بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة الثانية - أسماء الله أعلام وأوصاف
( الحَمْدُ لِلهِ الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (الأنعام:1) ( الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (سبأ:1) ( الحَمْدُ لِلهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (فاطر:1) ( الحَمْدُ لِلهِ الذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجَا قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) (الكهف:2) ( وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (الإسراء:111) ( قُلِ الحَمْدُ لِلهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الذِينَ اصْطَفي آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) (النمل:59) ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) (غافر:65) ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الحديد:3) هو الأول فليس قبله شيء ، وهو الآخر فليس بعده شيء ، وهو الظاهر فليس فوقه شيء ، وهو الباطن فليس دونه شيء ، لم يزل بصفات الكمال ولا يزال ، دائما باقيا بلا انقضاء ولا زوال ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ورفع السماوات(1/1)
بغير عمد وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا نظير له ولا مثيل ، ولا مشير له ولا وزير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .
يقول الله عز وجل : ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (الإسراء:110) هذه الآية تدل على أن أسماء الله أعلام ، كلها تدل على مسمى واحد ، وقوله تعالى : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) تدل على أن أسماء الله أوصاف ، فدعاء الله يكون بالوصف الذي تضمنه الاسم .
ولا بد أن نفرق أولا بين الاسم والصفة ، الاسم هو ما دل على علم لتمييزه عن غيره ، والصفة ما دلت على معنى يقوم بالذات أو دلت على نعت نعتت به ، لو فرضا أن أحدا دخل القاعة الآن ، وقال : أريد سعيدا ، فهل يصح أن نقول خذ أي واحد من الحاضرين ، فإنك تراهم سعداء فرحين منسجمين ؟ لا ، هو يريد شخصا بعينه ، ولا يريد من اتصف بالسعادة ، يريد من تخصيص الشخص العلمية لا الوصفية ، ولذلك لو قلنا له من هو سعيد ؟ فيه أربعة اسمهم سعيد ، فمن تريد ؟ فقال : أريد سعيد بن صالح ؟ فالاسم الثاني - اسم أبيه - أعطاه مزيدا من العلمية والتمييز ، فلوا قلنا له : فيه اثنان سعيد بن صالح ، واحد جالس عند الباب ، والثاني : آخر واحد من الطلاب ، فيقول أريد سعيد بن صالح القحطاني ، عند ذلك تميز هذا الطالب عن بقية الطلاب ، وأصبح اسمه علما عليه دون غيره ، لا يشاركه في الاسم غيره ، فالاسم ما دل على علم لتمييزه عن غيره .(1/2)
لكن لو نادي على سعيد بن صالح القحطاني ، فقام إليه هذا الطالب ، فوجده سعيدا فرحا يضحك ويمرح ، وطيبا مستقيما صالحا ، يزكيه زملاؤه ، يقولون : والنعم ، رجال ممتاز ، زينه ما شاء الله ، ووجد فيه فعلا صفة السعادة والصلاح ، عند ذلك يقول له سعيد صالح اسم على مسمى ، اسم دل على ذاته وتميز به عن غيره ، ووصف قام بذاته ونعت به فهو سعيد صالح اسم وصفة ، لكن لو وجده حزينا باكيا عبوسا كئيبا ، فاسدا مذموما ، ففي هذه الحالة يقال : اسمه سعيد لكن بلا سعادة ، ليست فيه صفة السعادة ، ولا يتصف بالصلاح ، فربما يقال : من الذي سماك سعيدا صالحا ؟ ظلموك ، فيقال الأسماء لا تعلل ، فممكن يسمون واحدا فايزا أو فواز ، وهو فاشل خسران تأتى نتيجته في ذيل نتيجة الامتحان ، ويمكن للرجل أن يسمى ولده عند ولادته صخرا أو حربا ، أو أسدا أو كلبا ، أو جحشا أو كعبا ، وهم يقصدون بهذه التسمية أولا تمييزه عن غيره ، لأنه لا بد لكل شخص أو ذات إنسانية من أسماء تميزها بالعلمية ، ويقصدون أيضا الأمل في أن تتحقق فيه الصفة التي يتضمنها الاسم ، فالذي يسمي ولده صخرا يرغب أن تتوفر فيه صفة القوة والمتانة ، والتماسك والصلابة ، والذي يسمي ولده حربا يأمل أن تتوفر فيه صفة المقاتل الهمام ، الفارس المقدام ، والذي يسميه أسدا أو كلبا أو جحشا أو كعبا يرغب أن تتوفر فيه صفة الشجاعة والجرأة والوفاء ، والتحمل والعظمة والبقاء ، ولذلك كانت أغلب الأسماء ، التي يسميها العرب مبنية على مراعاة الوصفية والعلمية معا ، سمعتم عن أبي سفيان بن حرب ، وعند البخاري تزوج أبو بكر امرأة من كلب ، يعني من بني كلب ، وسمعتم عن أم المؤمنين زينب بنت جحش وحمنة بنت جحش وعبد الله بن جحش ، وسمعتم عن أبي بن كعب ، وكعب بن مالك الذي تخلف عن غزوة تبوك من غير عذر ، رضي الله عنهم أجمعين .(1/3)
وممكن يسمون بنتا تفاحة أو زهرة أو غزال ، أو يسمونها شهد أو بياضة أو نورة ، أو قمر أو جواهر أو جميلة ، وهى سوداء كالليل البهيم ، أو قبيحة وجهها دميم ، أو خبيثة الجوهر والمنظر ، وغير ذلك مما هو معلوم .
فمن الممكن أن يسمى الشخص منصورا وهو مهزوم ، فارس وهو أجبن خلق الله ، فالأسماء في حقنا يراد بها العلمية مع احتمال وجود الوصفية أو عدم وجودها .
أما الأسماء في حق الله فهي علمية ووصفية ، تضمنت الصفات ودلت عليها ، فاسم الله القدير العلي الرحمن القوى العزيز الحكيم السميع العليم وغير ذلك من أسماء الله ، دلت على إثبات صفة القدرة والعلو والرحمة والقوة والعزة والحكمة والسمع والعلم ، فهي أعلام لقوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (الإسراء:110) كلها تدل على مسمى واحد ، وهي أيضا أوصاف لقوله تعالى : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) فالله عز وجل من أسمائه الحسنى الغفور الرحيم ، والغفور علم علي ذاته وكذلك الرحيم كما جاء في قوله تعالى : ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107) وقوله ( قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف:98) ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الحجر:49) ( الذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ) (الملك:2) ( وَهُوَ الغَفُورُ الوَدُودُ) (البروج:14) فكل هذه الآيات تدل على اسمه الغفور الرحيم .(1/4)
أما قوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العِقَابِ) (الرعد:6) وقوله ( وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) (الكهف:58) فتدل على أن الغفور ذو مغفرة ، والرحيم ذو رحمة وكذلك قوله ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) (فصلت:43) ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:18) ( وَلِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:129) ( وَالذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135) .
ومن أسمائه الحسني القوي ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ) (هود:66) ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ) (الشورى:19) والقوي هو المتصف بالقوة ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ) (الذريات:58) .(1/5)
ومن أسمائه الحسني الغني ( وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (الأنعام:133) ( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (يونس:68) ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (الحج:64) ( لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (لقمان:26) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (فاطر:15) ( الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَل فَإِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ) (الحديد:24) ، أما قوله تعالى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) (البقرة:263) ( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ) (الزمر:7) ( ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (التغابن:6) .(1/6)
ومن أسمائه الحسني اللطيف (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ) (يوسف:100) ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الأنعام:103) ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الخَبِيرُ) (الملك:14) واللطيف هو المتصف باللطف ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ) (الشورى:19) ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (الحج:63) ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (لقمان:16) .
ومن أسمائه الحسني العزيز ، والعزيز هو المتصف بالعزة ( هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران:6) ( الذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلهِ جَمِيعاً) (النساء:139) ( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (الصافات:180) ( وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ لِلهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (يونس:65) ( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَل وَلِلهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون:8) .(1/7)
فنقول ربنا هو القدير بقدرة ، على له العلو ، رحيم برحمة ، عزيز بعزة ، حكيم بحكمة ، سميع بسمع ، عليم بعلم ، وليس كما هو الحال عندنا نقول فيمن اسمه سعيد بلا سعادة ، سعيد وهو حزين ، أو صالح بلا صلاح ، أو فالح بلا فلاح ، أو منصور بلا نصر ، فالسلف أثبتوا أسماء الله أعلاما وأوصافا ، بعكس المعتزلة قالوا قدير بلا بقدرة ، على بلا علو رحيم بلا رحمة ، عزيز بلا عزة حكيم بلا حكمة ، سميع بلا سمع ، عليم بلا علم ، فأثبتوا الأسماء ونفوا الصفات ، وبما عبروا عن ذلك بقولهم : قدير بقدرة هي ذاته ، على بعلو هو ذاته ، رحيم برحمة هي ذاته ، عزيز بعزة هي ذاته حكيم بحكمة هي ذاته ، سميع بسمع هو ذاته ، عليم بعلم هو ذاته ، يقولون : له ذات وليست له صفات ، كما نقول نحن فينا كبشر ، الشخص يكون اسمه سعيد بلا سعادة ، سعيد وهو حزين ، أو صالح بلا صلاح أو فالح بلا فلاح ، أو منصور بلا نصر ، وزعموا بذلك أنهم يوحدون الله ، فالتوحيد عندهم إثبات الأسماء كأعلام بلا أوصاف ، فهم شبهوا الله بخلقه والرب بعبده ، وهذا أساس مذهبهم وبنيان عقيدتهم ، تعطيل الصفات وردها بحجة التشبيه ، ابتدعوا معنى جديدا للتوحيد غير ما عرف بين الصحابة والتابعين وعلماء السلف ، وجعلوا أسماء الله الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف بلا مسمى ، فقالوا : هو العليم لكن لا يتصف بصفة العلم ، وهو الغنى ويتصف بالغنى لا الفقر ، وهو القوى يتصف بصفة القوة لا الضعف ، وهو السميع يتصف بصفة السمع تعالى الله عن ضدها ، وهكذا في سائر الأسماء والصفات ، ولهذا كانت أسماؤه حسنى وعظمى ، ولا تكون حسنى وعظمى بغير ذلك ، قال تعالى في سورة الأعراف : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) فدعاء الله بها أن يقول الفقير : يا غنى ، اغننى بفضلك عمن سواك ، ولولا يقين الداعي الفقير أنه سبحانه غنى ولا نظير له في غناه ما دعاه ، وأن يقول الضعيف : يا قوى ، قوني ، فلولا يقينه(1/8)
أنه سبحانه لا شبيه له في قوته ما دعاه ، وهكذا يعلم أصحاب الفطرة السليمة فطرة التوحيد ، أن الله يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء بسسب العظمة في أوصافه كما قال في سورة النمل : ( أَمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ الله قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ) فعلم العقلاء أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه وهو عاجز لا صفة له مطلقا ، فمن يجير أهل الاعتزال إذا كان معبودهم بلا صفة عندهم ، وأسماؤه فارغة بلا معنى مسمى .
وهذا المذهب الخبيث يترتب عليه أن قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) لا قيمة له عندهم ، وكذلك تعداد الأسماء الحسنى في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا ، مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنّةَ ) لأن تعدد الأسماء الحسنى أو الدعاء بها مبنى على إثبات الصفات التي تضمنتها الأسماء ، يقول ابن القيم : ( أسماء الله مترادفة بالنظر إلى الذات متباينة بالنظر إلى الصفات وكل اسم منها يدل على الذات الموصوفة بتلك الصفة ) .(1/9)
وأي نقص في حق الله أعظم من أن يكون الله عز وجل لا صفة له عند المعتزلة ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، إن الواحد منا لا يقبل هذا على نفسه ، فلو قال لك قائل : أنت لا صفة لك عندي ، ربما خاصمته دهرا ، لأن الفطرة مجبولة على إثبات الأوصاف الحميدة ، فمن العجب أن يثبتوا لأنفسهم أجود الأوصاف ، وينفون عن الله الذي ليس كمثله شيء سائر أوصاف الكمال ، ومن ثم لا بد من الإيمان بأسماء الله وأنها أعلام وأوصاف ، فكما آمنا بأسماء الله وأمنا بدلالتها على ذاته كما يليق بجلاله ، وعجزنا عن تكييف ذاته ووصف كيفيتها ، فكذلك القول في صفاته ، فالقول في الصفات كالقول في الذات ، سواء بسواء ، فلو قال قائل أنا أثبت الأسماء وأنفي الصفة لأنها تدل على التشبيه ، أثبت ذاتا لله بأسماء فيفيها لنا فيقول أنا ما رأيت ذاته ، نقول ونحن ما رأينا صفاته ، وإثبات الصفات لا يدل على التشبيه ، فالتوحيد يقصد به في باب الأسماء والصفات ، إفراد الله سبحانه وتعالى بذاته وأسمائه وصفاته عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم ، والدليل على ذلك من القرآن قوله تعالى في سورة الشورى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) فبين سبحانه انفراده عن كل شيء من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال ، وقال تعالى في أول سورة الإخلاص : ( قل هُوَ الله أَحَدٌ ) وقال في نهايتها مبينا معنى الأحدية : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) أي أن الأحد هو المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا مثيل له ، فنحكم علي كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوي مع سائر الخلق ، فيسرى عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم ، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد ، وقال تعالى في سورة مريم : ( هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) أي هل تعلم له شبيها مناظرا يدانيه أو يساويه أو يرقى إلى سمو ذاته وصفاته وأفعاله ، وعلى ذلك(1/10)
فلا يمكن بحال من الأحوال أن نخضع أوصاف الله لما يحكم أوصاف البشر من قوانين .
فمن البلاهة العقلية أن نطبق قوانين الجاذبية الأرضية على استواء الله على عرشه أو على حملة العرش أو على نزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ، لأن ذلك ينطبق على الكائنات الأرضية ولا ينطبق على رب البرية ، فهو منفرد متوحد عن قوانين البشر بذاته وصفاته وأفعاله ، ومعلوم أننا لم نر الله ولم نر له مثيلا أو شبيها أو نظيرا ، والشيء لا يعرف إلا برؤيته أو برؤية نظيره ، فالله سبحانه وتعالى بعد أن بدأ بالتوحيد أولا في قوله تعالى في سورة الشورى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) اتبع ذلك بإثبات الصفات التي تليق به فقال : ( وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) فالتوحيد يستلزم إثبات الصفات ، وهذا هو المناسب للفطرة السليمة ، والعقول المستقيمة ، وبيان ذلك أن المتوحد المنفرد عن غيره لابد أن ينفرد بشيء يتميز به ويكون هو الوحيد المتصف به أما الذي لا يتميز بشيء عن غيره ولا يوصف بوصف يلفت الأنظار إليه ، فهذا لا يكون منفردا ولا متوحدا ولا متميزا عن غيره فمثلا لو قلت : فلان لا نظير له سيقال لك في ماذا ؟ تقول : في علمه أو في حكمته أو في غناه أو في ملكه أو في استوائه أو في أي صفة تذكرها ، فلا بد من ذكر الوصف الذي يتميز به ، لكن من العبث أن يقال لك : فلان لا نظير له في ماذا ؟ فتقول : في لا شيء ، أو تقول لا صفة له أصلا ، فالله وله المثل الأعلى أثبت لنفسه أوصاف الكمال التي انفرد بها دون غيره ونفي عن نفسه أوصاف النقص ليثبت توحده في ذاته وصفاته ، فأثبت لنفسه الوحدانية في استوائه فقال في سورة طه : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ، فاستواؤه له كيفية تليق به لا نعلمها ولا مثيل ولا شبيه له فيها ، وأثبت الوحدانية في كلامه فقال في سورة النساء : ( وَكَلمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا ) فكلامه بكيفية تليق به ليس كمثله شيء فيها ولا علم(1/11)
لنا بها ، فمداركنا وإن استوعبت معنى كلامه فإنها لا تستوعب كيفية أداء لكلام ، وأثبت لنفسه يدين لا مثيل ولا شبيه له فيهما فقال تعالى في سورة ص : ( قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ العَالِينَ (75) وكذا الحال في سائر الصفات .
والقصد أن السلف يقولون : إن أسماء الله أعلام تدل على ذاته لقوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (الإسراء:110) كلها تدل على مسمى واحد ، الرحمن الرحيم المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ، الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الحَكِيمُ ، هذه الأسماء مترادفة باعتبار دلالتها على الذات ، ومختلفة المعني باعتبار دلالتها على الصفات ، لقوله تعالى : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (الأعراف:180) فدعاء الله يكون بالوصف الذي تضمنه الاسم ، قال الله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) قال ابن القيم : ( أسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت ، فإنها دالة على صفات كماله ، فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية ، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه ، لا تنافي اسميته وصفيته ، فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع ، ورود الاسم علما ، وكذلك فإن الأسماء مشتقة من الصفات ، إذ الصفات مصادر الأسماء الحسنى ) .(1/12)
أسأل الله أن يجعلنا من الذين قال فيهم : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ) (الزمر:18) ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(1/13)
الجلال في الكمال والجمال
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة الأولي - الجلال في الكمال والجمال
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ لَوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعا مُتَصَدِّعا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (الحشر:24) أما بعد .(2/1)
فإن شرف العلم بشرف المعلوم ، شرف العلم مرتبط بشرف المعلوم ، والكلام عن أسماء الله وصفاته من أشرف العلوم ، فمن أجل من الله ؟ ومن أعظم من الله ؟ ومن أرحم من الله ؟ ومن أحكم من الله ؟ هو الغني بذاته لا يفتقر لأحد من خلقه ، بل الكل مفتقر إليه نواصيهم بيديه ، أين يذهبون منه إلا إليه ، ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (فاطر:15) فأي فضل في علم من العلوم أعظم من معرفة الحي القيوم ، الذي بين للناس كمال وصفه وسمو اسمه وعلو شأنه حين قال : ( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ) (البقرة:255) انظر إلى اهتمام الناس بعلم من العلوم كالتي تتعلق بالفضاء والنجوم ، ودراسة النبات والإنسان ، والأرض والحيوان ، وغير ذلك مما هو معلوم ، تجد اهتماما بالغا من مختلف الباحثين ، وجهودا تستغرق الأيام والسنين ، دون كلل منهم ولا تعب ، ولا يشعرون بملل ولا نصب ، كل ذلك في جهد يتعلق بنوع واحد من أنواع الخلق ، بمخلوق من مخلوقات الحق ؟ ألا يستحق مالك الملك ، الذي خلق السماوات والأرض بالحق ، أن يكون العلم بأسمائه وصفاته علي قائمة العقلاء المحققين ، وشغلهم بذكره ومعرفته زينة حياة الموحدين ؟ ولذلك فإن الباحثين الصادقين ، إذا نظروا إلى السماوات والأرض ، أو تأملوا في شيء من الملك ، دلهم ذلك على عظمة الله وقدرته ، وحكمته وعزته ، فطلبوا راغبين طريق محبته ، وازدادوا خشية في عبادته ، خوفا من عذابه وطمعا في جنته ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ(2/2)
اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفا أَلوَانُهَا ، وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلوَانُهَا - عروق تكون في الجبال بيضاء وحمراء وسوداء - وَغَرَابِيبُ سُودٌ - الغربيب هو الشديد السواد الذي يشبه لونه لون الغراب- وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ) (فاطر:28) .
فالعلم بمخلوقات الله يبعث الخشية في القلوب ، فما بالك إذا كان العلم بعلام الغيوب ، فالعلم بأسماء الله وصفاته وفقه معناها والعمل بمقتضاها وسؤال الله من خلالها من أشرف العلوم ، علم يحدث في القلب تعظيما لله وحبا وخوفا منه وقربا ، وتوكلا وصدقا ، فتسكن النفس بقربه وعبوديته ، ويطمئن القلب بيقينه في عقيدته ، فيذكره المؤمن خوفا وطمعا ، خوفا من الذنب إقرارا لعظمته ، وطمعا في القرب إدراكا لفضله ورحمته .
وينبغي أن نعلم أن ذكر الله ومدحه بأسمائه الحسنى يعود النفع فيه على الذاكر دون المذكور ، بخلاف ذكر الإنسان ومدح الإنسان للإنسان ، فإن النفع فيه يعود على الذاكر والمذكور ، فإن الذكر بين الإنسان والإنسان يكون إما لرفع خسيسة أو دفع نقيصة ، وإما لإثبات وصف وذكر حقيقة ، وإما لمبالغة كاذبة وأغراض خبيثة ، فترى الشخص ينفي النقص عن الآخر حتى تخلوا ساحته من النقائص والعيوب ، وربما هو في الحقيقة مذنب مجرم معيوب ، أو صادق مظلوم وحقه مسلوب ، فذكر الآخرين له بالكمال في هذا الحال أمر مطلوب ، يدفع من أجله ما يسترد به حقه المسلوب ، أو يدفع عن نفسه بالباطل مختلف التهم والعيوب .(2/3)
وبسبب ذلك كانت الشفاعة بين الناس مختلفة عن الشفاعة عند رب الناس إله الناس ، فالشفاعة عند الله من دلائل توحيده ، وكمال أسمائه وصفاته ، ومن الخطأ الكبير ، ومن الظلم العظيم أن يسوى بعض الجاهلين بين الشفاعة عند الله وما يتعلق بأحكامها ، وبين الشفاعة التي تحدث بين الرعية وحكامها ، فالشفاعة عند المخلوق ليست كالشفاعة عند الله ، فالمخلوق أحيانا يقبل الشفاعة إلزاما واضطرارا ، إما لوجود مصلحة تسعى إليها قرابته ، أو إلزاما من حزبه لتبقى عليه سيادته ، أو لفضل من المملوك على الملك ، أو قدرة المملوك علي تنحية الملك ، وعزله عن ملكه وسلطانه ، أو التحكم في نقاط ضعفه بفضحه وإذاعة أسراره ، وكشف ما هو مستور من مخازيه وسوء أحواله ، فيضطر الحاكم أو الأمير أو الملك إلى قبول الشفاعة من المحكوم ، والتغاضي عن العدل وإنصاف المظلوم ، كل ذلك بغير إذنهم مجبرين على الشفاعة مكرهين ، وهذه هي الفوضى والمحسوبية التي علل بها أصحاب الفرق الإسلامية نفيهم للشفاعة العظمي عن خير البرية صلى الله عليه وسلم ، قالوا الشفاعة محسوبية وهذا لا يكون في الآخرة ، فمن جهلهم أنهم قاسوا الشفاعة عند الخالق على الشفاعة عند المخلوق ، وهذا جهل منهم بتوحيد الله ، فالله إذا أخبرنا عن نفسه أنه سيقبل الشفاعة في الموحدين من المسلمين لو اقترفوا بعض أنواع العصيان علمنا أنها لا تماثل شفاعة الإنسان للإنسان ، ولذا قال الله في أعظم آية في القرآن : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا بِإِذْنِهِ ) البقرة/255 ، فالله عز وجل لن يقبل الشفاعة من أحد ولا في أحد ، إلا إذا جاء إلى الله عبدا موحدا ، مشابها في سلوكه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، فلا بد أن يكون العبد خالصا من شوائب التشبيه والشرك ، مقرا لله بالخلق والأمر والملك ، وهذا شرط الشفاعة الذي حدده سيد الخلق ، فقد ثبت عند البخاري من حديث أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم(2/4)
قال : ( أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ ) .
فالتوحيد والإذن شرط الشفاعة عند الله ، ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ )(البقرة: من الآية255) ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ )(سبأ:23) ( وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (لنجم:26) ، من هو صاحب الفضل عليه ؟ من الذي ساعده في إنشاء الخلق ؟ أو عاونه في تدبير الملك ؟ ( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً ) (الكهف:51) ( وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الإسراء:111) سبحانه لا شريك له في ملكه ، ولا ظهير له في تدبير شئون خلقه ، ليست له عثرة تقال ، ولا حد يضرب له مثال ، مازال بأسمائه وصفاته له الجلال والكمال والجمال ، وكما قال الإمام الطحاوى : ( ما زال بصفاته قديما قبل خلقه ) فهو سبحانه وتعالى أول ليس قبله شيء ، متصف بصفات الكمال قبل خلقه لكل شيء ، فأسماؤه وصفاته أزلية أبدية ، فكما أنه في ذاته أول بلا ابتداء فكذلك أسماؤه وصفاته تابعة لذاته ، فهي أولية بأولية الله سبحانه وتعالى ، فلم يكن أولا بلا أسماء ولا صفات ثم سماه الناس وحدثت له الصفات ، تعالى الله عما يقوله أهل الضلال من أصحاب الاعتزال ، الذين يقولون : لم تكن له صفات في الأزل قبل خلق الخلق ثم اكتسب الصفات بعد وجود من وصفه وسماه ، فسبحان الله وتعالى عن قول الجاهلين ! فقولهم هذا يلزم منه أن يكون الله ناقصا في(2/5)
فترة ، ثم اكتسب أسماء وأوصافا وكمالا لم يكن من قبل ، تعالى عما يقولون ، فالله عز وجل هو الغني عن سواه ، وجميع خلقه هم الفقراء إلى الله ، ولذلك قال الإمام الطحاوى : ( لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته ) أي وجود المخلوقات لم يزده كمالا كان مفقودا أو يزيل نقصا كان موجودا ، فلا نقول كما قال الجاهلون لم يكن الله خالقا إلا بعد أن خلق الخلق ، ولم يكن رازقا إلا بعد ظهور الملك ، فهذا شأن المخلوق وليس شأن ملك الملوك ، المخلوق نقول عنه عالما بعد اكتساب العلم وزوال الجهل ، وخبيرا بعد اكتساب الخبرة ومزاولة المهنة ، ونقول عنه ملكا بعد اكتساب الملك وظهور العزة ، ونقول عنه حكيما بعد ظهور الحكمة ، وطيبا رحيما بعد ظهور الرحمة ، أما ربنا تبارك وتعالى فله الكمال في أزليته وأبديته ، قال الإمام الطحاوى :(2/6)
( وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري ) من أسماء الله عز وجل الباري ، يعني الخالق ، برى الخلق يعني خلقهم فهو الباري ، وهذا الاسم ملازم لذاته ليست له بداية ولا نهاية ، وهنا يظهر لنا الكمال ، فلو ضربنا لكم مثال ، بقياس الأولي ، نقول : الرجل إذا كان في قريته ذليلا فقيرا ضعيفا ، واكتسب أوصاف الكمال فأصبح عزيزا غنيا قويا ، فإن الناس لا ينسون أوصاف نقصه ، حتى لو بلغ به الكمال فيه مبلغه ، يتذكرون حال فقره ويذكرونه بضعفه ، يقولون : أنت فلان الذي كنت مهينا ذليلا ، فقيرا ضعيفا ، كل ذلك لأنه اكتسب كمالا لم يكن من قبل ، لكنه لو انتقل وهو في حال الكمال إلى بلد آخر لا يعرفه الناس فيه فرأوه من بدايته عزيزا غنيا ، منيعا قويا ، فإنهم لا يذكرونه على الدوام إلا بالكمال ، ولا يعرفون وصفه إلا مقترنا بالعزة في كل حال ، فيصفونه بالعزة والغنى والقوة ، ومن هنا قيل : كان كراعا فصار ذراعا ، والكراع هو القزم الصغير وهذا يضرب مثلا للرجل الذليل يصير عزيزا كبيرا ، دخل أبو العباس السراج على أبي عمرو الخفاف فقال له يا أبا العباس من أين جمعت هذا المال فقال يا أبا عمرو بغيبة عن نيسابور مائة وعشرين سنة قال وكيف ذاك قال غاب أخي إبراهيم أربعين سنة وغاب أخي إسماعيل أربعين سنة وغبت أنا مقيما ببغداد أربعين سنة أكلنا العشب ولبسنا الخشن حتى جمعنا هذا المال ، ولكن أنت يا أبا عمرو من أين جمعت هذا المال : أتذكر إذ لحافك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير ، فسبحان الذي أعطاك ملكا وعلمك الجلوس على السرير ، ويقال أيضا أن ذلك حدث بين أعرابيين صديقين يعشيان فقيرين بالبادية غير أن أحدهما ويقال له زيد ذهب إلى المدينة وتقرب من الحجاج بن يوسف الثقفي حتى أمره على أصبهان ، فسمع عنه صديق فقره الذي بالبادية ، فشد إليه الرحال حتى وصل إلى قصره وحاول(2/7)
لقاءه فمنعه الحراس أياما حتى أذن له بالدخول ، فأخذه الحاجب وقال له سلم على الأمير زيد ، فلم يلتفت إلى قوله ثم أنشد قائلا ، فلست مسلما ما دمت حيا على زيد بتسليم الأمير ، ثم قال لزيد : أتذكر إذ لحافك جلد شاة وإذ نعلاك من جلد البعير ، فقال : نعم أذكره ولا أنساه قال له : فسبحان الذي أعطاك ملكا وعلمك الجلوس على السرير .
فمن شهد النقص في شخص تحول عنه إلى الكمال ، يعز عليه أن ينسى ما سبق له من سوء الحال ، فسيتكثر عليه مدحه بكماله ، ويسهل عليه الذم وتذكيره بسوء حاله ، هذا فينا كبشر ، لكن رب البشر ما عرفنا إلا ربا معبودا له الجلال والكمال والجمال ، ما عرفناه إلا ملكا قدوسا سلاما مؤمنا مهيمنا عزيزا جبارا متكبرا خالقا بارئا مصورا ، ولذلك قال الإمام الطحاوى : ( له معنى الربوبية ولا مربوب ومعنى الخالق ولا مخلوق ) هو رب العالمين قبل وجود العالمين وحال وجود العالمين وبعد فناء العالمين هو رب العالمين هو الرب قبل أن توجد المربوبات ، والرب معناه الخالق المدبر ، المالك المتصرف ، السيد المصلح ، وهذه الصفات لازمة للذات ، فالله يوصف بالربوبية بلا بداية ولا نهاية ، قبل وجود المربوبات وبعد فناء المربوبات ، فالله غني بذاته عن العالمين له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته وربوبيته للخلق أجمعين .
يقول الإمام الطحاوى : ( ذلك بأن الله على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عليه يسير لا يحتاج إلى شيء : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى:11) .(2/8)
وهذا وصف أزلي ، لا يقال أن الله ما وصف بالقدرة إلا بعد أن خلق وأوجد المخلوقات ، بل القدرة صفة أزلية ، وإنما وجود المخلوقات أثر ناتج من كونه على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، لا شيء يمكن أن يستغني عن الله ، كل شيء فقير إلى الله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (فاطر:15) ( وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الاسراء:111) ذلك بأن الله على كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير وكل أمر عليه يسير لا يحتاج إلى شيء : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) .(2/9)
فإذا ذكرت الله بأسمائه فاعلم أنك أنت المستفيد ، النفع يعود عليك من رب العبيد ، أما هو سبحانه فهو الغني الحميد ، يعود النفع في الذكر على الذاكر لا المذكور ، أما ذكر غيره فالنفع يعود على الذاكر والمذكور ، ( مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحج:74:73) من لم يوحد الله فما قدر الله حق قدره ، كيف يمكن لعاقل أن يسوى بين الخالق والمخلوق في الحب والخوف والرجاء ، كيف يمكن لعاقل أن يسوى بين الملك والمملوك في الاستغاثة والدعاء ، وصف الله حال المشركين في الجحيم وهو يتنازعون ويختصمون : ( قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالمِينَ وَمَا أَضَلنَا إِلا المُجْرِمُونَ ) (الشعراء:99:95) من السميع لما ذهبت إلي أصم أبكم ؟ ، ومن البصير لما استغثت بعاجز عم ؟ ، ومن الغني لما توجهت إلي فقير معدم ؟ ، ومن القدير لما ذهبت إلي مقبور آدم ؟ ، ومن الرزاق الذي رزق يونس في اليم ؟ ( وَرَبُّكَ الغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) (الأنعام:123) : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الفُقَرَاءُ إِلي اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ ) (فاطر:15) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ هَل مِنْ خَالقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلهَ إِلا هُوَ فَأَنَّي تُؤْفَكُونَ ) (فاطر:3) روى الإمام مسلم 2577 عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِيمَا رَوَي عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتعالي أَنَّهُ قَال : يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ(2/10)
وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَتْقَي قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلكَ فِي مُلكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا على أَفْجَرِ قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِنْ مُلكِي شَيْئًا ، يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل البَحْرَ ، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَليَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَه ) .
فالله عز وجل بذكره تطمئن القلوب وتتلاشى الذنوب : ( الذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ) (الرعد:28) ودعك ممن جعل الذكر ترك الذكر بحجة عدم النسان ، كما قال الزنديق الذي ينطق بلسان الشيطان ، محي الدين ابن عربي داعي الكفر بحجة الإيمان : دع الذكر والتسبيح إن كنت عاشقا : فليس يديم الذكر إلا المنافق - إذا كان من تهواه في القلب حاضرا : وأنت تديم الذكر كنت منافقا - ويقول أيضا : ألا بذكر اللَّه تزداد الذنوب : وتنعكس البصائر والقلوب - وترك الذكر أفضل كل شيء : فشمس الذات ليس لها غروب .
فلا عبرة بهذه البدعة الكفرية تحت حسن النية والتي يراها بعض المعاصرين قمة إيمانية ، هذه البدعة يدعو فيها ابن عربي إلى ترك الذكر بحجة انعدام النسيان ومتي كان عدم النسيان سببا في هلاك الشيطان ؟ إنما الهلاك في عدم امتثاله لأمر ربه ، واستكبار وحسده وحقده .(2/11)
فالله عز وجل فطر القلوب على ذكره وحبه ، فطرهم على عبادته لجلاله وكماله ، وجماله في أسمائه وصفاته وأفعاله ، أسماء الله كلها حسني وكلها عظمي ، ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام ) (الرحمن:78) أجمع القراء ها هنا على الياء ، تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي وكذلك في مصاحف أهل الحجاز والعراق ، وتفرد ابن عامر بالواو تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِو لأنه جعل ذو وصفا للاسم ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام ، قال شيخ الإسلام في دقائق التفسير ( وهو في مصحف أهل الشام تبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام ، وهي قراءة ابن عامر فالاسم نفسه موصوف بالجلال والإكرام وفي سائر المصاحف وفي قراءة الجمهور ذي الجلال فيكون المسمى نفسه موصوفا بالجلال والإكرام ) .(2/12)
( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام ) والجلال منتهي الحسن والعظمة في الذات والأسماء والصفات ، وهو يقوم على ركنين اثنين : الركن الأول هو الكمال ، والركن الثاني هو الجمال ، فالكمال هو بلوغ الوصف أعلاه ، والجمال بلوغ الحسن منتهاه ، فانظر إلى حكمة الله وانفراده عمن سواه ، فإن الله إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه الجمال ، وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه الكمال ، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال ، انظر إلي حكمة الله فيمن أعطاهم الكمال وسلبهم الجمال ، غني بلغ الكمال في الغني ولكنه مريض بالسكر أو قبيح في المنظر أو جاهل أكبر ، أو عقيم يشتهي الولد ويتمناه ، فهو لا يسعد بماله ولا غناه ، ولا ينعم بلذة الحياة إلا إذا أدرك الحكمة وحسن تقدير الله ، وأن القدر والابتلاء سر الله في هذه الحياة ، فسلم لله وآمن بقدر الله ، أو انظر إلي امرأة لها كمال في الخلق والنسب ، ولها منزلة في الشرفِ والحسب ، وهي أبعد ما يكون عن الخيانة ، ومتصفة بالصدق والأمانة ، ولكنها في الجمال قبيحة لا تسر الناظرين ، دميمة ترعب الخاطبين ، أو انظر إلي من أعطاه الله أرضا كبيرة واسعة ، لكنه يفشل في استصلاحها لأي منفعة .
وعلى العكس من ذلك انظر إلي من أعطاهم الجمال وسلبهم الكمال ، رجل عالم ذكي قوي فتي ، لكنه فقير مهان يبيت جوعان ولا يجد ثوبا يستر الإنسان ، أو انظر إلي امرأة جمالها يتغنى به الشبان ، وقوامها لا تراه العينان ، لكنها تخون زوجها ، ولا تصون عرضها ، وهي معرة على أهلها ، وكل الناس يتمني موتها ، أو انظر إلي فلاح بسيط ليس له من الأرض سوي بضعة قراريط ، لكن زراعته بارعة ، وأشجاره طالعة ، وثمارها يانعة ، مناه في الحياة أن تكون أرضه واسعة لكن الحلو لا يكمل .(2/13)
وقد يعطي الله الكمال والجمل لأحد من خلقه لكن يسلبه دوام الحال ، سليمان أعطاه الله الملك والعزة ، فكان قويا غنيا ، وملكا نبيا ، لديه الدنيا بأسرها ، وبهجةُ الحياة بأنواعها ، وسخرها لله بالطاعة والإيمان ، وسعادة العيش وحسن توجيه الحق للإنسان ، فانظر إلي قول سليمان وتوحيده لرب العالمين ، عندما رأي عرش بلقيس منقولا من اليمن إلي فلسطين ، ومستقرا بين يديه بقدرة الله : ( قَال هَذَا مِنْ فَضْل رَبِّي ) (النمل:40) فالفضل ليس لي ولا لجندي ، وإنما هو فضل ربي ، وقد استرعاني في ملكه واستخلفني ( ليَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (النمل:40) فسليمان عليه السلام أعطاه الله الكمال والجمال لكنه سلبه دوام الحال ، لأننا في دار ابتلاء ، والموت حكم الله في السماء ، فمات عليه السلام ، ولم ولن يبقي إلا الحي الذي لا يموت ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الغُرُورِ ) (آل عمران:185) ( كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالأِكْرَامِ ) (الرحمن:27) ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد:3) .(2/14)
فالجلال في أسمائه وصفاته مبني على الكمال والجمال وليس ذلك إلا لرب العزة والجلال ، هو الملك له في ملكه الكمال والجمال ، ملكه دائم وهو في ملكه عليم قدير يفعل ما يشاء له مطلق الخلق والتدبير وهذا هو الكمال ، أما الجمال في الملك فقيامه على الحق ، لا يظلم فيه أحدا ولا يشرك في حكمه أحدا ، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه يقبل التوبة عن عباده وهو قادر على إهلاكهم ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ) (إبراهيم:42) ، لكن ملوك الدنيا إن استتب لهم كمال الملك وأحكموا قبضتهم على الخلق ، ضيعوا الجمال في الملك بظلم الخلق وضياع الحق ، وإن جمعوا بين الكمال والجمال سلبهم دوام الحال ، فما يلبث أن يموت الخليفة العادل أو يغتال أو يقتل .
فالجلال لله وهو مبني على الكمال والجمال ، وقد يكون الكمال أو الجمال ناقصا ، لكن هو في عين المحب كامل جميل ، فلا يري المحب أحدا أحسن من محبوبه على الرغم من نقصه وعيوبه ، كما يحكي أن عزة التي أحبها كثير ، وتغني بحبها حتى بلغ الآفاق دخلت على الحجاج فقال لها : يا عزة والله ما أنت كما قال فيك كثير ، فقالت : أيها الأمير إنه لم يرن بالعين التي رأيتني بها ، فالمحب يري قبح المحبوب في عينه جمال ، ألا تري أنه في المثل يقال ، القرد في عين أمه غزال .(2/15)
وقد يكون الجمال في منتهاه والكمال في أعلاه ، ولكن المحب لا يشعر بجمال محبوبه ولا بكماله فتنعدم المحبة ، ولهذا أمرت النساء بستر وجوههن عن الرجال ، فإن ظهور الوجه وخصوصا وجوه الحسان ، يدعو القلوب إلي النظر والافتتان ، ولهذا أيضا أجاز الشرع للخاطب أن ينظر إلي المخطوبة ، فإنه إذا شاهد حسنها وجمالها ، ورأي الكمال في سلوكها ، كان ذلك أدعي إلي حبها وباعثا للرغبة في التعلق بها ، روي ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث المُغِيرَة بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أنه قَال : ( أَتَيْتُ النبي صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ لهُ امْرَأَةً أَخْطُبُهَا فَقال : اذْهَبْ فَانْظُرْ إِليْهَا فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا ، قَال : فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ فَخَطَبْتُهَا إِلي أَبَوَيْهَا وَأَخْبَرْتُهُمَا بِقَوْل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فَكَأَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلكَ ، قَال المُغِيرَة : فَسَمِعَتْ ذَلكَ المَرْأَةُ وَهِيَ فِي خِدْرِهَا ، فَقَالتْ : إِنْ كَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَكَ أَنْ تَنْظُرَ فَانْظُرْ وَإِلا فَإِنِّي أَنْشُدُكَ - ألا تفعل - قَال المُغِيرَة : فَنَظَرْتُ إِليْهَا فَتَزَوَّجْتُهَا ) .(2/16)
فمن حكمة الله أنه إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه الجمال ، وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه الكمال ، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال ، ومعلوم أن دوام الحال من المحال ، فالوحيد الذي اتصف بالكمال والجمال هو رب العزة والجلال ، كل اسم من أسمائه فيه الكمال والجمال ، ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام ) فإذا أضفت إلي كماله وجماله ما كان من إحسانه في ملكه ، وإنعامه على خلقه ، فإنه لا يتخلف عن حبه إلا الجاحدون وأصحاب القلوب والخبيثة ، والنفوس الخسيسة ، فإن الله فطر القلوب على محبة المحسنين إليهم ، المتصفين بالكمال لديهم ، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها القلوب ، فمن المعلوم أن مقلب القلوب لا أحد يعظمه إحسانا وجمالا ، أو إنعاما وكمالا ، فلا شيء أكمل من الله ، ولا شيء أجمل من الله ، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعته ، وكمال قدرته وبديع حكمته ، سبحانه لا نحصي ثناء عليه هو كما أثني على نفسه ، له على خلقه وجنه وإنسه ، النعمة السابغة ، والحجة البالغة ، والسطوة الدامغة ، ليس في أفعاله عبث ، ولا في أوامره سفه ، بل أفعاله كلها لا تخرج عن المصلحة والحكمة ، والفضل والرحمة ، كلامه صدق ، ووعده حق ، وعدله ظاهر في سائر الخلق ، إن أعطي فبفضله ورحمته ، وكرمه ونعمته ، وإن منع أو عاقب فبعدله وحكمته ، وقد وصفه نبينا بأنه جميل ، روي الإمام مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قَال : ( إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَال ) له جمال الذات وجمال الصافات ، وجمال الأفعال في سائر المخلوقات ، لا تقوى الأبصار في هذه الدار على النظر إلي رب العزة والجلال .(2/17)
( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (طه:8) فأي محبوب لنا أعظم ممن خلقنا وإليه مرجعنا ، وأي كمال لغيره يضاهي كمال ربنا وجماله ، وحسنه وجلاله ، يقول تعالى : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (الإسراء:110) ( هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (الحشر:24) .
وله الحياة كمالها فلأجل ذا : ما للمات عليه من سلطان - وكذلك القيّوم من أوصافه : ما للمنام لديه من غشيان - وكذاك أوصاف الكمال جميعها : ثبتت له ومدارها الوصفان - فمصحح الأوصاف والأفعال والأ : سماء حقا ذانك الوصفان - ولأجل ذا جاء الحديث بأنه : في آية الكرسي وذي عمران - اسم الإله الأعظم اشتملا على اسم الحي والقيوم مقترنان - فالكل مرجعها إلى الاسمين يدري ذاك ذو بصر بهذا الشان ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(2/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة الثالثة - كيف ندعو الله بأسمائه ؟
الحمد لله وكفى وسلام على نبيه المصطفى المجتبى سيدنا محمد ، خير خلق الله ، وصاحب الشفاعة عند الله ، خصه الله بالمقام المحمود ، وشرفه بالحوض المورود ، أرسله إلى خلقه بالنور الساطع ، والسراج اللامع ، والحجج الظاهرة ، والآيات الباهرة ، والأعاجيب القاهرة ، فبلّغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى تمت كلمة الله عز وجل ، وظهر أمره ، وانقاد الناس إلى الحق خاضعين ، جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، لا وانيا ولا مقصرا ، فصلوات الله عليه من قائد إلى هدى مبين ، وعلى آل بيته الطيبين ، وعلى أصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، عرَّفنا الله به الشرائع والأحكام ، والحلال والحرام ، وبيَّن لنا به شريعة الإسلام ، حتى انجلت عنا الشبهات ، وانكشفت عنا الظلمات ، وظهرت لنا به البينات ، فالسعيد من شرب من حوضه ، وكان من أنصاره وحزبه ، صلى الله عليه كما أمرنا في ذكره فقال : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56) .
أما بعد(3/1)
يقول الله عز وجل : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) ، أصل الدعاء النداء والطلب والاستغاثة وتعظيم المدعو ومحبته وذكره والرغبة إليه ، قال الله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (البقرة:23) وقال الفراء : وادعوا شهداءكم من دون الله يعني آلهتكم يقول : استغيثوا بهم ، وهو كقولك للرجل إذا لقيت العدو فادع المسلمين ، ومعناه استغث بالمسلمين فالدعاء بمعنى الاستغاثة ، وقد يكون الدعاء بمعني العبادة ، على اعتبار أن من تعظمه عن حب تكثر من ذكر أسمائه ، وتعود إليه في أمورك كلها ، فتتوكل عليه وتستعين به حتى يصبح شغلك الشاغل الذي تطلب منه العون والنصرة ، والمولاة في أي وقت ، روى الترمذي وقال : حديث حَسَنٌ صحيحٌ من حديث النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَال َ: ( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ، ثُمَّ قَرَأَ : ( وقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إنَّ الذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلونَ جَهَنَّمَ دَاخِرينَ ) .
وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللّهِ بن مسعود ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَل : ( أُولئِكَ الذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) (الإسراء :75) قَالَ : كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ أَسْلَمُوا ، وَكَانُوا يُعْبَدُونَ ، فَبَقِيَ الذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ عَلَى? عِبَادَتِهِم وَقَدْ أَسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الْجِنِّ .(3/2)
وأي داع عاقل يراعي في طلبه الدقة في اختيار المدعو ، فلا بد من أن تتوفر فيه الأوصاف اللازمة لتحقيق مطلوبه ، فلو كان فقيرا ما دعاه ، ولو كان وضيعا ما دعاه ، ولو كان كاذبا ناقصا ما دعاه ، وإنما يدعوا ويطلب من كان لديه كمال في الذات والصفات ، واستغناء عن الآخرين ، فانظر إلى من تربطك به صلة نسب أو قرابة ، أو زمالة أو صداقة ، في حال ضيقك واضرارك ولجوئك إلى أحدهم ، تتخير منهم الأغنى ، فتقدم صاحب المليون على صاحب الآلاف ، وتقدم منهم من اتصف بأعلى الأوصاف ، فالأكثر حكمة هو يقدم للإدارة والأكثر خبرة يقدم في النصح والاستشارة ، يقدم الأعلم في الفتوي ، فالفقيه العالم ، ليس كطالب العلم ، وكذلك الأعلم في الطب ، حتى لو كان من غير قرابتك ، أو من غير جماعتك ، أو على غير ملتك ، فبسبب الصفات تتعلق النداءات والدعوات ، ومعدوم الصفات كالأموات لا يتوجه إليهم إلا أغبى الخلق عقلا ، وأردؤهم فهما ، ولذلك فإن الشرك ظلم عظيم ، وإفك مبين ، لأن المشرك يشبه المخلوق الذي لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا بمن كانت أزمة الأمور بيديه ومرجعها إليه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .(3/3)
يشبه المخلوق بالخالق والمملوك بالمالك ، فيعظمه كتعظيم الله ، ويحبه كمحبة الله ، كما قال جل في علاه : ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهمْ كَحُبِّ اللهِ وَالذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ ) ، ولما عذبوا في جهنم قالوا : ( وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العَالمِينَ ) فسوا بين الله الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وبين آلهتهم التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا ، سوا بين الله وبين آلهتهم في المحبة التعظيم والذكر والدعاء والخوف والرجاء ، ووصفوهم بالمدح وترديد الأسماء ، فمن قائل : شيخي الرفاعي له بين الوري همم : نصالها ماضيات تشبه القدر - دخلت في ظلها أبتغي التفيؤ من : رمضاء دهري فجاء الدهر معتذر - نسب إليه كمال العلم والقدرة والإرادة والقوة ، والعزة والهيمنة ، والملك والسلطنة ، وهو مخلوق ميت من أحوج الخلق إلى دعاء أهل لحق ، والله أعلم بحاله وأين يكون في مآله ؟ واسمع إلى آخر يصف معبودة بأنه يتوب على من يشاء ويغفر لمن يشاء ، فقبحا وبؤسا لهؤلاء ، يقول هذا الجاهل : وقفت بالذل في أبواب عزمكموا : مستشفعا من ذنوبي عندكم بكموا - أعفر الخد ذلا في التراب عسي : أن ترحموني وترضوني عبيدكموا - فإن رضيتم فيا عزي ويا شرفي : وإن أبيتم فمن أرجوه غيركموا - يمدحونهم بالكمال وهم أولى بالنقائص ويتركون رب العزة والجلال وهو أولى بالكمال ، فإذا قال أحدهم في الرفاعي أو البدوي : غوث وغيث في الوري فيمينه : يرتاح من راحاتها مسكينه - تسدي العدو من العدو تصونه : هذا رجائي عنده وأظنه - قبل الرجاء من المقل المجهد - ذو الفقر والفاقات يسعي زائرا : ولظهر بحر النيل يركب سائرا - أفلا يكون لي القبول بلا مرا : لاسيما ولقد أتيت مبادرا - أسعي إليه من الرحاب الأحمدي - إذا قال ذلك في الرفاعي أو البدوي ، فماذا ترك(3/4)
لله عز وجل ؟ ، انظروا إلي تعظيمهم لشيخ العرب في هذه الأبيات الشعرية ، ووصفهم له بأوصاف الربوبية : يا من هو البحر الخضم إذا جري : جاءت لك الزوار من أقصي القرى - كل ينادي يستغيث لما جري : فلقد حويت الفضل يا غوث الورى .
والله عز وجل لما ذكر معبوداتهم وصفهم بالنقص في مقابل وصفه بالكمال فقال : (إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) (الأعراف:195) (قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (الإسراء:56)
فالذي يدعو الميت يثبت له بصورة حتمية أوصاف الربوبية ، فالذي يقول مدد : يثبت الداعي صفة الحياة للمقبور لأنه لو اعتقد أنه ميت ما توجه إليه بالنداء والدعاء ، أبالله عليكم أيها العقلاء ، ما تقولون في رجل توفي أبوه ، فذهب إلي قبره ودعاه ، وناداه أبتاه أجبني أغثني ؟ تقولون عن هذا مجنون ، ولا تقولونه لمليون أو سبعة مليون ممن يشدون الرحال ويذهبون يتراقصون في الموالد ، يقبلون الأعتاب ، ويستغيثون بسكان الأضرحة والقباب ؟(3/5)
فالذي يستغثت بالضريح يثبت أنه يسمع ويبصر ، ويعلم ويقدر ، أثبت أنه غني فالفقير لا يدعي ولا يقصد ، فهذه قدرة الله في مقابل قدرتهم : ( يُولِجُ الليْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي الليْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ذَلكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلكُونَ مِنْ قِطْمِير ٍإِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (فاطر:14:13) . (قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) (سبأ:23) .
انظر إلى مدي تعجيزهم : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (الحج:73) .(3/6)
وانظر إلى كمال قدرته ودلالة أسمائه وصفاته على حياته : (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (غافر:65) (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) (الزمر:38) ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (الأحقاف:4) .
فإذا كان الدعاء مرتبطا بالأسماء والصفات ، فإن العاقل سيتوجه تلقائيا إلى ربه ليدعوه بأسمائه الحسني وصفاته العليا ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180).(3/7)
وهذا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة ، فدعاء المسألة : هو أن تقدم بين يدي مطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسبا لحالك ، كأن تقول في حال ذنبك يا غفور اغفر لي ويا رحيم ارحمني وفي حال فقرك يا رزاق ارزقني ويا غني اغننى بفضلك عمن سواك ، وفي حال ضعفك يا قوى قوني وفي حال جهلك تقول يا عليم علمني إلى غير ذلك مما يتطلب فقها في الدعاء ، وأما دعاء العبادة فهو أن تتعبد الله تعالى بمقتضى هذه الأسماء ، فتظهر بمظهر الفقر لعلمك أن الغني هو الله ، وتظهر بمظهر الضعف لعلمك أن القوى هو الله ، وتظهر بمظهر الافتقار والتواضع لعلمك أن العظيم العزيز هو الله ، فهذا هو دعاء العبادة ، يقول تعالى : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً) (مريم:48) وتذكره بلسانك لأنه السميع وتتعبد له بجوارحك لأنه البصير وتخشاه في السر لأنه اللطيف الخبير وهكذا ، وقال مجاهد في قوله عز وجل : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (الكهف:28) قال : يصلون الصلوات الخمس ، وروي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب في قوله عز وجل :
( وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ) (الكهف:14) أي لن نعبد إلها دونه ، وقال الله عز وجل : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) (الصافات:125) أي تعبدون ربا سوى الله ، وقال : ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88) أي لا تعبد مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ .(3/8)
ومعلوم أن الطلب يستدعى تقديم ما يدعو إلى القرب من المدعو ، ويكون ذلك أولا بزوال القطيعة وثانيا بالمبالغة في المدح ، تتخذ ذلك وسيلة إليه ، فالتوسل إلى الله أعلاه أن تتوسل إليه بأسمائه وصفاته ، وهذا هو دعاء المسألة ، ثم التوسل إليه بفعل العمل الصالح ، وهذا هو دعاء العبادة ، فزوال القطيعة يدفعك إلى أن تتوب إليه وتدعوه باسمه الغفور ، تدعوه دعاء مسألة ، تقدم بين يدي مطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسبا لحالك ، والله عز وجل إذا ذكر التوبة والمغفرة أو الرحمة لعباده ، نبه على أن قبولها بسبب أنه التواب الغفور الرحيم : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:37) ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:54) ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:128) ، كما أن العبد يتوسل إلى الله بفعل العمل الصالح ودعاء العبادة ، ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (التوبة:118) .(3/9)
وفي حديث البخاري يقول أبي بن كعب : ( فَلمَّا صَليْتُ صَلاةَ الفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ ليْلةً ، وَأَنَا على ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، فَبَيْنَا أَنَا جَالسٌ على الحَال التِي ذَكَرَ اللهُ ، قَدْ ضَاقَتْ على نَفْسِي وَضَاقَتْ على الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ ، أَوْفي على جَبَلِ سَلعٍ بِأَعلى صَوْتِهِ ، يَا كَعْبُ بْنَ مَالكٍ أَبْشِرْ ، قَال فَخَرَرْتُ سَاجِدًا ، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ ، وَآذَنَ رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَليْنَا حِينَ صَلي صَلاةَ الفَجْرِ ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا ، وَذَهَبَ قِبَل صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ .. وَانْطَلقْتُ إِلي رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَيَتَلقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ ، يَقُولُونَ لتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللهِ عَليْكَ .
قَال كَعْبٌ : حتى دَخَلتُ المَسْجِدَ ، فَإِذَا رسول الله صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ جَالسٌ حَوْلهُ النَّاسُ .. قَال وَوَجْهُهُ يَبْرُقُ مِنَ السُّرُورِ ، أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَليْكَ مُنْذُ وَلدَتْكَ أُمُّكَ ، قَال قُلتُ : أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رسول الله أَمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، قَال : لا بَل مِنْ عِنْدِ اللهِ ؟ ) ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ُ) (التوبة:104) ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ) (الكهف:58) .(3/10)
وفي صحيح البخاري عن عبدَ اللهِ بنَ عمرَ رضيَ اللهُ عنهما قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( انطَلَقَ ثلاثةُ رَهطٍ ممن كان قبلَكم حتّى أوَوُا المَبيتَ إِلى غارِ فدَخَلوه ، فانحدَرَتْ صَخرةٌ منَ الجبَلِ فسدَّتْ عليهمُ الغارَ ، فقالوا : إنه لا يُنْجيكم من هذهِ الصَّخرةِ إِلاّ أن تدعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم ، فقال رجُلٌ منهم : اللّهمَّ كانَ لي أبَوَانِ شيخانِ كبيرانِ ، وكنتُ لا أغبِقُ قبلَهما أهلاً ولا مالاً ، - الغبوقة هي الناقة التي تحلب بعد المغرب ، واغتبقها يعني حلبها في ذلك الوقت ، ومعنى لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا ، أي ما كنت أقدم عليهما أحدا في شرب نصيبهما من اللبن الذي يشربانه ، فالغبوق شرب آخر النهار - يقول : فناءَ بي في طلَب شيءٍ يوماً فلم أُرِح عليهما حتّى ناما ، فحلبْتُ لهما غبوقَهما فوجَدْتُهما نائمينِ ، فكرِهتُ أن أغبِقَ قبلهما أهلاً أو مالاً ، فلبثتُ والقَدَحُ على يَدَيَّ أنتظِرُ استِيقاظَهما حتّى بَرَقَ الفجرُ ، فاستيقظا ، فشربا غبوقَهما : اللّهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلكَ ابتِغاءَ وَجهِكَ ، ففَرِّجْ عنّا ما نَحنُ فيه من هذهِ الصخرةِ ، فانفَرَجَتْ شيئاً لا يَستطيعونَ الخروجَ ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : وقال الآخرَ : اللّهمَّ كانت لي بنتُ عمٍّ كانت أحبَّ الناسِ إِليَّ ، فأردتُها عن نَفسِها فامتنعَتْ مني ، حتّى ألمَّتْ بها سِنةٌ منَ السنينَ فجاءتْني فأعطيتُها عشرينَ ومائةَ دَينارِ على أن تُخَلّي بيني وبينَ نفسِها ، ففعلَتْ ، حتّى إِذا قدَرْتُ عليها قالت : لا أُحِلُّ لكَ أن تَفُضَّ الخاتمَ إِلاّ بحقِّهِ ، فتحرَّجتُ منَ الوُقوع عليها ، فانصَرَفتُ عنها وهيَ أحبُّ الناس إِليَّ ، وتَرَكتُ الذهب الذي أعطيتُها ، اللّهمَّ إن كنتُ فعلتُ ذلكَ ابتِغاءَ وجهِكَ فافرُجْ عنّا ما نحنُ فيهِ ، فانفرَجتِ الصَّخرةُ ، غيرَ أنهم لا يَستطيعون الخروجَ منها ، قال النبي صلى(3/11)
الله عليه وسلم : وقال الثالث : اللّهمَّ إني استأجَرْتُ أُجراءَ فأعطيتُهم أجرَهم ، غيرَ رَجُلٍ واحدٍ تركَ الذي له وذهبَ فثمَّرْتُ أجرَهُ حتّى كثُرَتْ منهُ الأموالُ ، فجاءني بعدَ حِينٍ فقال : يا عبدَ اللهِ أدِّ إِليَّ أجري ، فقلت له : كلُّ ما تَرَى مِن أجْرِكَ منَ الإِبلِ والبقرِ والغنمِ والرقيق ، فقال : يا عبدَ اللهِ لا تَستهزىءْ بي ، فقلت : إني لا أستهزِىءُ بكَ ، فأخَذَهُ كلَّهُ فاسْتاقَهُ فلم يَترُكْ منه شيئاً ، اللّهمَّ فإِن كنتُ فعلتُ ذلكَ ابتِغاءَ وَجهِكَ فافرُجْ عنّا ما نحنُ فيه ، فانفَرَجتِ الصخرةُ ، فخرجوا يمشون ) ، ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (الزمر:53) .(3/12)
فالتوسل إلى الله بدعاء العبادة وبفعل العمل الصالح مراعاة لأسماء الله وصفاته من دلائل التوحيد ومن فقه الموحدين ، ونحن إذا نظر في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وجدنا كمال الفقه في الدعاء بأسماء الله وصفاته ، ففي صحيح بن حبان من حديث عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ ، إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْنٌ : اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ بَصَرِي ، وَجِلاَءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ، إِلا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً ، قَالُوا : يَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلمَ هذِهِ الْكَلِمَات ِ؟ قَالَ : أَجَلْ ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلمَهنَّ ) .(3/13)
وفي صحيح مسلم من حديث عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، اللهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لاَ إِل?هَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعاً ، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ ، لاَ يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا ، لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ، وَإِذَا رَكَعَ قَال َ: اللهُمَّ لَكَ رَكَعْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ ، خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي ، وَمُخِّي وَعَظْمِي وَعَصَبِي ، وَإِذَا رَفَعَ قَالَ : اللهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَاوَاتِ وَمِلْءَ الأَرْضِ وَمِلْءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ ، وَإِذَا سَجَدَ قَالَ : اللهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ ، وَلَكَ أَسْلَمْتُ ، سَجَدَ وَجْهِي لِلذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ ، تَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ : اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، وَمَا أَسْرَفْتُ ،(3/14)
وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، لاَ إِل?هَ إِلاَّ أَنْتَ .
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِذَا أَوَى? أَحَدُكُمْ إِلَى? فِرَاشِهِ ، فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ ، فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ ، وَلْيُسَمِّ اللّهَ ، فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ ، فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى? شِقِّهِ الأَيْمَنِ ، وَلْيَقُلْ : سُبْحَانَكَ اللهُمَّ رَبِّي بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي ، وَبِكَ أَرْفَعُهُ ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي ، فَاغْفِرْ لَهَا ، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا ، فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ .
وروي البخاري عنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللَّه عنهما قال : ( كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا تهجَّد مِنَ الليل قال : اللهم ربنا لك الحمدُ أنتَ قيِّم السماواتِ والأرضِ ولك الحمد ، أنت ربُّ السماواتِ والأرض ومَن فِيهنَّ ولك الحمد ، أنتَ نُورُ السماوات والأرض ومن فيهنَّ ، أنت الحقُّ وقولكَ الحقُّ ، ووعدُك الحقُّ ، ولقاؤكَ الحقُّ ، والجنةُ حق ٌّ، والنار حقٌّ ، والساعةُ حقٌّ ، اللهمَّ لك أسلمتُ ، وبك آمنت ُ، وعليك توكلتُ ، وإليك خاصمتُ ، وبك حاكمتُ فاغفر لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ ، وأسررتُ وأعلنت وما أنت أعلم به مني لا إله إلا أنتَ ) .(3/15)
فقول الله عز وجل : ( ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) (الأعراف:56) تشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة ، يقول ابن القيم ( فهاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان ، فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه ، وكل من يملك الضر والنفع ، فإنه هو المعبود حقا ، ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا ، وذلك كثير في القرآن ، فالمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفا ورجاء دعاء العبادة ، فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة ، وعلى هذا فقوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (البقرة:186) يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني ) .
إلهي ... أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمان - أنت الذي علمتني ورحمتني وجعلت صدري واعي القرآن - أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب كان في الحسبان - وجبرتني وسترتني ونصرتني وغمرتني بالفضل والإحسان - أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلان سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(3/16)
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة الرابعة - ما هو اسم الله الأعظم ؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، أما بعد ..
فحديثا اليوم بإذن الله تعالى يدور حول اسم الله الأعظم ، ما هو اسم الله الأعظم ؟ كثير من الناس وخصوصا الصوفية يزعمون أن الاسم الأعظم سر مكتوم ، وأن خاصة أوليائهم هم الذين يعلمونه ، ويعلمونه بالتلقي من مشايخهم ، وأن هذا الاسم من علمه ودعا الله به فلا بد أن يستجاب له ، بغض النظر عن كفره أو إيمانه ، وجعلوا لذلك هالة في قلوب العامة ، يعظمون من خلالها هؤلاء الأولياء خوفا ورهبة من دعائهم بالاسم الأعظم الذي انفردوا بمعرفته .
ولو سئلوا لماذا حجب الاسم الأعظم عن عوام الناس ؟ يقولون حتى لا يدعون به دعوة باطلة ، فنحن أمناء على سر الله ، ويستدلون بحديث شبه موضوع يرونه عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت الله الاسم الأعظم فجاءني جبرائيل به مخزونا مختوما اللهم إني أسالك باسمك المخزون المطهر المقدس المبارك الحي القيوم ، قالت عائشة : بأبي وأمي يا رسول الله ، علمنيه ، قال يا عائشة : نهينا عن تعليمه النساء والصبيان والسفهاء .(4/1)
يقولون سيدي الفلاني أخذ علم التصوف والاسم الأعظم عن سيدنا أبي العباس العلاوي رحمه الله ، أخذ عنه العهد والاسم ، فكان منه ما كان ، كرامات وتأثيرات وخوارق للعادات ، وغير ذلك من الحكايات والمبالغات ، والكذب والافتراءات .
إبراهيم بن أدهم كان من الأشراف ، وكان أبوه كثير المال والخدم والمراكب ، فبينما إبراهيم في الصيد على فرسه يركض إذا هو بصوت من فوقه يا إبراهيم ما هذا العبث ألهذا خلقت أم بهذا أمرت: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ) (المؤمنون:115) اتق الله عليك بالزاد ليوم الفاقة فنزل عن دابته ورفض الدنيا ، وصادف راعيا لأبيه فأخذ عباءته وأعطاه فرسه وما معه ودخل البادية ، فرأى فيها رجلا علمه الاسم الأعظم فدعا به ، فرأى الخضر ، وقال إنما علمك أخي داود .
اسم الله الأعظم ليس كما يصوره هؤلاء أنه شيء مخفي غيبي هم فقط الذين يعلمون طريق الوصول إليه ، ولكن أسماء الله كلها حسني وكلها عظمي ، وقد وصف الله أسماءه بالحسنى في أربعة مواضع من القرآن الأول في سورة الأعراف ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) والثاني في سورة الإسراء ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) والثالث في سورة طه ( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) والرابع في سورة الحشر ( هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (الحشر:24) .(4/2)
ووجه الحسن في أسماء الله أنها دالة على ذات الله ، فكانت حسنى لدلالتها على أحسن وأعظم وأقدس مسمى وهو الله عز وجل ، فهي بالغة في الحسن من جهة الكمال والجمال ، ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام ) (الرحمن:78) فلله ولأسمائه منتهى العظمة والجلال ، وذلك لأن أسماءه متضمنة لصفاته الكاملة التي لا نقص فيها بحال من الأحوال ، فاسم الله الحي متضمن للحياة الكاملة التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال ، الحياة التي تستلزم كمال الصفات من العلم والقدرة والسمع والبصر ، واسمه العليم متضمن للعلم الكامل الذي لم يسبق بجهل ولا يلحقه نسيان قال الله تعالى : ( قَالَ عِلمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى ) (طه:52) وهو العلم الواسع المحيط بكل شيء جملة وتفصيلا سواء ما يتعلق بأفعاله أو أفعال خلقه قال الله تعالى : ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) (الأنعام:59) ، واسمه الرحمن متضمن للرحمة الكاملة التي قال عنها رسول الله صلي الله عليه وسلم :
( اللّهُ أرحمُ بعبادِه من هذهِ بولَدِها ) ، وذلك أن أمرة وقعت في السبي ففقدت صبيها وتضررت باجتماع اللبن في ثديها ، فكانت إذا وجدت صبيا أرضعته ليخفف عنها ، فلما وجدت صبيها بعينه أخذته فالتزمته ، فألصَقَتْه ببَطنها وأرضَعَتْه ، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أتُرَونَ هذهِ طارحةً وَلدَها في النار ؟ قلنا: لا ، وهي تَقدِر على أن لا تَطرَحهُ ، فقال : اللّهُ أرحمُ بعبادِه من هذهِ بولَدِها .(4/3)
واسم الله الرحمن كما أنه متضمن للرحمة الكاملة فإنه متضمن أيضا للرحمة الواسعة التي قال الله عنها : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُل شَيْءٍ ) ، وقال عن دعاء الملائكة للمؤمنين : ( الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلماً فَاغْفِرْ لِلذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ ) (غافر:7) .
وجميع الأسماء حسنى وعظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد ، فاسم الله الأعظم في حال الفقر الغني ، وفي حال الضعف القوى ، وفي حال الجهل العليم ، وفي حال السعي والكسب الرزاق ، وفي حال الذنب التواب الغفور الرحيم ، وفي حال الحرب وقتال العدو فنعم المولى ونعم النصير ، وهكذا كل اسم هو الأعظم في موضعه ، على حسب حالة العبد وما ينفعه ، والله عز وجل أسماؤه لا تحصى ولا تعد ، هو الوحيد الذي يعلم عددها ، كما ورد من حديث ابن مسعود في صحيح بن حبان ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلقِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ ) لكن الله عز وجل من حكمته أنه يعطي كل مرحلة من مراحل خلقه ، معرفة ما يناسبها من أسمائه وأوصافه ، وتظهر فيها دلائل كماله وجماله وجلاله ، ففي مرحلتنا مرحلة الابتلاء ، مرحلة الدنيا وما فيها من شهوات وأهواء ، وحكمة الله في تكليفنا بالشرائع والأحكام ، والحلال والحرام ، في هذه المرحلة عرفنا الله بجملة من أسمائه تتناسب مع متطلباتنا وعلاقتنا بالله ، فقال صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ) .(4/4)
فالحياة لما كانت دار للابتلاء ومحلا للبلاء ، الناس فيها مختلفون آجالا وأرزاقا ، ألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير ، الصحيح والعليل ، الأعمى البصير ، الجاهل والخبير ، منهم الجبار والذليل ، القوى والضعيف ، الغليظ واللطيف ، منهم الظالم والمظلوم ، والحاكم والمحكوم ، المالك والمعدوم ، منهم الكاذب والصادق ، المخلص والمنافق ، إلى غير ذلك من أنواع الأخلاق وتنوع الأرزاق ، واختلاف السلوك ، وابتلاء ملك الملوك ، لما كانت الدنيا كذلك ، كانت حكمة الله في تعريف الخلائق ، بما يناسبهم من أسمائه فالمذنب إن أراد التوبة سيجد الله توابا رحيما عفوا غفورا ، والمظلوم سيجد الله حقا مبينا ، حكما عدلا وليا نصيرا ، والضعيف سيجد الله قويا قديرا ، والمقهور سيجد الله عزيزا جبارا ، والفقير سيجد الله رزاقا كفيلا وكيلا ، وهكذا سيجد العباد من الأسماء ما ينسب حاجتهم ومطالبهم ، فالفطرة اقتضت أن تلجأ النفوس إلى قوة عليا عند ضعفها ، وغينا أعلى عند فقرها ، وتوابا رحيما عند ذنبها ، وسميعا بصيرا قريبا مجيبا عند سؤالها ، ومن هنا كانت لكل مرحلة ما يناسبها من أسما الله وصفاته ، ألا ترى أنه في البدء عندما أسكن الله آدم وحواء في جنة الابتلاء ، فأكلا من الشجرة وانكشفت العورة وتطلبت الفطرة مخرجا وفرجا ، وكان الفرج والمخرج في أسما الله التي تناسب حالهما وتغفر ذنبهما ، فعلمه الله كلمات ، ما هي هذه الكلمات ؟ أسماء لله وصفات ، علمه أن يدعوه باسمه التواب الرحيم ، ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:37) أَي تَعَلمها ودعا بها ( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ) (لأعراف:23) .(4/5)
وعند البيهقي من حديث أنس في قوله عز وجل : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) قال : سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم .
فطالما أن الدنيا للابتلاء فإن الله قد عرفنا بما يناسبهما ويناسبنا من الأسماء ، وهذه الأسماء ربما لا ينفع الدعاء بها في مرحة أخري كمرحلة الآخر ، فلو دعا الكافرون والمشركون ربهم يوم القيامة باسمه الغفور التواب ، أن يغفر لهم ويرحمهم من العذاب لما استجيب لهم ، لأن كل مرحلة لها ما يناسبها من الحكم وإبداء الأسماء ، ولذلك فإنه عند مجيء الحق للفصل بين الخلق يوم القيامة ، يغضب غضبا شديدا لم يَغضَبْ قبلَه مثله ، ولن يَغضبَ بعدَهُ مثلَه ، فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكَرَبِ ما لا يُطيقون ولا يَحتمِلون ، فيبحثون عن شفيع لكن الأنبياء يتخلفون ، إلا صاحب المقام المحمود ، يقول أنا لها عندها ، كما ورد في صحيح البخاري ومسلم يقول :
( فأنطِلقُ ، فآتي تحتَ العرش فأقَعُ ساجِداً لربي عزَّ وجل، ثمَّ يَفتح اللهُ عليَّ من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليهِ شيئاً لم يَفتحْهُ على أحدٍ قبلي ، ثم يُقال : يا محمد ، ارفَعْ رأسك ، سَل تُعطَهْ ، واشفعْ تُشَفع ) وتلك المحامد كما ذكر ابن القيم ذكر لله ودعائه بأسماء وصفات لم يعرفها لأحد من خلقه .(4/6)
فأسماء الله كلها حسنى وكلها عظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد ، كابتلاء لهم في الاستعانة بالله والصدق مع الله ، والخوف منه والرغبة إليه والتوكل عليه وغير ذلك من معاني توحيد العبودية لله ، حتى يجتهد العباد في الطاعة ويسارعون في الخيرات ، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضا لم يبين التسعة والتسعين اسما على وجه العد والتفصيل ، للاجتهاد في البحث والتحصيل ، فذلك لحكمة بالغة ، وأنوار ساطعة ، أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترفع الدرجات وتتفاوت المنازل في الجنات ، فيلزم لحفظها إحصاؤها واستيفاؤها ، ثم الإحاطة بمعانيها ، والعمل بمقتضاها ، ثم دعاء الله من خلالها ، وحسن المراعاة لأحكامها .
فالاسم الأعظم ليس كما يصوره الصوفية حسب أهوائهم وأذواقهم سر مكنون وغيب مصون ، مقصور على أوليائهم ، ويأخذونه عن مشايخهم بالتلقي مع العهد بالسند إلى قدماء الأولياء ، كصاحب كتاب ختم الأولياء ، أو بلعام بن باعوراء ، فصاحب كتاب ختم الأولياء ، الحكيم الترمذي الصوفي أعجبه اسم الرب ، فزعم أنه الإسم الأعظم وحوله من جهر إلى سر ، والناس يعتقدون أن الاسم غيب مكنون ، وسر مصون ، وهم جميعا يعرفون ويرددون ( الحمد لله رب العالمين ) ، يقول الحكيم الترمذي : ( اسم الرب هو الاسم الأعظم المكنون الذي منه خرجت الأسماء ، فمن وصل إلى ذلك الاسم المكنون وانكشف له الغطا عنه ، فقد تبتل إليه وانقطع عن الخلق واتخذه وكيلا ) وعلم عند ذلك الاسم الأعظم ، كأنه يفسر الآية ( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّل إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً ) (المزمل:10) .(4/7)
وكثير من الصوفية يظن أنه يعرف الاسم الأعظم بذلك ، وزعم كثيرون أن الملكين ببابل هاروت وماروت الذين يقال أنهما أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم المعاصي ليقضيا بين الناس ، وألقي الله في قلوبهما شهوة النساء وأمرهما أن لا يزنيا ولا يقتلا ولا يشربا خمرا ، وكانا يعلمان الإسم الأعظم ليصعدان به إلى السماء مرة أخري ، فجاءتهما امرأة في مسألة لها ، فأعجبتهما فأراداها للفحشاء ، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الأعظم الذي يصعدان به إلى السماء ، فعلماها إياه ، ثم أراداها للفحشاء فأبت عليهما حتى يشربا الخمر ، فشربا الخمر وزنيا بالمرأة ، ثم خرجا فقتلا رجلا بلا ذنب ، فدعت المرأة بهذا الاسم الأعظم ، فصعدت إلى السماء ومسخت فخنست فتحولت إلى كوكب خناس ، وهو كوكب الزهرة الذي نراه في السماء ، وغضب الله تعالى على الملكين فسماهما هاروت وماروت وخيرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعلمان الناس ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، يقولون : إن الذي أنزل على الملكين هو الاسم الأعظم الذي صعدت به المرأة وأصبحت كوكب الزهرة ، وما زالت المرأة أو كوكب الزهرة تعلم هذا الاسم للشياطين ، وهم يعلمونه لأوليائهم مع السحر ، فيتكلمون بكلام يجعل الواحد منهم يطير في الهواء بين الأرض السماء أو يمشي على الماء ، يقول ابن كثير : ( وأما ما يذكره كثير من المفسرين في قصة هاروت وماروت من أن الزهرة كانت امرأة فراوداها على نفسها فأبت إلا أن يعلماها الاسم الأعظم فعلماها فقالته فرفعت كوكبا إلى السماء فهذا أظنه من وضع الإسرائيليين ) .(4/8)
والأعجب من ذلك قصة الذي يعلم الاسم الأعظم ثم كفر بالله ، قال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) (الأعراف:176) ، ذكر كثير من المفسرين أن هذا الرجل هو بلعام بن باعوراء ، وقصته أن قومه طلبوا منه أن يدعوا على موسى ومن معه فأبى ، فلم يزالوا به حتى فعل ، وكان عنده اسم الله الأعظم ، القصة كما يذكرها ابن جرير الطبري في تاريخ الأمم والملوك أن الله بعث يوشع نبيا بعد أن انقضت الأربعون سنة التي ضربت على بني إسرائيل في التيه فدعاهم فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبارين فبايعوه ، وصدقوه وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له بلعام بن باعوراء وكان عالما يعلم الاسم الأعظم المكتوم فكفر وأتى الجبارين ، فقال : لا ترهبوا بني إسرائيل فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون ، فكان عندهم فيما شاء من الأهواء غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء ، فكان ينكح أتانا له يزني بحمارة ، وهو الذي يقول الله عز وجل ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلبِ إِنْ تَحْمِل عَلَيْهِ يَلهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلهَثْ ) فكان بلعام يلهث كما يلهث الكلب -خرج لسانه من فمه حتى نزل على صدره - فخرج يوشع النبي يقاتل الجبارين في الناس ، وخرج بلعام(4/9)
مع الجبارين على أتانه على حمارته ، وهو يريد أن يلعن بني إسرائيل بالإسم الأعظم ، فكلما أراد أن يدعو على بني إسرائيل - الحمارة تدور دون أن يدري فتأتي اللعنة على الجبارين - فقال الجبارون : إنك أنما تدعو علينا يابن باعوراء ، فيقول لهم : إنما أردت بني إسرائيل ، فأخذ ملك من ملوك الجبارين بذنب الأتان بذيل الحمارة ، فأمسكها وجعلها تتحرك ، وأخذ بلعام يضربها ويكثر من ضربها ، فتكلمت الحمارة وقالت أنت تنكحني بالليل وتركبني بالنهار ، ويلي منك يا بلعام .
أصبح استزاء اليهود بأسماء الله منتشرا بين المسلمين كقصص مشوقة وحكايات عن الأمم السابقة ، إننا نحذر من خطورة القصص الواهية ، وعدم التثبت في النقل عن الأمم الماضية ، لأن فيه بعض الدعاة يستغلون جهل العامة ويبالغون في قصص الصحابة وخيار الأمة ، دون تدقيق وتفحيص ، وتحقيق وتمحيص ، بين ما ثبت عنهم بالفعل وما لم يثبت ، والعامة من جهلهم يعتبرون أمثال هؤلاء نموذجا لدعاة العصر ، المتطورون مع الحضارة في بلاد العرب وفي مصر ، فالعلم له ثوابته والدعوة لها نظامها ، تتطور مع العصر أساليبها ، لكن دون المساس بثوابتها .(4/10)
انظروا إلى نموذج من القصص الذي يعتمد عليها أمثال هؤلاء فيما يتعلق باسم الله الأعظم ، خبر عبد الله بن الثامر والاسم الأعظم ، ذكره ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي وهي رواية قصصية كأغلب روايات القصص التى يتناولونها ، عبد الله بن الثامر غلام كان يذهب إلى ساحر في أحد القرى التابعة لنجران ، وكان رجل صالح على دين عيسى عليه السلام يعلم اسم الله الأعظم بين قرية الساحر ونجران ، فكان عبد الله بن الثامر يتخلف إليه ، فيعجبه ما يرى من صلاته وعبادته ، فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم ، فوحد الله وعبده ، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا تفقه فيه جعل يسأله عن الاسم الأعظم وكان يعلمه ، فكتمه إياه وقال له يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى عليك ضعفك عنه ، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح - القدح هنا بمعنى قطعة الحجر المصقول - فجمعها ثم لم يبق لله أسما يعلمه إلا كتبه في قدح ، لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد لها نارا ، ثم جعل يقذفها فيها قدحا قدحا حتى إذا مر بالاسم الأعظم قذف فيها بقدحه ، فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا ، فأخذه ثم أتى صاحبه ، فأخبره بأنه قد علم الاسم الذي كتمه فقال : وما هو ؟ قال : هو كذا وكذا ، قال : وكيف علمته ؟ فأخبره بما صنع ، قال : أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك وما أظن أن تفعل ، فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله فيعافيك مما أنت فيه من البلاء ؟ فيقول : نعم ، فيوحد الله ويسلم ويدعو له بالاسم الأعظم فيشفى .(4/11)
والثابت عن رسول الله في حديث مسلم عَنْ صُهَيْبٍ ، أَنَّ الغلام كان يُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاءِ ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ ، فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ ، فَقَالَ : مَا ه?هُنَا لَكَ أَجْمَعُ ، إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي ، فَقَالَ : إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَداً ، إِنَّمَا يَشْفِي اللّهُ ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللّهِ دَعَوْتُ اللّهَ فَشَفَاكَ ، فَآمَنَ بِاللّهِ ، فَشَفَاهُ اللّهُ ، فَأَتَى? المَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ : مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ؟ قَالَ : رَبِّي ، قَالَ : وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي ؟ قَالَ : رَبِّي وَرَبُّكَ اللّهُ ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَل يُعَذِّبُهُ حَتَّى? دَل عَلَى? الغُلاَمِ ، فَجِيءَ بِالغُلاَمِ ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ : أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ ، فَقَالَ : إِنِّي لاَ أَشْفِي أَحَداً ، إِنَّمَا يَشْفِي اللّهُ .(4/12)
فالحسن والعظمة في أسماء الله تعالى يكون باعتبار كل اسم على انفراده ، ويكون باعتبار جمعه إلى غيره ، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر كمال فوق كمال ، فالأعلى في الكمال هو اسم الله الأعظم على هذا الاعتبار ، ومن هنا ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه جعل الحي القيوم هو اسم الله الأعظم وكذلك الرحمن الرحيم ، فقد روى ابن ماجة الطبراني وحسنه الشيخ الألباني ، من حديث القاسم بن عبد الرحمن عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَن النَّبِي صلي الله عليه وسلم قال : ( اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ الذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ في سُوَرٍ ثَلاثٍ ، البَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ وَطه ) ، قال القاسم : فالتمستها إنه الحي القيوم ، ( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) (البقرة:255) ( اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ ) (آل عمران:2) ( وَعَنَتِ الوُجُوهُ لِلحَيِّ القَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلماً ) (طه:111) .
وقد ورد أيضا أن الاسم الله الأعظم هو الرحمن الرحيم ، كالحديث الذي رواه أبو داوود والترمذي وقال : حسن صحيح ، وحسنه الشيخ الألباني ، من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها ، أَنَّ النَّبِي قَالَ : ( اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ في هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ : ( الم اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَي القَيُّومُ ) .(4/13)
فاسم الله الأعظم أطلقه النبي صلي الله عليه وسلم على اسمين مضمومين ومقترنين وهما الحي مع القيوم ، والرحمن مع الرحيم ، وإذا كانت أسماء الله كلها حسني وكلها عظمي ، كما قال تعالى : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا ) (الأعراف:180) ، إلا أن اسمه الحي واسمه القيوم عند اجتماعهما يختصان عن باقي الأسماء الحسني وينفردان بما فيهما من أبعاد اعتقادية ويعطيان من المعاني ما ليس لغيرهما ، كما قال ابن القيم في نونيته : وله الحياة كمالها فلأجل ذا ما للممات عليه من سلطان - وكذلك القيوم من أوصافه ما للمنام لديه من غشيان ، وكذاك أوصاف الكمال جميعها ثبتت له ومدارها الوصفان - فمصحح الأوصاف والأفعال والأسماء حقا ذانك الوصفان - ولأجل ذا جاء الحديث بأنه في آية الكرسي وذي عمران - اسم الإله الأعظم اشتملا علي اسم الحي والقيوم مقترنان - فالكل مرجعها إلي الإسمين يدري ذاك ذو بصر بهذا الشان .
فالحي القيوم كما ذكر ابن القيم ، عليهما مدار أوصاف الكمال جميعها ، فجميع الأسماء الحسني والصفات العليا ، تدل باللزوم علي أن الله حي قيوم دون العكس ، وشرح ذلك نرجئه إلى المحاضرة القادمة ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(4/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة الخامسة - اقتران أسماء الله الحسني
( الحَمْدُ للهِ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَل الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُون ) (الأنعام:1) ، سبحانه لا يحصي عدد نعمه العادون ، ولا يؤدي حق شكره الحامدون ، ولا يبلغ مدي عظمته الواصفون ، ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة:117) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله أمات وأحيا ، وقدر فهدى ، وخلق الزوجين الذكر والأنثى ، من نطفة إذا تمنى ، جعل الإنسانية بين وعد ووعيد ، وقسمهم إلي شقي وسعيد ، ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) (قّ:18) .
وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله ، خير نبي أرسله ، فتح به آذانا صما ، وأعينا عمياء ، وقلوبا مقفلة ، أرسله على حين فترة من الرسل ، ودروس من السبل ، فكانت بعثته أنفع للخليقة من الماء الزلال ، إذ تمت به للناس مصالح الدارين ، فطوبي لمن أمسي باتباعه قرير العين ، وويل لمن نبذ هديه في بيان النجدين ، فاللهم صل وسلم عليه ، أفضل صلاة وأكمل سلام ، وآته الوسيلة والفضيلة ، وابعثه المقام المحمود في أشرف مقام ، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، أما بعد .(5/1)
تحدثنا في المحاضرة الماضية عن اسم الله الأعظم ، وعلمنا أن جميع الأسماء كلها حسنى ، وكلها عظمى ، على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد ، فاسم الله الأعظم في حال الفقر الغني ، وفي حال الضعف القوى ، وفي حال الجهل العليم ، وفي حال السعي والكسب الرزاق ، وهكذا كل اسم هو الأعظم في موضعه ، على حسب حالة العبد وما ينفعه ، فالحسن والعظمة في أسماء الله تعالى يكون باعتبار خاص لكل اسم بمفرده ، ويكون أيضا باعتبار جمعه إلى غيره ، فيحصل بجمع الاسم إلى الآخر ، واقترانهما كمال فوق الكمال ، فالأعلى في الكمال هو الأعظم على هذا الاعتبار ، ومن هنا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الحي القيوم هو اسم الله الأعظم ، وكذلك الرحمن الرحيم ، فعند الإضافة يظهر كمال على كمال وجمال على جمال ، كل ذلك من دلالة أسماء رب العزة والجلال ، لكن ما هو السبب الذي يدعو إلى أن ينفرد الحي القيوم والرحمن الرحيم بما ليس للأسماء المفردة .
السبب في ذلك بالنسبة لاسمه الحي واقترانه بالقيوم ، أن جميع الأسماء والصفات تدل عليه باللزوم ، فالحي مشتق من صفة الحياة ، وصفة الحياة وصف ذات لله ، بخلاف المحي فإنه مشتق من وصف فعل لله ، وصفة الذات هي كل صفة كمال لله لا تتعلق بمشيئته ، كالبقاء والعزة ، والمشيئة والقدرة ، والعلم والقوة ، والعلو والحكمة ، والوجه والعين والقدم واليدين ، والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الذات ، وأما صفة الفعل فهي كل صفة كمال تعلقت بمشيئة الله ، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها كالإحياء والإماتة ، والخلق والهداية ، واللطف والرحمة ، والرزق والنصرة ، والمجيء لفصل القضاء ، والنزول إلى السماء ، وكذلك الاستواء ، وكل ما تعلق بمشيئة الله من الصفات فهي صفات أفعال .(5/2)
فالحي اسم من أسماء الله يدل على ذاته وعلى صفة الحياة معا ، فيدل على العلمية والوصفية معا ، يدل على الحياة الدائمة الحياة الكاملة ، ومن أجل حياته كملت بقية أسمائه وصفاته ، فلا يمكن لأحد أن يكون قديرا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون قويا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون عليا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون غنيا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون عزيزا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون عظيما إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون رحمنا رحيما إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون سميعا بصيرا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون كريما رءوفا رحيما ، ملكا قدوسا سلاما ، مؤمنا مهيمنا عزيزا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون جبارا متكبرا خالقا ، بارئا مصورا غنيا إلا إذا كان حيا ، فجميع أسماء الله تدل على صفة الحياة التي تضمنها اسمه الحي ، وهذه قضية عقلية نقلية ، عقلية كما تقدم ، ونقلية بينها الله في القرآن في أفضل بينان بأجمل برهان ، قال تعالى : ( إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) (فاطر:14) ، لماذا لا يستجيبون لمن دعاهم واستغاث بهم ؟ ، لأنهم موتى ، والموتى عند موتهم يموتون بذواتهم وصافتهم ، وتبقي سيرتهم فقط وجميل أفعالهم ، فلا يقال عالم وهو ميت بل يقال كان عالما ، ولا يقال غني وهو ميت بل يقال كان غنيا ، ولا يقال قوي وهو ميت بل يقال كان قويا ، ولا يقال ملك وهو ميت بل يقال كان ملكا عادلا أو ظالما ، وعند مسلم من حديث صهيب الرومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ ) كان ملكا ولكنه الآن سلب عنه الوصف بزوال الحياة .(5/3)
والملك أو ملكية الشيء أو حق التملك له سببان : السبب الأول صناعة الشيء وإنشائه ، وخلقه وإيجاده ، فالمخترع يأخذ براءة الاختراع ، والمؤلف هو الذي ينفرد بحق الطبع والتأليف ، وعند البخاري قَال عُمَرُ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ، ولا يمكن لملك من ملوك الدنيا أن يؤسس ملكه بمفرده ، لا بد من وجود من يساعده ، ويقف معه ويسانده من قرابته أو من حزبه وجماعته ، أو إخوانه وقبيلته ، لكن الإله الحق من الذي ساعد في إنشاء الملك ؟ ومن الذي عاونه في صناعة الخلق ؟ ومن الذي رفع السماء وفصلها عن الأرض ؟ يقول تعالى : ( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُداً ) (الكهف :51) .
أما السبب الثاني لاستحقاق الملك فهو دوام الحياة ، فدوام الحياة يؤدي إلى انتقال الملكية وثبوت التملك ، فمن شروط الإرث التحقق من موت المورث ، ثم التحقق من حياة الوارث ولو بلحظة ، فدوام الحياة ولو للحظة يوجب انتقال الملكية إلي الغير ، وإذا كان كل من علي الأرض زائلا فان ، يدركه الموت في أي زمان ومكان ، كما نص على ذلك القرآن ، فقال تعالى : ( كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام ) (الرحمن :27) ، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون َ) (العنكبوت :57) ، إذا كان كل من علي الأرض زائلا فان ، ولا يبقى فيها ملك مالك من بنى الإنسان ، فإن ميراث السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ينفرد به الملك الحق : ( وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (آل عمران :180) .(5/4)
ذلك لأن الحياة وصف ذاته ، والإحياء وصف فعله ، والله لما ذكر الله الاسم الأعظم ، فقال ( اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) قال بعدها : ( لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) (البقرة :255) ، فالملوك حياتهم لا تدوم ، وحتما سيأتيهم الموت بالضرورة واللزوم ، ولن يبقى إلا الحي القيوم ملك الملوك : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ) (غافر :16) ، فإذا مات الكل فلمن ينتقل الإرث والملك ؟ الملك لله في البدء عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ؟ والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبقى من الملوك سواه ؟ فهل يجرؤ أحد بعد ذلك أن ينسب الملك لغير الله ، إلا على سبيل الابتلاء في هذه الحياة ؟ فهل يجرؤ أحد بعد ذلك أن يشرك بالله في الاستغاثة والدعاء ، أو المحبة والخوف والرجاء ؟(5/5)
فدعاء غير الله شرك أكبر ، لأنه يستلزم إثبات الصفات الإلهية للأنداد من الأموات ، كالعلم والسمع والبصر والغنى وغير ذلك ، وقد نفي الله عنهم ذلك لأنهم أموات ، فقال : ( ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ٍإِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (النحل:21) ( إِنَّ الذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَليَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (الأعراف:194) يعنى عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ يموتون كما تموتون ، وتفنى أوصافهم وإلي الله يرجعون ، فابتغوا بالدعاء عند الحي القيوم ، ولذلك قال تعالى : ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) (غافر:65) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل اسم الله الحي القيوم هو الاسم الأعظم ، وقد علمنا أن جميع الأسماء الحسنى والصفات العليا تدل علي اسم الله الحي بدلالة اللزوم ، فما الذي يضيفه انضمام اسم الله الحي لاسمه القيوم ؟(5/6)
القيم في اللغة هو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها ، فقيم البلدة سيدها وأمينها ومدبرها ، الذي بيده تدبير أمرها ، فالقيوم من قام وأقام ، قام بذاته فلا يحتاج إلى غيره ، وأقام غيره لافتقاره إليه ، وعند الإمام البخاري البخاري من حديث ابْن عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ) ، ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُل سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بَل زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) (الرعد:33) .(5/7)
والقيوم أيضا هو القائم بنفسه ، الذي بلغ مطلق الكمال في وصفه ، والباقي بكماله ووصفه على الدوام ، دون تغيير أو تأثر ، فقد يكون الحي سميعا لكن يتأثر سمعه مع مرور الوقت ، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للسماع ، فيضع سماعة يستعين بها ، فلا بد أن يكون قيوما في سمعه له البقاء والكمال فيه على الدوام ، وقد يكون الحي بصيرا لكن بصره يتأثر مع مرور الوقت ، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للإبصار ، فيضع نظارة يستعين بها ، فلا بد أن يكون قيوما في بصره له البقاء والكمال فيه على الدوام ، فالحي قد يكون متصفا بالصفات لكنه يتأثر بالسنة والغفلة ، والإرهاق والتعب ، فتضعف بعض صفاته أو تتأثر ، وربما ينام فتنعدم أوصافه حال النوم ، فلو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته ، ولذلك قال تعالى : ( اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) فأثبت الحياة والقيومية في أسمائه وصفاته بطريقين اثنين : طريق الإثبات ، وطريق النفي ، وهي من أبلغ طرق المدح التي اتبعها السلف الصالح في مدح ربهم ، فطريقة السلف في إثبات الصفات هي النفي المجمل والإثبات المفصل ، نفي النقص مجملا وإثبات الكمال مفصلا ، وإذا نفوا عن الله وصف نقص أثبتوا له كمال المقابل ، فالنفي عندهم يضمن كمال الضد والمقابل ، فالله عز وجل نفي عن نفسه ، كل صفات النقص إجمالا ، مرة واحدة ، فقال : ( ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) ، وقال : ( وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلمًا ) ، وقال : ( هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيًّا ) ، وقال : ( وَلمْ يَكُنْ لهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، وقد وأثبت الله لنفسه صفات الكمال تفصيلا فقال تعالي : ( الرَّحْمَنُ عَلي العَرْشِ اسْتَوَي ) ، وقال : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، هُوَ اللهُ الذِي لا إِلهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ(5/8)
العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَي ، يُسَبِّحُ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) ، وغير ذلك من الآيات التي عدد الله فيها أسماءه وصفاته مثبتا لها ، ولكمالها وجمالها جلالها ، معددا لها ومفصلا ، بعكس طريقة المتحذلقين من المتكلمين ، فإنهم يجملون في الإثبات ، ويفصلون في النفي ، كما فعلت المعتزلة حين أثبتوا أسماء الله مفرغة من الأوصاف ، حتى تعود الأسماء جميعها إلي ذات بلا صفات ، ولا قيمة عند ذلك لتعدادها أو الدعاء بها ، عكس ما ورد في قوله تعالي يحثنا علي التوسل والدعاء بها : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا ) ، كما أن ذلك يجعل الله لا صفة له عندهم ، وهذا منكر من القول عظيم ، يدرك خطورته من تحقق فيه ، وكذلك ما فعلته الأشعرية حيث أثبتوا سبع صفات عقلية ، سبعة فقط وعلي مضض .
