ، وأن الصحابة ردوا النص، وارتدوا بسبب ذلك، وهذا ما يقوله المعاصرون وأسلافهم من الروافض.
أبو حامد محمد المقدسي(1):
... قال –بعد حديثه عن فرق الشيعة وعقائدهم- : ولا يخفى على كل ذي بصيرة وفهم من المسلمين أن أكثر ما قدمناه في الباب قبله من عقائد هذه الطائفة الرافضة على اختلاف أصنافها كفر صريح، وعناد مع جهل قبيح لا يتوقف الواقف عليه من تكفيرهم والحكم عليهم بالمروق من دين الإسلام(2).
محمد بن عبد الوهاب(3):
__________
(1) ... محمد بن خليل بن يوسف الرملي المقدسي، من فقهاء الشافعية، توفي سنة: 888هـ. وانظر: السخاوي/ الضوء اللامع: 7/234، الشوكاني/ البدر الطالع: 2/169.
(2) ... رسالة في الرد على الرافضة: ص200.
(3) ... محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن أحمد التميمي النجدي، الإمام المجدد للإسلام في الجزيرة العربية في القرن الثاني عشر من الهجرة، كانت دعوته إلى التوحيد الخالص ونبذ البدع هي الشعلة الأولى لليقظة الحديثة في العالم الإسلامي كله، تأثر بها رجال الإصلاح في الهند ومصر والعراق والشام وغيرها. توفي رحمه الله سنة: 1206هـ. انظر: عبد العزير بن باز/ الشيخ محمد بن عبد الوهاب مصلح مظلوم ومفترى عليه، وبهجة الأثري/ محمد بن عبد الوهاب داعية التوحيد والتجديد في العصر الحديث وغيرها. وانظر : أحمد أمين / زعماء الإصلاح: ص10، مجلة الزهراء: 3/82-98.(1/286)
... حكم الإمام محمد بن عبد الوهاب على جملة من عقائد الاثنى عشرية بأنها كفر، ومن ذلك قال رحمه الله –بعد أن عرض عقيدة الاثنى عشرية في سب الصحابة ولعنهم، وما قاله الله ورسوله في الثناء عليهم- قال: فإذا عرفت أن آيات القرآن تكاثرت في فضلهم، والأحاديث المتواترة بمجموعها ناصة على كمالهم، فمن اعتقد فسقهم أو فسق مجموعهم وارتدادهم وارتداد معظمهم عن الدين، أو اعتقد حقية سبهم وإباحته، أو سبهم مع اعتقاد حقية سبهم، أو حليته فقد كفر بالله تعالى ورسوله… والجهل بالتواتر القاطع ليس بعذر، وتأويله وصرفه من غير دليل معتبر غير مفيد، كمن أنكر فرضية الصلوات الخمس جهلاً لفرضيتها، فإنه بهذا الجهل يصير كافراً، وكذا لو أولها على غير المعنى الذي نعرفه فقد كفر، لأن العلم الحاصل من نصوص القرآن والأحاديث الدالة على فضلهم قطعي.
شاه عبد العزيز الدهلوي(1):
... قال -بعد دراسة مستفيضة لمذهب الاثنى عشرية من خلال مصادرهم المعتمدة-: ومن استكشف عقائدهم الخبيثة وما انطووا عليه، علم أن ليس لهم في الإسلام نصيب وتحقق كفرهم لديه(2).
محمد بن علي الشوكاني(3):
__________
(1) ... عبد العزيز بن أحمد (ولي الله) بن عبد الرحيم العمري الفاروقي الملقب سراج الهند، قال محب الدين الخطيب: كان كبير علماء الهند في عصره، وكان رحمه الله مطلعاً على كتب الشيعة متبحراً فيها. توفي سنة: 1239هـ. انظر: الأعلام: 4/138، مقدمة مختصر التحفة الاثنى عشرية لمحب الدين الخطيب/ ص: يب.
(2) ... مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص300.
(3) ... الإمام محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني علامة اليمن، صاحب فتح القدير ونيل الأوطار وغيرهما من المؤلفات النافعة، توفي سنة: 1250هـ. وانظر ترجمته: البدر الطالع: 2/214-225.(1/287)
... قال: إن أصل دعوة الروافض كياد الدين، ومخالفة شريعة المسلمين. والعجب كل العجب من علماء الإسلام، وسلاطين الدين كيف تركوهم على هذا المنكر البالغ في القبح إلى غايته ونهايته، فإن هؤلاء المخذولين لما أرادوا رد هذه الشريعة المطهرة ومخالفتها طعنوا في أعراض الحاملين لها، الذين لا طريق لنا إليها إلا من طريقهم، واستزلوا أهل العقول الضعيفة بهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الشيطانية، فهم يظهرون السب واللعن لخير الخليقة، ويضمرون العناد للشريعة، ورفع أحكامها عن العباد.
... وليس في الكبائر أشنع من هذه الوسيلة إلا ما توسلوا بها إليه، فإنه أقبح منها، لأنه عناد لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولشريعته.
... فكان حاصل ما هم فيه من ذلك أربع كبائر كل واحدة منها كفر بواح:
... الأولى: العناد لله عز وجل. ... الثانية: العناد لرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
... الثالثة: العناد لشريعته المطهرة ومحاولة إبطالها.
... الرابعة: تكفير الصحابة رضي الله عنهم، الموصوفين في كتاب الله بأنهم أشداء على الكفار، وأن الله تعالى يغيظ بهم الكفار، وأنه قد رضي عنهم، مع أنه قد ثبت في هذه الشريعة المطهرة أن من كفر مسلماً فقد كفر كما في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه"(1).
__________
(1) ... الحديث بنحوه في صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب من كفر أخاه من غير تأويل فهو كما قال: ج7/ ص97، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان حال من قال لأخيه المسلم يا كافر: 1/ 79، وأبي داود: كتاب السنة، باب زيادة الإيمان ونقصانه: 5/64 ح4687، والترمذي: كتاب الإيمان، باب فيمن رمى أخاه بكفر: 5/22 ح2637، ومالك في الموطأ: كتاب الكلام، باب ما يكره من الكلام: ص984، وأحمد: 2/18،23،44،47، الطيالسي: ص252 ح1842.(1/288)
... بهذا يتبين أن كل رافضي خبيث يصير كافراً بتكفيره لصحابي واحد، فكيف بمن كفَّر كل الصحابة، واستثنى أفراداً يسيرة تغطية لما هو فيه من الضلال على الطغام الذين لا يعقلون الحجج؟!(1).
علماء ما وراء النهر(2):
... قال الألوسي –صاحب التفسير- : ذهب معظم علماء ما وراء النهر إلى كفر الاثنى عشرية وحكموا بإباحة دمائهم وفروج نسائهم، حيث أنهم يسبون الصحابة رضي الله عنهم ولاسيما الشيخين وهما السمع والبصر منه عليه الصلاة والسلام، وينكرون خلافة الصديق، ويقذفون عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها مما برأها الله تعالى منه، ويفضلون بأسرهم علياً كرم الله وجهه.. على غير أولي العزم من المرسلين، ومنهم من يفضله عليهم أيضاً.. ويجحدون سلامة القرآن العظيم من الزيادة والنقص(3).
... هذه بعض فتاوى أئمة المسلمين وعلمائهم في هذه المسألة.
__________
(1) ... الشوكاني/ نار الجوهر على حديث أبي ذر، الورقة: 15-16 (مخطوط).
(2) ... يراد به ما وراء نهر جيحون بخرسان، فما كان في شرقيه يقال له بلاد الهياطلة، وفي الإسلام سموه ما وراء النهر، وما كان في غربيه فهو خرسان وولاية خوارزم.. (معجم البلدان: 5/45).
(3) ... نهج السلامة: ص29-30 (مخطوط).(1/289)
... واكتفى بهذا القدر، وفي الكتب الفقهية أقوال كثيرة في تكفيرهم، يمكن الرجوع إليها بيسر ولذا لا داعي لذكرها(1).
ويلاحظ هنا عدة أمور:
... أولاً: أن هذا حكمهم –رحمة الله عليهم- قبل انتشار كتب الروافض ومجاهرتهم بعقائدهم بمثل ما هو واقع اليوم.. ولهذا تضمنت صفحات هذا البحث عقائد للإثنى عشرية كان ينسبها علماء الإسلام للقرامطة الباطنية، كمسألة نقص القرآن وتحريفه والذي استفاض أمرها في كتبهم، وكذلك جملة مما جاء في اعتقادهم في أصول الدين، وهناك عقائد لم تكن معروفة عنهم كعقيدة الطينة ونحوها..
... معنى هذا أن حكمهم اليوم عليهم أشد.
__________
(1) ... انظر –مثلاً- العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية لابن عابدين، وقد ساق فيها فتوى الشيخ نوح الحنفي، حيث كفرهم لوجوه كثيرة، وهي فتوى طويلة (انظر: العقود الدرية ص 92)، وكذلك ذكر ما قاله أبو السعود المفسر ونقل فيه إجماع علمائهم على تكفيرهم (السابق ص 93). وفي الفتاوى البزازية للشيخ محمد بن شهاب المعروف بابن البزاز المتوفى سنة: 827هـ، قال: يجب إكفار الكيسانية في إجازتهم البداء على الله تعالى، وإكفار الروافض في قولهم برجعة الأموات… إلخ (الفتوى البزازية المطبوعة على هامش الفتاوى الهندية: 6/318). وفي الأشباه والنظائر لابن نجيم قال: سب الشيخين ولعنهما كفر…(الأشباه والنظائر: ص190). وانظر: نواقض الروافض لمخدوم الشيرازي، حيث ساق أقوال أصحاب المذاهب الأربعة في تكفير الرافضة/ الورقة: 187 أ وما بعدها، وتكفير الشيعة لمطهر بن عبد الرحمن بن إسماعيل/ الورقة: 51.(1/290)
... ثانياً: أن الرافضة المتأخرين والمعاصرين جمعوا أخس المذاهب وأخطرها.. جمعوا مقالة القدرية في نفي القدر، والجهمية في نفي الصفات، وقولهم إن القرآن مخلوق، والصوفية –عند جملة من رؤساء مذهبهم- في ضلالة الوحدة والاتحاد، والسبئية في تأليه عليّ، والخوارج والوعيدية في تكفير المسلمين، والمرجئة في قولهم إن حب علي حسنة لا يضر معها سيئة، بل ساروا في سبيل أهل الشرك في تعظيم القبور والطواف حولها، بل يصلون إليها مستدبرين القبلة، إلى غير ذلك مما هو عين مذهب المشركين.
لكن مما يجب مراعاته حسب منهج أهل السنة في التكفير:
... أن هذه الأقوال التي يقولونها، والتي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي كفرٌ، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي أيضاً كفر..
... لكن تكفير الواحد المعين من أهل القبلة والحكم بتخليده في النار موقوف على: ثبوت شروط التكفير، وانتفاء موانعه، فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق، ولا يحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقرب عهده بالإسلام أو لنشأته ببادية بعيدة، فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة ، ومن هؤلاء من لا يكون بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك. فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التي يكفر تاركها دون غيره(1).
3. المعتزلة
مقدمة:
... قبل أن نبدأ الكلام عن هذه الفرقة، فقد يقول البعض إن هذه الفرقة زالت وانتهت، فما الفائدة من الكلام عنها؟!
__________
(1) ... الفتاوى: 28/500-501، وانظر لتفصيل هذه المسألة: الفتاوى: 12/466 وما بعدها، 23/345 وما بعدها.(1/291)
... أقول نعم زال اسمها، لكن كثيرًا من آرائها ما زالت باقية، إضافة إلى ما نلاحظه من دعوة بعض المعاصرين لإحيائها، بدعوى أنهم رواد الفكر الحر(1).
وقال الدكتور مانع الجهني(2):
... بعد أن كاد الاعتزال ينتهى كفكر مستقل إلا ما تبنته منه بعض الفرق كالشيعة وغيرهم، عاد الفكر الاعتزالي من جديد في الوقت الحاضر على يد بعض الكتاب والمفكرين، الذين يمثلون المدرسة العقلانية الجديدة، وهذا ما سنبسطه عند الحديث عن فكر الاعتزال الحديث.
الفكر الاعتزالي الحديث:
... يحاول بعض الكتاب والمفكرين في الوقت الحاضر إحياء فكر المعتزلة من جديد بعد أن عفى عليه الزمن أو كاد.. فألبسوه ثوباً جديداً، وأطلقوا عليه أسماء جديدة مثل… العقلانية أو التنوير أو التجديد أو التحرر الفكري أو التطور أو المعاصرة أو التيار الديني المستنير أو اليسار الإسلامي..
... وقد قَوَّى هذه النزعة التأثر بالفكر الغربي العقلاني المادي، وحاولوا تفسير النصوص الشرعية وفق العقل الإنساني.. فلجأوا إلى التأويل كما لجأت المعتزلة من قبل، ثم أخذوا يلتمسون في مصادر الفكر الإسلامي ما يدعم تصورهم، فوجدوا في المعتزلة بغيتهم فأنكروا المعجزات المادية.. وما تفسير الشيخ محمد عبده لإهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل.. إلا من هذا القبيل.
... وأهم مبدأ معتزلي سار عليه المتأثرون بالفكر المعتزلي الجدد هو ذاك الذي يزعم أن العقل هو الطريق الوحيد للوصول إلى الحقيقة، حتى لو كانت هذه الحقيقة غيبية شرعية، أي أنهم أخضعوا كل عقيدة وكل فكر للعقل البشري القاصر.
__________
(1) ... انظر كتاب المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها للدكتور عواد بن عبد الله المعتق ص6.
(2) ... الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، د. مانع الجهني ج1 ص71.(1/292)
... وأخطر ما في هذا الفكر الاعتزالي.. محاولة تغيير الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص اليقيني من الكتاب والسنة.. مثل عقوبة المرتد، وفرضية الجهاد، والحدود وغير ذلك.. فضلاً عن موضوع الحجاب وتعدد الزوجات، والطلاق والإرث.. إلخ.. وطلب أصحاب هذا الفكر إعادة النظر في ذلك كله.. وتحكيم العقل في هذه المواضيع. ومن الواضح أن هذا العقل الذي يريدون تحكيمه هو عقل متأثر بما يقوله الفكر الغربي حول هذه القضايا في الوقت الحاضر.
... ومن دعاة الفكر الاعتزالي الحديث: سعد زغلول الذي نادى بنزع الحجاب عن المرأة المصرية، وقاسم أمين مؤلف كتاب تحرير المرأة والمرأة الجديدة، ولطفي السيد الذي أطلقوا عليه:"أستاذ الجيل"، وطه حسين الذي أسموه "عميد الأدب العربي"، وهؤلاء كلهم أفضوا إلى ما قدموا. هذا في البلاد العربية.
... أما في القارة الهندية فظهر السير أحمد خان، الذي مُنِحَ لقب سير من قبل الاستعمار البريطاني. وهو يرى أن القرآن الكريم لا السنة النبوية هو أساس التشريع، وأحل الربا البسيط في المعاملات التجارية. ورفض عقوبة الرجم والحرابة، ونفى شرعية الجهاد لنشر الدين، وهذا الأخير قال به لإرضاء الإنجليز لأنهم عانوا كثيراً من جهاد المسلمين الهنود لهم.
... وجاء تلميذه سيد أمير علي الذي أحل زواج المسلمة بالكتابي وأحل الاختلاط بين الرجل والمرأة.
... ومن هؤلاء أيضاً مفكرون علمانيون، لم يعرف عنهم الالتزام بالإسلام.. مثل زكي نجيب محمود صاحب نظرية (الوضعية المنطقية) وهي فرع من الفلسفة الوضعية الحديثة التي تنكر كل أمر غيبي.. فهو يزعم أن الاعتزال جزء من التراث ويجب أن نحييه، وعلى أبناء العصر أن يقفوا موقف المعتزلة من المشكلات القائمة (انظر كتاب تجديد الفكر العربي ص123).(1/293)
... ومن هؤلاء أحمد أمين صاحب المؤلفات التاريخية والأدبية مثل فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، فهو يتباكى على موت المعتزلة في التاريخ القديم وكأن من مصلحة الإسلام بقاؤها، ويقول في كتابه: ضحى الإسلام : في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة"(1).
... ومن المعاصرين الأحياء الذين يسيرون في ركب الدعوة الإسلامية من ينادي بالمنهج العقلي الاعتزالي فى تطوير العقيدة والشريعة مثل الدكتور محمد فتحي عثمان في كتابه الفكر الإسلامي والتطور.. والدكتور حسن الترابي في دعوته إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: "إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير، وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً"(2).
__________
(1) ... كتاب ضحى الإسلام، ج3، ص207.
(2) ... المعتزلة بين القديم والحديث، ص138.(1/294)
... وهناك كتاب كثيرون معاصرون، ومفكرون إسلاميون يسيرون على المنهج نفسه ويدعون إلى أن يكون للعقل دور كبير في الاجنهاد وتطويره، وتقويم الأحكام الشرعية، وحتى الحوادث التاريخية.. ومن هؤلاء فهمي هويدي ومحمد عمارة –صاحب النصيب الأكبر في إحياء تراث المعتزلة والدفاع عنه- وخالد محمد خالد ومحمد سليم العوا، وغيرهم. ولاشك بأهمية الاجتهاد وتحكيم العقل في التعامل مع الشريعة الإسلامية ولكن ينبغي أن يكون ذلك في إطار نصوصها الثابتة وبدوافع ذاتية وليس نتيجة ضغوط أجنبية وتأثيرات خارجية لا تقف عند حد، وإذا انجرف المسلمون في هذا الاتجاه –اتجاه ترويض الإسلام بمستجدات الحياة والتأثير الأجنبي بدلاً من ترويض كل ذلك لمنهج الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه– فستصبح النتيجة أن لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ولا من الشريعة إلا رسمها ويحصل للإسلام ما حصل للرسالات السابقة التي حرفت بسبب اتباع الأهواء والآراء حتى أصبحت لا تمت إلى أصولها بأي صلة.
المبحث الأول
في نشأة المعتزلة(1)
تقديم: في تعريف المعتزلة في اللغة والاصطلاح:
نعريف المعتزلة في اللغة: ... الاعتزال معناه: الانفصال والتنحي، والمعتزلة هم المنفصلون. هذا في اللغة(2).
__________
(1) ... انظر كتاب المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها للدكتور عواد بن عبد الله المعتق ص13 وما بعدها.
(2) ... انظر محيط المحيط ص1391، ولسان العرب: مجلد11ص440.(1/295)
أما المعتزلة في الاصطلاح: فهم اسم يطلق على فرقة ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني، وسلكت منهجاً عقلياً متطرفاً في بحث العقائد الإسلامية، وهم أصحاب واصل بن عطاء الغزال الذي اعتزل مجلس الحسن البصري(1).
المطلب الأول - أصل تسمية المعتزلة:
... يقول الشهرستاني(2):"دخل رجل على الحسن البصري، فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، فلا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعْتَزَلَنا واصل، فسمي هو وأصحابه المعتزلة".
المطلب الثاني - أسماء المعتزلة وعلة تلقيبهم بها:
__________
(1) ... هو واصل بن عطاء الغزال، المولود سنة 80هـ، وتتلمذ على الحسن البصري، ولم يفارقه إلى أن أظهر مقالته في المنزلة بين المنزلتين، وهو مؤسس فرقة الاعتزال، توفي سنة 131 هـ. والحسن هو أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، كان من سادات التابعين وكبرائهم، وجمع كل فن من علم وزهد وورع وعبادة، أبوه مولى زيد بن ثابت وأمه خيرة مولاة أم سلمة رضي الله عنها، قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف، فقيل له: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن. ولد لسنتين بقيتا من خلافة عمر رضي الله عنه، وتوفي في مستهل رجب سنة 110هـ بالبصرة. انظر وفيات الأعيان: ج2ص71-72.
(2) ... الملل والنحل: ج1 ص52.(1/296)
القسم الأول: ما أطلقه الغير عليهم:
1. ... المعتزلة: بمعنى المنشقين، وقد بينا سبب تسميتهم بهذا الاسم عندما تكلمنا على أصل المعتزلة.
2. ... الجهمية: وسبب تلقيبهم بهذا اللقب هو أنه لما كانت الجهمية سبقت المعتزلة في الظهور واشتهرت ببعض آرائها، إلا أن سبقها للمعتزلة سبق قريب، ثم لما خرجت المعتزلة كانت قد وافقت الجهمية في مسائل كثيرة، منها: نفي الرؤية والصفات، وخلق الكلام، فكأن توافق الفرقتين جعلهما كالفرقة الواحدة، وبما أن الجهمية أسبق ومسائلها أكثر وبعض مسائل المعتزلة مأخوذة منها، لذا أصبح يطلق على كل معتزلي جهمي، ولا يطلق على كل جهمي معتزلي، ولذلك أطلق أئمة الأثر لفظ الجهمية على المعتزلة، فالإمام أحمد في كتابه "الرد على الجهمية"، والبخاري في الرد على الجهمية، ومن بعدهما إنما يعنون بالجهمية المعتزلة، لأنهم كانوا في المتأخرين أشهر بهذه المسائل من الجهمية.
... وقال الإمام ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة" : "لما وقعت محنة الجهمية نفاة الصفات في أوائل المائة الثالثة على عهد المأمون وأخيه المعتصم ثم الواثق، ودعوا الناس إلى التجهم وإبطال صفات الله تعالى.. وطلبوا أهل السنة للمناظرة.. لم تكن المناظرة مع المعتزلة فقط، بل كانت مع جنس الجهمية من المعتزلة والنجارية والضرارية، وأنواع المرجئة، فكل معتزلي جهمي وليس كل جهمي معتزلياً، لأن جهماً أشد تعطيلاً لنفيه الأسماء والصفات…"(1).
__________
(1) ... منهاج السنة: ج1 ص256.(1/297)
3. ... القدرية: كذلك يلقب المعتزلة بالقدرية، يقول البغدادي –وهو يسوق ما أجمعت عليه المعتزلة- : "…وقد زعموا أن الناس هم الذين يقدرون أكسابهم وأنه ليس لله عز وجل في أكسابهم وفي أعمال سائر الحيوانات صنع ولا تقدير. ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية"(1). إلا أن المعتزلة لا يرضون بهذا الاسم ولذا يقولون: إنه أولى أن يطلق على القائلين بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
4. ... الثنوية والمجوسية.
5. ... مخانيث الخوارج.
6. ... الوعيدية.
7. ... المعطلة.
القسم الثاني: ما أطلقوه على أنفسهم:
1. ... المعتزلة: سبق أن ذكرنا هذا الاسم من ضمن أسمائهم التي سماهم بها غيرهم، ونورده هنا من ضمن الأسماء التي تسموا بها، وذلك أنهم لما رأوا أنه لا خلاص لهم من هذا الاسم، أخذوا يبرهنون على فضله، وأن المراد به الاعتزال عن الأقوال المحدثة والمبتدعة، وبرهنوا على ما يقولون ببعض النصوص مثل قوله تعالى: { واهجرهم هجراً جميلاً } (2). وذلك لا يكون إلا بالاعتزال عنهم.
2. ... أهل العدل والتوحيد: يروي المقبلي أن المعتزلة كانوا يطلقون على أنفسهم أهل العدل والتوحيد والعدلية، ولذا يقول: " وتسمى المعتزلة نفسها بالعدلية، وأهل العدل والتوحيد"(3).
المطلب الثالث - تاريخ ومكان نشأة المعتزلة وممن استقوا آراءهم:
... والرأي الأقرب للصواب –والله أعلم- قول الأكثرية، وهو أن رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء، وأنه نشأ في سنة بين 105إلى 110 للهجرة في البصرة نتيجة للمناظرة في أمر صاحب الكبيرة ثم خروج واصل برأيه المخالف لشيخه الحسن البصري، وبعد ذلك أضاف إلى رأيه في مرتكب الكبيرة آراء أخرى أصبحت فيما بعد من أصول المعتزلة، ومن ئم أخذ كل عالم من علمائهم يأتي برأي حتى تكونت هذه الفرقة.
__________
(1) ... الفرق بين الفرق: ص94.
(2) ... المزمل: 10.
(3) ... العلم الشامخ: ص300.(1/298)
... وأما المكان الذي نشأ فيه الاعتزال، فإنه يكاد يجمع الباحثون على أنه البصرة.
المبحث الثاني
فرق المعتزلة(1)
الفرقة الأولى: الواصلية:
... أتباع أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال مولى بني ضبة، ولد سنة 80هـ، ونشأ على الرق، وتتلمذ على الحسن البصري، ولم يفارقه إلى أن أظهر مقالته في المنزلة بين المنزلتين، وهو مؤسس فرقة الاعتزال، توفي سنة 131هـ(2). وهو الذي وضع الأصول الخمسة التي يرتكز عليها الاعتزال.
الفرقة الثانية: العمرويَّة:
... أتباع عمرو بن عبيد بن باب، مولى بني تميم، ولد سنة 80هـ وتوفي سنة 144هـ، كان جده من سبي كابل، عاش في البصرة وعاصر واصل بن عطاء وكان ترباً له، وزوجه واصلٌ أخته، وقد أصبح شيخ المعتزلة بعد واصل(3)، وشاركه في جميع أقواله وزاد عليه.
الفرقة الثالثة: الهذيليَّة:
... أتباع أبي الهذيل محمد بن الهذيل بن عبد الله البصري العلاف، ولد سنة 113هـ وتوفى سنة 226، وقيل سنة 235، وقيل سنة 237 في خلافة المتوكل، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل أحد أصحاب واصل بن عطاء(4). وقد أطلع على الفلسفة اليونانية فجاءت أقواله متأثرة بها(5).
الفرقة الرابعة: النظَّامية:
__________
(1) ... انظر كتاب المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها للدكتور عواد بن عبد الله المعتق ص52 وما بعدها.
(2) ... الفرق بين الفرق: ص20، والملل والنحل ص50.
(3) ... ميزان الاعتدال: ج2 ص295-296.
(4) ... التبصير في الدين: ص66.
(5) ... المعتزلة: ص 115.(1/299)
... أتباع أبي إسحاق إبراهيم بن سيار بن هانئ المعروف بالنَّظَّام، سمي بهذا الاسم لأنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة، ولد سنة 185هـ، وتوفي سنة 231هـ، أعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات، ولذلك أنكر إعجاز القرآن وما رُوِىَ من معجزات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليتوصل بذلك إلى إنكار نبوته - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه استثقل أحكام الشريعة فأبطل الطرق الدالة عليها، ومن ثَم أبطل حجية الإجماع والقياس في الفروع، وأنكر الحجة من الأخبار التي لا توجب العلم الضروري، وطعن في فتاوى الصحابة، وجميع فرق الأمة من فريقي الرأي والحديث مع الخوارج والشيعة، والنجَّارية، وأكثر المعتزلة متفقون على تكفير النَّظَّام.
... وممن قال بتكفيره من شيوخ المعتزلة أبو الهذيل والجبائي والأسكافي وجعفر بن حرب، وكتب أهل السنة في تكفيره تكاد لا تحصى(1).
... والمعتزلة قد افترقوا إلى ما يقارب اثنتين وعشرين فرقة يجمعها آراء وهي الأصول الخمسة، وتختلف في آراء أخرى. والفرق غير السابقة هي:
... الثمامية، والمعمرية، والبشرية، والهشامية، والمراديَّة، والجعفرية، والأسوارية، والأسكافية، والخابطية، والحدثية، والمويسية، والصالحية، والجاحظية، والشحَّامية، والخياطية، والجبائية، والكعبية، والبهشمية، والحمارية.
عقائد المعتزلة:
يقول محمد العبدة(2):
... طبيعة البحث في فكر المعتزلة قد يجرنا إلى متاهات ومعميات (علم الكلام) الذي كان للمعتزلة السبق في ابتداعه أول الأمر. إلا أننا سنحاول جاهدين أن نتخطى تلك العقبة بأن نكتفي بالحديث عن أصول ذلك الفكر لدى تلك الفرقة دون الدخول في كثير من التفصيلات التي لا حاجة لنا وللقارئ إليها.
__________
(1) ... التبصير في الدين: ص67، والفرق بين الفرق: ص131-133، وتاريخ الفرق الإسلامية: ص187.
(2) ... المعتزلة بين القديم والحديث. محمد العبدة ص4 وما بعدها.(1/300)
... لذا سنتناول في هذا الباب من هذا البحث نشأة علم الكلام وآثاره، ذلك العلم الذي قدر له أن يسيطر لعهود متطاولة على فكر كثير من المسلمين على أنه (علم التوحيد) الذي يجب أن تجتمع عليه عقائد العامة والخاصة، والذي كانت نشأته على يد المعتزلة، وتأثر به الأشاعرة من بعد، وكان من آثاره ذلك الخلط في مفهوم التوحيد والذي أدى بدوره إلى الانحطاط والتقليد والإغراق في المباحث اللفظية، ثم بينا رأي أهل السنة في ذلك العلم وأقوال أئمة الكلام أنفسهم في مدى غنائه.
علم الكلام:
... كانت الهمة الأساسية والأولى للإسلام هي تقرير التوحيد تقريراً واضحاً صريحاً لا لبس فيه، وإقراره في العقول والقلوب إقراراً يدفعها إلى العمل به، والتزام شريعته ومنهاجه في كافة نواحي الحياة، ثم نفي الشرك –المضاد لهذا التوحيد- نفياً تاماً في أي صورة من صوره، وتحت أي اسم أو شعار يختفي من وراءه.
... وقد انتهج القرآن الكريم منهجاً خاصاً في تقرير تلك العقيدة وإقرارها، فاتجه إلى الفطرة الإنسانية يخاطب ما هو مركوز فيها من معانٍ تجعل الإيمان بوجود الخالق، وضرورة عبادته وحده أمراً بديهياً لا حاجة فيه لجدل أو سفسطة(1).
__________
(1) ... وقد درج بعض من تناول هذا الأمر بالتحليل ممن تأثر بالفلسفة والاستشراق على أن القرآن قد خاطب الفطرة، وأن "الكلام" قد خاطب العقل، وهذا غير صحيح بل مغرض، فإن الإسلام قد خاطب الفطرة في كافة جوانبها سواء الفطرة الشعورية أو الفطرة العقلية –العقل البديهي- الذي لم يغش عليه بما يفسد استدلاله ويشوش على صحة أحكامه، انظر: خصائص التصور الإسلامي حيث ذكر سيد قطب أن الإسلام خاطب الحس والفكر والبديهية والبصيرة معاً في "تناسق الفطرة"، خصائص التصور الإسلامي /6.(1/301)
... لفت القرآن الأنظار إلى الآيات المبثوثة في الكون والنفس، قال تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } (1)، وقال تعالى { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب } (2)، وحمل الإنسان على التفكير في خلق نفسه، وفي خلق آيات الكون، وفي إخراج النبات الحي من الأرض الميتة، ليدفعه من خلال تلك الصور إلى التفكر ثم التعقل فالتذكر. { خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون } (3)، { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } (4).
... ثم عرض لصفات الباري سبحانه فأوضحها بأسهل طريق وأبين لفظ، قال تعالى: { قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد } (5)، وقال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (6).
... بهذه النصاعة الرائقة، وبهذا الأسلوب البين، وبهذا المنهج الهين اللين الذي لا عوج فيه ولا أمتا، قرر القرآن التوحيد، هذا المنهج الذي يتوجه إلى الفطرة السليمة يلتمس فيها مواطن البديهة العاقلة فيهديها برفق وعمق إلى الحق فتعتقده، ويزكي فيها مكنونات الوجدان والشعور فيدفعها بقوة إلى التعلق برب العالمين(7).
__________
(1) ... الغاشية: 6.
(2) ... آل عمران: 190.
(3) ... النحل: 16.
(4) ... النحل: 4.
(5) ... سورة الإخلاص.
(6) ... الشورى: 11.
(7) ... انظر: إيثار الحق على الخلق لابن المرتضى/ 43 في تفصيل الدلالات لمعرفة الله سبحانه، وقد جعلها الله ثلاث دلالات: دلالة النفس، والآفاق، والمعجزات.(1/302)
... وقد أحسن الرعيل الأول من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في استيعابهم لمقررات القرآن على الطريقة التي قررها، فأحكموا المحكم منه، وردوا إليه متشابهه ليستبين لهم وجه الحق فيه، ولم يضربوا آياته بعضها ببعض ليجعلوا القرآن عضين، بل ركزوا جهودهم على القيام بحقه عملاً لا قولاً، ففتح الله بهم البلاد، وهدى بهم قلوب العباد، حتى أصبح اقتفاء آثارهم هدى، والعدول عن نهجهم ضلالة تفترى.
... لكن الأمر لم يستقم على هذا المنوال، فما أن قضى جيل الصحابة –أو كاد- وما أن فتحت البلدان على المسلمين وتوسعت الرقعة التي يظلها الإسلام بظله، حتى تأثر المسلمون بما وفد عليهم من عوامل ومؤثرات وحتى اختلطوا بأبناء الأمم المفتوحة، الذين كانوا متأثرين بسابق حضاراتهم، وما تحمله ثقافاتهم ودياناتهم من أفكار ومعتقدات، بل ومناهج نظر وبحث تختلف باختلاف تلك الأمم. إلى جانب أن الكثير من أبناء تلك الأمم قد دخلوا الإسلام حاملين ذلك التراث المثقل بركام التصورات القديمة، والمناهج الضالة فكانوا كبذور الفتنة وقد ألقيت في تربة الإسلام، فترعرع منها ما ترعرع من شقاق وتفرق، هذا إلى جانب ما سبقت الإشارة إليه من اتساع نطاق الترجمة والنقل من الثقافات الأخرى خاصة اليونانية في مجال الفلسفة والمنطق.
... كل تلك العوامل أدت إلى نشأة ما عرف بعلم "الكلام" أو "علم التوحيد" كما أطلقوا عليه.(1/303)
... قد ارتبط علم الكلام هذا منذ أول نشأته بظهور فرقة المعتزلة أو ظاهرة "الاعتزال" في الواقع الإسلامي، وإن تسرب بعد ذلك إلى طوائف أخرى من الفرق المبتدعة كالروافض والمرجئة، بل شاع في أوساط كثير من العلماء وكتاباتهم منذ عهد أبي الحسن الأشعري ومن انتسب إليه من الأشاعرة الذين وإن خالفوا المعتزلة في العديد من القضايا، إلا أنهم وافقوهم في انتهاج منهج الكلام في صياغة العقيدة، وقد سمي من انتمى لذلك النهج "المتكلمين"، فكان هناك متكلمو المعتزلة، ومتكلمو الأشاعرة، ومتكلمو الروافض …
تعريف علم الكلام وأمثلة منه:
... تعريف هذا العلم عند أهله –على اختلافهم في تعريفه- أنه: العلم بالعقائد الدينية عن طريق الأدلة اليقينية (أي العقلية في اصطلاحهم)(1).
... لا بأس هنا أن نعرض مثالين يوضحان طريقة تناولهم لمسائل العقيدة الإسلامية، والمنهج الذي انتهجوه لإثباتها:
أولاً: إثبات وجود الله سبحانه:
... أراد علماء الكلام أن يثبتوا وجود الله سبحانه، ثم إثبات النبوات بعد ذلك، حتى يمكن تلقي الأمور الخبرية عن النبوة ويكون ذلك التلقي مبنياً على يقين عقلي، فاستدلوا بدليلين مشهورين:
... أولهما: دليل الحدوث، وملخصه: أن الأجسام الموجودة في العالم تتكون من أجزاء، وهذه الأجسام يمكن قسمتها إلى أجزاء.. وهكذا، ولكن هذا التقسيم لا يستمر إلى مالا نهاية، بل يجب الوقوف عند جزء لا يتجزأ، وهذا الجزء الذي لا يتجزأ هو الجوهر الفرد، وكل الجواهر تتعرض لحالات مختلفة كالحركة والسكون.. وهذه الأحوال يطلقون عليها الأعراض، وهي حادثة لأنها متغيرة، وما دامت الجواهر لا تنفصل عن الأعراض، والأعراض حادثة، فالجواهر إذن حادثة، والأجسام حادثة، والعالم حادث، ومن ثَم فلابد له من محدث وهو الله سبحانه.
__________
(1) ... المقاصد للتفتازاني.(1/304)
... ثانيهما: دليل الممكن والواجب، ويتلخص هذا الدليل في أن كل ما يوجد في العالم كان من الممكن أن يوجد على نحو مخالف لما هو عليه، ومن الممكن أن يخلق الله عالماً أفضل من هذا العالم الحالي، بل من الممكن في هذا العالم أن يصعد الحجر إلى أعلى وأن يهبط اللهب إلى أسفل، وإذا كان الأمر كذلك فالعالم حادث، ولابد له من محدث، وهو الله سبحانه (1).
ثانياً: إثبات اليوم الآخر:
... نهج علماء الكلام لإثبات وجود اليوم الآخر نهجاً جدلياً بعيداً عن العقل المنطقي السليم، فقالوا إن وجود اليوم الآخر ممكن، لأنه لو قدر وجوده لم يلزم من تقدير وجوده محال، فما المانع إذن أن يوجد يوم آخر عقلاً؟.
... ولا شك أن هذه الطريقة الجدلية لا تقف أمام مجادل جَلْد، إذ أنه كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في رده عليهم – أن إمكان الوقوع لا يعني بالضرورة تحقق الوقوع، والممكنات كثيرة لا تدخل تحت حصر ولكن الموجودات لا تمثل إلا جزءاً منها، فما يمنع –حسب قولهم- أن يكون اليوم الآخر من هذا الممكن الذي لا يتحقق؟.
مآخذ أهل السنة على علم الكلام ومنهجه:
أولاً: مخالفة منهج علم الكلام للمنهج القرآني في عرض العقيدة:
... ذكرنا في بداية هذا الفصل لمحة عن نهج القرآن في مخاطبة الناس، وأنه يخاطب الفطرة والعقل والقلب والشعور معاً، ونزيد الأمر إيضاحاً ليتبين لنا أن علم الكلام قد انتهج الطريقة العويصة الباردة التي لا هي طريقة قرآنية شرعية، ولا هي طريقة عقلية تصمد أمام مقررات العقل القوي الحجة، السليم الاستنباط في كثير من الأحيان.
... ولنعد إلى المثال السابق عن إثبات اليوم الآخر لنرى الفرق واضحاً بينه وبين المنهج القرآني.
__________
(1) ... دراسات في الفلسفة الإسلامية لمحمود قاسم/ 134، فتاوى ابن تيمية 2/22.(1/305)
... فالقرآن قد أثبت وجود اليوم الآخر بأدلة سهلة ميسرة، بعكس علم الكلام الذي حاول إثباته أولاً كقضية ذهنية، بأن قرر عدم استحالة ذلك، ثم انتقل إلى تقرير وجوده في الحقيقة بناءً على تلك المقررة الذهنية. أما القرآن فقد نحا منحى عقلياً واقعياً سهلاً ليصل إلى النتيجة المؤكدة.
... فالإنسان يعلم إمكان وجود الشيء، تارة لعلمه بوجود نظيره أو ما يشبهه، وتارة بعلمه بوجود ما هو أكبر وأولى من هذا الشيء.
... فإن ثبت إمكان وجود الشيء بهذين المسلكين، فلابد من بيان قدرة الله سبحانه على تحقيق وجوده بالفعل، فإن ثبت ذلك الأمر، كان لابد من بيان الفائدة التي تترتب على إيجاده بالفعل، إذ أن إمكان تحقق الفعل وقدرة الله سبحانه على إيجاده، وقد لا تعني إيجاده بالضرورة، بل تبقى الفائدة والغاية والمصلحة المتحققة من هذا الأمر، حسب حكمة الله سبحانه في إيجاده له.
... وقد كان ذلك تماماً منهج القرآن في إثبات ذلك الأمر.
... فقد قال تعالى: { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } (1)، وقال تعالى: { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } (2)، فأثبت إمكان وجود اليوم الآخر لوقوع نظيره من الخلق الأول، بل إنه أهون عليه سبحانه في ذلك.
... وقال تعالى: { أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادرٍ على أن يخلقَ مثلهم بلى وهو الخَلاَّق العليم } (3)، فأوضح قدرة الله سبحانه على ذلك. وقال تعالى: { لتُجزى كلُ نفس بما تسعى } (4). فوجود اليوم الآخر الذي قرره القرآن فعلاً، هو لحكمة إلهية عالية يتحقق منها العدل الإلهي، ويتقرر بها مبدأ الثواب والعقاب.
__________
(1) ... الروم: 27.
(2) ... ق: 15.
(3) ... يس: 81.
(4) ... طه: 15.(1/306)
... وقد استعمل القرآن الكريم نفس الأسلوب في تنزيه الله سبحانه عن الشرك والأبناء، فقال: { ويجعلونَ للهِ البناتِ سبحانه ولهم ما يشتهون وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظلَّ وجهُه مسوداً وهو كَظيم } (1)، وقال تعالى: { ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانُكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ تخافونهم كخيفتِكم أنفسَكم } (2)، فهو يقرر سبحانه أنه إذا كنتم تنزهون أنفسكم عن الأمور الناقصة وتكرهون البنات وتحبون الذكور، فكيف تجعلونها له من دونكم؟.
... وإن كنتم لا تحبون أن يكون مملوككم شريكاً لكم ونظيراً فكيف ترضون أن تجعلوا ما هو مخلوق لي ومملوك لي شريكاً يُدعى ويُعبد مِن دوني؟(3).
... وقد أشار سيد قطب رحمه الله تعالى في تعليقه على قوله تعالى: { فأماته الله مائة عام ثم بعثه } (4)، إلى أن المنهج القرآني –عكس منهج المتكلمين- لا يتحدث بطريقة جافة باردة في الموضوعات التي تمس المشاعر، والتي تحتاج إلى دفعة إيمانية نفسية قوية لتثبت في القلوب ثم العقول، كما فعل الله سبحانه حين أراد أن يقر في نفس الذي مر على القرية أن البعث أمر ميسور مقدور لله سبحانه، فإنه أماته هو نفسه ثم أحياه وأشهده بعث حماره رأي العين، دون جدل أو سفسطة(5).
__________
(1) ... النحل: 58.
(2) ... الروم: 28.
(3) ... راجع ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في "درء تعارض العقل والنقل" 1/36.
(4) ... البقرة: 259.
(5) ... في ظلال القرآن: 1/300.(1/307)
... إذن فطريقة علم الكلام مبناها على "استخراج مناقضات الخصوم ومؤاخذاتهم بلزوم مسلماتهم، والتنقير والسؤال، وتوجيه إشكال ثم اشتغاله بحله، والمنهج القرآني يواجه الفطرة بشمولها ويخاطب الكينونة البشرية بكل ما تحتويه دفعة واحدة، فهو كالماء الذي ينتفع به الطفل الرضيع والرجل القوي، لذلك فقد اتبع السلف هذا المنهج في عرض العقيدة فقد "ابتدأ البخاري صحيحه ببدء الوحي ونزوله، فأخبر عن نزول العلم والإيمان على الرسول أولاً، ثم اتبعه بكتاب الإيمان، الذي هو الإقرار بما جاء به، ثم بكتاب العلم الذي هو معرفة ما جاء به، فرتبه الترتيب الحقيقي".
... واتباع هذا المنهج حكمة وهداية، واتباع منهج المتكلمين فيه خبط وخلط ووعورة متكلفة.
ثانياً: إغفال توحيد العبادة الذي هو هدف الرسالات:
... شاع إطلاق اسم التوحيد على علم الكلام وذلك نظراً لموضوعه الذي يبحث فى ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله، ولما جرى بين المتكلمين وبين أصحاب الاعتقادات الباطلة كالمجوس والصابئة واليهود والنصارى من مجادلات ومناقشات حول ذات الله وصفاته والقضاء والقدر… بذلك الأسلوب اليوناني الذي أشرنا إليه من قبل، وقد حرص أرباب هذا العلم على إثبات تلك التسمية لشرفها من جهة، ولظنهم أن توحيد الربوبية هو المطلوب الأول للرسل والحقيقة أن هذا الإطلاق فيه شيء من التمويه قد يكون غير مقصود، إلا أنه قد انخدع به طلبة العلم وصاروا يتداولونه، وكأنه من البديهيات المسلم بها.
... وكان من جراء ذلك أن ارتبط معنى التوحيد في الأذهان بتوحيد الربوبية بشكل عام.(1/308)
... يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وبهذا وغيره يعرف ما وقع من الغلط في مسمى التوحيد، فإن عامة المتكلمين الذين يقررون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع فيقولون: هو واحد في ذاته وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له، وأشهر الأنواع الثلاثة عندهم هو الثالث، وهو توحيد الأفعال، وهو أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب، وأن هذا هو معنى قولنا لا إله إلا الله، حتى يجعلوا معنى الإلهية القدرة على الاختراع"(1).
... هكذا جهد المتكلمون أعظم الجهد لإثبات ما أقر به المشركون، ومن ثم كانت الفجوة واسعة بين مفهوم التوحيد في العقيدة الإسلامبة ومفهوم التوحيد الكلامي عند أربابه، وهذا أدى بدوره إلى ذبول مفهوم الطاعة والاتباع، حتى اقتصر الأمر على مجرد أداء الشعائر، فلما جاء دور إقصاء الشريعة عن الحياة الإسلامية والتحاكم إلى غير شرع الله هان الخطب على الناس، وسهل الأمر على أدعياء العلم أن يغضوا الطرف عن ذلك الأمر الجلل، طالما أن توحيد الربوبية قائم في نفس الحاكم والمحكوم، وأن كتب التوحيد تتداولها الأيدي، ويتدارسها الدارسون. وكان هذا –في نظرنا- من أوخم نتائج الانحراف عن معاني التوحيد الحقيقي، وأسوئها أثراً في الحياة الإسلامية.
ثالثاً: وضع أصول للدين غير ما بيَّنه الله ورسوله:
__________
(1) ... فتاوى ابن تيمية: 3/98.(1/309)
... وضع علماء الكلام أصولاً هي ما قرروه من مشكلات وحلها، ومقدماتها ولوازمها، وسموا ذلك "أصول الدين" واشترطوا على المسلم معرفتها ليصح إسلامه، فعليه أن يعرف أدلة حدوث العالم، وأدلة التمانع والجوهر والعَرَض، وقواعد الحركة والسكون.. إلى غير ذلك مما قرروه في كلامهم، وجعلها بعضهم أول الواجبات على المكلَّف وهي المعرفة وليس أول الواجبات النطق بالشهادتين: "وقد وضع لهم القاضي أبو بكر الباقلاني المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة والأنظار وذلك مثل إثبات الجوهر الفرد والخلاء وأن العرض لا يقوم بالعرض، وأنه لا يبقى زمانين، وأمثال ذلك مما تتوقف عليه أدلتهم، وجعل هذه القواعد تبعاً للعقائد الإيمانية في وجوب إعتقادها"(1).
... وقد أوضح شارح العقيدة "الجوهرة" مذاهب الناس في أول الواجبات على المسلم فقال: "وأهم الأقوال في أول الواجبات: أولاً: ما قاله الأشعري إمام هذا الفن: المعرفة.
... ثانياً: ما قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني(2) : أنه النظر الموصل للمعرفة.
... ثالثاً: ما قاله القاضي الباقلاني: أنه أول نظر، أي المقدمة الأولى منه.
... رابعاً: ما قاله إمام الحرمين(3): أنه القصد إلى النظر، أي تفريغ القلب عن الشواغل.
... خامساً: ما قاله بعضهم: من أنه التقليد.
... سادساً: أنه النطق بالشهادتين"!!. ثم عقب بتصحيح الآراء الثلاثة فقال:
__________
(1) ... صديق حسن خان: أبجد العلوم 2/450.
(2) ... هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم المتوفى 418 هـ، وكان عالماً كبيراً شافعي المذهب برع في علم الكلام والأصول: سير أعلام النبلاء 17/153.
(3) ... هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني الفقيه الشافعي، له مكانه لا تدانى في الفقه والأصول، وكتبه عليها المعول في علم الكلام كالشامل، وكان بليغاً ذكياً تقياً، راجع طبقات الأصوليين 1/260.(1/310)
... "والأصح أنه أول واجب غاية: المعرفة، وأول واجب وسيلة: تربية النظر، وأول واجب وسيلة بعيدة: القصد إلى النظر، وبهذا يجمع بين الأقوال الثلاثة"(1).
... ولا ريب أن ما تقدم يخالف ما عُلم من الدين بالضرورة من أنه أول واجبات المسلم هي النطق بالشهادتين واعتقاد معناهما من توحيد الله وعبادته وحده وضرورة إتباع الرسالة، وأما المعرفة الكلامية، والنظر الموصل إليها وأمثال ذلك فهو مما لا يفترض على المسلم لا أول واجب ولا آخره، وإنما التزموا ذلك لما أطلقوا على مقدماتهم اسم "أصول الدين"، ومعلوم أن أصول الدين يجب على الجميع أن يعرفها وأن يقر بها ليصح إسلامه وأصول الدين التي هذا شأنها مع المسلم، قد بينها الله ورسوله أوفى بيان ولم يدع للمتكلمين مهمة الاستدراك عليه فيها.
... "ولهذا قد اعترف بهذا من أهل الكلام كالأشاعرة وغيرهم، بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم، ولا سلف الأمة وأئمتها، وذكروا أنها محرمة عندهم، بل المحققون على أنها طريقة باطلة"(2).
رابعاً: تعظيم دور العقل وجعله حاكماً لا محكوماً:
... ذلك أن أرباب الكلام قد عظموا العقل وارتضوا أحكامه فيما لا يصلح أن يكون فيه حكماً، فقد كانوا يطرحون المسألة، ثم يعرضونها على العقل –عقل الواحد منهم طبعاً- فيستجمع لها الأدلة كما يتراءى له لإثباتها على وجه من الوجوه، وحين يصل إلى نتيجة وينتهي إلى قرار يعمد إلى الأدلة السمعية فيؤول منها ما لا يوافق نتيجته –إن كانت من آيات الله- أو يرد الحديث بدعوى تناقضه مع العقل أو أنه مبني على الظن.
__________
(1) ... شرح جوهرة التوحيد للباجوري 59.
(2) ... ابن تيمية: الفتاوى 3/303.(1/311)
... يتضح مذهبهم هذا في موقفهم من خبر الواحد مثلاً، فإنهم أنكروا حجيته مطلقاً في الاعتقاد، وأما في باب الأعمال فقد جعلوا من شروط قبوله أن يكون في متن الخبر ما يجوزه العقل ومالم يحتمل تأويلاً صحيحاً فخبره مردود لاستحالة هذا في العقول(1)، ولهم في رد الأحاديث بهذا المنطق فضائح يرجع إليها في مثل كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة.
... وقد وافق بعض كبار الأشاعرة المعتزلة في نسجهم على هذا المنوال، فقالوا إن اليقين لا يثبت إلا بالعقل، وأن المعتمد هو العقل عند التضارب.
... وإنما أُتى هؤلاء من ظنهم أنه قد يكون هناك تعارض بين دليل عقلي قطعي ودليل نقلي صحيح، ومن ظنهم أن الدليل النقلي لا يتضمن الدليل العقلي، مع أن القرآن مليء بالأمثال وهي أقيسة عقلية، ثم كيف تتعارض نصوص الكتاب والسنة مع العقل والكل من عند الله سبحانه؟!.
خامساً: اتخاذ الجدل والمراء وسيلة للبحث في الدين:
... ذلك أن منهج علم الكلام أصلاً بني على: "إن قالوا ..قلنا" أي طريقة الجدل والمراء والخصومة، فهو لازم مذهبهم، عليه بنيت أصولهم، كما رأينا من قبل في تعريف الغزالي له من أنه "إلزام للخصم بلوازم مستنتجة من مقدماته"، وكم أدت بهم هذه الطريقة إلى التزام ما لا يلزم، والانتهاء إلى نتائج قد لا يرضونها أصلاً، وإن أقروا بها خصومة وجدلاً وإشفاقاً من الفرار والتراجع أمام الخصم.
سادساً: النظر إلى الشريعة نظر النقص والافتقار:
... ذلك أن متكلمة المعتزلة قد اعتقدوا في الشريعة التضارب والتخالف، فقد يثبت المعنى الذي يتوهمون في عقولهم، ثم يأتي الحديث الصحيح معارضاً لذلك المعنى، فتجدهم يفرون منه فرار المجذوم من الأسد، ويودون لو أن الحديث لم يرد أصلاً، وإن لم يجدوا مندوحة من قبوله لجأوا إلي تأويله أو رده بحجة أنه حديث آحاد مثلاً، وقل مثل ذلك في الآيات القرآنية التي تثبت عكس مقرراتهم.
__________
(1) ... مختصر الصواعق للرازي 1/252-256.(1/312)
... وإنكارهم للأحاديث الصحيحة الثابتة وردهم لها بدعوى التناقض أكثر من أن يحصى، وقد جمع ابن قتيبة الكثير منها في كتابه "تأويل مختلف الحديث" وأوضح وجه الدلالة فيه، ونجتزئ بإيراد مثالين على ذلك.
1. قالوا حديث يدفعه النظر وحجة العقل رويتم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم، ورحم الله لوطاً إن كان ليأوي إلى ركن شديد، ولو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت"(1). قالوا هذا طعن على إبراهيم، وطعن على لوط، وطعن على نفسه عليهم السلام.
... قال أبو محمد (ابن قتيبة): فأما قوله: "أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم عليه السلام" فإنه لما نزل عليه { وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } قال قوم: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أحق بالشك من أبي إبراهيم، تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه، يريد: إنا لم نشك، ونحن دونه فكيف شك هو ..."(2).
2. قالوا حديث في التشبيه يكذب القرآن وحجة العقل! رويتم –يعنون أهل السنة- "أن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله…" فإن كنتم أردتم بالأصابع هنا النعم، وكان الحديث صحيحاً فهو مذهب، وإن كنتم أردتم الأصابع بعينها فإن ذلك يستحيل لأن الله تعالى لا يوصف بالأعضاء.
__________
(1) ... رواه البخاري ومسلم وأحمد.
(2) ... تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة /65 ، ويقصد - صلى الله عليه وسلم - في الجزء الأخير من الحديث أنه لو دعي للخروج من السجن لمقابلة الملك لخرج قبل ظهور الحجة التامة بالبراءة.(1/313)
... قال أبو محمد: ونحن نقول أن الحديث صحيح، وإن الذي ذهبوا إليه في تأويل الإصبع لا يشبه الحديث.. ولا يجوز أن تكون الإصبع هنا نعمة لقوله في الحديث الآخر "يحمل الأرض على إصبع، وكذا على إصبعين.." ولا نقول إصبع كأصابعنا ولا يد كأيدينا ولا قبضة كقبضتنا لأن كل شيء منه عز وجل لا يشبه شيئاً منا"(1).
... فالدارس للشريعة، والمتأمل لمسائلها وحقائقها عليه "أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان، ويعتبرها كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عَماية. كيف وقد ثبت في الشرع كمالها وتمامها؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق، والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطريق..وأن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأحاديث النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر، بل الجميع جار على مهيع واحد، فإن أداه بادي الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الاختلاف، لأن الله قد شهد له أنه لا اختلاف فيه، فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع، أو المسلم من غير اعتراض(2).
... وبعد، فإننا إن ذهبنا نستقصي ما جناه علم الكلام على الحياة الإسلامية من جرائر لما انتهى بحثنا إلى ما نريده من إيجاز واختصار، وإنما بقى أن ننقل نماذج من تقريرهم لمسائلهم، وتعقيدهم لمقدماتهم ونتائجها، حتى يستشعر القارئ صحة ما ذهبنا إليه من قلة غناء مثل هذا العلم، ويتنبه بنفسه إلى ما فيه من غموض والتواءات قد تشكل حتى على أصحابها.
... انظر إلى كلام متكلمي الأشاعرة عن"القدرة الإلهية" يقول صاحب شرح جوهرة التوحيد: "وللقدرة تعلقات سبع أشار إلى واحد منها وهو الصلوحي القديم. .
... ومعنى التعلق الصلوحي: صلاحيتها إلى الأزل للإيجاد والإعدام، والتعلقات الستة الباقية هي:
تعلق قبضة: وهو تعلقها بعدمنا فيما لا يزال قبل وجودنا.
__________
(1) ... المصدر السابق /641.
(2) ... الاعتصام 2/310.(1/314)
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل بعد العدم السابق.
تعلق قبضة: وهو تعلقها باستمرار الوجود بعد العدم.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإعدامنا بالفعل بعد الوجود.
تعلق قبضة: وهو تعلق باستمرار العدم بعد الوجود.
تعلق بالفعل: وهو تعلقها بإيجادنا بالفعل حين البعث يوم القيامة.
والتعلق هو: طلب الصفة أمراً زائداً على قيامها بالذات"(1).
... ثم يزيد الدسوقي الأمر شرحاً وبياناً ! ! فيقول: " إن القدرة تتعلق بوجود الممكن اتفاقا تعلق تأثير، وكذا تتعلق بعدم الطارئ تعلق تأثير على المعتمد"!(2).
... ثم انظر إلى قولهم في تعلقات السمع والبصر:
"وللسمع والبصر تعلقات ثلاثة:
... أولاً: خلوصي قديم، وهو صلاحيتها في الأزل لاكتشاف ذرات الكائنات وصفاتها بهما فيما لايزال!.
... ثانياً: تنجيزي قديم: وهو انكشاف الذات العليا وصفاتها بهما انكشافاً يغاير انكشاف العلم، إذ لكل صفة حقيقة تخالف حقيقة الأخرى، غير أنهما لا يتعلقان بالأمور العدمية "كالسلوب" والأمور الثبوتية "كالأحوال".
... ثالثاً: تنجيزي حادث: وهو انكشاف الممكنات بعد وجودهما بهما"(3).
... فانظر إلى هذا التعقيد والتخليط، وقارن بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الكمال والجلال، مثل ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رفع الناس أصواتهم بالدعاء: (يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إن الذي تدعون سميع قريب)(4) هكذا دون تعلقات تنجيزية أو صلوحية!.
المراحل التي مر بها علم الكلام:
... مر علم الكلام بأربع مراحل مختلفة تغيرت فيها موضوعات مباحثه، نوجزها فيما يلي:
__________
(1) ... شرح الجوهرة للباجوري /105.
(2) ... حاشية الدسوقي على أم البراهين /100.
(3) ... شرح الجوهرة للباجوري /118.
(4) ... أخرجه البخارى فى كتاب الجهاد (2992) باب ما يكره من رفع الصوت فى التكبير.(1/315)
... المرحلة الأولى: وهي مرحلة متقدمي المتكلمين، كواصل بن عطاء [ت130هـ] وعمرو بن عبيد [ت143هـ] وخالد بن صفوان، ثم أبي الهذيل العلاف [235هـ] وإبراهيم النظام [230هـ].
... وقد تميزت هذه المرحلة بالتأثر بالمصطلحات اليونانية، وخاصة عند المتأخرين منهم كالعلاف، حيث ترجمت كتب الفلسفة اليونانية، فترجم كتاب "الطبيعة" "وما بعد الطبيعة" لأرسطو، وقد ترجمه إسحاق الكندي(1)، وقد كانت المباحث الكلامية في هذه المرحلة حسب موضوعاتها التي يتفق الكلام فيها دون وضع قواعد صريحة لهذا العلم، كما خلت من الاستعانة بعلم المنطق الأرسطي(2).
... المرحلة الثانية: وهي المرحلة التي دخل فيها الأشاعرة معترك "الكلام" في مقابل المعتزلة، ويمثلها من الأشاعرة أبو الحسن الأشعري [330هـ] مؤسس المذهب، وأبو بكر الباقلاني [402هـ]، وهو الذي قام بوضع قواعد علم الكلام ومقدماته التي يحتاج إليها الدارس مثل إثبات الجوهر الفرد، وأن لا يقوم العرض بالعرض…إلخ.
... ومن بعده إمام الحرمين أبي المعالي الجويني [478هـ] الذي صنف على هذه الطريقة كتابه "الشامل" ثم مختصره "الإرشاد" . ومن المعتزلة أبو هاشم الجبائي [320هـ] ومن بعده أبو عبد الله البصري، ثم القاضي عبد الجبار [415هـ].
... المرحلة الثالثة: ويمثلها أبو حامد الغزالي [505هـ] والفخر الرازي حيث تتميز هذه المرحلة بمناقشة كلام الفلاسفة، وإدخال ذلك في "علم الكلام". يقول صاحب أبجد العلوم:" ثم نظروا في تلك القواعد والمقدمات في متن الكلام للمتقدمين، فخالفوا الكثير من البراهين التي أدت إلى ذلك، وربما أن كثيراً منها مقتبس من كلام الفلاسفة في الطبيعيات والإلهيات". كما تتميز باستعمال المنطق الأرسطي في مقدمات علم الكلام ودراسة أدلته وبراهينه.
__________
(1) ... عبد الرحمن بدوي، مذاهب الإسلاميين /184.
(2) ... القنوجي: أبجد العلوم 2/450.(1/316)
... المرحلة الرابعة: ومنها البيضاوي [م691هـ] صاحب "الطوالع" ومن بعده، وتتميز بالخلط بين مذاهب الفلسفة والكلام، واشتباه الأمر فيهما على الكاتب والقارئ جميعاً، ثم يأتي أصحاب التقليد المحض من أتباع الأشاعرة.
... وقد ظهر اتجاه لدى كبار أئمة الكلام من الأشاعرة يدعو إلى التحذير من إشاعة علم الكلام بين العامة، وزعموا أنه يجب قصر ذلك على الخاصة أو من رام الاجتهاد والعلو في الدين، وما نرى ذلك إلا رد فعل لما رأوه من أثر انتشار هذه المباحث على عقيدة الناس، واستقبالهم لعقائد الإيمان ومدى تأثرهم بالقرآن منهجاً وأسلوباً، وما شاع من اختلاط في الأفهام واضطراب في المفاهيم، ومن هؤلاء الأئمة أبو المعالي الجويني في كتابه "الغياثي" حيث صرح بأن من أراد الارتقاء عن مرتبة العوام فله أن ينظر في كتب الكلام التي وضعها، أما العامة فعلى إمام المسلمين أن يجمعهم على عقيدة السلف، وينهاهم عن الخوض في المعميات وتكلف وارد المشتبهات(1). وقد تابعه تلميذه الغزالي في هذا الرأي في مصنفه "إلجام العوام عن علم الكلام".
ذم السلف الصالح لعلم الكلام:
... وقد ذم سلف الأمة علم الكلام، ونهوا عن الخوض فيه أشد النهي، مما يؤكد نفورهم منه، وعدم إجازتهم له وأنه لا يروي غليلاً ولا يشفي عليلاً.
... قال الشافعي رحمه الله: "لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه –ما عدا الشرك- خير له من أن ينظر في الكلام"، وقال: "حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام"(2).
... وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: "لا يصلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة"(3).
__________
(1) ... الغياثي: لأبي المعالى الجويني /190.
(2) ... تلبيس أبليس: لابن الجوزي /82.
(3) ... المصدر السابق: /83.(1/317)
... وقال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"(1).
... وعن أبي يوسف: "من طلب المال بالكيمياء فقد أفلس، ومن طلب الدين بالكلام تزندق"(2).
... ونقل مثل ذلك الاعتقاد علي بن المديني وأبو زرعة الرازي، وأبو حاتم الرازي، وإسحاق بن إبراهيم، والقاسم بن سلام، والليث بن سعد، ومالك، وسفيان الثوري وغيرهم من علماء الأمة الأجلاء، وكلهم ينهون عن النظر في كتب المتكلمين، ويأمرون بترك مجالستهم وهجرانهم(3).
رجوع طوائف من المتكلمين إلى الحق:
... وقد رجع العديد من أئمة المتكلمين إلى الحق من عقيدة السلف الصالح في إثبات الصفات وغير ذلك، ونهوا عما أحدثوه من قبل من كلام في دقائق العقيدة، وأعلنوا التوبة منه والرجوع عنه.
... قال الفخر الرازي –في وصيته التي وردت في كتاب: عيون الأنباء- : "ولقد اخترت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن العظيم، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلال بالكلية لله تعالى، ويمتنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات.. فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته وبراءته عن الشركاء في القدم والأزلية، والتدبير والفعالية، فذاك هو الذي أقول به وألقى الله به.. والذي لم يكن كذلك أقول ديني متابعة محمد سيّد المرسلين"(4).
... وكان أبو المعالي الجويني يقول: " يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ ما تشاغلت به"(5).
__________
(1) ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة: للحافظ اللالكائي 1/145.
(2) ... المصدر السابق 1/147، وكذلك يراجع: صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي.
(3) ... شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 1/151 وما بعدها.
(4) ... عن القائد في تصحيح العقائد /74.
(5) ... تلبيس أبليس لابن الجوزي /85.(1/318)
... أما أبو حامد الغزالي فإنه لم يجد له مغنى في [الكلام]، وكان ذلك مما بعثه على الرجوع في آخر عمره إلى ما كان يرغب عنه، ويرى أنه لا شيء فيه، فأقبل على حفظ القرآن، وسماع الصحيحين، فيقال أنه مات وصحيح البخاري على صدره، ولكنه توفي قبل أن يظهر أثر ذلك في كتبه(1).
... وأما مؤسس المذهب: أبو الحسن الأشعري، فالغريب أن المنتسبين إليه من المقلدة لا يكادون يلقون بالاً إلى حقيقة أنه رجع بنفسه عن منهج الكلام وعن اعتقادات الأشاعرة، وأقر بانتسابه إلى مذهب الحق الذي يمثله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل في عصره وصنف كتابه الأخير على هذا المذهب وهو "الإبانة عن أصول الديانة".
... فكل هؤلاء الأئمة هم من أجلّ أئمة المتكلمين من الأشاعرة، قد ذكروا طريقتهم السابقة، ولو أنها كانت الحق لما زيفوها، وأبانوا عوارها ونقصها، وجعلوا في خاتمة عمرهم يتبرؤون منها… فياليت المحْدَثين من المنتسبين لفكرهم والمقلدين لهم يعتبرون بهذه الحال.
أما عن متكلمي المعتزلة، فإنه لم يعرف عن أحدهم أنه تاب وأناب، وما هذا إلا لإيغالهم في الباطل، وعدم توجه نياتهم لطلب الحق أصلاً، وأنهم رؤوس البدعة، والمنشؤون لها.
الفصل الثاني
عقائد المعتزلة
... تكاد فرق المعتزلة وكبراؤهم يجمعون على أن للاعتزال أصول خمسة تدور حول عقائدهم وقضاياهم، وقد تسلسلت من خلال كل أصل منها عدة مسائل، فكان لابد لهم –وقد أخذوا من عقولهم هادياً- أن يسيروا وراء تلك المسائل، ويلتزموا بالنتائج التي تؤدي إليها.
__________
(1) ... والحق أن للغزالي كلاماً طيباً في قلة غناء علم الكلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة 79-83.(1/319)
... ومن هذه الأصول، أو على رأس هذه الأصول: نفي الصفات (أو التوحيد كما أطلقوا عليه)، فمن خلال استدلالهم العقلي على وجود الله سبحانه التزموا بنفي الصفات، وأداهم ذلك إلى إثبات خلق القرآن، وإلى عدم رؤية المؤمنين لله سبحانه يوم القيامة، وإلى نفي استواء الله على عرشه من فوق سماواته كما أخبر في كتابه الكريم، فناقضوا بذلك محض العقيدة الإسلامية التي ثبتت بنصوص الكتاب والسنة، ونقلها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم التابعون وتابعوهم من سلف هذه الأمة، أهل القرون الثلاثة الفضلى.
... ومن هذه الأصول: نفي القدر (أو العدل كما أسموه) والذي نشأ من قياسهم الفاسد لعدل الله تعالى على عدل البشر، فأداهم ذلك إلى القول بأن أفعال العباد مخلوقة لهم، وليست من خلق الله، بل ولا يقدر على خلقها عند بعضهم! إذ هو سبحانه لا يقدر على الظلم ولا يريده لأنه لا يحبه ولا يرضاه، ومن ثَم أوجبوا على الله تعالى أن يفعل الصالح للعباد!! كذلك فالعباد وحدهم قادرون على إدراك الخير والشر والحسن والقبح بالعقل دون الشرع ، إذ في الأشياء ذاتها قبح وحسن ذاتي، ومن ثم فهم محاسبون ومعاقبون على أفعالهم، ورد الشرع بذلك أم لا!.
... ثم خلطوا في مسائل أخرى كالتولد والاستطاعة، وكثيراً من تلك الأمور التي استلزمتها مقدماتهم العقلية التي ساروا وراءها حتى النهاية فهلكوا وأهلكوا.
... وكذلك في سائر أصولهم الخمسة التي هي المنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
... وسنحاول في الصفحات التالية أن نفصل ما أوجزناه من أصولهم ونتتبع ما ألزموا به أنفسهم خطوة خطوة حتى اكتملت لهم هذه العقائد.
الأصول الخمسة
الأصل الأول: التوحيد عند المعتزلة
تمهيد:
... هذا هو الأصل الأول من أصول المعتزلة الخمسة، وهو عندهم يدور حول ما يثبت لله وما ينفى عنه من الصفات، ويدل على ذلك تعريفهم له.(1/320)
... يقول القاضي عبد الجبار –وهو يعرف التوحيد لغة واصطلاحاً- : "والأصل فيه أن التوحيد في أصل اللغة عبارة عما يصير به الشيء واحداً، كما أن التحريك عبارة عما به يصير به الشيء متحركاً، والتسويد عبارة عما به يصير الشيء أسوداً، ثم يستعمل في الخبر عن كون الشيء واحداً لما لم يكن الخبر صادقاً إلا وهو واحد، فصار ذلك كالإثبات، فإنه في أصل اللغة عبارة عن الإيجاب…"(1).
... وعلى ذلك: فهذا الفصل يبحث في مذهب المعتزلة في صفات الباري تعالى، وما يثبت له وما ينفى عنه، ولذا فإن الكلام في هذا الفصل كما يلي:
المبحث الأول: موقف المعتزلة من الصفات عامة، مع المناقشة، وبيان رأي أهل السنة.
المبحث الثاني: رأي المعتزلة في الإرادة والسمع والبصر والقرآن، مع المناقشة، وبيان رأي أهل السنة.
المبحث الثالث: رأي المعتزلة في الرؤية، وبعض مسائل التشبيه والتجسيم، مع المناقشة، وبيان رأي أهل السنة.
المبحث الأول - موقف المعتزلة من الصفات عامة:
تمهيد:
... لقد ورد في القرآن الكريم آيات قرآنية تثبت صفات الله تعالى، كصفة القدرة، والعلم والإرادة، وكل اسم من أسمائه تعالى يدل على صفة من صفاته، وقد كان الصحابة ومن أتى بعدهم يعتقدون هذه الصفات من غير أن يسألوا عن كنهها أو كيفيتها، ودليل ذلك: أنه لم يرد من طريق صحيح ولا سقيم عن أحد من الصحابة على اختلاف طبقاتهم وكثرة عددهم أنهم سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن معنى شيء مما وصف الرب به نفسه في كتابه، وعلى لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بل كلهم فهموا معنى ذلك وسكتوا.
... إذا كان السلف لم يبحثوا في الصفات ولم يقولوا فيها شيئاً، فكيف نشأت هذه المشكلة؟. إن أول من تكلم في الصفات في الإسلام الجعد بن درهم فإنه نفاها وقال بخلق القرآن، ومن الجعد أخذ الجهم بن صفوان هذه المقالة ونشرها في خرسان.
__________
(1) ... شرح الأصول الخمسة ص128.(1/321)
... وقد أنكر المسلمون هذا القول، ونظروا إليه كبدعة، فضللوا الجهمية، وحذروا الناس منهم، وذموا من جالسهم وكتبوا في الرد عليهم، ثم أن المعتزلة لما ظهروا أخذوا من جملة ما أخذوه من الجهمية القول بنفي الصفات على اختلاف بينهم في طريقة نفيها.
رأي جمهور المعتزلة في الصفات وشبهاتهم والجواب عليها:
... عرفنا أن القول بنفي الصفات قد بدأ قبل ظهور المعتزلة على يد الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان الذي اشتهر بنشره لهذا المذهب، وإليه نسبت فرقة الجهمية(1)، ثم أنه لما ظهرت المعتزلة أخذت من جملة ما أخذته من الجهمية القول بنفي الصفات، ودليل ذلك: أن مؤسس مذهب الاعتزال واصل بن عطاء(2) كان ينفي الصفات معتقداً أن إثباتها يؤدي إلى تعدد القدماء، وذلك شرك، ولذا كان يقول: "إن من أثبت لله معنى وصفة قديمة فقد أثبت إلهين"(3).
... ويرى الشهرستاني أن القول بنفي الصفات كما بدأه واصل كان غير ناضج، لأنه شرع فيه على قول ظاهر، وهو الاتفاق على استحالة وجود إلهين قديمين أزليين(4).
... أما المعتزلة الذين خلفوه فإنهم عاصروا حركة ترجمة الكتب اليونانية والكتب الفارسية إلى العربية التي تشتمل على الفلسفة وبعض الأمور الدينية، وخصوصاً كتب الفلاسفة(5). وكان الفلاسفة يرون أن الله تعالى واجب الوجود بذاته، وأنه واحد من كل وجه(6)، فنفوا صفات الباري تعالى الزائدة على الذات، وقالوا: أنه تعالى عالم بالذات لا بعلم زائد على ذاته.
__________
(1) ... انظر شرح العيون ص293.
(2) ... انظر فرقة الواصلية ص52 من الرسالة.
(3) ... الملل والنحل 1/51.
(4) ... الملل والنحل 1/51 بتصرف.
(5) ... الملل والنحل 1/51 بتصرف.
(6) ... نهاية الإقدام ص90-91 بتصرف.(1/322)
... فهذا أفلوطين وهو الذي تأثر به المسلمون أكثر من تأثرهم بغيره من فلاسفة اليونان، يتحدث عن تعالية الله تعالى، ويمنع أن نطلق عليه صفة من الصفات، لأننا بذلك نشبهه تعالى بالأفراد، فلا نقول أن لله تعالى علماً لأنه هو العلم.. وليس يحتاج تعالى إلى بصر، لأنه ذاته النور الذي يبصر به الناس.
... وقد تأثر المعتزلة بهؤلاء الفلاسفة، فاقتبسوا منهم قولهم في الصفات.
... يقول الغزالي والشهرستاني:" إن المعتزلة وافقوا الفلاسفة على قولهم في الصفات".
... ولذا فإن المعتزلة الذين جاءوا بعد واصل أخذوا بتأثير الفلسفة يفسرون قوله، ويضيفون إليه بعض التعديلات التي لا تؤثر على الجوهر، ويؤيدون ذلك بشبهات عقلية، فقالوا: إن الله عالم بذاته، قادر بذاته لا بعلم وقدرة هي صفات قديمة ومعان قائمة به.
... وقد ذكر ابن المرتضي المعتزلي إجماعهم على ذلك، فقال:" وأما ما أجمعت عليه المعتزلة، فقد أجمعوا على أن للعالم محدثاً قديماً قادراً عالماً حياً لا لمعان ..."(1). وقد تمسكوا في قولهم هذا بشبهات، منها ما يلي:
شبهة:
... يقول أبو الحسن الخياط(2): "إن الله تعالى لو كان عالماً بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديماً أو يكون محدثاً، ولا يمكن أن يكون قديماً، لأن هذا يوجب وجود اثنين قديمين، وهو تعدد وهو قول فاسد، ولا يمكن أن يكون علماً محدثاً، لأنه لو كان كذلك يكون قد أحدثه الله إما في نفسه أو في غيره أو لا في محل، فإن كان أحدثه الله في نفسه أصبح محلاً للحوادث، وما كان محلاً للحوادث فهو حادث، وهذا محال، وإذا أحدثه في غيره كان ذلك الغير عالماً بما حله منه دونه، كما أن من حله اللون فهو المتلون به دون غيره، ولا يعقل أن يكون أحدثه لا في محل، لأن العلم عرض لا يقوم إلا في جسم، فلا يبقى إلا حال واحد، وهو أن الله عالم بذاته".
المناقشة:
__________
(1) ... الملل والنحل 1/51 بتصرف.
(2) ... نهاية الإقدام ص90-91 بتصرف.(1/323)
... يقال لهم: أما قولكم أن الله تعالى لو كان عالماً بعلم، فإما أن يكون ذلك العلم قديماً أو يكون محدثاً، فهذا نوافقكم عليه، فإنه لا ثالث لهذين القسمين.
... وأما قولكم "ولا يمكن أن يكون علماً محدثاً.." فهذا نوافقكم عليه أيضاً، فإن الصفة ليست حادثة بل هي قديمة بقدم موصوفها، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
... بقى الآن قولكم "ولا يمكن أن يكون علماً قديماً، لأنه يوجب تعدد القدماء…".
... ونقول إن قولكم هذا فيه إجمال، ولا نجيبكم عليه حتى نعرف مرادكم منه، إن أردتم بقولكم "علماً قديماً" بمعنى أنه لا ابتداء له ولم يسبقه عدم مطلق، فصفة العلم قديمة بقدم موصوفها، وإذا كان قدمها تابعاً لقدم موصوفها: فليس هناك تعدد قدماء كما تزعمون، بل هناك قديم وصفته، ولا يلزم من كون الصفة قديمة لقدم موصوفها أن يكون هناك تعدد، وإلا للزم أن تكون صفة الإله إلهاً وصفة الإنسان إنساناً، وبطلان هذا لاشك فيه عند من له شيء من العقل، وما يؤدي إلى الباطل فهو باطل، وبذلك يبطل تعدد القدماء الذي تزعمونه من إثبات الصفات، وعليه فإن شبهتكم هذه تنتقض ببطلان أحد مقدماتها، وهو قولكم "ولا يمكن أن يكون قديماً ..." والله أعلم.
رأي أهل السنة والجماعة في الصفات عامة:
... ذكرت رأي المعتزلة في الصفات عامة، وانتهيت إلى أنهم يجمعون على غاية واحدة، وهي نفس إثبات الصفات حقيقة في الذات ومتميزة عنها، وعرضت ما تيسر من شبهاتهم وناقشتها، والآن أبين رأي أهل السنة في الصفات، فأقول وبالله التوفيق:
... يروي ابن تيمية –رحمه الله- رأي أهل السنة والجماعة في الصفات فيقول: "…فمذهب السلف –رضوان الله عليهم- إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية عنها، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، وكذلك إثبات الصفات، وعلى هذا مضى السلف"(1).
__________
(1) ... مجموع الفتاوى ج4 ص6،7.(1/324)
... ويقول في موضع آخر –وهو يروي مذهب السلف في الصفات- :" … فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفياً وإثباتاً، فيثبت لله ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، ثم قال: وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون } (1)، وقال تعالى { إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمناً يوم القيامة أعملوا ما شئتم ... } (2) الآية فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل كما قال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } (3). ففي قوله: { ليس كمثله شيء } رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله تعالى: { وهو السميع البصير } رد للإلحاد والتعطيل"(4).
... هذا موجز رأي أهل السنة والجماعة في الصفات. والله أعلم.
رأي المعتزلة في الإرادة والسمع والبصر والقرآن
ومناقشتهم مع بيان رأي أهل السنة
تمهيد:
... ذكرت –فيما سبق- كلام المعتزلة في الصفات عامة، وما تيسر من شبهاتهم، والجواب عنها، ويدخل في عموم كلامهم الكلام على الإرادة والسمع والبصر والقرآن باعتباره كلام الله.
... ونظراً إلى أن بعض المعتزلة أفردوها بالكلام، فقد رأيت لمزيد الفائدة أن أفردها بالكلام.
رأي المعتزلة في الإرادة ومناقشتهم:
... لقد اختلفت المعتزلة في موقفهم من الإرادة، وأهم آراءهم في ذلك رأيان:
__________
(1) ... الأعراف: 180.
(2) ... فصلت: 40.
(3) ... الشورى: 11.
(4) ... مجموع الفتاوى ج3 ص3،4.(1/325)
... أحدهما: رأي البصريين ومن تابعهم من المعتزلة، ويتلخص هذا الرأي في أن الله تعالى مريد بإرادة حادثة لا في محل(1).
... ثانيهما: للنظام(2) والكعبي ومن تبعهما: وهؤلاء ينفون الإرادة عن الله أصلاً.
... وسنعرض –إن شاء الله- هذين الرأيين من أقوالهم، أو أقوال من نقل عنهم، ثم نرد عليهم، فنقول وبالله التوفيق:
الرأي الأول: رأي البصريين ومن تبعهم:
... يقول القاضي عبد الجبار: "وقال شيخنا أبو علي(3)، وأبو هاشم –رحمهما الله- ومن تبعهما أنه تعالى مريد في الحقيقة، وأنه يحصل مريداً بعد ما لم يكن إذا فعل الإرادة، وأنه يريد بإرادة محدثة، ولا يصح أن يريد لنفسه ولا بإرادة قديمة، وأن إرادته توجد لا في محل"(4).
... ويقول في موضع آخر:" … واعلم أنه تعالى مريد عندنا بإرادة محدثة موجودة لا في محل"(5).
أ. الرد على قول البصريين "الله مريد بإرادة حادثة.." :
... إن قول البصريين بحدوث إرادة الله تعالى باطل، وذلك أنه قد ثبت أن إحداث المحدثات موقوف على الإرادة، فلو كانت الإرادة محدثة لافتقر لإحداثها إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل، والقول بالتسلسل باطل فما يؤدي إليه مثله من القول بحدوث الإرادة(6).
... وأيضاً فإن الإرادة صفة، والصفة قديمة بقدم موصوفها(7). كما بيناه في مقام سابق عند الرد على رأي جمهور المعتزلة في الصفات عامة.
ب. الرد على المعتزلة "الله مريد بإرادة… لا في محل":
... إن قول المعتزلة: "الله مريد بإرادة… لا في محل" باطل من وجوه منها:
__________
(1) ... انظر شرح الأصول الخمسة ص440.
(2) ... انظر فرقة النظامية ص56 من الرسالة.
(3) ... أبو علي الجبائي: انظر فرقة الجبائية ص73 من الرسالة.
(4) ... المغني في أبواب العدل والتوحيد ج6 ص3.
(5) ... شرح الأصول الخمسة ص440.
(6) ... الأربعين في أصول الدين ص153،154، ونهاية الإقدام ص245 بتصرف.
(7) ... انظر منهاج السنة ج2 ص95.(1/326)
... الأول: أن وجود عرض لا في محل بعيد عن العقول، ولو جاز ذلك فلِمَ لا يجوز سواد لا في محل وبياض لا في محل؟، وكذا القول في سائر الأعراض(1).
... يقول الشهرستاني في معرض رده على من قال بهذا القول: "ويستحيل كون الإرادة لا في محل، فإن الإرادة من جملة الأعراض، واحتياج الأعراض إلى المحل صفة ذاتية لها، ومن المحال ثبوتها دون الوصف الذاتي….."(2).
... وإذا كانت الأعراض تستلزم محلاً تقوم به، فإن الإرادة تستلزم محلاً تقوم به كسائر الأعراض، وعليه فإن القول بأن الله مريد بإرادة لا في محل باطل.
... الثاني: يلزم على قولكم "الله مريد بإرادة لا في محل" "أن يكون الله مريداً بإرادة قائمة لا في ذاته، ولو جاز أن يكون تعالى مريداً بإرادة قائمة لا في ذاته لجاز أن يكون عالماً بعلم قائم لا في ذاته، وقادر بقدرة قائمة لا في ذاته، إلى غير ذلك من الصفات، وهذا لا تقولون به، ولجاز أيضاً أن يكون الواحد منا عالماً وقادراً بعلم قائم لا في ذاته وقدرة قائمة لا في ذاته، وهذا مما لا تقولون به أيضاً، والتحكم بالفرق من غير دليل مما لا سبيل إليه.
... وهذه اللوازم معلوم بطلانها بالضرورة، بل أنتم لا توافقون عليها، وإن كانت هذه اللوازم باطلة بطل ما يؤدي إليها من القول بأن الله مريد بإرادة… لا في محل.
... وبما ذكرنا يظهر بطلان قول المعتزلة "الله مريد بإرادة حادثة لا في محل، ويتبين أن إرادته تعالى أزلية قائمة في ذاته تعالى. والله أعلم.
الرأي الثاني: رأي النظام والكعبي ومن تبعهما في الإرادة:
__________
(1) ... الأربعين في أصول الدين ص154 بتصرف. ...
(2) ... نهاية الإقدام ص243.(1/327)
... قالا: إن الله تعالى غير مريد على الحقيقة وأنه لا يوصف بها إلا مجازاً، فإن قلنا أن الله تعالى مريد في الأزل، فمعناه أنه عالم قادر غير مكره على فعله، ولا كاره له، وإذا قلنا أنه مريد لأفعاله فالمراد أنه خالقها ومنشئها على وفق علمه، وإذا قلنا أنه مريد لأفعال عباده فالمعنى أنه آمر بها.
المناقشة:
... أولاً: يقال لهم: إذا زعمتم أنه قد كان في سلطان الله عز وجل الكفر والعصيان وهو لا يريدها، وأراد أن يؤمن الخلق أجمعون فلم يؤمنوا، فقد وجب على قولكم أن أكثر ما شاء الله أن يكون لم يكن، وأكثر ما شاء الله أن لا يكون كان، وهذا جحد لما أجمع عليه المسلمون من أن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لا يكون(1).
... ثانياً: يلزم على قولكم بنفي الإرادة أن تكون الأفعال غير اختيارية شبيهة بالأفعال الطبيعية عند أهل الطبائع، وهذا باطل فما يؤدي إليه مثله(2).
... ثالثاً: يلزم من نفي الإرادة عن الله تعالى وصفه بالعجز، وهو صفة نقص، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ووصف الله بالنقص باطل، فما يؤدي إليه مثله.
رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر ومناقشتهم:
... لقد اختلف المعتزلة في المقصود بهاتين الصفتين بعد أن اتفقوا عموماً على نفيهما، فلا هما قديمان، ولا هما حادثان.
... يقول الشهرستاني: "واتفقت المعتزلة على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته تعالى، لكن اختلفوا في وجوه وجودها، ومحامل معانيها ..."(3).
القول الأول: قول الجبائي وابنه، ومن تابعهما من البصريين:
... ويتلخص رأيهم في أن الله سميع بصير، بمعنى أنه حيّ لا آفة تمنعه من إدراك المسموع والمرئي إذا وجدا، ذلك أنهم.. يرون أن الحي إذا سلمت نفسه عن الآفة سُمي سميعاً بصيراً.
__________
(1) ... الإبانة عن أصول الديانة ص163، والاقتصاد في الاعتقاد ص108، بتصرف.
(2) ... نهاية الإقدام ص245 بتصرف.
(3) ... الملل والنحل ج1 ص49.(1/328)
... ويحكي الشهرستاني آراء المعتزلة في معنى كونه تعالى سميعاً بصيراً، فيقول: "… ومن قال من المعتزلة أن المعني بكونه سميعاً بصيراً، أنه حي لا آفة به، فمذهبه بخلاف مذهب الكعبي، وهو الذي صار إليه الجبائي وابنه ..."(1).
القول الثاني: رأي النظام والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين في معنى السميع البصير:
... ويتلخص رأيهم في أن الله تعالى لا يسمع ولا يبصر شيئاً على الحقيقة، وتأولوا وصفه بالسميع والبصير، على معنى العلم بالمسموعات والمرئيات.
... يقول الشهرستاني: "وذهب الكعبي، ومن تابعه من البغداديين إلى أن معنى كونه تعالى سميعاً بصيراً أنه عالم بالمسموعات والمبصرات ..."(2).
... ويقول البغدادي: "وزعم الكعبي أن الله تعالى لا يرى نفسه ولا غيره، إلا على معنى علمه بنفسه وبغيره، وتبع النظام في قوله: إن الله لا يرى شيئاً في الحقيقة…"(3).
مناقشة رأي المعتزلة في صفتي السمع والبصر:
... أولاً: الرد على المعتزلة في نفيهم لصفتي السمع والبصر:
... إن قول المعتزلة بنفي صفتي السمع والبصر عن الله تعالى باطل، وبيان ذلك أن النقل والعقل قد دلا على ثبوت صفتي السمع والبصر له تعالى، فالقول بنفيهما مخالفة للنقل الصريح من الكتاب والسنة، ومخالفة للعقل الصحيح، وما خالفهما باطل بالاتفاق.
... فمن النقل: قوله تعالى: { ..ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } ، ففي هذه الآية دلالة صريحة على وصف الله تعالى بالسمع والبصر.
... وقال تعالى –حاكياً ما قاله إبراهيم عليه السلام لأبيه-: { …لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } (4).
__________
(1) ... نهاية الإقدام ص341.
(2) ... نهاية الإقدام ص341.
(3) ... الفرق بين الفرق ص181.
(4) ... مريم: 42.(1/329)
... ووجه الدلالة: يقول ابن خزيمة(1): "أفليس من المحال أن يقول خليل الرحمن لأبيه: { …لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصر… } الآية، فيعيبه بعبادة ما لا يسمع ولا يبصر، ثم يدعوه إلى عبادة ما لا يسمع ولا يبصر كالأصنام التي هي من الموتى لا من الحيوان..."(2). فدل ذلك على ثبوت صفتي السمع والبصر له تعالى على ما يليق بجلاله.
... وقال تعالى: { أفأنت تكون عليه وكيلاً أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً } (3).
... ووجه الدلالة: يقول ابن خزيمة: إن الله تعالى أخبر بهذه الآية أن من لا يسمع، ولا يعقل كالأنعام، فدل على ثبوت صفتي السمع والبصر له سبحانه وتعالى، وإلا لزم اتصافه تعالى بصفات النقص التي أثبتها لمن لا يسمع… تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً"(4).
... وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فكنا إذا علونا كبرنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أرْبِعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً قريباً…" الحديث(5).
... ففي هذا الحديث كالآيات دلالة على اتصافه تعالى بصفتي السمع والبصر قائمتين بذاته تعالى حقيقة.
__________
(1) ... محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النييسابوري الشافعي (أبو بكر) محدث مشارك في بعض العلوم، ولد بنيسابور سنة 223 هـ، وطوف البلاد في طلب العلم وسماع الحديث، وتوفي بنيسابور في ذي القعدة سنة 311 هـ. من مؤلفاته: المختصر الصحيح،والتوحيد في إثبات صفات الرب، انظر: تذكرة الحفاظ للذهبي ج2ص 259-268،والأعلام ج6ص253.
(2) ... التوحيد ص 33.
(3) ... الفرقان: 44.
(4) ... التوحيد ص 46.
(5) ... أخرجه البخاري برقم 7386 في كتاب التوحيد، في باب: "وكان الله سميعاً بصيراً" ، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج13 ص 372.(1/330)
... يقول البيهقي(1)- في كتابه: الأسماء والصفات- : "السميع من له سمع يدرك به المسموعات، والبصير: من له بصر يدرك به المرئيات، ولكل منهما في حق الباري تعالى صفة قائمة بذاته تعالى(2).
... ومن العقل ما يقول الباقلاني: حيث قال: " والدليل على أن الله تعالى سميع بصير… أنه قد ثبت أنه تعالى حي، والحي يصح أن يكون سميعاً بصيراً… ومن عرى من هذه الأوصاف مع صحة وصفه بها، فلابد من أن يكون موصوفاً بأضدادها… من العمى والصمم، وهذه الأمور آفات قد اتفق على أنها تدل على حدوث الموصوف بها، فلم يجز وصف القديم بشيء منها، فوجب أن يكون سميعاً بصيراً ..."(3).
... وإذا ثبت بالنقل والعقل، أنه تعالى سميع بصير، بطل ما يزعمه النفاة، من أنه تعالى ليس ليس بسميع ولا بصير بسمع وبصر قائمين في ذاته تعالى على ما يليق بجلاله.
... إضافة إلى هذا: فإنه سبق أن عرضت لشبهات المعتزلة في نفي الصفات في مبحث: موقف المعتزلة من الصفات عامة، ورددت عليها، وعلى ذلك فإنه يبطل رأي المعتزلة في نفي صفتي السمع والبصر ببطلان رأيهم في نفي سائر الصفات، لأن شبهاتهم التي نفوا بسببها الصفات: عامة لجميع الصفات، وليست خاصة بصفات بعينها. والله أعلم، وهو ولي التوفيق.
__________
(1) ... هو أحمد بن الحسين بن علي أبو بكر من أئمة الحديث، ولد في خسرو جرد من قرى بيهق بنيسابور سنة 384هـ ونشأ بها، ورحل إلى بغداد ثم الكوفة… وعاد إلى نيسابور فلم يزل بها إلى أن مات سنة 458هـ. قال إمام الحرمين: ما من شافعي إلا وللشافعي فضل عليه غير البيهقي، فإن له الحق والفضل على الشافعي لكثرة تصانيفه في نصرة مذهبه. له مؤلفات منها: السنن الكبرى، والسنن الصغرى، والأسماء والصفات، والترغيب والترهيب. انظر الأعلام للزركلي ج1 ص116، وطبقات الشافعية ج1 ص3.
(2) ... عقيدة السفاريني ج1 ص122.
(3) ... التمهيد ص 26،27، وانظر اللمع للأشعري ص26، والإرشاد ص72،73. ...(1/331)
... ثانياً: الرد على الجبائي وابنه، ومن تابعهما من البصريين في تأويلهم السميع والبصير بالحي الذي لا آفة له:
... أولاً: يقال لهم: أطلقتم القول بنفي الآفة، وهو ليس بشرط بالاتفاق، فإن السميع والبصير قد يكن ذا آفة، وذا آفات كثيرة(1).
... ثانياً: يقول الشهرستاني –وهو يرد على الجبائي ومن معه- : "نحن ندرك تفرقة ضرورية بين كون الإنسان سميعاً وبين كونه بصيراً، وهما متفقان في أن معنى كل واحد منهما أنه حي لا آفة به، فهذه التفرقة ترجع إلى ماذا؟ فلابد من أمرين زائدين على كونه حياً لا آفة به حتى يكون بأحدهما سميعاً وبالثاني بصيراً، وإلا فتبطل التفرقة الضرورية، فالذي انفصل به السمع عن البصر وراء كونه حياً لا آفة به، فكذلك الذي انفصل به السمع والبصر عن العلم وسائر الصفات وراء كونه حياً لا آفة به.
... ثالثاً: الرد على البغداديين في تأويلهم صفتي السمع والبصر بالعلم:
... عرفنا –فيما سبق- أن النظام والكعبي، ومن تابعهما من البغداديين أنهم يرون أن المراد بوصف الله بالسمع والبصر إنما المراد به العلم، فقولنا: الله سميع بصير،أي:عليم.وهذا القول ظاهر البطلان لما يلي:
1. أن في هذا القول نفي لصفتي السمع والبصر قائمتين بذاته تعالى حقيقة، وتأويل لهما بالعلم، مع أنه روى أبو هريرة رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: { إن الله كان سميعاً بصيراً } فوضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينيه"(2).
__________
(1) ... انظر نهاية الإقدام ص346.
(2) ... النساء: 58. والحديث رواه أبو داود برقم 4728، يقول الحافظ أحمد بن علي بن حجر في الفتح بعد سياقه الحديث قال: أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم من رواية أبي يونس عن أبي هريرة: انظر فتح الباري ج13 ص373.(1/332)
... يقول ابن القيم(1) رحمه الله: "وإنما فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - رفعاً لتوهم متوهم أن السمع والبصر غير العينين المعلومتين ..."(2).
... ويقول البيهقي، بعد أن أورد هذا الحديث للدلالة على ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى قال: "والمراد بالإشارة المروية في هذا الخبر تحقيق الوصف لله عز وجل بالسمع والبصر، فأشار إلى محلي السمع والبصر منا لإثبات صفة السمع والبصر لله تعالى، كما يقال: قبض فلان على مال لفلان، ويشار باليد على معنى أنه حاز ماله، وأفاد هذا الخبر أنه سميع بصير له سمع وبصر حقيقيان، لا على معنى أنه عليم إذ لو كان بمعنى العلم لأشار في تحقيقه إلى القلب، لأنه محل العلوم منا، وليس في الخبر إثبات الجارحة تعالى الله عن شبه المخلوقين علواً كبيراً…"(3).
... فدل هذا الحديث على ثبوت صفتي السمع والبصر لله تعالى حقيقة، وبطلان تأويلهما بالعلم.
2. إن ألفاظ الشرع إنما تصرف عن موضوعاتها المفهومة السابقة إلى الأذهان إذا كان يستحيل تقديرها على الموضوع، ولا استحالة في كونه سميعاً بصيراً، بل يجب أن يكون كذلك، فلا معنى للتحكم بإنكار ما فهمه أهل الإجماع من القرآن.
رأي المعتزلة في القرآن ومناقشتهم:
__________
(1) ... هو محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد الزرعي الدمشقي (أبو عبد الله شمس الدين) مولده ووفاته في دمشق، ولد سنة 691، وتوفي سنة 751 هـ، تتلمذ على شيخ الإسلام ابن تيمية حتى كان لا يخرج عن شيء من أقواله، وقد سجن معه في قلعة دمشق، وأهين وعذب بسببه، ثم أطلق بعد وفاة ابن تيمية، كان حسن الخلق محبوباً عند الناس. له مؤلفات كثيرة منها: أعلام الموقعين، وشفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ومفتاح دار السعادة، وزاد المعاد، والصواعق المرسلة: انظر طبقات الشافعية ج6 ص44، والأعلام ج6 ص 280.
(2) ... مختصر الصواعق المرسلة: ص 460،461.
(3) ... الأسماء والصفات للبيهقي ص180.(1/333)
... المعتزلة قد اختلفوا في الكلام هل هو جسم أم لا ؟ إلا أنهم اتفقوا على أنه مخلوق.
... يقول القاضي عبد الجبار، وهو يتكلم عن مذاهب الناس في القرآن: "وأما مذهبنا فهو أن القرآن كلام الله تعالى ووحيه، وهو مخلوق محدث…"(1).
... وقد تمسكوا في قولهم هذا بشبهات نقلية وعقلية، منها ما يلي:
الشبهة الأولى: قال تعالى: { الله خالق كل شيء } (2) الآية.
... ووجه الدلالة: يقول القاضي، بعد أن أورد هذه الآية: "الآية تدل بعمومها على حدوث القرآن، وأنه تعالى خلقه… ولا دلالة توجب خروج القرآن من هذا العموم، فيجب دخوله فيه".
المناقشة:
... يقال لهم: إن تمسككم بهذه الآية على زعم أن القرآن شيء فيكون داخلاً في عموم كل، فيكون مخلوقاً لمن أعجب العجب!، وذلك أن أفعال العباد كلها عندكم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها لا يخلقها الله، فأخرجتموها من عموم كل، وأدخلتم كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكونت المخلوقات. قال تعالى: { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر… } (3) الآية. ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل، وهو باطل.
... وطرد باطلكم أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء وقدرته شيء… فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما تقولون علواً كبيراً.
__________
(1) ... شرح الأصول الخمسة ص528.
(2) ... الرعد: 16.
(3) ... الأعراف: 54.(1/334)
... وأيضاً كيف يصح أن يكون الله متكلماً بكلام يقوم بغيره، ولو صح ذلك، للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه، وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، وألا يفرق بين نطق وأنطق… بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره زوراً كان أو كذباً، تعالى الله عن ذلك، ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير أعمى، والعكس، ولصح أن يوصف تعالى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان وغيرها.
... أما تمسككم بعموم كل فإن عمومها في كل موضع بحسبه، ألا ترى… قوله تعالى: { تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } (1)، ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟، وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة، وما يستحق التدمير، وكذلك قوله تعالى حكاية عن بلقيس: { وأوتيت من كل شيء } (2) الآية، والمراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام.
... وعلى هذا فالمراد من قوله تعالى: { الله خالق كل شيء } (3) الآية. أي كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى وصفاته، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه(4).
... وبما أن القرآن كلام الله، وكلامه تعالى صفة من صفاته، إذن القرآن ليس داخلاً في عموم الآية، فهو ليس مخلوقاً، وبذلك يبطل استدلالكم بهذه الآية. والله أعلم.
الشبهة الثانية: قال تعالى: { إنا جعلناه قرآناً عربياً } (5) الآية.
__________
(1) ... الأحقاف: 25.
(2) ... النمل: 23.
(3) ... الزمر: 62.
(4) ... شرح الطحاوية ص183-186، وانظر فتاوى ابن تيمية ج5 ص54.
(5) ... الزخرف: 30.(1/335)
... ووجه الدلالة: يقول القاضي: " وقوله: { إنا جعلناه قرآناً عربياً } يوجب حدوثه، لأن الجعل والفعل سواء في الحقيقة… فدل ذلك على حدوث القرآن"(1).
... ويقول الزمخشري(2): " { إنا جعلناه قرآناً عربياً } أي خلقناه عربياً غير عجمي إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته…"(3).
الجواب عن هذه الشبهة: إن استدلال المعتزلة بهذه الآية باطل من وجوه، منها:
... أولاً: أن (جعل) تكون بمعنى: خلق إذا تعدت إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: { وجعل الظلمات والنور } (4) الآية، وقوله تعالى: { وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } (5).
... ما إذا تعدت إلى مفعولين لم تكن بمعنى خلق، قال تعالى: { ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } (6) الآية، وقال تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم } (7) الآية. والآية التي استدلوا بها: (جعل) فيها قد تعدت إلى مفعولين، فهي ليست بمعنى خلق(8).
الشبهة الثالثة:
__________
(1) ... المغني في أبواب العدل والتوحيد ج7 ص94.
(2) ... هو محمد بن عمر بن محمد الخوارزمي الزمخشري (أبو القاسم جار الله) مفسر محدث متكلم نحوي… ولد بـ"زمخشر" من قرى خوارزم في رجب سنة 467 هـ وقدم بغداد وسمع الحديث، وتفقه، ورحل إلى مكة فجاور بها ولذا سمي جار الله، وتوفي = =بـ"جرجانية" خوارزم ليلة عرفة بعد رجوعه من مكة سنة 538 هـ. له مؤلفات منها: ربيع الأبرار ونصوص الأخبار والكشاف عن حقائق التنزيل: انظر وفيات الأعيان ج2ص107،110، ومعجم المؤلفين ج12 ص186.
(3) ... الكشاف للزمخشري ج3 ص477.
(4) ... الأنعام: 1.
(5) ... الأنبياء: 30.
(6) ... النحل: 91.
(7) ... البقرة: 224.
(8) ... شرح العقيدة الطحاوية: ص186 بتصرف.(1/336)
... قول القاضي عبد الجبار: "وقوله تعالى: { … نودي من شاطئ الوادِ الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } (1) يوجب حدوث النداء، لأنه جعل الشجرة ابتداء غايته، وهذا يوجب حدوثه فيها"(2).
... يروي الرازي استدلال المعتزلة بهذه الآية فيقول: "احتجت المعتزلة على قوله إن الله تعالى تكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله تعالى: { …من الشجرة } ، فإن هذا صريح في أن موسى عليه السلام سمع النداء من الشجرة، والمتكلم بذلك النداء هو الله سبحانه وتعالى، وهو تعالى منزه أن يكون في جسم، فثبت أنه تعالى إنما يتكلم بخلق الكلام في جسم".
الجواب عن هذه الشبهة:
... قال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة، فسمعه موسى منها باطل، ودليل ذلك أول الآية وآخرها، فأما أولها: فقوله تعالى: { فلما أتاها نودي من شاطئ الوادِ الأيمن } الآية، والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: { في البقعة المباركة من الشجرة } ، أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة، كما تقول سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت ابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ومثل ذلك قوله تعالى: { .. من الشجرة.. } الآية، لابتداء الغاية لا أن الشجرة هي المتكلمة. وفي آخر الآية لو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت هي القائلة { إني أنا الله رب العالمين } وهو باطل وما يؤدي إلى الباطل مثله.
رأي المعتزلة في الرؤية:
... قول القاضي عبد الجبار: "فأما أهل العدل بأسرهم، والزيدية، والخوارج، وأكثر المرجئة، فإنهم قالوا: لا يجوز أن يُرى الله تعالى بالبصر، ولا يدرك به على وجه لا لحجاب ومانع، ولكن لأن ذلك يستحيل"(3).
شبهات المعتزلة التي تمسكوا بها في نفي الرؤية ومناقشتها:
الشبهة الأولى:
__________
(1) ... القصص: 30.
(2) ... متشابه القرآن ج2 ص545.
(3) ... المغني ج4 ص139.(1/337)
... قال تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } (1).
... وجه الدلالة: يقول القاضي، بعد أن أورد هذه الآية : "ووجه دلالة الآية: هو ما قد ثبت من أن الإدراك إذا قرن بالبصر لا يحتمل إلا الرؤية، وثبت أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، ونجد في ذلك تمدحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان من نفيه تمدحاً راجعاً إلى ذاته كان إثباته نقصاً والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال".
المناقشة: إن استدلال المعتزلة بهذه الآية على نفي الرؤية باطل من وجوه منها:
... أولاً: أن الله تعالى إنما نفى الإدراك، والإدراك في اللغة معنى زائد على النظر والرؤية، وهو بمعنى الإحاطة، وليس هذا المعنى في النظر، فالإدراك منفي عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة، فلا شيء يحيط به، والدليل على أن الإدراك معنى زائد قوله تعالى: { فلما ترآى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون قال كلا إن معى ربي سيهدين } (2)، فقد فرق الله تعالى بين الإدراك والرؤية فرقاً جلياً: حيث أثبت الرؤية بقوله: { فلما ترآى الجمعان } ، وأخبر أنه رأى بعضهم بعضاً، فصحت منهم الرؤية، ونفى الإدراك بقول موسى عليه السلام لهم { قال كلا إن معى ربي سيهدين } ، فأخبر تعالى أن رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركوهم، ولا شك في أن ما نفاه الله تعالى: هو غير ما أثبته: فالإدراك غير الرؤية(3). وإذا كان الإدراك غير الرؤية فلا دلالة في الآية على نفي الرؤية، لأن المنفي إنما هو الإدراك، ولا مانع من كون الشيء مرئياً وليس مدركاً كما في هذه الآية التي تحكي قصة فرعون وموسى. والله أعلم.
__________
(1) ... الأنعام: 103.
(2) ... الشعراء: 61.
(3) ... الفصل ج3 ص3-4 بتصرف.(1/338)
... ثانياً: الآية حجة عليكم أيها النفاة وليست لكم، وذلك لأن الإدراك إما أن يراد به مطلق الرؤية، أو الرؤية المقيدة بالإحاطة، والأول باطل، لأنه ليس كل من رأى شيئاً يقال أنه أدركه، كما لا يقال أنه أحاط به، وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذلك فقال: "ألست ترى السماء؟ قال: بلى.قال: أكلها ترى؟ قال: لا"، فدل قول ابن عباس على أن مطلق الرؤية لا يتضمن الإدراك.
... ومما يؤيد قول ابن عباس أن الرائي يرى جوانب الجيش أو الجبل أو المدينة ولا يقال أنه أدركها، وإنما يقال أدركها إذا أحاط بها رؤية.
... وإذا بطل أن يكون المراد بالإدراك مطلق الرؤية لم يبق إلا أن يكون المراد به الرؤية المقيدة بالإحاطة، والرؤية المقيدة بالإحاطة مما يجب نفيه عن الله تعالى، فإنه لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علماً. ولا يلزم من نفي إحاطة الرؤية والعلم، نفي العلم والرؤية، بل يكون دليلاً على أنه يرى ولا يحاط به، كما يعلم ولا يحاط به، فإن تخصيص الإحاطة بالنفي، يقتضي أن الرؤية ليست بمنفية، لأن تخصيص الأكبر بالنفي يقتضي أن الأصغر ثابت، كما لو قلت ليس عندي مائة درهم فإنه لا ينافي وجود ما هو أقل من المائة، بل يكون دليلاً على وجودها.
... ومما يؤكد دلالة الآية على الرؤية أن الله تعالى ذكرها ليمدح بها نفسه ومعلوم أن كون الشيء لا يرى ليست صفة مدح، لأن النفي المحض لا يكون مدحاً، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً ثبوتياً: كمدحه بنفي السِّنة والنوم المتضمن كمال القيومية…ولهذا لم يتمدح تعالى بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً. لأن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه. فدل هذا على أن الآية تتضمن أمراً ثبوتياً، وهو أنه تعالى يُرى، ولا يدرك ولا يحاط به لكماله وعظمته.
... وبذلك يبطل استدلال المعتزلة بهذه الآية. والله أعلم.
الشبهة الثانية:(1/339)
... يقول القاضي: وقد استدل شيوخنا رحمهم الله تعالى على أنه تعالى لا يرى بالأبصار بقوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: { قال رب أرني انظر إليك… } (1) الآية، وإجابته إياه بقوله: { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني… } (2) فنفى أن يراه.
المناقشة:
... والجواب على هذه الشبهة هو أن يقال لهم: إن استدلالكم بهذه الآية على نفي الرؤية باطل، فإنه لا دلالة فيها على ما تزعمون، بل هو دليل عليكم، وبيان ذلك من وجوه منها:
... الأول: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته، أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو من أعظم المحال.
... الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله وقال: { …إني أعظك أن تكون من الجاهلين } (3).
... الثالث: أنه تعالى قال: { لن تراني } ، ولم يقل إني لا أُرى، أو لا تجوز رؤيتي، أو لست بمرأي، والفرق بين الجوابين ظاهر. ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً، فقال: أطعمنيه، فالجواب الصحيح: أنه لا يؤكل، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه:
... الوجه الرابع: وهو قوله: { ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني } (4). فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟!.
... الخامس: أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علَّق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندكم سواء.
__________
(1) ... الأعراف: 143.
(2) ... الأعراف: 143.
(3) ... هود: 46.
(4) ... الأعراف: 143.(1/340)
... السادس: قوله تعالى: { فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً ... } (1) الآية، فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله تعالى أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
... السابع: أن الله كلم موسى، وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يسمع مخاطبة كلامه بغير واسطة – فرؤيته أولى بالجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما.
... وأما دعواهم تأبيد النفي بـ(لن) وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة ففاسد، فإنها لو قيدت بالتأبيد لم تدل على دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت؟! قال تعالى: { ولن يتمنوه أبداً ... } (2) مع قوله: { ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك } (3)، ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها وقد جاء ذلك، قال تعالى: { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ... } (4) الآية، فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد.
... قال جمال الدين بن مالك(5): "ومن رأى النفي بلن مؤبداً = فقوله أردد وسواه فاعضدا"(6).
... وإذا كانت الآية دليلاً عليهم لم يبق لهم استدلال بها. والله أعلم.
... أما الأحاديث النبوية فقالوا: ... إنها أحاديث أحاد، وأحاديث الآحاد لا تؤخذ منها عقيدة، بل طعنوا في صحة أسانيدها ورواتها.
مناقشة المعتزلة في تأويلهم للآيات القرآنية، وردهم للأحاديث النبوية المثبتة للرؤية:
أولاً: الآيات القرآنية:
__________
(1) ... الأعراف: 143.
(2) ... البقرة: 95.
(3) ... الزخرف: 77.
(4) ... يوسف: 80.
(5) ... هو الإمام الحجة الثبت أبي عبد الله محمد جمال الدين بن مالك، صاحب الألفية المشهورة في النحو والصرف، وهي عبارة عن أرجوزة. ولد بجيان سنة 600، وتوفي بدمشق سنة 672 من الهجرة. وقد شرح ألفيته كثيرون أشهرهم ابن عقيل.
(6) ... شرح الطحاوية ص 206،207،208 بتصرف.(1/341)
... ذكرنا آنفاً أن المعتزلة أولوا جميع الآيات القرآنية الدالة على الرؤية. ولم يعتبروا شيئاً منها يدل دلالة حقيقية على الرؤية، وأتينا بمثالين من الآيات التي أولوها:
الأول: قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } (1).
... أولوها: بأن المعنى: وجوه يومئذ ناضرة نعم ربها –منتظرة- ونقول هذا التأويل باطل لما يلي:
أ. أن الله تعالى أخبر أن تلك الوجوه قد حصلت لها النضرة وهي النعمة، فإذا حصلت لها النعمة فبعيد أن ينتظر ما قد حصل لها، وإنما ينتظر ما لم يقع بعد.
ب. تواتر الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ببيان أن المراد بالنظر هو الرؤية لا ما تأوله المتأولون(2).
جـ. أن النظر في الآية لا يخرج عن أربعة معاني: إما أن يكون بمعنى الانتظار، وهذا لا يجوز لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير والآخرة لا يكون فيها ذلك لأن الجنة دار نعيم وليست دار تنغيص وتكدير.
... أو يكون بمعنى نظر الاعتبار: وهذا مردود لأن الآخرة ليست بدار اعتبار بل دار ثواب أوعقاب.
... أو يكون بمعنى نظر القلب: وهذا مردود لأن الله ذكر النظر مع الوجه. وإذا بطلت هذه المعاني الثلاثة لم يبق إلا نظر الرؤية(3).
... وأيضاً فإن حمل الكلام على ظاهره الذي وضع له في اللغة لا يجوز تعديه إلا بنص أو إجماع، ولم يرد ما يصرفه عن هذا الظاهر فيتعين. ومما يؤيد أن النظر في الآية نظر الرؤية أن الله أضافه إلى محله: وهو الوجه، وعداه بـ(إلى) الصريحة في نظر العين وأخلى الكلام من قرينة تدل على خلافه.
... كل هذا يدل على أن المراد النظر الحقيقي وهو نظر العين(4).
... أما تأويل بعضهم الآية { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } ، بأن المعنى لثواب ربها منتظرة، فهذا التأويل أيضاً باطل لما بيناه من أن النظر في الآية نظر الرؤية وليس نظر الانتظار.
__________
(1) ... القيامة: 22.
(2) ... انظر شرح الطحاوية ص209.
(3) ... الإبانة ص13 بتصرف.
(4) ... شرح الطحاوية ص205.(1/342)
الثاني: قوله تعالى: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } (1).
... أول المعتزلة الزيادة في الآية بما يزيد على الثواب وهو التفضل.
... ونقول: هذا التأويل باطل، لأن الحسنى في الآية: هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجهه الكريم.
... فسرها بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة من بعده(2).
... روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: "قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ، فقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى منادٍ: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟ ويبيض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظروا إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة"(3).
ثانياً: الأحاديث النبوية:
... نقول: أما قولكم أن أحاديث الرؤية أحاد، فإنه مردود، إذ أن الأحاديث الدالة على الرؤية متواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، ورواها من الصحابة نحو ثلاثين صحابياً(4).
... يقول شارح الطحاوية: "وأما الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن(5).
رأي أهل السنة والجماعة في الرؤية:
... يروي ابن حزم مذهب أهل السنة والجماعة في الرؤية، فيقول: " … وذهب جمهور أهل السنة… إلى أن الله تعالى يُرى في الآخرة…"(6).
__________
(1) ... يونس: 36.
(2) ... شرح الطحاوية ص205،206 بتصرف.
(3) ... رواه مسلم عن صهيب رضي الله عنه، في كتاب الإيمان، باب رؤية الله تعالى في الآخرة: ج3 ص17.
(4) ... شرح الطحاوية ص 209،210.
(5) ... شرح الطحاوية ص 209.
(6) ... الفصل لابن حزم ج3 ص3.(1/343)
... ويقول ابن تيمية رحمه الله: "وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله… الإيمان بأن المؤمنين يرونه تعالى يوم القيامة عياناً بأبصارهم، كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر، لا يضامون في رؤيته، يرونه سبحانه وتعالى وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى…"(1).
الأصل الثاني: العدل
تمهيد:
... تكلمنا –فيما سبق- عن الأصل الأول، وهو التوحيد، والآن نتكلم عن الأصل الثاني، وهو العدل، وعلاقة هذا الأصل بسابقه، هو أن البحث فى العدل عند المعتزلة بحث في أفعال الله سبحانه وتعالى –وأفعاله تأتي بعد إثباته وإثبات صفاته، وعلى ذلك فمجيء العدل بعد التوحيد لأنه ينبني عليه.
... يقول القاضي عبد الجبار: "وأما الأصل الثاني من الأصول الخمسة، وهو الكلام في العدل، وهو كلام يرجع إلى أفعال القديم تعالى، وما يجوز عليه وما لا يجوز، فلذلك أوجبنا تأخير الكلام في العدل عن الكلام في التوحيد…"(2).
أما العدل في اصطلاح المتكلمين:
... فالمراد به: أن أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما هو واجب عليه(3).
المبحث الأول - رأي المعتزلة في أفعال الله ومناقشتهم
تقديم:
... سبق أن ذكرنا في التمهيد أن العدل إنما هو بحث في أفعال الله تعالى، ثم عرفنا بعد ذلك أنهم يعرفون العدل بأنه بيان أن أفعال الله سبحانه وتعالى كلها حسنة، وأنه لا يفعل القبيح، ولا يخل بما هو واجب عليه. وعلى ذلك فإنهم يعتبرون أفعال الله كلها حسنة، ولذا ينزهونه تعالى عن فعل القبيح، حتى أنهم نفوا أن يكون خالقاً لأفعال العباد لما فيها من القبيح، كما ينزهونه تعالى عن الإخلال بما هو واجب عليه.
__________
(1) ... مجموع الفتاوى ج3 ص144.
(2) ... شرح الأصول الخمسة ص301.
(3) ... شرح الأصول الخمسة ص 132.(1/344)
... وبناء على هذا فالله سبحانه وتعالى لا يفعل القبيح بوجه من الوجوه، وكما أنه لا يفعله، فكذلك لا يريده.
أما الأدلة على أنه تعالى لا يريد القبيح، فمنها ما هو نقلي:
... يقول القاضي عبد الجبار: "إن كتاب الله المحكم يوافق ما ذكرناه من القول بالتوحيد والعدل"(1). ثم يورد القاضي بعض الآيات مستدلاً بها على أن الله لا يريد القبيح، كقوله تعالى: { والله لا يحب الفساد } (2)، وقوله تعالى: { ولا يرضى لعباده الكفر… } الآية(3)، ثم يقول: " هذه الآيات تدل على أنه تعالى لا يريد الفساد، ولا يحبه، سواء كان من جهته أو من جهة غيره…"(4).
... ومن الآيات التي استدل بها القاضي –أيضاً- قوله تعالى: { وما الله يريد ظلماً للعباد } (5). ويعلق القاضي على هذه الآية فيقول: " إن قوله { ظلماً } نكرة، والنكرة في النفي تعم، فظاهر الآية يقتضي أنه تعالى لا يريد شيئاً مما وقع عليه اسم الظلم"(6).
ومنها، ما هو عقلي:
... يقول القاضي: " إن إرادة القبيح قبيحة"، ويعلل ذلك بقوله: " إن إرادة القبيح إنما تقبح لكونها إرادة للقبيح بدليل أنها متى عرف كونها على هذه الصفة عرف قبحها"(7).
... وقد ترتب على مبالغة المعتزلة في نفي القبيح عن الله أن نفوا أن يكون خالقاً لأفعال العباد(8).
... هذا هو رأي المعتزلة في أفعال الله.
المناقشة:
__________
(1) ... شرح الأصول الخمسة ص459.
(2) ... البقرة: 205.
(3) ... الزمر: 7.
(4) ... شرح الأصول الخمسة ص460.
(5) ... غافر: 31.
(6) ... شرح الأصول الخمسة ص459.
(7) ... شرح الأصول الخمسة ص462.
(8) ... المغني في أبواب العدل ج8 ص3.(1/345)
... عرفنا فيما –سبق- عند عرضنا لرأي المعتزلة في أفعال الله، أنهم يرون أن الله تعالى لا يفعل القبيح، كالظلم، بل أفعاله كلها حسنة، وأنه لا يخل بما هو واجب عليه، وأنهم يرتبون على قولهم إن الله لا يفعل القبيح: القول بأن العبد هو الخالق لأفعاله، لأن منها ما هو الحسن، ومنها القبيح، فلو كان الله خالقها لكان فاعلاً للقبيح.
... ونقول: أما قولكم: أن الله لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة، فهذا نوافقكم عليه، يقول ابن القيم:"… وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله، ولهذا نزه سبحانه نفسه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه… فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها، وذلك خير كله، والشر: وضع الشيء في غير محله، فإذا وضع في محله لم يكن شراً، فعلم أن الشر ليس إليه، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك، فإن منها: القدوس.. والقدوس: هو المنزه عن كل شر ونقص وعيب، كما قاله أهل التفسير… وهو قول أهل اللغة…"(1).
... ومما يدل على أنه تعالى لا يفعل القبيح أنه نزه نفسه عن الظلم، قال تعالى: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } (2). والظلم هنا: أن يحمل عليه من سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته. وقال تعالى: { ما يبدل القول لديَّ وما أنا بظلاَّم للعبيد } (3)، ففي هذه الآية نفى الظلم عن نفسه، مما يدل على أنه لا يفعل القبيح، بل أفعاله كلها حسنة(4).
__________
(1) ... شفاء العليل ص 179.
(2) ... طه: 112.
(3) ... ق: 29.
(4) ... انظر: مجموع الرسائل والمسائل لابن تيمية ج5 ص121.(1/346)
... وأما قولكم: أن العباد هم الخالقون لأفعالهم، لأن منها القبيح، فلو كان الله خالقاً لها لكان فاعلاً للقبيح، فهذا باطل لأن الله تعالى خالق كل شيء، قال تعالى: { الله خالق كل شيء… } (1) الآية، وقال تعالى: { والله خلقكم وما تعملون } (2)، وسيأتي الكلام على هذه المسألة –إن شاء الله- عند الكلام على رأي المعتزلة في أفعال العباد ومناقشتهم.
... وأما قولكم: وأنه تعالى لا يخل بما هو واجب عليه، فنقول: ما مقصودكم بهذا الواجب على الله؟ هل هو إيجاب من العباد على الله؟ أم إيجاب من الله على نفسه؟، إن كان الأول: فهذا لا نوافقكم عليه، لأن العباد لا يوجبون على الله شيئاً، إذ يلزم أن يكون هناك موجباً فوق الله أوجب عليه شيئاً، ولا موجب عليه سبحانه وتعالى(3)، وأيضاً فإنه يلزم من القول بأن العباد يوجبون على الله يلزم منه أن لا يكون سبحانه وتعالى فاعلاً مختاراً، وهو باطل بالأدلة الدالة على أن له تعالى التصرف المطلق فيما شاء من عباده. فمثلاً: لو لم يكن فاعلاً مختاراً في أفعاله لما صح حمده، لأنه لا يحمد إلا الفاعل المختار بقدرته ومشيئته في أفعاله الحميدة، فثبوت حمده دليل على أنه مختار في أفعاله سبحانه وتعالى، وأيضاً فإن ثبوت ربوبيته تعالى يقتضي فعله بمشيئته واختياره…، وأيضاً فإن ثبوت ملكه دليل على أنه فاعل مختار، إذ أن حصول ملك لمن لا اختيار له ولا فعل له ولا مشيئة غير معقول، وأيضاً فإن كونه تعالى مستعاناً دليل على اختياره، لأن الاستعانة بمن لا اختيار له محال(4)، وعلى ذلك فالله سبحانه وتعالى فاعل مختار، وإذا كان كذلك بطل قولكم: إن العباد يوجبون عليه تعالى.
__________
(1) ... الرعد: 16.
(2) ... الصافات: 96.
(3) ... انظر التبصير في الدين: ص79، واقتضاء الصراط المستقيم ص409-410.
(4) ... مدارج السالكين ج1 ص66 بتصرف.(1/347)
... وإن كان مقصودكم بالوجوب أنه واجب عليه بحكم ما أوجبه على نفسه، فهذا نوافقكم فيه، لكن لا يلزم منه أن لا يكون تعالى مختاراً، لما ذكرناه آنفاً من اللوازم الباطلة، ولأن من أوجب على نفسه شيئاً يعتبر متفضلاً بما أوجب، والمتفضل مختار بما تفضل به.
... يقول ابن القيم رحمه الله: " فعليك بالفرقان في هذا الموضع الذي افترقت فيه الفرق، والناس فيه ثلاث فرق: فرقة رأت أن العبد أقل وأعجز من أن يوجب على ربه حقاً، فقالت: لا يجب على الله شيء البتة، وأنكرت وجوب ما أوجبه الله على نفسه. وفرقة رأت: أنه سبحانه أوجب على نفسه أموراً لعبده، فظنت أن العبد أوجبها عليه بأعماله… والفرقة الثالثة: أهل الهدى والصواب: قالت: لا يستوجب العبد على الله بسعيه نجاة ولا فلاحاً، ولا يُدخِل أحداً عملُهُ الجنةَ أبداً.. والله تعالى بفضله وكرمه أكد إحسانه وجوده بأن أوجب لعبده عليه حقاً بمقتضى الوعد، فإن وَعْدَ الكريمِ إيجابٌ، ولو بعسى ولعل، ولهذا قال ابن عباس –رضي الله عنه- "عسى من الله واجب"(1)…
... فالرب سبحانه وتعالى ليس لأحد عليه حق، ولكن لا يضيع لديه سعي.
... يقول ابن تيمية: "… وأما الإيجاب على الله سبحانه والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع… وأهل السنة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئاً ولهذا كان من قال من أهل السنة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه الرحمة، وحرم الظلم على نفسه، لا أن العبد مستحق على الله شيئاً… إلى أن قال: والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه، لا من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه، فإنه سبحانه يتعالى عن ذلك"(2).
المبحث الثاني - ... بم يدرك حسن الأفعال وقبحها والثواب عليها والعقاب عند المعتزلة؟ مع المناقشة.
__________
(1) ... مدارج السالكين: ج2 ص338-339.
(2) ... اقتضاء الصراط المستقيم ص409-410. ...(1/348)
... يقول أبو الهذيل: " يجب على المكلف قبل ورود السمع… أن يعرف الله تعالى بالدليل من غير خاطر، وإن قصر في المعرفة استوجب العقوبة أبداً، ويعلم أيضاً حُسن الحَسن، وقُبح القَبيح، فيجب عليه الإقدام على الحسن كالصدق والعدل، والإعراض عن القبيح كالكذب والفجور"(1).
... ويقول الغزالي: " ذهب المعتزلة إلى أن الأفعال تنقسم إلى حسنة وقبيحة، فمنها ما يدرك بضرورة العقل، كحسن إنقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، ومعرفة حسن الصدق وقبح الكفران.. ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذى فيه ضرر وقبح الكذب الذى فيه نفع، ومنها ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة وسائر العبادات، وزعموا أنها متميزة بصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي إلى الطاعة، ولكن العقل لا يستقل بدركه…."(2).
... من هذه الأقوال يظهر أن الأفعال عند المعتزلة قد ثبت قبحها والعقاب عليها عقلاً، كما ثبت حسنها والثواب عليها عقلاً ما عدا العبادات.
... هذا هو موجز رأي المعتزلة في هذه المسألة.
المناقشة:
... عرفنا –آنفاً- أن المعتزلة ترى أن قبح الأشياء وحسنها والعقاب عليها والثواب ثابت عقلاً، فهم يرون أن هناك تلازم بين إدراك قبحها، وبين العقاب عليها…
... ويقال لهم: إنه لا تلازم بين هذين الأمرين، فالأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، لكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي، وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحاً موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل.
... فمثلاً الكذب والزنا: كلها قبيحة في ذاتها، لكن العقاب عليها مشروط بالشرع…
__________
(1) ... الملل والنحل: ج1 ص55.
(2) ... المستصفى للغزالي: ج1 ص56.(1/349)
... وقد دل القرآن على أنه لا تلازم بين الأمرين، وأن الله لا يعاقب إلا بعد إرسال الرسل، وأن الفعل نفسه حسن وقبيح… قال تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } (1) ففي هذه الآية إشارة إلى أن العذاب لا يكون إلا بعد بعثة الرسل، وذلك دليل على أن العقاب لا يثبت إلا بالشرع.
ومن الآيات الدالة على الأمرين قوله تعالى: { ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون } (2)، وعلى أحد القولين في معنى الآية، وهو أن يكون المعنى لم يهلكهم بظلمهم قبل إرسال الرسل تكون الآية دالة على الأمرين: أن أفعالهم وشركهم ظلم وقبيح قبل البعثة، وأنه لا يعاقبهم عليه إلا بعد إرسال الرسل، وهذه الآية في دلالتها على الأمرين نظير قوله تعالى: { ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين } (3).
... ويرى أهل السنة: أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، وأنها يدرك حسنها وقبحها بالعقل، لكن لا يترتب على حسنها ثواب ولا على قبحها عقاب إلا بالشرع.
... يقول ابن القيم رحمه الله: "والحق الذي لا يجد التناقض إليه سبيلاً… أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة.. ولكن لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب إلا بالأمر والنهي. وقبل ورود الأمر والنهي لا يكون قبيحاً موجباً للعقاب مع قبحه في نفسه، بل هو في غاية القبح، والله لا يعاقب عليه إلا بعد إرسال الرسل، فالسجود للشيطان والكذب… والظلم والفواحش كلها قبيحة في ذاتها، والعقاب عليها مشروط بالشرع… إلى أن قال: وكثير من الفقهاء من الطوائف الأربع يقولون: قبحها ثابت بالعقل، والعقاب متوقف على ورود الشرع، وهو الذي ذكره سعد بن علي الزنجاني من الشافعية، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة نصاً"(4).
__________
(1) ... الإسراء: 15.
(2) ... الأنعام: 131.
(3) ... القصص: 47.
(4) ... مدارج السالكين ج1 ص231-232.(1/350)
المبحث الثالث - رأي المعتزلة في أفعال العباد ومناقشتهم
تمهيد:
... وقبل بيان رأي المعتزلة في هذه المسألة، لابد من الإشارة إلى أنهم يقسمون أفعال العباد إلى أفعال مباشرة، وأفعال تولد.
... فأما الأفعال المباشرة: فباتفاق منهم على أنها مخلوقة للعباد.
... وأما أفعال التولد: فاختلفوا فيها.
وعلى هذا فالكلام في هذا المبحث كما يلي:
المطلب الأول: أفعال العباد المباشرة. ... المطلب الثاني: أفعال التولد.
المطلب الأول : أفعال العباد المباشرة
... يقول القاضي عبد الجبار: "اتفق كل أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم حادثة من جهتهم، وأن الله عز وجل أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا محدث سواهم، وأن من قال أن الله سبحانه خالقها ومحدثها، فقد عظم خطؤه. وأحالوا حدوث فعل من فاعلَيْن(1).
شبهة:
... قالت المعتزلة: وجدنا أفعالنا واقعة على حسب قصدنا، فوجب أن تكون خلقاً لنا وفعلاً لنا، قالوا: وبيان ذلك أن الواحد منا إذا أراد أن يقوم قام، وإذا أراد أن يقعد قعد، وإذا أراد أن يتحرك تحرك، وإذا أراد أن يسكن سكن، وغير ذلك، فإذا حصلت أفعاله على حسب قصده ومقتضى إرادته، دل على أن أفعاله خلق له وفعل له(2).
... يقول القاضي عبد الجبار: "… طريقة أخرى في أن أفعال العباد غير مخلوقة فيهم، وأنهم المحدثون لها، وتحريرها: هو أن هذه التصرفات يجب وقوعها بحسب قصودنا ودواعينا، ويجب انتفاؤها بحسب كراهتنا وصرفنا، مع سلامة الأحوال، إما محققاً وإما مقدراً، فلولا أنها محتاجة إلينا ومتعلقة بنا، وإلا لما وجب ذلك فيها"(3).
مناقشة هذه الشبهة:
... إن هذه الشبهة باطلة، وبيان ذلك من وجوه:
__________
(1) ... المغني في أبواب العدل والتوحيد: ج8 ص3.
(2) ... شرح الأصول الخمسة: ص336-337، والإنصاف: ص135.
(3) ... شرح الأصول الخمسة: ص336.(1/351)
أولاً: ... قولكم: إن أفعال العباد تحصل بحسب قصودهم…، غير صحيح على إطلاقه، فإنا نرى من يريد شيئاً ويقصده، ولا يحصل له ما يريده وما يقصده، فإنه ربما أراد أن ينطق بصواب فيخطئ، وربما أراد أكلاً لقوة وصحة، فيضعف ويمرض، وربما ابتاع سلعة ليربح فيخسر، وربما أراد القيام فيعرض له ما يمنعه منه، إلى غير ذلك، فبطل ما ذكرتموه، وصح أن فعله خلق لغيره يجري على حسب مشيئة الخالق تعالى، وإنما يظهر كسبه لذلك الفعل بعد تقدم المشيئة والخلق من الخالق(1).
ثانياً: ... إن وقوع الكسب من الخلق على حسب القصد منهم لا يدل على أنه خلق لهم… ودليل ذلك: أن مشي الفرس مثلاً.. يحصل على قصد الراكب وإرادته من عَدْوٍ وتقريب… ووقوف إلى غير ذلك، ولا يقول عاقل: أن الراكب خلق جري الفرس ولاسرعتها ولا غير ذلك من أفعالها، فبطل أن يكون حصول الفعل على قصد الفاعل دليلاً على أنه خلقه. ومثل ذلك السفن يحصل سيرها وتوجهها في السير يميناً وشمالاً على حسب قصد الملاح، ولا يدل ذلك على أن الملاح خلق سير السفن ولا توجهها.
... فإن كابروا الحقائق وقالوا: نقول إن ذلك خلقه الملاح والفارس، فقد خرجوا عن الدين، وسووا بين الخالق والعباد في أن قدرة كل واحد منهما تتعلق بمقدورات، وهذا كفر صراح.
... وإن قالوا: حركات السفن تقع على حسب قصد الملاح، وليست بخلق له، قلنا: فكذلك أفعال أحدنا قد تقع –ولا نقول أنها تقع في كل حال- على حسب قصده، ولا يدل ذلك على أنه خلقها… يؤكد ذلك أيضاً أن نمو الزرع يحصل على حسب قصد الزارع وقيامه عليه بسقيه، وغير ذلك، ولا يقول أحد أن نمو الزرع خلقه الزارع.. وإن كان حاصلاً على حسب إرادة القائم عليه وقصده، وكذلك فيما يحصل من الواحد منا إذا أراد الله تعالى حصوله على حسب قصده لا يدل على أنه هو خلقه، بل الخالق له هو الله تعالى(2).
المطلب الثاني : أفعال التولد
__________
(1) ... الإنصاف: ص153 بتصرف.
(2) ... الإنصاف: ص153-154 بتصرف.(1/352)
... تعريف أفعال التولد:
... يقول الأسكافي: "وأفعال التولد: هي كل فعل يتهيأ وقوعه على الخطأ دون القصد إليه أو الإرادة له، فهو متولد، وكل فعل لا يتهيأ وقوعه إلا بقصد، ويحتاج كل جزء منه إلى تجدد عزم وإرادة له، فهو خارج من حد التولد داخل في حد المباشرة".
الأمثلة:
... والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: الألم الحادث عند الضرب، والألوان الحادثة عند الضربة، ومثل انحدار الحجر الحادث عن طرحه، والإدراك الحادث عن فتح البصر، وما أشبهها من المسببات غير المقصودة.
خلاف المعتزلة في أفعال التولد:
... لقد اختلف المعتزلة في أفعال التولد على أقوال، أهمها ما يلي:
القول الأول:
... قول من قال: إن المتولدات أفعال لا محدث لها، وممن قال بهذا القول: ثمامة بن الأشرس.
المناقشة:
... ونقول: إن قولك أفعال التولد فعل لا فاعل له باطل، وذلك أنه يلزم من هذا القول إجازة حدوث كل فعل لا من فاعل، وإجازة حدوث كل فعل لا من فاعل كفرٌ، لأنه يؤدي إلى إبطال الصانع، وما يؤدي إلى الكفر مثله.
... يقول الجويني: -وهو يرد على أصحاب التولد- :"وإذا جاز ثبوت فعل لا فاعل له جاز أيضاً المصير إلى أن ما نعلمه من جواهر العالم وأعراضه ليست فعلاً لله، ولكنها واقعة عن سبب مقدور موجب لما عداه، وذلك خروج عن الدين وانسلال عن مذهب المسلمين"(1).
الأصل الثالث(2): الوعد والوعيد
قال القاضي عبد الجبار –في علوم الوعد والوعيد في مفهومهم-:
... "وأما علوم الوعد والوعيد فهو أنه يعلم أنَّ الله وعد المطيعين بالثواب، وتوعد العصاة بالعقاب، وأنه يفعل ما توعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب"(3).
__________
(1) ... الإرشاد للجويني: ص 232.
(2) ... من كتاب فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها: للدكتور غالب بن علي عواجي ج2 ص1041.
(3) ... شرح الأصول الخمسة: ص135-136.(1/353)
... هذا هو مذهب المعتزلة، يوجبون على ربهم أن ينفذ وعده، وأن يعطي العبد أجر ما كلفه به من طاعات استحقاقاً منه على الله، مقابل وعد الله له إذا التزم العبد بجميع التكاليف التي اختارها الله وكلف بها عباده.
... وقد أورد المعتزلة لتأييد مذهبهم هذا بعض النصوص التي فهموا منها وجوب إنفاذ الله وعده، وهي آيات من القرآن الكريم وبعض الشبه العقلية
... منها: قول الله عز وجل: { ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفوراً رحيماً } (1)، وموضع الشاهد من الآيات هو قوله تعالى: { فقد وقع أجره على الله } ، حيث فسروا هذا الوقوع بمعنى الوجوب، أي فقد وجب ثوابه على الله استحقاقاً، لأن العمل في رأيهم من موجبات الثواب.
... واستدلوا أيضاً على ذلك من العقل: بأن الله ما دام قد كلف عباده بالأعمال الشاقة فلابد أن يكون لها مقابل من الأجر، وإلا لكان ذلك ظلماً، والله منزه عن الظلم، فلا يجوز على الله تعالى –في نظرهم- أن يوجب العمل ولا يوجب له جزاءً.
__________
(1) ... النساء: 100.(1/354)
... والواقع أن ما استدلوا به من الآية والشبه العقلية إنما بنوه على مسألة وجوب دخول الجنة بالعمل، وهي من المسائل الهامة، وقد أورد الحافظ ابن حجر فيها عدة معاني للعلماء حول مفهوم الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يُدخِل أحداً الجنة عملُه، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة)(1). وحول مفهوم الآيات التى تفيد أن دخول الجنة لا يكون إلا بالعمل، لقوله تعالى: { يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } (2). وبيَّن الآيات التي تفيد أن دخولها إنما هو تفضل من الله تعالى، لقوله عز وجل في إخباره عن كلام أهل الجنة وغبطتهم بما هم فيه: { الذي أحلنا دار المقامة من فضله } (3).
... فهل يكون دخول الجنة استحقاقاً بالعمل كما ترى المعتزلة، أم أن دخولها إنما هو بفضل الله مضافاً إليه العمل؟.
... والحق أن دخول الجنة إنما هو بفضل الله أولاً وأخيراً، وليس للعبد على ربه أي استحقاق، غير أن الله تعالى أوجب على نفسه أنه لا يظلم عمل عامل من ذكر أو أنثى، فجعل العمل من أسباب دخول الجنة، والأسباب نفسها إنما هي تفضل من الله تعالى.
... فاتضح أن استدلال المعتزلة بالآية السابقة وغيرها في وجوب الثواب –بمعنى أن الله تعالى يجب عليه شيء لم يوجبه هو على نفسه- استدلال خاطئ، فإن الله تعالى لا يستطيع أحد من خلقه أن يوجب عليه شيئاً لم يوجبه هو على نفسه.
... فالخلق عبيده وله عليهم من النعم ما لا يقومون بشكر أقلها، ومع ذلك فإن الله تعالى لا يخلف وعده، فإنه يعطي العبد ما وعده به من الخير بحكم وعده وكرمه، وفرق بين وقوع ذلك على هذه الصفة وبين وقوعه استحقاقاً.
__________
(1) ... أخرجه البخاري: انظر: فتح الباري: 11/294-300.
(2) ... النحل: 32.
(3) ... فاطر: 35.(1/355)
... وهذا الجواب يدفع كذلك شبهتهم العقلية التي بنوها على المعاوضة بينهم وبين الله عز وجل وقد علمت خطأ هذا التصور، وأن نعمة واحدة لا تفي بها أعمال العبد مهما كثرت، ولكن الله تعالى جعل العمل مع رحمة الله تعالى من أسباب دخول الجنة.
الوعيد:
... والوعيد في مفهوم المعتزلة سبق بيانه في كلام القاضي عبد الجبار من أن الله "يفعل ما وعد به وتوعد عليه لا محالة، ولا يجوز عليه الخلف والكذب".
... والمقصود بالوعيد هنا هو ما يتعلق بأحكام المذنبين من عصاة المؤمنين إذا ماتوا من غير توبة، وقد أوضح المعتزلة رأيهم في هذا وهو أن أصحاب الكبائر إذا ماتوا من غير توبة فإنهم يستحقون بمقتضى الوعيد من الله النار خالدين فيها إلا أن عقابهم يكون أخف من عقاب الكفار.
شبههم:
... للمعتزلة شبهات في تأييدهم لمذهبهم بإنفاذ الوعيد لا محالة، وقد استدلوا من القرآن الكريم بكل آية يذكر فيها عقاب العصاة بالنار والخلود فيها، وهي آيات كثيرة مثل قوله عز وجل: { إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين } (1). وكذا قوله تعالى: { إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون } (2)، وقوله تعالى: { بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار فيها خالدون } (3). وآيات أخرى كثيرة يدل ظاهرها على هذا المفهوم.
... والواقع: أن مسألة تخليد أصحاب الذنوب في النار من المسائل التي بحثها المعتزلة وأهل السنة، وأطالوا فيها الكلام وكثر فيها الخصام، وأود إيجاز النتيجة فيما يلي:
__________
(1) ... الانفطار: 13-16.
(2) ... الزخرف: 74.
(3) ... البقرة: 81.(1/356)
... إن استدلال المعتزلة لما يذهبون إليه من إنفاذ الوعيد لا محالة، وأن أصحاب الكبائر والذنوب من المؤمنين مخلدون في النار حتماً قول غير مسلم، وهو خطأ في فهم النصوص وحمل لها على غير معانيها الصحيحة، فإن الآيات لا تدل على خلود أصحاب المعاصي من المؤمنين خلوداً أبدياً حتمياً، ذلك أن الله عز وجل قد يعفو عنهم ابتداءً وقد يعذبهم بقدر ذنوبهم ثم يخرجهم الله بتوحيدهم وإيمانهم، لأنه لا يخلد في النار إلا من مات على الشرك الذي أخبر عز وجل أنه لا يغفر لصاحبه، وأما ما عدا الشرك فإن الله يغفره.
... ومن ناحية أخرى، فإن خلف الوعيد من فعل الكرام وهي صفة مدح، بخلاف خلف الوعد فإنها صفة ذم، والله عز وجل يتنزه عنها، بخلاف الوعيد فإنه يعتبر من باب التفضل والتكرم وإسقاط حق نفسه، وهذا هو مذهب السلف أهل السنة والجماعة. وما ذهب إليه المعتزلة من منع إخلاف الوعد وزعمهم أنه من الكذب فهو إلى سوء الظن أقرب، وهو تحكُّم على الله عز وجل، والله يفعل ما يشاء.
وقد أجمل الطحاوي مذهب أهل السنة في كلامه الآتي:
... "وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين(1) وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه" { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (2)، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته".
__________
(1) ... قال شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي معقباً: "لو قال (مؤمنين) بدل قوله (عارفين) كان أولى، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم وهو قول مردود باطل…".
(2) ... النساء: 48.(1/357)
... وهذه الشفاعة التي أشار إليها الطحاوي -رحمه الله- للمعتزلة فيها موقف مخالف لموقف أهل الحق:
... وذلك أن المعتزلة لا ترى الشفاعة لأحد في الآخرة إلا المؤمنين فقط دون الفسَّاق من أهل القبلة، فلا شفاعة لأهل الكبائر، لأن إثبات ذلك يؤدي إلى خلف وعيد الله، وخلف الوعيد عندهم يعتبر كذباً والله يتنزه عن الكذب.
... ثم استدلوا بالآيات الواردة في نفي الشفاعة عن غير المؤمنين الفائزين، كقوله تعالى: { واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون } (1). وكذلك قوله تعالى: { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } (2)، أي والفساق غير راضٍ عنهم فلا تصح الشفاعة فيهم.
... وقوله تعالى: { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع } (3) .. إلى غير ذلك من الآيات الواردة بهذا المعنى.
... ولا ريب أن المعتزلة جانبوا الصواب في الحكم بنفي الشفاعة في العصاة، فإن القول بإثبات هذه الشفاعة مما هو ثابت متواتر عن السلف لثبوت الأحاديث المتواترة بذلك، وإجماع علماء الإسلام عدا المعتزلة.
... والذي جرَّ المعتزلة لهذا الخطأ خطأ آخر، وهو أن من عقائدهم أن السيئات يذهبن بالحسنات، فلو أتى الشخص بحسنات كالجبال، ثم جاء بعدها بسيئة، فإن هذه الحسنة تحبط بمجرد صدور المعصية.
... ومذهب السلف أنه لا شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة عن الإسلام والرجوع إلى الكفر، كما أن تكفير جميع السيئات عن المذنب لا يكون إلا بالتوبة.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
__________
(1) ... البقرة: 48.
(2) ... الأنبياء: 28.
(3) ... غافر: 18.(1/358)
... "والتحقيق أن يقال: إن الكتاب والسنة مشتمل على نصوص الوعد والوعيد، كما إن ذلك مشتمل على نصوص الأمر والنهي، وكل من النصوص يفسر الآخر ويبينه، فكما أن نصوص الوعد على الأعمال الصالحة مشروطة بعدم الكفر المحبط، لأن القرآن قد دل على أن من ارتد فقد حبط عمله، فكذلك نصوص الوعيد للكفار والفسَّاق مشروطة بعدم التوبة، لأن القرآن قد دل على أن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب وهذا متفق عليه بين المسلمين، فإن الله قد بين بنصوص معروفة أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن من يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره. إلى أن قال: فجعل للسيئات ما يوجب رفع عقابها، كما جعل للحسنات ما قد يبطل ثوابها، لكن ليس شيء يبطل جميع السيئات إلا التوبة، كما أنه ليس شيء يبطل جميع الحسنات إلا الردة"(1).
الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين
... تدور هذه المسألة حول الحكم على مرتكب الكبيرة، حينما طُلب إلى الحسن البصري أن يبين الحكم في صاحب الكبيرة، وما تلا ذلك من جواب واصل بن عطاء، ثم اشتد الخلاف بعد ذلك واعتزل واصل وجماعته حلقة الحسن البصري.
... وقد قدمنا أن قضية مرتكبي الذنوب هي الحصيلة الحتمية عند المعتزلة لمواقف الفرق الأخرى من خوارج ومرجئة وأهل السنة أيضاً، بسبب ما استجد بين المسلمين من أحداث خطيرة سياسية، ابتداءً من قتل عثمان رضي الله عنه وانتهاءً بأصحاب المعاصي أياً كان عصيانهم.
... وقد أجمعت المعتزلة على قضية المنزلة بين المنزلتين، واعتبروها أصلاً من الأصول الثابتة.
... وتلقَّب هذه المسألة حسب ما يذكره القاضي عبد الجبار: "بمسألة الأسماء والأحكام". وقد بين اصطلاح المتكلمين في معنى المنزلة بين المنزلتين بقوله:
__________
(1) ... مجموع الفتاوى 12/483.(1/359)
... "والأصل في ذلك أن هذه العبارة إنما تستعمل في شيء بين شيئين ينجذب إلى كل واحد منهما بشبه. هذا في أصل اللغة، وأما في اصطلاح المتكلمين فهو: العلم بأن لصاحب الكبيرة اسماً بين الاسمين وحكماً بين الحكمين على ما يجيء من بعد".
... وما أحال إليه هنا في قوله: " على ما يجيء بعد" قد شرحه تحت عنوان:
الأصل الرابع: وهو الكلام في المنزلة بين المنزلتين"، قال فيه:
... "اعلم أن هذا الفصل كلام في الأسماء والأحكام ويلقب بالمنزلة بين المنزلتين، ومعنى قولنا إنه كلام في أسماء الأحكام هو أنه كلام في أن صاحب الكبيرة له اسم بين الاسمين وحكم بين الحكمين، لا يكون اسمه اسم الكافر، ولا اسمه اسم المؤمن، وإنما يسمى فاسقاً، وكذلك فلا يكون حكمه حكم الكافر ولا حكم المؤمن، بل يفرد له حكم ثالث، وهذا الحكم الذي ذكرناه هو سبب تلقيب المسألة بالمنزلة بين المنزلتين، فإن صاحب الكبيرة له منزلة تتجاذبها هاتان المنزلتان، فليست منزلته منزلة الكافر ولا منزلة المؤمن، بل له منزلة بينهما".
... والمقصود إن المعتزلة يريدون بالمنزلة بين المنزلتين: المؤمن صاحب المعاصي، فهو عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل يفرد له حكم ثالث، وهو تسميته فاسقاً في الدنيا، والحكم بخلوده في النار في الآخرة، فاختلف اسمه وحكمه في الدنيا فاستحق أن يكون في منزلة بين المنزلتين.
... والذي حيرهم في أمر الفاسق هو أنه من جهة ليس بمؤمن، لأن حكم المؤمن لا ينطبق عليه في الواقع لمجيئه بأعمال غير المؤمنين في بعض أموره، وهو كذلك ليس بكافر تماماً لمجيئه بأعمال المؤمنين في بعض أموره، إذاً فهو فاسق، والفسق اسم ذم، وما ثبت له اسم الذم انتفى عنه اسم المدح، وقد توعد الله الفساق بالنار فحكمه في الآخرة الخلود فيها.
... ويرد عليهم: ببيان حكم مرتكب الكبيرة في الشرع، هل حكم بكفره وإخراجه من الملة أو حكم بإيمانه الإيمان الكامل، أو هو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته.(1/360)
... الواقع: أن العاصي غير خارج من الملة بفسقه بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولم تخرجه النصوص عن الإيمان لا في كتاب الله ولا في سنة نبيه، ولا في إجماع الأمة، وفي هذا يقول الطحاوي: " ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله".
... وقد أجاب الشارح ابن أبي العز الحنفي حول ما ورد من تسمية الشارع لبعض الذنوب كفراً مثل قول الله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولائك هم الكافرون } (1)، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)(2). وأمثلة أخرى كثيرة يفيد ظاهرها إطلاق كلمة الكفر على من اقترف ذنباً من تلك الذنوب. ثم أجاب عن ذلك كله فقال:
... "والجواب: أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية –كما قالت الخوارج- إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولا القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام، ومتفقون على أنه لا يخرج من الإسلام والإيمان ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين –كما قالت المعتزلة- فإن قولهم باطل أيضاً، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } (3) إلى أن قال: { فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف } (4)، فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب، وقال تعالى: { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } (5) إلى أن قال: { إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم } (6).
__________
(1) ... المائدة: 44.
(2) ... متفق عليه عن ابن مسعود.
(3) ... البقرة: 178.
(4) ... البقرة: 178.
(5) ... الحجرات: 9.
(6) ... الحجرات: 10.(1/361)
... ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) (1)، فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفى المظلوم منها حقه".
... ثم أورد حديث المفلس، وقول الله تعالى: { إن الحسنات يذهبن السيئات } (2)، ثم قال: فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته".
... وهذا جواب نفيس جامع لفوائد عظيمة، وفيه بيان جلي لمذهب السلف في هذه القضية التي أخطأ فيها المعتزلة وجعلوا العصاة في منزلة بين المنزلتين في الدنيا، وحكموا بخلودهم في النار في الآخرة، ولم يلتفتوا إلى مشيئة الله تعالى في أولئك -وهو الفعال لما يريد جل وعلا- فقطعوا عنه المشيئة ثم زادوا الخطأ بآخر حينما حكموا بخلوده في النار مع من مات على الشرك ولم يسجد لله سجدة، ولا شك أن العقل يأبى هذا الحكم مع أنهم ممن يقدر العقل ويقدمه على النقل، ولكن الهوى يغطي على العقل والفهم إلا من وفقه الله تعالى.
الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
... هذا هو الأصل الأخير من أصول المعتزلة الخمسة.
__________
(1) ... أخرجه البخارى فى صحيحه (ح2449) فى المظالم: باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته.
(2) ... هود: 144.(1/362)
... وقد بين القاضي عبد الجبار حقيقة الأمر والنهي والمعروف والمنكر فقال: " أما الأمر: فهو قول القائل لمن دونه في المرتبة: افعل، والنهي: هو قول القائل لمن دونه: لا تفعل. وأما المعروف: فهو كل فعل عرف فاعله حسنه أو دل عليه، ولهذا لا يقال في أفعال القديم تعالى: معروف، لما لم يعرف حسنها ولا دل عليها. وأما المنكر: فهو كل فعل عرف فاعله قبحه أو دل عليه، ولو وقع من الله تعالى القبيح لا يقال: إنه منكر، لما لم يعرف قبحه ولا دل عليه".
... ومعنى التعريف: أن المعروف والمنكر لابد أن يتضح أمرهما عند الشخص بأن يرى حسن المعروف ويدلل عليه، ويرى قبح المنكر ويستطيع أن يدلل عليه، وهذا بخلاف ما لو وقع من الله - افتراضاً- فعل القبيح فإنه لا يستطيع أن يدلل عليه، ولذلك فلا يوصف بالمنكر.
... والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبران من فروض الكفايات عند المعتزلة إذا قام بهما من يكفي سقط عن الباقين، وحكمهما عموماً الوجوب الكفائي.
... وقد استدل المعتزلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأدلة كثيرة من القرآن الكريم ومن السنة النبوية والإجماع.
... فمن القرآن الكريم: قوله تعالى: { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } (1)، قال عبد الجبار: "فالله تعالى مدحنا على ذلك فلولا أنها من الحسنات الواجبات وإلا لم يفعل ذلك".
... قال عبد الجبار: "وأما السنة :فهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ليس لعين ترى الله يُعصى فتطرف حتى تغير أو تنتقل)(2).
... قال: "وأما الإجماع: فلا إشكال فيه، لأنهم اتفقوا على ذلك".
__________
(1) ... آل عمران: 110.
(2) ... زعم المؤلف أنه رواه ابن ماجة وأحمد في المسند. ولم أجده عند واحد منهما !! بل لم أجده في دواوين السنة المعروفة.(1/363)
... وقد توافق أهل السنة والمعتزلة في حكم القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كونه من الواجبات على الكفاية، وهو ما قرره الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولائك هم المفلحون } (1)، إلا أنه وقع خلاف بين أهل السنة والمعتزلة فيما يلي:
طريقة تغيير المنكر.
أوجبوا الخروج على السلطان الجائر.
حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم سواء كانوا من الكفار أو من أصحاب المعاصي من أهل القبلة.
... فأما طريقة تغيير المنكر: فقد ساروا فيها عكس الحديث الذي بيَّن فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - موقف المسلم إزاء تغيير المنكرات: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)(2).
... إذ أن تغيير المنكر عندهم يبدأ بالحسنى ثم باللسان ثم باليد ثم بالسيف، بينما الحديث يرشد إلى العكس، وهو ما يذهب إليه أهل الحق، من أن تغيير المنكر يبدأ بالفعل باليد إذا لم يترتب عليه مفاسد، والتغيير باليد هنا لا يكون بالسيف، وإنما هو إزالة المنكر بدون قتال ولا فتح باب فتنة أكبر من المنكر المراد إزالته.
... فإن لم يتمكن الشخص من التغيير باليد انتقل إلى التغيير باللسان، فإن وصل الحال إلى عدم الاستطاعة من التغيير باللسان بأن كان الشر هو الغالب على الخير، فليكتف بالتغيير بالقلب من كراهة المنكر وتمني زواله وبغضه وبغض أهله، ومع هذا فلا مكان للسيف هنا، لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يرشد إليه، ولما فيه كذلك من جر الأمة إلى ما هو أكبر من تغيير ذلك المنكر، بخلاف المعتزلة فإنهم لا يرون حرجاً في حمل السلاح لتغيير المنكر.
__________
(1) ... آل عمران: 104.
(2) ... رواه مسلم فى الإيمان (ح49) باب: كون النهى عن المنكر من الإيمان.(1/364)
... وأما الخروج على السلطان الجائر: فقد أوجبه المعتزلة، والواقع أن جور السلطان وارتكابه المعاصي لا يوجب الخروج عليه لما يترتب على ذلك من المفاسد ومن سفك الدماء وتفريق كلمة الأمة، فإن الإسلام لا يبيح الخروج عليه إلا عندما يظهر الكفر منه صراحة.
... وأما حمل السلاح في وجوه المخالفين لهم من أهل القبلة: فلا دليل لهم على ذلك، ولا يجوز أن يستحل دم المسلم إلا بما حدده الشرع، وصاحب الكبيرة ليس بكافر، فلا يجوز قتاله واستحلال دمه ولم يأمر الشرع بذلك، فيجب على المسلم الالتزام وترك تنطع الخوارج والمعتزلة.
فصل
المعتزلة في العصر الحديث(1)
... ليس غريباً أن تظهر أفكار الاعتزال بين أفراد من الناس في كل عصر، ذلك لأن أهواء الإنسان وطرق تفكيره تتشابه وتتقارب عندما يبتعد عن نور الوحي، ولذلك حذرنا الله سبحانه وتعالى من أفعال وأخلاق بعض الأمم السابقة، لأنه سيقع مثلها في الأمة الإسلامية.
... وقد قالت الأعراب للرسول - صلى الله عليه وسلم -: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر، إنها السنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة…)(2) الحديث.
__________
(1) ... من كتاب: المعتزلة بين القديم والحديث، تأليف/ محمد العبدة، طارق عبد الحليم ص129 وما بعدها.
(2) ... أخرجه ابن حبان فى صحيحه (ح6702/15) "الإحسان"، والترمذى فى "سننه" (ح2180) فى الفتن: باب ما جاء "لتركبن سنن ما كان قبلكم" وأحمد (5/218) وابن أبى عاصم فى "السنة" (76).
... - قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
... - قال الألبانى: حديث صحيح (ظلال الجنة ص54).(1/365)
... ومن طبائع بعض الناس حب التميز عن الآخرين، والإتيان بالغرائب، حتى لا يحسب أنه من غمار المؤمنين ولذلك يرمي المخالفين بالسطحية كما كان سلفهم من المعتزلة يقولون عن مخالفيهم من أهل السنة (حشوية) و (نابتة)، وعند بعضهم كِبر أن يخضع خضوعاً تاماً لنصوص الوحيين، فلابد أن يتعنت ويؤول النص الشرعي.
... وإذا كانت المعتزلة (كفرقة) ضعفت وتلاشت، فإن أفكارها موجودة في بطون الكتب، وقد تبنى هذه الأفكار بعض الفرق الأخرى، ثم إن نزعات الهوى موجودة، وقد يتشدد الانسان ويكفر المسلمين ولو لم يطلع على فكر الخوارج، وسيظهر دائماً من يحاول إخضاع النص لعقله، أو لما يظن أنه العقل (لا تعارض بين النقل الصحيح والعقل الصريح)، وتظهر هذه الأفكار لعدم التمكن من العلم، فعندما تثار شبهات المعتزلة يتأثر بها من له هوى معين، وتجد عنده قلباً خالياً، هذا إن لم تكن هناك مؤثرات خارجية، فكيف والمستشرقون يدندنون ليل نهار حول المعتزلة، ويعظمون أفكارها، وأنها تمثل مرحلة التنوير في الفكر الإسلامي، ولكن المسلمون رفضوها وانتكست الأحوال بعد ذلك، كيف وقد استبد الجهل في أهل القرن التاسع عشر في أوربا فظنوا أن العقل هو الحاكم على كل شيء، وأن الدين ذهب إلى غير رجعة، وأن البشرية تتقدم نحو الأفضل دائماً إذا تركت نور النبوة. وما أن جاء القرن العشرين حتى اكتشف العقلاء منهم أن هذا وهم من الأوهام وخرافة كبيرة جرت أوربا إلى كوارث ومصائب، وأنه لابد من الدين. وأمام الانبهار بالغرب وتعظيمه لدور العقل، قام من المسلمين من يؤكد هذا التعظيم وأن هذا هو الإسلام، ورجع إلى آراء المعتزلة مؤيداً لرأيه، ومقرباً الإسلام لأهل أوربا، وممن حاول هذه المحاولات الشيخ محمد عبده(1)
__________
(1) ... محمد عبده بن حسن خير الله، مفتي الديار المصرية، ولد عام 1266هـ، وتوفي عام 1323هـ، شارك في الثورة العرابية، ونفي إلى بيروت، أصدر مع استاذه جمال الدين الأفغاني (العروة الوثقى). انظر: الأعمال الكاملة جمع وتحقيق د/ محمد عمارة 3/282.(1/366)
حيث يقول: " اتفق أهل الملة الإسلامية، إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه، على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل وبقى في النقل طريقان: طريق التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه، والثانية: تأويل النقل مع المحافظة على قوانين اللغة، حتى يتفق معناه مع ما أثبته العقل".
... أراد الشيخ محمد عبده إحياء علم الكلام بأسلوب عصري في (رسالة التوحيد)، وكان من المفروض أن يعلم أن (علم الكلام) كله لا ينهض بالأمة الإسلامية، بل يشغلها بـ(الكلام) الذي ليس وراءه طائل، والفئة التي قال عنها (لا يؤبه لها) هم أهل السنة الذين لا يوافقون أهل الكلام على مقولاتهم.
... ثم جاء أناس يرون أن المدرسة الاعتزالية كانت في صالح الحضارة الإسلامية، يقول أحمد أمين في صراحة: "في رأيي أن من أكبر مصائب المسلمين موت المعتزلة"(1).
__________
(1) ... ضحى الإسلام 3/207.(1/367)
... ولم يكن هذا الرأي، الذي عبر عنه أحمد أمين، بشأن دور الاعتزال وأهميته وضرورة تبني المسلمين له في طرق البحث ومنهاجه، رأياً ارتآه وحده بل عرف عند كثير غيره من الكتاب الذين لمعت أسماؤهم في هذا العصر. فالكاتب زكي نجيب محمود –الذي تبنى الوضعية المنطقية كنظرية يدين بها(1)- يزعم أنه إن كان لنا أن نحيي جزءاً من تراثنا الإسلامي فليكن هو الاعتزال. يقول في "تجديد الفكر العربي": "يبدو لكاتب هذه الصفحات أن أهم جماعة يمكن لعصرنا أن يرثها في وجهة نظرها… أعني أن يرثها في طريقتها ومنهاجها عند النظر إلى الأمور هي جماعة المعتزلة التي جعلت العقل مبدأها الأساسي كلما أشكل أمر". ويؤكد ذلك بعد صفحات فيقول: "فما زلت أرى أنه لو أراد أبناء عصرنا أن يجدوا عند الأقدمين خيطاً فكرياً ليتمسكوا بطرفه فيكونوا على صلة موصولة بشيء من تراثهم، فذلك هو الوقفة المعتزلية من المشكلات القائمة"(2).
__________
(1) ... وفحواها إنكار عالم الغيب في صورة مستترة، هي ادعاء أنه ليس لنا شأن بما لا يخضع لتجاربنا ويمكننا تحسسه، فالألفاظ التي لا يوجد لها رصيد في الواقع المحسوس المجرب لا تعني شيئاً، ويجب أن ينصب جهد الناس على ما في إمكانهم تحقيقه والتحقق منه، أما عالم الغيب فهو دائرة الإحساس والمشاعر لا غير… وهي صورة معدلة خبيثة لإنكار الغيب بالكلية دون التصريح بذلك.
(2) ... تجديد الفكر العربي ص117-123.(1/368)
... وقد وقع هذا الكاتب في خطأً كان لابد له من الوقوع فيه نظراً لانشغاله طوال حياته بالفكر الغربي دراسة وتحليلاً وتسلية كما عبر بنفسه في مقدمة كتابه المذكور، إلا سنوات قليلة أخذ "يعب فيها التراث عباً" على عجل بنظر المستشرق لا بنظر المؤمن، هذا الخطأ هو اعتقاد أن أهل السنة والجماعة كانوا يقفون بالمرصاد لمحاولات إعمال العقل في مجال الطبيعة والحياة بحرية وانطلاق، وهو أمر ما كان في يوم من الأيام، وإنما يشهد التاريخ أن الصراع بين أهل السنة وغيرهم من الفرق الضالة كان بسبب إدخال العقل في مجال الغيب أولاً، ومحاولة تحكيمه في نصوص الشرع الثابته التي تواجه الحياة البشرية بكليات وقواعد قد رضيها الله سبحانه لخلقه ثانياً، أما في مجال العلوم الطبيعية والتجريبية فعلى أمثال هؤلاء المفسدين إبراز دليل واحد يستدلون به على وقوف أهل السنة والجماعة في وجه تلك العلوم أو عدم إعمال العقل فيها، وحتى مهاجمة أهل السنة للفلاسفة إنما كان في الجانب الميتافيزيقي الذي خاضوا فيه غمار العلوم الإلهية بعقولهم القاصرة فخرجوا إلى الكفر البواح، كما فعل ابن سينا والفاربي، بينما لم ينكر أحد على ابن سينا وضعه لكتاب "القانون" في الطب مثلاً، وإنما ادعاءات هؤلاء كلها محض باطل وتجن وهوى، ولما كان الإسلام يعالج في مبادئه وأساسياته قواعد إجتماعية وتشريعات دولية وسياسية واقتصادية تصادمت في كثير منها مع الاتجاهات الهدامة، كان لهم في المواقف الاعتزالية -التي قدمت العقل فيما لا يمكن الحكم فيه- خير سند في دعواهم للقضاء على الشريعة الإسلامية والنهج الرباني.
... ويقول الباحث عرفان عبد الحميد في كتابه "دراسات في الفرق والعقائد الإسلامية" تحت عنوان أهمية المعتزلة في الفكر الإسلامي:(1/369)
... "المعتزلة أول مدرسة كلامية ظهرت في الإسلام وكان لها دور كبير في تطوير الفكر الديني والفلسفي فيه، فهي التي أوجدت الأصول العقلية للعقيدة الإسلامية!! وجعلت للنزعة العقلية في الفكر الإسلامي مكانة مرموقة، ورفعت من شأن العقل وأحكامه وقدرته في الوصول إلى الحقيقة"، ولا نحتاج إلى تعليق، حيث سبق أن بينا موقف أهل السنة من العقل ومجالاته، وبينا المجال الذي عملت فيه النزعة العقلية في الإلهيات فأنتجت ذلك الضلال والانحراف، ولكن أنى لمثل هذا الباحث أن يتفهم موقف الإسلام في مثل تلك الأمور وهو ينقل عن المستشرقين نص كلامهم مرتئياً له وموافقاً عليه، فيقول: " والمعتزلة تمثل أول محاولة في الفكر الإسلامي تعرضت لمسألة الصلة بين الحقائق الدينية وأحكام العقل وذلك (بقوة فكرية عجيبة وثبات عظيم وحاولت حلها بطريقة مبتكرة)"، وما بين القوسين منقول عن سوزانا فلزر في مقدمة كتاب المعتزلة، وواضح تبنيه لهذا الرأي الاستشراقي!.
... ويقول عبد الستار الراوي في مقدمة كتابه "فلسفة العقل" عن الحركة الاعتزالية: "حركة ثقافية تتخطى المذهبيات المغلقة، وتنتهج في جدلياتها الكلامية "الحرية" وأنها تقيم الأدلة المنطقية على عقم الاتجاهات السلفية ومواقفها الوثوقية".
... ومعنى قوله "مواقف السلف الوثوقية" هو وثوق أهل السنة واتباع السلف بقيمة النص إزاء العقل، ووثوقهم في مقررات النص الثابتة القطعية.
... ثم يقول في بيان شرحه لموقف الإمام أحمد إزاء محاوريه من المعتزلة إبان المحنة وتمسكه بالنصوص الثابتة: "ولما حاصرته براهين المعتزلة العقلية أقر بعجز عقله غير المدرب عن رد جدلياتهم الكلامية في مسألة الصفات بقوله: لا أدري. هو (الله) كما وصف نفسه لا أزيد على ذلك شيئاً!!"(1).
المدرسة "الإصلاحية" الحديثة:
__________
(1) ... فلسفة العقل للراوي ص5-24.(1/370)
... يمكن للباحث من خلال كتابات عديد من الكُتَّاب، في العقود الماضية، أن يلتمس آثار مدرسة فكرية مميزة ينتمي إليها فكر هؤلاء الكتاب وآراؤهم، يستدل عليها بوحدة الآراء، وتقارب المفاهيم، وتميز بتشابه الموضوعات، وتلاقي المقاصد والغايات. هذه المدرسة –التي وإن لم تتخذ صبغة رسمية- تفجأ القارئ المسلم بتلك الدعاوي والآراء التي هي امتداد لما عرف بالمدرسة الإصلاحية وزعماؤها: السير أحمد خان الهندي وجمال الدين الأسد آبادي، ومن بعدهم محمد عبده، في نهاية القرن الماضي، وهي كذلك إحياء للمنهج الاعتزالي في تناول الشريعة، وتحكيم العقل فيما لا يحتكم فيه إليه.
... ويمكن تحديد ما تجتمع عليه آراء تلك المدرسة في كلمة واحدة هي "التطوير" أو "العصرانية" كما تترجم عن الإنجليزية "MODERNISM" وما تعنيه من تناول أصول الشريعة وفروعها بالتعديل والتغيير، تبعاً للمناهج العقلية التي اصطنعها الغرب حديثاً، أو ما تمليه عقليات أرباب ذلك المذهب، التي تتلمذت لتلك المناهج… ولا يسلم من هذا التطوير أمر من أمور الشريعة كأصول الفقه والحديث أوالتفسير أو مسائل الفقه كالحجاب والطلاق أو تعدد الزوجات، والحدود، أو الطامة التي عرفت بالتقارب بين الأديان.
... على رأس تلك المدرسة السير أحمد خان الهندي، الذي منح لقب "سير" من قبل السلطات البريطانية تكريماً له، والذي يرى أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد الذي يجب أن نستقي منه الشريعة، والأحاديث لا يعتد بها في هذا الشأن لتأخر تدوينها، ولأن أكثريتها أحاديث آحاد لا تفيد يقيناً، كما يحل الربا البسيط في التجارة والمعاملات، ويرفض عقوبة الرجم والحرابة، وينفي شرعية الجهاد لنشر الدين.
... ويُحِلُّ سيد أمير علي –تلميذ أحمد خان- زواج المسلمة من كتابي، والاختلاط بين الرجال والنساء.(1/371)
... كذلك يرى محمد أسد أن الله سبحانه لا يوصف إلا بالصفات السلبية (أي ليس كذا وليس كذا..) تماماً كما قالت المعتزلة، وينحو منحى محمد عبده في إنكار المعجزات المادية، كتفسير إهلاك أصحاب الفيل بوباء الحصبة أو الجدري الذي حملته الطير الأبابيل!.
... ومن المعاصرين الأحياء، ينادي د/ محمد فتحي عثمان بتطوير العقيدة والشريعة معاً في كتابه عن الفكر الإسلامي والتطور.
... ويزيد الدكتور حسن الترابي خطوة فيدعو إلى تجديد أصول الفقه حيث يقول: " إن إقامة أحكام الإسلام في عصرنا تحتاج إلى اجتهاد عقلي كبير وللعقل سبيل إلى ذلك لا يسع عاقل إنكاره، والاجتهاد الذي نحتاج إليه ليس اجتهاداً في الفروع وحدها، وإنما هو اجتهاد في الأصول أيضاً"(1).
... ويشكك محمد سعاد جلال في إمكانية وجود نص قاطع في الشريعة ثبوتاً ودلالة، حتى القرآن الكريم الذي وإن كان ثابتاً من جهة النقل، إلا أن الظن يتطرق إليه من قِبَل الدلالة...
... ويدعو عبد اللطيف غزالي إلى دثر التراث كله حيث يقول: " أما علوم سلف المسلمين فهي شيء متخلف غاية التخلف بالنسبة لما لدينا، ولا أقول لما لدى الأوربيون من علوم.."(2).
... وفي مجال الفقه يعبر د/ فتحي عثمان عن حجاب المرأة ومسألة عدم الاختلاط بقوله: " فإذا التقى الرجل بالمرأة في ظروف طبيعية هادئة محكمة، فلن يغدو هذا اللقاء قارعة شديدة الوقع… سيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثة المرأة ومعاملة المرأة، في إطار من الدين والخلق تحدد معالمه تربية الأسرة وعرف المجتمع ورعاية الدولة، وستألف المرأة بدورها الرجل فيهدأ السعار المضطرم ولا يكون هناك مجال للانحراف والشذوذ، وتتجمع لدى الطرفين خبرات وحصانات وتجارب".
__________
(1) ... عن بحث "الدعوة إلى التجديد في منهج النقد عن المحدثين" عصام أحمد البشير.
(2) ... المصدر السابق.(1/372)
... سبحان الله العظيم! وكأن تجربة الأوربيين في الاختلاط لقرون عديدة أنتجت الخبرات والحصانات، وكفلت الإحصان للمرأة والرجل! إن هذا إلى جانب كونه افتياتاً على الشريعة الحنيفية، فهو جهل بالفطرة الإنسانية التي يعلم حقيقتها خالقها سبحانه.
... ويعلن عبد اللطيف غزالي : " نحن اليوم لا نجد حرجاً في التفكير في تقييد حق الرجل في الأربع وتقييد حقه في الطلاق"(1).
... أما في الحدود فيرى حسن الترابي أن الردة الفكرية التي لا يصاحبها خروج على نظام الدولة لا تستوجب إقامة الحد، ويعني بالردة الفكرية الكفر الاعتقادي بالتعبير الشرعي…
... ويرى محمد فتحي عثمان أن عقوبة الردة كانت لضرورة عسكرية أملتها الظروف على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... أما عن التقارب بين الأديان فيرى عبد العزيز كامل أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة التوحيد بدياناتها الثلاث الإسلام والمسيحية واليهودية، وهو ما يؤكده كذلك فهمي هويدي ومحمد سعيد عشماوي(2).
... أما عبد الله غزالي فيشرح معنى الإسلام! بقوله: " الإسلام أن تسلم وجهك لله وأنت محسن، وأي امرئ كان هذا حاله فإنه مسلم سواء كان مؤمناً بمحمد أو كان من اليهود أو النصارى أو الصابئين".
... ويبين أن الجنة ليست حكراً على المسلمين الموحدين، وأن الدين المنجي عند الله ليس الإسلام وحده! فيقول: " لماذا يعتقد اتباع كل دين أن الله يختصهم بالجنة ويذر غيرهم وأكثر الناس في النار؟" ثم يؤكد أن حقيقة الشرك هي العداء بين الأديان(3).
__________
(1) ... المصدر السابق ص60.
(2) ... جريدة الأخبار المصرية 17/10/1997 نقلاً عن المصدر السابق.
(3) ... نظرات في الدين ص16-24.(1/373)
... وفي الخاتمة يقول محمد العبدة: إن من أعجب الأشياء أن يقال أن المعتزلة يمثلون حركة "التنوير" و"التحديث" و"العقلانية" في الفكر الإسلامي أو الحضارة الإسلامية، لأن من يغرق في النظريات المجردة وذكر المحالات، والاهتمام بالعرض والجوهر والتولد وانتقال الأجسام، لا يستطيع أن يبني أمة أو حضارة، وكيف يكون تنوير وزعماء الاعتزال يكفر بعضهم بعضاً، وعندما ملكوا شيئاً من القوة أذاقوا مخالفيهم الويلات، وكيف يكون تنوير بمعزل عن الوحي الإلهي، وهاهي البشرية في نهاية القرن العشرين تغوص في العسف والظلم والفساد، وإنما الذي يمثل روح الإسلام وحقيقته، والنظرة الصحيحة للعقل ودوره، ويدعو للاهتمام بالعمل، هم أولئك العلماء من أمثال مالك بن أنس الذي يقول: " أكره الكلام فيما ليس تحته عمل"، والإمام الأوزاعي الذي يقول: " بلغني أن الله إذا أراد بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم العمل"، ومثل ابن تيمية الذي يدعو لمنهج الاستقراء والتجربة ويهتم بالعمل المفيد، فهؤلاء ناشرو حضارة و بناة أمة، وما أظن أن الذين يدافعون عن الاعتزال من أهل العصر الحديث، وينشرون الأبحاث والمقالات عنهم ، ويتحسرون على فقدهم، ما أظن أن هؤلاء من الذين يبحثون عن الحقيقة العلمية، وأنهم أخطأوا طريق الصواب، بل غالبهم من الذين يأنفون من التسليم للوحي الإلهي، ويأنفون من الالتزام بشرائع الإسلام، ويتسترون "بالعقلانية" و"التحرر" لينفضُّوا عن القيم الإسلامية. وإن المعتزلة القدماء رغم انحرافهم –فقد كان بعض زعمائهم صاحب دين وحب لنشر الدعوة بين صفوف غير المسلمين، وأما هؤلاء فليس همهم إلا تفريغ الدين من محتواه، وخاصة أمور الشريعة.(1/374)
... ثم لنستمع إلى شهادة أحد أكابر علماء الغرب القلائل الذين وضعوا أيديهم على الداء البشري وهو الدكتور أليكساس كاريل حيث يقول: " مهما كانت براعة المذاهب "النظرية" التي يبتدعها العقل، فإنها لا تعدو أن تكون نظرات جزئية، وأشباحاً باهتة للواقع. وليس هناك مذهب فلسفي قط استطاع أن يحظى بقبول جميع الناس، وقوانين الحياة التي تستنبط من مثل تلك المبادئ ليست إلا فروضاً وإذا أردنا تجنب الوقوع في الخطأ وجب علينا أن نستخلص قوانين الحياة من ملاحظات الحياة نفسها".
... ويبين كاريل بعدها مسار العقل الإنساني في اختياره للمباحث النظرية السهلة وما يجلبه ذلك من ضرر فيقول: " كان من الممكن للعلم أن يكفل لنا نجاح حياتنا الفردية والإجتماعية ولكننا فضلنا نتائج التفكير الفلسفي الذي ساد في القرن الثامن عشر على نتائج العلم الواضحة، فارتضينا أن نأسن(1) وسط "المعاني المجردة" ولعل كسل الإنسان الطبيعي هو الذي دفعه إلى اختيار المعاني المجردة الهينة. وذلك لأن الملاحظة أشق من الاستدلال، وهذا هو السبب في أن البشرية كانت دائماً تميل إلى اللعب بضروب التجريد".
... ثم يؤكد على أن الفلسفة ومناهجها هي التي تزري بالمناهج الأصلية للبشرية في العلم والعمل: " ولا شك أن فلاسفة عصر النور –أي عصر النهضة- هم الذين مكنوا لعبادة الحرية في صورة عمياء في أوربا وأمريكا، فراحوا باسم العقل يزرون بجميع النظم التقليدية، وبذلك وسَمُوا هذه القيود في أعين الناس بميسم الشناعة، وحينئذ بدأت المرحلة الأخيرة من الصراع ضد القواعد التي رضي أسلافنا بأن تهيمن على سلوكهم".
... وسبحان الله العظيم! كيف يدور الزمن دورته فيحاول "فلاسفة عصرنا وعلمائه" أن يعيدوا تمثيل ما حدث في أوربا منذ ثلاثة قرون أو أكثر، فيمكنوا لعبادة "الحرية" ويزدروا مناهج سلفنا الصالح! أليس ذلك كفعل الببغاء الذي عقله في أذنيه؟!.
__________
(1) ... نأسن: ندخل.(1/375)
... ثم يعلن كاريل في قوة ووضوح أن زيف المباحث النظرية هو السبب الأصيل وراء تدهور الحضارة فيقول: " ولذلك كان انتصار المذاهب النظرية تأكيداً نهائياً لهزيمة الحضارة".
... وإن كان كاريل قد شهد بذلك، فإننا نسوق شهادة واحد من أعتى المستشرقين وأكثرهم حقداً على الإسلام وأهله، وهو هاملتون جب حيث يقول: " إن تركيز الفكر العربي على الأحداث الفردية، جعل العلماء المسلمين معدين للتعمق في المنهج الاختباري العلمي أكثر من أسلافهم الإغريق والإسكندرانيين. إن الملاحظات المفصلة التي قام بها باحثوا الإسلام قد ساهمت بشكل ملموس في تقدم المعرفة العلمية، بل إنها المصدر الذي أعاد المنهج التجريبي إلى أوربا في العصر الوسيط".
... فيا للعجب! ألم يكن أجدر "بفلاسفتنا" أن يدركوا من روح الإسلام ما أدركه هذا المستشرق.
... ونكتفي بهذا القدر من الشهادة لاثنين من أكابر علماء الغرب، وما كنا لننقل عن أحد من تلك الأمم، ولكن الشهادة التي يقر بها المخالف لها أهميتها، وإن في الحضارة الغربية آفات قاتلة تتركز في مناهجها ونظرياتها وسلوكياتها، وإن كان فيها من المباحث العلمية والمناهج التطبيقية والتقدم ما يجب على المسلمين الأخذ به والتسابق في تعلمه وتطويره –إن أمكن-فهم أولى البشر بالأخذ بأسباب القوة وتجنب مواطن الضعف.
... إن القدرة على أن نفرق بين ما نأخذ وما ندع، من ذلك الحصاد الهائل للبشرية إنما يكمن في إدراك المنهج الإسلامي الصحيح وما يدعو إليه، وفي دراسة سيرة سيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - دراسة واعية لأحداثها وعبرة لتلك الأحداث، والله سبحانه هو القادر أن يكشف عن المسلمين الغمَّة، وأن يعيد إليهم القدرة على صحة الحكم، ودقة النقد، فهم جد محتاجين إلى ذلك في مواجهة تلك التيارات التي يعج بها العصر، إنه سميع مجيب.
4. الجهمية
هل توجد آراء الجهمية فى وقتنا الحاضر؟
تمهيد:(1/376)
... لقد كان لهذه الطائفة التى قامت على مبدأ التعطيل والجبر صولة وجولة فى تاريخ الأمة الإسلامية، ولقد تمكنوا وعلا شأنهم وقتاً من الزمن.
... وآراء هذه الطائفة لا تزال فى بعض المجتمعات، ولا يزال الخصام بينهم وبين أهل الحق قائماً على أشده، كما كان سابقاً فى الزمن القديم حتى وإن اختلفت فى بعض الأحيان المسميات، خصوصاً بعد ظهور العصريين الجدد بمفاهيمهم الباطلة، الذين لم يقفوا عند حد فى إثارة كل ما يمتُّ إلى هواهم ولو بأدنى صلة، فهم جادون فى إحياء تلك المفاهيم الجهمية الباطلة باسم التجديد حيناً والتطوير أحياناً أخرى.
... فمثلاً الاكتفاء بمعرفة وجود الله عن العمل، أو الاعتقاد بعدم وجود الجنة الآن، وكذا النار، أو قولهم أو زعم أن الله لا يوصف بوصف، أو ليس فى جهة. وغير ذلك من الآراء التى يعتقدها بعض الناس اليوم هى نفسها آراء الجهمية قديماً.
... وإذا كان المثال للانفلات من الالتزام بالعقيدة الصحيحة والسير لهدمها تحت شعارات براقة فى دعوى التجديد والتطوير، وأحياناً فى صورة تمجيد للعقل والعلم أو التراث مما اهتم به كثير من الكتاب والكاتبات قديماً وحديثاً، فإنه يتوجب على كل طالب علم أن يحذر هؤلاء ويحذِّر منهم، وألا يركن إلى كتاباتهم، بل ولا ينبغى الاهتمام بقراءة كتبهم قبل أن يطلع على ما عندهم من الباطل، فإن تلك الكتب مملوءة بالدس والانحراف تحت زخرف من القول.
- صلى الله عليه وسلم - التعريف بالجهمية وبمؤسسها:
... الجهمية إحدى الفرق الكلامية التى تنتسب إلى الإسلام، وهى ذات مفاهيم وآراء عقدية كانت لها آراء خاطئة فى مفهوم الإيمان وفى صفات الله تعالى وأسمائه.(1/377)
... وترجع فى نسبتها إلى مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذى، الذى كان له ولأتباعه فى فترة من الفترات شأن وقوة فى الدولة الإسلامية حيناً من الدهر، وقد عتوا واستكبروا واضهدوا المخالفين لهم حينما تمكنوا منهم، ثم أدال الله عليهم فلقوا نفس المصير الذى حل بغيرهم على أيديهم. سنة الله فى خلقه ولن تجد لسنته تبديلاً.
- صلى الله عليه وسلم - من هو الجهم بن صفوان:
... هذا الرجل هو حامل لواء الجهمية، واسمه الجهم بن صفوان، وهو من أهل خراسان، ظهر فى المائة الثانية من الهجرة، ويكنى بأبى محرز، وهو من الجبرية الخالصة، وأول من ابتدع القول بخلق القرآن وتعطيل عن صفاته.
... وكان مولى لبنى راسب إحدى قبائل الأزد، وكان من أخلص أصدقاء الحارث بن سريج، وتاريخه طويل، وكتبت فيه مؤلفات عديدة ورسائل جامعية.
... وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال عنه: (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشراً كثيراً، فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ، وكان صاحب خصومات وكلام)(1).
- صلى الله عليه وسلم - نشأة الجهمية:
... قامت أفكار الجهم بن صفوان على البدع الكلامية والآراء المخالفة لحقيقة العقيدة السلفية متأثراً بشتى الاتجاهات الفكرية الباطلة.
... وقد ذكر شيخ الإسلام درجات الجهمية ومدى تأثر الناس بهم، وقسمهم إلى ثلاث درجات:
1. الدرجة الأولى: ... وهو الجهمية الغالية النافون لأسماء الله وصفاته، وإن سموه بشىء من الأسماء الحسنى قالوا: هو مجاز.
2. الدرجة الثانية من الجهمية: وهم المعتزلة ونحوهم، الذين يقرون بأسماء الله الحسنى فى الجملة لكن ينفون صفاته.
__________
(1) ... الرد على الزنادقة والجهمية ص23.(1/378)
3. الدرجة الثالثة: وهم قسم من الصفاتية المثبتون المخالفون للجهمية، ولكن فيهم نوع من التجهم، وهم الذين يقرون بأسماء الله وصفاته فى الجملة ولكنهم يردون طائفة من الأسماء، والصفات الخبرية وغير الخبرية ويؤولونها.
... ومنهم من يقر بصفاته الخبرية الواردة فى القرآن دون الحديث كما عليه كثير من أهل الكلام والفقه، وطائفة من أهل الحديث. ومنهم من يقر بالصفات الواردة فى الأخبار أيضاً فى الجملة، لكن مع نفى وتعطيل لبعض ما ثبت بالنصوص وبالمعقول، وذلك كأبى محمد بن كلاب ومن اتبعه.
... وفى هذا القسم يدخل أبو الحسن الأشعرى وطوائف من أهل الفقه والكلام والحديث والتصوف، وهؤلاء إلى السنة المحضة أقرب منهم إلى الجهمية والرافضة والخوارج والقدرية، لكن انتسب إليهم طائفة هم إلى الجهمية اقرب منهم إلى أهل السنة المحضة(1).
- صلى الله عليه وسلم - ذكر أهم عقائد الجهمية إجمالاً:
1. إنكار الجهمية لجميع الأسماء والصفات:
... تنكر الجهمية جميع الأسماء التى سمى الله بها نفسه وجميع الصفات التى وصف بها نفسه بحجج واهية وتأويلات باطلة.
شبهات الجهمية فى نفى الصفات:
... لقد أقدم الجهمية على نفى الأسماء والصفات بمزاعم من أهمها:
1. ... أن إثبات الصفات يقتضى أن يكون الله جسماً، لأن الصفات لا تقوم إلا بالأجسام، لأنها أعراض والأعراض لا تقوم بنفسها.
2. ... إرادة تنزيه الله تعالى.
3. ... أن وصف الله تعالى بتلك الصفات التى ذكرت فى كتابه الكريم أو فى سنة نبيه العظيم يقتضى مشابهة الله بخلقه، فينبغى نفى كل صفة نسبت إلى الله تعالى وتوجد كذلك فى المخلوقات لئلا يؤدى إلى تشبيه الله –بزعمهم- بمخلوقاته التى تحمل اسم تلك الصفات.
الرد عليهم:
__________
(1) ... انظر: التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية. ضمن مجموع الفتاوى.(1/379)
... مما يدركه طلاب العلم أن الله عز وجل وصف نفسه فى كتابه الكريم ووصفه به نبيه - صلى الله عليه وسلم - بصفات تعرف معانيها ولا تدرك كيفياتها، وهى معروفة فى القرآن والحديث.