أما التفصيل في النفي عندهم المتكلمين فكقولهم : ليس بجسم ولا شبح ولا صورة ولا لحم ولا دم ، ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ، ولا بذي حرارة ولا رطوبة ولا يبوسة ، ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا جوهر ولا عرض ، ولا اجتماع له ولا افتراق لا يتحرك ولا يسكن ولا ينقص ولا يزداد ، ليس بذي أبعاض ولا أجزاء ولا جوارح ولا أعضاء وليس بذي جهات ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت.. إلي غير ذلك مما يملأ صفحات متعددة .(5/9)
وهذه طريقة سقيمة في المدح تنافي الفطرة وتبعث علي الاشمئزاز ، فهي تماثل قول القائل في مدح الأمير : لست بزبال ولا كناس ولا حمار ولا نسناس ، ولست حقيرا ولا فقيرا ، ولا غبيا ولا ضريرا ، ولست مسخا ولا حيوانا ، ولا خائنا ولا جبانا ، وكل ذلك يغني عنه الإجمال في النفي الوارد في قوله تعالي : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) وقوله : ( وَلمْ يَكُنْ لهُ كُفُوًا أَحَدٌ ) ، فإن الله نفي عن نفسه كل أنواع النقص جملة واحدة وفي كلمة واحدة .(5/10)
ومما ينبغي أن يعلم أن النفي ليس فيه مدح ولا كمال إلا إذا تضمن إثباتا فقوله تعالي : ( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْم ) فيه نفي للسنة والنوم يتضمن كمال الضد ، وهو إثبات الكمال في حياته سبحانه وقيوميته ، وقوله تعالي : ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) ، فيه نفي الظلم المتضمن لكمال الضد ، وهو إثبات كمال العدل ، وقوله تعالي : ( وَتَوَكَّل عَلي الحَيِّ الذِي لا يَمُوتُ ) ، فيه نفي الموت الذي يتضمن كمال الضد ، وهو إثبات الحياة الكاملة لله تعالي ، وقوله : ( عَالِمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ) ، فيه نفي العزوب المستلزم لعلمه بكل ذرة في السماوات وفي الأرض ، وقوله تعالي : ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ) ، فيه نفي العجز المتضمن كمال الضد ، وهو إثبات كمال العلم والقدرة ، ( إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) إذا تأملت ذلك وجدت أن كل نفي لا يستلزم إثباتا ، لم يصف الله به نفسه ، أما المتكلمون فنفيهم نفي مجرد عن إثبات الكمال ، فإذا قالوا : ليس بجسم وتساءل العقلاء : هل يكون عرضا ؟ ، قالوا : ولا عرضا ، فماذا يكون إذا لم يكن عرضا ، هل يكون شبحا ؟ قالوا : ولا شبحا ، إذا هو داخل العالم ؟ قالوا : ولا داخل العالم ، فخارجه إذا ؟ قالوا : ولا خارجه ، إلي غير ذلك من سفسطة القول ، ومهاترات النفي ، فإن هذا ليس فيه صفة مدح ، بل هو ذم ونقص ، مدح لله بما يشبه الذم ، تعالي الله عن ذلك علوا كبيرا .(5/11)
لو قال قائل يصف أحد القبائل : قُبَيِّلةٌ لا يغدرون بذمة : ولا يظلمون الناس حبة خردل ، وصفه لهم بعدم الغدر ونفي الظلم ليس مدحا لهم بالوفاء والعدل ، ولا إثباتا لكمالهم في الصفات البشرية ، وإنما يذمهم بذلك لأن نفيه نفي مجرد من إثبات الصفة المقابلة ، فعدم الغدر والظلم ، سببه العجز وعدم قدرتهم علي الظلم أو الغدر ، وليس سببه الوفاء والعدل ، فهو ذم بما يشبه المدح ، ولذلك قال تعالى في إثبات صفته من خلال أسلوب النفي وأسلوب الإثبات : ( اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) ، فأثبت الحياة والقيومية في أسمائه وصفاته بطريقين طريق الإثبات وطريق النفي ، وهي من أبلغ طرق المدح التي التزمها السلف في مدح ربهم ، والمقصود هنا أن جميع الأسماء الحسنى تدل باللزوم على أن الله عز وجل حي قيوم ، ولذلك جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله الأعظم على هذا الاعتبار .
أما الرحمن الرحيم فهما اسم الله الأعظم أيضا على اعتبار آخر ، فالرحمن الرحيم مشتق من الرحمة على وجه المبالغة في الوصف ، والرحمن أشد مبالغة من الرحيم ، فالرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة ، وكلاهما مشتقان من الرحمة ، ولا عبرة بمن قال بغير ذلك ومنع الاستقاق وجعلهما اسمان جامدان ، والدليل على أنه مشتق من الرحمة ، ما رواه الترمذي وقال حديث صحح من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تعالى : ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) وهذا الحديث نص في أنه مشتق .(5/12)
قال أبو علي الفارسي : ( الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو خاص بالمؤمنين قال الله تعالى : ( هُوَ الذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) (الأحزاب:43) قال ابن عباس رضي الله عنه : ( هما اسمان رقيقان ، أحدهما أرق من الآخر ) ، ولهذا قال تعالى : ( الذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَل بِهِ خَبِيراً ) (الفرقان:59) ولما قال : ( تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ) (طه:6) ، فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعم جميع خلقه برحمته ، وقال : ( وَكَانَ بِالمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ) (الأحزاب:43) فخصهم باسمه الرحيم .(5/13)
ونحن إذا نظرنا إلى أسماء الله ، وخصوصا عند اقترانها وجدنا أنها تدل على كمال الغاية وتمام الحكمة ، فالقرآن الذي ( لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلفِهِ ) ذكر الله في وصفه أنه ( تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (فصلت:42) فأسماء الله يبديها حسب الحكم والمصالح المقصودة ، والغايات الحميدة ، ذكر الله تعالى هذين الاسمين عند ذكره للخلق والشرع لينبهنا على أنهما إنما صدرا عن حكمة مقصودة ، حكمة مقرونة بالعلم التام : ( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ) (النمل:6) وقوله : ( تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (الزمر:1) فذكر العزة المتضمنة لكمال القدرة والتصرف ، والحكمة المتضمنة لكمال الحمد والعلم ، وقوله : ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (المائدة:38) وسمع بعض الأعراب قارئا يقرؤها ( والله غفور رحيم ) فقال : ليس هذا كلام الله ، فقال : أتكذب بالقرآن ؟ فقال : لا ولكن لا يحسن هذا ، فرجع القارئ إلى خطئه فقال : ( وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) فقال : صدقت .
فالعزيز الحكيم ، كل منهما دال على الكمال الخاص الذي يقتضيه وهو العزة في العزيز ، والحكمة في الحكيم والجمع بينهما دال على كمال آخر ، وهو أن عزته تعالى مقرونة بالحكمة ، فعزته لا تقتضي ظلما وجورا ، كما يفعل العزيز مع من كان مقهورا ، فإن العزيز منهم قد تأخذه العزة بالإثم فيظلم غيره ويجور .(5/14)
ونحن إذا تأملنا ختم الآيات بالأسماء والصفات ، وجدنا كلامه مختتما بذكر الصفة التي يقتضيها ذلك المقام ، والاسم الأعظم الذي يناسب هذه الأحكام ، حتى كأن الأسماء والأوصاف ذكرت دليلا عليها وعلة لذكرها ، كقوله تعالى : ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (المائدة:118) أي إن مغفرتك لهم صادرة عن عزة وكمال قدرة ، لا عن عجز أو جهل ، أو فقر أو ضعف ، وقوله : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الليْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيم ِ) (الأنعام:96) ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ) (يّس:38) يذكر ذلك بعد ذكره للأجرام العلوية ، والكواكب الدرية ، أنها صادر بحكمه عن عزته وعلمه ، وليس أمرا تلقائيا اتفاقيا دون تدبير ، ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ) (فصلت:12) فتزيين السماء بالنجوم وحراستها ، وتقديرها المحكم في صناعتها ، صادر عن عزته وعلمه ، وحكمته وأمره ، فكل شيء موجود إنما هو بفعل مقصود .(5/15)
ومن هذا أيضا ختام سبحانه قصص الأنبياء في آيات القرآن ، ففي سورة الشعراء تجد نهاية كل قصة : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الشعراء:9) ، ختمها باسمين مقترنين ، ليبين أن ما حكم به بين الرسل وأتباعهم وأهل الحق وأعدائهم صادر عن عزة ورحمة ، فوضع الرحمة في محلها لأوليائه ، وانتقم بعزته من أعدائه ، فكل شيء موجود إنما هو بفعل من الله مقصود ، وحكمة ملك الملوك ، فالأمر لم يأت من فراغ ، بل هي حكمة وبلاغ ، ( مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ) (المائدة:99) ( إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ ) (الأنبياء:106) وكما قال تعالى في سورة الدخان : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) ، وقال في سورة الرحمن : ( وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ ) (الرحمن:7) لتظهر أسماؤه وأحكامه ، ومنته وإكرامه ، فيلتزم العباد بتكليف الله لهم ، ويوحدوا الله في أعمالهم ، ( أَلا تَطْغَوْا فِي المِيزَانِ وَأَقِيمُوا الوَزْنَ بِالقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا المِيزَانَ ) (الرحمن:9) .(5/16)
وانظر أيضا إلى اقتران السميع بالعليم عند الاستعاذة من الشيطان الرجيم ، الذي نعلم وجوده ولا نراه ، وكذلك عند الاستعاذة من شياطين الإنس وما نراه ، كما ورد في قول الله : ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأعراف:200) وجاءت الاستعاذة من شر الإنس الذين يؤنسون ونراهم بالأبصار بلفظ السميع البصير ، فقال تعالى : ( إِنَّ الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (غافر:56) لأن أفعال هؤلاء مرئية تراها الأبصار ، وأما نزغ الشيطان فمحجوب عن الأنظار ، خطرات يلقيها في القلب ، ابتلاء للعبد من الرب ، فأمر بالاستعاذة من خلال الاستعانة بذكر اسمه السميع العليم .
انظر إلى اقتران اسمه الغني بالحليم : قال تعالى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيم ) (البقرة:263) ( البقرة : 263) ، وفيه الآية معنيان :
الأول : أن الله غني عنكم لن يستفيد شيئا من صدقاتكم ، وإنما الحظ الأوفر لكم أنتم ، فالصدقة فنفعها عائد عليكم ، فكيف تمنون بنفقاتكم على ربكم ، وتؤذون بها عباده مع غناه عنكم ، وعن كل ما سواه ، ومع هذا فهو حليم إذ لا يعاجل المنان منكم بالعقوبة ، وهذا وعيد ضمني ، وتحذير قوى لمن عاد في ذلك ، أما المعنى الثاني فالله سبحانه وتعالى مع غناه التام من كل وجه ، هو الموصوف بالحلم ، والتجاوز عن الذنب ، مع واسع عطائه وكمال نعمائه ، فكيف يؤذي أحدكم غيره بمنه وأذاه ، مع قلة ما يعطي مهما بلغ غناه .(5/17)
ابن القيم يذكر أن الموفقين عن الله عز وجل فهموا مراده وحكمته ، وانتهوا إلى ما وقفوا عليه مما ووصلت إليه أفهامهم وعلومهم ، وردوا علم ما غاب عنهم إلى أحكم الحاكمين ، ومن هو بكل شيء عليم ، وتحققوا بما علموه من حكمته ، أن الله عز وجل له في كل ما خلق وأمر ، وأثاب وعاقب ، له من الحكمة البالغة مالا تبلغه عقولهم ، وأنه تعالى هو الغنى الحميد ، العليم الحكيم ، فمصدر خلقه وأمره ، وثوابه وعقابه ، غناه وحمده ، وعلمه وحكمه ، ليس عن مشيئة مجردة ، وقدرة خالية عن الحكمة ، والمصلحة والرحمة ، فهو سبحانه لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ، وهم يسألون لبالغ حجته .
فكل اسم من أسماء الله تعالى يتضمن صفة من صفاته سبحانه وكل صفة من صفاته ، صفة كمال ، فإذا اقترنت صفة كمال بصفة كمال أخرى، نشأ عن ذلك كمال آخر غير الكمال الذي يدل عليه الاسم الواحد ، أو الصفة الواحدة ، فاقتران الصفات الإلهية ببعضها كمال عظيم ينشأ عنه خير كثير وفضل كبير يحتاجه كل عبد غني وفقير فاقتران الغنى بالكريم في قوله تعالى : ( فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) فيه من معاني الكمال ما فيه فليس كل غني كريما وليس كل كريم غنيا ، ولن يكتسي الغني بالجمال إذا كان الغني بخيلا ، ولن يكتسي الكريم بالكمال إذا كان الكريم فقيرا وليس هناك من غني كريم ، غناه تام وكرمه تام ، إلا رب العزة والجلال .
( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (الأحزاب:56) فاللهم صلى وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد أفضل صلاة وأكمل سلام ، وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(5/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة السابعة
حصر الأسماء الحسني
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) .
حديثنا اليوم يتناول موضوعا من أهم الموضوعات في حصر الأسماء الحسنى وكيفية جمعها من القرآن والسنة ، لأن هذا الموضوع الناس فيه بين طرفين ووسط .
فريق تساهل وتوسع في عد الأسماء الحسنى حتى سمي الله بما لم يسم به نفسه ، وفريق ضيق على نفسه وجعل الأسماء فارغة عن الأوصاف كالمعتزلة ، بل هناك من لم يثبت لله اسما ولا صفة .
مع أن المتفق عليه بين السلف أن أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها ، ويجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد فيها ولا ينقص ، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص لقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا ) (الإسراء:36) فتسمية الله بما لم يسم به نفسه قول عليه بلا علم فيكون محرما.(6/1)
وقوله : ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (الأعراف:33) ولأن تسميته تعالى بما لم يسم به نفسه أو إنكار ما سمي به نفسه جناية في حقه تعالى ، فوجب سلوك الأدب في ذلك والاقتصار على ما جاء به النص .
فأسماء الله توقيفية وليست اصطلاحية ، يجوز أن يقال : يا عليم ولا يجوز أن يقال : يا عاقل ، ويجوز أن يقال : يا حكيم ولا يجوز أن يقال يا مهندس ، وقد جاء في الأسماء الرحيم ولا يقاس عليه الرقيق ، والحليم والصبور لا يجوز أن يقاس عليها الوقور والرزين ، وفي أسمائه العليم ومن صفته العلم ، فلا يجوز قياسه أن يسمى عارفا .
وأهل العلم متفقون على إطلاق الأسماء والصفات على الله بإذن شرعي ودليل نصي ، فأسماء الله توقيفية وهذا هو مذهب أهل السنة كما سبق ، وقد ثبت في السنة من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ أن رَسُولَ اللّهِ قال : ( لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك ) ، والتسمية من الثناء فدل على أن العقل لا مجال له في باب الأسماء إلا التصديق والوقوف عند النصوص ، ومن الأدلة أيضا أنه لا يجوز تسمية النبي صلى الله وسلم بما ليس من أسمائه فالخالق أولى .(6/2)
وتقول المعتزلة إن أسماء الله ليست توقيفية أي يجوز أن يسمى الله بكل اسم إذا كان متصفا بمعناه ولم يوهم نقصا وإن لم يرد دليل من الكتاب والسنة ، وقد جرت مناظرة بين أبي الحسن الأشعري وشيخه أبي علي الجبائي في دخل رجل على الجبائي ، فقال له : هل يجوز أن يسمى الله تعالي عاقلا ، فقال الجبائي : لا لأن العقل مشتق من العقال ، وهو المانع ، والمنع في حق الله محال ، فامتنع الإطلاق ، فقال أبو الحسن الأشعري : فقلت له : فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه : فنحكم بالقوافي من هجانا : ونضربُ حين تختلط الدماء ، وقول الآخر : أبني حنفية حكموا سفهاءكم ، إني أخاف عليكمو أن أغضبا ، أي نمنع بالقوافي من هجانا ، وامنعوا سفهاءكم .
فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع ، والمنع على الله محال ، لزمك أن تمنع إطلاق حكيم على الله سبحانه وتعالى ، قال : فلم يجب الجبائي إلا أنه قال لي : فلم منعت أنت أن يسمى الله سبحانه عاقلا وأجزت أن يسمى حكيما ؟ قال : فقلت له : لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه ولو أطلقه الشرع لأطلقته .(6/3)
قال ابن حزم : ( ولا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد ، وحتى وإن كان المعنى صحيحا فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ ، وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل بنى السماء قال تعالى : (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) (الذريات:47) ولا يجوز أن يسمى بناء وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان وأنه تعالى قال : (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:138) ولا يجوز أن يسمى صباغا وهكذا كل شيء لم يسم به نفسه ) .
وقد ذكر ه ابن القيم في ملخص ذلك أن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق عليه من الإخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كالشيء الموجود والقائم بنفسه ، فهذا فصل الخطاب في مسألة أسمائه هل هي توقيفية أو يجوز أن يطلق عليه بعض ما لم يرد به السمع .(6/4)
وينبغي أن يعلم أيضا أن أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين ، لأنه ثبت من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ ، إِذَا أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ حُزْن ٌ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ، أَنْ تَجْعَلَ القُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ بَصَرِي ، وَجِلاَءَ حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ، إِلا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَ حُزْنِهِ فَرَحاً . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ هذِهِ الْكَلِمَاتِ ؟ قَالَ : أَجَلْ ، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهنَّ ) وهو حديث صحيح رواه أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك .
والشاهد قوله أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ وما استأثر الله تعالى به في علم الغيب لا يمكن أحدا حصره ولا الإحاطة به ، وهذا هو الحق وهو مذهب الجمهور بل حكى النووي الاتفاق عليه ، قال الخطابي عند ذكره لهذا الحديث : ( فهذا يدلك على أن لله أسماء لم ينزلها في كتابه حجبها عن خلقه ولم يظهرها لهم ، وقال الإمام ابن القيم في شفاء العليل : ( الحديث دليل على أن أسماء الله أكثر من تسعة وتسعين ، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره ) .(6/5)
وأما الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ( إنَّ للهِ تِسعةً وتِسْعينَ اسماً ، مائةً إلا واحدة ، مَن أحصاها دَخَلَ الجنَّة ) فلا يدل على حصر الأسماء بهذا العدد ، ولو كان المراد الحصر لكانت العبارة : إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة أو نحو ذلك ، فمعنى الحديث إذا أن هذا العدد من شأنه أن من أحصاه دخل الجنة ، ونظير هذا أن تقول : عندي مئة درهم أعددتها للصدقة فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة .
وقال النووي في شرح مسلم ( اتفق العلماء على أن هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه سبحانه وتعالى ، فليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين ، وإنما مقصود الحديث أن هذه التسعة والتسعين من أحصاها دخل الجنة ، فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء ) .
أما معنى إحصاء الأسماء أو المراد بقوله من أحصاها فقد اختلف الأئمة فيه على أقوال منها أن المراد بالإحصاء هو حفظها وعدها كقوله تعالى ( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (الجن:28) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (المجادلة:6)(6/6)
وهذا القول عليه أغلب العلماء ، وقال ابن حجر : ظاهر كلام البخاري والأكثرين حصول الجزاء المذكور في الخبر بمجرد حفظها ، وفضل الله أوسع من ذلك ، وقيل المراد بالإحصاء الإطاقة كقوله تعالى : ( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) (المزمل:20) والمعنى : من أطاق القيام بحق هذه الأسماء ، والعمل بمقتضاها ، وهو أن يعتبر معانيها ، فيلزم نفسه بواجباتها ، فإذا قال : الرزاق ، وثق بالرزق ، وكذا سائر الأسماء ، وقيل المراد بالإحصاء الإحاطة بمعانيها ، من قول العرب : فلان ذو حصاة ، أي ذو عقل أو معرفة ، وقال ابن عطية في تفسيره : معنى أحصاها : عدها وحفظها ، ويتضمن ذلك الإيمان بها ، والتعظيم لها ، والرغبة فيها ، والاعتبار بمعانيها .(6/7)
وقد ذكر ابن القيم أن الإحصاء على ثلاث مراتب هي : أولها احصاء ألفاظها وعددها ، وثانيها فهم معانيها ومدلولها دعاؤه ، وثالثها التعبد لله بمقتضاها ولذلك وجهان : الوجه الأول : أن تدعو الله بها دعاء مسألة لقوله تعالى ( فادعوه بها ) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك ، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك ، تقدم بين يدي مطلوبك من أسماء الله تعالى ما يكون مناسبا لحالك ، كأن تقول في حال ذنبك يا غفور اغفر لي ويا رحيم ارحمني وفي حال فقرك يا رزاق ارزقني ويا غني اغننى بفضلك عمن سواك ، وفي حال ضعفك يا قوى قوني وفي حال جهلك تقول يا عليم علمني إلى غير ذلك مما يتطلب فقها في الدعاء ، والوجه الثاني : أن تدعوه دعاء عبادة وهو أن تتعبد الله تعالى بمقتضى هذه الأسماء ، فتظهر بمظهر الفقر لعلمك أن الغني هو الله ، وتظهر بمظهر الضعف لعلمك أن القوى هو الله ، وتظهر بمظهر الافتقار والتواضع لعلمك أن العظيم العزيز هو الله ، هذا هو معنى أحصاها ، فإذا كان كذلك فهو جدير لأن يكون إحصاؤها ثمنا لدخول الجنة .
واعلموا أنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم تعيين الأسماء الحسني ، والحديث المروي عنه في تعيينها ضعيف ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى : ( فتعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه ) ولما لم يصح تعيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم اختلف السلف فيه ، فمن حاول تصحيح هذا الحديث : قال إن هذا أمر عظيم لأنها توصل إلى الجنة فلا يفوت على الصحابة أن يسألوه صلى الله عليه وسلم عن تعيينها ، فدل هذا على أنها قد عينت من قبله صلى الله عليه وسلم .(6/8)
وقد ذكر الحافظ بن حجر في الفتح أنه لم يقع سرد الأسماء إلا في ثلاثة طرق ، الأول من طريق عبد العزيز بن الحصين عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة ، وعدد تسعة وتسعين اسما .
والطريق الثاني وهو طريق عبد الملك بن محمد الصنعاني عن أبي المنذر زهير التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج عن أبي هريرة وعدد تسعة وتسعين اسما .
والطريق الثالث هو طريق الوليد بن مسلم قال : أخبرنا شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله تسعة وتسعين اسما ، مائة غير واحدة ، من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو ، الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، وعدد تسعة وتسعين اسما .
قال ابن كثير في تفسيره : ( والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه ) .
لو كان كذلك لكانت هذه الأسماء التسعة والتسعين معلومة أشد من علم الشمس ولنقلت في الصحيحين وغيرهما ، لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ، وتتعلق النفوس بحفظه ، فكيف لا يأتي إلا عن طرق واهية وعلى صور مختلفة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبينها لحكمة بالغة وهي أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يتبين الحريص من غير الحريص .
والرواية التي أوردها الحاكم في المستدرك قال عنها : حديث قد خرجاه في الصحيحين دون ذكر الأسامي فيه ، والعلة فيه عندهما أن الوليد بن مسلم تفرد بسياقته وقد ذكر الحافظ ابن حجر أن العلة ليست تفرد الوليد فقط .
أما الرواية التي أوردها الترمذي فقال عنها : هذا حديث غريب وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث .(6/9)
والناس في معرفة ضابط الأسماء الحسنى لهم عدة مناهج : المنهج الأول : الاعتماد على العد الوارد في روايات حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وبالأخص طريق الوليد بن مسلم ، عند الترمذي وغيره ، وذلك لاعتقادهم بصحة حديث الأسماء وتعدادها ، المنهج الثاني : الاقتصار على ما ورد من الأسماء بصورة الاسم فقط وهذا منهج ابن حزم في عد الأسماء ، قال عنه ابن حجر ( فإنه - أي ابن حزم - اقتصر على ما ورد فيه بصورة الاسم لا ما يؤخذ من الاشتقاق كالباقي من قوله : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) (الرحمن:27) .
المنهج الثالث : منهج المتوسعين الذين اشتقوا من كل صفة وفعل اسما ولم يفرقوا بين البابين أي باب الأسماء وباب الصفات بل إنهم يدخلون ما يتعلق بباب الإخبار أحيانا ، أما المنهج الرابع فهو منهج المتوسطين الذين يتوسطون بين أصحاب المنهج الثاني والمنهج الثالث فلا هم الذين حجروا تحجير ابن حزم ولا هم الذين توسعوا حسب رؤيتهم .
وهذا المنهج هو الأشهر والأكثر تطبيقا عند أهل العلم ، فهم حافظوا على خاصية هذا الباب وبالتالي جعلوا شروطا لاشتقاق الاسم من الصفة وهذه الشروط دلت عليها النصوص .(6/10)
ولعل أنسب تعريف للأسماء الحسنى هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيها : ( الأسماء الحسنى المعروفة : هي التي يدعى الله بها ، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة ، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) وهذا التعريف هو أصلح وأفضل تعريف للأسماء الحسنى وذلك لموافقته للنص الشرعي ، ولعل شيخ الإسلام ابن تيمية استقاه من قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) ، فقوله في التعريف : ( هي التي يدعى بها ) مأخوذ من قوله تعالى : ( فادعوه بها ) [ الأعراف : 180] وقوله : ( هي التي وردت في الكتاب والسنة ) مأخوذ من قوله : ( الأسماء ) ( فالألف واللام هنا للعهد ، فالأسماء بذلك تكون معهودة ولا معروف في ذلك إلا ما نص الله عليه في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقوله ( وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) مأخوذ من قوله تعالى : ( الحسنى ) فالحسنى تأنيث الأحسن ، والمعنى أن أسماء الله أحسن الأسماء وأكملها ، ( فما كان مسماه منقسما إلى كمال ونقص وخير وشر لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى ) وبهذا يتضح لك أن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف الأسماء الحسنى هو مطابق لما ذكره الله في كتابه العزيز .(6/11)
والاسم يتميز عن الفعل والحرف بخمس علامات جمعها بن مالك في قوله : بالجر والتنوين والندا وأل - ومسند للاسم تمييز حصل ، فالعلامة الأولي الجر كقوله : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) ( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (فصلت:2) (الفرقان:58) ، والعلامة الثانية التنوين كقوله : ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (:15) ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) ، العلامة الثالثة النداء كما ثبت عن النبي بإسناد صحيح أنه كان يقول في دعائه يا حي يا قيوم ، العلامة الرابعة : أل المعرفة كقوله تعالى : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (الأعلى:1) ( تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) (يس:5) العلامة الخامسة : الإسناد إليه بأن يسند إليهما تتم به الفائدة سواء أكان المسند فعلا أم اسما أم جملة ، وهذه من أبرز العلامات في التمييز بين الاسم والصفة ، ( وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) ومع العلامات السابقة للإسم أن يكون الاسم في إطلاقه مقتضيا للمدح والثناء بنفسه ، فان من شرط إطلاق الاسم من الصفة أن تكون الصفة في حال إطلاقها غير منقسمة إلى كمال ونقص أو جامدة .
هل الدهر من أسماء الله ؟ الدهر ليس من أسماء الله سبحانه وتعالى ، ومن زعم ذلك فقد أخطأ وذلك لسببين :
السبب الأول : أن أسماءه سبحانه وتعالى حسنى ، أي بالغة في الحسن أكمله ، فلابد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة ، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسما جامدا والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات(6/12)
السبب الثاني : أن سياق الحديث يأبى ذلك ، لأنه قال: " أقلب الليل والنهار " والليل والنهار هما الدهر فكيف يمكن أن يكون المقلب بفتح اللام - هو المقلب - بكسر اللام - ؟!
قال تعالى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180) والإلحاد في أسماء الله تعالى هو الميل بها عما يجب فيها وهو أنواع :
الأول : أن ينكر شيئا منها أو مما دلت عليه من الصفات والأحكام كما فعل أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم .
و الثاني : أن يجعلها دالة على صفات تشابه صفات المخلوقين كما فعل أهل التشبيه وذلك لأن التشبيه معنى باطل لا يمكن أن تدل عليه النصوص بل هي دالة على بطلانه فجعلها دالة عليه ميل بها عما يجب فيها .
الثالث : أن يسمى الله تعالى بما لم يسم به نفسه كتسمية النصارى له : ( الأب ) وتسمية الفلاسفة إياه : ( العلة الفاعلة ) وذلك لأن أسماء الله تعالى توقيفية فتسمية الله تعالى بما لم يسم به نفسه ميل بها عما يجب فيها .
الرابع : أن يشتق من أسمائه أسماء للأصنام كما فعل المشركون في اشتقاق العزى من العزيز واشتقاق اللات من الإله فسموا بها أصنامهم وذلك لأن أسماء الله تعالى مختصة به لقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180) وقوله : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (طه:8) ، فكما اختص بالعبادة وبالألوهية فهو مختص بالأسماء الحسنى فتسمية غيره بها على الوجه الذي يختص بالله عز وجل ميل بها عما يجب فيها ، ومنه ما يكون شركا أو كفرا حسبما تقتضيه الأدلة الشرعية .(6/13)
يقول تعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) .
نلتقي معكم بإذن الله في ذكر أسماء الله والحديث عنها مفصلة وإسما إسما ، عصمنا الله وإياكم من الزلل ، وجمعنا وإياكم على خير الملل ، ملة التوحيد والإسلام ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(6/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج السلف في فهم الأسماء الحسنى
المحاضرة السادسة
دلالة الأسماء على الصفات
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، الذي لا فوز إلا في طاعته ، ولا عز إلا بالخضوع لعظمته ، ولا حياة إلا في حبه وطاعته ، ولا نعيم إلا في قربه وجنته ، ولا صلاح للقلب إلا بإخلاص نيته ، إله عظيم كريم ، عزيز رحيم ، إذا أطيع أثاب وشكر ، وإذا عصي تاب وغفر .(7/1)
لا إله إلا الله ، هو الواحد الأحد ، لا شريك له في ألوهيته ، ولا شريك له في ربوبيته ، ولا شبيه له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَل لكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجا يَذْرَأُكُمْ فِيهِ ليْسَ كَمِثْلهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى:11) ( للذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَللهِ المَثَلُ الأَعْلى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (النحل:60) . ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لعِبَادَتِهِ هَل تَعْلمُ لهُ سَمِيّا ) (مريم:65) سبحان من سبحت له السماوات وأملاكها ، والنجوم وأفلاكها ، والأرض وسكانها ، والنجوم والجبال ، والآكام والرمال ، ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) (الرعد:13) ( تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليما غَفُورا ) (الإسراء:44) ، ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ) (الأحزاب:56) فاللهم صلي وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين ، سيدنا محمد وعلي آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين ، أما بعد . .
فحديثنا اليوم يدور حول دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته ، هذا الموضوع من أهم الموضوعات في باب الأسماء والصفات ، لأنه يعرفنا بمنهج السلف الصالح في فهم هذا الباب وغيره من الأبواب ، كما أنه يعرفنا بخطأ المنحرفين وكيف دخلت عليه شبه الشياطين .(7/2)
دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وباللزوم ، الاسم يدل على الذات والصفة معا بدلالة المطابقة ، ويدل على ذات الله وحدها بدلالة التضمن ويدل على الصفة وحدها بدلالة التضمن أيضا ، وقد يدل على أوصاف أخرى بدلالة اللزوم .
قد يسأل سائل ويقول : أريد أن أعرف المقصود أولا بدلالة المطابقة ودلالة التضمن ودلالة اللزوم ، دلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على ما وضع له ، أو وهي دلالة اللفظ على المعني الذي وضع له ، مثل دلالة لفظ البيت على مجموع الجداران والسقف والأبواب والنوافذ .
فالاسم يطلق على الشيء لتميزه عن شيء آخر ، وكل اسم أو لفظ ينطبق في دلالته على شيء اتفق العقلاء عليه اصطلاحا في كل لغة ولسان ، فالألفاظ المنطوقة أو المكتوبة لها مدلولات معينة يعيها القلب ويدرك معناها ، ولغة الخطاب على اختلاف الألسن في بني آدم مكونة من ألفاظ أو كلمات ، أو جمل أو أسماء لها في الواقع مدلولات ، فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على ما وضع له ، كلفظ المسجد فإنه يدل على شيء معين جعل للصلاة والجماعة والجمع ، فلوا أراد إنسان أن يذهب إلى المسجد ، فإنه لا يذهب إلى السوق لعلمه أن المسجد لفظ يدل على مكان للعبادة ، وأن لفظ السوق يدل على مكان وضع للبيع والشراء ، ومثال ذلك أيضا لو قال المشتري للبائع : أعطني تفاحا ، فإن البائع يعطيه شيئا معينا يطلق عليه لفظ التفاح بين الناس .
وليس إذا قال له أعطني تفاحا أعطاه برتقالا ، لأن الله فطر العقلاء على أن يتعلموا الأسماء وما تنطبق عليه من مدلولات في واقعهم ، فالمشتري والبائع يعلمان أن لفظ التفاح يدل على شيء معين غير الذي يدل عليه لفظ البرتقال ، لكن لو قلت للبائع أعطني خيارا فأعطاك برتقالا ، فذلك إما لأنه لم يسمع أو لأنه لم يعقل .(7/3)
وإذا قيل : محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فإن الذهن يعلم أن ذلك ينطبق على خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أرسله الله بالقرآن الكريم ، وينصرف إليه ولا ينصرف الذهن إلى عيسي أو موسي أو غيرهم من الأنبياء عليهم السلام ، لأن كل لفظ أو اسم ينطبق على شيء معين دون غيره .
وإذا قيل : الخالق هو الله ، فإن الذهن يفهم من دلالة الاسم أنه ينطبق على ذات الله تعالى المتصفة بصفة الخلق ولا ينصرف إلى ذات أخر إلا عند من فسد إدراكهم وخالفوا الفطرة وقالوا إن الطبيعة هي الخالقة ، كمثل ماركس ولينين وغيرهما من الشيوعيين والدهريين .(7/4)
والذهن لا ينصرف أيضا عند النطق بلفظ الخالق إلى صفة أخري غير صفة الخلق ، فلا ينصرف إلى صفة الرزق أو القوة أو العزة أو الحكمة أو غير ذلك من الصفات ، لأن صفة الخلق تدل على شيء غير الذي تدل عليه صفة الرزق وصفة القوة يفهم منها شيء غير الذي يفهم العزة أو الحكمة إلا عند المعتزلة حيث فسد إدراكهم في فهم دلالة اللفظ على معناه ، فقالوا بأن أسماء الله الحسني التي تعرف الله بها إلى العباد في الكتاب والسنة لا تدل بالمطابقة إلا على ذات الله فقط ولا تدل على شيء من الصفات أبدا ، فعندهم اسم الله السميع يدل على ذات الله فقط ولا معنى لاسمه السميع ، فمعني السميع هو معني الرزاق ، وهو معني الحي إلى غير ذلك من أسمائه الحسني التي أمر عباده بأن يدعوه بها ذاتا وصفة كما قال سبحانه : ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (الإسراء:110) كلها تدل على مسمى واحد ، وهي أيضا أوصاف لقوله تعالى : ( وَلِلهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) فالله عز وجل من أسمائه الحسنى الغفور الرحيم ، والغفور علم علي ذاته ، وكذلك الرحيم كما جاء في قوله تعالى : ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس:107) وقوله ( قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يوسف:98) ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) فكل هذه الآيات تدل على اسمه الغفور الرحيم ، وقد تحدثنا عن ذلك في محاضرة سابقة بينا فيها أن أسماء الله أعلام وأوصاف .(7/5)
لكن معني قولهم بإثبات الأسماء ونفي الصفات أنهم آمنوا بوجود ذات الله فقط بلا أي صفة لها ، وجعلوا أسماء اللَّه الدالة عليه أسماء فارغة من الأوصاف بلا مسمي ، فقالوا : هو العليم لكن لا يتصف بصفة العلم ، ولتبسيط فكرتهم نقول : فلان اسمه سعيد ، لكن لو بحثت عن صفة السعادة فيه ، فربما يكون سعيدا أو شقيا ، فإن كانت الأولي قلنا : سعيد اسم على مسمي ، وذاته متصفة بصفة السعادة ، وإن كانت الثانية قلنا : سعيد اسم فارغ من المسمي وذات بلا صفة لأنه شقي .
فأسماء اللَّه عند السلف أسماء على مسمي ، فهو الغني الذي يتصف بالغني لا الفقر ، وهو القوي الذي يتصف بصفة القوة لا الضعف ، وهو السميع يتصف بصفة السمع تعالي اللَّه عن ضدها ، وهكذا في سائر الأسماء والصفات ، ولهذا كانت أسماؤه حسني وعظمي ، ولا تكون حسني وعظمي بغير ذلك ، وهذا المذهب الاعتزالي الخبيث يترتب عليه أن قوله تعالي : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَي فَادْعُوهُ بِهَا ) ، لا قيمة له عندهم ، وكذلك تعداد الأسماء الحسني في قوله صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ ) ، لأن تعداد الأسماء الحسني أو الدعاء بها مبني على إثبات الصفات .
وأي نقص في حق اللَّه أعظم من أن يكون اللَّه عز وجل لا صفة له عند المعتزلة ، تعالي اللَّه عن قولهم علوا كبيرا ، إن الواحد منا لا يقبل هذا على نفسه ، فلو قال لك قائل : أنت لا صفة لك عندي ، لا بد أن تغضب لأن الفطرة مجبولة على إثبات الأوصاف الحميدة ، فمن العجب أنهم يثبتون لأنفسهم أجود الأوصاف ، وينفون عن الله الذي ليس كمثله شيء سائر أوصاف .(7/6)
والله عز وجل لما علم آدم الأسماء فقال : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) علمه الأسماء كألفاظ تدل بالمطابقة على تمييز الأشياء والعلم بخصائصها ، والتعرف على حقائقها ، ذاتا وصفة ، تضمنا والتزاما ، وليس الذي تعلمه آدم كما يفهم البعض هو مجرد ألفاظ أو كلمات يستعملها أبناؤه ، بل إن آدم تعلم الشيء واسمه وخاصيته وأنواع دلالته مطابقة وتضمنا والتزاما ، فالذي عرضه الله سبحانه على الملائكة أعيان الأشياء بذواتها وصفاتها وليست معاني أو كلمات لا مدلول لها ولا حقيقة ، إنما علم الله آدم الشيء المادي المحسوس الذي يحمل الاسم المعين ، وكذلك تأثير كل شيء في غيره ، بدليل قوله تعالى بعد ذلك : ( ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ) (البقرة:32) .
فقوله تعالى : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) يعني أن آدم تعلم في ذهنه ووعي في قلبه كل ما يمكن أن يتعامل معه مما أستخدمه أو سيستخدمه الإنسان على الأرض ، وكل ما تضمنته نواميس العلوم من مصطلحات وتعريفات وكل ما سيحدث من اختراعات واكتشافات إلى يوم الدين ، والعلم المادي ليس سوي مجموعة من المصطلحات التي تدل بأنواع الدلالات على معرفة خصائص العناصر والأشياء وتأثير بعضها في بعض ومعرفة الأسباب وما تنتجه من مسببات أو معرفة العلل وما تنتجه من معلولات .(7/7)
فقوله : ( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ) يعني علمه معرفة الأسماء وحدود الأشياء والعلم بخصائصها ، والإنسان منا يكتسب هذا العلم تلقائيا في حياته إلى يوم وفاته ، ولذلك فإن الله من عدله وحكمته ومن فضله ورحمته أنه لا يكلف إنسانا في طفولته ، لأنه لم يصل إلى معرفة الأسماء بلدلالاتها ، كما ورد عند الترمذي وصححه الشيخ الألباني أن النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ قال : ( رُفِعَ القَلمُ عَنْ ثَلاثَةٍ عَنِ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حتى يَشِبَّ وَعَنِ المَعْتُوهِ حتى يَعْقِل ، وفي رواية رُفِعَ القَلمُ عَنْ الغُلامِ حتى يَحْتَلمَ ) ، فالطفل يتعلم ذلك شيئا فشيئا ، فيقال له : هذه هرة وهذه جرة وهذه بقرة وهذه شجرة إلى غير ذلك من الأسماء ، ثم يبين له لماذا فعلنا هذا ؟ ، وهذا يصلح لهذا ، وهذا لا يصلح لذاك ، حتى يصل عند البلوغ إلى حصيلة من الأسماء بدلالاتها تكفي لتكليفة بالأحكام الشرعية ، وإدراك معنى العبودية ، والغاية من هذه الحياة ، وكيف يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا ؟(7/8)
فالعلم الذي يحصله الإنسان في سنوات علمه الله لآدم عليه السلام في لحظات فتعلم الأسماء وخصائص الأشياء مرة واحدة ونزلت المعلومات بقدرة الله على قلبه دفعة واحدة ، فقال تعالى : ( وَعَلمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلهَا ) وكذلك فعل الله بعيسي عليه السلام بعد نزوله من بطن أمه وبعد ادعاء قومه أنه ولد من الزنى تجمعت الكلمات بقدرة الله في لحظات وأدركها عيسي عليه السلام بعقله واستوعبها بقلبه حتى اجتمع البيان لديه ونزلت حكمة الله عليه ، فلما أشارت أمه إليه ( قَالُوا كَيْفَ نُكَلمُ مَنْ كَانَ فِي المَهْدِ صَبِيًّا قَال إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِي الكِتَابَ وَجَعَلنِي نَبِيًّا وَجَعَلنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالدَتِي وَلمْ يَجْعَلنِي جَبَّارًا شَقِيًّا وَالسَّلامُ على يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) فسبحان الله هذا طفل صغير نطق بهذه الكلمات وتعرف على كل هذه المعلومات ، وفهم لوازم العبارات : ( إِنَّ مَثَل عِيسَي عِنْدَ اللهِ كَمَثَل آدَمَ خَلقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .(7/9)
فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على ما وضع له كدلالة لفظ البيت على مجموع الجداران والسقف والأبواب والنوافذ ، وكدلالة لفظ الشجرة على ذاتها وكل محتوياتها مجتمعة ، أما دلالة التضمن فهي دلالة اللفظ على بعض ما وضع له وتضمنه ، ومثال ذلك دلالة لفظ الشجرة على الأوراق ، فإن الشجرة تضمنت الأوراق وغيرها ، فالذهن يتصور الأوراق وبقية الأجزاء مباشرة عند النطق بلفظ الشجرة ، فيتصور بدلالة التضمن فروعها وخشبها وثمارها وجميع ما حوت من أجزاء ، وكدلالة لفظ المدرسة على التلاميذ أو المدرسين فإن الذهن يتصور مباشرة أن لفظ المدرسة ينطق على عدة أشياء يطلق عليها مجتمعه لفظ المدرسة ، وكدلالة لفظ الصلاة على الركوع والسجود وقراءة الفاتحة وغير ذلك مما تضمنته الصلاة ، فلفظ الصلاة يدل على كل جزء من أجزائها بالتضمن ، وكذلك بالنسبة لأسمائه تعالى فالأسماء تدل على الصفات بالتضمن ، فاسم الله العزيز يدل على صفة العزة وحدها بالتضمن كما يدل أيضا على ذات الله وحدها بالتضمن ويدل على ذات الله وعلي صفة العزة معا بالمطابقة .(7/10)
فلو قلنا ما دلالة الشجرة على أوراقها ؟ الشجرة على الثمرة ؟ الشجرة على فروعها ؟ الساعة على عقاربها ؟ الساعة على ذاتها وصفاتها ؟ الساعة على كل محتوياتها ؟ دلالة اسم الله السميع على صفة السمع ؟ دلالة اسم الله السميع على ذات الله ؟ دلالة اسم الله السميع على ذات الله وصفة السمع ؟ دلالة السقف على كل محتوياته ؟ على بعض محتوياته ؟ على الأعمدة ؟ دلالة الساعة على مصنعها ، دلالة الثمرة على الشجرة ، دلالة لزوم ، فما هي دلالة اللزوم ؟ دلالة اللزوم هي دلالة الشيء على سببه ، كدلالة البعرة على البعير والأثر على المسير ، وكدلالة الحمل على الزواج أو الزنى ، إلا في بعض الخوارق ولذلك لما جاء الملك مريم : ( قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ) فدلالة السقف على الأعمدة دلالة لزوم ، لأن العاقل يعلم أن السقف لا يوجد إلا بعد وجود الحائط أو الأعمدة ، فالذهن لا يتصور السقف إلا مرفوعا ، هذه سنن عقلية بين البشر ولا تطبق على رب البشر : ( اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) (الرعد:2) ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (لقمان:10) فلفظ السقف دلنا على الأعمدة باللزوم مع ملاحظة أن الأعمدة ليست مما دل عليه لفظ السقف بالمطابقة أو بالتضمن ، فدلالة اللزوم هي دلالة الشيء على سببه ، أما دلالة الشيء على نتيجته فتسمي دلالة التزام ، كدلال الغيوم على اقتراب المطر ، وكدلالة الفعل على رد الفعل ، فلكل فعل رد فعل بالالتزام ، وكل رد فعل ناشئ عن فعل(7/11)
باللزوم .
وكما أن الأسماء الحسني تدل على الصفات بالتضمن ، فإنها أيضا تدل على الصفات باللزوم كدلالة اسم الله الخالق على صفة العلم والقدرة فاسم الله الخالق يدل على ذات الله وصفة الخالق بالمطابقة ، ولكن العلم والقدرة من لوازم صفة الخلق ، فالعاجز والجاهل لا يخلق ولذلك لما ذكر الله خلق السماوات والأرض عقب بذكر ما دل عليه الخلق باللزوم فذكر القدرة والعلم ، قال سبحانه وتعالى : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) (الطلاق:12) .
وأغلب البلاء الذي يلحق بالناس سببه الغفلة عن لازم الأقوال والأفعال ، ولذلك ثبت عند البخاري من حديث أبي هريرةَ أن رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ( إنَّ العبدَ ليَتكلمُ بالكلمةِ ما يَتبَينُ فيها ، يَزلُّ بها في النار أبعدَ مما بينَ المشرق ) وعند البخاري في رواية أخري : ( إنَّ العبدَ ليتكلمُ بالكلمة من رِضوانِ اللهِ لا يُلقي لها بالاً يرفَعُه اللهُ بها درجات ، وإن العبدَ ليتكلمَ بالكلمة من سَخَط اللّه لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم ) .
وأخذ الحجاج أعرابيا لصا بالمدينة فأمر بضربه فلما قرعه بسوط قال يا رب شكرا حتى ضربه سبعمائة سوط فلقيه أشعب فقال له تدرى لم ضربك الحجاج سبعمائة سوط قال لا لماذا قال لكثرة شكرك : إن الله تعالى يقول : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم:7) قال : وهذا في القرآن قال : نعم ، فقال الأعرابي : يا رب لا شكرا فلا تزدن ، أسأت في شكري فاعف عنى ، باعد ثواب الشاكرين منى ، ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (إبراهيم:7) .(7/12)
وخرج أعرابي إلى الحج مع أصحاب له فلما كان في طريق العودة إلى أهله لقيه ابن عم له أو بعض أقربائه فسأله عن أهله ومنزله ، فقال : لما خرجت إلى الحج بعد ثلاثة أيام وقع في بيتك حريق أهلك أهلك ومنزلك ، فرفع الأعرابي يديه إلى السماء وقال : ما أحسن هذا يا رب تأمرنا بعمارة بيتك أنت وتخرب بيوتنا .
وخرجت أعرابية إلى الحج فلما كانت في بعض الطريق عطبت راحلتها ، فرفعت يديها إلى السماء وقالت : يا رب أخرجتني من بيتي إلى بيتك فلا بيتي ولا بيتك .
وسمع أعرابي إماما يقرأ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ، قرأها بفتح التاء ، فقال : ولا إن آمنوا أيضا لم ننكحهم فقيل له : إنه يلحن وليس هكذا يقرأ ؟ فقال أخروه قبحه الله لا تجعلوه إماما فإنه يحل ما حرم الله ، ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا َ) (البقرة:221) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 29/42) : ( لازم قول الإنسان نوعان : أحدهما : لازم قوله الحق فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه فإن لازم الحق حق ، والثاني : لازم قوله الذي ليس بحق فهذا لا يجب التزامه إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض ، وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين ) .
وخرج الحجاج متصيدا لأحوال الرعية ، فوقف على أعرابي يرعى إبلا له فقال له : يا أعرابي كيف رأيت سيرة أميركم الحجاج ؟ قال له الأعرابي : غشوم ظلوم لا حياة الله ؟ فقال : فلم لا تشكوه إلى أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان ؟ قال : عبد الملك بن مروان فأظلم وأغشم ، فأحاط به الجند واعتقلوه وأخبروه أن الذي كان معه هو الحجاج ، فقال الأعرابي : يا حجاج السر الذي بيني وبينك أحب أن يكون سرا مكتوما ، فضحك الحجاج وأمر بتخلية سبيله .(7/13)
فدلالة المطابقة هي دلالة اللفظ على ما وضع له ، ودلالة التضمن هي دلالة اللفظ على بعض ما وضع له ، ودلالة اللزوم هي دلالة الشيء على سببه ، فالسيارة الكلمة تدل على جميع أجزائها بدلالة المطابقة ويدل على العجلات فقط بالتضمن ويدل على البطارية وحدها بالتضمن ويدل على الذي صنعها بالالتزام ، فالعاقل يعلم أن لها صانعا ، ولفظ الدار أو البيت يدل على كل الدار بالمطابقة ، ودلالتها على الحمام وحده بالتضمن ، وعلى المجلس وحده بالتضمن ، وهكذا ، و دلالته على أن هناك شخصا بناه باللزوم .
وهنا نأتي إلى تلخيص القول في دلالة الأسماء على الصفات ، دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وباللزوم ، الاسم يدل على الذات والصفة بدلالة المطابقة ، ويدل على ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن وعلى أوصاف أخرى بدلالة اللزوم .
أما عند المعتزلة فالأسماء تدل على الذات بالمطابقة ولا تدل على أي صفة عندهم لأنهم لا يثبتون الصفات ، ومن هنا لا بد أن ننبه على ما ذكره الشيخ حافظ حكمى رحمه الله في معارج القبول حيث قال ما نصه : ( واعلم أن دلالة أسماء الله تعالى حق على حقيقتها مطابقة وتضمنا والتزاما ، فدلالة اسمه تعالي الرحمن على ذاته عز وجل مطابقة وعلى صفة الرحمة تضمنا وعلى الحياة وغيرها التزاما وهكذا سائر أسمائه تبارك وتعالى ) .(7/14)
فالرحمن يدل على الذات وعلى صفة الرحمن بالمطابقة ويدل على الذات وحدها بالتضمن وعلى صفة الرحمة وحدها بالتضمن ، ويدل على الحياة والعلم والقدرة التزاما لأنه لا توجد رحمة بدون حياة الراحم وعلمه وقدرته ، وهذا يطبق على جميع الأسماء الحسني ، السميع البصير العليم الحكيم العزيز العظيم ، جميع هذه الأسماء تدل على الذات وحدها بالتضمن وعلى الصفة وحدها بالتضمن ، وتدل على صفة الحياة باللزوم ، فالحي اسم من أسماء الله يدل على ذاته وعلى صفة الحياة معا ، ومن أجل حياته كملت بقية أسمائه وصفاته ، فلا يمكن لأحد أن يكون قديرا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون قويا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون عليا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون غنيا إلا إذا كان حيا ، فجميع أسماء الله تدل على صفة الحياة التي تضمنها اسمه الحي ، وقد تحدثا عن ذلك تفصيلا .
يقول ابن القيم في النونية :
ودلالة الأسماء أنواع ثلاث كلها معلومة ببيان - دلت مطابقة كذاك تضمنا وكذا التزاما واضح البرهان
أما مطابقة الدلالة فهي أن الاسم يفهم منه مفهومان - ذات الإله وذلك الوصف الذي يشتق منه الاسم بالميزان
لكن دلالته على إحداهما بتضمن فافهمه فهم بيان - وكذا دلالته على الصفة التي ما اشتق منها فالتزام دان
وإذا أردت لذا مثالا بينا فمثال ذلك لفظة الرحمن - ذات الإله ورحمة مدلولها فهما لهذا اللفظ مدلولان
إحداهما بعض لِذا الموضوعِ فهي تضمن ذا واضح التبيان - لكن وصف الحي لازم ذلك المعنى لزوم العلم للرحمن
فلذا دلالته عليه بالتزام بين والحق ذو تبيان
فالرحمن دل على الصفة المشتق منها وعلى ذات الرب سبحانه بالمطابقة لكن دلالته على أحداهما بالتضمن وأما دلالتها على الصفة التي لم يشتق منها اللفظ كالحياة والعلم فهي بالالتزام ، نكتفي بهذا القدر وإلى لقاء آخر بإذن الله ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(7/15)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة الأولى
الرب الإله الواحد الأحد
الحمد لله الذي تفرد بأسمائه وصفاته ، فلا شبيه له ولا نظير ، ولا ند ولا مثيل ، قال لعبده المصطفي صلى الله عليه وسلم : ( طه مَا أَنزَلنَا عَليْكَ القُرْآنَ لتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلى الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالقَوْل فَإِنَّهُ يَعْلمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الأَسْمَاء الحُسْنَى ) ( هُوَ اللهُ الخَالقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (الحشر:24) .
ونصلي ونسلم على سيد الأنبياء والمرسلين ، المبعوث رحمة للعالمين ، والذي قال عنه رب العالمين : ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ً) (الأحزاب:56) فصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين ، أما بعد .(8/1)
فقد ثبت عن نبينا أنه قال : ( إنَّ للهِ تِسعةً وتِسْعينَ اسماً ، مائةً إلا واحدة ، مَن أحصاها دَخَل الجنَّة ) ومن هذا الباب نحاول طمعا في الأجر والثواب أن نحصي أسماء الله عز وجل على حسب توفيق الله وتيسيره ، وهدايته في الوصول إلى الاسم وتفسيره ، وسوف ننتهج في ذلك منهجا ثابتا نفرق فيه بين الاسم والصفة ، فقد علمنا أن أسماء الله أعلام وأوصاف ، أعلام تدل على ذاته دون غيرها ، وأوصاف تحمل معان قائمة بالذات وكمالها ، وسوف نحاول في هذه المحاضرات وغيرها من المحاضرات البحث في النصوص القرآنية وما ثبت في السنة النبوية عن الاسم في حال العلمية لا الوصفية ، متبعين ما بيناه من أن أسماء الله هي التي يدعى الله بها ، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة ، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ، إضافة إلى علامات الاسم المعروفة في اللغة والمشتقة غالبا من صيغ المبالغة ، ثم نبين في شرح الأسماء المعنى المقصود في كل اسم ودلالته على الصفة ، سواء بدلالة المطابقة أو التضمن أو اللزوم ، وكيف ندعو الله به دعاء مسألة ودعاء عبادة كما قال تعالى : ( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) واليوم نبدأ في هذه المحاضرة بالأسماء الدالة على صفات الذات ، ونتحدث عن أربعة أسماء منها ، وهي اسم الله الرب واسمه الإله واسمه الواحد واسمه الأحد .(8/2)
الاسم الأول : اسم الله الرب ، السؤال الآن ما هو السبب الذي من أجله كان اسم الرب من أسماء الله الحسنى ؟ والإجابة على ذلك تتمثل في أن الله عز وجل سمي نفسه به على سبيل الإطلاق والتقييد مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من مواضع القرآن والسنة ، فقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه في غير موضع من القرآن والسنة ، فمن القرآن قوله تعالى : ( قُل يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَليمُ ) (سبأ:26) فأسندت إليه الجملة وقال تعالى : ( وَقَال الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآنَ مَهْجُوراً ) (الفرقان:30) حيث دخلت عليه ياء النداء ، ومثله قوله : ( وَقِيلهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ ) (الزخرف:88) والتنوين في قوله : ( لقَدْ كَانَ لسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لهُ بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور ٌ) (:15) والتنوين والجر في قوله : ( سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (يّس:58) وحرف الجر وحده كقوله تعالى : ( الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ ) (البقرة:147) ( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لهُمْ قَوْلاً مَيْسُورا ً) (الإسراء:28) وحرف الجر إلى : ( لكُل أُمَّةٍ جَعَلنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعَلى هُدىً مُسْتَقِيم ٍ) (الحج:67) ( أَلمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّل ) (الفرقان:45) ( إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ ) (القيامة:30) ( إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعَى ) (العلق:8) وحرف الجر الباء ( وَكَمْ أَهْلكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى(8/3)
بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (الإسراء:17) وأقسم الله بنفسه باسمه الرب فقال : ( فَوَرَبِّكَ لنَسْأَلنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر:92) ( فَوَرَبِّكَ لنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْل جَهَنَّمَ جِثِيّاً ) (مريم:68) .
وكل هذه النصوص القرآنية تدل على علمية اسم الرب وأنه من الأسماء الحسنى التي أمرنا الله بأن ندعوه بها ، ومن السنة ما ورد عند البخاري (3137) من حديث أنس بن مالكٍ عن مالكِ بنِ صَعْصَعةَ رضيَ الله عنهما أن النبيُّ صلى الله عليه وسلم قال : ( فأتيتُ على موسى فسلمت عليه فقال : مَرحباً بكَ من أخ ونبيّ فلما جاوَزتُ بكى ، فقيل: ما أبكاك ؟ قال : يا رب ، هذا الغلامُ الذي بُعِثَ بعدي يَدخُل الجنةَ من أُمَّتهِ أفضلُ ممّا يدخلُ من أمَّتي ) .
وعند البخاري أيضا (4607) من حديث سعيد بن جُبير عن ابن عباسٍ أنه سمعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنَّ موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسُئل: أي الناسِ أعلم ُ؟ فقال : أنا ، فعتبَ اللهُ عليه إذ لم يَرُدَّ العلمَ إليه ، فأوحى اللهُ إليه : إنَّ لي عبداً بمجمَع البحرين هو أعلمُ منك ، قال موسى : يا ربِّ فكيف لي به ؟ قال : تأخذُ معك حُوتاً فتجعله في مِكتَلٍ ، فحيثما فقدتَ الحوتَ فهو ثمَّ .. الحديث ) ، وعند البخاري أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( واشْتكَتِ النّارُ إلى ربِّها فقالت: يا ربِّ أَكل بَعضي بعضاً ، فأذِنَ لها بنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ في الشِّتاءِ ونفَسٍ في الصَّيف ِ) ، والأدلة كثيرة على أن الرب اسم من أسماء الله الحسنى ، سمي الله به نفسه في كتابه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم .(8/4)
والرب اسم من مشتق من صفة الربوبية ، والرب في اللغة مصدر من معنى التربية ، الرب هو الذي يربي غيره وينشئه شيئا شيئا ، فوصف الرب يكون لمن أنشأ الشيء حالا فحالا إلي حد التمام ، أو إصلاح شئون الغير ورعاية أمره بانتظام ، ويطلق الرب في اللغة على المالك مالك الشيء ، تقول : هذا رب الإبل ورب الدار أي مالكها ، ويطلق على السيد المطاع ومنه قوله تعالى : ( أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ) ، أي سيده المطاع ، ويطلق الرب أيضا على المعبود ، ومنه قول الشاعر : أرب يبول الثعلبان برأسه : لقد ذل من بالت عليه الثعالب .
والرب عند الإطلاق لا يقال إلا لله تعالى ، وهو المتكفل بخلق الموجودات وإنشائها ، والقائم علي هدايتها وإصلاحها ، وهو المنظم لمعيشتها المدبر لأمرها ، يقول تعالى : ( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلى العَرْشِ يُغْشِي الليْل النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لهُ الخَلقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالمِينَ ) (الأعراف :54) ، فربنا تبارك وتعالى هو المتكفل بالخلائق أجمعين إيجادا وإمدادا (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلى كُل نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) (الرعد :33) ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلئِنْ زَالتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَليماً غَفُوراً ) (فاطر :41) .(8/5)
وخلاصة معنى الرب أنه هو الذي يخلق ويدبر ما خالق كما ورد في قوله تعالى عن موسى عليه السلام هو يبين حقيقة الربوبية ومعناها لفرعون لما سأله عنها : ( قَال فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَال رَبُّنَا الذِي أَعْطَى كُل شَيْءٍ خَلقَهُ ثُمَّ هَدَى ) فالآية دلالتها صريحة على أن موسى عليه السلام لما سئل عن الربوبية أجاب فرعون عن كل معاني الربوبية في معنيين جامعين ، الأول منهما هو إفراد الله بتخليق الأشياء وتكوينها وإنشائها من العدم حيث أعطى كل شيء خلقه ووجوده ، والثاني هو إفراد الله بتدبير الأمر في خلقه وهدايتهم إلي قيام شؤنهم وتصريف أحوالهم والعناية بهم ، ويقول تعالى : ( اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُل شَيْءٍ وَكِيل لهُ مَقَاليدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ ) (الزمر :63) .
والرب اسم يدل على ذات الله وصفة الربوبية بالمطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الربوبية وحدها بالتضمن ، ويدل باللزوم على الصفات اللازمة لقيام الربوبية كالحياة والقيومية والعلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة ، والإحياء والإبقاء والهداية ، والرزق والإمداد والرعاية ، والإفناء والإماتة والإعادة ، والهيمنة والعزة والإحاطة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال لتخليق الشيء وتصنيعه ، وكمال إيجاده واختراعه ، فصفة الخالق أن يستغنى بنفسه فلا يحتاج إلي غيره ، وأن يفتقر وإليه كل من سواه ، كما أن اسم الرب يدل أيضا بدلالة اللزوم تدبير أمر المخلوقات وتقدير أحوالهم ، والقيام على شئونهم ، والعناية واللطف بهم ، والهداية إلي ما يصلحهم ، والفصل والقضاء والحكم بينهم ، وتهيئة الكون لتحقيق الغاية من خلقهم .(8/6)
كيف ندعوا الله باسمه الرب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة هو أن يذكر الاسم في دعائه وتضرعه لربه كقوله تعالى : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَليمُ) (البقرة:127) ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِل عَليْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلتَهُ عَلى الذِينَ مِنْ قَبْلنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلنَا مَا لا طَاقَةَ لنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلى القَوْمِ الكَافِرِينَ ) (البقرة:286) (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لنَا مِنْ لدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّاب ُ) (آل عمران:8) ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلفُ المِيعَادَ ) (آل عمران:9) ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) (المؤمنون:109) ( وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً ) (الفرقان:65) ( وَالذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلنَا للمُتَّقِينَ إِمَاما ً) (الفرقان:74) وعند البخاري من حديث شدّاد بن أوسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيِّد الاستغفار اللهم أنتَ ربي لا إلهَ إلا أنت ، خلقتَني وأنا عبدُك وأنا على عهدِكَ ووعدِك ما استَطعت ، أبُوءُ لك بنعمتك ، وأبوءُ لك بذنبي ، فاغفِرْ لي ، فإنه لا يغفر الذنوبَ إلا أنت ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعت إذا قال حينَ يُمسي فمات دخل الجنَّة أو كان من أهل الجنة وإذا قال حِينَ يُصبح فمات من يومِه دخل الجنَّة ) .(8/7)
أما دعا الله باسمه الرب دعاء عبادة فيظهر العبد بمظهر العبودية ويخلع عن نفسه أوصاف الربوبية لعلمه أن المنفرد بها هو الله ، فيثبت أوصاف العظمة لله ، ويفرده بالعلو والكبرياء ، ولا ينازع رب العالمين في منهجه ، أو يتخلف عن اتباع شريعته ، فدعاء العبادة هنا عمل وتربية وتنفيذ الأوامر الشرعيه ، تجعل المسلم في أرقي حالاته الإيمانية ، فهذا إبراهيم عليه السلام : ( قَال أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلا رَبَّ العَالمِينَ الذِي خَلقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لي حُكْماً وَأَلحِقْنِي بِالصَّالحِينَ وَاجْعَل لي لسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ وَاجْعَلنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ) (الشعراء:78) .(8/8)
الاسم الثاني لله عز وجل اسم الإله ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق والتقييد مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من مواضع القرآن والسنة ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن قوله تعالى : ( وَهُوَ الذِي فِي السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَليمُ ) (الزخرف:84) ( لقَدْ كَفَرَ الذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلا إِلهٌ وَاحِدٌ ) (المائدة:73) ( أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ إِذْ قَال لبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لهُ مُسْلمُونَ ) (البقرة:133) ( إِنَّ إِلهَكُمْ لوَاحِدٌ ) (الصافات:4) ( وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:163) ( إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَالذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (النحل:22) ( قُل أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ ) (الناس:3) .
وقال الإمام البخاري : ( باب ما يُذكرُ في الذّاتِ والنُّعوتِ وأسامي الله عز وجلّ وقال خُبيب : وذلك في ذاتِ الإِله ، فذكر الذاتَ باسمِهِ تعالى ) وهو يشير إلى حديث أبي هريرةَ في قصة خبيبٌ الأنصاريُّ لما قال قبل قتله وهو في الأسر بعد أن صلى ركعتين : ولستُ أبالي حينَ أُقتلُ مسلماً : علي أيِّ شِقٍّ كان لِلهِ مصرعي- وذلك في ذات الإِلهِ وإنْ يَشا : يُباركْ على أوصالِ شِلوٍ مُمزَّع - فقتله ابنُ الحارث ، فأخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصحابَه خَبرَهم يومَ أُصيبوا ) ، قال ابن حجر : ( وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره فكان جائزا ) .(8/9)
وعند البخاري (7220) من حديث ابن عباسٍ رضيَ الله عنهما قال: كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَدعو منَ الليل: اللهمَّ لكَ الحمد ُ، أنتَ ربُّ السماواتِ والأرضِ ، لك الحمدُ أنتَ قَيمُ السماواتِ والأرض ومن فيهنّ... إلى أن قال: اللهمَّ لك أَسلمتُ ، وبكَ آمنتُ ، وعليكَ توكلت ، وإليك أَنَبْتُ ، وبك خاصمتُ ، وإليك حاكمتُ ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ وأسرَرْت وأعلنت ، أنتَ إلهي لا إلهَ لي غيرك ) .
والإله الحق عند السلف هو المعبود بحق ، المستحق للعبادة وحده دون غيره ، وقد قامت كلمة التوحيد في الإسلام على معني الألوهية ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لا إله إلا أنت فيه إثبات انفراده بالإلهية ، والألوهية تتضمن كمال علمه وقدرته ، ورحمته وحكمته ، ففيها إثبات إحسانه إلى العباد ، فإن الإله هو المألوه ، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد ، وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزمك أن يكون هو المحبوب غاية الحب ، المخضوع له غاية الخضوع ، والعبادة تتضمن غاية الحب بغاية الذل ) .
واسم الإله يختلف في معناه عن اسم الرب في كثير من النواحي ، فالرب معناه يعود كما تقدم إلى الانفراد بالخلق والتدبير ، أما الإله فهو المستحق للعبادة المألوه الذي تعظمه القلوب وتخضع له وتعبده عن رضا ومحبة ، أما من يجعل توحيد الألوهية هو إفراد الله بالخالقية فقد سلك طريق المتكلمين والجهمية ، وقد بين الله عز وجل أن المشركين كانوا يقرون بتوحيد الربوبية ، ويعتقدون أن الله خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم ، كما قال تعالى في شأنهم : ( وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُون ) لكنهم كانوا يشركون في توحيد الألوهية .(8/10)
فالإله اسم يدل على ذات الله وصفة الإلهية بالمطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى الإلهية وحدها بالتضمن ويدل باللزوم على الصفات اللازمة لقيام معاني الألوهية كالحياة والقيومية والعلم والمشيئة والقدرة ، والملك والغنى والقوة ، والهيمنة والإحاطة والعزة وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الأفعال لتحقيق معنى الألوهية .
كيف ندعوا الله باسمه الإله دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة هو أن يذكر الاسم في دعائه وتضرعه لربه كقوله تعالى : ( وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) (الأنبياء:87) ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص:88) فيدعو بقوله يا إلهي أو يا إله العالمين ، ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) (غافر:65) .(8/11)
أما دعاء العبادة ، فالعبد يظهر بمظهر التوحيد والخضوع لله ، ولا يقع في الشرك بأنواعه ، فيتشبه بالخالق أو يشبه المخلوق بالخالق قال تعالى : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ) (محمد:19) ( وَقَالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) (النحل:51) ( قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعْمَل عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا ً) (الكهف:110) ( وَمَنْ يَقُل مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ) (الأنبياء:29) ( قُل إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَل أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (الأنبياء:108) ( إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ ) (الصافات:35) .(8/12)
الاسم الثالث لله عز وجل اسم الواحد ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من المواضع القرآنية والأحاديث النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع النص على علامات الاسم فيه ، فمن القرآن قوله تعالى : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ ) (يوسف:39) ، ( قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّارُ) (الرعد:16) ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (ابراهيم:48) ( قُل إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلا اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) (صّ:65) ( لوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) (الزمر:4) ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (غافر:16) ( إِنَّ إِلهَكُمْ لوَاحِدٌ) (الصافات:4) .
وقال تعالى : ( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا ليَعْبُدُوا إِلهاً وَاحِداً لا إِلهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (التوبة:31) ( هَذَا بَلاغٌ للنَّاسِ وَليُنْذَرُوا بِهِ وَليَعْلمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ وَليَذَّكَّرَ أُولُو الأَلبَابِ) (ابراهيم:52) ( إِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ فَالذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (النحل:22) .(8/13)
وعند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث حَنْظَلَةُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً .
والواحد هو القائم بنفسه المنفرد بوصفه الذي لا يفتقر إلى غيره أزَلا وأبَدا ، الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته ، واسم الله الواحد يدل علي ذات الله وصفة الوحدانية بالمطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفة الوحدانية وحدها بالتضمن ، وعلى الحياة والقيومية وكمال الذات والصفات باللزوم ، فهو سبحانه كان ولا شيء معه ولا شيء قبله وعند البخاري من حديث عمران بن حُصينٍ قال : ( إنِّي عندَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذ جاءهُ قومٌ من بني تميم فقال : اقبَلوا البُشرى يا بنِي تميم ، قالوا : بشَّرْتنا فأعطِنا ، فدخلَ ناسٌ من أهل اليمن فقال : أقبلوا البُشرَى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم ، قالوا : قبلنا ، جئناك لنتفقه في الدِّين ، ولنسألك عن أولِ هذا الأمر ما كان ، قال : كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ، وكتب في الذكر كل شيء ) .(8/14)
وقال تعالى : ( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً ) (الكهف:51) ( قُلِ ادْعُوا الذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) (سبأ:22) ( إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (فاطر:41) ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحج:65) .
أما دعاء الله باسمه الواحد دعاء مسألة ودعاء عبادة ، فدعاء المسألة كما ورد في الحديث الصحيح الذي تقدم : (اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .
وأما دعاء العبادة فيظهر من خلال الثقة في أن أمور العبد ترجع إلى الله ، فيتوكل عليه ويلجأ إليه ، ويستعين به ويعتمد عليه في كل صغيرة وكبيرة ، ( قُل إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلتَحَداً) (الجن:22) ( قُل مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون:88) ( فَإِنْ تَوَلوْا فَقُل حَسْبِيَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (التوبة:129) ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس:84) .(8/15)
الاسم الرابع لله عز وجل اسم الأحد ، فقد ثبت في السنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ،
وورد في القرآن أيضا لكن الوصفية أقرب من العلمية ، ففي السنة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه الإمام البخاري أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى كذَّبني ابنُ آدمَ ولم يكُن له ذلك ، وشَتَمني ولم يكن له ذلك. فأَما تكذيُبهُ إيايَ فقوله: لن يعيدني كما بدأنِي. وليس أوَّلُ الخلقِ بأَهونَ عليَّ من إعادته، وأما شتمُهُ إيايَ فقولُه: اتَّخَذَ اللَّهُ ولداً وأَنا الأَحدُ الصمدُ، لم أَلِدْ ولم أُولَد ، ولم يكُن لي كُفواً أحد ) فسمى الله نفسه بالأحد ، وفي سنن النسائي ، في الحديث الذي تقدم ، وصححه الشيخ الألباني من حديث حَنْظَلَةُ بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ ، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم فكان جائزا .(8/16)
وفي سنن ابن ماجة أيضا (33492) وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ رَجُلاً يَقُولُ : اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ) صحيح 2/1267 برقم 3857 ، وعند أبي داورد الترمذي أيضا عَبْدُ الله بنُ بُرَيْدَةَ عن أبِيهِ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ : اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ فَقَالَ لقد سَأَلتُ الله بالاسم الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَاب .(8/17)
وفي سنن ابن ماجة 1/53 (154) وحسنه الشيخ الألباني من حديث زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٌ ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلاَمَهُ سَبْعَةٌ : رَسُولُ اللهِ ، وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعَمَّارٌ ، وَأُمُّهُ سُمَيَّةُ ، وَصُهَيْبٌ ، وَبِلاَلٌ ، وَالمِقْدَاد ، فَأَمَّا رَسُولُ اللهِ فَمَنَعَهُ اللهُ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ . وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ اللهُ بِقَوْمِهِ ، وَأَمَّا سَائِرُهُمْ فَأَخَذَهُمُ المُشْرِكُونَ وَأَلبَسُوهُمْ أَدْرَاعَ الحَدِيدِ وَصَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ ، فَمَا مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ وَاتَاهُمْ عَلَى مَا أَرَادُوا إِلاَّ بِلاَلاً ، فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِي اللهِ ، وَهَانَ عَلَى قَوْمِهِ فَأَخَذُوهُ ، فَأَعْطَوْهُ الوِلدَانَ ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بِهِ فِي شِعَابِ مَكَّةَ وَهُوَ يَقُولُ: أَحَدٌ ، أَحَدٌ ، وكذلك رواه ابن حبان (6969) وأحمد في المسند .(8/18)
وقال تعالى : ( قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ٌ) (الإخلاص:4) وهو في لآية وصف وفي الأحاديث اسم ، والأحد هو المنفرد بوصفه عن غيره ، كما قال تعالى في معني الأحدية : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ٌ) (الإخلاص:4) فالأحدية الانفراد ونفي المثيلية ، إفراد الله سبحانه وتعالي بذاته وصفاته وأفعاله عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم كما قال تعالي : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ، فبين سبحانه انفراده عن كل شيء من أوصاف المخلوقين بجميع ما ثبت له من أوصاف الكمال والجمال والجلال ، وعلو شأنه فيها في كل حال ، فالأحد هو المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا مثيل له فنحكم على كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم ، لأنه المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد ، وقال تعالي : ( هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) ، أي هل تعلم له شبيها مناظرا يدانيه أو يساويه أو يرقي إلي سمو ذاته وصفاته وأفعاله .
والأحد يدل علي ذات الله وصفة الأحدية بالمطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفة الأحدية وحدها بالتضمن ، وعلى الحياة والقيومية وكمال الذات والصفات باللزوم .
أما دعاء الله باسمه الأحد دعاء مسألة ودعاء عبادة ، فدعاء المسألة كما ورد في الحديث الصحيح الذي تقدم : (اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .(8/19)
وأما دعاء العبادة فيظهر من خلال توحيد المسلم لأسماء الله وصفاته واعتقاده أن ما أخبر الله به عنه نفسه ظاهر في حقه يخصه هو دون غيره فالسلف الصالح فرقوا بين النصوص التي تدل على المخلوق والنصوص التي تدل على الخالق ، فالنصوص التي تدل على المخلوق تليق به ، وظاهرها مراد في حقه ، وهي معلومة المعني لورودها في القرآن والسنة باللغة العربية ، وكذلك معلومة الكيفية ، لأننا نراها بالحوس البصرية ، أو نري نظيرها ، فنحكم عليها بالتشابه أو المثلية ، فمن البلاهة العقلية أن نطبق قوانين الجاذبية الأرضية على استواء الله على عرشه أو على حملة العرش أو على نزوله إلي السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل ، لأن ذلك ينطبق على الكائنات الأرضية ولا ينطبق على رب البرية ، فهو منفرد متوحد عن قوانين البشر بذاته وصفاته وأفعاله ، ومعلوم أننا لم نر الله ولم نر له مثيلا أو شبيها أو نظيرا ، والشيء لا يعرف إلا برؤيته أو برؤية نظيره .
أما النصوص القرآنية والنبوية التي تدل على الخالق فهي معلومة المعني أيضا لأن الله عز وجل خاطبنا باللغة العربية لا باللغة الأعجمية ، فلا يمكن القول إن كلام الله بلا معني ، أو يشبه كلام الأعاجم والألغاز التي لا تفهم ، أما الكيفية الغيبية للصفات الإلهية التي دلت عليها هذه النصوص فهي كيفية حقيقية معلومة لله تليق به ، لكنها مجهولة لنا لا نعلمها لأننا ما رأينا الله ، فقال نبينا صلي الله عليه وسلم : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَي أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حتى يَمُوتَ ) مسلم ، وما رأينا لكيفيته سبحانه وتعالي نظيرا نحكم عليها من خلاله إذ يقول الله تعالي : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) .(8/20)
وروى أبو داوود والنسائي والترمذي 16077وقال الشيخ الألباني صحيح (1500) من حديث الأعْمَشُ عن أبي صَالحٍ عن سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ ، قال: ( مَرَّ عَلَيَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَدْعُو بإِصْبَعَيَّ فَقَال : أَحِّد أَحِّد وَأَشَارَ بالسَّبَابَةِ ، قال الترمذي : ومعنى هَذَا الحَدِيثِ إذَا أشَارَ الرَّجُلُ بِإِصْبَعَيْهِ في الدّعَاءِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ ، فَلاَ يُشِيرُ إلاّ بأَصْبُعٍ وَاحِدَةٍ .
( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليماً ) (الأحزاب:56) فاللهُمَّ صَل عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آل مُحَمَّدٍ كَمَا صَليْتَ عَلى آل إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللهُمَّ بَارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آل مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلى آل إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(8/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة الثانية
الصمد السيد الحي القيوم
الحمد لله الواحد الأحد ، المتفرد بالتوحيد ، والمنفرد بالتمجيد ، الذي لا تبلغه صفات العبيد ، ليس له مثيل ولا نديد ، وهو المبدئ المعيد ، فعال لما يريد ، لم يزل بصفاته أولا قديرا ، ولا يزال عالما خبيرا ، استوفي الأشياء علمُه ، ونفذت فيها إرادته ، فلم تعزب عليه خفيات الأمور ، ولم تغيره سوالف الدهور ، لم يلحقه كلل ولا تعب ، ولا مسه لغوب ولا نصب .
خلق الأشياء بقدرته ، ودبرها بمشيئته ، وقهرها بجبروته ، وذللها بعزته ، فنحمده كما حمد نفسه ، وكما هو أهله وكما حمده الحامدون من جميع خلقه ، ونستعينه استعانة من فوض الأمر إليه ، وأقر أنه لا ملجأ منه إلا إليه ، ونستغفره استغفار مقر بذنبه ، معترف بخطئه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إقرارا بوحدانيته ، وإخلاصا لربوبيته ، ونستهديه بالهدى ، ونسأله التوفيق ومجانبة الردى .
وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله ، ونبيه وصفيه وأمينه ، أرسله إلى خلقه بالنور الساطع ، والسراج اللامع ، والحجج الظاهرة ، والآيات الباهرة ، والأعاجيب القاهرة ، فبلّغ رسالة ربه ، ونصح لأمته ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى تمت كلمة الله عز وجل ، وظهر أمره ، وانقاد الناس إلى الحق خاضعين ، حتى أتاه اليقين ، فصلوات الله عليه من قائد إلى هدى مبين ، وعلى أهل بيته الطيبين ، وعلى أصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، ومن سار على دربهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .(9/1)
فقد علمنا أن أسماء الله عز وجل أسماء توقيفية ، ومعنى أنها توقيفية يعنى أنه لا مجال للعقل فيها ، ويجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة فلا يزاد فيها ولا ينقص ، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه سبحانه وتعالى من الأسماء فوجب الوقوف في ذلك على النص ، فلا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا يوصف إلا بما سمي به نفسه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن أربعة أسماء ، الاسم الأول هو اسم الله الرب والثاني اسمه الإله والثالث الواحد والرابع الأحد ، واليوم نستكمل الحديث حول الاسم الخامس وهو اسم الله الصمد والسادس اسم الله السيد والسابع اسم الله الحي والثامن اسم الله القيوم .(9/2)
الاسم الخامس لله عز وجل اسمه الصمد ، فقد ثبت في القرآن السنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، دخلت عليه أل التعريف في قوله تعالى في سورة الإخلاص ( قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ ) ولم يرد في القرآن إلا في هذا الموضع ، وقد ورد في السنة في عدة مواضع منها ما رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى كذَّبني ابنُ آدمَ ولم يكُن له ذلك ، وشَتَمني ولم يكن له ذلك ، فأَما تكذيُبهُ إيايَ فقوله : لن يعيدني كما بدأنِي ، وليس أوَّلُ الخلقِ بأَهونَ عليَّ من إعادته، وأما شتمُهُ إيايَ فقولُه : اتَّخَذَ اللَّهُ ولداً وأَنا الأَحدُ الصمدُ ، لم أَلِدْ ولم أُولَد ، ولم يكُن لي كُفواً أحد ) فسمي الله نفسه بالصمد ، وعند البخاري أيضا من حديث أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه قال : ( قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ: أَيعجِزُ أحدُكم أن يقرَأَ ثلثَ القرآن في ليلة ؟ فشقَّ ذلك عليهم وقالوا: أَيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول الله ؟ فقال: اللهُ الواحِدُ الصَّمَدُ ثلث القرآنِ ) ، وعند مسلم من حديث أبي حازم عن أبي هريرة قال خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ : ( قل هو الله أحد الله الصمد ) حتى ختمها .(9/3)
وعند الترمذي من حديث أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ أَنَّ المُشْرِكِينَ قَالُوا لرَسُولِ الله : انْسُبُ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى : ( قُلْ هُوَ الله أحَدٌ الله الصَّمَدُ ) ، فَالصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ لأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يُولَدُ إلاّ سَيَمُوتُ وَلَيْسَ شَيْءٌ يَمُوتُ إلاّ سَيُورَثُ ، وإنَّ الله عز وجلّ لاَ يَمُوتُ ولاَ يُورَثُ (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ ) قَالَ : لَمْ يَكُنْ لَهُ شَبِيهٌ وَلاَ عِدْلٌ ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ، وكذلك رواه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وكذلك ورواه أحمد في مسنده ، وقال الشيخ الألباني : حسن دون قوله والصمد الذي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وعند الدارمي من حديث عنْ عبدِ الرحمنِ بنِ أبي ليلَى ، عن إمرأةٍ مِنَ الأنصارِ أن أبا أيوب الأنصاري ، أتاهَا، فقالَ : ألا ترينَ إلَى مَا جاءَ بِهِ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالت : رُبَّ خيرٍ قَدْ أتَانَا بِهِ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فما هو ؟ قال : قال لنا : أيعجزُ أحدُكمْ أنْ يَقرأ ثُلثَ القرآن في ليلة ٍ، قالَ : فاشفقنا أن يريدَنَا على أمرٍ نعجِزُ عَنْهُ ، فلَمْ نرجِعْ إليهِ شيئاً حتَّى قالَهَا ثلاثَ مراتٍ ، ثُمَّ قالَ : أمَا يستطيعُ أحدُكُم أنْ يقرأَ ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد اللَّهُ الصمد ) والحديث ورد عند الترمذي بغير هذا اللفظ وفيه تسمية المرأة ، وهي امرأة أبي أيوب الأنصاري ، وقد حسنه الترمذي وصححه الشيخ الألباني ، وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ ، قال : ( كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبَّكَ الأَعْلَى وَقُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَالله الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ) .(9/4)
وفي السنن الكبرى للنسائي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله فإِذَا قالُوا ذَلِكَ فقُولُوا : الله أَحَدٌ الله الصَّمَدُ لَمْ يلِدِ وَلَمْ يُولَدْ وَلَم يَكُنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ، ثُمَّ لْيَتْفُلْ عن يَسَارِهِ ثَلاَثاً وَلْيَسْتَعِذْ مِنَ الشَّيْطَانِ ورواه أبو داود وحسنه الشيخ الألباني ، وفي سنن النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث حَنْظَلَة بْن عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ ، وفي سنن ابن ماجة أيضا وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : سَمِعَ النَّبِيُّ رَجُلاً يَقُولُ : اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ) .(9/5)
والصمد هو السيّدُ الذي انتهى سُؤدَدُه ، الذي له الصمدية المطلقة في كل شيء ، وقال الإمام البخاري باب قولِهِ : (?للَّهُ ?لصَّمَدُ ) والعَرَبُ تُسمِّي أشرافَها الصَّمَدَ ، قال أبو وائِل : هو السيّدُ الذي انتهى سُؤدَدُه ، وقال شيخ الإسلام : ( والاسم الصمد فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك بل كلها صواب والمشهور منها قولان أحدهما أن الصمد هو الذي لا جوف له ، الثاني أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج ) وقال ابن الجوزى في زاد المسير ( وفي الصمد أربعة أقوال أحدها أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج رواه ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال الصمد السيد الذي قد كمل في سؤدده قال أبو عبيدة هو السيد الذي ليس فوقه أحد والعرب تسمي أشرافها الصمد ، وقال ابن الأنباري لا خلاف بين أهل اللغة أن الصمد السيد الذي ليس فوقه أحد يصمد إليه الناس في أمورهم وحوائجهم والثاني أنه لا جوف له قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وابن جبير وعكرمة والضحاك وقتادة والسدي ، والثالث أنه الدائم ، والرابع الباقي بعد فناء الخلق حكاهما الخطابي وقال أصح الوجوه الأول لأن الاشتقاق يشهد له ، فإن أصل الصمد القصد يقال اصمد فلان أي اقصد فلان فالصمد السيد الذي يصمد إليه في الأمور ويقصد في الحوائج ) .
وخلاصة المعاني في الصمدية أن الصمد هو السيد الذي لا يكافئه من خلقه أحد ، والمستغنى عن كل من سواه وكل من سواه مفتقر إليه معتمد عليه ، وهو الكامل في جميع صفاته وأفعاله ، لا نقص فيه بوجه من الوجوه ولا يوصف بصفته أحد وليس فوقه أحد الذي يصمد إليه الناس في حوائجهم وسائر أمورهم ، فأصمدت إليه الأمور فلم يقض فيها غيره ، هو المقصود إليه الرغائب والمستغاث به عند المصائب ، هو الذي لا جوف له وليست له أحشاء لا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء .(9/6)
والصمد اسم يدل علي ذات الله وعلى صفة الصمدية المطلقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفة الصمدية وحدها بالتضمن ، وعلى الحياة والقيومية والأحدية باللزوم ، وكذلك يدل باللزوم على كمال والعلم القدرة والعزة والقوة والحكمة والعظمة وكمال العدل الحكم وكل ما يلزم لكمال الذات والصفات التي تحقق السؤدد في كل شيء .
أما دعاء الله باسمه الصمد دعاء مسألة ودعاء عبادة ، فدعاء المسألة كما ورد في الحديث الصحيح الذي تقدم : (اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وأما دعاء العبادة فيظهر من خلال صدق المسلم في اعتماده على الله الصمد ، وحسن توكله عليه ، فيعتمد على الله قبل الحركة والسكون ثم يأخذ بالأسباب كيفما يكون ، ويرضى بما قسمه الله ، لعلمه أن تقسيم المقادير بيديه المبتدا منه والمنتهى إليه ، فلا حول ولا قوله إلا بالله ، وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ له : ( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أمري إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظهري إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلْتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلْتَ ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ ، قَالَ فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم ، فَلَمَّا بَلَغْتُ : اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِى أَنْزَلْتَ ،(9/7)
قُلْتُ وَرَسُولِكَ ، قَالَ : لاَ ، وَنَبِيِّكَ الَّذِى أَرْسَلْتَ .
الاسم السادس من أسماء الله عز وجل اسمه السيد فقد سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، مسندا إليه المعنى محمولا عليه ، ودخلت عليه أل التعريف ، ففي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبي نَضْرَةَ عن مطرف بنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ قالَ قالَ أَبِي : انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلنا أَنْتَ سَيِّدُنا فقَالَ : السَّيِّدُ الله ، قُلْنا وَأَفْضَلُنا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً فَقَالَ قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكمْ الشَّيْطَانُ ، وفي المسند من حديث قَتَادَةَ قَالَ سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ أن رجلا جَاءَ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ َأنْتَ سَيِّدُ قُرَيْش ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم السَّيِّدُ اللَّهُ ، قَالَ أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلاً وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلاَ يَسْتَجِرُّهُ الشَّيْطَانُ .
فالحديث يدل دلالة صريحة على اسم الله السيد وأن الذي سماه بذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بعد قول رسول الله تعقيب ، ولا نعترض أبدا على قول الحبيب ، لأن الرسول يعنى السيادة المطلقة التي تتضمن كل أوجه الكمال والجمال ، فالسيد إطلاقا هو رب العزة والجلال ، ولم ينف صلى الله عليه وسلم السيادة المقيدة التي تليق بالمخلوق ، أو السيادة النسبية التي تتضمن المفاضلة والتفوق على الآخرين ، وقال ابن القيم تحفة المولود :(9/8)
( ولا ينافي هذا قوله أنا سيد ولد آدم فإن هذا إخبار منه عما أعطاه الله من سيادة النوع الإنساني وفضله وشرفه عليهم ، وأما وصف الرب تعالى بأنه السيد فذلك وصف لربه على الإطلاق فإن سيد الخلق هو مالك أمرهم الذي إليه يرجعون وبأمره يعملون وعن قوله يصدرون فإذا كانت الملائكة والإنس والجن خلقا له سبحانه وتعالى وملكا له ليس لهم غنى عنه طرفة عين وكل رغباتهم إليه وكل حوائجهم إليه كان هو سبحانه وتعالى السيد على الحقيقة قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قول الله الصمد قال السيد الذي كمل سؤدده والمقصود أنه لا يجوز لأحد أن يتسمى بأسماء الله المختصة به وأما الأسماء التي تطلق عليه وعلى غيره كالسميع والبصير والرؤوف والرحيم فيجوز أن يخبر بمعانيها عن المخلوق ولا يجوز أن يتسمى بها على الإطلاق بحيث يطلق عليه كما يطلق على الرب تعالى) .
( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
وقد ظن البعض المتكلمين أن تسمية الله بالسيد قد يؤدى إلى التشبيه لأن بعض الناس يتسمى به ويوصف به ، فلم يجعلوه من الأسماء وحاولوا استبعاده مع ثبوته في النص الصريح ، وكثير من الذين حاولوا تتبع الأسماء من نصوص القرآن والسنة لم يعتبروه اسما بحجة أنه لم يأت تسميته تعالى بالسيد في القرآن ولا في حديث متواتر ، كما ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم ، وقد استبعده الغزالي في كتابه المقصد الأسنى وابن حجر في تلخيص الحبير .(9/9)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد فيمن قال لا يجوز أن يطلق على الله هذا الاسم : ( وفي هذا نظر فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو بمعنى المالك والمولى والرب لا بالمعنى الذي يطلق علي المخلوق ) فالسيد حقيقة هو الله ، هو الذي يحق له السيادة المطلقة ، حقيقة السؤدد ليست إلا له لأن الخلق كلهم عبيده وهو ربهم ، وهو المالك الكريم الحليم الذي يملك نواصيهم ويتولى أمرهم ويسوسهم إلى صلاحهم ، ومعنى السيد الله شائع ذائع في الكتاب والسنة .
قال أبو الطيب في عون المعبود وشرحه لسنن أبي داود ( السيد الله أي هو الحقيق بهذا الاسم قال القاري أي الذي يملك نواصي الخلق ويتولاهم هو الله سبحانه وهذا لا ينافي سيادته المجازية الإضافية المخصوصة بالأفراد الإنسانية حيث قال أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لا أقول افتخارا بل تحدثا بنعمة الله وإلا ، فقد روى البخاري عن جابر أن عمر كان يقول أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا يعني بلالا انتهى وهو بالنسبة إلى بلال تواضع ) .
وقال الآلوسي في روح المعاني : ( وإطلاق الصمد بمعنى السيد عليه تعالى مما لا خوف فيه وان كان في إطلاق السيد نفسه خلاف والصحيح إطلاقه عليه عز وجل كما في الحديث السيد الله وقال السهيلى لا يطلق عليه تعالى مضافا فلا يقال سيد الملائكة والناس مثلا ) .
والسيد اسم يدل علي ذات الله وعلى صفة السيادة المطلقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة السيادة المطلقة وحدها بالتضمن ، وعلى الحياة والقيومية والأحدية باللزوم ، وكذلك يدل باللزوم على كمال والعلم القدرة والعزة والقوة والحكمة والعظمة وكمال العدل الحكم وكل ما يلزم لكمال الذات والصفات التي تحقق السؤدد في كل شيء .(9/10)
أما دعاء الله باسمه السيد دعاء مسألة ودعاء عبادة ، فدعاء المسألة كما ورد في دعاء الإمام أحمد لما جاء خادم المأمون وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول يعز على أبا عبدالله إن المأمون قد سل سيفا لم يسله قبل ذلك وأنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف قال فجثى والامام أحمد على ركبتيه ورمق بطرفه إلى السماء وقال سيدي غر حلمك هذا الفاجر حتى تجرأ على أولياءك بالضرب والقتل اللهم فإن لم يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مؤنته قال فجاءهم الصريخ بموت المأمون في الثلث الاخير من الليل .