... وقد وقف السلف من الصحابة الكرام إلى وقتنا الحاضر إزاء هذه الصفات موقفاً واضحاً جلياً لا لبس فيه، يتلخص فى كلمات يسيرة ومعان واضحة، ألا وهو الإيمان التام بكل ما وصف الله به نفسه ووصفه به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، كما جاءت به النصوص من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل ولا تكييف.
... يقولون عن كل صفة: الصفة معلومة والكيف مجهول والسؤال عنها بدعة، ولم يتنطعوا تنطع المشبهة ولم يسلكوا مسالك المعطلة، لأنهم على معرفة تامة أن الكلام فى الصفات فرع عن الكلام فى الذات، فلا يصفون ذاتاً غير مدركة الماهية بصفات تكيفها، لأن هذا هو القول على الله بغير علم.
... إذ كيف تكيف ذاتاً لم تدركها ولم توصف لك أكثر من صفات مجملة قابلة للاشتراك فى الأسماء متباينة الحقائق، ومن هنا نجد أنه لم يعرف عن أى شخص من الصحابة أنه سأل النبى - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية أى صفة من الصفات التى أخبر الله بها فى القرآن الكريم أو أخبرهم بها نبيهم - صلى الله عليه وسلم -.
... وهذه دلالة على قوة ذكائهم وصفاء عقولهم، لأنهم يعرفون بداهة أن الاشتراك فى التسمية لا يوجب الاشتراك والمماثلة فى الذات، إذ يقال: رأس الرجل ورأس الجمل ورأس الذرة ورأس الجبل، وبين ذوات هذه الأشياء من الفروق ما لا يخفى على عاقل.
... ومن العجائب أن يثبت الله لنفسه الصفة وهم ينفونها عنه، ومثلهم فى هذا كمثل شخص سأل آخر عن اسمه وهو لا يعرفه فأخبره فقال له: لا، إن اسمك ليس هذا، ذلك أن الله تعالى قال: { الرحمن على العرش استوى } وهم يقولون: لا يجوز إثبات هذه الصفة بل يجب نفيها مطلقاً، أو تأويلها بمعنى استولى أو قصد، أو غير ذلك من تأويلاتهم الباطلة.(1/380)
... وحينما قال تعالى عن نفسه: { وهو السميع البصير } ، قالوا: يجب نفى مدلول هذا نفياً تاماً أو تأويله، إما أن يكون بمعنى سميع بلا سمع بصير بلا بصر، أو أنه سميع بذاته بصير بذاته، إلى آخر مواقفهم الخاطئة تجاه كل الصفات والأسماء.
... إن تنزيه الله عز وجل لا يمكن أن يكون بسلب صفاته وما تدل عليه من العظمة والكمال، إنه من الإجرام أن ينزه الله عن ما تمدح به: { قل أأنتم أعلم أم الله } (1).
... إن التنزيه الصحيح إنما يكون فى إثبات الصفة فى أعلى كمالها، لأن الكمال المطلق لا يوصف به أحد غير الله تعالى.
... وأى تنزيه فى أن تقول: إن الله ليس فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا عن يسار ولا يحس ولا يشم ولا يرى أبداً ولا يكلم أحداً، وإنه فى كل مكان بذاته، وإنه لا سمع ولا بصر له، ولا يوصف بالرحمة ولا بالغضب ولا بالمجئ، إلى آخر تلك الأوصاف التى لا تقال إلى للمعدوم.
... إنها صفات سلبية نتيجتها أن لا معبود إلا العدم، فليس هناك رب بائن من خلقه مستو على عرشه له كل صفات الكمال والجلال.
... ومن هنا وجد الملاحدة ضالتهم المنشودة فى تقوية إلحادهم واحتجاجهم على ذلك بما زعموا أنه من كلام المسلمين السابق، وهم يعلمون تمام العلم أم كلام الجهمية السابق ليس له بالإسلام أية صلة، وأنه ليس من كلام المسلمين، وإنما هو من أفكار ملاحدة الفلاسفة.
... إن الجسمية التى يزعمونها حينما يثبتون الصفات لله تعالى، إنما هو من باب تغطية إلحادهم ومروقهم عن الدين، وهم أقل وأذل من أن يجدوا كلاماً ما، لعلماء المسلمين فضلاً عن الصحابة فضلاً عن الكتاب والسنة، يشير إلى هذا المفهوم الذى تنبهوا له بزعمهم ونفوا بموجبه صفات الله وأسمائه.
__________
(1) ... البقرة: 140.(1/381)
... إن كلمة الجسمية لله تعالى نفياً أو إثباتاً هى من الألفاظ المخترعة التى لم ترد فى الشرع لا فى الكتاب ولا فى السنة، وهى تخفى وراءها هدفاً ما، ولو وقف هؤلاء الذين يطلقون لفظ الجسم عند الحدود الشرعية لرأوا أنه يجب عليهم لزاماً ألا يطلقوا على الله إلا ما ثبت له من الأسماء والصفات، وترك ذلك التنطع المذموم، لأن لفظ الجسم لفظ عام يحتاج إلى بيان وتوضيح ممن يقول به، لأنه لم يرد فى الشرع لا بالنفى ولا بالإثبات، ولهذا كان فى إطلاقه حق وباطل ويجب على القائل به تفصيل ما يريد.
... فهناك من ينفى لفظ الجسم من الجهمية والمعتزلة ليخفى ما يهدف إليه من نفى ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات، وهناك من يثبت الجسم من المشبهة ليخفى ما يهدف إليه من إثبات ما نفاه الله عن نفسه، وقد أجاب العلامة ابن القيم رحمه الله عن هذه المسألة وفصلها تفصيلاً شافياً كافياً فقال:
... «واعلم أن لفظ الجسم لم ينطق به الوحى إثباتاً فيكون له الإثبات، ولا نفياً فيكون له النفى. فمن أطلقه نفياً أو إثباتاً سئل عما أراد به، فإن قال: أردت بالجسم معناه فى لغة العرب وهو البدن الكثيف الذى لا يسمى فى اللغة جسم سواه، فلا يقال للهوى: جسم لغة، ولا للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا، فهذا المعنى منفى عن الله عقلاً وسمعاً، وإن أردتم به المركب من المادة والصورة والمركب من الجواهر الفردة فهذا منفى عن الله قطعاً.(1/382)
... والصواب نفيه عن الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذا ولا من هذا، وإن أردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب، فهذه المعانى ثابتة لله تعالى وهو موصوف بها فلا ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسماً، كما أنَّا لا نسب الصحابة لأجل تسمية الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصباً، ولا ننفى قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية القدرية لمن أثبته جبرياً، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسماً مشبهاً».
... إلى أن قال: «وإن أردتم بالجسم ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق بإصبعه رافعاً بها إلى السماء بمشهد الجمع الأعظم مشهداً له لا للقبلة، وإن أردتم بالجسم ما يقال أين هو؟ فقد سأل أعلم الخلق بـ "أين"، منبهاً على علوه على عرشه وسمع السؤال بـ "أين" وأجاب عنه، ولم يقل: هذا السؤال إنما يكون عن الجسم.
... وإن أردتم بالجسم ما يلحقه (مِنْ-و-إِلى)(1). فقد نزل جبريل من عنده وعرج برسوله إليه، وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رفع إليه، وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعها من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة، وهذه صفات متميزة متغايرة ...» إلى أن قال:
__________
(1) ... هكذا النص فى الأصل، وهى عبارة غامضة، ولعل المراد بها ما يمكن أن يقال: (منه وإليه) اى من عنده وإليه، كما يفيده الكلام الذى جاء بعده. والله أعلم.(1/383)
... «وإن أردتم بالجسم ما له وجه ويدان وسمع وبصر فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره وغير ذلك من صفاته التى أطلقها على نفسه. وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستوياً على غيره فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه»(1).
... فينبغى للعاقل أن يتفطن لكلام أهل الزيغ ونبزهم لعلماء السنة تنفيراً للعامة عنهم، كما أنه يجب على المؤمن ألا ينساق وراء مغالطات أصحاب البدع، فهم من دأبهم قلب الحقائق والتلبيس على الناس لتقوية ما اقتنعوا به من أفكار الملاحدة وفلاسفة اليونان.
2. قول الجهمية بالإرجاء والجبر:
... لقد كان الجهم بن صفوان مؤسساً حقيقياً لكثير من الشبهات فى الدين، ومؤججاً لكثير من الفتن بين المسلمين بفعل من جاء بعده ممن راقت فى نظره آراء جهم، ويظهر الإرجاء عند الجهمية فى تلك الآراء التى نادى بها الجهم، ومن أهمها عدم اعتبار العمل من الإيمان، فإن الإيمان وحقيقته فى نظرهم إنما هو مجرد الإقرار بالقلب ولا قيمة لعمل فى الإيمان، ولهذا سارع أصحاب الفسق والاستهتار بالقيم إلى التمسك بهذا المذهب، لأنه يساير رغباتهم ويثبت لهم الإيمان بغض النظر عن جميع المعاصى التى يرتكبونها، فهم مؤمنون كاملو الإيمان بالمفهوم الجبرى والإرجائى، فهم لا يمكن أن يطلقوا الكفر على أحد بسبب ترك الأعمال التى أمر الله بها، بل لا يتجاسرون على إطلاق الكفر إلا إذا لم يقر بقلبه حسب زعمهم.
__________
(1) ... انظر: مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ص 175، 177 اختصار الموصلى.(1/384)
... وقد قام أساس إرجاء الجهمية على موقفهم من حقيقة الإيمان وفى مبحث المرجئة دراسة حول المرجئة وموقفهم من الإيمان، وأنه المعرفة فقط وأنه كذلك لا يزيد ولا ينقص، ومن العمل وأنه لا صلة له بالإيمان، ومن مرتكب الكبيرة، وأن الذنوب لا تعلق لها بالاعتقاد وإنما هى تابعة للأعمال، وبالتالى فلا أثر لها على الإيمان الذى فى القلب فهونوا المعاصى وشجعوا على الركون إلى الكسل والخمول فى العبادات.
... ومع ذلك فهم يزعمون أن إيمان أى واحد منهم هو مثل إيمان جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لاتفاقهم فى المعرفة بالله التى بنى الجهميون عقيدتهم فى الإيمان عليها، وهم أجهل الناس بمعرفته عز وجل إذ نفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلا، إضافة إلى ما أحدثوه من الآراء والبدع الفاسدة.
... وأما الجبر –بفتح الجيم وسكون الباء- فمعناه إسناد ما يفعله الشخص من أعمال إلى الله عز وجل، ون العبد لا قدرة له البتة على الفعل، وإنما هو مجبور على فعله، وحركته فى الفعل بمثابة حركة النباتات والجمادات، ومن هنا فإنه لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، لأن العبد مجبور على فعله لا حول له ولا قوة.
... وقالوا: إن هذا ليس بظلم، لأن الإنسان ملك لله، لأن الظلم فى مفهومهم هو المحال لذاته غير المتصور وقوعه(1)
__________
(1) ... لأن الظالم عندهم عبارة عن الممتنع الذى لا يدخل تحت القدرة، والظلم كذلك لا يكون إلا من مأمور من غيره منهى وإلا ليس كذلك (شرح الطحاوية ص449).
... أى أن الظلم عندهم هو نفى الله ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه، أما ما كان تحت قدرة الله تعالى فليس بظلم وأفعال ناتجة عن جبر الله تعالى لهم، وهذا الاعتقاد باطل وليس هو المراد من نفى الظلم عن الله تعالى.(1/385)
، وهذا تكذيب لقول الله: { ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون } (1)، وقوله تعالى: { ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون } (2)، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة فى هذا المعنى الذى يفيد أن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، وقد تمدح بذلك لبيان كمال عدله، فأين هذا المفهوم من مفهوم الجهمية حينما يقررون أن الإنسان مجبور على فعله، لا لوم عليه فيما يأتيه من الأفعال القبيحة والمنكرات، لأن موجدها إنما هو الله تعالى، ثم كلفه بامتثال أمره ونهيه فكيف يتصور هذا؟ يكلفه الله بالامتثال ثم يوجد فيه قوة العصيان، هذا تناقض وتكليف بما لا يطاق.
... وقد أخبر الله تعالى بأن الحق هو عكس هذا المفهوم، فقال عز وجل: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } (3)، وجبر العبد على فعله لا يتفق مع مضمون هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث، ويصح على مفهوم هؤلاء الجهمية ألا يقال للزانى: إنه زان، ولا للسارق: إنه سارق، ولا للمصلى: إنه مصل .. إلخ، لأن هذه الأفعال هى أفعال الله فيهم، وإنما هم منفذون لها. لقد أعظموا على الله الفرية وقَفَوْا ما ليس لهم بحق!!
3. إنكار الجهمية الصراط:
... الصراط من الأمور الغيبية التى أعدها الله فى يوم القيامة، وقد ثبت فى الشرع بأحاديث صحيحة إضافة إلى قول الله عز وجل: { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا } (4).
... وللصراط أوصاف كثيرة، فهو أحد من السيف وأدق من الشعرة، عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم ولا ينجو عليه إلا من كتبت له السعادة، ولا صحة لأقوال المتأولين له فإنها فى مقابلة النصوص، وفى مرورهم عليه يعطون أنواراً كل شخص نوره على قدر عمله.
__________
(1) ... البقرة: 281.
(2) ... الأنعام: 160.
(3) ... البقرة: 286.
(4) ... مريم: 71.(1/386)
... ثم يقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرجل يرمل رملاً. وقد نصبه الله لحكمةٍ فلو شاء لاجتاز الخلق بغير نصبه، وقد تلمس بعض العلماء حكماً كثيرة لذلك إلا أنه ينبغى الإيمان التام بأن لله حكمة قد تظهر وقد لا تظهر حقيقتها لأحد، ولسنا مكلفين باستخراج الحكمة وقد كلفنا بالإيمان بكل ما صح ثبوته.
... كما أنه قد ورد فى تحديد مسافة الصراط أقوال كثيرة تفتقر إلى دليل من الشرع، فهى من اجتهادات العلماء واستنباطهم، وينبغى معرفة أن المسافة وطولها أو قصرها إنما تعود إلى العمل، فالاجتياز عليه إنما هو بقدر العمل كما ثبت ذلك فى عدة نصوص.
... وإنكار الجهمية وغيرهم للصراط ليس لهم ما يتمسكون به إلا شبهات باطلة واستبعاد له، ظانين أن استبعاده فى عقولهم يصح أن يكون دليلاً على إنكاره، وبغض النظر عن سرد تلك الشبهات فإن النتيجة واحدة وهى إنكار الصراط، ويكفى فى الرد عليهم أن يقال لهم: إنكم تردون أقوال نبيكم - صلى الله عليه وسلم - بمحض الهوى والشبهات، وليس لكم أى دليل، ومن رد أقوال النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد صحة ثبوتها، فلا ريب فى خسرانه ومفارقته طريق المؤمنين.
4. إنكار الجهمية للميزان:
... الميزان من أمور الآخرة الغيبية التى يجب الإيمان بها وقد أنكرته الجهمية، والمراد به فى الاصطلاح الشرعى: الميزان الذى أخبر الله تعالى عنه فى كثير من آيات القرآن الكريم، وأخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى الأحاديث الشريفة فى أكثر من مناسبة تنويهاً بعظم شأنه وخطورة أمره.(1/387)
... وهو ميزان حقيقى له لسان وكفتان توزن به أعمال العباد خيرها وشرها، وقد أخبر الله عنه فى القرآن الكريم إخباراً مجملاً من غير تفصيل لحقيقته، وجاءت السنة النبوية فبينته. يظهره الله فى يوم القيامة لإظهار مقادير أعمال الخلق، وقد أجمع المسلمون على القول به واعتقاده.
... وثبت أن العمل يوزن ويوزن أيضاً العامل، وتوزن صحائف الأعمال، وروى أن أشد ما يكون الناس خوفاً فى يوم القيامة عندما يأتى دور الوزن.
... وقد تلقى المسلمون أخباره بالقبول والتصديق لثبوته بالكتاب والسنة والإجماع(1)، ولم يخالف فى ثبوته أى شخص من السلف.
... وقد ذهبت الجهمية وغيرهم من أهل البدع إلى إنكاره بلا دليل، لأنه فى –زعمهم- يستحيل وزن الأعراض، كما أنكروا أن يكون هناك ميزان حقيقى له كفتان ولسان، معرضين عن النصوص الثابتة بذلك كما قدمنا بعضها.
5. قول الجهمية بفناء الجنة والنار:
... اقتضت حكمة الله تعالى أن يوجد الجنة وأن تكون دار أوليائه إلى الأبد، وأن يوجد النار وتكون دار أعدائه إلى الأبد، خلقهما الله وكتب لهما البقاء الأبدى بإبقاء الله تعالى لهما وهذا الثابت فى الشريعة الإسلامية.
... وخالفت الجهمية وجاءوا بأفكار ومعتقدات ما أنزل الله بها من سلطان، قال شمس الدين ابن القيم:
«والجهم أفناها وأفنى أهلها - تبا لذاك الجاهل الفتان»(2)
... ولم يكن لهم ما يستدلون به على إنكارهم ذلك إلا مجرد الظن، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئاً، وصاروا يشنعون على السلف أهل الحق ما يعتقدونه فى وجود الجنة والنار الآن ودوامها فى المستقبل.
... لقد زعم الجهم وأتباعه أن الجنة والنار ستفنى بحجة أن ما لا نهاية له من الأمور الحادثة المتجددة بعد أن لم تكن يستحيل –حسب زعمه- أنها تبقى إلى ما لا نهاية، ولم يتصور أن بعض الأشياء التى شاء الله لها البقاء أنه يمتنع فناؤها.
__________
(1) ... انظر: لوامع الأنوار 2/184.
(2) ... النونية 2/393(1/388)
... ثم زعم جهم أن الرب يمتنع عليه إيجاد حوادث لا أول لها، مخافة تعدد الآلهة إذا قلنا بوجودها، ثم قاس هذا على نهاية الحوادث، فكما أنه يستحيل عنده وجود حوادث لا أول لها، فكذلك يمتنع القول بوجود حوادث لا آخر لها، لأن الله وحده هو الأول والآخر.
... وقد ظن أن هذا من تنزيه الله تعالى، وهو فى الواقع إساءة ظن بقدرة الله تعالى، ولم يعلم أن ما أراد الله له البقاء فإنه يمتنع عليه الانتهاء، فإن الجنة أراد الله لها البقاء والنار كذلك فيستحيل أن تفنيا، وإلا كان فناؤهما تكذيباً لكتاب الله وسنة نبيه، فإن القرآن الكريم مملوء بالأخبار عن بقائهما إلى الأبد.
... ولئن نازع هؤلاء فى دوامهما فقد نازعوا فى وجودهما الآن.
... وقد ذكر الله عز وجل فى القرآن الكريم أدلة على وجودهما الآن بما لا يخفى إلا على أهل البدع، فقد قال تعالى عن الجنة: { أعدت للمتقين } (1).
... وقال عن النار: { أعدت للكافرين } (2)، لقد أعدهما الله تعالى قبل نزول أهلهما فيهما.
... وقد جاء فى السنة النبوية ما يؤكد وجودهما الآن كما جاء ما يؤكد بقاءهما أبداً كما تقدم.
... ومن الأحاديث التى تؤكد وجودهما الآن ما جاء فى حديث الإسراء والمعراج قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ثم انطلق جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدرى ما هى قال: ثم دخلت الجنة فإذا هى جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك)(3).
... وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة)(4).
__________
(1) ... آل عمران: 133.
(2) ... آل عمران: 131.
(3) ... صحيح البخارى 4/107.
(4) ... المصدر السابق 4/85.(1/389)
... وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأنه: رأى الجنة وتناول منها عنقوداً، وقال لهم: (ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا)(1).
... إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة التى تؤكد وجودهما الآن، إضافة إلى ما جاء فى القرآن الكريم، ولكن أهل البدع لا ينظرون إلى الحق إلا من زاوية هواهم، والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
الحكم على الجهمية:
... يتورع السلف كثيراً عن إكفار أى جماعة أو شخص، ويرهبون إطلاق التكفير، فلا يتسرعوا فيه كما تفعل الفرق الباطلة فى تكفير الناس أو فى تكفير بعضهم بعضاً أيضاً، إلا أن السلف لا يتورعون عن إطلاق كلمة الكفر على من جاءت النصوص بتكفيرهم أو بتسميتهم كفاراً، عملاً بالنصوص ووقوفاً عند مفهومها الصحيح. ومن هنا تجد أن السلف حينما يطلقون الكفر على فرد أو جماعة لهم ضوابط قوية ودرجات فى التكفير، من لا يفطن لها وقع –ولا بد- فى الخطأ سواء أكان خطأ شرعياً أم خطأ فى مفهومه للتكفير عند السلف.
... ولقد ذهب كثير من علماء السلف إلى تكفير الجهمية وإخراجهم من أهل القبلة، ومن هؤلاء الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمى، فقد جعل فى كتابه (كتاب الرد على الجهمية)(2) باباً سماه (باب الاحتجاج فى إكفار الجهمية)، وباباً آخر سماه (باب قتل الزنادقة والجهمية واستتابتهم من كفرهم).
... وأورد تحت هذين البابين أدلة كثيرة من الكتاب الكريم ومن السنة النبوية، ومن الآثار وأقوال العلماء ما يطول ذكره، وحاصله أن الجهمية كفار للأمور الآتية:
1. ... بدلالة القرآن الكريم، حيث أخبر عن قريش أنهم قالوا عن القرآن: (إن هذا إلا قول البشر)(3) أى مخلوق، وهو نفسه قول الجهم بخلقه، ثم أورد كثيراً من الآيات فى هذا.
__________
(1) ... صحيح مسلم 3/34.
(2) ... انظر: كتاب الرد على الجهمية ص 106/117.
(3) ... المدثر: 25.(1/390)
2. ... ومن الأثر ما ورد عن على وابن عباس فى قتلهم الزنادقة، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من بدل دينه فاقتلوه)(1)، والجهمية أفحش زندقة وأظهر كفراً منهم.
3. ... قال الدارمى: (ونكفرهم أيضاً بكفر مشهور)، ثم ذكر من ذلك قولهم بخلق القرآن، وتكذيبهم لما أخبر الله تعالى أنه يتكلم متى شاء وكلم موسى تكليماً، وهؤلاء ينفون عنه صفة الكلام فيجعلونه بمنزلة الأصنام التى لا تتكلم، ثم بكفرهم فى عدم إثباتهم لله تعالى ما أثبته لنفسه من الصفات: كالوجه والسمع والبصر والعلم والكلام. وبكفرهم فى أنهم لا يدرون أين الله تعالى ولا يصفونه بأين ولا يثبتون له مطلق الفوقية الثابتة بالنصوص الصريحة فى كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -.
... كما أورد الدارمى جملة من أسماء الذين حكموا بكفر الجهمية صراحة، ومنهم: سلام بن أبى مطيع، وحماد بن زيد، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، ووكيع، وحماد بن أبى سليمان، ويحيى بن يحيى، وأبو توبة الربيع ابن نافع، ومالك بن أنس.
5. المرجئة(2)
تمهيد:
... المرجئة من أوائل الفرق التى تنتسب إلى الإسلام فى الظهور، وقد احتلت مكاناً واسعاً فى أذهان الناس وفى اهتمام العلماء بأخبارهم وبيان معتقداتهم بين مدافع عنهم ومحاج لهم، وبين معجب بأدلتهم وبين داحض لها.
__________
(1) ... أخرجه البخارى 6/149، وأبو داود 4/520، والترمذى 4/59، والنسائى 7/104، وابن ماجه 2/848 وقال الترمذى: حديث حسن صحيح
(2) ... من كتاب: «فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها»، جـ2، د. غالب بن على عواجى.(1/391)
... ولقد أخذت تلك الخصومات أشكالاً من العنف واللين، ولكنها ذهبت حول تقرير حقيقة الإرجاء والرد عليه وجمع أدلته والوقوف عندها، وكان يكفى للانتهاء عن الخوض فى هذه القضية وقفة واحدة متأنية، ومواجهة الحقيقة التى طالما أغفلها هؤلاء وأولئك ألا وهى أن الإرجاء الذى هو بمعنى ترك الأعمال وعدم الاهتمام بها لا مكان له فى الواقع إلا عند المتأخرين الذين يريدون التحايل والانفلات بأى وسيلة، ذلك أن الذين قرروا الإرجاء فى بدء أمرهم كانوا عند التحقيق من أكثر الناس عبادة وعملاً، بدليل أنك تجد الشخص منهم يحث على الإرجاء بكلام قد ألفه وحفظه، ولكن إذا جاء إلى ميدان العمل تجده من المحرضين على اغتنام الفرص، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، فلم يبق للإرجاء عنده إلا ذلك الجزء من الكلام المردد فى إيقاظ الخصومة(1).
... ومن هنا نجد أن شيخ الإسلام رحمه الله –وقد قدم دراسة وافية للمرجئة- يذكر أن السلف كانوا يصلون خلفهم ويترحمون عليهم، وإنما يشنعون عليهم مسلكهم الخاطئ فى تأخير العمل عن حقيقة الإيمان، وهؤلاء هم مرجئة الفقهاء بخلاف مرجئة الجهمية الغلاة.
... وقبل البدء بتفاصيل فكر المرجئة وبيان نشأته وما آل إليه، قبل هذا نذكر على سبيل الإيجاز التعريف بالمرجئة لغة واصطلاحاً.
- صلى الله عليه وسلم - تعريف الإرجاء لغةً واصطلاحاً:
... يقول الشهرستانى: (الإرجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير كما فى قوله تعالى: { قالوا أرجه وأخاه } (2) أى أمهله وأخره والثانى: إعطاء الرجاء.
__________
(1) ... انظر: ظاهرة الإرجاء فى الفكر الإسلامى.
(2) ... الشعراء: 36.(1/392)
... أما إطلاق اسم المرجئة على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنهم كانوا يؤخرون العمل عن النية والعقد. وأما بالمعنى الثانى فظاهر، فإنهم كانوا يقولون: لا تضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة، وقيل: الإرجاء تأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة، فلا يقضى عليه بحكم ما فى الدنيا من كونه من أهل الجنة أو من أهل النار(1)، إلى أن قال: وقيل: الإرجاء تأخير على رضى الله عنه عن الدرجة الأولى إلى الرابعة(2).
- صلى الله عليه وسلم - الأساس الذى قام عليه مذهب المرجئة:
... الأساس الذى قام عليه مذهب الإرجاء هو الخلاف فى حقيقة الإيمان ومم يتألف، وتحديد معناه، وما يتبع ذلك من أبحاث. وهل الإيمان فعل القلب فقط أو فعل اللسان، أو هو فعل القلب واللسان معاً؟ أى والعمل غير داخل فى حقيقته، وبالتالى لا يزيد الإيمان ولا ينقص، إذ التصديق واحد لا يختلف أهله فيه، هذه أهم ميزات بحوث هذه الطوائف المرجئة، وإلى كل قسم من تلك الأقسام ذهب فريق من المرجئة.
... إلا أن أكثر فرق المرجئة على أن الإيمان هو مجرد ما فى القلب ولا يضر مع ذلك أن يظهر من عمله ما ظهر، حتى وإن كان كفراً وزندقة، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، ولا عبرة عنده بالإقرار باللسان ولا الأعمال أيضاً، لأنها ليست جزءاً من حقيقة الإيمان.
__________
(1) ... مذهب السلف أنه لا يجوز الحكم على معين بالجنة أو بالنار إلا ما جاء التنصيص عليه من الشارع.
(2) ... الملل والنحل 1/139.(1/393)
... وذهبت الكرَّامية إلى أن الإيمان هو القول باللسان، ولا يضر مع ذلك أن يبطن أى معتقد حتى وإن كان الكفر. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، لا يغنى أحدهما عن الآخر، أى فمن صدق بقلبه وأعلن التكذيب بلسانه لا يسمى مؤمناً. وعلى هذا قام مذهب الحنفية وهو أقرب مذاهب المرجئة إلى أهل السنة لموافقتهم أهل السنة فى أن العاصى تحت المشيئة، وأنه لا يخرج عن الإيمان. وخالفوهم فى عدم إدخال العمل فى الإيمان وفى أن الإيمان يزيد وينقص، فلم يقولوا بذلك. هذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة من المرجئة، وهو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومن قال بقوله من فقهاء الكوفة الذين أخروا العمل عن حقيقة الإيمان وماهيته.
... على أن فى نسبة الإرجاء إلى أبى حنيفة من الخلاف الكثير بين العلماء مالا يخفى، هل كان أبو حنيفة من المرجئة كما وصفه كتاب المقالات والفرق، أم كان ضد الإرجاء كما يصفه المدافعون عنه، لأن الإرجاء يتميز بالتساهل فى الأعمال وتأخيرها عن منزلة الإيمان، وأبو حنيفة رحمه الله تعالى بلغ حداً كبيراً فى الاهتمام بالفروع، مما يدل على أنه يهتم بالعمل، وهذا عكس الإرجاء، فكيف يوصف بالإرجاء حسب هذا الدفاع عنه!!
... وأما ما جاء فى الكتاب المنسوب إليه الفقه الأكبر، من عبارات تدل دلالة واضحة على إرجائه –فقد شكك هؤلاء المدافعون عنه فى صحة نسبة هذا الكتاب إليه، بل كذبوا نسبته إليه.
... ودافع عنه الشهرستانى وذهب إلى أن نسبة الإرجاء إلى أبى حنيفة إنما كان سببه فى رأيه –المعتزلة والقدرية- عن سوء فهم منهم لرأى أبى حنيفة الذى يرى بأن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فظنوا أنه يؤخر العمل عن الإيمان، إضافة إلى أن المعتزلة –كما يرى الشهرستانى- كانوا يسمون كل من خالفهم مرجئاً(1).
__________
(1) ... الملل والنحل 1/141.(1/394)
... والواقع أن النقول بإرجاء أبى حنيفة كثيرة، وعلماء الفرق أغلبهم يقر نسبة الإرجاء إليه بالمعنى الذى قدمنا ذكره. وهذا هو الثابت، ولا يقال: إن أبا حنيفة كان من غلاة المرجئة كالجهمية مثلاً، وذلك لموافقته أهل السنة والاعتقاد السليم فى جوانب كثيرة فى باب الإيمان وإن خالفهم فيما ذكر.
... ولقد بذل كثير من علماء الأحناف جهدهم ليجعلوا الخلاف بينهم وبين أهل السنة فى حقيقة الإيمان لفظياً، فلم يتم لهم ذلك مع أنهم يستندون إلى جعل الخلاف لفظياً على الاتفاق الحاصل فعلاً بينهم وبين أهل السنة فى مرتكب الكبيرة عند الله، إذ لا يسمى كافراً ولا يحكم له بالخلود فى النار يوم القيامة، بل هو تحت المشيئة إن شاء الله عفى عنه بفضله وإن شاء عاقبه بعدله.
... وكذلك اتفاقهم على أن الأعمال لا بد منها، وأن العبد لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ولكن امتنع عن العمل فلم يقم به –أنه يستحق اللوم والعقوبة، وأنه من العصاة. إلا أن كل هذه الحجج لا تجعل الخلاف لفظياً، وذلك أن أهل السنة لا يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، فالتفرقة بين الأعمال والإيمان لا يقول بها السلف.
... كما أن السلف لا يرون أن الناس على درجة واحدة فى الإيمان والتوحيد، كذلك حُكْمُ الأحناف للعصاة بالإيمان الكامل لم يوافقهم فيه السلف، كما أن السلف لا يوافقونهم فى القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه.
... والحاصل: أن المرجئة أقسام كثيرة وأنهم يختلفون فى بعض أسس الإرجاء، كما سيتضح ذلك إن شاء الله.
- صلى الله عليه وسلم - بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة:(1/395)
... يذكر العلماء أن الحسن بن محمد بن الحنفية هو أول من ذكر الإرجاء فى المدينة بخصوص على وعثمان وطلحة والزبير، حينما خاض الناس فيهم وهو ساكت ثم قال: قد سمعت مقالتكم ولم أر شيئاً أمثل من أن يرجأ على وعثمان وطلحة والزبير، فلا يتولوا ولا يتبرأ منهم(1). ولكنه ندم بعد ذلك على هذا الكلام وتمنى أنه مات قبل أن يقوله، فصار كلامه بعد ذلك طريقاً لنشأة القول بالإرجاء، وقد بلغ أباه محمد بن الحنيفة كلام الحسن فضربه بعصا فشجه، وقال: لا تتولى أباك علياً؟ ولم يلتفت الذين تبنوا القول بالإرجاء إلى ندم الحسن بعد ذلك، فإن كتابه عن الإرجاء انتشر بين الناس وصادف هوى فى نفوس كثيرة فاعتنقوه(2).
... ولكن ينبغى معرفة أن إرجاء الحسن إنما هو فى الحكم بالصواب أو الخطأ على من ذكرهم، ولم يتعلق إرجاؤه بالإيمان أو عدمه كما هو الحال فى مذهب المرجئة أخيراً.
... وقيل: إن أول من قال بالإرجاء على طريقة الغلو فيه هو رجل يسمى ذر بن عبد الله الهمدانى وهو تابعى، وقد ذمه علماء عصره من أهل السنة، بل كان بعضهم –مثل إبراهيم النخعى- لا يرد عليه إذا سلم، وكذلك سعيد بن جبير.
... وهناك أقوال أخرى فى أول من دعا إلى الإرجاء فقيل: إن أول من أحدثه رجل بالعراق اسمه قيس بن عمرو الماضرى.
... وقيل: إن أول من أحدثه حماد بن أبى سليمان وهو شيخ أبى حنيفة وتلميذ إبراهيم النخعى، ثم انتشر فى أهل الكوفة، وقد عاصر حماد ذر بن عبد الله. ويذكر شيخ الإسلام عن نشأة الإرجاء بالكوفة أن أول من قاله فيهم حماد بن أبى سليمان(3).
__________
(1) ... انظر: ظاهرة الإرجاء فى الفكر الإسلامى ص 244.
(2) ... لم يكن ما كتبه الحسن كتاباً حسب ما يتبادر إلى الذهن، وإنما كان بمنزلة منشور.
(3) ... انظر: مجموع الفتاوى 7/297، 311.(1/396)
... وقيل: إن أول من قال به رجل اسمه سالم الأفطس، ويطلق على إرجاء هؤلاء أنه إرجاء الفقهاء، ويظهر أن تلك الأقوال لا تباعد بينها، لأن هؤلاء كانوا فى عصر واحد، وكانوا أيضاً على اتفاق فى إرجائهم.
... ولقد نسب الإرجاء إلى علماء مشاهير، وقد عدّ الشهرستانى جماعة من هؤلاء ومنهم: الحسن بن محمد بن على بن أبى طالب، وذكر أنه أول من قال بالإرجاء، ولكنه لم يجزم بذلك فيما يبدو من تعبيره، حيث ذكر ذلك بصيغة التمريض "قيل"، ثم ذكر أنه كان يكتب فيه الكتب إلى الأمصار ثم قال: (إلا إنه ما أخر العمل عن الإيمان كما قالت المرجئة اليونسية والعبيدية، لكنه حكم بأن صاحب الكبيرة لا يكفر، إذ الطاعات وترك المعاصى ليست من أصل الإيمان حتى يزول الإيمان بزوالها).
... كما عدّ منهم سعيد بن جبير(1)، وطلق بن حبيب وعمر بن مرة ومحارب بن زياد ومقاتل بن سليمان وذر، وعمرو بن ذر، وحماد بن أبى سليمان وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وقديد بن جعفر، ثم قال: (وهؤلاء كلهم أئمة الحديث لم يكفروا أصحاب الكبائر بالكبيرة، ولم يحكموا بتخليدهم فى النار، خلافاً للخوارج والقدرية).
... ومن كبار المرجئة ومشاهيرهم: الجهم بن صفوان، وأبو الحسين الصالحى، ويونس السمرى، وأبو ثوبان، والحسين بن محمد النجار، وغيلان، ومحمد بن شبيب، وأبو معاذ التومنى، وبشر المريسى، ومحمد بن كرام، ومقاتل بن سليمان المشبه لله عز وجل بخلقه، ومثله الجواربى وهما من غلاة المشبهة(2).
- صلى الله عليه وسلم - أصول المرجئة:
... تكاد فرق المرجئة تتفق فى أصولها على مسائل هامة هى:
... تعريف الإيمان بأنه التصديق أو المعرفة بالقلب أو الإقرار.
__________
(1) ... هكذا ذكر عن سعيد بن جبير أنه من رجال المرجئة، وسيأتى أن سعيد بن جبير ممن كان يذم الإرجاء ويمقته.
(2) ... انظر: مقالات الإسلاميين 1/213.(1/397)
... وأن العمل ليس داخلاً فى حقيقة الإيمان، ولا هو جزء منه، مع أنهم لا يغفلون منزلة العمل من الإيمان تماماً إلا عند الجهم ومن تبعه فى غلوه.
... وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، لأن التصديق بالشئ والجزم به لا يدخله زيادة ولا نقصان.
... وأن أصحاب المعاصى مؤمنون كاملو الإيمان بكمال تصديقهم وأنهم حتماً لا يدخلون النار فى الآخرة.
... ولهم اعتقادات أخرى: كالقول بأن الإنسان يخلق فعله، وأن الله لا يرى فى الآخرة، وقد تأثروا فى هذه الآراء بالمعتزلة، وكذا رأيهم فى أن الإمامة ليست واجبة، فإن كان ولا بد فمن أى جنس كان ولو كان غير قرشى، وقد تأثروا بهذا الرأى من الخوارج الذين كانوا ينادون به ولم يطبقوه.
... ومن عقائد المرجئة الجهمية أن الكفر بالله هو الجهل به –وهو قول جهم- وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط وأنه لا يتبعض، ومنها أن الجنة والنار تفنيان وتبيدان ويفنى أهلهما ولا خلود لأحد فيهما.
... وفيما يلى تفصيل واضح لأقسام اتجاهات الناس فى حقيقة الإيمان كما رتبها الدكتور سفر الحوالى فى رسالته عن الإرجاء:
أ. أن الإيمان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
... 1. أهل السنة ... 2. الخوارج ... ... 3. المعتزلة
ب. أنه بالقلب واللسان فقط:
1. مرجئة الفقهاء الحنفية.
2. ابن كلاب، وكان على عقيدة المرجئة الفقهاء، وقد انقرض مذهبه.
جـ. أنه باللسان والجوارح فقط:
1. الغسانية.
2. فرقة مجهولة لم يصرح العلماء بتسميتها، ولعلها الغسانية.
د. أنه بالقلب فقط:
... 1. الجهمية ... 2. المريسية ... 3. الصالحية ... ... 4. الأشعرية ... ... 5. الماتريدية.
هـ. أنه باللسان فقط:
... 1. الكرَّامية: وقد انقرضوا، وقد ذكر عنهم شيخ الإسلام أنهم يقولون: المنافق مؤمن وهو مخلد فى النار، لأنه آمن ظاهراً لا باطناً، وإنما يدخل الجنة من آمن ظاهراً وباطناً.
أ. الذين قالوا: إنه بالقلب واللسان والجوارح:(1/398)
1. ... الذين قالوا: الإيمان فعل كل واجب وترك كل محرم، ويذهب الإيمان كله بترك الواجب أو فعل الكبيرة:
1. الخوارج، مرتكب الكبيرة عندهم كافر.
2. المعتزلة، مرتكب الكبيرة عندهم فى منزلة بين المنزلتين، يعنى فى الدنيا، وأما فى الآخرة فقد وافقوا الخوارج فى الحكم.
2. ... الذين قالوا: الإيمان قول وعمل –أى عمل القلب والجوارح- وكل طاعة هى شعبة من الإيمان أو جزء منه.
... والإيمان يكمل باستكمال شعبه وينقص بنقصانها، لكن منها ما يذهب الإيمان كله بذهابه، ومنها ما ينقص بذهابه.
... فمن شعب الإيمان أصول لا يتحقق إلا بها، ولا يستحق مدّعيه مطلق الاسم بدونها، ومنها واجبات لا يستحق الاسم المطلق بدونها، ومنها كمالات يرتقى صاحبها إلى أعلى درجاته. (وتفصيل هذا كله بحسب النصوص). كما هو مذهب أهل السنة والجماعة.
ب. الذين قالوا: إنه يكون بالقلب واللسان فقط:
1. ... الذين يدخلون أعمال القلب –يعنى فى حقيقة الإيمان- وهم بعض قدماء المرجئة الفقهاء، وبعض محدثى الحنفية المتأخرين.
2. ... الذين لا يدخلون أعمال القلب، وقد تطور بهم الأمر إلى إخراج قول اللسان أيضاً من الإيمان وجعلوه علامة فقط، وهم عامة الحنفية "الماتريدية".
جـ. الذين قالوا: إنه يكون بالقلب فقط:
1. ... الذين يدخلون فيه أعمال القلب جميعاً، وهم سائر فرق المرجئة: كاليونسية والشمرية والتومنية.
2. ... الذين يقولون: هو عمل قلبى واحد –المعرفة- الجهم بن صفوان.
3. ... الذين يقولون: هو عمل قلبى واحد –التصديق- الأشعرية والماتريدية(1).
- صلى الله عليه وسلم - أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها:
__________
(1) ... انظر: مجموع الفتاوى جـ7 فى عدة أمكنة من هذا الجزء المشتمل على كتاب الإيمان الكبير، وكتاب الإيمان الأوسط. وانظر ظاهرة الإرجاء فى الفكر الإسلامى ص 284-286.(1/399)
... تلمس المرجئة فى الاستدلال لمذهبهم نصوصاً وشبهات، أوَّلوا النصوص ونصروا الشبهات بتكلفات غير صحيحة، وخرجوا بنتيجة، هى أن العمل ليس من حقيقة الإيمان، وأخَّروا جميع أعمال الجوارح عن الإيمان، وقالوا: يكفى فى دخول الإيمان والفوز برضى الله أن يحتوى القلب على المعرفة والتصديق كما سبق، وفتحوا بذلك باباً واسعاً لأهل البطالة والكسل والمغرمين بالأمانى دون عمل، والذين يحبون التفلت عن ما تقتضيه النصوص الشرعية، ولهذا تجد المرجئة الغلاة منهم أكسل الناس فى العبادة وأضعفهم فى الالتزام، وقد تلمسوا لما يذهبون إليه بعض الأدلة فى القرآن الكريم ومن السنة النبوية وزعموا أنها تدل على مذهبهم.
فمن القرآن الكريم: استدلوا بقول الله تعالى:
1. ... { إن الله لا يغفر أن يُشْرَكَ به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } (1).
2. ... { قل يا عبادِىَ الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمةِ الله إن اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعاً إنه هو الغفور الرحيم } (2).
3. ... كما اهتمت الجهمية بجمع النصوص التى تجعل الإيمان أو الكفر محله القلب. كما فى قول الله تعالى: { أولئك كتب فى قلوبهم الإيمان } (3).
4. ... { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } (4).
5. ... { ختم الله على قلوبهم } (5).
... إلى غير ذلك من الآيات التى يوحى ظاهرها بهذا المفهوم المتكلف للمرجئة.
أما من السنة النبوية: فقد استدلوا بما يلى:
... بعض الأحاديث والآثار التى يدل ظاهرها على الاكتفاء بالبعد عن الشرك ووجود الإيمان فى القلب للفوز برضى الله، مثل:
1. قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار). قال ابن مسعود: (وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة)(6).
__________
(1) ... النساء: 48.
(2) ... الزمر: 53.
(3) ... المجادلة: 22.
(4) ... النحل: 106.
(5) ... البقرة: 7.
(6) ... أخرجه البخارى 3/110، ومسلم 1/94 فى الإيمان.(1/400)
2. وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه أنه قال: (يا ابن آدم إنك لو أتيتنى بقراب الأرض خطايا ثم لقيتنى لا تشرك بى شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة)(1).
3. ... وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم ثبت قلبى على دينك)(2).
4. وكذا حديث الجارية التى سألها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: (أين الله؟ قالت: فى السماء. فقال لمولاها: اعتقها فإنها مؤمنة)(3).
5. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات)(4).
6. ومن أدلتهم كذلك ما جاء فى أحاديث شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فى أقوام فيخرجهم الله من النار حتى لا يبقى من فى قلبه ذرة أو برة أو شعيرة من إيمان، وفيه: (فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم فى نهر فى أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة فى حميل السيل إلى أن قال: فيخرجون كاللؤلؤ فى رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه)(5).
... وقد استدل المرجئة بهذا الحديث لإرجائهم من العبارات السابقة فيه:
1. لم يعملوا خيراً قط.
2. هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجمة بغير عمل عملوه.
... فقالوا: إذا لم يكن لهم عمل خير قط فما الذى بقى معهم؟ والجواب –كما يزعمون- أنه بقى معهم التصديق فقط ونفعهم دون النظر إلى العمل، لأن حقيقة الإيمان –كما يزعمون- لم تتوقف على العمل.
__________
(1) ... أخرجه مسلم 4/2068 بلفظ: "ومن لقينى بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بى شيئاً لقيته بمثلها مغفرة" واللفظ السابق للترمذى وحسنه.
(2) ... أخرجه أحمد 2/454.
(3) ... أخرجه مسلم 1/382 رقم 537، وأحمد فى المسند 5/447.
(4) ... أخرجه مسلم 4/1986 رقم 2564.
(5) ... أخرجه مسلم 1/170.(1/401)
7. ... ومن الشبهات التى تعلق بها المرجئة أيضاً على أن العمل ليس من الإيمان قولهم:
1. إن الكفر ضد الإيمان فحيثما ثبت الكفر انتفى الإيمان، والعكس.
2. ومنها ما جاء فى نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان.
8. ... ومن أدلة الأحناف على أن الإيمان قول واعتقاد فقط، وأن الأعمال ليست داخلة فيه وإنما هى شرائع الإسلام فإذا عمل معصية نقص من شرائع الإسلام وليس من التصديق بالإسلام –من أدلتهم على ذلك قولهم.
1. إن الإيمان فى اللغة المقصود به التصديق فقط، والعمل بالجوارح لا يسمى تصديقاً فليس من الإيمان.
2. لو كانت الأعمال من الإيمان والتوحيد لوجب الحكم بعدم الإيمان لمن ضيع شيئاً من الأعمال، وفى ذلك يقول أبو حنيفة فى كتابه الوصية: ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيراً من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن ولا يجوز أن يقال يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة، ولا يجوز أن يقال: ارتفع عنها الإيمان، إلى غير ذلك من النصوص التى استدل بها المرجئة عموماً والأحناف بخصوصهم، والتى فهموا منها ما يدل على صحة مذهبهم، ثم نتج عن صنيعهم هذا تضارب الأدلة فى مدلولاتها –أمامهم- لعدم وقوفهم على ما تقضيه من الفهم السليم الذى هدى الله إليه أهل السنة، بل ذهبت كل طائفة من طوائف المرجئة الكثيرة إلى الاستدلال لما تزعمه بنصوص قد لا تستدل بها الطوائف الأخرى.(1/402)
... قال ابن أبى العز الحنفى: "فمن أدلة الأصحاب لأبى حنيفة رحمه الله: أن الإيمان فى اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى مخبراً عن إخوة يوسف: { وما أنت بمؤمن لنا } (1) أى بمصدق لنا، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوى –وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى. والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام فى الدنيا، هذا على أحد القولين كما تقدم.
... ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب فكذا ما يضادهما، وقوله: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } (2) يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركب من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه، ولأن العمل قد عطف على الإيمان والعطف يقتضى المغايرة، قال الله تعالى: { آمنوا وعملوا الصالحات } (3)، وغيرها فى مواضع من القرآن(4).
الرد على أدلة المرجئة:
... والواقع أن تلك النصوص التى تقدمت فى استدلال المرجئة على إخراج العمل عن حقيقة الإيمان لا يسلم لهم فهمهم لها من أنها تدل على إخراج الأعمال الظاهرة عن أعمال القلب، فإن إيمان القلب وإن كان هو الأساس وعليه الاعتماد الأول ولكن لا ينفى هذا أن أثر إيمان القلب يظهر على الجوارح بل هو الحق، والنصوص كما هو الواضح منها لا تدل فقط على تصديق القلب وحده، وإنما تدل على أن الإيمان له دلالات لا تتضح إلا بالأعمال الظاهرة، والذين أحجموا عن إدخال الأعمال الظاهرة فى حقيقة الإيمان نتج عن ذلك تساهل عندهم فى الحكم حتى على الفجار الذين لا شك فى ظهور فجورهم.
__________
(1) ... يوسف: 17.
(2) ... النحل: 106.
(3) ... البقرة: 25.
(4) ... شرح الطحاوية ص19.(1/403)
... فتجد منهم من لا يكفِّر بالأعمال الظاهرة حتى وإن كانت توحى بكفر صاحبها علانية، فهم لا يجرءون على تكفيره حتى يتأكدوا من مصداقية قلبه بالإيمان، لأنه لو صدق بشعائر الإسلام فلا يكفر مهما عمل إلا إذا ارتفع التصديق عن قلبه فهنا يجرءون على تكفيره.
... وهذه النتيجة طبيعية بالنسبة لهم بعد أن أغفلوا ارتباط الأعمال بإيمان القلب.
... والحق أن الفعل المكفِّر يكفر به صاحبه إذا كان الفعل نفسه يوحى الشرع فى الكتاب أو السنة أو إجماع علماء الأمة بكفر فاعله، إذ لو لم يكفر قلبه أولاً لما كفرت جوارحه، فمن سب الله أو رسوله أو فضل القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية وقدمها عليها أو غير ذلك من الأمور المعلومة من دين الإسلام بالضرورة –فإنه لا يحتاج لتكفيره إلى مساءلته هل هو مصدق بالإيمان أم لا، لأن فعله شاهد عليه بعدم التصديق، أو أن تصديقه مثل تصديق إبليس بربه وباليوم الآخر، فهل نفعه ذلك؟ فكذلك هؤلاء، إلا أن يأتى أحدهم بمخرج له فى ذلك معتقداً صحته.
... قال شيخ الإسلام –رحمه الله- عنهم: "فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحى، قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر –ليس هو كفر فى الباطن،ولكنه دليل فى الظاهر على الكفر، ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم فى الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به، فإذا أقيمت عليه الحجة بنص أو إجماع أن هذا كافر باطناً وظاهراً قالوا: هذا يقتضى أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطنى، وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك"(1).
__________
(1) ... انظر مجموع الفتاوى 7/557.(1/404)
... ومن استند منهم إلى إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان بما استنبطه مما جاء فى القرآن الكريم من إسناد الإيمان إلى القلب فقط. كقول الله تعالى: { ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب } (1). وقوله تعالى: { من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب } (2). وقوله تعالى: { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } (3). وقوله تعالى: { فى قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا } (4).
... إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التى تبين منزلة الإيمان وضده من القلب، من استند منهم إلى غير ذلك فقد أخطأ الفهم، فليس المراد منها إخراج العمل وإغفاله عن إيمان القلب، فإن من أنكر تلازم الأعمال الظاهرة بأعمال القلوب وقال: إن الإيمان هو المعرفة فقط فهو جهمى، وكذا إن قال: إنه التصديق فقط مثل الأشاعرة فقد تجهم، إذ لا فرق بين دعوى المعرفة فقط ودعوى التصديق فقط –وكلاهما من دون عمل، وما ذكره بعض الأشاعرة من التفريق بينهما فإنه نصرة لمذهبهم فإن كلتا الطائفتين تلتقى على إخراج الأعمال عن حقيقة الإيمان، فيبقى النزاع فى التفرقة بين المعرفة والتصديق المجرد عن العمل غير واضح، فإن المعرفة والتصديق موضعهما القلب، والعمل الظاهر دليل ذلك ولازم له.
... وقد كَفَّرَ أئمة العلم من قال بقول جهم: إن الإيمان هو التصديق فقط.
... فظهر أن تلك الآيات لا تدل على نفى دخول الأعمال فى حقيقة الإيمان، بل غاية ما فيها التركيز على أهمية الإيمان القلبى الذى بدوره يثمر الإيمان بالقيام بأعمال الشرع الظاهرة، أو أنها أسندت إلى القلوب باعتبار أنها هى المضغة التى إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله.
... وأما ما استدل به المرجئة من النصوص التى تدل على أن من اجتنب الشرك دخل الجنة، سواء كانت تلك النصوص من القرآن الكريم أو من السنة النبوية فإن الجواب على ذلك:
__________
(1) ... الحج: 32.
(2) ... ق: 33.
(3) ... الحديد: 16.
(4) ... البقرة: 10.(1/405)
... "إن هذه النصوص تفيد أن من لم يقع فى الشرك مع التوبة والقيام بأمر الله والانتهاء عن نهيه – فإن الله يغفر له الذنوب التى هى دون الشرك، فإذا مات على بعض الذنوب يرجى له المغفرة ابتداء، أو يعاقبه الله بذنبه ثم يدخله الجنة، كما هو مذهب السلف فى أهل الذنوب حسب ما تفيده النصوص من الكتاب والسنة.
... كما أنه لا يقع من شخص عرف التوحيد وأخلص لربه أنه لا يأتى بالأعمال الأخرى التى أوجبها الإسلام، بحيث يكتفى بابتعاده عن الشرك ثم يركن إلى ذلك لدخوله الجنة، فاتضح أن هذه الآيات لا تدل على إغفال العمل والاقتصار على المعرفة أو التصديق بالقلب كما يرى المرجئة، بل هى واردة فى حكم من مات تائباً أو لم تكن عليه معاصٍ، أو كانت عليه معاصٍ ومات على التوحيد، بحيث كان آخر كلامه فى الدنيا: لا إله إلا الله".
... ( وما فهموه من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (التقوى هاهنا) بأن الإيمان والكفر محلهما القلب، ولا عبرة بعمل الجوارح –فهو فهم غير سديد من جهة نفى دخول الأعمال الظاهرة إذا لم تثمر القيام بأعمال الإيمان الظاهرة فهى ليست تقوى صحيحة. وهل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يريد أن الإيمان هو مجرد التصديق والإقرار بالقلب فقط دون أن يرى أثر ذلك فى الأعمال كلها.
... وقد جرَّهم إلى هذا الفهم أمر لم يتقبلوه وهو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة يعبر عن الإيمان بأعمال القلب ومرة بأعمال الجوارح ومرة بكليهما، فمن وقف على جانب دون آخر من هذه المراتب فقد قصر ولم يلتزم الحق واختلط الأمر عليه.
... ( وأما حديث الجارية الذى استدل به المرجئة على مذهبهم أن ترك العمل لا ينافى الإيمان، فإن المراد من شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها بالإيمان –أن الإيمان الظاهر- الذى تجرى بموجبه الأحكام الدنيوية لا الإيمان الحقيقى الكامل.(1/406)
... فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أن إيمان هذه الجارية ليس مثل إيمان كبار الصحابة كأبى بكر وعمر وغيرهما من الصحابة السابقين، وإنما أراد الإيمان الظاهر الذى يميز المسلم عن الكافر ابتداءً فى المعاملات الدنيوية، ولو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بسؤالها عن الإيمان فقط بأن قال لها: هل أنت مؤمنة وسكت لكان فيه نظر للمرجئة، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - سالها عن أشياء أخرى فقد قال لها: (أتشهدين أن لا إله إلا الله. قالت: نعم. قال: أتشهدين أن محمد رسول الله؟ قالت: نعم. قال: أتوقنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعتقها)(1).
... وهذه كلها من أعمال الإيمان الباطنة والظاهرة أيضاً. قال شيخ الإسلام عن تمسك المرجئة بهذا الحديث: "وهذا لا حجة فيه، لأن الإيمان الظاهر الذى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا لا يستلزم الإيمان فى الباطن الذى يكون صاحبه من أهل السعادة فى الآخرة"(2) فظهر أن هذه الأسئلة يريد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ورائها معرفة منزلة هذه الجارية من أحكام الإسلام، وهل تستحق أن يطلق عليها اسم الإيمان أم لا. وليس المقصود انها بلغت فى إيمانها إلى حد إيمانه أو إيمان كبار أصحابه.
... وعلى فرض أن الجارية قالت للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنا مؤمنة بكل شرائع الإسلام بمعنى مصدقة بها، ولكنى لا أرى فرضية الصلاة والزكاة والصوم وغير ذلك من شرائع الإسلام. أى لا أرى لزوم عملها بالجوارح على أنها حقيقة الإيمان، بل تطلق عليه مجازاً، فهل كان صدر الرسول - صلى الله عليه وسلم - سينشرح منها ويأمر مولاها بعتقها ويشهد لها بالإيمان(3).
__________
(1) ... الموطأ ص666.
(2) ... انظر: مجموع الفتاوى 7/209 – 416.
(3) ... انظر لمزيد التفصيل: ظاهرة الإرجاء فى الفكر الإسلامى ص 519، 526.(1/407)
... ( وأما حديث شفاعة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فى أولئك فالجواب عنه: أنه لا بد من النظر إلى الأحاديث الكثيرة التى صرحت بأنهم من أهل الإيمان وعليهم أثر السجود الذى هو عبارة عن عمل الصلاة وأن الجهنميين (أهل النار) يُعرفون بذلك.
... وفى بعض الروايات أن المؤمنين يشفعون فيمن عرفوه بأنه من أهل الإيمان والعمل فى الدنيا، وهذا لا يمنع أن فيه جماعة من الناس لهم أعمال لا يعلم بها إلا الله أخرجهم الله بسببها من النار، حيث ظهرت عليهم علامات إيمانهم وأعمالهم التى قدموها.
... وقوله: (لم يعملوا خير قط) لا ينافى العمل مطلقاً بل قد يكون لهم عمل وإن كان قليلاً إلى جانب إيمانهم وحسناتهم الأخرى فينفعهم ذلك، وهذا مثل أن تقول لشخص: أنت ما عملت شيئاً بعد إتمامه للعمل الذى هو فيه، فإنك لا تنفى وجود عمل ما، ولكن حيث كان العمل غير كامل ولا دقيق ولا يعتبر به –ولو من وجهة نظرك- اعتبرته فى عداد من لم يعمل شيئاً وهو أسلوب من أساليب العرب فى كلامهم.
... ثم إن هؤلاء معهم إيمان وعمل، ولولا ذلك لكانوا كسائر الكفار والمشركين يخلدون فى النار، فلا مزية لخروجهم منها إلا ذلك، وربما أن الله أخرجهم أو أدخلهم الجنة لعزمهم على العمل ومباشرتهم الدخول فيه كما حصل لبعضهم حين أسلم صادقاً مخلصاً ثم دخل المعركة فقتل فشهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة، مع أنه لم يظهر منه إلا حسن قبوله للإسلام ودخوله المعركة، ولكن الله اطلع على إيمانه القوى وأَوَّلُهُ بَذْلُهُ نَفْسَهُ للقتل مع المسلمين فى سبيل نصرة الإسلام، ولقصر وقته عن أداء الواجبات الأخرى فغفر الله له.
... وكقصة الرجل الذى قتل مائة نفس ثم تداركته رحمة الله فدخل الجنة، ومثله ما وقع للرجل الذى أوصى أن يحرق بعد موته فغفر الله له، فمثل هؤلاء فى عزمهم وقوة إيمانهم كمثل الذى عمل، وفرق بين من له رغبة وعزم على العمل وبين من تركه اتكالاً وتكاسلاً.(1/408)
... ( وأما احتجاجهم بقولهم: إن الكفر ضد الإيمان فحيثما ثبت الكفر انتفى الإيمان والعكس.
... فإنه يقال لهم: إطلاق القول بأن كل كفر هو ضد الإيمان ويخرج من الملة مطلقاً ليس صحيحاً على إطلاقه هكذا إلا عند الخوارج فى حكمهم على أصحاب المعاصى بالكفر المخرج من الملة، فإن الإيمان درجات، وهو اسم مشترك يقع على معان كثيرة، منها ما يكون الكفر ضداً له، كأن يعتقد الكفر ويعمل به ويدعو إليه فكفره اعتقادى وهو ضد الإيمان ولا نزاع فى هذا.
... ومنها ما يكون الفسق ضداً له لا الكفر، كترك بعض الأعمال المفروضة مع الاعتراف بوجوبها. ومنها ما يكون الترك ضداً له لا الكفر ولا الفسق، كترك بعض الأعمال التى هى تطوع إذ لا يصح تسمية التارك لها كافراً ولا فاسقاً وإنما يسمى تاركاً ومفرطاً فى حق نفسه لعدم قيامه بتلك الأعمال التى تزيد فى إيمانه(1).
... وقد يطلق السلف التسمية بالكفر على بعض من يعمل أعمالاً جاء الشرع بإطلاق الكفر عليها ولكنهم يسمونه كفراً عملياً لا اعتقادياً حتى تقام الحجة على صاحبه، كالذنوب التى وردت النصوص بإطلاق الكفر على أهلها، كالزنا والسرقة وشرب الخمر فى حق من لم يجحد النصوص الواردة فى تحريمها قبل إقامة الحجة عليه ببيانها، فإن السلف يطلقون عليه الكفر تمشياً مع النصوص، ثم يفصلون بعد ذلك فإذا استحلها ولم يعترف بوجوبها وردَّ النصوص فهو كافر كفراً اعتقادياً ظاهراً وباطناً.
__________
(1) ... انظر: الفصل لابن حزم 3/212.(1/409)
... وأما ما استدلوا به من ورود نصوص كثيرة فيها عطف العمل على الإيمان، وأن المعطوف والمعطوف عليه بينهما مغايرة وفرق وإلا لما عطف عليه، فالواقع أن النصوص كما يتضح منها، أحياناً يرد فيها ذكر الإيمان فى حالة العطف بمعنى الدين وذلك فى حال إطلاق الإيمان وحده، فإنه يدخل فيه الأعمال، فإذا أطلق لفظ الإيمان فقط تبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك الإيمان القلبى وعمل الجوارح والنطق باللسان ولا يفهم منه التصديق فقط أو الإقرار فقط إلا عند المرجئة، حيث تكلفوا دعوى وقوع ذلك.
... وأما فى حال ذكر الإيمان والعمل معاً فلا مغايرة بينهما فى الحكم الذى ذكر لهما، بل يكون ذلك من جنس عطف الخاص على العام مثل قوله تعالى: { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } (1). فإن الصلاة الوسطى من ضمن بقية الصلوات وإنما أفردت بالذكر الخاص بعد الذكر العام لمزيد العناية والاهتمام بها، وأحياناً إذا ذكر العمل الصالح والإيمان معاً يكون المقصود بذلك إظهار وتوكيد حقيقة الإيمان بالعمل الصالح، إذ لا يكون العمل صالحاً مقبولاً إلا بعد إيمان صاحبه، فذكر الإيمان والعمل معاً من باب التوكيد أو عطف الخاص على العام. والحاصل أن الإيمان المطلق يستلزم الأعمال كما جاء فى القرآن الكريم والسنة النبوية(2).
... وأما ما استدل به الأحناف من أن الإيمان فى اللغة المقصود به التصديق، والعمل لا يسمى تصديقاً فيقال لهم: إنه لم يسم التصديق بالقلب دون التصديق باللسان والعمل إيماناً فى اللغة، ولم يعرف عن العرب أنهم يحكمون للشخص بالتصديق والإيمان يشئ صدقه بقلبه ثم أعلن التكذيب به بلسانه، كذلك لم يعرف فى اللغة أن التصديق باللسان فقط دون التصديق بالقلب يعتبر إيماناً
... إذاً فلا يسمى مؤمناً بالشئ إلا إذا توافق التصديق بالقلب واللسان معاً ونتج عنهما حصول أثر ذلك وهو العمل.
__________
(1) ... البقرة: 238.
(2) ... انظر: مجموع الفتاوى 7/160- 161.(1/410)
... ولشيخ الإسلام ردود مطولة فى إبطال تعلق المرجئة بقوله تعالى: { وما أنت بمؤمن لنا } (1) أى بمصدق –على أن الإيمان هو التصديق، والعمل خارج عن التصديق، وفى أن الإيمان هو التصديق فى اللغة وفى الشرع أيضاً(2)، ثم إن إطلاق الإيمان على الأعمال أو الأعمال على الإيمان أمر مقرر عند السلف وثابت لا يمارون فى صحته لورود ذلك فى نصوص كثيرة.
... فالجهاد والصوم والصلاة وغيرها من الإيمان، كما أنهم يسمون الإيمان عملاً لما جاء فى الحديث أن النبى - صلى الله عليه وسلم - سئل: أى العمل أفضل؟ فقال: (إيمان بالله ورسوله. قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد فى سبيل الله. قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)(3).
... وقال الأوزاعى: (لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنيةٍ موافقةٍ للسنة. وكان من مضى من سلفنا لا يفرقون بين الإيمان والعمل، العمل من الإيمان والإيمان من العمل(4).
... فالصلاة مثلاً من أعمال الجوارح، وقد قال تعالى: { وما كان الله ليضيع إيمانكم } (5) أى صلاتكم إلى بيت المقدس، لا كما ذهب إليه المرجئة من أن المعنى أى تصديقكم بالنبى - صلى الله عليه وسلم - والدين.
... قال شيخ الإسلام: وحقيقة الأمر أن اسم الإيمان يستعمل تارة هكذا وتارة هكذا.. فإذا قرن اسم الإيمان بالإسلام أو العمل كان دالاً على الباطن فقط.
... ... وإن أفرد اسم الإيمان فقد يتناول الباطن والظاهر، وبهذا تتألف النصوص.
__________
(1) ... يوسف: 17.
(2) ... انظر: 7/ 289- 297 من مجموع الفتاوى
(3) ... أخرجه البخارى 1/77.
(4) ... انظر: مجموع الفتاوى 7/296.
(5) ... البقرة: 143.(1/411)
... وأما إذا قرن الإسلام بالإيمان كما فى قوله تعالى: { قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } (1). وقوله تعالى: { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين – فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } (2) فقد يراد بالإسلام الأعمال الظاهرة(3)، أى والإيمان الأعمال الباطنة، وهذا هو مذهب السلف أن الإيمان أخص من الإسلام.
... وأما استدلالهم بقولهم: لو كان العمل يسمى إيماناً لكان من ضيع منه شيئاً فقدْ فَقَدَ الإيمان كله، فلا يكون مؤمناً أو لا يقال له مؤمن.
... يقال لهم: عن هذا الاستدلال تحكم وخروج عن ما يقتضيه الحق، فلا يجوز أن نسمى الشخص مؤمناً ولا كافراً إلا بنص واضح عن الله أو عن رسوله، فمن سماه الله مؤمناً نسميه مؤمناً، ومن سماه كافراً نسميه كافراً، بل نقول: إن من ضيع شيئاً من ما أمر بالإيمان به فقد ضيع بعض الإيمان ولم يضيع الكل، فلا يخرج عن الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه بالكلية(4).
... وأما بالنسبة لارتفاع العمل عن الحائض وعدم ارتفاع الإيمان عنها، فإن هذا الاستدلال غير صواب، ذلك أنها فى حالة ارتفاع العمل عنها لم يكن من قبلها، وإنما ذلك من قبل خالقها، وهى فى تلك الحال فى حكم العامل، ولهذا لا يتوجه إليها الذم بترك الصلاة والصوم فى تلك الحال وهى لا زالت على الإيمان والعمل لم تخرج بتركهما فى تلك الحال عن الإيمان ولا عن مواصلة العمل، فإن تلك الفترة الطارئة لا تجعلها فى عداد من خرج عن الإيمان وضيع العمل لكى يصدق عليها ترك الإيمان بسبب ترك العمل كما استدل هؤلاء.
__________
(1) ... الحجرات: 14.
(2) ... الذاريات: 35،36
(3) ... انظر: مجموع الفتاوى 7/575، 576 بتصرف
(4) ... انظر: الفصل لابن حزم 3/191.(1/412)
... وأما ما ذهب إليه المرجئة من أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، كما أن التصديق لا يزيد ولا ينقص، فهو قول من أبطل الأقوال وهو قياس على أمر غير مسلم، فالتصديق لا يصح لهم ما زعموه فيه من أنه لا يتفاضل الناس فيه، بل يتفاضلون تفاضلاً ظاهراً فى التصديق بقضايا تمر بالناس يومياً فى حياتهم، فضلاً عن التصديق بقضايا المغيبات من أخبار اليوم الآخر والجنة والنار وأسماء الله وصفاته، فمن زعم أن تصديق أقل الناس إيماناً بالله مثل تصديق أكمل الناس إيماناً بتلك الأمور المغيبة، فلا شك فى بطلان قوله بما لا يحتاج إلى سرد الأدلة عليه.
... وأما زيادة الإيمان ونقصانه فيكفى فى ثبوته إخبار الله عز وجل بذلك فى كتابه الكريم وإخبار نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - فى سنته الشريفة بما لا يخفى على طلاب العلم معرفته، فإن أدلته واضحة تمام الوضوح، ومعتقد السلف فيه من أوضح الأمور، وهو الاعتقاد الجازم أن الإيمان يزيد وينقص فى قلب كل شخص.
... وكل إنسان يلمس هذا من نفسه ولا ينكره إلا مكابر، على أنه بعد ثبوت ذلك فى كتاب الله وفى سنة نبيه وفى إجماع علماء السلف –بعد ثبوت هذا كله لا يحق لمسلم أن يتشكك فى ذلك، بل يجب الإيمان والجزم به.
... وينبغى التنبيه إلى أمر هام، وهو وجود عدة أحاديث كلها موضوعة يذكر فيها أن الإيمان فى القلب فقط، وأنه لا يزيد ولا ينقص، ونضيف هنا ما ذكره العلماء من أنه كلما عثرت على حديث من هذا النوع فهو مكذوب على النبى - صلى الله عليه وسلم - وفى هذا يقول ابن القيم رحمه الله:
... (وكل حديث فيه أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص فكذب مختلق)(1) ومن تلك الأحاديث:
... حديث: (من قال: الإيمان يزيد وينقص فقد خرج من أمر الله، ومن قال: أنا مؤمن إن شاء الله، فليس له فى الإسلام نصيب)، قال الشوكانى: رواه محمد بم تميم، وهو واضعه(2).
__________
(1) ... المنار المنيف ص119.
(2) ... الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة ص453.(1/413)
... ومنها الحديث المروى عن أبى سعيد الخدرى مرفوعاً: (من زعم أن الإيمان يزيد وينقص فزيادته نفاق ونقصانه كفر، فإن تابوا وإلا فاضربوا أعناقهم بالسيف أولئك أعداء الرحمن فارقوا دين الله تعالى واستحلوا الكفر وخاصموا الله، طهر الله الأرض منهم ألا فلا صلاة لهم ألا فلا زكاة لهم ألا فلا صوم لهم ألا فلا حج لهم ألا فلا دين لهم، هم براء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - برئ منهم) قال السيوطى: موضوع، آفته الطالقانى كذاب خبيث من المرجئة كان يضع الحديث لمذهبه(1).
... ومثله أيضاً الحديث المروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن وفد ثقيف جاءوا إلى النبي صلي الله عليه و سلم فسألوه عن الإيمان هل يزيد و ينقص فقال (لا زيادته كفر ونقصانه شرك) وهو حديث موضوع وضعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخى وهو من رؤساء المرجئة.
... قال السيوطى نقلاً عن الحاكم: (إسناده فيه ظلمات، والحديث باطل والذى تولى كبره أبو مطيع)(2).
... وكأن الذين وضعوا أمثال هذه الأحاديث كانوا يجهلون أو يتجاهلون أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ قول الله تعالى: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون } (3)، وآيات أخرى كثيرة تثبت زيادة الإيمان، فكيف ينفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما أثبته الله فى القرآن. لأن ما قبل الزيادة –كما هو معروف- قبل النقصان، وقول المرجئة بعدم زيادته ونقصانه إنما حملهم على ذلك زعمهم أن التصديق شئ واحد، وبالتالى فهو لا يختلف حسب مفهومهم ولا يتفاضل الناس فيه.
مذهب أهل السنة فى تعريف الإيمان:
__________
(1) ... اللآلئ المصنوعة 1/40.
(2) ... المصدر السابق 1/38. وأنظر كلام أبن أبى العز على هذا الحديث فى شرح الطحاوية ص 325.
(3) ... التوبة: 124.(1/414)
... مذهب أهل السنة المتمسكين بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - السائرين على وفق ما كان عليه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضوان الله عليهم فى أسماء الله وصفاته، وفى مجانبة البدع وأهلها – مذهبهم فى الإيمان أنه قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصى.
... هذا هو منهجهم واعتقادهم فى الإيمان. أن العمل داخل فى حقيقة الإيمان وأنه لا إيمان بدون عمل، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية حسب ما حل بالقلب من ذلك.
... وهذا هو الواضح من النصوص الكثيرة فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية، إلا أنه قد تختلف تعبيرات أهل السنة عن حقيقة الإيمان فيعرفونه بصيغ مختلفة(1)، ولكن القصد واحد، وهو إدخال العمل فى حقيقية الإيمان كما يدل عليه كلام الله تعالى وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... ومنه قوله تعالى فى بيان جملة من صفات المتقين أهل الإيمان: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حُبه ذوى القُربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدُوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أُولئك الذين صدقوا وأُولئك هم المتقون } (2).
... وقال تعالى مبيناً الخصال التى يكون بها الشخص مؤمناً إذا طبقها على نفسه وعمل بما دلت عليه: { قد أفلح المؤمنون (1) الذين هم فى صلاتهم خاشعون (2) والذين هم عن اللغو معرضون (3) والذين هم للزكاة فاعلون (4) والذين هم لفروجهم
__________
(1) ... مثل قولهم: هو عمل وقول ونية، أو هو قول وعمل واتباع السنة، أو هو قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح، أو هو إقرار وعمل، أو تصديق وعمل. انظر: مجموع الفتاوى 7/170.
(2) ... البقرة: 177.(1/415)
حافظون (5) إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين (6) فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون (7) والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون (8) والذين هم على صلواتهم يحافظون (9) أولئك هم الوارثون (10) الذين يرثُون الفردوس هم فيها خالدون } (1). وقال تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله . أولئك هم الصادقون } (2).
... وهذه الآيات واضحة الدلالة على مذهب أهل السنة فى حقيقة الإيمان المكون من القول والعمل والاعتقاد. وهى حجة على من فرق فى الإيمان بين الاعتقاد والعمل، أو غالط فى بعض تعريفات السلف للإيمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فى بيان أقوال السلف حقيقة الإيمان:
... "ومن هذا الباب أقوال السلف وأئمة السنة فى تفسير الإيمان، فتارة يقولون: هو قول وعمل، وتارة يقولون: هو قول وعمل ونية، وتارة يقولون: قول وعمل ونية واتباع السنة، وتارة يقولون: قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح. وكل هذا صحيح فإذا قالوا: قول وعمل، فإنه يدخل فى القول قول القلب واللسان جميعاً، وهذا هو المفهوم من لفظ القول والكلام"(3).
... واستدل أهل السنة على ما يذهبون إليه من دخول العمل فى مسمى الإيمان بأحاديث كثيرة منها:
... قوله - صلى الله عليه وسلم - (الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)(4).
__________
(1) ... المؤمنون: 1 – 11.
(2) ... الحجرات: 15.
(3) ... مجموع الفتاوى 7/170.
(4) ... أخرجه البخارى 1/51، ومسلم واللفظ له 1/210.(1/416)
... وقوله - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس: (آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان، أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تعطوا الخمس من المغنم)(1).
... وقوله - صلى الله عليه وسلم - (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخيارهم خيارهم لنسائهم)(2) وأحاديث أخرى كثيرة جعل فيها العمل من الإيمان.
... وعلى هذا مضى السلف الصالح من الصحابة ومَنْ بعدهم. وعليه أيضاً مضى الإسلام، ومنهم الأئمة مالك والشافعى وأحمد، حيث فسروا الإيمان بأنه التصديق والقول والعمل، وأنه يقبل الزيادة ويقبل النقص، وأن أهله يتفاوتون فيه.
... ومما ينبغى فهمه أن السلف حينما يعرِّفون الإيمان بأنه قول وعمل، لا يقصدون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالجوارح دون النظر إلى إيمان القلب وتصديقه وعمله، فإن السلف ما كانوا يريدون ألفاظ اللسان وحركات الجوارح مجردة عن عمل القلب وتصديقه الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع شرائع الإسلام.
... فإن السلف يعتبرون إيمان القلب أمراً أساسياً فى الإيمان وصلاح العمل، وإنما لم يصرحوا به لظهوره، إذ إنهم لم يتصوروا أن تلك الثلاثة أمور فى التعريف بالإيمان منفصلة عن بعضها. وحينما يعرف السلف الإيمان بأنه الإقرار والتصديق أو تصديق وعمل، لا يريدون من التصديق مجرد التصديق بالخبر فقط دون الالتفات إلى ثمرة التصديق وهو الإذعان والامتثال للأمر، الذى يتبعه العمل حتماً بل يريدون التصديق الذى يتبعه العمل كأثر للتصديق وإلا فلا فائدة من التصديق إن لم يثمر العمل.
__________
(1) ... أخرجه البخارى 1/129 فى مواضع من صحيحه، ومسلم 1/154.
(2) ... الإمام أحمد فى المسند 2/250.(1/417)
... وإن الإنسان ليعجب حقاً ممن تجاهل منزلة العمل من الإيمان وهو يقرأ كتاب الله وسنة نبيه، ويسمع الأحاديث التى تجعل الإيمان والعمل قرينين لا يغنى أحدهما عن الآخر، فقد قرن الله تعالى العمل بالإيمان فى مواضع عديدة من كتابه الكريم، وفى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كذلك أحاديث كثيرة.
... فمن فرق بين الإيمان والعمل بالجوارح فلا شك فى مخالفته الصريحة للقرآن والسنة، وأنه ينبغى عليه التوبة والرجوع إلى هدى القرآن الكريم، وأن يترك تلك الفلسفات التى أنتجت هذه الخلافات العقيمة فى قضية الإيمان التى كانت فى تمام الوضوح عند الصحابة ومن بعدهم، حتى نبغت هذه الفئات من الناس ليشرحوا الإيمان بأغمض مما يتصور العقل كما هى عادة أولئك.
... فإنهم يشرحون المسألة الواضحة حتى يجعلوها ألغازاً وطلاسم لا يعرف منها أحياناً إلا الحروف التى كتبت بها فتجد شروحات وكلاماً كثيراً لا فائدة من ورائه، وصدق ابن أبى العز فى قوله عن كثرة كلام المتأخرين وقلة كلام المتقدمين قال: (كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا فى جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرًا قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين فإنه قليلٌ كثيرُ البركة)(1) فهل يوجد أوضح من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - فى حقيقة الإيمان حين قال لجبريل فى سؤاله عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)(2)؟
... وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)(3).
__________
(1) ... شرح العقيدة الطحاوية ص13.
(2) ... أخرجه البخارى 1/114، ومسلم 1/126.
(3) ... أخرجه البخارى 1/51 بلفظ: "بضع وستون" ومسلم 1/202 بلفظ: "بضع وسبعون". وأخرجه على الشك: "بضع وسبعون أو بضع وستون".(1/418)
... والأحاديث كثيرة فى هذا المعنى الذى يوضح حقيقة الإيمان فى أنه مركب من أعمال القلوب وأعمال الجوارح، فمن زعم أنه مؤمن ومصدق بقلبه ولكن لا يؤمن بعمل تلك الأمور الظاهرة للإيمان فقد رد الحديث مهما ادعى من تعليلات.
... فمن أقر بالإسلام ثم امتنع عن الصلاة والزكاة والحج والصيام وغير ذلك من شعائر الإسلام وأصر على الامتناع، فإن المرجئة لا يتجاسرون على الحكم عليه بالكفر لجواز أن يكون قلبه مطمئنا بالإيمان، وفاتهم أن الذى يطمئن قلبه بالإيمان تكون شعائر الإسلام أحب إليه من كل فعل، وأن قرة عينه تكون دائماً فى القيام بتلك الأعمال والاستزادة منها متقرباً بعملها إلى ربه.
... وهذا يدل على بعد فكر المرجئة عن الحق، فلو أن شخصاً صدق بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - لكنه أبى أن يعمل بجوارحه ما أمر به كالصلاة مثلاً، وأصر على إبائه حتى قدم لضرب عنقه وهو مصر على إبائه، فإنهم يزعمون بأنه قد يكون مؤمناً فى الباطن، ونحن لا ندرى حتى وإن كان ظاهره الكفر الصريح.
... وهذا افتراض كاذب لا وجود له إلا فى الذهن، إذ لو كان مصدقاً بقلبه لما فضل أن تضرب عنقه على الامتثال لأمر ربه، وهو يعلم أن الأحكام فى الدنيا إنما تجرى على حسب ما يظهر من أفعال الإنسان، ثم رضى أن يموت كافراً فى نظر المسلمين وراضياً بالأحكام التى سيعامله بها المسلمون بعد موته من عدم الصلاة عليه، وعدم دفنه فى مقابر المسلمين، وأنه لا يورث إلى غير ذلك(1).
__________
(1) ... انظر: كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية 218- 219.(1/419)
... يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ومن هنا يظهر خطأ قول جهم بن صفوان ومن اتبعه، حيث ظنوا أن الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان، وظنوا أنه قد يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان بقلبه وهو مع هذا يسب الله ورسوله، ويعادى الله ورسوله، ويعادى أولياء الله ويوالى أعداء الله، ويقتل الأنبياء، ويهدم المساجد، ويهين المصاحف، ويكرم الكفار غاية الكرامة، ويهين المؤمنين غاية الإهانة.
... قالوا: وهذه كلها معاصى لا ينافى الإيمان الذى فى قلبه، بل يفعل هذا وهو فى الباطن عند الله مؤمن، قالوا: وإنما يثبت له فى الدنيا أحكام الكفار، لأن هذه الأقوال أمارة على الكفر ليحكم بالظاهر. كما يحكم بالإقرار والشهود وإن كان فى الباطن قد يكون بخلاف ما أقر به وبخلاف الشهود(1).
( مسائل:
- صلى الله عليه وسلم - الحكم على الناس يكون بالظاهر:
أهمية هذا الأصل ؟
يقول الإمام الشاطبى فى الموافقات (2/271/272):
... «إن أصل الحكم بالظاهر مقطوع به فى الأحكام خصوصاً وبالنسبة إلى الاعتقاد من الغير عموماً.
... فإن سيد البشر - صلى الله عليه وسلم - -مع إعلامه بالوحى- يجرى الأمور على ظواهرها فى المنافقين وغيرهم وإن علم بواطن أحوالهم. ولم يكن ذلك بمخرجه عن جريان الظواهر على ما جرت عليه.
... لا يقال: إنما كان ذلك من قبيل ما قال (خوفاً من أن يقول الناس أن محمداً يقتل أصحابه) فالعلة أمر آخر غير ما زعمت. فإذا عدم ما علل به فلا حرج لأنا نقول: هذا أدل الدليل على ما تقرر.
__________
(1) ... انظر: مجموع الفتوى 7/188.(1/420)
... لأن فتح هذا الباب يؤدى إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر فالعذر فيه ظاهر واضح. ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر بل بمجرد أمر غيبى ربما شوش الخواطر وران على الظواهر وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جمله ألا ترى إلى باب الدعاوى المستند إلى أن "البيِّنة على المدعى واليمين على من أنكر" ولم يستثن من ذلك أحداً حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - احتاج فى ذلك إلى البيِّنة فقال من يشهد لى؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت فجعلها الله شهادتين فما ظنك بآحاد الأمة.
... فلو ادعى أكذب الناس على أصلح الناس لكانت البينه على المدعى واليمين على من أنكر وهذا من ذلك والنمط واحد فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهى الشرعية».
أدلة أهل السنة لهذا الأصل:
1. قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم فى سبيل الله فتبينوا } (1).
قال الشوكانى فى فتح القدير (1/501):
... «والمراد هنا: لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم لست مؤمناً. فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام. وقيل هما بمعنى الإسلام: أى لا تقولوا لمن ألقى إليكم التسليم فقال السلام عليكم: لست مؤمناً. والمراد نهى المسلمين عن أن يهملوا ما جاء به الكافر مما يستدل به على إسلامه ويقولون إنما جاء بذلك تعوذًا وتقيّةً».
يقول الإمام محمد بن عبد الوهاب (-كشف الشبهات- 49):
... «فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل لقوله تعالى { فتبينوا } ولو كان لا يقتل إذا قالها لم يكن للتثبيت معنى إلى أن يقول: وإن من أظهر التوحيد والإسلام وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يناقض ذلك».
__________
(1) ... النساء: 64.(1/421)
2. ... قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
يقول ابن رجب (جامع العلوم والحكم ص83):
... "وأما فى الآخرة فحسابه على الله عز وجل فإن كان صادقاً أدخله الله بذلك الجنة وإن كان كاذباً فإنه من جملة المنافقين فى الدرك الأسفل من النار"4
يقول الحافظ فى الفتح (1/77):
... "أى أمْر سرائرهم ..... وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر".
يقول البغوى فى شرح السنة (1/70):
... "وفى الحديث دليل على أن أمور الناس فى معاملة بعضهم بعضاً إنما تجرى على الظاهر من أحوالهم دون باطنها وأن من أظهر شعار الدين أجرى عليه حكمه ولم يكشف عن باطن أمره . ولو وُجِدَ مختونٌ فيما بين قتلى غُلْفٍ عُزِلَ عنهم فى المدفن ولو وجد لقيط فى بلد المسلمين حكم بإسلامه"
قال النووى فى شرح مسلم (1/212):
... "وفيه أن الأحكام تجرى على الظاهر والله تعالى يتولى السرائر".
3. ... قصة أسامة رضى الله عنه المشهورة قال: (بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى سرية فصبَّحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع فى نفسى من ذلك فذكرته للنبى - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقال لا إله إلا الله وقتلته قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا فمازال يكررها على حتى تمنيت أنى أسلمت يومئذ).
قال النووى فى شرح مسلم (2/104):(1/422)
... "وقوله - صلى الله عليه وسلم - أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ الفاعل فى قوله أقالها أم لا هو القلب ومعناه أنك كلفت العمل بالظاهر وما ينطق به اللسان وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه فأنكر عليه امتناعه عن العمل بما ظهر باللسان وقال أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب. يعنى وأنت لست بقادر على هذا فاقتصر على اللسان فحسب ولا تطلب غيره.
وقال أيضاً فى شرح مسلم (2/107):
... "وفيه دليل على القاعدة المعروفة فى الفقه والأصول أن الأحكام فيها بالظاهر والله يتولى السرائر".
4. ... قصة جارية معاوية بن الحكم السلمى: لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أفلا أعتقها؟ قال: ائتنى بها فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت فى السماء قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة)(1).
قال شيخ الإسلام فى تعليقه على هذا الحديث:
... (.. فإن الإيمان الذى علقت به أحكام الدنيا هو الإيمان الظاهر وهو الإسلام فالمسمى واحد من الأحكام الظاهرة.
... ولهذا لما ذكر الأسرم لأحمد احتجاج المرجئة بقول النبى - صلى الله عليه وسلم - (اعتقها فإنها مؤمنة) أجابه بأن المراد حكمها فى الدنيا حكم المؤمنة لم يرد أنها مؤمنه عند الله تستحق دخول الجنة بلا نار إذا لقيته بمجرد هذا الإقرار" الإيمان 416، الفتاوى (7/416).
وقال أيضا (الإيمان 7/210):
... «لأن الإيمان الظاهر الذى تجرى عليه الأحكام فى الدنيا لا يستلزم الإيمان فى الباطن الذى يكون صاحبه من أهل السعادة فى الآخرة»(2).
__________
(1) ... أخرجه مسلم فى صحيحه (537)، وأحمد (5/448).
(2) ... انظر الإيمان ص201، 202، 243.(1/423)
5. ... روى البخارى فى صحيحة عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال: "إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحى فى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحى قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر لنا خيراً أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شىء الله يحاسبه فى سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة".
قال ابن تيمية (الصارم ص34):
... وذلك لأن الإيمان والنفاق أصله فى القلب وإنما الذى يظهر من القول والفعل فرع له ودليل عليه فإذا ظهر من الرجل شىء من ذلك ترتب الحكم عليه. أهـ.
- صلى الله عليه وسلم - الخلاف فى توبة الزنديق مع أن الأصل يقتضى أخذه على ظاهره:
... عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى)(1).
قال ابن رجب (جامع العلوم والحكم 1/236، 237):
... وفى مسند البزار عن عياض الأنصارى عن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن لا إله إلا الله كلمة على الله كريمة لها عند الله مكان وهى كلمة من قالها صادقاً أدخله الله بها الجنة ومن قالها كاذباً حقنت ماله ودمه ولقى الله غداً فحاسبه)(2)
__________
(1) ... أخرجه البخارى فى "صحيحه" (25) الإيمان: باب { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } ، ومسلم فى "صحيحه" (22) الإيمان: باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله.
(2) ... رواه البزار (1/26/مجمع الزوائد) والطبرانى وابن منده (4/632/ت6158 الإصابة) من طريق يعقوب بن إسحاق الحضرمى، عن عبيدة، عن عبد الرحمن، عن عياض الأنصارى مرفوعًا.
... قال أبو نعيم: رواه أبو داود بن شبيب، عن عبيدة، فقال: عن عبد الملك بن عمير والمحفوظ أن عبد الرحمن فى الحديثين معًا.
... وقال الهيثمى: رجاله موثوقون إن كان تابعيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.(1/424)
.
... وقد استدل بهذا من يرى قبول توبة الزنديق وهو المنافق إذا أظهر العود إلى الإسلام ولم ير قتله بمجرد ظهور نفاقه كما كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعامل المنافقين ويجريهم على أحكام المسلمين فى الظاهر مع علمه بنفاق بعضهم فى الباطن وهذا قول الشافعى وأحمد فى رواية عنه وحكاه الخطابى عن أكثر العلماء والله أعلم.
يقول الإمام النووى فى شرح مسلم ج1 ص207.
... "اختلف أصحابنا فى قبول توبة الزنديق وهو الذى ينكر الشرع جمله فذكروا فيه خمسه أوجه لأصحابنا.
أصحها والأصوب منها: قبولها مطلقاً للأحاديث الصحيحة المطلقة.
والثانى ... لا تقبل ويتحتم قتله لكنه إن صدق فى توبته نفعه ذلك فى الدار الآخرة وكان من أهل الجنة.
والثالث ... إن تاب مرة واحدة قبلت توبته فإن تكرر ذلك منه لم تقبل.
والرابع ... إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه وإن كان تحت السيف فلا.
والخامس إن كان داعياً إلى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل منه والله أعلم. أهـ.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى (إعلام الموقعين 3/108):
السر فى قبول توبة الكافر دون الزنديق:
... وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهى أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلى من كفره بالإسلام لأنه ظاهرٌ لم يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به، لأنه مقتض لحقن الدم والمعارض مُنتف، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية ولا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن فلأن الظاهر إنما يكون دليلا صحيحا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام الدليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد علم أن الباطن خلافه، ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه، وإن شهد عنده بذلك العدول، وإنما يحكم بشهادتهم إذا لم يعلم خلافها، وكذلك لو أقر إقراراً علم أنه كاذب فيه.(1/425)
... يقول أيضاً وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه واستهانته بالدين، وقدحه فيه، فإظهاره الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة، فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوى وإعمال الدليل الضعيف الذى قد أظهر بطلان دلالته، ولا يخفى على المنصف قوة هذا النظر وصحة هذا المأخذ، وهذا مذهب أهل المدينة ومالك وأصحابه والليث ابن سعد، وهو المنصور من الروايتين عن أبى حنيفة، وهو إحدى الروايات عن أحمد نصرها كثير من أصحابه، بل هى أنص الروايات عنه، وعن أبى حنيفة وأحمد أنه يستتاب، وهو قول الشافعى، وعن أبى يوسف روايتان، إحداهما: أنه يستتاب، وهى الرواية الأولى عنه، ثم قال آخرا: أقتله من غير استتابه، ولكن إن تاب قبل أن يقدر عليه قبلت توبته، وهذه هى الرواية الثالثة عن أحمد ...
... ولو أنه قبل رفعه إلى السلطان ظهر منه من الأقوال والأعمال ما يدل على حسن الإسلام والتوبة النصوحة، وتكرر ذلك منه، لم يُقتل كما قاله أبو يوسف وأحمد فى إحدى الروايات وهذا التفصيل أحسن الأقوال فى المسألة.
- صلى الله عليه وسلم - توبة المرتد:
... قوله تعالى: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } (1).
قال ابن تيمية:
... فإن هذا الخطاب عام فى قتال كل مشرك وتخلية سبيله إذا تاب من شركه وأقام الصلاة وآتى الزكاة سواء كان مشركاً أصليا أو مشركاً مرتدا.
قال القاضى عياض (الشفا 2/556):
... ذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرتد يستتاب وحكى ابن القصار: أنه إجماع فى الصحابة على تصويت قول عمر فى الاستتابة ولم ينكره واحد منهم وهو قول عثمان وعلى وابن مسعود وبه قال عطا بن أبى رباح والنخعى والثورى ومالك وأصحابه والأوزاعى والشافعى وأحمد وإسحق وأصحاب الرأى.
حكم من تكررت ردته:
__________
(1) ... التوبة: 5.(1/426)
... قوله تعالى: { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } (1).
قال ابن تيمية (الصارم ص368):
... أخبر سبحانه أن من ازداد كفراً بعد إيمانه لن تقبل توبته وفرق بين الكفر المزيد كفراً والكفر المجرد فى قبول التوبة من الثانى دون الأول فمن زعم أن كل كفر بعد الإيمان تقبل منه التوبة فقد خالف نص القرآن. أهـ.
وقال ابن ضويَّان (منار السبيل 2/409):
... لا تقبل توبة من تكررت ردته لأن تكرار ردته يدل على فساد عقيدته وقله مبالاته بالإسلام.
وقال القاضى عياض (الشفا ص631):
... من تكرر منه ذلك –شتمه لله- وعرف استهانته بما أتى به فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته وصار كالزنديق الذى لا نأمن باطنه ولا نقبل رجوعه. أهـ.
وقال ابن تيمية (الفتاوى 20/103):
... ويفرق فى المرتد بين الردة المجردة فيقتل إلا أن يتوب وبين الردة المغلظة فيقتل بلا استتابه.
- صلى الله عليه وسلم - علاقة الظاهر بالباطن من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية:
الفتاوى (14/120 – 121):
... «وهنا أصول تنازع الناس فيها ومنها أن القلب هل يقوم به تصديق أو تكذيب ولا يظهر قط منه شىء على اللسان والجوارح وإنما يظهر نقيضه من غير خوف؟
... فالذى عليه السلف والأئمة وجمهور الناس أنه لابد من ظهور موجب ذلك على الجوارح فمن قال: أنه يصدق الرسول ويحبه ويعظمه بقلبه ولم يتكلم قط بالإسلام ولا فعل شيئاً من واجباته بلا خوف فهذا لا يكون مؤمناً فى الباطن وإنما هو كافر وزعم جهم ومن وافقه على أنه يكون مؤمناً فى الباطن وأن مجرد معرفة القلب وتصديقه يكون إيماناً يوجب الثواب يوم القيامة بلا قول ولا عمل ظاهر وهذا باطل شرعاً وعقلاً وقد كفر السلف كوكيع وأحمد وغيرهما من يقول بهذا القول.
__________
(1) ... النساء: 137.(1/427)
... وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم - (إن فى الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كلُّه وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه ألا وهى القلب)(1).
... فبيَّن أنَّ صلاح القلب مستلزم لصلاح الجسد فإذا كان الجسد غير صالح دل على أن القلب غير صالح والقلب المؤمن صالح.
... فعلم أن من يتكلم بالإيمان ولا يعمل به لايكون قلبه مؤمناً وذلك أن الجسد تابع للقلب فلا يستقر شىء فى القلب إلا ظهر موجبه ومقتضاه على البدن ولو بوجه من الوجوه.
الفتاوى (7/17):
... فى قوله تعالى { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثير منهم فاسقون } (2).
... قال شيخ الإسلام "فدل على أن الإيمان المذكور ينفى اتخاذهم أولياء ويضاده ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء فى القلب.
... ومثله قوله تعالى: { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم } (3) فإنه أخبر فى تلك الآية أن متوليهم لا يكون مؤمناً وأخبر هنا أن متوليهم هو منهم، فالقرآن يصدق بعضه بعضاً.
الفتاوى (18/272):
... "ينفى الله الإيمان عمن انتفت عنه لوازمه فإن انتفاء اللازم يقتضى انتفاء الملزوم كقوله تعالى { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبى وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } وقوله: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } (4) فالظاهر والباطن متلازمان. لا يكون الظاهر مستقيماً إلا مع استقامة الباطن وإذا استقام الباطن فلابد أن يستقيم الظاهر.
الفتاوى (7/221):
__________
(1) ... أخرجه البخارى فى "صحيحه" (52) الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه، (2051) فى البيوع: باب الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات، ومسلم فى "صحيحه" (1599) فى المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات.
(2) ... المائدة: 11.
(3) ... المائدة: 51.
(4) ... المجادلة: 22.(1/428)
... والقرآن يبين أن إيمان القلب يستلزم العمل الظاهر بحسبه كقوله تعالى: { ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } (1) إلى قوله: { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } (2) فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول وأخبر أن المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم سمعوا وأطاعوه فبين أن هذا من لوازم الإيمان.
الفتاوى (7/188، 7/189):
... "فالكفر عندهم شىء واحد وهو الجهل والإيمان شىء واحد وهو العلم أو تكذيب القلب وتصديقه وهذا القول مع أنه أفسد قول قيل فى الإيمان فقد ذهب إليه كثير من أهل الكلام المرجئة. وقد كفر السلف كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وأبى عبيد وغيرهم من يقول بهذا القول وقالوا: إبليس كافر بنص القرآن وإنما كفره باستكباره وامتناعه عن السجود لآدم لا لكونه كذب خبرا".
الفتاوى (7/553):
... وبهذا يظهر خطأ جهم ومن اتبعه أن مجرد إيمان بدون الإيمان الظاهر ينفع فى الآخرة فإن هذا ممتنع إذ لا يحصل الإيمان التام فى القلب إلا ويحصل فى الظاهر موجبه بحسب القدرة فإن من الممتنع أن يحب الإنسان غيره حباً جازماً وهو قادر على مواصلته ولا يحصل منه حركه ظاهرة إلى ذلك.
وقال فى الفتاوى (7/611):
... من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنا إيماناً ثابتاً فى قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة ولا يصوم رمضان ولا يؤدى لله زكاة ولا يحج بيته فهذا ممتنع. ولا يصدر هذا إلا مع نفاق فى القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح.
... ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار كقوله تعالى { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذله وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون } (3).
__________
(1) ... النور: 37.
(2) ... النور: 51.
(3) ... القلم: 42، 43.(1/429)
الفتاوى (7/557):
... فهؤلاء القائلون بقول جهم والصالحى قد صرحوا بأن سب الله ورسوله والتكلم بالتثليث وكل كلمة من كلام الكفر ليس هو كفراً فى الباطن ولكنه دليل فى الظاهر على الكفر ويجوز مع هذا أن يكون هذا الساب الشاتم فى الباطن عارفاً بالله موحداً له مؤمناً به!
... فإذا أقيمت عليهم الحجة بنص أو إجماع أن هذا كفر باطناً وظاهراً قالوا: هذا يقتضى أن ذلك مستلزم للتكذيب الباطنى وأن الإيمان يستلزم عدم ذلك.
... فيقال لهم: معنا أمران معلومان:
أحدهما: معلوم بالاضطرار من الدين.
الثانى: معلوم بالاضطرار من أنفسنا عند التأمل.
... أما الأول: فإنا نعلم أن من سب الله ورسوله طوعا بغير كره بل من تكلم بكلمات الكفر طائعًا غير مكره ومن استهزأ بالله وآياته ورسوله فهو كافر باطناً وظاهراً، وأن من قال: إن مثل هذا يكون فى الباطن مؤمناً بالله وإنما هو كافر من الظاهر فإنه قال قولاً معلوم الفساد بالضرورة من الدين.
... وقد ذكر الله كلمات الكفر فى القرآن وحكم بكفرهم واستحقاقهم الوعيد بها وهذا كقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } (1) وكقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } (2) وأمثال ذلك.
... وأما الثانى: فالقلب إذا كان معتقداً صدق الرسول وأنه رسول الله وكان محباً لرسول الله معظماً له امتنع مع هذا أن يلعنه أو يسبه فلا يتصور ذلك إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته.
... فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب.
الفتاوى (7/209):
... قال الشافعى رضى الله عنه فى كتاب الأم فى (باب النية فى الصلاة):
__________
(1) ... المائدة: 73.
(2) ... المائدة: 17.(1/430)
يحتج بأن لا تجزئ صلاة إلا بنية بحديث عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن النبى - صلى الله عليه وسلم - (إنما الأعمال بالنيات)(1).
... ثم قال: وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم يقولون: الإيمان قول وعمل ونية ولا يجزئ واحد من الثلاث إلا بالآخر.
... وقال حنبل حدثنا الحميدى قال: وأخبرت أن ناساً يقولون: من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً ثم يموت. ويصلى مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك فيه إيمانه إذا كان مقراً بالفرائض واستقبال القبلة.
... فقلت: هذا الكفر الصراح وخلاف كتاب الله وسنة رسوله وعلماء المسلمين قال الله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } (2) الآية.
... وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله بن حنبل يقول: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على أمره وعلى الرسول ما جاء به عن الله.
... روى الإمام أبو بكر بن أبى شيبه فى كتاب الإيمان بسند صحيح إلى أبى قلابة التابعى أنه قال: حدثنى الرسول الذى سأل عبد الله بن مسعود فقال: "أنشدك بالله أتعلم أن الناس كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أصناف:
... - مؤمن السريرة مؤمن العلانية.
... - وكافر السريرة كافر العلانية.
... - ومؤمن العلانية كافر السريرة.
... فقال عبد الله: اللهم نعم".
... فلم يكن فى واقع الجيل الأول ولا فى تصوره وجود لمؤمن السريرة كافر العلانية.
يقول الإمام الخطابى – نقله البغوى فى شرح السنة (1/11):
__________
(1) ... أخرجه البخارى قى "صحيحه" كتاب بدء الوحى: باب كيف كان بدء الوحى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ح1) وأيضًا (ح54، 2529، 3898، 5070، 6689، 6953)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات (3/ح1907).
(2) ... البينة: 5.(1/431)
... "قد يكون المرء مستسلماً فى الظاهر غير منقاد فى الباطن ولا يكون صادق الباطن غير منقاد فى الظاهر".
... ولهذا: ينقد شيخ الإسلام ابن تيمية بقوة العبارة التى يستخدمها بعض الفقهاء: فى حق من صدرت عنهم أعمال كفرية صريحة، وهى قولهم: "كافر ظاهراً مؤمن باطناً"، مبيناً أنه لوثه من لوثات الإرجاء. [الإيمان ص386]
- صلى الله عليه وسلم - بعض النصوص الشرعية فى حكم ترك العمل:
1. ... قوله تعالى: { وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } (1).
... وبهذه الآية استدل التابعى المشهور عطاء والشافعى والحميدى والإمام أحمد.
... ففى قصه سالم الأفطس المرجئ يقول الراوى: فدخلت على عطاء بن أرباح فى نفر من أصحابى قلت: إن لنا حاجة فأدخلنا. ففعل فأخبرته أن قوماً قبلنا قد أحدثوا وتكلموا وقالوا: إن الصلاة والزكاة ليستا من الدين.
... فقال: أوليس الله يقول: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة.. } .
... وتبعه الشافعى: فقال للحميدى: ما يُحتج عليهم -يعنى أصل الإرجاء- بآية أحج من قوله تعالى { وما أمروا إلا ليعبدوا الله ... } .
... وتبعه الحميدى والإمام أحمد الفتاوى (ص7/209): فقد روى الخلال عن عبد الله بن حنبل عن ابن إسحاق بن حنبل قال: قال الحميدى "أُخبرت أن أقواماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت ويظل مسنداً ظهره مستدبراً القبلة حتى يموت فهو مؤمن –ما لم يكن جاحداً-.
... فقلت: هذا الكفر بالله الصراح وخلاف كتاب الله وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعل المسلمين قال الله تعالى { حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة } قال حنبل: قال أبو عبد الله: من قال هذا فقد كفر بالله ورد على الله أمره وعلى الرسول ما جاء به.
__________
(1) ... البينة: 5.(1/432)
قال الإمام الآجرى رحمه الله (أخلاق العلماء ص28):
... فالأعمال بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان فمن لم يصدق الإيمان بعمله مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وأشباه لهذه ورضى لنفسه بالمعرفة والقول دون العمل –لم يكن مؤمنا- ولم تنفعه المعرفة والقول وكان تركه للعمل تكذيباً منه لإيمانه وكان العمل بما ذكرنا تصديقاً منه لإيمانه فاعلم ذلك، هذا مذهب علماء المسلمين قديماً وحديثاً.
... فمن قال غير هذا فهو مرجئ خبيث احذره على دينك، والدليل على هذا قول الله عز وجل: { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } .
2. ... قوله تعالى: { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وءاتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وءاتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } (1).
3. ... قوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } (2).
... ثم قال بعدها: { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وءاتوا الزكاة فإخوانكم فى الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر } (3).
قال ابن كثير فى تفسيرها (2/227):
... "ولهذا اعتمد الصديق رضى الله عنه فى قتال مانعى الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال وهى الدخول فى الإسلام والقيام بأداء واجباته ونبه بأعلاها على أدناها.
__________
(1) ... البقرة: 177.
(2) ... التوبة: 5.
(3) ... التوبة: 11، 12.(1/433)
... فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التى هى حق الله عز وجل وبعدها أداء الزكاة التى هى نفع متعد إلى الفقراء أو المحاويج وهى أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة.
... وقد جاء فى الصحيحين عن ابن عمر رضى الله عنهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) وقال أبو إسحاق: قال أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه قال: أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له.
... وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال: يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه".
كتاب الإيمان لأبى عبيد ص57:
... يقول الحافظ أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله "والمصدق لهذا جهاد أبى بكر الصديق رحمه الله تعالى بالمهاجرين والأنصار على منع الزكاة كجهاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الشرك سواء لا فرق بينهما فى سفك الدماء وسبى النساء واغتنام المال فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها".
يقول شيخ الإسلام فى الدرر السنية (8/35):
... "والصحابة لم يقولوا: أأنت مقر لوجوبها أو جاحد لها؟ هذا لم يعهد عن الخلفاء والصحابة بل قد قال الصديق لعمر رضى الله عنه: والله لو منعونى عقالاً أو عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. فجعل المبيح للقتال مجرد المنع لا جحد الوجوب وقد روى أن طوائف منهم كانوا يقرون بالوجوب لكن بخلوا بها ومع هذا فسيرة الخلفاء فيهم جميعاً سيرة واحدة وهى قتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنيمة أموالهم والشهادة على قتلاهم بالنار وسموهم أهل الردة.
يقول ابن تيمية رحمه الله (منهاج السنة 4/500–501):(1/434)
... "فإن الصديق إنما قاتلهم على طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا على طاعته فإن الزكاة فرض عليهم وقتالهم على الإقرار بها وعلى أدائها بخلاف من قاتل ليطاع هو ولهذا قال: الإمام أحمد وأبو حنيفة وغيرهما: من قال: أنا أؤدى الزكاة ولا أعطيها للإمام لم يكن للإمام أن يقاتله.
... وهذا فيه نزاع بين الفقهاء، فمن يجوِّز القتال على ترك طاعة ولى الأمر جوَّز قتال هؤلاء وهو قول طائفة من الفقهاء ويحكى هذا عن الشافعى رحمه الله.
... ومن لم يجوِّز القتال إلا على ترك طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا على ترك طاعة شخص معين لم يجوِّز قتال هؤلاء.
... وفى الجملة، فالذين قاتلهم الصديق رضى الله عنه كانوا ممتنعين عن طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والإقرار بما جاء به فلهذا كانوا مرتدين بخلاف من أقر بذلك ولكن امتنع عن طاعة شخص معين".
يقول شيخ الإسلام (7/142):
... فى قوله تعالى { إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } (1) "فعلم أن التولى ليس هو التكذيب بل هو التولى عن الطاعة فإن الناس عليهم أن يصدقوا الرسول فيما أخبر ويطيعوه فيما أمر وضد التصديق التكذيب وضد الطاعة التولى ولهذا قال { فلا صدق ولا صلى ولكن كذب وتولى } (2).
... وقد قال تعالى: { ويقولون ءامنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين } (3).
__________
(1) ... طه: 48.
(2) ... القيامة: 32.
(3) ... النور: 47.(1/435)
... فنفى الإيمان عمن تولى عن العمل وإن كان قد أتى بالقول إلى أن يقول: "ففى القرآن والسنة من نفى الإيمان عمن لم يأت بالعمل مواضع كما نفى فيها الإيمان عن المنافق وأما العالم بقلبه مع المعاداة أو المخالفة الظاهرة فهذا لم يُسم قط مؤمنا وعند الجهمية إذا كان العلم فى قلبه مؤمن كامل الإيمان إيمانه كإيمان النبيين ولو قال أو عمل ماذا عسى أن يقول ويعمل ولا يتصور عندهم أن ينتفى الإيمان إلا إذا زال العلم من قلبه".
يقول الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرى فى فصل خاص من كتاب الشريعة:
... "اعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم يا أهل القرآن ويا أهل العلم ويا أهل السنن والآثار ويا معشر من فقههم الله عز وجل فى الدين بعلم الحلال والحرام أنكم إن تدبرتم القرآن كما أمركم الله عز وجل علمتم أن الله عز وجل أوجب على المؤمنين بعد إيمانهم به وبرسوله: العمل.
... وأنه عز وجل لم يُثن على المؤمنين بأنه قد رضى عنهم وقد رضوا عنه وأثابهم على ذلك الدخول إلى الجنة والنجاة من النار إلا بالإيمان والعمل الصالح وقرن مع الإيمان العمل الصالح لم يدخلهم الجنة بالإيمان وحده حتى ضم إليه العمل الصالح الذى قد وفقهم إليه فصار الإيمان لا يتم لأحد حتى يكون مصدقاً بقلبه وناطقاً بلسانه وعاملاً بجوارحه.
... لا يخفى أن من تدبر القرآن وتصفحه وجده كما ذكرت.
... واعلموا رحمنا الله تعالى وإياكم أنى قد تصفحت القرآن فوجدت فيه ما ذكرته فى تسعة وخمسين موضعاً من كتاب الله عز وجل وأنّ الله تبارك وتعالى لم يدخل المؤمنين الجنة بالإيمان وحده بل أدخلهم الجنة برحمته إياهم وبما وفقهم له من الإيمان به والعمل الصالح.
... وهذا رد على من قال: "الإيمان المعرفة" ورد على من قال: "المعرفة والقول وإن لم يعمل" نعوذ بالله من قائل هذا…".(1/436)
... ثم شرع رحمه الله فى سرد هذه المواضع من قوله تعالى فى سوره البقرة: { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات ... } (1) إلى قوله { والعصر إن الإنسان لفى خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } (2).
عن كتاب الإيمان لشيخ الإسلام (7/370):
... "قال إسماعيل بن سعيد: وسألت أحمد عمن قال – فى الذى قال جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - إذ سأله عن الإسلام: فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ فقال: نعم – فقال قائل: وإن لم يفعل الذى قال جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - فهو مسلم أيضاً؟ فقال أى الإمام: هذا معاند للحديث".
يقول الإمام الخطابى (النووى على مسلم 1/145):
... فى قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (الإيمان بضع وسبعون شعبه) "فى هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعى اسم لمعنى ذى شعب وأجزاء له أدنى وأعلى والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها والحقيقة تقتضى جميع شعبه وتستوفى جملة أجزائه كالصلاة الشرعية لها شعبة وأجزاء والاسم يتعلق ببعضها والحقيقة تقتضى جميع أجزائها وتستوفيها".
يقول الإمام البغوى فى شرح حديث جبريل (شرح السنة 1/10):
... "جعل النبى - صلى الله عليه وسلم - فى هذا الحديث الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال وجعل الإيمان اسما لما بطن فى الاعتقاد وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان والتصديق بالقلب ليس فى الإسلام بل ذلك تفصيل لجملة هى كلها شىء واحد وجماعها الدين ولذلك قال "ذلك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم" والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعاً ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى: { إنَّ الدِّين عند الله الإسلام } (3) و { رضيت لكم الإسلام دينا } (4) و { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } (5).
__________
(1) ... البقرة: 25.
(2) ... سورة العصر.
(3) ... آل عمران: 19.
(4) ... المائدة: 3.
(5) ... آل عمران: 85.(1/437)
... فأخبر أن الدين الذى رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام ولن يكون الدين فى كل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل".
ويقول أبو طالب المكى فى كلام نفيس نقلاً عن الإيمان لشيخ الإسلام ص316-319:
... "مثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى فى المعنى والحكم فشهادة الرسول غير شهادة الوحدانية وهما شيئان من الأعيان وأحدهما مرتبط بالآخر فهما كشىء واحد لا إيمان لمن لا إسلام له ولا إسلام لمن لا إيمان له إذ لا يخلو المسلم من إيمان يصح به إسلامه ولا يخلو المؤمن من إسلام به يحقق إيمانه من حيث اشتراط الله للأعمال الصالحة الإيمان واشتراط الإيمان للأعمال الصالحة فقال فى تحقيق ذلك: { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه } (1)، { ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى } (2).
... فمن كان ظاهره أعمال الإسلام ولا يرجع إلى عقود الإيمان بالغيب فهو منافق نفاقاً ينقل عن الملة.
... ومن عنده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد".
... وقال: "وعلى مثل هذا أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان والإسلام من صنف واحد فقال فى حديث ابن عمر (بُنى الإسلام على خمس) وقال فى حديث ابن عباس عن وفد عبد القيس: إنهم سألوا عن الإيمان فذكر هذه الأوصاف.
... فدل بذلك على أنه لا إيمان باطن إلا بإسلام ظاهر ولا إسلام ظاهر علانية إلا بإيمانِ سرٍ، وأن الإيمان والعمل قرينان لا ينفع أحدهما بدون صاحبه".
... وقال: "وأيضاً فإنَّ الأمة مجمعة أنَّ العبد لو آمن بجميع ما ذكره من عقود القلب فى حديث جبريل من وصف الإيمان ولم يعمل بما ذكره من وصف الإسلام أنه لا يسمى مؤمناً وأنه لو عمل بجميع ما وصف به الإسلام ثم لم يعتقد ما وصفه من الإيمان أنه لا يكون مسلماً.
__________
(1) ... الأنبياء: 94.
(2) ... طه: 75.(1/438)
... وقد أخبر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن الأمة لا تجتمع على ضلالة".
يقول ابن القيم (الفوائد/107):
... "الإيمان حقيقة مركبة من معرفة ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - علماً والتصديق به عقداً والإقرار به نطقاً والانقياد له محبه وخضوعاً والعمل به باطناً وظاهراً وتنفيذه والدعوة إليه بحسب الإمكان وكماله فى الحب لله والعطاء لله والمنع لله".
... ونص شيخ الإسلام على أن من جوَّز أن يكون من تكلم بالتكذيب والجحد وسائر أنواع الكفر من غير إكراه مؤمناً فى الباطن "فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه". [الصارم المسلول ص525]
- صلى الله عليه وسلم - الكفر يكون كلاماً ولا عبرة بالاعتقاد:
... قوله تعالى { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } (1).
تفسر القرطبى (8/206):
... قال القشيرى: كلمة الكفر سب النبى - صلى الله عليه وسلم - والطعن فى الإسلام "وكفروا بعد إسلامهم" أى بعد الحكم بإسلامهم.
قال القشيرى فى "إكفار الملحدين":
... والحاصل أن من تكلم بكلمه الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل ولا اعتبار باعتقاده كما صرح به فى "الخانية" و"رد المحتار".
... قوله تعالى: { وقد نزل عليكم فى الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكْفَرُ بها ويُسْتَهْزَأُ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذا مثلهم ... } (2).
قال سليمان آل الشيخ رحمه الله (مجموعة التوحيد ص48):
... إن معنى الآية على ظاهرها وهو أن الرجل إذا سمع آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فجلس عند الكافرين والمستهزئين من غير إكراه ولا إنكار ولا قيام عنهم حتى يخوضوا فى حديث غيره فهو كافر مثلهم وإن لم يفعل فعلهم لأن ذلك يتضمن الرضى بالكفر والرضى بالكفر كفر ...
قال الكشميرى: قال ابن حجر الهيثمى فى "الإعلام بقواطع الإسلام".
__________
(1) ... التوبة: 74.
(2) ... النساء: 140.(1/439)
... فى فصل الكفر المتفق عليه مما نقله من كتب الحنفية: من تلفظ بلفظ الكفر يكفر فكل من استحسنه أو رضى به يكفر.
... قوله تعالى: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر... } (1).
قال ابن العربى فى الأحكام (2/976):
... لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جداً أو هزلاً وهو كيفما كان كفر فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة فإن التحقيق أخو الحق والعلم والهزل أخو الباطل والجهل. أهـ.
يقول ابن الوزير اليمانى فى كتابه "إيثار الحق على الخلق" منكراً على من يشترط الاعتقاد فى كفر من يقول الكفر أو يفعله ومبيناً أن من لم يعتبر الظاهر دليلاً على الكفر لا يمكنه أن يُكفِّر أحداً إلا بنص شرعى من الله يخصه باسمه وهذا مستحيل لانقطاعه.
... "وعلى هذا لا يكون شىء من الأفعال والأقوال كفراً إلا مع الاعتقاد حتى قتل الأنبياء!! والاعتقاد من السرائر المحجوبة فلا يتحقق كفر كافر قط إلا بالنص الخاص فى شخصِ شخص!!". أهـ.
ويقول السبكى فى فتاويه (2/586):
... التكفير حكم شرعى سببه جحد الربوبية أو الوحدانية أو الرسالة أو قول أو فعل حكم الشارع بأنه كفر وإن لم يكن جحداً. أهـ.
فى الفتاوى (7/220):
... فى قوله تعالى { ولكن من شرح بالكفر صدراً } (2).
... قال ابن تيمية: فإن قيل فقد قال تعالى { ولكن من شرح بالكفر صدراً } قيل: وهذا موافق لأولها فإنه من كفر من غير إكراه فقد شرح بالكفر صدراً وإلا ناقض أول الآية آخرها.
... ولو كان المراد بمن كَفَرَ الشارح صَدْرُهُ وذلك يكون بلا إكراه لم يستثنِ المُكْرَه فقط بل كان يجب أن يستثنى المكره وغير المكره إذا لم يشرح صدره وإذا تكلم بكلمه الكفر طوعاً فقد شرح بها صدراً وهو كفر.
- صلى الله عليه وسلم - سب الرسول كفر مجرد:
__________
(1) ... التوبة: 12.
(2) ... النحل: 106.(1/440)
... قوله تعالى: { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون } (1).
قال ابن كثير فى التفسير (2/340) ط دار الفكر:
... ومن هاهنا أُخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه أو من طعن فى دين الإسلام أو ذكره بنقص".
وفى صحيح سنن أبى داود (3665):
... عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبى - صلى الله عليه وسلم - وتقع فيه فينهاها فلا تنتهى ويزجرها فلا تنزجر قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع فى النبى - صلى الله عليه وسلم - وتشتمه فأخذ المِغْوَل(2) فوضعه فى بطنها واتكأ عليها فقتلها فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم فلما أصبح ذُكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجمع الناس فقال (أُنشد الله رجلاً فعل ما فعل لى عليه حق إلا قام) فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهى وأزجرها فلا تنزجر ولى منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بى رفيقه فلما كانت البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك فأخذت المعول فوضعته فى بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - (ألا اشهدوا أن دمها هدر).
قال ابن تيمية (الصارم – 62) ص58:
... وهذا الحديث نص فى جواز قتلها لأجل شتم النبى - صلى الله عليه وسلم - ودليل على قتل الرجل الذمى وقتل المسلم والمسلمة إذا سبَّا بطريق الأولى.
ذكر ابن تيمية فى الصارم ص95:
__________
(1) ... التوبة: 12 .
(2) ... المِغْوَل: بكسر الغين المعجمة وفتح الواو، سيف قصير يشتمل به الرجل ثيابه فيقطعه، وقيل: حديدة لها حد ماض، وقيل: سوط فى جوفه سيف دقيق يشده القاتل على وسطه ليغتال به الناس (الصحيح المسند للوادعى 1/431).(1/441)
... وعن ابن عباس قال: هجت امرأة من خطمة –وهى العصماء بنت مروان– النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال (من لى بها) فقام رجل من قومها وهو عمير بن عدى الخطمى فقال: أنا يا رسول الله. فنهض فقتلها فأخبر النبى فقال: (لا ينتطح فيها عنزان) قال عمير: فالتفت النبى - صلى الله عليه وسلم - إلى من حوله فقال (إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدى).
قال الإمام إسحاق بن راهوية:
... أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله - صلى الله عليه وسلم - أو دفع شيئاً مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبياً من أنبياء الله عز وجل: أنه كافر بذلك وإن كان مقراً بكل ما أنزل الله.
قال الكشميرى فى "إكفار الملحدين ص64":
... أجمع عوام أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبىَّ - صلى الله عليه وسلم - يقتل وحكى الطبرى مثله -أى مثل القول بأنه ردة- عن أبى حنيفة وأصحابه فيمن تنقصه - صلى الله عليه وسلم - أو برئ منه أو كذَّبه.
وقال محمد بن سُحنون:
... أجمع العلماء على أن شاتم النبى - صلى الله عليه وسلم - المستنقص له كافر ومن شك فى كفره وعذابه كفر. أهـ.
وفى الشفا للقاضى عياض:
... لا خلاف أنَّ سابَّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم وكذلك من أضاف إلى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - تعمد الكذب فيما بلغه أو أخبر به أو شك فى صدقه أو سبه أو قال إنه لم يبلغ أو استخف به أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم أو قتل نبياً أو حاربه فهو كافر بالإجماع. أهـ.
وفى المحلى لابن حزم "12/438":
... بعد أن ساق الأدلة على كفر الساب قال: فصح بما ذكرنا أنَّ كلَّ من سبَّ الله تعالى أو استهزأ به أو سبَّ نبياً من الأنبياء أو استهزأ به أو سبَّ آية من آيات الله تعالى أو استهزأ بها والشرائع كلُّها والقرآن من آيات الله فهو بذلك كافر مرتد له حكم المرتد وبهذا نقول.
قال ابن تيمية (الصارم ص451):(1/442)
... إن سبَّ الله أو سبَّ رسوله كفر ظاهراً وباطناً سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السُّنة القائلين أنَّ الإيمان قول وعمل.
... ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب فى نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السبَّ ذلة منكرة وهفوة عظيمة.
... وفى رده على الَّذين يشترطون الاعتقاد والاستحلال كفر السَّاب، قال الصارم ص454: إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء أنه إن كان مستحلا كفر وإلا فلا ليس لها أصل.
وقال ابن حزم فى المحلى:
... وأما سبَّ الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف من أنه كفر مجرد.
- صلى الله عليه وسلم - تكذيب الرسول والامتناع عن متابعته كفر وإن كان يعتقد صدقه:
قال ابن تيمية (درء تعارض العقل والنقل 1/242):
... "الكفر يكون بتكذيب الرسول فيما أخبر به أو الامتناع عن المتابعة مع العلم بصدقه مثل كفر فرعون واليهود ونحوهم". أهـ.
وقال فى منهاج السنة (5/251 – 252):
... فتكذيب الرسول كفر وبغضه وسبه وعداوته مع العلم بصدقه فى الباطن كفر عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة العلم وسائر الطوائف إلا الجهم ومن وافقه كالصالحى والأشعرى وغيرهم فإنهم قالوا: هذا كفر من الظاهر أما فى الباطن فلا يكون كفراً إلا إذا استلزم الجهل!! أ. هـ.
- صلى الله عليه وسلم - الطعن فى الدين كفر مجرد:
... قوله تعالى { وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ... } (1).
قال ابن تيمية فى الصارم ص17:
... إنه سماهم أئمة الكفر لطعنهم فى الدين فثبت أن كل طاعن فى الدين فهو إمام فى الكفر.
وقال القرطبى فى التفسير (8/82):
... "من أقدم على نكث العهد والطعن فى الدين يكون أصلاً ورأساً فى الكفر فهو من أئمة الكفر على هذا، واستدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن فى الدين إذ هو كافر.
__________
(1) ... التوبة: 13.(1/443)
... والطعن أن ينسب إليه ما لا يليق به أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدين لما ثبت فى الدليل القطعى على صحة أصوله واستقامة فروعه". أهـ.
- صلى الله عليه وسلم - الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر مجرد:
... قوله تعالى { … وطعنوا فى دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ... } (1).
قال ابن تيمية (الفتاوى 7/272):
... هذا نص فى أن الاستهزاء بالله وآياته وبرسوله كفر فالسب المقصود بطريق الأولى. وقد دلت الآية على أن كل من تنقص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاداً أو هازلاً فقد كفر.
... فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له بل كنا نخوض ونلعب.
قال أبو بكر الجصاص (أحكام القرآن (4/348):
... فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء فى إظهار كلمه الكفر على غير وجه الإكراه فأخبر أن هذا القول كفر منهم على أى وجه قالوه من جد أو هزل. فدل على استواء حكم الجاد والهازل فى إظهار كلمه الكفر. ودل أيضا على أن الاستهزاء بآيات الله وبشىء من شرائع دينه كَفَر فاعله. أهـ.
قال أبو بكر بن العربى:
... فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة.
قال الإمام ابن القيم:
... وأما الهازل فهو الذى يتكلم بالكلام من غير قصد لموجبه وحقيقته بل على وجه اللعب ونقيضه الجاد فاعل من الجد بكسر الجيم وهو نقيض الهزل وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح فى حقوق الله تعالى غير جائز فيكون جد القول وهزله سواء بخلاف جانب العباد. أهـ.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله نقلاً عن كتاب الاستهزاء بالدين وأهله – الدكتور محمد سعيد القرطبى:
__________
(1) ... التوبة: 13.(1/444)
... الاستهزاء بالإسلام أو بشىء منه كفر أكبر ومن يستهزئ بأهل الدين والمحافظين على الصلوات من أجل دينهم ومحافظتهم عليه يعتبر مستهزئاً بالدين فلا تجوز مجالسته ولا مصاحبته بل يجب الإنكار عليه والتحذير منه ومن صحبته وهكذا من يخوض فى مسائل الدين بالسخرية والاستهزاء يعتبر كافراً. أهـ.
- صلى الله عليه وسلم - فصل: فى بيان أن من الأعمال والأقوال ما هو كفر مجرد(1):
... ولذا قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى فى محلاه (13/498) فى معرض كلامه عن سب الله تعالى: "وأما سب الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف أنه كفر مجرد، إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً، قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر، لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى".
... قال: "وأصلهم فى هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام، وهو أنهم يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب فقط وإن أعلن الكفر". أ. هـ(2).
... وقال ص499: "ثم يقال لهم إذ ليس شتم الله تعالى عندكم كفراً، فمن أين لكم أنه دليل على الكفر؟.
... فإن قالوا: لأنه محكوم على قائله بحكم الكفر.
__________
(1) ... هذا الفصل مختصر من بحث لأبى عاصم محمد المقدسى "إمتاع النظر فى كشف شبهات مرجئة العصر".
(2) ... أى ما دام الإيمان عندهم اعتقاداً بالقلب فقط ولا دخل للأعمال فيه، فإنه لا ينتقض عندهم إلا باعتقاد، ومرجئه زماننا وإن كان منهم من يخالف المرجئه الأوائل فى مسمى الإيمان وتعريف كتعريف فقط، إلا أنهم يوافقونهم على نهجهم هذا فى تنزيل الأحكام، ويتبنون شبهاتهم ويتبعونها ويروجونها.(1/445)
... قيل لهم: محكوم عليه بنفس قوله لا بمغيب ضميره الذى لا يعلمه إلا الله تعالى، فإنما حكم له بالكفر بقوله فقط، فقوله هو الكفر.. وقد أخبر تعالى عن قوم يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم فكانوا بذلك كفاراً كاليهود الذين عرفوا صحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم وهم مع هذا كفار بالله تعالى قطعاً بيقين إذ أعلنوا كلمة الكفر".
... وقال رحمه الله تعالى فى الموضع نفسه: "ولم يختلفوا فى أن فيه –أى كتاب الله- التسمية بالكفر والقطع بحكم الكفر على من نطق بأقوال معروفة، كقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } (1)، وقوله تعالى: { ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } (2)، فصح أن يكون الكفر كلاماً. أهـ.
... وقال فى الفصل(3): "وأما الأشعرية فقالوا: إن شتم من أظهر الإسلام لله تعالى ولرسوله بأفحش ما يكون من الشتم، وإعلان التكذيب بهما باللسان بلا تقية ولا حكاية(4)، والإقرار بأنه يدين بذلك، ليس شىء من ذلك كفراً، ثم خشوا مبادرة جميع أهل الإسلام لهم، فقالوا: لكنه دليل على أن فى قلبه كفراً".
... بل نقل فى الموضع نفسه عن الأشعرية أنهم يقولون: "إن إبليس لم يكفر بمعصية الله تعالى فى ترك السجود لآدم ولا بقوله أنا خير منه، وإنما كفر بجحد لله تعالى كان فى قلبه".
... ثم قال: "وهذا خلاف للقرآن، وتكهن لا يعرف صحته إلا من حدثه به إبليس عن نفسه. على أن الشيخ غير ثقة فيما يحدث به..". أهـ.
__________
(1) ... المائدة: 17.
(2) ... التوبة: 74.
(3) ... الفصل فى الملل والأهواء والنحل (طبعة دار الجيل) ج5 ص75.
(4) ... أى النقل والإخبار على سبيل الحكاية، فإن ذلك مستثنى بلا خلاف.(1/446)
... ثم قال: "وأما قولهم إن شتم الله تعالى ليس كفراً وكذلك شتم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه دليل على أن فى قلبه كفراً". قال: "فهو دعوى، لأن الله تعالى قال: { يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم } (1). فنص –تعالى- على أن من الكلام ما هو كفر.
... وقال تعالى: { إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا فى حديث غيره إنكم إذاً مثلهم } (2).
... فنص تعالى: أن من الكلام فى آيات الله تعالى ما هو كفر بعينه مسموع.
... وقال تعالى: { قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة } (3).
... فنص –تعالى- على أن الاستهزاء بالله – تعالى- أو بآياته أو برسول من رسله كفر مُخرج عن الإيمان ولم يقل –تعالى- فى ذلك أنى علمت أن فى قلوبهم كفراً، بل جعلهم كفاراً بنفس الاستهزاء.
... ومن ادعى غير هذا فقد قَوَّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى. أهـ. (3/244).
... وقال فى الفصل أيضاً (3/253) فى رده على أهل الإرجاء: (لو أن إنساناً قال: إن محمداً عليه الصلاة والسلام كافر وكل من تبعه كافر وسكت، وهو يريد كافرون بالطاغوت كما قال تعالى: { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها } (4)، لما اختلف أحد من أهل الإسلام فى أن قائل هذا محكوم له بالكفر.
... وكذلك لو قال إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون، لما اختلف أحد من أهل الإسلام فى أن قائل هذا محكوم له بالكفر، وهو يريد أنهم مؤمنون بدين الكفر..". أهـ.
__________
(1) ... التوبة: 74.
(2) ... النساء: 140.
(3) ... التوبة: 65، 66.
(4) ... البقرة: 256.(1/447)
... قلت: فصح أننا كفرناه بمجرد قوله وكلامه الكفرى ولا دخل لنا بمغيب اعتقاده.. وهكذا كل من أظهر قولاً أو عملاً كفرياً كفرناه بمحض ذلك القول أو العمل إذ مغيب اعتقاده لا يعلمه إلا الله عز وجل.. وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إنى لم أبعث لأشق عن قلوب الناس)(1) فالمدعى خلاف هذا مدع علم الغيب، ومدعى علم الغيب لا شك كاذب.
... "وقد شهد الله تعالى بأن أهل الكتاب يعرفون الحق ويكتمونه، ويعرفون أن الله تعالى حق وأن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام حق، ويظهرون بألسنتهم خلاف ذلك، وما سماهم الله عز وجل قط كفاراً إلا بما ظهر منهم بألسنتهم وأفعالهم"(2).
... وقال تعالى: { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين . وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً } (3).
... وقال رحمه الله: "واحتج بعضهم فى هذا المكان بقول الأخطل النصرانى لعنه الله إذ يقول:
إن الكلام لفى الفؤاد وإنما - جعل اللسان على الفؤاد دليلا(4)
... قال فجوابنا على هذا الاحتجاج أن نقول: ملعون، ملعون قائل هذا البيت، وملعون من جعل قول هذا النصرانى حجة فى دين الله عز وجل، وليس هذا من باب اللغة التى يحتج فيها بالعربى وإن كان كافراً، وإنما هى قضية عقلية، فالعقل والحس يكذبان هذا البيت. وقضية شرعية، فالله عز وجل أصدق من النصرانى اللعين إذ يقول عز وجل: { يقولون بأفواههم ما ليس فى قلوبهم } (5)، فقد أخبر عز وجل بأن من الناس من يقول بلسانه ما ليس فى فؤاده بخلاف قول الأخطل لعنه الله.
__________
(1) ... أخرجه البخارى فى المغازى (4351) وفى الأنبياء (3344) وفى التفسير (4667) وفى التوحيد (7432)، ومسلم فى الزكاة (1064) (145، 146).
(2) ... الفصل (3/259).
(3) ... النمل: 13، 14.
(4) ... قال فى الإمتاع والمؤانسة: (البيت موضوع على الأخطل، فليس هو فى نسخ ديوانه، وإنما هو لابن ضمضام ولفظه: إن البيان لفى الفؤاد ... الخ.
(5) ... آل عمران: 167.(1/448)
... فأما نحن فنصدق الله عز وجل ونكذب الأخطل، ولعن الله من يجعل الأخطل حجة فى دينه. وحسبنا الله ونعم الوكيل. أهـ. (3/261)
... وقال (3/262): "وقد قال عز وجل: { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم فى بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم } (1).
... قال: فجعلهم تعالى مرتدين كفاراً بعد علمهم الحق. وبعد أن تبين لهم الهدى، بقولهم للكفار ما قالوا فقط. وأخبرنا تعالى أنه يعرف إسرارهم، ولم يقل تعالى أنها جحد أو تصديق، بل قد صح أن فى سرهم التصديق، لأن الهدى قد تبين لهم. ومن تبين له شىء فلا يمكن البتة أن يجحده بقلبه أصلاً".
... وقال رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: { يحلفون بالله ما قالوا، ولقد قالوا كلمة الكفر، وكفروا بعد إسلامهم } (2): "فصح بنص القرآن أن من قال كلمة الكفر، دون تقية، فقد كفر بعد إسلامه، فصح أن من اعتقد الإيمان وتلفظ بالكفر فهو عند الله تعالى كافر بنص القرآن). أهـ. ص (339) من (كتاب الدرة فيما يجب اعتقاده).
... وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبى ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } (3).
... فهذا نص جلى وخطاب للمؤمنين بأن إيمانهم يبطل جملة وأعمالهم تحبط برفع أصواتهم فوق صوت النبى عليه الصلاة والسلام دون جحد كان منهم أصلاً، ولو كان منهم جحد لشعروا به، والله تعالى أخبرنا بأن ذلك يكون وهم لا يشعرون.
__________
(1) ... سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - آيه 25 إلى 28 ويراجع كلام العلامة الشنقيطى فى تحكيم القوانين حول هذه الآيات فى تفسيره القيم أضواء البيان فإنه مهم.
(2) ... التوبة: 74.
(3) ... الحجرات: 2.(1/449)
... فصح أن من أعمال الجسد ما يكون كفراً مبطلاً لإيمان فاعله جملة.
... ومنه ما لا يكون كفراً لكن على ما حكم الله تعالى به فى كل ذلك ولا مزيد". أهـ.
... قال أبو عاصم: وهذا هو الحق الذى لا مرية فيه.
... وليس كما يقول الخوارج الضالون أن جميع الذنوب من أعمال الجسد كفر يناقض الإيمان.
... ولا كما يقول مرجئة العصر الضالون أيضاً، من أن جميع الأعمال والذنوب لا يكفر فاعلها إلا باعتقاد. بل الحق أن من الأعمال المجردة ما ينقض ويهدم الإيمان كما بان لك وظهر.
... ومنها ما ينافى كمال الإيمان فقط فينقصه ويخدشه ولا ينقضه إلا باستحلال أو جحود.
... وهذا التفصيل ضيعه وأعرض عنه الخوارج بإفراطهم، والمرجئة بتفريطهم. وكلاهما طائفتان ضالتان. ... بل ينسب إلى إبراهيم النخعى قوله: "لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة"(1).
... وقوله: "الخوارج أعذر عندى من المرجئة"(2).
... ويقول الأوزاعى: كان يحيى وقتادة يقولان: "ليس من الأهواء شىء أخوف عندهم على هذه الأمة من الإرجاء"(3).
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى فى كتابه الصارم المسلول:
... "إنِّ سبَّ الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم أو كان مستحلاً له أو كان ذاهلاً عن اعتقاده. هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل.." إلى أن قال: "وكذلك قال أصحابنا وغيرهم: من سب الله كفر سواء كان مازحاً أو جاداً.. "قال: "وهذا هو الصواب المقطوع به.. وقال القاضى أبو يعلى فى المعتمد: من سب الله أو سب رسوله فإنه يكفر سواء استحل سبه أو لم يستحله، فإن قال لم أستحل ذلك لم يقبل منه..".
__________
(1) ... كتاب السنة لعبد الله بن أحمد (1/313).
(2) ... المرجع نفسه (1/337) فليهنأ مرجئه العصر وأشياخهم أنهم أضل من الخوارج، ذلك الوصف الذى طالما رموا به أهل الحق زوراً وبهتاناً.
(3) ... المرجع نفسه (1/318).(1/450)
... وقال أيضاً (515): "ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب فى نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب، زلة منكرة وهفوة عظيمة..".
... وقال ص (517): "إن الحكاية المذكورة عن الفقهاء إنه إن كان مستحلاً كفر وإلا فلا، ليس لها أصل وإنما نقلها القاضى – من كتاب بعض المتكلمين"(1).
... وقال ص (516): "إن اعتقاد حل السب كفر سواء اقترن به وجود السب أو لم يقترن"(3).
... ويقول رحمه الله تعالى فى تفسير قوله تعالى: { من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً } (2)، الآيات قال: "لو كان التكلم بالكفر لا يكون كفراً إلا إذا شرح به الصدر لم يستثن المكره. فلما استثنى المكره علم أن كل من تكلم بالكفر غير المكره فقد شرح به صدراً. فهو حكم وليس قيداً للحكم". أهـ.
__________
(1) ... وقد ذكر ابن تيمية فى الفتاوى (7/403) أن بعض الفقهاء تخبطوا بين قول السلف وقول الجهمية فى هذه المسألة بسبب أنهم أخذوا بحث هذه المسائل من كتب أهل الكلام الذين نصروا قول جهم فى مسائل الإيمان، فتراهم تارة ينصرون قول الأئمة، وتارة يذكرون ما يناسب كلام جهم. وذكر أن القاضى عياض لما عرف هذا من قول أصحابه أنكره ونصر قول مالك وأهل السنة وأنه أحسن فى ذلك..
(2) ... النحل: 106.(1/451)
... وتأمل قوله الأخير.. "فهو حكم وليس قيداً للحكم" فإنه مهم.. فالمعلن لكلمة الكفر لغير عذر شرعى كافر قد شرح بالكفر صدره، ولا يقال ننظر حتى نعرف ما فى صدره أمعتقد هو أم مستحل أم لا؟.. وكذا الساب لله ولرسوله ولدينه شارح بسبه صدره للكفر وإن لم يعلمنا هو بذلك، وكذا الساجد للصنم طائعاً قد شرح بالكفر صدره بفعله هذا ولا يقال ننظر أمستحل أم غير مستحل، لأن هذه الأعمال أعمال مكفرة بذاتها، وكذا المشرع مع الله أو المتبع والمبتغى غير الله حكماً ومشرعاً ومعبوداً قد شرح بالكفر صدره بجعل نفسه طاغوتاً معبوداً فى ذلك أو باتباعه للطاغوت والتزامه وتحاكمه لشرعه، ولا نقول ننظر استحل التشريع مع الله واعتقده أم لم يعتقده. وكذا المستهزئ بشىء من دين الله كافر باستهزائه ولا نتوقف حتى نسأله عن اعتقاده واستحلاله، بل لو صرح بأنه غير معتقد ولا مستحل لكفرناه وقلنا له كما قال تعالى: { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } (1).
... فهو حكم بالكفر كما ذكر شيخ الإسلام وليس قيداً للكفر كما جعله مرجئة العصر ولو اعتبر مثل هذا الأمر الغيبى الخفى قيداً للكفر فى الأعمال المكفرة لأصبح دين اله ألعوبة بيد كل زنديق.
... فما من كافر ولا مشرك إلا ويزعم أنه يضمر الإحسان والتوفيق والإيمان والرشاد(2).
__________
(1) ... التوبة: 66.
(2) ... يقول شيخ الإسلام فى الفتاوى (7/561): "وأيضاً فقد جاء نفر من اليهود إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: نشهد إنك لرسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك، لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما فى أنفسهم أى نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: "فلم لا تتبعونى"؟ قالوا: نخاف من يهود.
... فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان، حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد ..". أهـ. ...(1/452)
... والشارع الحكيم إنما أناط الأحكام الشرعية –ومنها التكفير- فى الدنيا بعلل وأسباب ظاهرة ومنضبطة، ولم ينطها بأسباب خفية أو غيبية أو باطنية فهذا كله يتبع أحكام الآخرة.
... فعلم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان، حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد..". أهـ.
... وهذا من هذا.. فمجرد الإخبار عن اعتقادهم الإيمان وإرادة الإحسان والرشاد وأنهم فى صدورهم يعتقدون أن الشريعة أفضل من قوانينهم، ويعتقدون وجوب تحكيمها، كل هذا الذى يرقع لهم به مرجئة العصر لا يغنى عنهم شيئاً، ما داموا لا يلتزمون ذلك ولا ينقادون له، بل يضربون به عرض الحائط ويعطلونه، ويعملون قوانينهم ويقدمونها عليه ويشرعون مع الله ما لم يأذن به الله، ويحاربون أولياء الله الموحدين المتبرئين من تشريعاتهم ويوالون وينصرون ويكرمون أعداء الله الملتزمين المتبعين المناصرين لتشريعاتهم.
... وقال تعالى فى حق المستهزئين: { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } (1) فبين أنهم كفار بالقول مع أنهم لم يعتقدوا صحته وهذا باب واسع" أ. هـ. من الصارم المسلول ص(524).
... ويقول أيضاً فى الكتاب نفسه ص(178): ".. وبالجملة فمن قال أو فعل ما هو كُفرٌ كَفَرَ بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً إذ لا يقصد أحد الكفر إلا ما شاء الله". أهـ.
... يقول ابن القيم رحمه الله تعالى فى (كتاب الصلاة) ص53: "وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية، وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية.
... ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب –زوالها- زوال الإيمان.
... وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية، فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا وهى شعبة من شعب الكفر، فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف". أهـ.
__________
(1) ... التوبة: 66.(1/453)
... ومنه تعرف أن (الكفر العملى) ليس كله أصغر عند أهل العلم، بل منه ما هو كفر مخرج عن الملة، خلافاً لما يروجه مرجئة زماننا(1).
- صلى الله عليه وسلم - كفر المستبدل لشرع الله تعالى:
... قوله تعالى: { أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } (2).
يقول ابن كثير فى التفسير:
... "ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهى عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التى وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذى وضع لهم "الياسق" وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت فى بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه فى قليل ولا كثير. أهـ.
يقول أحمد شاكر فى عمده التفسير معلقاً على كلام ابن كثير السابق:
... "أفيجوز مع هذا فى شرع الله أن يحكم المسلمون فى بلادهم بتشريعات مقتبسة عن تشريعات أوربا الوثنية الملحدة بل تشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة يغيرونه ويبدلونه كما يشاءون لا يبالى واضعه وافق شرعة الإسلام أم خالفها..؟!
... إن الأمر فى هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس هى كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداراة ولا عذر لأحد ممن ينتسب للإسلام –كائنا من كان- فى العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها.
__________
(1) ... إلى هنا انتهى اختصار رسالة أبو عاصم المقدسى.
(2) ... المائدة: 50.(1/454)
... أفيجوز مع هذا لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين، أعنى التشريع الجديد؟! أو يجوز لرجل مسلم أن يلى القضاء فى ظل الياسق العصرى وأن يعمل به ويعرض عن شريعته البينه؟!!. أهـ.
يقول ابن تيمية (الفتاوى 3/317):
... فى قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } (1).
... "فى هذه الآيات أنواع من العبر من الدلالة على ضلال من يحاكم إلى غير الكتاب والسنة وعلى نفاقه وإن زعم أنه يريد التوفيق بين الأدلة الشرعية وبين ما يسميه هو عقليات من الأمور المأخوذة عن بعض الطواغيت من المشركين وأهل الكتاب وغير ذلك من أنواع الاعتبار.
... وقال: فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام ولو تكلم بالشهادتين.. فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول فى طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله ومن عمل فى الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى فى الأرض فساداً.
... ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين وباتفاق جميع المسلمين أن من سوغ اتباع غير دين الإسلام أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض.
... وقال: فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزله الله فهو كافر. فإن ما من أمة إلا وهى تأمر بالحكم بالعدل وقد يكون العدل فى دينها ما رآه أكابرهم بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التى لم ينزلها الله كسواليف(2) البادية ويرون أن هذا الذى ينبغى الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر. أهـ.
يقول محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ فى رسالته تحكيم القوانين:
__________
(1) ... النساء: 60.
(2) ... كسواليف: كبراء البادية الذين يحكمون بالعرف.(1/455)
... بعد أن عد بعض الأنواع لكفر الحاكم بغير ما أنزل الله كفراً أكبر مخرجاً من الملة عدا النوع الخامس فقال:
... وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع ومكابرة لأحكامه ومشاقه لله ولرسوله ومضاهاة بالمحاكم الشرعية إعداداً وإمداداً وإرصاداً وتأصيلاً وتفريقاً وتشكيلاً وتنويعاً وحكماً وإلزاماً ومراجع ومستندات.
... فكما للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلهذه المحاكم مراجع هى:
... القانون الملفق من شرائع شتى وقوانين كثيرة كالقانون الفرنسى والقانون الأمريكى والقانون البريطانى وغيرها من القوانين ومن مذاهب بعض المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك.
... فهذه المحاكم فى كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة مفتوحة الأبواب والناس إليها أسراب إثر أسراب يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به وتقرهم عليه وتحتمه عليهم فأى كفر فوق هذا الكفر، وأى مناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة. أهـ.
ويقول الشنقيطى فى أضواء البيان:
... أما النظام الشرعى المخالف لتشريع خالق السموات والأرض فتحكيم هذا النوع من النظام فى أنفس المجتمع وأموالهم وأعراضهم وأنسابهم وعقولهم وأديانهم كفر بخالق السموات والأرض وتمرد على نظام السماء الذى وضعه من خلق الخلائق كلها وهو أعلم بمصالحها سبحانه وتعالى عن أن يكون معه مشرع آخر علواً كبيراً { أم لهم شركاء شرعوا لهم فى الدين ما لم يأذن به الله } (1).
... ويفهم من هذه الآيات كقوله { ولا يشرك فى حكمه أحدا } (2). أن متبعى أحكام المشرعين غير ما شرع الله أنهم مشركون بالله وهذا المفهوم جاء مبيناً فى آيات أُخَر.
__________
(1) ... الشورى: 21.
(2) ... الكهف: 26.(1/456)
... ومن أصرح الأدلة فى هذا أن الله جل وعلا فى سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون. وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب.
... وذلك فى قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً } (1).
... وبهذه النصوص السماوية التى ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التى شرعها الشيطان على ألسنه أوليائه مخالفه لما شرعه الله جل وعلا على ألسنه رسله صلى الله عليهم وسلم: أنه لا يشك فى كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحى مثلهم. أهـ.
ويقول الشيخ: عبد العزيز بن بارز فى رسالته وجوب تحكيم شرع الله:
... ولا إيمان لمن اعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله أو تماثلها وتشابهها أو تركها وأحل محلها الأحكام الوضعية والأنظمة البشرية ولو كان معتقداً أن أحكام الله خير وأكمل وأعدل. أهـ.
ويقول: محمد حامدا الفقى فى حاشية فتح المجيد، قال فى تعليقه على "ياسق" التتار:
... ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها فى الدماء والفروج والأموال ويقدمها على ما علم وتبين له من كتاب الله وسنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
... فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر عليها ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله ولا ينفعه أى اسم تسمى به ولا أى عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها. أهـ.
... قوله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (2).
قال ابن جرير فى التفسير (4/592):
__________
(1) ... النساء: 60.
(2) ... المائدة: 44.(1/457)
... يقول تعالى ذكره: ومن كتم حكم الله الذى أنزله فى كتابه وجعله حكماً بين عباده فأخفاه ويحكم بغيره كحكم اليهود فى الزانيين المحصنين بالتجبية والتحميم وكتمانهم الرجم وكقضائهم فى بعض قتلاهم بدية كاملة وفى بعض بنصف الدية وفى الأشراف القصاص وفى الأدنياء بالدية وقد سوى الله بين جميعهم فى الحكم عليهم فى التوراة { فأولئك هم الكافرون } (1).
... يقول هؤلاء الذين لم يحكموا بما أنزل الله فى كتابه ولكن بدلوا وغيروا حكمه وكتموا الحق الذى أنزله فى كتابه و { هم الكافرون } .
... يقول: هم الذين ستروا الحق الذى كان عليهم كشفه وتبيينه وغطوه عن الناس وأظهروا لهم غيره وقضوا به لسُحتٍ أخذوه منهم عليه. أهـ.
وقال ابن كثير فى تفسير الآية:
... قال: قال ابن جرير بسنده عن علقمة ومسروق أنهم سألا أبن مسعود عن الرشوة فقال: من السُّحت.
... فقالا: وفى الحكم؟ قال: ذاك الكفر ثم تلا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (2).
... وقال السدى: يقول ومن لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً أو جار وهو يعلم فهو من الكافرين.
يقول الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – فى رسالة تحكيم القوانين:
... ... كفر الحاكم بغير ما أنزل الله كفر اعتقاد ناقل عن الملة وهو أنواع:
أحدها: ... أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقيه حكم الله ورسوله وهو معنى ما روى عن ابن عباس واختاره بن جرير أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعى وهذا مالا نزاع فيه بين أهل العلم فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلاً من أصول الدين أو نوعاً مجمعاً عليه أو أنكر حرفاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - قطعياً فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
__________
(1) ... المائدة: 44.
(2) ... المائدة: 44.(1/458)
الثانى: ... أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون حكم الله ورسوله حقاً لكن اعتقد أن حكم غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحسن من حكمه وأتم وأشمل لما يحتاجه الناس من الحكم بينهم عند التنازع إما مطلقاً أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التى نشأت عن تطور الزمان وتغير الأحوال وهذا أيضاً لا ريب أنه كفر.
الثالث: ... أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله لكن اعتقد أنه مثله فهذا كالنوعين الذين قبله فى كونه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الرابع: ... أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلاً لحكم الله ورسوله فضلاً عن أن يعتقد كونه أحسن منه.
... ... لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله فهذا كالذى قبله.
الخامس: سبق فى أقوال أهل العلم فى مسألة كفر الحاكم المستبدل ص437.
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل من البوادى ونحوهم من حكايات آبائهم وأجدادهم وقادتهم التى يسمونها "سلومهم" ويتوارثون ذلك منهم ويحكمون به ويحضون على التحاكم إليه عند التنازع بقاء على أحكام الجاهلية وإعراضاً ورغبه عن حكم الله ورسوله. أهـ.
جاء فى فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء (1/541):
... أن من لم يفرق بين اليهود والنصارى وسائر الكفرة وبين المسلمين إلا بالوطن وجعل أحكامهم واحدة فهو كافرٌ. أهـ.
(الفتاوى 3/367):
... "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء".
يقول بن كثير فى البداية والنهاية 13/119:
... "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه من فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين".
- صلى الله عليه وسلم - الاحتياط فى تكفير المعين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (35/165):(1/459)
... "فقد يكون الفعل أو المقالة كفراً ويطلق القول بتكفير من قال تلك المقالة أو فعل ذلك الفعل ويقال: من فعل كذا فهو كافر أو من قال كذا فهو كافر لكن الشخص المعين الذى قال ذلك القول أو فعل ذلك الفعل لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التى يكفر تاركها.
... وهذا الأمر مطرد فى نصوص الوعيد عند أهل السنة والجماعة فلا يُشهد على معين من أهل القبلة بأنه من أهل النار لجواز أن لا يلحقه لفوات شرط أو لثبوت مانع".
قال ابن أبى العز الحنفى (شرح الطحاوية 357، 358):
... "وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة فإنه من أعظم البغى أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده فى النار فإن هذا حكم الكافر بعد الموت.
... ولهذا ذكر أبو داود فى سنته فى كتاب الأدب "باب النهى عن البغى" وذكر فيه عن أبى هريرة رضى الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "كان رجلان فى بنى إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد فى العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول أقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له أقصر فقال خلنى وربى أبعثت على رقيب؟ فقال: والله لا يغفر الله لك أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بى عالماً؟ أو كنت على ما فى يدى قادراً؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتى وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار قال أبو هريرة: والذى نفسى بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته". وهو حديث حسن ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله".
... ومن الأحاديث المحذرة من تكفير المسلم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما).(1/460)
قال الحافظ فى الفتح 10/466 – 481 (حديث 6050):
... (… والتحقيق أن الحديث سيق لزجر المسلم من أن يقول ذلك لأخيه المسلم … وقيل معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره، فمعنى الحديث رجع عليه تكفيره فالراجح التكفير لا الكفر فكأنه كفر نفسه لكونه كفر من هو مثله".
ويقول القرطبى فى المصدر نفسه 10/466:
... "والحاصل أن المقول له إن كان كافراً كفراً شرعياً فقد صدق القائل وذهب بها المقول له وإن لم يكن رجعت للقائل معرة ذلك القول وإثمه".
من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه فى مسألة تكفير المعين الفتاوى (20/287):
... "إن نصوص الوعيد فى الكتاب والسنة كثيرة جداً والقول بموجبها واجب على وجه العموم والإطلاق من غير أن يعين شخص من الأشخاص فيقال: هذا ملعون ومغضوب عليه أو مستحق للنار لاسيما إن كان لذلك الشخص فضائل وحسنات …".
ثم يقول (20/289):
... "واعلم أن هذه السبيل هى التى يجب سلوكها فإن ما سواها طريقان خبيثان:
أحدهما: القول بلحوق الوعيد لكل فرد من الأفراد بعينه ودعوى أن هذا عمل بموجب النصوص وهذا أقبح من قول الخوارج المكفرين بالذنوب والمعتزلة وغيرهم وفساده معلوم بالاضطرار.
الثانى: ... ترك القول والعمل بموجب أحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظناً أن القول بموجبها مستلزم للطعن فيما خالفها وهذا الترك يجر إلى الضلال".
ويقول أيضاً فى الرد على البكرى ص260:
... "فلهذا كان أهل العلم والسنة لا يكفرون من خالفهم وإن كان ذلك المخالف يكفرهم لأن الكفر حكم شرعى فليس للإنسان أن يعاقب بمثله كمن كذب عليك وزنى بأهلك ليس لك أن تكذب عليه وتزنى بأهله لأن الكذب والزنا حرام لحق الله تعالى".
ويقول أيضاً فى الفتاوى (3/229):
... "إنى من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير وتفسيق ومعصية إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التى من خالفها كان كافراً تارة وفاسقاً أخرى وعاصياً أخرى".(1/461)
ويقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب فى تعليقه على هذا الكلام فى كتابه مفيد المستفيد:
... وهذه صفة كلامه فى المسألة فى كل موضع وقفنا عليه من كلامه لا يذكر عدم تكفيره المعين إلا ويصله بما يزيل الأشكال إن المراد بالتوقف عن تكفيره قبل أن تبلغه الحجة وأما إذا بلغته حكم عليه بما تقتضيه تلك المسألة من تكفير أو تفسيق أو معصية".
ويقول شيخ الإسلام فى الرد على البكرى ص46:
... "ولهذا كنت أقول للجهمية عن الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً لأنى أعلم أن قولكم كفر وأنتم عندى لا تكفرون لأنكم جهال وكان هذا خطاباً عاماً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم".
ويقول فى الفتاوى (23/348 – 349):
... "ومع هذا فالذين كانوا من ولاة الأمور يقولون بقول الجهمية: إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى فى الآخرة وغير ذلك … ومع هذا فالإمام أحمد رحمه الله تعالى ترحم عليهم واستغفر لهم لعلمه بأنهم لم يبين لهم أنهم مكذبون للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا جاحدون لما جاء به ولكن تأولوا فأخطأوا وقلدوا من قال لهم ذلك.
ويقول فى الفتاوى (20/59):
... والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين:
... التمكن من العلم بما أنزل الله القدرة على العمل به فأما العاجز عن العلم كالمجنون أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهى لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل فإن العجز مسقط للأمر والنهى وإن كان واجباً فى الأصل. أهـ.
... ومن التطبيقات العملية لتكفير المعين إذا قامت عليه الحجة إجماع السلف على قتال الطائفة الممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة استناداً لقتال الصحابة لمانعى الزكاة رغم إقرارهم بها.
واعتمد شيخ الإسلام هذه القاعدة فى فتواه الشهيرة عن التتار ووجوب قتالهم كحال المرتدين فقال رحمه الله "الفتوى كاملة ومفصله الفتاوى (28/501 – 543)":(1/462)
... "كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل أبو بكر الصديق رضى الله عنه مانعى الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم بعد سابقة مناظرة عمر لأبى بكر رضى الله عنهما فاتفق الصحابة رضى الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام عملاً بالكتاب والسنة… فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا.. فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقره بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء).
... ثم يقول: "وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزله البغاة الخارجين على الإمام أو الخارجين عن طاعته كأهل الشام مع أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضى الله عنه فإن أولئك خارجون عن طاعة إمام معين أو خارجون لإزالة ولايته وأما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزله مانعى الزكاة وبمنزله الخوارج الذين قاتلهم على بن أبى طالب رضى الله عنه.
- صلى الله عليه وسلم - التكفير والتعذيب لا يكون إلا بعد قيام الحجة:
... الآيات : قوله تعالى: { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } (1)، { رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (2)، "وكذا كما فى سورة الملك آية 8، 9، وسورة الأنعام آية 130، وسورة القصص آية 59، وسورة فاطر آية 37".
يقول ابن القيم (طريق الهجرتين 384):
... "وهذا كثير فى القرآن يخبر أنه يعذب من جاءه الرسول وقامت عليه الحجة".
يقول ابن تيمية فى الفتاوى (12/493 - 494):
__________
(1) ... الإسراء: 15.
(2) ... النساء: 165.(1/463)
... "الكتاب والسنة قد دلا على أن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إبلاغ الرسالة فمن لم تبلغه جملة لم يعذبه رأساً ومن بلغته جملة دون بعض التفصيل لم يعذبه إلا على إنكار ما قامت عليه الحجة الرسالية إلى أن قال: "فمن قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول فلم يؤمن به تفصيلاً إما أنه لم يسمعه أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها أو اعتقد معنى أخر لنوع من التأويل الذى يعذر به. فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله ورسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه وما لم يؤمن به لم تقم عليه به الحجة التى يكفر مخالفها".
يقول الإمام الذهبى (الكبائر/12):
... "فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه والله لطيف رءوف بهم قال تعالى " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" وقد كان سادة الصحابة بالحبشة يتنزل الواجب والتحريم على النبى - صلى الله عليه وسلم - فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم فى تلك الأمور معذورون بالجهل حتى يبلغهم النص وكذا يعذر بالجهل من لم يعلم حتى يسمع النص والله أعلم". ...
6. الأشاعرة أو السبعية(1)
... وفيه المطالب الآتية:
1. ظهور الأشاعرة:
... ظهرت الأشعرية بعد أن تنفس الناس الصعداء من سيطرة المعتزلة فى القرن الثالث الهجرى.
... وهى فى الأصل نسبة إلى أبى الحسن الأشعرى، ظهر بالبصرة وكان أول أمره على مذهب المعتزلة ثم تركه واستقل عنهم، ولقد أصبح الانتساب إلى الأشعرى هو ما عليه أكثر الناس فى البلدان الإسلامية.
... بعضهم على معرفة بمذهبه الصحيح وآرائه التى استقر عليها أخيراً، وبعضهم على جهل تام بذلك وبعضهم يتجاهل ويصر على مخالفته مع انتسابه إليه.
__________
(1) ... من كتاب: فرق معاصرة تنتسب إلى الإسلام وبيان موقف الإسلام منها تأليف د. غالب بن على عواجى.
... - بعض العلماء يطلق عليهم السبعية بسبب أنهم يثبتون لله تعالى سبع صفات فقط ويؤولون ما عداها.(1/464)
... وانتساب الأشاعرة إليه إنما هو بعد تركه للاعتزال وانتسابه إلى ابن كلاب، وهى المرحلة الثانية من المراحل التى مر بها الأشعرى، ولم يدم فيها إذ رجع إلى مذهب السلف، ولكن بعض الأشاعرة ينتسبون إليه ولكن فى مرحلته الثانية، ومن انتسب إليه فى مرحلته الثالثة فقد وافق السلف، ونذكر فيما يلى نبذة موجزة عنه.
2. أبو الحسن الأشعرى:
... هو على بن إسماعيل الأشعرى ينتسب إلى أبى موسى الأشعرى، وهو أحد علماء القرن الثالث، تنتسب إليه الأشعرية، ولد فى البصرة سنة 250هـ وقيل: سنة 270هـ وتوفى سنة 330هـ على أحد الأقوال.
... تعمق أولاً فى مذهب المعتزلة وتتلمذ على أبى على الجبائى محمد بن عبد الوهاب أحد مشاهير المعتزلة، إلا أن الله أراد له الخروج عن مذهبهم والدخول فى مذهب أهل السنة والجماعة، وتوج ذلك بما سجله فى كتابه "الإبانة عن أصول الديانة".
... ومما يذكر عن سيرته أنه كان دائماً يتململ من اختلاف الفرق فى وقته وينظر فيها بعقل ثاقب، فهداه الله إلى الحق واقتنع بما عليه السلف من اعتقاد مطابق لما جاء فى القرآن والسنة النبوية فكان له موقف حاسم فى ذلك.(1/465)
... ومما يدل على ذكائه وطلبه للحق وإفحامه لخصمه فى المحاجة أنه سأل أستاذه(1) أبا على الجبائى عن ثلاثة أخوة كان أحدهم مؤمناً براً تقياً. والثانى كان كافراً فاسقاً شقياً، والثالث كان صغيراً، فماتوا فكيف حالهم؟ فقال الجبائى: أما الزاهد ففى الدرجات، وأما الكافر ففى الدركات وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال الأشعرى: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟ فقال الجبائى: لا لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بطاعاته الكثيرة وليس لك تلك الطاعات، فقال الأشعرى: فإن قال: ذلك التقصير ليس منى فإنك ما أبقيتنى ولا أقدرتنى على الطاعة، فقال الجبائى: يقول البارئ جل وعلا: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقاً للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك، فقال الأشعرى: فلو قال الأخ الأكبر يا إله العالمين كما علمت حاله فقد علمت حالى فلم راعيت مصلحته دونى؟ فانقطع الجبائى.
... لقد كان الأشعرى إماماً فذاً كثير التأليف واسع الاطلاع محبباً إلى الناس، ولهذا تجد أن كل طائفة تدعى نسبته إليها "فالمالكى يدعى أنه مالكى، والشافعى يزعم أنه شافعى، والحنفى كذلك"(2).
3. عقيدة الأشعرى:
... علمنا فيما مضى أن الأشعرى كان على مذهب المعتزلة ومن العارفين به، وأنه أقام عليه مدة أربعين سنة، ومما يذكره العلماء عن سيرته ورجوعه عن الاعتزال ومذهب ابن كلاب إلى المذهب الحق، أنه مكث فى بيته خمسة عشر يوماً لا يخرج إلى الناس وفى نهايتها خرج فى يوم جمعة، وبعد أن انتهى من الصلاة صعد المنبر وقال مخاطباً من أمامه من جموع الناس:
__________
(1) ... على حسب مذهب المعتزلة: أنه يجب على الله تعالى فعل الأصلح، وقال له الأشعرى: بل يفعل ما يشاء.
(2) ... انظر: كتاب "أبو الحسن الأشعرى" ص8.(1/466)
... "أيها الناس، من عرفنى فقد عرفنى ومن لم يعرفنى فأنا أعرفه بنفسى أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن وأن الله تعالى لا يُرى بالأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع متصد للرد على المعتزلة مخرج لفضائحهم.
... معاشر الناس إنما تغيبت عنكم هذه المدة، لأنى نظرت فتكافأت عندى الأدلة ولم يترجح عندى شئ على شئ فاستهديت الله تعالى فهدانى إلى اعتقاد ما أودعته كتبى هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقد كما انخلعت من ثوبى هذا"، وانخلع من ثوب كان عليه ودفع للناس ما كتبه على طريقة الجماعة من الفقهاء والمحدثين(1).
... وحينما انضم إلى أهل السنة والجماعة، فرحوا به فرحاً شديداً، واحترموه وعرفوا قدره وإخلاصه وتوجهه إلى الحق بيقين ثابت، وصارت أقواله حجة وآراؤه متبعة، بينما ثار عليه أهل الاعتزال وذموه بأنواع الذم غيظاً عليه، لوقوفه فى وجوههم وإبطال آرائهم المخالفة للحق وتركه لمذهبهم، خصوصاً وأنه كان من المتعمقين فى مذهبهم والعارفين بعواره.
... ومما ينبغى ملاحظته أن ينتبه طالب العلم إلى تمويه المغرضين ممن يزعم أن الأشعرى لم يتب عن الاعتزال، وأن الإبانة مدسوسة عليه، وهو كذب وليس له ما يسنده، بل الصحيح الذى عليه عامة علماء السلف أن الأشعرى رجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة وتاب من كل ما يخالفه، كما صرح بذلك فى كتبه كالإبانة وغيرها من مؤلفاته النافعة(2).
... وعلى هذا فإن الأشعرى مرّ بثلاثة أحوال فى عقيدته:
1. الحال الأول: ... حال الاعتزال.
__________
(1) ... انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/181.
(2) ... فى رسالة للشيخ حماد الأنصارى تسمى "أبو الحسن الأشعرى" نقول كثيرة عن علماء الإسلام فى إثباتهم الإبانة لأبى الحسن، انظرها إن شئت، وهى خلاصة عقيدته، أما اللمع فهى تمثل المرحلة الثانية: عقيدته الكلابية.(1/467)
2. الحال الثانى: ... إثبات الصفات العقلية السبع: وهى الحياة- والعلم- والقدرة- والإرادة- والسمع- والبصر- والكلام. وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك.
3. الحال الثالث: ... إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه جرياً على منوال السلف كما فى الإبانة التى نوه بها أحد معاصرى الأشعرى فقال يمدحه:
لو لم يصنف عمره
لكفى فكيف وقد
مجموعة تربى على المئين
لم يأل فى تصنيفها
فهدى بها المسترشد
تتلى معانى كتبه
ويخاف من إفحامه
فهو الشجا فى حلق من ... غير الإبانة واللمع
تفنن فى العلوم بما جمع
مما قد صنع
أخذاً بأحسن ما استمع
ين ومن تصفحها انتفع
فوق المنابر فى الجمع
أهل الكنائس والبيع
ترك المحجة وابتدع(1)
... وفى كتابه الإبانة توضيح تام لعقيدته السلفية ومتابعته لإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، فارجع أيها القارئ الكريم إلى هذا الكتاب واقرأه، وخصوصاً الباب الذى عنوانه "باب فى إبانة قول أهل الحق والسنة" تجد فيه العقيدة السلفية واضحة وضوح الشمس فى رابعة النهار.
... وأرى أنه من باب تيسير الاطلاع على ما فى هذا الباب أن أنقله بطوله لعظيم نفعه وعموم فائدته، فى كلام عذب وعبارات جميلة لا يمل القارئ من قراءته، فإليك مضمون ما فيه بحروفه، أسأل الله النفع للجميع.
عقيدته كما بينها فى كتابه "الإبانة":
قال رحمه الله تعالى: [باب فى إبانة قول أهل الحق والسنة]
__________
(1) ... تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى أبى الحسن الأشعرى: ص152 انظر: "أبو الحسن الأشعرى": ص214.(1/468)
... فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذى به تقولون وديانتكم التى بها تدينون. قيل له: قولنا الذى نقول به وديانتنا التى ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم - وما روى عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون. وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل –نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون ولمن خالف قوله مجانبون، لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذى أبان الله به الحق ورفع به الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين، فرحمة الله عليه من إمام مقدم وخليل معظم مفخم وعلى جميع أئمة المسلمين.
... وجملة قولنا: أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما رواه الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نرد من ذلك شيئاً، وأن الله عز وجل إله واحد لا إله إلا هو، فرد صمد لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من فى القبور وأن الله استوى على عرشه كما قال: { الرحمن على العرش استوى } (1)، وأن له وجهاً كما قال: { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام } (2)، وأن له يدين بلا كيف كما قال: { خلقت بيدى } (3)، وكما قال: { بل يداه مبسوطتان } (4)، وأن له عيناً بلا كيف كما قال: { تجرى بأعيننا } (5)، وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالاً، وأن لله علماً كما قال: { أنزله بعلمه } (6)، وكما قال: { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } (7).
__________
(1) ... سورة طه: 5.
(2) ... سورة الرحمن: 27.
(3) ... سورة ص: 75.
(4) ... سورة المائدة: 64.
(5) ... سورة القمر: 14.
(6) ... سورة النساء: 166.
(7) ... سورة فاطر: 11.(1/469)
... ونثبت له السمع والبصر ولا ننفى ذلك كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج، ونثبت أن لله قوة كما قال: { أو لم يروا أن الله الذى خلقهم هو أشد منهم قوة } (1)، ونقول: إن كلام الله غير مخلوق وإنه لم يخلق شيئاً إلا وقد قال له: كن فيكون كما قال: { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } (2)، وإنه لا يكون فى الأرض شئ من خير وشر إلا ما شاء، وإن الأشياء تكون بمشيئة الله عز وجل وإن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً قبل أن يفعله الله ولا نستغنى عن الله ولا نقدر على الخروج من علم الله عز وجل، وإنه لا خالق إلا الله، وإن أعمال العبد مخلوقة لله مقدورة كما قال: { خلقكم وما تعملون } (3) وإن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً وهم يخلقون كما قال: { هل من خالق غير الله } (4)، وكما قال: { لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون } (5)، وكما قال: { أفمن يخلق كمن لا يخلق } (6)، وكما قال: { أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون } (7)، وهذا فى كتاب الله كثير.
__________
(1) ... سورة فصلت: 15.
(2) ... سورة يس: 82.
(3) ... سورة الصافات: 96.
(4) ... سورة فاطر: 3.
(5) ... سورة النحل: 20.
(6) ... سورة النحل: 17.
(7) ... سورة الطور: 35.(1/470)
... وإن الله وفق المؤمنين لطاعته ولطف بهم ونظر إليهم وأصلحهم وهداهم، وأضل الكافرين ولم يهدهم ولم يلطف بهم بالإيمان كما زعم أهل الزيغ والطغيان، ولو لطف بهم وأصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم لكانوا مهتدين كما قال تبارك تعالى: { من يهد الله فهو المهتدى ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون } (1)، وأن الله يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وإنه خذلهم وطبع على قلوبهم، وإن الخير والشر بقضاء الله وقدره وإنا نؤمن بقضاء الله وقدره خيره وشره حلوه ومره ونعلم أن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا وأن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن العباد لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً إلا ما شاء الله، وأنا نلجئ أمورنا إلى الله ونبث الحاجة والفقر فى كل وقت إليه، ونقول: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإن من قال بخلق القرآن فهو كافر.
... وندين بأن الله تعالى يُرَى فى الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونقول: إن الكافرين محجوبون عنه إذا رآه المؤمنون فى الجنة، كما قال الله عز وجل: { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } (2)، وإن موسى عليه السلام سأل الله عز وجل الرؤية فى الدنيا، وإن الله سبحانه وتعالى تجلى للجبل فجعله دكاً فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه فى الدنيا، ونرى بألا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمور، كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم كافرون. ونقول: إن من عمل كبيرة من هذه الكبائر مثل الزنا والسرقة وما أشبههما مستحلاً لها غير معتقد لتحريمها كان كافراً.
__________
(1) ... سورة الأعراف: 178.
(2) ... سورة المطففين: 15.(1/471)
... ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمان، وندين بأنه يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الله عز وجل(1)، وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع(2) كما جاءت الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... وندين بألا ننزل أحداً من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا ناراً إلا من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين.
... ونقول: إن الله عز وجل يخرج قوماً من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصديقاً لما جاءت به الروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
... ونؤمن بعذاب القبر وبالحوض، وأن الميزان حق والصراط حق، والبعث بعد الموت حق، وأن الله عز وجل يوقف العباد فى الموقف ويحاسب المؤمنين.
... وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ونسلم بالروايات الصحيحة فى ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التى رواها الثقات عدل عن عدل حتى تنتهى إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وندين(3) بحب السلف الذين اختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونثنى عليهم بما أثنى الله به عليهم ونتولاهم أجمعين.
__________
(1) ... أخرجه مسلم 16/155، والترمذى 5/538، وابن ماجه 1/72، وأحمد 6/315.
(2) ... البخارى 8/550، ومسلم 18/272.
(3) ... منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: (يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وفى قلبه وزن ذرة من خير) وفى رواية: (من إيمان) بدل (من خير). البخارى 1/127 فى "باب زيادة الإيمان ونقصانه".(1/472)
... ونقول: إن الإمام الفاضل بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، وأن الله أعز به الدين وأظهره على المرتدين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، وسموه بأجمعهم خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ثم عثمان بن عفان رضى الله عنه وأن الذين قاتلوه، قاتلوه ظلماً وعدواناً، ثم على بن أبى طالب رضى الله عنه، فهؤلاء الأثمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلافتهم خلافة النبوة، ونشهد بالجنة للعشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بها، ونتولى سائر أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم - ونكف عما شجر بينهم. وندين لله بأن الأئمة الأربعة خلفاء راشدون مهديون فضلاء لا يوازيهم فى الفضل غيرهم.
... ونصدق بجميع الروايات التى يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافاً لما قاله أهل الزيغ والتضليل، ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع المسلمين وما كان فى معناه، ولا نبتدع فى دين الله بدعة لم يأذن الله بها، ولا نقول على الله ما لا نعلم ونقول: إن الله عز وجل يجئ يوم القيامة كما قال: { وجاء ربك والملك صفاً صفاً } (1)، وإن الله عز وجل يَقْرُبُ من عباده كيف شاء كما قال: { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } (2)، وكما قال: { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى } (3)، ومن ديننا أن نصلى الجمعة والأعياد وسائر الصلوات والجماعات خلف كل بر وغيره، كما روى عن عبد الله بن عمر أنه كان يصلى خلف الحجاج.
__________
(1) ... سورة الفجر: 22.
(2) ... سورة ق: 16.
(3) ... سورة النجم: 8، 9.(1/473)
... وإن المسح على الخفين سنة فى الحضر والسفر خلافاً لقول من أنكر ذلك، ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم، وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة.
... وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال فى الفتنة، ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومساءلتهما المدفونين فى قبورهم(1)، ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيراً من الرؤيا فى المنام ونقر أن لذلك تفسيراً، ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله ينفعهم بذلك، ونصدق بأن فى الدنيا سحرة وسحراً وأن السحر كائن موجود فى الدنيا، وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة برهم وفاجرهم وتوارثهم.
... ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل، وأن الأرزاق من قبل الله عز وجل يرزقها عباده حلالاً وحراماً، وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويتخبطه خلافاً لقول المعتزلة والجهمية، كما قال الله عز وجل: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس } (2)، وكما قال: { من شر الوسواس الخناس – الذى يوسوس فى صدور الناس – من الجنة والناس } (3)، ونقول: إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله عز وجل بآيات يظهرها عليهم.
__________
(1) ... المساءلة تتم حتى ولو لم يقبر الشخص على صورة يعلمها الله تعالى.
(2) ... سورة البقرة: 275.
(3) ... سورة الناس: 4-6.(1/474)
... وقولنا فى أطفال المشركين: إن الله يؤجج لهم فى الآخرة ناراً ثم يقول لهم، اقتحموها كما جاءت بذلك الرواية، وندين لله عز وجل بأنه يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون، وما كان وما يكون وما لا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين، ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء، وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقى منه مما لم نذكره باباً باباً وشيئاً شيئاً إن شاء الله تعالى(1).
4. أشهر زعماء الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبى الحسن الأشعرى:
... لقد انتسب إلى الأشعرى جماعة من المشاهير كان لهم الباع الطويل فى تحرر المذهب الذى ينتسبون إليه. إلا أنهم لم يكونوا على طريقة أبى الحسن الأشعرى والمتقدمين من أصحابه فى إثبات الصفات.
ومن كبار أولئك الرجال:
1. ... أبو بكر الباقلانى المتوفى سنة 403هـ.
2. ... البيضاوى المتوفى سنة 701هـ.
3. ... الشريف الجرجانى المتوفى سنة 816هـ.
4. ... وكذا الإمام الجوينى (الأب)، وهو أبو محمد عبد الله بن يوسف الجوينى والد إمام الحرمين المتوفى سنة 438هـ.
5. ... وكذا ابنه إمام الحرمين أبو المعالى عبد الملك بن عبد الله بن يوسف المتوفى سنة 47هـ والجوينى نسبة إلى بلدة فى فارس تسمى "جوين" وقد سمى إمام الحرمين، لأنه مكث بمكة أربع سنوات ثم عرج على المدينة المنورة وكان يدرس فيهما ويناظر.
6. ... ومن أولئك أيضا :الغزالى أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالى الطوسى الملقب حجة الإسلام ،توفى سنة 505 هـ و هو ينسب إلى طوس.
7. ... ومنهم: أبو الفتح محمد بن أبي القاسم عبد الكريم الشهرستاني ولد سنة467 هـ وتوفي سنة548 هـ.
8. ... ومنهم: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني، الرازي المولد، الملقب فخر الدين، المعروف بابن الخطيب، الفقيه الشافعي.
__________
(1) ... الإبانة.(1/475)
... وأما قدماء الأشاعرة الذين كانوا علي مذهب أبي الحسن الأشعري في إثبات صفات الله تعالي فمنهم: الباقلاني: أبو بكر محمد بن الطيب، والطبري: أبو الحسن الطبري، والباهلي: أبو عبد الله بن مجاهد، وهؤلاء مشوا علي الطريقة السلفية في باب الصفات(1)، ولكن من جاء بعدهم ممن ينتسب إلى الأشعري تركوا طريقتهم وأولوا الصفات تأويلات باطلة، ومنهم من رجع أخيراً إلى مذهب السلف وذموا ما كانوا عليه من الانحراف وهم بعض من قدمنا أسماءهم فيما يذكر عنهم عند وفاتهم.
مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق ويراد به معنيان:
أ. المعنى الأعم: وهو ما يقابل الشيعة فيقال: المنتسبون للإسلام قسمان: أهل السنة والشيعة، مثلما عنون شيخ الإسلام كتابه فى الرد على الرافضى "منهاج السنة" وفيه بين هذين المعنيين(2) وصرح أن ما ذهبت إليه الطوائف المبتدعة من أهل السنة بالمعنى الأخص.
... وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كالأشاعرة. لا سيما والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الصحابة والخلفاء متفقون مع أهل السنة وهى نقطة الاتفاق المنهجية الوحيدة كما سيأتى.
ب. المعنى الأخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأهل الأهواء وهو الأكثر استعمالاً وعليه كتب الجرح والتعديل فإذا قالوا عن الرجل أنه صاحب سنة أو كان سنياً أو من أهل السنة ونحوها فالمراد أنه ليس من إحدى الطوائف البدعية كالخوارج والمعتزلة والشيعة وليس صاحب كلام وهوى.
__________
(1) ... انظر الصفات الخبرية بين الإثبات والتأويل ص 257 والمصادر السلفية التي أسند اليها .
(2) ... ج 2 ص 163 تحقيق محمد رشاد سالم.(1/476)
... وهذا المعنى لا يدخل فيه الأشاعرة أبداً بل هم خارجون عنه وقد نص الإمام أحمد وابن المدينى على أن من خاض فى شئ من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص، فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب بل التلقى والاستمداد منها(1) فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وان أخطأ ومن تلقي من غيرها فقد أخطأ وان وافقها في النتيجة.
... والأشاعرة -كما ستري- تلقوا واستمدوا من غير السنة ولم يوافقوها فى النتائج فكيف يكونون من أهلها.
... وسنأتى بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء فما بالك بأئمة الجرح والتعديل من أصحاب الحديث:
1. عند المالكية:
... روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويز منداد "أنه قال فى كتاب الشهادات شرحاً لقول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء، وقال:
... "أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعرى ولا تقبل له شهادة فى الإسلام أبداً ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها"(2).
... وروى ابن عبد البر نفسه فى "الانتقاء" عن الأئمة الثلاثة "مالك وأبى حنيفة والشافعى" نهيهم عن الكلام وزجر أصحابه وتبديعهم وتعزيرهم ومثله ابن القيم فى اجتماع الجيوش الإسلامية فماذا يكون الأشاعرة إن لم يكونوا أصحاب كلام؟
2. عند الشافعية:
__________
(1) ... أنظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، اللالكائى، تحقيق الأخ أحمد بن سعد بن حمدان: 1/157، 165.
(2) ... جامع بيان العلم وفضله 2/117 تحقيق عثمان محمد عثمان، وهو فى 2/96 من الطبعة المنيرية.(1/477)
... قال الإمام أبو العباس بن سريج الملقب بالشافعى الثانى وقد كان معاصراً للأشعرى: "لا نقول بتأويل المعتزلة والأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل"(1).
... قال الإمام أبو الحسن الكرجي من علماء القرن الخامس الشافعية ما نصه: "لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعرى ويتبرأون مما بنى الأشعرى مذهبه عليه وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت من عدة من المشايخ والأئمة، وضرب مثالاً بشيخ الشافعية فى عصره الإمام أبو حامد الاسفرائينى الملقب "الشافعى الثالث" قائلاً:
... "ومعلوم شدة الشيخ على أصحاب الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعى من أصول الأشعرى، وعلق عنه أبو بكر الراذقانى وهو عندى، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازى فى كتابيه اللمع والتبصرة حتى لو وافق قول الأشعرى وجهاً لأصحابنا ميزة وقال: "هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعى، استنكفوا منهم ومن مذهبهم فى أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين"(2). أهـ.
__________
(1) ... توفى ابن سريج سنة 306: أنظر تاريخ بغداد 4/290 زسير أعلام النبلاء 14/201 والظاهر أنه توفى قبل رجوع الأشعرى لمذهب السلف، والأشعرى توفى 324 أو 330 على قولين. وأنظر عقيدة ابن سريج فى إجتماع الجيوش الإسلامية 62.
(2) ... التسعينية: 238- 239 وأنظر شرح الأصفهانية: 31 من ج 5 من الفتاوى الكبرى نفسها وأنظر عن الكرجى وعقيدته: إجتماع الجيوش الإسلامية ومختصر العلو وله ترجمة من طبقات الشافعية لابن السبكى وطبقات الشافعية لابن كثير (مخطوط).(1/478)
... وبنحو قوله بل أشد منه قال شيخ الإسلام الهروى الأنصارى(1).
3. الحنفية:
... معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كلاهما حنفيان، وكان الإمام الطحاوى معاصراً للأشعرى وكتب هذه العقيدة لبيان معتقد الإمام أبى حنيفة وأصحابه وهى مشابهة لما فى الفقه الأكبر عنه وقد نقلوا عن الإمام أنه صرح بكفر من قال إن الله ليس على العرش أو توقف فيه، وتلميذه أبو يوسف كَفَّر بشراً المريسى، ومعلوم أن الأشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعالى على العرش ومعلوم أيضاً أن أصولهم مستمدة من بشر المريسى!!(2).
4. الحنابلة:
... موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر فمنذ بدّع الإمام أحمد "ابن كلاب" وأمر بهجره –وهو المؤسس الحقيقى للمذهب الأشعرى- لم يزل الحنابلة معهم فى معركة طويلة، وحتى فى أيام دولة نظام الملك –التى استطالوا فيها- وبعدها كان الحنابلة يخرجون من بغداد كل واعظ يخلط قصصه بشئ من مذهب الأشاعرة، ولم يكن ابن القشيرى إلا واحداً ممن تعرض لذلك، وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة لا سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور "الاعتقاد القادرى" أوضح فيه العقيدة الواجب على الأئمة اعتقادها سنة 433هـ(3).
__________
(1) ... يلاحط أن كل من الشافعية والحنابلة يدعى الهروى لمذهبهم ورجح شيخ الإسلام أنه يأخذ من كليهما ويتبع الأثر أنظر (شيخ الإسلام عبد اللله الهروى ص 96 وقوله فيهم نقله فى التسعينية: 277 عن كتاب ذم الكلام "وهو يحقق بجامعة الإمام كما قرأت. وأنظر أيضاً عن موقف الشافعية درء التعارض 2/106.
(2) ... انظر غير ما ذكر سير أعلام النبلاء ترجمة بشر 10/200- 201 والحموية: 14- 15 طبعة قصى الخطيب.
(3) ... انظر المنتظم لابن الجوزى أحداث سنة: 433، 469، 475 وغيرها ج8 و ج9.(1/479)
... هذا وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاصًا بأئمة المذاهب المعتبرين بل هو منقول أيضاً عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف، فقد نقل شيخ الإسلام فى الاستقامة كثيراً من أقوالهم فى ذلك وأنهم يعتبرون عقيدة الأشعرية منافياً لسلوك طريق الولاية والاستقامة حتى أن عبد القادر الجيلانى لما سئل "هل كان لله ولى على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟. قال: ما كان ولا يكون"(1).
... فهذا موجز مختصر جداً لحكم الأشاعرة فى المذاهب الأربعة فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل ممن يعلم أن مذهب الأشاعرة هو رد خبر الآحاد جملة وأن فى الصحيحين أحاديث موضوعة أدخلها الزنادقة.. وغيرها من الطوام وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازى فى الميزان ولسان الميزان.
... فالحكم الصحيح فى الأشاعرة أنهم من أهل القبلة لا شك فى ذلك أما أنهم من أهل السنة فلا وسيأتى تفصيل ذلك فى الموضوعات التالية:
... وهاهنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم –كالجوينى وابنه أبى المعالى والرازى والغزالى وغيرهم- وهى حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف، وكتب الأشعرية المتعصبة مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك فى تراجمهم أو بعضه فما دلالة ذلك؟
... إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أى شئ رجعوا؟. ولماذا رجعوا؟ وإلى أى عقيدة رجعوا؟
بين أهل السنة والأشاعرة(2):
يقول د. ناصر عبد الكريم العقل(3):
__________
(1) ... ص 81- 89 و 105- 109.
(2) ... الكلام هنا عن الأشاعرة ينطبق على الماتريدية، لأن الأصول والمناهج العامة والنشأة عندهما متشاهبة إلى حد كبير.