وأما دعاء العبادة فيظهر من خلال رجوع العبد إلى من له السيادة المطلقة في كل شيء بالافتقار والخشية والتواضع ولنا في رسول الله خير هاد ودليل ، فما قدم وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقُلنا أَنْتَ سَيِّدُنا فقَالَ : السَّيِّدُ الله ، قُلْنا وَأَفْضَلُنا فَضْلاً وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً فَقَالَ قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكمْ الشَّيْطَانُ .(9/11)
الاسم السابع من أسماء الله عز وجل اسمه الحي فقد سمي الله به نفسه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، مسندا إليه المعنى محمولا عليه ، ودخلت عليه أل التعريف ولام الجر والنداء وغير ذلك من العلامات فمن القرآن قوله تعالى : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) (الفرقان:58) ( هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (غافر:65) ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (البقرة:255) ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (آل عمران:2) ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طه:111) وفي صحيح مسلم عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ له : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ قُلْتُ : اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ قَالَ فَضَرَبَ فِي صدري ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ .(9/12)
وعند البخاري من حديث أبي هريرة قَالَ دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا ، قُلْتُ مَا هُوَ قَالَ إِذَا أَوَيْتَ إِلَي فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ) حتى تَخْتِمَ الآيَةَ ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حتى تُصْبِحَ . فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ فَأَصْبَحْتُ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ الْبَارِحَةَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ ، يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ قَالَ مَا هِي ؟ قُلْتُ قَالَ لِي إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِي مِنْ أَوَّلِهَا حتى تَخْتِمَ ( اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ) وَقَالَ لِي لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حتى تُصْبِحَ ، وَكَانُوا أَحْرَصَ شيء عَلَي الْخَيْرِ ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ، قَالَ لاَ ، قَالَ ذَاكَ شَيْطَانٌ .
وفي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث بِلاَلَ بنَ يَسَارِ بنِ زَيْدٍ مَوْلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قال: سَمِعْتُ أَبي يُحَدِّثُنِيهِ عن جَدِّي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ قالَ أسْتَغْفِرُ الله الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ، غُفِرَ لَهُ وَإِن كَانَ فَرَّ مِنَ الزَّحْف ِ.(9/13)
وفي سنن أبي داود أيضا وحسنه الشيخ الألباني عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِي صلي الله عليه وسلم قَالَ : اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) وَفَاتِحَةُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ ( الم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ) .
واسم الله الحي دائما يرد مقترنا باسم الله القيوم واقترنهما يدلان على اسم الله الأعظم ، والسبب في ذلك أن جميع الأسماء والصفات تدل عليه باللزوم ، فالحي اسم مشتق من صفة الحياة ، وصفة الحياة وصف ذات لله ، بخلاف المحي فإنه مشتق من وصف فعل لله ، وصفة الذات هي كل صفة كمال لله لا تتعلق بمشيئته ، كالبقاء والعزة ، والعلم والقدرة ، والمشيئة والقوة ، والعلو والحكمة ، والوجه والعين والقدم واليدين ، والسمع والبصر وغير ذلك من صفات الذات ، وأما صفة الفعل فهي كل صفة كمال تعلقت بمشيئة الله ، إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها كالخلق والهداية والإحياء والإماتة ، والرزق والنصرة ، واللطف والرحمة ، والمجيء لفصل القضاء ، والنزول إلى السماء ، وكذلك صفة الاستواء ، وكل ما تعلق بمشيئة الله من الصفات فهي صفات أفعال .(9/14)
فالحي اسم من أسماء الله يدل على ذات الله وعلى صفة الحياة معا بالمطابقة ، ويدل على ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الحياة وحدها بالتضمن ، ويدل على الوجود والبقاء والغني بالنفس والكمال باللزوم ، وهنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن جميع الأسماء الحسنى تدل باللزوم على صفة الحياة ما عدا اسم الله الحي فإنه يدل عليها بالتضمن ، ولولا صفة الحياة ما كملت بقية أسمائه وصفاته ، فلا يمكن لأحد أن يكون قديرا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون قويا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون عليا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون غنيا إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون عظيما إلا إذا كان حيا ، ولا يمكن أن يكون سميعا بصيرا إلا إذا كان حيا ، فجميع أسماء الله تدل على صفة الحياة التي تضمنها اسمه الحي ، وهذه قضية عقلية نقلية ، كما تقدم وشرحناها عند الحديث عن اسم الله الأعظم وما يدل عليه اقتران الأسماء من كمال ، ودوام الحياة من دلائل دوام الملك لله ، فدوام الحياة يؤدي إلى انتقال الملكية إلي الغير ، وإذا كان كل من علي الأرض لا محالة زائل ، يدركه الموت في أي زمان ومكان ، فكل شيء ما خلا الله باطل ، كما نص على زواله القرآن ، فقال تعالى : ( كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام ) (الرحمن :27) ، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون َ) (العنكبوت :57) ، فميراث السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ينفرد به الملك الحق لأن الحياة وصف ذات لله ، أما حياة الملوك فحياتهم لا تدوم ، وسيأتيهم الموت بالضرورة واللزوم ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ ) (غافر :16) .(9/15)
أما دعاء الله باسمه الحي دعاء مسألة فكما ورد في الموطأ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُومُ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَيَقُولُ نَامَتِ الْعُيُونُ وَغَارَتِ النُّجُومُ وَأَنْتَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ ، قال تعالى : ( هُوَ الحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الحَمْدُ لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ ) (غافر:65) ودائما ما كان نبينا صلي الله عليه وسلم يدعو باسم الله الحي القيوم .
أما دعاء العبادة فيظهر من سلوك العبد وتوجيه أفعاله في الحياة على أن الملك باق لله الحي القيوم ، وأنه في دار ابتلاء تعقبها دار جزاء ، وأن الملك لله في البدء عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد من الإحياء سواه ؟ والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبقى من الأحياء سواه ؟ فلا ينسب الملك على الحقيقة لغير الله ، وإنما سبيل الابتلاء في هذه الحياة ؟ ولا يشرك بالله في الاستغاثة والدعاء ، أو المحبة والخوف والرجاء ؟ لأن الدعاء يستلزم إثبات صفة الحياة للأنداد من الأموات ، والحياة أصل في اتصافهم بالعلم والغنى القدرة ، والسمع والبصر والقوة وغير ذلك مماهو لازم لإجابة الدعاء ، وقد نفي الله عنهم ذلك لأنهم أموات ، فقال : ( ذَلِكُمْ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلكُ وَالذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِير ٍإِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ) ( أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) (النحل:21) .(9/16)
الاسم الثامن من أسماء الله عز وجل اسمه القيوم فقد سمي الله به نفسه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، مسندا إليه المعنى محمولا عليه ، ودخلت عليه أل التعريف ولام الجر والنداء وغير ذلك من العلامات فمن القرآن قوله تعالى : ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (طه:111) ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (البقرة:255) ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) (آل عمران:2) وفي صحيح مسلم عَنْ أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ له : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِى أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ قُلْتُ : اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ قَالَ فَضَرَبَ فِي صدري ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ .(9/17)
وقد تقدمت الأحاديث التي تدل على اسم الله القيوم عن الحديث عن اسمه الحي لأنهما يردان في أغلب الروايات مقترنين ، والقيم في اللغة هو السيد الذي يسوس الأمور ويدبرها ، فقيم البلدة سيدها وأمينها ومدبرها ، الذي بيده تدبير أمرها ، والقيوم يدل على وصف القيام والإقامة ، قام بذاته فلا يحتاج إلى غيره ، وأقام غيره لأن غيره مفتقر إليه ، وعند الإمام البخاري من حديث ابْن عَبَّاسٍ رَضِي الله عَنْهمَا قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلى الله عَلَيْهِ وَسَلمَ إِذَا قَامَ مِنَ الليْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ) ، ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُل سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ القَوْلِ بَل زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) (الرعد:33) .(9/18)
والقيوم أيضا هو القائم بنفسه ، الذي بلغ مطلق الكمال في وصفه ، والباقي بكماله ووصفه على الدوام ، دون تغيير أو تأثر ، فقد يكون الحي سميعا لكن يتأثر سمعه مع مرور الوقت ، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للسماع ، فيضع سماعة أو آلة يستعين بها ، فلا بد أن يكون قيوما في سمعه له البقاء والكمال فيه على الدوام ، وقد يكون الحي بصيرا لكن بصره يتأثر مع مرور الوقت ، فيفتقر إلى وسيلة إضافية للإبصار ، فيضع نظارة يستعين بها ، فلا بد أن يكون قيوما في بصره له البقاء والكمال فيه على الدوام ، فالحي قد يكون متصفا بالصفات لكنه يتأثر بالغفلة والسنات ، فتتأثر وتضمحل الصفات ، وربما ينام فتنعدم حال نومه ، فلو كان قائما دائما لكملت حياته وبقيت صفاته ، ولذلك قال تعالى : ( اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) فأثبت الحياة والقيومية اللازمة لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله .
أما دعاء الله باسمه القيوم دعاء مسألة ودعاء عبادة ، فما يقال في اسمه الحي يقال في اسمه القيوم لأن اسمه القيوم دائما ما يقترن باسم الله الحي وقد تقدم الحديث عن ذلك .
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56) سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(9/19)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة الثالثة
المالك الملك المليك الحق المبين
الحمد لله رب العالمين ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستهدي الله بالهدى ، وأعوذ به من الضلالة والردى ، من يهد الله فهو المهتدى ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من أقر بربوبيته ، وشهد بوحدانيته ، وانقاد لمحبته وأذعن بطاعته ، واعترف بنعمته ، وفر إليه من ذنبه وخطيئته ، وبريء إلي الله من حوله وقوته .
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، وخيرته من خلقه ، وأمينه على وحيه ، أرسله للإيمان مناديا ، وإلى الجنة داعيا ، وإلى صراطه المستقيم هاديا ، وفي مرضاته ومحبته ساعيا ، وبكل معروف آمرا ، وعن كل منكر ناهيا ، رفع ذكره ، وشرح صدره ، ووضع وزره ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، فصلي الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين ، أما بعد .
نواصل الحديث حول حصر الأسماء الحسنى وفهم معناها ، وكيف ندعو الله بها دعاء مسألة ودعاء عبادة ، وقد تحدثنا عن ثمانية أسماء هي اسم الله الرب واسمه الإله ، ثم الواحد والأحد والصمد والسيد والحي القيوم ، واليوم نتحدث عن مجموعة أخرى من الأسماء وهي اسم الله المالك الملك المليك الحق المبين .(10/1)
الاسم التاسع هو اسم الله المالك ، فقد ورد في القرآن على سبيل الإضافة والتقييد مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، وإن كانت الإضافة تحمل معنى الإطلاق في الملكية ، لكنه ورد في السنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا أيضا على الوصفية ، ففي القرآن ورد مضافا في قوله تعالى : ( قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (آل عمران:26) ومالك الملك هو مالك عالم الشهادة ، أي يملك ما في عالم الشهادة ، ( قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ َكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف:158) ( إِنَّ اللهَ لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) (التوبة:116) ، فالمالك هو المنفرد بملكية الملك والملكوت ، والحمد لله أنه المالك الوحيد ، فلو كان له شريك لشق ذلك على سائر الخلق ، ولما انصلح الحال في الملك : ( وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (الإسراء:111) ( الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَخَلَقَ كُل شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان:2) ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) (النساء:53) ( قُل لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ(10/2)
رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الأِنْفَاقِ وَكَانَ الإنسان قَتُوراً) (الإسراء:100) ، (أَمْ لَهُمْ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَليَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ) (صّ:10) فتوحيد الله في اسمه المالك يعني أن المنفرد بالملك هو الله ، (لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ) (الحديد:5) (وَلِلهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ) (النور:42) ودائما ما يأتي قبل ذكر انفراد الله بالملك أو بعد انفراده بالحمد ( يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (التغابن:1) ( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (الإسراء:111) ( تَبَارَكَ الذِي بِيَدِهِ المُلكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الملك:1) .(10/3)
هذا عن ملكية الله لعالم الملك ، أما ملكيته عن عالم الملكوت أو عالم الغيب ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) فمالك يوم الدين هو الذي له الملك في عالم الملكوت أو عالم الغيب ( المُلكُ يَوْمَئِذٍ لِلهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (الحج:56) ( قُل مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (المؤمنون:88) (فَسُبْحَانَ الذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (يّس:83) (وَتَبَارَكَ الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (الزخرف:85) (وَلِلهِ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ المُبْطِلُونَ ) (الجاثية:27) .(10/4)
وإذا كان هو سبحانه وتعالى مالك لكل شيء في عالم الغيب وعالم الشهادة ، فهو المالك على سبيل الإطلاق والمالك على الدوام أزلا وأبدا ، وإن كان نصوص القرآن لا تكفي وحدها لحصره أو عده ضمن الأسماء نظرا لعدم الإطلاق ، فالذي ورد في القرآن يعد وصفا أكثر من كونه اسما ، لكن الذي يجعله اسما لا وصفا هو ما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت من السنة ، فقد ثبت عند الإمام مسلم رواية أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى? مَلِكَ الأَمْلاَكِ ، لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللّهُ عَزَّ وَجَل ) ، فالرسول صلى الله عليه وسلم سماه مالكا على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، كما أنه ورد في القرآن علميا مقيدا ، والقاعدة التي نسير عليها في حصر الأسماء أن يفيد الثناء بنفسه من غير إضافة ، وأن يرد نص صريح صحيح في ذلك .
ومعنى مالك الملك أي الذي كان ملكه عن استحقاك ، فعلة استحقاق الملك أمران : الأول صناعة الشيء وإنشائه وإيجاده واختراعه ، فالمخترع يأخذ براءة الاختراع ، والمؤلف يأخذ حق التأليف والطبع ، وفي صحيح البخاري أن عُمَر بن الخطاب قال : ( مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لهُ ) وَيُرْوَى ذلك أيضا عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ .(10/5)
وإذا كان ملوك الدنيا لا يمكن لأحدهم أن يؤسس ملكه ويصنعه بمفرده ، فلا بد له من ظهير معين سواء من أهله وقرابته ، أو حزبه وجماعته ، أو عشيرته وقبيلته ، فمن الذي ساعد الحق في إنشاء الملك ؟ ومن الذي عاونه علي إنشاء الخلق ، ومن الذي أمسك السماء أن تقع على الأرض ؟ من الذي كان مع الحق عند إنشاء الخلق ؟ ( مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلينَ عَضُداً) (الكهف :51) .
وعند البخاري من حديث عَمرانَ بن حُصينٍ أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : كان اللهَ ولم يكن شيء قبلهُ ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلقَ السماواتِ والأرضَ ، وكتب في الذكر كل شيء) .
وما أحسن التعبير عن الملكية المطلقة بالتفصيل الذي ورد في قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( طه مَا أَنزَلنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لَا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الحُسْنَى ) .(10/6)
أما العلة الثانية لاستحقاق الملك : فهي دوام الحياة فدوام الحياة يوجب انتقال الملكية وثبوت التملك ، ومعلوم أن كل من علي الأرض زائل فان ، كما قال تعالى : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال والإكرام ) (الرحمن :27) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُمَّ إِليْنَا تُرْجَعُون َ) (العنكبوت :57) ، وإذا كانت الحياة وصف ذاته والإحياء وصف فعله ، فإن الملك بالضرورة لمالكه : (يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفي عَلى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لمَنِ المُلكُ اليَوْمَ للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ) (غافر :16) (وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (آل عمران :180) ، فالملك لله في المبتدا عند إنشاء الخلق فلم يكن أحد سواه ؟ والملك لله في المنتهى عند زوال الأرض لأنه لن يبقى من الملوك سواه ؟ فلا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، ومن ثم فإنه المنفرد بالملك هو الله ، فالمَلك هو المتصرف بالأمر والنهي في مملكته وهو القائم بسياسة خلقه إلي غايتهم ، وملكه هو الحق الدائم له بحق دوام الحياة ، ولما كان الحق سبحانه وتعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير ، فإنه إلزاما ينفرد بالملك والتقدير ، وينفرد بأنه المالك المستحق للملك .
واسم الله المالك يدل علي ذات الله وعلى صفة الملكية المطلقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفه بالملكية المطلقة للأشياء بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والأحدية والمشيئة والقدرة والرزق والقوة ، والقبض والبسط وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لبقاء اتصافه بملكية الملك .(10/7)
كيف ندعو الله باسمه المالك دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كما ورد عند رواه الطبراني في الصغير وحسنه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك قل يا معاذ : اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك .
أما دعاء العبادة فعمل واعتقاد يوجه المسلم في حياته على أنه عبد في ملك سيده مستخلف في أرضه أمين على ملكه ، قد ابتلاه فيما أعطاه ، وامتحنه فيما خوله واسترعاه ، أيرد الملك إلي المالك ؟ أم ينسب لنفسه أوصاف الخالق ؟ يتكبر على الخلق بنعم الله ، ويتعالي على العباد بما منحه وأعطاه ، يفهم أن المال مال الله ، وأن الحياة ابتلاء من الله فالصادق يتحرى في قوله وفعله توحيد الله في اسمه المالك ، لا يتوكل إلا عليه لعمله أن الأرزاق بيديه ، وأنه سبحانه وتعالي هو الخالق الرازق وأنه هو المالك .
الاسم العاشر هو اسم الله الملك ، فقد ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في قوله تعالى : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ ) (طه:114) وقوله : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون:116) وقوله : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الحشر:23) ( يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ) (الجمعة:1) .(10/8)
وفي صحيح مسلم عَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ : وَجَّهْتُ وجهي للذي فَطَرَ السماوات وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نفسي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ ) .(10/9)
وفي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه قَالَ جَاءَ حَبْرٌ مِنَ الأَحْبَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّا نَجِدُ أَنَّ اللهَ يَجْعَلُ السماوات عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ ، وَالمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ ، وَسَائِرَ الخَلاَئِقِ عَلَى إِصْبَعٍ ، فَيَقُولُ أَنَا المَلِكُ ، فَضَحِكَ النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الحَبْرِ ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ( وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) ، وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِى سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ ، وَيَطْوِى السماوات بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ أَنَا المَلِكُ ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ ، وفي صحيح مسلم عن عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ كَيْفَ يَحْكِى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَأْخُذُ اللهُ عَزَّ وَجَل سماواته وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ فَيَقُولُ أَنَا اللهُ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا أَنَا المَلِكُ ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى المِنْبَرِ يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شيء مِنْهُ حَتَّى إني لأَقُولُ أَسَاقِطٌ هُوَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم .(10/10)
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُل لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِى ثُلُثُ الليْلِ الأَوَّلُ فَيَقُولُ أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ مَنْ ذَا الذِى يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ ذَا الذِى يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ مَنْ ذَا الذِى يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يُضِىءَ الفَجْرُ .
وفي صحيح البخارى عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ " يَحْشُرُ اللهُ العِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا المَلِكُ ، أَنَا الدَّيَّانُ .
والملك هو الذي يكون له الأمر والنهي في ملكه فيتصرف في خلقه بأمره وفعله ، يقول ابن القيم في بدائع الفوائد : ( الفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله والملك هو المتصرف بفعله وأمره والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره ) ، واسم الله الملك يدل علي ذات الله وعلى صفة الملك المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفه بالملك المطلق بالتضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والأحدية والصمدية ، والعلم والمشيئة والقدرة والحكم والعدل والقوة ، والقبض والبسط والعزة ، والكبرياء والهيمنة العظمة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه وتسميته بالملك الحق .(10/11)
وهنا قضية هامة تتعلق بدلالة اللزوم في اسمه الملك ، وذلك أن كل ملك في الدنيا لا بد من استواؤه علي عرشه كلازم من لوازم الكمال في ملكه ، فلما كان هذا وصف كمال للمخلوق فالملك الخالق أولى من الملك المخلوق لا سيما أنه أثبت ذلك لنفسه فقال : ( الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى ) فإثبات استواء الله على عرشه من لوازم توحيده في اسمه الملك من باب أولي ، فمن لوازم توحيد الله في اسمه الملك إثبات الاستواء علي العرش وعلو الذات والفوقية ، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالي : ( طه مَا أَنْزَلنَا عَليْكَ القُرْآنَ لتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لمَنْ يَخْشَى تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ العُلا الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوَى لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْل فَإِنَّهُ يَعْلمُ السِّرَّ وَأَخْفي اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) (طه 5:1) (فَتَعَالى اللهُ المَلكُ الحَقُّ لا إِلهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون :116) ، فشتان بين عرش وعرش ، فطالما أن وحدت في اسمه الملك فوحده باللزوم في صفة الاستواء علي العرش ولا تسأل كيف استوى ؟ فالملك هو الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود سواه ، ويحتاج إليه كل موجود سواه ، لأن كل شيء سواه وجوده استمده من الله ، ومالك الملك هو الذي ينفذ مشيئته في مملكته كيف شاء وكما شاء .(10/12)
الاسم الحادي عشر هو اسم الله المليك ، فقد ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر ٍ) (القمر:55) ، وفي سنن أبي داود وقال الشيخ الألباني صحيح الإسناد من حديث ابنِ بُرَيْدَةَ عن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ : الحَمْدُ لله الذِي كَفَانِي وَآوَانِي وَأَطْعَمَنِي وَسَقَانِي ، وَالذِي مَنَّ عَلَىَّ فأَفْضَلَ ، وَالذِي أَعْطَانِي فأَجْزَلَ ، الحَمْدُ لله عَلَى كُلِّ حَالٍ ، اللهُمَّ رَبَّ كُلِّ شَيْءِ وَمَلِيكَهُ وَإِل?هَ كُلِّ شَيْء ِ ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ ، وروى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن أبا بَكْرٍ قال : يَا رَسُولَ الله مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْتُ وَإذَا أَمْسَيْتُ ، قَالَ : قُل: اللهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشّهَادَةِ ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ أشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاّ أنْتَ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وشِرْكِهِ ، قَالَ : قُلهُ إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أَمْسَيْتَ وإِذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ .(10/13)
وكذلك رواه الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْد الله بنَ عَمْرِو بنِ العَاصِ أَنَّ أبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضى الله عنه قالَ يا رَسُولَ الله عَلِّمْنِي مَا أقُولُ إِذَا أَصْبَحْتُ وإذَا أمْسَيْتُ ، فقال َ: يا أبَا بَكْرٍ قُل: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ لاَ إلَهَ إلاّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي ومِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أوْ أَجُرَّهُ إِلى مُسْلِمٍ .
واسم الله المليك يدل علي ذات الله وعلى صفة الملك المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفه بالملك المطلق بالتضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والأحدية والصمدية ، والعلم والمشيئة والقدرة والحكم العدل والقوة ، والقبض والبسط والعزة ، والكبرياء والهيمنة العظمة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه وتسميته بالمليك الحق .
كيف ندعو الله باسمه الملك المليك دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ ، دعاء المسألة كما ورد في صحيح مسلم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نفسي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ) (اللهُمَّ فَاطِرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ لاَ إلَهَ إلاّ أَنْتَ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي ومِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ ) .(10/14)
أما دعاء العبادة فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم : ( يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُل لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِى ثُلُثُ الليْلِ الأَوَّلُ فَيَقُولُ أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ مَنْ ذَا الذي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ ذَا الذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ ذَا الذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ فَلاَ يَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يضيء الفَجْرُ ) .
الاسم الثاني عشر من الأسماء الحسنى اسم الله الحق ، فقد ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في قوله تعالى : ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ) (الأنعام:62) وقوله : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَل بِالقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبِّ زِدْنِي عِلماً) (طه:114) ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الحج:6) ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) (الحج:62) ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون:116) ( فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32) ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) (النور:25) .(10/15)
وفي صحيح مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ الليْلِ : ( اللهُمَّ لَكَ الحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السماوات وَالأَرْضِ وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السماوات وَالأَرْضِ وَلَكَ الحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السماوات وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ وَقَوْلُكَ الحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لِى مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إلهي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْت َ.
والحق في اللغة اسم للموصوف بالحقية وإظهار الحقيقة ، والحق يأتي على عدة معان ، فهو بمعنى المطابقة والموافقة ، وبمعنى الثبات دون الزوال ، والمتوحد عمن سواه خلاف الشرك والظلم ، والله سبحانه وتعالى في حق ذاته باق لا يزول ، وسنته ثابتة جارية لا تحول ، ودينه ثابت في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكل صفاته حق فهي كاملة جامعة للصدق ، فيها الكمال والجمال والجلال ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .
واسم الله الحق يدل علي ذات الله وعلى صفة الحقية المطلقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الحقية المطلقة بالتضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والحكمة والحاكمية ، والكبرياء والأحدية والعلم والقدرة والمشيئة والقوة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه بإظهار الحقيقة والعدل .(10/16)
كيف ندعو الله باسمه الحق دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كما ورد في صحيح مسلم في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (أَنْتَ الحَقُّ وَوَعْدُكَ الحَقُّ وَقَوْلُكَ الحَقُّ وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ وَالجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ حَقٌّ اللهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ فَاغْفِرْ لي مَا قَدَّمْتُ وَأَخَّرْتُ وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ أَنْتَ إلهي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْت َ.
أما دعاء العبادة فيعلم العبد أن الحق هو الباقي دون الظلم وأن الله هو الحق المطلع على سائر الخلق ، وأن مرد الأمور إلى الله هو الذي يفصل بين عباده : ( قُل إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الحُكْمُ إِلا لِلهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ ) (الأنعام:57) ، فوجب على العبد أن يدين لله بدين الحق مراعاة لاسمه الحق : ( قَاتِلُوا الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29) ( هُنَالِكَ الوَلايَةُ لِلهِ الحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً) (الكهف:44) وألا يكذب أبدا لعلمه أن الله هو الحق ( وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب:4) ، وأن يصبر على الحق ويتواصى به ( والعصر إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر:3) .(10/17)
الاسم الثالث عشر اسم الله المبين ، فقد ورد في القرآن على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، في قوله تعالى : ( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) (النور:25) ولم يذكر إلا في هذا المرة ، ولم يرد في حديث ثابت صحيح ، لكن الآية دليل صريح على أن الله سمي نفس به ، وقد ورد هذا الاسم في أعقاب اتهام المنافقين لأم المؤمنين في حادثة الإفك : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) (النور:25) .
والمبين اسم فاعل للموصوف بالإبانة من الفعل أبان ، وبيان الشيء ظهوره ووضوحه ، فالبيان في الكلام فصاحته والبينة في القضاء هي الدليل والحجة ، أما الإبانة فهي الإظهار والإيضاح ، وقد تكون أيضا بمعنى إظهار ما خفي من الحقيقة ، والمبين اسم من أسماء الله يدل علي ذات الله وعلى صفة البيان والإبانة المطلقة لكل معان الحق والحقيقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة البيان والإبانة بالتضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والعلم والصمدية والمشيئة والقدرة والقوة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لبيان الحق والفصل بين الخلق في جميع الأمور .(10/18)
والله عز وجل بين لعباده آياته بكل أنواع البيان ، ويقيم حجته على خلقه بكل أنواع البرهان ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ) (الحج:5) ( هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:138) ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (النساء:26) ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (إبراهيم:4) .
كيف ندعو الله باسمه المبين دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه لاسيما إن كان مظلوما ولا يجد حجة لبراءته أو منصفا أو دليلا ، كأن يقول : اللهم أنت الحق المبين فرج كربي وارفع الظلم عني ، أما دعاء العبادة فهو مظهر يتجلى في بيان الحق لأن الله هو المبين ، فلا يفعل فعل أهل الكتاب ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187) .(10/19)
وروى البيهقي بسنده عن الأوزاعى أنه قال : دخلت على الخليفة المنصور فقال لي ما الذي بطأ بك عنى قلت يا أمير المؤمنين وما الذي تريده منى ؟ فقال : الاقتباس منك ، قلت : انظر ماذا تقول ؟ فإن مكحولا حدثنى عن عطية بن بشير أن رسول الله قال : من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهى رحمة من الله سيقت إليه ، فإن قبلها من الله بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد إثما وليزداد عليه غضبا ، وإن بلغه شيء من الحق فرضي فله الرضا وإن سخط فله السخط ومن كرهه فقد كره الله لأن الله هو الحق المبين ، فلا تجهلن قال : وكيف أجهل ؟ قال تسمع ولا تعمل بما تسمع ، قال الأوزاعي فسل على الربيع السيف وقال : تقول لأمير المؤمنين هذا ، فانتهره المنصور وقال أمسك ثم واصل الأوزاعى فقال : إنك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به والله سائلك عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها ولقد حدثني عروة بن رويم أن رسول الله قال : ما من راع يبيت غاشا لرعيته إلا حرم الله عليه رائحة الجنة فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظرا وبالقسط قائما ولما استطاع من عوراتهم ساترا .
قال الإمام الشافعي : ما ناظرت أحدا وأحببت أن يخطىء بل أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه من الله رعاية وحفظ ، وما كلمت أحدا قط وأنا أبالي أن يظهر الحق على لساني أو لسانه .
فاللهم اجعلنا ممن قلت فيهم : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(10/20)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة السادسة
سميع بصير أول آخر ظاهر باطن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت قيّم السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد ، أنت الحق ووعدك حق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والساعة حق وأن الله يبعث من في القبور ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أما بعد .
تحدثا في المحاضرات الماضية عن أسماء الله الحسنى التي تدل على أوصاف الذات ، وهي الصفات القائمة بذات الله والتي لا تتعلق بمشيئته ، فالله عز وجل هو الرب وهو الإله وهو الواحد الأحد وهو السيد الصمد وهو الحي القيوم وهو المالك الملك المليك وهو الحق المبين ، وهو العلى الأعلى المتعال وهو العظيم المجيد ، وهو العليم الخبير وهو القادر القدير المقتدر ، هذه الأسماء وردت في كتاب الله وكذلك في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كأعلام وأوصاف ، سمي الله نفسه بها وسماه بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، واليوم نواصل الحديث حول بعض الأسماء الأخرى التي تدل على أوصاف ذاته الله سبحانه وتعالى ، فحديثنا اليوم عن اسم الله السميع واسمه البصير واسمه الأول واسمه الآخر واسمه الظاهر واسمه الباطن .(11/1)
الاسم الرابع والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله السميع : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن قوله تعالى : ( قُل أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (المائدة:76) وغالبا ما يقترن السميع بالعليم ( وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ لِلهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (يونس:65) ، وقال تعالى : ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّل لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيم ُ) (الأنعام:115) ، ويقترن اسمه السميع أيضا باسمه البصير كقوله تعالى : ( ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى:11) .
وفي السنة ما رواه البخاري من حديث أبي موسى رضي الله عنه قال : ( كنّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَر ، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أيها الناس أربَعوا على أنفُسِكم ، فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبا ً، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ، ثمَّ أتى عليَّ وأنا أقولُ في نفسي : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال : يا عبدَ الله بن قيْس ، قل لا حول ولا قوةَ إلا بالله ، فإنها كنزٌ مِنْ كنوز الجنة ، أو قال : ألا أدلك على كلمةٍ هي كنز من كنوز الجنة ؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله ) .(11/2)
وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أن النبي كان يستفتح في صلاته قبل القراءة بقوله : ( أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) ، وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبان بن عُثْمَان بنَ عَفَّانَ عن أبيه أنه قال : سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ قَال بِسْمِ اللهِ الذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلاَءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَمَنْ قَالهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلاَءٍ حَتَّى يُمْسِىَ .
واسم الله السميع يدل على ذات الله وعلى صفة السمع بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة السمع وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم والقوة ، والعزة والعظمة ، وكل ما يلزم لقيام صفة السمع وما يترتب عليها ، واسم الله السميع دل على صفة من صفات الذات ثابتة لله عز وجل نؤمن بها ولا ندري كيفيتها لأننا ما رأيناه وما رأينا له مثيلا ، وليس إثبات الصفة الله تشبيها كما يظن البعض ، أو كما حاول أن ينفيها لأن إثباتها عنده تشبيه وتجسيم ، كما حدث من المعتزلة حين أشار أحمد بن أبي دؤاد على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة ( ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم ) ، بدلا من قول الله تعالى : ( ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ، فحرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير ، حيث اعتقد أن السمع في حق الله تشبيه ولا بد أن يكون بأذن ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، فالله يسمع بالكيفية التي تناسب عظمته وهو الذي يعلم كيف هو ؟ .(11/3)
كيف ندعو الله باسمه السميع دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : ( وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (البقرة:127) وعند البخاري من حديث ابْن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن إبراهيم عليه السلام قَال يَا إِسْمَاعِيلُ ، إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ ، قَال فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ ، قَال وَتُعِينُنِي قَال وَأُعِينُكَ ، قَال فَإِنَّ اللهَ أمرني أَنْ أَبْنِىَ هَا هُنَا بَيْتًا ، وَأَشَارَ إِلى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلى مَا حَوْلهَا ، قَال فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ ، فَجَعَل إِسْمَاعِيلُ يَأْتِى بِالحِجَارَةِ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِى ، حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لهُ ، فَقَامَ عَليْهِ وَهْوَ يَبْنِى ، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ ، وَهُمَا يَقُولاَنِ : ( رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) ، قَال فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْل البَيْتِ ، وَهُمَا يَقُولاَنِ ( رَبَّنَا تَقَبَّل مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) ، ومثال دعاء المسألة دعاء زوجة عمران : ( إِذْ قَالتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّل مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (آل عمران:35) ، وكذلك دعاء زكريا عليه السلام : ( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَال رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ) (آل عمران:38) .(11/4)
أما دعاء العبادة باسم الله السميع فهو اعتقاد يدفع المسلم إلى مراقبة ربه الله في كل صغيرة وكبيرة من حياته ، ويعلم أن الله يسمعه ، وهو عليم بسره ونجواه ، فيتقيه العبد ويخشاه ، ولا يخاف من أحد سواه : ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلى وَرُسُلُنَا لدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) (الزخرف:80) ، وفي الحديث الذي تقدم عند البخاري من حديث أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِىِّ رضى الله عنه ، نذكره هنا برواية أخري : ( قَال كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلى وَادٍ هَللنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا ، فَقَال النبي صلى الله عليه وسلم : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، ارْبَعُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا ، إِنَّهُ مَعَكُمْ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالى جَدُّهُ ) .
الاسم الخامس والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله البصير : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع وجود علامات الاسمية فيه ، فمن القرآن قوله تعالى :(11/5)
( سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الإسراء:1) ( وَاللهُ يَقْضِي بِالحَقِّ وَالذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (غافر:20) ( إِنَّ الذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (غافر:56) ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَل لكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى:11) ، وعند البخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال : ( كنّا مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في سَفَر ، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا ، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أيها الناس اربَعوا على أنفُسِكم ، فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبا ً، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ) .
والبصير هو الذي يبصر خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، الذي يرى الأشياء كلها ظهرت أو خفيت ، دقت أو عظمت ، هو الذي يبصر جميع الموجودات في عالم الغيب والشهادة ، واسم الله البصير يدل على ذات الله وصفة الإبصار والرؤية بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الإبصار وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم والهيمنة ، والإحاطة والقوة ، والعظمة والعزة ، وكل ما يلزم لقيام صفة الإبصار ودوامها وما يترتب عليها .(11/6)
واسم الله البصير دل على صفة من صفات الذات ، صفة الإبصار وهي صفة ثابتة لله عز وجل نؤمن بها ولا ندري كيفيتها لأننا ما رأيناه وما رأينا له مثيلا ، والله بصير بعين دل على ذلك ما رواه البخاري من حديث عَبْد اللهِ بن مسعود قال : ذَكَرَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَىِ النَّاسِ المَسِيحَ الدَّجَّال ، فَقَال : ( إِنَّ اللهَ ليْسَ بِأَعْوَرَ ، أَلاَ إِنَّ المَسِيحَ الدَّجَّال أَعْوَرُ العَيْنِ اليُمْنَى ، كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ ) ، وليس إثبات الصفات الله تشبيها كما يظن البعض ، قَال الإمام الترمذي : هَكَذَا رُوِىَ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ أَنَّهُمْ قَالُوا في هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَمِرُّوهَا بِلاَ كَيْفٍ ، وَهَكَذَا قَوْلُ أَهْلِ العِلمِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ ، وَأَمَّا الجَهْمِيَّةُ فَأَنْكَرَتْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ وَقَالُوا هَذَا تَشْبِيهٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَل في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ اليَدَ وَالسَّمْعَ وَالبَصَرَ فَتَأَوَّلتِ الجَهْمِيَّةُ هَذِهِ الآيَاتِ فَفَسَّرُوهَا عَلى غَيْرِ مَا فَسَّرَ أَهْلُ العِلمِ وَقَالُوا إِنَّ اللهَ لمْ يَخْلُقْ آدَمَ بِيَدِه ، وَقَالُوا إِنَّ مَعْنَى اليَدِ هَا هُنَا القُوَّة ، وَقَال إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ إِذَا قَال يَدٌ كَيَدٍ أَوْ مِثْلُ يَدٍ أَوْ سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ ، فَإِذَا قَال سَمْعٌ كَسَمْعٍ أَوْ مِثْلُ سَمْعٍ فَهَذَا التَّشْبِيهُ وَأَمَّا إِذَا قَال كَمَا قَال اللهُ تَعَالى يَدٌ وَسَمْعٌ وَبَصَرٌ وَلاَ يَقُولُ كَيْفَ وَلاَ يَقُولُ مِثْلُ سَمْعٍ وَلاَ كَسَمْعٍ فَهَذَا لاَ يَكُونُ تَشْبِيهًا وَهُوَ كَمَا قَال اللهُ تَعَالى في كِتَابِهِ ( ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ(11/7)
السَّمِيعُ البَصِيرُ ) .
كيف ندعو الله باسمه البصير دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قول إبراهيم يطلب من ربه في دعائه أن يبصره بمناسك الحج إلى البيت الحرام : ( رَبَّنَا وَاجْعَلنَا مُسْلِمَيْنِ لكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَليْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:128) ، وكذلك طلب الحق من سيد الخلق أن يتوكل على الله الذي يراه : ( وَتَوَكَّل عَلى العَزِيزِ الرَّحِيمِ الذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) .(11/8)
أما دعاء العبادة فهو عمل الموحدين في مرتبة الإحسان التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل في حديث عُمَر بْن الخَطَّابِ حيث قَال له جبريل : ( فأخبرني عَنِ الإِحْسَان ؟ قَال أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) ، فوجب على العبد أن يراقب ربه في طاعته وعبادته ، ويعلم أنه معه من فوق عرشه ، بصير بأمره عليم بشأنه ، ( أَلمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7) ، ( قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْل التِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (المجادلة:1) ، فإذا علم العبد أن الله يراه احترز في عمله من معصية الله ومن كل ما يغضبه ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (التوبة:105) ، وكما قال العبد الصالح مؤمن آل فرعون : ( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا ليْسَ لِي بِهِ عِلمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلى العَزِيزِ الغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِليْهِ ليْسَ لهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلى اللهِ وَأَنَّ المُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلى اللهِ(11/9)
إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالعِبَادِ ) (غافر:44) ، كما أن دعاء الله باسمه البصير دعاء عبادة يوجب علينا أن ننظر ونتفكر ، ونعتبر ونتذكر ، ننظر في خلق الله : ( أَفَلا يَنظُرُونَ إِلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ) (الغاشية:20) ، وكما أمرنا أن ننظر في خلق الله أمرنا أن نعتبر بفعل الله فيما مضى من الأمم الغابرة ، فقال تعالى : ( قُل سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) (الأنعام:11) ، ( قَدْ خَلتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ) (آل عمران:137) .(11/10)
الاسم السادس والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله الأول : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في نص واحد من النصوص النبوية ، قال تعالى في سورة الحديد : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الحديد:3) وفي صحيح مسلم من حديث أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قال لفَاطِمَة لما جاءت إليه تَسْأَلُهُ خَادِمًا لها ، فَقَال لهَا قولي : ( اللهُمَّ رَبَّ السَّماَوَاتِ وَرَبَّ الأَرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ العَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شيء ، فَالِقَ الحَبِّ وَالنَّوَى وَمُنْزِل التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالفُرْقَانِ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شيء أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) ، ورواه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني .(11/11)
والأول دل على وصف الأولية ، والأولية في اللغة أخص من الوحدانية لأنها مقيدة بوحدانية مقدمة من حيث الزمان ، فهي بمعنى القَبلية خلاف البعدية أو التقدم خلاف التأخر ، وهذه أولية زمانية ، وهناك أولية عامة تتعلق بالمكان والمكانة من حيث تقدم الشيء على أفراد نوعه وجنسه بفضيلة ما ، وأولية الله تقدمه على كل من سواه في الزمان ، ومن الأولية أيضا تقدمه سبحانه على غيره في كل صفة كمال ، وهذا معنى الكمال في الذات والصفات في مقابل العجز والقصور لغيره فلا يدانيه ولا يساويه أحد من خلقه ، فهو تعالى منفرد بما استأثر به وهو الأول فيما اشترك فيه من الصفات المجردة عن الإضافة أي أنه الأعظم الأكبر .
واسم الله الأول يدل على ذات الله وصفة الأولية بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الأولية وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني والعلم والقدرة ، والقوة والعزة والعظمة ، وكل ما يلزم لكونه الأول الذي ليس قبله شيء .(11/12)
وينبغي أن نعلم أن الأولية وصف لله وليس لأحد سواه ، وربما يستشكل البعض وصف الله بالأولية مع وصفه بدوام الخالقية والقدرة والفاعلية ، فإذا كان الله هو الأول الذي ليس قبله شيء ، فهل يعني ذلك أنه كان معطلا عن الفعل ثم أصبح خالقا فاعلا قادرا بعد أن لم يكن ؟ والجواب عن ذلك أن يقال إن الله موصوف بأنه فعال لما يريد كما قال ( ذُو العَرْشِ المَجِيد ُفَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) (البروج:16) وقد بين الله عز وجل أنه قبل وجود السماوات والأرض لم يكن سوى العرش والماء ، كما جاء في قوله تعالى : ( وَهُوَ الذِي خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ) (هود:7) ، ومن حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قَال : ( كَانَ اللهُ وَلمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلى المَاءِ ، ثُمَّ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْض ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُل شَيْءٍ ) ، وربما يسأل سائل ويقول : وماذا قبل العرش والماء ؟ والجواب : أن الله قد شاء أن يوقف علمنا عن بداية المخلوقات عند العرش والماء ، فقال تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ?) فالله أعلم هل توجد مخلوقات قبل العرش والماء أم لا ؟ لكننا نعتقد أن وجودها أمر ممكن متعلق بمشيئة الله وقدرته ، فالله أخبرنا أنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يشاء وهو على ما يشاء قدير : ( فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ ) ، فالله عز وجل متصف بصفات الأفعال ، ومن لوازم الكمال أنه فعال لما يريد على الدوام ، أزلا وأبدا ، سواء كان ذلك قبل العرش والماء ، أو بعد وجودهما ، لكن الله أوقف علمنا عند هذا الحد ، كما أن جهلنا بذلك لا يؤثر فيما يخصنا ، أو يتعلق بحياتنا من معلومات ضرورية ، لتحقيق الكمال في حياة الإنسان ، قال سليمان التيمي رحمه الله : ( لو سئلت أين الله ؟ لقلت : في السماء ، فإن قال السائل :(11/13)
فأين كان عرشه قبل السماء ؟ لقلت : على الماء ، فإن قال : فأين كان عرشه قبل الماء ؟ لقلت : لا أعلم ) ، ويعقب الإمام البخاري رحمه الله بقوله : " وذلك لقول الله تعالى : ( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ? ) ، يعني إلا بما بين " ، وهذه المسألة تسمي في باب العقيدة بالتسلسل ، والتسلسل هو ترتيب وجود المخلوقات في متوالية مستمرة غير متناهية من الأزل والأبد ومعتقد السلف الصالح أن التسلسل في الأزل جائز ممكن ، ولا يلزم من ذلك أن الخلق يشاركون الله في الأولية ، والشيطان يأتي يلبس على الإنسان في هذه القضية ليجعل الله مشابها لخلقه في الأحكام العقلية ، والله وحد نفسه بنفي الشبيه المثلية ، وثبت عند البخاري ومسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أن رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال : ( يَأْتِى الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلقَ كَذَا مَنْ خَلقَ كَذَا حَتَّى يَقُول مَنْ خَلقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلغَهُ فَليَسْتَعِذْ بِاللهِ ، وَليَنْتَهِ ) وروى أبو داود وحسن إسناده الألباني أن أَبا زُمَيْلٍ قَال سَأَلتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلتُ مَا شيء أَجِدُهُ في صدري ؟ قَال : مَا هُوَ ؟ قُلتُ وَاللهِ مَا أَتَكَلمُ بِه ، قَال فَقَال لي أشيء مِنْ شَكٍّ ؟ قَال وَضَحِكَ ، قَال مَا نَجَا مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ ، قَال : حَتَّى أَنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَل : ( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلنَا إِليْكَ فَاسْأَلِ الذِينَ يَقْرَأُونَ الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لقَدْ جَاءَكَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) (يونس:94) قَال : فَقَال لي إِذَا وَجَدْتَ في نَفْسِكَ شَيْئًا فَقُل : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ ) .(11/14)
كيف ندعو الله باسمه الأول دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في الحديث : ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) ، أما دعاء العبادة فهو عمل مبني على اعتقاد المرء بأن أصله من طين ، له بداية ونهاية في الدنيا وسينتقل إلى أرحم الراحمين : ( إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالقِسْطِ وَالذِينَ كَفَرُوا لهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) (يونس:4) ( قُل هَل مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) (يونس:34) ( وَهُوَ الذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَليْهِ وَلهُ المَثَلُ الأَعْلى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) .
الاسم السابع والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله الآخر : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في نص واحد من النصوص النبوية ، قال تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ) (الحديد:3) وفي صحيح مسلم ، قول النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم : ( وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء ) .(11/15)
واسم الله الآخر يدل على ذات الله وصفة البقاء بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة البقاء وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني والعلم والقدرة ، والقوة والعزة والعظمة ، والملك والعلو وكل ما يلزم لكونه الآخر الذي ليس بعده شيء .
وينبغي أن نعلم أن الآخرية والبقاء وصف الله عز وجل ، فهو الآخر الذي ليس بعده شيء ، وبقاء أهل الجنة والنار خالدين فيها أبدا لا يتعارض مع إفراد الله عز وجل بالبقاء ، وأنه الآخر الذي ليس بعده شي ، فالسلف الصالح فرقوا بين ما يبقى ببقاء الله وما يبقي بإبقاء الله ، فرقوا بين بقاء الذات الإلهية بصفاتها ، وبقاء المخلوقات التي أوجدتها تلك الصفات ، فالجنة مثلا باقية بإبقائه ، وصفاته باقية ببقائه ، وشتان بين ما يبقي ببقائه ، وما يبقي بإبقائه ، فالجنة مخلوقة خلقها الله عز وجل وكائنة بأمره ورهن مشيئة وحكمه ، فمشيئة الله حاكمة علي ما يبقى وما لا يبقى ، والله قد شاء أن يبقيها ، فوجود المخلوقات في الأبد والمستقبل متوال غير منقطع أبد الآبدين ، لكنه مرهون بمشيئة رب العالمين ، فكلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نقاد له ، ( وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) (الطور :22) ( لهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلدَيْنَا مَزِيدٌ ) (قّ:35) ، فتحقيق المراد لأهل الجنة علقه الله بمشيئتهم إكراما لهم وإظهار لمحبتهم ، بعكس الوضع في الدنيا فتحقيق المراد لأهل الدنيا علقه الله بمشيئته لا بمشيئتهم ، ابتلاء لهم وإظهار لإيمانهم ، ولذلك يقول : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلةَ عَجَّلنَا لهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلنَا لهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوما مَدْحُورا) (الإسراء :18) .(11/16)
ومن ثم فإن السلف يعتبرون خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية ، إنما هو بإبقاء الله وإرادته ، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية ، بل من طبيعتها جميعا كمخلوقات خلقها الله الفناء ، فالخلود ليس لذات المخلوق أو طبيعته ، وإنما هو بمدد دائم من الله تعالى ، وإبقاء مستمر لا ينقطع ، أما صفات الله عز وجل ومنها وجهه ويده وعينه وعلوه ، ورحمته وعزته وقوته وملكه ، فهي صفات باقية ببقائه ملازمة لذاته ، باقية ببقاء ذاته سبحانه وتعالى ، حيث البقاء صفة ذاتية له ، كما أن الأزلية صفة ذاتية لله تعالى ، فلا بد أن نفرق بين صفات الله وأبديتها ، وبين مخلوقات الله الأبدية وطبيعتها ، والقرآن الكريم فرق بين نوعين من البقاء ، الأول : في قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَليْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلال وَالإِكْرَامِ ) فدلت على صفة من صفات الذات وهى صفة الوجه ودلت على بقاء الصفة ببقاء الذات ، فأثبتت بقاء الذات بصفاتها ، وأثبت فناء ما دونها أو إمكانية فنائه ، إذ أن الله هو الأول والآخر وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء ، وكما جاء في الحديث : (اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شَيْءٌ ، وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ) ، أما النوع الثاني من البقاء ففي قوله تعالى : ( وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى للذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الشورى :36) ( وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) (الأعلى :17) فبقاء المخلوقات في الآخرة لا لذاته ولكن بعطاء من الله ، لإكرام أهل طاعته وإنفاذ عدله في أهل معصيته ، ولذلك يقول سبحانه : ( إِنَّ للمُتَّقِينَ مَفَازا حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لغْواً وَلا كِذَّاباً جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً ) (النبأ :31) ، كيف ندعو الله باسمه الأخر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟(11/17)
دعاء مسألة كما في الحديث : ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) أما دعاء العبادة فطلب الجنة والبقاء فيها في الرفيق الأعلى ، يعبد الله طمعا في جنته وخوفا من ناره
الاسم الثامن والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله الظاهر : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في نص واحد من النصوص النبوية ، قال تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ) (الحديد:3) وفي صحيح مسلم ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء ).
واسم الله الظاهر يدل على ذات الله وصفة العلو بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة العلو المطلق وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني والعلم والقدرة ، والقوة والعزة والعظمة ، وكل ما يلزم لكونه الآخر الذي ليس بعده شيء .
ومعنى الظاهر أي الذي ظهر بحججه الباهرة وبراهينه النيرة وشواهده الدالة على صحة وحدانيته وكذلك الظاهر فوق كل شيء بذاته وشأنه وقهره وقدرته ، وقد يكون الظهور بمعنى العلو ويكون بمعنى الغلبة ، والواجب الإيمان بصفة الظهور الذاتي ورؤيته في الآخرة وتَجَلِّيه للجبل وظهور آيات العظيمة في المخلوقات وكذا آيات تنزيله المحكمة من كتب وصحف وألواح .(11/18)
كيف ندعو الله باسمه الظاهر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء مسألة كما في الحديث : ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) أما دعاء العبادة فيحسن العبد فيه التوكل على ربه وذلك أنه إذا نظر إلي قدرة اللّه في الأشياء ، وأنه منفرد بالخلق والتدبير ، وقائم بالملك والتقدير ، نظر أيضا إلي وجوه الحكمة في إظهار الأسباب وتصريفها ، وابتلاء العباد بتقليبها ، والأخذ بها على وجه الضرورة واللزوم ، وإيقاع الأحكام على المحكوم ، فمن وافق الشرائع والسنن استحق من الله الثواب ، ومن خالف وابتدع استحق من الله العقاب ، ليصل الكل في النهاية إلى ما دون في أم الكتاب ، هكذا كان ابتلاء العباد من خلال إيمانهم بتوحيد الربوبية من جهة وتوحيد العبودية من جهة أخرى : ( فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَال إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلى عِلمٍ بَل هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلمُونَ ) (الزمر:49) فتنة لأنه نظر إلى الأسباب الظاهرة في تقلبها وتغافل عن مصرفها ومقلبها ، الذي أظهرها باسمه الظاهر تحقيقا للحكمة في اسمه الحكيم ، الحكمة التي أراد الله عز وجل أن يخلقهم من أجلها ، وإظهارا للقدرة التي كلفهم بتوحيد الربوبية من خلالها ، فالمتوكل على الله قائم بأحكام الشريعة ملتزم بتوحيد العبودية ، يعمل بشرع الله ويؤمن بقدر الله ، وإنما أظهر اللّه تعالى الأسباب لأن الأسماء تتعلق بها وأحكام الشرع عائدة عليها بالثواب والعقاب .(11/19)
الاسم التاسع والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله الباطن : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في نص واحد من النصوص النبوية ، قال تعالى : ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ٌ) (الحديد:3) وفي صحيح مسلم ، قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء ) .
واسم الله الباطن يدل على ذات الله وصفة القرب والإحاطة واحتجاب الحق عن الخلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة القرب واحتجاب الحق وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعظمة والقدسية ، وكل ما يلزم لكونه محيط بكل شيء .(11/20)
والباطن هو المحتجب عن أبصار الخلق الذي لا يدركه الخلق بتصور الكيفية لعجزهم لا لعدم وجودها ، فمعنى الباطن أي الذي احتجب عن أبصار الناظرين مع تجليه لبصائر المؤمنين ، والباطن يكون أيضا بمعنى العالم لما ظهر من الأمور في عالم الشهادة والمطلع على ما بطن من الأمور في عالم الغيب ، والله عز وجل احتجب لعظمته وعزته وكمال حكمته ، فعند البخاري ومسلم من حديث أَبِى مُوسَى أنه قَال قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَال : إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ القِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِليْهِ عَمَلُ الليْلِ قَبْل عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْل عَمَلِ الليْلِ حِجَابُهُ النُّورُ ، وَفِى رِوَايَةِ ، لوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِليْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلقِهِ ) ، والله عز وجل باطن قريب أقرب إلينا من حبل الوريد ( وَلقَدْ خَلقْنَا الأِنْسَانَ وَنَعْلمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِليْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ) (قّ:16) .(11/21)
كيف ندعو الله باسمه الباطن دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء مسألة كما في الحديث : ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) ، أما دعاء العبادة فالإقرار العبد أن اللّه هو المقدر المدبر ، وأن الأسباب التي أظهرها الله بحكمته هي كالآلة بيد صانعها ، واللّه من ورائهم محيط هو القادر الفاعل بلطائف القدرة وخفايا المشيئة ، قال اللّه تعالى : ( أَفرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخَالقُونَ ) (الواقعة:5859 ، وكذلك قال تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أأَنْتُمْ تَزْرَعُوَنهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ) ، فنسب الزراعة لنفسه مرة لأنه الباطن الذي استتر عن خلقه بلطائف القدرة وخفايا المشيئة ، ونسبها إلينا فقال : ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً ) (يوسف:47) فنسب الزراعة إلينا لأنه الظاهر الذي أظهر الأسباب في خلقه ، لتكليفنا بالعمل ، وأحكام العمل والاجتهاد عائدة علينا ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنْ النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ قَال: (أَصْدَقُ بَيْتٍ قَالهُ الشَّاعِرُ أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ ) فنفي ما سوى اللّه على اعتبار أنه المتوحد في القدرة الباطن في حجاب ، وهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن الحياة التي ابتلانا الله بها هي أسباب حق تؤدي إلي نتائج صدق ، ثم لم يمنعه ذلك أن قال أصدق بيت قاله الشاعر: أَلا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ ، إيثاراً منه للتوحيد وتوحيدا للمتوحد ، نلتقي معلم في محاضرة جديدة لشرح ما تيسر من أسماء الله الحسنى ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(11/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة الثالثة
علي أعلى متعال عظيم مجيد
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وأهل بيته أجمعين وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ..
يقول تعالى : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180) ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى ) (الإسراء:110) ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى) (طه:8) فالله عز وجل هو الرب وهو الإله وهو الواحد وهو الأحد وهو الصمد وهو السيد وهو الحي وهو القيوم وهو المالك وهو الملك وهو المليك وهو الحق وهو المبين ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( الأسماء الحسنى هي التي يدعى الله بها ، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) ومن أسمائه الحسنى التي دل عليها الكتاب والسنة اسمه العلى واسمه الأعلى واسمه المتعال واسمه العظيم واسمه المجيد .(12/1)
الاسم الرابع عشر من الأسماء الحسنى هو اسم الله العلى : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن والسنة ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ) (البقرة:255) ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) (الحج:62) (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) (لقمان:30) (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) (سبأ:23) (ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ) (غافر:12) (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ) (الشورى:4) ، وفي سنن ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني من حديث عبادة بْنِ الصَّامِتِ أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ تَعَارَّ أرق واستيقظ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ(12/2)
شيء قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ ، ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لي غُفِرَ لَهُ ، وفي سنن ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِىُّ العَظِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ .(12/3)
والعلي هو الذي علا بذاته وارتفع ارتفاعا مطلقا ، فكان فوق الكل ، ودائما ما يقترن اسم الله العلي بالعظمة وذكر العرش والكرسى ، ففي آية بعد أن قال : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) (البقرة:255) ولما ذكر علو ملك الملوك ذكر بعده العرش وسعته ، ( فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ) (المؤمنون:116) ولما ذكر إعراض الخلق عن عبادته ذكر العرش وأنه الملك : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُل حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (التوبة:129) ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) (المؤمنون:116) ( قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء:42) ( أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (النمل:26) ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو العَرْشِ يُلقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) (غافر:15) ( ذُو العَرْشِ المَجِيدُ) (البروج:15) .(12/4)
فالعلي دل على علو الذات والفوفية ، وكثير من الناس يحاولون تفسير العلو في اسمه العلي بعلو المكانة المنزلة هربا من إثبات علو الذات والفوقية ، وظنا منهم أن الاستواء على العرش يوجب التشبيه ، كما قال أبو حامد الغزالي في المقصد الأسمى : ( العليُّ هو الذي يَعلو على خَلقِه بقهرِهِ وقدرَتِهِ ، ويستحيلُ وصفُه بارتفاعِ المكانِ لأنه تعالى منزّهٌ عن المكانِ والله خالِقُه ُ) .
فجعل اسم الله العلي دالا على معنيين فقط من معاني العلو ، وهو علو الشأن وعلو القهر وعطل المعنى الثالث الذي هو علو الذات والفوقية ، والذي دل عليه استواء الله على عرشه ، فمعاني العلو عند السلف ثلاثة معان دلت عليها أسماء الله المشتقة من صفة العلو ، فالعلي دل على علو الذات ، والأعلى كما سنري دل على علو الشأن ، والمتعال دل على علو القهر ، وهؤلاء المتكلمون الأشعرية ينفون علو الذات والفوقية ، لأن ذلك عندهم يدل على إثبات المكان لله وما كان في مكان فهو محصور فيه والله ليس كذلك ولذلك لا يجوز عندهم أن يسأل عن الله بأين ؟(12/5)
وهذا مخالف للسنة الصريحة ، فالرسول ثبت عنه في حديث الجارية الذي رواه مسلم من حديث مُعَاوِيَة بْنِ الحَكَمِ السُّلَمِىِّ قَالَ : َكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالجَوَّانِيَّةِ فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِى آدَمَ آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ لَكِنِّى صَكَكْتُهَا صَكَّةً فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَىَّ قُلتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ أُعْتِقُهَا قَالَ : ائْتِنِي بِهَا ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ اللَّهُ ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاء ؟ قَالَ : مَنْ أَنَا ؟ قَالَتْ : أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ : أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ ، وهذا الحديث مع وضوحه كالشمس في أن الرسول سأل عن الله بأين والتي لا لبس فيها ولا غموض ؟ إلا أن المتكلمين إما يردون الحديث أو يبحثون له عن مخرج .(12/6)
والمكان في عرفهم لا يطلق إلا على المكان الذي في عالم الشهادة والذي يخضع لأحكامه ، أما المكان الغيبي الذي لا يعلم كيفيته إلا الله فهذا لا اعتبار له عندهم ، ولذلك فرق السلف بين نوعين من المكان ، الأول هو ما كان محصورا خاضعا لأحكامنا في محيط المخلوقات المشهودة ، والثاني يراد به المكان الغيبي الذي يخرج عن مداركنا ولا نعلم له كيفية ، لصعوبة ذلك علينا ، والمكان بهذا الاعتبار لا يخضع بحال من الأحوال لمقاييس المكان في حسابات المخلوقين ، فمكان الشيء يحدد في حساب المقاييس الحديثة باعتبار ثلاثة محاور رئيسية متعامدة ، اثنان يمثلان المستوى الأفقي الموازى لسطح الأرض والثالث يمثل الارتفاع عن ذلك المستوى ، وأجسام الدنيا يحدد مكانها بمدى الارتفاع في المحور الرأسي عن مستوى المحورين الأفقيين ، ولاشك أن هذه المقاييس المكانية لا تصلح بحال ما في قياس ما هو خارج عن محيط العالم ، وملك الموت عندما يأتي لقبض الروح لا يحجبه جدار محكم أو قرار مغلق كما قال رب العزة والجلال : ( أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) (النساء:78) ، فملك الموت مخلوق ولا يخضع في مكانه وزمانه لمقاييسنا التي يريدون بها الحكم على استواء الله ، ومن ثم فلا يصلح أن نمنع دلالة الآيات والأحاديث بحجة أننا لو أثبتناها لكان الله في مكان وما كان في مكان فهو حادث مخلوق ، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال للجارية : أين الله ؟ علم أن أين للمكان ، ويعلم لوازم قوله ، ولو كان في ذلك خطأ وتشبيه وتجسيم كما تدعي الأشعرية ما سأل الجارية بلفظ إثبات معناه يحمل الخلاف والشقاق بين الأمة ، والجارية لما قالت في السماء تعني العلو ، وشهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان ، فلا إشكال عند العقلاء في فهم حديث رسول الله ، والأمر واضح جلي ظاهر ، فأي اعتراض منهم على ذلك إنما هو اعتراض على رسول الله(12/7)
صلى الله عليه وسلم ووصف له بعدم العلم أو بعدم القدرة على التعبير عن المراد .
وعلو الفوقية أو علو الذات الذي دل عليه اسمه العلي ثابت علي الحقيقة بالكتاب والسنة وإجماع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم ، فهو سبحانه وتعالي مستو علي عرشه بائن من خلقه لا شيء من ذاته في خلقه ولا خلقه في شيء من ذاته ، يعلم أعمالهم ويسمع أقوالهم ويري أفعالهم لا تخفي عليه منهم خافية ، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصي وأجل من أن تستقصي والفطرة السليمة والقلوب المستقيمة مجبولة علي الإقرار بذلك ، يقوله تعالي : (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (النحل:50) فهنا تصريح بالفوقية مقرون بآداة معينة للفوقية بالذات وهي من ويقول : ( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ) (المعارج:4) 555 - وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِى صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِى فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ) ، لكن عند الأشعرية يعرجون ويبحثون على ربهم فلا يجدونه لأنه عندهم موجود ولا يعلم أحد أين هو ؟(12/8)
ومن الأدلة على علو الذات والفوقية التصريح بالصعود إليه نحو قوله تعالي : ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (فاطر:10) والتصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله تعالي : ( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) (آل عمران:55) وعند البخاري في روايتين تفصحان عن عقيدة الصحابة في هذه المسألة الأولي يقول فيها أَنس بْن مَالِكٍ رضى الله : كَانَتْ زَيْنََ بِنْتِ جَحْشٍ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَكَانَتْ تَقُولُ إِنَّ اللَّهَ أَنْكَحَنِى فِى السَّمَاءِ ، والثانية يقول أَنَسٍ : كَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَقُولُ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَماَوَاتٍ ، وعند البخاري أيضا من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلقَ كَتَبَ في كِتَابِهِ ، فَهْوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إِنَّ رحمتي غَلَبَتْ غَضَبِى ) .
واسم الله العلي يدل على ذات الله وصفة العلو علو الفوقية بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة العلو والفوقية بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والملك والصمدية ، والعظمة والقوة ، والعزة والقدرة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه بالعلو فوق الكل .(12/9)
كيف ندعو الله باسمه العلي دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ ، دعاء المسألة كما في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي أَنَّ نَبِىَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِىُّ الحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ ، وأيضا في قوله : ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لي غُفِرَ لَهُ .(12/10)
أما دعاء العبادة فهو اعتقاد يدفع إلى الإيمان بعلو الله على خلقه وأنه الكبير الذي يركن إليه العبد ، وأن كل من سواه مهما علا فلا يمثل شيئا بجوار علو الله ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) (الحج:62) ، فالله عز وجل هو المنفرد بالعلو والعظمة ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) (الشورى:4) ، ( قُل لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء:42) المؤمن يعلم أنه لو أعرض عن ربه فهو الخاسر والله هو الغني لأنه العلى في سماه ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُل حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ) (التوبة:129) فدعاء العبادة أفعال تدل على توحيد الله وأنه لا يخشى أحدا سواه لأن من أسمائه الحسنى العلى ، وإذا كانت الملائكة تخشع عند سماع قوله وتفزع عن إلقاء وحيه كما جاء ذلك في قوله : (حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) (سبأ:23) إذا كان هذا أمرها وهذا قولها ، فحري بالعبد أن يخشع لسماع كلام الله ويتذلل بين يدي مولاه ويعلم أنه العلى الكبير .(12/11)
الاسم الخامس عشر هو اسم الله الأعلى ، فقد ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من نصوص القرآن والسنة فمن القرآن : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) (الأعلى:1) ( وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى) (الليل:20) ، وفي صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قَالَ : صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ .. إلى أن قال : ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ، وروي أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَرَأَ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قَالَ : سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى .(12/12)
واسم الله الأعلى يدل على ذات الله وعلى علو الشأن المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة علو الشأن المطلق بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية ، وانتفاء الشبيه والمثلية ، والكمال المطلق في كل شيء ، فالله سبحانه تعالي عن جميع النقائص والعيوب المنافية لألولهيته وربوبيته ، تعالي في أحديته عن الشريك والظهير والولي والنصر ، وتعالي في عظمته عن الشفيع دون إذن أو خضوع ، وتعالي في صمديته عن الصاحبة والولد وأن يكون له كفوا أحد ، تعالي في كمال حياته وقوميته وقدرته عن السنة والنوم ، وتعالي في كمال حكمته عن العبث والظلم ، وتعالي في كمال علمه عن الغفلة والنسيان ، وعن ترك الخلق سدي دون غاية لخلق الجن والإنسان ، وتعالي في كمال غناه يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ويرزُق ولا يُرزَق ، بل هو على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يحتاج إلى شيء ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) ، تعالي في صفات كماله ونعوت جلاله عن التعطيل والتمثيل ، قال تعالي : ( هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) (مريم:65) ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الخَلقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (الروم:27) .(12/13)
كيف ندعو الله باسمه الأعلى دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه لربه ليطلب به الاستقامة في أقواله وأفعاله حتى يصل إلى الكمال الذي تقبل به الأعمال ويرفعها رب العزة والجلال ، فيتعزز بذل العبودية ويسأل الله باسمه الأعلى أن يكون في الرفيق الأعلى ، أما دعاء العبادة فهو عمل يخضع فيه العبد لربه في أعلى درجات قربه ، فيدعو الله ويسبحه باسمه الأعلى ، وقمة الخضوع تكون في السجود للمعبود ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : أَقْرَبُ مَا يَكُونُ العَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ ، وفي سنن أبي داود وابن ماجة وحسنه الشيخ الألباني من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، قَالَ : اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ .(12/14)
ومن دعاء العبادة أن يكون سلوك العبد في الحياة إخلاص يبتغي به وجه الله وأن يكون مطلبه هو الرفيق الأعلى : ( وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ) (الليل:20) ، وعند الإمام البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنه كَانَتْ تَقُولُ : إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَىَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفِّىَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي ، وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي ، وَأَنَّ اللَّهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، دَخَلَ عَلَىَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلتُ آخُذُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَتَنَاوَلتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ ، وَقُلتُ أُلَيِّنُهُ لَكَ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ ، فَلَيَّنْتُهُ ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلبَةٌ فِيهَا مَاءٌ ، فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي المَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، إِنَّ لِلمَوْتِ سَكَرَاتٍ ، ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ : في الرَّفِيقِ الأَعْلَى ، حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ .(12/15)
الاسم السادس عشر هو اسم الله المتعال ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن والسنة ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع علامات الاسم ، فمن القرآن : (عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ ) (الرعد:9) وروى أحمد في المسند بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ ( وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون َ) قَالَ : ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا الجَبَّارُ أَنَا المُتَكَبِّرُ أَنَا المَلِكُ أَنَا المُتَعَالِ ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) .(12/16)
والمتعال عند أغلب المفسرين هو المستعلي على كل شيء بقدرته ، قال ابن كثير : ( المتعال على كل شيء قد أحاط بكل شيء علما وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعا وكرها ) ، فالمتعال هو الذي ليس فوقه شيء في قهره وقوته ، فلا غالب ولا منازع له سبحانه ، بل كل شيء تحت قهره وسلطانه ( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ) ، ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون َ) (المؤمنون:91) فلو فرضنا وجود إلهين اثنين متنازعين متشاكسين ، مختلفين ومتضادين ، وإراد أحدهما شيئا خالفه الآخر ، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر ، فالذي لا تنفذ إرادته فهو المغلوب العاجز ، والذي نفذت إرادته هو المتعالي القادر ، وقد أحسنت الجن لما قالت : ( وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً) (الجن:3) ، وقد جمع الله تعالي بين علو الذات وعلو القهر في قوله تعالي : (الأنعام:18) (وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (الأنعام:61) أي هو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله كل شيء وذل لعظمته وكبريائه كل شيء وعلا علي عرشه فوق كل شيء .
واسم الله المُتعَال يدل على ذات الله وعلى علو القهر المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة علو القهر المطلق بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والقوة والأحدية ، والكبرياء والعظمة ، والجبروت والعزة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال .(12/17)
كيف ندعو الله باسمه الأعلى دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه لربه ليطلب به الرفعة إن كان ذليلا ، والعزة إن كان مقهورا ، فيسأل الله باسمه المتعال ، أما دعاء العبادة فهو مظهر يخضع فيه العبد الضعيف الفقير للعلي الأعلى المتعال ، فلا يخلع عن نفسه رداء العبودية لينازع ربه في علو القهر والشأن والفوقية ، أو يشاركه في العلو والكبرياء وعظمة الأوصاف والأسماء ، وقد ثبت في الحديث القدسي: ( الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) ، وروى الإمام مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) .
الاسم السابع عشر هو اسم الله العظيم ، فقد ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، فمن القرآن : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) (البقرة:255) (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ) (الشورى:4) (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ) (الواقعة:74) (الواقعة:96) (الحاقة:52) (إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ) (الحاقة:33) .(12/18)
وفي صحيح البخاري من حديث أَبِى العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ : ( كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) وعند البخارى أيضا من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِى المِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) ، وفي سنن أبى داود وصححه الشيخ الألباني عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ قَالَ لَقِيتُ عُقْبَةَ بْنَ مُسْلِمٍ فَقُلتُ لَهُ بَلَغَنِى أَنَّكَ حَدَّثْتَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ وَسُلطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، قال نَعَمْ ، وقَالَ أيضا : فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مِنِّى سَائِرَ اليَوْمِ .
والعظيم لغة هو بمعنى السعة في الذات والكمال في الصفات ، مع العز والمجد والكبرياء ، واسم الله العظيم يدل على ذات الله وعلى صفة العظمة المطلقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة العظمة المطلقة بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية ، وانتفاء الشبيه والمثلية ، والكمال المطلق في كل شيء .(12/19)
فالله عز وجل عظيم في ذاته وصفاته ، فعظمة الذات دل عليها الحديث المرفوع الذي ذكره الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) ، وقد صح عن ابن عباس موقوفا : ( الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى ) ، أما عظمة الصفات ، فالله عز وجل قال في كتابه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى:11) (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) (مريم:65) .
كيف ندعو الله باسمه العظيم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما روي البخاري من حديث أَبِى العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ : ( كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ وعند البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني من حديث الحارث بن سويد أن عبد الله بن مسعود قال : ( إذا كان على أحدكم إمام يخاف تغطرسه أو ظلمه فليقل اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم كن لي جارا من فلان بن فلان وأحزابه من خلائقك أن يفرط علي أحد منهم أو يطغى ، عز جارك وجل ثناؤك ولا اله إلا أنت ) ، وأما دعاء العبادة فهو أن يظهر العبد بمظهر التواضع والذل والافتقار إلى عظمة الله ، ويكثر من ذكره وتعظيمه ، وعند البخاري كما تقدم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ في المِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) .(12/20)
الاسم الثامن عشر هو اسم الله المجيد ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من مواضع القرآن والسنة ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه فمن القرآن قوله تعالى : ( ذُو العَرْشِ المَجِيدُ ) (البروج:15) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ذو العرش المجيد رفعا ، وقرأ حمزة والكسائى ذو العرش المجيد خفضا ، وقال تعالى : ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (هود:73) وعند البخاري من حديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِىُّ رضي الله عنه أَنَّهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .(12/21)
والمجيد اسم للموصوف بالمجد ، والمجد هو الفخر والكرم والعز والرفعة ، والمجد لله في السماوات والأراض فهو العلى الذي استوى على عرشه ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) والعرش أعلى المخلوقات ، روي البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلاَ نُنَبِّئُ النَّاسَ بِذَلِكَ ، قَالَ : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ ، كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ .
فالله عز وجل على في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ، ملك على العرش استوى ، هو المعبود بحق في السماء والأرض ( فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ ) (المؤمنون:116) ( سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُون َ) (الزخرف:82) ، واسم الله المجيد يدل على ذات الله وعلى صفة العلو والمجد المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة المجد المطلق بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسيادة والصمدية ، وانتفاء الشبيه والمثلية ، والكمال المطلق في كل شيء .(12/22)
كيف ندعو الله باسمه المجيد دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه لربه ليطلب به ما يريد كقوله صلى الله عليه وسلم : ( قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) .
ودعاء العبادة أن يكون العبد في سلوكه وشأنه متعاليا عن النقائص والعيوب ، سريع التوبة من المعاصي والذنوب يطلب العلى والرفيق الأعلى مع الأبرار في عليين (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (المطففين:18) في جنات النعيم خالدين : ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ) (آل عمران:198) ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً) (الكهف:108) .
كما أن المؤمن يمجد ما مجده المجيد حيث قال : ( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) (قّ:1) (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج:22) فيعظم كلام الله ولا يهون من شأنه فيقصر في تنفيذ أمره ويتردد في تصديق خبره ، لأن الله قال في شأنه : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت:42) فالمجيد اسم من أسماء الله دل على كثرة إحسانه وأفضاله ، ووصف الله تعالى قرآنه بأنه مجيد لعظيم نفعه وكماله .(12/23)
أستغفر الله رب العرش خالقنا : مما جنيت ومما يورث الندما - يا رب يا رب يا ذا العفو يا أحد يا مالك الملك بل يا أكرم الكرما - يا بر يا حي يا قيوم يا صمد : أنت الكريم ومن يرجوك ما ندما - أدعوك يا رب تنجينا وترحمنا : فأنت أكرم من يرجى ومن رحما ..... والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(12/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة الخامسة
عليم خبير قادر قدير مقتدر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) ( النساء:1) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( الحشر:18) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُون ) (آل عمران:102) أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلي الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ..
الاسم التاسع عشر من الأسماء الحسنى هو اسم الله العليم : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، كقوله : ( فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (البقرة:137) فمرة يرد الاسم مقترنا باسم الله السميع : ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ) (العنكبوت:60) ( وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيم ) (فصلت:36) .(13/1)
وفي مرات أخري يرد الاسم مقترنا باسم الله الحكيم كقوله : ( وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ) (الزخرف:84) ( قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ) (الذريات:30) ، ومرة يرد الاسم مقترنا باسم الله القدير كقوله : ( يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ) (الروم:54) ، ومرة يرد الاسم مقترنا باسم الله العزيز كقوله : ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ) (الأنعام:96) (وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ ) (الزخرف:9) ، ومرة يرد الاسم مقترنا باسم الله الخبير كقوله : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ ) (التحريم:3) ، ومرة يرد الاسم مقترنا باسم الله الخلاق كقوله : ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ ) (الحجر:86) ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ ) (يّس:81) ومقترنا باسم الله الفتاح كقوله : ( قُل يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَهُوَ الفَتَّاحُ العَلِيمُ ) (سبأ:26) .(13/2)
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِيمُ الحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ .
وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه أنه قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ كَبَّرَ ثُمَّ يَقُولُ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ، ثُمَّ يَقُولُ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، ثَلاَثًا ثُمَّ يَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا ، ثَلاَثًا : أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ، ثُمَّ يَقْرَأُ .(13/3)
وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبان بن عُثْمَان بنَ عَفَّانَ عن أبيه أنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لاَ يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلاَءٍ حَتَّى يُصْبِحَ ، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ لَمْ تُصِبْهُ فَجْأَةُ بَلاَءٍ حَتَّى يُمْسِىَ ، قَالَ راوي الحديث : ( فَأَصَابَ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ الفَالِجُ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ الَّذِي سَمِعَ مِنْهُ الحَدِيثَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ : مَا لَكَ تَنْظُرُ إِلَىَّ ؟ فَوَاللَّهِ مَا كَذَبْتُ عَلَى عُثْمَانَ وَلاَ كَذَبَ عُثْمَانُ عَلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، وَلَكِنَّ اليَوْمَ الَّذِي أَصَابَني فِيهِ مَا أَصَابَنِي غَضِبْتُ فَنَسِيتُ أَنْ أَقُولَهَا ) .
واسم الله العليم يدل على ذات الله وصفة العلم بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة العلم وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلو القوة ، والقدرة والعزة ، وكل ما يلزم لقيام صفة العلم وما تؤدي إليه .(13/4)
وعلم الله عز وجل له مراتب ، منها علمه بالشيء قبل كونه وهو سر الله في خلقة ، ضن به ربنا سبحانه وتعالى ، لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وهو علم مفاتح الغيب وتقدير الأمور ، كما قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَليمٌ خَبِيرٌ ) ( قُل لا يَعْلمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) ، ومن مراتب العلم علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ مشيئته ، فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة ، فالمخلوقات في اللوح عبارة عن كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من معلومات تضمنتها الكلمات ، مرهون بمشيئته في تحديد الأوقات المناسبة لأنواع الابتلاءات التي يحدثها لخلقه ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حسابات وتقديرات ، يقول تعالى : ( أَلمْ تَعْلمْ أَنَّ اللهَ يَعْلمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ) (الحج:70) ، وقال تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْل أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ ، لكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (الحديد:23) ، ومن مراتب العلم علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ، وخلقه وتصنيعه ، كما قال تعالى : ( اللهُ يَعْلمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَار ٍعَالمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَال ) ( يَعْلمُ مَا يَلجُ فِي الأَرْضِ(13/5)
وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ ) (سبأ:2) ومن مراتب العلم علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته الكاملة بعد تمامه وفنائه ، فالله عز وجل لما قال : ( وَهُوَ الذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِالليْل وَيَعْلمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ليُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً ثُمَّ إِليْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) (الأنعام:60) ( قَدْ عَلمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ) (قّ:4) ( أَلمْ يَعْلمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الغُيُوبِ ) (التوبة:78) ، فالله عز وجل عالم بما كان وما هو كائن وما سيكون وما لو كان كيف يكون على ما اقتضته حكمته البالغة .
كيف ندعو الله باسمه العليم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في صحيح البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِيمُ الحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ .(13/6)
أما دعاء العبادة فهو اعتقاد يدفع إلى الإيمان بأنه مهما بلغ عمله فهو إلى علم الله أحوج ، فيتواضع إلى علمه ويلين إلى خلقه بزيادة التقوى التي هي باب العلم ومفتاحها : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (البقرة:282) ، ( نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ ) (يوسف:76) كما أنه يسعد بتعليم الناس ابتغاء وجه الله الذي منحه وأعطاه من علمه ، ورد في سنن الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ أنه قَالَ : ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِى عَلَى أَدْنَاكُمْ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ .(13/7)
الاسم العشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله الخبير : فقد سمي الله نفسه به في كتابه وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، وقد ورد المعني في النصوص محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن قوله تعالى : ( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (الأنعام:18) ، وأغلب المواضع التي ورد فيها يرد مقترنا باسم الله الحكيم ، كقوله : ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحَقُّ وَلَهُ المُلكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (الأنعام:73) ويقول : ( الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (سبأ:1) وورد مقترنا باسم الله اللطيف كقوله : ( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (الأنعام:103) ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) (الملك:14) وورد مقترنا باسم الله العليم كقوله : ( وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ ) (التحريم:3) .
وفي صحيح مسلم من حديث قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الخَبِيرُ .(13/8)
الخبير هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولا تتحرك حركة إلا وهو يعلم مستقرها ومستودعها فهو العالم بدقائق الأشياء وحقائقها ، أو الخبير العالم بالأشياء عن طريق الخبر والسماع ، فالله خبير يعلم الأشياء قبل الإخبار عنها وبعد الإخبار عنها ، فله جنود السماوات والأرض يخبرونه بالوقائع على سبيل تحقيق الحكمة في الخلق ، فعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلاَئِكَةٌ بِالنَّهَارِ ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ العَصْرِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ ، فَيَسْأَلُهُمْ وَهْوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ) ، وهو خبير أيضا من حيث علمه الكامل بأحوال المخلوقات وحقائقها ودقائقها ، وفي ذلك ترغيب وترهيب للمكلفين فمن علم أن الله خبير بأحواله كان محترزا في أقواله وأفعاله واثقا أن ما قسم له سوف يدركه ، فيرى جميع أنواع التدبير واقعة بإذن الله من الله فتهون عليه الأمور ويركن إلي اللطيف الخبير .
واسم الله الخبير يدل على ذات الله وصفة العلم المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة العلم المطلق بالتضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلو القوة ، والقدرة والعزة ، وكل ما يلزم لقيام صفة العلم والخبرة وما تؤدي إليه .(13/9)
كيف ندعو الله باسمه الخبير دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ ، دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يتقرب إلى ربه بذكره كأن يقول المسلم في دعائه : اللهم إني أسألك بأنك أنت اللطيف الخبير أن تعافيني مما أنا فيه ، أما دعاء العبادة فيظهر من خلال اعتماد العبد على ربه في كل صغيرة وكبيرة من أمره ، فيجعل حول وقوته بربه ، وعند البخاري من حديث البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم قَالَ له : ( إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ ، ثُمَّ قُلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وجهي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أمري إِلَيْكَ ، وَأَلجَأْتُ ظهري إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الذي أَنْزَلتَ ، وَبِنَبِيِّكَ الذي أَرْسَلتَ ، فَإِنْ متَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الفِطْرَةِ ، وَاجْعَلهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ ) .(13/10)
الاسم الحادي والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله القادر : فقد سمي الله نفسه به في القرآن وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن قوله تعالى : ( قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ) (الأنعام:65) ( وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُل إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الأنعام:37) ( وَأَنْزَلنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ) (المؤمنون:18) ( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) (المؤمنون:95) ( فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ ) (المرسلات:23) ( فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ) (المعارج:40) ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الخَلاقُ العَلِيمُ ) (يّس:81) ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) (الطارق:8) .(13/11)
وفي صحيح البخاري من حديث جَابِر بن عبد الله رضي الله عنه قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ : ( قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ، قَالَ : ( أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ) ، قَالَ : أَعُوذُ بِوَجْهِكَ ، ( أَوْ يَلبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : هَذَا أَهْوَنُ ، أَوْ هَذَا أَيْسَرُ .
واسم الله القادر يدل على ذات الله وصفة التقدير المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة التقدير المطلق وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية ، والعدل والقدرة والعظمة والحكمة وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه بالتقدير المطلق .(13/12)
والقادر هو الذي يرتب المقادير من كونها معلومة في علم التقدير وحساب المقادير ، حيث تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وينظم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، ثم يكتب في اللوح هذه المعلومات ، ويدونها بالقلم في كلمات ، وكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه ، كتب الله ما يخصه في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يتعلق بتكوينه وترتيب حياته ، ثم يشاء بحكمته أن يكون الأمر على تقديره وقدرته ، ولذلك فإن القدر عند السلف مبنى على أمرين اثنين : التقدير والقدرة ، فبدايته في التقدير ، وهو العلم السابق علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعه وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، فهذا العلم هو التقدير الجامع التام ، وهو حساب النظام العام ، الذي يسير عليه الكون بمنتهى الإتقان من بدايته إلى نهايته وفي صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أن رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال : ( كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الخَلائِقِ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ، وَعَرْشُهُ عَلى المَاءِ ) وفي رواية الترمذي ( قَدَّرَ اللهُ المَقَادِيرَ قَبْل أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ ) ( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (الحجر:21) ( مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) (الأحزاب:38) ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ(13/13)
شَيْءٍ قَدْراً ) (الطلاق:3) .
كيف ندعو الله باسمه القادر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دع اء المسألة أن يذكر الاسم أو الصفة التي دل عليها في دعائه ، كما ورد عند البخاري من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا الاِسْتِخَارَةَ فِي الأُمُورِ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ يَقُولُ : إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَليَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لي وَيَسِّرْهُ لي ثُمَّ بَارِكْ لي فِيهِ ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لي في ديني وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ في عَاجِلِ أمري وَآجِلِهِ ، فَاصْرِفْهُ عَنِّى وَاصْرِفْنِي عَنْهُ ، وَاقْدُرْ لِي الخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي ، وَيُسَمِّى حَاجَتَهُ ) .(13/14)
أما دعاء العبادة فيظهر من خلال عمل العبد بشرع الله وإيمانه بتقدير الله ، يعلم أن تقسيم المقادير بيديه وأن المبتدا منه والمنتهى إليه ، وكل ميسر لما سيصير إليه ، وفي سنن روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: (كُنْتُ خَلفَ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَوْمًا فَقَال يَا غُلامُ إِنِّي أُعَلمُكَ كَلمَاتٍ احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلتَ فَاسْأَل اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَاعْلمْ أَنَّ الأُمَّةَ لوِ اجْتَمَعَتْ عَلى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لكَ وَلوِ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَليْكَ رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ) .(13/15)
الاسم الثاني والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله القدير : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن والسنة ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ) (الروم:54) وقال أيضا : ( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (آل عمران:26) ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلماً ) (الطلاق:12) .(13/16)
وفي صحيح البخارى من حديث مُعَاوِيَةَ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ ، وَلَهُ الحَمْدُ ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ، وفي صحيح البخارى عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ ، وَلَهُ الحَمْدُ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ . فِى يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ ، إِلاَّ أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
واسم الله القدير يدل على ذات الله وصفة القدرة المطلقة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفة القدرة المطلقة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني الأحدية ، والعلم السمع والقوة والعظمة والحكمة وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه بالقدرة .
والقدير مبالغة للموصوف بالقدرة ، فبداية القدر كما علمنا في التقدير ونهايته في القدرة وتحقيق المقدر ، قدرة الله تعالى على تحقيق ما قدره بعلمه ، وكتبه ، وما شاء خلقه وتكوينه ، فلا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بتقديره وبعد كتابته ومشيئته وقدرته ، فبداية القدر العلم والتقدير ، والنهاية في القدرة وتنفيذ المقدر ، ولذلك يقول : ( وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (الأحزاب:38) .(13/17)
ويذكر العلامة ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين أن القضاء والقدر منشؤه عن علم الرب وقدرته ، ولهذا قال الإمام أحمد القدر قدرة الله واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من الإمام أحمد غاية الاستحسان ، ولهذا كان المنكرون للقدر فرقتين ، فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته ، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة ، وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العبادة مقدورة لله تعالى ، وصرحت بأن الله لا يقدر عليها ، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب وأنكرت الأخرى كمال علمه .
كيف ندعو الله باسمه القدير دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يذكر الاسم أو الصفة التي دل عليها في دعائه ، كما ورد عند الإمام البخاري من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه في الاستخارة : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ ) .
وفي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من أَبِى عَيَّاشٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ قَالَ إِذَا أَصْبَحَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ كَانَ لَهُ عِدْلُ رَقَبَةٍ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَكُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَحُطَّ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ وَرُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ وَكَانَ فِي حِرْزٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى يُمْسِىَ وَإِنْ قَالَهَا إِذَا أَمْسَى كَانَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ حَتَّى يُصْبِحَ ) ، أما دعاء العبادة فشأنه كما ورد في اسم الله القادر .(13/18)
الاسم الثالث والعشرون من الأسماء الحسنى هو اسم الله المقتدر : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه مع اجتماع علامات الاسم فيه ، فمن القرآن : ( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) (الكهف:45) ( فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ) (الزخرف:42) ( وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ) (القمر:42) ( إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (القمر:55) .
والمقتدر اسم فاعل من اقتدر ، والأصل قدَّر يقدر ، وقدَر يقدر قدرة ، والقدرة على الشيء هو تسليط القوة والتمكن من الفعل ، وتقدير الله وقدرته من أوصاف ذاته ، ومن لوازم كماله وقوته ، ومن ثم فإن كل شيء يجري بتقديره ومشيئته ، وخلقه وقدرته .
واسم الله المقتدر يدل على ذات الله وصفة التقدير والقدرة معا بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى وصفة التقدير والقدرة بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني الأحدية ، والعلم السمع والقوة والحكمة والعدل والهيمنة والعظمة والكبرياء والعزة ، وكل ما يلزم من صفات الذات وصفات الفعل لاتصافه بالتقدير والقدرة .(13/19)
كيف ندعو الله باسمه المقتدر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يذكر الاسم أو الصفة التي دل عليها في دعائه ، كما في القادر والقدير ، وأما دعاء العبادة فاعتقاد وعمل اعتقاد العبد في قدرة الله على جميع الموجودات ، وإيمانه بخلقه وتكوينة لجميع الكائنات ، وينزه الله عز وجل أن يكون في ملكه شيء لا يقدر عليه ، ويثبت التقدير السابق على الخلق ، وأن العباد يعملون على ما وفق ما قدره الحق ، وأن ما جف به القلم في اللوح عند الله واقع محتوم وأن العباد لا يشاءون إلا أن يشاء الله ، ولا يفعلون إلا من بعد علمه وكتابته ، ومشيئته وقدرته ، وأن هذا عام في كل ما خلق وما يخلق وما سيخلق ، وأن الله عز وجل خلق الدنيا بأسباب تؤدي إلى نتائج ، وعلل تؤدي إلى معلولات ، وأن السبب والنتيجة ، أو العلة والمعلول مخلوقان بمراتب القدر بين التقدير والقدرة ، سواء ارتبط المعلول بعلته أو انفصل عن علته ، فالعلل والأسباب سواء ترابطت أو انفصلت لا يؤثر ذلك في تعلقها بمراتب القدرة ، ولكن العلل والأسباب ترابطها أو انفصالها ظاهر عن كمال الحكمة في ابتلاء العباد ، فأهل اليقين ينظرون إلى الأسباب ويعلمون أن الله خلقها بمراتب القدر ، فيجدون أن الله عز وجل تارة ينسب الفعل إليه لأنه الخالق بتقدير وقدرة ، وتارة ينسب الفعل إليهم عند دعوتهم إلي العمل بمقتضى الشريعة والعقل والحكمة ، فلا يتغافل العبد عن قدرته بدعوى الانشغال في النظر إلى حكمته ، فالله عز وجل يخلق بأسباب وبغير أسباب إن خلق بأسباب فهي العادات ، وإن خلق بغير أسباب فهي خوارق العادات أو الكرامات والمعجزات ، وهذا مقتضي التوحيد في اسم الله القادر والقدير والمقتدر .(13/20)
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (الأحزاب:56) سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .(13/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة الثامنة
قوي متين غني وارث رقيب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ لوْ أَنْزَلنَا هَذَا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعا مُتَصَدِّعا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لعَلهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) أما بعد .
تحدثنا عن خمسة وثلاثين اسما من أسماء الله الحسني التي تدل على أوصاف ذات الحق سبحانه وتعالى ، وهي على حسب ما ذكرناه الرب الإله الواحد الأحد الصمد السيد الحي القيوم المالك الملك المليك الحق المبين العلي الأعلى المتعال العظيم المجيد العليم الخبير القادر القدير المقتدر السميع البصير الأول الآخر الظاهر الباطن الكبير الحكيم العزيز الكريم القدوس السلام ، وحديثنا اليوم عن بقية الأسماء الحسني التي تدل على أوصاف ذات الحق سبحانه وتعالى وهي على حسب ما تيسر في جمعنا لها اسم الله القوي واسمه المتين واسمه الغني واسمه الوارث على اعتبار أن معنى الوارث هو الباقي واسمه الرقيب ، والآن نأتي إلى :(14/1)
الاسم السادس الثلاثون من أسماء الله الحسنى وهو اسمه القوي ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( فَلمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) (هود:66) وغالبا ما يقترن اسم الله القوي باسمه العزيز ، لبين أن قوته عن عزة وغنى ، لأن القوة دائما تتبعها مصلحة وحاجة تعود على صاحبها ، أصحاب القوة في العالم إما يأمنون بها أنفسهم ، أو يمنحونها لغيرهم طلبا لتبعيتهم وشراءا لذمتهم أو تهديدا لنهب لثرواتهم ومصا لدمائهم ، أما رب العزة والجلال فهو الغني عن العالمين ، وهو القوي الذي يلطف بالخلق أجمعين ، فقوته عن عزة وقدرة وحكمة من أحكم الحاكمين : ( اللهُ لطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) (الشورى:19) يطعم ولا يطعم ويرزق ولا يرزق ، يجير ولا يجار عليه ، لا ملجأ للخلائق منه إلا إليه ، ( الذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَليَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحج:40) ( مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيز ٌ) (الحج:74) ويقول تعالى : ( لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلهُ بِالْغَيْبِ(14/2)
إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (الحديد:25) فالأمر بيده لأن قوته غالبه ، وعزته لقوته مصاحبة ، كتب العزة لأوليائه الذين وحدوه في قوته ، ونزهوه في عظمته وعزته ( كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (المجادلة:21) وقد جعل الذل والصغار على المخالفين المستكبرين ، الظالمين الكافرين ( وَرَدَّ اللهُ الذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ) (الأحزاب:25) فالله قوي شديد العقاب لا يرد بأسه عن القوم الكافرين ، (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (الأنفال:52) ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَاب ِ) (غافر:22) ، وفي مسند الإمام أحمد وحسنه الألباني من حديث عَائِشَة رضي الله عنها في ذكرها لقصة يوم الخندق أنها قَالتْ : ( وَبَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَل الرِّيحَ عَلى الْمُشْرِكِينَ فَكَفَى اللهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) .(14/3)
والقوي في أسماء الله معناه أنه صاحب القدرة المطلقة وكمال المشيئة ، والقوة خلاف الضعف والعجز ، وهي الاستعداد الذاتي للقيام بالفعل ، والله سبحانه قوي في ذاته غيُر عاجز ، لا يعتريه ضعف أو قصور ، ولا يتأثر بوهن الدهور ، ولا يمنعه مانع ولا يدفعه دافع ، فالقُوَّةُ نقيض الضعف قال الله عز وجل لموسى حين كتب له الأَلواح : (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ) (لأعراف:145) أَي خذها بقُوَّة في دينك وحُجَّتك ، وقال ليحي : ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ) (مريم:12) أَي بِجِدّ وعَوْن من الله تعالى .