(3) ... انظر كتابه بحوث فى عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الأشاعرة والحركات الإسلامية منها.(1/480)
... هناك لبس كبير يقع فيه بعض الناس قديماً وحديثاً، ذلكم هو دعوى الأشاعرة بأنهم أهل السنة، ووصفهم بذلك من غيرهم –أحياناً- وهذه دعوى عريضة فيها الكثير من الإيهام والخلط، وبيان هذا –على سبيل التفصيل- يحتاج إلى بحث طويل، لكنى سأحاول بيان ما أعرفه حيال ذلك بإيجاز بالغ على النحو التالى:
... أولاً: أن أهل السنة والجماعة: سموا بذلك لأنهم هم الذين على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الجماعة الذين ذكرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1).
... وعليه فإن أهل السنة: هم الصحابة والتابعون ومن تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدِّين، ولم يبتدع ولم يغير. ومن غير أو بدل أو أحدث فى الدين ما ليس منه وما لم يكونوا عليه فى الاعتقاد والسنة؛ فليس منهم فيما غير أو بدل.
... ثانياً: أما الأشاعرة: فإنهم فرقة كلامية طارئة، نشأت بعد القرون الفاضلة(2) فهى تنتسب إلى الإمام أبى الحسن على بن إسماعيل الأشعرى المتوفى سنة 324هـ –رحمه الله- وكان معتزلياً، ثم تحول عن المعتزلة عام (300هـ) تقريباً وصار يرد عليهم بأساليبهم الكلامية من جانب، وبنصوص الكتاب والسنة من جانب آخر، وبهذا وقف للمعتزلة وتصدى لهم(3)، هو ومن نهج منهجه، حتى أفحمهم، وهذا عمل جليل يحمد له.
__________
(1) ... انظر ص (16 – 20) من البحث السابق.
(2) ... أى فى نهاية القرن الثالث الهجرى، وذلك بعد أن تخلى الإمام أبو الحسن الأشعرى عن الاعتزال سنة (300هـ). انظر: مقدمة الإبانة، للشيخ حماد الأنصارى، ص8.
(3) ... انظر: تبيين كذب المفترى، لابن عساكر، ص38- 45. ومقدمة الشيخ حماد الأنصارى على كتاب "الإبانة عن أصول الديانة" للإمام الأشعرى ط1/ الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.(1/481)
... ( وفى هذا الجو نشأ مذهب عقدى تلفيقى مخضرم، لا هو سُنِّىٌّ خالص، ولا كلامى عقلانى خالص، حتى هدأت العاصفة وانجلى غبار المعركة ضد المعتزلة، وقد أبلى فيها الإمام أبو الحسن الأشعرى بلاء حسناً، وخرج منتصراً على المعتزلة والجهمية، ومن سلك سبيلهم(1)، وقد استبصر الأشعرى الحق وعرف أنه إنما انتصر بتعويله على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ونصره للسنة وأهلها، ووقوفه مع أئمة السلف الآخرين.
... ثم تراجع عن مقولاته فى الصفات وغيرها التى سلك فيها مسلك التأويل والتعويل على العقل، والكلام فى أمور الغيب والصفات والقدر، فقرر أن يلحق بركب أهل السنة والجماعة فأبان عن ذلك فى كتابه "الإبانة(2)" ووفقه الله للتخلص من التلفيق العقدىّ فقال: " ... وقولنا الذى نقول به، وديانتنا التى ندين بها: التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما روى عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل –نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته- قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون ..."(3).
__________
(1) ... انظر: المصدرين السابقين.
(2) ... فى هذا الكتاب قرر الأشعرى –رحمه الله- مذهب أهل السنة فى سائر أصول الاعتقاد. فليراجع (مطبوع).
(3) ... راجع: "الإبانة عن أصول الديانة" ص52.(1/482)
... وكذلك أنه قرر معتقدات السنة فى كتبه الأخرى الأخيرة مثل (اللمع) و(رسالة إلى أهل الثغر) و(مقالات الإسلاميين) هذا فى الجملة؛ لكنه عند التفصيل بقيت عنده بعض الشوائب الكلامية التى تابع فيها ابن كلاَّب أو انفرد بها، مثل: القول بأن أفعال الله لا تتعلق بمشيئته، ومنها الكلام، وأن الكلام هو الكلام النفسى، وأن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله، والقول بالكسب(1)، ومشروعية علم الكلام، ونحو ذلك.
... وعلى هذا استقر مذهبه الثانى: النقلة من الاعتزال إلى طريقة ابن كلاَّب الكلامية، وبقى مذهباً يحتذى إلى اليوم؛ لأنه يشبع رغبات الفلاسفة والمتكلمين وأهل التأويل.
... لكنهم –أى متكلمة الأشاعرة- توسعوا فى التأويلات والمناهج الكلامية والفلسفية، وتقوّلوا على الأشعرى ما لم يكن يقول به؛ بل كان يتبرأ من أصولهم، كتأويل الصفات الخبرية، وردهم خبر الآحاد، وتقديمهم العقل على النقل ونحو ذلك.
... فالأشاعرة تنتسب إلى الإمام أبى الحسن انتحالاً مما قرر وكتب خلافه فى "الإبانة" و"اللمع" و"رسالة أهل الثغر" و"المقالات"، إلا أن الأشاعرة لا يزالون يُحمِّلونه تبعتهم.
... هذا عن نشأة مذهبهم: فالأشاعرة مذهب طارئ ملفق بين أهل السنة وأهل الكلام، لذلك صاروا أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة.
... ومن جانب آخر: فالأشعرية مرت بأطوار تاريخية، فى كل طور تزداد الشقة بينهم وبين أهل السنة، لا سيما بعد ما أدخل فيها زعماؤهم اللاحقون تلك الأسس والمعتقدات الدخيلة من: الفلسفة، والتصوف، والمنطق، والكلام، والجدل، حتى صارت عقيدة الأشاعرة مزيجاً من تلك الأخلاط.
__________
(1) ... المقصود بالقول بالكسب هو ما يدعيه الأشاعرة من أن العبد غير مستطيع قبل الفعل ولا بعده، إنما تحصل له الاستطاعة كسباً أثناء الفعل، وهذا خلاف مذهب السلف الذين يقولون باستطاعة العبد فيما يقدر عليه قبل الفعل وبعده بمشيئة الله تعالى.(1/483)
... ومن أبرز أولئك: الباقلانى، المتوفى سنة (403هـ)، وابن فورك المتوفى سنة (406هـ)، والبغدادى المتوفى سنة (429هـ)، والقشيرى المتوفى سنة (465 هـ)، وأبو المعالى الجوينى، المتوفى سنة (478 هـ)، وابن العربى، المتوفى سنة (543 هـ)، والغزالى، المتوفى سنة (505هـ)، والفخر الرازى، المتوفى سنة (606هـ)، والآمدى، المتوفى سنة (682هـ)، ونحوهم. غفر الله لنا ولهم(1)، فكل واحد من هؤلاء وغيرهم أسهم فى توسيع الشقة بين أهل السنة وبين أتباع الأشعرى، بل وبين الأشعرى وبين أتباعه.
... فأصبحت الأشاعرة اليوم مزيجاً من المشارب والمعتقدات بين أهل السنة والفلسفة والتصوف، وعلم الكلام والتجهم والاعتزال، لذلك نجدهم أكثر من ينتسبون للسنة وقوعاً فى المخالفات العقدية والعبادية (أى بدع العقائد والعبادات) وهذا بخلاف أهل السنة فى كل زمان، كما نجد أن كثيراً من الأشاعرة (حالياً) ومنذ زمن القشيرى منضوون تحت الطرق الصوفية البدعية، وتكثر فيهم بدع القبور والتبرك البدعى بالأشخاص والأشياء، وبدع العبادات والأذكار والموالد ونحوها، والتى تميّزهم (حالياً) عن أهل السنة بوضوح.
... فمن خلال الواقع اليوم يندر أن ترى أحداً من الأشاعرة إلا ولديه شئ من البدع، أو الميل إلى ذلك، أو التساهل وعدم الاكتراث بهذه المسألة الخطيرة، بينما العكس فيمن ينتسبون –حقاً- لأهل السنة، فإنه يندر أن تجد فيهم من يتعلق بشئ من البدع، إلا عن جهل، وهذا قليل جداً بحمد الله.
__________
(1) ... من توفيق الله لهؤلاء الأئمة الأجلاء –يرحمهم الله- أن غالبهم تراجعوا عن مقولاتهم فى التأويل أو بعضها فيما خالفوا فيه أهل السنة. انظر: ص (36) من هذا البحث.(1/484)
... لذا يطلق الأشاعرة المعاصرون –تبعاً للرافضة والمقابرية والصوفية وسائر الطوائف غير السنية- على أهل السنة فى سائر بلاد المسلمين اليوم (وهابية) نسبة إلى الداعى المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، كما أنهم قديماً كانوا يطلقون على أهل السنة (الحنابلة) نسبة لإمام السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وما علموا أن نبزهم باسم هذين الإمامين أحمد بن حنبل ومحمد بن عبد الوهاب تزكية لهم وهو شرف وشهادة لهم بأنهم مقتدون بأئمة الهدى.
... وبالجملة: فالأشاعرة يوافقون أهل السنة فى أمور من العقيدة ويخالفونهم فى أمور أخرى، فهم فيما يوافقون أهل السنة فيه يجوز أن نطلق عليهم أنهم على السنة فى ذلك الأمر من حيث اتباعهم للسنة فيه، لكنهم فى الجملة حيث خالفوا أهل السنة فى أصول أخرى ليست قليلة: ليسوا هم أهل السنة عند الإطلاق والعموم، وهذا الأمر قد يلتبس على كثير من الناس اليوم؛ لقلة اطلاعهم على كلام أهل العلم فى ذلك.
من أهم المسائل التى خالف فيها الأشاعرة أهل السنة:
يقول: د. ناصر عبد الكريم العقل(1):
... كأنى بالقارئ يطالبنى بالإشارة إلى ما خالف فيه الأشاعرة أهل السنة، من أصول ومعتقدات؛ فأقول –بإيجاز- وبالله التوفيق:
__________
(1) ... فى كتابه "عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الأشاعرة والحركات الإسلامية المعاصرة منها".(1/485)
... 1. من أخطر ما خالف به الأشاعرة أهل السنة: خوضهم فى صفات الله عز وجل بالتأويل الذى نهى عنه السلف، خاصة الصفات الخبرية والأفعال التى وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - مثل صفات: اليد، والعين، والنفس، والوجه، والاستواء على العرش، وأفعال الله تعالى مثل: النزول، والمجىء، والرضا، والغضب، والحب، والبغض(1)، ونحوها من الصفات الخبرية التى ذكرها الله تعالى فى كتابه، أو صحت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهم لم يؤمنوا بها كما جاءت وكما فعل السلف؛ بل أولوها وصرفوا ألفاظها إلى غير ظاهرها، هروباً من شبهة التجسيم والتمثيل، وغفلوا عما يترتب على فعلهم هذا من تحريفهم لكلام الله، وتعطيل لمعانيه، والقول على الله بغير علم، وغير ذلك من المستلزمات التى يقتضيها التأويل وتنافى التسليم لله تعالى، إذ كيف يليق أن يقول الله عن نفسه، ويقول عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - بصفات لا تليق أو تقتضى التشبيه والتجسيم، ثم لا يكتشف هذه المسألة إلا المتكلمون بعد القرن الثالث الهجرى؟!
... فهل فات هذا الفهم على الصحابة والتابعين وسلف الأمة ثم أدركه المتكلمون؟! هذا مما لا يليق تجاه كلام الله تعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة والتابعين وأئمة الهدى الأوائل ممن هم أعلم منهم وأتقى لله، فإن الله سبحانه حين وصف نفسه بتلك الصفات: كاليدين، والوجه، والنفس، والرضا، والغضب، والنزول، والمجىء، والاستواء، والعلو .. إلخ من الصفات، فقد سد باب شبهة التمثيل بقوله سبحانه: { ليس كمثله شئ وهو السميع البصير } (2).
__________
(1) ... انظر مثلاً: أساس التقديس، للفخر الرازى، ص 111- 191. والإرشاد للجوينى ص 146- 154.
(2) ... الشورى: 11.(1/486)
... فهل الذين أوَّلوا تلك الصفات أعلم بالله من الله؟ وهل هم أشد تنزيهاً لله من رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهل هم أعلم بمراد الله من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من التابعين وتابعيهم وأئمة الهدى والسنة فى القرون الفاضلة، الذين أمَرُّوا هذه الصفات وغيرها من أمور الغيب كما جاءت عن الله وعن رسول الله لفظاً ومعنى على مراد الله ورسوله، من غير تشبيه ولا تعطيل، ولا تأويل؟!
... وقد ابتلى المتكلمون –ومنهم الأشاعرة والماتريدية- بسبب التأويل فى صفات الله، وبعض مسائل العقيدة، بأن أدخلوا فى عقائدهم من المصطلحات والألفاظ والظنيات العقلية التى تابعوا فيها الجهمية والفلاسفة ما لا يليق القول به فى حق البارى سبحانه، لا نفياً ولا إثباتاً.
... وأقل ما يقال فيه: إنه كلام مبتدع لم يرد عن الله ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فالكفّ عنه أسلم، والخوض فيه قول على الله بلا علم، مثل: الحدود، والغايات، والجهات، والماهية، والحركة، والحيز، والعرض، والجوهر، والجسم، والحدوث، والقِدم.
... ودعوى قطعية العقل، وظنية النقل .. ومثل كلامهم فى: التركيب والتبعيض، وقولهم عن البارى سبحانه أنه لا داخل العالم ولا خارجه(1) .. إلخ، مما ابتدعوه من الكلام عن الله تعالى نفياً أو إثباتاً، وذلك انسياقاً مع إلزامات المعتزلة والجهمية والفلاسفة العقلية الجدلية.
__________
(1) ... انظر: الاقتصاد فى الاعتقاد، للغزالى، ص12–135. والأربعين فى أصول الدين، للغزالى أيضاً، ص13- 16، وأصول الدين للفخر الرازى ص19- 55. أساس التقديس، للرازى أيضاً، ص15- 99. والتمهيد، للباقلانى، ص40 –50 وشرح المفاصد للتفتازانى 2/57- 68.(1/487)
... وكلامهم فى هذه الأمور قد يشتمل على بعض الحق الملتبس بالباطل أحياناً، لكن الله تعالى حذر من لبس الحق بالباطل ونهانا عنه، وأقل ما يقال فيه: إنه جهل، فيه شئ من القول على الله بغير علم، والله تعالى يقول: { ولا تقف ما ليس لك به علم } (1).
... ويقول: { ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون فى أسمائه } (2).
... فأهل السنة لا يتكلمون فى هذه الأمور –على سبيل التأصيل والإقرار والتقرير- إلا من باب الرد وإلزام الحجة، وقدر الحاجة، فمخالفة الأشاعرة لأهل السنة فى هذا الباب (الصفات) ليست فرعية، إذ هى متعلقة بأصل من أعظم أصول الدين، وهو توحيد الصفات المتعلقة بالبارى –سبحانه جل شأنه-.
... ومع ذلك يبقى الأشاعرة هم أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة؛ لأن مقصدهم بالتأويل: التنزيه، لكن على غير هدى ولا اقتداء، بل وقعوا فيما حذّر منه أهل السنة من تحريم التأويل والجدل، وضرب الأمثال لله تعالى، ونحو ذلك مما ينافى وجوب التسليم بالنصوص الشرعية(3).
... 2. ومن الأصول التى خالف فيها الأشاعرة أهل السنة: تعويلهم على العقل والجدل وعلم الكلام (النظر) فى صفات الله، ومسائل القدر والغيب، وتقديمهم العقل –ما يسمونه القواطع العقلية- على النقل (الكتاب والسنة)، فى أمور الغيب ومسائل الاعتقاد، بل فى مسائل صفات الله تعالى!
__________
(1) ... الإسراء: 36.
(2) ... الأعراف: 180.
(3) ... فقد ورد النهى عن الخوض فى ذلك عن أكابر الأئمة مثل: الإمام أحمد، وابن المدينى، والأوزاعى، والبخارى، وأبى زرعة، وأبى حاتم، وغيرهم كثير، حيث حذروا من الجدل والتأويل وعلم الكلام. انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة، لأبى القاسم اللالكائى. تحقيق: د. أحمد سعد حمدان ج1، ص151- 186.(1/488)
... فالقاعدة عندهم كما قررها الرازى والجوينى وغيرهما (أن الدلائل النقلية لا تفيد اليقين)(1). و(أن الدلائل النقلية ظنية، وأن العقلية قطعية، والظن لا يُعارض القطع)(2)! –سبحان الله-!! فوصفوا كلام الله وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه ظنى، وأوهام البشر وتخرصاتهم وخطبهم فى الغيب بأنه قطعى، ولو عكسوا لأصابوا الحق.
... 3. ومن أصولهم المخالفة لأهل السنة: تفسيرهم التوحيد بما يحصره فى توحيد الربوبية، وغفلتهم عن توحيد الألوهية والعبادة لله تعالى وحده، مع أنه التوحيد الذى أرسلت به الرسل، قال الله تعالى: { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } (3). وهو التوحيد الذى من أجله خلق الله الخلق، قال تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } (4).
... لذلك نجد التلبس بالبدع فى العبادات، والوقوع فى بعض الشركيات، كثير فيمن ينتسبون إلى الأشاعرة المتأخرين، لتساهلهم فى توحيد العبادة.
... وهذا لا يعنى أن أهل السنة يستهينون بأمر توحيد الربوبية.. كلا والله! لكنهم يبدأون بما بدأ الله به، وما بدأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن توحيد الربوبية فطرى، لا يكاد ينكر بالكلية إلا نادراً، وغالب الآيات التى جاءت فى تقريره جاءت فى سياق الإلزام بتوحيد العبادة والطاعة، لذلك لا يعرف أن أمة من الأمم أنكرت توحيد الربوبية، بل لا توجد طائفة أجمعت على هذا الأمر على الحقيقة، ولو حصل هذا لذكره الله تعالى فى قصص الأنبياء.
__________
(1) ... راجع: كتاب "أصول الدين" لفخر الدين الرازى –ص24. وكتاب الإرشاد، للجوينى ص 25- 37.
(2) ... أصول الدين، للرازى ص24.
(3) ... الأنبياء: 25.
(4) ... الذاريات: 56.(1/489)
... وبعكسه توحيد الألوهية، فهو الذى ضلت فيه الأمم والفرق والطوائف حتى اليوم. لذا نجد أن نُظَّارَ الأَشاعرة وأئمتهم يبدأون مؤلفاتهم فى الاعتقاد بالعقليات والنظريات، والتصديقات والتصورات، والمصطلحات الكلامية والفلسفية، وأن الدلائل النقلية (السمعية) لا تفيد اليقين! وأن العقليات قطعية يقينية، ثم حدوث العالم وإثبات الصانع وغير ذلك من الفلسفة وعلم الكلام، وينتهون فى ذلك إلى تقرر توحيد الربوبية(1)، وهذا خلاف ما درج عليه أهل السنة، بل خلاف منهج القرآن الكريم، فالآيات التى جاءت لتقرير توحيد الربوبية قليلة بإزاء الآيات التى جاءت لتقرير توحيد العبادة والطاعة، ثم إن كثيراً من الآيات فى توحيد الربوبية جاءت لتقرير عبادة الله وحده كما أسلفت.
__________
(1) ... انظر على سبيل المثال: أول كتاب التمهيد للباقلانى، وأول كتاب الإنصاف للباقلانى –أيضاً- وأصول الدين للفخر الرازى –أوله-، وأول كتاب الاقتصاد فى الاعتقاد –للغزالى، وأول أصول الدين للبغدادى، وأول الإرشاد للجوينى، وأول كتاب الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد للبيهقى، وغيرها من الكتب المعتمدة لدى الأشاعرة فإنها تبدأ بالنظر والعقليات وعلم الكلام وتقرير القواعد العقلية والفلسفية ولا تكاد تذكر توحيد العبادة والقصد إلا نادراً، مع حاجة الأمة إليه قديماً وحديثاً.(1/490)
... 4. كما أنهم خالفوا أهل السنة فى أصول أخرى مثل: قولهم فى القرآن وكلام الله(1)، والإيمان(2)، والقدر(3)، والنبوات(4)، حيث تأثروا بالأصول الكلامية والفلسفية وبدع المرجئة فى نظرتهم لهذه الأمور، فجاءت عقيدتهم فيها خليطاً من الحق والباطل بين أهل السنة والمرجئة والمعتزلة والفلاسفة، لذا تجدهم كثيراً ما يستخدمون مصطلحات فلسفية وكلامية محتملة للحق والصواب وضدها، وتختلف عن ألفاظ الكتاب والسنة.
... وهكذا فإن هذه الأمور التى خالف الأشاعرة فيها أهل السنة، وهى من أصول الاعتقاد وفروعه تقتضى من الباحث المنصف –عند التدقيق والتحقيق- أن يحكم كما هو رأى المحققين من أئمة أهل السنة(5)، بأن مذهب الأشاعرة فى العقيدة، مذهب مستقل فى بعض الجوانب عن أهل السنة بأصوله ومناهجه، وتصوراته وأحكامه، وبخاصة فى مسائل الصفات والإيمان والوحى والنبوات والقرآن وكلام الله، والقدر. فالأشاعرة فى هذه المسائل وغيرها يوافقون أهل السنة فى أمور ويخالفونهم فى أخرى.
__________
(1) ... انظر: الإنصاف –للباقلانى- ص 62- 126. وأصول الدين –للرازى- ص 63 –67. وكتاب الأربعين فى أصول الدين –للغزالى- ص 27- 28.
(2) ... انظر: كتاب الإيمان –لابن تيمية- ص 100- 155. والإنصاف –للباقلانى- ص 55. والاقتصاد فى الاعتقاد –للغزالى- ص 89، 90. والتمهيد –للباقلانى- ص 146، 147.
(3) ... انظر: الإنصاف –للباقلانى- ص 39- 44. وكتاب الأربعين فى أصول الدين –للغزالى- ص16- 27.
(4) ... انظر: النبوات –لابن تيمية- ص 100 – 102. وأصول الدين –للرازى- ص 91- 105. والاقتصاد فى الاعتقاد –للغزالى- 165- 179
(5) ... من أكثر من جلى هذه المسألة وأصلها شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- فلتراجع مؤلفاته، ومنها على سبيل المثال: العقيدة التدمرية، والفتوى الحموية الكبرى، والعقيدة الواسطية. وانظر: المجلد الرابع من مجموع الفتاوى ص 1- 190.(1/491)
... كما أنه لا يجوز أن نُحمِّل السلف –أهل السنة والجماعة- مقولات الأشاعرة فيما ابتدعوه من علم الكلام والفلسفة، وإنه لمن الإجحاف والتجنى أن ننسب تلك المقولات للصحابة والتابعين وأئمة الهدى فى القرون الفاضلة، وهذه المقولات هى الغالبة فى معتقدات الأشاعرة كما أشرت فى الفصل السابق.
... أما أهل السنة فهم الذين لم يحيدوا ولم يزيدوا على مذهب السلف حتى اليوم، فالذى ينتمى وينتسب لأهل السنة يلزمه أن يعتقد ما اعتقدوه فى هذه الأصول، وأن يَتبِع ما قالوه أو قرَّرُوه، لا أن يقول ويعتقد حسب قواعده العقلية الكلامية والفلسفية، ثم ينسب قوله وعقيدته إلى السلف، كما فعل كثير من نظار الأشاعرة.
... وإذا عرضنا الكثير من معتقدات الأشاعرة على ما أثر ونقل على السلف فى القرون الفاضلة؛ وجدنا البون بينهما شاسعاً، ووجدنا أنهم –أى الأشاعرة- ابتدعوا وأحدثوا من المقولات ما كان ينهى عنه السلف من الكلام فى الصفات والغيبيات بالظنون والمبتدعات الكلامية، وقد عرضت شواهد لذلك(1).
... ومن الحق والإنصاف أن نقول: إن الأشاعرة –فى العموم- هم أقرب الفرق الكلامية إلى أهل السنة، وأن منهم من هو إلى السنة أقرب من سائرهم، وأن من الأشاعرة وممن انتسب إليهم: أئمة فى الحديث، وعلماء أجلاء فى التفسير، والفقه والعربية وغيرها، ممن لهم قدره وفضلهم فى العلم والدين، بل إنه من الملاحظ أن أئمة الحديث ممن انتسب أو نُسِبَ إلى الأشاعرة؛ تجدهم من أهل السنة فى جملة الاعتقاد، وتحتاج نسبتهم إلى الأشاعرة إلى شئ من التثبت والتحقيق، من أمثال: البيهقى، والخطابى، والقاضى عياض، وابن عساكر، والنووى، وابن حجر العسقلانى.
... ونحوهم من أئمة السنة والحديث، إذ هم إلى أهل الحديث أقرب منهم إلى المتكلمين.
__________
(1) ... انظر ص (70، 71) من كتاب "عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الأشاعرة والحركات الإسلامية المعاصرة منها".(1/492)
... فالعالم من الأشاعرة كلما زاد علمه فى السنة والحديث والأثر؛ وجدناه فى الاعتقاد إلى أهل السنة أقرب –فى الغالب-.
... وأمر آخر تجدر الإشارة إليه هنا، وفيه البرهان الأقوى على أن الأشاعرة جانبوا أهل السنة فى بعض مسائل الاعتقاد الكبرى، وعلى أنهم عند التحقيق والتَروِّى والتَجرُّد يرجعون عن مقولاتهم إلى عقيدة أهل السنة، وهذا البرهان: هو رجوع كثير من أئمتهم ونظارهم الكبار إلى عقيدة السلف، والتسليم بها فى آخر الأمر، أو آخر العمر، كما حصل من الإمام أبى الحسن الأشعرى نفسه، حينما استقر على عقيدة السلف فى (الإبانة)(1) وغيره، وكما حصل من أبى المعالى الجوينى، وأبى محمد الجوينى، والرازى، والشهرستانى، والغزالى، وأبو بكر ابن العربى، وغيرهم(2). فمنهم من رجع إلى قول أهل السنة، وترك علم الكلام، وبيَّن ذلك من خلال كتابة ما استقر عليه اعتقاده، ومنهم من أعلن تسليمه لعقيدة أهل السنة على الإطلاق قبيل الوفاة، ولم يتمكن من الكتابة(3).
__________
(1) ... انظر: كتابه "الإبانة عن أصول الديانة".
(2) ... انظر: ص (36) من كتاب "عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الأشاعرة والحركات الإسلامية المعاصرة منها".
(3) ... انظر: شرح الطحاوية ص 150- 153.(1/493)
... وأختم قولى فى هذا الفصل: أنه ظهر لى أن أشاعرة اليوم (المعاصرين) بعدوا عن أهل السنة أكثر من أسلافهم؛ لقلة فقههم بعقيدة السلف، ولما تلبسوا به من الفلسفة وعلم الكلام والبدع والخرافات والتصوف، والانضواء –من الكثير منهم- تحت الطرق الصوفية ونحوها(1)، هداهم الله، وبَصَّرَنَا وإياهم بالحق والصراط المستقيم.
... كما تجدر الإشارة إلى أن ما ذكرته من مفارقة الأشاعرة لأهل السنة فى بعض أصول الاعتقاد لا يعنى أنى أرى تكفيرهم ولا تضليل جميعهم، بل لم أتعرض لهذا الأمر، وأرى أنه جد خطير، ولم ينقل عن عامة السلف تكفيرهم.
ويقول أيضًا: أين أهل السنة؟
... عرضت فى فصول سابقة إلى التعريف بأهل السنة، وسمات عقيدتهم، وخصائصها، وذكرت أن الأشاعرة –ومذهبهم منتشر فى غالب البلاد الإسلامية- ليسوا هم أهل السنة عند الإطلاق، بعد ذلك يحق للمرء أن يتساءل: أين أهل السنة؟ وكيف نعرفهم بين المسلمين اليوم؟
فأقول بإيجاز، وحسب ما ظهر لى:
... إن أهل السنة قد وصفهم الرسول صلى الله عليهم وسلم وعينهم تعييناً يجعلهم بادين كالشمس لمن وفقه الله وسلم من الهوى والعصبية والتقليد الأعمى، فمن صفاتهم المأثورة:
... 1. أنهم الذين على هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مظهراً ومخبراً، عقيدة وسلوكاً وعبادة، وهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينته السُّنَّة أوضح بيان.
__________
(1) ... وهذا بخلاف ما كان عليه الأشاعرة القدامى، فإنهم كانوا إلى السُّنة أقرب ولم تتأصل فيهم المناهج الكلامية والصوفية والفلسفية والجدل، وكانوا أهل سنة فى أعمالهم وعبادتهم. أما المتأخرون من الأشاعرة المعاصرين فأغلبهم من أنصار الطرق، وأصحاب بدع فى الاعتقادات والعبادات، وهذا منشؤه التساهل فى أمر توحيد العبادة فى أصول الأشاعرة، كما بينت. انظر: ص(61) من كتاب "عقيدة أهل السنة والجماعة وموقف الأشاعرة والحركات الإسلامية المعاصرة منها".(1/494)
... فهم –أى أهل السُّنَّة- أعلام بارزون ظاهرون جيلاً بعد جيل منذ عصر الصحابة إلى يومنا، معروفون بالاتباع والاقتداء والاهتداء.
... 2. وأنهم المتمسكون بعقيدة السلف، الصحابة والتابعين، وأئمة الهدى فى القرون الثلاثة الفاضلة، وعقيدة السلف مأثورة معروفة مسطرة –بحمد الله- من خلال ما صنفه أئمة الهدى كالإمام أحمد، والبخارى، وابن أبى عاصم، والدارمى، وعبد الله بن أحمد، وابن خزيمة، وابن بطة، وابن منده، والخلال، والأشعرى(1) بعد إبانته، وإسماعيل الصابونى، والطحاوى، وابن تيمية، وغيرهم كثيرون جداً، يعرفهم أهل العلم وكل من أراد التعرف عليهم.
... 3. سلامتهم من التلبس بالبدع والشركيات والطرقية، فأهل السنة أيّاً كانوا لا تراهم يتمسحون بالقبور والأشخاص والأحجار والآثار والصخور، ولا يدعون غير الله، ولا يستغيثون بالأموات ولا يقيمون المشاهد والقباب على القبور، ولا يقيمون الموالد والاحتفالات البدعية، وقل أن تجد منهم من ينضوى تحت الطرق الصوفية، إلا عن جهل وغفلة أو تقليد على غير بصيرة كبعض العوام.
... 4. تمسكهم بشعائر الدين، الظاهرة والباطنة، كما أمر الله وبيَّن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهم يقيمون الفرائض والسنن، ويأمرون بها، ويتركون الآثام: "المنكرات والمحرمات والبدع"، وينهون عنها.
... 5. أنهم ظاهرون فى مجتمعاتهم بالصدع بالحق، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ومحاربة البدع، لا تأخذهم فى الله لومة لائم، وهذه الصفة قد تتفاوت من بلد إلى آخر، فإن من بلاد المسلمين ما لا يستطيع المسلمون فيه إظهار شعائرهم، ولا إعلان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
__________
(1) ... أعلن الإمام أبو الحسن الأشعرى –كما سبق بيانه- التزامه لعقيدة السلف فى الجملة فى كتابه "الإبانة" وغيره. فليراجع.(1/495)
... وفى العموم: فأهل السنة –والله أعلم- لا يحصرهم مكان ولا زمان -فهم بحمد الله- يوجدون فى أكثر من مكان وأكثر من بلد، يقلون فى بلد، ويكثرون فى آخر، فهم فى أرض الله الواسعة منتشرون بحسب حالهم.
... ولو تأملت حال المسلمين اليوم لوجدت أهل السنة منهم متميزين فى كل بلد بحسب حاله، كثرة أو قلة، قوة أو ضعفاً، فأحسن بلاد يتمثل فيها أهل السنة –فيما يظهر لى-: المملكة العربية السعودية، والبلاد المجاورة لها على تفاوتٍ بينها، ثم سائر البلاد الإسلامية على نسب مختلفة، فقد تجدهم فى مصر والسودان أكثر ما يكونون بين أنصار السنة المحمدية، وبعض الجماعات السلفية، وفى الشام فى أهل الحديث والأثر اكثر من غيرهم، وفى الهند والباكستان وأفغانستان يكثرون فى أهل الحديث والجماعات والجمعيات السلفية أكثر من غيرها وهكذا ..(1).
... ومع ذلك فإن هذا لا يعنى التزكية المطلقة لمن مرّ ذكرهم، ولا يعنى حصر أهل السنة فيهم.
... وقد أشرت من قبل أن أبرز سمات أهل السنة فى البلاد التى تكثر فيها البدع والطرق الصوفية: وصفهم بـ (الوهابية) نسبةلدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو بـ (الحنابلة) نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل.
__________
(1) ... هذا على سبيل التمثيل لا الحصر ولا التحقيق؛ لأن التحقق من هذه الأحكام يحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحقيق الدقيق، لكنى ضربت بذلك مثالاً فحسب.(1/496)
... ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب هى مثال حى واضح لأهل السنة والجماعة، معتقداً وسلوكاً، وقد تحقق بها قول النبى - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة)(1). فهى حتى الآن ظاهرة بحمد الله.
... هذا مع العلم أن عامة المسلمين الذين يقيمون شعائر الدين وهم سالمون من الشركيات، إنما هم على الفطرة، ويدخلون فى سواد الأمة وأهل السنة، فى أى بلد ومكان كانوا.
... وأهل السنة (والله أعلم) فى آخر الزمان ليسوا أكثرية؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنهم طائفة، وأنهم الغرباء، وأنهم عصابة، وأنهم فرقة واحدة من ثلاث وسبعين فرقة(2).
... وهكذا تسقط دعوى بعض الأشاعرة والماتريدية المعاصرين، بأنهم أهل السنة؛ لأنهم الأكثرون فى بلاد المسلمين، كما أن الأكثرية ليست دليلاً كافياً على الصواب، إنما العبرة باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع هدى الصحابة والتابعين وأئمة الهدى الأعلام فى العصور الثلاثة الفاضلة، والذين اتبعوهم واقتفوا آثارهم، ولم يغيروا ولم يبدلوا إلى يوم الدين مهما قلّوا.
__________
(1) ... هذا الحديث مستفيض عن جمع من الصحابة أخرجاه فى الصحيحين وغيرهما بألفاظ كثيرة. انظر: صحيح البخارى –فتح البارى- كتاب المناقب- باب 27- (6/634). وكتاب الاعتصام باب 10 (13/293). وكتاب التوحيد– باب 29 (13/442). وصحيح مسلم- كتاب الإمارة –باب 53- الأحاديث/ 1920- 1924 (3/ 1523- 1525).
(2) ... انظر الحديث السابق.(1/497)
... هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: فإن الأكثرية من المسلمين اليوم هم العامة الذين يغلب عليهم الجهل، وعدم الإلمام بتفصيلات العقائد، وهؤلاء جمهورهم على الفطرة، والأصل فيهم البراءة وسلامة الاعتقاد، ومن كان هذا وصفه فهو داخل فى سواد المسلمين أهل السنة، ما لم تجتلهم شياطين البدع والخرافات، وشياطين الفرق والطرق والأهواء، ودعاة الضلالة. والله أعلم.
7. الماتريدية(1)
1. التعريف بمؤسس الماتريدية:
... تنتسب هذه الطائفة إلى أحد علماء القرن الثالث الهجرى وهو محمد بن محمد بن محمود المعروف بأبى منصور الماتريديى، ولد فى ماتريد وهى من بلدان سمرقند فيما وراء النهر، ولا يعرف على وجه اليقين سنة مولده، وقد توفى سنة 333هـ على أرجح الأقوال(2).
... تلقى علوم الفقه الحنفى والكلام على أحد كبار علماء ذلك العصر وهو نصر بن يحيى البلخى المتوفى سنة 386هـ، وغيره من كبار علماء الأحناف، كأبى نصر العياض وأبى بكر أحمد الجوزجانى وأبى سليمان الجوزجانى، حتى أصبح من كبار علماء الأحناف وقد تتلمذ عليه بعض المشاهير فى علم الكلام.
... لقد كان لأبى منصور مناظرات ومجادلات عديدة مع المعتزلة فى الأمور التى خالفهم فيها، وقد اتحد فى الهدف مع الأشعرى فى محاربة المعتزلة وكان معاصراً له، وأما فى العقائد فكان على اتفاق مع ما قرره أبو حنيفة فى الجملة، مع مخالفته فى أمور وله مؤلفات كثيرة فى مختلف الفنون، منها: بيان وهم المعتزلة – تأويلات أهل السنة – الدرر فى أصول الدين – الرد على تهذيب الكعبى فى الجدل – عقيدة الماتريدية – كتاب التوحيد وإثبات الصفات – كتاب الجدل – مأخذ الشرائع فى أصول الفقه – المقالات.
__________
(1) ... انظر الماتريدية للشمس الأفغانى ج1 ص214.
(2) ... انظر كتاب فرق معاصرة – د. غالب بن على العواجى.(1/498)
... وكان يلقب فيما وراء النهر بإمام السنة وبإمام الهدى(1)، وقد وقف فى وجه المعتزلة الذين كانوا فيما وراء النهر إلا أنه كان قريبا منهم فى النظر إلى العقل، ولم يغل فيه غلوهم، بل اعتبره مصدراً آخر إضافة إلى المصدر الأساسى وهو النقل، مع تقديم النقل على العقل عند الخلاف بينهما(2) إلا إنه يعتبر معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع وإن الله يعاقبه على عدم هذه المعرفة.
... وقد أوجز الشيخ أحمد عصام الكاتب عقيدة الماتريدى، من خلال كتاب الماتريدى فى التوحيد المسمى "كتاب التوحيد" الذى حققه الدكتور فتح الله خلف عن نسخة مخطوطة يتيمة فى مكتبة جامعة كمبردج بانجلترا، وقد عرضه الدكتور المذكور فى مجلة تراث الإنسانية المجلد 9 العدد 2، كما أن تحقيقه لكتاب التوحيد نشر فى بيروت سنة 1970م.
... ثم قال أحمد عصام عن كتاب التوحيد للماتريدى بتحقيق الدكتور فتح الله خلف: "وسنعتمد عليه فى كلامنا على عقائد الماتريدية، لأنه أفضل مصدر لهذه العقائد وأصدقها وأقربها، ولا عبرة بما فعله المتأخرون منهم من خلط الحابل بالنابل".
... وأنا بدورى سوف أختصر أيضا ما ذكره الشيخ أحمد عصام بقصد الاختصار والإشارة إلى عقيدة الماتريدى والماتريدية، ومن أراد التوسع فى هذا فليرجع إلى كتاب التوحيد المذكور أو لمجلة تراث الإنسانية.
2. أهم آراء الماتريدى إجمالاً:
لا يرى الماتريدى مسوغاً للتقليد، بل ذمه وأورد الأدلة العقلية والشرعية على فسادة وعلى وجوب النظر والاستدلال.
__________
(1) ... انظر: تاريخ المذاهب الإسلامية 1/197 بل هو إمام من أئمة الكلام والتأويل.
(2) ... هذا من باب الإخبار عن مذهب الماتريدى، وإلا فإن العقل السليم لا يعارض النقل الصحيح.(1/499)
يذهب فى نظرية المعرفة إلى لزوم النظر والاستدلال، وأنه لا سبيل إلى العلم إلا بالنظر، وهو قريب من آراء المعتزلة والفلاسفة فى هذا، ثم يذكر أدلة كثيرة على وجود الله، مستخدماً أدلة المعتزلة والفلاسفة فى حدوث الأجسام وأنها دليل على وجود الله.
يوافق فى الاعتقاد فى أسماء الله السلف، ويرى أن أسماء الله توقيفية، فلا نطلق على الله أى اسم إلا ما جاء به السمع، إلا أنه يؤخذ على الماتريدية أنهم لم يفرقوا بين باب الإخبار عن الله وبين باب التسمية فأدخلوا فى أسمائه ما ليس منها كالصانع والقديم والشىء، والسلف يخالفونهم فى هذا وقد عطل الماتريدية كثير من أسماء الله تعالى وأولوها.
يرى أن المؤمنين يرون ربهم والكفار لا يرونه، ويخالف الأشعرى هنا فى أن الماتريدى يرى أن الأدلة على إمكان رؤية الله تعالى عقلاً غير ممكنة، بينما يستدل عليها أبو الحسن الأشعرى بالعقل، إلا إنهم خالفوا السلف فنفوا المقابلة والجهة مطلقاً، وذلك بسبب نفيهم عن الله علو الذات كما أن إثباتهم للرؤية ونفى الجهة والمقابلة فيه تناقض فإن الله تعالى يرى فى جهة العلو.
هو أقرب ما يكون إلى السلف فى سائر الصفات، فهو يثبت الاستواء على العرش وبقية الصفات دون تأويل لها ولا تشبيه، أى فى الصفات التى تثبت عند الماتريدية بالعقل لكنهم يؤولون ما عداها، كما أنهم يعتقدون أن صفات الله لاهى هو ولا غيره وهو تناقض منهم.
فى القضاء والقدر هو وسط بين الجبر والاختيار، فالإنسان فاعل مختار على الحقيقة لما يفعله ومكتسب له وهو خلق لله، حيث يخلق للإنسان عندما يريد الفعل قدرة يتم بها، ومن هنا يستحق المدح أو الذم على هذا القصد، وهذه القدرة يقسمها إلى قسمين:
قدرة ممكنة: وهى ما يسميها: لسلامة الآلات وصحة الأسباب.
وقدرة ميسرة، زائدة على القدرة الممكنة: وهى التى يقدر الإنسان بها على الفعل المكلف به مع يسر، تفضلاً من الله تعالى.(1/500)
يقول الماتريدى بخلق أفعال العباد، وهو يفرق بين تقدير المعاصى والشرور والقضاء بها، وبين فعل هذه المعاصى، فالأول من الله والثانى من العبد بقدرته واختياره وقصده. ويمنع أبو منصور من إضافة الشر إلى الله فلا يقال: رب فى الأوراث والخبائث ولو أنه خالق كل شىء، وهذا الشق الأخير معروف عن السلف، أما تقسيمه القدرة وجعل العبد فاعلاً باختياره وقصده وقدرته من وجه، ولو كان الله هو الفاعل من وجه آخر، فيه حيد عن مذهب السلف فى ذلك، ونسبة الماتريدية الفعل إلى العبد يقصدون به أن الله لا يخلق فعل العبد إلا بعد أن يريده العبد ويختاره فيصبح ذلك العمل كسباً له يجازى به حسب اختياره له وإرادته المستقله له.
فى مسائل الإيمان: لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بخروج مرتكب الكبيرة عن الإسلام. ويرى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، دون الإقرار باللسان، ومن هنا يفترق الماتريدى عن السلف. وعنده لا يجوز الاستئناء فى الإيمان، لأن الاستثناء يستعمل فى موضع الشكوك والظنون. وهو كفر، وأهل السنة قالوا بجواز الاستثناء فى الإيمان لأنه يقع على الأعمال لا على أصل الإيمان أو الشك فى جود الإيمان.
... وبين الماتريدى والأشعرى مسائل كثيرة اتفقوا فيها وأخرى اختلفوا فيها، فمما اختلفوا فيه(1):
... 1. مسألة القضاء والقدر: فقال الماتريدية: إن القدر هو تحديد الله أزلاً كل شىء بحده الذى سيوجد به من نفع، وما يحيط به من زمان ومكان، والقضاء: الفعل عند التنفيذ.
__________
(1) ... لم يكن بين الماتريدى والأشعرى أى تقارب بل وحتى مجرد المعرفة، وقد أرجع بعض الباحثين تقارب المذهب الأشعرى مع الماتريدى إلى أخذ الجميع عن ابن كلاب لأن الأشعرى كان كلابياً قبل أن يدخل مذهب السلف.(2/1)
... وقال الأشاعرة: إن القضاء هو الإرادة الأزلية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدر: تعلق تلك الإرادة بالأشياء فى أوقاتها المخصوصة أى أن الأشاعرة يرون أن المحبة والرضى والإرادة بمعنى واحد، بينما يرى الماتريدية أن الإرادة لا تستلزم الرضى والمحبة.
... 2. واختلفوا فى أصل الإيمان، فذهب الماتريدية إلى أنه يجب على الناس معرفة ربهم، ولو لم يبعث فيهم رسولاً بينما ذهب الأشعرية إلى أن هذه المعرفة واجبة بالشرع لا بالعقل كما تعتقد الماتريدية.
... وذهب الأشاعرة إلى عدم وجوب الإيمان وعدم تحريم الكفر قبل بعثة الرسل.
... 3. اختلفوا فى صفة الكلام، فترى الماتريدية أن كلام الله لا يسمع وإنما يسمع ما هو عبارة عنه بينما يرى الأشاعرة جواز سماع كلام الله تعالى.
... 4. كما اختلفوا فى زيادة الإيمان ونقصانه وشرطه … الخ.
... 5. واختلفوا فى المتشابهات كما أسلفنا.
... 6. كما اختلفوا فى النبوة هل يشترط فيها الذكورة؟ فجعلها الماتريدية شرطاً، ونفى ذلك الأشاعرة عنها، واحتج هذا الفريق بقوله تعالى: { وأوحينا إلى أم موسى } (1)، ورد الفريق الأول بأن الإيحاء هنا بمعناه الواسع وهو الإلهام.
... وهذه المسألة الأخيرة وهى نبوة النساء وعدمها مما وقع فيه الخلاف بين العلماء إلا أن الحق أن النبوة مختصة بالرجال، وليس هنا موضع بحث هذه القضية بالتفصيل.
... 7. اختلفوا فى التكليف بما لا يطاق، فمنعه الماتريدية وجوزهُ الأشاعرة.
... 8. اختلفوا فى الحكمة والتعليل فى أفعال الله تعالى فأثبتتها الماتريدية ونفتها الأشاعرة.
... 9. اختلفوا فى التحسين والتقبيح، فقال به الماتريدية وأن العقل يدركهما، ومنع الأشاعرة ذلك، وقالوا: إنما يتم التحسين والتقبيح بالشرع لا بالعقل.
__________
(1) ... سورة القصص: 7.(2/2)
... 10. اختلفوا فى إيمان المقلد، فجوزته الماتريدية بينما منعه الأشاعرة واشترطوا أن يعرف المكلف كل مسألة بدليل قطعى عقلى(1).
... 11. اختلفوا فى معنى كسب العباد لأفعالهم، بعد اتفاقهم جميعاً على أن أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فعند الماتريدية يجب التفريق بين المؤثر فى أصل الفعل والمؤثر فى صفة الفعل، فالمؤثر فى أصل الفعل قدرة الله تعالى والمؤثر فى صفة الفعل قدرة العبد وهو كسبه واختياره.
... وعند الأشاعرة: إن أفعال العبد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها وليس للعبد تأثير فيها، بل إن الله يوجد فى العبد قدرة واختياراً يفعل بهما إذا لم يوجد مانع فالفعل مخلوق لله والعبد مكتسب له.
وأما الاختلاف بين الماتريدية والمعتزلة فهو:
... 1. اختلفوا فى مصدر التلقى هل هو العقل أو النقل؟ فذهب المعتزلة إلى أنه العقل، وتوسط الماتريدية فقالوا بالعقل فيما يتعلق بالإلهيات والنبوات. وأما فيما يتعلق باليوم الآخر فمصدره السمع، وكذا سموا هذه المسائل ونحوها بالسمعيات.
... 2. الأسماء: أسماء الله عند المعتزلة ثابتة، ولكن بلا دلالة على الصفات، فقالوا: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر… إلى آخره.
... وعند الماتريدية هى ثابتة بدلالاتها على الصفات الثابتة عندهم إلا اسم "الله" فليس له دلالة على شىء من الصفات [وقولهم هذا باطل لا معنى له].
... 3. الصفات: نفى المعتزلة جميع الصفات القائمة بذات الله تعالى.
... بينما أثبت الماتريدية ثمان صفات: العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والتكوين.
... 4. القرآن: يعتقد المعتزلة أنه كلام الله محدث مخلوق. ويعتقد الماتريدية أنه كلام الله النفسى وأنه قديم أزلى غير مخلوق.
__________
(1) ... انظر: عقيدة التوحيد فى فتح البارى شرح صحيح البخارى ص98، 101، وانظر: "الماتريدية دراسة وتقويماً" ص: 398 – 501.(2/3)
... 5. أفعال العباد. نفت المعتزلة خلق الله لها وإرادته لها، وإنما هى من العباد، وأثبتت الماتريدية أنها خلق لله تعالى. وكسب من العباد لها.
... 6. الاستطاعة: نفى المعتزلة أن تكون مع الفعل بل هى قبله، بينما أثبتتها الماتريدية قبل الفعل ومع الفعل.
... 7. الرؤية: نفتها المعتزلة وأثبتتها الماتريدية.
... 8. الجنة والنار: غير مخلوقتين ولا موجودتين الآن عند المعتزلة، بل تنشأ فى يوم القيامة، وقالت الماتريدية بخلقهما الآن.
... 9. ينفى المعتزلة نعيم القبر وعذابه والميزان والصراط والحوض والشفاعة لأهل الكبائر. وأثبتت الماتريدية كل ذلك لورود السمع به.
... 10. نفت المعتزلة كرامات الأولياء وأثبتتها الماتريدية.
... 11. الإيمان عند المعتزلة قول واعتقاد وعمل، وعند الماتريدية هو التصديق بالقلب، ومنهم من زاد الإقرار باللسان.
... 12. مرتكب الكبيرة فى منزلة بين المنزلتين عند المعتزلة فى الدنيا، وأما فى الآخرة فهو فى النار، وعند الماتريدية هو مؤمن كامل الإيمان مع أنه فاسق بمعاصيه، وفى الآخرة هو تحت المشيئة.
... 13. لا يصح إيمان المقلد عند المعتزلة، وذهب الماتريدية إلى صحته مع الإثم على ترك الاستدلال.
... 14. عند المعتزلة الإيمان يزيد وينقص، لإدخالهم الأعمال فى مسمى الإيمان، ونفت الماتريدية ذلك لعدم إدخالهم الأعمال فى مسمى الإيمان.
وأما المسائل التى وافقت فيها الماتريدية المعتزلة فهى كما يلى:
القول بوجود معرفة الله تعالى بالعقل.
الاستدلال على وجود الله بدليل الأعراض وحدوث الأجسام.
الاستدلال على وحدانية الله تعالى بدليل التمانع.
القول بعدم حجية خبر الآحاد فى العقائد.
نفى الصفات الخبرية والاختيارية.
القول بعدم إمكان سماع كلام الله.
القول بالحكمة والتعليل فى أفعال الله تعالى.
القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
عدم جواز التكليف بما لا يطاق.
منع الاستثناء فى الإيمان.(2/4)
القول بأن معنى الإيمان والإسلام واحد(1).
... وفيما سبق يتضح أن فرقة الماتريدية لم تنهج منهج السلف فيما يتعلق بالأمور الاعتقادية، وأن من وصفهم بأهل السنة أو العقيدة السلفية فقد بالغ فى ذلك وجانب الحكم الصحيح.
... ولكى تتضح المقارنة بين عقيدة الماتريدية وبين العقيدة السلفية أحب أن تطلع أخى القارئ على هذا الملخص المفيد الذى تتضح به الفوارق بين عقيدة الماتريدية وبين عقيدة السلف بإيجاز، أكتفى به عن إطالة الردود لإيفائه بالغرض لموافقته القصد من تقديم هذه العجالة عن الماتريدية.
وقبل إيراد هذا الملخص، إليك بيان الأسس والقواعد التى قام عليها مذهب الماتريدية.
... 1. مصدرهم فى التلقى فى الإلهيات والنبوات هو العقل.
... 2. معرفة الله واجبة بالعقل قبل ورود السمع.
... 3. القول بالتحسين والتقبيح العقليين.
... 4. القول بالمجاز فى اللغة والقرآن والحديث.
... 5. التأويل والتفويض.
... 6. القول بعدم حجية أحاديث الآحاد فى العقائد.
وأما بالنسبة لآرائهم التى خالفوا فيها السلف فمن أهمها ما يلى:
... 1. خلاف الماتريدية فى مفهوم توحيد الألوهية، إذ هو عندهم بمعنى أن الله واحد فى ذاته لا قسم له ولا جزء له، واحد فى صفاته لا شبيه له، وواحد فى أفعاله لا شريك له. وأهل السنة يخالفونهم فى هذا المفهوم لتوحيد الألوهية.
... 2. اعتمدت الماتريدية فى إثبات وجود الله تعالى على دليل حدوث الأعراض والأجسام، وهى طريقة باطلة لا اعتبار لها عند السلف، وإنما هى طريقة غلاة الفلاسفة وأهل الكلام المذموم.
__________
(1) ... انظر: "الماتريدية دراسة وتقويماً" ص503 508، ولمزيد من التفصيل عن الماتريدية انظر كتاب "عداء الماتريدية للعقيدة السلفية" تأليف الشمس الأفغانى.(2/5)
... 3. يستدل الماتريدية على وحدانية الله تعالى بقوله عز وجل: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون } (1) وهو ما يسميه البعض بدليل التمانع، وقد خطأهم السلف فى هذا المفهوم، مع إقرار السلف بأن دليل التمانع صحيح فى دلالتة على امتناع صدور العالم عن إلهين، لكن ليس هذا هو المقصود من الآية الكريمة.
... 4. تثبت الماتريدية جميع الأسماء الحسنى لدلالة السمع عليها، إلا إنهم غلوا فى الإثبات ومدلول الأسماء لعدم تفريقهم بين ما جاء فى باب التسمية وبين ما جاء فى باب الإخبار عن الله، فمدلول الاسم عندهم هو الذات وهذا خاص فى اسم "الله" فقط، وأما ما عداه فمدلوله يؤخذ عندهم من الصفات التى أثبتوها فلم يقفوا على ما ثبت بالسمع فقط.
... 5. وقف الماتريديون فى باب الصفات على إ ثبات بعض الصفات دون غيرها، فأثبتوا من الصفات: القدرة، العلم، الحياة، الإرادة، السمع، البصر، الكلام، التكوين، وذلك لدلالة العقل عليها عندهم، وهو تحكم باطل، وقد ألزمهم السلف بإثبات ما نفوه بنفس الدليل الذى أثبتوا به تلك الصفات الثمانية.
... 6. نفت الماتريدية جميع الصفات الخبرية الثابتة بالكتاب والسنة، لأن فى إثباتها –بزعمهم- مخالفة للعقل الذى يرى فى إثباتها ما يدعو إلى وصف الله تعالى بالتشبيه والتجسيم.
... ولقد دحض السلف هذا المفهوم الباطل والاعتقاد الخاطئ، وكذلك نفوا ثبوت الصفات الاختيارية لله تعالى التى هى صفات الفعل اللازمة لله تعالى، لأنها كذلك تؤدى إلى التشبيه والتجسيم، وقد أبطل السلف هذا المفهوم وفندوا شبههم.
... 7. يعتقد الماتريديون أن كلام الله تعالى معنى واحد قديم أزلى، ليس له تعلق بمشيئة الله تعالى وقدرته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، بل هو كلام نفسى لا يسمع، بل المسموع منه إنما هو عبارة عنه، وهو اعتقاد باطل مخالف للكتاب والسنة ولما عليه السلف.
__________
(1) ... سورة الأنبياء 22.(2/6)
... 8. حصر الماتريديون الدليل على صدق الأنبياء فى ظهور المعجزات على أيديهم، لأنها تفيد العلم اليقينى وحدها بزعمهم.
... والسلف لا يختلفون فى أن المعجزات دليل صحيح معتبر لصدق الأنبياء، ولكنهم يخالفونهم فى حصر أدلة صدق الأنبياء فى المعجزات فقط دون النظر إلى الأدلة الأخرى.
... 9. يرى الماتريديون أن كل المسائل المتعلقة باليوم الآخر لا تعلم إلا بالسمع، والسلف يخالفونهم فى هذا، ويقولون: إن تلك المسائل علمت بالسمع ودل عليها العقل أيضاً.
... 10. أثبت الماتريديون رؤية الله تعالى، ولكنهم نفوا الجهة والمقابلة، وخالفهم السلف واعتبروا قول المتاريدية تناقضاً واضطراباً فى مفهومهم للرؤية، ويؤدى إلى إثبات ما لا يمكن رؤيتة، وإلى نفى جهة العلو المطلق الثابت لله تعالى.
... 11. اعتبر السلف ما ذهب إليه الماتريديون فى خلق أفعال العباد اعتقاداً خاطئاً لما فيه من إثبات إرادة للعباد مستقلة –عن مشيئة الله تعالى، وأن خلق الله لأفعالهم إنما هو تبع لإرادتهم غير المخلوقة، والسلف يعتقدون أن لله تعالى وحدة المشيئة وأن للعباد مشيئة لا تخرج عن مشيئة الله تعالى.
... 12. ذهبت الماتريدية إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، وقال بعضهم: إنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان ومنعوا زيادته ونقصانه وحرموا الاستثناء فيه ومنعوا التفريق بين مفهوم الإيمان والإسلام.
... وخالفهم السلف فى كل ذلك فإن الإيمان عندهم هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان والعمل بالأركان وأنه يزيد وينقص ويجوز الاستثناء فيه لعدم جواز تزكية النفس. وأما الإسلام والإيمان فإنهما متلازمان، إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا كما هو الحال فى مفهوم الفقير والمسكين ونحو ذلك.(2/7)
... 13. يرى الماتريديون أن الفاسق مؤمن كامل الإيمان، بينما يرى السلف أنه مؤمن بإيمان فاسق بكبيرته، فلا يسلبون منه الإيمان ولا يثبتون له الكمال فيه(1).
8. اليزيدية أو عبدة الشيطان(2)
... اليزيدية طائفة ينتمى معظمها إلى الجنس الكردى، ويقطن أتباعها فى بعض بوادى الشرق الأدنى وخاصة فى المناطق التالية:
قضاءُ الشيخان فى الشمال الشرقى من الموصل، وفيه أهم مراكزهم السياسية والدينية "كعابدرى" قاعدة أميرهم، وقبر الشيخ عادى وهو أعظم مقوماتهم الدينية "وباحزانى وبعشيقة" وغيرها.
قضاء سنجار الواقع فى الشمال الغربى من العراق –على الحدود بينه وبين سوريا- وهو منطقة جبلية منيعة ومعقل حصين، كانوا يعتصمون به فى أيام الاضطهاد.
ديار بكر، وماردين، وجبل الطور.
منطقة حلب حول كلس وعينتاب.
البلاد الأرمنية الواقعة على الحدود بين تركيا وروسيا، وخاصة فى منطقتى "قرص وإيراوان" وحول تفليس من بلاد القوقاس.
هناك بعض اليزيدية فى إيران.
__________
(1) ... لقد اهتمت كتب العقيدة ببيان تفاصيل كل تلك المسائل، وهى مسائل طويلة تحتاج إلى دراسة مطولة وما أثبته هنا يكفى إذ الغرض هو الإشارة والإيجاز.
... انظر: "الماتريدية دراسة وتقويماً" ص 514 – 517 وتفصيل ذلك فى هذا الكتاب الذى تخصص فى دراسة الماتريدية بالإضافة إلى المراجع التى ذكرناها سابقاً.
(2) ... انظر كتاب الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد، تأليف/ خالد محمد على الحاج – الجزء الأول ص136 وما بعدها.(2/8)
... وأكثر هذه الطائفة يسكن المدن والقرى ويشتغل بزراعة الأرض، إلا أن بعضها لا يزال فى طور البداوة، ويؤلف قبائل رحالة تدعى (الكوجر) ويقدر عدد أفرادها بحوالى ثمانين ألفاً(1). وقد اختلف الباحثون فى تعليل تسميتهم، فبين اليزيدية أنفسهم من يعتقد أنهم دعوا بهذا الاسم نسبة إلى الخليفة الأموى يزيد بن معاوية، الذى أحيا دينهم بالقديم وأطلق عليه اسمه.
... إن اليزيدية أنفسهم يجهلون سبب تسميتهم هذه. وبعض الباحثين نسبهم إ لى يزيد بن أنيسة(2)،، وقد ذكر الشهرستانى –رحمه الله- فى فرق الخوارج اليزيدية فقال: أصحاب يزيد بن أنيسة الذى قال بتولى المحكِّمة الأولى قبل الأزارقة، وتبرأ ممن بعدهم إلا الإباضية فإنه يتولاهم.
... وزعم أن الله تعالى سيبعث رسولاً من العجم، وينزل عليه كتاباً قد كتب فى السماء، وينزل عليه جملة واحدة، ويدك شريعة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام، ويكون على ملة الصابئة المذكورة فى القرآن وليست هى الصابئة الموجودة بحران وواسط(3).
... ويميل بعض الباحثين إلى القول بأن اليزيدية ينتسبون إلى مدينة –يزد أو يزدان- الفارسية وهى بمعنى الله، أو –إيزد- ومعناها "خليق بالعبادة" وتطلق فى دين المجوس على الملائكة التى تتوسط بين الله والبشر، وتنقل مشيئته إليهم(4).
بعض معتقدات اليزيدية:
... والحق أن اليزيدية خليط من عناصر وثنية قديمة، وعناصر إيرانية زردشتية، وأخرى يهودية ونصرانية وإسلامية:
__________
(1) ... راجع ذيل الملل والنحل: ص33 – 34.
(2) ... نفس المصدر: ص34 – 35.
(3) ... انظر كتاب الملل والنحل للمرحوم الشهرستانى 479 – 548هـ.
(4) ... ذيل الملل والنحل. لزيادة البسط فى هذا المقام يراجع كتاب اليزيدية قديماً وحديثاً.(2/9)
... 1. وهم يؤمنون بوجود إله أكبر خالق لهذا الكون، إلا أنه الآن لا يعنى بشئونه بعد أن فوض تدبيره وإدارته إلى مساعده ومنفذ مشيئتة –ملك طاوس- لذا يرتفع فى أذهان اليزيدية إلى مرتبة الألوهية، حتى أنهم يسبحونه ويضرعون إليه، ويكادون ينسون من أجله الإله الأكبر المتعالى عن هذا العالم، وملك طاوس هذا هو الملاك الأعظم الذى عصى الله فى بدء الخليقة فعاقبة الله على خطيئتة، فظل يبكى سبعة آلاف سنة، حتى ملأ سبع جرار من دموعه، وألقاها فى جهنم فأطفأ نارها، فأعاده الله إلى مركزه الرفيع فى إدارة الكون، ولذلك فإن أهل الديانات الأخرى يخطئون فى نظر اليزيدية حين يدعون هذا الملاك الأعظم –الشيطان- ويلعنونه، ويعتقدون أنه خالق الشر، والأحرى بهم أن يسبحوه ويمجدوه، إن لم يكن حباً له وتعظيماً لذاته، فعلى الأقل دفعاً لغضبه وأذاه، وهو المدبر الحقيقى لهذا العالم، قادر على أن ينزل بالبشر جميع أنواع العذاب. ومن هنا نرى أن شيطان اليزيدية يختلف عن شيطان سائر الأديان(1).
... 2. أما نبى هذه الديانة فهو الشيخ عادى، الذى يروى عنه اليزيدية أخباراً وروايات عديدة، ويرفعونه أحياناً إلى ما فوق درجة النبوة والقداسة، حتى يتحد بملك طاوس ويشترك معه فى الألوهية. قاتلهم الله على كفرهم وعنادهم، وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
__________
(1) ... راجع ذيل الملل والنحل: ص36.(2/10)
... ومن هذه الروايات ما ينطبق على أحد شيوخ المسلمين ومتصوفيهم –الشيخ عدى بن مسافر- والمعروف أن الشيخ عدياً ولد قرب بعلبك فى الشام، ثم رحل إلى الجبال الواقعة شرقى الموصل حيث بنى له زاوية، وجمع حوله طلبته ومريدية، فعظمت شهرته وعلا صيته إلى أن توفى سنة 555هـ وقيل سنة 557هـ، ودفن بزاويته فى "الشيخان"(1). وفيه يقول ابن خلكان: سار زكره فى الآفاق وتبعه خلق كثير، وجاوز حسن اعتقادهم فيه الحد، حتى جعلوه قبلتهم التى يصلون إليها، وذخيرتهم فى الآخرة التى يعولون عليها(2).
... على أننا إذا رجعنا إلى الكتب التى خلفها هذا الشيخ المتصوف، أو التعاليم الدينية التى نشرها تلامذته، وقابلناها بمعتقدات اليزيدية لم نجد بينها علاقة خاصة تسترعى الانتباه، فشخصية الشيخ عادى وعلاقته بعدى بن مسافر غامضة جداً، ومع ذلك فإن اليزيدية يقدسون ذكره ويحجون لقبره فى الشيخان، حيث يدور قسم كبير من حياتهم الدينية والقومية(3).
... 3. ومن الشخصيات المقدسة عندهم شخصية منصور الحلاج، والشيخ عبد القادر الجيلانى والحسن البصرى، والشيخ المنسوب إلى الحسن البصرى الذى يقوم بخدمة ضريح عادى، وله الفتوى ولا يمضى شىء إلا بعد موافقته. اليزيدية لا يأكلون الخس فهو محرم على كل يزيدى، بل إنهم لا يقربون من الأرض التى يزرع بها، ولا يأكلون لحم الغزال، لزعمهم أن عيونه تشبه عيون الشيخ عادى.
__________
(1) ... يقع قضاء الشيخان فى العراق –شمالى شرق الموصل- وتتواجد فيه أهم مقدسات اليزيدية ومراكز تجمعاتهم.
(2) ... تاريخ ابن خلكان.
(3) ... ذيل الملل والنحل: ص37.(2/11)
... 4. ويقولون أن الصلاة بالقلب وبالسر(1) لذلك لا يحددون مواعيد وفرائض للصلاة، ولم يضعوا لها نظاماً معيناً، ويحللون شرب الخمر(2).
... 5. ويؤمن اليزيدية بالتناسخ والحلول، ولهم كتابان مقدسان، أحدهما اسمه الجلوة فيه وعد ووعيد وترغيب وترهيب. والثانى اسمه مصحف رش أى الكتاب الأسود، وفيه قصة خلق العالم، وعقائد اليزيدية وما حُلِّلَ لهم وما حُرِّمَ عليهم، وإليك بعض ما جاء فيه: ولازم على كل يزيدى فى كل صباح أن يقوم أمام الرب، وأن يسجد بعض الأوقات قدام ربه لطلوع الشمس ويدعو قائلاً: آمين. الله يبارك الدين. يا الله يا دائم يا غفور يا موجود، يا فتاح، يا رازق، يا مدبر الكون، يا ساتر، يا أمدين، يا شمس الدين، يا فخر الدين… يارب أنت تبارك الدين، يا ربى علا شأنك، علا مكانك، علا سلطانك، علا عظمتك، أدعو وأسجد، أنت كريمى، أنت دوامى، أنت موجود، أنت معبود .. أهـ.
... 6. ولهم أعياد ومواسم كثيرة يقيمون فيها الاحتفالات، وينحرون الذبائح ويأكلون ويشربون الخمر ويرقصون ويغنون… نذكر منها: عيد الخضر إلياس، فى يوم الخميس –الأول من شهر شباط- ويصوم بعضهم ثلاثة أيام وبعضهم يوماً واحداً.
__________
(1) ... أما الصيام فلا يجوز صيام اليزيدى إلا فى موطنه، ولا يصح صيامه فى أى مكان آخر لأنه ينبغى عليه أن يذهب فى صباح يوم صيامه إلى شيخه ليعلن أمامه أنه صائم، وفى المساء يذهب إليه ليتناول الخمر المقدس من يده قبل الإفطار، وإن أهمل هذا فلا يقبل صيامه واعتبر كافراً.
(2) ... راجع ذيل الملل والنحل: ص37 – 38.(2/12)
... وعيد القربان، وهو يقابل عيد الأضحى عند المسلمين ويسبقه بيومين، ويجب على كل يزيدى أن يذبح فى هذا اليوم ذبيحة. ويحتفلون بليلة القدر ولا ينامون فى خلالها بل يظلون ساهرين إلى الصباح، ويتبادلون الولائم ويزعمون أن الملائكة يحضرون تلك الليلة من السماء إلى الأرض، ويثبتون فى دفاتر الأرواح من يموت فى تلك السنة ومن يولد، ولا ينامون طوال اليوم التالى لهذه الليلة، وإنما كان سهرهم فى ليلة القدر إكراماً لملك الموت، وعدم نومهم فى اليوم التالى لها إكراماً لملك الشمس.
... وكأن دينهم يحرم عليهم تلقى العلم، إلا أن رئيسهم –إسماعيل جول- قد ألغى هذا الحكم وأباح لهم دخول المدارس(1).
9. الفرق الباطنية(2)
توطئة:
... بعد أن مَنَّ الله تعالى على البشرية برسالة التوحيد وبالإسلام الحنيف، الذى جاء به سيد الخلق محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين، لم يجد أعداء الله فى أنفسهم إلا الضيق والحنق والكراهية لهذا الدين ودعاته.
... فقد تجمعت بقايا المجوس وطوائف الشرك والإلحاد –لما ظهرت الشريعة الإسلامية وقهرتهم دولة الإيمان وملة الإسلام- حيث لم يجدوا سبيلاً إلى دفع الإسلام بالسيف ولا بالحجة، لذلك ستروا ما هم فيه من الزندقة والإلحاد، وأبطنوه بحيل خبيثة تقبلها الأذهان وتذعن لها العقول وتستهويها النفوس(3).
__________
(1) ... المرجع السابق: ص39 – 40 باختصار.
(2) ... انظر كتاب الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد، تأليف خالد محمد على الحاج – الجزء الأول ص145 وما بعدها.
(3) ... لقد كان التصوف المتأخر بعد القرون المفضلة حيلة أخرى لستر إلحادهم ومحاولة لتقويض الإسلام بطريق التظاهر بخدمته وصيانته.(2/13)
... لقد انتمى كثير من هؤلاء الحاقدين الحاسدين إلى بيت النبوة، وأظهروا محبتهم وموالاتهم –كذباً وبهتاناً- وهم فى الباطن من أعظم أعداء الإسلام، وأكبر العتاة الحانقين على بيت الرسول وآله الأطهار، بل وأكبر المخالفين لهم.
... لقد كذب هؤلاء الضالون على أكابر المسلمين –ومن بينهم أهل بيت الرسول العظيم - صلى الله عليه وسلم -- الجامعين بين العلم والدين، والمشهورين بالصلاح والتقى، فقالوا: قال الإمام فلان كذا، وقال الإمام فلان كذا… وجذبوا جماعة من العامة الذين لا يفهمون ولا يعقلون، فتدرجوا معهم بدعوات معروفة وسياسات شيطانية، ومازالوا ينقلونهم من رتبة إلى رتبة ومن درجة إلى درجة حتى أخرجوهم إلى الكفر البواح، والزندقة المحضة والإلحاد الصراح(1).
... ومع الزمن تم لهم تحقيق الكثير من الأهداف الخبيثة، بعد أن أدخلوا أنفسهم فى النسب الشريفى العلوى الفاطمى، وبقيت هذه الدعوات الخبيثة تستشرى ويشتد عودها حتى أصابت الإسلام فى مقتل. ولا أريد الإطالة فى هذا الأمر، وحسبنا أن نستذكر دعوات الفاطميين والدروز والقرامطة وأضرابهم، الذين بلغوا فى الإلحاد وفى كيد الإسلام ما لم يبلغ إليه أحد من طوائف الكفر وطوابير الضلال والوثنية.
... يقول الإمام عبد القاهر البغدادى: اعلموا –أسعدكم الله- أن ضرر الباطنية على فرق المسلمين أعظم من ضرر اليهود والنصارى والمجوس عليهم، بل أعظم من مضرة الدهرية وسائر أصناف الكفرة عليهم، بل أعظم من ضرر الدجال الذى يظهر فى آخر الزمان، لأن الذين ضلوا عن الدين بدعوة الباطنية –من وقت ظهور دعوتهم إلى يومنا- أكثر من الذين يضلون بالدجال فى وقت ظهوره، لأن فتنة الدجال لا تزيد مدتها على أربعين يوماً، وفضائح الباطنية أكثر من عدد الرمل والقطر(2). أهـ
__________
(1) ... قطر الولى، نقلاً عن ولاية الله: ص283.
(2) ... الفرق بين الفرق: ص265 – 266.(2/14)
... ويقول البغدادى: الذى يصح عندى من دين الباطنية أنهم دهرية زنادقة، يقولون بقدم العالم وينكرون الرسل والشرائع كلها، لميلها إلى استباحة كل ما يميل إليه الطبع(1). أهـ.
... وهكذا –أخى القارئ- يتبين لنا بجلاء خطورة الباطنية الهدامة التى دأبت على حرب الإسلام، فقد عملت جاهدة –قديماً وحديثاً- للإجهاز على الدعوة المحمدية، وتكاتفت مع قوى الشر والإلحاد واليهودية الماكرة والصليبية الحاقدة وأدواتها المختلفة، نافثة سمومها داخل معاقل الإسلام لإخماد جذوة الإيمان والقضاء على دعوة الحق.
... والخلاصة، فإن كثيراً من الفرق الهدامة قد استخدمت فكرة التشيع والانتماء إلى بيت المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قناعاً تسترت به لتحقيق مآربها، وقد ضمت بين صفوفها كل موتور وناعق ودخيل.
... وهكذا اتخذ التشيع عشاً للشعوبية، فضم لفيفاً من اللقطاء والمنبوذين وعبدة الطاغوت، الذين اتخذوه ملجأً يأوون إليه وشعاراً ينضوون تحت لوائه، وبذلك استطاعوا أن يصيبوا الإسلام فى مقتل. وإن أعمال القرامطة والفاطمية والبهائية ومن لف لفهم ليست عنا ببعيد.
... وفى الصفحات التالية دراسة وعرض لأهم الفرق الباطنية وضلالاتها، التى يجب معرفتها ولا يجوز الجهل بها على كل مؤمن بدعوة الإسلام الحنيف. وثمة أمر آخر لا يجوز إغفاله هو أنه ينبغى على المصلحين والدعاة والمربين أن يدرسوا بعمق هذه المعاول وغيرها مما نتعرض له فى هذا الكتاب، وهى ليست من المطولات التى يصعب استيعابها، ولا من المختصرات التى يغلق على المبتدىء فهمها، وأرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للراغب فى الخير.
الإسماعيلية:
__________
(1) ... نفس المصدر: ص278.(2/15)
... الإسماعيلية جمعية سرية ثورية –وتسمى بالباطنية- وقد لبثت زهاء قرن ونصف فى بث الرعب فى قلب الدولة الإسلامية من فارس إلى الشام(1)، واستطاعت حشد جميع البسطاء والدهماء باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، واعتمدت فى محاربة خصومها على الاغتيال الخفى المنظم بأكثر مما اعتمدت على الحرب العلنية. وهؤلاء الإسماعيلية شيعة من غلاة الشيعة، استخرجت مبادئها من تعاليم ميمون بن ديصان وولده عبد الله، ومن تعاليم القرامطة ودار الحكمة الفاطمية، فهى بذلك طور من أطوار الدعوة الثورية الهدامة التى نظمها ابن ميمون، وتتمه لها، وقد ظهرت وبرزت حينما اضمحل أمر الفاطميين فى مصر، وتضاءل نفوز دار الحكمة والتعاليم الشيعية. وقد ظهر دعاتها أولاً فى فاس، وكانت دعوتها الهدامة الملحدة معول هدم ضد الإسلام وتعاليمة، وقد اعتمدت الحركة الباطنية على أمثال هذه الدعوات لبث سمومها وتقويض بنيان الدولة الإسلامية. والذى نظم الحركة الإسماعيلية فى طورها الجديد، ووضع برنامجها الفذ هو الحسن بن على المعروف بالصباح وأنشأ لهذه الجمعية عدة فروع متفرقة فى أنحاء الشام وفارس والعراق. وكان فارسياً من خراسان حر التفكير، وتعلم مع الشاعر الفيلسوف عمر الخيام ونظام الملك وزير السلطان ملكشاه، وانقطع لدراسة الكيمياء والفلك وضرب السحر والخفاء، التى كانت فى عصره سلاحاً ذائعاً يشهره الأذكياء والأدعياء على البسطاء والعامة، ثم اتصل بصديقة نظام الملك لإلحاقه بخدمة السلطان ملكشاه، وسما شأنه وكثر ماله. غير أنه حاول –بالدس والخيانة- أن يوقع بصديقه المحسن إليه، فسخط عليه نظام الملك واتهمه بالإلحاد وبث الدعوة الإسماعيلية، ففر ناجياً بنفسه وتجول بالأقطار ونزل مصر، وأحسن خليفة مصر الفاطميى المستنصر وفادته، وأمره بدعاء الناس إلى إمامته، واتصل بأساتذة دار الحكمة وتفقه فى تعاليمهم، ثم عاد إلى
__________
(1) ... تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة: ص20 وما بعدها.(2/16)
الشام ونظم طائفته الجديدة، وطاف بالعراق والجزيرة وفارس يبث تعاليمه ويدعو بإمامة إسماعيل وبنيه من آل البيت. وأما مذهبه الفلسفى الذى أقاموا عليه دعوتهم بقيادة الحسن الصباح؛ فمنه القول بوجوب الدعوة إلى تعيين إمام صادق قائم فى كل زمان، وتتميز الفرقة الناجية من سائر الفرق بأن لها إماماً وليس لغيرهم إمام. ويقول فى معرفة الله بضرورة استعمال العقل، والنظر إلى جانب تعاليم المعلم الصادق، وأن الناس فى ذلك فرقتان قالت الأولى بوجوب الاستعانة فى معرفة الله بالمعلم الصادق، ووجوب تعيينه وتشخيصه ثم التعلم منه، فرأسهم يجب أن يكون رأس المحققين. وقال: بالاحتياج عرفنا الإمام وبالإمام عرفنا مقادير الاحتياج، كما بالجواز عرفنا الوجوب أو واجب الوجود، وبه عرفنا مقادير الجواز فى الجائزات. ثم يقول الحسن الصباح: إن فى العالم حقاً وباطلاً، وإن علامة الحق هى الوحدة وعلامة الباطل هى الكثرة، وإن الوحدة مع التعليم والكثرة مع الرأى، والتعليم مع الجماعة والجماعة مع الإمام، والرأى مع الفرق المختلفة وهذه مع رؤسائها. وجعل الحق والباطل والتشابه بينهما من وجه، والتمايز بينهما من وجه التضاد فى الطرفين والتريث فى أحد الطرفين ميزاناً يزن جميع ما يتكلم فيه، ووزن بذلك الخير والشر والصدق والكذب وسائر المتضادات. وطريقته أن يرجع فى كل مقالة وكلمة إلى إثبات المعلم. وأن التوحيد هو التوحيد والنبوة معاً حتى يكون توحيداً، وإن النبوة هى النبوة والإمامة معاً حتى تكون نبوة. ولم يتعد فى مسألة الألوهية قوله: إن إلاهنا إله محمد عليه الصلاة والسلام. وقد منع الحسن العامة من الخوض فى العلوم –وكذلك الخاصة- وعن مطالعة الكتب المتقدمة إلا من استطاع منهم فهمها وتحديدها.(2/17)
... ويحمل العلامة الغزالى فى رسالته –فضائح الباطنية- على مبادئ الإسماعيلية ويقول: إن مذهبهم ظاهره الرفض وباطنه الكفر المحض. ويلخص مبادئهم فى قوله: والمنقول عنهم الإباحة المطلقة ورفع الحجاب، واستباحة المحظورات واستحلالها وإنكار الشرائع، إلا أنهم بأجمعهم ينكرون ذلك إذا نُسب إليهم(1).
... هذا هو ملخص آراء الحسن الصباح فى المسائل التى اشتغل جميع الدعاة الملاحدة وخصوم الأديان المنزلة والنظم المفروضة فى جميع العصور بتحليلها وتعليلها. وقد اختار مثل إمامه وسلفه ابن ميمون أن يتستر بالدعوة الشيعية، وأن يؤثر إمامة الإسماعيلية لانتشار فلولهم وجموعهم فى جميع الأقطار، ولا سيما فارس التى اختارها مركزاً رئيسياً لفرقته، إلا أنه التجأ فى التنفيذ إلى القوة المادية على مثل هائل لم يحلم به أحد من أسلافه، وقد اتبع الحسن الصباح مثل دار الحكمة فى مراتب جمعيته، غير أنه جعلها سبعاً بدلاً من تسع.
... إن كبار الدعاة ومن يلحق بهم من المتقدمين فى المراتب كانوا يلمون بشىء من أسرار الطائفة، ويعلمون أن الدين لم يكن إلا وسيلة، وأنه أمر باطل ولا يؤمنون بشىء من تعاليمه، ويعتقدون أن كل الوسائل مشروعه لبلوغ المآرب الدنيوية التى يعنون بها دون سواها. كان شعارهم: لا حقيقة فى هذا الوجود وكل أمر مباح. وكان هذا أساس نظريتهم السرية التى لم يتلقاها إلا أفراد معدودون منهم، يخفونها بمنتهى الحذر تحت حجاب الإيمان العميق والورع الفياض، تأكيداً لاستبعاد الأذهان المؤمنة الساذجة، وتوجيهها طوع أهوائها واستخدامها فى تحقيق الغاية الأخيرة والجوهرية، وهى تحقيق الرياسة لبضعة أفراد تضطرم جوانحهم بشهوة السلطان والملك.
__________
(1) ... راجع فضائح الباطنية، لأبى حامد الغزالى.(2/18)
... وتعتبر الحركة الإسماعيلية من النكبات التى ألمت بالإسلام، لما تم على يد أتباعها من تشويه لحقيقة الإسلام وإعطاء صورة بشعة عنه أمام العالم، مما سهل الدعاية اليهودية فى العالم للنيل من الإسلام العظيم. وتاريخ إمام الطائفة آغا خان الثالث. 1887 – 1957 برهان على خطر الحركة الإسماعيلية وكفرها وبعدها عن الإسلام. لقد كان آغا خان أسوأ مثل على الإنسان العادى، فضلاً عن الإمام الذى يفترض فيه استقامة الخلق والإيمان والصلاح، وحياة آغا خان وقصص غرامياته وزوجاته وفسقه، ووزنه تارة بالذهب وبالماس تارة أخرى، كانت مادة دسمة لصحافة العالم اليهودية طوال نصف قرن. وأتباع آغا خان يشاركونه المسئولية فى تشويه وجه الإسلام الصحيح، فقد كانوا يؤلهونه ويعتقدون أن الخمر التى تدخل فى جوفه تتحول إلى ماء زمزم. وحين سئل آغا خان مرة من قبل صديق له: كيف يسمح –وهو المثقف- لأتباعه أن يؤلهوه؟ قهقه طويلا حتى دمعت عيناه وقال: إن القوم فى الهند يعبدون البقرة، ألست خيراً من البقرة؟!.(1).
القرامطة:
... للقرامطة عدة ألقاب يعرفون بها، ومن هذه التسميات: الإسماعيلية والباطنية والخرمية والبابكية والمحمرة والسبعية والتعليمية والحشاشين. الخ وهذه بعض أسباب تسمياتهم(2).
... سبب تسميتهم بالإسماعيلية: انتسب هؤلاء إلى إسماعيل بن جعفر. وذكر الغزالى فى فضائح الباطنية أن سبب هذه التسمية نسبة إلى أن زعيمهم هو محمد بن إسماعيل بن جعفر. كما ذكر ذلك الإمام ابن الجوزى.
__________
(1) ... راجع جذور البلاء لعبد الله التل رحمه الله.
(2) ... رسالة القرامطة لابن الجوزى بتصرف: ص35 وما بعدها.(2/19)
... وسبب تسميتهم بالباطنية: أنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن، تجرى مجرى اللب من القشر، وأنها توهم الأغبياء صوراً، وتفهم الفطناء رموزاً وإشارات إلى حقائق خفية(1). وأن من تقاعد عن الغوص على الخفايا والبواطن متعثر، ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكليف واستراح من أعبائه. واستشهد بقوله تعالى: { ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم } (2) قالوا: والجهال هم المرادون بقوله تعالى: { فضرب بينهم بسور له باب } (3) وغرضهم فيما وضعوا من ذلك إبطال الشرائع، لأنهم إذا صرفوا العقائد عن موجب الظاهر تحكموا بدعوى الباطن على ما يوجب الانسلاخ من الدين.
وسبب تسميتهم بالقرامطة فيه أقوال عديدة منها:
أنهم سُموا بذلك لأن أول من استزلهم وملك المحبة هو: محمد بن الوراق والمقرمط وكان كوفياً.
أنهم لهم رئيساً من السواد "سواد العراق وقراه" من الأنباط يلقب بقرموطيه فنسبوا إليه.
أن قرمطا كان غلاماً لإسماعيل بن جعفر فنسبوا إليه لأنه أحدث لهم مقالاتهم.
أن بعض دعاتهم نزل برجل يقال له كرميه فلما رحل تسمى قرمط بن الأشعث، ثم أدخله فى مذهبه.
أنهم لقبوا بهذا الاسم نسبة إلى رجل من دعاتهم يقال له محمد بن قرمط.
__________
(1) ... ومن الذين قالوا بأن للقرآن معان باطنية وظاهرية الشيعة، والاسماعيلية، والدروز، والفاطمية والصوفية، والبهائية، والقاديانية، وغيرها من الفرق التى تلتقى فى روافد الدعوة الباطنية.
(2) ... سورة الأعراف: 157.
(3) ... سورة الحديد: 13.(2/20)
... أما سبب تسميتهم بالخرمية(1): أن خرم لفظ أعجمى ينبئ عن شىء يستلذ به ويشتهيه الإنسان، وكان هذا لقباً لمشابهتهم للمزدكية، وهم أهل الإباحة من المجوس، وأباحوا المحظورات فلقبوا بذلك لمشابهتهم للمزدكية، وهم أهل الإباحة من المجوس، فلقبوا بذلك لمشابهتهم إياهم فى اعتقادهم ومذهبهم. وسبب تسميتهم بالبابكية: هو أن طائفة منهم اتبعوا بابك الخرمى، الذى خرج من ناحية أذربيجان فى أيام المعتصم، فاستحل المحرمات. وقد اشتدت وطأة البابكية على المسلمين حتى أُلقى القبض على بابك وقتل.
مجمل مذهب القرامطة:
... 1. واعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض وباطنه الكفر، ومفتتحه حصر مدارك العلوم فى قول الإمام المعصوم، وعزل العقول أن تكون مدركة للحق لما يعترضها من الشبهات، والمعصوم يطلع من جهة الله تعالى على جميع أسرار الشرائع، ولابد فى كل زمان من إمام معصوم يرجع إليه… هذا مبدأ دعوتهم … وإن غاية مقصدهم نقض الشرائع، لأن سبيل دعوتهم ليس متعيناً فى واحد، بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيهم لأن غرضهم الاستتباع.
... 2. ومعتقدهم فى الإلاهيات: قولهم بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان، إلا أن أحدهما علة لوجود الثانى. واسم العلة السابق، واسم المعلول التالى. وأن السابق خلق العالم بواسطة التالى لا بنفسه.
__________
(1) ... الخرميّة فرقة تفاقم وضعها زمن المعتصم، ومن مبادئها: تألية البشر والقول بالرجعة والتناسخ والحلول والنور والظلمة وإباحة النساء واستمرار الوحى وتعظيم أبى مسلم، وقصدهم إعادة الملك من المسلمين والعرب إلى الفرس والمجوس.(2/21)
... 3. ومذهبهم بالنبوات قريب من مذهب الفلاسفة، وهو أن النبى عبارة عن شخص فاضت عليه من السابق بقوة التالى قوة قدسية صافية، وأن جبريل عبارة عن العقل الفائض عليه لا إنه شخص. وأن القرآن هو تعبير محمد صلى الله علية وسلم عن المعارف التى فاضت عليه من العقل، فسمى كلام الله مجازاً لأنه مركب من جهته … وهذه القوة الفائضة على النبى صلى الله علية وسلم لا تفيض عليه فى أول أمره، وإنما تتربى كالنطفة(1).
... 4. ومذهبهم فى الإمامة: أنه لابد فى كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق، يرجع إليه فى تأويل الظواهر وحل الإشكال فى القرآن والأخبار، وأنه يساوى النبى فى العصمة، ولابد للإمام من إثنى عشر حجة، أربعة منهم لا يفارقونه.
... 5. ومعتقدهم فى القيامة والمعاد: كلهم أنكر القيامة، وقالوا بهذا النظام، وتعاقب الليل والنهار، وتولد الحيوانات لا ينقضى أبداً. وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام، ولم يثبتوا الحشر ولا النشر ولا الجنة ولا النار. ومعنى المعاد عندهم، عود كل شىء إلى أصله. وأكثر مذاهبهم توافق الثنوية والفلاسفة فى الباطن، والروافض فى الظاهر، وغرضهم بهذه التأويلات الظاهرة التقرب من نفوس الناس حتى تبطل الرغبة والرهبة.
... 6. أما اعتقادهم فى التكاليف الشرعية: فهو استباحة المحظورات ورفع الحجر –الحجاب- وغرضهم هدم قوانين الشرع(2)… ولهم تأويلات كثيرة ورموز غاية فى البعد عن الحقيقة، وما ذلك إلا لزيادة التشويه واللعب بعقول الناس.
__________
(1) ... التى لا تستكمل نموها إلا بعد تسعة شهور. انظر فضائح الباطنية. ورسالة القرامطة: 38.
(2) ... رسالة القرامطة، تحقيق محمد الصباغ: ص57 – 63 بتصرف.(2/22)
... قال ابن الجوزى(1): وفى سنة 278هـ تحركت القرامطة، وهم فرقة من الزنادقة الملاحدة أتباع الفلاسفة من الفرس، الذين يعتقدون نبوة زرادشت ومزدك –وكانا يبيحان المحرمات- ثم إنهم بعد ذلك أتباع كل ناعق إلى باطل. وأكثر ما يفسدون من جهة الرافضة ويدخلون إلى الباطل من جهتهم، لأنهم أقل الناس عقولاً. ويقال لهم الإسماعيلية لانتسابهم إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر الصادق. ويقال لهم القرامطة، قيل نسبة إلى قرمط بن الأشعث البقار. وقيل: إن رئيسهم كان فى أول دعوته يأمر من اتبعه بخمسين صلاة كل يوم وليلة ليشغلهم بذلك عما يريد تدبيره من المكيدة، ثم اتخذ نقباء إثنى عشر، وأسس لأتباعه دعوة إلى إمام من أهل البيت. ويقال لهم الباطنية، لأنهم يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض. والخرمية(2) والبابكية، نسبة إلى بابك الخرمى، الذى ظهر فى أيام المعتصم وقتل. وكذلك يقال لهم المحمرة نسبة إلى صبغ الحمرة شعاراً، مضاهاة لبنى العباس ومخالفة لهم، لأن بنى العباس يلبسون السواد، ويقال لهم التعليمية نسبة إلى القول بأن الكواكب السبعة المتميزة السائرة مدبرة لهذا العالم فيما يزعمون -لعنهم الله-.
... ثم قال ابن الجوزى: وقد بقى من البابكية جماعة يقال أنهم يجتمعون فى كل سنة هم ونساؤهم، ثم يطفئون المصباح وينتهبون النساء، فمن وقعت يده فى امرأة حلت له، ويقولون: هذا اصطياد مباح. لعنهم الله.
__________
(1) ... البداية والنهاية: ج11. ص61.
(2) ... البداية والنهاية: ج11. ص160.(2/23)
... يقول صاحب البداية والنهاية(1): إن هذه الطائفة تحركت سنة 317هـ. واستفحل خطرها حتى آل بهم الحال إلى أن دخلوا المسجد الحرام، فسفكوا دم الحجيج فى وسط المسجد حول الكعبة، وكسروا الحجر الأسود واقتلعوه من موضعه وذهبوا به إلى بلادهم سنة 317هـ. ولم يزل عندهم إلى سنة 339هـ حيث مكث غائباً عن موضعه من البيت اثنتين وعشرين سنة. فإنا لله وإنا إليه راجعون … وكل ذلك من ضعف الخليفة وتشتت المسلمين.
ذكر أخذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم:
... خرج ركب العراق وأميرهم منصور الديلمى، فوصلوا إلى مكة سالمين، وتوافدت الركوب هنا من كل مكان وجانب وفج، حيث تجمع الحجيج فما شعروا إلا بالقرمطى قد خرج عليهم فى جماعة يوم التروية فانتهب أموالهم واستباح قتالهم، فقتل فى رحاب مكة وشعابها وفى المسجد الحرام وفى جوف الكعبة من الحجاج خلقاً كثيراً. وجلس أميرهم أبو الظاهر –لعنه الله- على باب الكعبة، والرجال تصرع حوله، والسيوف تعمل فى رقاب الناس فى المسجد الحرام فى الشهر الحرام فى يوم التروية، الذى هو من أشرف الأيام وهو يقول: أنا الله وبالله أنا. أنا أخلق الخلق وأفنيهم أنا. فكان الناس يفرون منهم فيتعلقون بأستار الكعبة فلا يجدى ذلك عنهم شيئاً، بل يقتلون وهم كذلك ويطوفون فيقتلون فى الطواف.
__________
(1) ... البداية والنهاية: ج11. ص63.(2/24)
... فلما قضى القرمطى أمره –لعنه الله- وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة أمر أن تدفن القتلى فى بئر زمزم، ودفن كثير منهم فى أماكنهم من الحرم الشريف وفى المسجد الحرام(1) -وحبذا تلك القتلة وتلك الفجيعة وذلك المدفن والمكان-، ومع هذا لم يغسلوا ولم يكفنوا ولم يصل عليهم، لأنهم محرمون شهداء فى نفس الوقت. وهدم قبة زمزم وأمر بقلع باب الكعبة ونزع كسوتها، وشقفها بين أصحابه وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة فيقتلعه، فسقط على أم رأسه فمات إلى النار، فعند ذلك انكف الحديث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاء رجل فضربه بمثقل فى يده وقال: أين الطير الأبابيل؟!. أين الحجارة من سجيل؟!. ثم قلع الحجر الأسود وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة حتى ردوه فى سنة 339هـ. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الفاطميون:
... كان أول خلفائهم المهدى –وكان من بلدة سلمية ويدعى عبيد، حيث كان يعمل حداداً- وكان يهودياً وقد دخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوى فاطمى، وقال عن نفسه أنه المهدى. وقد ذكر ذلك كثير من العلماء(2).