واسم الله القوى يدل على ذات الله وعلى صفة القوة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة القوة وحدها بدلالة التضمن ، كما قال تعالى : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (الذريات:58) ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والملك والصمدية ، والعظمة والأحدية ، والقدرة والعزة ، وكل ما يلزم لقيام صفة القوة وما يترتب عليها ، واسم الله القوي دل على صفة من صفات الذات .(14/4)
كيف ندعو الله باسمه القوي دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يسأل الضعيف في دعائه باسمه القوي ، وكما في صحيح مسلم من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أنه قَال : ( جَاءَ أعرابي إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال عَلِّمْنِى كَلاَمًا أَقُولُهُ ، قَال : قُل لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالمِينَ لاَ حَوْل وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ، قَال : فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّى فَمَا لي ؟ قَال : قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) ، وقال تعالى : ( وَلوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَل مِنْكَ مَالاً وَوَلداً ) (الكهف:39) .(14/5)
أما دعاء العبادة فهو أن يتعزز المؤمن بقوة الله ، وأن يسخر قوته في طاعة الله ، وإن هم بالظلم تذكر قوة الله ، قال تعالى : ( أَوَلمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيرا ً) (فاطر:44) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الْمُؤْمِنُ الْقَوِىُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِى كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَىْءٌ فَلاَ تَقُلْ لوْ أَنِّى فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا. وَلكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَل فَإِنَّ لوْ تَفْتَحُ عَمَل الشَّيْطَانِ ) ، وروى الطبراني وقال الألباني : صحيح لغيره من حديث معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقدس أمة لا يقضى فيها بالحق ولا يأخذ الضعيف حقه من القوي غير متعتع ) ، وعند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى عَقْرَبٍ رضي الله عنه أنه قَال : سَأَلْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الصَّوْمِ فَقَال : صُمْ يَوْمًا مِنَ الشَّهْرِ ، قُلْتُ : يَا رَسُول اللهِ زِدْنِي زِدْنِي إِنِّي أَجِدُنِي قَوِيًّا ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ ليَرُدُّنِي قَال : صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، وفي سنن ابن ماجه وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أنه قَال جَمَعْتُ الْقُرْآنَ فَقَرَأْتُهُ كُله فِي ليْلةٍ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَطُول عَليْكَ الزَّمَانُ وَأَنْ تَمَل فَاقْرَأْهُ فِي(14/6)
شَهْرٍ ، فَقُلْتُ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي ، قَال : فَاقْرَأْهُ فِي عَشْرَةٍ ، قُلْتُ : دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي ، قَال : فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ ، قُلْتُ دَعْنِي أَسْتَمْتِعْ مِنْ قُوَّتِي وَشَبَابِي فَأَبَى .
الاسم السابع والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه المتين فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في آية واحدة من الآيات القرآنية ، في قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) ، وفي سنن أبى داود والترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه أنه قَال : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) .(14/7)
والمتين في اللغة هو الشيء الثابت في قوته ، وشدة عزمه وتماسكه ، وسعته وكماله وعظمته ، متن يمتن متانة أي قوي مع صلابة واشتداد ، ويلحق بهذا المتون الامتداد ، فيكون المتين بمعنى الواسع ، والله متين في ذاته قوي شديد وواسع كبير ، فلا تنقطع قوته ولا يلحقه كلل في مشيئته ، فالمتين هو القوي الشديد الذي لا يلحقه في أَفعاله مشقةٌ ولا كُلْفة ولا تعَبٌ ، وقال تعالى : ( وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (الأعراف:183) (القلم:45) ، الكيد على إطلاقه هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الابتلاء أو المعاقبة والجزاء ، وقد يكون عيبا مذموما إذا كان بالسوء في الابتداء ، وقد يكون محمودا إذا كان لتدمير كيد الكافرين والسفهاء ، فإذا كان الكيد عند الإطلاق كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يصح إطلاقه في حق الله دون تخصيص ، كقول القائل : الكيد صفة الله ، فهذا باطل لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال ، لكن يصح قول القائل : الكيد من الله إنما هو للابتلاء والمعاقبة والجزاء ، فهو كيد مقيد لا يحتمل إلا الكمال فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال ، كما أثبت ذلك لنفسه فقال : ( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً ) (الطارق:16) ( وَأُمْلِي لهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (الأعراف:183) فوصف الله كيده للكافرين بأنه كيد شديد قوي متين لا يمكن لأحد رده أو ولا يمكن للكافرين صده ، والله غالب على أمره كتب الغلبة لنفسه ورسله .
واسم الله المتين يدل على ذات الله وعلى صفة الشدة والقوة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة القوة وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقدرة والعزة ، والملك والعظمة ، وكل ما يلزم لقيام صفة الثبات في القوة وما يترتب عليها ، واسم الله المتين دل على صفة من صفات الذات .(14/8)
كيف ندعو الله باسمه المتين دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يدعو به كل مؤمن ضعيف مهزوم أو مقهور مظلوم يدعو باسم الله المتين أن يعينه ويقويه ، ويمنحه ويعطية ، وأن يفرغ عليه صبرا ويخرجه من البلاء الذي وقع فيه ، كما روى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ رضي الله عنه قَال : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا أَنْ نَقُول اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ وَأَسْأَلُكَ عَزِيمَةَ الرُّشْدِ وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا وَقَلْبًا سَلِيمًا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلمُ وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ مِمَّا تَعْلمُ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ .
أما دعاء العبادة فسلوك يظهر صبر المؤمن على طاعة الله وثباته على منهجه في السراء والضراء ، وعند مسلم من حديث صُهَيْبٍ أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ وَليْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ ) ، فالمسلم الذي وحد الله في اسمه المتين صابر على دينه محتسب في إخلاصه ، متمسك بحبل الله المتين ودينه القويم ، وفي مسند الإمام أحمد وحسنه الألباني من حديث أَنَس بْن مَالِكٍ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال : ( إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ ) .(14/9)
الاسم الثامن والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه الغني فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) (الأنعام:133) فغناه غنى مطلق لا يفتقر إلى خلقه إلي خلقه إن أطاعوه أو أعرضوا عنه ، ( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلى اللهِ مَا لا تَعْلمُون ) (يونس:68) ويقول تعالى عن دعوة الأغنياء إلى الإنفاق : ( هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالكُم ْ) (محمد:38) .(14/10)
وغالبا ما يقترن اسم الله الغني باسمه الحميد ، كقوله : ( لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الحج:64) ( لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (لقمان:26) (الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَل فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الحديد:24) ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (البقرة:267) ، واقترن اسم الله الغني أيضا باسمه الحليم في قوله تعالى : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (البقرة:263) واسمه الكريم ( وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (النمل:40) .(14/11)
وفي سنن أبى داود وحسنه الشيخ الألباني والحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، من حديث عروة عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالتْ : شَكَى النَّاسُ إِلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لهُ فِي الْمُصَلى وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ ، قَالتْ عَائِشَةُ : فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ صلى الله عليه وسلم وَحَمِدَ اللهَ عَزَّ وَجَل ثُمَّ قَال : إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَل أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لكُمْ ، ثُمَّ قَال : الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ الْغَنِىُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَليْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلى حِينٍ ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ فَلمْ يَزَلْ فِي الرَّفْعِ حَتَّى بَدَا بَيَاضُ إِبْطَيْهِ ثُمَّ حَوَّل عَلى النَّاسِ ظَهْرَهُ وَقَلبَ أَوْ حَوَّل رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ ثُمَّ أَقْبَل عَلى النَّاسِ وَنَزَل فَصَلى رَكْعَتَيْنِ فَأَنْشَأَ اللهُ سَحَابَةً فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللهِ فَلمْ يَأْتِ مَسْجِدَهُ حَتَّى سَالتِ السُّيُولُ فَلمَّا رَأَى سُرْعَتَهُمْ إِلى الْكِنِّ ضَحِكَ صلى الله عليه وسلم حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ - الكِنُّ هو ما يَرُدّ الحَرَّ والبَرْد من الأبنِيَة والمساكن - فَقَال : أَشْهَدُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شيء قَدِيرٌ وَأَنِّى عَبْدُ اللهِ(14/12)
وَرَسُولُهُ .
والغني هو المستغني عن الخلق بذاته وصفاته وسلطانه ، والخلق جميعا فقراء إلى إنعامه وإحسانه ، والغني أصله صفة مشبهة للموصوف بالغنى ، والغنى في حقنا يعني قلة الاحتياج أو عدم الاحتياج ، ويتحقق بالأموال أو الأقوات التي يقتنيها الإنسان لدفع الضرر والحاجات ، وأي غني في حق ما سوي الله فهو نسبي مقيد ، أما غنى الحق سبحانه فهو كامل مطلق ، فهما بلغ المخلوق في غناه فهو فقير إلى الله ، فالله غنيٌ لا يحتاج لأحد في شيء لأنه المالك لكل شيء المتصرف بمشيئته في خلقه أجمعين ، خزائنه لا تنقص ولا تنفد ، يعطى من يشاء ما يشاء من فضله ، وقسم لكل مخلوق ما يخصه في رزقه ، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم من حديث أَبِى ذَرٍّ الغفاري أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى أَنَّهُ قَال : ( يَا عِبَادِي لوْ أَنَّ أَوَّلكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُل إِنْسَانٍ مَسْأَلتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِل الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ) .
فالغنى على سبيل الإطلاق وعدم الحاجة هو الله ، وليس ذلك لأحد سواه ، فهو المستغنى عن الخلائق أجمعين ، الغنى بذاته عن العالمين ، واتصاف غير الله بالغني لا يمنع كون الحق متوحد في غناه ، لأن الغني في حق غيره مقيد وفي حقه الله مطلق ، وهذا واضح معلوم ، وذلك مضطرد في جميع أوصافه باللزوم .(14/13)
واسم الله الغني يدل على ذات الله وعلى صفة الغني بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الغنى وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقوة والأحدية ، والقدرة والصمدية والعزة والكبرياء ، والملك والعلياء ، وكل ما يلزم لمعنى الغنى وما يترتب عليه ، واسم الله الغني دل على صفة من صفات الذات .
كيف ندعو الله باسمه الغني دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في حديث الاستسقاء في قوله صلى الله عليه وسلم : ( وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ عَزَّ وَجَل أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لكُمْ ، ثُمَّ قَال : الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ ، لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ الْغَنِىُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَليْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلى حِينٍ ) وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ : اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكَسَلِ وَالْهَرَمِ ، وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَمِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ ، وَمِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْفَقْرِ ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ ، اللهُمَّ اغْسِلْ عَنِّى خَطَايَاىَ بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ ، وَنَقِّ قَلْبِى مِنَ الْخَطَايَا ، كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ .(14/14)
أما دعاء العبادة فيظهر من خلال فهم العبد لمعني الغني الذي يؤدي إلى كمال الإيمان ، فيتواضع الغني على الرغم من غناه لعلمه أن المتوحد في الغني هو الله ، ويظهر الفقير بمظهر الغني وهو يعاني من شدة الفقر تعففا من سؤال الناس إلحافا ، كما قال تعالى : ( لِلْفُقَرَاءِ الذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة:273) .
فالغني الحقيقي هو غني النفس وعلو الإيمان كما ثبت في السنة مما روي الشيخان عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال : ( ليْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ ، وَلكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ ) ، وفي صحيح البخاري من حديث الْحَسَنَ أنه قال : ( حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أُتِىَ بِمَالٍ أَوْ سَبْىٍ فَقَسَمَهُ ، فَأَعْطَى رِجَالاً وَتَرَكَ رِجَالاً فَبَلغَهُ أَنَّ الذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا ، فَحَمِدَ اللهَ ثُمَّ أَثْنَى عَليْهِ ، ثُمَّ قَال : أَمَّا بَعْدُ ، فَوَاللهِ إِنِّي لأُعْطِى الرَّجُل ، وَأَدَعُ الرَّجُل ، وَالذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلىَّ مِنَ الذِي أُعْطِى وَلكِنْ أُعْطِى أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلعِ ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلى مَا جَعَل اللهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ ) فَوَاللهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ .(14/15)
ولا يمنع ذلك الأخذ بالأسباب طلبا للغني والتقوي على طاعة الله ، وإعانة الأمة وإغناء الفقراء من فضل الله ، مع توحيد الأغنياء لله في اسمه الغني ، واعتقادهم أنهم فقراء إلى ربهم مهما بلغت أموالهم ومناصبهم : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (فاطر:15) وفي صحيح مسلم من حديث عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ قَال كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ فِي إِبِلِهِ فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ فَلمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَال أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ فَنَزَل فَقَال لهُ أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ فَقَال اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ ، وفي صحيح البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَال جَاءَ رَجُلٌ إِلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال يَا رَسُول اللهِ : أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا قَال : أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى ، وَلاَ تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ لِفُلاَنٍ كَذَا ، وَلِفُلاَنٍ كَذَا ، وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ .(14/16)
وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال : قَال رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ . فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلى سَارِقٍ ، فَقَال اللهُمَّ لكَ الْحَمْدُ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَىْ زَانِيَةٍ ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ الليْلةَ عَلى زَانِيَةٍ ، فَقَال اللهُمَّ لكَ الْحَمْدُ عَلى زَانِيَةٍ ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ . فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَىْ غَنِىٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلى غَنِىٍّ فَقَال اللهُمَّ لكَ الْحَمْدُ ، عَلى سَارِقٍ وَعَلى زَانِيَةٍ وَعَلى غَنِىٍّ ، فَأُتِىَ فَقِيل لهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلى سَارِقٍ فَلعَلهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلعَلهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا ، وَأَمَّا الْغَنِىُّ فَلعَلهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ
وعند البخاري من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ رضى الله عنه أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال له : ( إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ ، وَإِنَّكَ لنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ أُجِرْتَ بِهَا ، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِى فِى امْرَأَتِكَ ) ، وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال : مَطْلُ الْغَنِىِّ ظُلْمٌ ، فَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلى مَلِىٍّ فَلْيَتْبَعْ .(14/17)
الاسم التاسع والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه الوارث فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق والتعظيم مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في بعض النصوص القرآنية ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَإِنَّا لنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون ) (الحجر:23) ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) (الأنبياء:89) ( وَكَمْ أَهْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) (القصص:58) .
وروى ابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ لهُ مَنْزِلاَنِ مَنْزِلٌ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْزِلٌ فِي النَّارِ فَإِذَا مَاتَ فَدَخَل النَّارَ وَرِثَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنْزِلهُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى ( أُولئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) . ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (المؤمنون:11) .(14/18)
والوارث اسم فاعل للموصوف بالوراثة من غيره ، فعله ورث يرث ورثا وإرثا ووراثة ، والوراثة في حقنا انتقال المال أو الملك من المتقدم إلى المتأخر ، ومنه وارث مال الميت يملك تركته ووارث الملك يرث سلطانه ، والله هو الوارث الباقي وغيره هالك فان ، والخلائق يتعاقبون على الأرض ، فيرث المتأخر المتقدم ، والولد والده ، ويستمر التوارث حتى ينقطع حبل الحياة ، ولا يبقى في الأخير غير الله الوارث الكبير ، فالوارث سبحانه هو الباقي بعد فناء الخلق ، أو الوارث لجميع الأشياء بعد فناء أهلها ، قال تعالى : ( وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (آل عمران:180) ( وَمَا لكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (الحديد:10) ، وقد تحدثنا في اسم الله الآخر أن بقاء المخلوقات في الجنة لا يعني أنها تشارك الله في البقاء ، وكذلك فإنها لا تتعارض مع اسم الله الوارث ، لأن خلد الجنة وأهلها إلى ما لا نهاية إنما هو بإبقاء الله وإرادته ، فالبقاء عندهم ليس من طبيعة المخلوقات ولا من خصائصها الذاتية ، بل من طبيعتها جميعا الفناء ، أما صفات الله عز وجل فهي صفات باقية ببقائه ملازمة لذاته باقية ببقاء ذاته سبحانه وتعالى لأن البقاء صفة ذاتية له فهو الوارث لجميع الخلائق في الدنيا والآخرة .
واسم الله الوارث يدل على ذات الله وعلى صفة البقاء المطلق بدلالة المطابقة وعلى ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة البقاء وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقوة والأحدية ، والقدرة والصمدية والكبرياء والعزة ، والملك والعظمة ، وكل ما يلزم لمعنى البقاء وما يترتب عليه ، واسم الله الوارث دل على صفة من صفات الذات والفعل معا .(14/19)
كيف ندعو الله باسمه الوارث دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قوله تعالى : ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) (الأنبياء:89) فقد كان يبتغي الولد مع انقطاع الأسباب ، فدعا الله بما ينساب حاله : ( إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً قَال رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَل الرَّأْسُ شَيْباً وَلمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لدُنكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لمْ نَجْعَل لهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً ) ، وروي الترمذي وحسنه الألباني عَنْ عَائِشَةَ قَالتْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( اللهُمَّ عَافِنِي فِي جَسَدِي وَعَافِنِي فِي بَصَرِي وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنِّى لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالمِينَ ) .(14/20)
أما دعاء العبادة ، فسلوك العبد يظهر فيه معني البقاء لله ، ويقينه بالزوال عن الحياة إلى أخراه ، فيتقي الله في حقوق الإرث ولا يظلم أحدا ، ويوقن أن الله هو الذي يقسم الأرزاق وأن الميراث الحقيقي هو ميراث العلم والأخلاق ، وميراث عدن والنعيم والفردوس يقول تعالى : ( إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل صَالِحاً فَأُوْلئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لغْواً إِلا سَلاماً وَلهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّةُ التِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ) ( الذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون:11) ، وقال تعالى : ( وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) (النساء:8) روى البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَال : ( إِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نُسِخَتْ ، وَلاَ وَاللهِ مَا نُسِخَتْ ، وَلكِنَّهَا مِمَّا تَهَاوَنَ النَّاسُ ، هُمَا وَالِيَانِ وَالٍ يَرِثُ ، وَذَاكَ الذِي يَرْزُقُ ، وَوَالٍ لاَ يَرِثُ ، فَذَاكَ الذِي يَقُولُ بِالْمَعْرُوفِ ، يَقُولُ لاَ أَمْلِكُ لكَ أَنْ أُعْطِيَكَ .(14/21)
الاسم الأربعون من أسماء الله الحسنى اسمه الرقيب : فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى عن عيسى عليه السلام : ( مَا قُلْتُ لهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (المائدة:117) ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) وقال : ( لا يَحِلُّ لكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّل بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (الأحزاب:52) .(14/22)
وعند البخاري ومسلم ابْنِ عَبَّاسٍ قَال قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَال : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّل خَلقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَليْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) أَلاَ وَإِنَّ أَوَّل الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَليْهِ السَّلاَمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي ، فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ؟ فَأَقُولُ كَمَا قَال العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) قَال : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) .
والرقيب في اللغة فعيل بمعنى فاعل وهو الموصوف بالمراقبة ، فعله رقب يرقب رقابة ، والرقابة هي الحراسة والانتظار مع الحذر والترقب ، والله رقيب راصد منتظر حافظ ، لا يغيب عنه شيء ، ومراقبته لخلقه عن استعلاء وفوقية ، وقدرة وصمدية ، مراقبته لخلقه دائمة في كل زمان ، وكاملة في كل مكان ، وعلى أفضل حال وأقوى وسيلة ، فهو يرى المراقَب ويسمعه بكيفية تليق بجلاله ، يرى أحوال العباد ويعلم أقوالهم ويحصى أعمالهم ، ولا يخفى عليه شيء من سرائرهم ، والمؤمن يشعر بالمراقبة الإلهية في سره ونجواه ، وفي هذا من الترغيب والترهيب ما يدفعه إلى الطاعة ويمنعه من المعصية .(14/23)
واسم الله الرقيب يدل على ذات الله وصفة الرؤية والمتابعة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الإبصار وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم والهيمنة ، والإحاطة والقوة والعظمة والعزة ، وكل ما يلزم لقيام معنى المراقبة المطلقة ودوامها وما يترتب عليها .
كيف ندعو الله باسمه الرقيب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قول عيسى عليه السلام : ( وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) وفي خطبة الحاجة كما ورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود قَال عَلمَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خُطْبَةَ الْحَاجَةِ : إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلاَ مُضِل لهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا ( اتَّقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا )(14/24)
أما دعاء العبادة فهو مراقبة العبد لربه توحيدا له في اسمه الرقيب فيرقي العبد بإيمانه إلى درجة الإحسان كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في تعريفها : ( الإِحْسَان أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) ، فوجب على العبد أن يراقب ربه في طاعته وعبادته ، ويعلم أنه معه من فوق عرشه يتابعه ، يراه ويسمعه ، وعند أبي داود وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيل مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَي الآخَرَ عَلي الذَّنْبِ فَيَقُولُ : أَقْصِرْ ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلي ذَنْبٍ فَقَال لهُ : أَقْصِرْ ، فَقَال : خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلي رَقِيبًا ، فَقَال : وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّة ، فَقُبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالمِينَ فَقَال لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلي مَا فِي يَدِي قَادِرًا ، وَقَال لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَال لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلي النَّارِ ، قَال أَبُو هُرَيْرَةَ وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتَكَلمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَه ُ.
أحبتي في الله ، ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(14/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الذات
المحاضرة السابعة
كبير حكيم عزيز كريم قدوس سلام
الحمد لله الذي من علينا بنعمة الإسلام ، وجعل التوحيد زينة الموحدين على الدوام ، فعظموا ربهم ووحدوه وعبدوه وأحبوه ، واعتقدوا أنه أول ليس قبله شيء ، وآخر ليس بعده شيء ، وظاهر ليس فوقه شيء ، وباطن ليس دونه شيء ، لم يزل متصفا بصفات الكمال ولا يزال ، دائما باقيا بلا انقضاء ولا زوال ، يعلم دبيب النملة السوداء ، على الصخرة الصماء ، في الليلة الظلماء ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، ( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد:3) ، وأشهد ألا إله إلا الله ، شهادة توافق ما قال ربنا جل ثناؤه وتقدست أسماؤه ، وجلت آلاؤه ، وشهدت بها ملائكته وأنبياؤه ، (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العزيز الحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلامُ ) (آل عمران :18) ، ونصلي ونسلم على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وآخر نبي للخلق أجمعين ، وصاحب المقام عند مجيء رب العالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على دربهم بإحسان إلي يوم الدين ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلحْ لكُمْ أَعْمَالكُمْ وَيَغْفِرْ لكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب :71) ، أما بعد .
فحديثنا اليوم يدول حول شرح ما تيسر من أسماء الله الحسني التي تدل على أوصاف ذاته سبحانه وتعالى ، حديثنا عن اسم الله الكبير واسمه الحكيم واسمه العزيز واسمه الكريم وكذلك القدوس والسلام .(15/1)
الاسم الثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه الكبير فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) (لقمان:30) فالاسم فيه أداة أل ، وكذلك قوله تعالى : ( وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الحَقَّ وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ) (سبأ:23) وقوله : ( عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ ) (الرعد:9) وأيضا في قوله : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ) (الحج:62) ودخلت عليه آدة الجر في قوله : ( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ لِلهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (غافر:12) ، (الإسراء:43) وكذلك التوين في قوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً ) .(15/2)
وفي السنة عند الإمام البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ ، كَالسِّلسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ ، قَالُوا لِلذِي قَالَ : الحَقَّ وَهْوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا وَاحِدٌ فَوْقَ آخَرَ وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ ، وَفَرَّجَ بَيْنَ أَصَابِعِ يَدِهِ اليُمْنَى ، نَصَبَهَا بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ المُسْتَمِعَ ، قَبْلَ أَنْ يَرْمِىَ بِهَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيُحْرِقَهُ ، وَرُبَّمَا لَمْ يُدْرِكْهُ حَتَّى يَرْمِىَ بِهَا إِلَى الذِي يَلِيهِ إِلَى الذِي هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُ حَتَّى يُلقُوهَا إِلَى الأَرْضِ ، وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى الأَرْضِ فَتُلقَى عَلَى فَمِ السَّاحِرِ ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيَصْدُقُ ، فَيَقُولُونَ أَلَمْ يُخْبِرْنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا ، يَكُونُ كَذَا وَكَذَا ، فَوَجَدْنَاهُ حَقًّا لِلكَلِمَةِ التِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ .
والكبير هو العظيم في كل شيء عظمة مطلقة ، وهو الذي كبر وعلا في ذاته وصفاته وأفعاله عن كل من سواه ، فله علو الذات وعلو القهر وعلو الشأن ، واسم الله الكبير يدل على ذات الله وعلى صفة العظمة والكبر بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الكبر وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقدرة والقوة ، والعزة والعظمة ، وكل ما يلزم لقيام العظمة المطلقة وما يترتب عليها ، واسم الله الكبير دل على صفة من صفات الذات .(15/3)
كيف ندعو الله باسمه الكبير دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في صحيح مسلم من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أنه قَالَ : ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِّمْنِى كَلاَمًا أَقُولُهُ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ، قَالَ : فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّى فَمَا لي ؟ قَالَ : قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) ، وفي صحيح مسلم أيضا عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أنه قَالَ : ( بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ إِذْ قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا وَسُبْحَانَ اللهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ : مَنِ القَائِلُ كَلِمَةَ كَذَا وَكَذَا ؟ ، قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ : أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : عَجِبْتُ لَهَا ، فُتِحَتْ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ يَقُولُ ذَلِكَ ) .(15/4)
وعند البخاري من حديث أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ - الأغنياء - مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا ، وَيَعْتَمِرُونَ ، وَيُجَاهِدُونَ ، وَيَتَصَدَّقُونَ ، قَالَ : أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ ، وَتُكَبِّرُونَ خَلفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ . فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ ، وَالحَمْدُ لِلهِ ، وَاللهُ أَكْبَرُ ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ) قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) .(15/5)
أما دعاء العبادة ، فهو توحيد الله بالعبودية وخلع أوصاف الربوبية عن النفس ، فلا يتكبر ولا يتمظهر ولا يتبخطر ولكن يتواضع لله ويكبره تكبيرا ( وَقُلِ الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي المُلكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) (الإسراء:111) فلا يخلع العبد عن نفسه رداء العبودية لينازع ربه ويتشبه به في الكبرياء والفوقية فقد ثبت عند ابن ماجة وأبي داود وصححه الشيخ الألباني في الحديث القدسي أن رب العزة قال : ( الكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالعَظَمَةُ إِزَارِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي شَيْئًا مِنْهُمَا أَلقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ ) قصمته عذبته ألقيته في النار قذفته في النار ، وروى الإمام مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) .
فوجب على العبد أن يخلص لله في عمله ليجعل الكبرياء والتوحيد لربه ، ( لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ ) (الحج:37) ( ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالحُكْمُ لِلهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ ) (غافر:12) ،(15/6)
الاسم الحادي والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه الحكيم ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم أيضا في النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (البقرة:129) واسمه الحكيم في أغلب النصوص ورد مقترنا باسمه العزيز كقوله ( هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (آل عمران:6) ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (آل عمران:62) ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيم ِ) (آل عمران:126) ، وورد أيضا مقترنا باسمه الخبير واسمه العليم ( الحَمْدُ لِلهِ الذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (سبأ:1) ( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ) (الأنعام:18) ( وَهُوَ الذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ ) (الزخرف:84) ( قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلمَ لَنَا إِلا مَا عَلمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ) (البقرة:32) ( قَالَ بَل سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ ) (يوسف:83) .(15/7)
وعند البخاري ومسلم ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً : ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ القِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي ، فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ ؟ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) قَالَ : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) .(15/8)
والحكيم اسم يدل على صيغة تعظيم لصاحب الحكمة ، والحكيم في حق الله تعالى بمعنى العليم بالأشياء الذي أوجدها على غاية الإحكام والإتقان والكمال ، وهو الذي يضع الأشياء في مواضعها ، ويعلم خواصها ومنافعها ، وهو الخبير بحقائق الأمور الذي يعلم ما خفي من أنواع العلوم ، أما الحكمة في حق العباد فهي الصواب في القول والعمل بقدر طاقة البشر ، وقد تحدثنا فيما سبق عن مناظرة جرت بين أبي الحسن الأشعري وشيخه أبي علي الجبائي في رجل أبي على الجبائي ، فقال له : هل يجوز أن يسمى الله تعالي عاقلا ، فقال الجبائي : لا لأن العقل مشتق من العقال ، وهو المانع ، والمنع في حق الله محال ، فامتنع الإطلاق ، فقال أبو الحسن الأشعري : فقلت له : فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما لأن هذا الاسم مشتق من الحكمة والحكمة مشتقة من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت رضي الله عنه : فنحكم بالقوافي من هجانا : ونضربُ حين تختلط الدماء ، وقول الآخر : أبني حنفية حكموا سفهاءكم ، إني أخاف عليكمو أن أغضبا ، أي نمنع بالقوافي من هجانا ، وامنعوا سفهاءكم .
فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع ، والمنع على الله محال ، لزمك أن تمنع إطلاق حكيم على الله سبحانه وتعالى ، قال : فلم يجب الجبائي إلا أنه قال لي : فلم منعت أنت أن يسمى الله سبحانه عاقلا وأجزت أن يسمى حكيما ؟ قال : فقلت له : لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه ولو أطلقه الشرع لأطلقته .
واسم الله الحكيم يدل على ذات الله وعلى صفة الحكمة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الحكمة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم والقدرة ، والعزة والعظمة ، وكل ما يلزم لقيام الحكمة المطلقة وما يترتب عليها .(15/9)
كيف ندعو الله باسمه الحكيم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في صحيح مسلم من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أنه قَالَ : ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِّمْنِى كَلاَمًا أَقُولُهُ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ، قَالَ : فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّى فَمَا لي ؟ قَالَ : قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) .(15/10)
أما دعاء العبادة ، فهو اختيار العبد لمنهج الله دليلا وهاديا ، لعلمة أن الكمال في اتباعه وأن الله وضعه عن علم وحكمة فشتان بين منهج من وضع علماء البشر ومنهج من وضع الحكيم الخبير ، يقول : ( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ القَمَرُ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) ، فالحكيم من البشر هو الذي اتبع منهج الحكمة ووحد الله في اسمه الحكيم : ( كَمَا أَرْسَلنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ) (البقرة:151) ( يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلبَابِ ) (البقرة:269) ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (آل عمران:164) ، كما أنه من دعاء العبادة أن يدعو المسلم إلى ربه بالحكمة : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ ) (النحل:125) .(15/11)
الاسم الثاني والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه العزيز فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في قوله تعالى : (هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (آل عمران:6) واسم الله العزيز ورد في أغلب آيات القرآن مقترنا باسمه الحكيم ، لأن العزة إذا أضيفت إلى الحكمة ، ظهر جمال العزة وكمالها ، فكمالها وصول الوصف أعلاه وهو مطلق العزة ، وجمالها وصول الحسن منتهاه ، فقد يكون العزيز منا عزيزا لكنه ظالم متهور ، جاهل متكبر ، لكن لو اكتست العزة بالحكمة والعلم والخبرة لظهر كمال العزة وجمالها ، من أجل ذلك اقترن اسمه العزيز باسمه الحكيم : ( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلمِ قَائِماً بِالقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (آل عمران:18) ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ القَصَصُ الحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) (آل عمران:62) ( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (آل عمران:126) (لِلذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (النحل:60) ويرد أيضا اسمه العزيز مقترنا باسمه الرحيم ، لبيان أن العزيز غالب على الخلق أجمعين حتى لو أعرضوا عن رب العالمين ، وأنه سينصر عباده الموحدين ولو بعد حين فالنصر والعزة للإسلام والمسلمين ، وهو في المقابل بالمؤمنين المستضعفين رؤوف رحيم طالما أنهم وحدوه في اسمه العزيز ، كما في قوله : ( وَإِنَّ(15/12)
رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الشعراء:9) ذكر الله هذه الآية بعد ذكر هلاك الأمم الماضية الذين بغوا في الأرض وعصوا الرسل في تسع مواضع في سورة الشعراء : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الشعراء:9) ، ويرد أيضا مقترنا باسمه العليم ، لأنها عزة غني قوي لا يخلق سدا ولا يتخذ خلقه لهوا ولعبا ، ولكنه يفعل عن علم وحكمة ، خلقهم بقدرته ، متعاليا بعزته ، لكنه في المقابل أحكم صنعته بعلمه ، وأكملها وأتقنها بفضله ، خلق الخلائق فسواها ، وقدر أمورها فهداها ، وهو الذي أحياها ويعلم متي يتوفاها ، فالفضل له والمجد ، هو العزيز الذي يستوجب الحمد ، فاسمه العزيز ورد مقترنا أيضا باسمه الحميد كما في قوله : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ) (إبراهيم:1) فهو عزيز عليم ( فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الليْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ) (الأنعام:96) ( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ) (يّس:38) ( تَنْزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللهِ العَزِيزِ العَلِيمِ ) (غافر:2) ( فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ) (فصلت:12) ( وَلَئِنْ سَأَلتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العَزِيزُ العَلِيمُ) (الزخرف:9) وورد اسمه العزيز مقترنا الوهاب ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العَزِيزِ الوَهَّابِ ) (صّ:9) واسمه الغفار ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ يُكَوِّرُ الليْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ(15/13)
عَلَى الليْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ العَزِيزُ الغَفَّارُ ) (الزمر:5) ..
وعزة الله عزة عن أوصاف حقيقية ، اتصفت بها الذات الإلهية ، وليست عزة معنوية قائمة على أوصاف الآخرين وقدرتهم ، كما هو حال المتعززين من أصحاب المكانة الاجتماعيه ، الذين تعززوا بأوصاف غيرهم وقاموا في حكمهم على استغلال غيرهم واستحلال أموالهم وخيراتهم ، فاسمه العزيز يقترن باسمه القوي لأن الله عزيز بقوته وقدرته , فهو الغالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون , وهو عزيز بقدرته فلا يعجزه شيء من خلقه ، وهو سبحانه العزيز الجبار ؟ ( فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ ) (هود:66) ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ ) (الشورى:19)
فالعزيز يعني الغالب الذي لا يهزم ، الذي عزّ وقوى وسلم من الذل ، يقال عز فلان على فلان أي له فضل وكرم عليه , وله عز على فلان يعني غلبه وقهره ، وأعز فلان فلانا يعني جعله قويا عزيزا ، واسم الله العزيز يدل على ذات الله وعلى صفة العزة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة العزة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقدرة والأحدية ، والسيادة والصمدية ، وكمال العلم والعظمة ، وكل ما يلزم لقيام صفة العزة وما يترتب عليها .(15/14)
كيف ندعو الله باسمه العزيز دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في دعاء إبراهيم عليه السلام الذي ورد في قوله تعالى : ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (البقرة:129) ( رَبَّنَا لا تَجْعَلنَا فِتْنَةً لِلذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (الممتحنة:5) وفي دعاء عيسي عليه السلام ( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (المائدة:118) وفي دعاء حملة العرش للمؤمنين : ( رَبَّنَا وَأَدْخِلهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ) (غافر:8) ، وفي الجامع الصغير للسيوطي وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل - تقلب وتلوى من شدة الألم - قال : لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار .(15/15)
أما دعاء العبادة ، فهو مظهر العزة التي يشعر بها المسلم في توحيده لربه ، وعبوديته وحبه ، وعلمه أن العزة في اتباع أمره ، وأنه العزيز الذي جعل العزة لنبيه ، وأتباعه وحزبه ، ولا يرضي بديلا عن عزة الإسلام وأهله ، حتى لو كانت لعشيرته وقومه ، ورد في صحيح البخاري من حديث عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا رضي الله عنه يَقُولُ : غَزَوْنَا مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةُ بَنِى المُصْطَلِقِ - وَقَدْ ثَابَ مَعَهُ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حَتَّى كَثُرُوا ، وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلٌ لَعَّابٌ فَكَسَعَ أَنْصَارِيًّا - ضربه على دبره بيده - ، فَغَضِبَ الأَنْصَارِيُّ غَضَبًا شَدِيدًا ، حَتَّى تَدَاعَوْا ، وَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، ثُمَّ قَالَ : مَا شَأْنُهُمْ ، فَأُخْبِرَ بِكَسْعَةِ الْمُهَاجِرِيِّ الأَنْصَارِيَّ قَالَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ : أَقَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، وفي رواية الترمذي فَقَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِق ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ : وَاللهِ لاَ تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم العَزِيزُ ، فَفَعَل َ.(15/16)
وفي رواية عند البخاري من حديث زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ كُنْتُ فِي غَزَاةٍ فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ يَقُولُ : لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ وَلَوْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّى أَوْ لِعُمَرَ فَذَكَرَهُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَدَعَانِى فَحَدَّثْتُهُ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَىٍّ وَأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا مَا قَالُوا فَكَذَّبَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَدَّقَهُ فَأَصَابَنِى هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِى مِثْلُهُ قَطُّ ، فَجَلَسْتُ فِى الْبَيْتِ فَقَالَ لِى عَمِّى مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَقَتَكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ ) فَبَعَثَ إِلَىَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ : ( إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ... إلى قوله : هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ) فَقَالَ صلى الله عليه وسلم لزيد : ( إِنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يَا زَيْدُ ) .(15/17)
الاسم الثالث والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه الكريم ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ ) (الانفطار:6) ( قَالَ الذِي عِنْدَهُ عِلمٌ مِنَ الكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ) (النمل:40) وقوله تعالى : ( فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ ) (المؤمنون:116) عند من قرأ الكريم بالرفع .(15/18)
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَلِىٍّ رضي الله عنه أنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِىُّ العَظِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ ) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث سَلمَانَ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ أنها قَالَتْ قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَي لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ : قُولِي اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى .
الكريم في اللغة هو الشيء الحسن النفيس الواسع السخي ، والفرق بين الكريم والسخي أن الكريم هو كثير الإحسان بدون طلب والسخي هو المعطى عند السؤال ، والكريم اسم يدل على الموصوف بالكرم ، والكرم السعة والعظمة والشرف والعزة والسخاء في العطاء ، والله هو الكريم في ذاته عزيز عظيم له الشرف والرفعة والعلو وهو الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه ، والله سمي نفسه الكريم لأنه الذي يعطى ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء بسؤال وغير سؤال ، وهو يعفو عن الذنوب ويستر العيوب ويجازي المؤمنين بفضله يمنحهم الثواب الجزيل في مقابل العمل القليل .(15/19)
واسم الله الكريم يدل على ذات الله وعلى صفة الكرم والسعة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الكرم وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني والصمدية ، والعلو والفوقية وكل ما يلزم لقيام صفة الكرم وما يترتب عليها .
كيف ندعو الله باسمه الكريم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في حديث عَلِىٍّ رضي الله عنه أنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِىُّ العَظِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ ) ، وحديث عَائِشَةَ أنها قَالَتْ قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَي لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا قَالَ : قُولِي اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى ، وفي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلمُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ قَالَ الشَّيْطَانُ حُفِظَ مِنِّى سَائِرَ الْيَوْم ِ.(15/20)
أما دعاء العبادة ، فهو أن يتحلى المسلم بوصف الكرم والسخاء والجود والعطاء لعلمه أن الله هو الكريم ، يبتغي الأجر والفضل منه وحده لا شريك له ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورا ً) (الإنسان:9) ( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ) (يّس:11) ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (الحديد:11) ( إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ) (الحديد:18) وعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لَيُعْطِى عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ ، فَقَالَ أَنَسٌ إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا فَمَا يُسْلِمُ حَتَّى يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا .(15/21)
الاسم الرابع والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه القدوس ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في بعض النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم فمن القرآن قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر:23) ( يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ) (الجمعة:1) ومن السنة ما ورد في سنن أبي داوود وصححه الشيخ الألباني عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الوِتْرِ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ، وَقُل يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ، وَقُل هُوَ اللهُ أَحَدٌ ، وَكَانَ إِذَا سَلمَ قَالَ : سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ ، يُطَوِّلُهَا ثَلاَثاً .(15/22)
وفي صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ، وفي سنن أبي داوود وقال الشيخ الألباني حسن صحيح من حديث شَرِيقٌ الهَوْزَنِىُّ أنه قَالَ دَخَلتُ عَلَى عَائِشَةَ رضي الله عنها فَسَأَلتُهَا بِمَ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ إِذَا هَبَّ مِنَ الليْلِ فَقَالَتْ : لَقَدْ سَأَلتَنِي عَنْ شَيْءٍ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَحَدٌ قَبْلَكَ : كَانَ إِذَا هَبَّ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا وَقَالَ : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ ، عَشْرًا وَقَالَ : سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ عَشْرًا ، وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا ، وَهَللَ عَشْرًا - قال لا إله إلا الله - ثُمَّ قَالَ : اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ عَشْرًا ثُمَّ يَفْتَتِحُ الصَّلاَةَ .(15/23)
والقدوس يعني المطهر المنزه ، تقدّس في اللغة تعني أنه تطهر ، ومنها التقديس أي التطهير ، والقدس تعنى الطهر ومنها سميت الجنة حظيرة ، كما ورد عند البزار وهو صحيح لغيره من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عن رب العزة من ترك الخمر وهو يقدر عليه لأسقينه منه في حظيرة القدس ، ومن ترك الحرير وهو يقدر عليه لأكسونه إياه في حظيرة القدس ، وسمى جبريل عليه السلام روح القدس : ( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:102) ، والقداسة تعنى الطهر والبركة ، وقدس الرجل ربه أي عظمه وكبره وطهر نفسه بتوحيده وعبادته ومحبته وطاعته , ومنها قول الملائكة : ( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (البقرة:30) .
واسم الله القدوس يعني المنزه المطهر المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ، فالله عز وجل ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) والتقديس هو خلاصة التوحيد الحق ، وهو إفراد اللَّه سبحانه وتعالي بذاته وصفاته وأفعاله عن الأقيسة والقواعد والقوانين التي تحكم ذوات المخلوقين وصفاتهم وأفعالهم ، فالله نزه نفسه عن كل نقص وأثبت لنفسه أوصاف الكمال والجمال والجلال مع علو شأنه في كل حال ، فهو المنفرد بأوصاف الكمال الذي لا مثيل له فنحكم على كيفية أوصافه من خلاله ، ولا يستوي مع سائر الخلق فيسري عليه قانون أو قياس أو قواعد تحكمه كما تحكمهم لأنه القدوس المتصف بالتوحيد المنفرد عن أحكام العبيد .(15/24)
واسم الله القدوس يدل على ذات الله وعلى صفة القدسية بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة القدسية وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلو والأحدية ، والغني والصمدية ، والملك والفوقية ، وكل ما يلزم لقيام معنى القدسية بقيام التوحيد ونفي الشبيه والمثلية .
كيف ندعو الله باسمه القدوس دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ عَشْرًا ثُمَّ قَالَ : اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا وَضِيقِ يَوْمِ القِيَامَةِ عَشْرًا .
أما دعاء العبادة ، فهو أن يتحلى المسلم بتوحيد لربه من خلال تنزيه الله عن أقيسة التمثيل والشمول التي تحكمنا وتحكم أوصافتا ، كما أنه ينزه الله عن وصف العباد له إلا ما وصف المرسلون ، كما دعانا ربنا إلى ذلك فقال : (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الصافات:182) ، فيصف اللَّه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلي الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل ، ويعلم أن ما وصف اللَّه به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي ، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه ، لاسيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق وأفصحهم في البيان والدلالة والإرشاد ، وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله ، كما أن المسلم ينزه نفسه عن المعاصي والذنوب ، ويطلب المعونة من مقلب القلوب ، أن يحفظه في سمعه وبصره وبدنه من النقائص والعيوب .(15/25)
الاسم الخامس والثلاثون من أسماء الله الحسنى اسمه السلام ، فقد سمي الله نفسه به وسماه رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، كما ورد في قوله تعالى : ( هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر:23) وعند البخاري من حديث عَبْدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه قال : ( كُنَّا إِذَا صَليْنَا خَلفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قُلنَا : السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ ، فَالتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ ، فَإِذَا صَلى أَحَدُكُمْ فَليَقُلِ التَّحِيَّاتُ لِلهِ ، وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ ، فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلتُمُوهَا أَصَابَتْ كُل عَبْدٍ لِلهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ) ، وفي رواية أخرى عند البخاري قَالَ عَبْدُ اللهِ : كُنَّا نُصَلِّى خَلفَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَنَقُولُ السَّلاَمُ عَلَى اللهِ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .(15/26)
وفي صحيح مسلم من حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه أنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ : اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، وفي صحيح الجامع من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم ) ومن رواية أنس : ( إن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضع في الأرض فأفشوا السلام بينكم ) .
والسلام في اللغة الأمان والاطمئنان والحصانة والسلامة ، ومادة السلام تدل على الخلاص والنجاة والسلام مصدر استعمل اسما للموصوف بالسلامة ، والسلامة هي التنزه من كل آفة ظاهرة وباطنة ، ومنه السلام في التحية الخالصة ، والله هو السلام أي سليم الذات وسليم الصفات من كل نقص وعيب وهو داعي السلام بين الأنام ، والذي يبلغ عباده الموحدين في الآخرة دار السلام ، فكل سلامة منشأها منه وتمامها عليه ونسبتها إليه .
واسم الله السلام يدل على ذات الله وعلى صفة السلامة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة السلامة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني والصمدية ، والعزة والقدسية ، والحكمة والأحدية ، وكل ما يلزم لقيام معنى السلامة في الذات والصفات والأفعال .(15/27)
كيف ندعو الله باسمه السلام دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، ( دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس:10) ( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الأنعام:54)
أما دعاء العبادة ، فهو أن يفشي العبد السلام كما أمر النبي فقال : ( إن السلام اسم من أسماء الله وضعه في الأرض فأفشوه بينكم فإن الرجل إذا سلم على القوم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب ) وهذا كما ذكر الألباني حديث حسن .
ويبغي المسلم سبل السلام التي تؤدي إلى دار السلام : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16) ( وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (يونس:25) .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(15/28)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الفعل
المحاضرة الأولى
16الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أما بعد ..
يقول الله عز وجل : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) (الإسراء:110) ، هذه الآية تدل على أن أسماء الله عز وجل أعلام تدل على ذاته فكلها تدل على مسمى واحد ، هذه الأسماء مترادفة باعتبار دلالتها على الذات ، لكنها باعتبار دلالتها على الصفات مختلفة المعاني ومتنوعة لقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف:180) فدعاء الله بها يكون بالوصف الذي تضمنه الاسم ، فالفقير يدعوا باسمه الغني والضعيف يدعو باسمه القوي وهكذا في سائر الأسماء ، فأسماء الله أعلام وأصاف أعلام تدل على ذاته وأوصاف تدل على معان وصفية متعدده ، فمن أسمائه الحسنى الغفور والرحيم ، الغفور علم علي ذاته وكذلك الرحيم : ( وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم ُ) (يونس:107) ، وبين في موضع آخر أن الغفور ذو مغفرة : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ ) (الرعد:6) وكذلك الرحيم ذو رحمة ( وَرَبُّكَ الغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) (الكهف:58) .(16/1)
وقد تحدثنا عن أسماء الله الحسنى التي تدل على أوصاف ذاته بالتضمن ، فالسلف يجعلون أوصاف الله التي وردت في الكتاب والسنة على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : صفات ذاتية ، وهي كل صفة وصف الله نفسه بها في كتابه أو وصفه بها رسوله صلي الله عليه وسلم لا تتعلق بمشيئة الله ، وهذه الصفات ملازمة لذات الله ، لم يزل ولا يزال متصفا بها ، كالعلم والقدرة والعزة والسمع والبصر والقوة ، والحكمة والعلو والعظمة ، وقد تكلمنا عن أربعين اسما من الأسماء الحسني كلها تدل على أوصاف ذاته سبحانه وتعالى .
النوع الثاني : صفات فعلية ، وهي أفعال لله تتعلق بمشيئته وقدرته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها كالاستواء على العرش ، والنزول إلي السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل وفي يوم عرفة ، والمجيء لفصل القضاء يوم القيامة ، والغضب والرضا والفرح والضحك والقبض والبسط وغير ذلك من أفعال الرب تبارك وتعالي .
النوع الثالث : صفات ذاتية فعلية وذلك باعتبارين ، الأول باعتبار أصل الصفة وملازمتها للذات فلم يزل الله ولا يزال متصفا بها ، ومثال ذلك : صفة الكلام فإنها صفة ذاتية باعتبار أصله والقدرة عليه لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متكلما ، فالكلام من لوازم الكمال وضده من أوصاف النقص ، والله سبحانه له الكمال المطلق في أسمائه وصفاته ، أما الاعتبار الثاني فباعتبار تعلق الصفة بمشيئة الله وقدرته إن شاء فعلها وإن شاء لم يفعلها ، فالكلام صفة فعلية تتعلق بمشيئته باعتبار أنه يتكلم في وقت دون وقت ، فالله متصف بالكلام في الأزل ، وشاء أن يتكلم بالقرآن وينزله وحيا عربيا على محمد صلي الله عليه وسلم .(16/2)
وسون نتحدث ابتداء من هذه المحاضرة عن أسماء الله الحسنى التي تدل على أوصاف فعله ، ونبدأ فيها بإذن الله باسم الله الرحمن الرحيم ، متبعين نفس المنهج الذي سلكناه في حصر الأسماء الحسنى التي تدل على أوصاف ذات الله وهو أن يرد الاسم في نص من القرآن والسنة ، على سبيل الإطلاق وغير مقيد بالإضافة ، مرادا به العلمية ودالا على الوصفية ، لأن الأسماء كما علمنا هي أسماء توقيفية ، لا يجوز فيها الاجتهاد العقلي أو الاستحسان الشخصي ، لا يجوز تسمية الله من عند أنفسنا بناء على الاشتقاق من الفعل أو الوصف حسب اجتهاد الشخص ، فباب الصفات والأفعال أوسع من باب الأسماء ، ومن ثم لا بد أن نتقيد بالنص الذي ورد بالاسم فقط ، والآن نبدأ باسم الله الرحمن وهو الاسم الواحد والأربعون .
الاسم الواحد والأربعون من أسماء الله الحسنى وهو اسمه الرحمن ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) ، وقوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (الإسراء:110) وقوله : ( قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً ) (مريم:75) وقوله : ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ) (الفرقان:59) .(16/3)
وقد ورد اسم الله الرحمن في خمسة وأربعين موضعا من القرآن ، اقترن في ستة منها فقط باسمه الرحيم ، ولم يقترن بغيره ، كما ورد في قوله : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيم ُ) (البقرة:163) ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (الحشر:22) ( إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) (النمل:30) ( تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ِ) (فصلت:2) ، أما بقية المواضع فقد ورد الاسم منفردا دون اقتران كقوله تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ) (طه:5) ( يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ) (مريم:85) ( جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ) (مريم:61) ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً ) (الفرقان:60) ( إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) (يّس:11) .(16/4)
ومما ورد في السنة في النص على اسم الله الرحمن ما رواه أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ وَفَرَسٌ لِلإِنْسَانِ وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَعَلَفُهُ وَرَوْثُهُ وَبَوْلُهُ وَذَكَرَ مَا شَاءَ اللَّهُ ، وَأَمَّا فَرَسُ الشَّيْطَانِ فَالَّذِي يُقَامَرُ أَوْ يُرَاهَنُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا فَرَسُ الإِنْسَانِ فَالْفَرَسُ يَرْتَبِطُهَا الإِنْسَانُ يَلْتَمِسُ بَطْنَهَا فَهِيَ تَسْتُرُ مِنْ فَقْرٍ ) .
وفي المسند أيضا وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ رضي الله عنه أن رجلا سَأَلَه كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ ؟ قَالَ : جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَوْدِيَةِ وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ َسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ قُلْ قَالَ مَا أَقُولُ : قَالَ : قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا ، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ ، إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ ، قَالَ - عبد الرحمن - فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .(16/5)
وفي صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ صَلَّى صَلاَةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهْي خِدَاجٌ ثَلاَثًا غَيْرُ تَمَامٍ ، فَقِيلَ لأَبِى هُرَيْرَةَ إِنَّا نَكُونُ وَرَاءَ الإِمَامِ ، فَقَالَ اقْرَأْ بِهَا فِي نَفْسِكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : حَمِدَنِي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَثْنَى عَلَي عَبْدِي ، وَإِذَا قَالَ : ( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ) قَالَ : مَجَّدَنِي عَبْدِي ، وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَي عَبْدِي ، فَإِذَا قَالَ : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) قَالَ هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ ، فَإِذَا قَالَ : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ ) قَالَ هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .(16/6)
وروى الإمام أحمد وأبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي فَمَنْ يَصِلْهَا أَصِلْهُ وَمَنْ يَقْطَعْهَا أَقْطَعْهُ ، فَأَبُتَّهُ أَوْ قَالَ :مَنْ يَبُتَّهَا أَبُتَّهُ ، وعند أي أبي داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وكذلك حسنه الشيخ الألباني ، من حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها ، أَنَّ النَّبِي قَالَ : ( اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ في هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) ، وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ : ( الم اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الحَي القَيُّومُ ) .(16/7)
والرحمن في اللغة صفة مشبهة ، مستعملة كصيغة للمبالغة ، وهي أبلغ من الرحيم ، والرحمة في حقنا رقة في القلب تقتضي الإحسان إلى المرحوم بالعون ، وتقتضي العطف والمسامحة ، والرحمة تستدعى مرحوما فهي من صفات الأفعال ، والرحمن اسم يختص بالله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز إطلاقه في حق غيره ، ومعني الرحمن الذي رحم كافة خلقه بأن خلقهم ، ووسع عليهم رزقهم ، ووسعت رحمته كلَ شيء ، فالرحمة في اسمه الرحمن شَمِلَت رحمته للمؤمنين والكافرين في هذه الدنيا ، ورحمة الله من أعظم صفاته بالنسبة لعباده ، فهي تفتح أبواب الرجاء والأمل وتدفع أبواب الخوف واليأس وتشعر الشخص بالأمان والأمان ، والله عز وجل غلبت رحمته غضبه ، ولم يجعل الله لنا في هذه الدنيا إلا جزءا يسير من واسع رحمته ، به يتراحم الناس ويتعاطفون وكذلك سائر الأحياء في الأرض أجمعون ، كما ثبت عند الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سَمِع رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا ، وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ ، حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ ، وفي رواية أخري عند البخاري : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ) ، وفي الحديث المتفق عليه من حديث عُمَر بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : قَدِمَ عَلَى(16/8)
رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السَّبْيِ تَبْتَغِى ، - وقد سبيت وابتعدت عن طفلها - إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ - ليخفف ألم اللبن في ثديها وهي تبحث عن طفلها حتى وجدته فأخذته وضمته وأرضعته يقول عمر - فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ، قُلْنَا لاَ وَاللَّهِ وَهِىَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا .(16/9)
فالرحمة التي دل عليها اسمه الرحمن رحمة عامة بأهل الدنيا كما قال تعالى : ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (القصص:73) ، ( وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ) (الفرقان:48) ، ( فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (الروم:50) ، ولما كانت الرحمة التي دل عليها اسمه الرحمن رحمة عامة بالخلائق في الدنيا ، فإن الله خص اسمه الرحمن عند ذكر استوائه على عرشه فقال تعالى : ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5) ، لأنه فوق الكل مؤمنهم وكافرهم ، وحياتهم قائمة بإذنه ، وأرزاقهم مكنونة في غيبه ، وبقائهم رهن مشيئته وأمره ، فلا حول ولا قوة لهم إلا بقوته وحوله ، فهو الملك والكل في مملكته ( الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ) (الفرقان:59) .(16/10)
واسم الله الرحمن يدل على ذات الله وعلى صفة الرحمة العامة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الرحمة العامة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغنى والأحدية ، والعزة والصمدية ، وكل ما يلزم لقيام وصف من يرحم رحمة مطلقة عامة ، وما يترتب عليها ، واسم الله الرحمن دل على صفة من صفات الفعل ، لأنها تتعلق بمشيئته وإن كانت عامة ، لأن الرحمة العامة التي تلحق الكافرين والمشركين والتي بها خلقهم ورزقهم وجعلهم ينعمون ويختارون كفرهم وغيهم ، إنما ذلك إلى حين أجل لهم فيه عقابهم ، فالرحمن اسم يدل على صفة الرحمة العامة بالمخلوقات في الدنيا ، لكنها مقيدة خاصة بانتهائها ، فهي عامة من وجه وخاصة من وجه آخر .(16/11)
والرحمة التي دل عليها اسم الله الرحمن هي من إضافة صفة لموصوف ، لأن الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان : أحدهما رحمة مضافة إليه من باب إضافة المفعول إلى فاعله ، والثاني رحمة مضافة إليه من باب إضافة الصفة إلى الموصوف بها ، فمن الأول ما ورد عند البخاري ومسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم : ( تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ أَنْتِ رَحْمَتي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَقَالَ لِلنَّارِ إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابٌ أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا ، فَأَمَّا النَّارُ فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطٍ قَطٍ قَطٍ ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ، وَلاَ يَظْلِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا ، فقوله في الحديث أنت رحمتي أرحم بك من أشاء عبادي ، فهذه رحمة مخلوقة مضافة إلي الله ، إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى ، وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة ، وخص بها أهل الرحمة ، وإنما يدخلها الرحماء ، ومنه ما ورد عند البخاري في الحديث السابق من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً ، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً ، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ(16/12)
الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ ، وكذلك قوله منه قوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ ) (هود:9) ، فقوله في الحديث خلق الرحمة يوم خلقها ، وقوله : ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ، الرحمة هنا من باب إضافة المفعول إلى فاعله ، وكقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ) (الأعراف:57) ، وعلى هذا فلا مانع من الدعاء الذي اشتهر بين الناس قديما وحديثا ، وهو قول الداعي اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك ، لأن بعض الناس يكره ذلك ويقول إن مستقر رحمته ذاته ، وهذا يصح لو كانت الرحمة هي فقط من باب إضافة صفة إلى موصوف ، وليس هذا مراد الداعي بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة ، فالداعي يطلب أن يجمعه الله مع من يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة ، وهذا ظاهر جدا فلا مانع من الدعاء به .
كيف ندعو الله باسمه الرحمن دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة هو أن يتخير الاسم أو الوصف الذي دل عليه الاسم في دعائه لربه ، يتوسل به تحقيقا لطلبه ، ومن ذلك ما رواه الطبراني في الصغير وحسنه الشيخ الألباني من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه : ( ألا أعلمك دعاء تدعو به لو كان عليك مثل جبل أحد دينا لأداه الله عنك ، قل يا معاذ : اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ، رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطيهما من تشاء وتمنع منهما من تشاء ارحمني رحمة تغنيني بها عن رحمة من سواك ) .(16/13)
وفي المسند في الحديث الذي ذكرناه وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ التَّمِيمِىِّ رضي الله عنه أن رجلا سَأَلَه كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ قَالَ جَاءَتِ الشَّيَاطِينُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَوْدِيَةِ وَتَحَدَّرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْجِبَالِ وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ مَعَهُ شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ َسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ قُلْ قَالَ مَا أَقُولُ : قَالَ قُلْ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ ، قَالَ فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ وَهَزَمَهُمْ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .(16/14)
أما دعاء العبادة فهو امتلاء القلب بالرحمة والحب والحرص على ما ينفع الخلق سواء كانوا مؤمنين أو كافرين ، فالمؤمنون يحب لهم ما يحب لنفسه ، فيوقر كبيرهم ويرحم ضعيفهم ويجعل حبل الرحمة ممدودا بينهم ، ويسعد بسعادتهم ويحزن لحزنهم ، أما رحمته بالكافرين فيحرص على دعوتهم ، ويسهم في إخماد النار التي تشتعل فيهم بسبب كفرهم ودون وعي منهم ، فيجتهد في نصيحتهم والأخذ على أيدهم ، حتى لو بجهادهم في بعض المواطن ، فلو أن الكافر علم ما ينتظره من العذاب لشكر كل من دعاه إلى اتقائه ومحاولة منعه ولو بالقوة ، وعند أبي أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ ) وفي زيادة صحيحة عند الترمذي ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ - الشجنة هي القرابة المتشابكة - فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ ) ، وفي المسند أيضا وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ الْعَاصِى أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : ( ارْحَمُوا تُرْحَمُوا وَاغْفِرُوا يَغْفِرِ اللَّهُ لَكُمْ وَيْلٌ لأَقْمَاعِ الْقَوْلِ -هم الذين يسمعون ولا يعملون به ، شبه آذانهم بالأقماع المخرومة يصب فيها الكلام صب الماء في الإناء - وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .(16/15)
الاسم الثاني والأربعون من أسماء الله الحسنى وهو اسم الله الرحيم ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ) (يّس:58) (نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (فصلت:32) واسم الله الرحيم اقترن باسمه الرحمن كما ذكرنا ذلك في اسمه الرحمن في ستة مواضع من القرآن الكريم كقوله تعالى : ( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:163) وغالبا ما يقترن اسم الله الرحيم باسمه التواب والغفور والرؤوف والودود والعزيز ، وذلك لأن الرحمة التي دل عليها اسمه الرحيم رحمة خاصة تلحق المؤمنين ، فالله عز وجل رحمته في الدنيا شملت جميع الخلائق أجمعين ، المؤمن والكافر ، البر والفاجر ، بينما يختلف الأمر في الآخرة , إذ أن رحمته ستشمل المؤمنين فقط ، فكما شملتهم في الدنيا باسمه الرحمن ، فإنه سوف تشملهم في الآخرة باسمه الرحيم فيغفر لهم ذنوبهم وتلحقهم رحمته التي يدخلون بها الجنان ، كما ورد ذلك في القرآن ، فقال تعالى عن أهل الإيمان : ( سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:99) ( فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ) (الجاثية:30) ( يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الانسان:31) .(16/16)
فاقتران اسم الله الرحيم باسمه التواب والغفور والرؤوف والودود والعزيز يحمل دعوة للتوحيد والإيمان ، إما دعوة الكافرين إلى الإيمان أو دعوة المذنبين إلى ترك العصيان ، أو تهديد للكافر بما فعله الله بأهل الظلم والطغيان ، فاسم الله الرحيم اقترن باسمه الرحمن ليبين أن رحمته العامة إلى هي رحمة إلى حين ، وأن الكافر لن تلحقه الرحمة يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فهي دعوة صامتة ونداء للعقلاء يظهر من خلال اقتران الأسماء ، وكذلك اقترن اسم الله الرحيم باسمه التواب كقوله : ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ) (البقرة:37) وهي دعوة لأهل العصيان بالدخول تحت الرحمة الخاصة وزيادة الإيمان ، ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:54) ( إلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيم ) (البقرة:160) ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (التوبة:104) ( وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (التوبة:118) .(16/17)
وكذلك اقترن اسم الله الرحيم باسمه الغفور كقوله : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ ) (الحجر:50) ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (يونس:107) ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الأنعام:165) .
وورد أيضا اسمه الرحيم مقترنا باسمه الرؤوف الودود : ( لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (التوبة:117) ( هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحديد:9) ( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحشر:10) ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (هود:90) .(16/18)
ويرد أيضا اسمه الرحيم مقترنا باسمه العزيز ، ( ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (السجدة:6) لبيان أن العزيز غالب على الخلق أجمعين حتى لو أعرضوا عن رب العالمين ، وأنه سينصر عباده الموحدين ولو بعد حين فالنصر والعزة للإسلام والمسلمين ، وهو في المقابل بالمؤمنين المستضعفين رؤوف رحيم طالما أنهم وحدوه في اسمه العزيز ، كما في قوله : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الشعراء:9) ذكر الله هذه الآية بعد ذكر هلاك الأمم الماضية الذين بغوا في الأرض وعصوا الرسل في تسع مواضع في سورة الشعراء : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الشعراء:9) .
هذا مما ورد في القرآن عن اسم الرحيم أما ما ورد في السنة فعند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ : قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .(16/19)
وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، فَقَالَ : قَدْ غُفِرَ لَهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ ، ثَلاَثًا ، روى أبو داود وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، وروى الطبراني في الأوسط وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لو أن العباد لم يذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون ثم يستغفرون ثم يغفر لهم وهو الغفور الرحيم ) .(16/20)
والرحيم دل على صفة الرحمة الخاصة ، والرحمة هنا بمعني المغفرة وهي خاصة بالمؤمنين ، فالرَّحْمَنُ الرحيم بنيت صفة الرحمة الأُولى على فَعْلاَنَ لأَن معناه الكثرة ، فرحمته وسِعَتْ كل شيء وهو أَرْحَمُ الراحمين ، فأَما الرَّحِيمُ فإِنما ذكر بعد الرَّحْمن لأن الرَّحْمن مقصور على الله عز وجل ، والرحيم قد يكون لغيره ، فجيء بالرحيم بعد استغراق الرَّحْمنِ معنى الرحْمَة فيه إنما هي لتخصيص المؤمنين به في قوله تعالى : ( وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيما ً) (الأحزاب:43) ، ورَحِيمٌ فَعِيلٌ بمعنى فاعلٍ ، كسَمِيعٌ بمعنى سامِع وقديرٌ بمعنى قادر ، وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أَحدهما أَرق من الآخر .(16/21)
ورحمة الله التي دل عليها اسمه الرحيم هي كما ذكرنا خاصة لعباده المؤمنين ، فقد هداهم الله إلى الإيمان وهو يثيبهم في الآخرة بخلدهم في الجنان ، ورحمة الله لا تقتصر على المؤمنين فقط بل تمتد لتشمل ذريتهم من بعدهم تكريما لهم وسكينة لأنفسهم ، وقد بين الله ذلك في قصة الخضر والجدار ، والتي قال عنها : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ) فالإيمان بالله تبارك وتعالى والعمل على طاعته سبب لاستجلاب رحمته ، قال تعالى : ( وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) وقال جل شأنه : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ) (المؤمنون:109) ( وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الأنعام:155) ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10) .
واسم الله الرحيم يدل على ذات الله وعلى صفة الرحمة الخاصة بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الرحمة الخاصة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، وعلى الغنى والأحدية ، والعزة والصمدية ، وكل ما يلزم لقيام وصف من يرحم رحمة خاصة ، وما يترتب عليها ، واسم الله الرحيم دل على صفة من صفات الفعل لأنها تتعلق بمشيئته .(16/22)
كيف ندعو الله باسمه الرحيم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان يدعو : ( اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا ) .
وفي الأحاديث التي تقدمت أيضا عند البخاري لما قال النبي لأبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ( قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وفي دعاء الرجل الذي قال عنه نبينا صلى الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ لَهُ لما قال : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللَّهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) وفي دعاء صلى الله عليه وسلم للميت وهو يصلي عليه : ( اللَّهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَقِّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .(16/23)
أما دعاء العبادة فهو امتلاء القلب برحمة الولاء ورقة الوفاء التي تدفع إلى حب المؤمنين وبغض الكافرين ، وأسوتنا في ذلك هو سيد الخلق أجمعين : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) ، كان النبي بأصحابه رحيما رفيقا حبيبا صديقا ، روي البخاري من حديث مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أنه قال : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً ، وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا ، فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ : ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ، وعند مسلم من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِى خُطْبَتِهِ : ( وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ ) ، فالطاعة تدفع إلى الرحمة والمغفرة ، وتوحيد الله يستوجب الفوز في الآخرة.(16/24)
أحبتي في الله روي عن على ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : أنه قال إن الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها ، غرور حائل وشبح زائل ، وسند مائل ، اتعظوا عباد الله بالعبر ، واعتبروا بالآيات والأثر ، وازدجروا بالنذر ، وانتفعوا بالمواعظ ، أتتكم مخالب المنية ، وضمكم بيت التراب ، ودهمتكم فظائع الأمور ، بنفخة الصور ، وبعثرة القبور ، وسياقة المحشر وموقف الحساب ، بإحاطة قدرة الجبار ، عباد الله اتقوا الله تقية من قنع فخنع ، ووجل فرحل ، وحذر فابصر فازدجر ، فاحتث طلبا ، ونجا هربا ، وقدم للمعاد ، واستظهر بالزاد ، وكفي بالله منتقما وبصيرا ، وكفي بالكتاب خصما وحجيجا وكفي بالجنة ثوابا ، وكفي بالنار وبالا وعقابا ، وأستغفر الله لي ولكم ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أن أستغفرك وأتوب إليك .(16/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة السادسة
21تواب عفو حيي ستير حليم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أما بعد ..(17/1)
الاسم الواحد والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله التواب ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالي : ( فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة37) ، وقد ورد اسم الله التواب في ستة مواضع معرفا بالألف واللام ، كما في سورة البقرة ( وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة54) ، ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (التوبة104) ، وورد اسم الله التواب في خمسة مواضع بالتنوين كما في قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) (النور10) ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ ) (الحجرات12) ( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) (النصر:3) .(17/2)
وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ ) ، وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ مُثْنِينَ بِهَا قَابِلِيهَا وَأَتِمَّهَا عَلَيْنَا ) .
والتواب في اللغة من صيغ المبالغة من اسم الفاعل التائب ، فعله تاب يتوب توبا وتوبة ، والتوبة الرجوع عن الشيء إلي غيره ، والتوبة ترك الذنب علي أجمل الوجوه ، وهو أبلغ وجوه الاعتذار ، فإن الاعتذار علي ثلاثة أوجه : إما أن يقول المعتذر : لم أفعل ، أو يقول : فعلت لأجل كذا ، أو يقول : فعلت وأسأت وقد أقلعت ، ولا رابع لذلك ، وهذا الأخير هو التوبة .(17/3)
والتوبة في الشرع : ترك الذنب لقبحه ، والندم علي ما فرط في حق الناس وحق ربه ، والعزم علي ترك المعاودة لذنبه ، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من صالح عمله ، فمت اجتمعت هذه الأربع ، فقد كملت شرائط التوبة ، قال تعالي : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَي اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ) (التحريم/8) ، وقال سبحانه : ( إِنْ تَتُوبَا إِلَي اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا ) (التحريم/4) ، والتائب يقال لباذل التوبة ولقابل التوبة ، فالعبد تائب إلي اللَّه ، واللَّه تائب علي عبده ، والتواب هو الله سمي بذلك لكثرة قبوله توبة العباد حالا بعد حال ، قال الله تعالي : ( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ) (البقرة/128) ، والتوبة فرض علي جميع المذنبين والعاصين صغر الذنب أو كبر ، وليس لأحد عذر في ترك التوبة بعد ارتكاب المعصية لأن المعاصي كلها توعد اللَّه عليها أهلها .(17/4)
واسم الله التواب يدل علي ذات الله وعلي قبول التوبة كوصف فعل بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي قبول التوبة كوصف فعل بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والسمع والبصر والعلم والمشيئة ، والعزة والقدرة ، والعفو والرحمة ، والعدل والحكمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله التواب دل علي صفة من صفات الأفعال وفي دلالة اسم الله التواب على الصفة ، قال تعالى : ( وَعَلَي الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (التوبة118) ، فقبول التوبة صفة فعل تتعلق بالمشيئة لقوله : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (التوبة:106) .
كيف ندعو الله باسمه التواب دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أن رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : ( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ فُتِحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) .(17/5)
أما دعاء العبادة فالمسارعة بالتوبة دون تأخيرها وإحساس النفس بسوء أدبها وتقصيرها ، روى الطبراني في الكبير وصححه الشيخ الألباني من حديث عبد بن عباس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا ، إن المؤمن خلق مفتنا توابا نسيا إذا ذكر ذكر ) ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسٍ أن رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : ( كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ ) ، والله عز وجل يقول : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَي اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ) (النساء:18) .(17/6)
الاسم الثاني والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله العفو ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالي : ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُورا ً) (النساء:43) ( إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ) (النساء:149) ( فَأُولَئِكَ عَسَي اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) (النساء:99) ( ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) (الحج:60) ، وعند ابن ماجة والترمذي وصححه الألباني من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو قَالَ تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) ، وعند أحمد وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : ( إِنَّ أَوَّلَ رَجُلٍ قُطِعَ فِي الإِسْلاَمِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أُتِي بِهِ إلى النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ ، فَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم رَمَاداً ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَي يَقُولُ مَا لَكَ فَقَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنْتُمْ أَعْوَانُ الشَّيْطَانِ عَلَي صَاحِبِكُمْ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِوَالِي أَمْرٍ أَنْ يُؤْتَي بِحَدٍّ إِلاَّ أَقَامَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ : ( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .(17/7)
العَفُوُّ في اللغة على وزن فَعُولٌ من العَفْوِ ، والعفو هو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقاب عليه ، وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس ، وهو من صيغ المُبالَغةِ ، يقال : عَفا يَعْفُو عَفْواً ، فهو عافٍ وعَفُوٌّ ، وكلُّ من اسْتَحقَّ عندك عُقُوبةً فتَرَكْتَها فقد عَفَوْتَ عنه ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قال : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمْ نَعْفُو عَنِ الْخَادِمِ ؟ فَصَمَتَ ، ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِ الْكَلاَمَ فَصَمَتَ فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ قَالَ : ( اعْفُوا عَنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ سَبْعِينَ مَرَّةً ) ، فالعفو هو ترك الشيء وإزالته ، وقوله تعالى : ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) (التوبة:43) أي مَحا اللَّهُ عنكَ هذا الأمر وغفر لك ، والعفو مأْخوذ من قولهم عَفَت الرياحُ الآثارَ إِذا دَرَسَتْها ومَحَتْها .(17/8)
والعفو يأتي أيضا على معني الكثرة والزيادة ، فعَفْوُ المالِ هو ما يَفْضُلُ عن النَّفَقة كما في قوله تعالى : ( وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ) (البقرة:219) فالعَفْوُ الكثرة والفَضْلُ ، وقد أُمِرُوا أَن يُنْفِقوا الفَضْل في بداية الأمر إِلى أَن فُرِضَت الزكاةُ ، وعَفا القوم ُ: كَثُرُوا وعَفا النَّبتُ والشَّعَرُ وغيرُه يعني كثُرَ وطالَ ، ومنه الأَمَرَ بإِعْفاءِ اللِّحَى ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( احْفُوا الشَّوَارِبَ وَاعْفُوا اللِّحَى ) وهذا الحديث رواه أحمد وصححه الألباني ، ومعنى إعفاء اللحية أَن يُوفَّر شَعَرُها ويُكَثَّر ولا يُقَص َّ كالشَّوارِبِ من عَفا الشيءُ إِذا كَثُرَ وزاد ، وقوله تعالى : ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) (الأعراف:199) ، العَفْو هنا هو الفَضْلُ الذي يجِيءُ بغيرِ كُلْفَةٍ ، والمعنى اقْبَلِ المَيْسُورَ مِنْ أَخْلاقِ الناسِ ولا تَسْتَقْصِ عليهم ، وقد أَمَرَ اللَّهُ نَبيَّه أَن يأْخُذ العَفْوَ من أَخْلاقِ الناسِ ، كما ورد عند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ : أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صلي الله عليه وسلم أَنْ يَأْخُذَ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلاَقِ النَّاسِ ، والعفو هو السَّهْل المُيَسَّر ، أَي أَمرَه أَن يَحْتَمِل أَخْلاقَهُم ويَقْبلَ منها ما سَهُل وتَيَسَّر ولا يسْتَقْصِيَ عليهم .
والله عفو يحب العفو ويصفَحُ عن الذنوبِ ويستر العيوب ، يعفو عن المُسيء كَرَمًا وإحسانًا ، ويفتح واسع رحمته فضلا وإنعاما حتى يزول اليأس من القلوب وترجوا مقلب القلوب .(17/9)
واسم الله العفو يدل علي ذات الله وعلي صفة العفو بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة العفو بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والسمع والبصر ، والعلم والمشيئة ، واللطف والرحمة ، والحلم والقدرة ، والعدل والحكمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله العفو دل علي صفة من صفات الأفعال ، وفي دلالة اسم الله العفو علي الصفة قال تعالى : ( وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ ) (الشورى:25) ( وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى:30) ( ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ ) (البقرة:52) ( فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ ) (النساء:153) فالعفو هو المتصف بالعفو .(17/10)
كيف ندعو الله باسمه العفو دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كما في حديث عَائِشَةَ الذي سبق أَنَّهَا قَالَتْ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو قَالَ تَقُولِينَ اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) ، وورد عند أحمد والترمذي وصححه الشيخ الألباني أن أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ وهو يَخْطُبُ النَّاسَ حِينَ اسْتُخْلِفَ : ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَامَ عَامَ الأَوَّلِ مَقَامِي هَذَا ، وَبَكَي أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا بَعْدَ الْيَقِينِ شَيْئاً خَيْراً مِنَ الْعَافِيَةِ ) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث ابْنَ عُمَرَ أنه قال : لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي ، وَقَالَ عُثْمَانُ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) .(17/11)
أما دعاء العبادة فهو تأثر المسلم في عبادته بتوحيد الله في اسمه العفو ، فيعفوا عن الظالمين ، وييسر علي المعسرين ويعرض عن الجاهلين طلبا لعفو الله يوم يلقاه ، وقد كان أبو بكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه ينفق ويتصدق على مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لقرابته منه ، فلما شارك المنافقين في اتهام أم المؤمنين عائشة بالإفك وبرأها الله ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاللَّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَي وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (النور:22) فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي ، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِى عَلَيْهِ ، والحديث متفق عليه .
وقد وجه النبي أئمة المسلمين إلى درء الشبهة عن المحكومين لأن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة ، ولذلك فإن قانون الاشتباه الذي انتشر في البلاد الإسلامية ينافي الشريعة الإسلامية فقد ثبت في السنة النبوية عند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَائِشَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ ، فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ ) .(17/12)
وعند البخاري من حديث أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ فَنَزَلَ عَلَي ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ يَا ابْنَ أَخِي ، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ ، قَالَ سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ هِي يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَي قَالَ لِنَبِيِّهِ صلي الله عليه وسلم ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ .(17/13)
الاسم الثالث والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الحيي ، فقد سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص النبوية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في سنن أبى داود وصححه الشيخ الألباني كتاب الحمام من حديث عَطَاءٍ عَنْ يَعْلَى بن أمية أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلاَ إِزَارٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ، البراز هو الفضاء الواسع من الأرض ، وعند النسائي وابن ماجة وصححه الألباني : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) ، وفي سنن أبى داود وابن ماجة وصححه الشيخ الألباني من حديث سَلْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) .(17/14)
والحيي في اللغة هو المتصف بالحياء ، يقال : حَيِيَ منه حياء واستحيا منه واستحى منه ، وهو حَيِيُّ ذو حياء كغني ذو غنى ، والحياء صفة خلقية رقيقة ، وسجية لطيفة دقيقة ، تمنع النفس من تجاوز أحكام العرف أو من تجاوز أحكام الشرع ، وأحكام العرف يقصد بها كل ما تعرفه النفوس وتسحسنه العقول من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم ، وهي التي كانت ولم تزل مستحسنة في كل زمان ومكان ، وإلى هذا أشار النبي صلي الله عليه وسلم بقوله : ( إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ ) وهو حديث صحيح رواه البخاري من حديث ابن مسعود ، والمقصود أن الحياء لم يزل مستحسنا في شرائع الأنبياء ، وأنه لم ينسخ في جملة ما نسخ من شرائعهم ، وعند البخاري من حديث من حديث أبي سفيان ، وهو بين يدي هرقل أنه قال لِتَرْجُمَانِهِ : ( قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ ، فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَىَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ ) ، وعند البخاري ومسلم من حديث أي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ موسى كَانَ رَجُلا حَيِيًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَي مِنْ جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ ) ، والله يقول عن بنت شعيب : ( فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) (القصص:25) ، فالحياء صفة أخلاقية وسجية نفسية تراعي مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهي كلها خير .(17/15)
أما حياء الشرع فهو الحياء الذي يحفظ به العبد حدود الله ومحارمه ، وربما يتطلب ذلك ورعا واتقاء للشبهة مما يحيف على الحيي بعض الشيء ، وقد روى مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ ، وفي رواية أخري : مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهْوَ يُعَاتَبُ فِي الْحَيَاءِ يَقُولُ إِنَّكَ لَتَسْتَحْيِى ، حَتَّى كَأَنَّهُ يَقُولُ قَدْ أَضَرَّ بِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ ) ، وعند النسائي وابن ماجة وصححه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ ) إنَّما جَعَل الحَياء وهو أمر غَريزي شُعْبة من الإيمان وهو أمر كسبي ، لأنَّ المُسْتحي يَنْقَطِع بالحَياء عن المَعاصي ، فصار كالإيمان الذي يقطع عنها ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَالْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ ) .(17/16)
والله عز وجل حيي لأنه الولي الذي تكفل بعباده وبأرزاقهم فليس لهم أحد سواه ، فهو الذي يقبل توبتهم ويوفق محسنهم ، ويسمع دعوتهم ولا يخيب رجاءهم ، وحياء الرب تعالى لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال ، وفي سنن أبى داود وابن ماجة ، وصححه الشيخ الألباني من حديث سَلْمَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) ، والحياء وصف كمال لله لا يعارض الحكمة ولا يعارض بيان الحق والحجة : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ) (البقرة:26) .(17/17)
وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه لما بنِىَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِزَيْنَبَ ابْنَةِ جَحْشٍ وأعد طعاما أطعم الناس فيه حتى أكل الجميع وَبَقِىَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ يَتَحَدَّثُونَ فِي الْبَيْتِ وحياء النَّبِي صلى الله عليه وسلم يمنعه من إخراجهم قال أنس : وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَدِيدَ الْحَيَاءِ ، فَخَرَجَ مُنْطَلِقًا نَحْوَ حُجْرَةِ عَائِشَةَ فَمَا أَدْرِي أخْبَرْتُهُ أَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الْقَوْمَ خَرَجُوا ، فَرَجَعَ حتى إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ في أُسْكُفَّةِ الْبَابِ دَاخِلَةً وَأُخْرَى خَارِجَةً أَرْخَى السِّتْرَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ، وَأُنْزِلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ) (الأحزاب:53) .(17/18)
واسم الله الحيي يدل علي ذات الله وعلي صفة الحياء بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة الحياء بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والسمع والبصر ، والعلم والمشيئة ، واللطف والعفو والحكمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله الحيي دل علي صفة من صفات الأفعال ، ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) .
كيف ندعو الله باسمه الحيي دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة لم أجد دعاء مأثورا في دعاء المسألة لكن ما ورد في الحديث : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِىٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِى مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) يجعل الدعاء وطلب افتقار إلى الله في جملة المعنى دعاء باسم الله الحيي .(17/19)
أما دعاء العبادة فالعبد حليته الحياء ولباسه الحياء وهذا مقتضى توحيد لله في اسمه الحيي ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ وَمَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ ) ، وعند البخاري من حديث عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ بِخَيْرٍ ) ، وفي رواية مسلم من حديث أبي قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنَّا وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ أَوْ قَالَ : الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ ، فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْف ، قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ أَلاَ أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُعَارِضُ فِيهِ ، قَالَ فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ قَالَ فَأَعَادَ بُشَيْرٌ فَغَضِبَ عِمْرَانُ ، قَالَ فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ إِنَّهُ مِنَّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنَّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ .(17/20)
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَبِى أُمَامَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنَ الإِيمَانِ وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنَ النِّفَاقِ ) ، قَالَ أَبُو عِيسَى : وَالْعِيُّ قِلَّةُ الْكَلاَمِ وَالْبَذَاءُ هُوَ الْفُحْشُ فِي الْكَلاَمِ وَالْبَيَانُ هُوَ كَثْرَةُ الْكَلاَمِ مِثْلُ هَؤُلاَءِ الْخُطَبَاءِ الَّذِينَ يَخْطُبُونَ فَيُوَسِّعُونَ فِي الْكَلاَمِ وَيَتَفَصَّحُونَ فِيهِ مِنْ مَدْحِ النَّاسِ فِيمَا لاَ يُرْضِى اللَّهَ ، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ، قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِى وَالْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ : لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ) .(17/21)
الاسم الرابع والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الستير ، فقد سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص النبوية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في الحديث السابق الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) ، وعند النسائي وابن ماجة وصححه الألباني : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) ، وقد اشتهر اسم الله الستير على أنه الستار حتى تسمى بالإضافة إليه البعض ، وهذا لم يرد في قرآن أو سنة .
وفي سنن البيهقي كتاب النكاح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلاَهُ عَنْ الاِسْتِئْذَانِ فِي الثَّلاَثِ عَوْرَاتٍ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا في الْقُرْآنِ فَقَالَ لَهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ كَانَ النَّاسُ لَيْسَ لَهُمْ سُتُورٌ عَلَى أَبْوَابِهِمْ وَلاَ حِجَالٌ فِي بُيُوتِهِمْ فَرُبَّمَا فَاجَأَ الرَّجُلَ خَادِمُهُ أَوْ وَلَدُهُ أَوْ يَتِيمُهُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ عَلَى أَهْلِهِ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَعْدُ بِالسُّتُورِ وَبَسَطَ عَلَيْهِمْ فِي الرِّزْقِ فَاتَّخَذُوا السُّتُورَ وَاتَّخَذُوا الْحِجَالَ فَرَأَى النَّاسُ أَنَّ تِلْكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الاِسْتِئْذَانِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ .(17/22)
أبو داود وصححه الألباني من حديث عِكْرِمَةَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَرَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ الْعِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ .
والستير في اللغة من الستر ، يقال ستر الشيء يَسْتُرُه يَسْتِرُه سَتراً أَخفاه ، والسَّتيْرَ على وزن فَعِيل من صيغ المبالغة هو الذي من شأْنه حب الستر والصَّوْن والحياء ، والسِّتْرُ جمعه سُتُورٌ وأسْتارٌ ، والسُّتْرةُ ما يُستر به كائنا ما كان ، وكذا السِّتَارةُ والجمع السَّتَائِرُ وسَتَر الشيء غطاه ، وتَسَتَّر أي تغطى ، وجارية مُسْتَّرةٌ يعني مستورة في خدرها وقوله تعالى : ( وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً ) (الإسراء:45) أي حجاب على حجاب فالأول مستور بالثاني أراد بذلك كثافة الحجاب لأنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا .(17/23)
والستر يأتي أيضا بمعني المنع ، كما ورد عن البخاري من حديث عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم حَدَّثَتْهُ قَالَتْ جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَأَعْطَيْتُهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ : مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ، وعند البخاري من حديث سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَىْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ ) .
واسم الله الستير يدل علي ذات الله وعلي صفة الستر بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة الستر بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعلم والأحدية ، والرحمة والرأفة واللطف والعظمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله الستير دل علي صفة من صفات الأفعال .(17/24)
كيف ندعو الله باسمه الستير دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كالحديث الذي ورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث ابْنَ عُمَرَ أنه قال : ( لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَاي وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَتِي ، أو عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَي وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي ) الْخَسْفَ .(17/25)
أما دعاء عبادة ، فهو ستر العبد على نفسه وغيره وحرمات المسلمين ، وعند الترمذي وحسنه الشيخ الألباني من حديث مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِى الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فَقُلْتُ إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبَ مِنْهُ ، فَدَخَلَتْ مَعِي فِي الْبَيْتِ فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ قَالَ اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلاَ تُخْبِرْ أَحَدًا ، فَلَمْ أَصْبِرْ فَأَتَيْتُ عُمَرَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ وَلاَ تُخْبِرْ أَحَدًا ، فَلَمْ أَصْبِرْ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَه ، فَقَالَ لَهُ : أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا ، حَتَّى تَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ إِلاَّ تِلْكَ السَّاعَةَ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، قَالَ وَأَطْرَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَوِيلاً حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين َ) (هود:114) ، قَالَ أَبُو الْيَسَرِ فَأَتَيْتُهُ فَقَرَأَهَا عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَصْحَابُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً قَالَ : بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً ) ، قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وعند البخاري من حديث عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضى الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ ،(17/26)
وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، وعند مسلم من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَاةٌ إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ فَيَقُولُ يَا فُلاَنُ قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) ، وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ ، فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا ، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ .(17/27)
الاسم الخامس والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الحليم ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في قوله تعالي : ( لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) (البقرة:225) واقترن باسم الله الغني في قوله : ( قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ) (البقرة:263) واقترن باسم الله الشكور في قوله : ( إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) (التغابن:17) واقترن باسم الله العليم في قوله : ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ) (النساء:12) ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ) (الأحزاب:51) ( لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ) (الحج:59) ، وفي صحيح البخاري من حديث أَبِى العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ : ( كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) .(17/28)
والحليم في اللغة : صفة مشبهة للموصوف بالحلم ، فعله حلم يحلم حلما ، وصفة الحلم تعني الأناة ، ومعالجة الأمور بصبر وعلم وحكمة ، وفي مقابلها العجلة المفسدة لأمور الدين والدنيا ، قال تعالى في وصف إبراهيم : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (التوبة:114) ، والحليم هو الذي لا يسارع بالعقوبة ، بل يتجاوز عن الزلات ويعفو عن السيئات : ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ) (هود:75) وقوم شعيب قالوا استهزاءا : ( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ) (هود:87) يعني اصبر علينا أو دعنا على ما نحن فيه .
ويدخل في معنى الحلم الحلم وهو بلوغ الصبي مبلغ الرجال الحكماء العقلاء : ( وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ ) (النور:59) ، (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) (الصافات:101) يعني لديه أناة وبصيرة وحكمة من صغره ، والله حليم متصف بالحلم ، والحلم صفة كريمة تقوم على الحكمة والعلم والصبر ، والحليم سبحانه صبور يتمهل ولا يتعجل ، فهو سبحانه يمهل عباده الطائعين ليزدادوا من الطاعة والثواب ، ويمهل العاصين لعلهم يرجعون الطاعة والصواب ، ولو أنه عجل بالجزاء أحدا ما نجا أحد من عقاب ، ولكن الله سبحانه هو الحليم ذو الصَّفحِ والأناةِ ، استخلف الإنسان في أرضه واسترعاه ، واستبقاه في هذه الحياة إلى يوم موعود وأجل محدود ، فأجل بحلمه عقاب الكافرين ، وعجل بفضله ثواب المؤمنين .(17/29)
واسم الله الحليم يدل علي ذات الله وعلي صفة الحلم بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة الحلم وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة ، والغني والعزة ، والرأفة والرحمة والعلو العظمة ، واسم الله الحليم دل علي صفة من صفات الذات والفعل معا .
كيف ندعو الله باسمه الحليم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ ، دعاء المسألة كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث أَبِى العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) ، وعند رواه الترمذي أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِيُّ الحَلِيمُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ .(17/30)
أما دعاء العبادة ، فهو تأثر المسلم في عبادته بتوحيد الله في اسمه الحليم ، فيكون حليما صبورا يتأني في رأيه وحكمه ، وقوله وفعله ويتخير ما هو أنفع له وللآخرين ، ويبادر بالتوبة إلى الحليم الرحيم ، وعند مسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم َقَالَ لِلأَشَجِّ بن عَبْدِ الْقَيْسِ : ( إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ) وفي روية أخرى عند أي داود وحسنها الشيخ الألباني : ( إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا قَالَ : بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا ، قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) ، وروى البزار وقال الألباني صحيح لغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت إن الله يحب الغني الحليم المتعفف ويبغض البذيء الفاجر السائل الملح .
قال ابن القيم : وهو الحيي فليس يفضح عبده عند التجاهر منه بالعصيان ، لكنه يلقي عليه ستره فهو الستير وصاحب الغفران ، وهو الحليم فلا يعاجل عبده بعقوبة ليتوب من عصيان ، وهو العفو فعفوه وسع الورى لولاه غار الأرض بالسكان ، سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك ، سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك ، والسلام عليكم ورحمة الله .(17/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الفعل
المحاضرة الثانية
17خالق خلاق بارئ مصور
الحمد لله الذي خلق فسوي ، والذي قدر فهدى ، أحمده على ما منح محمدا من الهدى ، وجعل سنته قدوة لمن اقتدى ، الذي قال في خير كلام أنزل للورى ، ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلا مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الأوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ) ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين ، أما بعد .
تحدثا في المحاضرة الماضية عن اسم الله الرحمن واسمه الرحيم ، وبينا أنهما اسمان من الأسماء يدلان على صفتين من أوصاف الله ، صفة الرحمة العامة والرحمة الخاصة ، وصفة الرحمة فيهما من صفات الأفعال ، وحديثنا اليوم عن بعض ما تيسر من الأسماء التي تدل على صفات الأفعال كاسم الله الخالق واسمه الله الخلاق واسمه البارئ واسمه المصور .(18/1)
الاسم الثالث والأربعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الخالق ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وكذلك سماه نبيه صلى الله عليه وسلم ، فيما ثبت في السنة النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في هذه المواضع ، كما ورد في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (الحشر:24) ، والله عز وجل يذكر اسمه الخالق الذي به خلق كل الشيء ، ثم يعقبه بتدبير ما خلق أنه الوحيد المتوكل به كما قال جل في علاه : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) (الأنعام:102) ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) (الزمر:62) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) (فاطر:3) فالخالق ورد اسما في المواضع السابقة ووردت الدلالة على الوصفية في اسمه الخالق في قوله تعالى : ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (النحل:17) ( يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (النور:45) ( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (القصص:68) ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ ) (الزخرف:16) ، وورد اسم الله الخالق أيضا في قوله تعالى : ( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ) (ص ّ:71) ( قُلِ(18/2)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد:16) ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) (غافر:62) .
أما في السنة فقد روي الإمام أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ، وقد ثبت من حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري والنواس بن سمعان رضي الله عنهم ، والحديث صححه الشيخ الألباني في مشكاة المصابيح أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخالق ، وقد بوب به البخاري والترمذي فقالا : باب مَا جَاءَ لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ ، وعند البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال : ( لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتَّى يَقُولُوا هَذَا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ ) وهنا عند البخاري ورد الاسم ، وعند مسلم ورد الوصف من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَال : ( لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَقُولُوا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَمَنْ خَلَقَهُ ) .(18/3)
الخالق في اللغة فعله خلق يخلق خلقا ، والخلق مصدر من الفعل خلق ، ومنه قول الله تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ ) (السجدة:7) ، ويأتي الخَلق أيضا بمعنى المخلوق ، ومنه قوله تعالى : ( هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) (لقمان:11) .
والخالق في أسماء الله تعالى هو الذي أوْجد جميعَ الأشياء بعد أن لم تكنْ مَوْجُودة ، وقدر أمورها في الأزل بعد أن كانت معدومة ، ويكون معني الخالق أيضا هو الذي ركب الأشياء تركيبا ، ورتبها بقدرته ترتيبا ، فمن الأدلة على معنى الإنشاء والإبداع وإيجاد الأشياء من العدم قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ) (فاطر:3) ومن الأدلة على معنى التركيب والترتيب الذي يدل عليه اسمه الخالق قوله تعالى : ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (المؤمنون:14) .(18/4)
والخلق قد يأتي أيضا بمعني الكذب ، على أساس أن الذي يكذب يؤلف وينشئ كلاما لا يطابق الحقيقة ، ومن ذلك المعنى ما ورد في قوله تعالى : ( إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (العنكبوت:17) ( قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) (الشعراء:137) .
فالخالق في أسماء الله مرد معناه إلى أمرين إما من التقدير وهو العلم السابق ، أو القدرة على الإيجاد والتصنيع والتكوين ، والتحقيق أن معنى الخالق قائم عليهما معا ، وذلك لأن المخلوقات حدوثها مرتبط عند السلف بمراتب القدر ، فكل مخلوق مهما عظم شأنه أو دق حجمه لا بد أن يمر بهذه المراتب ، وهى علم الله السابق ، علم التقدير وحساب المقادير ، تقدير كل شيء قبل تصنيعة وتكوينه ، وتنظيم أمور الخلق قبل إيجاده وإمداده ، ثم بعد ذلك مرتبة الكتابة ، وهي كتابة المعلومات وتدوينها بالقلم في كلمات ، فالله كتب ما يخص كل مخلوق في اللوح المحفوظ ، كتب تفصيل خلقه وإيجاده ، وما يلزم لنشأته وإعداده وإمداده ، وجميع ما يرتبط بتكوينه وترتيب حياته ، ثم بعد ذلك المرتبة الثالثة من مراتب القدر وهي مرتبة المشيئة ، فليس في الكون مشيئة عليا إلا مشيئة الله ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على ذلك ، ثم بعد تأتي المرتبة الرابعة من مراتب القدر وهى مرتبة خلق الأشياء وتكوينها ، وتصنيعا وتنفيذها ، على وفق ما قدر لها بمشيئة الله في اللوح المحفوظ .(18/5)
فالله عز وجل هو خالق كل شيء والخالق عند أهل التوحيد واحد وما سواه مخلوق ، وهذا أمر اتفقت عليه الكتب الإلهية والفطر البشرية وجميع الأدلة العقلية ، ولم يخالف في ذلك إلا مجوس الأمة من القدرية ، حيث زعموا أن العبد يخلق فعله من دون الله وقدرته ، فأخرجوا أفعال العباد عن تقدير الله وربوبيته ولم يوحدوا الله في مشيئته ، فجعلوا العباد هم الخالقون لأفعالهم ، فعندهم أنه سبحانه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يقدر أن يجعل المسلم مسلما ، ولا الكافر كافرا ولا المصلي مصليا ، وإنما ذلك يعود إلي قدرة العبد ومشيئته ، قال الإمام البخاري : باب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَلاَئِقِ ، وَهْوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ ، وَهْوَ الْخَالِقُ ، هُوَ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهْوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ .
واسم الله الخالق يدل على ذات الله وعلى صفة الخالقية بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الخالقية وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والمشيئة الإلهية ، والعلم والقدرة ، والغنى والقوة ، وغير ذلك من الصفات الذاتية والفعلية ، ولذلك لما قال الله عز وجل : ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ ) قال بعدها : ( لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ) (الطلاق:12) ، واسم الله الخالق دل على صفة من صفات الأفعال .(18/6)
كيف ندعو الله باسمه الخالق دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في الحديث الذي رواه البخاري من حديث شَدَّاد بْن أَوْسٍ رضي الله عنه أَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( سَيِّدُ الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ ، وَأنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي ، اغْفِرْ لِي ، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، قَالَ : وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا ، فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا ، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ) .
أما دعاء العبادة فهو شكر العبد لخالقه بعمله وطاعته ، فمن حديث عَائِشَةَ أنها سمعت رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول : ( خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِى آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاَثِمَائَةِ مَفْصِلٍ فَمَنْ كَبَّرَ اللَّهَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَهَلَّلَ اللَّهَ وَسَبَّحَ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاَثِمِائَةِ السُّلاَمَى فَإِنَّهُ يَمْشِى يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ ) .(18/7)
وتوحيد لله في اسمه الخالق أن يؤمن العبد بأن ما قدره الله وكتبه فهو كائن لا محالة ، سيخلقه حسبما قدره الله له ، وأن يعمل بالشرع ويعلم أنه ميسر لما خلق له ، وروى أبو داود من حديث مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ) (الأعراف:172) ، فَقَالَ عُمَرُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلْجَنَّةِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ خَلَقْتُ هَؤُلاَءِ لِلنَّارِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَفِيمَ الْعَمَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ ) ، وقال الشيخ الألباني : حديث صحيح إلا مسح الظهر .(18/8)
كما أن العبد يؤمن بأن الخالق في أوصافه يختلف عن المخلوق في أوصافه فلا يزينن له الشيطان أن يخضع الخالق لأحكام المخلوق ، وعند أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث يَزِيد بْنُ الأَصَمِّ عن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : لَيَسْأَلَنَّكُمُ النَّاسُ عَنْ كُلِّ شيء حَتَّى يَقُولُوا اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شيء فَمَنْ خَلَقَهُ .
الاسم الرابع والأربعون من أسماء الله الحسنى وهو اسم الله الخلاق ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نصين اثنين من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ) (الحجر:86) ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) (يّس:81) .(18/9)
وفي مستدرك الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ( جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل ففته فقال : يا محمد أيبعث الله هذا بعد ما أرم ؟ قال : نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ، قال فنزلت ( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ، وفي مسند الحارث وصححه الشيخ الألباني في صحيح السيرة النبوية : ( مشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم فقال : يا محمد أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ؟ ثم فته بيده ثم نفخه في الريح نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ( نعم أنا أقول ذلك يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ثم يدخلك النار ) ، وأنزل الله تعالى الآيات .(18/10)
الفرق بين اسم الخالق والخلاق : الخالق هو الذي ينشئ الشيء من العدم بتقدير وعلم ثم بتصنيع وخلق عن قدرة وغنى ، فالخالق هو الذي قدر بعلم وصنع بقدرة فخلق الشيء من العدم ، والخلاق صيغة مبالغة من الخالق الموصوف بخلق غيره ، وهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا ، كما يخلق ما يشاء ( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً) (النساء:133) ( وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) (الأنعام:133) وكيفا : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون َ) (النمل:88) ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (التغابن:3) ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُون َ) (النحل:8) فهو الذي يبدع في خلقه كما وكيفا بقدرته المطلقة ، فيعيد ما خلق ويكرره كما كان ، بل يخلق خلقا جديدا أحسن مما كان ، وفي هذا رد على المعتزلة الذين قالوا ليس في الإمكان أبدع مما كان ، لأن ذلك ينافي معنى اسمه الخلاق ، صحيح أن الله أحسن وأتقن كل شيء خلقه كما قال : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ ) (السجدة:7) لكن الله قدرته مطلقة فهو الخالق الخلاق الرازق الرزاق .(18/11)
قال شيخ الإسلام : ( وما يحكي عن الغزالي أنه قال ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم ، لأنه لو كان كذلك ولم يخلقه لكان بخلا يناقض الجود أو عجزا يناقض القدرة ، وقد أنكر عليه طائفة هذا الكلام ، وتفصيله أن الممكن يراد به المقدور ولا ريب أن الله سبحانه يقدر على غير هذا العالم وعلى إبداع غيره إلى ما لا يتناهى كثرة ، ويقدر على غير ما فعله ، كما بين ذلك في غير موضع من القرآن ، وقد يراد به أنه ما يمكن أحسن منه ولا أكمل منه فهذا ليس قدحا في القدرة ، بل قد أثبت قدرته على غير ما فعله ، لكن قال ما فعله أحسن وأكمل مما لم يفعله ، وهذا وصف له سبحانه بالكرم والجود والإحسان ، وهو سبحانه الأكرم فلا يتصور أكرم منه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا ) .
قال ابن القيم : براهين المعاد في القرآن مبينة على ثلاثة أصول : أحدها : تقرير كمال علم الرب سبحانه كما قال في جواب من قال : ( مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) ، وقال : (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ) (الحجر:86) ، والثاني : تقرير كمال قدرته كقوله : ( أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) ، الثالث : كمال حكمته كقوله : ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ ) (الدخان:38) وقوله : ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ ) (المؤمنون:115) ، قال ابن كثير : ( وقوله إن ربك هو الخلاق العليم تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء العليم بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض ) .(18/12)
والقرطبي يجعل الخلاق دالا أيضا تقدير الله للأخلاق وتقسيمها بين العباد وهذا يسعه اللفظ ويحتمله ، يقول القرطبي : ( إن ربك هو الخلاق أي المقدر للخلق والأخلاق العليم بأهل الوفاق والنفاق ) .
واسم الله الخلاق يدل على ذات الله وعلى صفة العظمة في الخالقية بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى العظمة في الخالقية وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية والقدرة والصمدية ، والغنى والعزة ، والجلال والقوة ، واسم الله الخلاق دل على صفة من صفات الفعل .
كيف ندعو الله باسمه الخلاق دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في دعاء جابر بن عبد الله : ( اللهم إنك خلاق عظيم إنك سميع عليم إنك غفور رحيم إنك رب العرش العظيم إنك البر الجواد الكريم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واجبرني وارفعني واهدني ولا تضلني وأدخلني الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين ) .(18/13)
أما دعاء العبادة ، فهو يقين الشخص بما يقتضيه الاسم فيؤمن بالبعث والحكمة ، وكمال العلم والقدرة ، وأن الله لا يعجزه شيء ولا غالب لأمر ، فإن أقر بذلك فقد وحد الله في اسمه الخلاق ، وفي صحيح من حديث عُبَادَة بْنُ الصَّامِتِ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ ) وما أحسن قول القائل : يمضى الزمان وكل فان ذاهب إلا جميل الذكر فهو الباقي ، لم يبق من إيوان كسرى بعد ذاك الحفل إلا الذكر في الأوراق ، هل كان للسفاح والمنصور والمهدي من ذكر على الإطلاق ، رجع التراب إلى التراب بما اقتضت في كل خلق حكمة الخلاق .
الاسم الخامس والأربعون من أسماء الله الحسنى وهو اسم الله البارئ ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نصين اثنين من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (الحشر:24) ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة:54) .(18/14)
والبارئ في اللغة اسم فاعل ، فعله برأ يبرأ برءا ، وبرؤ بضم الراء أي خلا من العيب أو التهمة أو المذمة ، فخلي منها وخلص وتنزه عن وصفه بالنقص ، واسم الله البارئ على ذلك المعنى دل على صفة من صفات الذات ، والبارئ أيضا هو الذي أبرأ الخلق ، وفصل كل جنس عن الآخر ، وصور كل مخلوق بما ينساب الغاية من خلقه ، فدل الاسم بهذا المعني على وصف فعل لأن ذلك يتعلق بمشيئة الله وقدرته ، فالاسم دل على صفة من صفات الذات والفعل معا ، وقد أضفناه في الأسماء التي تدل على صفات الفعل ، لأن الله عز وجل ذكره بين الخالق والمصور فقال : ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وهما من الأسماء التي تدل على صفات الفعل .
والبريء مرادف للبراء كما في قوله تعالى : ( وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) وكقوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ ) وأبرأ فلانا من حق له عليه أي خلصه منه ، وبرئ المريض أي شفي من مرضه ، ومنه ما رواه مسلم من حديث أَبِى الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ) ، وعند البخاري من حديث كعب بن مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ رضي الله عنه خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّىَ فِيهِ ، فَقَالَ النَّاسُ يَا أَبَا حَسَنٍ ، كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللَّهِ بَارِئًا .(18/15)
وبرأ الله الشيء أي خلقه صالحا ومناسبا للمهمة والغاية التي أرادها من خلقه , ومنه بريت القلم أي جعلته صالحا للكتابة , وبريت السهم أي جعلته مناسبا وصالحا للإصابة ، قال الشاعر : يا باري القوس بريا ليس يحكمه لا تفسد القوس أعط القوس باريها ، فالبارئ هو الذي يتم الصنعة على وجه التدبير ، وتحقيق المقدر وفق سابق التقدير يقول تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (الحديد:22) .(18/16)
واسم الله البارئ يدل على ذات الله وعلى كمال العظمة في الذات والصنع بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى كمال العظمة في الذات والصنع وحدها بدلالة التضمن ، فالبارئ كوصف فعل له هو الذي يبرأ كما قال على رضي الله عنه في الحديث الذي رواه البخاري من حديث أَبِى جُحَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ : قُلْتُ لِعَلِىٍّ رضي الله عنه : هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ مِنَ الْوَحْي إِلاَّ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ مَا أَعْلَمُهُ إِلاَّ فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ . قُلْتُ وَمَا فِي الصَّحِيفَةِ قَالَ الْعَقْلُ -الدية- وَفَكَاكُ الأَسِيرِ ، وَأَنْ لاَ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ ، والله تسمي بالباري وموصوف بإحداث البرايا قبل وجود البرية كما قال الطحاوي : ( ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري ) ، فالله عز وجل لم يكن معطلا عن الخلق والإبراء والقدرة ، ثم لما خلق الخلق أصبح خالقا بارئا قادرا ، بل استحق هذا الأسماء قبل خلقهم وإنشائهم ، واسم الله البارئ يدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية ، والقدرة والصمدية ، والغنى والعزة والقوة ، والجلال والاتقان والخبرة ، واسم الله البارئ دل على صفة من صفات الذات والفعل .
كيف ندعو الله باسمه البارئ دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يتوسل به إلى ربه كما في دعاء إبراهيم بن أدهم : ( اللهم اعصمني من فتن الدنيا ووفقني لما تحب من العمل وترضى وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تضلني وان كنت ظالما سبحانك ، سبحانك يا علي يا عظيم يا باري يا رحيم يا عزيز يا جبار ) حلية الأولياء 3/39 .(18/17)
أما دعاء العبادة فهو مراعاة العبد لاسمه البارئ في سلوكه فيترفع عن المعاصي ويبرئ نفسه من الشبهة والشهوة ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث صَفْوَان بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ : أُغْمِىَ عَلَى أَبِى مُوسَى فَبَكَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ كَمَا بَرِئَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ وَلاَ خَرَقَ وَلاَ سَلَق َ ، خرق شق الثياب وسلق رفع صوته عند المصيبة ، وعند الإمام مسلم من حديث أُمِّ سَلَمَةَ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ ) ، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ) (التوبة:114) ، كما أنه ينبغي على العبد أن يتقي الله في عمله فيخلص فيه ويتقنه على قدر وسعه وطاقته وما منحه الله من قوة على الفعل عملا بقول النبي : ( إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ) وهو حديث صحيح صححه الشيخ الألباني .(18/18)
الاسم السادس والأربعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المصور ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (الحشر:24) والمصور دل على صفة من صفات الفعل ورد النص عليها في قوله : ( هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (آل عمران:6) ( وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ) (الأعراف:11) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ) (غافر:64) ( يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) (الانفطار:8) .
والمصور اسم فاعل للموصوف بالتصوير ، فعله صور وأصله صار يَصُور صوْرا ، صور الشيء أي جعل له شكلا معلوما ، وصور الشيء قطعه وفصله ، وتصويره جعله على شكل متصور وعلى وصف معين ، والتصوير هو جعل الشيء على صورة ، والصورة هي الشكل والهيئة أو الذات بصفاتها ، وهذا الكون صور الله المخلوقات فيه بشتى أنواع الصور الجلية والخفية ، الحسية والعقلية ، فلا يتماثل جنسان أو يتساوى نوعان ، بل لا يتساوى فردان ، فلكل صورته وسيرته ، وما يخصه ويتميز به عن غيره ، والصور متميزة بألوان وأشكال في ذاتها وصفاتها ، ولو أصيت ذلك في نوع واحد ، أو في جنس واحد من هذه الأمم المصورة لطال كتابك وعجز بنانك وانتهي مدادك .(18/19)
فالمصور في أسماء الله الحسنى هو مبدع صور المخلوقات ، ومزينها بحكمته ، ومعطى كل مخلوق صورته على ما اقتضت حكمته الأزلية ، وكذلك صور الله الناس في الأرحام أطوارا ، وشكلهم أشكالا كما قال ربنا تبارك وتعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (المؤمنون:14) ، والله عز وجل كما صور الأبدان فتعددت وتنوعت ، نوع في الأخلاق فتتعدد صور الأخلاق والطباع .
واسم الله المصور يدل على ذات الله وعلى صفة من صفات الفعل وهي التصوير بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، صفة فعل التصوير وحده بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية والقدرة والصمدية ، والغنى والعزة ، والجلال والقوة ، واسم الله المصور دل على صفة من صفات الفعل .
كيف ندعو الله باسمه المصور دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يتوسل به إلى ربه كما في حديث عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ قَالَ : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ .. إلى أن قال : وَإِذَا سَجَدَ قَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ .(18/20)
فالرسول ذكر الوصف الذي دل عليه الاسم في دعاء المسألة ليحقق الله مطلوبه حيث قال في الحديث : ( أَنْتَ رَبِّى وَأَنَا عَبْدُكَ ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاَقِ لاَ يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَهَا لاَ يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْتَ ) .
أما دعاء العبادة فهو مراعاة العبد لاسمه المصور في سلوكه فلا يتشبه بالله في الربوبية والتصوير ، كما ورد في صحيح مسلم وكذلك عند أحمد من حديث سَعِيدِ بْنِ أَبِى الْحَسَنِ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا - وفي رواية أحمد مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ - ، فَقَالَ لَهُ ادْنُ مِنِّى ، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ ادْنُ مِنِّى ، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ قَالَ أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ -وفي رواية أحمد قَالَ فَرَبَا لَهَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ وَكُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ - مسلم : إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لاَ نَفْسَ لَه ُ.(18/21)
وروى الطبراني في الكبير وحسنه الألباني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نبي أو رجل يضل الناس بغير علم أو مصور يصور التماثيل .
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(18/22)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسني الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة الحادية عشر
28شهيد حفيظ مقيت حسيب
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الذِي خَلقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلقَ مِنْهَا زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الذِي تَتَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيبًا ) ، أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .(19/1)
أحبتي في الله موضوعنا اليوم نتحدث فيه عن آخر ما تبقى من الأسماء الحسنى ، نحن تحدثنا عن خمسة وتسعين اسما وفق منهجنا في حصر الأسماء ، وهو أن يسمي الله نفسه بالاسم أو يسميه به رسوله صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق دون تقييد ، بأن يفيد الثناء بنفسه دون إضافة ، وأن يكون الاسم فيه علامات الاسمية ومرادا به العلمية فيكون المعني محمولا عليه مسندا إليه ، وأن يكون الاسم دالا أيضا على الوصفية فلا يكون جامدا كالدهر ، وأن يدل على الكمال المطلق فلا يكون المعنى منقسما أو يحتمل الكمال من وجه والنقص من وجه آخر كالمكر ، وهذه الأسماء التى انطبق عليها منهجنا حتى الآن ، هي اسم الله الرب والإله الواحد الأحد ، السيد الصمد ، الحي القيوم ، المالك الملك المليك ، الحق المبين ، العلي الأعلى المتعال ، العظيم المجيد ، العليم الخبير ، القادر القدير ، المقتدر السميع البصير الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الكبير الحكيم ، العزيز الكريم ، القدوس السلام ، القوي المتين ، الغني الوارث الرقيب ، الجميل الوتر 42 هذه الأسماء هي الأسماء الدالة على صفات الذات وعددها اثنان وأربعون اسما ، أما الأسماء الدالة على صفات الأفعال فهي الرحمن الرحيم ، الخالق الخلاق ، البارئ المصور ، المؤمن المهيمن ، الجبار المتكبر ، القاهر القهار ، الغفور الغفار ، الشاكر الشكور ، الرازق الرزاق ، القابض الباسط ، الولي المولى ، الأكرم الوهاب ، المقدم المؤخر ، الديان الطيب اللطيف ، الودود الرؤوف ، العفو التواب ، الحيي الستير ، الحكم الحليم ، البر النصير ، المعطي الوكيل ، القريب المجيب ، الواسع الفتاح ، الحميد السبوح ، المسعر المحسن ، الرفيق الجواد ، الشافي المنان ، الحفيظ المقيت ، الشهيد الحسيب 57 ، هذه الأسماء هي الأسماء الدالة على صفات الأفعال وعددها سبعة وخمسون اسما من ضمنها الأسماء التي سنذكرها في محاضرة اليوم ، وننبه على أن هذه الاسما قد(19/2)
يدل بعضها على صفات الذات والفعل معا على اعتبار تعدد المعنى اللغوي لكل اسم .
وقد ذكرنا في المحاضرات السابقة خمسة وتسعين اسما كلها يتحقق فيها الشروط التي ذكرناها ، ولم يتبق من الأسماء الحسني مما يحقق شرط الإطلاق إلا أربعة أسماء وردت في القرآن ، مقرونة بعلو الفوقية ، وعلو الفوقية يزيد الإطلاق كمالا على كمال ، بل يزيد في إطلاق الوصف وعلو شأنه ، وهذه كما قال سبحانه و تعالى في مواضع كثيرة من القرآن : ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (البقرة:284) فهي تساوي بل تزيد عن الإطلاق في قوله تعالى : ( عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ ) (الممتحنة:7) ، لأن معاني العلو عند السلف تشمل عند السلف تشمل علو الفوقية وعلو الشأن وعلو القهر ، والله من فوق عرشه قدير له الكمال المطلق في كل شيء فإن أضفت مع ذلك اجتماع معاني العلو ، فهو إطلاق يقتضي كمالا على كمال ، والذي ثبت بهذا الإطلاق المقرون بالعلو في القرآن الكريم والسنة النبوية أربعة أسماء فقط ، يكتمل بها ما ذكره نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا ) ، ولا يدخل في هذا العدد لفظ الجلالة ، لأن الحديث واضح في أن التسعة والتسعين اسما هي لله جل جلاله ، وهذه الأسماء التي تحقق فيها الإطلاق مع معاني العلو ، هي اسمه الشهيد والحفيظ والمقيت والحسيب .(19/3)
ونبدأ معكم الآن بالاسم السادس والتسعين من أسماء الله الحسني وهو اسم الله الشهيد ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (سبأ:47) وكذلك في قوله : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) وفي سورة المجادلة : ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة:6) وفي البروج : ( الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (البروج:9) ، وقد ورد الاسم كذلك في آيات أخرى كثيرة .(19/4)
أما الوصف فقد ورد في قوله تعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (آل عمران:18) وفي قوله : ( لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ) (النساء:166) وقال عن المنافقين : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (التوبة:107) وكذلك في سورة الحشر : ( إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) (المنافقون:1) .(19/5)
وورد في صحيح مسلم من حديث عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ إِلَى اللَّهِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً ، ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) ، أَلاَ وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلاَئِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ ، أَلاَ وَإِنَّهُ سَيُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ يَا رَبِّ أَصْحَابِي ، فَيُقَالُ إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ، إِنَّكَ لاَ تَدْرِى مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ .
والشهيد في اللغة صيغة من صيغ المبالغة ، فعله شهد يشهد شهودا وشهادة ، واسم الفاعل الشاهد وهو الموصوف بالشهود أو الشهادة ، والشهود هو الحضور مع الرؤية والمشاهدة ، وعند أبي داود وحسنه الألباني من حديث أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا الصُّبْحَ فَقَالَ : أَشَاهِدٌ فُلاَنٌ ، قَالُوا لاَ ، قَالَ : أَشَاهِدٌ فُلاَنٌ ، قَالُوا لاَ ، قَالَ : إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لأَتَيْتُمُوهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ .(19/6)
والشهادة هي الإِخْبار بما شاهَدَه ، فالشاهد يلزمه أن يُبَيِّنُ ما عَلِمَهُ على الحقيقة ، شَهِدَ فلان على فلان بحق فهو شاهد وشهيد ، وعند البخاري من حديث أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، قُلْنَا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ : أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ ، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْتُ لاَ يَسْكُتُ .
والشهادة تأتي بمعنى الحكم كما ورد عند البخاري من حديث زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ قالت عند وفاة عُثْمَان بْن مَظْعُونٍ : ( رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ ؟ فَقَالَ : أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي ، قَالَتْ : فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّى أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا .(19/7)
والشهيد في أَسماء الله الرقيب على خلقه معهم أينما كانوا وحيثما كانوا ، حاضر شهيد أقرب إليهم من حبل الوريد ، يسمع ويرى وهو بالمنظر الأعلى وعلى العرش استوى فالقلوب تعرفه والعقول لا تكيفه ، فهو فوق عرشه على الحقيقة والكيفية التي تناسبه ، وشهادته على خلقه شهادة كاملة محيطة شاملة ، تشمل العلم والرؤية ، والتدبير والقدرة ، والشهيد أيضا في أسماء الله هو الذي شهد لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط ، وهذه الشهادة تضمنت عند السلف عدة مراتب ، أولا : علمه سبحانه وتعالى بذلك ، وثانيا : تكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه بذلك ، ثالثا أمرهم وإلزامهم بهذه الشهادة ، وعبارات السلف في الشهادة تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار ، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها ، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه ، فالمشركون لما كذبوا أولى العلم في دعوتهم إلى توحيد العبودية وإفراده بالألوهية ، شهدت الرسل بصدقهم وكذبت المشركين ، فتمادى المشركون في غيهم وكذبوا شهادة المرسلين ، فشهدت الملائكة بصدق المرسلين ، فهي التي نزلت بالوحي عليهم ، وبلغت دعوة التوحيد إليهم ، فتمادى المشركون في إفكهم ، وكذبوا الملائكة والرسل وأولى العلم ، فشهد الله بصدق ملائكته ورسله وأولى العلم قائما بالقسط ، لأنه المؤمن الذي يشهد بصدق المؤمنين إذا وحدوه ، كما قال سبحانه وتعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19) .(19/8)
واسم الله الشهيد يدل علي ذات الله ، وعلي صفة الشهادة بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الشهادة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر ، والعلم والإحاطة وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله الشهيد دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الشهيد دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في دعاء الحواريين أتباع عيسى عليه السلام : ( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) (آل عمران:52) وقال تعالى : ( وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُون َ) (المائدة:111) ، وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ مَلاَئِكَتَكَ وحَمَلَةَ عَرْشِكَ ، وأشهد من في السماوات ومن في الأرض أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ، وحدك لا شريك لك ، وأشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ ، من قالها مرة اعتق الله ثلثه من النار ، ومن قالها مرتين أعتق الله ثلثيه من النار ، ومن قالها ثلاثا أعتق الله كله من النار ) وهذا حديث صحيح صححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة .(19/9)
أما دعاء العبادة فهو أثر الاسم على العبد في شهادته بالحق ، ولو غضب عليه أقرب الخلق إليه ، وأعظم شهادة وأجل شهادة ، هي شهادة التوحيد ونبذ الشرك ، فعند البخاري من حديث أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ - وَمُعَاذٌ رَدِيفُهُ عَلَى الرَّحْلِ - قَالَ : لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ يَا مُعَاذُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ ثَلاَثًا ، قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلاَّ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهِ النَّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا ، قَالَ : إِذًا يَتَّكِلُوا ، وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا ، هذه الشهادة عادت قريش النبي من أجلها ، وتبرأ إبراهيم عليه السلام من والده بسببها ، فهي أعظم شهادة شهد بها رب العزة والجلال وشهد بها الملائكة والأنبياء وأولو العلم ، فحري بك أن تموت عليها .(19/10)
الاسم السابع والتسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الحفيظ ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) (سبأ:21) ، وفي قوله تعالى عن هود : ( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) (هود:57) ، فالله من فوق عرشه حفيظ له الكمال المطلق في حفظ كل شيء ، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من كمال الكمال ، وقد ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ) (الشورى:6) .
وقد ورد الوصف في مواضع كثيرة كقوله تعالى : ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ) (النساء:34) وقال تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (البقرة:255) وقال سبحانه عن السماء الدنيا وكيف حفظها من الشياطين : ( وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ ) (الحجر:17) ( وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ) (الصافات:7) وفي قول يعقوب عليه السلام : ( قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) (يوسف:64) فالله خير حفظا وفي قراءة خير حفظا .(19/11)
وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي ، وَبِكَ أَرْفَعُهُ ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا ، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ ) .
والحفيظ فى اللغة صيغة من صيغ مبالغة ، فعله حفِظ يحفَظُ حِفْظا ، واسم الفاعل منه الحافظ وهو الموصوف بالحفظ ، وحفْظ الشيء صيانته من التلف والزوال والضياع ، يستعمل الحفظ في العلم على معنى الضبط وعدم النسيان ، أو تعاهُد الشيء وقلَّة الغفلة عنه ورجل حافظ وقوم حُفّاظٌ وهم الذين رُزِقوا حِفْظَ ما سَمِعوا وقلما يَنْسَوْنَ شيئاً ، والحافِظُ والحَفِيظُ أيضا هو الموكَّل بالشيء يَحْفَظه ومنه الحفظة من الملائكة ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) (الرعد:11) أي تحفظ الأنفس بأمر الله حتى يأتي أجلها ، وكذلك الحفظة الذين يُحْصُونَ الأعمال ويكتبونها على بني آدم ، ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (الانفطار:12) ، وحَفِظَ المالَ والسِّرَّ حِفْظاً رَعاه وصانه ، واستحفظته سِرًّا واستحفظه إياه اسْترعاه ، قال تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) (المائدة:44) أَي استُودِعهم الكتاب واستأمنهم عليه ، واحتفظ الشيءَ لنفسه يعنى خَصَّها به والتحفُّظ قلَّة الغَفْلة في الأُمور والكلام ، والحَفِيظةُ هي الغَضَبُ لحُرمة من(19/12)
الحُرُمات تُنْتَهكُ أو عَهْد يُنْكَث أَو قريب يُظلَم .
والله عز وجل حفيظ لا يَعْزُب عنه مِثقالُ ذرّة في السموات والأرض ، وقد حفِظ على خلقه وعباده ما يعملون من خير أَو شرّ ، وحفِظ السماواتِ والأرضَ بقدرته ، ولا يؤُوده حفظهما وهو العليُّ العظيم ، والله حفيظ وحافظ لمخلوقاته يبقيها على حالها لغاياتها ، فهو تعالى يحفظ الذوات والصفات ، ويحفظ أعمال المكلفين بالحسنات والسيئات ، ويحفظ عليهم أسماعهم وأبصارهم وجلودهم ، لتصبح شهودا على أصحابها يوم القيامة ، الحفيظُ معناه أيضا الحافِظُ لمن يشاءُ من الشَّرِّ والأذى والهَلَكَةِ والبلاء .
واسم الله الحفيظ يدل علي ذات الله وعلي صفة الحفظ من صفات الفعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الحفظ وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والهيمنة القوة وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله الحفيظ دل علي صفة من صفات الأفعال .(19/13)
كيف ندعو الله باسمه الحفيظ دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في حديث أبي هريرة : ( إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا ، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ ) ، وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ من حديث ابْنَ عُمَرَ أنه كَانَ يَقُولُ لِلرَّجُلِ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا : ادْنُ مِنِّى أُوَدِّعْكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُوَدِّعُنَا فَيَقُولُ: ( أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ ) ، وفي صحيح مسلم ورد حديث يشمل نوعي الدعاء ، دعاء المسألة ودعاء العبادة ، فمن حديث أَبِى قَتَادَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ : خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّكُمْ تَسِيرُونَ عَشِيَّتَكُمْ وَلَيْلَتَكُمْ وَتَأْتُونَ الْمَاءَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غَدًا ، فَانْطَلَقَ النَّاسُ لاَ يَلْوِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، قَالَ أَبُو قَتَادَةَ فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسِيرُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ ، قَال َ: فَنَعَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَمَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، قَالَ : ثُمَّ سَارَ حَتَّى تَهَوَّرَ اللَّيْلُ مَالَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ، قَالَ : فَدَعَمْتُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أُوقِظَهُ ، حَتَّى اعْتَدَلَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، قَالَ : ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ السَّحَرِ مَالَ مَيْلَةً هِيَ أَشَدُّ مِنَ الْمَيْلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ ، حَتَّى كَادَ يَنْجَفِلُ ، فَأَتَيْتُهُ فَدَعَمْتُهُ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ، فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ : أَبُو قَتَادَةَ ، قَالَ : مَتَى كَانَ هَذَا مَسِيرَكَ مِنِّى ؟ قُلْتُ مَا زَالَ هَذَا مَسِيرِي مُنْذُ(19/14)
اللَّيْلَةِ ، قَالَ : حَفِظَكَ اللَّهُ بِمَا حَفِظْتَ بِهِ نَبِيَّهُ ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَرَانَا نَخْفَى عَلَى النَّاسِ ؟ ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَرَى مِنْ أَحَدٍ ؟ قُلْتُ : هَذَا رَاكِبٌ ، ثُمَّ قُلْتُ : هَذَا رَاكِبٌ آخَرُ ، حَتَّى اجْتَمَعْنَا فَكُنَّا سَبْعَةَ رَكْبٍ ، قَالَ : فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الطَّرِيقِ فَوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ احْفَظُوا عَلَيْنَا صَلاَتَنَا ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ ، قَالَ : فَقُمْنَا فَزِعِينَ ، ثُمَّ قَالَ : ارْكَبُوا ، فَرَكِبْنَا فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ نَزَلَ ، ثُمَّ دَعَا بِمِيضَأَةٍ كَانَتْ مَعِي فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ، قَالَ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا وُضُوءًا دُونَ وُضُوءٍ ، قَالَ : وَبَقِىَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ ، ثُمَّ قَالَ لأَبِى قَتَادَةَ : احْفَظْ عَلَيْنَا مِيضَأَتَكَ فَسَيَكُونُ لَهَا نَبَأٌ ، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ صَلَّى الْغَدَاةَ فَصَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبْنَا مَعَهُ ، قَالَ : فَجَعَلَ بَعْضُنَا يَهْمِسُ إِلَى بَعْضٍ : مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْنَا بِتَفْرِيطِنَا فِي صَلاَتِنَا ؟ ثُمَّ قَالَ : أَمَا لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ ؟ ثُمَّ قَالَ : أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلاَةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلاَةِ الأُخْرَى -فينام - ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيُصَلِّهَا حِينَ يَنْتَبِهُ لَهَا ، فَإِذَا كَانَ الْغَدُ فَلْيُصَلِّهَا عِنْدَ وَقْتِهَا ، ثُمَّ قَالَ : مَا تَرَوْنَ النَّاسَ صَنَعُوا ؟ ..(19/15)
قَالَ : فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّاسِ حِينَ امْتَدَّ النَّهَارُ وَحَمِيَ كُلُّ شَيْءٍ ، وَهُمْ يَقُولُونَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْنَا عَطِشْنَا ، فَقَالَ : لاَ هُلْكَ عَلَيْكُمْ ، ثُمَّ قَالَ أَطْلِقُوا لِى غُمَرِى - هو القدح الصغير- قَالَ : وَدَعَا بِالْمِيضَأَةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ وَأَبُو قَتَادَةَ يَسْقِيهِمْ ، فَلَمْ يَعْدُ أَنْ رَأَى النَّاسُ مَاءً فِي الْمِيضَأَةِ تَكَابُّوا عَلَيْهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسِنُوا الْمَلأَ كُلُّكُمْ سَيَرْوَى ، قَالَ : فَفَعَلُوا فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصُبُّ ، وَأَسْقِيهِمْ حَتَّى مَا بَقِىَ غَيْرِي وَغَيْرُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : ثُمَّ صَبَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي اشْرَبْ : فَقُلْتُ لاَ أَشْرَبُ حَتَّى تَشْرَبَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : إِنَّ سَاقِيَ الْقَوْمِ آخِرُهُمْ شُرْبًا ، قَالَ : فَشَرِبْتُ وَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فَأَتَى النَّاسُ الْمَاءَ جَامِّينَ رِوَاءً ، أي مستجمين نشاطاً مستريحين .
الاسم الثامن والتسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله المقيت ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ) (النساء:85) فالله من فوق عرشه مقيت له الكمال المطلق في إقاتة خلقه ورزقهم ، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من كمال الكمال في الاسم والصفة .(19/16)
والمقيت اسم فاعل للموصوف بالإقاتة ، فعله أقات ، وأصله قَات يَقُوت قُوتا ، والقوت لغة هو ما يمسك الرمق من الرزق ، تقول قات الرجلَ وأقاته أي أعطاه قوته ، والمصدر منه الفعل قات القوت ، وهو المدخر المحفوظ الذي يقتات منه حين الحاجة ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ ) .(19/17)
والله عز وجل مقيت يعطي كل مخلوق قوته ورزقه ، فربما يحفظه المرء ويدخره لأمد طويل أو قصير ، كيوم أو شهر أو سنة ، وذلك لئلا ينشغل بطلب القوت كل حين ، بل ينشغل في طلبه أياما ، ثم ينصرف في الأيام الأخرى لبقية مصالحه ، وهذا لا ينافي التوكل على الله ، ولا يعارض القدر كتبه الله ، فإن الأخذ بالأسباب أمر مطلوب والإعداد لمستقبل الشخص أمر مرغوب ، ولو ترك ذريته أغنياء خير من أن يذرهم عالة يتكففون الناس ، وعند البخاري من حديث عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبِيعُ نَخْلَ بَنِ النَّضِيرِ ، وَيَحْبِسُ لأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ ، وليس هذا الاقتيات والادخار في بني آدم وحدهم ، فكثير من الحيوانات يدخر قوته تحسبا لأنواع البلاء ، فهذه فطرة الله في أغلب الأشياء ، ولكنه فينا مشروط بعدم الاحتكار أو التضييق والإضرار ، والله عز وجل هو المقيت الذي خلق الأقوات وأوصلها إلى الأبدان ، فمن شي الأطعمة أنواع وألوان ( وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (الأنعام:141) ، وهو أيضا مقيت القلوب بالمعرفة والإيمان ، وهو الحَفِيظ المُقْتَدِرُ الذي يوفي كامل الرزق للإنسان والحيوان ، وهو المُقِيتُ الحافِظُ للأعمال العباد بلا نقصان ولا نسيان .(19/18)
واسم الله المقيت يدل علي ذات الله وعلي الإقاتة والرزق والحفظ بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الإقاتة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع البصر والعلم والقدرة والغني والعزة والقوة والصمدية والسيادة والأحدية وغير ذلك من أوصات الكمال ، واسم الله المقيت دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه المقيت دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند البخاري ومسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) .(19/19)
أما دعاء العبادة فالمرء يؤثر بقوته عامة المسلمين ، ثقة في أن القوت يرزقه رب العلمين ، وخصوصا إذا اشتد الكرب وقل الكسب ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَي النَّبِي صلي الله عليه وسلم - ضيفا - فَبَعَثَ إِلَي نِسَائِهِ - يسألهن إطعامه - فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ : أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَي امْرَأَتِهِ ، فَقَالَ أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَتْ : مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي ، فَقَالَ هَيِّئِي طَعَامَكِ ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ ، إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً ، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا ، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، غَدَا إِلَي رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ : ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى : ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) فالله عز وجل هو المقيت .(19/20)
الاسم التاسع والتسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الحسيب ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ) (النساء:86) ، فالله من فوق عرشه حسيب باسمه ووصفه ، له الكمال المطلق في محاسبته لخلقه وله الكمال في علو شأنه ، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من كمال الكمال في الاسم والصفة ، وقد ورد الاسم مقيدا في قول الله تعالى : ( وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) (النساء:6) وقال تعالى في سورة الأحزاب : ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) (الأحزاب:39) .(19/21)
وقد ورد الوصف في قوله تعالى : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (البقرة:284) ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (الأنعام:62) ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ) (الأنبياء:47) ( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً ) (الطلاق:8) .
وعند البخاري من حديث أَبِى بَكْرَةَ أنه قَالَ : أَثْنَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ عِنْدَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : وَيْلَكَ قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ ، قَطَعْتَ عُنَقَ صَاحِبِكَ ، قالها مِرَارًا ثُمَّ قَالَ : مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ، وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ .(19/22)
والحسيب في اللغة صيغة من صيغ المبالغة فعله حسِب يحسِب حسَابا وحسبانا ، واسم الفاعل من حسب الحاسب وهو الموصوف بمحاسبة غيره ، والحساب ضبط العدد وبيان مقادير الأشياء المعدودة ، سواء كان ذلك جزما أم ظنا ، الحسيب هو الكافي الكريم الرفيع الشأن ، الحَسَبُ هو الكَرَمُ والحسب في حقنا هو الشَّرَفُ الثابِتُ في الآباءِ والحَسَبُ أيضا هو الفَعالُ الصَّالِحُ ، ويقال : رُبَّ حَسِيبِ الأَصلِ غيرُ حَسِيب ِأَي لَه آباءٌ يَفْعَلُونَ الخَيْرَ ولا يَفْعَلُه هو ، قال تعالى : ( واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ ) أَي حِسابُه واقعٌ لا مَحالةَ ، وسُرْعَةُ حِسابِ اللَّه أَنه لا يَشْغَلُه حِسابُ واحد عَن مُحاسَبةِ الآخَر ، لأَنه سبحانه لاَ يَشْغَلُه سَمْع عن سمع ، ولا شَأْنٌ عن شأْنٍ .
والله عز وجل حسيب ضابط لأعداد المخلوقات وهيئاتها وخصائصها وأوصافها يضبط المقادير والموازين ، ويحصي أعمال المكلفين في مختلف الدواوين ، ويحصي أرزاقهم وأقدارهم وأفعالهم ومآلهم ، حال كونهم وبعد موتهم وعند حسابهم يوم يقوم الأشهاد : ( اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (الرعد:9) ، فهو الحسيب الذي له علو الشأن ومعاني الكمال ، وله في ذاته وصفاته مطلق الجمال والجلال ، ومن كان الله له حسيبا كفاه ، ومن عرف الحسيب حاسب نفسه قبل أن يلقاه .
واسم الله الحسيب يدل علي ذات الله وعلي علو الشأن والمحاسبة بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي علو الشأن والمحاسبة بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم الأحدية ، والقدرة والصمدية والغني والقوة والعزة والعظمة وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله الحسيب دل علي صفة من صفات الأفعال .(19/23)
كيف ندعو الله باسمه الحسيب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في قول الله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران:173) ، وعند البخاري في الحديث الذي ذكرناه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَادِحًا أَخَاهُ لا مَحَالَةَ فَلْيَقُلْ أَحْسِبُ فُلاَنًا ، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ ، وَلاَ أُزَكِّى عَلَى اللَّهِ أَحَدًا ، أَحْسِبُهُ كَذَا وَكَذَا إِنْ كَانَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ ) .(19/24)
وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( بَيْنَمَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهْىَ تُرْضِعُهُ ، فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تُمِتِ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ هَذَا ، فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ ، وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا فَقَالَتِ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا ، فَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا فَقَالَ : أَمَّا الرَّاكِبُ فَإِنَّهُ كَافِرٌ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَهَا تَزْنِي ، وَتَقُولُ حَسْبِى اللَّهُ ، وَيَقُولُونَ تَسْرِقُ ، وَتَقُولُ حَسْبِى اللَّهُ ) ، وعند البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ : ( كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران:173) ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) .(19/25)
أما دعاء العبادة فالعبد يقف مع نفسه على الدوام لمحاسبتها ، فيميز حركاتها وسكناتها ، فإن كان خاطر النفس عند الهم يقتضي نية أو عقدا أو عزما أو فعلا أو سعيا خالصا لله أمضاه وسارع في تنفيذه ، وإن كان لعاجل دنيا ، أو عارض هوي ، أو لهو أو غفلة ، نفاه وسارع في نفيه وتقييده ، ثم يذكر أنه ما من فعلة وإن صغرت إلا حاسب نفسه لم فعلت ؟ ، وهذا موضع الابتلاء هل تعمل لمولاك ، أم أن ذلك لهواك ، فإن سلم من هذا الأمر ، سئل عن نفسه كيف فعلت ؟ أبعلم أم بجهل ؟ فإن الله تعالى لا يقبل عملا إلا على طريقته وطريقة نبيه وسنته ، فإن سلم من هذا سأل نفسه لمن فعلت ؟ ألله أم للسمعة والرياء ، فالمحاسبة هي المقايسة بين الحسنات والسيئات بميزان الشرع والأحكام وتميز الحلال والحرام ، واتقاء الشبهات حتى لا يقع في الحرام ، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كَانَتْ لاَ تَسْمَعُ شَيْئًا لاَ تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ ، قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ أَوَ لَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : ( فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ) فَقَالَ : ( إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ ، وَلَكِنْ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَهْلِكْ ) ، فسارع بالطاعة والخير قبل أن يأتي الأجل ، روى مسلم من حديث أَبِى مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( حُوسِبَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يُخَالِطُ النَّاسَ وَكَانَ مُوسِرًا فَكَانَ يَأْمُرُ غِلْمَانَهُ أَنْ يَتَجَاوَزُوا عَنِ الْمُعْسِرِ قَالَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ تَجَاوَزُوا عَنْهُ ) .(19/26)
بهذا الاسم نختم ما ورد من أسماء الله الحسنى التي ذكرها نبينا صلى الله عليه وسلم في رواية الشيخين من حديث أبي هريرةَ رضيَ الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ قال : ( إنَّ للهِ تِسعةً وتِسْعينَ اسماً ، مائةً إلا واحدة ، مَن أحصاها دَخَلَ الجنَّة ) وليس إحصاؤها جمعها فقط بل الإحصاء كما سبق له مراتب أولها إحصاء ألفاظها وعدها وهذا ما يسر الله فيه وفق المنهج الذي التزمناه وقد ظهرت بفضل الله تماما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثانيها فهم معانيها ومدلولها ، وثالثها التعبد لله بمقتضاها فدعو الله بها دعاء مسألة ودعاء عبادة وقد بينا ذلك لكم في كل اسم من الأسماء فما بقي إلا الدعاء أن يوفق الله الجميع إلى طاعته وأن يجعل جميع من حضر واستمع ، وساعد في جمعها وحصرها ممن قال فيهم : ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (الزمر:18) سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(19/27)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة السابعة
22طيب جميل بر ولي مولى
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين واحد أحد ، سيد صمد ، لا شريك له في ألوهيته ، ولا شريك له في ربوبيته ، ولا شبيه له في ذاته وصفاته وأفعاله ، ( تُسَبِّحُ لهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَليما غَفُورا ) (الإسراء:44) ، ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ) (الأحزاب:56) فاللهم صلي وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلي آله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين ، أما بعد .(20/1)
فحديثا اليوم نبدأه بالاسم السادس والستين من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الطيب ، اسم الله الطيب لم يرد في القرآن الكريم ولكن سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في غير نص من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما جاء في صحيح مسلم كتاب الزكاة من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ) ، وَقَالَ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم ) ، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ) ، وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) ، وهذا الحديث ليس أصلا في إثبات الاسم لأنه حديث حسن ، والحديث الحسن هو ما اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه قليلا عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، فربما لا يضبط الراوي اللفظ في كونه اسما ، ولذلك لم نعتد به في حصر الأسماء الحسنى وإنما في دلالة الاسم على الصفة ، ولذلك فإنه ليس من أسمائه الحسني النظيف ، وإنما الثابت الصحيح في(20/2)
الروايات الأخرى الجميل كما سيأتي ، فالأصل في إثبات اسم الله الطيب هو حديث مسلم فتنبه .
والطيب في اللغة فعله طاب يطيب طيبا ، فما أطيبه ، يعني ما أجمله وما أزكاه وما أنفسه ، وما أحلاه وما أجوده ويكون الطيب من الأشياء في المحسوسات وغيرها من المعنويات ، فالطيب من المحسوسات هو ما لذ وزكا من خيار المطعومات والملبوسات في الدنيا والآخرة ، كما ورد في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) (البقرة:168) ( فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ) (الأنفال:69) وفي النكاح قوله تعالى : ( وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) (النور:26) ، وفي الآخرة قال تعالى : ( وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (الصف:12) .(20/3)
أما الطيب في غير المحسوسات فهو كالطيب من القول والكلمات أو الباقيات الصالحات كما في قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ) (إبراهيم:24) ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (فاطر:10) ، ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ) (الحج:24) ( لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) (الأنفال:37) ، وعند مسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ ، فَكَانَ يَقُولُ : التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ .(20/4)
والله عز وجل طيب له الكمال في ذاته وصفاته ، أسماؤه حسنى وصفاته عليا وأفعاله حسنى : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (طه:8) ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (الشورى:11) ، وهو أيضا طيب في أفعاله يفعل الأكمل والأحسن ، فهو الذي أتقن كل شيء ، وأحسن كل شيء ، الحكمة صفتة ، وهي بادية في خلقه تشهد لكمل فعله ، وتشهد بأنه طيب جميل ، عليم بديع : ( وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) (النمل:88) ، ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) (البقرة:138) ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ ) (السجدة:7) ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) (التين:4) .
واسم الله الطيب يدل علي ذات الله وعلي الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية وجميع أنواع الكمال في الصفات الإلهية ككمال العلم والأحدية والقدرة والصمدية والغني والعزة والجلال والعظمة وسائر ما علمنا وما لم نعلم من أسمائه وصفاته ، واسم الله الطيب دل علي صفة من صفات الذات والفعل معا .(20/5)
كيف ندعو الله باسمه الطيب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في حديث مسلم عن ابن عباس أن رسول الله كَانَ يَقُولُ : ( التَّحِيَّاتُ الْمُبَارَكَاتُ الصَّلَوَاتُ الطَّيِّبَاتُ لِلَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ) ، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث عبد الرحمن بن عايش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيِّبَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ وَأَنْ تَتُوبَ عَلَىَّ وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً في النَّاسِ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ ) .
أما دعاء العبادة فهو تأثر المسلم في عبادته بتوحيد الله في اسمه الطيب ، فيتحرى الحلال في مطعوماته وحاجياته ، ويتحرى الطيب في فعله وكلماته ، عملا بما قال الله في محكم آياته : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) (البقرة:168) ( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُون ) (المائدة:88) ( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون َ) (النحل:114) .(20/6)
وكذلك فإن المسلم ينفق من أجود ماله وأطيبه ، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (البقرة:267) ولا يبخل على نفسه بالطيب من متع الحياة عملا بقول الله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ) (الأعراف:32) وكذلك يتخير من الزوجات أطيبهن فإن الطيبيين للطيبات كما قال تعالى : ( الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) (النور:26) ، وأطيب أفعال العبد أن يوحيد الرب في أسمائه وصفاته ، وكل ما انفرد به من أفعاله ، فإن الله هو أحسن الخالقين الذي أحسن كل شيء في خلقه ، وليس ذلك لأحده غيره ، فكيف يدعو غير الله أو يعظم أحدا سواه : ( أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ ) (الصافات:125) .(20/7)
الاسم السابع والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الجميل ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في غير نص من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في صحيح مسلم كتاب الإيمان من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ، قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) ، وفي رواية أحمد في مسند عبد الله بن مسعود ، فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلاً وَرَأْسِي دَهِيناً وَشِرَاكُ نَعْلِى جَدِيداً وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( لاَ ذَاكَ الْجَمَالُ إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ ) .(20/8)
والجميل في اللغة من الجمال هو الحسن في الخلق والخلق ، جمل فهو جميل ككرم فهو كريم ، وتجمل يعني تزين ، وجمله تجميلا زينه ، وأجمل الصنيعة عند فلان يعني أحسن إليه ، والمجاملة هي المعاملة بالجميل ، والتجمل تكلف الجميل ، وقد جمل الرجل جمالا فهو جميل ، والمرأة جميلة ، وقال الأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ : وَإِذَا جَمِيلُ الْوَجْهِ لَمْ يَأْتِ الْجَمِيلَ فَمَا جَمَالُهُ : مَا خَيْرُ أَخْلاَقِ الْفَتَى إِلاَّ تُقَاهُ وَاحْتِمَالُهُ ، وقوله تعالى : ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) (يوسف:18) وقوله : ( فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً ) (المعارج:5) الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه ولا جزع فيه ، وقوله : ( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر:85) ، أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه .
والله عز وجل هو الجميل ، جماله سبحانه على أربع مراتب جمال الذات وجمال الصفات وجمال الأفعال وجمال الأسماء فأسماؤه كلها حسنى ، و صفاته كلها صفات كمال ، وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ، وعدل ورحمة ، وأما جمال الذات وكيفية ما هو عليه ، فأمر لا يدركه سواه ، ولا يعلمه إلا الله ، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرف بها إلي عباده ، وعند البخاري ومسلم من حديث أَبِى مُوسَى مرفوعا : ( حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) ، قال ابن عباس رضي الله عنه : ( حجب الذات بالصفات وحجب الصفات بالأفعال ، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال ، وستر بنعوت العظمة والجلال ) .(20/9)
واسم الله الجميل يدل علي ذات الله وعلي صفة الجمال بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الجمال وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والحسن والعظمة ، والعلو والعزة ، والإبداع والقدرة ، والجلال والقوة وغير ذلك من لوازم الجمال واسم الله الجميل دل علي صفة من صفات الذات والأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الجميل دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة لم أجد فيه دعاء مأثورا ، ولكن يستشهد بما تجمل يعقوب من الصبر في دعائه حيث قال : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) (يوسف:18) ( قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (يوسف:83) وعند البخاري في قول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى اله عليه وسلم : ( إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ ، وَوَقَرَ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) .
أما دعاء العبادة ففيه يتحلي المسلم بالجمال في ظاهره وباطنه ، فظاهره كما ورد في السنة في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد مرفوعا : ( إن الله تعالى جميل يحب الجمال ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده ويبغض البؤس والتباؤس ) .(20/10)
أما جمال الجوهر فيأتي قبل جمال المظهر وهو حسن الاعتقاد في الله ، وأن الجمال الحقيقي في أن يفهم العبد حقيقة الحياة ، فيستعين بالله في كمال العبودية ، ويرضي بما قسمه في باب الربوبية ، وأن الجلال المطلق إنما هو لله وحده ، في أسمائه وصفاته وأفعاله ، فالجلال يقوم على ركنين : الركن الأول هو الكمال ، والركن الثاني هو الجمال ، فالكمال هو بلوغ الوصف أعلاه ، والجمال بلوغ الحسن منتهاه ، فإذا نظر العبد إلى حكمة الله وانفراده عمن سواه ، سيجد أن الله عز وجل إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه شيئا من الجمال وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه شيئا من الكمال ، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال .
فإن كان العبد قد بلغ شيئا من الغني فأصبح كاملا كمالا مقيدا ، فليعلم أنه قد يبتلى في الجمال فربما يكون مريضا أو قبيحا دميما أو أميا جاهلا ، أو عقيما يشتهي الولد ويتمناه ، فهو لا يسعد بماله وغناه ، ولا ينعم بلذة الحياة إلا إذا أدرك حكمة الله في انفراده بالكمال والجمال ، فيسلم لشرع الله ويؤمن بقدر الله ، وربما تجد أيضا من ابتلاءات الله امرأة لها كمال في الخلق والنسب ، ولها منزلة في الشرفِ والحسب ، وهي أبعد ما يكون عن الخيانة ، ومتصفة بالصدق والأمانة ، ولكنها من حيث الجمال قبيحة لا تسر الناظرين ، دميمة ترعب الخاطبين ، وكل ذلك عن تدبير أحكم الحاكمين .
وعلى العكس في الابتلاء ، فإن الله إن أعطى الجمال لغيره ابتلاه في شيء من الكمال فربما تجد رجلا عالما ذكيا قويا فتيا ، لكنه فقير مهان يبيت جوعان ولا يجد ثوبا يستر الأبدان ، أو انظر إلي امرأة جمالها يتغنى به الشبان وقوامها قد لا تراه العينان ، لكنها قد تخون زوجها ولا تصون عرضها وهي معرة على أهلها وكل الناس يتمني موتها .(20/11)
وقد يعطي الله الكمال والجمال لأحد من خلقه لكن يسلبه دوام الحال ، كما فعل مع سليمان أعطاه الله الملك والعزة ، فكان قويا غنيا ، وملكا نبيا ، لديه الدنيا بأسرها ، وبهجةُ الحياة بأنواعها ، وسخرها لله بالطاعة والإيمان ، فسليمان عليه السلام أعطاه الله الكمال والجمال لكنه سلبه دوام الحال ، لأننا في دار ابتلاء ، والموت حكم الله على سائر الأحياء ، ولن يبقي إلا الحي الذي لا يموت ، فالجلال في أسمائه وصفاته مبني على الكمال والجمال وليس ذلك إلا لرب العزة والجلال ، هو الملك الجميل له في ملكه الكمال والجمال ، ملكه دائم وهو في ملكه عليم قدير يفعل ما يشاء له مطلق الخلق والتدبير وهذا هو الكمال ، أما الجمال في الملك فقيامه على الحق ، لا يظلم فيه أحدا ولا يشرك في حكمه أحدا ، ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه ، يقبل التوبة عن عباده وهو قادر على إهلاكهم ، لكن ملوك الدنيا إن استتب لهم كمال الملك وأحكموا قبضتهم على الخلق ، ضيعوا الجمال في الملك بظلم الخلق وضياع الحق ، وإن جمعوا بين الكمال والجمال سلبهم دوام الحال ، فما يلبث أن يموت الخليفة العادل أو يغتال أو يقتل .
فمن حكمة الله أنه إن أعطي الكمال لأحد سواه سلبه الجمال ، وإن أعطي الجمال لأحد سواه سلبه الكمال ، وإن أعطي الكمال والجمال لأحد سواه سلبه دوام الحال ، ومعلوم أن دوام الحال من المحال ، فالوحيد الذي اتصف بالكمال والجمال هو رب العزة والجلال ، كل اسم من أسمائه فيه الكمال والجمال ، ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الجَلالِ والإكرام ) فإذا أضفت إلي كماله وجماله ما كان من إحسانه في ملكه ، وإنعامه على خلقه ، فإنه لا يتخلف عن حبه إلا الجاحدون وأصحاب القلوب والخبيثة .(20/12)
الاسم الثامن والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله البر ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) (الطور17/28) .
والَبرُّ هو العَطوف على عبادة ببِرّة ولطفه ، والبَرُّ والبارّ بمعنى واحد , لكن الذي جاء في أسماء الله تعالى البَرُّ دُون البارّ والأسماء توقيفية ، والبِرُّ هو الإحسان ، ومنه الحديث ما ورد عند البخاري من حديث ابن مسعود قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ : الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ ثُمَّ أَيُّ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) ، والبر في حق الوالدين والأقْربِينَ من الأهل ضدّ العُقُوق وهو الإساءة إليهم والتَّضْييع لحقّهم ، يقال بَرَّ يَبَرُّ فهو بارُّ , وجمعه بَرَرَة , وجمع البَرّ أبرار .(20/13)
وعند البخاري من حديث عروة بن حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رضي الله عنه أن أباه أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِائَةَ رَقَبَةٍ ، وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ ، فَلَمَّا أَسْلَمَ حَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ وَأَعْتَقَ مِائَةَ رَقَبَةٍ ، قَالَ حكيم : فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، كُنْتُ أَتَحَنَّثُ بِهَا ، يَعْنِى أَتَبَرَّرُ بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : أَسْلَمْتَ عَلَى مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ .
والله سبحانه وتعالى أهل البر والعطاء ، يحسن إلى عباده في الأرض أو في السماء وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ وَقَالَ يَدُ اللَّهِ مَلأَى لاَ تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ ) ، كما أن الله يتجاوز عن عبده وينصره ويحميه ، ويقبل القليل منه وينميه ، فهو المحسن إلي عبادِهِ الذي عَمَّ بِرُّهُ وإحسانُه جميعَ خلقِهِ .
واسم الله البر يدل علي ذات الله وعلي صفة البر بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة البر وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم الأحدية والسمع والبصر والقدرة والحكمة والغني والعزة والجلال والقوة وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله البر دل علي صفة من صفات الأفعال .(20/14)
كيف ندعو الله باسمه البر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة يمكن أن نستشهد له بما ورد في مصنف ابن أبي شيبة وكذلك عند أبي حاتم من حديث مسروق عن عائشة أنها قالت : ( اللهم من علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم ) . وفي دعاء أم المؤمنين عائشة : ( اللهم إني أدعوك الله وأدعوك الرحمن وأدعوك البر الرحيم وأدعوك بأسمائك الحسنى كلها ما علمت منها وما لم أعلم أن تغفر لي وترحمني ) ابن ماجة وضعفه الألباني ، وروي عن على أنه كان يقول : ( صلوات الله البر الرحيم والملائكة المقربين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وما سبح لك من شيء يا رب العالمين على محمد بن عبد الله خاتم النبيين وإمام المتقين ) .(20/15)
أما دعاء العبادة فواجب العبد أن يتعامل مع الله بالبر ، فيفعل الخيرات ويجتنب المنكرات ولا يكون همه في المظاهر والشكليات ، قال تعالى : ( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) (البقرة:177) ، وكذلك فإن المسلم يتعامل مع الآخرين بالبر ، وهو حسن الخلق وصفاء النية ، فعند مسلم من حديث النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ أنه قَالَ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ : ( الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ) ومن أعظم البر بر الوالدين : ( وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً ) (مريم:14) ( وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم:32) وعند البخاري ومسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه قَالَ : ( جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحَابَتِي قَالَ : أُمُّكَ ، قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ : أُمُّكَ ، قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ : أُمُّكَ ، قَالَ ثُمَّ مَنْ قَالَ : ثُمَّ أَبُوكَ ) .(20/16)
الاسم التاسع والستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الولي ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وفي هذه المواضع ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالى : ( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الشورى:9) وقوله تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيد ُ) (الشورى:28) ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ) (النساء:45) وقد ورد مقيدا في نصوص أخرى كثيرة كقوله تعالى : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) (البقرة:257) وفي قوله : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) (آل عمران:68) ( إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (آل عمران:122) ( وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِين َ) (الجاثية:19) ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) (المائدة:55) ، ( وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأنعام:51) ويقول تعالى : ( وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ) (الأحزاب:17) .(20/17)
وعند البخاري من حديث عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ : إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي ـ أبي فلان ، وهم من قريش من قرابة النبي قيل المكنى عنه هنا هو الحكم بن أبي العاص ـ إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا ) ، يَعْنِى أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا .
وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ وَإِنَّ وَلِيِّيَ أَبِى وَخَلِيلُ رَبِّى : ثُمَّ قَرَأَ : ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ ) ، ( إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ) (الأعراف:196) .(20/18)
الولي في اللغة صيغة من صيغ المبالغة ، من اسم الفاعل الوالي ، فعله وَلِيَ يَلِي وَلْيا وولاءً وَوِلايةً ، والولي في حقنا هو الذي يلي غيره بحيث يكون قريبا منه بلا فاصل نسبي عنه ، والقريب يكون في المكان أو النسب أو النسبة ، ومنه يطلق الولي على الوالد والناصر والحاكم والسيد ، وولاية الله لعباده تعني قربه منهم ، فهو أقرب إليهم من حبل الوريد ، وهي الولاية العامة التي تقتضي العناية والتدبير وتصريف الأمور والمقادير ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد ِ) (قّ:16) أما الولاية الخاصة فهي ولايته لمؤمنين وقربه منهم وهي ولاية حفظ وعصمة ومحبة ونصرة ( أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ) (يونس:63) فالوَلِيّ في أسماء الله هو المُتَوَلي لأُمُور خلقه ، القَائِم بأمره علي تدبير ملكه ، ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحج:65) ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) (الرعد:33) .
واسم الله الولي يدل علي ذات الله وعلي صفة العناية والتدبير بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة العناية والتدبير بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والمشيئة والقدرة والعدل والحكمة والعزة والرحمة ، والسيادة والأحدية والغنى والصمدية وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله الولي دل علي صفة من صفات الأفعال .(20/19)
كيف ندعو الله باسمه الولي دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام : ( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (يوسف:101) وصح من حديث أنس رضي الله عنه قال : كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا ولي الإسلام وأهلِه مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه ) .(20/20)
أما دعاء العبادة فهو اجتهاد العبد في تحقيق الولاية من جانبه ، لأن ولاية المؤمنين لربهم هي ولاية حفظ لحدوده وتوحيده ، كقوله تعالي : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ ) (الأنعام:14) وقوله أيضا في التحذير من ولاية الأعداء : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ) (الممتحنة:1) وذلك لا يتم إلا بالإخلاص لله تعالى ، والإقبال كلية على أوامره ومفارقة نواهيه ، وواجب المؤمنين نحو ربهم ودينهم وإخوانهم القرب والحب والنصرة ، لإظهار الدين والتمكين في الأرض ، وهذا ما يقتضيه الولاء ظاهرا باطنا ، فولي الله حقا هو من توالت طاعاته من غير تخلل معصية ، ومن تولي الحق حفظه وحفظ حواسه علي الدوام بتوفيقه وتمكينه وإقداره علي الطاعات وكرائم الإحسان ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي : ( إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَي عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَي مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَي بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) .(20/21)
الاسم السبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المولي ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص القرآنية ، وفي هذه المواضع ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالى : ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (الأنفال:40) ( وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (الحج:78) وقد ورد مقيدا في قوله تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) (محمد:11) ، وقوله : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (التوبة:51) ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (الأنعام:62) .(20/22)
وعند البخاري من حديث الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رضي الله عنه أن أبا سفيان قال يوم أحد : ( إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ ) ، وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِي صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ أَطْعِمْ رَبَّكَ ، وَضِّئْ رَبَّكَ ، اسْقِ رَبَّكَ ، وَلْيَقُلْ سَيِّدِي مَوْلاَي ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ عَبْدِي أَمَتِي ، وَلْيَقُلْ فَتَاي وَفَتَاتِي وَغُلاَمِي ) ، وعند مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي كلكم عباد الله وكل نسائكم إماء الله ، ولكن ليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي ، ولا يقل العبد ربي ولكن ليقل سيدي وفي رواية وَلاَ يَقُلِ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ مَوْلاَيَ ، فَإِنَّ مَوْلاَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، قال النووي : ( ولا بأس أيضا بقول العبد لسيده مولاي فإن المولى وقع على ستة عشر معنى منها الناصر والمالك ) ، وفي الحقيقة أن لفظ المولى إن كان المقصود به الإطلاق فإنه لا يصح إلا لله ، أما على التقيد والإضافة والنسبة فتجوز في حق المخلوق ، وروى الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( اللَّهُ وَرَسُولُهُ مَوْلَى مَنْ لاَ مَوْلَى لَهُ وَالْخَالُ وَارِثُ مَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ ) .(20/23)
والمَوْلَى في اللغة اسمٌ يقع على عدة معان ، فالمولى يطلق على الرَّب والمَالِك والسَّيْد والمُنْعم والمُعْتق والنَّاصِر والمُحِب والتَّابِع والجَار وابن العَمّ والحَلِيف الصِّهْر والعَبْد والمُعْتِق والمُنْعم عليه ، والفرق بين الولي والمولى أن الولي هو من تولى أمرك وقام بتدبير حالك وذلك في الخلائق أجمعين ، أما المولى فهو من تركن إليه وتعتمد عليه وتحتمى به عند الشدة والرخاء في السراء والضراء ، وهذا غالبا ما يكون لخاصة المؤمنين ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ) (محمد:11) ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (الأنفال:40) ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (التوبة:51) .
واسم الله المولي يدل علي ذات الله وعلي فعل التولي والعناية الخاصة بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى العناية الخاصة بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والمشيئة والقدرة والعدل والحكمة والعزة والرحمة ، والسيادة والأحدية والغنى والصمدية وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله المولى دل علي صفة من صفات الأفعال .(20/24)
كيف ندعو الله باسمه المولى دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286) أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بك فانصرنا على القوم الكافرين .
أما دعاء العبادة ، فجهاد العبد في سبيل ربه واعتصامه بشرعه والتزامه بأحكامه كما قال تعالى في كتابه : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (الحج:78) .
أتيتك راجيا يا ذا الجلال ففرج ما تري من سوء حالي - عصيتك سيدي ويلي بجهلي وعيب الذنب لم يخطر ببالي
إلي من يشتكي المملوك إلا إلي مولاه يا مولي الموالي - لعمري ليت أمي لم تلدني ولم أغضبك في ظلم الليالي
فها أنا عبدك العاصي فقير إلي رحماك فاقبل لي سؤالي .
( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلمُوا تَسْليما ) (الأحزاب:56) والسلام عليكم ورحمة الله .(20/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة العاشرة
25فتاح واسع حميد وتر سبوح
الحمد لله رب العالمين ، أحمده وأستعينه وأستغفره ، وأومن به وأتوكل عليه ، وأستهدي الله بالهدى ، وأعوذ به من الضلالة والردى ، من يهد الله فهو المهتدى ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من أقر بربوبيته ، وشهد بوحدانيته ، وانقاد لمحبته وأذعن بطاعته ، واعترف بنعمته ، وفر إليه من ذنبه وخطيئته ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله للإيمان مناديا ، وإلى الجنة داعيا ، وإلى صراطه المستقيم هاديا ، وفي مرضاته ومحبته ساعيا ، وبكل معروف آمرا ، وعن كل منكر ناهيا ، رفع ذكره ، وشرح صدره ، ووضع وزره ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمره ، فصلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الموحدين وسائر عباده المؤمنين المتبعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .(21/1)
فما زلنا نتحدث معكم عن حصر أسماء الله الحسنى التي تتعلق بصفات الأفعال ، وشرح معانيها وما فيها من أوجه الكمال ، وحديثنا اليوم نبدؤه بالاسم الواحد والثمانين من أسماء الله الحسنى ، وهو اسم الله الفتاح ، فقد سمى الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في نص واحد من النصوص القرآنية وهو قوله تعالي : ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم ُ) (سبأ :26) ، وهذه الآية ورد فيها الاسم والوصف معا ، كما ورد الوصف مستقلا في آيات كثيرة منها قوله تعالى : ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (فاطر :2) ( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ) (النساء :141) ، ( وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الصف :13) ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء في السنن وهو ضعيف كما علمنا .(21/2)
والفتاح في اللغة فعله فَتَحَ يَفْتَح فَتْحاً ، والفَتْحُ نقيض الإِغلاق ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ) (الأعراف:40) والمعنى أن أَبواب السماء تغلق أما أرواحهم فلا تَصْعَدُ أَرواحُهم ولا أَعمالهم ، لأَن أَعمال المؤمنين وأَرواحهم تصعد إِلى السماء ، والفتَّاح على وزن فعال من صيغ المبالغَة ، والمفتاح كلُّ ما يُتَوَصَّل به إلى استخراج الْمْغلقاَت التي يَتَعذَّر الوُصُول إليها ، وعند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ ، وَبَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ الْبَارِحَةَ إِذْ أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَرْضِ حَتَّى وُضِعَتْ فِى يَدِى ) ، فأخْبر أنه أوتيَ مَفاتِيحَ الكَلِم ، وهو ما يَسَّر الله له من البَلاغة والفصاحة والوُصول إلى غوامض المعاني وبدائع الحِكَم ومَحاسِن العِبارات والألفاظ التي أُغْلِقَت على غيره وتَعذَّرت ، ومَن كان في يَده مفَاتيح شيء سَهُلَ عليه الوصول إليه ، والفتَّاحُ في اللغة أيضا هو الحاكِمُ يقال للقاضي الذي يحكم بين الناس فَتَّاحُ لأَنه يَفْتُحُ مواضع الحق .(21/3)
والفتَّاح في أسماء الله تعالى هو الذي يفتح أبواب الرَّحْمة والرزق لعباده أجمعين ، أو يفتح أبواب البلاء لامتحان الصادقين ، فمن الأول ما ورد في قوله تعالى : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (الأعراف :96) وقوله : ( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (فاطر :2) قيل معناه ما يأْتيهم به الله من مطر أَو رزق فلا يقدر أَحد أَن يمنعه ، وما يمسك من ذلك فلا يقدر أَحد أَن يرسله ، ومن الفتح بمعنى فتح البلاء والامتحان ما ورد في قوله تعالى : ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ) (الأنعام:44) .(21/4)
وقيل معنى الفتاح هو الذي يحكم بين العباد ، يقال : فتح الحاكم بين الخَمصْيَنْ إذا فَصَل بينهما ، فالفاتح الحاكِم ومنه قوله تعالى : ( قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) (الأعراف :89) ، فالفَتْحُ أَن تحكم بين قوم يختصمون إِليك ، فالفتاح إذا هو الذي يفتح خزائن جوده وكرمه لعباده الطائعين ، ويفتح أبواب البلاء والهلاك على الكافرين المعاندين ، وهو الذي يَفتَحُ على خَلقِهِ ما انغلَقَ عليهم من أمورِهِم فيُيَسّرُها لهم فَضلا منه وكَرَمًا ، فهو الذي بيده خزائن والسماوات الأرض ، يفتح منها ما يشاء بحكمته ، وعلى ما قضاه في خلقه بمشيئته .
واسم الله الفتاح يدل علي ذات الله وعلي وصف الفتح والحكم بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وصف الفتح والحكم بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم القدرة والغنى والرحمة والعزة والحكمة ، وعلى وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله الفتاح دل علي صفة من صفات الأفعال .(21/5)
كيف ندعو الله باسمه الفتاح دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة هو دعاء الله بالاسم أو الوصف الذي دل عليه ومثاله ما ورد في قوله تعالى عن نوح عليه السلام : ( قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ) (الشعراء:118) ، وكذلك ما جاء في قوله تعالى عن شعيب وقومه : ( قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ) (الأعراف:89) .(21/6)
أما دعاء العبادة فهو اعتماد المسلم على ربه في طلب مفاتيح الخير ، وذلك يكون بحسن اعتماده عليه وركونه إليه وأن يحذر من الدنيا إذا فتحت عليه ، فعند البخاري من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ ، وفي رواية أخرى عند البخاري إني مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِى مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ، وعند ابن ماجة وقال الألباني : حسن لغيره من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ مِغْلاَقًا لِلشَّرِّ وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلشَّرِّ مِغْلاَقًا لِلْخَيْرِ ) ، وينبغي على العبد أن يعلم أن مفتاح الخير كله في توحيد الله عز وجل ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فعند مسلم من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الْوُضُوءَ ثُمَّ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ) ، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا قَالَ عَبْدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ قَطُّ مُخْلِصًا إِلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ حَتَّى تُفْضِيَ إِلَى الْعَرْشِ مَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ) .(21/7)
الاسم الثاني والثمانون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الواسع ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قول الله تعالي : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:115) وغالبا ما يقترن اسم الله الوسع باسمه العليم كما جاء في قوله تعالى : ( الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم ) (البقرة:268) ، ( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:261) ، وورد مقيدا في قوله تعالى : ( الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم وَالْفَوَاحِشَ إِلا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (النجم:32) ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء وهو ضعيف كما علمنا .(21/8)
والواسع في اللغة فعله وَسِعَ الشَّيءُ يَسَعُه سِعَة فهو وَاسِع ، وأَوْسَعَ الله عليك أَي أَغناكَ ، ورجل مُوسِعٌ يعني مَلِيءُ بالمال والثراء ، يقال إناء واسع وبيت واسع ثم قد يستعمل في الغنى يقال فلان يعطي من سعة يعني من غنى ، وفلان واسع الرحل يعني غنيا ، وقال تعالى : ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ) (الطلاق:7) ، وتَوَسَّعُوا في المجلس أَي تَفَسَّحُوا ، والسَّعة الغِنى والرفاهِية ، ووَسعَ عليه رَفَّهَه وأَغناه ، وقال تعالى : ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) (الأعراف:156) وسِعَتْ رحْمتُهُ كلَّ شيء ولكلِّ شيء وعلى كلِّ شيء ، والسعة تكون في العلم فعلمه واسع ، وتكون في الإحسان وبسط النعم ، والواسع المطلق هو الله تعالى ، له مطلق الجمال والكمال في سائر الأسماء والصفات والأفعال ، وقد ورد فى القرآن الكريم اقترن اسم الله الواسع باسمه العليم ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ أنها قَالَتِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم : ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ) (المجادلة:1) ، فالله واسِع وَسِعَ غِنَاه كل فَقِير وَرَحْمَتَه كُلَّ شَيءٍ وهو الكثيرُ العطاءِ يده سحاء الليل والنهار .
واسم الله الواسع يدل علي ذات الله وعلي صفة السعة بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي صفة السعة بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعظمة والعزة والجمال والكمال وغير ذلك من معاني الجلال ، واسم الله الواسع دل علي صفة من صفات الذات والأفعال .(21/9)
كيف ندعو الله باسمه الواسع دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند مسلم من حديث عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ أنه قال : صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ) ، قَالَ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ أَنَا ذَلِكَ الْمَيِّت َ.
وفي صحيح مسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عن عمر أنه قال قلت يا رسول الله : ( ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ فَقَدْ وَسَّعَ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ وَهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ ، فَاسْتَوَى جَالِسًا ثُمَّ قَالَ : أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ) ، وفي سنن الترمذي وحسنه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَوَسِّعْ لِي فِي رِزْقِي وَبَارِكْ لِي فِيمَا رَزَقْتَنِي ) .(21/10)
أما دعاء العبادة فالغني من الموحدين يوسع على نفسه وعلى المسلمين والفقير منهم يطلب من ربه بواسع الكرم مزيدا من الفضل والنعم ، ويثق في سعة الرزق مهما طالت المحن ، وفي سنن الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ الْمَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ قَالَ بَلَى يَا رَبِّ ، قَالَ فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ، وورد عند البخاري من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُمْ ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ : مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ ، وَمَا أُعْطِىَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ ، ومن دعاء العبادة تمني العبد للسعة طلبا للجهاد ودعوة العباد إلى طاعة الله فمن حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنْ يَشُقَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا قَعَدْتُ خِلاَفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَبَدًا وَلَكِنْ لاَ أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلاَ يَجِدُونَ سَعَةً وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّى وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّى أَغْزُو في سَبِيلِ(21/11)
اللَّهِ فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ثُمَّ أَغْزُو فَأُقْتَلُ ) .
الاسم الثالث والثمانون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الحميد ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالي : ( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (إبراهيم:1) وقال تعالى : ( وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ) (الحج:24) .(21/12)
وقد اقترن اسم الله الحميد باسمه الغني كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر:15) وفي قوله ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) (الحج:64) ، وقوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة:6) ، واقترن اسمه الحميد بالعزيز كما في قوله تعالى : ( وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (سبأ:6) ( وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (البروج:8) ، واقترن بالولي : ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ) (الشورى:28) واقترن بالمجيد ( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد ٌ) (هود:73) واقترن بالحكيم : ( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ) (فصلت:42) .(21/13)
وفي صحيح البخاري من حديث عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِى لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ أَلاَ أُهْدِى لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ بَلَى ، فَأَهْدِهَا لي ، فَقَالَ سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه سلم فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ ؟ قَالَ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، َعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
الحميد في اللغة صيغة مبالغه على وزن فعيل بمعنى اسم المفعول وهو المحمود ، فعله حمد يحمد حمدا ، والحمد نقيض الذم بمعنى الشكر والثناء ، وهو المكافأة على العمل ، والحمد والشكر مُتَقاربان لكن الحمد أعَمُّ من الشكر , لأنّك تحمَد الإنسان على صِفاته الذَّاتِّية وعلى عطائه ولا تَشْكُره على صِفاته ، والتحميد كثرة حمد اللَّه سبحانه بالمحامد الحسنة ، والمحمود المشهور بفعل الخير للغير ، ومنه ما ورد عند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث جَابِرٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلاَةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ إِلاَّ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ، ومعنى ابْعَثْه المقَام المحمود الذي وَعَدْتَه أي الذي يَحمْدَه فيه جميع الخلق لتعْجيل الحساب والإراحة من طُول الوقوف .(21/14)
والحميد في أسماء الله هو المستحق للحمد والثناء ، والله تعالى هو الحميد له الحمد ، حمد نفسه فقال : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الفاتحة:2) ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ) (الأنعام:1) ( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ) (النمل:59) وكذلك هو الحميد الذي يحمده عباده الموحدون يحمدونه على السراء والضراء كما قال تعالى في وصفهم : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) (فاطر:34) ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) (الأعراف:43) .
واسم الله الحميد يدل علي ذات الله وعلي صفة الحمد بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي صفة الحمد بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والمشيئة والحكمة والغني والعزة والجلال والعظمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله الحميد دل علي صفة من صفات الأفعال .(21/15)
كيف ندعو الله باسمه الحميد دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة ، كما في حديث البخاري السابق : ( قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، َعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ) ، وعند مسلم من حديث عُمَر بْنَ الْخَطَّابِ أنه كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُك َ ، وعند البخاري من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَلَكَ الْحَمْدُ ، لَكَ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ، وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ،(21/16)
أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ .
أما دعاء العبادة فهو ظهور الحمد في سلوك العبد فيحمده في القلب أن وفقه للإيمان ، ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ) (الأعراف:43) .ويحمده باللسان في كل زمان ومكان ، فالحمد لله تملأ الميزان كما ثبت عند مسلم من حديث أبي مالك الأشعري أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) وعند مسلم من حديث سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( أَحَبُّ الْكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. لاَ يَضُرُّكَ بَأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ ) .ويحمده بالجوارح والأركان فيشكر الله بمزيد من الطاعة والإيمان ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ:13) .(21/17)
الاسم الرابع والثمانون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الوتر فقد سماه به رسول الله صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في صحيح البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رِوَايَةً قَالَ : ( لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا ، مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا ، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ ) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) ، وعند أبي داود والترمذي وابن ماجة والنَسائى وصححه الشيخ الألباني من حديث عَنْ عَلِىٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ : يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ، وفي رواية : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ ، وعند أحمد من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ .(21/18)
والوِتْرُ في اللغة هو الفَرْدُ أَو ما لم يَتَشَفَّعْ من العَدَدِ ، قال تعالى : ( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ ) (الفجر:3) قيل : الوتر آدم عليه السلام والشَّفْع أنه شُفِعَ بزوجته ، وقيل : الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة ، وقيل الأَعداد كلها شفع ووتر كثرت أَو قلّت ، وقيل الوتر هو الله الواحد والشفع جميع الخلق خلقوا أَزواجاً ، وكان القوم وتِراً فَشَفَعْتهم وكانوا شَفْعاً فَوَتَرْتهم ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عُمَرَ أن رجلا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَهْوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ قَالَ : مَثْنَى مَثْنَى ، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً ، فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا تَوَضَّأْتَ فَانْتَثِرْ وَإِذَا اسْتَجْمَرْتَ فَأَوْتِرْ ) أي اجعل الحجارة التي تستنجي بها فرداً استنج بثلاثة أَحجار أَو خمسة أَو سبعة ولا تستنج بالشفع .(21/19)
والله تعالى وتر انفرد عن خلقه فجعلهم شفعا ، فالله عز وجل خلق المخلوقات بحيث لا تعتدل ولا تستقر إلا بالزوجية ولا تهنأ على الفردية والأحدية ، يقول تعالى : ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (الذاريات:49) ، فالرجل لا يهنأ إلا بزوجته وبغيرها لا يشعر بسعادته فلا بد من الزوجية ومشاركته لأسرته ، والتوافق بين محبتهم ومحبته ، فيراعى في قراره ضروريات أولاده زوجته ، ولا يمكن أن تستمر الحياة التي قدرها الله على خلقه بغير الزوجية ، حتى في تكوين أدق المواد الطبيعية ، فالمادة تتكون من مجموعة من العناصر والمرَكَّبات ، وكل عنصر مكون من مجموعة من الجزيئات ، وكل جزيء مكون من مجموعة من الذرات ، وكل ذرة لها نظام في تركيبها تتزواج فيه مع أخواتها ، سواء كانت الذرةُ سالبةً أو موجبةً ، فالعناصر في حقيقتها عبارة عن أخوات من الذرات متزاوجات متفاهمات ، متكاتفات ومتماسكات ففي علم الطبيعة والفيزياء معلوم أنه لا يتكون جزئُ الماء إلا إذا اتحدت ذرتان من الهيدروجين مع ذرة واحدة من الأكسجين ؟ فالذرات متزاوجة سالبها يرتبط بموجبها ، لا تهدأ ولا تستقر إلا بالتزاوج من بعضها البعض ، فهذه بناية الخلق بتقدير الحق ، بنيت على الزوجية والشفع ، أما ربنا عز وجل فذاته صمدية وصفاته فردية ، فهو المنفرد بالأحدية والوترية ، كما ثبت في السنة النبوية : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) .
وقد قيل أيضا في معنى الشفع والوتر أن الشفع تنوع أوصاف العباد بين عز وذل وعجز وقدرة وضعف وقوة وعلم وجهل وموت وحياة ، والوتر انفراد صفات الله عز وجل فهو العزيز بلا ذل ، والقدير بلا عجز ، والقوي بلا ضعف ، والعليم بلا جهل ، وهو الحي الذي لا يموت ، القيوم الذي لا ينام ، ومن أساسيات التوحيد والوترية أن تفرد الله عمن سواه في ذات الله وصفاته وأفعاله .(21/20)
واسم الله الوتر يدل علي ذات الله وعلي صفة الوترية بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة الوترية بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية ، والقدرة والصمدية ، وكل ما يلزم من صفات الكمال واسم الله الوتر دل علي صفة من صفات الذات .
كيف ندعو الله باسمه الوتر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يدعو الله بالاسم أو الصفة أو معناها كما ورد عند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث حَنْظَلَة بْنُ عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً .
وأما دعاء العبادة فيظهر من خلال محبة التوحيد وكل قول أو فعل يدل على التوحيد ، َكَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَصْنَعُ شَيْئاً إِلاَّ وِتْراً ، وهذه هي السنة فعند أحمد من حديث عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خِفْتَ الصُّبْحَ فَوَاحِدَةً إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ .(21/21)
الاسم الخامس والثمانون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله السبوح ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في صحيح مسلم كتاب الصلاة من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِى رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) ، والحديث ورد أيضا عند أبى داود وفي سنن النَسائي وفي مسند الإمام أحمد .
والسبوح في اللغة ، فعله سبح يَسبحُ تسبيحا ، وسَبَحَ في الكلام إِذا أَكثر فيه التَّسبيح والتنزيه ، وسبحانَ اللَّه معناه تنزيه الله من الصاحبة والولد ، وقيل معناه تنزيه اللَّه تعالى عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به ، وجِماعُ معناه بُعْدُه تبارك وتعالى عن أَن يكون له شريك أَو ندّ أَو مِثيْلٌ أَو ضدّ ، وسبَّحْتُ اللَّه تسبيحاً وسُبْحاناً بمعنى واحد ، والسُبُّوحُ عز وجل له أوصاف الكمال والجمال بلا نقص ، وله الأفعال المقدَّسة عن الشَّرَّ والسوء ، حيث يسْبحُ فيها قلبُ المُسَبِّح تذكُّرا وتفكُّرا فلا يرى إلا العظمةَ والبعدَ عن النَّقْص والشَّرّ ، فيقول ما أبْعَد الله عن السوء ، ثم يقطع مسافةً أو مَرْحَلةً أخرى في معرفةِ ومشاهدةِ الأَوْصَاف والأفعال فيزداد تعظيماً لله وتبعيدا له من السوء ، والقلب في ذلك يبتعد من الظلمات إلى النور ، ومن إرادة الشر إلى إرادة الخير ، ومن عَمَي القُلُوب وأَدْوَائها إلى نُورِها وشِفَائِها ، ومن فَسَادِها وَسَيْطرة الأهواء عليها إلى صَلاَحِها وسَيْطرة الوَحْي عليها .(21/22)
وعند مسلم من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه أنه قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ ) .
( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً) (الفرقان:58) (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) (الأعراف:206) (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (يونس:10) (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) (الحجر:98) (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً) (الإسراء:44) .
واسم الله السبوح يدل علي ذات الله وعلي التوحيد والتنزيه بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي التوحيد والتنزيه بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والكمال المطلق في الذات والصفات والأفعال واسم الله السبوح دل علي صفة من صفات الذات والأفعال .(21/23)
كيف ندعو الله باسمه السبوح دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ) ، وفي صحيح مسلم من حديث عُمَر بْن الْخَطَّابِ كَانَ يَجْهَرُ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ يَقُولُ : ( سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ تَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) ، وعند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَأْخُذْ دَاخِلَةَ إِزَارِهِ فَلْيَنْفُضْ بِهَا فِرَاشَهُ وَلْيُسَمِّ اللَّهَ فَإِنَّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا خَلَفَهُ بَعْدَهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَضْطَجِعَ فَلْيَضْطَجِعْ عَلَى شِقِّهِ الأَيْمَنِ وَلْيَقُلْ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبِّى بِكَ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ) .(21/24)
أما دعاء العبادة وعند البخاري من حديث أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( جَاءَ الفُقَرَاءُ إِلَي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ - الأغنياء - مِنَ الأَمْوَالِ بِالدَّرَجَاتِ العُلاَ وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ ، يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى ، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ، وَلَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أَمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا ، وَيَعْتَمِرُونَ ، وَيُجَاهِدُونَ ، وَيَتَصَدَّقُونَ ، قَالَ : أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ ، وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ ، إِلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ ، تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ ، وَتُكَبِّرُونَ خَلفَ كُلِّ صَلاَةٍ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، فَاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فَقَالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَنَحْمَدُ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ، وَنُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلاَثِينَ . فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : تَقُولُ سُبْحَانَ اللهِ ، وَالحَمْدُ لِلهِ ، وَاللهُ أَكْبَرُ ، حَتَّى يَكُونَ مِنْهُنَّ كُلِّهِنَّ ثَلاَثًا وَثَلاَثِينَ ) ، قَالَ أَبُو صَالِحٍ : فَرَجَعَ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا : سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأَمْوَالِ بِمَا فَعَلنَا فَفَعَلُوا مِثْلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) ، وعند البخاري من حديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَبَّحَ سُبْحَةَ الضُّحَى وَإِنِّي لأُسَبِّحُهَا ، وعند البخاري من حديث جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال : كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ نَظَرَ إِلَى(21/25)
الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ : ( أَمَا إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا ، لاَ تُضَامُّونَ أَوْ لاَ تُضَاهُونَ في رُؤْيَتِهِ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا ، ثُمَّ قَالَ : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ) ، وروى أبو داود من حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أنه قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ : ( فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ) ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) ، قَالَ : اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ .
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ.(21/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الفعل
المحاضرة الرابعة
19قاهر قهار أكرم وهاب ديان
الحمد لله الذي يلطف بعباده وبريته ، وهو الرؤوف في أقداره بكماله وحكمته ، المهيمن على خلقه فلا يخرج شيء عن مشيئته ، ذي النعم الغامرة ، والمنن الظاهرة ، أحمد حمدا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فاطر السماوات العلا ، ومنشئ الأرضين والثري ، وأشهد أن محمدا عبده المجتبي ، ورسوله المرتضي ، بعثه على حين فترة من الرسل ، ودروس من السبل ، فدمغ به الطغيان ، وأكمل به الإيمان ، وأظهره على كل الأديان ، وقمع به أهل الشرك الأوثان ، فصلي الله عليه وسلم ما دام في السماء فلك ، وما سبح في الملكوت ملك وعلى آله الطيبين الطاهرين وسائر أصحابه أجمعين ، ومن اقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .
ذكرنا في حصر الأسماء الحسنى أربعين اسما لله كلها تدل على أوصاف ذاته ، وهذه الأسماء هي الرب الإله الواحد الأحد الصمد السيد الحي القيوم المالك الملك المليك الحق المبين العلي الأعلى المتعال العظيم المجيد العليم الخبير القادر القدير المقتدر السميع البصير الأول الآخر الظاهر الباطن الكبير الحكيم العزيز الكريم القدوس السلام القوي المتين الغني الوارث الرقيب ، وتحدثنا أيضا عن بعض أسماء لله التي تدل على أوصاف فعله ، وهي الرحمن الرحيم الخالق الخلاق البارئ المصور المؤمن المهيمن الجبار المتكبر ، واليوم نتحدث عن بعض الأسماء الأخرى التي تدل على أوصاف فعل الله وهي اسم الله القاهر ، واسمه القهار ، واسمه الأكرم ، وكذلك الوهاب والديان .(22/1)
الاسم الواحد والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله القاهر ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نصين من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) (الأنعام:18) ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (الأنعام:61) ، ولم يأت اسم الله القاهر في السنة إلا في حديث حصر الأسماء الحسنى عند ابن ماجة .(22/2)
والقاهر اسم الفاعل للموصوف بقهر غيره ، فعله قهر يقهر قهرا فهو قاهِر ، وقهرت الشيء غلبته وعلوت عليه مع إذلاله بالاضطرار ، وتقول : أَخَذْتُهُم قَهْراً أَي من غير رضاهم ، وأُقْهِرُ الرجُل إذا وجَدْتَه مَقْهورا ، أو صار أمرُه إلى الذل والصغار والقهر ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عن يأجوج ومأجوج : ( فَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ فَيَسْتَقُونَ الْمِيَاهَ وَيَفِرُّ النَّاسُ مِنْهُمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ مُخَضَّبَةً بِالدِّمَاءِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا مَنْ فِي الأَرْضِ وَعَلَوْنَا مَنْ فِي السَّمَاءِ قَسْوَةً وَعُلُوًّا ) ، وروى أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عَشَرَ مَرَّاتٍ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَالَهَا عَشَرَ حَسَنَاتٍ وَحَطَّ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا عَشَرَ سَيِّئَاتٍ وَرَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا عَشَرَ دَرَجَاتٍ وَكُنَّ لَهُ كَعَشْرِ رِقَابِ وَكُنَّ لَهُ مَسْلَحَةً مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَي آخِرِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ يَوْمَئِذٍ عَمَلاً يَقْهَرُهُنَّ فَإِنْ قَالَ حِينَ يُمْسِى فَمِثْلُ ذَلِكَ ) ، فالقاهر في أسماء الله تعالى هو الغالِب على جميع الخلائق ، الذي يعلو في قهره وقوته ، فلا غالب ولا منازع له سبحانه ، بل كل شيء تحت قهره وسلطانه ، ( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون َ) (المؤمنون:91)(22/3)
فيستحيل أن يكون لهذا العالم إلا إله واحد ، لأن الله قاهر فوق عباده له العلو والغلبة ، وقد تحدثنا عن اسم الله المتعال وبينا أنه لو فرضنا وجود إلهين اثنين متنازعين متشاكسين ، مختلفين ومتضادين ، وإراد أحده ما شيئا خالفه الآخر ، فلا بد عند التنازع من غالب وخاسر ، فالذي لا تنفذ إرادته فهو المغلوب العاجز ، والذي نفذت إرادته هو القاهر القادر ، قال تعالى : ( وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) (الأنعام:61) أي هو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله كل شيء وذل لعظمته وكبريائه كل شيء وعلا علي عرشه فوق كل شيء ، قال ابن جرير الطبري : ( ويعني بقوله القاهر أي المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم ، وإنما قال فوق عباده لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم ، ومن صفة كل قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه ، فمعنى الكلام إذا والله الغالب عباده المذللهم العالي عليهم بتذليله لهم ، وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه ) .