... قال ابن خلكان فى الوفيات: وقد اختلف فى نسب المهدى هذا اختلافاً كثيراً جداً، فقال صاحب تاريخ القيروان: هو عبد الله بن الحسن بن محمد بن على بن موسى بن جعفر بن محمد بن على بن الحسين بن على ابن أبى طالب. وقال غيره(3): هو عبيد الله بن التقى وهو الحسين بن الوفى بن أحمد بن الرضى وهو عبد الله هذا، وهو ابن محمد بن إسماعيل ابن جعفر الصادق. وقيل غير ذلك فى نسبة. قال ابن خلكان: والمحققون ينكرون دعواه فى النسب.
__________
(1) ... البداية والنهاية: ج11. ص160.
(2) ... انظر البداية والنهاية: ج12. ص267.
(3) ... البداية والنهاية: ج11. ص180.(2/25)
... قال ابن كثير: قد كتب غير واحد من الأئمة، منهم الشيخ أبو حامد الاسفرايينى والقاضى الباقلانى والقدورى: أن هؤلاء أدعياء ليس لهم نسب صحيح فيما يزعمون، وأن والد عبيد الله المهدى هذا كان يهودياً صياغاً بسلمية، وقيل كان اسمه سعد، وإنما لقب بعبيد الله زوج أمه الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن ميمون القداح، وسمى القداح لأنه كان كحالاً يقدح العيون، وكان الذى وطأ له الأمر فى تلك البلاد أو عبد الله الشيعى، الذى استدعاه إلى بلاد المغرب وقد سجن، إلا أن أبا عبد الله الشيعى احتال له وأخرجه من السجن، وبعد ذلك سلم أبو عبد الله الشيعى الأمر لعبيد الله المهدى، والذى دبر مؤامرة قتل أبى عبد الله الشيعى، وبذلك تم للمهدى ما أراد(1).
... وفى المغرب اشتهر أمره وآزره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصوله، وبعد ذلك بنى مدينة المهدية نسبة إليه، وأصبح ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوى على الكفر المحض، وكان الفاطميون أنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، وقد ظهرت فى دولتهم البدع والمنكرات والموالد والخزعبلات، كما كثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعُبَّاد. كذلك كثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية وتغلب الفرنجة على سواحل الشام بكامله لعدم عنايتهم بأمر الدين والأمة، وهذا حال الأدعياء والعجزة، لا يهمهم سوى لذاتهم ومطامعهم وتنفيذ مآربهم.
... قال أبو شامة: وقد أفردت كتاباً سميته "كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد"(2).
__________
(1) ... المصدر السابق: ج11. ص180.
(2) ... البداية والنهاية: ج12. ص268.(2/26)
... ويبدو للدارس والمتتبع لتاريخ الفاطمية أنهم كانوا متناقضين فى مواقفهم، وآرائهم وعقيدتهم، حتى أنهم كانوا يشعرون بالغبطة والسرور والسعادة إذا ما ألمت بالمسلمين كارثة أو تعرضوا لغزو، سيما وموقفهم من الغزو الصليبى وكيف عقدوا معاهدة بينهم، وبشكل كان السرور يغمرهم عندما انهار نفوذ الأتراك السلاجقة أمام زحف الصليبية الحاقدة على الإسلام، ولم يقوموا بقائمة وكأن الأمر لم يهمهم.
الفاطميون وبيت المقدس:
... جاء فى كتاب الحركة الصليبية(1): يعجب المؤرخ أبو المحاسن من موقف الفاطميين، وعدم مشاركتهم القوى الإسلامية التى نهضت للدفاع عن أنطاكية ضد الصليبيين فيقول: ولم ينهض الأفضل –وكان وزيراً له شأنه- بإخراج عساكر مصر، وما أدرى ما كان السبب فى عدم إخراجه مع قدرته على المال والرجال(2)؟!.
... ثم يسترسل أبو المحاسن فى وصف سوء حال الصليبيين عندما زحفوا على الشام، وكيف أن المسلمين فى العراق والشام حاولوا صدهم، كل ذلك وعساكر مصر لم تتهيأ للخروج.
... ويقول أيضا(3): إن الفاطميين لم يروا فى الانتصارات التى أحرزها الصليبيين –فى ضورليوم وأنطاكية- كارثة عامة حلت بالمسلمين، وإنما وجدوا فيها أمنية عزيزة، هى تخليص الشرق الأدنى من سيطرة الأتراك السنيين،الذين سادوا قرابة نصف قرن من الزمان، استثاروا فيها كراهية العرب المسلمين جميعاً الشيعة والسنة سواءً.
تعاليم دار الحكمة:
__________
(1) ... الحركة الصليبية: ج12. ص268.
(2) ... أبو المحاسن – النجوم الزاهرة: ج5. ص147.
(3) ... الحركة الصليبية: ج1. ص236.(2/27)
... جاء فى كتاب تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة ما يلى: بيد أن الذى يهم أن نسجله من سيرة الحاكم(1) هو استئنافة للدعوة السرية الفاطمية، ونشاطه فى إذاعتها بطريقة فعالة منظمة، لم يفكر فيها أحد من قبله، ذلك أنه أنشأ فى القاهرة معهداً خاصاً لبث تعاليم الدعوة الشيعية، وكان هذا المعهد الفذ الذى سمى دار الحكمة مدرسة عامة يفتح بابها لكل طالب، والتعليم فيها على نفقة الدولة. وكانت تعاليمها الدينية –التى اشتقت من مبادئ عبد الله بن ميمون- تسع مراتب، أى بزيادة مرتبتين على جمعية ابن ميمون السرية، ويقسم الطلاب فيها إلى قسمين كبيرين العالم والجاهل. ويعتبر الدعاة من تلاميذ القسم الأول. ويبدأ الدعاة بمناقشة الطالب فى المسائل الدينية وتفاسير القرآن، ويعلمونه أن مسائل الدين أمور شديدة التعقيد، تنبو عن الذهن العادى ولا يستطيع فهمها إلا رجال كالدعاة تبحروا فى درسها، ويأخذون عليه العهود بألا يذيع شيئاً من النظريات والشروح، وهذه هى المرتبة الأولى.
وفى المرتبة الثانية: يُعَلَّم الطالب أن كل التفاسير والأحكام التى قال بها المجتهدون السابقون خاطئة باطلة، وأن الأحكام الصحيحة هى التى يقول بها الأئمة الذين تلقوها من الله.
... وفى الثالثة: أن هؤلاء هم الأئمة الإسماعيلية وهم سبعة، وأن آخرهم محمد بن إسماعيل.
... وفى الرابعة: أن الأنبياء الذين تقدموا آل البيت سبعة أيضاً هم: آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، والمسيح، ومحمد –النبى العربى- ثم محمد بن إسماعيل.
... وفى الخامسة: يبدأ الدعاة بتنفيذ مهمتهم الحقيقية، وهى هدم العقيدة الدينية، يعلمون الطالب ألا يؤمن بالسنة، وأن يرفض تعاليم محمد - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) ... أفردت بحثاً موجزاً عن حكاية الحاكم –بأمر نفسه- فى موضوع الدروز لعلاقته المباشرة بعقائدهم وأفكارهم. فليراجع هناك.(2/28)
... وفى السادسة: أن كل الأديان وما أَمَرَت به من الفروض، كالصوم والصلاة وغيرهما، إن هى إلا أكاذيب وحيل ابتكرت لإخضاع المجتمعات البشرية، وأن جميع الشرائع لابد أن تخضع لشريعة العقل والعلم، ويدللون على أقوالهم بنظريات أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وأمثالهم.
وفى السابعة: يلقن تعاليم الثنوية وبذلك تهدم وحدة الإله، وهى فكرة الإسلام الجوهرية.
... وفى الثامنة: تنقض كل صفات الألوهية والنبوة، ويعلم الطالب أن الرسل الحقيقيين هم رسل العمل الذين يعنون بالشؤون الدنيوية، كالنظم السياسية وإنشاء الحكومات المثلى.
... وفى التاسعة والأخيرة: يدخل إلى حظيرة الأسرار، ويعلم أن كل التعاليم الدينية أوهام محضة، وأنه يجب ألا يتبع إلا ما هو لازم لحفظ النظام بين الدهماء والعامة، ولكن الرجل المستنير له أن يرفضها جميعاً. وأن إبراهيم، وموسى، والمسيح وغيرهم من الأنبياء ليسوا إلا رجالاً مستنيرين تفقهوا فى المسائل الفلسفية. وهكذا يهدم كل اعتقاد فى الأديان المنزلة. فكانت المراتب الأخيرة تستعمل لنقض المراتب الأولى. وقد كان التكتم فى الواقع عماد الدراسة فى دار الحكمة. وكان الدعاة يتحدثون أمام كل طائفة بما يرضيها ويتفق مع عقليتها وتعاليمها.
... هكذا كان نظام الجمعية السرية التى نظمها الشيعة، لتقويض دعائم بنى العباس وما تستند إليه من أسس دينية، وهدم كل المعتقدات الدينية من الأساس، وهو النظام الذى اتخذ فيما بعد نموذجاً لإنشاء "الشعلة البافارية" فى القرن 18م الذى يصوره المستشرق فون هامارا فى كتابه عن الإسماعيلية فيما يلى:(2/29)
... (ألا يعتقد فى شىء، وأن يُقْدِمَ على كل شىء، هما خلاصة هذا المبدأ، الذى قصد بالهدم كل مبدأ للدين والأخلاق، ولم يك يرمى إلا إلى تنفيذ المآرب والأطماع على يد وزرائهم –خير آلات لسياسة جهنمية- يقدمون على كل شىء ولا يعرفون شيئاً، يعتبرون كل شىء خدعة وكل شىء مباحاً. نظام لا يعمل إلا لإطفاء شهوة التغلب ولا يخمد أوارها، بدلاً من أن يعمل على تحقيق أمثل الغايات البشرية، وينحدر إلى الهاوية فيقبر بين العروش والهياكل وأنقاض السعادة القومية ولعنات الإنسانية بأسرها)(1).
... وتاريخ الفاطميين يشير بلا ريب إلى أثر اليهود التوراتى التلمودى فى تعاليمهم وسلوكهم وتأليه ملوكهم، كما حدث للحاكم بأمر الله الذى ادعى الربوبية، وصار قوم من أتباعه يقولون: يا واحدنا يا أحدنا يا محييى يا مميت(2).
الدروز:
تَوْطِئَةٌ:
... قبل أن أشرح عقائد الدروز وحقيقتهم، أرى أن أقدم فكرة موجزة عن حياتهم وأصلهم، لأن الناس يذهبون فى هذه الطائفة مذاهب شتى، بينما قل أن نجد من يعرف شيئاً عن تاريخهم وحقيقة عقائدهم.
... وربما يرجع جهل الناس عنهم إلى أن الدروز أنفسهم يحتفظون بعقائدهم الدينية فى سرية تامة وكتمان شديد، فلا يبوحون بأسرارهم الدينية إلى غيرهم بل ربما غالوا هم أنفسهم فى ذلك، فلا يسمحون بالإدلاء بكل أسرارهم إلا لطبقة خاصة فى مجتمعهم، حيث إنهم يغلقون هذا الباب أمام عامة الناس.
__________
(1) ... تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة بتصرف: ص30.
(2) ... ابن الجوزى، المنتظم فى تاريخ الملوك والأمم ط الهندية 1358هـ: ج7ص 298.(2/30)
... ومنذ زمن بعيد(1) –عندما ظهرت هذه الطائفة على مسرح التاريخ كطائفة متميزة مغلقة على نفسها- والعالم متطلع إلى كشف الستار عنها ومعرفة أسرارها وفلسفة مذاهبها، ولقد تسربت بعض كتبهم إلى خارج مجتمعهم الدرزى، واستطاعت بعض مكتبات الدول أن تقتنى بعض نسخ من هذه الكتب المقدسة السرية، وترجمت هذه الكتب إلى لغات أوربية، ودرسها بعض العلماء من الغرب وأبناء الأمة العربية.
ومما يؤسف له أن هؤلاء الدارسين من العلماء لهذه الكتب، لم يستطيعوا أن يلموا إلماماً تاماً بمدلول المصطلحات التى زخرت بها كتب العقيدة الدرزية، ولن يتسنى ذلك إلا لمن كان على معرفة بألغازهم ورموزهم، والتى لم يفهمها إلا شيوخهم والذين لديهم مفتاح الأسرار وعلم الباطن، وتأويل الباطنية على طريقة الفاطمية.
وعلى الذين يريدون دراسة الدروز وبحث ما يتعلق بعقائدهم أن يلموا بعقائد الفاطمية وتطورها من عصر إلى عصر ومن بلد إلى بلد، وأن يعرفوا حق المعرفة مصطلحات الدعوة الفاطمية، لأنها هى العقائد والمصطلحات التى أخذها دعاة العقيدة الدرزية وبنوا عليها عقيدتهم ومصطلحاتهم.
وربما بلغ بى الغلو فى القول إلى أن شيوخ الدروز أنفسهم، ربما وجدوا مشقة فى فهم فلسفة مذهبهم ومدلول مصطلحاتهم، إلا ما كان متوارثاً ونقله الخلف عن السلف بالتواتر، ومع هذا فإن هذا الطريق كثيراً ما كان مشوباً بكثير من التحريف، ومن تسرب آراء دخيلة عن طريق مخالطة أصحاب عقائد أخرى، بالرغم من شدة محافظتهم على عقائدهم وكتمانها وما يحيط بها من غموض، حتى أن كثيراً من الشخصيات الدرزية المثقفة لا يعرفون شيئاً عن عقيدتهم، وقد صرح فريق من هؤلاء بذلك(2).
لمحة عن أصل الدروز وتاريخهم:
__________
(1) ... هذه المعلومات وما بعدها مستقاة من كتاب طائفة الدروز: ص5.
(2) ... نفس المصدر: ص5-6.(2/31)
فى منطقة محافظة السويداء بسوريا، حيث جبل حوران الذى يعرف بجبل العرب أو الدروز(1)، نجد منطقة واسعة تشتمل على أكثر من ثلاثة وسبعين قرية، وفيها يعيش قوم عيشة متواضعة يعملون فىالزراعة أو الرعى، ويدينون بالطاعة التامة لشيوخ قبائلهم، وفى المناطق الواسعة يسكن بنو الأطرش وبنو عساف والحناوية والقلاعنة والهنيدية وغيرهم، وأكثر سكان هذه المنطقة على المذهب الدرزى.
وفى لبنان فى القسم الجبلى المعروف –من التشويفات إلى دير القمر- يسود آل أرسلان، وفى القسم الغربى الأعلى –من دير القمر إلى عاليه ونهر الغابون- نجد آل تلحوق، وتتوزع قبائل آل النكدى وبنو عبد الملك وبنو عماد وكذلك الجانبلاطية فى مناطق الشوف وغيرها من مناطق لبنان.
وفى فلسطين العربية –عند جبل الكرمل وصفد- تسكن قبائل عربية مختلفة تتمذهب بالعقيدة الدرزية.
وكذلك نجد طائفة من الدروز يسكنون الجبل الأعلى –بين حلب وأنطاكية- ونجد أيضاً فى بلاد المغرب بالقرب من مدينة تلمسان قبيلة تعرف ببنى عبس تدين بالعقيدة الدرزية دون أن يعرف جيرانهم حقيقة مذهبهم.
يذهب الكتاب والمؤرخون فى أصل هذه الطائفة مذاهب شتى، ففى القرن الثانى عشر للهجرة زار الرحالة اليهودى "بنيامين" إقليم لبنان ووصف المجتمع الدرزى، فذهب إلى ان الدروز سلالة قبائل عربية أنزلها الامبراطور "بمبى" لبنان حوالى سنة 64 ق.م، ثم اختلطت هذه العناصر بعناصر آرامية.
وجاء الشاعر الفرنسى الشهير –لامارتين- وتحدث عن رحلته هذه بأسلوبه الشعرى الممتع وقال عن الدروز: أنهم سلالة السامريين القدماء. أما الكاتب "لوشان" فقد ذهب إلى أن الدروز والموارنة والنصيرية والعلويين واليزيديين والأرمن كلهم من أصل واحد، وهم بقايا الحثيين القدماء.
وقال آخرون: أن الدروز مزيج من عناصر مختلفة من عرب وفرس وهنود … وهناك آراء كثيرة حول أصل هذه الطائفة، ومنها ما يرجح عروبتهم.
__________
(1) ... نفس المصدر السابق.(2/32)
إن المؤرخين جميعاً على اختلاف مذاهبهم وأجناسهم يجمعون على أن العقيدة الدرزية أول ما ظهرت فى بلاد الشام، إنما ظهرت فى المنطقة المعروفة بوادى التيم –بين دمشق وبانياس- وكان ذلك فى سنة 408 هـ، وقد سمى هذا الوادى بذلك الاسم نسبة إلى قبائل تنتسب إلى تيم الله ابن ثعلبة، وهى قبائل يمنية الأصل هاجرت من جزيرة العرب فى الجاهلية وسكنوا الفرات، وكان منهم ملوك المناذرة بالحيرة.
وفى عهد الفتح الإسلامى أسهم بعضهم فى فتح الشام، وفى عهد معاوية بن أبى سفيان قاموا بنصره وحاربوا معه فى معركة صفين، حيث جعلهم معاوية سادة فى المناطق التى حلوا فيها من بلاد الشام، كما شاركوا فى حرب الروم إبان الحكم الأموى، وعند ظهور حركة العباسيين انضموا لدعوتهم واشتركوا فى معركة الزاب ضد مروان بن محمد، وبذلك أصبحت لهم يد عند العباسيين، واستمر هذا الحال إلى أن قامت جيوش المعز لدين الله الفاطمى سنة 358هـ.، بقيادة جعفر بن فلاح لفتح بلاد الشام، وبعد أن استولى على الرملة وطبرية، كتب إلى الأمير سيف الدولة المنذر بن النعمان بن عامر أمير بيروت –المتصرف والمباشر لأمور القبائل- يدعوه إلى بيعة المعز، فاستشار سيف الدولة عشيرته، فأجمعوا على مصانعته حتى يروا ما يكون منه، فلما استولى جعفر بن فلاح على دمشق، سار إليه سيف الدولة وزعماء قومه وبايعوه للمعز لدين الله، وبذلك دخلت هذه القبائل فى الدعوة الفاطمية.
ولما قامت حركة أفتكين التركى بدمشق، وأخرج عامل الفاطميين منها، واتصل القرامطة بأفتكين ليساعدوه ضد الفاطميين، انقسم أمراء العرب بين موالين للفاطميين وبين موالين للقرامطة وأفتكين.(2/33)
لقد انتشرت الدعوة الفاطمية فى جميع بلاد الشام، بفضل الدعاية المنظمة التى وضع الفاطميون أسسها، وكانت قبائل تنوخ فى بلاد المعرة وفى وادى التيم وجبال لبنان أسرع أهالى الشام قبولاً للدعوة الفاطمية, ورغم وجود بعض الحركات الثورية فى الشام –كان الغرض منها الرجوع إلى الدعوة العباسية- فإن كل هذه الحركات باءت بالإخفاق إلى أن جاء الحاكم بأمر الله وأعلن مذهبه الجديد، فكان أهل وادى التيم وحوران وجبل لبنان هم الذين تقبلوا هذه العقيدة، وظلوا يحافظون عليها إلى الآن.
ومن جهة أخرى فقد ظلوا فى مقاطعاتهم تحت إمرة شيوخهم، الذين هم بدورهم كان يتبعون الولاة فى دمشق وعكا وبيروت، وبالإضافة إلى ذلك فقد اشتركوا فى معارك عديدة إلى جانب إخوانهم المسلمين، ودافعوا عن أرض الوطن لاسيما إبان الغزو الصليبى وغيره، وبالرغم من محاولات الأعداء لفصلهم وجعلهم أدوات هدم لطعن الأمة من داخلها، إلا أنهم وقفوا مواقف مشرفة فى وجه تلك المخططات والدعوات الانفصالية، وساندوا العرب ضد أطماع العدو المتربص على مراحل التاريخ(1).
ألوهية الحاكم "بأمر الشيطان":
شخصية الحاكم شخصية غريبة وعجيبة، وقل نظيرها فى عصور التاريخ. ولقد شهدت عصور التاريخ شخصيات كثيرة، استطاع بعضها أن يخلد اسمه بما قام به من أعمال مجيدة فى خدمة الإنسانية عامة، أو فيما عاد بالنفع على قومه خاصة.
وقد يخلد بعضهم بأعمال شاذة أصيبت الإنسانية بسببها بخسائر جسيمة أو بأضرار يتناقلها الناس مدى التاريخ، ويصبح هؤلاء الشواذ أمثلة تضرب للفساد، والمصلح والمفسد سرعان ما يصبحان من أبطال القصص الفكاهية والنوادر.
وتصور هذه القصص جلائل أعمال المصلح ومآثره على قومه أو على البشرية، كما تتحدث فى سخط وازداراء أو فى سخرية وتهكم بالمفسد.
__________
(1) ... انظر كتاب طائفة الدروز للدكتور محمد كامل حسين: ص11.(2/34)
يقول الدكتور محمد كامل حسين فى كتابه(1) بخصوص شخصية الحاكم الشاذة: ولا أكاد أعرف بين شخصيات التاريخ من جمع بين هذه المتناقضات فى حكم المؤرخين، وأحاديث العامة مثل شخصية الحاكم بأمر الله، الذى حكم رقعة واسعة من الأرض امتدت من المحيط الأطلسى إلى جبال طوروس، وشملت فيما شملته جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا والجزيرة العربية، ودان له بالإمامة عدد كبير فى العراق وفارس والهند، فكان امبراطوراً على أكبر دولة فى عصره، وظل فى حكمه من سنة 386هـ حتى سنة 411هـ.
هذا الامبراطور اختلف الناس فى شخصيته اختلافاً شديداً جداً، فقد رفعه قوم إلى درجة الألوهية، وهم الدروز، واعتقد فيه قوم أنه إمام المسلمين وخليفة رب العالمين وسليل الرسول الكريم، وهم الإسماعيلية الفاطميون، وذهب أكثر المؤرخين إلى أنه كان شاذ الطباع مريضاً بالعقل، يأتى بأعمال تضحك الثكلى، تدل على الجنون، وهؤلاء هم مؤرخو العرب والمؤرخون المسيحيون.
ووقف المؤرخون المحدثون منه نفس موقف القدماء، فاحتار العلماء فى تكييف شخصية الحاكم بأمر الله وخاصة من ناحية أعماله وتصرفاته أو سلوكه، بصرف النظر عن ناحية منزلته الدينية بين الناس.
وإذا ما نظرنا إلى بعض ما قام به الحاكم، نراه يأتى بأعمال مختلفة –وخاصة ما يتعلق منها بالعقيدة الفاطمية التى هو إمامها- وفى أعماله هذه ما يخالف ما جرى عليه آباؤه وأجداده منذ قيام الدولة الفاطمية.
لقد كان الفاطميون يسبون السلف الصالح، وكانوا ينشرون تعاليمهم ويعقدون مجالس التأويل، المعروفة بمجالس الحكمة التأويلية، ومنها ما يتعلق بالأذان والصيام … كل هذا أمر الحاكم بإبطاله. كما أصدر مرسوماً بتعطيل الزكاة وإلغائها، كما ألغى تقاليد كثيرة، منها حضور صلاة الجمعة والعيدين وإرسال كسوة الكعبة(2).
__________
(1) ... طائفة الدروز: ص34.
(2) ... طائفة الدروز: ص34 – 50.(2/35)
لقد ورد فى كتاب تاريخ الدولة الإسلامية(1)، أن طائفة من غلاة دعاة الإسماعيلية قد ألهوا الخليفة الحاكم، وخرجوا على السواد الأعظم من الإسماعيليين المعتدلين، الذين يمثلون المدرسة الإسماعيلية القديمة، ومن أعظم هؤلاء الغلاة حمزة بن على الزوزنى والحسن بن حيدرة الفرغانى المعروف بالأحزم، ومحمد بن إسماعيل أنوشتكين البخارى الدرزى.
ففى سنة 408هـ جهر حمزة بن على بألوهية الحاكم(2)، وصنف كتاباً ذكر فيه أن روح الله سبحانه وتعالى حلت فى آدم عليه السلام، ثم انتقلت إلى على بن أبى طالب، وأن روح على انتقلت إلى العزيز ثم إلى ابنه الحاكم، الذى أصبح فى نظرهم إلاهاً عن طريق الحلول.
ويعتبر حمزة بن على المؤسس الحقيقى لمذهب الدرزية، وقد استغل الحسن بن حيدرة الفرغانى –الأحزم- على الجهر بتأليه الحاكم فى سنة 409هـ. حيث قتل.
وكان الحاكم يشجع هذه الدعوة فى مصر أولاً وفى الشام ثانياً، لأن ذلك كان يتفق مع ميوله، وقد ادعى تجسيم الإله فى شخصه، وهو –وإن لم يصرح بذلك- كان يوافق على آراء النصارى كحمزة بن على والدرزى اللذين نسبا إليه الصفات التى لا يتصف بها إلا الله سبحانه وتعالى. كما شجع بعض الشعراء المتصلين بالبلاط الفاطمى هذا الاعتقاد، ولم يترددوا فى أن ينسبوا إليه بعض صفات الله سبحانه وتعالى، وهم يقرؤون القرآن بحضرته، حتى لقد أُرغم كل من لم يقل بألوهية الحاكم على دفع الجزية.
__________
(1) ... تاريخ الدولة الإسلامية: ج3. ص205 – 206.
(2) ... إن تأليه البشر فكرة قديمة، فقد أله المصريون القدماء ملوكهم، والنصارى ألهوا عيسى عليه السلام، واليهود ألهوا عزيزاً، ثم انتقلت هذه الضلالة إلى بعض فرق المنتسبين إلى الإسلام، فالعلويون ألهوا علياً رضى الله عنه والآغاخانية ألهوا الآغاخان، والدروز ألهوا الحاكم (بأمر شيطانه). فليحذر المسلمون سموم هذه الدعوات المحرفة وأضاليلها.(2/36)
وقد رأى بعض النفعيين –الذين يبيعون أنفسهم ودينهم للشيطان من أجل مصلحتهم الخاصة- أن يستغلوا ذلك الشذوذ لصالحهم لينالوا خير هذا الإمام –الحاكم بأمر الله- ويأمنوا شره، فخلعوا عليه وصف الألوهية المنبثق من مذهب بعض الشيعة، حيث وافقهم الحاكم على زعمهم لأنه يتفق مع شذوذه ومع ما ورثه عن بيئته الشيعية.
وقد حض عبد الله الدرزى الناس على عبادته، وأطلق على أتباعه اسم الموحدين(1). وبعد موته المجهول المكان والكيفية، ادعى أتباعه أنه سيعود ويملأ الأرض والدنيا عدلاً. وعندما حارب المصريون هذه الدعوة ودعاتها، فروا إلى الشام وسكنوا الجبل الذى عرف باسمهم لما جاوروه(2).
إحدى رسائل الدروز التى تكشف ألوهية الحاكم:
سنقف وقفة طويلة مع رسالة حمزة بن على بن أحمد، الموسومة –بكتاب فيه حقائق ما يظهر قدام مولانا جل ذكره من الهزل-. فقد رأيت أن أنقل هنا نص هذه الرسالة دون تعليق، لأنها بنفسها تغنى عن كل تعليق!!.
__________
(1) ... أوردت هنا فقرات عن شخصية الحاكم بأمر الله إمام الدعوة الفاطمية، لأن عقائد الفاطميين هى الأساس الأول للعقيدة الدرزية.
(2) ... البابية والبهائية.(2/37)
وهذه نصوصها كما جاءت فى كتاب طائفة الدروز: ص45 – 50. قال حمزة(1) فى هذه الرسالة: أما بعد، معاشر الموحدين، أعانكم المولى على طاعته. إنه وصل إلى من بعض الإخوان الموحدين –كثر المولى عددهم، وزكى أعمالهم، وحسن نياتهم- رقعة يذكرون فيها ما يتكلم به المارقون عن الدين، الجاحدون لحقائق التنزيه، ويطلقون ألسنتهم بما يشاكل أفعالهم الردية، وما تميل إليه أديانهم الدنية، فيما يظهر لهم من أفعال مولانا –جل ذكره ونطقه- وما يجرى قدامه من الأفعال التى فيها حكمة بالغة –جداً كانت أم هزلاً- يخرج حكمته ويظهرها بعد حين … ولو نظرنا إلى أفعال مولانا –جلت قدرته- بالعين الحقيقية وتدبروا إشارته بالنور الشعشانى، لبانت لهم الألوهية والقدرة الأزلية والسلطان الأبدى، وتخلصوا من شبكة إبليس وجنوده الغوية، ولتصور لهم حكمة ركوب مولانا –جل ذكره- وأفعاله، وعلموا حقيقة المحض فى جده وهزله ووقفوا على مراتب حدوده، وما تدل عليه ظواهر أموره. جل ذكره وعز اسمه ولا معبود سواه.
__________
(1) ... حمزة بن على هو المؤسس الحقيقى لمذهب الدرزية وأول من جهر بألوهية الحاكم.(2/38)
فأول ما أظهر من حكمته ما لم يعرف فى كل عصر وزمان ودهر وأوان، وهو ما ينكره العامة من أفعال الملوك من تربية الشعر ولباس الصوف، وركوب الحمار بسروج غير محلاة، لا ذهب ولا فضة، والثلاث خصال معنى واحد فى الحقيقة، لأن الشعر دليل على ظواهر التنزيل، والحمير دليل على النطقاء –الأنبياء لقوله لمحمد: يا بنى أقم الصلاة وآت الزكاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر، إن ذلك من عزم الأمور، ولا تصعر خدك ولا تمش فى الأرض مرحاً، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً، كل ذلك كان عند ربك شيئا محذوراً، وانقص من مشيك، واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير(1).
والعامة يرون أن هذه الآية حكاية عن لقمان الحكيم لولده، فكذبوا وحرفوا القول، وإنما هو السابق –وهو سلمان- فإنما سمى الناطق لولده لحد التعليم والمادة، إذ كان سائر النطقاء والأوصياء أولاد السابق المبدع الأول وهو سلمان.
فقال سلمان لمحمد: أقم الصلاة، إشارة إلى توحيد مولانا جل ذكره ولحدوده ولدعاته، وأمر بالمعروف، وهو توحيد مولانا جل ذكره، وانه عن المنكر، يعنى شريعته، وما جاء به من الناموس والتكليف. إن ذلك من عزم الأمور، يعنى الحقائق، وما فيها من نجاة الأرواح من نطق الناطق. ولا تصعر خدك للناس، الخد: وجه السابق، وتصعيره: ستره فضيلته.
__________
(1) ... الآية القرآنية محرفة تحريفاً شديداً جداً هنا، فقد أضيفت إلى الآية الكريمة ألفاظ وحذف منها ألفاظ. والنص الصحيح فى سورة لقمان من آية 16 – 19 هو: { يا بنى أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور. ولا تمش فى الأرض مرحاً إن الله لا يحب كل مختال فخور. واقصد فى مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } . صدق الله العظيم(2/39)
ولا تمش فى الأرض مرحاً، فالمرح هو التقصير واللعب فى الدين، والأرض ههنا هو الجناح الأيمن الداعى إلى التوحيد المحض. واغضض من صوتك، يعنى بذلك اخفض وأنقص وأقصر نطقك بالشريعة. إن أنكر الأصوات: يعنى الدعوة الظاهرة. لصوت الحمير، يعنى بذلك أشر كلام وأفحشه وأنكره نطق الشرائع المذمومة فى كل عصر وزمان. فأظهر مولانا –جل ذكره- لبس الصوف وتربية الشعر، وهو دليل على ما ظهر من استعمال الناموس الظاهر، وتعلق أهل التأويل بعلى بن أبى طالب وعبادته، وركوب الحمار دليل على إظهار الحقيقة على شرائع النطقاء.
وأما السرج بلا ذهب ولا فضة، دليل على بطلان الشريعتين، الناطق والأساس. واستعمال حُلى الحديد على السروج، دليل على إظهار السيف على سائر أصحاب الشرائع وبطلانهم.
واستعمال الصحراء فى ظاهر الأمر، وخروج مولانا –جل ذكره- فى ذلك اليوم من السرداب ومن البستان إلى العالم دون سائر الأبواب، فالسرداب والبستان –اللذان يخرج مولانا منهما- ليس لأحد إليهما وصول ولا له بهما معرفة، إلا أن يكون لمن يخدمهما أو خواصهما وهو دليل على ابتداء ظهور مولانا –سبحانه- بالوحدانية، ومباشرته بالصمدانية بالحدين اللذين كانا خفيين عن سائر العالمين، إلا لمن يعرفهما بالرموز والإشارات، وهما الإرادة والمشيئة. والإرادة هو ذو معة والمشيئة تالية، فليس يعرفهما إلا الموحدون لمولانا، جل ذكره.
ومن السرداب يخرج إلى البستان، كذلك العلم يخرج من ذى معة إلى ذى مصة، الذى هو بمنزلة الجنة صاحب الأشجار والأنهار، ثم يخرج منهما إلى النفس، فأول ما يلقى بستان برجوان –وهو المعروف بالحجازى- فلا يدخله ولا يدور حوله فى معنية، وهو دليل على الكلمة الأزلية، ثم يمضى إلى البستان المعروف بالدكة على شاطئ البحر، كذلك علم التأويل ممثوله البحر…
والمستجيب للعهد إذا بلغ علم السابق ومعرفته، حسب أنه قد بلغ الغاية والنهاية فى العبادة.(2/40)
وبستان الدكة مع جلالته ملاصق لموضع الفحشاء والمنكر دون سائر البساتين، دليل على أن علم السابق واصل بالنطقاء الذين هم معادن النواميس الفانية الحشوية والأعمال الفاحشة الدنية، والمقس دليل على الناطق، وما فى المقس من الفحشاء والمنكر دليل على شريعته، وارتكابهم الشهوات البهمة فى طاعته.
ثم إنه –علينا سلامه- يخرج إلى الصناعة ويدخل من بابها ويخرج من الآخر، والصناعة دليل على صاحب الشريعة، والصناعة ممنوعة من دخولها العالم فيها، فدخول مولانا –جل ذكره- فيها من باب وخروجه من باب دليل على تحريم الشريعة وتعطيلها.
ثم إنه –علينا سلامه ورحمته- يدور حول البستان المعروف بالحجازى وهو دليل على الكلمة الأزلية، والدوران حوله بلوغ إلى الكشف بلا سترة تحوط بالدين ...
ثم إنه يبلغ إلى القصور –وهما قصران عظيمان خرابان- دليل على بطلان الشريعتين وخرابهما. ثم إنه يدخل من باب البستان المعروف بالمختص، وهو دليل على التالى، إذ كان التالى مختص بعلمه، وأكثر العالم يميلون إليه، هو هيولى العالم الجرمانى.
ومن الشيعة من يقول بأن التالى مولانا، وهذا هو الكفر والشرك، وإنما هو التالى الذى عجز الناس عن معرفته، وهو الجنة المعروفة بالمختص، متصلة بالجنة المعروفة بالعصار، والعصار دليل على الناطق لأنه يعصر علم التالى، فيخرج منه الحقيقة والتوحيد فيكتمه عن العالم الغبى، ويظهر لهم الشغل، وهو الكسب الذى لا ينتفع به غير البهائم.
وكذلك البستان المعروف بالعصار، وهو خراب من الفواكه والأشجار والرياحين والأثمار، وبستان المختص عامر بالفاكهة والأزهار والرياحين والأشجار، ومنه يخرج الماء إلى الحوض الذى تشرب منه البهائم. والماء هو العلم، والحوض هو المادة الجارى من التالى. والدواب هم النطقاء والأسس، وكذلك العلم يخرج من التالى إلى الأساس فى كل عصر وزمان، والسابق ممد الناطق.(2/41)
وهذان البستانان بين المسجدين المعروفين بمسجد تبر ومسجد ريدان، فمسجد ريدان محازى بستان العصار، ومسجد تبر محاذى بستان المختص، ومسجد تبر دليل على الناطق، والتبر دليل على الذهب، والذهب دليل على ذهاب شريعته. وهذا المسجد لم يصل فيه صلاة جماعة قط، دليل على أن ليس للناطق ولا لمن تبعه اتصال بالتوحيد.
ومسجد ريدان دليل على حجة الكشف القائم بالسيف والعنف، الداعى إلى التوحيد المنكر عند سائر العالمين، فبإزاء الباطل –الذى هو جنة العصار وهو دليل على الناطق- حق يرفع وهو مسجد ريدان وهو ذو معة، وبإزاء الحق –الذى هو جنة المختص وهو التالى- باطل يطلب فساده، هو مسجد تبر وهو الناطق. وريدان خمسة أحرف دليل على الخمسة حدود النفسانيين والنورانيين والجرمانيين والجمسانيين. وهى ذو معة العقل المكلى النفسانى، وذو معة النفس الروحانى والجناح الربانى، والأيمن الباب الأعظم، وهو السابق والتالى معدن العلوم.
وما من المساجد مسجد سقطت قبته وهوى بكماله غير مسجد ريدان، فأمر مولانا سبحانه بإنشاء قبته، وزاد فى طوله وعرضه وسموه، دليلاً على هدم الشريعة الظاهرة على يد عبده الساكن فيه(1)، وأنشأ توحيد مولانا جل ذكره فيه بالحقيقة ظاهراً مكشوفة. (قبحهم الله ما أسخفهم وما أضل عقولهم).
ونزوله عن الحمار إلى الأرض وركوبه آخر محاذى باب المسجد دليل على تغيير الشريعة وإثبات التوحيد، وإظهار الشريعة الروحانية على يد عبده حمزة بن على بن أحمد، ونزوله إلى الأرض محاذى باب المسجد، إشارة منه إلى عبده باب حجابه على خلقه، ونزوله عن الحمار وركوبه آخر كان فى نفس أذان الزوال، وصلاة الزوال دليل على الناطق.
__________
(1) ... المعروف أن حمزة بن على كان يسكن مسجد ريدان هذا.(2/42)
وتغيير مولانا الحمار –فى نفس وقت الأذان- دليل على إزالة الظاهر. ثم إن مولانا لابد له فى كل ركبة من الإعادة إلى البستانين المعروفين بالمقس، دليل على إظهار النشء الثالث الخارج من الكفر والشرك وهما الظاهر والباطن(1)، وهو توحيد مولانا جل ذكره.
ودخوله إلى القصر من الباب الذى يخرج منه والسرداب بعينه دليل على إثبات الأمر وكشف الطرائق.
وأما نزوله فى ظاهر الأمر إلى مصر وما شاهدناه، ففيها تمكن الشيطان الغوى من قلوب العامة الحشوية، والعقول السخيفة الشرعية مما يسمعونه من ألسن الركابية قدام مولانا، بما يستقر فى عقولهم السخيفة من كلام الهزل والمزاح.
ولم يعرفوا أن فيه حكمة بالغة، فأول مسيره إلى المشاهد الثلاثة، وليس فيها أذان ولا إقامة ولا صلاة جماعة إلا فى الوسط، ثم إنه يسير إلى راشدة، وهى أيضاً ثلاثة مساجد متفاوتات البنيان، وأحسن ما فيها وأعلاها وأفضلها الذى يصلى الخطيب فيه يوم الجمعة، وتصلى فيه خمس صلوات على دائم الأيام وهو الوسطانى، وهو دليل على توحيد مولانا وإثبات خمس حدود علوية فيه.
والمسجدان اللذان معه متفاوتان فى البناء دليل على الناطق والأساس، وكذلك الناطق فى ترتيب حدوده أفضل من الأساس، والأساس أعظم شأناً فى ترتيب الباطن ورموزه من الناطق فى المعقولات والبيان.
فلما ظهر التوحيد زالت قدوتهما جميعاً وسميت راشدة، لأن بمعرفته الحجة وهدايته والأخد منه يرشد المستجيبون، ثم –إن علينا سلامه ورحمته- يدور حول هذا المسجد الوسطانى فى ظاهر الأمر دليل على التأييد لعبده.
__________
(1) ... وبالمناسبة فجل الفرق الباطنية تستخدم الألفاظ والرموز المبهمة وتقول بالتأويل، وأن للقرآن باطناً وظاهراً، وذلك للتستر والتمويه على الدهماء لتنفيذ مآربها، ومن بين هذه الفرق: القرامطة والنصيرية والفاطمية والصوفية والدروز – قيد البحث.(2/43)
وقدام المسجد عقبة صعبة الصعود لمن يسلكها، وليس إلى القرافة محجة إلا على هذه العقبة، دليل على البراءة من الأبالسة أصحاب الزخرف والناموس.
وأما ما يرونه من وقوفه فى الصوفية واستماعه لأغانيهم والنظر إلى رقصهم، فهو دليل على ما استعمل من الشريعة التى هى الزخرف واللهو واللعب وقد دنا هلاكهم.
وأما لعب الركابية بالعصى والمقارع قدام مولانا –جل ذكره- فهو دليل على مكاسرة أهل الشرك والعامة وتشويههم بين العالم، وإظهار أديانهم المغاشم ويكشف زيفهم.
أما الصراع فهو دليل على مفاتحة الدعاة بعضهم لبعض، وقد كان للعالم فى قتل السويد والحمام عبرة لمن اعتبر، لأنهما كانا رئيسين فى الصراع، ولكل واحد منهما عشيرة تحميه وأتباع.، وهما دليلان على الناطق والأساس، وقتلهما دليل على تعطيل الشريعتين، التنزيل والتأويل والهوان بالطائفتين من أهل الكفر والتلحيد.
وأما ما ذكره الركابية من ذكر الفروج والأحاليل، فهما دليلان على الناطق والأساس، وقوله: أرنى قمرك، يعنى: اكشف عن أساسك. وهو موضع يخرج منه القذر دليل على الشرك، فإذا كشف عن أساسه وأخرج قبله –أى عبادة أساسه- نجا من العذاب والزيغ فى اعتقاده، ومن شك هلك … الخ(1).
وهكذا بعد أن وقفت أيها القارئ الكريم على ما جاء فى هذه الرسالة الخطيرة، والتى هى إحدى الرسائل التى تتضمنها الكتب المقدسة للدروز، الذين اتخذوا الحاكم معبودهم، وقد أثبت نصها كاملاً لأهميتها، ولكى يطلع عليها أبناء الأمة لما احتوت من شرك وضلال وفساد للعقول والأذهان.
أقول بعد هذا كله: الحذر الحذر من كيد المبطلين. وليس لنا أن نعلق على هذه الرسالة بل نترك التعليق للقراء، لأن نصوصها لا تخفى على اللبيب وتغنى عن كل تعليق.
__________
(1) ... كتاب طائفة الدروز: ص45 – 50.(2/44)
وأما ما ذكره المؤرخون فى كتبهم عن سلوك الحاكم فلم يكن من خيال، أو أنها وضعت للسخرية بالحاكم، إنما هى أفعال اعترف بها داعيته ونبيه، وأثبتها فى الكتب المقدسة التى يدين بها من اعتقدوا ألوهية الحاكم، فنحن إذن مضطرون إلى أن نصدق المؤرخين فى معظم تلك القصص التى أوردوها عن الحاكم ولا سبيل إلى إنكارها.
لاهوت المعبود وناسوته:
لعل أهم عقيدة نراها فى كتب ورسائل حمزة بن على أن للحاكم –بأمر الله- حقيقة لاهوتية لا تدرك بالحواس ولا بالأوهام، ولا تعرف بالرأى ولا بالقياس، ومهما حاول الإنسان أن يفكر فيه لمعرفة كنهه، فهو يحاول محاولة فاشلة، لأن لاهوته ليس له مكان، ولكن لا يخلو منه مكان، وليس بظاهر، كما أنه ليس بباطن.
ولا يوجد اسم من الأسماء يمكن أن يطلق عليه، لأنه لا يدخل تحت الأسماء، إذ لا يتصف بصفات ولا يمكن التعبير عنه بلغة من اللغات، فهو ليس مجسم ولا بشخص وليس بشبح وليس بصورة، فلا يقال عنه أنه جوهر أو يقال أنه عرض.
ولا أقول أنه شىء فيكون محمولاً عليه، ولا هو فى شىء فيكون محاطاً به، ولا متعلق بشىء فيكون قد التجأ إليه.
فالمعبود على هذا النحو ليس له أحد، وهو واحد لا يشبه الكائنات فى شىء، ولم يتخذ صاحبة ولا ولداً –ولم يلد ولم يولد- لا تنسب إليه حركة ولا راحة، وهو البداية والنهاية. فإذا تحدث عنه محدث ووصفه بصفة ما، فإنما يقول ذلك ضرورة وتقريباً للعقول والأفهام، لعجز المتحدث عن الوصول إلى حقيقة المعبود.
فإذا قال مثلاً: أنه تعالى بارئ كل شىء، ومكون كل شىء، وأنه معل علة العلل القديم الأزل. فلا يقال ذلك عن حقيقة المعبود، لأن حقيقة المعبود نعجز عن الوصول إليها.
وهكذا جرى ذكر التوحيد فى كتب الدروز المقدسة. وحديثهم عن لاهوتية المعبود يتفق تمام الاتفاق مع ما ورد فى كتب الدعوة الفاطمية عن الله سبحانه وتعالى.(2/45)
إن الإمام الفاطمى المعروف بالحاكم بأمر الله هو عند الدروز بشر فى الأعين المجردة، ويعيش بين الناس كما يعيش غيره من البشر، ذلك عند الذين لا يعرفون حقيقته، أما الدروز الذين عرفوا حقيقته فيذهبون إلى أن الإله المعبود اتخذ لنفسه صورة إنسية سماها الناس الحاكم بأمر الله –مثل ما يتخذ الإنسان ثيابه فيرتديها ثم يطرحها ويرتدى غيرها.
والثياب ليست من جنس من يرتديها ولا تشبهه فى شىء، وكذلك الإله المعبود ليس من جنس الصورة التى اتخذها ولا هى شبيهة به، وهو فى هذه الصورة الناسوتية المتغيرة، ففى كل عصر ظهر فيه اتخذ صورة ناسوتية عن الأخرى.
وفى رسالة السيرة المستقيمة حديث طويل من الأدوار التى أظهر فيها المعبود ناسوته، لأن المعبود إن لم يظهر ناسوته من حين لآخر لكان الناس يعبدون العدم، وقد ظهر المعبود فى صورة بشرية عشر مرات، وكان أول مرة ظهر فيها ناسوت المعبود ببلاد الهند فى بلد يقال لها (تشماتش).
وظهر مرة فى مدينة أصفهان بفارس فى صورة (ألبا)، ولذلك يقول الفرس: (بارخُداى) يعنى الله. وظهر مرة ثانية فى اليمن بصورة شخص يعرف بالموئل، وكان إنساناً ثرياً يمتلك أكثر من ألف جمل، ولأول مرة يظهر فى صورة ملك عندما ظهر فى شخصية القائم بأمر الله الفاطمى، ثم ظهر فى شخصية أبى بكر زكريا القرمطى، ثم المنصور بالله ثم المعز لدين الله ثم العزيز بالله ثم الحاكم بأمر الله.
وليس لنا أن نناقش هذه العقيدة، إلا أننا نحب أن نسجل أن ظهور أبى بكر القرمطى كان أسبق من ظهور القائم بأمر الله، ثم قولهم: إن القائم كان بمصر وبنى بها باباً يسمى الرشيدية … كل ذلك بعيد عن الحقيقة التاريخية، حقيقة حاول القائم بأمر الله فتح مصر أكثر من مرة ولكنه لم يوفق، فكيف أقام بها وشيد بها باباً؟!(1).
بعض معتقدات الدروز:
__________
(1) ... راجع طائفة الدروز: ص104 – 107.(2/46)
إن شريعة الدروز تتلخص فى إسقاط الفرائض الدينية التكليفية، وعدم إقامة الفرائض الدينية الإسلامية، والاعتراف بالخصال التوحيدية، فمن اعترف بها فهو من الموحدين وهم فى ذلك يتفقون إلى حد كبير مع المبادئ التى نادى بها الحسن الثانى بن محمد زعيم الإسماعيلية الشرقية فى آلموت سنة 558هـ، الذى طلب من أتباعه طرح جميع التكاليف الدينية، ولا يزال الإسماعيلية الأغاخانية على هذه العقيدة إلى اليوم. تبا لهم على ضلالهم.
غير أن الدروز يصومون فى أيام خاصة، وهى التسعة أيام الأولى من شهر ذى الحجة، وصيامهم هو نفس التقليد الإسلامى فى الصيام، أى الامتناع عن الأكل والشرب وعن القيام بأى عمل يبطل صيام المسلم، ويحتفلون بعيد الأضحى، الذى هو عيدهم الأكبر، ومنهم المتعبدون الذين يجاهدون النفس فنراهم يصومون عدة أشهر متوالية، على نحو ما يقوم به بعض السادو فى الهند، فالسادو يجاهد نفسه جهاداً عنيفاً بأن يأتى من الأعمال ما فيه تعذيب الجسد فى سبيل تطهير النفس ونقائها(1).
ويذكر لنا الأستاذ محمد كامل حسين فى كتابه(2) ما شاهده فى معبد بمدينة بومباى بالهند أن سادو يقف على رجله اليسرى وقد رفع رجله اليمنى، ويقول الدكتور محمد كامل حسين بأنه قيل له أن هذا السادو يظل هكذا مدة أربعة أشهر دون أن يستريح، فهو يأكل وينام وهو على هذه المثابة(3). وهكذا يظهر لنا أن الدروز فى تعبداتهم يلتقون مع المجوس والوثنية.
ومن الدروز من أقلع عن الزواج إمعاناً فى تصوفه، ومنهم من لا يأكل لحماً طوال حياته على نحو ما يفعله براهمة الهند، بل هؤلاء لا يذوقون شيئاً من بيت أحد من غير العقال مثل البراهمة تماماً.
__________
(1) ... المصدر السابق: ص123.
(2) ... طائفة الدروز: ص123.
(3) ... نفس المصدر: ص122 وما بعدها.(2/47)
واختلفت الرسائل المقدسة فى مكان ظهور المعبود يوم القيامة، فبعضها وخاصة كتابات حمزة بن على –تذهب إلى أن ظهوره سيكون فى مصر. أما رسالة الأسرار ففيها تصريح بأن المعبود سيكون فى بلاد الصين، يخرج من سد الصين العظيم وحوله شعب يأجوج ومأجوج، وهم قوم يؤمنون بمذهب التوحيد ويدخلون مكة، ويتجلى المعبود لهم فى صورة الحاكم بأمر الله من الركن اليمانى، وفى يده السيف فيقدمه إلى حمزة الذى يهدد بسيف الحاكم مخالفى العقيدة ويعطى الحكم للموحدين.
وينقسم الناس يوم البعث إلى أربع فرق، فرقة ناجية، وهى فرقة الموحدين وسيكون لهم السلطان ومنهم الوزراء والحكام، وثلاث فرق هالكة، هم أهل الظاهر وأهل الباطن والمرتدون، وأصحاب هذه الفرق الثلاث سيكونون عبيداً للموحدين ... أما العذاب والجزاء فيفهم من كتابات حمزة أن العذاب الواقع بالإنسان نقلته من درجة عالية إلى درجة دونها من درجات الدين، و قلة معيشته وعمى قلبه فى دينه ودنياه، ويستمر تنقله من جسد إلى جسد بتناسخ روحه فى الأجساد، وهو كلما تنتقل روحه من جسد إلى جسد تقل منزلته الدينية، أما الجزاء فى الثواب مادام يتكرر فى الأجساد، فهو زيادة درجته فى العلوم الدينية وارتفاعه من درجة إلى درجة إلى أن يبلغ إلى درجة حد (المكاسر) وهو حد من حدود الدين.
وهكذا نلاحظ أن العقيدة الدرزية فى اليوم الآخر وفى الثواب والعقاب كما فى قول حمزة وبهاء الدين – هو نفس ما جاء فى كتب تأويل العقيدة الفاطمية. ومن أراد البسط والتوسع فعليه بمطالعة العقيدة الفاطمية ففيها شفاءُ العليل.(2/48)
ويذكر الأستاذ محمد عبد الله عنان فى كتابه(1): أن الحاكم بأمر الله زعم فى آخر عهده أن الروح القدس ماثلة فى شخصه، وادعى الألوهية، وكان واضع أصول هذه الدعوة الجديدة –وهى دعوة إلحادية- ورأسها هو حمزة بن على، وكان قد وفد على القاهرة قبل ذلك بقليل ودعا إلى ألوهية الحاكم فى القاهرة، ووضع لدينه الجديد أصولاً ورسائل، وتوثقت صلاته بالحاكم والدعاة السريين، ولكن دعوته الألحادية لم تلق فى مصر إقبالاً، وقل دعاتها الكبار، ثم طوردوا فى كل مكان وهربوا، وأخيراً قتل الحاكم فى مؤامرة دبرتها أخته –ست الملك- وأخفيت جثته فازداد أتباعه فتنة، وزعموا أنه لم يمت بل رفع إلى السماء.
وصار ذلك مذهب دروز الشام الذين حملهم إسماعيل الدرزى على اتباع تعاليمه، وخرجوا فى صوغ مذهبهم عن تعاليم عبد الله بن ميمون الأصلية، فهم دهرية يقولون بالحلول، وأن الله –حكمة عامة- تمثل فى آلهة عدة، وأن الحاكم بأمر الله آخر هؤلاء الآلية، وأنه سوف يعود إلى الظهور حيثما يصل الظلم فى العالم غايته، فينفتح العالم ويقضى على جميع الأديان الأخرى.
ويستطرد الأستاذ عبد الله عنان قائلاً: ويتبع الدروز خطة الإسماعيلية فى نشر دعوتهم بين أبناء الأديان الأخرى، فيتظاهرون أمام المسلمين بأنهم يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وأمام النصارى بأنهم يؤمنون بالمسيح، ويبررون هذا المسلك بأنه واجب ألا تكشف أسرار مذهبهم إلى أسود أو كافر. ومن عاداتهم أنهم يجتمعون نساءً ورجالاً ليتحدثوا فى الشئون السياسية والدينية، بيد أنه لا يجوز لعاقل أن يشترك فى تقرير الأمور. وتشبه رموزهم وإشاراتهم فى التعارف رموز البناء الحر الماهر عند الماسونية. أهـ.
__________
(1) ... تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة.(2/49)
ونختم الحديث عن الدروز بما ذكره الإمام ابن قيم الجوزية –علامة زمانه- فى كتابه القيم(1)، بعد أن تحدث عن المجوس وفرقهم وأديانهم، حتى قال: … ومنهم الخرمية –أصحاب بابك الخرمى- وهم شر طوائفهم، لا يقرون بصانع ولا معاد ولا نبوة ولا حلال ولا حرام، وعلى مذهبهم طوائف القرامطة والإسماعيلية والنصيرية والبشكية والدرزية والحاكمية وسائر العبيدية، الذين يسمون أنفسهم الفاطمية وهم أكفر الكفار.
فكل هؤلاء يجمعهم هذا المذهب ويتفاوتون فى التفصيل. ثم قال: فالمجوس شيوخ هؤلاء كلهم وأئمتهم وقدوتهم، وإن كان المجوس قد يتقيدون بأصل دينهم وشرائعهم، وهؤلاء لا يتقيدون بدين من ديانات العالم ولا بشريعة من الشرائع. أ. هـ. هذه إلمامة سريعة عن الدروز ذكرتها لينتفع بها القراء.
النصيرية – العلوية:
اختلف أصحاب كتب الفرق فى ابن نصير مؤسس هذه الفرقة والتى اتفقوا بأنها تؤله علياً. وقال معتنقو هذه العقيدة: وإنما أثبتنا هذا الاختصاص –ظهور الروحانى بالجسد الجسدانى- بعلي دون غيره، لأنه كان مخصوصاً بتأييد من عند الله تعالى، مما يتعلق بباطن الأسرار(2).
وقالت النصيرية أيضاً: كان هو(3) موجوداً قبل خلق السموات والأرض(4).
__________
(1) ... إغاثة اللهفان: ج2 الصفحات 243، 244، 245.
(2) ... راجع الملل والنحل: ج1 ص317.
(3) ... يقصدون بذلك الإمام على رضى الله عنه.
(4) ... الصلة بين التصوف والتشيع للدكتور كامل مصطفى الشيبى.(2/50)
وتقيم النصيرية بجبال اللاذقية بسوريا، وغيرها من مناطق الفرات، وعدد أفرادها الآن (356) ألف نسمة. وهى تتبع محمد بن نصير، من أتباع الحسن العسكرى، الإمام الحادى عشر، ثم انفصل عنه وادعى الألوهية(1) – قاتله الله. فالنصيرية فرقة من الإمامية ينتسبون إلى محمد بن نصير –من موالى بنى نمير- وهو من أتباع الإمام الحادى عشر. وهؤلاء يعتبرون عقيدتهم سراً من الأسرار. فلا تلقن للنساء ولا للرجال حتى يبلغوا العام التاسع عشر. وكانت تعاليمهم محوطة بالسرية التامة(2).
أهم معتقداتهم وآرائهم:
ويتلخص مذهب النصيرية ومعتقدهم فيما يلى:
يرفعون علياً إلى درجة الألوهية، ويجعلون مسكنه السحاب، فإذا مرت بهم سحابة قالوا: السلام عليك يا أبا الحسن.
يدعون الألوهية للأئمة من بعد على، وبذلك يقولون بتعدد الآلهة. وقد أخذ البابية والبهائية بهذا المبدأ فى تخبطاتهم، فقد زعم كل من الباب والبهاء وابنه عباس أنه إله، قاتلهم الله أنى يأفكون.
يقولون بتناسخ الأرواح، فالتى تطهر منها تحل بالنجوم، والشريرة تحل بالحيوانات النجسة.
يكفرون أبا بكر وعمر ولا يستعملون اسميهما.
يحتفلون بالأعياد المسيحية، ولا يصومون رمضان، ومن هنا أخذ الباب –زعيم الطائفة البابية الضالة- فكرة مزج الأديان بعضها ببعض وتغيير وقت الصوم وأيامه.
الصلوات الخمس رمز لعلى وابنيه وفاطمة. وذكر هذه الأسماء يرفع الجنابة ويزيل الحدث ويكفى عن الصلاة. وكذا قال البابيون والبهائيون: إن ذكر بعض الأسماء يرفع الحدثين.
يعتبرون الجنة رمزاً للنعيم والنار رمزاً للعذاب، كما فعل الإسماعيليون. وبذلك أخذ البابية والبهائية.
__________
(1) ... بتصرف عن كتاب الفكر الإسلامى فى تطوره: ص58. للدكتور محمد البهى.
(2) ... البابية والبهائية فى الميزان بتصرف.(2/51)
يبيحون الخمر، ويرون أكبر الأبالسة أبا بكر وعمر وعثمان رضى الله عنهم وقبح الله البصريين بما قالوا وهم بذلك كفار يجب قتالهم كما أفتى بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- ومثلهم من على شاكلتهم(1).
ويقولون بالأول: وهو روح الله على بن أبى طالب.
وبالثانى: وهو المظهر الخارجى لهذه الروح، محمد بن عبد الله.
وبالثالث: ناشر الشريعة، هو سلمان الفارسى الصحابى الزاهد. على أن ثلاثتهم فى العالم الأزلى الأبدى الكامل. والنصيرية فرقة من فرق الشيعة الغلاة التى تنتسب إلى الإسماعيلية(2).
سئل شيخ الإسلام وناصر السنة –إمام الزاهدين ومنار المجاهدين المجتهد الربانى –تقى الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (661 – 728هـ) رحمه الله رحمة واسعة، سئل عن النصيرية وما يتعلق بهم ومعتقداتهم، بمقتضى سؤال حرره الشيخ الإمام العالم شهاب الدين أحمد بن محمد بن محمود بن مرى الشافعى، عفا الله عنه وعن أئمة المسلمين.
وإلى القارئ الكريم صورة موجزة لكتاب السائل المذكور أعلاه عن طائفة النصيرية المنحرفة، وجاء فيه ما يلى:
__________
(1) ... البابية والبهائية فى الميزان بتصرف. للأستاذ مصطفى الطير.
(2) ... راجع كتاب الفكر الإٍسلامى فى تطوره: ص58. للدكتور محمد البهى.(2/52)
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين –رضى الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحق المبين وإخماد شغب المبطلين- فى النصيرية القائلين باستحلال الخمر، وتناسخ الأرواح، وقدم العالم، وإنكار البعث والنشور والجنة والنار فى غير الحياة الدنيا، وبأن الصلوات عبارة عن خمسة أسماء، وهى على وحسن وحسين ومحسن وفاطمة، فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقية شروط الصلوات وواجباتها، وبأن الصيام عندهم عبارة عن اسم ثلاثين رجلاً واسم ثلاثين امرأة يعدونهم فى كتبهم، وبأن إلاههم الذى خلق السموات والأرض هو على بن أبى طالب رضى الله عنه، فهو عندهم الإمام فى السماء والإمام فى الأرض، فكانت الحكمة فى ظهور اللاهوت بهذا الناسوت –على رأيهم- أن يؤنس خلقه وعبيده ليعلمهم كيف يعبدونه ويعرفونه، وبأن النصيرى عندهم لا يصير نصيرياً يجالسونه ويشربون معه الخمر، ويطلعونه على أسرارهم ويزجونه من نسائهم حتى يخاطبه معلمه. ويقولون أن إبليس الأبالسة هو عمر بن الخطاب رضى الله عنه، ويليه فى رتبة الإبليسية أبو بكر رضى الله عنه ثم عثمان رضى الله عنهم أجمعين، إلى أن يقول السائل: فهل يجوز لمسلم أن يزوجهم أو يتزوج منهم.. وهل يحل أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم؟. وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا؟. وهل يجوز استخدامهم فى ثغور المسلمين وتسليمها إليهم؟. وهل يجب على من عرف المذكور من مذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم؟.
ويختم السؤال بقوله: ولتبسطوا القول فى ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى، إنه على كل شىء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل(1).
وفيما يلى جواب –فتوى- شيخ الإسلام على سؤال المستفتى عن النصيرية.
جواب ابن تيمية عن النصيرية – العلويين:
__________
(1) ... راجع رسالة النصيرية لشيخ الإسلام ابن تيمية.(2/53)
قال شيخ الإسلام رحمه الله: هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية، أكفر من اليهود والنصارى، وأكفر من كثير من المشركين. وضررهم على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم من ضرر الكفار المحاربين، مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم.
فإن هؤلاء يتظاهرون عند جهال المسلمين بالتشيع وموالاة أهل البيت، وهم فى الحقيقة لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا بكتابه، ولا بأمر ولا نهى ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار، ولا بأحد من المرسلين قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا بملة من الملل السالفة، بل يأخذون كلام الله ورسوله، المعروف عند علماء المسلمين، يتأولونه على أمور يفترونها، يدعون أنها علم الباطن – من جنس ما ذكره السائل.
فإنهم ليس لهم حد محدود فيما يدعونه من الإلحاد فى أسماء الله تعالى، وتحريف كلام الله تعالى ورسوله عن مواضعه، إذ مقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام بكل طريق، مع التظاهر بأن لهذه الأمور حقائق يعرفونها –من جنس ما ذكر السائل- ومن جنس قولهم: أن الصلوات الخمس معرفة أسرارهم، والصيام المفروض كتمان أسرارهم، وحج البيت العتيق زيارة شيوخهم، وأن (يدا أبى لهب) هما أبو بكر وعمر. وأن النبأ العظيم والإمام المبين هو على بن أبى طالب.
ولهم فى معاداة الإسلام وأهله وقائع مشهورة وكتب مصنفة، فإذا كانت لهم مكنة سفكوا دماء المسلمين، كما قتلوا مرة الحجاج وألقوهم فى بئر زمزم، وأخذوا مرة الحجر الأسود، وبقى عندهم مدة، وقتلوا من علماء المسلمين ومشايخهم ما لا يحصى عدده إلا الله تعالى، وصنفوا كتباً كثيرة مما ذكره السائل وغيره.
وصنف علماء المسلمين كتباً فى كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وبينوا فيها ما هم عليه من الكفر والزندقة والإلحاد، الذى هم به أكفر من اليهود والنصارى، ومن براهمة الهند الذين يعبدون الأصنام.(2/54)
النصيرية: هم السبب فى احتلال النصارى والتتر لبلاد الشام -المعلوم لدينا أن السواحل الشامية التى استولى عليها النصارى من جهتهم- وهم دائماً مع كل عدو للمسلمين، فهم مع النصارى على المسلمين، ومن أعظم المصائب عندهم انتصار المسلمين على التتار، ومن أعظم الأعياد عندهم إذا استولى النصارى على ثغور المسلمين والعياذ بالله.
النصيرية: هم السبب فى سقوط القدس فى أيدى الصليبيين، كذلك هم السبب فى سقوط خلافة العباسيين. هؤلاء المحادون لله ولرسوله. كثروا بالسواحل وغيرها فاستولى النصارى على الساحل، ثم بسببهم استولوا على القدس الشريف، فأحوالهم من أعظم الأسباب فى ذلك.
لما أقام الله ملوك المسلمين المجاهدين، كنور الدين الشهيد وصلاح الدين وأتباعهما، وفتحوا السواحل من النصارى، ممن كان بها منهم، وفتحوا أيضا أرض مصر- فإنهم كانوا مستولين عليها نحو 200 سنة- واتفقوا هم والنصارى، فجاهدهم المسلمون حتى فتحوا البلاد، ومن ذلك التاريخ انتشرت دعوة الإسلام بالديار المصرية والشامية، ثم إن دخول التتار بلاد الإسلام وقتلهم خليفة بغداد وغيره من ملوك المسلمين، لم يتم إلا بمعاونتهم ومؤازرتهم … منجم فإن هولاكو الذى كان وزيرهم وهو النصير الطوسى –كان وزيراً لهم- وهو الذى أمر بقتل الخليفة وبولاية هؤلاء.(2/55)
النصيرية: لهم عدة أسماء وألقاب عند المسلمين، تارة يسمون الملاحدة، وتارة القرامطة، وتارة الباطنية، وتارة الإسماعيلية، وتارة الخرمية، وتارة المحمرة، ظاهر مذهبهم الرفض وباطنهم الكفر المحض، وهم كما قال العلماء فيهم … وحقيقة أمرهم أنهم لا يؤمنون بنبى من الأنبياء والمرسلين، لا بنوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد عليهم السلام، ولا بالكتب ولا بالخالق ولا دار ثواب ولا عقاب. وتارة يأخذون بالفلسفة والرفض، وتارة يبنون قولهم على مذاهب الفلاسفة الطبيعيين والإلاهيين!. ويحرفون الأقوال والحديث، وأعمالهم هذه كعمل إخوان الصفا فى رسائلهم، وقد دخل باطلهم على كثير من المسلمين وراج عليهم حتى صار ذلك فى كتب طوائف المنتسبين إلى العلم والدين، وإن كانوا لا يوافقونهم على أصول الدعوة الهادية، وهى درجات متعددة. ويسمون النهاية البلاغ الأكبر والناموس الأعظم.
لا تجوز مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم: وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء لا تؤكل ذبائحهم، ولا تجوز مناكحتهم ولا يجوز أن ينكح الرجل مولاته منهم، ولا يتزوج منهم امرأة. وعدم إباحة الذبائح. وأما الجبن المعمول بأنفحتهم ففيه قولان للعلماء مشهوران: كسائر أنفحة الميتة، وكأنفحة ذبيحة المجوس وذبيحة الفرنج، الذين يقال عنهم أنهم لا يذكون الذبائح.
مذهب أبى حنيفة ورواية لأحمد: يجوز أكل هذا الجبن، لأن أنفحة الميت طاهرة.
كذلك أوانيهم وملابسهم كأوانى المجوس وملابسهم عند العلماء والصحيح أنه لا يؤكل فى أوانيهم إلا بعد غسلها.(2/56)
لا يصلى على موتاهم ولا يدفنون فى مقابر المسلمين: لا يصلى على من مات منهم، فإن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة على المنافقين، كعبد الله بن أبى ونحوه، وكانوا يتظاهرون بالصلاة والزكاة والجهاد مع المسلمين، ولا يظهرون مقالة تخالف دين الإسلام ولكن يسرون ذلك فقال الله تعالى: { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون } (1).
فكيف بهؤلاء الذين هم مع الزندقة والنفاق يظهرون الكفر والإلحاد. أما استخدام هؤلاء فى ثغور المسلمين أو حصونهم أو جندهم فإنه من الكبائر، وهو بمنزلة من يستخدم الذئاب لرعاية الغنم، فإنهم من أغش الناس للمسلمين ولولاة أمورهم، وهم أحرص الناس على فساد المملكة والدولة، وهم شر من المُخامر الذى يكون فى العسكر، فإن المخامر قد يكون له غرض إما مع أمير العسكر وإما مع العدو، وهؤلاء مع الملة ونبيها ودينها وملوكها وعلمائها وعامتها وخاصتها وهم أحرص الناس على تسليم الحصون إلى عدو المسلمين وعلى إفساد الجند على ولى الأمر وإخراجهم عن طاعته.
ديارهم وأموالهم مباحة: لكن دماءهم وأموالهم مباحة، وإذا أظهروا التوبة ففى قبولها منهم نزاع بين العلماء: فمن قبل توبتهم إذا التزموا شريعة الإسلام، أقرهم على أموالهم، ومن لم يقبلها لم تنقل إلى ورثتهم من جنسهم، فإن مالهم يكون فيئاً لبيت مال المسلمين. لكن هؤلاء إذا أخذوا فإنهم يظهرون التوبة، لأن أصل مذهبهم التقية وكتمان أمرهم، وفيهم من يعرف وفيهم من قد لا يعرف، فالطريق فى ذلك أن يحتاط فى أمرهم.
__________
(1) ... سورة التوبة: 84.(2/57)
لا يتركون يجتمعون ولا يمكنون من حمل السلاح: ويلزمون شرائع الإسلام من الصلوات الخمس وقراءة القرآن، ويترك بينهم من يعلمهم دين الإسلام، ويحال بينهم وبين معلمهم، فإن أبا بكر الصديق وسائر الصحابة –رضوان الله عليهم- لما ظهروا على أهل الردة وجاؤوا إليه قال لهم الصديق: اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية. فقالوا: يا خليفة رسول الله. هذه الحرب المجلية قد عرفناها، فما السلم المخزية؟. قال: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم. وتشهدون أن قتلانا فى الجنة وأن قتلاكم فى النار. ونقسم ما أصبنا من أموالكم، وتردون ما أصبتم من أموالنا. وتنزع منكم الحلقة والسلاح وتمنعون من ركوب الخيل ... حتى يُرِىَ الله الخليفة والمؤمنين أمراً بعد ردتكم. فوافقه الصحابة على ذلك إلا تضمين قتلى المسلمين، قال عمر: أجرهم على الله.
يقاتل النصيرية قتال المرتدين، وإقامة الحدود عليهم من أعظم الطاعات: لا ريب أن جهاد هؤلاء من أعظم الطاعات وأكبر الواجبات، وهو أفضل من جهاد من لا يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء من جنس جهاد المرتدين، والصديق وسائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، فإن جهاد هؤلاء حفظ لما فتح من بلاد المسلمين، كذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر أولئك الكفار.
بل ضرر هؤلاء من جنس ضرر من يقاتل المسلمين من المشركين وأهل الكتاب، وضررهم فى الدين على كثير من الناس أشد من ضرر المحاربين من المشركين وأهل الكتاب.(2/58)
يجب على كل مسلم أن يفشى أخبارهم: يجب على كل مسلم أن يقوم بذلك بقدر قدرته، فلا يحل لأحد يكتم ما يعرفه من أخبارهم بل يفشيها ويظهرها ليعرف المسلمون حقيقة حالهم، ولا يحل لأحد أن ينهى عن القيام بما أمر الله به ورسوله، فإن هذا من أعظم أبواب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد فى سبيل الله تعالى، وقد قال تعالى لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: { يا أيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } (1).
والمعاون على كف شرهم وهدايتم –بحسب الإمكان- له من الأجر والثواب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، فإن المقصود بالقصد الأول هو هدايتهم كما قال تعالى: { كنتم خير أمة أُخرجت للناس… } (2). قال أبو هريرة: كنتم خير الناس للناس، تأتون بهم فى القيود والسلاسل حتى تدخلوهم الإسلام، فالمقصود بالجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: هداية العباد لمصالح المعاش والمعاد –بحسب الإمكان- فمن هداه الله منهم سعد فى الدنيا والآخرة، ومن لم يهتد كف الله ضرره عن غيره.
وهناك أحاديث كثيرة تبين درجات وأهمية الجهاد وبركاته وعظمته(3).وفى الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إن فى الجنة مائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، أعدها لله عز وجل للمجاهدين فى سبيله). أهـ
__________
(1) ... سورة التحريم: 9.
(2) ... سورة آل عمران: 110.
(3) ... كُتبت هذه الرسالة فى القرن الثامن الهجرى عن النصيرية، وقد أجاب على سؤال طويل بخصوصهم شيخ الإسٍلام ابن تيمية، الذى فضح أسرارهم وكشف باطلهم وأظهر إلحادهم وكفرهم كما حاربهم بالسيف وشتتهم، رحم الله الإمام المجاهد والعلامة الزاهد وأسكنه فسيح جناته، فقد أدى للإسلام ما عليه من الواجب، ونال الشرف والخلود وكرامة الدارين، فأنعم به من مجاهد.(2/59)
وبعد: ففيما قدمناه عن طائفة العلويين –النصيرية- وما سبق بيانه من فتوى الإمام ابن تيمية –رحمه الله- المتقدمة بصددهم، لكاف وخير دليل على معرفة عقائد القوم. وقد كفانا شيخ الإسلام مؤونة البحث، فكشف بثاقب بصره وسعة اطلاعه وخبرته بمذاهب النصيرية عن فساد طوياتهم وقد عرض –رحمه الله- ذلك عرضاً جميلاً، وكان رده رداً قوياً يقنع كل من طلب معرفة الحق ورغب فيه(1).
طائفة البهرة:
ليس غرضنا هنا استقصاء كل ما يتعلق بهذه الطائفة، وإنما حسبنا أن نشير إلى أهم معتقداتها. فعلى الرغم من قلة المراجع والمصادر المتعلقة بالبهرة إلا أننى حاولت جهدى الحصول على معلومات شافية عن هذه الطائفة –الفرقة- لأجلى خفاياها وأكشف القناع عن عقائدها وأسرارها التى تجهلها غالبية عظمى من أبناء المسلمين.
إن هذه الطائفة منتشرة فى ديار العرب والإسلام، كاليمن والعراق، والجزيرة العربية والباكستانية والهند وإيران وغيرها.
وحتى لا يفتن بها المسلمون فقد رأيت أن أقدم هذه المعلومات –التى أرجو أن تكون كافية لإبراز معالم هذه الطائفة وبيان حقيقتها- ليتسنى للمسلمين الاطلاع على خفاياها ومبادئها الملتوية، وعلى ضوء هذا يعرف كيف يتعامل المسلمون مع منتسبى هذه الطائفة الزائغة، التى جعلت الإسلام هدفاً يرمى ومطعناً للطاعنين، بعد أن اتخذته تكئة ووسيلة لتنفيذ مآربها وتحقيق أغراضها الشريرة.
فالبهرة هى إسماعيلية الهند واليمن، وهم ينتسبون إلى الإسماعيلية المستعلية، التى كان يتبعها اليمنيون فى عهد الصليحيين، ويسمون الطيبة نسبة إلى الطيب بن الخليفة المستعلى.
__________
(1) ... وبالمناسبة فإنا نحمد الله الذى يقيض لدينه فى كل زمان ومكان من يرد عنه كيد الكائدين، ويكشف زيف المبطلين المضللين. اللهم بسيفك القاطع اقصم رقاب الضالين والمبتدعين وأهلكهم أجمعين فإنهم لا يعجزونك، وقنا شرهم يا رب العالمين.(2/60)
وانقسمت دعوة البهرة إلى فرقتين، البهرة الداودية والبهرة السليمانية والأولى بالنسبة إلى الداعى قطب شاه داود، والثانية بالنسبة إلى الداعى سليمان بن حسن.
فأما البهرة الداودية فمركزهم فى الهند –الهند وباكستان الآن- منذ القرن العاشر الهجرى، وداعيهم يقيم فى بومباى. أما البهرة السليمانية فمركزهم فى اليمن حتى اليوم(1).
فالبهرة يختلفون عن الآغاخانية اختلافاً كلياً فى العقيدة والسلوك والتطبيق، حيث إنهم ينتسبون للفاطميين الذين أقاموا دولتهم فى شمال أفريقيا- ومنهم المعز لدين الله الفاطمى الذى فتح مصر وبنى الأزهر – ورئيس طائفة البهرة يلقب بداعى الدعاة وبالسلطان، لما له من سلطة روحية لها أثرها العميق فى نفوس أتباعه، حيث إنهم يستجيبون لكل ما يدعوهم إليه بمحبة واقتناع. وهذه الطائفة تعدادها مليون ونصف نسمة، معظمهم فى الهند(2).
بعض معتقدات البهرة:
إن أفراد الطائفة يحترمون القرآن الكريم ظاهرياً، ويؤولون آياته الكريمة ليستخرجوا منها معانى ما أنزل الله بها من سلطان. ولهم كتاب آخر يحظى بتقديسهم جميعاً هو كتاب النصيحة –لمؤلفه الداعى الحادى والخمسين طاهر سيف الدين- ويعتبرونه قرآنهم.
__________
(1) ... إسلام بلا مذاهب: ص239 – 240.
(2) ... مجلة هدى الإسلام: عمان.(2/61)
كما أنهم يتوجهون فى صلاتهم إلى قبره –فى مدينة بومباى فى الهند، ويطلقون عليه اسم: روضة الطاهرة- لا إلى الكعبة المشرفة(1)، وتجب عليهم الصلاة فى العشرة أيام الأولى من شهر محرم. وفى غيرها لا تجب عليهم الصلاة. ولا يصلون إلا فى مكان خاص بهم يسمى: الجامع خانة. وإذا لم يذهب الشخص منهم إلى الجامع خانة فى العشرة أيام الأولى من شهر محرم يطرد من الطائفة ويفرض عليه الحرمان.
ولهم فى الكويت جامع خانه فى شارع الاستقلال(2)، ولكنهم يقولون أن صلاتهم تلك للإمام الاسماعيلي المستور من نسل الطيب ابن الآمر. وهم يذهبون إلى مكة للحج كبقية المسلمين –ظاهرياً- ويقولون أن الكعبة هى رمز على الإمام(3).
حياة البهرة الاجتماعية:
يبلغ دخل الداعى –رئيس الطائفة- 120 مليون روبية هندية سنوياً. ويتقاضى كل فرد من أفراد عائلته –العائلة المالكة- ثمانية آلاف روبية شهرياً، بالإضافة إلى السيارات والمساكن الحديثة المكيفة. ويتم جمع هذه المبالغ الضخمة بالوسائل التالية: تسن الحكومة البهرية ضرائب إجبارية على أفراد الطائفة، فى حين تدعى أنها تطوعية، وقد اشترى الداعى عدة فنادق من هذه الضرائب التى يفرضها على أفراد طائفته، واشترى أيضاً مشروع المياه الغازية –الكوكاكولا- فى مدينة بومباى فى الهند.
__________
(1) ... إن شأن هذه الطائفة كشأن الفرقة البهائية الضالة، التى يتوجه أتباعها فى صلاتهم الفاسدة إلى قبر شيطانهم المسمى بهاء الله –فى مدينة عكا إحدى مدن فلسطين الشهيرة- التى أصبحت مزرعة للغزاة الصهاينة، الذين يقدمون التأييد والدعم للبهائية المرتدة وأمثالها، لتساهم فى دور التخريب والتشويه فى معاقل الإسلام.
(2) ... مجلة المجتمع الكويتية: عدد 417 سنة 1398هـ.
(3) ... إسلام بلا مذاهب: ص240 د. مصطفى الشكعة.(2/62)
وعندما تقوم العائلة الحاكمة بإنجاز أى مشروع فالتبرعات تصبح واجبة على أفراد الطائفة، وعندما اشترت العائلة فندقاً –سندزهاوس- فى بومبى فرض الداعى على كل فرد من أتباعه كافة أن يدفع 10 روبيات لتغطية النفقات.
ومن جهة ثانية فإن الداعى يتاجر مع أفراد عائلته بالذهب، الذى يهربونه من أفريقيا وسيلان حيث استطاعوا تهريب ملايين المجوهرات والأحجار الكريمة.
وعندما تحمل الأم بابنها عليها أن تدفع، وكذلك إذا مات فعليها أن تدفع الضريبة المقررة، والذى يريد أن يحوز رضى الداعى عليه أن يدفع الكثير حتى كلمة: بسم الله الرحمن الرحيم من الداعى تكلفهم ما بين 5000 – 50.000 روبية، كل حسب طاقته! كل ألف روبية تساوى 35 ديناراً كويتياً.
ويجب على كل فرد من أفراد الطائفة أن يشترى تذكرة خاصة بصلاة العيد، يصدرها مكتب الداعى، وتختلف قيمتها فى الصف الأول عن الصف الآخر، فالتذكرة فى الصف الأول –خلف الملاجى الدكتور محمد برهان الدين- تكلفه ألف روبية، وثمانمائة فى الصف الثانى.
وكذلك جثة الميت منهم فإنها لا تدفن إلا بعد أن يدفع أقارب الميت ضريبة مقابل ذلك لمكتب الداعى، الذى يراقب كل شىء ليأخذ الضرائب عن كل شىء.
وبعد الدفع يصدر الداعى صك غفران –روكوشيتى- لذلك الميت، ويدفن معه فى القبر. والصكوك عندهم عدة أنواع، فأقارب المتوفى الذين يدفعون أكثر من خمسين ألف روبية، يحصلون على صك غفران –أو شقة من الدرجة الأولى فى الجنة(1)-!!
وكل شخص يريد السفر إلى أى مكان عليه أن يأخذ تصريحاً خاصاً من مكتب الداعى. وقبل سفره لابد أن يطوف بالروضة الطاهرة –قبر الحادى والخمسين طاهر سيف الدين والد الداعى الحالى.
__________
(1) ... إن طائفة البهرة ذات اقنعة ودعوات خبيثة، تخالف ماجاءت به باقى الملل والنحل، حتى أن المجوسية وغيرها من دعوات الوثنية لم تجرؤ على جرائمها وسخافاتها، وإن كانت تلتقى مع المدرسة الباطنية فى مقوماتها وضلالها.(2/63)
ويوجد فى الكويت حوالى ثمانية آلاف فرد من طائفة البهرة، وكل شخص من هؤلاء عليه أن يدفع مبلغ خمسة دنانير شهرياً لنائب الداعى، سواء كان يعمل أم لا. ولو تأخر شهراً واحداً عن الدفع، فإنه يطرد من الطائفة ويفرض عليه الحرمان. وعلى كل فرد عند رجوعه إلى بلده أن يذهب ليطوف بالروضة الطاهرة عدة مرات.
ومن العجيب أن الداعى الأكبر باع كثيراً من (مساجد الضرار) التى ارتفعت أثمان الأرض بجوارها، حتى المقابر لم تسلم من أذى الداعى، فقد باع مقبرة كبيرة فى بلدة –برهان يو- بأغلى الأثمان بعد أن قسمها إلى قسائم. ولكن أين تذهب كل هذه الأموال؟! أنه الداعى الذى يدخر قسماً كبيراً منها فى البنوك السويسرية، وينفق الآخر على ملذاته وشهواته ورجاله المقربين، فى حين أن أن أبناء طائفته بحاجة ماسة للمساعدة(1).
هذه لمحة موجزة للحالة الاجتماعية القاتمة التى يرزح تحت وطأتها مجتمع البهرة المسحوق، الذى لم يعد يحتمل كل هذا الحرمان والتلاعب الذى يعانى منه على أيدى الطبقة الحاكمة، تحت قيادة الداعى الأكبر –شيطانهم الرجيم- الذى نصب من نفسه الحاكم المطلق والمتصرف فى كافة شئون الطائفة، حتى أن الوالد لا يملك أن يسمى ابنه بما شاء من الأسماء، بل الداعى هو الذى يختار للمولود الاسم ليأخذ الضريبة مقابل ذلك.
ونتيجة للحالة المتردية التى يعانى منها أفراد هذه الفرقة الشاذة، فقد قامت موجات الاحتجاج تطالب بالإصلاح ضد الدكتاتورية التى يمارسها الداعى الحالى وزمرته ... وقد طالبت حركات الإصلاح بعدة مطالب أهمها(2):
ضبط وتدقيق أموال الداعى وصرفها فيما يعود بالخير على أفراد الطائفة المسحوقين.
عزل الطائفة الدكتاتورية الحاكمة، وانتخاب المؤهلين من أبناء الطائفة بدلاً منها لرعاية شئونهم(3).
__________
(1) ... مجلة الوعى الإسلامى: سنة 1398هـ.
(2) ... المصدر السابق.
(3) ... مجلة الوعى الإسلامى – الكويت.(2/64)
لعل من المفيد بعد هذا العرض الموجز عن طائفة البهرة أن أذكر القارئ بأن دعوات الإلحاد والانحراف – وخاصة المستترة منها بالأقنعة الكالحة، ومن بينها البهرة هذه – تنتمى إلى الدعوة الإسماعيلية وآل البيت زوراً وبهتاناً، كما أنها تستقى تعاليمها من المدرسة الباطنية، وتلتقى مع القرامطة والدرزية والبهائية فى مستنقع واحد … والذى يجب التنبيه عليه أن هذه الطائفة ومثيلاتها، التى تتستر بالإسلام وتحيي بعض الشعائر الدينية –ظاهرياً كما تزعم- وتقيم (مساجد الضرار) وينخدع بها المسلمون، ما هى فى حقيقتها إلى دعوة فساد وضلال.
هذه بعض أوهامهم وخرافات أئمة الكفر من دعاة هذه النحلة، ليأكلوا أموال الناس بالباطل. قاتلهم الله على كفرهم وضلالهم، الذى يمجه كل عاقل، بل هو عبث عقيم وضلال سقيم.
ولا أدرى كيف يقبل بهذه الترهات الفارغة أبناء هذه الطائفة الشاذة، مع أنهم يعرفون الكثير من تعاليم الإسلام التى تحارب هذه الخرافات والشعوذات، ولكنه العناد والإلحاد الذى تربوا عليه، ومع الأسف فلا يزالون يسبحون بحمد داعيهم ويتفنون فى تمجيده وتطبيق أوامره الشيطانية. ألا ساء ما يصنعون.
أقول: يجب على علماء الإسلام والمسلمين أن يكشفوا باطل هذه النحلة، وغيرها من المعاول الهدامة والدعوات الدخيلة، والوقوف فى وجه كافة المذاهب المنحرفة، وكشف زيفها وبيان أضرارها، وتخليص الإنسانية من رجسها وخرافاتها.
طائفة الآغاخانية:(2/65)
إذا كانت البهرة ترجع أصولها العقائدية إلى الإسماعيلية المستعلية –التى مر الحديث عنها- فإن الآغاخانية ترجع عقيدتها إلى الإسماعيلية النزارية، وقد ظهرت هذه الفرقة بنشاط فى إيران، وفى الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادى، حينما ظهر شخص جمع حوله عدداً من الإسماعيلية وغير الإسماعيلية، وهدد الأمن وقطع الطريق، وسطا على القوافل حتى ذاع صيته فى أنحاء إيران، وأصبح أسطورة على ألسنة الناس، وأعجب الإيرانيون ببطولاته، فانضموا إليها إعجاباً وطمعاً فى المكاسب المادية التى يحصلون عليها من طريقه…(1).
هذا الرجل اسمه حسن على شاه، وهو إسماعيلى وإن لم يشر إلى إسماعيليته حتى لا ينفض الناس من حوله، وكان للإنجليز مطمع فى إيران فى ذلك الوقت، فاستعملوه –حسن على شاه- فى قيادة ثورة يهدد بها الأمن حتى يجدوا –كما هى عادتهم- منفذاً يدخلون منه إلى فرض سلطانهم، ولكن حسن شاه فشل فى ثورته وقبض عليه، فسارع الإنجليز إلى التوسط له بالإفراج عنه، على أن ينفى من إيران كلها.
وذهب حسن علي إلى أفغانستان –كرغبة للإنجليز- ولكنه لم يستطع أن يقدم هناك شيئاً لحلفائه ليقظة الأفغانيين، فاتجه إلى الهند وسكن مدينة بومباى، وهناك اعترف به الإنجليز إماماً على الطائفة الإسماعيلية وخلعوا عليه لقب (آغا خان) فانتسب إلى الإمام نزار بن المستنصر الفاطمى، وأصبح إمام الإسماعيلية النزارية. ثم مات سنة 1881م. فخلفه ابنه فى إمامة الطائفة وعرف باسم (آغا خان الثانى) وكان أبوه قد أعده للإمامة إعداداً كاملاً، وهيأ له الثقافة الكاملة.
وكان يجيد عدة لغات منها العربية، وعمل على خدمة أبناء المسلمين جميعاً دون تمييز بين طوائفهم، فسمت مكانته بين الناس جميعاً، وتزوج أميرة إيرانية وأنجب منها ولده محمداً الحسينى فى نوفمبر سنة 1877م. وهو (آغا خان الثالث) المعروف باسم (آغا خان) المتوفى سنة 1957م.
__________
(1) ... إسلام بلا مذاهب: ص240 – 241.(2/66)
وقد سكن أوروبا وتزوج أربع مرات، المرة الأولى من أميرة إيرانية، والثانية من فتاة إيطالية أنجب منها ابنه على خان، والمرة الثالثة من بائعة حلوى وسجائر فى باريس، وأنجب منها ولده صدر الدين خان والمرة الرابعة من إحدى ملكات الجمال.
وحين مات –آغاخان- أوصى لحفيده –كريم- بالإمامة –وهو الإمام الحالى- ولا زال شاباً يطلب العلم فى إحدى جامعات الولايات المتحدة الأمريكية.
والإسماعيلية الآغاخانية يسكنون الآن نيروبى ودار السلام وزنجبار ومدغشقر والكنجو البلجيكى والهند وباكستان، وبعضهم فى الإقليم السورى، ومركز القيادة الرئيسى بالنسبة له هو مدينة كراتشى بالباكستان.
والإسماعيلية الآغاخانية تفدس آغاخان وتلقبه بالإمام وتقول بعصمته، ويضفون عليه صفات الألوهية –قاتلهم الله- ويدفعون له خُمس ما يكسبون(1)، ويعتقدون أن الخمر حين تدخل فى جوفه تتحول إلى ماء زمزم. وحين سئل آغاخان مرة من قبل صديق له: كيف يسمح –وهو المثقف- لأتباعه أن يؤلهوه؟!. قهقه طويلاً حتى دمعت عيناه وقال: إن القوم فى الهند يعبدون البقرة، ألست خيراً من البقرة(2)؟.
هذه بعض معتقدات طائفة الآغاخانية التى يعتنقونها، أضعها بين يدى القارئ ليستطلعها، وهى تكشف لنا عن سوء منقلب أدعيائها، كما تنم عن فساد طوية مخترعيها، الذين يدعون الإسلام ظاهرياً ليحققوا مآربهم الخبيثة، مع أنهم فى الحقيقة ربائب لأعداء الله، ودسائس مكر يستخدمها الإستعمار لتشويه سمعة الإسلام، ودك إسفين مسموم فى جسم الأمة لنخرها ويحطم كيانها.
__________
(1) ... إسلام بلا مذاهب.
(2) ... جذور البلاء.(2/67)
لذا كان جديراً بالمسلمين –حكاماً ومحكومين- أن يتصدوا لمثل هذه الجرثومة الباطنية، بتعريف الأمة بأهدافها الشريرة ونواياها الخبيثة، التى تناقض تعاليم الإسلام وتعطل مسيرته الرائدة … وبهذا يمكن تعرية الأعداء وكشف أوراقهم الزائفة، ليعود للمجتمع وجهه المشرق وتعود الحياة الهانئة للبشرية ويعم العدل وتنتشر الفضيلة.
أحمد الإحسائى والشيخية:
لم تنقطع مؤامرات الباطنية على العقيدة الإسلامية فى التاريخ حتى القرون الأخيرة، حيث نرى أن الباطنية تتجدد على يد شيخ فاسد العقيدة غامض الفكرة والأسلوب، يثير حوله جواً من التقديس الكاذب، وهو الشيخ أحمد الإحسائى الذى ولد سنة 1166هـ. 1753م. وقد أسس طريقة فى مذهب الشيعة الإمامية سميت فيما بعد بالشيخية(1). والشيخية يقولون أن الحقيقة المحمدية تجلت فى الأنبياء قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - تجلياً ضعيفاً، ثم تجلت تجلياً أقوى فى محمد - صلى الله عليه وسلم - والأئمة الإثنى عشر، ثم اختفت زهاء ألف سنة، وتجلت فى الشيخ أحمد زين الدين الأحسائى والسيد كاظم الرشتى، ثم تجلت فى كريم خان الكرمانى وأولاده إلى أبى قاسم خان. وهذا التجلى هو أعظم التجليات لله والأنبياء والأئمة، والركن الرابع من الشيخ أحمد الإحسائى إلى ما بعده هم شىء واحد، يختلفون فى الصورة ويتحدون فى الحقيقة التى هى الله مظهر فيهم. ويعتقدون أن محمداً رسول الله، وأن الأئمة الإثنى عشر هم أئمة الهدى، ومعنى الرسالة والأمانة عندهم أن الله تجلى فى هذه الصورة، فمنهم رسول ومنهم إمام. ويعتقدون أن اللاحقين هم أفضل من السابقين وعلى ذلك فالشيخ أحمد فى رأى أصحابه أعظم من جميع
__________
(1) ... لما كان الباعث على تأليف هذا الكتاب هو تحذير المسلمين وإيقاظ شعورهم الدينى ووجدانهم، فقد رأينا إتباع الفرق الباطنية القديمة بالحديثة لما لها جميعاً من أهداف مشتركة فى الكيد للإسلام وأهله، بغض النظر عن التأريخ الزمنى لظهور هذه الفرق.(2/68)
الأنبياء والمرسلين. ويعتقد هؤلاء بالرجعة، ويفسرونها بأن الله بعد أن غاب عن صور الأئمة رجع وتجلى تجلياً أقوى فى الركن الرابع، الذى هو الشيخ أحمد ومن يأتى بعده(1).
والإحسائى من الشيعة الحلولية الذين يعبدون علياً، وأدلته الفلسفية مستقاه من مذهب الفيلسوف المشهور الملا صدرا(2).
وأما اعتقادهم فى القيامة فهو اعتقاد باطل مخالف لنصوص القرآن والسنة الشريفة وإجماع الأئمة، إذ أنهم لا يعتقدون بقيامة الجسد، ويؤولون علامات الساعة تأويلات باطنية تتفق مع مسلكهم فى إنكار البعث والقيامة(3).
لقد كرس الإحسائى حياته فى سبيل الدعوة إلى قرب ظهور المهدى المنتظر. يقول زرزندى: وإذا كان واثقاً بنبالة مقصده –كذا- طلب بحماس من جميع أتباع الإسلام فى الشرق –بما فيهم أهل الشيعة- أن يهبوا من نوم غفلتهم ويهيئوا الطريق للذى سوف يظهر بينهم عند تمام الأيام(4).
ويخيل إلىَّ –استناداً إلى نزعته العقلية المتطرفة- أنه لم يكن من المؤمنين، كما تبدو عليه اتجاهاته الباطنية الأخرى، بأن المهدى مختف. فالحال الذى تؤمن به الإمامية من حيث إنه مستور، وعلى اتصال دائم بالشيعة، بل إنه كان يؤمن بالمهدى كشخص اعتيادى، يظهر ظهوراً اعتيادياً، وخاصة فإن اتجاهه هذا يتفق مع الزيدية وبعض علماء السنة فى ظهور المهدى. وكان همه من التبشير بقيامه وظهوره هو الإسراع بالقضاء على عقيدة الإمامية، وذلك لكى يقوم بالمسرحية التالية التى اتفق مع أشخاصها وممثلى أدوارها مع سادته المستعمرين، وهذه مسرحية تنص على تقديم مهديهم الخاص إلى الأمة الإسلامية.
__________
(1) ... البصرة تستأصل الشيخية: ص 7 نقلاً عن كتاب البابيون والبهائيون.
(2) ... دائرة المعارف الإسلامية: مجلد 5 ص448 نقلاً عن: البابيون والبهائيون.
(3) ... مطالع الأنوار: ص33 – 34. عن المصدر السابق.
(4) ... مطالع الأنوار: ص3 نقلاً عن: كتاب "البابيون والبهائيون".(2/69)
أما كيف كان الشيخ أحمد الإحسائى متصلاً بالمستعمرين، أو بدوائر التبشير التى كونت الطلائع الأولى لهم فى الشرق، والتى وضعت خطة محكمة للوصول إلى مثل هذه النتائج فى المجتمع الإسلامى فالجواب على ذلك مايلى:
1. إن كثيراً من الحركات الدينية والسياسية والاجتماعية ظهرت فى المجتمع وانتشرت فى ظل شعارات معينة، ثم ظهرت خبيئتها فحكم الناس أن تلك الحركات كانت حركات استعمارية، وذلك استناداً إلى نتائجها إذ أنها شُجِّعَت تشجيعاً قوياً من المستعمرين، وقاموا هم على نشرها وإفساح المجال لها والدفاع المستميت عن أشخاصها، لأنهم لم يتعرضوا لمصالحهم، بل دعوا إلى مهادنتهم وعدم القيام ضدهم.
أقول: إذا كانت الحركة تتسم بهذه المزايا يكون من السهل جداً على العلماء من الاجتماعيين وغيرهم أن يحكموا باستعماريتها. وحركة الإحسائى ظهرت نتائجها الواضحة بعده بسنوات قليلة، كما سيظهر لنا كيف أن المستعمرين احتضنوها ليضربوا بها الإسلام، الذى كانوا يعتبرونه الجدار الوحيد أمام استعمارهم واستغلالهم للشرق(1).
2. لقد أوضحت حوادث التاريخ بأن الفرق الباطنية كانت توجه دائماً من قبل أعداء الإسلام، من اليهود وأباطرة الروم ودهاقين المجوسية. وأن تلك الفرق خانت الأمة الإسلامية فى مواقف حرجة من تاريخها، كحروب الروم مع المسلمين وهجوم الصليبيين على ديار الإسلام ومؤامرات المجوس لاستعادة مجدهم القديم. وبما أن حركة الإحسائى كانت حركة باطنية، وأنها نشأت فى زمن كانت الأمة الإسلامية فيه تريد أن تنفض عنها غبار الزمن، وأن الاستعمار الغربى كان يريد القضاء على هذه اليقظة الإسلامية، وإذن فيكاد يجزم المرء –من هذه الناحية أيضا- بعلاقة هذه الحركة الباطنية بدوائر الاستعمار بصورة خاصة، وأعداء الإسلام بصورة عامة.
__________
(1) ... انظر: حقيقة البابية والبهائية ص37.(2/70)
3. هنالك رأى يستند على تقارير المستشرقين يقول: إن الإحسائى لم يكن أصله من الإحساء، ولا ثبت ذلك تاريخياً، وإنما كان قساً غربياً أرسل من أندونيسيا إلى الشرق، حسب خطة مرسومة، لإفساد العقيدة وتغيير أحكام الدين(1).
الحركة الكشفية وكاظم الرشيتى:
يقال أن كاظم الرشتى ولد فى رشت من بلاد إيران سنة 1205هـ ولما بلغ عمره السادسة والعشرين ذهب إلى طهران لملاقاة أحمد الإحسائى، ثم رافقه إلى كربلاء وتتلمذ عليه واستسلم بسهولة لأوهامة وخرافاته، وقد سار الرشتى على طريقة أستاذه الإحسائى، فى اللجوء إلى الرؤى والخداع والمكر لتنفيذ خططه، التى اتفق عليها مع أستاذه وشيخه الإحسائى، فى التبشير بالمهدى وقرب ظهوره ووجوب الإيمان به. ولم يكتف الرشتى بالتبشير بقرب ظهور المهدى، بل عين شخصه بصورة تكاد تكون مباشرة، وذلك بتعيين صفاته وشمائله وأخلاقه وإيهام القوم أنه جالس بينهم، ولا يرسل إلى بعد موته. والمعروف أنه كان قد عين أحد تلاميذه –وهو الميرزا على محمد- الآتى ذكره حسب الخطة المرسومة للقيام بهذه المهمة، وهو الذى تنطبق عليه تلك الصفة، التى كان يرددها الرشتى فى كل درس بقوله: إن الموعود يعيش بين هؤلاء القوم، وأن ميعاد ظهوره قد قرب فهيئوا الطريق إليه، وطهروا أنفسكم حتى تروا جماله، ولا يظهر لكم جماله إلا بعد أن أفارق هذا العالم، فعليكم بعد فراقى أن تقوموا على طلبه، ولا تستريحوا لحظة واحدة حتى تجدوه(2). إن الرشتى كان يوجه تلميذه –الميرزا على محمد- وهو جالس فى مجلسه، فكان يريد بذلك إسماع الآخرين بقوله: إن الشريعة وأصول الآداب هى غذاء للروح، لذلك يجب أن تكون الشرائع متنوعة، وعلى ذلك يجب نسخ الشرائع العتيقة(3).
__________
(1) ... البصرة تستأصل شأفة الشيخية: ص13 عن: البابية والبهائية.
(2) ... انظر مطالع الأنوار: ص130، 131. عن: حقيقة البابية والبهائية.
(3) ... المصدر السابق نفسه.(2/71)
وهكذا نرى أن الرشتى –بمكره وتحركاته وخبث تدبيره- أشعل الشوق فى نفوس أصحابه للقاء الموعود المزعوم. ولقد نشر بينهم هذه الفكرة لدرجة أنهم كانوا جميعاً يحلمون بها، وذهب جميع تلامذته من بعد موته متلهفين لرؤية ما وعدهم به، حيث إن بعضهم قال لتلميذ له اسمه الملا حسن البشروئى: إنك لو ادعيت هذا لآمنا بك(1).
إن جميع ما أثبتناه عن الشيخية إلى الآن والروشتية يهدف إلى معرفة جذور مؤامرة البابية على الإسلام، حيث أنها كما ترى لم تكن بنت يومها عندما أعلن تلميذ الرشتى الميرزا محمد على الشيرازى. وإنما مرت بمراحل وهيئت لها الأذهان والعقول والبيئة اللازمة لقبول الفكر، فخطط الاستعمار طويلة الأمد عميقة الجذور يتم الاختيار على مراحلها، ويسبق القول على أشخاصها، ثم تقدم للناس بأسلوب جذاب ينسجم مع ظروفهم النفسية والبيئية، والاستعمار فى خططه هذه استند على فكرة كانت بعيدة الجذور فى نفوس الإيرانيين وهى فكرة المهدوية.
إن اتصال هذه الحركة بمراكز التبشير العالمى ومساندتها من قبل دول الاستعمار واليهودية العالمية قد شد من أزرها، إلى أن جاءت الفترة التى تهيأ فيها الميرزا على محمد الشيرازى ليقوم بدوره المرسوم، وهو تأسيس الطائفة التى تسمت بالفرقة البهائية. لقد مثلت البهائية أعلى مرحلة من مراحل التآمر التاريخى على الإسلام، ابتداء بالباطنية المجوسية وانتهاءاً إلى الباطنية الصهيونية وأجهزة التبشير الصليبى ومراكز الماسونية العالمية … إن الإسلام فى جهاده لماضٍ إلى يوم القيامة، وستجابهه عقبات أخرى وسيجرب أهل الباطل معه أفتك الأسلحة، وسوف لا يكون نصيبهم –بإذن الله- بأحسن من نصيب من سبقهم من الأعداء العتاة المخذولين ... وكَرَّةٌ أخرى سيخسر هنالك المبطلون.
__________
(1) ... نفس المصدر السابق.(2/72)
10. الديانات الاستعمارية(1)
تلقت هذه الأمة عقيدتها صافية نقية عن كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وتكفل الله تعالى بحفظ كتابه، وهيأ لذلك رجالاً أمناء صفت بصائرهم واستنارت قلوبهم بنور الله تعالى، وتفانت نفوسهم فى خدمة الحق، وامتدحهم الله تعالى فى محكم كتابه بقوله: { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم فى وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم فى التوارة ومثلهم فى الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } (2).
وهكذا كان جند الحق من أبناء أمة الإسلام على علم وبصيرة، يهتدون بكتاب الله وسنة رسوله مجمعون على الحق والهدى، فكل ضلالة وبدعة وزيف وتحريف وغلو وتفريط ينكشف أمره بسهولة، وتحذره الأمة لأن الحق أبلج، فيموت الضلال فى مهده، أو تكون له جولة ثم يزهق.
وانتشر العلم وكثر العلماء وأقبل الناس على تعلم الحق، ولذلك لم يكن من السهل أن تنتشر الأباطيل والضلالات، حتى جاء عصر الضعف، حين كثر دعاة الباطل، وقل التعلم فى عامة الناس، وكثر الجهل فى سوادهم، فوجد المبطلون ميداناً خصباً لنشر الأباطيل فى النفوس الضعيفة والقلوب المريضة.
لقد كانت الفرقتان البهائية والقاديانية من بين هذه الأباطيل والنحل الهدامة، التى وضعها أعداء الإسلام بخبث ودهاء لتحطيم كيان الأمة الإسلامية ونسف وحدتها وتصديع كيانها. واتبعهما أناس زاغت قلوبهم وعميت بصائرهم فتفاقم شرهما، ولا يزال الخطر يزداد يوماً بعد يوم، ويزداد نفوذهما فى موطنهما الأصلى فى شبه القارة الهندية وإيران خاصة، وبلاد العرب والمسلمين عامة.
__________
(1) ... انظر كتاب الكشاف الفريد عن معاول الهدم ونقائض التوحيد تأليف خالد محمد على الحاج، الجزء الأول ص224 وما بعدها.
(2) ... سورة الفتح: 29.(2/73)
وللوقوف على أسرار هاتين الفرقتين الضالتين، وأسباب وجودهما ونجاح دعاتهما فى بعض الجهات رغم كشف سوء نياتهما، وفشل دعوتيهما على كافة الأصعدة، للوقوف على هذا كله وتنويراً لأبناء الأمة فسوف أفرد لكل حركة من هاتين الحركتين فصلاً خاصاً، أتناول فيه الدوافع الحقيقية التى كانت وراء ظهور كل منهما، مع تسليط بعض الأضواء على تلك الأيدى الخفية التى ساندتهما، والدور الذى ستقوم به كل منهما، وبهذا يقف المسلم على حقيقة ما يراد به من قبل أعدائه، بادئاً بالحركة البابية والبهائية.
ظهور البابية:
كان أول ظهور فرقة البابية الضالة عندما طالع على محمد المسلمين فى إيران بمقالة ادعى فيها أنه الباب أو على حد قوله: أنا مدينة العلم وعلى بابها. وقال: ادخلوا البيوت من أبوابها. فلا يجوز دخول البيت إلا من الباب، فأنا ذلك الباب.
وكان أول هذا القول فى ليلة الخميس 23 مارس عام 1844م الموافق 5 جمادى الأول عام 1260هـ. ويعتبر هذا اليوم لدى البابية عيد البعث، وتحرم فيه الأعمال(1). ومن هذا اليوم لا يطلق عَلِىّ محمد عَلَى نفسه سوى الباب. ويقال أنه أول من ادعى أنه الباب. كان يقول أنه باب للوصول إلى الإمام المنتظر. وكان دائماً يقول أنه المهدى المنتظر، وأن جسم المهدى اللطيف قد حل فى جسمه المادى، وأنه ظهر الآن فى هذا العالم ليمحو الظلم ويبدد الجور وينشر العدل(2).
يقول المستشرق (جولد تسيهر): إن اسم الباب كان نتيجة لاعتقاده فى نفسه أنه أشرقت منه على العالم الرغبة المعصومة للإمام المستور، الذى يعد المصدر الأعلى لكل حقيقة وهداية(3).
__________
(1) ... انظر خفايا البهائية: ص33. وكتاب: البابيون والبهائيون.
(2) ... راجع المصدر السابق: 33.
(3) ... راجع المصدر السابق نفس الصفحة.(2/74)
وقد ظل ميرزا على محمد محتفظاً بهذا اللقب حتى اعتقد أنه المهدى المنتظر، الذى يجب ظهوره فى نهاية الألف الأولى من السنين، بعد ظهور الإمام الثانى عشر (260هـ – 1260هـ) وهو إمام الشيعة الإثنى عشرية.
كان الباب يلقب نفسه بعدة ألقاب كان أتباعه يطلقونها عليه، فكان يطلق على نفسه سيد الذكر، وحضرة الأعلى، ومظهر الرب، وباب الله، ونقطة الأولى، وطلعة الأعلى، ونقطة البيان…
وكان للباب كاتم لأسراره وهو الملا حسين البشروئى، وكان يسمى وسط البابية باب الباب. والأخير من أصل فارسى من بلدة شيراز. وتبع الباب ثمانية عشر شخصاً كانوا دعاته، وكان يطلق عليهم حروف (حى) وكان هؤلاء وظيفتهم السير فى المدن الإيرانية للتبشير بدعوة الباب.
والباب على محمد كان لثقافته أثرها فى تفكيره، فلقد هجر التجارة مع خاله، وانصرف إلى دراسة الروحانيات والتبيينات وتسخير الجان والكواكب(1).
والباب –كما يقول الداعية البهائى محمد حسين أوراه- له الخيار المطلق فى تغيير الأحكام وتبديلها لأن الباب مروج للشريعة الإسلامية ومصلح لأحكامها. وتقول قرة العين(2) بأن للباب القائم مقام المشرع وحق التشريع… وعلى وجوب الشروع فعلاً فى إجراء بعض التغييرات كإفطار رمضان(3)، والباب –حسب قول البابيين- مدة دعوته ونبوته حوالى 2031 سنة. ولا يجوز قبل هذه الفترة لأحد أن يدعى النبوة. ويقال أن هذه المدة قدر سنين حروف (المستغاث). وسار الباب فى قوله بأنه أيضاً أعظم من الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأن دعوته تفوق الدعوة الإسلامية.
__________
(1) ... راجع خفايا البهائية: ص34. ورسالة البهائية للأستاذ محب الدين الخطيب.
(2) ... هى امرأة غائبة عند البابيين.
(3) ... المصدر السابق: ص35.(2/75)
وقال عن البيان –الكتاب الذى وضعه- بأنه يفوق القرآن، وأنه يتحدى أى شخص يأتى بباب من أبواب البيان العظيم، أو ما يسميه الباب: البيان العربى. وهو كتاب البابية المقدس. كما أن للباب كتاباً ثانياً يطلق عليه: البيان الفارسى. وهذا الكتاب حرقه البهائيون بعد ظهور الأقداس، كتابهم المقدس(1).
والكعبة ليست بيت الله الحرام ولكنها فى بلدة تبريز بإيران، حيث يتجه إليها المصلون فى صلاتهم الصباحية. وطالب الباب بهدم قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهدم الكعبة الشريفة فى مكة المكرمة وهدم قبور الأولياء، ولا تدفع الزكاة والصدقة إلا لبابى، وجعل الباب عدد أيام السنة 361 يوماً.
وقد فسر الباب القرآن تفسيراً باطنيا(2). يقول الباب مقلداً القرآن: قل الله ليظهرنك على الأرض وما عليها بأمره، وكان الله على ذلك مقتدراً، قل الله يغلبنك على الأرض وما عليها وكان الله على ذلك مرتفعاً، قل لو اجتمع من فى السموات والأرض وما بينهما أن يأتوا بمثل ذلك الإنسان –يعنى الباب- لن يستطعن ولن يقدرن ولو كانوا كل بكل مستعينين –قاتلهم الله أنى يؤفكون-.
ويقول الباب مدعياً أحقيته فى الظهور كنبى فى قوله: قل إن الله ليظهرن من يظهره الله، مثل ما قد أظهر محمداً رسول، من قبل، وأظهر علياً قبل محمد من بعد، كيف يشاء بأمرى إنه كان على كل شىء قديرا قل لو تريدون كل الرسل فى وجه الله فانظرون ولو تريدن كل الكتب فى كتاب الله فانظرون، ولا تريدن كل خير من عند الله تدركون(3).
__________
(1) ... نفس المصدر: ص36.
(2) ... خفايا البهائية: ص36 – 37.
(3) ... راجع نفس المصدر: ص39.(2/76)
إنها كلمات بلا معنى، وتقليد أجوف يشوه الحقيقة، فمن مطالعاتنا لكتب الباب نجد أنه مسخ آيات القرآن الحكيم كما مسخها ميرزا غلام أحمد –الأفاق القاديانى اللعين- فكلاهما ينهلان من معين واحد وهدفهما واحد، وهو تشويه معالم الإسلام النيرة السامية. وقد كانت البابية أداة طيعة فى يد الاستعمار يوجهها كيف يشاءُ. وفى الصفحات التالية بسط لعلاقة البابية بالاستعمار والصهيونية وعقائدها، ونهايتها بعد إعدام الباب، ثم مجىء خليفته البهاء –الملعون- ودور البهائية فى محاربة الإسلام والمسلمين.
إعلان الدعوة البابية:
ومن ذيول الباطنية طائفة فارسية تدعى البابية، وتنسب إلى الباب، وهو ميرزا على محمد الشيرازى المولود فى شيراز بإيران.
جهر الباب بدعوته فى ليلة الخامس من جمادى الأولى سنة 1260هـ 1844م. –كما ذكرت سابقاً- وراح دعاته وأنصاره يعلنون تأييدهم له، ويحرضون الناس على الإنضمام تحت لوائه(1).
ولما لم تكن هذه الحركة تتناسب والمركز الدينى لعلماء إيران، وكانت تعاليم الباب مخالفة لأصول الدين الإسلامى الحنيف، فقد قامت قيامة هؤلاء العلماء فى وجه هذه الدعوة، فنشرت الرسائل وألفت الكتب، وألقيت الخطب، وفى جميعها من التفنيد للمبادئ الجديدة ما فيها، واستحث رجال الدين رجال الدولة على وجوب استئصال شأفة هذه البذور التى بدأت تهدد الأمن فى إيران.
ونتج عن هذه المقاومة أن مال إليه الجهلة من العوام، فلما رأى الباب ذلك أعلن أنه هو المهدى المنتظر –بعد أن كانت دعوته أنه واسطة أو باب للوصول إلى الإمام المنتظر(2)- وقال أن جسم المهدى اللطيف قد حل فى جسمه المادى، وأنه يظهر الآن ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً، بعد ما ملئت ظلماً وجوراً(3).
__________
(1) ... راجع البابيون والبهائيون: ص21. وذيل الملل والنحل: ص45.
(2) ... المصدر السابق: ص22 بتصرف.
(3) ... نفس المصدر: ص22 بتصرف.(2/77)
ولم يكن فى العقائد البابية وفى تعاليمها السرية ما يمنع مثل هذا الادعاء، فالإمام مظهر من مظاهر الله فى أرضه، وواسطة تبليغ للناس لانكشاف الحقائق له، فإذا حصل من هو فى رتبته فى الكشف فلا مانع هناك أن ينال عين الرتبة.
وهذا ما دعا الباب أن يظهر بمظهر أرقى من الدعوة السابقة، فيدعى أنه أفضل من محمد - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدعوة الإسلامية العظمى، وأن تعاليمه التى جمعها فى بيانه أفضل من تعاليم نبى المسلمين فى قرآنه، وأن محمداً إذا كان قد تحدى الناس بالإتيان بسور الفرقان المبين، فإن الباب يتحدى الجميع بالإتيان بباب من أبواب بيانه العظيم(1).
وقد صادفت دعوته بعض النجاح عند عدد قليل من أبناء وطنه شيراز، ولما شكا العلماء من ذلك، استدعى حاكم شيراز دعاة الباب وحقق معهم فلم يخفوا عنه شيئاً، فاستفتى العلماء فى شأنهم فأفتوا بكفرهم ووجوب قتلهم، ولكن الوالى اكتفى بنفيهم من شيراز، وأرسل بعض جنوده إلى أبى شهر فجاؤوا بالباب، وعقد مجلساً من العلماء والفقهاء وأحضر الباب ليناظرهم، فانقسم العلماء فى أمره، فمنهم من أفتى بقتله، ومنهم من قال باختلال عقله، أما الوالى فقد أمر به فجرده من الملبس وأوسعوه ضرباً مبرحاً(2).
وقد هم الوالى بقتله فإذا بالباب ينكر أنه وكيل القائم الموعود، أو الواسطة بينه وبين المؤمنين، فتركه الوالى مع خاله ميرزا على الشيرازى على أن يحضره يوم الجمعة إلى المسجد ليعلن توبته على رؤوس الأشهاد، فلما حل اليوم المذكور صعد الباب على المنبر وقال:
__________
(1) ... نفس المصدر: ص22 بتصرف.
(2) ... المصدر السابق: ص23. وذيل الملل والنحل: ص46.(2/78)
إن غضب الله على كل من يعتبرنى وكيلاً عن الإمام أو الباب إليه، وإن غضب الله على كل من ينسب إلى إنكار وحدانية الله، أو أنى أنكر نبوة محمد خاتم النبيين، أو رسالة أى رسول من رسل الله، أو وصاية على أمير المؤمنين، أو أى أحد من الأئمة الذين خلفوه(1). أهـ.
وبذلك نجا الباب من القتل، ولكنه ما لبث أن عاود دعوته فى سنة 1845م، فكتب إلى دعاته فى العراق بأنه لا يستطيع التوجه إليهم كما وعدهم من قبل –كما طلب إلى أعوانه فى إيران أن يرحلوا إلى أصفهان لمواصلة الدعوة، فعاد الهياج إلى شيراز والتحقيق فى الموضوع(2).
إلا أن انتشار الهيضة فى شيراز، وفتكها بالأهلين فتكاً ذريعاً بعد وفاة كثير من الموظفين والجند، أجلت النظر فى أمر الباب الذى استطاع أن يفر إلى أصفهان سنة 1846م، وكان دعاته قد توغلوا فى هذه الولاية مثل توغلهم فى شيراز(3).
وفى سنة 1847م أمر الشاه باعتقال الباب فى قلعة (ماه كو) فى ولاية أذريبجان بالقرب من الحدود الروسية الإيرانية العثمانية، وكانت القلعة منيعة جداً، إلا أن نقل الرجل إلى تلك القلعة بث الشجاعة والغيرة فى قلوب أتباعه، فصاروا يجاهرون بالدعوة بعد أن كانوا يبشرون بها فى الخفاء، وأخذ عدد أتباعه يزداد يوماً بعد يوم، فنقلته الحكومة إلى قلعة جهريق(4).
ثم عقد أقطاب البابية مؤتمراً فى صحراء (بدشت) فى شهر رجب سنة 1264هـ – 1848م. حضره واحد وثمانون قطباً، من بينهم باب الباب الملا حسين البشرؤئى، والحاج محمد على البافروشى الملقب بالقدوس، وقرة العين زارين تاج، التى دعيت بالطاهرة فى هذا المؤتمر، والميرزا على حسين الذى تسمى بالبهاء(5).
__________
(1) ... نفس المصدر: ص23. وذيل الملل والنحل: ص46.
(2) ... نفس المصدر: ص23. وذيل الملل والنحل: ص46.
(3) ... المصدر السابق: ص23. وذيل الملل والنحل: ص46.
(4) ... بتصرف عن كتاب: "البابيون والبهائيون": ص28-29.
(5) ... راجع ذيل الملل والنحل: ص47.(2/79)
وقد تناول المجتمعون البحث فى هذين الأمرين الرئيسيين:
أولاً: إنقاذ الباب من اعتقاله ونقله إلى مكان آمن.
ثانياً: وضع حد بين مبادئ البابية والدين الإسلامى.
ففيما يتعلق بالأمر الأول تقرر إرسال المبلغين إلى النواحى، ليحثوا الأحباب على زيارة الباب فى قلعة (ماه كو) مستصحبين معهم من يتسنى استصحابه من ذوى قرباهم وودهم، وأن يجعلوا مركز اجتماعهم (ماه كو) حتى إذا تم العدد الكافى طلبوا من الشاه الإفراج عن الباب، فإن أجابهم إلى طلبهم فبها ونعمت، وإلا هجموا على القلعة وأنقذوه بالقوة(1).
وأما فيما يتعلق بالأمر الثانى فقد ظهر –بعد مذاكرات طويلة- أن معظم المؤتمرين يعتقدون بوجوب النسخ والتجديد، ويرون أن من قوانين الحكمة الإلهية فى التشريع الدينى أن يكون الظهور اللاحق أعظم مرتبة وأعم دائرة من سابقة، وأن يكون كل خلف أرقى وأكمل من سلفه، فعلى هذا القياس يكون الباب أعظم مقاماً وآثاراً من جميع الأنبياء الذين خلوا من قبله، وأثبتوا له الخيار المطلق فى تغيير الأحكام وتبديلها.
وذهب قليل من الحاضرين إلى عدم جواز التصرف فى الشريعة الإسلامية، مستندين إلى أن حضرة الباب ليس إلا مروجاً لها ومصلحاً لأحكامها(2).
ثم دعى الباب لمناظرة علماء إيران، فسأله أحد العلماء(3): من تكون؟. وما هو ادعاؤك؟ وما هى الرسالة التى أتيت بها؟. فأجاب ثلاثاً:
__________
(1) ... راجع البابيون والبهائيون: ص29، وذيل الملل والنحل: ص47.
(2) ... المرجع السابق: ص30، وذيل الملل والنحل: ص48.
(3) ... راجع ذيل الملل والنحل: ص48.(2/80)
إنى أنا الموعود، وأنا الذى دعوتموه منذ ألف سنة، وتقومون عند سماع اسمه، وكنتم تشتاقون للقائه عند مجيئه، وتدعون الله لتعجيل ساعة ظهوره، الحق أقول لكم: إن طاعتى واجبة على أهل الشرق والغرب(1). فقال أحد العلماء: إن الدعوى التى تقدمها الآن دعوى خطيرة، فيجب أن تدعى بالدليل القاطع.
فأجاب الباب: إن أقوى دليل وأقنعه على صحة دعوى رسول الله هو كلامه، كما دلل على ذلك بقوله: { أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم… } (2). ولقد آتانى الله هذا البرهان، ففى ظرف يومين وليلتين أقرر أنى أقدر أن أُظهر آيات توازى فى حكمها جميع القرآن(3). وانتهت المناظرة بغير نتيجة.
ثم ازدادت الاضطرابات فى جميع أنحاء إيران، وانتشرت الفتن وساعدت الدسائس الأجنبية على امتدادها، فقرر الشاه ناصر الدين ضرورة القضاء على هذه الفتن، فأصدر أمره بإعدام الباب، ونفذ فيه حكم الإعدام فى شهر يوليو 1849م، وقد تبرأ منه كاتب وحيه حسن التبريزى، وانهال على الباب بالشتائم والسباب، فأطلق سراحه(4).
وأتى الحراس بوتدين من الحديد، ودقوهما فى جدارين متقابلين، وربطوا فيهما الباب وصاحبه محمد على الزنوزى، وأطلقوا عليهما الرصاص، وربط الجند جثتيهما وألقوهما فى خندق، فبقيتا فيه حتى أكلتهما الطيور الجارحة(5). وكان عمر الباب يوم إعدامه إحدى وثلاثين سنة قمرية وسبعة أشهر وسبعة وعشرين يوماً، من يوم ميلاده فى شيراز.
__________
(1) ... راجعل البابيون والبهائيون: ص43، والمصدر السابق ص48.
(2) ... سورة العنكبوت: 51.
(3) ... راجع البابيون والبهائيون: ص43.
(4) ... المصدر السابق: ص46 – 47. وقد نقل عن بعض الكتب أن الباب المقتول أوعز إلى كاتب وحيه أن ينكره لينجو من الموت. ويقص على أصحابه ما لقيه أصحابه من عذاب مهين. نقلت هذه السطور عن كتاب البابيون والبهائيون: ص47.
(5) ... راجع البابيون البهائيون: ص46 – 47.(2/81)
ولما قتل الباب زادت تعاليمه اشتهاراً وعظم الاضطهاد على أتباعه، وأظهر بعض رؤسائهم دعاوى مختلفة من قبيل النبوة والوصاية والولاية والمراتبة وأمثالها، فاختلفت آراؤهم وتشتت أهواؤهم وسقط كثير منهم فى الضلالات، وانهمك بعضهم فى المنكرات والموبقات.
وقد نقل بعض أتباع الباب جثته ودفنها على جبل الكرمل حيث يرقد عبد البهاء عباس(1).
كتب الباب:
من أهمها، البيان العربى. كتبه خلال إقامته فى قلعه (ماه كو) ورتبه على تسعة عشر واحداً، وقسم كل واحد إلى تسعة عشر باباً، فتكون أبوابه 361 باباً. وهذا العدد ينطبق على مجموع أعداد حروف كلمة: كل شىء. وقد خص الواحد الأول بنفسه، والثمانية عشر الباقية لكبار أصحابه، لكل منهم واحداً. ولما كان حاصل جميع أعداد حروف (حى) إذا استخرجت بحساب الجُمل 18، فقد سمى أصحابه المشار إليهم، حروف حى، إلا أنه لم يكتب إلا أحد عشر واحداً فقط، وترك إكمال البيان العربى لمن يأتى بعده. وله كتاب البيان الفارسى، وهو صورة من البيان العربى(2):
الواحد الأول - بسم الله الأمنع الأقدس:
إننى أنا الله لا إله إلا أنا، وأن ما دونى خلقى، قل أن يا خلقى إياى فاعبدون، قد خلقتك ورزقتك، وأَمَتُّكَ وأحييتك، وبعثتك، وجعلتك مظهر نفسى لتتلون من عندى آياتى، ولتدعون كل من خلقته إلى دينى، هذا صراط عز منيع. وخلقت كل شىء لك، وجعلتك من لدنا سلطاناً على العالمين، وأذنت لمن يدخل فى دينى بتوحيدى وأقرنته بذكرك، ثم ذكر من قد جعلته حروف الحى بإذنى.
__________
(1) ... راجع ذيل الملل والنحل: ص49.
(2) ... المصدر السابق نفسه وكتاب البابيون والبهائيون: ص52. لمؤلفه السيد عبد الرازق الحسينى.(2/82)
وما قد نزل فى البيان من دينى، فإن هذا ما يدخل به الرضوان عبادى المخلصين، وإن الشمس آية من عندى ليشهدن فى كل ظهور مثل طلوعها كل عبادى المؤمنين. قد خلقتك بك، ثم كل شىء بقولك، أمراً من لدنا إنا كنا قادرين. وجعلتك الأول والآخر والظاهر والباطن إنا كنا عالمين.
وما بعث على دين إلا إياك، وما نزل من كتاب إلا عليك، ذلك تقدير المهيمن المحبوب. وإنما البيان حجتنا ندخل من نشاء فى جنات قدس عظيم، ذلك ما يبدأ فى كل ظهور من الأمر، أمراً من لدنا إنا كنا حاكمين. وما نبدأ من دين إلا لما يبدع من بعد، وعداً علينا إنا كنا على كل قاهرين، وإنا قد جعلنا أبواب ذلك الدين عدد كل شىء مثل عدد الحول، لكل يوم باباً ليدخلن كل شىء فى جنة الأعلى، وليكونن فى كل عدد واحد ذكر حرف من حروف الأولى لله رب السموات والأرض، رب كل شىء، رب ما يُرى وما لا يُرى، رب العالمين. وإنا فرضنا فى باب الأول ما قد شهد الله على نفسه على أنه لا إله إلا هو رب كل شىء، وإن ما دونه خلق له عابدون، وأن ذات حروف السبع باب الله لمن فى ملكوت السموات والأرض وما بينهما، كل بآيات الله من عنده يهتدون، ثم كل باب ذكر اسم حق من لدنا، وكل أحد من حروف الحى، بما رجعوا إلى الحياة الأولى، محمد رسول الله والذين هم شهداء من عند الله، ثم أبواب الهدى وخلقوا فى النشأة الأخرى بما وعد فى الفرقان إلى أن يظهر عدد الواحد فى الواحد الأول، فضلاً من لدنا إنا كنا فاضلين(1).
الحركة البهائية – "خليفة البابية":
بعد انتهاء دور البابية ظهرت البهائية، وكان مؤسسها الميرزا حسين على بن الميرزا عباس النورى المازندارانى الذى تسمى بالبهاء(2).
حياة البهاء:
__________
(1) ... نفس المصدر والبابيون والبهائيون: ص50 – 51.
(2) ... راجع كتاب خفايا البهائية: ص111.(2/83)
ولد سنة 1233هـ – 12 تشرين ثانى 1817م(1). وكان والده مأموراً للمالية، وخلف سبعة أولاد.
وقد تربى الميرزا حسين مع إخوته فى طهران، وكان يعاشر الصوفية ويقرأ كتبهم حيث ظهرت بوادرها فى كتاباته وأفكاره فيما بعد.
وقد حضر مؤتمر بدشت مع غانية البابيين –قرة العين- وكان له تأثير عظيم عليها، وقد دفن فى عكا سنة 1309هجرية – 1892 ميلادية، وأوصى بعده بالأمر لولده الذى سماه بـ (عبد البهاء)(2).
ثقافته:
ثقافته خليط من البرهمية والبوذية والزرادشتية والمانوية والمزدكية والمسيحية واليهودية والإسلام والفرق الباطنية وغيرها، وهناك رافد آخر أثر فى عقله وثقافته وأسلوبه وهو المذاهب الصوفية، وخاصة ما يتصل بوحدة الوجود والحلول والفناء(3).
علاقته بالصوفية:
لقد خالط الصوفية منذ صغره، وتتلمذ على أيديهم واستوعب رموزهم ومصطلحاتهم، ولم يفارقه هذا الاتجاه حتى بعد دخول البابية ونفيه إلى العراق، فقد كان وهو فى نواحى السليمانية يحضر إلى محل هناك يسمى (خانقاه) الذى كان مجمع العلماء والمشايخ والصوفية.
إن تأثير الكتابات الصوفية قد بلغ فى أسلوب الميرزا حسين مبلغاً عظيماً، حتى لا تكاد تقرأ صفحات من كتاباته إلا وتحسب نفسك أمام كتاب من كتب متطرفى الصوفية فى معناه ومبناه(4). ونورد هنا طائفة من أقواله، وهى تريك أنه على نهج أقوال الصوفية تماماً:
يا أيها الطائر فى هواء المحبة والوداد، والناظر إلى أنوار وجه ربك مالك الإيجاد، قد أماتتنى ظلمة البعد. أين نور قربك يا مقصود العارفين، وأهلكتنى سطوة الهجر. أين ضياء وصالك يا محبوب المخلصين.
__________
(1) ... راجع كتاب البابيون والبهائيون: ص53، 58، 59. وكتاب البابية والبهائية فى الميزان.
(2) ... المصدر السابق.
(3) ... راجع البابيون والبهائيون: ص58 – 59.
(4) ... راجع البابية والبهائية فى الميزان: ص20.(2/84)
وفى كتبه تتردد تعابير الصوفية منها: محبوب أفئدة العارفين، تجليات أنوار شمس الحقيقة، فيوضات … مظهر إلاهى … سبحات الأنام وغيرها.
ومن أساليب البهائيين –يقول الأستاذ الإمام محمد عبده: أنا لم أفهم من عباس –عبد البهاء- أفندى شيئاً، وإنما صرح لى أن قيامهم لإصلاح مذهب الشيعة وتقريبه من مذهب أهل السنة(1).
لقد كان يحضر معه الجمعة، رغم أن والده البهاء أبطل صلاة الجماعة. لقد خطب عباس مرة فى لندن فقال: الناس قد نسوا تعاليم بنى إسرائيل وتعاليم المسيح وغيره من معلمى الأديان فجددها البهاء.
ونلاحظ أن هذا الحاقد الملعون لم يذكر اسم الرسول الأعظم عليه السلام ترضية للصليبيين، وتزلفاً للصهيونية أعداء الإٍسلام والدين(2).
وكان إذا خاطب جمعاً مسيحياً قال: المسيح هو الحقيقة الإلاهية، والكلمة الجامعة السماوية، التى لا أول لها ولا آخر، ولها ظهور وإشراق وطلوع وغروب فى كل دور من الأدوار(3).
هذه أساليبهم ودعواتهم المنحرفة، وبدعهم وخداعهم ومكرهم كالثعالب المتلونة. قاتلهم الله أنى يؤفكون.
البهائية والصهيونية:
__________
(1) ... انظر خفايا الطائفة البهائية: ص122.
(2) ... لقد استطاع البهائيون أن يتغلغلوا فى إيران ويتولوا المراكز الحساسة العليا.
(3) ... راجع البابية والبهائية فى الميزان. والمصدر السابق "بتصرف".(2/85)
إن اليهود حاولوا بكل ما لديهم من وسائل تثبيت مركز الميرزا حسين البهاء، وبلغ الأمر بهم أن استخلصوا من دفائن العهد القديم وتنبؤات أسفاره ما ينبئ بظهور بهاء الله عباس. وزعموا أن كل آية تشيد بمجد يهودا إنما تعنى ظهور مخلص العالم فى شخص بهاء الله. كما نسبوا جزءاً كبيراً من الإشارات والتلميحات –التى فى الأسفار- إلى جبل الكرمل، الذى تجلى فيه نور الله وأضاء الكون، وذلك فى نهاية القرن التاسع عشر، فضلاً عن أنهم لم ينسوا أن يستخرجوا مما يحتويه سفر دانيال من الرؤى ما ينبئ بقيام حركة الباب وأن يلتمسوا تأويل ما يدل على حدوثها(1).
البهائية والانجليز:
إن تاريخ الإنجليز فى إيران لم يكن بأشرف من تاريخهم فى الهند، فقد حاولوا التغلغل بين الصفوف، وإيقاد نار العداوة بين المسلمين، ومساعدة الحركات الهدامة التى قامت لتقويض دعائم الإسلام، ومن ذلك مساعدتهم الفعلية للحركة البهائية، وتشجيعهم لزعمائها والتدخل السافر لإنقاذهم من القصاص العادل(2)، وتهيئة الظروف اللازمة لإنجاح دعوتهم.
لقد رأى الإنجليز أن أملهم الأخير يكمن فى مناصرتهم للميرزا حسين البهاء، وتهيئة الظروف اللازمة لإنجاح دعوته –بعد إخفاق الحركة البابية فى السيطرة على إيران- ولذلك فإنهم لجأوا إلى كل وسيلة لإنقاذه من الإعدام، متعاونين بذلك مع الروس واليهودية العالمية، لأنهم كانوا يرون فيه الشخص الذى بوسعه أن يقدم إليهم أجل الخدمات.
__________
(1) ... خفايا البهائية: ص115 – 119. والبابية والبهائية فى الميزان: ص23.
(2) ... انظر خفايا البهائية. والبابية والبهائية فى الميزان: ص25.(2/86)
إن ولاء عبد البهاء عباس –زعيم البهائية- للانجليز يتأكد لكل إنسان عندما يقرأ الخطب الرنانة التى ألقاها فى نوادى لندن وكنائسها ومجامعها، ويقول مخاطباً الإنجليز فى إحدى خطبه: إن مغناطيس حبكم هو الذى جذبنى إلى هذه المملكة. ويقول: أصبحت المدنية الغربية متقدمة عن الشرقية، وأصبحت الآراء الغربية أقرب إلى الله من آراء الشرقيين(1).
عقائد البهائية:
تقوم الديانة البهائية على أساس الاعتقاد بوجود إله واحد أزلى، نظير ما يعتقد به المسلمون، إلا أن البابيين يستمدون صفات الخالق من أساس العقيدة الباطنية، التى ترى أن لكل شىء ظاهراً وباطناً، وأن هذا الوجود مظهر من مظاهر الله، وأن الله هو النقطة الحقيقية، وكل ما فى الوجود مظهر له.
والوجود فى نظر المسلمين صادر عن الله وفعل مخلوق له، وأما عند البابية والباطنية فإنه صفة تدل على الحياة والتأثير، ومن هذه الناحية الاعتقادية يبنون كل مظاهر العمل والعبادة، على أنها أمور ظاهرية تعبر عن أمر باطنى.
أما عقيدتهم فى النبى والإمام فمستمدة عن العقيدة بالخالق، فالنبى أو الإمام فى حياته مظهر من مظاهر الله فى الأرض، وارتقاؤه إلى هذه المنزلة إنما هو باستمكاله صفات أخلاقية جعلته يعبر عن الأمر الواقعى ويصل إلى الحقيقة دون غيره، فمن استكمل الصفات التى استكملها النبى أو الإمام فهو أحق وأهل للتظاهر بمظهر الدعوة والتبشير، لهذا صح للباب أن يكون مظهراً من مظاهر الله فى الأرض بعد النبى(2).
أما عبادات البهائيين ومعاملتهم فقد وردت فى كتاب البيان، الذى نسخه خليفة الباب – وهو على حسين الملقب بالبهاء- بكتابه الأقدس:
1. الصوم:
__________
(1) ... المصدر السابق نفسه.
(2) ... انظر البابيون والبهائيون: ص72 – 73. وذيل الملل والنحل: ص51.(2/87)
عند البهائيين هو الشهر التاسع عشر، الذى يلى أيام الضيافة. والسنة البهائية تسعة عشر شهراً كل شهر تسعة عشر يوماً، ومجموع ذلك 361 يوماً، وبقية أيام السنة عندهم تسمى أيام الهاء، وهم يقضون هذه الأيام فى تبادل الزيارات ومواساة الفقراء والضعفاء والأيتام وأبناء السبيل، ثم يصومون بعد ذلك شهراً كاملاً، أى تسعة عشر يوماً، يكون آخرها عيد النيروز، أى: 21 آذار "مارس".
وفى الصيام يمتنعون عن الطعام والشراب من الشروق إلى الغروب، ويعفى من الصيام من كان دون البلوغ، أو كان على سفر، أو الضعيف نتيجة المرض أو الهرم، ويدخل فى ذلك الحامل والمرضع والحائض والنفساء، ولا يجب على هؤلاء القضاء.
كذلك يقول عبد البهاء فى دعوته الماكرة –داعياً للتجمع الصهيونى فى فلسطين ويدافع عنهم فى خبث ظاهر، ويذكر جملة أباطيل عند دفاعه عن اليهودية- فيقول: وقد اعتبر المسيحيون والمسلمون أن اليهود شياطين وأنهم أعداء، ولذلك لعنوهم واضطهدوهم وقتلوا الكثيرين منهم، وأحرقوا منازلهم ونهبوا أموالهم وأسروا أطفالهم(1).
ولإلقاء المزيد من الأضواء على صلة البهائية الضالة مع الصهيونية الماكرة، أسوق فيما يلى طائفة من الوثائق التى تكشف تآمرها على الإسلام والمسلمين.
1. نشرت مجلة الأخبار الأمرية التابعة للمحفل الروحانى الوطنى للبهائيين –العدد الخامس الصادر فى أيلول عام 1951- حديثاً لرئيس القسم العالى للبهائيين، مع وزير الأديان الصهيونى يقول فيه: إن أراضى الدولة الإسرائيلية –فى نظر البهائيين واليهود والمسيحيين والمسلمين- أراض مقدسة. وقد كتب حضرة عبد البهاء قبل أكثر من خمسين عاماً، أنه فى النهاية ستكون فلسطين موطنا لليهود، وهذا كلام طبع فى حينه وانتشر(2).
__________
(1) ... خفايا البهائية: ص115 – 119. والبابية والبهائية فى الميزان: ص23.
(2) ... انظر أجنحة المكر الثلاثة: ص212 – 213، وحقيقة البابية: ص20.(2/88)
2. وجاء فى كتاب التوقيعات المباركة، بالمجلد الثانى، لمؤلفه شوقى أفندى- وهو الزعيم الثالث للفرقة البهائية – فى الصفحة 290 ما يلى:
لقد تحقق الوعد الإلاهى لأبناء الخليل ووارث الكليم، وقد استقرت الدولة الإسرائيلية فى الأراضى المقدسة، وأصبحت العلاقات بينها وبين المركز العالمى للجامعة البهائية وطيدة، وقد أقرت واعترفت بهذه العقيدة(1).
3. نشرت مجلة الأخبار الأمرية بالعدد العاشر فى عام 1961م. ما قالته روجيه ماكسول زوجة شوقى أفندى وزعيمة البهائيين حالياً، فى مقابلة صحفية لها مع (مزدهيفت) وهو: فإن كان من المقرر لنا الاختيار، فمن الجدير أن يكون هذا الدين الجديد فى أحدث دولة، وفيها يترعرع، وإن لنا مع إسرائيل روابط ووحدة مصير، وفى الواقع يجب أن أقول: إن مستقبلنا ومستقبل إسرائيل يرتبطان ببعضهما كحلقتين فى سلسلة واحدة(2).
4. إن مركز تشكيلات البهائيين الرئيسى –وسمى بيت العدل- يوجد حالياً فى مدينة بفلسطين المحتلة، وتشرف عليه هيئة مكونة من تسعة أشخاص، بينهم أمريكيون وأوروبيون. والرئاسة الروحية فيه لتلك المرأة الأمريكية الأصل –روجيه ماكسول- وكل المحافل الأخرى التى تقام فى العالم تعتبر فرعاً للمركز الرئيسى فى فلسطين المحتلة(3).
5. ثبت لدى مكتب المقاطعة العربية لإسرائيل أن البهائية تتعامل مع الصهيونية وتتآزر معها، لذلك أصدر فى شهر صفر عام 1395هـ. الموافق لآذار عام 1975م. قراراً باعتبار البهائية من الحركات الهدامة، وبوضعها فى القائمة السوداء ومقاطعتها، وحظر أى نشاط لها فى البلاد العربية، لثبوت تعاملها مع العدو الإسرائيلى، وافتضاح اتصالاتها المشبوهة بالصهيونية وأجهزتها السرية والعلنية(4).
__________
(1) ... نفس المصدر.
(2) ... نفس المصدر. والبابية والبهائية فى الميزان: ص24.
(3) ... نفس المصدر.
(4) ... نفس المصدر.(2/89)
إن هذه النصوص الدامغة هى الوثيقة التاريخية التى تدين البهائية فى كل زمان ومكان بعمالتهم للصهيونية العالمية، وبأنهم الأعداء الحقيقيون للبشرية، والتى زعموا أنهم ما جاؤوا إلا لإسعادها ودفع الظلم عنها، وهذا زور وبهتان. ألا ساء ما يصنعون.
2. الصلاة:
فرضت الصلاة على كل بهائى بالغ، وهم يؤدونها على انفراد بتسع ركعات ثلاثة أوقات، حين الزوال، وفى البكور، والآصال، متوجهين شطر مدينة عكا حيث يرقد بهاء الله ، على أن يسبق الصلاة وضوء وإذا انعدم الماء يذكر الإنسان عبارة: بسم الله لا طهر إلا طهرك: خمس مرات، ثم يشرع فى الصلاة.
ويعفى من الصلاة من كان فى مثل الحالات التى سبق ذكرها فى الإعفاء من الصيام. وليس عندهم صلاة جماعة إلا فى صلاة الميت ويتلون فى كل صلاة أدعية خاصة(1).
3. الحج:
أما حجهم فإلى الدار التى ولد فيها مؤسس ديانتهم –على محمد- بشيراز، أو إلى الدار التى نزل بها بهاء الله حسين خلال إقامته بالعراق، وليس هناك وقت معين للحج(2).
4. الزكاة:
وقد سئل عبد البهاء عباس عن حكم الزكاة فى ديانته فأجاب: الزكاة فى البهائية كالزكاة فى الإسلام، وهناك تعاليم دينية أخرى منها:
تحريم التسول والاستجداء ومنع العطاء للمتسولين مطلقاً.
وجوب العمل على الجميع، فلا يأكل إنسان من ثمار غيره.
الإصلاح الاقتصادى بين الفلاحين فى القرى.
تحريم المخدرات(3).
5. الزواج:
الزواج بواحدة فقط، وفى كتابهم الأقدس التصريح بزوجتين إذا عدل بينهم، وفسر عبد البهاء عباس هذا النص بقوله: إن الزواج لا يكون بأكثر من واحدة، لأن الزواج باثنتين مقرون بشرط لا يمكن تحقيقة وهو العدالة.
__________
(1) ... ذيل الملل والنحل: ص52. وكتاب البابيون والبهائيون: ص75 وخفايا الطائفة البهائية: ص128 – 130.
(2) ... المصدر السابق.
(3) ... المصدر السابق نفسه.(2/90)
أما الطلاق فمكروه. وهم يزوجون البهائى من غير البهائية، والبهائية من غير البهائى بشرط تحرير عقد بهائى إلى جانب العقد غير البهائى(1).
6. المواريث:
فى الشريعة البهائية يتساوى الولد مع البنت فى الميراث وفى كافة الحقوق، وسن الرشد لهما واحد وهو الخامسة عشرة، وغير البهائى لا يرث البهائى.
أسماء الشهور والأيام عند البهائيين:
(1) شهر البهاء (2) شهر الجلال (3) شهر الجمال (4) شهر العظمة (5) شهر النور (6) شهر الرحمة (7) شهر الكلمات (8) شهر الكمال (9) شهر الأسماء (10) شهر العزة (11) شهر المشيئة (12) شهر العلم (13) شهر القدرة (14) شهر الفول (15) شهر المسائل (16) شهر الشرف (17) شهر السلطان (18) شهر الملك (19) شهر العلاء.
أما أسماء الأيام فهى:
يوم الجلال ... ... - ... يوم السبت
يوم الجمال ... ... - ... يوم الأحد
يوم الكمال ... ... - ... يوم الإثنين
يوم الفضال ... ... - ... يوم الثلاثاء
يوم العدل ... ... - ... يوم الأربعاء
يوم الاستحلال ... - ... يوم الخميس
يوم الاستقلال ... - ... يوم الجمعة
أعيادهم:
عيد النيروز فى 21 آذار – مارس.
عيد الرضوان: يبدأ من 21 نيسان – ابريل – إلى 2 أيار – مايو- وهو عيد إعلان بهاء الدين دعوته فى حديقة نجيب باشا بالعراق التى سماها حديقة الرضوان، وكان نجيب باشا والى بغداد قد حجزه فى تلك الحديقة سنة 1863م، فأقام فيها 12 يوماً أعلن خلالها دعوته.
عيد ميلاد مؤسس الديانة: وهو أول المحرم من كل عام.
عيد ميلاد البهاء حسين على: وهو فى اليوم الثانى من المحرم.
عيد إعلان دعوة الباب على محمد: وهو فى اليوم الخامس من جمادى الأولى(2).
__________
(1) ... المصدر السابق نفسه.
(2) ... انظر خفايا البهائية: ص124 – 136. والبابيون والبهائيون: ص84 – 89. وذيل الملل والنحل: ص53 – 54 بتصرف.(2/91)
وبما أن الديانة البهائية لم تجد رواجاً بين المسلمين، لذلك اتجه أتبعاها إلى نشرها فى أوربا وأمريكا، وقد زار عبد البهاء من البلاد الأوربية انجلترا وفرنسا وألمانيا والنمسا، وتجول فى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد صادفت دعوته بعض النجاح بين سكان أمريكا الشمالية.
وبعد وفاة الميرزا حسين على –الملقب بالبهاء- انقسم البهائيون إلى فرق هى:
(1) البهائية. (2) الأزلية: نسبة إلى صبح أزل أحد أنصار الباب. (3) البابية الخلص، الذين لم يرضخوا لأوامر من قام بعد الباب على محمد. (4) البابية البهائية العباسية: أتباع عبد البهاء عباس، وهو ابن حسين على الملقب بالبهاء، وقد أطلق على نفسه عبد البهاء، ولد سنة 1844م ومات سنة 1921م. (5) الناقضون: وهم أتباع محمد على أخى العباس، ويطلق المؤرخون اسم المارقين على أتباع الميرزا عباس واسم الناقضين على اتباع محمد على.
وكل فريق يؤيد دعواه ويكفر من عداه، فاعتزلوا المعاشرة وحرموا معاملة بعضهم لبعض، وكانت عداوة كل منهم للآخر أشد من عداوتهم جميعاً لمن طعن فى معتقداتهم وقال ببطلان دعواهم(1).
وعلى الجملة فبدعة البهائية المشركة، وضلالة البابية الخبيثة التى سبقتها –وهى حجر الأساس لوجودها- -هاتان الديانتان الاستعماريتان اللتان ارتبطتا عضوياً مع الاستعمار والصهيونية العالمية وذلك للكيد للإسلام وطعنه فى صميمه وتقويض أركانه(2).
تكفير البهائية:
__________
(1) ... انظر ذيل الملل والنحل ص55 – 56.وخفايا الطائفة البهائية: ص111 – 112.
(2) ... يقول محمد الحجازى، صاحب جريدة اليقظة الإيرانية، بأن البهائية مشركون وليسوا بمسلمين، وقد حكمنا فى إيران بنجاستهم … ومقابر البهائيين مع مقابر اليهود فى مكان واحد. خفايا البهائية: ص1186.(2/92)
ونظراً لأخطار البهائية ونتائجها المدمرة على الدين الإسلامى وأتباعه، ولئلا ينجرف الناس فى تيارها المعادى، وكشفاً لضلالها وفساد دعاتها وكفرهم، فقد صدرت عدة فتاوى وأحكام قضائية بتكفير هذه الطائفة ومبتدعيها.
فقد أفتى شيخ الأزهر فضيلة الشيخ سليم البشرى –رحمه الله- علامة زمانه، عندما سئل عن رأيه فى زعيمهم –الميرزا عباس- فأجاب بقوله: إنه كافر(1)…وقد صدرت هذه الفتوى فى جريدة مصر الفتاة فى 25 ذى الحجة سنة 1328هـ. عدد 692.
كما صدرت فتوى ثانية فى 3 سبتمبر سنة 1949م، وكانت لجنة الفتوى برئاسة الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشيخ عبد المجيد سليم –رحمه الله- وإلى القارئ نص الفتوى: إن البهائية ليست من فرق المسلمين، إذ أن مذهبهم يناقض أصول الدين وعقائده، التى لا يكون المرء مسلماً إلا بالإيمان بها جميعاً، بل هو مذهب مخالف سائر الملل السماوية، ولا يجوز للمسلمة أن تتزوج بواحد من هذه الفرقة، وزواج المسلمة به باطل، بل إن من اعتنق مذهبهم من بعد ما كان مسلماً صار مرتداً عن دين الإسلام، ولا يجوز زواجه مطلقاً، ولو ببهائية مثله(2).أهـ.
فعلى المسلمين أن يحذروا أعداءهم وأتباع هذه النحلة المسخ وأوهامها وخرافاتها، كما يجب على حكام المسلمين وعلمائهم كشف أعداء الأمة وكافة الدسائس وإحباطها، والتحذير من الوقوع فى شراك الأعداء ومكائدهم المستمرة.
__________
(1) ... انظر كتابنا مصرع الشرك والخرافة: ص313. وكتاب البابية والبهائية فى الميزان: ص26.
(2) ... البهائية فى نظر الشريعة والقانون: ص19، للمستشار على على منصور. وخفايا الطائفة البهائية: ص186.(2/93)
وبعد: فهذه صورة جامعة وجيزة للبابية وخليفتها البهائية، وما تقدمهما من مساعى الكيد للدين الإسلامى ابتغاء تغييره وتحويل أهله عنه، ومقتطفات من نصوص القوم مأخوذة من كتبهم وغيرها من المراجع الموثوقة، وأظن أن فيما أوردته ما يكفى للحكم على هاتين الطائفتين الضالتين بما تستحقانه والذين سعوا لهما. والله حسيبهم فى الدنيا والآخرة… وأخيراً خير ما يقال قوله تعالى: { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } (1).
الحركة القاديانية:
تنتسب الطائفة القاديانية إلى مدينة قاديان بالهند، وأحياناً يطلق عليهم اسم الأحمدية، لانتسابهم فى مذهبهم إلى رجل اسمه غلام أحمد المولود بمدينة قاديان بالهند سنة 1835م. والذى انكب منذ صغره على دراسة القرآن والحديث والتعبد والتفكير فى أمور الدين.
وقد ادعى غلام أحمد أنه المسيح المعهود والمهدى الموعود فى وقت واحد، ويستند أتباعه فى الإيمان به إلى حديث: (أن المهدى يظهر ..... وأن المسيح يُصلى خلفه …)(2) مع قول النبى - صلى الله عليه وسلم - (كيف بكم وبابن مريم فيكم؟!.)(3).
__________
(1) ... سورة النور: 63.
(2) ... أخرجه أبو نعيم فى "أخبار المهدى" والحارث ابن أبى أسامة فى "مسنده" كما فى "العرف الوردى" للسيوطى (2/134 الحادى)، وقال ابن القيم: هذا إسناد جيد (المنار المنيف ص 147، 148).
(3) ... أخرجه البخارى (3449) فى أحاديث الأنبياء : باب نزول عيسى بن مريم. ومسلم فى الإيمان : باب نزول عيسى بن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - (155) (244، 245، 246).(2/94)
ويقولون أن غلام أحمد وإن كان هندياً إلا أنه إيرانى الأصل، هاجر آباؤه إلى الهند منذ مئات السنين(1). وإيران هى الموطن الصحيح لسلمان الفارسى وقد جاء فيما يروى: (سلمان منا أهل البيت)(2).
وفى سنة 1896م وجه غلام أحمد رسالة إلى علماء الهند وغيرها من البلاد الإسلامية جاء فيها(3):
إن الله قد بعثنى مجدداً على رأس هذه المائة، واختصنى عبداً لمصالح العامة، وأعطانى علوماً ومعارف تجب لإصلاح هذه الأمة. ووهب لى من لدنه علماً حياً لإتمام الحجة على الكفرة الفجرة، وجعلنى من المكلمين الملهمين، وأكمل على نعمه، وأتم تفضله، وسمانى المسيح ابن مريم بالفضل والرحمة، وقدر بينى وبينه تشابه الفطرة كالجوهرين من المادة الواحدة، ووهب لى علوماً مقدسة نقية، ومعارف صافية جلية، وعلمنى ما لم يعلم غيرى من المعاصرين، وصب فى قلبى ما لم يحيطوا به علماً، ونوراً لم يمسه أحد منهم، وجعلنى من المنعمين.
ومن أجل آلائه أنه استودعنى سره الذى يكشف للأولياء، والروح الذى لا ينفخ إلا فى أهل الإصطفاء، وأعطانى كل ما يعطى لأهل الموالاة والولاء، وصافانى وولانى وشرح صدرى، وأتم بدرى وأخبرنى بأكثر ما هو مزمع عليه فى سابق علمه، وصبغنى حبه، وهدانى طرق إسلامه وسلمه، وأخرجنى من المحجوبين.
__________
(1) ... انظر القاديانى والقاديانية: ص6. وذيل الملل والنحل ص61.
(2) ... أخرجه الحاكم (ح 6539 ، 6541)، وسكت عليه الحاكم وحذفه الذهبى لشدة ضعفه وانظر السير (3/341)، وقال الألبانى: ضعيف جداً (ضعيف الجامع 3272).
(3) ... مكتوب أحمد، طبع لجنة التحرير الجديد سنة 1959م.(2/95)
ومن آلائه أنه خاطبنى وقال: أنت وجيه فى حضرتى واخترتك لنفسى وقال: أنت منى بمنزلة لا يعلمها الخلق. وقال: أنت منى بمنزلة توحيدى وتفريدى. وقال: يا أحمد أنت مرادى ومعى، يحمدك الله من عرشه. وقال: أنت عيسى الذى لا يضاع وقته، كمثلك در لا يضاع جرى الله فى حلل الأنبياء. وقال: قل إنى أُمرت وأنا أول المؤمنين. وقال: اصنع الفلك بأعيننا ووحينا. إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم. وقال: { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (1).
أيها الكرام: إن الفتن اشتدت، والأرض فسدت، والمفاسد كثرت، وعلا فى الأرض حزب المتنصرين، وقيل لهم مراراً لا تجعلوا ميتاً إلاهاً غفاراً، واتقوا الله محاسباً قهاراً، فما خافوا الله، وأصروا على كفرهم متشددين، هناك اقتضت أحديته وقضت غيرته أن يكسر صليبهم ويبطل أكاذيبهم، ويوهن كيد الخائنين.
فكلمنى ونادانى وقال: إنى مرسلك إلى قوم مفسدين، إنى جاعلك للناس إماماً، وإنى مستخلفك إكراماً، كما جرت سنتى فى الأولين وخاطبنى وقال: إنك أنت المسيح ابن مريم، وأرسلت ليتم ما وعد من ربك الأكرم، إن وعده كان مفعولاً وهو أصدق الصادقين.
وأخبرنى أن عيسى نبى الله قد مات، ورفع من هذه الدنيا ولقى الأموات، وما كان من الراجعين، بل قضى عليه الموت وأمسكه، ووافاه الأجل وأدركه، فما كان له أن ينزل إلا بروزاً كالسابقين. وقال سبحانه: إنك أنت هو فى حلل البروز، وهذا هو الوعد الحق الذى كان كالسر المرموز، فاصدع بما تؤمر، ولا تخف ألسنة الجاهلين، وكذلك جرت سنة الله فى المنقذين.
فلما أخبرت عن هذا قومى قامت علماؤهم للعنى ولومى، وكفرونى قبل أن يحيطوا بقولى ويزنوا حولى وقالوا: دجال ومن المرتدين … وقال كبيرهم الذى أفتى وأغرى: إن هؤلاء كفرة فجرة، فلا يسلم عليهم أحد، ولا يتبع جنازتهم، ولا يدفنون فى مقابر المسلمين. أهـ.
__________
(1) ... سورة الأنبياء: 107.(2/96)
ثم عرض غلام أحمد بالعلماء فقال: وهم يقرؤون كتاب الله ثم ينسون ما قرؤوا، ولا يتدبرون كلمات الله بل ينبذونها وراء ظهورهم، وما كانوا ممعنين، والعجب كل العجب أنهم يقولون إنا آمنا بآيات الله ثم لا يؤمنون. ويقولون إننا نتبع صحف الله ثم لا يتبعون، ألا يقرؤون فى الكتاب الأعلى ما قاله الله فى عيسى؟. إذ قال: { يا عيسى إنى متوفيك } (1). وقال: { فلما توفيتنى } (2)…وما قال إنى محييك، فمن أين علم حياة المسيح بعد موته الصحيح؟!. ويؤمنون بأنه لقى الأموات ثم يقولون ما مات. تلك كلم متهافتة متناقضة، لا ينطق بها إلا الذى ضلت حواسه وغرب عقله وقياسه.
أليس الله بقادر على أن يجتبى مثلى بعنايته؟ ويعطى دراية من درايته؟ ولله أسرار فى أنبائه وحكم تحت قضائه.
يا عباد الله. اسمعوا ثم فكروا، ثم أقبلوا إن كنتم طالبين، قد مات نبى الله عيسى وأخبرنا عن موته خير الخلق وسيد الورى، وما جاء لفظ رجوع المسيح فى نبإ خير البرية، بل لفظاً النزول إلى هذه الأمة، وشتان بين الرجوع والنزول عند أهل المعرفة.
واعلموا أن قرب الله ليس إرثاً مقبوضاً لأحد، بل تداول هذه الأيام من أمر رب صمد يلقى الروح على من يشاءُ، وهكذا تقتضى لعظمة الكبرياء.
ثم يستطرد فى رسالته إلى أن يقول: وتعلمون أن فتن النصارى وغلوهم فى الخزعبلات كانت تقتضى حكماً من رب السموات، فالله الذى نجى المسيح من صليب اليهود ورفعه إلى المقام الأعلى، أراد أن ينجيه من صليب النصارى مرة أخرى، فأرسلنى حكماً عدلاً لهذه الخطة، وسمانى باسمه، لأكسر الصليب وأتم ما بقى منه من فرائض النصيحة. ومن آيات الله أنه أخفى فى عدد إسمى عدد زمانى، وإن شئت ففكر فى غلام أحمد قاديانى، فذلك خاتم رب العالمين. وفيه إشارة إلى أنه جعلنى لهذه الملة مجدد الدين.
__________
(1) ... آل عمران: 55.
(2) ... المائدة: 117.(2/97)
ويختتم رسالته المشؤومة بقوله: اعلموا أن فضل الله معى، وأن روح الله ينطق فى نفسى فلا يعلم سرى ودخيلة أمرى إلا ربى، هو الذى نزل على وجعلنى من المنورين(1). أهـ.
لقد ادعى غلام أحمد بأنه المسيح الموعود، بمعنى أنه جاء بقوة وروح عيسى علي السلام. وادعى أيضاً أنه هو النبى الذى تنبأت بظهوره فى آخر الزمان أغلب الديانات العظيمة. وأكد أن القرآن هو آخر كتاب تشريعى موحى به من الله تعالى، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - آخر الأنبياء المشرعين، وأنه خاتم النبيين، أى أنه لا يمكن لأى نبى غير مشرع ان يظهر بعده إلا باتباعه اتباعاً كاملاً، والتشبه به تشبهاً تاماً. وقد ادعى أنه نبى، وأن مهمته هى إقامة العلاقة بين الإنسان وخالقه، كما أنه جاء أيضاً ليفسر القرآن وتعاليم الإسلام، فى ضوء الوحى الإلهى، بما يطابق العصر الحاضر، وليكون هو نفسه مثالاً يبين الحياة الإسلامية الكاملة.
وللقاديانية رئيس دينى يلقبونه أمير المؤمنين، وخليفة المسيح الموعود، والمهدى المعضود. وهكذا انقلبت الحقائق على أيدى دعاة الباطل –من أمثال غلام أحمد وخلفائه الأباليس- فهم بحق أمراء الإلحاد ودعاة الكفر والفساد.
بعض تحريفات القاديانيين وتأويلاتهم:
أمثلة من التفسير المحرف: إن محمد على اللاهورى هو الذى لقب الميرزا غلام أحمد بالمصلح الأكبر، كما يعتقد أنه المسيح الموعود، وقد جاء فى تفسيره ما يصرح بذلك:
__________
(1) ... هذه نصوص رسالة غلام أحمد التى بعث بها إلى علماء الهند وغيرها من بلاد الإٍسلام. وهو مؤسس نحلة القاديانية المارقة. وفيها يظهر كفره وردته وضلاله، وقد سجلت معظم نصوصها، ولمن أراد التوسع فعليه بكتبهم الواهية الملحدة. وبذيل الملل والنحل. والقاديانى والقاديانية: ص100.(2/98)
يقول فى تفسير قوله تعالى: { ورسولاً إلى بنى إسرائيل } (1): إن ابن مريم الذى أخبر الرسول بقدومه ليس معناه إلا أن يأتى أحد أفراد هذه الأمة فى لون ابن مريم، كما تحققت نبوءة وعد إلياس بقدوم يحيى فى لونه(2).
إنه يفسر قوله تعالى –فى قضية طائفة من بنى إسرائيل عبدت العجل، وعاقبها الله بأن يقتل بعضها بعضاً: { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } (3). إن المراد بالقتل هنا إماتة الشهوات، وهذا الذى أُرجحه بناءً على السياق والسباق(4).
ويقول فى تفسير قوله تعالى: { فقُلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثتنا عشرة عيناً قد علم كُل أُناس مشربهم } (5). من معانى الضرب: السير فى الأرض، يقال ضرب فى الأرض يعنى سار(6). ومن معانى العصا: الجماعة، وعصوت يعنى جمعت. ويقال عن الخوارج: شقوا عصا المسلمين. ويقال: إياك وقتيل العصا. والمراد أن الله أمر موسى بالمسير إلى جبل خاص والانتقال بجماعته إليه، حيث وجد اثنتى عشرة عيناً، ضرب عليها فصائل بنى إسرائيل خيامها وأخبيتها(7).
ويقول فى تفسير قوله تعالى: { ورفعنا فوقكم الطور } (8). ليس أن الله رفع هذا الجبل على رؤوسهم مثل الظلة لا يستقر على الأرض، بل المعنى أنكم كنتم فى المنخفض من الأرض، وكان الجبل يطل عليكم –كما جاء فى البخارى- فرفعت لنا الصخرة، يعنى ظهرت لأبصارنا(9).
وفسر منطق الطير فى قوله تعالى: { عُلمنا منطق الطير } (10). حمل الطيور للرسائل من مكان إلى مكان كالحمام الزاجل.
__________
(1) ... سورة آل عمران: 49.
(2) ... بيان القرآن.
(3) ... سورة البقرة: 54.
(4) ... بيان القرآن: ج1 ص65.
(5) ... سورة البقرة: 60.
(6) ... بيان القرآن: ج1 ص69.
(7) ... المرجع السابق: ص69 نقلاً عن القاديانى والقاديانية: ص12.
(8) ... سورة البقرة: 63.
(9) ... بيان القرآن: ج1 ص70 – 74.
(10) ... سورة النمل: 16. ...(2/99)
وفسر وادى النمل بأنه موضع فى نواحى اليمن، والنملة بطن من بطون العرب، أو أمة كانت تسكن فى وادى النملة.
ولعل القارئ الكريم قد وقف على تخرصات وأباطيل القاديانية وتفسيراتها المتطرفة، والتى هى نسخة صادقة لتفسيرات الباطنية والإسماعيلية فى العهد السابق… ألا قاتل الله ملة الكفر وأصحابها.
القاديانية والاستعمار:
بعد أن زحفت الدول الاستعمارية على الأقطار العربية والإسلامية، وفى مقدمتها بريطانيا التى استولت على الهند ومصر، وناصبت الدولة العثمانية العداء، وتآمرت عليها وقعدت لها بالمرصاد، تساعد منافساتها من الدول وتحرض عليها، بدأت تتسرب إلى الجزيرة العربية وتبذر فيها بذور الفساد.
وقد أصبحت حكومة بريطانيا مسيطرة على الهند الإسلامية، وأصبحت الحكومة المغولية التيمورية –وهى الدولة المسلمة الأخيرة- أسيرة أو رهينة فى يدها، تتصرف فى ممتلكاتها تصرف السلطان الحر، وقاومها الملك الشهم الأبى السلطان تيبو –رحمه الله- فسقط فى المعركة شهيداً عام 1799م، وانبث القساوسة والرهبان فى الهند يدعون المسلمين –بصفة خاصة- إلى المسيحية ويسخرون من الدين الإسلامى ومبادئه وتعاليمه(1).
وانتشر الفساد والخلاعة، وغزت حضارة أوربا بيوت المسلمين ومجتمعاتهم، وبدأ الإلحاد وثار المسلمون على الإنجليز عام 1857م، وانضم إلى هذا المعسكر كل من فى قلبه ذرة من إيمان أو غيرة على الدين وقد كان الانتصار حليفاً للإنجليز –لدهائهم وحسن نظامهم- فانتقموا من أهل البلاد- ومن المسلمين خاصة- انتقاماً شديداً، وكان ذلك مصداق قوله تعالى: { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون } (2).
__________
(1) ... القاديانى والقاديانية: ص21.
(2) ... سورة النمل: 34.(2/100)
ولم يكن الإنجليز طغاة ظالمين وملوكاً مستبدين فحسب، بل كانوا رسل الفساد والإلحاد والخلاعة والإباحة، وكانوا حملة لواء الاستعمار والاستهتار، والثورة على القيم الروحية والخلقية، التى جاء بها الأنبياء ونزلت بها الصحف، وكانوا مغيرين على العالم الإسلامى وزعماء الاستعمار الأوربى السياسى والثقافى والخلقى.
إن المعركة مستمرة بين الحق والباطل، وقد عرفنا من سيرة أنبياء الله ورسله وخلفائهم أنهم كانوا دائماً حرباً على الظالمين والمجرمين، بعيدين عن مساندتهم وتأييدهم. وقد قال موسى عليه السلام: { رب بما أنعمت علىَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين } (1).
وقال تعالى مخاطباً للمؤمنين: { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون } (2). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)(3).
هذا وأسوة النبى - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وخلفائه من العلماء والدعاة المخلصين مسجلة فى بطون التاريخ.
خدمات غلام أحمد لبريطانيا:
وإلى القارئ بعض الأمثلة المؤيدة لحكومة بريطانيا، فى إلغاء الجهاد وتعطليه، والذى كان المسلمون فى حاجة ملحة إلى إحيائه والدعوة إليه، ليتحرروا من حكم الأجنبى ويتخلصوا من السرطان الإنجليزى، الذى امتد فى جسم العالم الإسلامى.
__________
(1) ... سورة القصص: 17.
(2) ... سورة هود: 113.
(3) ... رواه أبو داود (4344) والترمذى (2174) وابن ماجة (4011)، قال الترمذى: حديث حسن غريب، وصححه الألبانى (الصحيحة ح491). وله شاهد من حديث طارق بن شهاب، رواه النسائى (7/161)، وصححه المنذرى فى الترغيب (ح3402).(2/101)
يقول الميرزا غلام أحمد فى كتابه –ترياق القلوب- ص15(1): لقد قضيت معظم عمرى فى تأييد الحكومة الإنجليزية ونصرتها، وقد ألفت فى منع الجهاد ووجوب طاعة أولى الأمر –الإنجليز- من الكتب والإعلانات والنشرات، ما لو جمع بعضها إلى بعض لملأ خمسين خزانة. وقد نشرت جميع هذه الكتب فى البلاد العربية ومصر وتركيا، وكان هدفى دائماً أن يصبح المسلمون مخلصين لهذه الحكومة، وتمحى من قلوبهم قصص المهدى السفاك والمسيح السفاح، والأحكام التى تبعث فيهم عاطفة الجهاد وتفسد قلوب الحمقى أهـ.
وقال فى آخر كتابه (شهادة القرآن): إن عقيدتى التى أكررها أن للإسلام جزئين: الجزء الأول إطاعة الله. والجزء الثانى. إطاعة الحكومة، التى بسطت الأمن وآوتنا فى ظلها من الظالمين، وهى الحكومة البريطانية. أ. هـ.(2). ويقول فى رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة عام 1898م: لقد ظللت منذ حداثة سنى –وقد ناهزت اليوم الستين- أجاهد بلسانى وقلمى لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة والنصح لها والعطف عليها، وألغى فكرة الجهاد التى يدين بها جهالهم، والتى تمنعهم من الإخلاص لهذه لحكومة، وأرى أن كتاباتى قد أثرت فى قلوب المسلمين، وأحدثت تحولاً فى مئات الآلاف منهم(3).أهـ.
وقال فى مكان آخر: لقد ألفت عشرات من الكتب العربية والفارسية والأوردية أثبت فيها أنه لا يحل الجهاد أصلا ضد الحكومة الإنجليزية التى أحسنت إلينا، بل بالعكس من ذلك، يجب على كل مسلم أن يطيع هذه الحكومة بإخلاص. وقد أنفقت على طبع هذه الكتب أموالاً كبيرة وأرسلتها إلى البلاد الإسلامية، وأنا عارف أن هذه الكتب قد أثرت تأثيراً عظيماً فى أهل هذه البلاد – الهند.
__________
(1) ... القاديانى والقاديانية: ص96 وما بعدها.
(2) ... ملحق شهادة الإيمان.
(3) ... تبليغ رسالات: المجلد السابع ص10 تأليف قاسم على القاديانى.(2/102)
وقد كون أتباعى جماعة تفيض قلوبهم إخلاصاً لهذه الحكومة والنصح لها –إنهم على جانب عظيم من الإخلاص- وأنا أعتقد أنهم بركة لهذه البلاد، ومخلصون لهذه الحكومة ومتفانون فى خدمتها(1).
ويقول فى مكان آخر: لقد نشرت خمسين ألف كتاب ورسالة وإعلان فى هذه البلاد وفى البلاد الإسلامية، تفيد بأن الحكومة الإنجليزية صاحبة الفضل والمنة على المسلمين، فيجب على كل مسلم أن يطيع هذه الحكومة إطاعة صادقة. وقد ألفت هذه الكتب باللغات الأوردية والعربية والفارسية، وأذعتها فى أقطار العالم الإسلامى حتى وصلت وذاعت فى البلدين المقدسين مكة والمدينة، وفى الآستانة وبلاد الشام ومصر وأفغانستان، وكانت نتيجة ذلك أن أقلع ألوف من الناس عن فكرة الجهاد، التى كانت من وحى العلماء الجامدين. وهذه مأثرة أتباهى بها، يعجز المسلمون فى الهند أن ينافسونى فيها(2).
وربما يخامر القارئ الشك فى دقة الترجمة العربية، لأن النصوص فى اللغة الأوردية، مع أن الكاتب قد تحرى الإتقان والتدقيق والترجمة الحرفية.
__________
(1) ... من رسالة مقدمة إلى الحكومة الإنجليزية بقلم الميرزا غلام أحمد.
(2) ... سنارة قيصرة. تأليف الميرزا غلام أحمد، مقتبساً عن كتاب القاديانى والقاديانية.(2/103)
فلنقدم نصوصاً عربية بحرفها ولفظها يقول فى كتابه نور الحق: ولا يخفى على هذه الدولة المباركة أَنَّا من خدامها ونصحائها ودواعى خيرها من قديم، وجئناها فى كل وقت بقلب صميم، وكان لأبى عندها زلفى وخطاب التحسين، ولنا لدى هذه الدولة أيدى الخدمة. ولا يظن أن ننسها –كذا- فى حين. وكان والدى الميرزا غلام مرتضى بن الميرزا عطا محمد القاديانى من نصحاء الدولة وذوى الخلة، وعندها من أرباب القربة، وكان يصدر على تكرمة العزة، وكانت الدولة تعرفه غاية المعرفة، وما كنا قط من ذوى الظنة بل ثبت إخلاصنا فى أعين الناس كلهم وانكشف على الحاكمين، وتستطلع الدولة حكامها الذين جاؤونا ولبثوا بيننا، كيف عشنا أمام أعينهم، وكيف سبقنا فى كل خدمة مع السابقين. أهـ.
وأعتقد أن فى هذا بلاغاً ومقنعاً. ونختم هذا الفصل بكلمتين أُخْرَيَين تلقيان الضوء على نيات هذا القاديانى وأهدافه، وصلته بحكومة الاستعمار الإنجليزى، يقول فى رسالة قدمها إلى نائب حاكم المقاطعة الإنجليزى فى اليوم الرابع والعشرين من فبراير سنة 1898م:
من غرس الإنجليز: والمأمول من الحكومة أن تعامل هذه الأسرة التى هى من غرس الإنجليز أنفسهم ومن صنائعهم –بكل حزم واحتياط وتحقيق ورعاية، وتوصى رجال حكومتها أن تعاملنى وجماعتى بعطف خاص ورعاية فائقة(1).
علة الحدة فى مناظرة القسوس:
ويقول فى تعليل حدة قد تعتريه فى الرد على بعض القسوس: لقد غلا بعض القسوس والمبشرين فى كتاباتهم وجاوزا حد الاعتدال، ووقعوا فى عرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخفت على المسلمين الذين يعرفون بحماستهم الدينية أن يكون لها رد فعل عنيف، وأن تثور ثائرتهم على الحكومة الإنجليزية، ورأيت من المصلحة أن أقابل هذا الاعتداء بالاعتداء حتى تهدأ ثورة المسلمين. وكان كذلك(2).
تحريم الجهاد:
__________
(1) ... تبليغ رسالات: المجلد السابع ص19 – 25.
(2) ... ترياق القلوب: ص310.(2/104)
أما الجهاد –الذى كان مقلقاً للإنجليز وشغلهم الشاغل- فأفتى بكل صراحة وقوة بحرمته فى عصره. وكتبه وكتاباته طافحة بذلك، والقليل من هذا الكثير، أنه قال فى كتابه الأربعين: لقد أُلغى الجهاد فى عصر المسيح الموعود إلغاءاً باتاً.
وقال فى الخطبة الإلهامية: لقد آن أن تفتح أبواب السماء، وقد عطل الجهاد فى الأرض وتوقفت الحروب، كما جاء فى الأحاديث أن الجهاد للدين يحرم فى عصر المسيح، فيحرم الجهاد من هذا اليوم، وكل من يرفع السيف للدين وقتل الكفار باسم الغزو والجهاد يكون عاصياً لله ولرسوله.
ويقول فى ترياق القلوب: إن الفرقة الإسلامية –التى قلدنى الله إمامتها وسيادتها- تمتاز بأنها لا ترى الجهاد بالسيف ولا تنتظره، بل إن الفرقة المباركة لا تستحله –سراً كان أو علانية- وتحرمه تحريماً باتاً(1).
وهكذا تتضح أهداف هذه الحركة الهدامة، والتى تشبثت بدعواتها الباطلة، التى لا تستند على حجة ولا يسعفها أى دعوى أو برهان. ولست بحاجة إلى تعليق على هذه التخرصات المفضوحة بل أترك ذلك للقراء.
لقد أمدت هذه النحلة المصطنعة حكومة الاستعمار البريطانى بكل ما تحتاجه من جواسيس لمصالحها، وأصدقاء أوفياء ومتطوعين متحمسين كانوا موضع ثقة حكومة بريطانيا ومن خيار رجالها، كيف لا؟ وهى صنيعة بريطانيا وخادمتها المخلصة. وقد أجاب على ذلك زعيمها غلام أحمد- ومن بين هؤلاء الجواسيس عبد اللطيف القاديانى الذى كان فى أفغانستان يدعو للقاديانية وينكر الجهاد على المسلمين، وخوفاً من دعواته الإجرامية وخطرها على الإسلام فقد قتلته حكومة أفغانستان، كما قتلت جاسوسين آخرين من عملاء الإنجليز وهما قاديانيان لأنهما كانا يعملان على قلب نظام أفغانستان، كما صرح بذلك وزير داخليتها عام 1925م(2).
القاديانية ثورة على النبوة المحمدية:
__________
(1) ... ترياق القلوب: ص332. هذه أقوال للميرزا غلام أحمد وردت فى رسائله وكتبه.
(2) ... القاديانى والقاديانية: ص121.(2/105)
لقد شهد تاريخنا الإسلامى محناً عظيمة ودسائس خطيرة، ولكنه لم يشهد مثل هذه المحنة ومثل هذه الدسيسة، لقد كانت المحن القديمة ثورة على الحكم الإسلامى أو ثورة على الشريعة الإسلامية، ولكن القاديانية كانت ثورة على النبوة المحمدية، وعلى خلود الرسالة الإسلامية، وعلى وحدة هذه الأمة، وأنها تخطت الخط الأخير الذى يفصل هذه الأمة عن الأمم الأخرى، والذى يعتبر كخط التحديد بين مملكتين.
ولقد كان الدكتور محمد إقبال موفقاً وحكيماً فى الحكم على القاديانية بأنها خطر على الإسلام، وأنها ديانة مستقلة. قال –رحمه الله- فى رسالة وجهها إلى كبرى صحف الهند الإنجليزية –استيتسمن- التى أثارت مسألة القاديانيين قبل سنوات:
إن القاديانية محاولة منظمة لتأسيس طائفة جديدة على أساس نبوة منافسة لنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -(1).
ورداً على كلمة البنديت جواهر لال نهرو- رئيس وزراء الهند يومها- وقد تساءل: لماذا يلح المسلمون على فصل القاديانية من الإسلام، وهى طائفة من طوائف المسلمين الكثيرة؟!.
قال الدكتور: إن القاديانية تنحت من أمة النبى العربى - صلى الله عليه وسلم - أمة جديدة للنبى الهندى. وذكر أنها أشد خطراً على الحياة الاجتماعية للإسلام فى الهند من عقائد –سفنوذا- الفيلسوف الثائر على نظام اليهود.
__________
(1) ... نشرت هذه الكلمة الصحيفة فى عددها الصادر فى 10 يونيه سنة 1935م. نقلاً عن: القاديانى والقاديانية.(2/106)
ويقول فى تفصيل مقالته فى –استيتسمن- التى سبق ذكرها: إنَّ عقيدةً أنَّ محمداً - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين، هو العامل الذى يخط خط التحديد –بكل دقة- بين الدين الإسلامى والديانات الأخرى، التى تشارك المسلمين فى عقيدة التوحيد، والموافقة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ولكنها تقول باستمرار الوحى وبقاء النبوة لـ –برهمو سماج- فى الهند، وهو الذى يستطيع به الإنسان أن يحكم على طائفة بالاتصال بالإسلام أو الانفصال عنه. ولا أعرف فى التاريخ طائفة مسلمة اجترأت على تخطى هذا الخطر. إن البهائية فى إيران أنكرت عقيدة ختم النبوة، ولكنها أعلنت بصراحة أنها طائفة مستقلة، ليست مسلمة بمعنى الكلمة المصطلح.
ويستمر قائلاً: إننا نعتقد أن الإسلام دين أوحى الله به، ولكن وجود الإسلام لمجتمع أو أمة يتوقف على شخصية محمد - صلى الله عليه وسلم - وليس للقاديانية إلا أن يختاروا أحد الأمرين: إما أن يتبعوا البهائية فى انفصالها من المسلمين، وإما أن يتخلوا عن تفسيراتهم المتطرفة لفكرة ختم النبوة فى الإسلام. إن تأويلاتهم السياسية لا تنم إلا عن حرصهم على البقاء فى محيط المسلمين، ليستغلوا هذا الإسم وينتفعوا بفوائد سياسية لا تحصل إلا باسم المسلمين.
وقال فى محل آخر: إن كل مجتمع ينفصل عن الإسلام –له طابع دينى يقوم على أساس نبوة جديدة، ويعلن كفر جميع المسلمين الذين لا يصدقون بهذه النبوة المزعومة – يجب أن ينظر إليه المسلمين كخطر جدى لوحدة المسلمين. إن نبوغ المجتمع الإسلامى لا يقوم إلا على عقيدة ختم النبوة(1).
ترحيب القوميين الهنديين بالقاديانية:
__________
(1) ... القاديانى والقاديانية: ص120.(2/107)
لقد رحب الهنادك –الذين لم يزالوا ينقمون على المسلمين تعلق قلوبهم بجزيرة العرب مهد الإسلام ومنزل الوحى، لقد رحب هؤلاء الناقمون الغلاة – بالديانة التى تنقل المركز الروحى والثقافى من الجزيرة العربية ومن الحرمين الشريفين إلى القاديان، وتركز الدين والعواطف الدينية وتحصرها فى الهند.
وننقل هنا قطعة من مقالة لكاتب هندوكى نشرتها صحيفة هندوكية –فى عددها 22 إبريل سنة 1932- وهى دليل على تعلق الهندوك بالقاديانية، وهذه هى نصوص تلك القطعة: إن المسلمين الهنود يعتبرون أنفسهم أمة منفصلة متميزة، ولا يزالون يتغنون ببلاد العرب ويحنون إ ليها، ولو استطاعوا لأطلقوا على الهند إسم العرب.
وفى هذا الظلام الحالك، وفى هذا اليأس الشامل، يظهر شعاع من نور يبعث الأمل فى صدور الوطنيين، وهى حركة الأحمديين –القاديانيين- وكلما أقبل المسلمون إلى الأحمدية نظروا إلى قاديان كمكة هذه البلاد، المركز الروحى العالمى، وأصبحوا مخلصين للهند وقوميين بمعنى الكلمة.
إن تقدم الحركة الأحمدية ضربة قاضية على الحضارة العربية والوحدة الإسلامية، وكل من اعتنق الأحمدية تغيرت وجهة نظره، وضعفت صلته الروحية بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك تنتقل الخلافة من الجزيرة العربية وتركيا إلى قاديان فى الهند، ولا يبقى لمكة والمدينة إلا حرمة تقليدية.(2/108)
إن كل أحمدى –سواء أكان فى البلاد العربية أو تركيا أو إيران أو فى أى ناحية من نواحى العالم- يستمد من قاديان القوة الروحية، وتصبح قاديان أرض نجاة له، وفى ذلك سر فضل الهند، وهذا هو سر عدم ارتياح المسلمين إلى حركة الأحمدية وقلقهم منها، لأنهم يعتقدون أن حركة الأحمدية هى المنافسة للحضارة العربية والإسلام، ولذلك اعتزل الأحمديون عن حركة الخلافة، لأنهم يحرصون على تأسيس الخلافة فى قاديان مكان تركيا والجزيرة العربية، وإن كان هذا الواقع مقلقاً للمسلمين، الذين لا يزالون يحلمون بالاتحاد الإسلامى وبالاتحاد العربى، ولكنه مصدر سرور وارتياح للوطنين الهنديين(1).
أهم نشاطاتهم:
لقد سلكوا كل السبل التى تساعدهم على نشر باطلهم وتيسر لهم التغلغل إلى جماهير المسلمين لنفث سمومهم، ومن ذلك مثلاً بناء المعابد التى يسمونها مساجد تمويهاً، حيث يجتمع القاديانيون ليمكروا بالإسلام والمسلمين.
__________
(1) ... مقالة للدكتور شنكر داى مهرا فى صحيفة (بندفى مارترم). وانظر القاديانى والقاديانية: ص123 – 125. ونذكر هنا أن القاديانية الهدامة قد امتد فسادها ووصل أتباعها إلى أطراف جزيرة العرب، التى قال النبى - صلى الله عليه وسلم - فيها: (لا يجتمع فى جزيرة العرب دينان). فانتشروا على شواطئ الخليج قادمين من باكستان وغيرها، لينشروا خلالهم وينفثوا سمومهم فى قلب الإسلام والعروبة، كما يفعل النصارى الذين شيدوا الكنائس فى أطراف الجزيرة. نأمل من حكام الخليج حماية الإسلام والمسلمين من هؤلاء وأولئك.(2/109)
إنها معابد الضرار التى لا يدخلها إلا القاديانيون، ويمنع غيرهم من دخولها(1)، وذلك لأنهم يحرمون الصلاة مع المسلمين، ويختلفون معهم فى العقيدة والصلاة والصيام والحج والزكاة وسائر العبادات كما قال زعيمهم –ميرزا غلام أحمد- فى إحدى خطبه المشهورة(2).
... ومن العجيب حقاً أن تركز كثيراً من جهودها فى الولايات المتحدة الامريكية حيث بدأت أعداد كبيرة من الأمريكيين تتحول إلى الإسلام، وذلك لتتخطفهم القاديانية وتحرفهم عن الإسلام الصحيح، وترمى بينهم وبين المستمسكين بالعقيدة الصحيحة العداوة والبغضاء، التى تؤدى إلى إضعافهم والتقليل من نفوذهم وتأثيرهم. ولا ريب أن ذلك من مصلحة أعداء الإسلام وكيدهم الخبيث ضد الإسلام والمسلمين.
ومن نشاطاتهم الأخرى الهدامة بناؤهم المدارس ودور الأيتام وغيرها، ومن أنواع الوسائل التى يتوصلون بها لنشر سمومهم، المجلات والدوريات التى يبلغ عددها 16 مجلة تنشر بانتظام فى كل من أمريكا وألمانيا وإندونيسيا ونيجيريا وسيلان وأفريقيا الشرقية ولندن وهولندا وجنوب أفريقيا وسيراليون وغيرها.
كما أن من أبرز نشاطاتهم ترجمة القرآن الكريم ترجمة محرفة مع التفسير المحرف المزيف الذى يخدم أغراضهم، ويتضمن تأويلاتهم الباطلة، وذلك إلى اللغة الإنجليزية والألمانية واللغة السواحلية.
وقد تولت الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامى التحذير من تلك الترجمات الباطلة، ونبهت المسلمين إلى زيفها وانحرافها، فجزاها الله عن المسلمين خير الجزاء.
__________
(1) ... إن صنيعهم هذا هو صنيع كل صاحب ضلالة أو بدعة، فهم كالخفافيش لا يظهرون إلا فى الظلام، وهذا ما يلجأ إليه بعض أصحاب الطرق الصوفية المنحرفة، الذين يتسترون ولا يظهرون ضلالهم أمام الناس، وكأن فى الإسلام أسراراً وألغازاً لا يجوز إفشاؤها، وذلك حسب طقوسهم الشيطانية.
(2) ... مجلة رابطة العالم الإسلامى: عدد 4 سنة 1395هـ. مكة المكرمة.(2/110)
وإزاء هذا الموقف السليم المشكور لرابطة العالم الإسلامى، نجد عدداً من المستشرقين –الذين يكيدون للإسلام ويشنون عليه حرباً شعواء لا هوادة فيها- نجدهم يمتدحون تلك الترجمات وخاصة الإنجليزية ويشجعون على نشرها، وذلك من أمثال "أربى، ريتشارد بيل، وجيب، وشارلس براون، وبلاشير" ومن أخطر أعمالهم أنهم يأخذون الشباب الغر من البلاد الإسلامية إلى مقرهم فى باكستان الغربية التى تسمى الربوة، لتدريبهم كيما يصبحوا دعاة للأحمدية بعد عودتهم.
لقد كان القاديانيون وراء ضياع كشمير من الباكستان، وهم العون الكبير للهندوس على المسلمين.
وخلاصة القول: فمؤسس هذه الحركة الهدامة هو غلام أحمد القاديانى، الرجل الهندى المغرور، الذى زعم أنه المسيح الذى ينتظر الناس نزوله آخر الزمان –وهو مهديهم- بل مضلل كاذب أحمق.