واسم الله القاهر يدل على ذات الله وعلى صفة القهر الكلي المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة القهر الكلي المطلق بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقوة والأحدية ، والكبرياء والعظمة ، والجبروت والعزة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله القاهر دل على صفة من صفات الأفعال .(22/4)
كيف ندعو الله باسمه القاهر دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يتقرب به إلى ربه في دعائه ، ليطلب به الرفعة إن كان ذليلا ، والعزة إن كان مقهورا ، فيسأل الله باسمه القاهر أن ينجيه ويقويه ، ولم أجد داء مأثورا باسم الله القاهر ، أما دعاء العبادة فهو مظهر يخضع فيه القوي لله توحيدا له في اسمه القاهر ، ويستعلى الضعيف بربه توحيد له في اسمه القاهر ، والله عز وجل وعد المؤمنين بالعلو والتمكين فقال : ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز ٌ) (المجادلة:21) ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (آل عمران:160) ( وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) (المائدة:56) ( وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) (الصافات:116) ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون َ) (الصافات:173) وفي صحيح مسلم من حديث عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ) .(22/5)
الاسم الثاني والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله القهار ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (يوسف:39) ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الرعد:16) ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (إبراهيم:48) واسم الله القهار ارتبط باسمه الواحد في القرآن والسنة وذلك لأن الله قاهر فوق كل قاهر ، فلا يوجد الانفراد في القهر إلا لله وحده ، وذلك لأن كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره ، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى ، حتى تنتهي قوة القهر للواحد القهار ، فالقهر والتوحيد متلازمان ، قال تعالى : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار ُ) (صّ:65) ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) (الزمر:4) ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) (غافر:16) .(22/6)
وعند مسلم وأحمد واللفظ له أن عَائِشَة قَالَتْ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِذَا بُدِّلَتِ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّماَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ أَيْنَ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ قَالَ : النَّاسُ يَوْمَئِذٍ عَلَى الصِّرَاطِ ، وفي صحيح الجامع من حديث عن عائشة وصححه الشيخ الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل قال : ( لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) .
والقهار صيغة مبالغة من القاهر اسم فاعل ، والفرق بين القاهر والقهار أن القاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق باعتبار جميع المخلوقات على اختلاف تنوعهم ، فهو قاهر فوق عباده له علو القهر مقترنا بعلو الشأن والفوقية فلا يقوى ملك من الملوك على أن ينازعه في علوه ، مهما بلغ في سلطانه أو ظلمه ، وإلا قهره الله باسمه القهار ، ومعلوم أن المقهور يحتمي من ملك بملك ، ويخرج بخوفه من سلطان أحدهما ليتقوى بقوة الآخر ، لكن الملوك جميعا إذا كان فوقهم ملك قاهر قادر ، فإلى من يخرجون ، وإلى جوار من يلجأون ، قال تعالى في سورة المؤمنون : ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (المؤمنون:88) ، وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال : ( اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ ) ، فلا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه .(22/7)
فالقاهر هو الذي له علو القهر الكلي المطلق أما القهار فهو الذي له علو القهر المطلق باعتبار الكثرة في الجزء ونوعية المقهور ، فالله عز وجل أهلك قوم نوح وقهرهم ، وقهر قوم هود ، وقهر فرعون وهامان والنمرود ، ( وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى ) وقهر قوم صالح وقهر قوم لوط ، وقهر أبا جهل والمشركين ، و قهر الفرس والروم الصليبيين ، والله قهار لكل متكبر جبار ، والأرض فيها المتكبرون وما أكثرهم ، وفيها الظالمون المجرمون وما أجرمهم ، والمستضعفون المظلومون كثيرون وعاجزون ، ويفتقرون إلى معين قهار وملك قادر جبار ، يعينهم وينصفهم ، فالواحد القهار هو ملجأهم وهو بالمرصاد للطغاة المعتدين ، فالقهار هو كثير القهر ، وقهره عظيم ، يقهر من نازعه في ألوهيته وربوبيته وحاكميته وأسمائه وصفاته .
واسم الله القهار يدل على ذات الله وعلى علو القهر المطلق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، علو القهر المطلق بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية ، والقدرة والصمدية ، والغنى والعزة ، والجلال والقوة ، واسم الله القهار دل على صفة من صفات الفعل ، قال ابن القيم في النونية : وكذلك القهار من أوصافه فالخلق مقهورون بالسلطان : لو لم يكن حيا عزيزا قادرا ما كان من قهر ولا سلطان .
كيف ندعو الله باسمه القهار دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في صحيح الجامع من حديث عن عائشة وصححه الشيخ الألباني أن النبي : ( كان إذا تضور من الليل قال لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) .(22/8)
أما دعاء العبادة فهو مقاومة النفس وقهرها بالاستغفار والتوبة من ذنبها ، فيذللها الموحد لأوامر ربها ، وكذلك قهر الشيطان الرجيم بالاستعاذة بالله السميع العليم ، وقهر الشبهة والجهل باليقين ونور العلم ، وقهر كل ظالم جبار بالاستعاذة بالقاهر القهار ، ( وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيى نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُون قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) (الأعراف:128) ، كما أنه من دعاء العبادة باسم الله القهار أن يلين المسلم للمسلمين ويحنوا على اليتامى والمستضعفين ويعفو عن المسيئين عند المقدرة وفي مسند الإمام أحمد وهو صحيح لغيره من حديث عَبْد الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( ثَلاَثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنْ كُنْتُ لَحَالِفاً عَلَيْهِنَّ لاَ يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا وَلاَ يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ ) والله عز وجل يقول لنبيه : ( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) (الضحى:10) .(22/9)
الاسم الثالث والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الأكرم ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) (العلق:3) ، وعند صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ) ، فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَي خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ) ، فاسم الله الأكرم دل على صفة الإكرام وهي صفة فعل من أفعال الله : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء:70) وقال الإمام البخاري : ( كَرَّمْنَا وَأَكْرَمْنَا وَاحِد ٌ) ، فالأكرم اسم دل على الإكرام وهو وصف فعل .(22/10)
وفي صحيح البخاري كتاب الجنائز من حديث خَارِجَة بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلاَءِ وهي امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ قالت عند وفاة عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ : ( دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقُلْتُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ ؟ فَقُلْتُ : بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ فَقَالَ أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ ، وَاللَّهِ إِنِّي لأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي قَالَتْ فَوَاللَّهِ لاَ أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا ) ، وفي صحيح البخاري كتاب الجهاد من حديث أَنَس رضي الله عنه أن الأَنْصَارُ كَانَتِ تَقُولُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَي الْجِهَادِ مَا حَيِينَا أَبَدَا فَأَجَابَهُمُ النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إِلاَّ عَيْشُ الآخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ .(22/11)
والأكرم اسم دل على المفاضلة في الكرم ، فعله كرم يكرم كرما ، والأكرم هو الذي لا يوازيه كرم ولا يعادله في الكرم نظير ، وقد يكون الأكرم بمعنى الكريم ، لكن الفرق بين الكريم والأكرم أن الكريم على الأغلب دل على صفة من صفات الذات والأكرم على الأغلب دل على صفة من صفات الفعل ، والله عز وجل لا كرم يسموا إلى كرمه ولا إنعام يرقى إلى نعمه ولا عطاء يوازي عطاءه في خلقه ، وحسبنا ما جاء في قوله : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:18) ( وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) (النحل:53) ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ) (الضحى:11) وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِى فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِى فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِى فَأَغْفِرَ لَهُ ) وفي صحيح مسلم : ( إِذَا مَضَى شَطْرُ اللَّيْلِ أَوْ ثُلُثَاهُ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الصُّبْحُ ) ، والله سمي نفسه الأكرم لأنه الذي يعطى ما يشاء لمن يشاء وكيف يشاء بسؤال وغير سؤال ، وهو يعفو عن الذنوب ويستر العيوب ويجازي المؤمنين بفضله يمنحهم الثواب الجزيل في مقابل العمل القليل .(22/12)
واسم الله الأكرم يدل على ذات الله وعلى صفة الإكرام والجود بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الإكرام وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والغني والصمدية ، والعلو والفوقية وكل ما يلزم لقيام للعطاء الإكرام وما يترتب عليه سنن الترمذي كتاب الإيمان من حديث أَبِي جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِي عَنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ مَنْ أَصَابَ حَدًّا فَعُجِّلَ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يُثَنِّي عَلَي عَبْدِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ وَمَنْ أَصَابَ حَدًّا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَفَا عَنْهُ فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي شَيْءٍ قَدْ عَفَا عَنْهُ قَالَ أَبُو عِيسَي وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ.(22/13)
كيف ندعو الله باسمه الأكرم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في سنن البيهقي في أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنه كان يدعو في السعي : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ ) وفي رواية أخرى : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ اللَّهُمَّ آتِنَا فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِى الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) وقال الشيخ الألباني لا بأس بهذا الدعاء لثبوته عن جمع من السلف ، وفي صحيح مسلم كتاب الجنائز عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ صَلَّي رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم عَلَي جَنَازَةٍ فَحَفِظْتُ مِنْ دُعَائِهِ وَهُوَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِالْمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلاً خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ وَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ أَوْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ) .(22/14)
أما دعاء العبادة ، فهو أن يظهر العبد آثار النعمة توحيدا لله في اسمه الأكرم كما ورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِي الأَحْوَصِ عَنْ أَبِيهِ أنه أتى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي ثَوْبٍ دُونٍ فَقَالَ : أَلَكَ مَالٌ ؟ قَالَ : نَعَم ؟ قَالَ : مِنْ أَيِّ الْمَالِ ؟ قَالَ : قَدْ أَتَانِيَ اللَّهُ مِنَ الإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ : فَإِذَا أَتَاكَ اللَّهُ مَالاً فَلْيُرَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكَ وَكَرَامَتِهِ ، وفي صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَي النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَبَعَثَ إِلَي نِسَائِهِ فَقُلْنَ مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم مَنْ يَضُمُّ ، أَوْ يُضِيفُ هَذَا فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ أَنَا فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَي امْرَأَتِهِ ، فَقَالَ أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَتْ مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي فَقَالَ هَيِّئِي طَعَامَكِ ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا ، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ، غَدَا إِلَي رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالَ : ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) وفي سنن البيهقي كتاب قتال أهل البغي وحسنه الألباني من حديث نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أن(22/15)
رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قال : ( إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ ) ، وفي صحيح البخاري كتاب أحاديث الأنبياء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ قَالَ أَتْقَاهُمْ فَقَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَيُوسُفُ نَبِي اللَّهِ ابْنُ نَبِي اللَّهِ ابْنِ نَبِي اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ قَالُوا لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ قَالَ فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا ) .
ومن دعاء العبادة أن يدرك المسلم أن الإكرام الحقيقي من الله هو إكرامه بالتوفيق للإيمان : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات:13) ، أما الإكرام بالنعمة فهي ابتلاء تستوجب الشكر والطاعة ( فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَن كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ) (الفجر:17) ، وعند مسلم كتاب الزهد من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ قال : ( فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ أي فُلْ أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ فَيَقُولُ بَلَى. قَالَ فَيَقُولُ أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلاَقِىَّ فَيَقُولُ لاَ. فَيَقُولُ فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي ) .(22/16)
الاسم الرابع والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الوهاب ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ) (صّ:9) وفي قوله : ( رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (آل عمران:8) وفي قوله عن دعاء سليمان : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) (صّ:35) .
وفي صحيح البخاري كتاب الصلاة من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَىَّ الصَّلاَةَ ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ، قَالَ رَوْحٌ فَرَدَّهُ خَاسِئًا .(22/17)
والوهاب في اللغة صيغة مبالغة على وزن فعال من الواهب وهو المعطي للهبة ، فعله وهب يهب وهبا وهبة ، والهبة عطاء الشيء بلا عوض ، والله وهاب يعطي بلا عوض ولا مقابل ، ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) (الشورى:50) ، وينبغي أن يعلم أن عطاء الله في الدنيا ابتلاء وفي الآخرة إنعام وجزاء ، فعطاؤه علقه في الدنيا بمشيئته ابتلاء للناس بحكمته ، ليتعلق العبد بربه في الدعاء والطلب والرجاء كما قال تعالى عن زكريا : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً ) (مريم:5) ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) (الفرقان:74) ، فالله عز وجل من أسمائه الحسنى الوهاب ومن صفاته أنه يهب ما يشاء لمن يشاء وكيفما يشاء : ( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ) (الشورى:49) فالعبد إن أعطاه شكر وإن منعه صبر وازداد في التقوى والدعاء توحيد لله في اسمه الوهاب وتعلقا بتحقيق ما يشاء ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ ) (إبراهيم:39) وقال عن زكريا لما دعاه : ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) (الأنبياء:90) ولا يجب على الله شيء فما يعطيه لعباده ظاهرا(22/18)
وباطنا ودنيويا وأخرويا ، هي نعم وهبات وهي من الكثرة بحيث لا تحصيها الحسابات : ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل:18) .
ونعم الله كامنة في الأنفس وفي سائر المخلوقات ، تراها ظاهرة بادية في سائر الآيات ، نعم وعطاء وجود وهبات أنعم بها المتوحد في اسمه الوهاب سبحانه وتعالى ، ( وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ) (صّ:30) ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ) (الأنعام:84) هو الوهاب الذي يهب النعم لمن يشاء من خلقه ( وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً ) (مريم:50) ( وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ) (مريم:53) ( وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ ) (الأنبياء:72) .
واسم الله الوهاب يدل علي ذات الله وعلي صفة العطاء والهبة بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، صفة العطاء والهبة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعلم والقدرة ، والصمدية الأحدية ، والغني والعزة ، والجلال والقوة ، والملك والعظمة ، واسم الله الوهاب دل علي صفة من صفات الفعل .(22/19)
كيف ندعو الله باسمه الوهاب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند الحاكم في المستدرك من حديث أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود أنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي فلما نزلت إذا جاء نصر الله والفتح قال سبحانك اللهم ، اللهم اغفر لي إنك أنت الوهاب ) والحديث ضعفه الشيخ الألباني ، وكذلك ورد عند الحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان إذا استيقظ من الليل قال لا إله إلا أنت سبحانك اللهم إني أستغفرك لذنبي وأسألك برحمتك اللهم زدني علما ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .(22/20)
أما دعاء العبادة فهو أثر الإيمان بالاسم وتوحيد الله فيه بأن يتصف العبد بالكرم والعطاء ، كما ورد عند البخاري كتاب الحيل عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ، لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ ) ، وفي سنن أبي داود والنسائي وصححه الشيخ الألباني : ( لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ هِبَةً ثُمَّ يَرْجِعَ فِيهَا إِلاَّ مِنْ وَلَدِهِ ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ ثُمَّ يَقيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ ) ( قال لا يحل لرجل أن يعطي لرجل عطية أو يهب هبة ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يرجع في عطيته أو هبته كالكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه ) ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، غَيْرَ أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا وَلَيْلَتَهَا ، لِعَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَبْتَغِى بِذَلِكَ رِضَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ) .(22/21)
الاسم الخامس والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الديان ، فقد سماه به الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية فيما ثبت في السنة النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، فعند البخاري كتاب التوحيد من حديث جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أ نه قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا الدَّيَّانُ ) .
وعند أحمد وقال الشيخ الألباني حسن لغيره 16465 من حديث جَابِر بن عَبْدِ اللَّهِ أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ قَالَ الْعِبَادُ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً قَالَ قُلْنَا َمَا بُهْماً قَالَ لَيْسَ مَعَهُمْ شَىْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) ، وثبت عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قَالَ : ( وَيْلٌ لِدَيَّانِ مَنْ فِي الأَرْضِ مِنْ دَيَّانِ مَنْ فِي السَّمَاءِ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ إِلاَّ مَنْ أَمَّ الْعَدْلَ وَقَضَى بِالْحَقِّ وَلَمْ يَقْضِ عَلَى هَوًى وَلاَ عَلَى قَرَابَةٍ وَلاَ عَلَى رَغَبٍ وَلاَ عَلَى رَهَبٍ وَجَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ مَرْآةً بَيْنَ عَيْنَيْهِ ) .(22/22)
الديان صيغة مبالغة فعله دين ، يقال : دنتهم فدانوا أي قهرتهم فأطاعوا ، ودَانَ يدينه دِيناً أي جازاه وحاسبه ، والديان الملك المطاع ، والحاكم والقاضي ، وهو الذي يدين الناس إما بمعنى يقهرهم وإما يحاسبهم ، فالديان هو الذي يقهرهم على الطاعة يقال دان الرجل القوم إذا قهرهم فدانوا له إذا انقادوا ، والديان أيضا بمعني المحاسب المجازي لا يضيع عمل عامل من عباده فهو الذي يلي المجازاة يوم الدين ، والدين الجزاء والله مالك يوم الدين أي يوم الجزاء ، وقال خويلد بن نوفل الكلابي للحارث بن أبي شمر الغساني وكان ملكا ظالما : يا أيها الملك المخوف أما ترى ليلا وصبحا كيف يختلفان ، هل تستطيع الشمس أن تأتي بها ليلا وهل لك بالمليك يدان ، يا حار أيقن أن ملكك زائل واعلم بأن كما تدين تدان ، أي تجزى بما تفعل ودانه أي جازاه وقوله تعالى عن الكافرين : ( أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ) (الصافات:53) أي مجزيون محاسبون ومنه ، وفي مسند أحمد من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقْتَصَّ لِلشَّاةِ الْجَمَّاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ تَنْطَحُهَا ) وكتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم إلى ديان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم تنام ولم تنم عنك المنايا تنبه للمنية يا نؤوم .(22/23)
وقد يكون الديان بمعني صاحب الديوان وهو الكتاب الحافظ للأعمال والحقوق ، ومنه ما رواه أحمد والحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه من حديث عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثَلاَثَةٌ دِيوَانٌ لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً وَدِيوَانٌ لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً وَدِيوَانٌ لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ) وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئاً فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِنْ صَوْمِ يَوْمٍ تَرَكَهُ أَوْ صَلاَةٍ تَرَكَهَا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَغْفِرُ ذَلِكَ وَيَتَجَاوَزُ إِنْ شَاءَ وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لاَ يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئاً فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً الْقِصَاصُ لاَ مَحَالَةَ ) والحديث ضعفه الشيخ الألباني .
واسم الله الديان يدل علي ذات الله وعلي الحساب والحكم والمداينة كصفة فعل لله بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، صفة الحكم والمداينة بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعلم والقدرة ، والملك والعظمة والعزة الحكمة ، واسم الله الديان دل علي صفة من صفات الفعل .(22/24)
كيف ندعو الله باسمه الديان دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة لم أجد فيه دعاء مأثور إلا حديثا ضعفيا معضلا رواه ابن أبي الدنيا من حديث حجاج بن فرافصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من مريض يقول : سبحان الملك القدوس الرحمن الملك الديان لا إله إلا أنت مسكن العروق الضاربة ومنيم العيون الساهرة إلا شفاه الله تعالى ) .
أما دعاء عبادة ، فمن آثار التزام العبد بمقتضى اسم الله الديان أن يحاسب نفسه على كسبه وأعماله اتقاء ليوم يلقي فيه الديان ، ورد عند الترمذي وقال حديث حسن والحاكم وقال صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وهو ضعيف عند الألباني من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ) ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : مَنْ دَانَ نَفْسَهُ ، يعني حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ يُحَاسَبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحِسَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيُرْوَى عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ لاَ يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا حَتَّى يُحَاسِبَ نَفْسَهُ كَمَا يُحَاسِبُ شَرِيكَهُ مِنْ أَيْنَ مَطْعَمُهُ وَمَلْبَسُهُ .(22/25)
وفي صحيح مسلم كتاب البر والصلة من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ، قَالُوا الْمُفْلِس فِينَا مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ وَلاَ مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ .
أحبتي في الله ، ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَليْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(22/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسني الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة الخامسة
20لطيف ودود رؤوف غفور غفار
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي أشرف المرسلين الصادق الوعد الأمين ، وعلي آله وصحبه ومن سار علي دربه إلي يوم الدين ، أما بعد ، فحديثنا اليوم بإذن الله تعالي يدور حول بعض الأسماء الحسنى التي تدل علي أوصاف فعل الله وهي اسم الله اللطيف الودود الرؤوف الغفور الغفار ولنبدأ مباشرة .
بالاسم السادس والخمسين من أسماء الله الحسني هو اسم الله اللطيف ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الأنعام:103) فالاسم هنا فيه ألف ولام وكذلك قوله : ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك :14) ، وكذلك التنوين في قوله : ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفا خَبِيرا ) (الأحزاب34) ولم يقترن اسم الله اللطيف إلا باسمه الخبير ، وورد الاسم مستقلا في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) (يوسف100) وكذلك قوله : ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) (الشورى19) .(23/1)
وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ فَأَطَالَ الْقِيَامَ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ فَقَالَ مَا لَكِ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيَةً قَالَتْ قُلْتُ لاَ شَيْءَ قَالَ لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) .
وعند البخاري من حديث مَسْرُوقٍ قَالَ قُلْتُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها يَا أُمَّتَاهْ هَلْ رَأَي مُحَمَّدٌ صلي الله عليه وسلم رَبَّهُ فَقَالَتْ لَقَدْ قَفَّ شَعَرِي مِمَّا قُلْتَ ، أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلاَثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ ، مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلي الله عليه وسلم رَأَي رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ : ( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ ( وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا ) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ ثُمَّ قَرَأَتْ : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآيَةَ ، وَلَكِنَّهُ رَأَي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ .(23/2)
واللطيف في اللغة صفة مشبهة للموصوف باللطف ، فعله لطف يلطف لطفا ولطافة ، ولطف الشيء رقته واستحسانه وخفته على النفس ، أو لطف الشيء احتجابه وخفاؤه ، وعند البخاري من حديث عائشة حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا قالت : ( وَيَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّى لاَ أَرَى مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ ) الرقة والحنان والرفق .
واللطيف في أسماء الله تعالي هو الذي اجْتَمع له العِلْمُ بدَقَائق المصَالح وإيصَالها إلي مَن قدّرها له مِن خَلْقه ، والرّفْق في الفِعْل والتنفيذ ، يُقال لَطَف به وله ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ ) لطف بهم ، وقال : ( إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ ) لطف لهم ، والله لطيف بعباده رفيق بهم قريبٌ منهم ، يعامل المؤمنين بعطف ورأفة وإحسان ، ويدعو المخالفين مهما بلغ بهم العصيان إلى التوبة والغفران ، فالله لطيف بعباده يعلم دقائق أحوالهم لا يخفى عليه شيء مما في صدورهم ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك :14) ، ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (لقمان16) وهو الذي يسر لهم أمورهم ويستجيب دعائهم ، فهو المحسن إليهم في خفاء وستر من حيث لا يعلمون ، نعمته سابغة ظاهر لا ينكرها إلا الجاحدون ، وهو الذي يرزقهم بفضله من حيث لا يحتسبون : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ) (الحج63) ، ( اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ) (الشورى19) كما أنه يحاسب المؤمنين حسابا يسيرا بفضله ورحمته ، أو يحاسب غيرهم من المخالفين وفق عدله وحكمته .(23/3)
ومن المعاني اللغوية للطيف هو الذي لطف عن أن يدرك لكماله وجلاله ، كما في قوله تعالى : ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَي الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَي طَعَاما فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدا ) (الكهف19) فمن المعاني التي يشملها اسمه اللطيف لطف الحجاب ، فإن الله لا يرى في الدنيا لطفا وحكمة ، ويرى في الآخرة إكراما ومحبة ، وإن لم يدرك بإحاطة من قبل خلقه ، ولو رآه الناس في الدنيا جهارا لبطلت الحكمة ، وتعطلت معاني العدل والرحمة ، ولذلك فإن الله تعالى قال عن رؤية الناس له في الدنيا : ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ) ( لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) ، وعند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَمُوتَ ) لأن الدنيا خلقت للابتلاء ، أما الآخرة فهي دار الحساب الجزاء حيث يكشف فيها الغطاء ويرفع فيها الحجاب ، ويلطف الله بالموحدين عند الحساب ، وقد بين الله للغافلين في الكتاب ما فيه عبرة لذوي القلوب الألباب ( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (قّ:22) وفي شأن الموحدين المؤمنين قال تعالى عن لطفه وإكرامه وإحسانه وإنعامه : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) .(23/4)
واسم الله اللطيف يدل علي ذات الله وعلي صفة اللطف بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة اللطف وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعلم والحكمة ، والمشيئة والقدرة ، والرأفة والرحمة ، والجود والمودة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال التي دل عليه اسمه اللطيف بدلالة اللزوم ، واسم الله اللطيف دل علي صفة من صفات الذات والفعل معا .
كيف ندعو الله باسمه اللطيف دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة لم أجد من دعاء مأثور إلا ما ورد عن أبي هريرة مرفوعا : ( اللهم الطف بي في تيسير كل عسير ، فإن تيسير كل عسير عليك يسير ، وأسألك اليسر والمعافاة في الدنيا والآخرة ) انظر ضعيف الجامع حديث رقم 1181 ، وأما ما اشتهر من الدعاء بين العامة : اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه ، فهذا الدعاء ليس دعاءا مأثورا ولكنه مما اشتهر على ألسنة الناس ، وقد منعه البعض وقال ببطلانه ، ولكن الأمر فيه إجمال يتطلب التفصيل ، فإن قوله : لا أسألك رد القضاء ، لو كان محمولا على عدم نفع الدعاء اعتقادا منه بتعارضه مع القضاء لكان ذلك باطلا ، ولكنه القائل دعا الله بطلب اللطف فيه ، فلن يدعو إلا إذا اعتقد النفع فيه ، ويتضح الأمر لو علمنا أن أنواع التقدير منها ما لا يقبل المحو والإثبات والتغيير ، ومنها وما يقبل ذلك ، فالتقدير الأزلي والميثاقي لا يقبلان محوا ولا تغيرا ، ولا يعلمهما ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وقد ضن ربنا بهما إلا أن يطلع نبيا من الأنبياء لحكمة ما ، كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أن أبا لهب سيصلى نارا ذات لهب ، وهذا القضاء قضاء مبرم لا يرد ولا يصد ، أما بقية أنوع التقدير التي تتعلق بالأسباب الغيبية أو الأسباب المشهودة فهي تقبل والمحو والتعديل وتقبل التغير والتبديل ، لأن الأسباب يدفع بعضها بعضا ، كالتقدير العمري والتقدير السنوي والتقدير اليومي ، وقد تحدثنا عنها(23/5)
بالتفصيل في موضوع الإيمان بالقضاء والقدر ، فكل ما تعلق بالأسباب من أنواع التقدير فهي من القضاء المعلق ، فالأسباب يدفع بعضها بعضا ، والدعاء من الأسباب ، وسؤال الله اللطف من أنواع الدعاء ، فإن كان القائل : اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه ، يقصد بدعائه طلب التلطف في ترابط الأسباب وتدافعها من قبل مقلبها ، اعتقاد منه أنه الذي يقلبها ، وأنه سيسلم إذا دعا الله بها ، مع إيمانه بأن كل شيء بقضاء وقدر وأن ما كتبه الله سوف يكون ، فهذا لا بأس به ، كأن يدعوا باسمه اللطيف أن يلطف به من موت محقق كادت أن تصدم فيه سيارتان ، أو هلاك ظاهر في الوجه تذهب فيه العينان ، أو ما شابه ذلك مما يحدث لكل إنسان ، فليس في ذلك سوء أدب مع الله كما ذكره البعض والله أعلم .(23/6)
أما دعاء العبادة فهو عمل العبد بمقتضى توحيده لاسم الله اللطيف ، فيتلطف الموحد للمسلمين ويحنو على اليتامى والمساكين ، ويسعى في الوفاق بين المتخاصمين ، وينتقي لطائف القول في حديثه مع الآخرين ، ويبش في وجوههم بتسم المتبسمين ، ويحمل قولهم على ما يتمناه من السامعين ، فإن الظن مهلكة حذر منها المؤمنين ، وقد ذم الله أناسا من المنافقين اتهموا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، بفرية رفع الله بظلمهم لها قدرها ، ورد كيديهم وإيذاءهم لزوجها صلى الله عليه وسلم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لطيفا بها ، ولكنه بقولهم تأثر وتغير لها ، وهو صلى الله عليه وسلم بشر ، ربما يتأثر بمثل هذا الخبر ، روي البخاري من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ في حادثة الإفك : ( فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا ، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ ، لاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَهْوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّى لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم اللُّطْفَ الذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِى ، إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلَىَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ : كَيْفَ تِيكُمْ ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ ، فَذَلِكَ يَرِيبُنِي وَلاَ أَشْعُرُ بِالشَّرِّ ، في رواية أخري إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض لطفه بي كنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك في شكواي تلك ) .(23/7)
وعند مسلم من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لها : ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ ) ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ لَيِّنٍ سَهْلٍ ) ، وفي سنن الترمذي كتاب المناقب عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ جَزْءٍ قَالَ : ( مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ) .
الاسم السابع والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الودود ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في نصين اثنين من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالي : ( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) (هود90) ( وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ) (البروج14) ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء وهو ضعيف كما علمنا .(23/8)
الودود ، فعله ود يود ودا ومودة ، والودُّ في اللغة مصدر من المودَّة ، ويأتي بمعنى الحُبُّ ، فمودة الشيء محبته والأخذ بأسبابه وتمني حصوله ، والمودة من أبواب المحبة التي تتضمن التمني مع اتخاذ الأسباب الموصلة إلى المحبوب ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) (الروم:21) وقوله : ( عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (الممتحنة:7) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ رضي الله عنه أنه قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَي النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَقَالَ : ( إِنِّي أَصَبْتُ امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ وَجَمَالٍ وَإِنَّهَا لاَ تَلِدُ أَفَأَتَزَوَّجُهَا قَالَ لاَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَنَهَاهُ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ ) ( تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم ولا تكونوا كرهبانية النصارى ) .(23/9)
فالله عز وجل هو الودود الذي يَوَدُّ عبَادَهُ الصالحين فيحبهم ويقربهم ويرضى عنهم ويتقبَّلُ أعمالَهم ، وهذه محبة خاصة بالمؤمنين ، أما المحبة العامة فالله هو الودود ذو إحسان كبير لمخلوقاته من جهة إنعامه عليهم وإكرامه للإنسان واستخلافه بينهم ، حيث أسجد له ملائكته واستخلفه في أرضه على سبيل الابتلاء ، واستأمنه في ملكه انتظار لمزيد من الإكرام في دار الجزاء ، وبعث إليهم الرسل وأنزل عليهم الوحي من السماء ، كل ذلك بفضله وكرمه وعطائه ومدده ، وترغيبا لعباده في طاعة الله ومحبته ومودة نبيه وآله وصحابته ، وكذلك محبة أوليائه وخاصته ، فيعاملهم بمودة ، ويتمنى الخير والمحبة ، فيفرح لفرحمهم ويغضب لغضبهم كما قال تعالى في وصفهم ووصف نبيهم صلى الله عليه وسلم : ( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعا سُجَّدا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ) (الفتح:29) ، فمعنى أن الله عز وجل ودود يعني حبيب قريب سميع مجيب .(23/10)
والود أيضا يأتي بمعنى التمني أو الرغبة في تحقيق الأمنية ، كما ورد في قوله تعالى : ( وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ) (البقرة:96) يتمنى أن يعمر ( يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثا ) (النساء:42) ( يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ) (المعارج:11) ، والله عز وجل ودود يحقق أماني المؤمنين إذا عبدوه وأطاعوه ، ويخيب رجاء الكافرين المشركين ، فتحقيق الله للأمنية مبني على العمل وصدق النية ، ( لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّا وَلا نَصِيرا ) (النساء:123) ولكن الله ودود قريب يعامل المؤمنين بفضله ويعامل الكافرين بعدله ، روى مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أنه قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ) بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَبْلَغًا شَدِيدًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : قَارِبُوا وَسَدِّدُوا فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَة يُنْكَبُهَا أَوِ الشَّوْكَة يُشَاكُهَا ، وعند مسلم أيضا من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : قَارِبُوا وَسَدِّدُوا وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بِعَمَلِهِ ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْتَ قَالَ : وَلاَ أَنَا إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ .(23/11)
والودود في اللغة أيضا قد يأتي على معنى المعية والمصاحبة أو المرافقة والمصادقة ، كما ورد عند مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَعْرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ فَسَلمَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ وَحَمَلَهُ عَلَى حِمَارٍ كَانَ يَرْكَبُهُ وَأَعْطَاهُ عِمَامَةً كَانَتْ عَلَى رَأْسِهِ فَقَالَ ابْنُ دِينَارٍ فَقُلْنَا لَهُ أَصْلَحَكَ اللهُ إِنَّهُمُ الأَعْرَابُ وَإِنَّهُمْ يَرْضَوْنَ بِالْيَسِيرِ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ ) ، والله عز وجل ودود مع خلقه بمعية خاصة للمؤمنين مقتضاها النصر والتأييد ، ومعية عامة للخلائق أجمعين مقتضاها العلم والإحاطة .
واسم الله الودود يدل علي ذات الله وعلي صفة المحبة والود بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة المحبة والود وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والرحمة والمعية ، والعطاء والمحبة ، واللطف والرأفة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله الودود دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الودود دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة ، نستشهد له بدعاء نبوي رواه الترمذي في سننه وابن خزيمة في صحيحه ، من حديث ابن عباس مرفوعا : ( اللهُمَّ ذَا الْحَبْلِ الشَّدِيدِ وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ ، أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ ، وَالْجَنَّةَ يَوْمَ الْخُلُودِ ، مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ ، الرُّكَّعِ السُّجُودِ الْمُوفِينَ بِالْعُهُودِ إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ ) وإن كان الشيخ الألباني قد ذكره في ضعيف الجامع ( 1194) .(23/12)
وهناك دعاء مأثور ذكره ابن حجر في الإصابه في ترجمة أبى معلق الأنصاري ، وكان تاجرا يتجر بمال له ولغيره وكان له نسك وورع ، فخرج مرة فلقيه لص متقنع في السلاح ، فقال : ضع متاعك فإني قاتلك ، قال : شأنك بالمال قال : لست أريد إلا دمك ، قال : فذرني أصلي ، قال : صل ما بدا لك ، فتوضأ ثم صلى فكان من دعائه : يا ودود يا ذا العرش المجيد يا فعالا لما يريد أسألك بعزتك التي لا ترام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفيني شر هذا اللص ، يا مغيث أغثني قالها ثلاثا ، فإذا هو بفارس بيده حربة رافعها بين أذني فرسه فطعن اللص فقتله .(23/13)
أما دعاء العبادة فهو آثر توحيد العبد لله في اسمه الودود ، ويتجلى في حب الخير لجميع الخلق ، فيحب للعاصي التوبة والمغفرة ، وللمطيع الثبات وحسن المنزلة ، ويكون ودودا لعباد الله فيعفو عمن أساء إليه ، ويلين مع البعيد كما يلين مع أقرب الناس إليه ، ويكون ودودا مع خاصة أهله وعشيرته فالرسول صلى الله عليه وسلم أصيب في رباعيته من قبل قومه وقرابته ، فلم يمنعه سوء صنيعهم أن يستغفر لهم ، وعند البخاري من حديث ابن مسعود قال : كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَحْكِى نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ : ( اللهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ) ، ومن أعظم الود وتوحيد الله في اسمه الودود مودة الرجل لزوجته ورفقه بها وكذلك مودة المرأة لزوجها ، وروى الطبراني وقال الشيخ الألباني حسن لغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( ألا أخبركم بنسائكم في الجنة قلنا بلي يا رسول الله قال ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضي ) ، وقال تعالى : ( إِنَّ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّا ) (مريم:96) أي حبا في قلوب عباده كما رواه البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِذَا أَحَبَّ اللهُ عَبْدًا نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا ، فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي أَهْلِ الأَرْضِ ) .(23/14)
الاسم الثامن والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الرؤوف ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في قوله تعالي : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (النور20) ( وَالذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإِخْوَانِنَا الذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) وفي هذه الموضعين سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق ، وورد مقيدا بالإضافة في قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ) (البقرة207) ( وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحج65) ( هُوَ الذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَي النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (الحديد9) .
وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بن عازب رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صَلى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ .. إلى أن قال : وَكَانَ الذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ ( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) .(23/15)
وعند مسلم من حديث كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أنه رضي الله عنه أنه قال : ( ثُمَّ صَليْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ التِي ذَكَرَ اللهُ عَزَّ وَجَل مِنَّا قَدْ ضَاقَتْ عَلَىَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَىَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْتُ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ ، قَالَ فَآذَنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلى صَلاَةَ الْفَجْرِ .. إلى أن قال : فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَل ( لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (التوبة:118) .(23/16)
والرؤوف صيغة مبالغة من اسم الفاعل الرائف ، وهو الموصوف بالرأفة ، فعله رَأَفَ به يَرْأَفُ رَأْفَةً ، والرأفة في حقنا هي امتلاء القلب بالرقة ، وبأشد ما يكون من الرحمة ، قال تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ ) (النور:2) يعني لا تنظروا بأي اعتبار يمكن أن يمنحهم شيئا من الرحمة والرقة ، فلا ترحموهما فَتُسْقِطُوا عنهما ما أَمَرَ الله به من الحدّ ، والرَّأْفَة في اللغة هي الرحمة ، وقيل بل شدة الرحمة ومنتهاها ، ويمكن القول أن الرحمة تسبق الرأفة ، فالرأفة هي المنزلة التي تعقبها ، يقال : فلان رحيم ، فإذا اشتدت رحمته فهو رؤوف ، فالرأفة آخر ما يكون من الرحمة ، ولذلك قدمت الرأفة على الرحمة في وصف نبينا صلي الله عليه وسلم في قوله تعالى : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (التوبة:128) على اعتبار أن الرأفة مبالغة في الرحمة ، والمبالغة في الرحمة تتعلق بخاصة والمؤمنين ، أما الرحمة في اسمه الرحيم فهي رحمة عامة لجميع المسلمين ، بخلافة الرحمة في اسمه الرحمن فإنها تتعلق بالخلائق أجمعين ، فالأمر في الرأفة والرحمة على قدر الولاية والإيمان ، وعلى حسب علو الهمة في عمل والإنسان ، وقد كانت رأفة النبي بأصحابه ما بعدها رأفة وخصوصا يوم فتح مكة ، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رَسُول اللهِ صلي الله عليه وسلم قال يومها : ( مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَي السِّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَنَزَلَ الْوَحْي عَلَى رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه وسلم(23/17)
قَالَ قُلْتُمْ أَمَّا الرَّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ أَلاَ فَمَا اسْمِي إِذًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ هَاجَرْتُ إِلَي اللهِ وَإِلَيْكُمْ فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ قَالُوا وَاللهِ مَا قُلْنَا إِلاَّ ضِنًّا بِاللهِ وَرَسُولِهِ قَالَ فَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ ) ، وفي صحيح مسلم من حديث جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ لِي أَسْمَاءً أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ وَأَنَا الْعَاقِبُ الذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ ) قال جبير : وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا .(23/18)
والروؤف اسم من أسماء الله يدل أيضا على معنى التعطف على عباده المؤمنين بحفظهم في سمعهم وأبصارهم وحركاتهم وسكناتهم ، كما ورد عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أن النبي الحديث القدسي : ( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ التِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ التِي يَمْشِى بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ ) وهذا منتهى الرأفة بالصادقين ، وكذلك الرؤوف يدل على معنى التعطف على عباده المذنبين ، فيتح لهم باب التوبة ما لم تغرغر النفس أو تطلع الشمس من مغربها ، فقد روي الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم قَال : ( مَنْ تَابَ قَبْل أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللهُ عَليْه ) وروي الإمام مسلم من حديث أَبِي مُوسَى الأشعري أنِ النَّبِيِّ صلي الله عليه وسلم قَال : ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَل يَبْسُطُ يَدَهُ بِالليْل ليَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ الليْل حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) .
واسم الله الرؤوف يدل علي ذات الله وعلي صفة الرأفة بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة الرأفة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعلم الأحدية ، والمحبة الرحمة ، والعدل والحكمة وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله الرؤوف دل علي صفة من صفات الأفعال .(23/19)
كيف ندعو الله باسمه الرؤوف دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كما في قوله تعالى : ( وَالذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الذِينَ سَبَقُونَا بِالأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّا لِلذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) ، وفي معجم الطبراني من حديث يحيى بن أبي كثير قال : كتب إلي أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود يخبرني عن هدي عبد الله بن مسعود في الصلاة وفعله وقوله فيها فكان مما ذكره في دعائه : ( سبحانك لا إله غيرك ، اغفر لي ذنبي وأصلح لي عملي ، إنك تغفر الذنوب لمن تشاء وأنت الغفور الرحيم يا غفار اغفر لي يا تواب تب علي يا رحمن ارحمني يا عفو اعف عني يا رؤوف ارأف بي يا رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي .. إلى آخر الحديث ) .
أما دعاء العبادة ، فامتلاء القلب بالرحمة للمسلمين والرأفة بعامتهم وخاصتهم ، وفي سنن الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أن رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم : ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللهُ ) ، والله عز وجل يقول في شأن الموحدين ( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً ) (الحديد:27) .(23/20)
الاسم التاسع والخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الغفور ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالي : (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (الحجر49) ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (يونس107) ( وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) وقد ذكر اسم الله الغفور في أحد عشر موضعا معرفا بالألف واللام ، وفي اثنين وسبعين موضعا بعلامة التنوين ، كقوله تعالى : ( ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيم ٌ) (البقرة:199) ( وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورا رَحِيما ) (النساء:106) ، وذكر الوصف الذي دل عليه الاسم في قوله تعالى : ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ) (الرعد:6) فقوله ذو مغفرة ورد في موضعين الموضع السابق وقوله : ( مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ) (فصلت:43) وفي بيان أن الوصف هو وصف فعل يتعلق بمشيئته ورد بلفظ يغفر في ثمانية عشر موضعا : ( وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللهُ غَفُورا رَحِيما ) (الفتح:14) .(23/21)
وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أن أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِي صلي الله عليه وسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ : ( قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ رضي الله عنه أنه قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَي صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ فَقَالَ قَدْ غُفِرَ لَهُ قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثًا ، وروى أبو داود أيضا وصححه الشيخ الألباني من حديث وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ قَالَ صَلي بِنَا رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .(23/22)
والغفور في اللغة على وزن فعول وهي من صيغ المبالغة التي تدل على الكثرة في الفعل ، وأَصل الغَفْرِ التغطية والستر ، وغَفَرَ الله ذنوبه أَي سترها ، وعند البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللهَ يُدْنِى الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ ، فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا ، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ ، أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .(23/23)
واسم الله الغفور في أغلب المواضع التي ورد فيها يحمل دعوة للاستغفار العام والخاص ، الاستغفار العام هو الاستغفار من صغائر الذنوب ، وما يدور من الخواطر في القلوب ، فالقلب فيه منطقة حديث النفس ، ومنطقة الكسب ، فمن المنطقة الأولى تخرج الخواطر التي تتطلب الاستغفار العام ، كما قال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (يوسف:53) وعند البخاري من حديث أَبي هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( وَاللهِ إِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) وعند مسلم من حديث الأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) ، أما الاستغفار الخاص فهو متعلق بمنطقة الكسب بعد اقتراف الإثم وتعمد الفعل كقوله تعالى : ( وَالذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (الفرقان:70) فالمسلم لا بد أن يستغفر استغفارا عاما وخاصا ، وهذه طبيعة البشر ، وعند مسلم من حديث أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ أن رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَوْ أَنَّكُمْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا اللهُ لَكُمْ لَجَاءَ اللهُ بِقَوْمٍ لَهُمْ ذُنُوبٌ يَغْفِرُهَا لَهُمْ ) .(23/24)
واسم الله الغفور يدل علي ذات الله وعلي صفة المغفرة بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة المغفرة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعزة والأحدية ، والحكمة والعظمة ، والرأفة والرحمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله الغفور دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الغفور دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كما ورد في قول النبي لأبي بكر وهو يعلمه الدعاء ( قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ، وفي حديث وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ : ( اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .(23/25)
أما دعاء العبادة ، فالعبد يسارع فيه بالتوبة ، وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَل أنه قَالَ أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَي رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ. ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ أَي رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِى. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَي أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ .
كما أن المسلم يستر على إخوانه عيوبهم ويغفر لهم إساءتهم توحيد لله في اسمه الغفور : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (التغابن:14) .(23/26)
الاسم الستون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الغفار ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في قول الله تعالي : ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) (صّ66) ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ الليْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى الليْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّي أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّار ُ) (الزمر5) ( تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَي الْعَزِيزِ الْغَفَّار ِ) (غافر42) ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا ثُمَّ اهْتَدَى ) (طه82) ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا ) (نوح10) ، وفي الجامع الصغير للسيوطي وصححه الشيخ الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل ، تقلب وتلوى من شدة الألم ، قال : لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار .(23/27)
والغفار في اللغة على وزن فعال وهي من صيغ المبالغة التي تدل على الكثرة في الفعل كما في اسمه الغفور ، والغفار هو الذي يستر الذنوب بفضله ، ويتجاوز بعفوه عن عبده ، طالما أن العبد موحد تحت مشيئة الله وحكمه ، فقد يغفر الله ذنب عبده إن مات موحدا ، والغفور والغفار قريبان في المعنى فهما من صيغ المبالغة في الفعل ، وقيل الغفار أبلغ من الغفور ، فالغفور هو من يغفر الذنوب العظام ، والغفار هو من يغفر الذنوب الكثيرة ، غفور للكيف في الذنب وغفار للكم فيه ، وقد تكون هناك من الفروق ما يظهر إعجاز القرآن فيما سيأتي من الزمان ، كما هو الحال في الإعجاز العددي لحساب الحروف والجمل في القرآن ، وظهر الآن الإعجاز الصوتي للأسماء الحسنى ، فقد تبين بالتجربة أن كل اسم له تأثير صوتي على الجهاز المناعي في الإنسان ، وأمور أخرى تبين أن اسم الله الغفار على وزن فعال له موضعه المحسوب بدقة في كتاب الله ، يختلف عن اسم الله الغفور على وزن فعول ، وله أيضا موضعه المحسوب بدقة في كتاب الله .(23/28)
وأيا كان الفرق فإن الغفار يدل على المبالغة في الكثرة ، والله عز وجل وضع نظاما دقيقا لملائكته في تدوين الأجر الموضوع على العمل ، فهي تسجل ما يدور في منطقة حديث النفس دون وضع ثواب أو عقاب لقوله صلي الله عليه وسلم في الحديث : ( إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ صُدُورُهَا ، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلمْ ) وهو عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضى الله عنه ، وهذا يتطلب استغفارا عاما لمحو خواطر الشر النابعة من هوى النفس ويتطلب استعاذة لمحو خواطر الشر النابعة من لمة الشيطان ، كما أنها تسجل ما يدور في منطقة الكسب مع وضع الثواب والعقاب ، وهي تسجل فعل الإنسان المحدد بالزمان والمكان ثم تضع في مقابل العمل الجزاء المناسب بالحسنات والسيئات ، فإذا تاب العبد من الذنب محيت سيئاته وزالت وغفرت بأثر رجعي وبدلت السيئات حسنات كما قال تعالى : ( إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِل عَمَلاً صَالحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيما ً) (الفرقان:70) وهذه هي المبالغة في المغفرة أن الوزر يقابله بالتوبة الصادقة حسنات فالله عز وجل غفار كثير المغفرة ، ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى ) (طه:82) .
واسم الله الغفار يدل علي ذات الله وعلي المبالغة في صفة المغفرة بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلي صفة المغفرة وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والعزة والصمدية ، والحكمة والعظمة ، والكرم والرأفة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله الغفار دل علي صفة من صفات الأفعال .(23/29)
كيف ندعو الله باسمه الغفار دعاء مسألة ودعاء عبادة ، دعاء المسألة كما في حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا تضور من الليل ، قال : لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ، وفي معجم الطبراني من حديث عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم الدعاء في الصلاة ومنها : ( سبحانك لا إله غيرك اغفر لي ذنبي وأصلح لي عملي إنك تغفر الذنوب لمن تشاء وأنت الغفور الرحيم يا غفار اغفر لي يا تواب تب علي يا رحمن ارحمني يا عفو اعف عني يا رؤوف ارأف بي ) .(23/30)
أما دعاء العبادة فالعبد الذي وحد الله في اسمه الغفار يكثر من الاستغفار العام والخاص ، فالعام يحتاط به من التفكير في الذنب قبل وقوعه والخاص يبادر فيه بالتوبة لو غلبته النفس واستجاب للشيطان ، فمن الاحتياط العام الصدق في الالتزام كما ورد في صحيح البخاري من حديث سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ ، فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّى مَا كُتِبَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلمَ الإِمَامُ ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى ) ، وعند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ : ( الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ ) ، ومن الاستغفار الخاص ما جاء في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (آل عمران:135) ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(23/31)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة على صفات الفعل
المحاضرة الثانية
18مؤمن مهيمن جبار متكبر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ، ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) أما بعد ..
فحديثا اليوم يدور حول بعض أسماء الله الحسنى التي تدل على أوصاف فعله ، وهي اسم الله المؤمن واسمه المهيمن واسمه الجبار واسمه المتكبر ، وقد ذكرنا ستة وأربعين اسما فيما سبق من الحاضرات ونبدأ اليوم بالاسم السابع والأربعين من أسماء الله الحسنى ، وهو اسم الله المؤمن ، فقد سمي الله نفسه به في كتابه على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر:23) .(24/1)
ولم يرد في السنة إلا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه من طريق الوليد بن مسلم عند الترمذي ، وعند ابن ماجة من طريق موسى بن عقبة ، وهو حديث ضعيف على قول المحققين من أهل الحديث ، والترمذي قال عن الرواية التي أوردها في سننه : ( هذا حديث غريب وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ) ، وقال ابن كثير في تفسيره : ( والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه ) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى : ( فتعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه ) ، وعلى ذلك لا يصلح الحديث للاحتجاج به على الأسماء الحسنى لأنه ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت الآية كافية شافية في إثبات الاسم وعده وحصره ضمن الأسماء .
والمؤمن في اللغة اسم فاعل للموصوف بالإيمان وأصله أمن يأمن أمنا ، والأمن هو ما يقابل الخوف ، والإيمان في حقنا هو الاعتقاد الجازم الخالي من الشك والخوف ، وأصل الإيمان هو التصديق والثقة ، كما قال سبحانه وتعالى عن إخوة يوسف : ( قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ) (يوسف:17) أي لفرط محبتك ليوسف لا تصدقنا ، واسم الله المؤمن فيه عدة أقوال ، كلها يدل عليها الاسم ويشملها لأنها من معاني الكمال الذي اتصف به رب العزة والجلال :(24/2)
القول الأول في معنى اسم الله المؤمن : أن المؤمن هو الذي أمن الناس أنه لا يظلم أحدا من خلقه ، وأمن من آمن به من عذابه ، وهذا القول منسوب لعبد الله بن عباس رضي الله عنه ، فالله عز وجل لا يظلم أحدا من خلقه ، وكل سينال ما يستحق ، ولا يبخسه الله شيئا مما له من الحق ، كما قال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيما ً) (النساء:40) ، وقال : ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (الكهف:49) .(24/3)
والقول الثاني في معنى اسم الله المؤمن : أن المؤمن هو المجير الذي يجير المظلوم من الظالم ، كما قاله محمد بن كعب القرظي ، وذلك على اعتبار أن الله عز وجل هو الذي يجير المظلوم من الظالم بمعنى يؤمنه وينصره ، كما قال تعالى : ( قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (المؤمنون:88) ، وقال تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (الملك:28) لن يجدوا ملاذا ولا مأمنا من دون الله ( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) (الجن:22) ، وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ ) , وعند البخاري ومسلم من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِى لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ، قَالَ ثُمَّ قَرَأَ : ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهي ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .(24/4)
القول الثالث في معنى اسم الله المؤمن : أنه الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه ، لأنه الواحد الذي وحد نفسه بشهادته في قوله : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ ) (آل عمران:18) ، وهذه الآية تحمل أعظم المعاني في كشف حقيقة الحياة ، وكيف أنها جعلت لتوحيد الله ، فلما كانت شهادة التوحيد المبنية على توحيد العبادة لله ، ونفي ألوهية ما سواه ، هي أصل دعوة الرسل ومبني قضيتهم التي جاهدوا من أجلها ، وكانت هذه القضية مثار إنكار المشركين وخلافهم مع رسلهم ، وجب الفصل بين الجميع في هذه القضية بحكم عدل يصدق أهل الحق ويكذب أهل الباطل ، فمن المعلوم أنه عند الاختلاف بين الناس ترفع الأمور إلى القضاء ، والقضية تتطلب قاضيا وحكما يفصل في الخلاف ، وكذلك إعلام المختلفين ودعوة المعنيين من سائر الأطراف ، كما أنها تتطلب أيضا دفاعا عدلا ، وحججا وجدلا ، وشهودا وقسما وشهادة وبينة ، وتتطلب في نهايتها الحكم وفق دستور ثابت أو منهج ونظام ، هذا مع توفر القدرة على تنفيذ ما يستصدر في القضية من أحكام ، ويزداد الأمر جلاء ووضوحا إذا أضفنا إلى ما تقدم أن قضية توحيد العبادة لله هي في حقيقتها ابتلاء وامتحان للإنسان ، الإنسان الذي استخلفه الله في أرضه ، واستأمنه على ملكة ، وميزه على كثير من خلقه ، وأنه سبحانه وتعالى حذر الإنس والجان من الشرك والكفر العصيان ، وسوف يقضى بينهم بالحق وهو أحكم الحاكمين .(24/5)
فالله عز وجل وله المثل الأعلى جعل قضية الخلق هي شهادة ألا إله إلا الله وأنه لا معبود بحق سواه ، وجعل أحكام العبودية أو الأحكام الشرعية هي المنهج المقرر على طلاب السعادة في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى : ( قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة:38) .
فإذا أهمل طلاب السعادة في الدنيا والآخرة منهج الهداية ، وتناسوا مرحلة الابتلاء والكفاح ، والرغبة في النجاح والفلاح ، وخابوا في امتحانهم وتسببوا في رسوبهم ، وذلك بمخالفتهم لرسلهم ، ثم أعلنوا زورا وبهتانا أنهم كانوا على الصواب ، وأنهم الكثرة الغالبة عند الحساب ، وأنهم أجابوا بادعائهم وفق ما جاء في الكتاب ، وعند التحقيق في القضية طلبوا شهادة أستاذهم أو شهادة داعيتهم أو أولو العلم من قومهم ، الذين نقلوا لهم مراد ربهم ، فشهد أولو العلم بخطئهم ، وصحة ما جاء عن رسلهم ، فما كان منهم إلا أن كذبوهم ولم يقروا بخطئهم ، بل طالبوا بمن هو أعلى من وصفهم ، حتى لو كان من الملائكة المقربين لربهم ، ليشهد بصحة جوابهم واستحقاقهم للنجاح ، فشهدت الملائكة أيضا بخطئهم وصحة ما جاء عن رسلهم ، فكذبوهم ، وطالبوا بشهادة من وضع الاختبار ، ومن يرجع إليه الفصل والقرار ، وأقروا على أنفسهم أن شهادته هي الفيصل في القضية ، وأن حكمه ملزم لكل الأطراف المعنية ، فقراره للجميع إلزام ، وشهادته قضاء وإعلام ، وحكمه حكم لا يرد ، فهو الحد الذي يفصل بين المتنازعين ، ويميز بين المؤمنين والمشركين ، فكان قضاء أحكم الحاكمين ، وله المثل الأعلى أنه شهد بصدق المرسلين وخسران المشركين ، وكانت شهادته أنه صدق الموحدين وأنصف مذهبهم وكذب الكافرين ، وصدق الملائكة وأولى العلم وشهد أنه لا إله إلا هو وأنها كلمة ، شهادة فيها إثبات حقيقة التوحيد ، والرد على جميع من ضل من العبيد ، فتضمنت(24/6)
كلمة التوحيد أجلَّ شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به .
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت عند السلف هذه المراتب الأربع ، علمه بذلك سبحانه وتكلمه به وإعلامه وإخباره لخلقه به وأمرهم وإلزامهم به ، وعبارات السلف في الشهادة تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار ، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها ، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره ، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه ، فالمشركون لما كذبوا أولى العلم في دعوتهم إلى توحيد العبودية وإفراد الله بالألوهية شهدت الرسل بصدقهم وكذبت المشركين ، فتمادى المشركون في غيهم ، وكذبوا أيضا شهادة المرسلين فشهدت الملائكة بصدق المرسلين ، فهي التي نزلت بالوحي عليهم ، وبلغت دعوة التوحيد إليهم ، فتمادى المشركون في إفكهم وكذبوا الملائكة وأولى العلم ، فشهد الله بصدق ملائكته ورسله وأولى العلم قائما بالقسط لأنه المؤمن الذي يصدق المؤمنين إذا وحدوه ، كما قال سبحانه وتعالى : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19) .(24/7)
القول الرابع في معنى اسم الله المؤمن : أن المؤمن هو الذي يصدق مع عباده المؤمنين في وعده ، ويصدق ظنون عباده الموحدين ولا يخيب آمالهم ، قال تعالى : ( قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (آل عمران:95) ( ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) (الأنبياء:9) ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ) (القمر:55) ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلي الله عليه وسلم قال : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَي أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي ، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَي بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا ، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً ) ، وعند النسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث ابْنِ عُمَرَ أنه قَالَ : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ عَلَي دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَي عَلَيْهِ وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ) ، فالمؤمن في أسماء الله هو الذي يصدق في وعده ، وهو عند ظن عبده لا يخيب أمله ولا يخذل رجاءه .(24/8)
واسم الله المؤمن يدل على ذات الله وعلى صفة من صفات الفعل ، وهي صدق الوعد وتصديق الحق للحق بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صدق الوعد وتصديق الحق بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعلم والصمدية ، والعظمة والعزة ، والقدرة والقوة ، والعدل والحكمة ، والسيادة والرحمة ، واسم الله المؤمن دل على صفة من صفات الفعل .
كيف ندعو الله باسمه المؤمن دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يتوسل به إلى تحقيق مطلوبه ، ولم أجد دعاء مأثورا باسم الله المؤمن ، ولكن يدعو به المظلوم على اعتبار أن معنى المؤمن هو المجير ، ويدعو به الصادق في قوله وشهادته إذا كذبه الناس أو كان من المفترى عليهم ، ويدعو به أيضا من يرجو نعمة ربه في الدنيا والآخرة ويخاف عذابه ، كما في حال يعقوب عليه السلام عندما : ( قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) (يوسف:86) وفي حال عائشة عندما رموها بالإفك فبرأها الله .(24/9)
أما دعاء العبادة فهو يقين العبد في ربه أنه لا يظلم أحدا من خلقه ، وأنه سينصر المظلوم ولو بعد حين فيعمل عمل المؤمنين ويسلك سبيل الموحدين ، وقد كان لعائشة رضي الله عنها موقف عظيم في حادثة الإفك يدل على توحيدها لله في أسمائه الحسنى واسمه المؤمن / فعند البخاري أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لها : ( يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، تقول عائشة رضي الله عنها : فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً وَقُلْتُ لأَبِى أَجِبْ عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم . قَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ لأُمِّي أَجِيبِي عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ ، قَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِى مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَتْ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لاَ أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ فَقُلْتُ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ ، وَوَقَرَ في أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ . وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّى بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ أَبَا يُوسُفَ إِذْ قَالَ ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ) ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى(24/10)
فِرَاشِي ، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللَّهُ ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ فِي شَأْنِي وَحْيًا ، وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالْقُرْآنِ فِي أَمْرِي ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ ، فَوَاللَّهِ مَا رَامَ مَجْلِسَهُ وَلاَ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ ، فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَضْحَكُ ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ لِى : يَا عَائِشَةُ ، احمدي اللَّهَ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ لاَ وَاللَّهِ ، لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ ، وَلاَ أَحْمَدُ إِلاَّ اللَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : ( إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ لَوْلا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا(24/11)
لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) .
الاسم الثامن والأربعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المهيمن ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر:23) ، ولم يرد في السنة إلا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه سرد الأسماء ، وسرد الأسماء حديث ضعيف على قول المحققين من أهل الحديث كما تقدم .(24/12)
والمهيمن اسم فاعل للموصوف بالهيمنة على غيره ، فعله هيمن يهيمن هيمنة ، والهيمنة على الشيء السيطرة عليه وحفظه والتمكن منه ، كما يهيمن الطائر على فراخه ، يرفرف بجناحيه فوقهم لحمايتهم وتأمينهم ، ويقال المهيمن أصله المؤمن من آمن يعني أمن غيره من الخوف ، والله مهيمن على عباده فهو فوقهم بذاته ، وله العلو في قهره وفي شأنه وفي كل صفة من صفاته ، فهو فوقهم ملك على عرشه ، لا يخفي عليه شيء في مملكته ، بعلمه يعلم جميع أحوالهم ، ولا يعزب عنه شيء من أعمالهم ، قاهر فوقهم إن تركهم ، أو ترك بعضهم يظلمون ويكفرون ، فذلك لحكمته فيما هم فيه مبتلون ، ولما هم له ميسرون ، ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ ) (إبراهيم:42) ، فهو محيط بالعالمين ، مهيمن بقدرته على الخلائق أجمعين ، وهو على كل شيء قدير ، وكل شيء إليه فقير ، وكل أمر عليه يسير ، لا يعجزه شيء ، لا يحتاج إلى شيء ، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) (الشورى:11) .
فجماع معنى اسم الله المهيمن هو المحيط بغيره الذي لا يخرج عن قدرته مقدور ، ولا ينفك عن حكمه مفطور ، له الفضل علي كل مخلوق من كل وجه في كل الأمور ، وهو المستغني عن غيره وإليه تصير الأمور ، قال أبو الحسن الأشعري : ( خلق الأشياء بقدرته ، ودبرها بمشيئته ، وقهرها بجبروته ، وذللها بعزته ، فذل لعظمته المتكبرون ، واستكان لعز ربوبيته المتعظمون ، وانقطع دون الرسوخ في علمه العالمون ، وذلت له الرقاب ، وحارت في ملكوته فطن ذوى الألباب ، وقامت بكلمته السماوات السبع ، واستقرت الأرض المهاد ، وثبتت الجبال الرواسي ، وجرت الرياح اللواقح ، وسار في جو السماء السحاب ، وقامت على حدودها البحار ، وهو الله الواحد القهار ) .(24/13)
وقال ابن حجر رحمه الله : ( وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب ، تقول هيمن فلان على فلان إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن ، وقيل المهيمن معناه الذي لا ينقص الطائع من ثوابه شيئا ولو كثر ، ولا يزيد العاصي عقابا على ما يستحقه لأنه لا يجوز عليه الكذب ، وقد سمي الثواب والعقاب جزاء وله أن يتفضل بزيادة الثواب ويعفو عن كثير من العقاب ) عز شأنه وجل سلطانه ، وقيل : المهيمن الرقيب على الشيء والحافظ له والقائم عليه ، قال الشاعر ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر ، أي القائم على الناس بعده بالرعاية لهم ويصح أن يريد الأمين عليهم الرقيب لأفعالهم .
وقيل المهيمن الشهيد قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائي قال الخطابي ومنه قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ َ) (المائدة:48) فالله الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل وخير ما يستشهد لذلك قوله تعالى : ( فمن فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ) ، وعند مسلم من حديث أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : ( يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ) .(24/14)
واسم الله المهيمن يدل على ذات الله وعلى صفة من صفات الفعل وهي الحفظ والارتقاب بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، صفة الحفظ والارتقاب وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والكبرياء والقوة ، والقدرة والصمدية ، والغنى والمجد والعزة ، والملك والعلو والعظمة ، وكل ما يلزم لمعني المهيمن على الغير هيمنة مطلقة واسم الله المهيمن دل على صفة من صفات الفعل .
كيف ندعو الله باسمه المهيمن دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يذكر الاسم في دعائه يطلب به مسألته ومن ذلك ما ورد في مصنف ابن أبي شيبة عن مسروق قال كنا مع أبي موسى الأشعري ، فجئنا في الليل إلى بستان خرب ، فقام أبو موسى من الليل يصلي فقرأ قراءة حسنة ثم قال : اللهم أنت مؤمن تحب المؤمن مهيمن تحب المهيمن سلام تحب السلام صادق تحب الصادق ، ومعني مهيمن تحب المهيمن الذي يشير أبو موسى أي مؤمن تحب المؤمن .
وفي شعب الإيمان للبيهقي في دعاء يحيى بن معاذ الرازي : جلالك يا مهيمن لا يبيد وملكك دائم أبدا جديد ، وحكمك نافذ في كل أمر وليس يكون إلا ما تريد ، ذنوبي لا تضرك يا إلهي وعفوك نافع وبه تجود ، فنعم الرب مولانا وإنا لنعلم أننا بئس العبيد ، وينقص عمرنا في كل يوم ولا زالت خطايانا تزيد ، قصدت إلى الملوك بكل باب عليه حاجب فظ شديد ، وبابك معدن للجود يا من إليه يقصد العبد الطريد .(24/15)
أما دعاء العبادة فوجب على العبد أن يتقي الله في قوله وفعله لعلمه أن الله مهيمن عليه مطلع على سره ، فيدفعه ذلك لمراقبته والعمل في ابتغاء مرضاته ، وأن يصدع بالحق ولا يخاف في الله لومة لائم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (المائدة:54) والمؤمن يعلم بأن الله تعالى عدل ينصف المظلوم من ظالمه وأن الله مهيمن قوي قادر ، فيستجير بربه ويوحده في دعائه واستغاثته .
الاسم التاسع والأربعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الجبار ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر:23) .(24/16)
وفي السنة عند البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أن النَّبِى صلى الله عليه وسلم قال : ( تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً ، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ ، نُزُلاً لأَهْلِ الْجَنَّةِ ) ، وعند البخاري من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ( فَيَأْتِيهِمُ الْجَبَّارُ ، فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ ، فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا ، فَلاَ يُكَلِّمُهُ إِلاَّ الأَنْبِيَاءُ فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تَعْرِفُونَهُ فَيَقُولُونَ السَّاقُ ، فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً ، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا ) ، وعند البخاري من حديث شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عن أنس بْن مَالِكٍ يَقُولُ عن اللَيْلَةَ التي أُسْرِىَ فيها بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( ثُمَّ هَبَطَ حَتَّى بَلَغَ مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ قَالَ عَهِدَ إِلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ فَارْجِعْ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ ، فَالْتَفَتَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِى ذَلِكَ ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ أَنْ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ ، فَعَلاَ بِهِ إِلَي الْجَبَّارِ فَقَالَ وَهْوَ مَكَانَهُ يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا ، فَإِنَّ أُمَّتِي لاَ تَسْتَطِيعُ هَذَا ) ، وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ : ( يَأْخُذُ(24/17)
الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ سَماَوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ ) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أنه لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ وَجَدَ مِنْهَا رِيحَ الطِّيبِ يُنْفَحُ وَلِذَيْلِهَا إِعْصَارٌ فَقَالَ يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ جِئْتِ مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَتْ نَعَمْ ، قَالَ وَلَهُ تَطَيَّبْتِ قَالَتْ نَعَمْ ، قَالَ إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ لاِمْرَأَةٍ تَطَيَّبَتْ لِهَذَا الْمَسْجِدِ حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ غُسْلَهَا مِنَ الْجَنَابَةِ ) ، وعند البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ( فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ فَيَقُولُ الْجَبَّارُ بَقِيَتْ شَفَاعَتِي ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا ، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ فِي حَافَتَيْهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ) .(24/18)
والجبار صيغة مبالغة من اسم الفاعل الجابر وهو الموصوف بالجبر فعله جبر يجبر جبرا ، وأصل الجبر إصلاح الشيء بضرب من القهر ، ومنه جبر العظم أي أصلح كسره ، وجبر الفقير أغناه ، وجبر الخاسر عوضه ، وجبر المريض عالجه حتى يبرأ ، ويستعمل الجبر بمعنى الإكراه على الفعل والإلزام بلا تخير ، والله جبار الخلائق المحتاجة إليه ، فيجبر الفقر بالغنى والمرض بالصحة ، والخيبة والفشل بالتوفيق والأمل ، والخوف والحزن بالأمن والاطمئنان ، والجبار عند الجبرية بمعنى الإكراه على الفعل وهو مردود لقوله تعالى : ( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:256) ، وإنما يتحقق الجبار بمعنى الإجبار فيما لا اختيار فيه ولا تكليف به ولا مسؤولية عليه ، كالسنن الكونية التي لا تحويل فيها ولا تبديل ، ومنها الحركات اللاإرادية في الإنسان كحركة القلب وسريان النفس والروح في الأبدان ، والجبار من معاني العظمة والكبرياء وهو في حق الله وصف محمود من معان الكمال ، وفى حق العباد وصف مذموم من معاني النقص ، فالكبر ولو بذرة مذموم مرفوض : ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار ٍ) (غافر:35) ( وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (إبراهيم:15) ( وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) (هود:59) .(24/19)
واسم الله الجبار يدل على ذات الله وعلى صفة الجبروت بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الجبروت بدلالة التضمن ، فالجبار هو المتصف بالجبروت ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يَقُولُ في رُكُوعِهِ : سُبْحَانَ ذي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ) ، واسم الله الجبار يدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والعزة والقوة والملك والقدرة وعلو الشأن والقهر ، العظمة والصمدية ، والكبرياء والمجد والهيمنة ، واسم الله الجبار دل على صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الجبار دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة أن يستجير في دعائه بالجبار من كل جبار كما قال موسي عليه السلام في قول رب العزة والجلال : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ ) (غافر:27) وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَاجْبُرْنِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي .(24/20)
أما دعاء العبادة فمظهر العزة التي يتعزز فيها المسلم بربه ، وخضوعه لجبروته توحيدا لله في اسمه الجبار ، فينفي عنه التجبر والتكبر ، لعلمه أن المنفرد بذلك هو الله كما في قول عيسى عليه السلام : ( وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ) (مريم:32) وعند النسائي وصححه الألباني من حديث حُذَيْفَةَ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فَسَمِعَهُ حِينَ كَبَّرَ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ذَا الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ، وَكَانَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ : لِرَبِّى الْحَمْدُ لِرَبِّى الْحَمْدُ ، وَفِى سُجُودِهِ : سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ، وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ : رَبِّ اغْفِرْ لي رَبِّ اغْفِرْ لي .. إلى آخر الحديث .(24/21)
الاسم الخمسون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المتكبر ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضع واحد من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، في قوله تعالى : ( هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الحشر:23) ، وروى أحمد في المسند بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أنه قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ : ( وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون َ) قَالَ : ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا الجَبَّارُ أَنَا المُتَكَبِّرُ أَنَا المَلِكُ أَنَا المُتَعَالِ ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) والحديث ورد عند مسلم بلفظ : ( يَطْوِى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ السَّماَوَاتِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِى الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ ثُمَّ يَقُولُ أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ) وإن كان لفظ الشمال فيه مقال .(24/22)
والمتكبر هو ذو الكبرياء وهو الملك اسم فاعل للموصوف بالكبْرياء ، والمتكبر هو العظيمُ المتعالي القاهِرُ لعُتَاةِ خَلقِهِ إذا نازعوه ، فإذا نازعوه العظمة قصمهم ، والمتكبر أيضا هو الذي تكبر عن كل سوء وتكبر عن ظلم عباده ، وتكبر عن الشرك في العبادة فلا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا له ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ ) ، وأصل الكبر والكبرياء الامتناع ، والكبرياء في صفات الله مدح وفي صفات المخلوقين ذم ، فلا كبرياء لسواه ، وهو المتفرد بالعظمة والكبرياء ، وكل من رأى العظمة والعجب والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته خاطئة كاذبة باطلة ، لأن الكبرياء لا تكون إلا لله ، والأكرمية مبنية على الأفضلية في تقوى الله ، والتاء في اسم الله المتكبر تاء التفرد والتخصص لأن التعاطي والتكلف والكبر لا يليق بأحد من المخلوقين ، وإنما سمة العبد الخضوع والتذلل ، ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِين َ) (الزمر:60) ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ) (غافر:27) ( الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر:35) ، وعند الترمذي وحسنه الألباني من حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ(24/23)
الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ ) .
واسم الله المتكبر يدل على ذات الله وعلى صفة الكبرياء والتعالي والقهر بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة الكبرياء والتعالي وحدها بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والقدرة والصمدية ، والهيمنة والعزة ، والجبروت ، واسم الله المتكبر دل على صفة من صفات الذات والفعل معا .
كيف ندعو الله باسمه المتكبر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في الدعاء المأثور عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : اللهم إني أسألك يا الله يا عزيز يا جبار يا متكبر ، أنت الذي سجد لك ضوء النهار وشعاع الشمس وحفيف الشجر ودوي الماء ونور القمر يا الله لا شريك لك ، أسألك بهذه الأسماء أن تصلي على محمد عبدك ورسولك وعلى آل محمد ، وفي صحيح مسلم من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أنه قَالَ : ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِّمْنِى كَلاَمًا أَقُولُهُ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ، قَالَ : فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّى فَمَا لي ؟ قَالَ : قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) .(24/24)
أما دعاء العبادة فنفي الكبر عن النفس بالتواضع ، ونفي الشرك عن الفعل بالإخلاص ، وخلع العبد عن النفس أوصاف الربوبية ، فلا يتكبر ولا يتمظهر ، ولا يتمنظر ولا يتبخطر ، ولكن يتواضع لله المتكبر ، روى الإمام مسلم من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أنِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ) ، وعند البخاري من حديث حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ أنه سَمِع النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : ( أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ ، أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ ) ، والعتل هو الشديد الجافي الغليظ من الناس ، والجواظ هو الجموع المنوع الذي يجمع المال من أي جهة ويمنع صرفه في سبيل الله ، وفي رواية صحيحه عند أحمد من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاص : ( كُلُّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمَّاعٍ مَنَّاعٍ ) ، والجعظري هو الفظ الغليظ المتكبر وقيل هو الذي ينتفخ بما ليس عنده .
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(24/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسني الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة الحادية عشر
27محسن رفيق جواد شافي منان
الحمد لله القدوس السلام ، العزيز الجبار الذي لا يضام ، الحي القيوم الذي لا ينام ، ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) (البقرة:255) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا ولد ولا والد له ، ولا صاحبة له ولا نظير ، ولا وزير له ولا مشير ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه من خلقه وخليله ، صلى الله عليه وعلى إخوانه النبيين والمرسلين ، وسائر أصحابه وآل بيته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد .(25/1)
فحديثنا اليوم في شرح أسماء الله الحسنى وحصرها من الكتاب والسنة بدايته في هذه المحاضرة بالاسم الواحد والتسعين من أسماء الله الحسني ، اسم الله المحسن ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد عند الطبراني وصححه الشيخ الألباني من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قتلتم فأحسنوا ، فإن الله عز وجل محسن يحب الإحسان ) ، وكذلك ورد من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه أنه قال : حفظت من رسول الله صلي الله عليه وسلم اثنتين قال : ( إن الله محسن يحب الإحسان إلي كل شيء فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) ، فهذان الحديثان ورد فيهما الاسم منونا مرفوعا ، وقد ورد الحديث عند مسلم من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه فيه ذكر الوصف قَالَ : ( ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَي كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) .(25/2)
وقد ورد وصف الإحسان أيضا في آيات كثيرة كقول الله تعالى : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (التغابن:3) ، وقال تعالى : ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِنْ طِينٍ ) (السجدة:7) ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) (القصص:77) ( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) (المؤمنون:14) ( أَتَدْعُونَ بَعْلا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ ) (الصافات:125) وقال تعالى عن يوسف عليه السلام : ( قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) (يوسف:23) ( وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ ) (يوسف:100) .(25/3)
والمحسن في اللغة ، فعله حَسُن يَحْسُن حُسْنا فهو حاسِنٌ ، والحُسْنُ ضدُّ القُبْح وحَسَّن الشيء تحسِينا زينه ، وأحْسَنَ إليه وبه صنع له وبه معروفا ، وهو يحسن الشيء أي يعلمه بخبره ، واستحسن الشيء رغب فيه وتعلق به واعتبره حَسَنا ، والحَسَنةُ ضد السيئة ، ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) (النحل:30) والمَحَاسِنُ ضد المساوئ ، والحُسْنَى البالغة الحسن في كل شيء ، من جهة الكمال والجمال ، كما قال تعالى : ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ) (يونس:26) ، فالحُسْنى هي الجنّة والزّيادة النظر إلى وجه اللَّه تعالى يوم القيامة ، وقوله عزّ وجلّ : ( وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ) (لقمان:22) والمحسن في الشرع هو الذي بلغ درجة الإحسان ، والإحسان فسره النبي صلى الله عليه وسلم عند سؤال جبريل عليه السلام في حديث عمر رضي الله عنه حيث قال : ( الإِحْسَان أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) ، وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ) (النحل:90) قيل : أَراد بالإِحسان الإِخْلاص ، وهو شرطٌ في صحةِ الإِيمان والإِسلام معا ، وقيل : أَراد بالإِحسان الإِشارةَ إلى المُراقبة وحُسْن الطاعة ، فإِن مَنْ راقَب اللَّهَ أَحسَن عمَله ، والمعنى يشمل الاثنين معا ، وقوله عزّ وجل : ( هل جزاءُ الإِحْسان إلا الإِحسان ) (الرحمن:60) أَي ما جزاءُ مَنْ أَحسَن في الدُّنيا إِلا أَن يُحسن الله إِليه في الآخرة ، فالله عز وجل محسن أحسن كل شيء خلقه فأتقنه وأبدع صنعته وصبغته ، وأحسن إلى خلقه بعموم نعمه وشمول كرمه وسعة رزقه مع مخالفتهم لأمره ونهيه ، وأحسن إلي المؤمنين فوعدهم الحسني وعاملهم بفضله ، وأحسن(25/4)
إلى من أساء فأمهله ثم حاسبه بعدله .
واسم الله المحسن يدل علي ذات الله وعلي صفة الإحسان بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي صفة الإحسان وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والإرادة والمشيئة والسمع والبصر والعلم والقدرة والغني والعزة واللطف والرحمة ، وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله المحسن دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه المحسن دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في صحيح مسلم ، وكذلك عند أبي داود والنسائي من حديث عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم إِذَا سَجَدَ قَالَ : اللَّهُمَّ لَكَ سَجَدْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَلَكَ أَسْلَمْتُ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، وَإِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَالْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ .(25/5)
أما دعاء العبادة فهو التزام العبد بمقتضى الاسم وبلوغه درجة الإحسان وهي اتقان الطاعة بالمراقبة فيعبد الله كأنه يراه ، ويحسن تعامله مع خلق الله ، بداية من رد السلام إلى آخر ما جاء به الإسلام ، قال تعالى : ( وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبا ) (النساء:86) ، وقال تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا ) (النساء:69) فأحسن الأعمال التي تتطلب الخلاص والإتقان أداء الصلاة ، كما وعند البخاري من حديث عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِي أَنَّهُ دَخَلَ عَلَي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه وَهْوَ مَحْصُورٌ - يعني في منزله - فَقَالَ إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ ، وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَي وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ ، فَقَالَ : الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ ، وكذلك ورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَهُوَ يَشْتَكِى فَتَمَنَّى الْمَوْتَ فَقَالَ : يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ لاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتَ مُحْسِنا تَزْدَادُ إِحْسَانا إِلَى إِحْسَانِكَ خَيْرٌ لَكَ ، وَإِنْ كُنْتَ مُسِيئا فَإِنْ تُؤَخَّرْ تَسْتَعْتِبْ خَيْرٌ لَكَ فَلاَ تَتَمَنَّ الْمَوْتَ .(25/6)
ومن دعاء العبادة باسم الله المحسن الإحسان إلى الضعيف واليتيم ، فعند البخاري من حديث أَبِي مُوسَي رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( مَنْ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَعَالَهَا ، فَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا ، كَانَ لَهُ أَجْرَانِ ) ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : ( جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي ، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَأَعْطَيْتُهَا ، فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا ، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ ، فَدَخَلَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ : مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ شَيْئًا فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ ) .
ومن الإحسان عدم كفران العشير وقلما يكون في النسوان ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ ، قِيلَ أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ قَالَ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَي إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ .(25/7)
الاسم الثاني والتسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الرفيق ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في صحيح البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ : اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَي النَّبِي صلي الله عليه وسلم فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ ، قُلْتُ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ) ، وفي صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ لها : ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَي الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَي الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَي مَا سِوَاهُ ) ، وفي رواية عند البخاري من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ) وفي رواية أخرى عند البخاري : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ ) قيل في المعنى ألحقني بك ، وقيل المقصود بالرفيق المكان الذي تحصل المرافقة فيه ، فالرَّفِيقُ الأعْلى جماعة الأنْبياء الَّذين يسكنُون أعْلى علِّيِّين مع المذكورين كجبريل وميكائيل وإسرافيل والأنبياء والأولياء على اعتبار أن الرفيق الأعلى يكون في الجنة .(25/8)
والرفيق في اللغة فعله رَفَقَ يَرْفُق رِفْقا ، والرِّفْق هو اللطف وهو ضد العنْف ويعني لِين الجانب ولَطافة الفعل ، رفق بالأَمر وله وعليه يعني لَطِيف ، ، وعند أحمد من حديث عائشة أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ عُزِلَ عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ) فالرفق هو اللّطفُ ، ورَفِيقُكَ هو الذي يُرافِقُك في السفر تَجْمَعُكَ وإِيّاه رفقة واحدة ، والرفيق أيضا هو الذي يتولي العمل برفق أو يتَرفق بالمريض ويتلطف به ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِى رِمْثَةَ التيمي أنه قَالَ : ( فَقَالَ لَهُ أَبِى - للرسول صلي الله عليه وسلم - أَرِنِي هَذَا الَّذِي بِظَهْرِكَ فَإِنِّي رَجُلٌ طَبِيبٌ ، قَالَ : اللَّهُ الطَّبِيبُ بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا ) - وليس الطبيب من الأسماء للتقيد الذي ورد بعدها طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا - والمِرْفَقُ من مَرَافِق الدار الأماكن المصاحبة للدار من خدمات مختلفة كمَصابُّ الماء ونحوُها ، والمَرفِق من الإِنسان والدابة أَعلى الذِّراع وأَسفلُ العَضُد .
والله عز وجل رفيق بعباده قريبٌ منهم ، يحب عبَادَه الصالحين ويقربهم ويرضى عنهم ويتقبَّلُ أعمالَهم ويعاملهم بعطف ورأفة وإحسان ، ويدعو المخالفين له إلى التوبة والإيمان ، وهو الذي يسر لعباده أمورهم ويستجيب دعائهم ، وترغيبا لهم في طاعة الله ورسوله ، فهو الرفيق المحسن في خفاء وستر ، نعمته سابغة وحكمته بالغة ، يحاسب المؤمنين بفضله ورحمته ، ويحاسب المخالفين بعدله وحكمته .(25/9)
واسم الله الرفيق يدل علي ذات الله وعلي صفة الرفق بدلالة المطابقة ، وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي صفة الرفق وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة واللطف والرحمة وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله الرفيق دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الرفيق دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة ، صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم إِذَا اشْتَكَي مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ، فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم وَثَقُلَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ لأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الأَعْلَى قَالَتْ فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى ، وفي رواية عند البخاري : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى ) .
أما دعاء العبادة فهو آثر توحيد العبد لله في اسمه الرفيق ، ويتجلى ذلك في رفقه بجميع إخوانه من المسلمين ، فيحب للعاصي التوبة والمغفرة ، وللمطيع الثبات وحسن المنزلة ، ويكون ودودا لعباد الله فيعفو عمن أساء إليه ، ويلين مع البعيد كما يلين مع أقرب الناس إليه ، ومن أعظم الرفق وتوحيد الله في اسمه الرفيق مودة الرجل لزوجته ورفقه بها وكذلك مودة المرأة لزوجها ، ورد الطبراني وقال الشيخ الألباني حسن لغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم قال : ( ألا أخبركم بنسائكم في الجنة قلنا بلي يا رسول الله قال ودود ولود إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضي ) .(25/10)
الاسم الثالث والتسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الجواد ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ثبت في صحيح السنة من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه ، وكذلك من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( إن الله عز وجل جواد يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويبغض سفسافها ) وهذا الحديث حديث صحيح بمجموع طرقه ، صححه الشيخ الألباني ، وهو المعول عليه في إثبات الاسم ، قد ورد عند أبي نعيم في حلية الأولياء وابن عساكر في الضياء .(25/11)
وعند الترمذي وحسنه ، وكذلك عند أحمد من حديث أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قال : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَي يَا عِبَادِي .. لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابِسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلاَّ كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ ، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ عَطَائِي كَلاَمٌ وَعَذَابِي كَلاَمٌ إِنَّمَا أَمْرِي لِشَىْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ، وروي الترمذي وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه أن النَّبِي صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) ، وهذا الحديث والذي قبله ليس أصلا في إثبات اسم الله الجواد لأنه على أجود الأحكام حديث حسن ، والحديث الحسن هو ما اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه قليلا عن مثله إلي منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، فربما لا يضبط الراوي اللفظ في كونه اسما ، ولذلك لم نعتد به في حصر الأسماء الحسني وإنما في دلالة الاسم علي الصفة ، ولذلك فإنه ليس من أسمائه الحسني النظيف ولا الماجد ، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل والطيب والجواد .(25/12)
والجواد في اللغة فعله جادَ يَجود جَوْدة ، وجاد الشيءُ جُودة أَي صار جَيِّدا ، والجَيِّد نقيض الرديء ، وقد جاد جَوْدة وأَجاد يعني أَتى بالجَيِّد من القول أَو الفعل ، والجود هو الكرم ، ورجل جَواد يعني سخيّ كثير العطاء ، والجود من المطر هو الذي لا مطر فوقه في الكثرة ، وفلان يَجُود بنفسه أَي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإِنسان ماله ويجود به ، وعند البخاري من حديث أُسَامَةَ رضي الله عنه قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَعِنْدَهُ سَعْدٌ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذٌ أَنَّ ابْنَهَا يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا : لِلَّهِ مَا أَخَذَ ، وَلِلَّهِ مَا أَعْطَى ، كُلٌّ بِأَجَلٍ ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ ، والذي يجود بنفسه عند الموت لا دخل له في إخراج الروح أو إبقائها ، وإنما ذلك لله يأمر ملائكته باستخراجها فتخرج إلى ربها ، أو لرضاه بقدر الله واستعداده للقائه ورغبته في أن يلقى الله مؤمنا ، كما في حديث عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عند مسلم أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهِىَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى ... إلى أن أقام عليه الحد فرجمت .. ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ تُصَلِّى عَلَيْهَا يَا نَبِىَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ فَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى ) ، فالجود سهولة البذل والإنفاق وتجنب ما لا يحمد من الأخلاق ويكون بالعبادة والصلاح وبالسخاء والسماح .(25/13)
والله جواد يجود بفضله على سائر خلقه ، لا تنفد خزائنه ولا يكف من عطائه ، وهو عليم بموضع جوده وعطائه فلا يبذله إلا لمن استحقه ، ولا يبذل لمن استحقه إلا على قدر مصلحته وما يحقق منفعته ، لعلمه بمواضع الصلاح ومواضع الضرر .
واسم الله الجواد يدل علي ذات الله وعلي صفة الجود بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي صفة الجود وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والمشيئة والإرادة والعلم والقدرة والغني والعزة والجلال والقوة وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله الجواد دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الجواد دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة لم أجد فيه دعاء مأثور ، غير ما ورد عن بعض الصالحين ممن دعا الله بالاسم أو الصفة كقول بعضهم في دعائه : ( اللهم إني أسألك من فضلك وسعة جودك ورحمتك التي وسعت كل شيء فإنه لا يملكها إلا أنت ، أسألك يا جواد يا كريم مغفرة كل ما أحاط به علمك من ذنوبنا ، والتجاوز عن كل ما كان منا إنك جواد تحب الجود ، اللهم بك أعوذ وبك ألوذ اللهم اجعل لي في اللهف إلى جودك والرضا بضمانك مندوحة عن منع البخلاء وغنى عما في أيدي الأغنياء ) ، ولأبي القاسم الزمخشري أبيات في دعاء المسألة : قرب الرحيل إلى معاد الآخرة : فاجعل الهي خير عمري آخره ، وارحم مبيتي في القبور ووحدتي : وارحم عظامي حين تبقى ناخره ، فأنا المسكين الذي أيامه : ولت بأوزار غدت متواترة ، فلئن رحمت فأنت أكرم راحم : فبحار جودك يا الهي زاخرة .(25/14)
أما دعاء العبادة ، فيظهر على العبد من خلال كثرة الإنفاق وعدم الخشية من الفقر ، وقد ورد عند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النَّاسِ ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ، وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ ، وَأَجْوَدَ النَّاسِ ، وَأَشْجَعَ النَّاسِ .
وينبغي أن يكون الإنفاق عن إخلاص وحسن نية ففي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ : ( وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِي بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ ، فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَي وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِي فِي النَّار ) ، وفي سنن الترمذي وصححه الشيخ الألباني : ( قَالَ كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ كَذَبْتَ وَتَقُولُ لَهُ الْمَلاَئِكَةُ كَذَبْتَ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَي بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ فُلاَنٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ ) .(25/15)
الاسم الرابع والتسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الشافي فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في صحيح البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَتَي مَرِيضًا أَوْ أُتِي بِهِ قَالَ : ( أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) وكذلك ورد الحديث عند البخاري من حديث أنس قال لبعض أصحابه أَلاَ أَرْقِيكَ بِرُقْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم قَالَ بَلَي ، قَالَ اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شَافِي إِلاَّ أَنْتَ ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ، فهذه الأحاديث التي ثبتت في معظم كتب السنة ورد فيها الاسم والوصف معا ، وفي القرآن ورد الوصف فقط في قوله تعالى عن إبراهيم عليه السلام : ( وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) (الشعراء:80) وفي سورة التوبة : ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ) (التوبة:14) .(25/16)
والشافي في اللغة ، فعله شفى يشفي شفاء ، والشِّفاء هو الدواء الذي يكون سببا فيما يبرئ من السَّقَمِ ، شَفاه الله من مَرَضِهِ شِفاءً ، وعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث جَابِرٍ قَالَ خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَقَالَ : ( قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلاَّ سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ ) ، فاسْتَشْفَى بمعنى نال الشِّفاء ، وعند مسلم من حديث عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لحسان : ( اهْجُوا قُرَيْشًا فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ ..فهجاهم .. فقال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : هَجَاهُمْ حَسَّانُ فَشَفَى وَاشْتَفَى ) ، أَراد أَنه شَفى المؤمنين واشْتفى بنَفْسِهِ أَي اخْتَصَّ بالشِّفاء ، وهو من الشِّفاء أو البُرْءِ من المرض لكن المعنى نقل من شِفاء الأَجسامِ إِلى شِفاءِ القلوبِ والنُّفُوسِ ، يقال : اشْتَفَيْتُ بكذا وتَشَفَّيْت ُ من غَيْظِي ، والشافي هو الله الذي يهيأ أسباب الشفاء فيشفي بها وبغيرها ، فالأسباب لابد من الأخذ بها مع اعتقاد أن تأثيرها يرجع إلى خالقها وقدرته ، ومشيئته وفاعليته .(25/17)
واسم الله الشافي يدل علي ذات الله وعلي صفة الشفاء بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الشفاء وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم والقدرة والغني والقوة وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله الشافي دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الشافي دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في صحيح مسلم عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِهِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ، وفي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّ الرُّقَي وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ ، فقالت له زوجته : لِمَ تَقُولُ هَذَا وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَتْ عَيْنِي تَقْذِفُ وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَي فُلاَنٍ الْيَهُودِي يَرْقِينِي فَإِذَا رَقَانِي سَكَنَتْ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ إِنَّمَا ذَاكِ عَمَلُ الشَّيْطَانِ كَانَ يَنْخَسُهَا بِيَدِهِ فَإِذَا رَقَاهَا كَفَّ عَنْهَا إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكِ أَنْ تَقُولِي كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم يَقُولُ أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا .(25/18)
أما دعاء العبادة فهو أثر التوحيد في قلب العبد واعتقاده أن الله هو الشافي يشفي بأسباب وبدونها ، لكنه يأخذ بالأسباب لأن الله علق عليها الشرائع والأحكام ، فعند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ رضي الله عنه قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهِمُ الطَّيْرُ فَسَلَّمْتُ ثُمَّ قَعَدْتُ فَجَاءَ الأَعْرَابُ مِنْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَتَدَاوَى فَقَالَ : تَدَاوَوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ .(25/19)
لكن الشافي حقيقة هو الله فعند مسلم من حديث صُهَيْبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَىَّ غُلاَمًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلاَمًا يُعَلِّمُهُ .. فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِىَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ مَا هَا هُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّهُ فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ ، فَآمَنَ بِاللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ قَالَ رَبِّى ، قَالَ وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي قَالَ رَبِّى وَرَبُّكَ اللَّهُ ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلاَمِ فَجِيءَ بِالْغُلاَمِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ ، فَقَالَ إِنِّي لاَ أَشْفِى أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِى اللَّه ُ.(25/20)
الاسم الخامس والتسعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المنان ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَي يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ، وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسٍ قَالَ دَخَلَ النَّبِيُّ صلي الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ وَرَجُلٌ قَدْ صَلَّي وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، فَقَالَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم تَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللَّهَ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَي ، وكذلك ورد الحديث عن النسائي وابن ماجة .(25/21)
وقد ورد الوصف في آيات كثيرة كقوله تعالى : ( يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) (الحجرات:17) وفي سورة إبراهيم : ( قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (إبراهيم:11) والمن في حق الله كمال ، وفي حقنا نقص كما قال تعالى : ( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة:262) ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي ذَرٍّ أنِ النَّبِي صلي الله عليه وسلم قَالَ : ( ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَنَّانُ الَّذِي لاَ يُعْطِي شَيْئًا إِلاَّ مَنَّهُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْفَاجِرِ وَالْمُسْبِلُ إِزَارَهُ ) .(25/22)
والمنان في اللغة صيغة من صيغ المبالغة على وزن فعال ، فعله من يمن منا يعني قطعه وذهب به ، والمَنِينُ الحبل الضعيف ، وحَبل مَنينٌ مَنينٌ إِذا أَخْلَقَ وتقطع ، ورجل مَنِينٌ أَي ضعيف ، يقال : كأَنَّ الدهر مَنَّه أَي ذهب بقوته ، والمَنُونُ الموت لأَنه يَمُنُّ كلَّ شيء فيضعفه وينقصه ويقطعه ، وعليه جاء قوله تعالى : ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) (الطور:30) ، ومَنَّ عليه يَمُنُّ مَنًّا أَحسن وأنعم ، وقوله عز وجل : ( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) (القلم:3) جاء في التفسير غير محسوب ، أو غير مقطوع ، والمنان في أَسماء اللَّه تعالى هو الذي يُنْعِمُ غيرَ فاخِرٍ بالإِنعام والمُعْطي ابتداء وانتهاء ، وللَّه المِنَّة على عباده ، ولا مِنَّة لأَحد منهم عليه ، فهو المحسن على العبد وإليه ولا يطلب الجزاء عليه .