ومن مزاعم هذه النحلة المنحرفة قولهم: من الواجب علينا ألا نعتقد بإسلام غير الأحمدين، وألا نصلى خلفهم إذ أنهم عندنا كافرون بنبى من أنبياء الله(1).
إنهم يكفرون علناً فى خطبهم وكتاباتهم جميع المسلمين الذين لا يؤمنون بميرزا غلام أحمد القاديانى، ونذكر للقراء فيما يلى بعض ما يشهد بذلك من صريح عباراتهم:
أولاً: ... إن جميع المسلمين الذين لم يشتركوا فى مبايعة المسيح الموعود كافرون خارجون عن دائرة الإسلام، ولو كانوا لم يسمعوا باسم المسيح الموعود(2).
ثانياً: ... كل رجل يؤمن بموسى ولا يؤمن بعيسى، أو يؤمن بعيسى ولا يؤمن بمحمد، أو يؤمن بمحمد ولا يؤمن بالمسيح الموعود فما هو بكافر فحسب بل هو راسخ فى الكفر وخارج عن دائرة الإسلام(3).
__________
(1) ... أنوار خلافت: ص90.
(2) ... مرآة الصدق لميرزا بشير الدين: ص25.
(3) ... كلمة الفصل لبشير أحمد القاديانى.(2/111)
ثالثاً: ... وبما أننا نؤمن بنبوة ميرزا غلام عليه السلام، وغير الأحمديين لا يؤمنون بها، فكل رجل من غير الأحمديين كافر، بحسب ما جاء فى القرآن إذ أن الكفر ولو بنبىٍ واحد هو الكفر(1).
فتوى صريحة بتكفير القاديانيين:
لقد نشط المفكرون الإسلاميون فى مقاومة هذه الدعوة وفضحها، كما أصدرت عدة جهات وهيئات إسلامية أحكاماً باعتبار الحركة القاديانية حركة مرتدة وخارجة عن الإسلام، وقد أصدرت مراكز الفتوى فتاوى صريحة بتكفير كل معتنق لهذه الحركة واعتباره مرتداً عن الإسلام، بل لقد أصدرت محكمة (بهادلبور) عام 1935م بعد مناقشة دامت عامين كاملين –واشترك فيها علماء السنة وكبار القاديانية- أصدرت حكمها بكفر القاديانية، وعدم حل نكاح المسلمة بالقاديانى … الخ.
كما صدر القرار التاريخى باعتبار القاديانية أقلية غير إسلامية. إنا لنحمد الله الذى أنار السبيل لحكومة الباكستان، فأصدرت قرارها التاريخى الحكيم الذى يعتبر الطائفة القاديانية أقلية غير إسلامية، لكثرة ضلالها وكفرها بعدما افتضح أمر خيانتها ومؤامراتها على الإسلام وعقيدته.
... وإن القرار المذكور حسم هذه القضية، وكشف عن علاقة هذه الحركة بالاستعمار وأعداء الإسلام(2) والحمد لله على ذلك. { فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض } (3).
بسم الله الرحمن الرحيم
شَحْذُ الهمّة بتخريج أحاديث افترَاقِ الأمَّة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد،،،
__________
(1) ... بيان ميرزا بشير الدين محمود أحمد فى محكمة كوردا ستور المندرج فى عدد الفصل ا لصادر فى 26، 27 يونيه سنة 1922م.
(2) ... نشرت ذلك جريدة أخبار العالم الإسلامى.
(3) ... سورة الرعد: 17.(2/112)
فهذا جزء لطيف في أحاديث افتراق الأمة، جمعتها مما طالته يدي من دواوين السنة المطهرة، وقد ذكرتها بأسانيدها لتعم الفائدة، واتبعتها بتحقيق علماء الحديث، أو بحثت في حال بعض رجال السند إن لم أجد تحقيقاً لعلمائنا الكرام، وكل ذلك جهد المقل، المقر بالتطفل على موائد العلم والعلماء، ولكن حسبي ما قال القائل:
أحب الصالحين ولست منهم عسى بصحبتهم أنال الشفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة
ولا أزعم أني قد وقفت على كافة روايات الأحاديث، بل قد جمعت كل ما استطعت جمعه من كتب السنة التي في مكتبتي أو التي استطعت استعارتها من إخواني، ولكن أستطيع أن أزعم أني قد أتيت على جلها، وأن ما فاتني منها أقل مما أدركته بكثير، والله الموفق والهادي وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله.
رموز الكتاب: خ البخاري-م مسلم- حم مسند أحمد- مالك الموطأ- د أبو داود- ن النسائي-ت الترمذي هـ ابن ماجة- طص الطبراني في المعجم الصغير- طس له في الأو سط- طب له في الكبير- ي أبو يعلى –بز البزار- ك مستدرك الحاكم- حب ابن حبان في صحيحه-مي الدارمي-هق البيهقي في السنن –هب له في شعب الإيمان- عاصم السنة لابن أبي عاصم- شيبة مصنف ابن أبي شيبة- عب مصنف عبد الرزاق تقريب تقريب التهذيب- تهذيب تهذيب التهذيب كلاهما لابن حجر العسقلاني- مجمع مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي- المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي للهيثمي- مختصر زوائد مسند البزار للحافظ ابن حجر –الصحيحة، الضعيفة السلسلة للألباني.
1. حديث أبي هريرة رضي الله عنه(2/113)
حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا محمد بن بشر، ثنا محمد بن عمرو ، ثنا أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: وبإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت اليهو د على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [حم: 8194-وقال محققوا مسند أحمد ط.الرسالة 8396، (16/169 ط. شاكر): إسناده حسن]
حدثنا وهب بن بقية، عن خالد، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت اليهو د على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [د: 4596-وصححه الألباني في السنن]
ثنا أبو بكر ثنا محمد بن بشر ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفرقت اليهو د على إحدى اواثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [السنة لابن أبي عاصم 66-قال الألباني: إسناده حسن رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير محمد بن عمرو وهو حسن الحديث كما بينته في الصحيحة وأما قول بعض المتعصبة أنه لا يحتج به إذا لم يتابع فمخالف لما استقر عليه رأي كل المحققين من أهل الحديث أنه ثقة يحتج به في المرتبة الوسط أي الحسن فإذا توبع فهو صحيح الحديث قطعا كما هو الشأن هنا وقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والحديث أخرجه أحمد وغيره من أصحاب السنن وهو مخرج في المصدر المشار إليه آنفا-قال جامعه: كل طرق الحديث من طريق محمد بن عمرو وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي، قال في التقريب: صدوق له أو هام،وانظر ترجمته في التهذيب لتقف على حاله مفصلاً](2/114)
ثنا وهبان ثنا خالد بن عبدالله وأبو موسى قالا حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. [السنة لابن أبي عاصم 67-قال الألباني: حديث صحيح رجاله ثقات على التفصيل المذكور قبله في بعضهم غير وهبان فلم أجد له ترجمة وقد ذكر في مادة وهب وهبان بن بقية محدث فلعله هذا ولم يزد الزبيدي في شرحه عليه شيئا والحديث مضى الكلام عليه قبله]
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [هـ: 3991-وقال الألباني في السنن: حسن صحيح]
حدثنا الحسين بن حريث أبو عمار. حدثنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تفرقت اليهو د على إحدى وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي ثلاث وسبعين فرقة. وفي الباب عن سعد وعبد الله بن عمرو وعوف بن مالك. قال أبو عيسى: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. [ت: 2640- وقال الألباني في السنن: حسن صحيح]
أخبرنا أحمد بن علي بن المثنى، حدثنا الحارث بن سريج النقال، أخبرنا النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (افترقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة). [حب: 6247](2/115)
أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن صالح البخاري قال حدثنا عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال أخبرنا النضر بن شميل قال حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرق اليهو د والنصارى على إحدى، أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ". [الآجري في "الشريعة"]
حدثنا أبو بكر بن أبي داود قال حدثنا علي بن خشرم قال أخبرنا الفضل بن موسى عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرقت اليهو د على إحدى اواثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ". [الآجري في "الشريعة"]
أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن اليهو د افترقت على إحدى وسبعين فرقة - أو اثنتين وسبعين فرقة - والنصارى على مثل ذلك، وتتفرق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)). [حب: 6731]
أخبرنا أبو العباس قاسم بن القاسم السياري بمرو، ثنا أبو الموجه، حدثنا أبو عمار: ثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: افترقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [ك: 1/47-10](2/116)
أخبرنا أحمد بن محمد بن سلمة العنزي، ثنا عثمان بن سعيد الدارمي، ثنا عمرو بن عون، ووهب بن بقية الواسطيان قالا: ثنا خالد بن عبد الله، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. [ك: 1/217-441-قال الألباني في الصحيحة 203: وفيه نظر فإن محمد بن عمرو فيه كلام ولذلك لم يحتج به مسلم وإنما روى له متابعة، وهو حسن الحديث]
وله شواهد فمنها:
ما أخبرنا أبو العباس قاسم بن قاسم السياري بمرو، ثنا أبو الموجه محمد بن عمر الفزاري، ثنا يوسف بن عيسى، ثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عمرو ، حدثني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [ك:1/217-442]
حدثنا الحارث بن سريج، حدثنا النضر بن شميل، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- - صلى الله عليه وسلم --: افترقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقةً، وافترقت النصارى على إحدى ـ أو ثنتين ـ وسبعين فرقةً. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقةً. [ي: 5910]
حدثنا وهب أخبرنا خالد، عن محمد، عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (وذكر حديث تغيير الشيب) ثم قال:وعن أبي هريرة عن النبي ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ أنه قال: تفرقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة. وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو ثنتين ـ وسبعين فرقة ـ قال إحدى الطائفتين: إحدى وسبعين، والأخرى: ثنتين وسبعين ـ وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. محمد بن عمرو يشك. [ي: 5978](2/117)
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: تفرقت اليهو د على إحدى ـ أو ثنتين ـ وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى ـ أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [ي: 6117]
أخبرنا أبو علي الحسين بن محمد الروذباري في كتاب السنن أنبأ أبو بكر محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا وهب بن بقية عن خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت اليهو د على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.
قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله فيما بلغني عنه: قوله: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجين من الدين، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلهم من أمته، وفيه أن المتأو ل لا يخرج من الملة وإن أخطأ في تأو يله.
(قال الشيخ رحمه الله) ومن كفر مسلما على الإطلاق بتأو يل، لم يخرج بتكفيره إياه بالتأو يل عن الملة، فقد مضى في كتاب الصلاة في حديث جابر بن عبد الله في قصة الرجل الذي خرج من صلاة معاذ بن جبل، فبلغ ذلك معاذا فقال: منافق، ثم إن الرجل ذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزد معاذا على أن أمره بتخفيف الصلاة، وقال: أفتان أنت، لتطويله الصلاة.
وروينا في قصة حاطب بن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش بمسير النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم عام الفتح، أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قد شهد بدرا، ولم ينكر على عمر رضي الله عنه تسميته بذلك، إذ كان ما فعل علامة ظاهرة على النفاق. وإنما يكفر من كفر مسلما بغير تأو يل. [هق: 15/292-21503](2/118)
2. حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
حدثنا عبد الله حدثني أبي ثنا أبو المغيرة قال: ثنا صفوان قال: حدثني أزهر بن عبد الله الهو زني - قال أبو المغيرة في موضع آخر: الحرازي - عن أبي عامر عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهو اء - كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهو اء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم - صلى الله عليه وسلم - لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به. [حم: 16490-(4/102ميمنية)، 28/134-16937 المسند ط. الرسالة وقال محققوه: إسناده حسن،وحديث افتراق الأمة صحيح بشواهده، رواه محمد بن نصر المروزي في السنة ص15، والبيهقي في الدلائل 6/542،وقال الحافظ في التقريب: أزهر صدوق تكلموا فيه للنصب (يعني كان ناصبياً) وذلك لأن مدار الروايات عليه](2/119)
حدثنا أحمد بن حنبل، ومحمد بن يحيى قالا: ثنا أبو المغيرة، ثنا صفوان، ح وثنا عمرو بن عثمان، حدثنا بقية قال: حدثني صفوان نحوه، وقال: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي، عن أبي عامر الهو زني، عن معاوية بن أبي سفيان أنه قام فينا قال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين: ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة. زاد ابن يحيى وعمرو في حديثهما وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهو اء كما يتجارى الكلب لصاحبه وقال عمرو : الكلب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله. [د: 4597-وحسنه الألباني في السنن، والصحيحة 204]
أخبرنا هشام بن عمار بن نصير أخبرنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبدالله الحرازي عن أبي عامر الهو زني عبدالله بن لحى عن معاوية بن أبي سفيان قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون أقوام تتجارى بهم تلك الأهو اء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه مفصل إلا دخله. [السنة لابن أبي عاصم 1 قال الألباني: حديث صحيح بما بعده رجاله ثقات غير أن هشام بن عمار فيه ضعف لكنه قد توبع كما يأتي]
ثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش عن صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبدالله عن أبي عامر عبدالله بن لحي عن معاوية قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن هذه الأمة ستفترق على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. [السنة لابن أبي عاصم 65-قال الألباني: حديث صحيح بما قبله وما بعده وقد مضى هذا الإسناد بحديث آخر (رقم 1) هو وهذا في الحقيقة حديث واحد فرقهما المصنف أو هكذا وقعا له فانظر 1،2](2/120)
أخبرنا ابن مصفى ثنا بقية عن صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبدالله عن أبي عامر الهو زني أنه حج مع معاوية فسمعه يقول قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما فذكر أن أهل الكتاب قبلكم تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهو اء ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهو اء كلها في النار الا واحدة وهي الجماعة ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهو ون هو ى يتجارى بهم ذلك الهو ى كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يدع منه عرقا ولا مفصلا إلا دخله. [السنة لابن أبي عاصم 2 قال الألباني: حديث صحيح بما قبله رجاله ثقات غير أن ابن مصفى واسمه محمد الحمصي القرشي صدوق له أو هام وكان يدلس لكنه قد صرح بالتحديث ومثله بقية وهو ابن الوليد ولكنه صرح بالتحديث عند أبي داود في سننه 4597 ثنا عمرو بن عثمان ثنا بقية قال حدثني صفوان وتابعه أبو المغيرة قال ثنا صفوان به أخرجه أبو داود وأحمد فالإسناد صحيح]
ثنا ابن مصفا ثنا بقية حدثنا صفوان بن عمرو عن الأزهر ابن عبدالله عن أبي عامر الهو زني قال سمعت معاوية يقول يا معشر العرب والله لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا يوما فذكر أن أهل الكتاب قبلكم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهو اء ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهو اء. [السنة لابن أبي عاصم 69 –قال الألباني:حديث صحيح بما قبله وما بعده وقد مضى الحديث نحوه بهذا الإسناد 2](2/121)
أخبرنا أبو المغيرة: ثنا صفوان: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي، عن أبي عامر هو عبد الله بن لحي الهو زني، عن معاوية بن أبي سفيان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا فقال: ألا، إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين: اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة. قال عبد الله: الحراز قبيلة من أهل اليمن. [مي: 2423-وانظر ما قبله والصحيحة 204، وما تقدم في رواية أحمد فإنه نفس السند]
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا محمد بن إسحاق الصغاني، ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع البهراني، ثنا صفوان بن عمرو ، عن الأزهر بن عبد الله، عن أبي عامر عبد الله بن يحيى قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة مولى لبني فروخ، فأرسل إليه معاوية فقال: أمرت بهذه القصص ؟ قال: لا. قال: فما حملك على أن تقص بغير إذن ؟ قال: ننشىء علماً علمناه الله عز وجل. فقال معاوية: لوكنت تقدمت إليك لقطعت منك طائفة، ثم قام حين صلى الظهر بمكة. فقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الكتاب تفرقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، ويخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهو اء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لغير ذلك أحرى أن لا تقوموا به. [ك: 1/218-443-قال في الصحيحة 204 قال الحافظ في تخريج الكشاف: إسناده حسن](2/122)
حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي ثنا أبو المغيرة (ح). وحدثنا أبو زيد الحوطي ثنا أبو اليمان الحكم بن نافع قالا ثنا صفوان بن عمرو عن أزهر بن عبد الله عن أبي عامر الهو زني عبد الله بن لحي قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان، فلما قدمنا مكة أخبر بقاص يقص على أهل مكة مولى لبني مخزوم فأرسل إليه معاوية فقال: أمرت بهذا القصص؟ قال: لا، قال: فما حملك على أن تقص بغير اذن؟ قال: ننشر علما علمناه الله، فقال معاوية: لوكنت تقدمت إليك قبل موتي هذه لقطعت منك طائفا، ثم قام حتى صلى الظهر بمكة ثم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أهل الكتاب افترقوا على ثنتتين وسبعين ملة، وإن هذه الامة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهو اء- وكلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة). وقال: (إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهو اء كما يتجارى الكلب بصاحبه، فلا يبقى منه عزق ولا مفصل إلا دخله،) والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به.[طب: 19/376-884]
حدثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي ثنا إسماعيل بن عياش حدثني صفوان بن عمرو عن الازهر بن عبد الله الهو زني عن أبي عامر عبد الله بن لحي الهو زني عن معاوية قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أهل الكتاب افترقوا في كتابهم على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق الامة على ثلاث وسبعين ملة- يعني الأهو اء- وكلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة). وإنه يخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهو اء كما يتجارى الكلب لصاحبه،ولا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله، [طب: 19/377-885](2/123)
أخبرنا إبراهيم بن موسى الخوزي قال: حدثنا محمد بن هارون أبو نشيط وإبراهيم بن هانىء النيسأبو ري قالا: حدثنا أبو المغيرة قال: حدثنا صفوان قال: حدثني أزهر بن عبد الله الحرازي عن أبي عامر الهو زني، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه قال - حين صلى الظهر بالناس بمكة شرفها الله - فقال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا، فقال: ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي الجماعة ". [الآجري في "الشريعة" ص18-انظر الصحيحة، وما تقدم في رواية أحمد]
قال الحاكم -بعد أن ذكر روايات حديث أبي هريرة وحديث معاوية: هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث، وقد روي هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن عوف المزني بإسنادين تفرد بأحدهما عبد الرحمن زياد الأفريقي، والآخر كثير بن عبد الله المزني، ولا تقوم بها الحجة –ثم ذكرها بإسانيدها. [ك: 1/218-443]
3. حديث أنس بن مالك رضي الله عنه
حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا وكيع، ثنا عبد العزيز ـ يعني الماجشون ـ عن صدقة بن يسار، عن النميري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بني إسرائيل قد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وأنتم تفترقون على مثلها، كلها في النار إلا فرقة. [حم: 11798-قال في الصحيحة 204 النميري ضعيف،وبقية رجاله ثقات. وقال محققوا مسند الرسالة 19/241-12208، ميمنية 3/120: صحيح بشواهده لضعف النميري](2/124)
حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أنس بن مالك،أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون فرقة وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة فتهلك إحدى وسبعين وتخلص فرقة، قالوا: يا رسول الله من تلك الفرقة ؟ قال: الجماعة الجماعة. [حم: 12070-وقال الألباني في الصحيحة 204 سنده حسن في الشواهد. وقال محققوا مسند الرسالة 19/262-12479، ميمنية 3/145: صحيح بشواهده وهذا إسناد ضعيف، فيه ابن لهيعة سيئ الحفظ، وسعيد روايته عن أنس مرسلة].
ثنا هشام بن عمار ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأو زاعي ثنا قتادة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة. [السنة لابن أبي عاصم 64-قال الألباني: حديث صحيح ورجاله ثقات على ضعف في هشام بن عمار لكنه قد توبع كما يأتي والحديث أخرجه ابن ماجه بإسناد المصنف هذا وصححه البوصيري، والحديث صحيح قطعا لأن له ست طرق أخرى عن أنس وشواهد عن جمع من الصحابة وقد استقصى المصنف رحمه الله الكثير منها كما يأتي ومضى قبله من حديث عوف ابن مالك وقد خرجته في الصحيحة 203،204 من حديث أبي هريرة ومن حديث معاوية وسيذكرهما المصنف وقد ضل بعض الهلكي من متعصبة الحنفية في ميله إلى تضعيف هذا الحديث مع كثرة طرقه لمخالفته هو ى في نفسه وقد رددت عليه في المصدر المذكور آنفا فليراجعه من شاء –وانظر حاشية مسند الرسالة 19/241](2/125)
حدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، أن الأو زاعي حدثه، أن يزيد الرقاشي حدثه، أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة". قال: فقيل يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: "الجماعة" { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } . [الطبري في التفسير-سورة آل عمران-قوله تعالى(ولاتفرقوا). قال محققوا مسند الرسالة 19/241-12208، ميمنية 3/120:ورواه محمد بن نصر المروزي في السنة 53، وأبو نعيم في الحلية 3/52 من طريق الأو زاعي من حديث أنس،وفيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف]
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: سمعت الأو زاعي يحدث عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، نحوه. [الطبري في التفسير-سورة آل عمران-قوله تعالى(ولاتفرقوا).وانظر ما قبله]
حدثنا عيسى بن محمد السمسار الواسطي، حدثنا وهب بن بقية، حدثنا عبد الله بن سفيان المدني، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: وما هي تلك الفرقة ؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي. [طص: 725- والعقيلي في الضعفاء ص207،208 وفال: عبد الله ابن سفيان لايتابع على حديثه: نقلاً عن الصحيحة للألباني 204].(2/126)
حدثنا عيسى بن محمد السمسار الواسطي، قال: ثنا وهب بن بقية، قال: ثنا عبد الله بن سفيان، عن يحيى ابن سعيد عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقه، كلهن في النار إلا واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة ؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي. (لم يروهذا الحديث عن يحيى بن سعيد إلا عبد الله بن سفيان). [طس: 5/247-4886-انظر ما قبله]
حدثنا محمود، ثنا وهب بقية، ثنا عبد الله بن سفيان، عن يحيى بن سعيد. عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفترق هذه الأمة ثلاثة وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قالوا: وما تلك الفرقة ؟ قال: من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي. (لم يروهذا الحديث عن يحيى بن سعيد إلا عبد الله بن سفيان المدني وياسين الزيات). [طس: 8/56-7840-انظر ما قبله]
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا أبو عمرو ، حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة. [هـ: 3993-وقال الألباني في السنن: حسن صحيح](2/127)
حدثنا محمد بن بكار، حدثنا أبو معشر، عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك قال: ذكر رجل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - له نكاية في العدو واجتهاد. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا أعرف هذا)). قال: بل نعته كذا وكذا. قال: ((ما أعرفه)). فبينما نحن كذلك، إذ طلع الرجل، فقال: هذا هو يا رسول الله. قال: ((ما كنت أعرف هذا. هذا أو ل قرن رأيته في أمتي. إن فيه لسفعة من الشيطان)). فلما دنا الرجل سلم، فرد عليه السلام فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أنشدك بالله، هل حدثتك نفسك حين طلعت علينا أن ليس في القوم أحد أفضل منك؟)) قال: اللهم نعم. قال: فدخل المسجد فصلى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ((قم فاقتله)). فدخل أبو بكر فوجده قائماً يصلي، فقال أبو بكر في نفسه: إن للصلاة حرمة وحقاً، ولوأني استأمرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فجاء فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقتلته ؟)) قال: لا، رأيته يصلي، ورأيت للصلاة حرمةً وحقاً، وإن شئت أن أقتله قتلته ؟. قال: ((لست بصاحبه، اذهب أنت يا عمر فاقتله)). فدخل عمر المسجد فإذا هو ساجد فانتظره طويلاً ثم قال في نفسه: إن للسجود حقاً، ولوأني استأمرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد استأمره من هو خير مني. فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((أقتله ؟)). قال: لا، رأيته ساجداً، ورأيت للسجود حقاً، وإن شئت أن أقتله قتلته. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((لست بصاحبه، قم يا علي أنت صاحبه إن وجدته)). فدخل فوجده قد خرج من المسجد، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ((أقتلته ؟)). قال: لا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لوقتل اليوم ما اختلف رجلان من أمتي حتى يخرج الدجال)).(2/128)
ثم حدثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمم فقال: ((تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار، وواحدة في الجنة. وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: إحدى وسبعين منها في النار وواحدة في الجنة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعلوا أمتي على الفرقتين جميعاً بملة: اثنتين وسبعين في النار وواحدة في الجنة)). قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال: ((الجماعات)).
قال يعقوب بن زيد: وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا فيه قرآناً: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " ثم ذكر أمة عيسى فقال: " ولوأن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم " إلى قوله: " ساء ما يعملون " ثم ذكر أمتنا: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ". [ي: 3668-وقال محقق المقصد العلي ح1802 إسناده ضعيف،والحديث ذكره الهيثمي في المجمع 7/257 وقال: رواه أبو يعلى وفيه أبو معشر نجيح وفيه ضعف –وكذا في حاشية مسند أحمد ط. الرسالة 19/242،وضعف الألباني هذا الطريق بأبي معشر في الصحيحة 204 –وانظر طريق أخري عند أبي يعلى 4143 وستأتي](2/129)
قال أبو بكر بن مردويه حدثنا عبد الله بن جعفر, حدثنا أحمد بن يونس الضبي, حدثنا عاصم بن عدي حدثنا أبو معشر, عن يعقوب بن يزيد بن طلحة, عن زيد بن أسلم, عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, فقال: "تفرقت أمة موسى على إحدى وسبعين ملة: سبعون منها في النار, وواحدة في الجنة, وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة: واحدة في الجنة, وإحدى وسبعون منها في النار, وتعلوأمتي على الفرقتين جميعاً واحدة في الجنة, وثنتان وسبعون في النار" قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال "الجماعات الجماعات". قال يعقوب بن زيد: كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا فيه قرآناً, قال "ولوأن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم" إلى قوله تعالى: "منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" وتلا أيضاً قوله تعالى: "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون" يعني أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. [أو رده ابن كثير في تفسير سورة المائدة آية 66(منهم أمة مقتصدة) وقال: وهذا حديث غريب جداً من هذا الوجه وبهذا السياق, وحديث افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مروي من طرق عديدة, وقد ذكرناه في موضع آخر ولله الحمد والمنة.ونقله عنه الشوكاني في "فتح القدير" عند ذات الآية،وساق كلام ابن كثير ثم أتبعه بقوله: قلت: أما زيادة كلها في النار إلا واحدة فقد ضعفها جماعة من المحدثين، بل قال ابن حزم إنها موضوعة.وتعقبه الألباني في ذلك في الصحيحة 204، وكذلك ضعف طريق ابن مردويه لأجل أبي معشر.](2/130)
حدثنا أبو شعيب عبد الله بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي الحزاني قال: حدثنا عاصم بن علي قال: حدثنا أبو معشر.ح. وأخبرنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال " حدثنا محمد بن بكار قال: حدثنا أبو معشر، عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن زيد بن أسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه - ذكر حديثاً طويلاً - قال فيه: وحدثهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الأمم فقال: تفرقت أمة موسى - صلى الله عليه وسلم - على إحدى وسبعين ملة، سبعون في النار وواحدة في الجنة، وتفرقت أمة عيسى - صلى الله عليه وسلم - على اثنتين وسبعين ملة، إحدى وسبعون منها في النار وواحدة في الجنة، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وتعلوأمتي على الفريقين جميعاً بملة واحدة، اثنتان وسبعون منها في النار وواحدة منهم في الجنة. قالوا: من هم يا رسول الله ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: الجماعة ".
قال يعقوب بن زيد: وكان علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه إذا تحدث بهذا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا فيه قرآناً: " ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون "، ثم ذكر أمة موسى فقرأ: " ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون "، ثم ذكر أمتنا فقرأ: " وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون " [الآجري في "الشريعة" ص 16–وفيه أبو معشر، وانظر ما قبله](2/131)
حدثنا أبو خثيمة، حدثنا عمر بن يونس، حدثنا يزيد الرقاشي، في حوض زمزم -والناس مجتمعون عليه من قريش وغيرهم- قال: حدثني أنس بن مالك قال: كان رجل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزومع رسول الله فإذا رجع وحط عن راحلته، عمد إلى مسجد الرسول، فجعل يصلي فيه فيطيل الصلاة، حتى جعل بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يرون أن له فضلاً عليهم. فمر يوماً ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في أصحابه. فقال له بعض أصحابه: يا نبي الله، هذا ذاك الرجل - فإما أرسل إليه نبي الله، وإما جاء من قبل نفسه - فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلاً قال: والذي نفسي بيده إن بين عينيه سفعة من الشيطان. فلما وقف على المجلس قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أقلت في نفسك حين وقفت على المجلس: ليس في القوم خير مني ؟ قال: نعم. ثم انصرف فأتى ناحية من المسجد، فخط خطاً برجله ثم صف كعبيه فقام يصلي. فقال رسول الله: أيكم يقوم إلى هذا يقتله ؟ فقام أبو بكر، فقال رسول الله: أقتلت الرجل ؟ قال: وجدته يصلي فهبته. فقال رسول الله: أيكم يقوم إلى هذا يقتله ؟ فقال عمر: أنا وأخذ السيف فوجده قائماً يصلي، فرجع، فقال رسول الله لعمر: اقتلت الرجل ؟ قال: يا نبي الله وجدته يصلي فهبته. فقال رسول الله: أيكم يقوم إلى هذا يقتله ؟ فقال علي: أنا. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت له إن أدركته. فذهب علي فلم يجده، فرجع، فقال رسول الله: أقتلت الرجل ؟ قال: لم أدر أين سلك من الأرض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن هذا أو ل قرن خرج من أمتي. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لوقتلته - أو قتله - ما اختلف في أمتي اثنان. إن بني إسرائيل تفرقوا على واحد وسبعين فرقة، وإن هذه الأمة - يعني أمته - ستفترق -على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة فقلنا: يا نبي الله، من تلك الفرقة ؟ قال: الجماعة.(2/132)
قال يزيد الرقاشي: فقلت لأنس: يا أبا حمزة، وأين الجماعة ؟ قال: مع أمرائكم، مع أمرائكم. [ي: 4127-قال في المجمع: 6/226 يزيد الرقاشي ضعفه الجمهو ر وفيه توثيق لين، وبقية رجاله رجال الصحيح،وذكر نحوقصة القتل عن أبي بكرة وأبي سعيد وجابر وصحح بعضها فانظرها إن شئت 6/227:225]
حدثنا محمد بن الفرج أبو جعفر، حدثنا محمد بن الزبرقان، حدثنا موسى بن عبيدة، أخبرني هو د بن عطاء، عن أنس بن مالك قال: كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل يعجبنا تعبده واجتهاده، قد عرفناه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - باسمه فلم يعرفه، ووصفناه بصفته فلم يعرفه.(2/133)
فبينما نحن نذكره إذ طلع الرجل. قلنا هو هذا. قال: إنكم لتخبرون عن رجل إن على وجهه سفعة من الشيطان فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلم. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنشدك بالله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل - أو خير - مني ؟ قال: اللهم نعم. ثم دخل يصلي. فقال رسول الله: من يقتل الرجل ؟ فقال أبو بكر: أنا، فدخل عليه فوجده يصلي. فقال: سبحان الله ! أقتل رجلاً يصلي وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ضرب المصلين، فخرج، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما فعلت ؟. قال: كرهت أن أقتله وهو يصلي، وقد نهيت عن ضرب المصلين. قال: من يقتل الرجل ؟ قال عمر: أنا، فدخل، فوجده واضعاً وجهه.. قال عمر: أبو بكر أفضل مني. فخرج، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه ؟ قال: وجدته واضعاً وجهه لله فكرهت أن أقتله. قال: من يقتل الرجل ؟. فقال علي: أنا. قال: أنت إن أدركته. قال: فدخل عليه فوجده قد خرج. فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له: مه ؟. قال: وجدته قد خرج. فقال: لوقتل ما اختلف من أمتي رجلان. كان أو لهم وآخرهم. قال موسى: فسمعت محمد بن كعب فقال: هو الذي قتله علي: ذوالثدية. [ي: 1/90-90، 7/168-4143 –قال في المجمع 6/227: فيه موسى بن عبيدة وهو متروك،ورواه البزار باختصار ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم-والحديث المختصر عند البزار 1/100-39 وفيه فقط النهي عن قتل المصلين،وهو من طريق موسى بن عبيدة ! ولعله المقصود والله أعلم - وليس عند أبي يعلى التصريح بافتراق الأمة إلا إشارة فتنبّه](2/134)
أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال: سمعت يزيد الرقاشي يقول: بينا النبي - صلى الله عليه وسلم - جالس مع أصحابه فأشرف عليهم رجل فأثنوا عليه خيراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن في وجهه سفعة شيطان، فجاء فسلم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحدثت نفسك آنفاً أنه ليس في القوم رجل أفضل منك ؟ قال: نعم، ثم ولى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفيكم رجل يضرب عنقه ؟ فقال أبو بكر: أنا، فقام فرجع، فقال: انتهيت إليه فوجدته قد خط عليه خطاً وهو يصلي فيه، فلم تشايعني نفسي على قتله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيكم له ؟ فقال عمر بن الخطاب: أنا، فقام إليه، ثم رجع فقال: يا رسول الله وجدته ساجداً فلم تشايعني نفسي على قتله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيكم له ؟ فقال علي: أنا يا رسول الله ! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنت له إن أدركته ! ولا أراك أن تدركه، فقام، ثم رجع، فقال: والذي نفسي بيده لووجدته لجئتك برأسه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا أو ل قرن من الشيطان طلع في أمتي – أو أو ل قرن طلع من أمتي – أما أنكم لوقتلتموه ما اختلف منكم رجلان، إن بني إسرئيل اختلفوا على إحدى – أو اثنتين – وسبعين فرقة، وإنكم ستختلفون مثلهم أو أكثر، ليس منها صواب إلا واحدة، قيل: يا رسول الله ! وما هذه الواحدة؟ قال: الجماعة، وآخرها في النار. [عب: 10/155-18674-قلت: فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف وقد أرسله](2/135)
حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا مبارك، حدثنا عبد العزيز،عن أنس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي تفترق على ثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا السواد الأعظم. [ي: 3938-وانظر: المقصد العلي، تحقيق سيد كسروي ح 1803وقال: إسناده ضعيف جداً، في إسناده مبارك بن سحيم وهو متروك الحديث. وضعفه ابن حجر في المطالب العالية-وكذ في حاشية مسند أحمد ط. الرسالة 19/241]
حدثنا محمد بن بحر، حدثنا مبارك بن سحيم بن عبد الله الشيباني، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثنتين وسبعين فرقة كلهم في النار إلا السواد الأعظم. قال محمد بن بكر: يعني الجماعة. [ي: 3944-راجع ما قيل في الذي قبله]
حدثنا أبو عبد الله بن أبي عوف الهروي قال حدثنا سويد بن سعيد قال حدثنا مبارك ابن سحيم، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار الا السواد الأعظم ". [الآجري في "الشريعة" ص 54–وفيه مبارك بن سحيم تقدم ما فيه-واقتصر الألباني في الصحيحة 204 على تضعيفه بسويد بن سعيد !!]
4. حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه(2/136)
حدثنا عبد الله بن أحمد بن خلاد القطان [البصري]، قال: ثنا شيبان بن فروخ [الأيلي]، قال: ثنا الصعق بن حزن عن ابن الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سويد بن غفلة عن عبد الله بن مسعود، قال: دخلت علي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن مسعود أي عرى الإيمان أو ثق ؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أو ثق عرى الإسلام، الولاية في الله، والحب فيه، والبغض [في الله]، ثم قال: يا ابن مسعود، قلت: لبيك يا رسول الله - قالها ثلاثاً - قال: أتدري أي الناس أفضل ؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أفضل الناس، أفضلهم عملا، إذا فقهو ا في دينهم، ثم قال: يا ابن مسعود، قلت: لبيك يا رسول الله - ثلاث مرار - قال: أتدري أي الناس أعلم ؟، قلت: الله ورسوله أعلم قال: إن أعلم الناس، أبصرهم بالحق، إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً في العمل، وإن كان يزحف على إسته زحفاً. واختلف من كان قبلي على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث، وهلك سائرهن، فرقة آذت الملوك، فقاتلوهم على دينهم، ودين عيسى ابن مريم [عليه السلام]، فأخذوهم، فقتلوهم، وقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم، يدعوهم إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فساحوا في البلاد، وترهبوا، قال: وهم الذين قال الله [عز وجل]: " ورهبانية ابتدعوها، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من آمن بي واتبعني، وقد صدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتبعني، فأو لئك هم الهالكون.(لم يروهذا الحديث عن أبي إسحاق إلا عقيل الجعدي، تفرد به الصعق بن حزن). [طس:5/39-4479](2/137)
حدثنا هشام بن عمار ثنا الوليد بن مسلم أخبرني بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده عبدالله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث. [السنة لابن أبي عاصم 71-قال الألباني: إسناده ضعيف رجاله ثقات على ضعف في هشام بن عمار والوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية ولم يصرح بالتحديث في غير شيخه بكير، والحديث أخرجه الطبراني في الكبير حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي نا هشام بن عمار به ثنا شيبان بن فروخ ثنا الصعق بن حزن ثنا عقيل الجعدي عن أبي إسحق عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افترق من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها. [السنة لابن أبي عاصم 70-قال الألباني: إسناده ضعيف جدا رجاله ثقات غير عقيل الجعدي فإنه ضعيف جدا كما يفيده قول البخاري فيه منكر الحديث والحديث أخرجه الطبراني في الصغير والكبير والحاكم وصححه ورده الذهبي بالجعدي لكن للحديث في كبير الطبراني إسناد آخر عن ابن مسعود خير من هذا وقد خرجته مع الذي قبله في الروض النضير ويأتي في الكتاب](2/138)
حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي ثنا هشام بن عمار ثنا الوليد بن مسلم حدثني بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن مسعود قلت: لبيك ثلاثاً قال: هل تدرون أي عرى الأيمان أو ثق ؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: الولاية في الله والحب في الله والبغض في الله قال: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله قال: أي المؤمنين أفضل ؟ قلت: اللهم ورسوله أعلم، قال: إذا عرفوا دينهم أحسنهم عملاً ثم قال يا ابن مسعود هل تدري أي المؤمنين أعلم ؟ قلت:الله ورسوله أعلم قال: إذا اختلفوا وشبك بين أصابعه أبصرهم بالحق، وإن كان في عمله تقصير، وإن كان يزحف زحفاً ثم قال يا ابن مسعود هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، لم ينج منها إلا ثلاث فرق، فرقة أقامت في الملوك والجبابرة، فدعت إلى دين عيسى، فأخذت فقتلت بالمناشير وحرقت بالنيران، فصبرت حتى لحقت بالله، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لهم قوة، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله فقال " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله " إلى " وكثير منهم فاسقون " وفرقة منهم آمنت، فهم الذين آمنوا وصدقوني، وهم الذين رعوها حق رعايتها، وكثير منهم فاسقون، وهم الذين لم يؤمنوا بي ولم يصدقوني، ولم يرعوها حق رعايتها، وهم الذين فسقهم الله. [طب: 10/171-10357-وانظر ما تقدم من تحقيق الألباني للحديثين قبله - قال في المجمع: 7/260 رواه الطبراني بإسنادين ورجال أحدهما رجال الصحيح غير بكير بن معروف وثقه أحمد وغيره وفيه ضعف.قال جامعه: عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود مختلف في سماعه من أبيه فمن مثبت ومن نافٍ ومن قائل: سمع منه شيئاَ يسيراً،وهذا الأخير قاله ابن حجر في التقريب،وراجع الخلاف في التهذيب](2/139)
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنا أحمد بن عبيد الصفار نا علي بن الحسن بن بيان المقري نا محمد بن الفضل أبو النعمان. وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان أنا أبو بكر بن محمويه العسكري نا عثمان بن حرذاذ الأنطاكي نا عبد الرحمن بن المبارك نا الصعق بن حزن عن عقيل الجعدي عن أبي إسحاق الهمداني عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ياعبد الله بن مسعود. قلت لبيك يا رسول الله. قال: يا عبد الله بن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرار. قال: أتدري أي عرى الإيمان أو ثق ؟ قلت: الله ورسوله أعلم.قال: الولاية في الله الحب فيه والبغض فيه. يا عبد الله بن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرار قال: هل تدري أي الناس أفضل ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم. يا عبد الله بن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرار قال: هل تدري أي الناس أعلم قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً في العمل وإن كان يزحف على استه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة منها ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت [وازت]الملوك وقاتلتهم على دين الله عز وجل ودين عيسى بن مريم حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فأخذتهم الملوك فقتلتهم ونشرتهم وقطعتهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بان يقيموا بين ظهراني قومهم يدعوهم إلى دين الله وإلى دين عيسى بن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها فهم الذين قال الله عز وجل: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ". إلى قوله:" فاسقون "والمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوني والفاسقون الذين كذبوا بي وجحدوني. [هب: 9510](2/140)
حدثنا عبد الله بن أحمد بن خلاد القطان البصري، حدثنا شيبان بن فروخ الأبلي، حدثنا الصعق بن حزن، عن عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سويد بن غفلة، عن عبد الله بن مسعود قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا ابن مسعود أي عرى الإيمان أو ثق ؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: أو ثق عرى الإسلام الولاية في الله والحب في الله والبغض في الله. ثم قال: يا ابن مسعود، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: أتدري أي الناس أفضل ؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهو ا في دينهم، ثم قال: يا ابن مسعود، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: أتدري أي الناس أعلم ؟، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: إن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصراً عن عمله، وإن كان يزحف على استه زحفاً. واختلف من كان قبلكم على اثنتين وسبعين فرقة، نجا منها ثلاث وهلك سائرهن، فرقة آزت الملوك وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى ابن مريم عليه السلام، فأخذوهم فقتلوهم ونشروهم بالمناشير، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا أن يقيوا بين ظهرانيهم يدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم، فساحوا في البلاد وترهبوا، وهم الذين قال الله عز وجل " ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله " الآية. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فمن آمن بي واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتبعني فأو لئك هم الهالكون. [طص: 625-انظر تخريج ما قبله](2/141)
حدثنا معاذ بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي (ح). وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ثنا شيبان بن فروخ قالا: ثنا الصعق بن حزن أخبرني عقيل الجعدي عن أبي إسحاق السبيعي عن سويد بن غفلة عن ابن مسعود قال: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاثاً: تدري أي عرى الإيمان أو ثق ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أو ثق عرى الاسلام الولاية فيه الحب فيه والبغض ثم قال: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالها ثلاثاً قال: تدري أي الناس أفضل ؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهو ا في دينهم ثم قال: يا ابن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: تدري أي الناس أعلم ؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: إن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً في العمل، وإن كان يزحف على أسته زحفاً، واختلف من كان قبلي على ثنتين وسبعين فرقة نجى منا ثلاثة وهلك سائرهين، فرقة أزت الملوك وقاتلوهم على دينهم ودين عيسى بن مريم، وأخذوهم فقتلوهم وقطعوهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة موازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهرانيهم يدعونهم إلى دين الله عز وجل ودين عيسى بن مريم عليه السلام، فساحوا في الأرض وترهبوا قال: وهم الذين قال الله عز وجل " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم " الآية فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من آمن بي وصدقني واتبعني فقد رعاها حق رعايتها، ومن لم يتبعني فأو لئك هم الهالكون. [طب: 10/220/10531-انظر تخريج ما سبق](2/142)
حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: ثنا داود بن المحبر، قال: ثنا الصعق بن حزن، قال: ثنا عقيل الجعدي، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سويد ين غفلة، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "واختلف من كان قبلنا على إحدى وسبعين فقة، نجا منهم ثلاث وهلك سائرهم: فرقة من الثلاث وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليهم، فقتلتهم الملوك؛ وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، فأقاموا بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم صلوات الله عليه، فقتلهم الملوك، ونشرتهم بالمناشير؛ وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك، ولا بالمقام بين ظهراني قومهم يدعونهم إلى دين الله ودين عيسى صلوات الله عليه، فلحقوا بالبراري والجبال، فترهبوا فيها" فهو قول الله عز وجل { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم } قال: "ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله" { فما رعوها حق رعايتها } قال: "ما رعاها الذين من بعدهم حق رعايتها" { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم } قال: "وهم الذين آمنوا بي، وصدقوني". قال { وكثير منهم فاسقون } قال: "وفهم الذين جحدوني وكذبوني". [الطبري في التفسير-سورة آل عمران-قوله تعالى (ولاتفرقوا) وانظر تخريج ما سبق](2/143)
ابن أبي حاتم حدثنا إسحاق بن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي حدثنا السندي بن عبدويه حدثنا بكير بن معروف عن مقاتل بن حيان عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه عن جده ابن مسعود قال قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا ابن مسعود قلت لبيك يا رسول الله قال هل علمت أن بني إسرائيل افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث فرق قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت فنجت ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة فدعوا إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت ثم قامت طائفة أخرى لم يكن لها قوة بالقتال ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
قال ابن كثير في تفسيره –سورة الحديد،بعد أن ذكر رواية ابن أبي حاتم السالفة: وقد رواه ابن جرير بلفظ آخر من طريق أخرى فقال حدثنا يحيى بن أبي طالب حدثنا داود بن المحبر حدثنا الصعق ….ثم قال:ولا يقدح المتابعة لحال داود بن المحبر فإنه أحد الوضاعين للحديث ولكن قد أسنده أبو يعلى عن شيبان بن فروخ عن الصعق ابن حزن به مثله ذلك فقوي الحديث من هذا الوجه. [قال جامعه: شيبان والصعق كلاهما صدوق يهم،وانظر ما تقدم تخريجه من حديث ابن مسعود](2/144)
حدثنا محمد بن صالح بن هانىء،، ثنا يحيى بن محمد بن يحيى الشهيد، ثنا عبد الرحمن بن المبارك، ثنا الصعق بن حزن، عن عقيل بن يحيى، عن أبي إسحاق الهمداني، عن سويد بن غفلة، عن ابن مسعود رضي الله عنه " وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون " قال ابن مسعود قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا عبد الله بن مسعود فقلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرار قال: هل تدري أي عرى الإيمان أو ثق ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أو ثق الإيمان الولاية في الله بالحب فيه والبغض فيه. يا عبد الله بن مسعود قلت: لبيك يا رسول الله ثلاث مرار. قال: هل تدري أي الناس أفضل ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أفضل الناس أفضلهم عملاً إذا فقهوا في دينهم. يا عبد الله بن مسعود قلت: لبيك وسعديك ثلاث مرار. قال: هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإن أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلفت الناس وإن كان مقصراً في العمل وإن كان يزحف على إسته واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم حتى قتلوا، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلهم الملوك ونشرتهم بالمناشير، وفرقة لم يكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى الله وإلى دين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها فهم الذين قال الله: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " إلى قوله " فاسقون " فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوني والفاسقون الذين كفروا بي وجحدوا بي. [ك: 2/522-3790](2/145)
أخبرنا أبو محمد بن يوسف الأصبهاني أنا أبو سعيد بن الأعرابي نا سعدان بن نصر نا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن الربيع بن عملية نا عبد الله حدثنا ما سمعنا حديثاً هو أحسن منه إلا كتاب الله عز وجل ورواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال إن بني اسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهو ته قلوبهم واستحلته ألسنتهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهو اتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهو رهم كأنهم لا يعلمون. فقال اعرضوا هذا الكتاب على بني اسرائيل فإن تابعوكم عليه فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوه قال: لا بل ابعثوا إلى فلان رجل من علمائهم فإن تابعكم لم يختلف عليكم أحد وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم أحد بعده فأرسلوا إليه فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله ثم أدخلها في قرن ثم علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا اتؤمن بهذا فأشار إلى صدره يعني الكتاب الذي في القرن. فقال آمنت بهذا وما لي لا أو من بهذا فخلوا سبيله. قال وكان له أصحاب يغشونه فلما حضرته الوفاة أتوه فلما نزعوا ثيابه وجدوا القرن في جوفه الكتاب. فقالوا ألا ترون إلى قوله آمنت بهذا وما لي لا أو من بهذا فإنما عنى بهذا هذا الكتاب الذي في القرن قال فاختلفت بنو إسرائيل على بضع وسبعين فرقة خير مللهم أصحاب ذي القرن قال عبد الله: وإن من بقي منكم سيرى منكراً وبحسب امرئ يرى منكراً لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. [هب: 7589]
5. حديث أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه(2/146)
ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا قطن بن عبدالله أبو مري عن أبي غالب عن أبي أمامة قال افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة أو قال اثنتين وسبعين فرقة وتزيد هذه الأمة فرقة واحدة كلها في النار إلا السواد الأعظم له رجل يا أبا أمامة من رأيك أو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إني إذا لجري بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة. [السنة لابن أبي عاصم 68 –قال الألباني: إسناده ضعيف قطن بن عبدالله أبو مري أو رده ابن أبي حاتم براوية محمد ابن مهران الجمال أيضا عنه ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا فهو مجهو ل الحال وسائر الرواة ثقات على ضعف يسير في أبي غالب فهو حسن الحديث والحديث قال الهيثمي في المجمع رواه الطبراني في الأو سط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره وبقية رجال الإسناد ثقات وكذلك أحد إسنادي الكبير قلت فإن كان الحديث عندهما من غير طريق القطن هذا فهو حسن والله أعلم –قال جامعه: قد رواه من غير طريق قطن فانظر ما يلي.]
حدثنا محمد بن محمويه الجوهري، ثنا معمر بن سهل، ثنا أبو علي الحنفي، حدثنا سلم بن زرير، ثنا أبو غالب عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنين وسبعين فرقة وأمتي تزيد عليهم فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم (لم يروهذا الحديث عن سلم إلا أبو علي الحنفي) [طس: 7/219-7202- قال في المجمع 7/258رواه الطبراني في الأو سط والكبير بنحوه وفيه أبو غالب وثقه ابن معين وغيره،وبقية رجال الأو سط ثقات وكذلك أحد إسنادي الكبير. قال جامعه: عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي البصري صدوق لم يثبت أن يحي بن معين ضعفه: تقريب](2/147)
حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ثنا سعد بن سليمان النشيطي ثناى سلم بن زرير عن أبي غالب عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة تزيد عليها أمتي فرقةً كلها ف بالنار إلا السواد الأعظم. [طب: 8/274-8054-سلم وثقه أبو حاتم وقال النسائي ليس بالقوي،وانظر تحقيق ما قبله –وذكر محققوا مسند أحمد ط. الرسالة 19/242أنه رواه الطبراني8035،8051،8054،والبيهقي ومحمد بن نصر المروزي في السنة ص 55،56 وإسناده حسن]
حدثنا يوسف القاضي ثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي ثنا قريش بن حيان ثنا أبو غالب عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفرقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين فرقةً وستفترق هذه الأمة على ما تفرقت عليه بنو إسرائيل تزيد فرقةً، كلها في النار إلا السواد فقلنا: يا أبا أمامة أو ليس في السواد ما يكفيه؟ قال: والله إنا لننكر ما تعملون. [طب: 8/273-8053-قريش ثقة،وانظر تحقيق ما قبله](2/148)
حدثنا محمد بن فضاء الجوهري ومحمد بن حيان المازني قالا ثنا محمد بن عبيد حساب ثنا حماد بن زيد ثنا أبو غالب قال: كنت بالشام فبعث المهلب سبعين رأساً من الخوارج، فنصبوا على باب المسجد وكنت على ظهر بيت لي أبو أمامة يريد المسجد، فلما وقف عليهم دمعت عيناه، فقال: سبحان الله ما يفعل الشيطان ببني آدم ثلاثا؟ قال: كلاب جهنم شر قتلى تحت ظل السماء ثلاث مرات، ثم قال: خير قتلة تحت ظل السماء، من قتلوه ثلاثا، ثم التفت إلي فقال: يا أبا غالب إنك بأرض هؤلاء بها كثير، فأعاذك اللهم منهم، هل تقرأ السورة التي فيها آل عمران؟ قلت: بلى، إني رأيتك دمعت عيناك؟ قال: بكيت رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام، فتلا " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " إلى أن بلغ " ابتغاء الفتنة وابتغاء تأو يله " وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ فزيغ بهم ثم تلا " ولا تكونوا كالذين تفرقوا " إلى أن بلغ " أكفرتم بعد إيمانكم " قلت: هؤلاء يا أبا أمامة ؟ قال: نعم، قلت: يا أبا أمامة من قبل رأيك تقول أم شيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إني لجريء ثلاثا، بل شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا مرة ولا مرتين حتى بلغ ستة ثم قال: إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقةً أو قال اثنتين وسبعين فرقةً، وإن هذه الأمة ستزيد عليهم فرقةً، كلها في النار إلاً السواد الأعظم قلت: يا أبا أمامة ألا تراهم ما يعملون؟ قال: عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم إن تطيعوه تهتدوا. [طب: 8/268-8035-قلت: المحمدان ثقتان](2/149)
حدثنا علي بن عبد العزيز ثنا داود بن عمرو الضبي ثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع عن عمرو بن قيس الملائي عن داود بن السليك عن أبي غالب قال:كنت بدمشق زمن عبد الملك فأتى برؤوس الخوارج فنصبت على أعواد، فجئت لأنظر هل فيها أحد أعرفه؟ فإذا أبو أمامة عندها، فدنوت منه فنظرت إلى الأعواد، فقال: يا كلاب النار ثلاث مرات، شر قتلى تحت أديم السماء، ومن قتلوه خير قتلى تحت أديم السماء قالها ثلاث مرات، ثم استبكى، فقلت: يا أبا أمامة ما يبكيك؟ كانوا على ديننا، ثم ذكرت ما هم صائرون إليه غدا فقلت له: شيئا تقوله برأيك أم شيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: إني لوأسمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا إلى السبع ما حدثتكوه، أما تقرأ الآية في آل عمران " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " إلى آخر الآية " وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون " ثم قال: اختلفت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة، سبعين من النار، وواحدة في الجنة، واختلفت النصارى على اثنتين وسبعين فرقةً، إحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة،وتختلف هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقةً اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة فقلنا: انعتهم لنا، قال: السواد الأعظم. [طب: 8/273-8051-قال في المجمع: 6/234 رجاله ثقات – وانظر ما تقدم](2/150)
حدثنا قطن بن عبد الله أبو مري عن أبي غالب قال: كنت في مسجد دمشق فجاءوا بسبعين رأساً من رؤوس الحرورية فنصبت على درج المسجد، فجاء أبو أمامة فنظر إليهم فقال: كلاب جهنم، شر قتلى قتلوا تحت ظل السماء، ومن قتلوا خير قتلى تحت السماء، وبكى فنظر إلي وقال: يا أبا غالب ! إنك من بلد هؤلاء؟ قلت: نعم، قال أعاذك قال: أظنه قال: الله منهم، قال: تقرأ آل عمران ؟ قلت: نعم ! قال: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأو يله وما يعلم تأو يله إلا الله والراسخون في العلم " قال: " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون " قلت: يا أبا أمامة ! إني رأيتك تهريق عبرتك ؟ قال: نعم ! رحمة لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام، قال: افترقت بنو إسرائيل على واحدة وسبعين فرقة، وتزيد هذه الأمة فرقة واحدة، كلها في النار إلا السواد الأعظم، عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا، وما على الرسول إلا البلاغ، السمع والطاعة خير من الفرقة والمعصية. فقال له رجل: يا أبا أمامة ! أمن رأيك تقول أم شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: إني إذا لجريء، قال بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير مرة ولا مرتين حتى ذكر سبعاً. [شيبة: 8/731-12-وانظر ما تقدم في قطن،وانظر الحديث قبله](2/151)
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد الصفار ثنا إسماعيل بن إسحق القاضي ثنا محمد بن أبي بكر ثنا حماد هو ابن زيد عن أبي غالب قال: كنت بالشأم، فبعث المهلب ستين رأساً من الخوارج فنصبوا على درج دمشق، وكنت على ظهر بيت لي إذ مر أبو أمامة، فنزلت فاتبعته، فلما وقف عليهم دمعت عيناه، وقال: سبحان الله ما يصنع الشيطان ببني آدم، ثلاثاً، كلاب جهنم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء، ثلاث مرات، خير قتلى من قتلوه، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، ثم التفت إلي فقال: يا أبا غالب أعاذك الله منهم، قلت: رأيتك بكيت حين رأيتهم، قال: بكيت رحمة، رأيتهم كانوا من أهل الإسلام، هل تقرأ سورة آل عمران، قلت: نعم فقرأ " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " حتى بلغ " وما يعلم تأو يله إلا الله " وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيع وزيغ بهم، ثم قرأ " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " إلى قوله " ففي رحمة الله هم فيها خالدون " قلت: هم هؤلاء يا أبا أمامة، قال: نعم، قلت: من قبلك تقول أو شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: إني إذاً لجريء، بل سمعته لا مرة ولا مرتين حتى عد سبعاً، ثم قال: إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقةً، وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقةً، كلها في النار إلا السواد الأعظم، قلت: يا أبا أمامة، ألا ترى ما يفعلون، وقال: عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم. [هق: 12/362-17254-انظر ما تقدم](2/152)
قلت: روى القصة –دون ذكر الافتراق- الإمام أحمد في المسند في ثلاث مواضع: 36/470-22151 ط. الرسالة حدثنا أبو سعيد، حدثنا عبد الله بن بُجَير، حدثنا سيار قال:جيئ برؤوس من قبل العراق … وقال محققوا المسند: حديث صحيح وهذا إسناد حسن من أجل سيّار بن عبد الله الأموي مولاهم الدمشقي، وقد توبع، وباقي رجاله ثقات.، ورواه 36/518-22183 حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، قال سمعت أبا غالب يقول: لما أُتي برؤوس الأزارقة، فنصبت على درج دمشق، جاء أبو أمامة … وقال محققوا المسند: حديث صحيح، وهذا إسناد حسن في المتابعات والشواهد من أجل أبي غالب البصري نزيل أصبهان، واسمه حَزَوَّر، وقيل سعيد بن الحزوَّر، وقيل نافع فإنه مختلف فيه، وقد توبع وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين. ورواه 36/542-22208 حدثنا وكيع، حدثنا حماد بن سلمة، عن أبي غالب عن أبي أمامة: أنه رأى رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال … وقال محققوا المسند: حسن لغيره، وهذا إسناد حسن في المتابعات والشواهد. ورواه 36/654-22314 حدثنا أنس بن عياض، قال: سمعت صفوان بن سُليم يقول: دخل أبو أمامة الباهلي دمشق فرأى رؤوس حاروراء قد نُصبت، فقال: كلاب النار … وفي آخره: هؤلاء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم شيَعا. وقال محققوا المسند: حديث صحيح وهذا إسناد منقطع فإن صفوان بن سُليم الزهري المدني لم يسمع من أبي أمامة الباهلي، وقد روي متصلاً من غير هذا الوجه. وكذلك روى القصة دون الافتراق: عب:18663، ت:3000، هـ:176، شيبة: 15/317، والحميدي 908، طص: 33،1098، طس: 7660، طب: 8045:8033، 8052:8049، 8055،8056، والآجري: 35،36،37.]
6. حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما(2/153)
حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن سعيد بن عامر عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ يقول: إن في أمتي لنيفاً وسبعين داعياً كلهم داع إلى النار، لوأشاء لأنبأتكم بآبائهم وقبائلهم. قال: ثم مررنا على برك، قال: فجعلنا نكرع فيها، فقال رسول الله ـ - صلى الله عليه وسلم - ـ: لا تكرعوا ولكن اغسلوا أيديكم ثم اشربوا فيها، فإنه ليس من إناء أطيب من اليد. [ي: 10/65-5701-وقال محقق المقصد العلي ح 1805: إسناده ضعيف جداً،وذكره الهيثمي في المجمع 7/259 وقال: وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس وبقية رجاله ثقات. قلت قال ابن حجر في التقريب صدوق اختلط أخيراً ولم يتميز حديثه فترك]
7. حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه
أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن سلام على كم تفرقت بنو إسرائيل ؟ فقال: على واحدة – أو اثنتين – وسبعين فرقة، قال: وأمتي أيضاً ستفترق مثلهم، أو يزيدون واحدة، كلها في النار إلا واحدة. [عب: 10/156-18675]
أخبرنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب القاضي قال: حدثنا الحسن [بن] محمد بن الصباح الزعفراني قال: حدثنا شبابة - يعني ابن سوار- قال: أخبرنا سليمان بن طريف، عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن سلام، على كم تفرق بنو إسرائيل ؟ قال: على واحدة وسبعين أو اثنتين وسبعين فرقة، كلهم يشهد بعضهم على بعض في الضلالة. قالوا: أفلا تخبرنا لوقد خرجت من الدنيا لتفرقت أمتك، على مايصير أمرهم ؟ قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: بلى، إن بني إسرائيل تفرقوا على ما قلت، وستفترق أمتي على ما تفرقت عليه بنو إسرائيل، وستزيد فرقة واحدة لم تكن في بني إسرائيل، وذكر الحديث " [الآجري في "الشريعة" ص17-قال محققوا مسند أحمد ط. الرسالة 19/242 فيه من لم نعرفه].(2/154)
8. حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
حدثنا أبو خيثمة، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا العوام بن حوشب قال: حدثني طلحة بن نافع، عن جابر قال: مرعلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجل فقالوا فيه وأثنوا عليه. فقال: من يقتله قال أبو بكر: أنا، فانطلق فوجده قد خط على نفسه خطة فهو قائم يصلي فيها. فلما رآه على ذ لك الحال، رجع ولم يقتله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يقتله ؟ فقال عمر: أنا، فذهب فرآه يصلي في خطة قائماً يصلي. فرجع ولم يقتله. فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من له – أو من يقتله ؟. فقال: علي: أنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت، ولا أراك تدركه. فانطلق فوجده قد ذهب. [ي:4/150-2215–وقال في المجمع 6/227رجاله رجال الصحيح–قلت:يزيد والعوام ثقتان،وطلحة صدوق]
9. حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
حدثنا يوسف بن موسى قال: نا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: نا أبو بكر بن عياش عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن عائشة ابنة سعد عن أبيها قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة ولن تذهب الليالي والأيام حتى تفترق أمتي على مثلها)). وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن سعد إلا من هذا الوجه، ولا نعلم روى عبد الله بن عبيدة عن عائشة عن أبيها إلا هذا الحديث.[بز: 4/37-1199-وضعفه الحافظ بموسى بن عبيدة الربذي:انظر مختصر زوائد البزار للحافظ ابن حجر، تحقيق صبري عبد الخالق ح 1644-وكذلك قال الهيثمي في المجمع 7/259](2/155)
حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال حدثنا زهير بن محمد المروزي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن موسى بن عبيدة، عن ابنة سعد بن أبي وقاص، عن أبيها رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين ملة: ولن تذهب الأيام والليالي حتى تفترق أمتي على مثلها - أو قال: عن مثل ذلك - فكل فرقة منها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ". [الآجري في "الشريعة" 17،18 –وضعف إسناده محققوا مسند أحمد ط. الرسالة19/242، ورواه محمد بن نصر المروزي في السنة ص55،56، وقال في كنز العمال 1055 رواه عبد بن حميد]
10. حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
حدثنا محمود بن غيلان. حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن زياد الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذوالنعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله قال: ما أنا عليه وأصحابي. قال أبو عيسى: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه. [ت: 2641-وحسنه الألباني في السنن، وضعف إسناده محققوا مسند الرسالة 19/242، ورواه محمد بن نصر المروزي في السنة ص 59، وأبو نعيم 9/242-قال جامعه: فيه وكل الروايات بعده عبد الرحمن بن زياد بن أنعُم الأفريقي ضعيف في حفظه وكان رجلاً صالحاً](2/156)
أخبرنا أبو عبد الله أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال: حدثنا الهيثم بن خارجة قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل: تفرق بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين، تزيد عليهم، كلها في النار إلا ملة واحدة، فقالوا: من هذه الملة الواحدة ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا عليه وأصحابي " [الآجري في "الشريعة" –ضعف إسناده محققوا مسند الرسالة 19/242]
حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد الصندلي قال حدثنا أبو بكر بن زنجويه قال حدثنا محمد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان - يعني الثوري - عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن زيد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل حذوالنعل بالنعل. وإن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا ملة واحدة. قيل: من هي يارسول الله ؟ قال عليه الصلاة والسلام:ما أنا عليه اليوم وأصحابي" [الآجري في "الشريعة"-انظر ما قبله](2/157)
أما حديث عبد الله بن عمرو : فأخبرناه علي بن عبد الله الحكيمي ببغداد، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا ثابت بن محمد العابد، ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل حذوالنعل بالنعل حتى لوكان فيهم من نكح أمه علانية كان في أمتي مثله إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا ملة واحدة. فقيل له: ما الواحدة ؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي. [ك: 1/218-444-انظر ما تقدم –وضعفه الحاكم بعبد الرحمن زياد الأفريقي، ورواه كذلك ابن عساكر كما في كنز العمال 1060]
11. حديث عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه(2/158)
حدثنا علي بن المبارك الصنعاني ثنا اسماعيل بن أبي أو يس ثنا كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده قال: كنا قعودا حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده بالمدينة فجاءه جبريل عليه السلام بالوحي فتغشى رداءه فمكث طويلا حتى سري عنه وكشف رداءه فاذا هو تعرق عرقا شديدا واذا هو قابض على شيء فقال: ((ايكم يعرف ما يخرج من النخل ؟)) فقال الأنصار نحن يا رسول الله بأبينا أنت وأمنا ليس شيء يخرج من النخل الا نحن نعرفه، نحن أصحاب نخل، ثم فتح يده فاذا فيها نوى فقال: ((ما هذا ؟)) فقالوا: هذا يا رسول الله نوى، قال: ((نوى أي شيء ؟)) قالوا نوى سنة قال ((صدقتم جاءكم جبريل عليه السلام يتعاهد دينكم، لتسلكن سنن من قبلكم حذوالنعل بالنعل ولتأخذن بمثل أخذهم ان شبرا فتشبرا، وان ذراعا فذراعا، وان باعا فباعا، حتى لودخلوا في حجر ضب دخلت فيه، الا أن بني اسرائيل افترقت على موسى سبعين فرقة، كلها ضالة الا فرقة واحدة الاسلام وجماعتهم، ثم انها افترقت على عيسى بن مريم على احدى وسبعين فرقة، كلها ضالة الا واحدة الاسلام وجماعتهم، ثم انكم تكونون على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار الا واحدة الاسلام وجماعتهم)) [طب: 17/13-3-قال في المجمع 7/260: رواه الطبراني وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف وقد حسن الترمذي له حديثاً،وبقية رجاله ثقات-قال جامعه: كثير هذا أنكر كثير من العلماء على الترمذي تحسين حديثه- وهو حديث عدد التكبيرات في صلاة العيدين- قال الألباني في الإرواء 3/109 مستنكراً تحسين الترمذي له: كذا قال ! وقد أنكر جماعة تحسينه إياه كما في "التلخيص".لأن كثير بن عبد الله واهٍ جداً، حتى قال الشافعي:"هو ركن من أركان الكذب"، وقال ابن عدي عقب الحديث: "كثير هذا عامة أحاديثه لايتابع عليه "-قال جامعه: قال عنه الحافظ في التقريب: "ضعيف، أفرط من نسبه إلى الكذب"](2/159)
وأما حديث عمرو بن عوف المزني: فأخبرناه علي بن حمشاد العدل، ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي، والعباس بن الفضل الأسفاطي قالا: ثنا إسماعيل بن أبي أو يس، حدثني كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد، عن أبيه، عن جده قال: كنا قعوداً حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجده فقال: لتسلكن سنن من قبلكم حذوالنعل بالنعل ولتأخذن مثل أخذهم أن شبراً فشبر وإن ذراعاً فذراع وإن باعاً فباع، حتى لودخلوا جحر ضب دخلتم فيه إلا أن بني إسرائيل افترقت على موسى على إحدى وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة الإسلام وجماعتهم، وأنها افترقت على عيسى بن مريم على إحدى وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة الإسلام وجماعتهم. ثم أنهم يكونون على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة إلا فرقة واحدة الإسلام وجماعتهم. [ك: 1/219-445-وانظر ما قيل في كثير-وضعفه الحاكم بكثير بن عبد الله المزني،(وذكر أن إسناده) لا تقوم به الحجة -وضعف إسناد الحاكم محققوا مسند أحمد ط. الرسالة 19/242]
12. حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه(2/160)
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح ثنا نعيم بن حماد ثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال)). [طب: 18/50-90-قال في المجمع 1/179: رواه الطبراني في الكبير والبزار ورجاله رجال الصحيح. وتعقبه الحافظ ابن حجر بقوله: قلت: نعيم بن حماد ضعفّه بعضهم واتُهِم بهذا الحديث. قال جامعه: رواية البزار لم أجدها في مسنده ! ووجدتها في مختصره ح 122 وهي التي تأتي- قال الشاطبي في الاعتصام 1/430 وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة (يعني قوله: يقيسون) قدح فيه ابن عبد البر،لأن ابن معين قال: إنه حديث باطل لا أصل له. شبه فيه على نعيم حماد، قال بعض المتأخرين: إن الحديث قد روي عن جماعة من الثقات، ثم تكلم في إسناده بما يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد البر، ثم قال: وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون ـ يعني ابن معين ـ قد اطلع منه على علة خفية – قال جامعه: أو رد ابن عبد البر الحديث في كتابه جامع بيان العلم وفضله في ثلاثة مواضع 1673 حدثناه عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا عبيد بن عبد الواحد بن شريك،ثنا نعيم ابن حماد، نا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي، قال نا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي،ورواه 1996 وحدثني عبد الوارث بن سفيان، ثنا قاسم بن أصبغ، قال نا عبيد بن عبد الواحد بن شريك، ثنا نعيم بن حماد، نا ابن المبارك، ثنا عيسى بن يونس عن حريز بن عثمان الرحبي، ثنا عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي،ورواه 1997 وأخبرنا أحمد بن قاسم ويعيش بن سعيد قالا: نا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد ابن إسماعيل الترمذي، ثنا نعيم بن حماد، ثنا ابن المبارك، ثنا عيسى بن يونس ثنا حريز، عن(2/161)
عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي…، وقال أبو عمر ابن عبد البر عقب الرواية الأو لى 2/891:هذا عند أهل العلم بالحديث حديث غير صحيح،حملوا فيه على نعيم بن حماد،وقال أحمد بن حنبل ويحى بن معين:حديث عوف بن مالك هذا لاأصل له،وأما ما روي عن السلف في ذم القياس فهو عندنا قياس على غير أصل، أو قياس يُرَد به أصل. أهـ. وقال مثل ذلك في 2/1039.
وقال محقق الكتاب الشيخ الفاضل والأخ المهذَّب أبو الأشبال الزهيري: لايصح، وذكر أنه رواه الطبراني في مسند الشاميين 1072 وابن عساكر وابن عدي في المامل 7/2483 والخطيب في الفقيه والمتفقه 1/179 وتاريخ بغداد 13/307 والبيهقي في المدخل 207، وقال البيهقي: تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه منه جماعة من الضعفاء وهو منكر. وقال ابن عدي: وهذا إنما يعرف بنعيم ابن حماد رواه عن عيسى بن يونس، فتكلّم الناس فيه بجرَّاهُ، ثم رواه رجل من أهل خرسان يقال له الحكم بن المبارك يكنى أبا صالح يقال له الخواشتي، ويقال إنه لابأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون بسرقة الحديث …أ.هـ](2/162)
ثنا ابن حماد، ثنا عاصم بن رواد، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس عن جرير ابن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك سمعت النبي صلى الله علية وسلم قال: (افترقت بنو إسرائيل على سبعين فرقة، وتزيد أمتي عليها فرقة، ليس فها أضر على أمتي من قوم يقيسون الدين برأيهم، فيحلون به ما حرم الله، ويحرمون به ما أحل الله). [رواه ابن عدي في الكامل 8/251 وقال: قال لنا ابن حماد: هذا وضعه نعيم بن حماد، وقال في ترجمته: نعيم ابن حماد المروزي خزاعي يعرف بالفارض (لأنه كان عالماً بالفرائض) سكن مصر حمل إلى العراق ومات في الحبس.قال لنا ابن حماد (يعني الدولابي): يروي عن ابن المبارك، ضعيف، قاله أحمد بن شعيب.قال ابن حماد: قال غيره كان يضع الحديث في تقوية السنة وحكايات عن العلماء في ثلب أبي حنيفة مزورة كذب.
قال الشيخ –بعد أن ذكر له نحوا من عشرة أحاديث أخذت عليه: ولنعيم بن حماد غير ما ذكرت، وقد أثنى عليه قوم وضعفه قوم، وكان ممن يتصلب في السنة، ومات في محنة القرآن في الحبس، وعامة ما أنكر عليه هو هذا الذي ذكرته، وأرجوأن يكون باقي حديثه مستقيماً. ونقل ذلك وأكثر الحافظ في التهذيب ودافع عنه، ووصفه في التقريب: صدوق يخطئ كثيراً …وقد تتبع ابن عدي ما أخطأ فيه، وقال أرجوأن يكون باقي حديثه مستقيماً، وذكر أن لببخاري روى له متابعة، وروى له مسلم في المقدمة وروى له أصحاب السنن إلا النسائي.](2/163)
حدثنا عمر بن الخطاب السجستاني ثنا نعيم بن حماد ثنا عيسى بن يونس عن حُرَيز بن عثمان عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم يحرمون الحلال ويحلون الحرام)). [بز: 122مختصره، 172 كشف الأستار، وانظر المجمع 1/179 وقال رجاله رجال الصحيح،وانظر تعقيب الحافظ في الحديث السابق. هذا واستفدت تصحيح اسم حُرَيْز من محقق مختصر البزار صبري بن عبد الخالق أبو ذر]
أخبرنا أبو جعفر بن محمد البغدادي نيسأبو ر، ثنا يحيى بن عثمان، ثنا صالح السهمي، ثنا نعيم بن حماد، ثنا عيسى بن يونس، عن [حريز] بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تفترق أمتي علىبضع وسبعين فرقةأعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأموربرأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال. [ك: 3/631-6325-وانظر ما تقدم في نعيم بن حماد]
أخبرنا محمد بن المؤمل بن الحسن، ثنا الفضل بن محمد بن المسيب، ثنا نعيم ابن حماد، ثنا عيسى بن يونس، عن [حريز] بن عثمان، عن عبد الرحمن بن جبير ابن نفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحرمون الحلال ويحللون الحرام. [ك: 4/477-8325-وانظر ما تقدم في نعيم ابن حماد](2/164)
حدثنا يحيى بن عبد الباقي ثنا يوسف بن عبد الرحمن المروروذي ثنا أبو تقي عبد الحميد بن إبراهيم الحمصي ثنا معدان بن سليم الحضرمي عن عبد الرحمن بن نجيح عن أبي الزاهرية عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف أنت يا عوف إذا افترقت هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهن في النار)) قلت ومتى ذاك يا رسول الله ؟ قال: ((إذا كثرت الشرط وملكت الإماء وقعدت الحملان على المنابر واتخذوا القرآن مزامير وزخرفت المساجد ورفعت المنابر واتخذ الفيء دولاً والزكاة مغرماً والأمانة مغنماً وتفقه في الدين لغير الله وأطاع الرجل امرأته وعق أمة واقصى أباه ولعن آخر هذه الأمة أو لها وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل اتقاء شره فيومئذ يكون ذلك، ويفزع الناس يومئذ إلى الشام نعصمهم من عدوهم))، قلت: وهل يفتح الشام؟ قال: ((نعم وشيكاً ثم تقع الفتن بعد فتحها، ثم تجيء فتنة غبراء مظلمة، ثم يتبع الفتن بعضها بعضاً حتى يخرج رجل من أهل بيتي يقال له المهدي فإن أدركته فأتبعه وكن من المهتدين)). [طب: 18/51-91-قال في المجمع: 7/324 فيه عبد الحميد بن ابراهيم وثقه ابن حبان وهو ضعيف وفيه جماعة لم أعرفهم-قال جامعه: راجع السلسلة الصحيحة 1727]
حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار الحمصي، حدثنا عباد بن يوسف، حدثنا صفوان بن عمرو ، عن راشد بن سعد، عن عوف بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افترقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار قيل: يا رسول الله من هم ؟ قال: الجماعة. [هـ: 3992-وصححه الألباني في السنن، وانظر الصحيحة 1492، والحديث بعده](2/165)
ثنا عمرو بن عثمان ثنا عباد بن يوسف حدثني صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افترقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسبعين في النار وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فإحدى سبعين في النار وواحدة في الجنة والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فواحدة في الجنة واثنتان وسبعين في النار قيل يا رسول الله من هم قال هم الجماعة. [ابن أبي عاصم في "السنة" 63 وقال الألباني: إسناده جيد رجاله كلهم ثقات معروفون غير عباد بن يوسف وهو ثقة إن شاء الله وعمرو بن عثمان هو ابن سعيد القرشي الحمصي مات سنة وعنه رواه ابن ماجة والحديث رواه ابن ماجه وغيره عن عباد به وقد خرجه في الأحاديث الصحيحة 203،204]
حدثنا جعفر بن محمد الفريابي وعبد الله بن سليمان بن الأشعث السجزي قالا ثنا عمرو بن عثمان الحمصي (ح). وحدثنا حبر بن عرفة المصري ثنا يزيد بن عبد ربه الجرجسي قالا ثنا عباد بن يوسف عن صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهو د على احدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار))، قيل يا رسول الله ومن هي ؟ قال: ((الجماعة)). [طب: 18/70-129-وانظر تخريج ما قبله –وقوى إسناده محققوا مسند أحمد ط. الرسالة 19/242]
13. حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه(2/166)
حدثنا أسيد بن عاصم حدثنا عامر بن إبراهيم عن يعقوب عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس عن علي قال تفرقت اليهو د على إحدى وسبعين فرقة والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة وأنتم على ثلاث وسبعين وإن من أضلها وأخبثها من يتشيع أو الشيعة. [السنة لابن أبي عاصم 995-قال الألباني:إسناده ضعيف ورجاله ثقات غير ليث وهو ابن أبي سليم فأنه ضعيف كان اختلط والحديث صحيح دون ذكر الشيعة فيه فقد جاء عن جمع من الصحابة استقصى المصنف طائفة كثيرة من طرقه فيما تقدم وراجع الصحيحة 203،204]
وأخرج أبو الشيخ عن علي بن أبي طالب قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، يقول الله { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة. [الدر المنثور للسيوطي – سورة الأعراف آية 181] وينقل ههنا حديث أنس بن مالك المتقدم الذي رواه أبو يعلى 3668، والذي في آخره حديث علي.
14. حديث جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم(2/167)
حدثنا محمود بن محمد الواسطي ثنا محمد بن الصباح الجرجراني ثنا كثير بن مروان الفلسطيني عن عبد الله بن يزيد بن آدم الدمشقي قال حدثني أبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك قالوا: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ونحن نتمارى في شيء من أمر الدين، فغضب غضبا شديداً لم يغضب مثله، ثم انتهرنا فقال: مهلاً يا أمة محمد، إنما هلك من كان قبلكم بهذا، أخذوا المراء لقلة خيره، ذروا المراء، فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء، فإن المماري قد نمت خسارته، ذروا المراء، فكفاك إثماً أن لا تزال ممارياً، ذروا المراء، فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيم بثلاث آيات في الجنة في رباضها ووسطها وأعلاها لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء، فإن أو ل ما نهاني عنه ربي بعد عبادة الأو ثان المراء وشرب الخمر، ذروا المراء، فإن الشيطان قد يئس أن يعبد، ولكنه قد رضي منكم بالتحريش، وهو المراء، ذروا المراء، فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقةً، والنصارى على ثنتين وسبعين كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم قالوا: يا رسول الله ومن السواد الأعظم ؟ قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي، من لم يمار في دين الله، ومن لم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب غفر له ثم قال:إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً قالوا: يا رسول الله ومن الغرباء؟ قال: الذين لا يصلحون إذا فسد الناس ولا يمارون في دين الله، ولا يكفرون أحداً من أهل التوحيد بذنب [طب: 8/152-7659-قال في المجمع 7/259: رواه الطبراني وفيه كثير بن مروان وهو ضعيف جداً-وقال محققوا مسند أحمد ط. الرسالة 19/242 ضعيف وكذبه ابن معين](2/168)
حدثنا عمر بن أيوب أيضاً: قال محمد بن الصباح الجرجاني قال: حدثنا كثير بن مروان الفلسطيني، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي قال: حدثني أبو الدرداء رضي الله عنه، وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع، وأنس ابن مالك رضي الله تعالى عنهم، قالوا: خرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نتمارى في شيء من الدين، فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله، ثم انتهرنا، فقال: يا أمة محمد، لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أبهذا أمرتم ؟ أو ليس عن هذا نهيتم، أو ليس إنما هلك من كان قبلكم بهذا ؟ ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: دعوا المراء لقلة خيره، ودعوا المراء فإن نفعه قليل، ويهيج العداوة بين الإخوان، ذروا المراء، فإن المراء لا تؤمن فتنته، ذروا المراء، فإن المراء يورث الشك ويحبط العمل، ذروا المراء، فإن المؤمن لا يماري، ذروا المراء، فإن المماري قد تمت حسراته، ذروا المراء، فكفى بك إثماً أن لاتزال ممارياً، ذروا المراء، فإن المماري لا أشفع له يوم القيامة، ذروا المراء، فأنا زعيم بثلاث أبيات في الجنة: في وسطها، وبربضها، وأعلاها، لمن ترك المراء وهو صادق، ذروا المراء، فإنه أو ل ما نهاني ريي عنه بعد عبادة الأو ثان، وشرب الخمر، ذروا المراء، فإن الشيطان قد أيس أن يعبد، ولكنه قد رضي منكم بالتحريش، وهو المراء في الدين، ذروا المراء، فإن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها على الضلالة، إلا السواد الأعظم، قالوا: يا رسول الله، ما السواد الأعظم ؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: من كان على ما أنا عليه وأصحابي رضي الله عنهم، من لم يمار في دين الله، ولم يكفر أحداً من أهل التوحيد بذنب. وذكر الحديث ". [الآجري في "الشريعة" ص 55-وانظر ماقبله]
روايات غريبة !(2/169)
ذكر الشاطبي في الاعتصام 1/430 بعد أن ذكر روايات لحديث الافتراق، قال: وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب. "إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة، كلها في النار إلا واحدة قالوا: وما هي يا رسول الله ؟ قال: ـ الجماعة".
و أورد العجلوني في "كشف الخفاء" رواية: تفترق أمتي على سبعين فِرقةً، كلُهم في الجنة إلا فِرقة واحدة، قالوا يا رسول الله من هم؟ قال: الزنادقة. ثم قال: قال في اللآلئ: لا أصل له، أي بهذا اللفظ، وإلا فالحديث روي من أو جه مقبولة بغير هذا اللفظ، منها تفترق أمتي – الحديث، قال: ورواه الشعراني في الميزان من حديث ابن النجار وصححه الحاكم بلفظ غريب، وهو ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا واحدة، وفي رواية عند الديلمي: الهالك منها واحدة، قال العلماء هي الزنادقة انتهى. وفي هامش الميزان المذكور عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة إلاواحد وهي الزنادقة، قال: وفي رواية عنه أيضا: تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقه، إني أعلم أهداها: الجماعة انتهى.
قال: ثم رأيت ما في هامش الميزان مذكورا في تخريج أحاديث مسند الفردوس للحافظ ابن حجر، ولفظه: تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة إلا واحدة وهي الزنادقة، أسنده عن أنس، قال: وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أنس بلفظ أهداها فرقة الجماعة انتهى. قال: فلينظر مع المشهور،ولعل وجه التوفيق أن المراد بأهل الجنة في الرواية الثانية ولو مآلا فتأمل.أ. هـ.من كشف الخفاء.(2/170)
قال جامعه: قال الألباني في الصحيحة 204 …الأبرد بن أشرس فإنه روى هذا الحديث أيضا عن يحى بن سعيد (يعني عن أنس) فإنه قلب متنه وجعله بلفظ (وذكره) …أو رده العقيلي وقال: ليس له أصل من حديث يحى بن سعيد. وقال الذهبي في "الميزان" أبرد بن أشرس قال ابن خزيمة: كذَّاب وضَّاع.وانظر كذلك الضعيفة 1035.
وقال الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني(كتاب الإيمان)-بعد ذكره للروايات المعروفة نقلاً عن شرح عقيدة السفاريني، وقول صاحب الشرح: فهو الذي ينبغي أن يعول عليه دون الحديث المكذوب على النبي - صلى الله عليه وسلم - اهـ قال الكتاني: يريد به حديث العقيلي وابن عدي عن أنس تفترق أمتي على سبعين أو إحدى وسبعين فرقة كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة قيل يا رسول اللّه من هم قال الزنادقة وهم القدرية، وفي لفظ تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة كلها في الجنة إلا فرقة واحدة وهي الزنادقة وقد أو رده ابن الجوزي في الموضوعات في كتاب السنة وتبعه في اللآلي وقال ابن تيمية لا أصل له بل هو موضوع كذب باتفاق أهل العلم بالحديث انظر شرح العقيدة المذكورة.أ.هـ.
وبعد ،،،(2/171)
فلا يشك منصف بعد كل هذه الروايات المتقدمة أن حديث الافتراق ثابت في الجملة سوى الروايات الغريبة التي أشرت إليها آنفاً، وجملة هذه الروايات-لاشك- تعطي للحديث قوة وينهض للاحتجاج به، ولاسيما وبعض روايات الحديث أسانيدها صحاح وبعضها حسان وجياد، وقد تلقى العلماء هذا الحديث بالقبول واحتجوا به، مثل الشاطبي في الاعتصام 1/430، وابن تيمية (نقل الألباني في الصحيحة 204 عنه في "المسائل" 83/2 مخطوطة قوله: هو حديث صحيح مشهور)، والحاكم (وقال بعد ذكره أحاديث الباب عن بعض الصحابة:هذه أسانيد تقام به الحجة في تصحيح هذا الحديث)،وابن كثير (سورة هو د آية 118 قال: كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن من طرق يشد بعضها بعضاً،وذكر الحديث،وفيه كلها في النار إلا واحدة، وكذلك في سورة "لم يكن" وفي مواضع أخر من تفسيره)، والشهرستاني (في بداية الملل والنحل)،والعراقي (في تخريج الإحياء، كتاب ذم الدنيا)، والسيوطي، وغيرهم.
وما ذكره الكتاني في "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" قال: فهذا حديث كما ترى وارد من عدة طرق بألفاظ مختلفة وله ألفاظ أخر وقد أخرجه الحاكم من عدة طرق وقال هذه أسانيد تقوم بها الحجة، وقال الزين العراقي (في تخريج الإحياء، كتاب ذم الدنيا): أسانيده جياد، وفي فيض القدير أن السيوطي عده من المتواتر ولم أره في الأزهار، وفي شرح عقيدة السفاريني ما نصه: وأما الحديث الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار فروى من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي الدرداء ومعاوية وابن عباس وجابر وأبي أمامة وواثلة وعوف بن مالك وعمرو بن عوف المزني فكل هؤلاء قالوا واحدة في الجنة وهي الجماعة.(2/172)
هذا، وقد ذكر الألباني في "الصحيحة" 204 طعن بعض العلماء على لفظة (كلها في النار إلا واحدة) منهم الشوكاني في تفسيره فتح القدير(راجع قوله فيما ذكرناه في حديث أنس الذي رواه ابن مردويه)، وابن حزم والعلامة ابن الوزير والكوثري، ثم شرع في الرد عليهم في كون المتن غير مخالف لأحاديث أخر صحاح وأن معناه ليس بمشكل، فراجعه ثَم.
وفي الختام أحمدُ اللهَ تعالى على التوفيق والتمام، وأسأله العفو والغفران، وأصلي وأسلم على النبي المصطفى العدنان، وعلى آله وصحبه الأطهار الكرام. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وكتبه
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أبو عبد الرحمن خالد بن عبد الكريم
أسئلة عامة
فهرس
... الصفحة
لماذا ندرس أصول وتاريخ الفرق الإسلامية ... 5
أول شبهة وقعت فى الملة الإسلامية ... 11
تعريف الافتراق والأهواء والبدع ... 22
الافتراق ... 22
الأهواء ... 25
أهل البدع ... 26
الفرق بين الاختلاف والافتراق ... 27
قواعد عامة فى الأهواء والافتراق ... 30
ظهور الفرق ... 43
السبب الذى لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين ... 45
فصل فى الكلام عن حديث الافتراق ... 58
وقفة حول الفرق وتحديدها وتعدادها ... 84
قرآن كريم الخوارج ... 89
هل للخوارج مصنفات تحمل أراءهم ... 89
التعريف بالخروج والخوراج ... 91
أسماء الخوراج وألقابهم ... 91
نشأة الخوارج ... 95
... الصفحة
أسباب خروج الخوارج ... 111
حركات الخوارج الثورية وفرقهم وعددهم ... 112
دراسة أهم فرق الخوارج (الإباضية) ... 114
زعيم الإباضية ... 115
دولة الإباضية ... 115
موقفهم من المخالفين لهم ... 116
عقائد الإباضية ... 117
إيضاحات لبعض الآراء الاعتقادية للخوارج ... 126
هل الخوارج يقولون بالتأويل أم بظاهر النص فقط ... 126(2/173)
موقف الخوارج من صفات الله عز وجل ... 129
حكم مرتكبى الذنوب عند الخوارج ... 130
الإمامة العظمى ... 134
موقف الخوارج من عامة المسلمين المخالفين لهم ... 140
حكم الخوارج فى أطفال مخالفيهم ... 142
الخوارج فى الميزان ... 145
الغلو فى الدين ... 145
شق عصا الطاعة واستباحة دماء المسلمين وأموالهم ... 150
صلابتهم وحماستهم لمبدئهم ... 151
حكمهم فى نظر علماء المسلمين ... 153
حكم قتال الخوارج ... 155
حكم تكفير الخوارج ... 157
... الصفحة
قرآن كريم الشيعة ... 165
مقدمة ... 165
التأسيس وأبرز الشخصيات ... 169
تعريف الشيعة ... 174
التعريف اللغوى ... 174
التعريف الاصطلاحى ... 183
تعريف الشيعة فى المصادر الأخرى ... 187
نشأة الشيعة وجذورها التاريخية ... 191
رأى الشيعة فى نشأة الشيعة ... 192
آراء غير الشيعة فى نشأة التشيع ... 189
أصل التشيع أو أثر الفلسفات القديمة فى المذهب الشيعى ... 202
فرق الشيعة ... 211
ألقاب الشيعة الإمامية الإثنى عشرية ... 213
اعتقاد الشيعة فى مصادر الإسلام ... 217
عقيدتهم فى أصول الدين ... 258
أولاً: عقيدتهم فى توحيد الألوهية ... 258
ثانياً: عقيدتهم فى توحيد الربوبية ... 268
ثالثاً: عقيدتهم فى أسماء الله وصفاته ... 273
رابعاً: اعتقادهم فى الإيمان وأركانه ... 282
خامساً: أصولهم ومعتقداتهم الأخرى التى تفردوا بها ... 294
الإمامة ... 295
عصمة الإمام ... 314
... الصفحة
التقية ... 317
المهدية والغيبية عند الشيعة ... 321
الرجعة ... 323
الظهور ... 325
البداء ... 326
الطينة ... 330
الشيعة المعاصرون وصلتهم بأسلافهم ... 331
دولة الآيات ... 332
فصل فى الحكم على الشيعة ... 346
قرآن كريم المعتزلة ... 371
مقدمة ... 371
نشأة المعتزلة ... 375
فرق المعتزلة ... 379
عقائد المعتزلة ... 405
المعتزلة فى العصر الحديث ... 467
قرآن كريم الجهمية ... 481
التعريف بالجهمية وبمؤسسها ... 482(2/174)
نشأة الجهمية ... 483
أهم عقائد الجهمية إجمالاً ... 484
الحكم على الجهمية ... 497
قرآن كريم المرجئة ... 501
تمهيد ... 501
... الصفحة
تعريف الإرجاء لغة واصطلاحاً ... 502
الأساس الذى قام عليه مذهب المرجئة ... 503
بيان أول من قال بالإرجاء وبيان أهم زعماء المرجئة ... 506
أصول المرجئة ... 508
أدلة المرجئة لمذهبهم والرد عليها ... 511
الحكم على الناس يكون بالظاهر ... 537
توبة المرتد ... 545
بعض النصوص الشرعية فى حكم ترك العمل ... 553
الكفر يكون كلاماً ولا عبرة بالاعتقاد ... 563
فصل: فى بيان أن من الأعمال والأقوال ما هو كفر مجرد ... 572
الاحتياط فى تكفير المعين ... 592
التكفير والتعذيب لا يكون إلا بعد قيام الحجة ... 597
قرآن كريم الأشاعرة أو السبعية ... 599
ظهور الأشاعرة ... 599
أبو الحسن الأشعرى ... 600
عقيدة الأشعرى ... 601
أشهر زعماء الأشعرية الذين ينتسبون إلى أبى الحسن الأشعرى ... 611
بين أهل السنة والأشاعرة ... 618
قرآن كريم الماتريدية ... 639
التعريف بمؤسس الماتريدية ... 639
أهم آراء الماتريدية إجمالاً ... 641
... الصفحة
قرآن كريم اليزيدية أو عبدة الشيطان ... 653
بعض معتقدات اليزيدية ... 655
قرآن كريم الفرق الباطنية ... 659
توطئة ... 659
الإسماعيلية ... 662
القرامطة ... 666
الفاطميون ... 672
الدروز ... 679
النصيرية – العلوية ... 703
طائفة البهرة ... 714
طائفة الأغاخانية ... 721
أحمد الإحسائى والشيخية ... 724
الحركة الكشفية وكاظم الشيتى ... 728
قرآن كريم الديانات الاستعمارية ... 731
ظهور البابية ... 732
الحركة البهائية "خليفة البابية" ... 744
الحركة القاديانية ... 759
شحذ الهمة فى تخريج أحاديث افتراق الأمة ... 781
أسئلة عامة ... 841(2/175)