واسم الله المنان يدل علي ذات الله وعلي صفة المن والمنة من صفات الفعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة المن والمنة بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والإحسان والعزة وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله المنان دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه المنان دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني في الحديث السابق ، ثُمَّ دَعَا : ( اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَي يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِي صلي الله عليه وسلم لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَي ) .(25/23)
أما دعاء العبادة فأثر الاسم على العبد أن يجود بنفسه وماله في سبيل دينه وإخوانه رغبة في القرب من ربه ، فعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَىَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَبِى قُحَافَةَ ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنَ النَّاسِ خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً ، وَلَكِنْ خُلَّةُ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ ، سُدُّوا عَنِّى كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِى بَكْرٍ ) .
ويقول تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (البقرة:264) والمَنُّ ههنا أَن تَمُنَّ بما أَعطيت وتعتدّ به كأَنك إِنما تقصد به الاعتداد ، والأَذى أَن تُوَبِّخَ المعطَى فأَعلم اللَّه أَن المَنَّ والأَذى يُبْطِلان الصدقة وقال تعالى : ( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) (المدثر:6) أَي لا تُعْطِ شيئا مقدَّرا لتأْخذ بدله ما هو أَكثر منه ، وورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( قُلْتُ وَمَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمُ اللَّهُ ؟ قَالَ : التَّاجِرُ الْحَلاَّفُ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ الْحَلاَّفُ وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ ) .(25/24)
( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (الأحزاب:56) ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أن أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(25/25)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسني الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة الحادية عشر
26مسعر قابض باسط رازق رزاق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل الله فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ، أما بعد ..(26/1)
فحديثنا اليوم بإذن الله تعالي عن خمسة أسماء من أسماء الله الحسني التي تدل علي صفات الفعل وهي اسم الله المسعر واسمه القابض والباسط والرازق والرزاق ، ونبدأ الآن بالاسم السادس والثمانين من أسماء الله الحسني هو اسم الله المسعر ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في سنن الترمذي وقال حسن صحيح وكذلك عند أبي داود وابن ماجه وأحمد في مسنده وصححه الشيخ الألباني جميعهم يروي من حديث أَنَسٍ بن مالك أنه قَالَ : قَالَ النَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) ، وكذلك أخرجه أحمد من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أنه قَالَ : ( غَلاَ السِّعْرُ عَلَي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالُوا لَهُ لَوْ قَوَّمْتَ لَنَا سِعْرَنَا ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُقَوِّمُ أَوِ الْمُسَعِّرُ إني لأَرْجُو أَنْ أُفَارِقَكُمْ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي مَالٍ وَلاَ نَفْسٍ ) ، وفي رواية عند أحمد فيها تقديم وتأخير وزيادة اسم الله الخالق من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ غَلاَ السِّعْرُ عَلَي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) .(26/2)
وهنا لا بد من التنبيه على قضية هامة في حصر العلماء للأسماء الحسنى فأغلبهم أو أكثرهم يستدلون بهذا الحديث في إثبات القابض الباسط الرازق ويستبعدون المسعر ودون ذكر سبب أو تعليل ، وإنما هو استحسان بلا دليل ، اللهم إلا إذا كان منهجهم أو منهج بعضهم أنه يعتبر رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي ورواية عبد الملك الصنعاني عند ابن ماجة هي الأصل عنده في إثبات الأسماء ، ولكنها كما تعلمون ليس ثابتة باتفاق العلماء ، بل بعضهم يستبعد الرازق أيضا ، فهل اسم الله المسعر ليس فيه كمال مطلق ، أو أنه يحتمل معنى من معاني النقص عند الإطلاق فيلزم تقييده ؟ وفي الحقيقة لم أجد لا هذا ولا ذاك ، فهو من حيث الإطلاق أطلقه الرسول دون تقييد ومن حيث الكمال دلالته أبلغ من القابض والباسط لأنه يشملهما معا كما سنرى ، لكن العجب أنني وجدت ذلك الأمر قد اجتمع عليه أعلام أجلاء كالإمام البيهقي وابن العربي والأصبهاني وابن منده حتى المعاصرين كالشيخ ابن عثيمين رحمه الله ، جميعهم استبعد المسعر ، أما الرازق فذكره البيهقي وابن منده والأصبهاني وابن الوزير ، وإن استبعد ابن الوزير مع المسعر القابض الباسط أيضا مع أنه لا دليل على القابض الباسط الرازق إلا هذا الحديث ، وابن حجر رحمه الله استبعد الجميع مع ثبوت الحديث عنده وتصحيحه له ، والقصد أن الاسم ثابت بالحديث الصحيح وليس لنا أن نرد قول نبينا في تسمية الله بهذا الاسم بناء على اجتهاد أو استحسان فلم أجد علة عند أحد لاستبعاده من الأسماء ، فما يسري عليه يسري على بقية الأسماء الواردة في الحديث القابض الباسط الرازق .(26/3)
والمسعر في اللغة فعله سعر يسعر تسعيرا وتسعيرة ، يقال : أسْعَر أهلُ السوق وسَعَّرُوا إذا اتفّقوا علي سِعْر ، وهو من سَعَّر النار إذا رفعها ، لأن السِّعْر يوصف بالارتفاع ، وسَعَرت النارَ إذا أوقَدتَهما وسعَّرتها بالتشديد للمبالغة ، واسْتَعَرَتْ وتَسَعَّرَتْ اشتعلت واستوقدت ونار سَعِيرٌ يعني مستعرة ومرتفعة والسعير النار والسعار حر النار ، ومنه قوله تعالي : ( فَسُحْقاً لأصْحَابِ السَّعِيرِ ) (الملك:11) أَي بُعْداً لأَهل النار ، وكذلك قوله تعالي : ( وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ) (التكوير:12) وقوله : ( بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً ) (الفرقان:11) وكذلك قوله : ( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَي وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرا ً) (الإسراء:97) ، وناقة مسعورة كأَن بها جنوناً من سرعتها ونفرتها وكلب مسعور من شدة نهشه وعضه في الناس ، أو مسعور بمعنى جوعان متلهف للطعام والالتهام ، وخلاصة المعنى اللغوي للمسعر هو الذي يزيد الشيء ويرفع من قيمته أو مكانته أو تأثيره هو الذي يُرْخِصُ الأَشياءَ ويُغْلِيها فلا اعتراض لأَحد عليه .(26/4)
والمسعر اسم من أسماء الله دل على صفة من صفات الفعل وهي التسعير ، والتسعير في حق الله يتعلق بنوعي التدبير ، فالتدبير منه ما هو متعلق بتصريف المقادير وهو التدبير الكوني ، ومنه ما هو متعلق بالحكم الشرعي وهو التدبير الشرعي ، فالأول هو المقصود بحديث النهي عن التسعير ، لأن ارتفاع السعر أو انخفاضه في هذا المقام مرتبط بالتدبير الكوني والتقدير الأزلي ، فالسعر يرتفع بين الناس إما لقلة الشيء وندرته ، وإما لزيادة الطلب وكثرته ، وهذه أمر يتعلق بمشيئة الله وحكمته ، فهو الذي يبتلي عباده في تصريف أرزاقهم وترتيب أسبابهم ، فقد يهيأ أسباب الكسب لإغناء فقير أو يمنع الأسباب لإضعاف كبير ، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وهو على كل شيء قدير ، ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيرا ً) (الإسراء:30) والله عز وجل يقول أيضا : ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الشورى:12) ، فهذا تدبير الله في خلقه وحكمته في تقدير المقادير ، وإذا ألزمنا الناس في هذه الحالة أن يبيعوا بقيمة محددة مع تيسر الأسباب في بسط رزقهم ، فهذا ظلم للخلق وإكراه بغير حق واعتراض على الله في تقسيم الرزق ، ولذلك قال رَسُولُ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) فقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الحكم علي الوصف المناسب فمن حاول التسعير على هذا الوضع ، فقد عارض الخالق ونازعه في مراده ، ومنع العباد حقهم مما أولاهم الله في والرخص الغلاء ، فبين أن المانع له من التسعير أن يتضمن ظلما للناس في أموالهم ، لكونه تصرفا فيها(26/5)
بغير إذنهم فقال : وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ .
وأما التسعير المتعلق بالتدبير الشرعي فهو منع الظلم وكفه عن الناس ، بمنع استغلال حاجتهم أو احتكار التجار لسلعتهم طلبا لزيادة الأسعار ، كأن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المناسبة ، فهنا إلزامهم بقيمة المثل من الأحكام الواجبة ، فالتسعير هنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم به الله ، ومن احتج علي منع التسعير مطلقا بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ ) ، قيل له هذه قضية معينة في حالات خاصة تتعلق بقلة الشيء وندرته ، أو زيادة الطلب وكثرته ، وهذه أمر كما أسلفنا يتعلق بمشيئة الله وحكمته ، فهو الذي يبتلي عباده في تصريف أرزاقهم وترتيب أسبابهم فقد يقبض في بعض الأوقات وقد يبسط الرزق ويوسع على المخلوقات ، ولذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش فقال : ( ولاَ تَنَاجَشُوا ) والنجش أن يمدح السلعة ليروجها أو يزيد في ثمنها ولا يريد شراءها لييفيد التاجر على حساب المشتري ، فهذا ضرب من الخديعة ، والناجش آثم .
واسم الله المسعر يدل علي ذات الله وعلي وصفة التسعير والقبض والبسط بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى وصفة التسعير والقبض والبسط وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم والقدرة والسمع والبصر والغني والعزة والعظمة والقوة وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله المسعر دل علي صفة من صفات الأفعال .(26/6)
كيف ندعو الله باسمه المسعر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند أحمد من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلاً قَالَ : سَعِّرْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : ( إِنَّمَا يَرْفَعُ اللَّهُ وَيَخْفِضُ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ لأَحَدٍ عِنْدِي مَظْلَمَةٌ قَالَ آخَرُ سَعِّرْ ، فَقَالَ : ادْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ) ، وعند مسلم من حديث أَبي مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ أن الرَّجُل كان إِذَا أَسْلَمَ عَلَّمَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَعَافِنِي وَارْزُقْنِي .
أما دعاء العبادة فهو أثر الاسم على العبد لا سيما إن كان من التجار ، فلا يستغل الناس في زيادة الأسعار ، ولا يدخر أقواتهم طلبا للاحتكار ، بل يكون حريصا على نفعهم ، صبورا على دينهم ، ومراعيا لفقرهم ، سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى ، فقد ورد عند البخاري من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى ) ، وعند الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه أَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ) ، وورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث أبي ذَرٍّ رضي الله عنه أنه قال للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ( قُلْتُ وَمَنْ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَشْنَؤُهُمُ اللَّهُ ؟ قَالَ : التَّاجِرُ الْحَلاَّفُ أَوْ قَالَ الْبَائِعُ الْحَلاَّفُ وَالْبَخِيلُ الْمَنَّانُ ، وَالْفَقِيرُ الْمُخْتَالُ ) .(26/7)
وعند ابن ماجة قال الشيخ الألباني : حسن صحيح من حديث أَبِى سَعِيدٍ قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْزُقُنَا تَمْرًا مِنْ تَمْرِ الْجَمْعِ - تمر الجمع هو التمر المجمع من أنواع متفرقة ، أو المختلط من أنواع متفرقة وهو رديء بعض الشيء - فَنَسْتَبْدِلُ بِهِ تَمْرًا هُوَ أَطْيَبُ مِنْهُ وَنَزِيدُ فِي السِّعْرِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَصْلُحُ صَاعُ تَمْرٍ بِصَاعَيْنِ وَلاَ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمَيْنِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّينَارُ بِالدِّينَارِ لاَ فَضْلَ بَيْنَهُمَا إِلاَّ وَزْنًا ، ويقصد أن يبيعوا هذا التمر الرديء ويشتروا بثمنه من هذا الطيب الجيد على قدر سعره .(26/8)
وفي الموطأ من حديث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مَرَّ بِحَاطِبِ بْنِ أَبِى بَلْتَعَةَ وَهُوَ يَبِيعُ زَبِيبًا لَهُ بِالسُّوقِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِمَّا أَنْ تَزِيدَ فِي السِّعْرِ وَإِمَّا أَنْ ترفع مِنْ سُوقِنَا ، ومر عمر على حاطب وهو يبيع زبيباً له بالسوق بأرخص مما يبيع الناس ، فقال له عمر بن الخطاب: إما أن تزيد في السعر ، بأن تبيع بمثل ما يبيع أهل السوق وإما أن ترفع من سوقنا لئلا تضر بأهل السوق ، فليس للواحد والاثنين البيع بأرخص مما يبيع أهل السوق دفعاً للضرر قال ابن رشد : وهو غلط ظاهر إذ لا يلام أحد على المسامحة في البيع والحطيطة فيه ، بل يشكر على ذلك إن فعله لوجه الناس ويؤجر إن فعله لوجه الله تعالى ، ولذلك تراجع عمر كما وردت القصة كاملة عند البيهقي من حديث الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عُمَرَ رَضِي اللَّهِ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِحَاطِبٍ بِسُوقِ الْمُصَلَّى وَبَيْنَ يَدَيْهِ غَرَارَتَانِ فِيهِمَا زَبِيبٌ فَسَأَلَهُ عَنْ سِعْرِهِمَا فَسَعَّرَ لَهُ مُدَّيْنِ لِكُلِّ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهِ عَنْهُ قَدْ حُدِّثْتُ ببِعِيرٍ مُقْبِلَةٍ مِنَ الطَّائِفِ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِسِعْرِكَ ، فَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ فِي السِّعْرِ ، وَإِمَّا أَنْ تُدْخِلَ زَبِيبَكَ الْبَيْتَ فَتَبِيعَهُ كَيْفَ شِئْتَ ، فَلَمَّا رَجَعَ عُمَرُ حَاسَبَ نَفْسَهُ ثُمَّ أَتَى حَاطِبًا فِي دَارِهِ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ الَّذِي قُلْتُ لَيْسَ بِعَزْمَةٍ مِنِّى وَلاَ قَضَاءٍ إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أَرَدْتُ بِهِ الْخَيْرَ لأَهْلِ الْبَلَدِ فَحَيْثُ شِئْتَ فَبِعْ وَكَيْفَ شِئْتَ فَبِعْ ، وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ يَبِيعُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ(26/9)
بَعْضٍ ، وَلاَ تَلَقَّوُا السِّلَعَ حَتَّى يُهْبَطَ بِهَا إِلَى السُّوقِ ) والقصد أن الرجل يأخذ بأسباب الرزق في تجارته وكسبه فيراقب الله في التعامل مع خلقه ، توحيدا لربه في اسمه المسعر القابض الباسط الرازق .
الاسم السابع والثمانون من أسماء الله الحسني هو اسم الله القابض ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في الأحاديث التي وردت في اسم الله المسعر : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) وقد ورد الوصف في قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة:245) ( أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ) (الفرقان:45/46) ، وعند البخاري من حديث أَبِى قَتَادَةَ حِينَ نَامُوا عَنِ الصَّلاَةِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ ، وَرَدَّهَا حِينَ شَاءَ ) ، وعند مسلم من حديث أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمَّةٍ مِنْ عِبَادِهِ قَبَضَ نَبِيَّهَا قَبْلَهَا فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطًا وَسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْهَا وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَةَ أُمَّةٍ عَذَّبَهَا وَنَبِيُّهَا حَيٌّ فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ فَأَقَرَّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذَّبُوهُ وَعَصَوْا(26/10)
أَمْرَهُ ) .
والقابض في اللغة ، فعله قَبَضَه يَقْبِضُه قَبْضاً وقَبضة ، والقَبْضُ خِلافُ البَسْط وهو في حقنا جَمْعُ الكفّ على الشيء وهو من أوصاف اليد وفعلها ، والقَبْضة ما أَخذت بِجُمْعِ كفِّك كله تقول : هذا قُبْضةُ كفِّي أَي قدر ما تَقْبضُ عليه قال تعالى عن السامري : ( قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) (طه:96) أَراد من تراب أَثَر حافِر فرَس الرسول ، والقابِضُ في أَسماء الله تعالى هو الذي يُمْسِكُ الرزق وغيره من الأشياء عن العِبادِ بِلُطْفِه وحِكمته ويَقْبِضُ الأَرْواحَ عند المَمات بأمره وقدرته ، والله يَقْبضُ ويبسُط يُضَيِّقُ ويُوَسِّع ، يُضَيِّقُ على قوم ويُوَسِّع على آخرين ، وقبضه تعالى وإمساكه وصف حقيقي لا نعلم كيفيته ، نؤمن به علي ظاهره وحقيقته ، لا نمثل ولا نكيف ولا نعطل ولا نحرف ، فالإيمان بصفات الله فرع عن الإيمان بذاته والقول في صفاته كالقول في ذاته ، ولأننا ما رأينا الله وما رأينا له مثيلا ، فالله أعلم بكيفية قبضه وبسطه أو إمساكه وأخذه ، ولا داعي للتأويل الذي انتهجه المتكلمون بكل سبيل ، فنؤمن بما أخبر الله بلا تمثيل ولا تعطيل ، وعلى هذا في جميع الصفات والأفعال ، قال تعالى : ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (الزمر:67) ورد عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبُي مُوسَى الأَشْعَرِيُّ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ جَاءَ مِنْهُمُ الأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ وَالأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْلُ(26/11)
وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ) .
واسم الله القابض يدل علي ذات الله وعلي صفة القبض من صفات الفعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة القبض وحده بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والقوة والعظمة والإرادة والمشيئة وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله القابض دل علي صفة من صفات الفعل .
كيف ندعو الله باسمه القابض دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ وأعوذ بك مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا .(26/12)
أما دعاء العبادة فاعتقاد العبد ويقينه أن الخالق الرازق هو الله ، وأنه الوحيد الذي يركن إليه ويتوكل عليه ، فالصادق في توحيده لاسم الله القابض ، لا يحمد مخلوقا ولا يذمه لأجل أنه أعطاه أو منعه ، لأنه يعلم يقينا أن الله عز وجل هو المعطي الأوّل قبل إجراء الأسباب على أيديهم ، وهو القابض الباسط ، فلم يشكر من كان سببا في رزقه إلا لأن الله مدحهم وأمره بشكرهم ، وإن ذم الذين كانوا سببا في منع رزقه أو مقتهم ، فلأجل مخالفتهم لله وموافقتهم لهوى أنفسهم ، فالله عز وجل مدح المنفقين وذم الممسكين ، ( الذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبُخْل وَمَنْ يَتَوَل فَإِنَّ اللهَ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيد ُ) (الحديد:24) ( وَلا يَحْسَبَنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلهِ هُوَ خَيْراً لهُمْ بَل هُوَ شَرٌّ لهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) (آل عمران:180) ، فحسن التوكل على الله من آثار الإيمان بتوحيد الله في اسمه القابض ، وسبب في الفرج وسعة الرزق لأنه الباسط .(26/13)
الاسم السابع والثمانون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الباسط ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما في الأحاديث التي وردت في اسم الله المسعر : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) وقد ورد الوصف في قوله تعالى : ( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (البقرة:245) ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) (الشورى:27) ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (الإسراء:30) ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (الشورى:12) ، وعند مسلم من حديث أَبِى مُوسَى أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) .(26/14)
الباسط فعله بسَط يبسُط بَسطاً فانبَسَطَ ، والبَسْطُ نقيض القَبْضِ ، وأَرض مُنْبَسطة مستويَة وانبسَط الشيءُ على الأَرض امتد عليها واتسع ، وتبَسَّط في البلاد أَي سار فيها طولاً وعَرْضاً ، وبسَط الشيءَ نشره وعند البخاري من حديث أَنَسٍ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : اعْتَدِلُوا فِي السُّجُودِ ، وَلاَ يَبْسُطْ ذِرَاعَيْهِ كَالْكَلْبِ ) ، وبَسِيطُ الوجهِ يعني مُتَهَلِّلٌ ، والبَسِيطُ هو الرجل المُنبَسِط اللسان ، وبسط فلان يده بما يحب ويكره ، وبسَط إِليَّ يده بما أُحِبّ وأَكره ، بسطُها يعني مَدُّها قال تعالى : ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) (المائدة:28) ، بسط اليد في الأصل مدها ، وبسط الكف يستعمل على أنواع ، تارة للطلب نحو قول الله تعالى : (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ) (الرعد:14) وتارة الأخذ نحو : ( وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ ) (الأنعام:93) ، وتارة للصولة والضرب ، قال تعالى : ( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) (الممتحنة:2) ، وقوله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَي اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (المائدة:11) ، وتارة للبذل والإعطاء نحو : ( بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) (المائدة:64) وبسط اليد في حقنا ما علمنا معلوم المعنى والكيفية أما في حق الله فمعلوم المعنى مجهول الكيفية .(26/15)
الباسِطُ في أَسماء الله تعالى هو الذي يَبْسُطُ الرزق لعباده بجُوده ورحمته ، ويوسّعه عليهم ببالغ حكمته كما قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (سبأ:39) ( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ) (الشورى:27) .
واسم الله الباسط يدل علي ذات الله وعلي صفة البسط من صفات الفعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة البسط وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والقوة والعظمة والإرادة والمشيئة وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله الباسط دل علي صفة من صفات الفعل.
كيف ندعو الله باسمه الباسط دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة دعاء المسألة كما ورد عند أحمد وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ وأعوذ بك مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا .(26/16)
أما دعاء العبادة فهو أثر الإيمان بالاسم على الموحد فأعلاه بسط الإيمان حيث يفرح بتوفيق الله ويثق في وعد بالنجاة ، وأن رحمته واسعة مبسوطة على العباد ، فيبادرة العبد إلى الزيادة الإيمانية المستمرة بإقباله على اللَّه ، فالله يقبض القلوب بإعراضها ، ويبسطها بإقبالها ، والبسط الحقيقي من جهة التوفيق الإلهي للعبد في بلوغه درجة الإيمان ، فالبسط على هذا نور ينبسط على القلب يخلقه اللَّه فيه ، قال تعالى : ( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (التغابن:11) ، والله عز وجل قرن بسط الرزق بالإيمان ، ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96) فعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ ، وفي صحيح مسلم من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ مِنَ الْمَسْجِدِ يَتَوَضَّأُ ، وَبَقِىَ قَوْمٌ ، فَأُتِىَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ ، فَضَمَّ أَصَابِعَهُ فَوَضَعَهَا فِي الْمِخْضَبِ ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ، قُلْتُ كَمْ كَانُوا قَالَ ثَمَانُونَ رَجُلاً .(26/17)
الاسم التاسع والثمانون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الرازق ، فقد سماه به النبي صلي الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما في الأحاديث التي وردت في اسم الله المسعر : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) ، وكذلك ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى : ( قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (المائدة:114) والآية لم نعتمد عليها في إثبات الاسم لأنه لم يرد مطلقا وإنما الاعتماد على ما صح في السنة ، وقد ورد وصف الرزق في آيات كثيرة ، كما في قول الله تعالى : ( وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (البقرة:212) وقوله : ( وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (آل عمران:27) ، وعند مسلم من حديث جَابِرٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقِ اللَّهُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، وعند البخاري من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ وَيُجْعَلُ لَهُ الْوَلَدُ ثُمَّ هُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ ) .(26/18)
والرازق في اللغة اسم فاعل ، فعله رَزَقَ يرزُق رَزْقاً ورِزْقاً ، والرِّزْقُ هو ما يُنْتَفعُ به وجمعه أَرْزاق ، والرَّزق هو العَطَاء ، وهو مصدر قولك رَزَقَه الله ، واسْتَرْزَقَه يعني طلب منه الرِّزق ، وقد يسمى المطر رزقاً لأَن الرِّزْق يكون على أثره ناتجا عنه ، وقوله تعالى : ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ ) (الواقعة:82) أَي شُكرَ رزقكم مثل قولهم مُطِرنا بنَوْءِ الثُّريا أو بنوء كذا وكذا ، والأَرزاقُ نوعانِ : ظاهرة كالأَقْوات للأَبدان ، وباطنة للقلوب والنُّفوس كالمَعارفِ والإيمان ، والرازِقُ في أسماء الله الحسنى هو الذي يرزق الخلائق أَجمعين ، وهو الذي قدر أرزاقهم قبل خلق العالمين ، وهو الذي تكفل باستكمالها ولو بعد حين ، فلن تموت نفس إلا باستكمال رزقها كما أخبرنا الصادق الأمين ، فعند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِىَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِى الطَّلَبِ خُذُوا مَا حَلَّ وَدَعُوا مَا حَرُمَ ) ، فالرازق اسم يدل على وصف الرزق المقارن للخلق في التقدير الأزلي وكذا الميثاقي ، فالله قدر خلقهم ورزقهم معا قبل وجودهم وكتب أرزاقهم في الدنيا والآخرة قبل إنشائهم ، فهو الوصف العام المتعلق بعموم الكون في عالم الملك والملكوت .
واسم الله الرازق يدل علي ذات الله وعلي صفة الرزق وعمومها بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة الرزق وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والقوة والعظمة والإرادة والمشيئة والسيادة والأحدية والغني والصمدية وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله الرازق دل علي صفة من صفات الفعل .(26/19)
كيف ندعو الله باسمه الرازق دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قوله تعالى : ( قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) (المائدة:114) وفي صحيح مسلم من حديث مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أنه قَالَ : ( جَاءَ أعرابي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَلِّمْنِي كَلاَمًا أَقُولُهُ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَالحَمْدُ لِلهِ كَثِيرًا ، سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ، قَالَ : فَهَؤُلاَءِ لِرَبِّى فَمَا لي ؟ قَالَ : قُلِ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وارحمني وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي ) ، وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ ، فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ ، قَالَ : أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ في سِقَائِهِ ، وَتَمْرَكُمْ في وِعَائِهِ ، فَإِنِّي صَائِمٌ ، ثُمَّ قَامَ إِلَي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ ، فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ ، فَدَعَا لأُمِّ سُلَيْمٍ ، وَأَهْلِ بَيْتِهَا ، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ لِي خُوَيْصَةً ، قَالَ : مَا هِي قَالَتْ خَادِمُكَ أَنَسٌ ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلاَ دُنْيَا إِلاَّ دَعَا لِي بِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا وَبَارِكْ لَهُ ، فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الأَنْصَارِ مَالاً .(26/20)
أما دعاء العبادة فهو أثر الاسم في سلوك العبد فتوحيده لله في اسمه الرازق يقتضي إفراد بتقدير الأرزاق والعطاء والتوكل عليه في الشدة والرخاء ، اعتقادا منه أنه لا خالق إلا الله ولا مدبر للكون سواه ، وأن الذي يرزق بأسباب قادر على أن يرزق من غير أسباب طالما أنه الخالق الرازق المدبر ، لا يطمع العبد في سواه ولا يرجو إلا إياه ، ولا يشهد في العطاء إلا مشيئته ، ولا يرى في المنع إلا حكمته ، ولا يعاين في القبض والبسط إلا قدرته ، عند ذلك حقق العبد توحيد الله في اسمه الرازق .
الاسم التسعون من أسماء الله الحسني هو اسم الله الرزاق ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في بعض النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما ورد في قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (الذريات:58) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ قَالَ غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا :يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) .(26/21)
الرزاق مبالغة من اسم الفاعل الرازق ، فعله رزق يرزق رزقا ، والاسم منه الرزق ، وهو العطاء المتجدد الذي يأخذه صاحبه في كل تقدير يومي أو سنوي أو عمري ، فالرزاق هو الذي يتولى تنفيذ المقدر في الرزق والذي يخرجه في السماوات والأرض في السماوات لأنه مقضي مكتوب وفي الأرض لأنه سينفذ لا محالة ، ولذلك قال الله تعالى عن الهدهد الموحد : ( أَلا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) (النمل:26) فالرزق مكتوب في السماء في القضاء قبل أن يكون واقعا مقدورا في الأرض ( وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ) (الذريات:22) ( وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (العنكبوت:60) فالله يتولاها لحظة بلحظة تنفيذا للمقسوم في سابق التقدير ( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) (هود:6) فالرزاق هو الذي يتولى تنفيذ الأرزاق لحظة بلحظ فهو كثير الإنفاق الرزاق مبالغة في قسمة الأرزاق ، رزق الخلائق عليه فليس لهم اعتماد في الرزق إلا عليه ، ضمن رزقهم وسيؤديه كما وعد ، ودورهم فقط أن يعبدوه ولا يشركوا به أحدأ : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (الذاريات:57) فالأرزاق مقسومة لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ ، وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله(26/22)
عليه وسلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم : ( قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) ، ويكفي في معرفة التفصيل قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا ) (الطلاق:3) وفي هذا بيان أن الذي قدره من الرزق على العموم والإجمال سيتولاه في الخلق على مدار الوقت والتفصيل ، فهو الرزاق الخلاق وهو على كل شيء قدير : ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الشورى:12) .
واسم الله الرزاق يدل علي ذات الله وعلي صفة الرزق وخصوصها في كل مخلوق بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة الرزق وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والقدرة والقوة والعظمة والإرادة والمشيئة والسيادة والأحدية والغني والصمدية وغير ذلك من صفات الكمال واسم الله الرزاق دل علي صفة من صفات الفعل .(26/23)
كيف ندعو الله باسمه الرزاق دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة قريبة من دعاء الله باسمه الرازق كما قال عن إبراهيم : ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) (البقرة:126) ( وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) (إبراهيم:37) وأيضا كما ورد عند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ ، وَلْيَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، لاَ مُكْرِهَ لَهُ ) ، وعند البخاري من حديث زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ أنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ : ( اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً في سَبِيلِكَ ، وَاجْعَلْ مَوْتِي في بَلَدِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ) ، وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا ) .(26/24)
أما دعاء العبادة ، فثقة العبد في أن الرزق سيصله حيث كان وإنما كان السعي لوقوع الأحكام على المحكوم وعند أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة : ( إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَخْلاَقَكُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَكُمْ أَرْزَاقَكُمْ وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِى الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ وَلاَ يُعْطِى الإيمان إِلاَّ مَنْ أَحَبَّ ) ، فالعبد يثق في الرزق وينفق ولا يخف من ذي العرش إقلالا ، روى البزار والطبراني وصححه الشيخ الألباني ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بلال وعنده صبرة من تمر فقال : ( ما هذا يا بلال ؟ قال : شيء ادخرته لغد ، أو أعد ذلك لأضيافك فقال : أما تخشى أن يفور له بخار في نار جهنم يوم القيامة أنفق يا بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالا ) ، ألا ترى الطير لا تملك خزائن لقوتها ، وليس لها من الرزق إلا ما قدره الله بسعيها ، روى الترمذي وقال حسن صحيح ، من حديث عُمَرَ بن الخطاب قال: سَمِعْتُ رَسُول اللهِ يَقُولُ: (لوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلتُمْ عَلى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلهِ ، لرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصاً ، وَتَرُوحُ بِطَاناً ) .(26/25)
وقد وكل الله ملكين ينزلان من السماء يدعوان لكل منفق وعلى كل ممسك ، فعند البخاري من حديث أَبي هُريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إِلاَّ مَلكانِ يَنزِلانِ فيقولُ أحدُهما: اللهمَّ أعطِ مُنفِقاً خَلفا ، ويَقولُ الآخَرُ: اللّهمَّ أعطِ مُمسِكاً تلفاً ) ، فحسن التوحيد في اسم الله الرزاق يجعل العبد على يقين أن الرزق سيأتيه ، وقد أخبر اللّه تعالى أنه هو الرزاق ، كما أنه الخالق المحيي المميت ، فقرن بين هذه الأربع في موضع واحد مع ترتيب الحكمة والقدرة ، فقال سبحانه وتعالى : ( اللّه الذي خَلقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ) (الروم:4) فكما أن الله هو وحده الخالق المحي المميت ، فكذلك هو وحده الرزاق ، وإنما ذكر اللّه تعالى الأسباب لأن الأسماء تتعلق بها وأحكام الشرع عائدة عليها بالثواب والعقاب ، وقد روي الإمام مسلم بسنده عن رَسُولُ اللهِ صلي الله عليه وسلم أنه قال: ( عَجَبًا لأمْرِ المُؤْمِنِ ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلهُ خَيْرٌ ، وَليْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا للمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ ، فَكَانَ خَيْرًا له ) فالله اجعلنا ممن قلت فيهم ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) (الزمر:18) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(26/26)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة التاسعة
24معطي قريب مجيب شاكر شكور
( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (فاطر:1) ( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُو السَّمِيعُ البَصِيرُ ) (الشورى:11) ( رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَل تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ) (مريم:65) ( لِلذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلهِ المَثَلُ الأَعْلَى وَهُو العَزِيزُ الحَكِيمُ ) (النحل:60) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) ، أما بعد .
فحديثنا عن أسماء الله الحسنى نبدؤه اليوم بالاسم السادس والسبعين في ترتيب الأسماء التي نحصيها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .(27/1)
الاسم السادس والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المعطي ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في غير نص من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في الحديث المتفق عليه عند البخاري ومسلم من حديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ، وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَي مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ) ، وفي رواية أخرى عند البخاري ذكر الوصف بدلا من الاسم : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، أَو حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ ) ، وقد ذكر الوصف أيضا في رواية أخري عند البخاري من حديث الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَهْو عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ، وروى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث الْحَسَن بْن عَلِىٍّ رضي الله عنهما أنه قَالَ عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي الْوِتْرِ ، أوفِي قُنُوتِ الْوِتْرِ : ( اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ وَقِنِي(27/2)
شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلاَ يُقْضَي عَلَيْكَ وَإِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ ) .
والمعطي أصل فعله عطا عطَوْت عطوا ، والعطو هو التناول والعَطاءُ ، والعَطِيَّة اسمٌ لما يُعْطَي وجمعها عَطايا وأَعْطِيَة وجمعُ جَمع الأعطية أَعْطِياتٌ ، والعطاء إعطاء المال ، والعَطاء أَصله اللفظي عَطاو بالواو لأَنه من عَطَوْت إِلا أَنَّ العرب تَهْمِزُ الواو والياء إِذا جاءتا بعد الأَلف ، تول الواو همزة لأنها أفضل في النطق والحركة ، فهم كانوا يستثقلون الوقف على الواو والياء ، ويقال اسْتَعْطَى وتَعَطَّي يعني سأَل العَطاءَ ، واسْتَعْطَى الناسَ بكَفِّه اسْتِعْطاءً طَلَب منهم وسأَلَهم ، وإِذا أَردْتَ من زَيدٍ أَن يُعْطِيكَ شيئاً تقولُ : هل أَنتَ مُعْطِيَّه ؟ .(27/3)
والله المعطي هو الذي أعطى كل شيء خلقه وتولى أمره ورزقه في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى عن موسى عليه السلام وهو يصف عطاء الربوبية : ( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) (طه:50) ، وقال الله عز وجل عن عطاء الآخرة : ( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (هود:108) وعطاء الله قد يكون عاما أو خاصا ، فالعام للخلائق أجمعين ، والخاص للأنبياء والمرسلين وصالح المؤمنين ، فمن العطاء العام قوله تعالى : ( كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) (الإسراء:20) والعطاء هنا هو تمكين العبد من الفعل ومنحه القدرة والاستطاعة كل على حسب رزقه وقضاء الله وقدره ، أما العطاء الخاص فهو كاستجابة دعاء الأنبياء والصالحين من الأولياء ، كما في هذا الدعاء والعطاء في قصة سليمان عليه السلام : ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَو أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (صّ:39) ، وكذلك في دعاء زكريا : ( وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) (الأنبياء:89) ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً) (مريم:5) ( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ) (مريم:7) ، وفي عطاء الله للمؤمنين في الآخرة : ( جَزَاءً(27/4)
مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً ) (النبأ:36) .
واسم الله المعطي يدل علي ذات الله وعلي صفة العطاء من صفات الفعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة العطاء وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم القدرة والغني والعزة والقوة والعظمة ، والمشيئة والحكمة والسيادة والصمدية ، وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله المعطي دل علي صفة من صفات الفعل .
كيف ندعو الله باسمه المعطي دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة ورد في صحيح مسلم من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ : ( رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمِلْءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ أَهْلَ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ ) ، فهنا دعاء الله بالوصف الذي دل عليه الاسم ، ويجدر التنبيه على أمر هام ذكره العلامة ابن القيم في دعاء الله بالأسماء المتقابلة حيث قال : ( السابع عشر أن أسماءه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا ومقترنا بغيره وهو غالب الأسماء فالقدير والسميع والبصير والعزيز والحكيم وهذا يسوغ أن يدعى به مفردا ومقترنا بغيره فتقول يا عزيز يا حليم يا غفور يا رحيم وأن يفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه بما يسوغ لك الإفراد والجمع ، ومنها ما لا يطلق عليه بمفرده بل مقرونا بمقابله كالمانع والضار والمنتقم فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو ، فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفو المعز المذل لأن الكمال في اقتران كل اسم من هذه بما يقابله لأنه يراد به أنه المنفرد بالربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم عطاء(27/5)
ومنعا ونفعا وضرا وعفوا وانتقاما ، وأما أن يثنى عليه بمجرد المنع والانتقام والإضرار فلا يسوغ فهذه الأسماء المزدوجة تجري الأسماء منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه عن بعض فهي وإن تعددت جارية مجرى الاسم الواحد ولذلك لم تجيء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فاعلمه فلو قلت يا مذل يا ضار يا مانع وأخبرت بذلك لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلها ) ، وهذا الكلام فيه نظر فقد يصح لو ثبتت هذه الأسماء ، ولكن لم يثبت مما ذكر في كلامه غير المعطي والعفو ، فليس من أسمائه الضار ولا النافع ولا المنتقم ولا المانع ولا المعز ولا المذل ، فالقاعدة التي ذكرها مبينة على أسماء لا دليل عليها .
أما دعاء العبادة فهو تعلق القلب بالمتوحد في عطائه والتعفف عن سؤال غيره أو دعائه ، قال تعالى : ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (البقرة:273) ، وقد ورد عند البخاري من حديث الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رضي الله عنه أن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ ) .(27/6)
كما أن المسلم ينبغي أن يكون معطاء ولا يخشى الفقر ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ في شَهْرِ رَمَضَانَ إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ يَلْقَاهُ في كُلِّ سَنَةٍ في رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَة ِ، وعند أحمد من حديث أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَأَتَى قَوْمَهُ فَقَالَ أي قَوْمِ أَسْلِمُوا فَوَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّداً لَيُعْطِى عَطَاءَ مَنْ لاَ يَخَافُ الْفَاقَةَ ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَجِيءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا يُرِيدُ إِلاَّ الدُّنْيَا فَمَا يُمْسِى حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ أَوْ أَعَزَّ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا ، وفي سنن أبى داود وصححه الشيخ الألباني من حديث مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الأَيْدِي ثَلاَثَةٌ فَيَدُ اللَّهِ الْعُلْيَا وَيَدُ الْمُعْطِى التي تَلِيهَا وَيَدُ السَّائِلِ السُّفْلَى فَأَعْطِ الْفَضْلَ وَلاَ تَعْجِزْ عَنْ نَفْسِكَ ) .(27/7)
الاسم السابع والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله القريب ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ، ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُو أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) (هود:61) ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (البقرة:186) ( قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) (سبأ:50) .(27/8)
والقريب اسم يدل على صفة القرب والقُرْبُ في اللغة نقيضُ البُعْدِ ، قَرُبَ الشيءُ يَقْرُبُ قُرْباً وقُرْباناً أَي دَنا فهو قريبٌ ، والقرب في اللغة على أنواع : منه ، قرب المكان كقوله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ) (التوبة:28) ، وعند البخاري من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمر بفأرة ماتت في سمن ، فأمر بما قرب منها فطرح ثم أكل ، وقرب الزمان : نحو قوله تعالى : ( وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ) (الأنبياء:109) ، وقد يكون القرب في الزمان ، كما ورد عند ابن ماجة وصححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذَا قَرُبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ ) ، وقد يكون القرب في النسب والأهل نحو قوله تعالى : ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ ) (النساء:7) ، وقرب المكانة والمنزلة ، نحو قوله تعالى : ( فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ) (الواقعة:88/89) .(27/9)
والله عز وجل قريب من خلقه أقرب إليهم من حبل الوريد : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (قّ:16) ، فهو قريب بمعنى عليم بالسرائر يعلم ما تكنه الضمائر ، قريب بالعلم والقدرة وهذا عام في الخلائق أجمعين ، وقريب باللطف والنصرة وهذا خاص بالمؤمنين ، وهو أيضا قريب من عبده بقرب بملائكته الذين يطلعون على سره ، ويصلون إلى مكنون قلبه ، وهو أيضا قريب من فوق عرشه فجميع خلقه بالنسبة إليه كخردلة وضعت للإنسان في إحدى يديه ، روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه أنه قال : ( ما السموات السبع والأرضون السبع في يد الله إلا كخردلة في يد أحدكم ) ، وروى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال : ( ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة بأرض فلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ) .
واسم الله القريب يدل علي ذات الله وعلي صفة القرب بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة القرب بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية ، والسمع والبصر ، والعلم والقدرة ، والمشيئة والإرادة ، والإحاطة والإجابة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله القريب دل علي صفة من صفات الذات والأفعال معا .(27/10)
كيف ندعو الله باسمه القريب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة ، كقوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) (البقرة:186) وفي المسند وصححه الألباني من حديث ابْنِ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : ( اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ وَلاَ هَادِىَ لِمَا أَضْلَلْتَ وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ وأعوذ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَ منا ) .
أما دعاء العبادة فهو أثر الاسم على سلوك العبد فيبتغي من ربه القرب حسب ما وهو محدد من قبل الرب ، فعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَي عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَي مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَي بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ ) .(27/11)
فيبادر بالتوبة من قريب ولا يؤخرها كما قال تعالى : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) (النساء:17) ، ورواه الطبراني في الأوسط وقال صحيح لغيره الشيخ الألباني من حديث أنس رضي الله عنه ( قيل يا رسول الله من يحرم على النار قال الهين اللين السهل القريب ) ، وعند ابن ماجة وحسنه الشيخ الألباني من حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَقِيمُوا حُدُودَ اللَّهِ في الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ في اللَّهِ لَوْمَةُ لاَئِمٍ ) ، ( وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (التوبة:99) ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ) (الإسراء:57) ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) (سبأ:37) .(27/12)
الاسم الثامن والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المجيب ، فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في موضعين من النصوص القرآنية وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُو أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ) (هود:61) ( وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ) (الصافات:75) وقد ورد الوصف في قوله تعالى : ( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ) (النمل:62) ، ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (يونس:89) ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (غافر:60) ، وعند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الاِسْتِعْجَالُ قَالَ : ( يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ) .(27/13)
وعند البخاري في الأدب المفرد وقال الألباني : صحيح لغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( إن الرحم شجنة من الرحمن تقول يا رب إني قطعت يا رب إني أسيء إلي يا رب إني ظلمت يا رب فيجيبها ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ) .
والمجيب اسم فاعل للموصوف بالإجابة فعله أجاب يجيب إجابة ومثله جاوب مجاوبة على المشاركة ، والإجابة المحاورة في الكلام ورد السؤال ، وعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قالت : ( وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْهُمْ دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ ) ، وكذا إجابة المحتاج بالعطية والنوال ، وإعطاء الفقير عند السؤال ، فللمجيب معنييان إجابة السائل بالعلم ، وإجابة النائل بالمال ، والمُجِيب في أسماء الله تعالى هو الذي يُقابِل السؤالَ والدُّعاء بالقَبُول والعَطاء ، وهو اسْمُ فاعلٍ من أجاب يُجيب ، والله هو المجيب الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، وكل الخلائق قوامها عليه مفتقرة إليه ، ( يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (الرحمن:29) ، فجميع الخلائق تصمد إليه وتعتمد عليه ، وشرط إجابة الدعاء صدق الإيمان والولاء فالله حكيم في إجابته قد يعجل أو يؤجل على وفق السؤال أو بالأفضل لواقع الحال أو المصير والمآل لكن الله تعالى يجيبهم لا يخيب ظن أحد من عباده .
واسم الله المجيب يدل علي ذات الله وعلي صفة الإجابة من صفات الفعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلي صفة الإجابة بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم والقدرة والسمع والبصر والمشيئة والإرادة ، والغني والإحاطة ، والقوة والحكمة ، والعزة والصمدية وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله المجيب دل علي صفة من صفات الفعل .(27/14)
كيف ندعو الله باسمه المجيب دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة عند البخاري من حديث عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) ، وروى أبو داود وحسنه الألباني من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : شكي النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُحُوطَ الْمَطَرِ فَأَمَرَ بِمِنْبَرٍ فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَكَبَّرَ صلى الله عليه وسلم وَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ قَالَ : إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ دِيَارِكُمْ وَاسْتِئْخَارَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَدْعُوهُ وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ .
وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لِسَعْدٍ إِذَا دَعَاكَ ) وعند الطبراني في الكبير قيل لسعد بن أبي وقاص متى أصبت الدعوة قال ثم يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فأضع السهم في كبد القوس أقول : اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم وافعل بهم وافعل فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : اللهم استجب لسعد .(27/15)
وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ ) .
أما دعاء العبادة ، وروى الترمذي وصححه الألباني من حديث النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه أنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال في قَوْلِهِ تعالى : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) ، قَالَ : الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ، وَقَرَأَ : ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ) (غافر:60) ، ( لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ) (الرعد:18) ( اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ) (الشورى:47) ( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (الأحقاف:31) .(27/16)
ويجب على المسلم أن يكون هينا لينا قريبا من إخوانه مجيبا لدعوتهم ولنا في رسول الله أسوة ، وعند الطبراني في الكبير وصححه الألباني من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس على الأرض ويأكل على الأرض ويعتقل الشاة وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ على خبز الشعير ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ سِتُّ خِصَالٍ يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ وَيَشْهَدُهُ إِذَا مَاتَ وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ وَيَنْصَحُ لَهُ إِذَا غَابَ أَوْ شَهِدَ ) ، وثبت عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال : ( إن أهل النار يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ثم يقول إنكم ماكثون ثم يدعون ربهم فيقولون ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون فلا يجيبهم مثل الدنيا ثم يقول اخسؤوا فيها ولا تكلمون ثم ييأس القوم فما هو إلا الزفير والشهيق تشبه أصواتهم أصوات الحمير أولها شهيق وآخرها زفير .(27/17)
الاسم التاسع والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الشاكر فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في موضعين من النصوص القرآنية وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي :( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَو اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:158) ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ) (النساء:147) ، وورد إثبات الوصف في صحيح البخاري أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ، وفي صحيح البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ .(27/18)
والشكر هو الثناء الجميل على الفعل الجليل حتى لو كان قليلا ، ومجازاة الإحسان بالإحسان ، فعله شكر له يشكر شكرا ، والشاكر اسم فاعل للموصوف بالشكر ، والله شاكر يجازي العباد على أعمالهم ويزيد لهم في أجورهم ، فيقابل شكرهم بزيادة النعم في الدنيا وواسع الأجر في الآخرة ، وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ ، لَوْ أَسَاءَ ، لِيَزْدَادَ شُكْرًا ، وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إِلاَّ أُرِىَ مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، لَوْ أَحْسَنَ ، لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً ) ، والله عز وجل يقول : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُون ِ) (البقرة:152) ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) (إبراهيم:7) ، والله سبحانه شاكر يرضى بأعمال عباده وإن قلت ، وهذا تكريم لهم حيث يقبل منهم أقل من حقه عليهم ، ويتفضل بمضاعفة مالهم من أجر ويمحو بمشيئته ما عليهم من وزر ، وعند أحمد وصححه الشيخ الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيت فلانا يشكر يذكر أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْنِ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن فلانا قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ فما شكر وَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَسْأَلُنِي الْمَسْأَلَةَ فَأُعْطِيهَا إِيَّاهُ فَيَخْرُجُ بِهَا مُتَأَبِّطُهَا وَمَا هي لَهُمْ إِلاَّ نَارٌ ، قَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ تُعْطِيهِمْ قَالَ : إِنَّهُم يَأْبَوْن إِلاَّ أَنْ يَسْأَلُونِي وَيَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ ) .(27/19)
واسم الله الشاكر يدل علي ذات الله وعلي صفة الشكر بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى صفة الشكر وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم السمع والبصر ، والكرم والرحمة واللطف والرأفة الغنى والسعة ، وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله الشاكر دل علي صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الشاكر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما ورد في قول سليمان عليه السلام : ( فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) (النمل:19) ( وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الأحقاف:15) .(27/20)
أما دعاء العبادة فتوحيد العبد لربه في اسمه الشاكر يوجب عليه شكر الله على نعمه السابغة وشكر الناس على إحسانهم له فعند أبى داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لاَ يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ ) ، وعند أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ الْفُسَّاقَ هُمْ أَهْلُ النَّارِ ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : وَمَنِ الْفُسَّاقُ ؟ قَالَ : النِّسَاءُ ، قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَسْنَ أُمَّهَاتِنَا وَأَخَوَاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا ، قَالَ : بَلَى وَلَكِنَّهُنُّ إِذَا أُعْطِينَ لَمْ يَشْكُرْنَ وَإِذَا ابْتُلِينَ لَمْ يَصْبِرْنَ ) ، وفي سنن الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث ثَوْبَانَ قَالَ لَمَّا نَزَلَتِ (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ) قَالَ كُنَّا مَعَ النبي صلى الله عليه وسلم في بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أُنْزِلَ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَا أُنْزِلَ لَو عَلِمْنَا أي الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ فَقَالَ أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ وَقَلْبٌ شَاكِرٌ وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ تُعِينُهُ عَلَى إِيمَانِهِ ) .(27/21)
الاسم الثمانون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الشكور فقد سمي الله نفسه به علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالي : ( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ) (فاطر:30) ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) (فاطر:34) ، ( إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) (التغابن:17) .
والشكور في اللغة على وزن فعول من صيغ المبالغة ، فالشكور فعول من الشكر وأصل الشكر في الكلام الظهور ، والشكور هو الذي يزكو عنده القليل من أعمال العباد فيضاعف لهم الجزاء ، وشكره لعباده مغفرته لهم ، والشكر من الله تعالى إثابته الشاكر على شكره ، فجعل ثوابه للشكر وقبوله للطاعة شكرا على طريقة المقابلة ، حقيقة الشكر الثناء على المحسن بذكر إحسانه ، فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكره وذكر إحسانه إليه ، وشكر الحق سبحانه للعبد ، ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه ، ثم إن إحسان العبد طاعته لله تعالى ، وإحسان الحق إنعامه على العبد بالتوفيق للشكر له .
واسم الله الشكور يدل علي ذات الله وعلي صفة الشكر بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن صفة الشكر وحدها بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والعلم السمع والبصر ، والكرم والرحمة واللطف والرأفة الغنى والسعة ، وغير ذلك من صفات الكمال ، واسم الله الشكور دل علي صفة من صفات الأفعال .(27/22)
كيف ندعو الله باسمه الشكور دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في اسمه الشاكر ( رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ) (النمل:19) .
أما دعاء العبادة فيستوجب شكر الله بالقلب واللسان والجوارح ، فالشكر في حق العبد ثلاثة أضرب : شكر القلب وهو تصور النعمة ، والاعتراف بها إلى المنعم ، والعزم على طاعته ، وعند مسلم من حديث صهيب الرومي ، أن رسول الله قال : ( عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ) ، وشكر اللسان هو الثناء على المنعم بفضله ، وفي صحيح مسلم من حديث ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ قَالُوا هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا ، وشكر سائر الجوارح ، وهو مكافأة النعمة بفعل الجوارح ، من خلال خضوعها واستجابتها لأمره ونهيه ، قال تعالى : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) (سبأ:13وذلك تنبيه على أن الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح ، ومثله قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُلوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا للهِ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) (البقرة:172) ، فشكر النعمة آداء العبادة بالقلب واللسان والجوارح ، وفي صحيح البخاري من حديث الْمُغِيرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ إِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيَقُومُ(27/23)
لِيُصَلِّىَ حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ أَو سَاقَاهُ ، فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا .
( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (لقمان:12) ، ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56) ، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك .(27/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح الأسماء الحسنى الدالة علي صفات الفعل
المحاضرة الثامنة
23 مقدم مؤخر حكم وكيل نصير
الحمد لله الذي يغفر الذنب ويعفو عن الزلل ، تنزه مولانا عن النقص والعلل ، سبحانه من إله عظيم خلق كل شيء بحكمته وعدل ، عز بقدرته وعزته فامتنع ، وعلا بذاته وشانه فارتفع ، وذل كل شيء لعظمته وخضع ، وأمسك السماء عن الأرض أن تقع ، وفرش الأرض فانبسط سهلها واتسع ، ووهب ونزع ، وضر ونفع ، وأعطى ومنع ، وسن وشرع ، وخص وجمع ، إلهنا إله عظيم تواب ، غفور وهاب ، ( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ) (الرعد:13) ، وأشهد ألا إله إلا الله ، وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد وسوله ، أشرف الأنبياء والمرسلين ، وآخر نبي للخلق أجمعين ، وصاحب المقام عند مجيء رب العالمين ، فاللهم صلي عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن سار على دربهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد .
فحديثنا عن أسماء الله الحسنى نبدؤه اليوم بالاسم الواحد والسبعين في ترتيب الأسماء التي نحصيها من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم(28/1)
الاسم الواحد والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المقدم ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في غير نص من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في الحديث المتفق عليه عند البخاري والمسلم من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ .. إلى أن قال اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ ، وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ ، وَبِكَ خَاصَمْتُ ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) ، وعند البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ : ( رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي وَجَهْلِي وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي كُلِّهِ ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَاي وَعَمْدِي وَجَهْلِي وَهَزْلِي ، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، وَأَنْتَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ) .(28/2)
واسم الله المقدم لم يرد في القرآن وإنما ورد وصف الفعل في قوله تعالى : ( قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ ) (قّ:28) ولكن اشتقاق الاسم من الفعل مرجعيته إلى النص وليس إلى اجتهاد الشخص ، ولذلك فإن ثبوت اسم الله المقدم يرجع لوروده في الأحاديث ، وأيضا في صحيح مسلم من حديث عَلِي بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ إِلَي الصَّلاَةِ قَالَ : ( وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ... قال على رضي الله عنه : ثُمَّ يَكُونُ مِنْ آخِرِ مَا يَقُولُ بَيْنَ التَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ وَمَا أَسْرَفْتُ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) .(28/3)
والْمُقَدِّمُ في اللغة من التقديم ، فعله قدَّمَ يقَدَّم كما في قوله صلى الله عليه وسلم : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ) وقَدَمَ يَقْدُم وتَقَدَّمَ يَتَقَدَّمُ واسْتَقْدَم يَسْتَقدِم بمعنى واحد ، وعند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ) ، والقَدَم كلُّ ما قدّمْتَ من خير أو شر ، وتَقَدَّمَتْ لفُلان فيه قَدَمٌ ، أي تَقَدُّم في خير وشرٍّ ، والقَدَمُ والقُدْمةُ ، السَّبْقَةُ في الأمر ، ( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) (يونس:2) ، ومعنى قدم صدق يعني عملاً صالحاً قدّموه ، يقال : لفلان قَدَمُ صِدْقٍ أَي أَثرَةٌ حَسَنة ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الحجرات:1) ، قال الزجاج: معناه إِذا أُمرتم بأَمر فلا تفعلوه قبل الوقت الذي أُمرتم أَن تفعلوه فيه ، ويقول تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ) (الحجر:24) قيل معناه ، لقد علمنا المستقدمين منكم في طاعة أو من يأْتي منكم أَولاً إِلى المسجد ومن يأْتي متأَخراً ، أو من يتقدم من الناس على صاحبه في الموت .(28/4)
والتقديم والتأخير من أنواع التدبير الذي يتعلق بفعل الرب أو فعل العبد ، فالتقديم والتأخير المتعلق بتدبير الله ينقسم إلى نوعين ، نوع كوني وآخر شرعي ، فالتقديم الكوني تقدير الله في خلقه وتكوينه وفعله ، كما ورد ذلك في قوله تعالى : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (يونس:49) ، وقوله : ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (النحل:61) ، وقوله : ( قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ) (سبأ:30) ، وأيضا من التدبير الكوني في التقديم ، اصطفاء الحق لمن شاء من خلقه ، وتقديم بعض خلقه على بعضه ، بناء على حكمته في ابتلاء المخلوقات ، ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (آل عمران:33) وقوله عن مريم : ( وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران:42) وقوله عن طالوت : ( قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (البقرة:247) .(28/5)
أما التقديم الشرعي فهو متعلق بمحبة الله لفعل دون فعل ، وتقديم بعض الأحكام على بعض ، لما تقتضيه المصلحة التي تعود على العباد ، كما في سنن النَسائي وصححه الشيخ الألباني من حديث الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه أَنَّ نَبِي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ بِمَدِّ صَوْتِهِ وَيُصَدِّقُهُ مَنْ سَمِعَهُ مِنْ رَطْبٍ وَيَابِسٍ وَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ صَلَّى مَعَهُ ، وفي صحيح مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( لَوْ تَعْلَمُونَ أَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةً ) ، وفي سنن أبي داود وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ ) ، ولا عبرة بمن ادعى أنه لا يرغب في التقدم إلى الصف الأول بحجة أن الناس يطلبون فيه الأجر والعبادة الحق هي ما يكون بغير عوض ولا طلب للأجر ، وعند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ ، فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا إِلَيْهِ ، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ) .(28/6)
فالمُقَدِّم هو الذي يُقَدِّم الأشياءَ ويَضَعها في مواضِعها على مقتضى الحكمة والاستحقاق ، فمن اسْتَحقّ التقديمَ قدّمه ومن استحق التأخير أخره ، والله تعالى أيضا هو المقدم الذي قدم الأحباء وعصمهم من معصيته ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأنبياء تشريفا له على غيره ، وقدم أنبياءه وأولياءه على غيرهم ، فاصطفاهم ونصرهم وطهرهم وأكرهم .
واسم الله المقدم يدل علي ذات الله وعلي صفة التدبير كصفة فعل بدلالة المطابقة وعلي ذات الله وحدها بالتضمن فعل التقديم بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم الأحدية والقدرة والصمدية والغني والعزة والجلال والعظمة والعلو القوة وغير ذلك من أوصاف الكمال ، واسم الله المقدم دل علي صفة من صفات الأفعال .(28/7)
كيف ندعو الله باسمه المقدم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في الأحاديث السابقة : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، وَأَنْتَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ) ، أما دعاء العبادة ففيه يقدم العبد ما قدمه الله ، ويرقب ما قدمته يداه ، ويقدم منهج الله في هذه الحياة ، ويراعي الشرع في تقديم الأوليات ، ولا يقدم عقله وهواه على كتاب الله ، فالمرء يوم القيامة ( يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) (الفجر:24) والله يقول : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل:20) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18) .
الاسم الثاني والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله المؤخر ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية في غير نص من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما جاء في الأحاديث المتفق عليه والتي وردت في اسم الله المقدم ( أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ) ، ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، وَأَنْتَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ) .(28/8)
والاسم لم يرد في القرآن وإنما ورد الفعل في قوله تعالى : ( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ) (هود:8) ( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ ) (إبراهيم:44) ( وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) (النساء:77) ( قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء:62) ( وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (المنافقون:10) ، ولكن الاشتقاق من الفعل مرجعته إلى النص وليس إلى اجتهاد الشخص ، ولذلك فإن ثبوت اسم الله المؤخر لوروده في الأحاديث .(28/9)
والمؤخر في اللغة عكس المقدم ، يقال أخّر وتأخّر عكسها قدَّم وتقدَّم ، وعند البخاري من حديث عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعيَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَىٍّ وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ ) ، وعند البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ما سئل عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ . وعند البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا ارْتَحَلَ قَبْلَ أَنْ تَزِيغَ الشَّمْسُ أَخَّرَ الظُّهْرَ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ ، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا زَاغَتْ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَكِبَ .(28/10)
واسم الله المؤخْر ضد المِّقدم وهو الذي يُؤخّر الأشياء فَيَضَعُها في مَواضعها إما تأخيرا كونيا كما ورد عند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُمَّ أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ ، قَالَ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم : قَدْ سَأَلْتِ اللَّهَ لآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ لَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكِ مِنْ عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ ) ، أو تأخيرا شرعيا كما ورد عند مسلم من حديث أَبِي عَطِيَّةَ أنه قَالَ دَخَلْتُ أَنَا وَمَسْرُوقٌ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْنَا يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَجُلاَنِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَحَدُهُمَا يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاَةَ وَالآخَرُ يُؤَخِّرُ الإِفْطَارَ وَيُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ. قَالَتْ أَيُّهُمَا الَّذِي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ وَيُعَجِّلُ الصَّلاَةَ قَالَ قُلْنَا عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُود ، قَالَتْ كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم المزيد في اسم الله المقدم ، واسم الآخر هو الباقي بعد فناء خلقه ، والفرق بين الآخر والمؤخر أن الآخر دل على صفة من صفات الذات والمؤخر دل على صفة من صفات الفعل ، والمؤخر أيضا هو الذي يؤخر العذاب ابتلاء لعباده لعلم يتوبوا إليه كما جاء في قوله تعالى : ( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ) (إبراهيم:42) ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ(28/11)
بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) (النحل:61) ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً ) (فاطر:45) فالمؤخر هو المنزِلُ للأشياء منازلَها يقدِمُ ما يشاءُ منها ويؤخرُ ما يشاءُ بحكمتهِ .
واسم الله المؤخر يدل علي ذات الله وعلي فعل التأخير كصفة فعل بدلالة المطابقة ، ودل علي ذات الله وحدها بالتضمن وعلى فعل التأخير كصفة فعل بدلالة التضمن ويدل باللزوم علي الحياة والقيومية والسمع والبصر والعلم والمشيئة والغني والقدرة والأحدية والصمدية والجلال والعزة والعلو والعظمة ، وغير ذلك من أوصاف الكمال واسم الله المؤخر دل علي صفة من صفات الأفعال .(28/12)
كيف ندعو الله باسمه المؤخر دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في الأحاديث السابقة : ( اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ ، وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، وَأَنْتَ عَلَي كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ) ، أما دعاء العبادة ففيه يؤخر العبد ما أخره الله ، ولا يقدم منهجا على منهج الله ، ويراعي الشرع في تأخير ما أخره الله وتقديم ما قدمه ، وأمرنا أن نقف عند قوله وقول نبيه ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الحجرات:1) روي الإمام مسلم 119 عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال : ( لمَّا نَزَل قول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2) جَلسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ - وكان صوته مرتفعا في حضرة النبي صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ - جَلسَ وَقَال : أَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَسَأَل النَّبِيُّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَال ؟ يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ اشْتَكَي ؟ قَال سَعْدٌ : إِنَّهُ لجَارِي يا رسول الله ، وَمَا عَلمْتُ لهُ بِشَكْوَى قَال : فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لهُ قَوْل رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال ثَابِتٌ : أُنْزِلتْ هَذِهِ الآيَةُ وَلقَدْ عَلمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا على رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَأَنَا مِنْ أَهْل النَّارِ ، فَذَكَرَ ذَلكَ سَعْدٌ للنَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فَقَال(28/13)
رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ : بَل هُوَ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ، فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْل الجَنَّةِ ) .
الاسم الثالث والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الحكم ، فقد سماه به النبي صلى الله عليه وسلم علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية فيما ثبت عنه في السنة النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ : إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَحْسَنَ هَذَا ، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ؟ قَالَ لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْتُ : شُرَيْحٌ ، قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ .(28/14)
فالنص صريح في إثبات الاسم ، وقد ورد الوصف الذي دل عيه الاسم في القرآن ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) (الرعد:41) وكذلك في قوله : ( الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ) (الحج:56) وفي قول يعقوب عليه السلام : ( وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف:67) ، وقد ورد أن الله هو أحكم الحاكمين وليس ضمن حصرنا للأسماء لأنه مقيد بالمقارنة وأفعل التفضيل ونحن كما علمنا من شرطنا الإطلاق ، قال تعالى : ( وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (هود:45) ، ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ) (التين:8) وقد اعتبره البعض اسما ولكنه في الحقيقة وصفا .(28/15)
الحكم في اللغة هو الذي يحَكم ويفصل ويقضي في سائر الأمور ، فعله يحكم حُكْما وحَكَم له وحكم عليه والحَكَمُ ، بفتحتين هو الحاكم وحَكَّمه في ماله تحكِيماً إذا جعل إليه الحُكْمَ فيه ، واحتكموا إلى الحاكم وتَحَاكمُوا بمعنى واحد والمُحاكَمَةُ هي المخاصمة إلى الحاكم ، والله عز وجل حكم يحكم في خلقه ، وحكمه في خلقه نوعان ، حكم يتعلق بالتدبير الكوني وآخر يتعلق بالتدبير الشرعي ، فالذي يتعلق بالتدبير الكوني كقوله : ( قَال رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ المُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ ) (الأنبياء:112) أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك ، ومثال الحكم الكوني أيضا : ( قُل إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الحُكْمُ إِلا للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلينَ ) (الأنعام:57) ومثال الحكم الكوني أيضا : ( وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالذِي أُرْسِلتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) (الأعراف:87) ، أما الحكم الشرعي فمثاله ما جاء في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ أُحِلتْ لكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلى عَليْكُمْ غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ) (المائدة:1) ومثال الحكم الشرعي : ( وَمَا اخْتَلفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلى اللهِ ذَلكُمُ اللهُ رَبِّي عَليْهِ تَوَكَّلتُ وَإِليْهِ أُنِيبُ ) (الشورى:10) ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلكَ وَمَا أُولئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ ) (المائدة:43) .(28/16)
واسم الله الحكم يدل على ذات الله وعلى الحكم والقضاء كصفة فعل بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى الحكم كصفة فعل بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية والمشيئة والإرادة ، والسمع والبصر ، والعلم والقدرة ، والعزة والعظمة ، والعدل والحكمة ، والغنى والقوة ، وكل ما يلزم من صفات الكمال واسم الله الحكم دل على صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الحكم دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قوله تعالى : ( قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) (الزمر:46) ، وعند مسلم من حديث أبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ : سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ بِأَي شَيءٍ كَانَ نَبِي اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْتَتِحُ صَلاَتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ قَالَتْ كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلاَتَهُ اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .(28/17)
أما دعاء العبادة ، فهو أثر الاسم على إيمان الشخص ، فلا يبتغي حكما يحكم له في منهج حياته إلا الله كما قال تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) (يوسف:40) وقال أيضا عن اليهود : ( وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) (المائدة:43) وقال تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم ( أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) (الأنعام:114) ،(28/18)
روي البخاري أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزبيرَ بن العوام رضي الله عنه 2187 فِي شِرَاجِ الحَرَّةِ التِي يَسْقُونَ بِهَا النَّخْل ، اختلفا على قناة الماء التي تروي أرضهما ، فَقَال الأنصاري سَرِّحِ المَاءَ يَمُرُّ فَأبي عَليْهِ - وكانت أرض الزبير قبل أرضه والماء يمر أولا على نخله - فَاخْتَصَمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ ، فَقَال رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ للزُّبَيْرِ اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِل المَاءَ إلي جَارِكَ ، فَغَضِبَ الأنصاري وَقَال أَنْ كَانَ ابْنَ عَمَّتِكَ - أي حكمت لصالحه من أجل قرابته - فَتَلوَّنَ وَجْهُ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ وغضب ، فقَال اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حتى يَرْجِعَ إلي الجَدْرِ - ويعني اسق حتى يغطي الماء أصول نخلك ويبلغ إلي مقدار الكَعْبَيْنِ ولا عليك منه - فاسْتَوْعَى للزُّبَيْرِ حَقَّهُ فِي صَرِيحِ الحُكْمِ ، فَنزل قول الله تعالى : ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا ) .(28/19)
الاسم الرابع والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله الوكيل ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في كثير من النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه كما جاء في قوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران:173) وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه الاسم على سبيل الإطلاق معرفا بالألف واللام ، وقال تعالى : ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (النساء:81) ، وقال أيضا : ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (النساء:132) ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ) (المزمل:9) ( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ) (الإسراء:65) ، أما الاسم في حال التقييد والإضافة فهو كقوله تعالى : ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) (الأنعام:102) وكقوله أيضا : ( قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ) (يوسف:66) ( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيل ٌ) (الزمر:62) .(28/20)
وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أنه قَالَ : كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِىَ فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له الناس : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران:173) .
وعند مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ أن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فيمن تكلم في المهد : ( وَبَيْنَا صَبِي يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ ، فَقَالَتْ أُمُّهُ اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا فَتَرَكَ الثَّدْي وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْتَضِعُ .. قَالَ : وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ سَرَقْتِ ، وَهِي تَقُولُ حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، فَقَالَتْ أُمُّهُ : اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا ، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا ..إلي أن قالَ : إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا زَنَيْتِ وَلَمْ تَزْنِ ، وَسَرَقْتِ وَلَمْ تَسْرِقْ ، فَقُلْتُ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا ) .(28/21)
وعند الترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) .
والوَكِيل في اللغة هو القَيِّم الكَفِيل الذي تكفل بأرْزَاق العِبَاد ، وحَقِيقة الوكيل أنه يَسْتَقل بَأَمْر المَوْكُول إليه ، يقال : تَوَكَّلَ بالأَمْر إذا ضَمِنَ القِيام به ، وَوَكَّلت أمْرِي إلى فلان أي ألْجَأته إليه ، واعْتَمدت فِيه عَلَيه ، وَوَكَّل فُلان فُلاناً إذا اسْتَكفاه أَمْرَه ، إما ثقةً بِكفايَتِه أو عَجزاً عن القيام بأمر نفسه ، والتوكل يقال على وجهين ، يقال : توكلت لفلان ، بمعنى توليت له وتعهدته ، وعند البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي ، أن النبي : (من توكل لي ما بين رجليه ، وما بين لحييه ، توكلت له بالجنة ) ، وعند البخاري من حديث أبى هريرة ، أن رسول اللَّه قال : ( مثل المجاهد في سبيل اللَّه ، واللَّه أعلم بمن يجاهد في سبيله كمثل الصائم القائم ، وتوكل اللَّه للمجاهد في سبيله أن يدخله الجنة ، أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة ) .
الوجه الثاني : وكلته فتوكل لى وتوكلت عليه ، بمعنى اعتمدته قال الله تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ) الطلاق/3] ، وربما يفسر الوكيل بالكفيل ، والوكيل أعم ، لأن كل كفيل وكيل ، وليس كل وكيل كفيلا ، وعند الترمذى وصححه الألبانى من حديث عن عمر بن الخطاب أن رسول اللَّه : ( لو أنكم كنتم توكلون على اللَّه حق توكله ، لرزقتم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا ) .(28/22)
واسم الله الوكيل يدل على ذات الله وعلى صفة التدبير والتوكل بالخلائق كصفة فعل بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة التدبير والتوكل بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والسمع والبصر والعلم والقدرة ، والعزة والعظمة ، والعدل والحكمة والغنى والقوة وكل ما يلزم من صفات الكمال واسم الله الوكيل دل على صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه الوكيل دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في قوله تعالى : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) (آل عمران:173) وروى أبو داود وحسنه الشيخ الألباني من حديث أَبِى بَكْرَةَ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ ) ، وفي مستدرك الحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة من حديث أنس رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة : ( ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث وأصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا ) .(28/23)
أما دعاء العبادة فعلم العبد ويقينه أن الله قد ضمن اللَّه الرزق ولا يتواكل عن طلبه بل يأخذ بأسبابه تحرزا من الطمع وفساد القلب ، فلا يضيع حق الزوجة والولد ، برغم أن أرزاقهم على اللَّه ، والذي يفعل ذلك تارك للسبيل والسنة ، لأن درجات التوكل ومراحله ثلاث درجات يجب على الموحد ألا يقلل من شأنها ولا يأخذ بواحدة ويدع الأخرى : الدرجة الأولى هي توجه القلب إلى اللَّه على الدوام ، لعلمه أن اللَّه على كل شيء قدير ، وهو يعطى ويمنع ، فالقدرة كلها له ، يحكم في خلقه بأمره ما شاء وكيف شاء ، أما الأسباب فهي كالآلة بيد الصانع هو الذي يسيرها ويدبرها ويوفق من أخذ بها أو يخذله ، الدرجة الثانية في التوكل هي توجه الجوارح إلى الأسباب ، فقد أثبت اللَّه الأسباب وآثارها لمعاني الحكمة في تصريفه الأشياء وتقليبها على سبيل الابتلاء ، وإيقاع الأحكام على المحكوم وعودة الجزاء على الظالم أو المظلوم بالعقاب أو الثواب ، ليكون المتوكل قائما بأحكام الشرع ، ملتزما بمقتضى العطاء والمنع ، فالله عز وجل أمرنا بالسعي ، فلا يضر التصرف والتكسب في المعايش لمن صح توكله على اللَّه ، ولا يقدح في منزلته عند الله ، الدرجة الثالثة في التوكل هي التسليم والرضا واليقين بسابق التقدير والقضاء ، لأن الاستسلام لقضاء اللَّه وقدره يكون بعد الأخذ بالأسباب ، ولا يأتي قبلها وإلا كان تواكلا وهو مرفوض ، والعبد وقتها يكون على حسن اليقين وجميل الصبر وحقيقة الرضا ، فتسكن القلوب عند النوازل والبلاء وتطمأن النفوس إلى حكمة الابتلاء ، لاعتقادهم أن الله هو الوكيل الذي يدبر الخلائق كيف شاء ( وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ) (النساء:132) .(28/24)
الاسم الخامس والسبعون من أسماء الله الحسنى هو اسم الله النصير ، فقد سمي الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وسماه به رسوله صلى الله عليه وسلم في النصوص النبوية ، وقد ورد المعني محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالى : ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (الأنفال:40) وقوله : ( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (الحج:78) وقال تعالى : ( وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً ) (النساء:45) ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) (الفرقان:31) ( إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ) (التوبة:116) .
وعند أبي داود والترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) .(28/25)
وفي دلالة الاسم على الصفة ورد قوله تعالى : ( وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ ) (الصافات:116) ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (آل عمران:160) ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (محمد:7) ( بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ) (آل عمران:150) .
والنصير في اللغة من النصرة ، نَصَرَهُ على عدوه ينصره نَصْراً ، والاسم النُّصْرَةُ والنَّصِيرُ ، وجمعه أَنْصَارٌ كشريف وأَشراف ، والنَّصِير فعيل بمعنى فاعِل أَو مفعول لأَن كل واحد من المتَناصِرَيْن ناصِر ومَنْصُور ، وقد نصَره ينصُره نصْراً إِذا أَعانه على عدُوّه ، واسْتَنْصَرَهُ على عدوه سأله أن ينصره عليهم ، وتَنَاصَرَ القوم نصر بعضهم بعضا ، وانْتَصَرَ منه انتقم منه ، وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ : تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ ) وتفسيره أَن يمنَعه من الظلم إِن وجده ظالِماً ، وإِن كان مظلوماً أَعانه على ظالمه ، وعند النسائي وحسنه الشيخ الألباني من حديث بَهْزَ بْنَ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ مُحَرَّمٌ أَخَوَانِ نَصِيرَانِ ) ، والله هو النصير الذي يعين المستضعفين وينصر المظلومين .(28/26)
واسم الله النصير يدل على ذات الله وعلى صفة النصر والتأييد بدلالة المطابقة ، وعلى ذات الله وحدها بالتضمن ، وعلى صفة النصر بدلالة التضمن ، ويدل باللزوم على الحياة والقيومية ، والسمع والبصر ، والعلم والقدرة ، والعزة والعظمة ، والعدل والحكمة ، والغنى والقوة والعلو والكبرياء ، وكل ما يلزم من صفات الكمال واسم الله النصير دل على صفة من صفات الأفعال .
كيف ندعو الله باسمه النصير دعاء مسألة ودعاء عبادة ؟ دعاء المسألة كما في سنن أبي داود والترمذي وصححه الشيخ الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا غَزَا قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) .(28/27)
أما دعاء العبادة فأثر الاسم على العبد أن ينصر الله ورسوله ودينه وحزبه ، لعلمه أن الله هو النصير ينصر من نصره ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) (محمد:7) ( إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون َ) (آل عمران:160) ، ويجب على العبد أن يكون نصره مع صبره مقترنان وألا ييأس من النصر مهما طال الصبر ، يقول تعالى : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ) (الحج:15) وقد روي البخاري أن قريشا في صلح الحديبة ألزمت رسول الله بأشياء لم يرغب فيها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقَال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم : أَلسْتَ نَبِيَّ اللهِ حَقًّا ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَال : إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلسْتُ أَعْصِيهِ يا عمر وَهُوَ نَاصِرِي ، قُلتُ : أَوَليْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَال : بَلي ، لكن هل أَخْبَرْتُكَ أَنَّا سنَأْتِيهِ هذا العَامَ ؟ فقَال عمر : لا ، فحثه الرسول على الصبر وقَال مبشرا له : فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِهِ ، قَال عمر بن الخطاب : فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلتُ : يَا أَبَا بَكْرٍ أَليْسَ هَذَا نَبِيَّ اللهِ حَقًّا فقَال أبو بكر : بَلي ، قال عمر : أَلسْنَا على الحَقِّ وَعَدُوُّنَا على البَاطِل ؟ قَال : بَلي ، قُلتُ : فَلمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذًا ؟ قَال : أَيُّهَا الرَّجُلُ(28/28)
إِنَّهُ لرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَليْسَ يعصى رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللهِ إِنَّهُ على الحقِّ قُلتُ : أَليْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي البَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ قَال : بَلي أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ ستَأْتِيهِ هذا العَامَ ؟ قُلتُ : لا ، قَال : فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَّوِّفٌ بِه ) ، فالله ناصر من ينصره وكفى به قديرا وكفى به بصيرا وكفى به عليما خبيرا وكفى به هاديا ونصيرا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .(28/29)
بسم الله الرحمن الرحيم
خاتمة تتعلق بالأسماء الحسنى
المحاضرة الثانية
30أحب أسماء العباد إلى الله
الحمد لله الذي أسبغ النعم ، وأبرأ النسم ، وأوجد الخلق بعد العدم ، حكمته في خلقه تاهت في فهمها عقول ذوي الحكم ، جعل خلقه مختلفين بحكمة الابتلاء ، وكلفهم أن يعتصموا بحبله الذي نزل من السماء ، ومن هنا تعددت المذاهب والمعتقدات والآراء ، حكمة منه سبحانه في إظهار مقتضى الكمال في الأسماء ، وظهور كمال أوصافه لسائر لعقلاء ، إذا نظروا إلى حكمة الله سبحانه في خلقه الأشياء ، فقال سبحانه وتعالي : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين َ) (هود:119) ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فاللهم اجزه خير ما جازيت به نبيا عن أمته ورسولا عن رسالته أما بعد ..(29/1)
فحديثنا اليوم بإذن الله تعالى يدور حول أحب أسماء العباد إلى الله ، وما تعبدوا به إلي من تسمى بها ، فهذا يدخل تحت دعاء العبادة ورغبة الإنسان في أن يتقرب إلى الله بتسمية وله عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد القدوس أو عبد السلام ، فقد ثبت أن هذه من أحب الأسماء إلى الله روى أبو داود وصححه الشيخ الألباني من حديث ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( أَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ) ، وليس هذين الاسمين فقط هما أحب الأسماء إلى الله ، بل كل من تعبد لاسم من أسماء الله الثابتة يدخل في ذلك ، فذكر هذين الاسمين إشارة إلى بقية الأسماء كما ورد في قوله تعالى : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (الإسراء:110) ، قال الإمام القرطبي : ( يلتحق بهذين الاسمين ما كان مثلهما كعبد الرحيم وعبد الملك وعبد الصمد وإنما كانت أحب إلى الله ، لأنها تضمنت ما هو وصف واجب لله وما هو وصف للإنسان وواجب له وهو العبودية ) فأحب الأسماء إلى الله ما تعبدوا به ، والسؤال الآن : هل كل أسماء الله التي ثبتت بنص الكتاب والسنه تعبد الناس بها لربهم ؟ وما هي الأسماء الحسنى التي لم يتعبد أحد بها في اسمه غالبا ؟ لكي يتشرف من يسمى ولده بالعبودية لها ؟ وما الحكم فيمن سمى نفسه أو ولده بأسماء وردت في أسماء الله الحسنى كتسميتهم بمحسن وسيد وجميل ورفيق وطيب وغير ذلك من الأسماء ؟(29/2)
ونبد أولا بالجواب عن السؤال الأول : هل كل أسماء الله التي ثبتت بنص الكتاب والسنه تعبد الناس لله بها ؟ في الحقيقة الإجابة عن هذا السؤال تتطلب استقصاء شاملا لأسماء الناس جميعا ، وهذا يستحيل عقلا وفعلا ، ولكن سوف نجري حصرا لمن عبد لله بالأسماء الثابتة من رواة الحديث وأصحاب الطبقات والمشاهير في مختلف الموسوعات التي نزلت في أقراص مدمجة حتى الآن كالموسوعات التي أنتجتها مؤسسة التراث والموسوعات التي أنتجتها صخر وحرف ، وبواسطة الكمبيوتر وتقنية البحث العالية وسرعتها الفائقة في إظهار النتائج لأكثر من ألفي مرجع في ثوان معدودة ، كانت النتيجة أن ثمانية وسبعين اسما تعبد الناس بها لربهم في تسميتهم أولادهم ، وواحدا وعشرين اسما لم يتعبد بالإضافة إليها أحد ممن جاء في مجال البحث ، ولنرى الآن من تسمى بالتعبد لأسماء الله الحسنى التي أحصيناها وفق منهجنا في حصر الأسماء ، وسوف نذكرهم اسما اسما حسب الترتيب الأبجدي ، فنبدأ بأول اسم وهو اسم الله الأحد فهل تسمى أحد بعبد الأحد ، نعم تسمى به عبد الأحد بن الليث بن عاصم ، من رواة الحديث روى عن أبي شجاع سعيد بن يزيد ، وعبد الملك بن جريج وعثمان بن الحكم الجذامي ، وكان رجلا صالحا ، وتوفي سنة إحدى عشرة ومئتين ، طبعا الشخص يوم ولادته لا دخل له في تسميته ولكن والده غالبا يتخير له أحب الأسماء وأفضلها ويمكن لأي شخص أن يغير اسمه متى شاء وإن كانت فيها مشقة إلى حد ما ، وقال البخاري : باب اسْتِحْبَابِ تَغْيِيرِ الاِسْمِ الْقَبِيحِ إِلَى حَسَنٍ وَتَغْيِيرِ اسْمِ بَرَّةَ إِلَى زَيْنَبَ وَجُوَيْرِيَةَ وَنَحْوِهِمَا ، وفي صحيح مسلم من حديث زَيْنَبُ بِنْتُ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : كَانَ اسْمِي بَرَّةَ فَسَمَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَيْنَبَ ، قَالَتْ : وَدَخَلَتْ عَلَيْهِ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَاسْمُهَا بَرَّةُ فَسَمَّاهَا زَيْنَب ،(29/3)
وقد ثبت في سنن أبي داوود وصححه الشيخ الألباني من حديث شريح بن هَانِئٍ أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ ، فَقَالَ إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِيَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ؟ قَالَ لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ : فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْتُ : شُرَيْحٌ ، قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ .(29/4)
ننتقل إلى الاسم التالي وهو عبد الآخر ، لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف غالبا ، أما عبد الأعلى فقد تسمى به عبد الأعلى بن عدى البهراني القاضي وهو من رواة الحديث من الطبقة الوسطى من التابعين ، مات سنة أربع ومائة ، وروى له أبو داود في المراسيل ، والنسائي ، وابن ماجة وقد ذكره أبو نعيم على أنه صحابي وهو وهم ، وعبد الأكرم تسمى به عبد الأكرم بن أبى حنيفة الكوفي من الذين عاصروا صغار التابعين ، وهو شيخ مقبول كما مرتبته عند ابن حجر ، وشيخ مستور كما هي مرتبته عند الذهبي ، روى له ابن ماجة في سننه قال : حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِىٍّ قال : أَخْبَرَنِي أَبِى عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ الأَكْرَمِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدٍ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَكَثْنَا ثَلاَثَ لَيَالٍ لاَ نَقْدِرُ أَوْ لاَ يَقْدِرُ عَلَى طَعَامٍ ، قال الشيخ الألباني : ضعيف ، وعبد الإله ولم أجد ممن تسمى عبد الإله غير جد السيد العلامة الفهامة عثمان بن على بن محمد بن عبد الإله بن احمد الوزير ، وكان سيدا تقيا ورعا ألمعيا إماما في الفروع حاكما مفتيا متين الديانة والعبادة ، مات عثمان بصنعاء في جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة وألف ، وورد عبد الإله بالوصف لا بالاسم كما ورد عند البيهقي في سننه من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رضي الله عنه أنه قَالَ : قَالَ لِي أُمَيَّةُ وَأَنَا أَمْشِى مَعَهُ : يَا عَبْدَ الإِلَهِ مَنِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ مُعْلَمٌ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ ؟ فَقُلْتُ : ذَاكَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ . فَقَالَ : ذَاكَ فَعَلَ بِنَا الأَفَاعِيلَ .(29/5)
أما عبد الأول تسمى به الإمام أبو الوقت عبد الأول عيسى بن شعيب السجزي مات سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة 553 ، وعبد البارئ تسمى به عبد البارئ بن إسحاق ، وهو ممن روى عنهم البيهقي في شعب الإيمان عن عبد البارئ بن إسحاق عن عمه أبي الفيض ذي النون بن إبراهيم قال : ثلاثة من علامات السنة المسح على الخفين والمحافظة على صلوات الجمع وحب السلف ، وعبد الباسط تسمى به الشيخ زين الدين عبد الباسط بن أحمد المكي المتوفى سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة ، نظم كتاب غاية المطلوب في قراءة خلف وأبى جعفر ويعقوب لابن عياش عبد الرحمن الدمشقي ، وعبد الباطن ، لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف غالبا ، وعبد البر ، تسمى به جد العلامة ابن عبد البر وهو أبو عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر ، صاحب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد ، وعبد البصير تسمى به أبو محمود عبد البصير ابن أبي نصر الضراب من أهل هراة ، سمع أحمد إسماعيل ابن أبي عمرو الهروي ، توفي بهراة إحدى وأربعين وخمسمائة ، عبد التواب ، مع شهرته في عصرنا إلا أنه لم يتسم به أحد في مجال بحثنا ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف غالبا ، وعبد الجبار ، من رواة الحديث روى عنه مسلم في صحيحه قال : حَدَّثَنِا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْعَلاَءِ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيَّ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَمْزَةَ أَخْبَرَنِي أَبُو غَطَفَانَ الْمُرِّيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَشْرَبَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَائِمًا فَمَنْ نَسِىَ فَلْيَسْتَقِيْ ، وعبد الجميل لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك ، وعبد الجواد ، تسمى به عبد الجواد بن أحمد قال صاحب(29/6)
الإرشاد : شيخ ثقة كان بالدينور سمع زيد بن إسماعيل الصائغ وأقرانه روى عنه ابن السني وقد لقيت جماعة حدث عنه منهم أحمد بن علي بن لال الهمذاني ، وعبد الحسيب ، لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد الحفيظ لم يتسمى به أحد من رواة الحديث إلا أنني وجدته قد ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون كجد لمن شرح قصيدة للبوصيري قال : شرحها الفقيه محمد بن عبد الملك بن عبد السلام بن عبد الحفيظ بن عبد الله اليمني ، وعبد الحق تسمى به عبد الحق بن خلف بن عبد الحق أبو محمد الدمشقي ويلقب بالضياء ، وكان مشهورا بالخير والصلاح ، توفي في العشرين من شعبان سنة إحدى وأربعين وستمائة ، وعبد الحكم بن ذكوان السدوسي البصري من الطبقة السادسة الذين عاصروا صغار التابعين روى له ابن ماجة حديثا واحدا ، عن عبد الحكم السدوسى ، عن شهر بن حوشب عن أبى أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من شر الناس عند الله يوم القيامة ، عبدا أذهب آخرته بدنيا غيره ، وهو حديث ضعيف كما ذكر الشيخ الألباني .(29/7)
وعبد الحكيم ، تسمى به عبد الحكيم بن بْنُ مَنْصُورٍ الْوَاسِطِيُّ روى له الإمام الترمذي في سننه قال : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَكِيمِ بْنُ مَنْصُورٍ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : قِتَالُ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ كُفْرٌ وَسِبَابُهُ فُسُوقٌ ، والحديث قَالَ عنه أَبُو عِيسَى حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ، وعبد الحليم بن محمد بن أبي القاسم بن الخضر بن محمد ابن تيمية الشيخ الإمام شمس الدين بن الشيخ فخر الدين سمع الحديث من ابن كليب وابن المعطوش وابن الجوزي وغيرهم ثم رحل إلى بغداد وأقام بها مدة طويلة وقرأ الفقه والأصول والخلاف والحساب والهندسة ومات في سادس شوال سنة ثلاث وستمائة .
عبد الحميد تسمى به ، عبد الحميد بن جبير بن شيبة بن عثمان بن أبى طلحة القرشي من رواة البخاري قال حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ : كَانَ يَنْفُخُ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ .(29/8)
وكذلك عبد الحي وكذلك الحي فمن ذلك العلامة المتأخر أبو الحسنات محمد عبد الحي اللكنوي الهندي المتوفى سنة أربع وثلاثمائة والف صاحب ظفر الأماني في مختصر الجرجاني ، أما عبد الحيي ، لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف غالبا ، وعبد الخالق تسمى به أبو روح البصري عبد الخالق بن سلمة الشيباني ، من الطبقة السادسة الذين عاصروا صغار التابعين وهو ثقة مقل كما ذكر ابن حجر والذهبي ، وعبد الخبير تسمى به عبد الخبير بن قيس بن ثابت الأنصاري من الطبقة السادسة الذين عاصروا صغار التابعين مجهول الحال عند ابن حجر وقال البخاري : ليس حديثه بقائم ، وعبد الخلاق ، تسمى به عبد الخلاق بن منصور ، قال الخطيب البغدادي ، أخبرنا على بن الحسين أخبرنا عبد الرحمن بن عمر الخلال حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبد الخلاق بن منصور قال قلت لابن الرومي سمعت بعض أصحاب الحديث يحدث بأحاديث يحيى بن معين ويقول حدثني من لم تطلع الشمس على أكبر منه فقال وما تعجب سمعت على بن المديني يقول ما رأيت في الناس مثله ، عبد الديان ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف ، وعبد الرؤوف لم يتسم به أحد من رواة الحديث ، لكن صاحب فيض القدير الروض النضير شرح الجامع الصغير ، الشيخ عبد الرؤوف محمد المناوي المصري المتوفى سنة ثلاثين والف تقريبا من الشهرة بمكان .(29/9)
وعبد الرازق روى عنه ابن خزيمة في صحيحه قال : حدثنا محمد بن أبي رافع وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم قال أنبأنا عبد الرازق أخبرنا معمر عن أيوب عن القاسم بن محمد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إن العبد إذا تصدق من طيب تقبلها الله منه وأخذها بيمينه فرباها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله ، عبد الرزاق بن همام بن نافع أبو بكر الحميري أخرج البخاري له أحاديث كثيرة منها حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ : مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ ، قال البخاري مات عبد الرزاق بن همام سنة إحدى عشرة ومائتين ، وعبد الرب هل تسمى أحد من السلف بهذا الاسم ، جاء في كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ، باب من روى عنه العلم ممن يسمى عبد الرب وذكر ثلاثة أسماء ، عبد الرب بن كناز السلمي روى عن عثمان بن أبى العاص وروى عنه أبو عيسى الخراساني ، وعبد الرب البصري ، وعبد الرب الدمشقي ، وعبد الرحمن تسمى به كثير ، وعلى رأسهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو من العشرة المبشرين بالجنة ، هاجر الهجرتين وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين ، وعبد الرحيم تسمى به أبو زياد المحاربي الكوفي عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن محمد أخرج البخاري له في كتاب مواقيت الصلاة قال حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ الْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى(29/10)
نِصْفِ اللَّيْلِ ، ثُمَّ صَلَّى ثُمَّ قَالَ : قَدْ صَلَّى النَّاسُ وَنَامُوا ، أَمَا إِنَّكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا انْتَظَرْتُمُوهَا ، مات سنة إحدى عشرة ومائتين ، وعبد الرفيق ، وعبد الرقيب ، وعبد السبوح ، وعبد الستير ، فلم يتسم بها أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد السلام أبو بكر عبد السلام بن حرب أخرج البخاري عنه في المغازي والطلاق قال : حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ حَرْبٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ حَفْصَةَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ ، قال البخاري مات سنة ست أو سبع وثمانين ومائة ، وعبد السميع تسمى به أبو العز عبد السميع بن عبد العزيز بن غلاب الواسطي المقرئ سمع أبا طالب ابن الكتاني ، وقرأ القرآن الكريم بالروايات على أبي الفضل هبة الله بن علي بن قسام وحدث وأقرأ بواسط وكان فرضيا ، توفي في رمضان من سنة ثمان عشرة وستمائة ، وعبد السيد واسم الله السيد تعبد بالإضافة إليه أبو نصر عبد السيد بن محمد بن الصباغ الشافعي صاحب كتاب تذكرة العالم والطريق السالم في أصول الفقه توفى سنة سبع وسبعين وأربعمائة ، وعبد الشافي ، وعبد الشاكر لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف ، وعبد الشكور عبد الشكور جد عبيد الله بن واصل بن عبد الشكور الحافظ الإمام البطل الكرار أبو الفضل البخاري محدث بخارى رحل وأكثر عن أبي الوليد الطيالسي وعبدان بن عثمان ويحيى بن يحيى وغيرهم واستشهد في وقعة خوكنجة سنة اثنتين وسبعين ومائتين ، وعبد الشهيد فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف ،(29/11)
وعبد الصمد تسمى به أبو سهل عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد أخرج البخاري له في العلم وغير موضع من صحيحه ، مات سنة سبع ومائتين ، وعبد الطيب جاء في كتاب المسند المستخرج على صحيح الإمام مسلم لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن إسحاق الأصبهاني قال : ( وكتب يوسف بن خليل عن عبد الله أنه سمع جميع هذا الجزء علي الشيخ الأجل الصدر الرئيس الأصيل المسند نجيب الدين أبي الفرج عبد الطيب بن عبد المنعم بن علي الحراني حرسه الله ) ، وعبد الظاهر كان والدا القاضي علاء الدين المعروف بابن عبد الظاهر بن محمد السعدي المتوفى سنة سبع عشرة وسبعمائة وله رسالة تسمى مراتع الغزلان ، وعبد العزيز تسمى به عبد العزيز بن مسلم ممن روى عنهم الإمام البخاري في كتاب الذبائح حيث قال حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : الضَّبُّ لَسْتُ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ ، مات عبد العزيز سنة سبع وستين ومائة ، وعبد العظيم ، تسمى به عبد العظيم بن حبيب روى عن الزبيري الفهري أبي بكر الحمصي ، من رواة الحديث ، وقال الدارقطني ليس بثقة وفي لسان الميزان لم يكن بالقوي في الحديث ، وعبد العفو ، لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف غالبا ، وعبد العلي جاء في معجم الطبراني الكبير حدثنا عبد العلي بن أحمد بن عبد الله بن الفضل الحميدي حدثنا زيد بن الحباب حدثنا شعبة عن قتادة عن أبي السوار العدوي عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول ) ، وعبد العليم شرف الدين أبى القاسم بن عبد العليم اليمنى الحنفي صاحب كتاب قلائد عقود الدرر والعقيان في مناقب(29/12)
أبى حنيفة النعمان ، وعبد الغفار تسمى به أبو صالح الحراني عبد الغفار بن داود بن مهران سكن مصر ومات سنة أربع وعشرين ومائتين روى عنه البخاري وأبو داود في سننه وغيرهما قال أبو داود : حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْفٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ دَاوُدَ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ مِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحْوِيلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ ، قال الشيخ الألباني عن هذا الحديث حديث صحيح ، وعبد الغفور بن عبد العزيز روى عنه الدار القطني قال حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى الصُّوفِيُّ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ الْقُرَشِيُّ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ عَنْ عَبْدِ الْغَفُورِ عَنْ أَبِى هَاشِمٍ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِىٍّ قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً طَلَّقَ الْبَتَّةَ فَغَضِبَ وَقَالَ : تَتَّخِذُونَ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا - أَوْ دِينَ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا - مَنْ طَلَّقَ الْبَتَّةَ أَلْزَمْنَاهُ ثَلاَثًا لاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، قال الشيخ الألباني حديث موضوع ، وعبد الغني تسمى به الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري ، قال السيوطي في تدريب الراوي : ( النوع التاسع والخمسون المبهمات أي معرفة من أبهم ذكره في المتن أو الإسناد من الرجال والنساء ، صنف فيه الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري ، وعبد الفتاح أبو بكر الهروي ، عبد الفتاح بن إسماعيل ابن عبد الله ابن أبي عمرو الهروي من أهل هراة شيخ من أهل الخير سمع الإمام أبا إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري وتوفي(29/13)
بهراة ليلة الخميس ودفن من الغد السادس عشر من شعبان سنة أربعين وخمسمائة ، وعبد القابض فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف ، وعبد القادر تسمى به عبد القادر بن عبد الله الحافظ أبو محمد الرهاوي سمع على أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي سنن ابن ماجه وعلى نصر بن سيار جامع الترمذي ومات في ثاني جمادى الأولى سنة اثنتي عشر وستمائة ، وعبد القاهر أبو رفاعة عبد القاهر بن السري السلمي البصري من كبار أتباع التابعين الطبقة السابعة للرواة ، روى عنه أبو داود قال : حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبِرَكِيُّ وَسَمِعْتُهُ مِنْ أَبِى الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيِّ وَأَنَا لِحَدِيثِ عِيسَى أَضْبَطُ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِيِّ السُّلَمِيَّ قال حَدَّثَنَا ابْنُ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ ، وهذا الحديث بروايته هذه ضعفه الألباني لكن المتن ثابت في الصحيح ، وعبد القدوس عبد القدوس بن الحجاج أبو مغيرة الخولاني الحمصي أخرج البخاري عنه قال حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِى رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، قال البخاري مات سنة اثنتي عشرة ومائتين ، وعبد القدير ، وعبد القريب فلم يتسم بهما أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد القهار أبو عبد القهار من رواة الحديث ، قال البخاري في الكنى سمع أنس بن مالك رضي الله عنه ، وعبد القوي تسمى به عبد القوي الفقيه أبو محمد عبد القوي بن أبي العز عزون بن(29/14)
داوود بن عزون بن الليث بن منصور الأنصاري المصري المولد والدار المقرئ الشافعي قرأ القرآن الكريم بالقراءات علي الشيخ أبي الجود غياث بن فارس اللخمي وتفقه على مذهب الإمام الشافعي رحمه الله ، وتوفي رحمه الله سنة أربعين وستمائة ودفن بسفح المقطم ، وعبد القيوم مولى أبي راشد بن عبد الرحمن أعتقه عبد الرحمن بن عبد مولاه لما أسلم ، وعبد الكبير تسمى به عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي البصري مات سنة أربع ومائتين وأخرج له الإمام مسلم قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ الْعَبْدِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْكَبِيرِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْحَكَمِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ تَذْهَبُ الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ الْجَهْجَاهُ ، والجَهْجَهَة كما جاء في اللسان صياح الأَبطال في الحرب وغيرهم ، وعبد الكريم تسمى به عبد الكريم بن مالك أبو سعيد الجزري أخرج له البخاري قال : حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّى عِنْدَ الْكَعْبَةِ لأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقِهِ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : لَوْ فَعَلَهُ لأَخَذَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ ، مات سنة سبع وعشرين ومائة ، وعبد اللطيف تسمى به أبو محمد الهروي عبد اللطيف بن عبد الرشيد بن الحسين الأديب الهروي كان فقيها أديبا حسن السيرة له سمت وسكون وكان أكابر هراة يختلفون إليه ويتعلمون منه اللغة والأدب ، وتوفي سنة ست وأربعين وخمسمائة ، وعبد المؤخر ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن(29/15)
يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف ، وعبد المؤمن ممن روى عن ولده البخاري في صحيحه قال في إحدى رواياته : حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِى ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لاَ يَقْطَعُهَا ، وعبد المالك ، جاء في المدونة الكبرى للإمام مالك قال سمعت عبد المالك بن عبد العزيز بن جريح يحدث أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : الحميل غارم ، وعبد المبين ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد المتعال ، تسمى به عبد المتعال بن طالب الأنصاري ممن روى عنهم الإمام البخاري في صحيحة حيث قال حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُتَعَالِ بْنُ طَالِبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضى الله عنه أَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ ، وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ ، وعبد المتعال قال عنه أبو زرعة الرازي هو شيخ ثقة ، وعبد المتكبر ، وعبد المتين ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد المجيب ، جد طلحة بن على بن الصقري وطلحة ممن روى عنهم البيهقي في سننه قال أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ طَلْحَةُ بْنُ عَلِىِّ بْنِ الصَّقْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُجِيبِ بِبَغْدَادَ.. إلى أن قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّىَ رَكْعَتَيْنِ ، قال : رَوَاهُ الْبُخَارِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ مَكِّي بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، وعبد(29/16)
المجيد ، تسمى به عبد المجيد بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف وهو ممن روى عنهم الإمام البخاري في صحيحة وعبد المحسن بن عبد الله بن احمد بن محمد الطوسي خطيب الموصل وابن خطيبها روى عن أبيه عن أبي الكرم ، وقال كان فاضلا صدوقا متدينا مهيبا وكانت وفاة عبد المحسن في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وست مائة ، وعبد المسعر ، وعبد المصور ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد المعطي بن محمد بن مهران القومسي الفقيه الشافعي سمع من أخيه أبي الحسن عن المنعم بن الخلوف وغيره واختل في آخر عمره مات سنة اثنتين وخمسين وست مائة بالإسكندرية ، وعبد المقتدر لكن عبد المقتدر تسمى به القاضي عبد المقتدر بن ركن الدين الشريحي سنان الدهلوي ، من أدباء الهند توفى سنة إحدى وتسعين وسبعمئة له قصيدة لامية مشهورة ، وعبد المقدم ، وعبد المقيت ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد الملك عبد الملك بن إبراهيم الجدي المكي أخرج البخاري في كتاب الشهادات مات سنة أربع أو خمس ومائتين قال أبو حاتم هو شيخ وقال أبو زرعة لا بأس به ، وعبد المليك فلم يتسم به أحد في أكثر من ألفي مرجع من المراجع الكبرى في كتب التراث التي أجرينا عليها البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم لأنه لم يسبقه أحد من السلف ، وعبد المنان ، عبد المنان بن المتلمس جرير بن عبد المسيح كان أبوه شاعرا مشهورا في الجاهلية وأدرك عبد المنان الإسلام ذكره أبو عبيد البكري في شرح الأمالي ، وعبد المهيمن روى عنه ابن ماجة قال : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى فُدَيْكٍ عَنْ عَبْدِ الْمُهَيْمِنِ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ وُضُوءَ لَهُ وَلاَ وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ(29/17)
عَلَيْهِ وَلاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُصَلِّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلاَ صَلاَةَ لِمَنْ لاَ يُحِبُّ الأَنْصَارَ ، وعبد المولى ، فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وعبد النصير بن علي بن يحيى بن رشيد الدين أبو محمد المريوطي روى كتاب المقامات للحريري عن محمد بن عماد الحراني ، وعبد الواحد أما التعبد بالتسمية لاسم الله الواحد ، فوجد بالبحث عبد الواحد بن زياد أخرج البخاري له في كتاب الإيمان والصلاة والبيوع والديات عن موسى بن إسماعيل وغيره ، مات سنة ست وسبعين ومائة ، وعبد الوارث بن سعيد أبو عبيدة الضرير البصري التنوري أخرج له البخاري ومسلم قال البخاري يرفعه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ : اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ ، مات سنة ثمانين ومائة ، وعبد الواسع تسمى به أبو روح الأزدي عبد المولى بن عبد الباقي بن محمد بن زيد الأزدي الواعظ أخو عبد الواسع من أهل هراة كان والده سبط عبد الله الأنصاري وكان واعظا له نوبة في جامع هراة ، توفي سنة نيف وثلاثين وخمسمائة ، وعبد الوتر فلم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم .(29/18)
عبد الودود تسمى به عبد الودود بن عبد المتكبر بن هارون بن محمد بن عبيد الله حدث عن أبي بكر الشافعي توفي يوم الأربعاء مستهل شعبان من سنة أربع وثلاثين وأربعمائة ، وعبد الوكيل ، لم يتسم به أحد في مجال ما أجرينا عليه البحث ، وهنا دعوة لمن أراد أن يسمي ولده بذلك الاسم ، وعبد الولي تسمى به عبد الولي والد أبي محمد تقي الدين عبد الله بن عبد الولي بن جبارة المقدسي ، قال عنه الذهبي إمام ثبت مدرس صالح عارف متبحر في الفرائض والجبر والمقابلة كبير السن توفي في العشر الأوسط من ربيع الآخر سنة تسع وتسعين وستمائة ، وعبد الوهاب أبو محمد البصرى عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي ، من الطبقة الثامنة الطبقة الوسطى من أتباع التابعين ممن روى عنهم البخاري قال حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِىُّ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِى قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ في الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ في النَّارِ ، توفي سنة : 194 هـ .(29/19)
نأتي الآن إلى السؤال الأخير : ما الحكم فيمن سمى نفسه أو ولده بأسماء وردت في أسماء الله الحسنى كتسميتهم بمحسن وسيد وجميل ورفيق وطيب ومجيب وغير ذلك من الأسماء ؟ والجواب أنه قد يتسمى المخلوق بأسماء الخالق لكن الاسم في حق الخالق يقصد به إطلاق الوصف ، أما في حق المخلوق فهو على سبيل التقييد وما يناسب وصفه ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( والله سبحانه وتعالى سمى نفسه وصفاته بأسماء ، وسمى بها بعض المخلوقات فسمى نفسه حيا عليما سميعا بصيرا عزيزا جبار متكبرا ملكا رؤوفا رحيما وسمى بعض عباده عليما وبعضهم حليما رؤوفا رحيما وبعضهم سميعا بصيرا وبعضهم ملكا وبعضهم عزيزا وبعضهم جبارا متكبرا ومعلوم أنه ليس العليم كالعليم ولا الحليم كالحليم ولا السميع كالسميع ، وهكذا في سائر الأسماء ) .
قال تعالى : ( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ) (الأنعام:95) وقال : ( قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ) (يوسف:78) . وقال : ( وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) ، وقال ( فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ) (الصافات:101) وقال تعالى : ( وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) (الذريات:28) ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) (التوبة:128) ، قال ابن كثير : ( والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ومنها مالا يسمى به غيره كاسم الله والرحمن والخالق والرازق ونحو ذلك ) .(29/20)
وعلى ذلك فلا بأس أن يسمى المسلم بمحسن أو سيد أو جميل أو رفيق أو طيب أو ما شابه ذلك على ألا يسميه بأل المستغرقة للوصف والجنس لأن الإطلاق لله وحده ، وقد تبين لنا في هذه المحاضرة أن الأسماء التي لم يتعبد بها أحد من رواة الحديث وعلماء السلف فيما وقع عليه مجال البحث في أكثر من ألفي مرجع هي اسم الله المقيت المليك الوتر الآخر الباطن التواب الجميل الحسيب الحيي الرفيق الرقيب السبوح الستير الشافي الشهيد العفو القابض القريب القدير المسعر المبين وهذه دعوة لجميع المسلمين أن يعبدوا أولادهم بهذه تقربا إلى الله وسبقا لهم عمن دونهم وإن كانت التسمية لا تكفي وحدها للمغفرة فلا بد من تصديق القلب وقول اللسان وعمل الجوارح والأركان ، فاللهم اجعل جهد من شاركنا هذا الأمر أو حضره أو استمعه في ميزان حسناته ، ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين َ) (البقرة: من الآية286) والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(29/21)
بسم الله الرحمن الرحيم
خاتمة تتعلق بالأسماء الحسنى
المحاضرة الأولي
أسماء لا تدخل تحت قواعد الحصر
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، ولا إله إلا الله ، إله الأولين والآخرين وقيوم السماوات والأرضين ، الذي لا فوز إلا بطاعته ، ولا عز إلا بالذل لعظمته ، ولا هدى إلا في التمسك بهدايته ، ولا حياة إلا في حبه وطاعته ، ولا نعيم إلا في قربه وجنته ، إله عظيم كريم عزيز رحيم ، له الأسماء الحسنى والصفات العلى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أمين الله على وحيه ، وخيرته من خلقه ، وسفيره بينه وبين عباده ، هو المبعوث بالدين القويم ، والمنهج المستقيم ، أرسله الله رحمة للعالمين ، وإماما للمتقين ، وحجة على الخلائق أجمعين ، صلى الله عليه ، وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ..
فحديثنا اليوم بإذن الله تعالى يدور حول العلة في استبعاد الكثير من الأسماء الحسنى التي اشتهرت على ألسنة العامة والخاصة ، وأخذت بالتناقل والانتشار ، ودون سند في الأخبار أو الآثار ، وهذه الأسماء أغلبها من حيث المعنى الذي دلت عليه حق ، ولكن قواعد الحصر لم تنطبق عليها ، وسوف نذكرها اسما اسما إن شاء الله ، لكن نبدأ أولا بذكر القواعد التي تم من خلها حصر التسعة والتسعين اسما التي شرحنا وبينا الأدلة عليها :(30/1)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العقيدة الأصفهانية : ( وأما تسميته سبحانه بأنه مريد وأنه متكلم فإن هذين الاسمين لم يردا في القرآن ولا في الأسماء الحسنى المعروفة ومعناهما حق ولكن الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها وهي التي جاءت في الكتاب والسنة وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) ، وهذا الضابط للأسماء الحسنى من أصلح الضوابط وأفضلها في ذلك ، وقد اتبعناه في حصر الأسماء ويتمثل هذا الضابط في أن يتحقق في كل اسم تتبعناه الشروط الآتية :
أولا : أن يراد بالاسم العلمية ، فيرد في النص متميزا بعلامات الاسمية ، والاسم يتميز عن الفعل والحرف بخمس علامات جمعها بن مالك في قوله : بالجر والتنوين والندا وأل : ومسند للاسم تمييز حصل ، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام بقوله : الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها ، تدخل عليها أداة النداء وعلامات الاسمية ، استنادا إلى قوله تعالى : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (الأعراف:180) أي لا بد من أن تتحقق فيها علامات الاسمية ، فيكون المعنى محمولا علي الاسم مسندا إليه .(30/2)
ثانيا : أن يرد الاسم في نص ثابت بالكتاب أو السنة الصحيحة ، لأنه ليس لنا أن نشتق باجتهادنا من أوصاف الله وأفعاله أسماء ، فهذا أمر توقيفي لأن معرفة الله بأسمائه وصفاته أمر غيبي مبني على ثبوت الخبر بالدليل ، وإلي ذلك أشار شيخ الإسلام بقوله : (الأسماء الحسنى المعروفة هي التي وردت في الكتاب والسنة ) ، مأخوذ من قوله تعالى : ولله الأسماء ، فالألف واللام هنا للعهد ، فالأسماء بذلك معهودة ، ولا يعرف في ذلك اسم معهود إلا ما نص الله عليه في كتابه أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا بد في الاحتجاج على إثبات الاسم من حديث صحيح ، أما دلالة الاسم على الوصف فيدخل فيه الصحيح والحسن معا ، لأن الحديث الحسن عن علماء الحديث هو ما اتصل سنده بنقل عدل خف ضبطه قليلا عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، فاحتمال ضبط اللفظ في كونه اسما وارد بلا شك ، أما في كونه وصف فمتيقن ، ولذلك لم نعتد بالحسن في حصر الأسماء الحسنى وإنما في إثبات الأوصاف ودلالة الاسم على الصفة .
ثالثا : أن يرد الاسم على سبيل الإطلاق دون تقييد ، وذلك بأن يفيد الثناء بنفسه دون إضافة ، وهو ما أشار إليه شيخ الإسلام بقوله : ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) ، لأن الإضافة والتقييد يحدان من إطلاق الحسن والكمال على حسب شأن المضاف إليه وقدره ، والله ذكر أسماءه بالإطلاق التام للحسن والكمال فقال ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) وأيضا يدخل معنا الإطلاق المقترن بالعلو والفوقية كقوله : ( وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (التوبة:39) فإن العلو يزيد الإطلاق في القدرة كمالا على كمال .(30/3)
رابعا : أن يكون الاسم دالا على الصفة ، اسم على مسمى ، لأن الله عز وجل بين أن أسماءه أعلام وأوصاف فقال في علميتها : ( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ) (الإسراء:110) فكلها تدل على مسمى واحد ، وقال في كونها أوصاف : ( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) (الأعراف:180) فدعاء الله بها يكون حسب حال العبد واضطراره ، مما يناسب حاجته ومطلوبه ، من ضعف أو فقر ، أو ظلم أو قهر ، أو غير ذلك من أحوال العباد ، فلكل وضع ما يناسبه من الأسماء ، كما أن أسماء الله لو كانت جامدة لا تدل على معنى الوصفية لم تكن حسنى حيث أثنى الله بها على نفسه فقال : ( ولله الأسماء الحسنى ) والجامد لا مدح فيه ولا دلالة له على الثناء ، فلابد وأن تكون دالة على الوصفية ، كما أنه يلزم أيضا من كونها جامدة لا معنى لها أنه لا قيمة لتعدادها أو كونها تسعة وتسعين اسما كما جاء في الحديث ، وهذا أمر يعرف فساده ببداهة العقول ، فالوصفية إذا من لوازم الاسم لأن الأسماء دلت على الذات بالعلمية وعلى المعنى الذي تضمنته بالوصفية ، فهي مترادفة في الدلالة على الذات ، متباينة في الدلالة على الصفات .
خامسا : أن يكون الاسم دالا على وصف الكمال المطلق ، فلا يكون الوصف عند التجرد منقسما على الكمال والنقص أو يحتمل وجها من أوجه النقص ، فذلك يحد من إطلاق الكمال والحسن ، والله عز وجل يقول : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) (الرحمن:78) يعني تنزه وتقدس عن كل نقص ، فله العلو والجلال ، وله مطلق الكمال والجمال ، كما قال رب العزة والجلال : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ) (الأعلى:1) .(30/4)
هذه الشروط هي التي تتبعنا من خلالها الأسماء الحسني في الكتاب والسنة ، وقد ذكر العلماء الذين تكلموا في إحصاء الأسماء قرابة المائتين والثمانين اسما ، لم تنطبق هذه القواعد أو الشروط إلا على تسعة وتسعين اسما غير لفظ الجلالة ، وقد ساعدنا في ذلك التقنية الحديثة في استقصاء الاسم ومشتقات المعنى اللغوي في القرآن وكتب السنة من خلال الموسوعات الإلكترونية الضخمة ، فكانت النتيجة كما ذكر نبينا صلي الله عليه وسلم تسعة وتسعين اسما هي : الرب الإله ، الواحد الأحد ، السيد الصمد ، الحي القيوم ، المالك الملك المليك ، الحق المبين ، العلي الأعلى المتعال ، العظيم المجيد ، العليم الخبير ، القادر القدير ، المقتدر السميع البصير ، الأول الآخر ، الظاهر الباطن ، الكبير الحكيم ، العزيز الكريم ، القدوس السلام ، القوي المتين ، الغني الوارث الرقيب ، الجميل الوتر ، الرحمن الرحيم ، الخالق الخلاق ، البارئ المصور ، المؤمن المهيمن ، الجبار المتكبر ، القاهر القهار ، الغفور الغفار ، الشاكر الشكور ، الرازق الرزاق ، القابض الباسط ، الولي المولى ، الأكرم الوهاب ، المقدم المؤخر ، الديان الطيب اللطيف ، الودود الرؤوف ، العفو التواب ، الحيي الستير ، الحكم الحليم ، البر النصير ، المعطي الوكيل ، القريب المجيب ، الواسع الفتاح ، الحميد السبوح ، المسعر المحسن ، الرفيق الجواد ، الشافي المنان ، الحفيظ المقيت ، الشهيد الحسيب .(30/5)
أما بقية الأسماء التي لم تتوافق مع الضوابط السابقة فأغلبها على نوعين : النوع الأول : أسماء لم تتوافق مع الشرط الأول والثاني ، فهي إما أنها أوصاف أو أفعال اشتق العلماء منها باجتهادهم أسماء لله عز وجل ، لكن هذه الأسماء لم ترد في نص ثابت بالكتاب أو السنة الصحيحة ، فالعلمية في الاسم مرجعيتها إلى تسمية العلماء لربهم ، وليس لنص في القرآن أو السنة ، ونحن كما علمنا لا نسمي الله إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فالأسماء توقيفية ، ونذكر من هذه النوعية ، تسميتهم لله بالخافض حيث ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة ، وكذلك ذكره أبو القاسم إسماعيل بن محمد الأصبهاني وابن العربي المالكي والإمام البيهقي استنادا إلى حديث أَبِى مُوسَى الأشعري عند مسلم في قوله صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) ، وكذلك تسميتهم لله بالرافع ذكره هؤلاء السابقون بالإضافة إلى محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده ، وأبو عبد الله محمد بن المرتضى اليماني الشهير بابن الوزير ، استنادا إلى الحديث السابق .(30/6)
ومن الأسماء التي لم تثبت أيضا المعز المذل ، فقد ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة وكذلك ذكره ابن منده وابن العربي والبيهقي في عدهم للأسماء استنادا إلى قول الله تعالى : ( وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (آل عمران:26) ، وكذلك تسميتهم لله بالعدل ، فقد ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وكذلك ذكره ابن منده وابن العربي والبيهقي استنادا إلى قوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان ) (النحل:90) ، وتسميتهم لله بالجليل ، ذكره جمع كبير ، كمن أدرج الأسماء في حديث الوليد بن مسلم عند الترمذي وحديث عبد الملك الصنعاني عند ابن ماجة وحديث وعبد العزيز بن الحصين الحاكم وكذلك ذكره ابن منده وابن العربي والبيهقي ، مع أن هذا الاسم لم يرد في الكتاب أو السنة ، ولكن استندوا في إثباته إلى قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) (الرحمن:27) وقوله أيضا : ( تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) (الرحمن:78) .
وأيضا تسميتهم لله بالباعث استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله تعالى : ( وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ) (الأنعام:36) ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (البقرة:56) والباعث ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم وكذلك ذكره ابن منده والأصبهاني والبيهقي ، وتسميتهم لله بالمحصي فقد ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن العربي والبيهقي لقوله تعالى : ( لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ) (مريم:94) ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ) (المجادلة:6) .(30/7)
وقد اشتق من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم وكذلك ابن العربي والبيهقي ، اشتقوا لله أسماء كالمبدئ المعيد والمميت باجتهادهم من قوله تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (العنكبوت:19) ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) (البروج:13) ، والمميت استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (غافر:68) ، وسموه المنتقم استنادا إلى الاشتقاق من الوصف في قوله تعالى : ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) (إبراهيم:47) فقد ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن الوزير وكذلك العلامة ابن حجر .(30/8)
والمقسط أيضا ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة وكذلك ذكره ابن منده والأصبهاني وابن العربي والبيهقي استنادا لا إلى وصف ولا إلى فعل ولكن إلى محبته للمقسطين في قوله تعالى : ( وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) (المائدة:42) ، وكذلك سموه المانع استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في حديث مُعَاوِيَةَ وغيره عند البخاري ومسلم مرفوعا : ( اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ ) والمانع ذكره من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة وكذلك ذكره ابن منده والأصبهاني والبيهقي ، وسموه الضار النافع على ما ورد عند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضى الله عنها أنها قَالَتْ : قَالَتْ فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا ، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا ، فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ ، واستنادا إلى المفهوم من قوله تعالى : ( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ) (الأعراف:188) وقد ذكر الضار النافع من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم وكذلك ذكره ابن العربي والبيهقي ، وفي رواية الترمذي سموا الله بالمغني ، فقد ذكره من أدرج الأسماء في الحديث وكذلك البيهقي استنادا إلى الاشتقاق من فعل الغنى في قوله تعالى : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (النور:33) ، وورد اسمه الباقي عند من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم وكذلك ذكره ابن منده والأصبهاني وابن العربي والبيهقي ، ولم أجد دليلا استندوا إليه إلا ما ورد في قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ) (الرحمن:27) .(30/9)
وقد أدرج من أدرج الأسماء في حديث ابن ماجة عدة أسماء اجتهد في تسمية الله بها ، وهي ذو القوة والمنير والتام ، ذو القوة استند فيه إلى الوصف في قوله تعالى ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (الذريات:58) والمنير أخذا من قوله تعالى : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) (النور:35) أو جعله القمر منيرا في قوله تعالى : ( تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً ) (الفرقان:61) والتام : ( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) (الصف:8) .
وابن منده سمى ربه بالدافع واستنادا إلى المصدر من الفعل دفع في قوله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (البقرة:251) ، وسموا الله بالقاضي استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله تعالى : ( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ) (غافر:20) وقد ذكر ذلك ابن منده وابن العربي والبيهقي ، أما قوله تعالى ( وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ) (الإنسان:3) فقد اشتق منه ابن منده وابن العربي اسم المقدر .(30/10)
وابن منده انفرد بتسمية ربه المفضل والمنعم والمفرج والمعافي والمطعم والوفي ، المفضل من قوله : ( وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (البقرة:47) والمنعم من قوله : ( وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ) (الإسراء:83) ، والمفرج من قوله : ( وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ ) (المرسلات:9) أو حديث ابْنِ عُمَرَ عند البخاري في حديث الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار : ( فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّى فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ ، فَفَرَجَ اللَّهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ . إلى أن قال : فَفَرَجَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) ، والمعافي من قوله صلى الله عليه وسلم من حديث أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عند البخاري : ( مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ ) ، والمطعم من قوله : ( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ َ) (الأنعام:14) ، والوفي من قوله : ( وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ) (التوبة:111) ذكر هذه الأسماء ابن منده فقط .(30/11)
وأيضا جعلوا من أسمائه ذو الفضل العظيم ، ذكره من أدرج الأسماء في حديث والحاكم ، وكذلك ذكره ابن منده وابن العربي وابن الوزير والبيهقي واستندوا إلى ما ورد في قوله تعالى : ( يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم ِ) (آل عمران:74) ، وكذلك ذو العرش المجيد من قوله : ( ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ) (البروج:15) فقد ذكره ابن منده وابن الوزير والبيهقي ، وذو الطول والإحسان من قوله : ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (غافر:3) فقد ذكره من أدرج الأسماء في حديث والحاكم وكذلك ذكره ابن منده وابن العربي وابن الوزير والبيهقي ، وذو الرحمة الواسعة من قوله : ( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (الأنعام:147) فقد ذكره ابن منده وابن الوزير ، وذو الجبروت والملكوت واستندوا إلى ما ورد في حديث أبي داود وصححه الألباني عن عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال فِي رُكُوعِهِ : ( سُبْحَانَ ذِى الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ ) ذكره ابن منده فقط .(30/12)
وقد ذكر الأصبهاني والبيهقي اسمين لله وهما الذارئ والصانع من قوله : ( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُون َ) (الملك:24) ( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً ) (الأنعام:136) الصانع من قوله : ( صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون َ) (النمل:88) وما رواه البخاري في خلق أفعال العباد وصححه الألباني عن حذيفة مرفوعا ( إن الله تعالى صانع كل صانع وصنعته ) ، وابن العربي اشتق لربه باجتهاده عدة أسماء أخرى هي المريد والمحب والمبغض والسخط والممتحن والبالي والمبلي والفاتن والمعبود ، فالمريد من قوله : ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيد ُ) (البروج:16) ، والمحب من قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ) (المائدة:54) ، والمبغض من حديث البراء عند البخاري مرفوعا : ( الأَنْصَارُ لاَ يُحِبُّهُمْ إِلاَّ مُؤْمِنٌ ، وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاَّ مُنَافِقٌ ، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللَّهُ ) ، والسخط من قوله : ( لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ) (المائدة:80) ( ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ) (محمد:28) ، والممتحن من قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) (الحجرات:3) ، والبالي والمبلي من قوله تعالى : ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (الأعراف:168) ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ(30/13)
لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (الملك:2) ، والفاتن اشتقه ابن العربي من قوله : ( وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) (العنكبوت:3) ، والمعبود اشتقه من قوله : ( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) (طه:14) .
وشارك ابن الوزير ابن العربي في الاجتهاد فاشتقا لله أسماء المبرم والمنذر والمبتلي ، المبرم من قوله : ( أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ) (الزخرف:79) ، والمنذر من قوله : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) (الدخان:3) ، والمبتلي من قوله : ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ) (البقرة:124) .(30/14)
وشارك البيهقي ابن العربي في الاجتهاد فاشتقا لله اسم المدبر من قوله : ( يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) (الرعد:2) ، وانفرد ابن الوزير فسمى الله بالمستمع والكاتب والمنزل والمنشئ والمرسل ، المستمع من قوله : ( قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ) (طه:46) ، الكاتب من قوله : ( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ) (الأنبياء:105) ، والمنزل من حديث عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى عند البخاري مرفوعا ( دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ وَمُجْرِىَ السَّحَابِ وَهَازِمَ الأَحْزَابِ اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ ) لكنه ترك المجري ، أما المنشئ فاشتقه من قوله : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ) (الرعد:12) ، والمرسل اشتقه من قوله : ( أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (الدخان:5) ( وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) (القصص:45) .(30/15)
ومن أدرج الأسماء عند الحاكم سمى ربه بالمغيث استنادا إلى المعنى في قوله تعالى : ( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ) (الأنفال:9) ، والبيهقي انفرد بتسمية الله بالطالب والكاشف استنادا إلى المعنى في قوله تعالى : ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ) (الأعراف:54) ، والكاشف من قوله : ( ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) (النحل:54) أو من قوله : ( وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ ) (الأنعام:17) لكنه هنا مضاف والإضافة كما علمنا مانعة لشرط الإطلاق ، وابن منده سمى ربه بالمطهر من قوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (الأنفال: من الآية11) ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (الأحزاب: من الآية33) .
هذه هي الأسماء التي أحصيتها من كتب أهل العلم وهي عبارة عن اجتهادات منهم لم يسم الله بها نفسه ولم يسمها نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنما وضعوها اشتقاقا من وفعله ووصفه وهذا مخالف لكون الأسماء الحسنى توقيفية على النص ، وعلى ذلك ننبه إخواننا المسلمين على ما انتشر بين العامة من أسماء مبنية على اجتهادات العلماء في الاشتقاقات السابقة فهي ليست من الأسماء التي أمرنا الله بأن ندعوه بها .(30/16)
والآن ننتقل إلى الأسماء التي لم تنطبق عليها الشروط لعلة الإضافة وعدم الإطلاق ، وهي المحيي ورد مقيدا في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (فصلت:39) ، والوالي ورد مقيدا في قوله تعالى : ( وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ) (الرعد:11) ، والنور ورد مقيدا في قوله تعالى : ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (النور:35) ، والهادي ورد مقيدا في قوله تعالى : ( وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ) (الفرقان:31) ، والبديع ورد مقيدا في قوله تعالى : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (البقرة:117) ، والجامع ورد مقيدا في قوله تعالى : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) (آل عمران:9) ، والرشيد وقد ذكره من أدرج الأسماء عند الترمذي ، وكذلك الراشد وقد ذكره من أدرج الأسماء عند ابن ماجة ولم أجد لهم دليلا في الكتاب أو السنة إلا استنادا إلى المعنى في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ) (الأنبياء:51) ، والصبور من حديث أَبِى مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عن البخاري مرفوعا : ( مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ ، يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ ) ، والبرهان استنادا إلى المعنى في قوله تعالى : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) (يوسف:24) ، والشديد ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب ِ) (البقرة:196) ، الواقي ورد(30/17)
مقيدا في قوله تعالى : ( وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ) (الرعد:34) ، البار ذكره من أدرج الأسماء عند ابن ماجة استنادا إلى قوله تعالى : ( إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ) (الطور:28) مع أنه ثابت في الأسماء بما سمى الله نفسه به أنه البر ، القائم ورد مقيدا في قوله تعالى : ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ) (الرعد:33) ، والدائم ، ذكره من أدرج الأسماء عند ابن ماجة والحاكم ، لكن لم أجد له دليلا في كتاب أو سنة إلا إذا كان استنادهم إلى معنى البقاء في قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ) (الرحمن:27) ، والحافظ ورد مقيدا في قوله تعالى : ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين َ) (يوسف:64) أي خير حافظ أو خير حفظا كما في القراءة الثانية ، والفاطر ورد مقيدا في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ويلزمهم الجاعل لقوله : ( جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ) ، والكافي ورد مقيدا في قوله تعالى : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) (الزمر:36) ، والأبد ذكره من أدرج الأسماء في حديث ابن ماجة ولا دليل عليه من كتاب أو سنة إلا إذا كان استنادهم إلى معنى البقاء ، العالم ورد مقيدا في قوله تعالى : ( عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ) (الرعد:9) ، والعلام ورد مقيدا في قوله تعالى : ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (سبأ:48) .(30/18)
وكذلك الصادق استندوا إلى قوله تعالى : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) (الزمر:74) ( ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِين َ) (الأنبياء:9) أما قوله تعالى : ( وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ) (الحجر:64) وهذا من كلام الملائكة الذين أرسلوا إلى قوم لوط ، والستار لم يثبت في كتاب أو سنة ولكن الثابت الستير ، رواه أبو داود وصححه الشيخ الألباني : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ) ، والشاهد ورد مقيدا في قوله تعالى : ( وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ) (الأنبياء:78) ، والصاحب ورد مقيدا في حديث ابْنَ عُمَرَ عند مسلم مرفوعا : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ ) ، والغافر والقابل ورد مقيدا في قوله تعالى : ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) (غافر:3) ، والفاتح استندوا في إثباته إلى قوله تعالى : ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) (الفتح:1) ، والقيام ورد مقيدا في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ عند مسلم مرفوعا : ( وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيَّامُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، وأيضا في قراءة شاذة عند البخاري عن عمر أنه قرأ : ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيامُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ) (البقرة:255) ، والكفيل ورد مقيدا في قوله تعالى : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) (النحل:91) ، والمعين ، ولم أجد له دليلا(30/19)
في الكتاب أو السنة أو حتى في رواية الترمذي التي أدرجت فيها الأسماء أو عند ابن ماجة أو الحاكم ، ومقلب القلوب ورد مقيدا في حديث بن عمر عند أبي داود وصححه الشيخ الألباني قال : ( أكثر ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف بهذه اليمين لا ومقلب القلوب ) والبادئ استندوا في إثباته إلى قوله تعالى : ( إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ) (البروج:13) ، والمحيط ورد مقيدا في قول الله تعالى : ( وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ) (البقرة:19) ( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ) (فصلت: من الآية54) ، ومن ذلك أيضا ما ذكره ابن العربي وابن الوزير في الأسماء المقيدة ، رفيع الدرجات ، شديد المحال ، الطبيب ، عدو الكافرين ، الحفي الغيور مخزي الكافرين خير المنزلين خير الماكرين متم نوره المستعان أهل التقوى أهل المغفرة أحكم الحاكمين خير الحاكمين خير الرازقين أحسن الخالقين خير الحافظين ، وعند ابن الوزير فقط نعم القادر والأقرب والفاعل والأقوى خير الوارثين فالق الإصباح الأعظم نعم المولى نعم القاهر نعم الماهد الحاسب كاشف الضر الزارع مخرج الحي من الميت مخرج الميت من الحي جاعل الليل سكنا أسرع الحاسبين ولي المؤمنين الغالب على أمره البالغ أمره ، وعند البيهقي وابن الوزير الفعال لما يريد ذو الانتقام ، وعند البيهقي الغياث الوافي الفرد ، أما ما لم يثبت في السنة لضعفه أو عدم بلوغه الصحة ، الواجد الماجد الحنان الأعز النظيف المبارك الطاهر .(30/20)
أما ما لم يتحقق فيه الدلالة على الوصف من الأسماء الجامدة اسمه الدهر كما ذكره ابن حزم ، فليس من أسماء الله لأنه كما ذكر الشيخ ابن عثيمين اسم جامد لا يتضمن معنى يلحقه بالأسماء الحسنى ، ولأنه اسم للوقت والزمن ، قال الله تعالى عن منكري البعث : ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) (الجاثية:24) يريدون مرور الليالي والأيام ، فأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( قال الله عز وجل : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) ، فلا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث لا يريدون الله تعالى ، فيكون معنى قوله : ( و أنا الدهر ) ما فسره بقوله : بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ، فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه ، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار وهما الدهر ولا يمكن أن يكون المقلب هو المقلب ، وبهذا تبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادا به الله تعالى ، ويلحق بذلك أيضا من جعل الحروف المقطعة في أوائل السور من أسماء الله ، حيث قيل هي اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها ، وروي عن ابن عباس أيضا هي أسماء الله أقسم بها ، فقوله ألم قالوا الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل الإلف مفتاح اسمه الله واللام مفتاح اسمه اللطيف والميم مفتاح اسمه مجيد وروي أبو الضحى عن ابن عباس في قوله : الم ، قال : أنا الله أعلم ، الر أنا الله أرى ، المص أنا الله أفصل ، فالألف تؤدي عن معنى أنا واللام تؤدي عن اسم الله والميم تؤدي عن معنى أعلم ، وهذه كلها آراء اجتهادية ليست مبنية على حديت ثابت مرفوع .(30/21)
فوجب علينا أن نسمى الله بما سمى به نفسه وما سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم فالمؤمن الحق هو الذي يصدق خبر الله وينفد أمره كما قال سبحانه وتعالى : ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (البقرة:286) سبحانك الله وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .(30/22)
أسماء ( الحسنى الثابتة
في الكتاب والسنة
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إَِّلا هُوَ
الرَّحْمَنُ ? الرَّحِيمُ ? المَلِكُ ? القُدُّوسُ ? السَّلامُ ? المُؤْمِنُ ? المُهَيْمِنُ ? العَزِيزُ ? الجَبَّارُ ? المُتَكَبِّرُ ? الخَالِقُ ? البَارِئُ ? المُصَوِّرُ ? الأَوَّلُ ? الآخِرُ ? الظَّاهِرُ ? البَاطِنُ ? السَّمِيعُ ? البَصِيرُ ? المَوْلَى ? النَّصِيرُ ? العَفُوُّ ? القَدِيرُ ? اللَّطِيفُ ? الخَبِيرُ ? الوِتْرُ ? الجَمِيلُ ? الحَيِيُّ ? السِّتيرُ ? الكَبِيرُ ? المُتَعَالُ ? الوَاحِدُ ? القَهَّارُ ? الحَقُّ ? المُبِينُ ? القَوِيُّ ? المَتِينُ ? الحَيُّ ? القَيُّومُ ? العَلِيُّ ? العَظِيمُ ? الشَّكُورُ ? الحَلِيمُ ? الوَاسِعُ ? العَلِيمُ ? التَّوابُ ? الحَكِيمُ ? الغَنِيُّ ? الكَرِيمُ ? الأَحَدُ ? الصَّمَدُ ? القَرِيبُ ? المُجيبُ ? الغَفُورُ ? الوَدودُ ? الوَلِيُّ ? الحَميدُ ? الحَفيظُ ? المَجيدُ ? الفَتَّاحُ ? الشَّهيدُ ? المُقَدِّمُ ? المُؤخِّرُ ? المَلِيكُ ? المُقْتَدِرْ ? المُسَعِّرُ ? القَابِضُ ? البَاسِطُ ? الرَّازِقُ ? القَاهِرُ ? الديَّانُ ? الشَّاكِرُ ? المَنَّانُ ? القَادِرُ ? الخَلاَّقُ ? المَالِكُ ? الرَّزَّاقُ ? الوَكيلُ ? الرَّقيبُ ? المُحْسِنُ ? الحَسيبُ ? الشَّافِي ? الرِّفيقُ ? المُعْطي ? المُقيتُ ? السَّيِّدُ ? الطَّيِّبُ ? الحَكَمُ ? الأَكْرَمُ ? البَرُّ ? الغَفَّارُ ? الرَّءوفُ ? الوَهَّابُ ? الجَوَادُ ? السُّبوحُ ? الوَارِثُ ? الرَّبُّ ? الأَعْلَى ? الإِلَهُ ? .
أسماء ( الحسنى
التي اجتهد الوليد بن مسلم في جمعها وأدرجها في حديث الترمذي واشتهرت بين عامة المسلمين لأكثر من ألف عام
وما لم يثبت منها أو يوافق شروط الإحصاء
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إَِّلا هُوَ(31/1)
الرَّحمنُ الرَّحيمُ المَلِك القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّر الخَالِقُ البَارِىءُ المُصَوِّرُ الغَفَّارُ القَهَّارُ الوَهَّابُ الرَّزَّاقُ الفتَّاحُ العَلِيمُ القَابِضُ البَاسِطُ الخافضُ الرَّافِعُ المعزُّ المذِل السَّمِيعُ البَصِيرُ الحَكَمُ العَدْلُ اللّطِيفُ الخَبِيرُ الحَلِيمُ العَظِيمُ الغَفُورُ الشَّكُورُ العَلِيُّ الكَبِيرُ الحَفِيظُ المُقِيتُ الحَسِيبُ الجَلِيلُ الكَرِيمُ الرَّقِيبُ المُجِيبُ الْوَاسِعُ الحَكِيمُ الوَدُودُ المَجِيدُ البَاعِثُ الشَّهِيدُ الحَق الوَكِيلُ القَوِيُّ المَتِينُ الوَلِيُّ الحَمِيدُ المُحْصِي المُبْدِيءُ المُعِيدُ المُحْيِي المُمِيتُ الحَيُّ القَيُّومُ الوَاجِدُ المَاجِدُ الوَاحِدُ الصَّمَدُ القَادِرُ المُقْتَدِرُ المُقَدِّمُ المُؤَخِّرُ الأوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ الوَالِي المُتَعَالِي البَرُّ التَّوَّابُ المنتَقِمُ العَفُوُّ الرَّءوف مَالِكُ المُلْكِ ذُو الجَلاَلِ وَالإكْرَامِ المُقْسِط الجَامِعُ الغَنِيُّ المُغْنِي المَانِعُ الضَّارُّ النَّافِعُ النُّورُ الهَادِي البَدِيعُ البَاقِي الوَارِثُ الرَّشِيدُ الصَّبُور .
بسم الله الرحمن الرحيم(31/2)
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله ، قال الله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ? [الحشر:24] ، وقال : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ? [آل عمران:10] ، وقال تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما ? [الأحزاب:70/71] ، أما بعد ..
فقد أمرنا الله عز وجل في غير موضع من كتابه أن ندعوه بأسمائه الحسنى فقال جل شأنه : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [لأعراف:180] ، وقال أيضا : ? قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الإسراء:110] ، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هي الأسماء الحسنى التي ندعو الله بها ؟(31/3)
إن غالب العامة من الأمة منذ بداية القرن الثالث الهجري حتى الآن يحفظون الأسماء الحسنى التي أدرجت أو أضيفت إلى حديث الترمذي من رواية الوليد بن مسلم (ت:195هـ) ، وهي باتفاق أهل العلم والمعرفة بالحديث ليست من كلام النبي ? ، ولكنها اجتهاد من الوليد بن مسلم جمع به من القرآن والسنة تسعة وتسعين اسما ، وقد ظهر في هذا البحث أن سبعين منهم فقط عليهم دليل من القرآن والسنة ، أما باقي الأسماء وعددها تسع وعشرون إما أنه لا دليل عليه أو لا يوافق شروط الإحصاء ( .
ومن المعلوم أن إحصاء الأسماء الحسنى قضية لها من الأهمية والمكانة في قلوب المسلمين ما تتطلع إليه نفوس الموحدين وتتعلق بها ألسنة الذاكرين ويرتقي الطالبون من خلالها مدارج السالكين ، قال ابن قيم الجوزية : ( فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم ، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي أحصى جميع العلوم ، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم ، لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها ) (1) .
لقد أقدمت على هذا البحث وأنا لا أتوقع ما وصلت إليه من نتائج ، وكم راودتني نفسي منذ زمن طويل أن أجد جوابا شافيا لنفسي قبل غيري في التعرف على أسماء الله الحسنى التي ورد النص علي عددها إجمالا في الصحيحين من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( مرفوعا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (2) .
وكنت كلما هممت باستقصاء الموضوع والبحث فيه أجد من الهيبة ما يوهن عزيمتي ويضعف إرادتي لأن الموضوع أكبر من طاقتي وأوسع من دائرتي ، فالأمر يتطلب استقصاء شاملا لكل كلمة وردت في القرآن ، وكذلك كل نص ثبت في السنة ، ويلزم من هذا بالضرورة فرز عشرات الآلاف من الأحاديث النبوية وقراءتها كلمة كلمة ، وهذا جهد خارج عن قدرة البشر المحدودة وأيامهم المعدودة .(31/4)
لكن الله عز وجل يسر الأسباب في هذا العصر وأعان بتوفيقه على سرعة إنجاز البحث في وقت قصير نسبيا ، وذلك من خلال استخدام الموسوعات الالكترونية التي حملت آلاف الكتب العلمية وحفظت القرآن والسنة النبوية ، حيث يمكن للكمبيوتر قراءة آلاف المراجع من هذه الموسوعات في ثوان معدودات .
ولم تكن هذه التقنية قد ظهرت منذ عشر سنوات تقريبا ، أو بصورة أدق لم يكن ما صدر منها كافيا لإنجاز هذا البحث ، لكن الرغبة في إتمامه كانت ولا تزال قائمة ؛ لأنني كثيرا ما كنت أشعر بالحيرة والاضطراب عندما يأتي سائل يسأل عن اسم من أسماء الله كالبديع والنور ، والحافظ والصبور ، والخافض الرافع ، والمعطي المانع ، والضار النافع ، والمبديء المعيد ، والمعز المذل ، والحنان المنان ، والواجد الماجد ، والكافي المنتقم ، والرازق المسعر ، أو الباقي الجليل ، أو غير ذلك مما اشتهر على ألسنة العامة والخاصة ، هل هذه من أسماء الله الحسنى ؟
كانت الإجابة في الغالب الاعتماد إجمالا على ذكر منهج السلف في الأسماء أو ما تيسر في اجتهاد من سبق من العلماء ، أو الاكتفاء بما ورد من الأسماء في سنن الترمذي من رواية الوليد بن مسلم ، والتي اشتهرت على ألسنة العامة والخاصة منذ أكثر من عشرة قرون ، أو بما ورد في سنن ابن ماجة من رواية عبد الملك الصنعاني أو رواية عبد العزيز بن الحصين عند الحاكم في مستدركه ، هذا مع التنبيه على أن سرد الأسماء في هذه الروايات ليس من كلام النبي ? ولكنه مدرج في الأحاديث كاجتهاد شخصي من قبل الرواة ، كما أنها روايات مختلفة ومضطربة .(31/5)
من أجل ذلك استعنت بالله في إتمام هذا البحث الذي أقدمه للقراء على عدة أجزاء ، بداية بهذا الجزء الذي يتناول إحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة مع تفصيل شروط الإحصاء والأدلة على الأسماء ، ثم الجزء الثاني الذي يتناول شرح الأسماء وتفسير معانيها ، ثم تناولت في الجزء الثالث دلالتها على أوصاف الكمال مطابقة وتضمنا والتزاما ، والجزء الرابع وهو من أهم الأجزاء اشتمل على كيفية الدعاء بالأسماء الحسنى دعاء مسألة ، أو كيف يدعو الموحد ربه بأسمائه الحسنى دعاء مسألة ؟ أما الجزء الخامس فهو الأكثر أهمية في حياة المسلم إذ اشتمل على كيفية الدعاء بالأسماء الحسنى دعاء عبادة ؟ أو أثر الأسماء الحسنى على سلوك العبد وأقواله وأفعاله ، وقد انتهت هذه الأجزاء بحمد الله وجاري مراجعتها تمهيدا لطباعتها تباعا إن شاء الله .
فأسأل الله بأسمائه الحسنى التي جمعتها من كتابه ومن سنة رسوله ? أن يعينني على نفسي وأن يغفر لي ذنبي وتقصيري وجهلي ، وأن يرزقني طاعته وتقواه ، وأن يجعل هذا البحث سببا في عتق رقبتي من النار يوم ألقاه ، وأن يغفر لوالديَّ ويجزي زوجتي أم عبد الرزاق خير الجزاء على ما قدمته لإخراج هذا البحث .
وكتبه د/ محمود عبد الرازق الرضواني
القاهرة في الثاني من جماد الثاني سنة 1425هـ
أسماء ( الحسنى
التي أدرجت في رواية عبد الملك الصنعاني عند ابن ماجة
وما لم يثبت منها أو يوافق شروط الإحصاء
إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِائَةً إِلا وَاحِدًا إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ
مَنْ حَفِظَهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهِيَ اللَّهُ(31/6)
الْوَاحِدُ الصَّمَدُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ الْمَلِكُ الْحَقُّ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْعَلِيمُ الْعَظِيمُ الْبَارُّ الْمُتْعَالِ الْجَلِيلُ الْجَمِيلُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْقَادِرُ الْقَاهِرُ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ الْقَرِيبُ الْمُجِيبُ الْغَنِيُّ الْوَهَّابُ الْوَدُودُ الشَّكُورُ الْمَاجِدُ الْوَاجِدُ الْوَالِي الرَّاشِدُ الْعَفُوُّ الْغَفُورُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ التَّوَّابُ الرَّبُّ الْمَجِيدُ الْوَلِيُّ الشَّهِيدُ الْمُبِينُ الْبُرْهَانُ الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ الْمُبْدِئُ الْمُعِيدُ الْبَاعِثُ الْوَارِثُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ الضَّارُّ النَّافِعُ الْبَاقِي الْوَاقِي الْخَافِضُ الرَّافِعُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الْمُعِزُّ الْمُذِلُّ الْمُقْسِطُ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ الْقَائِمُ الدَّائِمُ الْحَافِظُ الْوَكِيلُ الْفَاطِرُ السَّامِعُ الْمُعْطِي الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمَانِعُ الْجَامِعُ الْهَادِي الْكَافِي الأَبَدُ الْعَالِمُ الصَّادِقُ النُّورُ الْمُنِيرُ التَّامُّ الْقَدِيمُ الْوِتْرُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ .
المبحث الأول
العلة في النص على تسعة وتسعين اسما
ـــــــــــــــ
* أسماء الله الحسنى توقيفية لا مجال للعقل فيها :(31/7)
يجب الوقوف على ما جاء نصا في الكتاب والسنة بذكر الاسم دون زيادة أو نقصان ؛ لأن أسماء الله الحسنى توقيفية لا مجال للعقل فيها ، فالعقل لا يمكنه بمفرده أن يتعرف على أسماء الله التي تليق بجلاله ، ولا يمكنه إدراك ما يستحقه الرب من صفات الكمال والجمال ، فتسمية رب العزة والجلال بما لم يسم به نفسه قول على الله بلا علم ، قال تعالى : ? وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مسئولا ? [الإسراء:36] .
وقد اشتهرت في ذلك مناظرة بين أبي الحسن الأشعري وشيخه أبي على الجبائي عندما دخل عليهما رجل يسأل : هل يجوز أن يسمى الله تعالى عاقلا ؟ فقال أبو علي الجبائي : لا يجوز ، لأن العقل مشتق من العقال وهو المانع ، والمنع في حق الله محال فامتنع الإطلاق ، فقال له أبو الحسن الأشعري : فعلى قياسك لا يسمى الله سبحانه حكيما ، لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج ، ويشهد لذلك قول حسان بن ثابت ( :
فنحكم بالقوافي من هجانا : ونضربُ حين تختلط الدماء
وقول الآخر :
أبني حنيفة حكموا سفهاءكم : إني أخاف عليكمُ أن أغضبا
والمعنى : نمنع بالقوافي من هجانا ، وامنعوا سفهاءكم ، فإذا كان اللفظ مشتقا من المنع والمنع على الله محال ؛ لزمك أن تمنع إطلاق حكيم على الله تعالى ، فلم يجب الجبائي إلا أنه قال للأشعري : فلم منعت أنت أن يسمى الله عاقلا وأجزت أن يسمى حكيما ؟ قال الأشعري : لأن طريقي في مأخذ أسماء الله الإذن الشرعي دون القياس اللغوي ، فأطلقت حكيما لأن الشرع أطلقه ومنعت عاقلا لأن الشرع منعه ولو أطلقه الشرع لأطلقته (3) .(31/8)
وقال ابن حزم : ( لا يجوز أن يسمى الله تعالى ولا أن يخبر عنه إلا بما سمى به نفسه أو أخبر به عن نفسه في كتابه أو على لسان رسوله ? أو صح به إجماع جميع أهل الإسلام المتيقن ولا مزيد ، وحتى وإن كان المعنى صحيحا فلا يجوز أن يطلق عليه تعالى اللفظ وقد علمنا يقينا أن الله عز وجل بنى السماء ، قال تعالى : ? وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ? [الذاريات:47] ، ولا يجوز أن يسمى بناء ، وأنه تعالى خلق أصباغ النبات والحيوان ، وأنه تعالى قال : ? صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ? [البقرة:138] ، ولا يجوز أن يسمى صباغا وأنه تعالى سقانا الغيث ومياه الأرض ولا يسمى سقاء ولا ساقيا ، وهكذا كل شيء لم يسم به نفسه ) (4) .
وقد ثبت من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ( أن رَسُولَ اللّهِ ? قال : ( لاَ أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِك ) (5) ، وهذا دليل على أن معرفة ما أثنى الله به على نفسه لا بد فيها من طريق سمعي منقول إلينا بالخبر الثابت الصحيح .
* أسماء الله الكلية وإحصاء الأسماء الحسنى :(31/9)
لكن هنا مسألة تطرح نفسها وينبغي تحرير جوابها وهي التمييز بين معتقد السلف في حصر أسماء الله الكلية في تسعة وتسعين اسما ومعنى الإحصاء الذي ورد في حديث أبي هريرة ( والذي فيه النص والتأكيد على ذكر العدد بقول النبي ? : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (6) ، لأن بعض المتوسعين في إحصاء الأسماء تصور أن أسماء الله الحسنى التي وردت في الكتاب والسنة تزيد عن هذا العدد بكثير مما أدى إلى تضارب المعاني حول فهم حديث أبي هريرة ( ، فما الحكمة إذا من النص على هذا العدد بالذات ؟ وهل من أحصى تسعة وتسعين اسما من جملة أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة فقد تحقق فيه الوصف بدخول الجنة ؟ وإن كان هذا هو المعنى المقصود فما عدد الأسماء الموجود لدينا بالنص الصريح ؟ وما ميزة العدد الذي سيحصيه المسلم باختياره هو عن العدد المتبقي ؟ وهل قضية إحصاء التسعة والتسعين متروكة لاختيار الشخص أم لحكم الدليل والنص ؟ أسئلة كثيرة تتوجه إلى من جعل أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة أكثر من مائة إلا واحدا .
لكن ما نود التنبيه عليه في هذه القضية من خلال اعتقاد السلف المبني على النصوص القرآنية والنبوية أنه لا شك في أن جملة أسماء الله تعالى الكلية تعد من الأمور الغيبية التي استأثر الله بها ، وأنها غير محصورة في عدد معين ، ولا يفهم من الأحاديث التي وردت في ذكر التسعة والتسعين حصرها جميعها .
أما ما تعرف الله به إلى عباده من أسمائه الحسنى التي وردت في كتابه وفي سنة رسوله ? فهي الأسماء المذكورة في العدد النبوي المخصوص عند تمييزها عن الأوصاف ، وإخراج ما قيد منها بالإضافة أو انقسام المعنى ، وتحري ثبوتها بالنص وتتبعها بالدليل ، وهذه إحدى النتائج التي توصل إليها البحث .(31/10)
فالشروط التي استخرجتها من القرآن والسنة أو الضوابط التي انتهجتها في إحصاء الأسماء لم تنطبق إلا على تسعة وتسعين اسما من جملة ما ذكره العلماء والذي تجاوز عدده المائتين والثمانين اسما ، سواء اجتهدوا في جمعها أخذا من نص مطلق أو مقيد أو الاشتقاق من الصفات والأفعال ، وهذا بحمد الله يتفق مع العدد المذكور في الحديث النبوي .
وليس في الأمر تكلف أو تعسف وافتعال ؛ أو محاولة من الباحث لجعل العدد محصورا في تسعة وتسعين اسما بصورة أو بأخرى ، بل يستطيع كل باحث من العامة أو الخاصة أن يطبق الشروط المذكورة في إحصاء الأسماء الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة وسيصل إلى ذات النتيجة إن شاء الله ، وسيتعرف على العدد الذي ذكره النبي ? في حديث أبي هريرة ( .
كما أن إحصاء الأسماء الحسنى في هذا العدد لا يعارض ما جاء في حديث ابن مسعود ( مرفوعا أن النبي ? قال في دعاء الكرب : ( أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ ) (7) ، لأن هذا الحديث يدل على انفراد الله بعلم العدد الكلى لأسمائه الحسنى ، فما استأثر به في علم الغيب عنده لا يمكن لأحد حصره ولا الإحاطة به .(31/11)
أما حديث أبي هريرةَ ( في ذكر التسعة والتسعين فالمقصود به الأسماء التي تعرف بها إلى عباده ، ولا يدل على حصر أسماء الله الكلية بهذا العدد ، ولو كان المراد الحصر لقال : إن أسماء الله تسعة وتسعون اسما من أحصاها دخل الجنة أو نحو ذلك ، فمعنى الحديث أن هذا العدد من جملة أسماء الله التي تعرف بها إلى عباده في الدنيا ، ومن شأنه أن من أحصاه دخل الجنة ، ونظير هذا أن تقول : عندي مائة درهم أعددتها للصدقة فإنه لا يمنع أن يكون عندك دراهم أخرى لم تعدها للصدقة فالمراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء الكلية (8) .
وقد جزم ابن حزم بالحصر وقال : ( فصح أنه لا يحل لأحد أن يسمي الله تعالى إلا بما سمى به نفسه ، وصح أن أسماءه لا تزيد على تسعة وتسعين شيئا لقوله عليه السلام مائة إلا واحدا فنفى الزيادة وأبطلها ، لكن يخبر عنه بما يفعل تعالى ، وجاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين أسماء مضطربة لا يصح منها شيء أصلا ، فإنما تؤخذ من نص القرآن ومما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد بلغ إحصاؤنا منها إلى ما نذكر ) (9) ، ثم سرد أربعة وثمانين اسما استخرجها من القرآن والسنة (10) .
قال ابن القيم : ( الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد ، فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل ، كما في الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، فجعل أسماءه ثلاثة أقسام : قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه ، وقسم أنزل به كتابه فتعرف به إلى عباده ، وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحد من خلقه ، ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه ) (11) .(31/12)
وقال النووي : ( وأما قوله ? من أحصاها دخل الجنة فاختلفوا في المراد بإحصائها ، فقال البخاري وغيره من المحققين معناه حفظها ، وهذا هو الأظهر لأنه جاء مفسرا في الرواية الأخرى من حفظها ، وقيل أحصاها عدها في الدعاء بها ، وقيل أطاقها أي أحسن المراعاة لها والمحافظة على ما تقتضيه وصدق بمعانيها ، وقيل معناه العمل بها والطاعة بكل اسمها ، والإيمان بها لا يقتضي عملا ، وقال بعضهم المراد حفظ القرآن وتلاوته كله لأنه مستوف لها ، وهو ضعيف والصحيح الأول ) (12) .
هذا ما ذكره أغلب العلماء فكيف نوفق بين تلك الآراء في معنى الإحصاء وبعد أن ظهرت نتيجة البحث ؟
* ظهور الأسماء مرتبط بمقتضى الحكمة الإلهية :
الإحصاء في اللغة معناه الحفظ والجمع والعد والإحاطة كما قال تعالى : ? يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ? [المجادلة:6] ، وقال : ? وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً ? [الجن:28] ، قال ابن منظور : ( الإِحْصَاءُ العَدُّ والحِفْظ وأَحْصَيْت الشيءَ عَدَدته ، وأَحْصَى الشيءَ أَحاط به ) (13) .(31/13)
من الواضح اتفاق العلماء على أن أسماء الله الكلية لا تحصى ولا تعد فهو سبحانه الوحيد الذي يعلم عددها ، أما تخصيص بعضها بتسعة وتسعين اسما وتأكيد النبي ? بقوله مائة إلا واحدا ، فالعلة في ذلك والله أعلم أن كل مرحلة من مراحل الخلق يظهر فيها الحق سبحانه وتعالى من أسمائه وصفاته ما يناسب الغاية من وجودها ويحقق منتهى الحكمة وإبداع الصنعة ودلائل الكمال والجلال ؛ ففي مرحلة الدنيا وما فيها من شهوات وأهواء وتقليب الأمور للإنسان على سبيل الابتلاء ، وحكمة الله في تكليفه بالشرائع والأحكام وتمييز الحلال من الحرام ، في هذه المرحلة تعرف الله عز وجل إلى عباده بجملة من أسمائه وصفاته تناسب حاجة الإنسان وضرورياته ، ذكرها النبي ? في العدد المقصود فقال : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (14) .(31/14)
ولمزيد من البيان يمكن القول : إن الحياة لما كانت دارا للابتلاء والامتحان ومحلا لاختيار الكفر أو الإيمان وكان الناس متفاوتين مختلفين آجالا وأرزاقا ، وألوانا وأخلاقا ، منهم الغني والفقير والأعمى البصير ، منهم القوي والضعيف والظالم والمظلوم والحاكم والمحكوم والمالك والمعدوم ، منهم الكاذب والصادق والمخلص والمنافق إلى غير ذلك من أنواع الأخلاق وتنوع الأرزاق واختلاف السلوك وابتلاء ملك الملوك ، لما كانت الدنيا كذلك ظهرت حكمة الله في تعريف الخلائق ما يناسبهم من أسمائه وصفاته ، فالمذنب من العباد إن أراد التوبة سيجد الله توابا رحيما وعفوا غفورا ، والمظلوم سيجده حقا مبينا حكما عدلا وليا نصيرا ، والضعيف المقهور سيجده قويا عزيزا جبارا قديرا ، والفقير سيجد الله رزاقا حسيبا برا وكيلا وهكذا سيجد العباد من الأسماء والصفات ما يناسب حاجتهم وبغيتهم ، فالفطرة التي فطر الخلائق عليها اقتضت أن تلجأ النفوس إلى قوة عليا عند ضعفها ، وتطلب غنيا أعلى عند فقرها ، وتوابا رحيما عند ذنبها ، وسميعا قريبا بصيرا مجيبا عند سؤالها ومن هنا كانت لكل مرحلة من مراحل الخلق التي قدرها الله عز وجل ما يناسبها من أسمائه وصفاته وأفعاله .
ألا ترى أنه في البدء عندما أسكن الله آدم وحواء جنة الابتلاء فأكلا من الشجرة وانكشفت العورة وتطلبت الفطرة فرجا ومخرجا ؛ كان الفرج والمخرج في أسماء الله التي تناسب حالهما وما يغفر به ذنبهما ، فعلمهما كلمات هي في حقيقتها أسماء لله وصفات ، علم آدم أن يدعو الله باسمه التواب الرحيم كما قال : ? فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? [البقرة:37] ، تَعَلمها ودعا الله بها : ? قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ ? [لأعراف:23] .(31/15)
وروي عن أنس وابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف ( أنهم قالوا : ( الكلمات التي تلقى آدم من ربه فتاب عليه لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافرين ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت أرحم الراحمين ، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم ) (15) .
فطالما أن الدنيا خلقت للابتلاء فإن الله عز وجل قد عرفنا بما يناسبنا ويناسبها من الأسماء ، وهذه الأسماء لا ينفع الدعاء بها أو ببعضها في مرحلة أخري كمرحلة القيامة والدار الآخرة ، فلو دعا المشركون أو الكفار المخلدون ربهم يوم القيامة باسمه العظيم القريب الرفيق المجيب الواسع المنان الرحيم الرحمن المحسن السلام الجواد الفتاح الستير الرءوف الودود اللطيف الكريم الأكرم الغفور الغفار البر الطيب العفو التواب ، لو دعا المخلدون في النار ربهم بأي اسم من هذه الأسماء أن يغفر ذنبهم وأن يعفو عنهم وأن يقبل التوبة منهم وأن يرحمهم من العذاب فإن ذلك لا يتحقق ولا يستجاب لمخالفته مقتضى الحكمة وما دون في أم الكتاب ، ولذلك قال سبحانه وتعالى عن أهل النار ودعائهم : ? وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ? [غافر:49/51] .(31/16)
وقال أيضا : ? قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ? [المؤمنون:106/110] ، ومن ثم فإن كل مرحلة من مراحل الخلق لها ما يناسبها من الحِكَم وإبداء الأسماء .
وقد بين النبي ? أيضا أنه عند مجيء الحق للفصل بين الخلق يوم القيامة يغضب غضبا شديدا لم يَغضَبْ قبلَه مثله ولن يَغضبَ بعدَهُ مثلَه ، فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكَرَبِ ما لا يُطيقون ولا يَحتمِلون ، فيبحثون عن شفيع قريب لكن الأنبياء يتخلفون إلا صاحب المقام المحمود يقول عندها أنا لها ، كما ورد عند البخاري من حديث أبي هريرة ( مرفوعا : ( فأنطِلقُ ، فآتي تحتَ العرش فأقَعُ ساجداً لربي عزَّ وجل ثمَّ يَفتح اللهُ عليَّ من مَحامِدِه وحُسنِ الثناءِ عليهِ شيئاً لم يَفتحْهُ على أحدٍ قبلي ، ثم يُقال : يا محمد ارفَعْ رأسك ، سَل تُعطَهْ ، واشفعْ تُشَفع ) (16) ، وتلك المحامد أو ما ذكره النبي ? في الثناء على ربه - كما ذكر كثير من أهل العلم - أسماء من أسماء الله لم يعلمها أحد من قبل ، يتعلمها النبي ? ويدعوا الله بها فيستجيب له (17) .
ومن ثم فإن أسماء الله التي تعرف بها إلى عباده والتي خصها النبي ? بالعدد المشار إليه في الأحاديث كلها حسنى وكلها عظمى على اعتبار ما يناسبها من أحوال العباد ودعائهم لله بها ، وذلك كابتلاء لهم في الاستعانة بالله ، والصدق معه والرغبة إليه ، والخوف منه ، والتوكل عليه ، وغير ذلك من معاني العبودية وتحقيق العلة الغائية من خلقهم ، ودعوتهم إلي الطاعة وفعل الخيرات ، ومقاومة النفس واتباع الشهوات .(31/17)
والنبي ? لم يبين التسعة والتسعين اسما على وجه العد والتفصيل ليجتهد الناس في البحث والتحصيل ، وفي ذلك حكمة بالغة ومعان ساطعة ؛ أن يطلبها الناس ويتحروها في كتاب الله وفي سنة رسوله ? ؛ لترتفع الدرجات وتتفاوت المنازل في الجنات ، لأنه يلزم لحفظها إحصاؤها واستيفاؤها أولا ؛ وهذا يتطلب اجتهادا وبحثا طويلا ، ثم الإحاطة بمعانيها والعمل بمقتضاها ثانيا ؛ وهذا يتطلب مجاهدة وجهادا كبيرا ، ثم دعاء الله بها وحسن المراعاة لأحكامها وهذا يتطلب علما وفقها وبصيرة وتلك مراتب الإحصاء على ما ترجح من أقوال العلماء .
قال ابن القيم : ( مراتب إحصاء أسمائه التي من أحصاها دخل الجنة وهذا هو قطب السعادة ومدار النجاة والفلاح ، المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وعددها ، المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها ، المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما قال تعالى : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف:180] ، وهو مرتبتان إحداهما : دعاء ثناء وعبادة والثاني : دعاء طلب ومسألة ، فلا يثنى عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذلك لا يسأل إلا بها ، فلا يقال : يا موجود أو يا شيء أو يا ذات اغفر لي وارحمني ؛ بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب ؛ فيكون السائل متوسلا إليه بذلك الاسم ، ومن تأمل أدعية الرسل ولاسيما خاتمهم وإمامهم وجدها مطابقة لهذا ) (18) .
* رأي ابن القيم في مقتضى الأسماء :(31/18)
وقد ذكر ابن القيم في شأن الموحدين أصحاب الهمم العالية أن العبد إذا كانت همته أعلى ونفسه أشرف أقبل على ربه متدبرا لعهده ففهمه وحفظه وعلم أن لربه شأنا في عهده ليس كشأن غيره ، فوجد ربه قد تعرف إليه وعرفه بنفسه ووصفه واسمه وفعله ، وعرفه أيضا بأحكامه ، فعرف العبد من ذلك العهد ربا قيوما بنفسه مقيما لغيره غنيا عن كل ما سواه ، وكل ما سواه فقير إليه ، وأنه مستو على عرشه فوق جميع خلقه ، يرى ويسمع ويرضي ويغضب ويحب ويبغض ويدبر أمر مملكته وهو فوق عرشه متكلم آمر ناه يرسل رسله إلى أقطار مملكته بكلامه الذي يسمعه من يشاء من خلقه ، وأنه قائم بالقسط مجاز بالإحسان والإساءة ، وأنه حليم غفور جواد محسن شكور موصوف بكل كمال ، منزه عن كل عيب ونقص ، وأنه لا مثيل له ولا نظير .(31/19)
وشهد العبد أيضا حكمته في تدبير مملكته ، وكيف يقدر المقادير بمشيئته من غير منازعة لعدله وحكمته ، فتظاهر عنده العقل والشرع والفطرة ، اتفقوا وصدق كل منهما صاحبيه ، وفهم عن الله سبحانه ما وصف به نفسه في كتابه من حقائق أسمائه وأشرقت أنوارها على قلبه فصارت له كالمعاينة ، فرأى حينئذ تعلق الأسماء والصفات بالخلق والأمر وارتباطهما بهما ، وسريان آثارهما في العالم الحسي والعالم الروحي ، ورأى تصرف الأسماء ومقتضياتها في الخلائق ، كيف عمت وخصت وقربت وأبعدت وأعطت ومنعت ؟ فشاهد العبد بقلبه مواقع عدله وقسطه وفضله ورحمته ، واجتمع له الإيمان بلزوم حجته مع نفوذ أقضيته وكمال قدرته مع كمال عدله وحكمته ، ونهاية علوه على جميع خلقه مع إحاطته ومعيته وجلاله وعظمته وكبريائه وبطشه وانتقامه مع رحمته وبره ولطفه وجوده وعفوه وحلمه ، ورأى لزوم الحجة مع قهر المقادير التي لا خروج لمخلوق عنها ، وكيف اصطحاب الصفات وتوافقها وشهادة بعضها لبعض ، وانعطاف الحكمة التي هي نهاية وغاية على المقادير التي هي أول وبداية ، ورجوع فروعها إلى أصولها ومبادئها إلى غاياتها ، حتى كأنه يشاهد مباديء الحكمة وتأسيس القضايا على وفق الحكمة والعدل والمصلحة والرحمة والإحسان ، لا تخرج قضية عن ذلك إلى انقضاء الأكوان وانفصال الأحكام يوم الفصل بين العباد ، وظهور عدله وحكمته وصدق رسله وما أخبرت به عنه لجميع الخليقة ، إنسها وجنها ، مؤمنها وكافرها (19) .
ثم يذكر ابن القيم أنه حينئذ يتبين للخلق من صفات جلاله ونعوت كماله ما لم يكونوا يعرفونه قبل ذلك ، حتى إن أعرف خلقه به في الدنيا يثني عليه يومئذ من صفات كماله ونعوت جلاله ما لم يكن يحسنه في الدنيا ، وكما يظهر ذلك لخلقه تظهر لهم الأسباب التي بها زاغ الزائغون وضل الضالون وانقطع المنقطعون ، فيكون الفرق بين العلم يومئذ بحقائق الأسماء والصفات والعلم بها في الدنيا كالفرق بين العلم بالجنة والنار .(31/20)
وكذلك يفهم العبد كيف اقتضت أسماؤه وصفاته لوجود النبوة والشرائع وأن لا يترك خلقه سدى ؟ وكيف اقتضت ما تضمنته من الأوامر والنواهي ؟ وكيف اقتضت وقوع الثواب والعقاب والمعاد ؟ وأن ذلك من موجبات أسمائه وصفاته بحيث ينزه عما زعم أعداؤه من إنكار ذلك ، ويرى شمول القدرة وإحاطتها بجميع الكائنات حتى لا يشذ عنها مثقال ذرة ، ويرى أنه لو كان معه إله آخر لفسد هذا العالم وفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ، وأنه سبحانه لو جاز عليه النوم أو الموت لتدكدك هذا العالم بأسره ولم يثبت طرفة عين ، ويرى ذلك الإسلام والإيمان اللذين تعبد الله بهما جميع عباده كيف انبعاثهما من الصفات المقدسة ؟ (20) .
أسماء ( الحسنى
التي أدرجت في رواية عبد العزيز بن الحصين عند الحاكم
وما لم يثبت منها أو يوافق شروط الإحصاء
إن لله تسعة وتسعين أسما من أحصاها دخل الجنة
الله الرحمن الرحيم الإله الرب الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق الباريء المصور الحليم العليم السميع البصير الحي القيوم الواسع اللطيف الخبير الحنان المنان البديع الودود الغفور الشكور المجيد المبديء المعيد النور الأول الآخر الظاهر الباطن الغفار الوهاب القادر الأحد الصمد الكافي الباقي الوكيل المجيد المغيث الدائم المتعال ذو الجلال والإكرام المولى النصير الحق المبين الباعث المجيب المحيي المميت الجميل الصادق الحفيظ الكبير القريب الرقيب الفتاح التواب القديم الوتر الفاطر الرزاق العلام العلي العظيم الغني المليك المقتدر الأكرم الرءوف المدبر المالك القدير الهادي الشاكر الرفيع الشهيد الواحد ذو الطول ذو المعارج ذو الفضل الخلاق الكفيل الجليل الكريم البادي العفو الحميد المحيط * .
* عدد الأسماء في الحديث خمسة وتسعون اسما مع لفظ الجلالة ، وقد سقط من النص أربعة أسماء أوردها البيهقي في الاعتقاد وهي على ترتيب ورودها عنده البادي العفو الحميد المحيط(31/21)
المبحث الثاني
شروط إحصاء الأسماء الحسنى
ــــــــــــــ
لم يصح عن النبي ? تعيين الأسماء الحسنى ، قال ابن تيمية : ( لم يرد في تعيينها حديث صحيح عن النبي ? ، وأشهر ما عند الناس فيها حديث الترمذي الذي رواه الوليد بن مسلم عن شعيب عن أبي حمزة ، وحفاظ أهل الحديث يقولون هذه الزيادة مما جمعه الوليد بن مسلم عن شيوخه من أهل الحديث ، وفيها حديث ثان أضعف من هذا رواه ابن ماجه ، وقد روي في عددها غير هذين النوعين من جمع بعض السلف ) (21) .
ويذكر أيضا أنه إذا قيل بتعيينها على ما في حديث الترمذي مثلا ففي الكتاب والسنة أسماء ليست في ذلك الحديث ؛ مثل اسم الرب فإنه ليس في حديث الترمذي وأكثر الدعاء المشروع إنما هو بهذا الاسم ، وكذلك اسم المنان والوتر والطيب والسبوح والشافي ؛ كلها ثابتة في نصوص صحيحة وتتبع هذا الأمر يطول (22) .
وقال ابن الوزير اليماني : ( تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته أو توفيق رباني ، وقد عدم النص المتفق على صحته في تعيينها ، فينبغي في تعيين ما تعين منها الرجوع إلى ما ورد في كتاب الله بنصه أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث ) (23) .
ويضاف إلى ما ذكره ابن الوزير اليماني ضرورة استخراج الشروط أو الضوابط المنهجية التي حملتها النصوص القرآنية والنبوية في تمييز الأسماء الحسنى والتعرف على العلة في إحصاء كل اسم منها ، لأن كثيرا من الذين اعتمدوا في منهجهم على تتبع الأسماء التي نص عليه الكتاب ووردت في صحيح السنة استبعدوا أسماء يقتضي منهجهم إدخالها ؛ وأدخلوا أسماء يقتضي المنهج إخراجها ، فالعملية البحثية الاستقصائية الشاملة المبنية على تتبع ما ورد في الكتاب والسنة ينبغي أن تكون محكومة بضوابط علمية وشروط منهجية تحكم عملية الإحصاء .(31/22)
ومن أفضل من جمع الأسماء الحسنى في عصرنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه القيم القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى حيث اعتمد في منهج الإحصاء على تتبع ما ورد في القرآن وصحيح السنة ، غير أنه استبعد أسماء كان ينبغي إدخالها على مقتضى منهجه في الحصر كاسم الله الديان والرازق والمسعر والستير والمالك ، مع أن الديان ثبت في نص صحيح وإن كان معلقا عند البخاري إلا أنه موصول عند غيره ، وكذلك الرازق والمسعر وردا مع القابض الباسط في غير حديث صحيح ، فأدخل الشيخ اثنين واستبعد اثنين دون ذكر علة أو سبب وكذلك الستير ورد مع الحيِيِّ في نص واحد ، فأدخل أحدهما واستبعد الآخر دون بيان سبب ذلك ، واسم الله المالك ورد مطلقا في السنة ومقيدا في القرآن ولم يدخله الشيخ في الأسماء ، وأدخل العالم والحافظ والمحيط والحفي مع أن هذه الأسماء إنما وردت مضافة مقيدة ، والشيخ رحمه الله نبه على علة تردده في إدخال اسم الله الحفي فقال : ( وإن كان عندنا تردد في إدخال الحفي لأنه إنما ورد مقيداً في قوله تعالى عن إبراهيم ( : ? إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ? ) (24) .
مما يشعر بمفهوم المخالفة أن العالم والحافظ والمحيط وردت مطلقة وهي ليست كذلك ، فإدخال هذه الأسماء تؤدي إلى ضرورة إدخال أسماء كثيرة تركها الشيخ رحمه الله كالبديع والنور والفاطر والجاعل والفالق والبالغ والكفيل وغيرها ، والقصد أن الشيخ لم يبين منهجا يلتزمه في الإحصاء غير أنه اعتمد على ورود النص فقط وهذا وحده لا يكفي كما ذكرنا .
وكذلك الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله في كتابه قطف الجنى الداني استبعد المسعر والقابض والباسط والرازق والجواد والمالك مع ثبوت هذه الأسماء في صحيح السنة ، وأدخل الهادي والحافظ والكفيل والغالب والمحيط مع أنها وردت مضافة مقيدة ويلزمه ما سبق وذكرنا من الأسماء (25) .(31/23)
وفي أطروحته العلمية المتميزة لأسماء الله الحسنى استبعد الشيخ عبد الله صالح الغصن حفظه الله اسم الله المعطي والمالك والسيد والمسعر ، وأدخل العالم والهادي والمحيط والحافظ والحاسب (26) ، ومن ثم فإن الأمر يتطلب منهجا علميا مبنيا على قواعد وضوابط وأسس تحدد شروط إحصاء الأسماء الحسنى من الكتاب والسنة .
وهؤلاء العلماء الأجلاء وإن كانوا من أفضل ما يعتمد على أبحاثهم في تمييز الأسماء الحسنى والتعرف عليها ؛ حيث بلغ إحصاؤهم جميعا قرابة الخمسة والتسعين اسما من الأسماء التي وافقت شروط الإحصاء إلا أنه لا بد من مراعاة الضوابط العلمية الأخرى التي يمكن من خلالها تمييز الاسم عن الوصف والفعل ، ومتى يراد به في النص العلمية ومتى يراد به الوصفية ؟
هذا مع تحري دلالة الاسم على منتهى الكمال والحسن ، ومراعاة ما إذا كان الوصف مطلقا في الدلالة على الكمال ؛ أو مخصصا مقيدا بالإضافة ؛ أو محمولا على وجه الكمال فقط عند انقسام المعنى وتطرق الاحتمال ، فيكون المعنى عند تجرده كمالا في حال ونقصا في حال ، وهل قضية اشتقاق الأسماء من الأوصاف والأفعال تعود إلى اجتهاد الشخص أو إلى ثبوت النص ؟
فلا بد إذا من تحديد الضوابط اللازمة للتعرف على أسماء الله الحسنى ، وهذه القضية تتطلب شروطا منهجية وأصولا مبنية على النصوص القرآنية والنبوية بحيث يكون البحث المعتمد عليها غير مقتصر فقط على ذكر الأسماء الحسنى الثابتة ، بل لا بد أيضا من بيان الأسماء التي لم تنطبق عليها الشروط مع ذكر العلة في استبعادها فيقال : هذا اسم والعلة كذا ، وهذا ليس باسم والعلة كذا وكذا ، وفوق ذلك وقبله يتطلب البحث كما ذكر ابن الوزير توفيقا من الله في جمع النصوص واستيفائها والالتزام بمنهجية البحث والدقة في تطبيقها .(31/24)
وبعد بحث طويل في استخراج الشروط المنهجية أو القواعد الأساسية لإحصاء الأسماء الإلهية التي تعرف الله بها إلى عباده يمكن حصر هذه القواعد أو الضوابط في خمسة شروط لازمة لكل اسم من الأسماء الحسنى ، دل عليها بوضوح شديد قول الله تعالى : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? [لأعراف:180] ، وقال أيضا : ? قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الإسراء:110] ، وحديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( في الصحيحين مرفوعا : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (27) ، أما كيفية استخراج الشروط من هذه الأدلة فبيانها مفصلا على النحو التالي :
* الشرط الأول من شروط الإحصاء :
أن يرد الاسم نصا في الآيات القرآنية أو ما ثبت في صحيح السنة النبوية ، وهذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف:180] وقوله : ? فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الإسراء:110] ، ولفظ الأسماء يدل على أن الأسماء الحسنى معهودة موجودة ، فالألف واللام هنا للعهد ، ولما كان دورنا حيال الأسماء هو الإحصاء دون الاشتقاق والإنشاء ، فإن الإحصاء لا يكون إلا لشيء موجود ومعهود ؛ ولا يعرف ذلك إلا بما نص عليه كتاب الله وما صح بالسند المرفوع إلى رسوله ? ، وفي هذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي وردت في الكتاب والسنة ) (28) .(31/25)
ومن المعلوم من مذهب السلف الصالح أن أسماء الله الحسنى توقيفية على الأدلة السمعية ولا بد فيها من تحري الدليل بطريقة علمية تضمن لنا مرجعية الاسم إلى كلام الله ورسوله ? ، ولا يكون ذلك إلا بالرجوع إلى ما ورد في القرآن أو صحيح السنة النبوية على طريقة المحدثين ؛ فمحيط الرسالة لا تخرج دائرته عن ذلك وقد تلقاها النبي ? عن طريق الوحي وعلى أشكاله المختلفة ، قال تعالى : ? وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ? [النجم:1/5] ، ثم انقطع الوحي بعد موت النبي ? فلا ينزل على أحد إلى يوم القيامة ، وهذا واضح من قوله تعالى : ? مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ? [الأحزاب:40] .
كما أن هذا الشرط يعتمد منهج السلف الصالح أيضا في كون الاحتجاج بصحيح السنة النبوية كالاحتجاج بالآيات القرآنية سواء بسواء ، فلا خلاف بين جمهور العلماء الذين يعتد بهم في أن السنة حجة مستقلة في تشريع الأحكام ، وأنها كالقرآن الكريم في تمييز الحلال من الحرام ، وأنها المصدر الثاني لمعرفة أصول الإسلام وأنها المفصحة عن معاني القرآن والموضحة لأوامره وأخباره والكاشفة عن تأويل النص وبيان أسراره .
وقد أكد القرآن بوضوح أن السنة وحي من الله يجب الإيمان به ويجب اتباع الرسول ? في كل شيء وفي كل وقت ؛ في حياته وبعد مماته ، لأنها أصول لم تخصص بزمن دون زمن ، فيجب تصديق الرسول ? في خبره والطاعة لأمره عن يقين ومحبة وإخلاص .(31/26)
قال ابن حزم الأندلسي : ( إن القرآن لما كان هو الأصل الذي يرجع إليه في معرفة الإسلام وجدنا فيه وجوب طاعة ما أمرنا به رسول الله ? ، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله ? : ? وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ? [النجم:4:3] ، فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله ? على قسمين ، أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن ، والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو ، لكنه مقروء ، وهو الخبر الوارد عن رسول الله ? ، وهو المبين عن الله عز وجل مراده منا ) (29) .
ولا فرق أيضا في الاحتجاج بالسنة النبوية بين باب الأحكام الفقهية وباب القضايا الاعتقادية ، قال أبو طالب المكي : ( فإنا قوم متبعون نقفوا الأثر غير مبتدعين بالرأي والمعقول نرد به الخير .. إلى أن قال : وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الإسلام ؛ لأن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلوا شرائع الدين وأحكام الإيمان ، فإن كانوا عدولا فيما نقلوه من الشريعة فالعدل مقبول القول في كل ما نقلوه ، وإن كانوا كذبوا فيما نقلوا من أخبار الصفات فالكذب مردود القول في كل ما جاءوا به ) (30) .
ولم يختلف أحد من الأمم في أن رسول الله ? بعث إلى الملوك رسولا واحدا يدعوهم إلى الإسلام واحدا واحدا إلى كل مدينة وقبيلة كصنعاء وحضرموت ونجران وتيماء والبحرين وعمان وغيرها من البلدان ، وكان كل رسول يعلم الناس أحكام دينهم كلها ، عقيدة وشريعة ، وافترض النبي ? على كل جهة قبول رواية أميرهم ومعلمهم ، فصح قبول خبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول الله ? (31) .
أما القواعد التي اعتمد البحث عليها في تمييز الحديث المقبول من المردود والصحيح من الضعيف فهي قواعد المحدثين أو ما عرف بعلم مصطلح الحديث الذي يشترط في الحديث الصحيح اتصال السند بنقل العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة (32) .(31/27)
وليس كل ما نسب إلى النبي ? يقبل بلا ضبط أو نقاش ، فلا بد من الترابط العلمي المتصل بين رواة السند بحيث يتلقى الراوي اللاحق عن السابق ، فلا يكون بين اثنين من رواة الحديث فجوة زمنية أو مسافة مكانية يتعذر معها اللقاء أو يستحيل معها التلقي والأداء ، كما يلزم اتصاف الرواة بالعدالة ، وهى صفة خلقية تكتسبها النفس الإنسانية وتحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة ومجانبة الفسوق والابتداع ، فلا يعرف بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ، ولا بد أن يتصف الراوي أيضا بالضبط ، والتثبت من الحفظ ، والسلامة من الخطأ ، وانعدام الوهم مع القدرة على استحضار ما حفظه ، وهذا شرط في جميع رواة الحديث الصحيح من أول السند إلى آخر راوٍ فيه ، يضاف إلى ذلك عدم مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه وأثبت ، ولا يكون في روايته أيضا علة قادحة أو سبب ظاهر يؤدي إلى الحكم بعدم ثبوت الحديث ، فالطريق الوحيد المعتمد في ثبوت السنة هو الالتزام بقواعد المحدثين في معرفتها (33) .
أما الحكم على ثبوت الحديث بالأصول الكلامية أو المناهج الفلسفية أو الكشوفات الذوقية فلا مجال له في بحثنا لأن الآراء العقلية كثيرة ومتضاربة والمواجيد الذوقية مختلفة ومتغيرة ، فالحكم على أحاديث الرسول ? في هذه الحالة يحكمه الهوى ويسوقه استحسان النفس ، ومن ثم لا عبرة بقول من قال من أصحاب الطرق : ( ربما صح عندنا من أحاديث الأحكام ما اتفق المحدثون على ضعفه وتجريح نقلته ، وقد أخذناه بالكشف عن قائله صحيحا فنتعبد به أنفسنا على غير ما تقرر عند علماء الأصول ، ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه وليس بصحيح عندنا بطريقة الكشف فنترك العمل به ) (34) .(31/28)
إن من أعظم الأسس في الاعتماد على السنة الالتزام بقواعد المحدثين في معرفة المقبول من المردود والصحيح من الضعيف ، وقد التزمت في منهجية العمل بالشرط الأول أنه إذا لم يرد الاسم نصا في القرآن الكريم فليزم لأخذه من السنة أن يكون الحديث ثابتا صحيحا ، فلا يعتد بالضعيف في النص على ذكر الأسماء الحسنى ، ولا يعتمد اعتمادا كاملا على ما ثبت وخف ضبطه كالحسن ، لأن الحسن على ما ترجح عند المحدثين من رواية الصدوق ، أو هو ما اتصل سنده بنقل العدل الذي خف ضبطه قليلا عن مثله إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة ، ولربما يثير ذلك إنكار البعض لكنهم لا يختلفون معنا في تطرق الاحتمال إلى ضبط النص والتيقن منه في لفظ الاسم دون الوصف ، ومن ثم لم أعتمد على الحديث الحسن في إحصاء نص الأسماء الحسنى ، وإن اعتمدته حجة في إثبات الأوصاف وشرح معاني الأسماء وبيان دلالة الاسم على المعنى مطابقة وتضمنا والتزاما ، وأيضا في التعرف على كيفية الدعاء بالاسم أو الوصف سواء في دعاء المسألة أو دعاء العبادة ، فالحديث الحسن كما هو الحال عند جمهور أهل العلم حجة مقبول .
وإذا كان الاسم معتمدا في ثبوته على نص ورد في أحد الصحيحين اكتفيت بالإحالة عليه لأنهما أصح الكتب بعد كتاب الله ، وقد اتفقت الأمة على تلقيهما بالقبول ، قال النووي : ( اتفق العلماء رحمهم الله على أن أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان ، البخاري ومسلم ، وتلقتهما الأمة بالقبول ) (35) .
وقال أبو عمرو بن الصلاح : ( أول من صنف في الصحيح البخاري أبو عبد الله محمد بن إسماعيل ، وتلاه أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري ، ومسلم مع أنه أخذ عن البخاري واستفاد منه فإنه يشارك البخاري في كثير من شيوخه وكتاباهما أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز ) (36) .(31/29)
وكذلك إذا لم يرد الاسم نصا في القرآن وورد في السنة معتمدا في حجيته على ثبوت الحديث فقط ، وكان الحديث في غير الصحيحين ، فلا بد من الحكم على صحته من قبل جمع من أعلام المحدثين عملا بالأحوط على قدر المستطاع .
وأما ما عدا البحث عن حجية دليل السنة في ثبوت الاسم ، فاكتفيت غالبا فيما لم يرد في الصحيحين بتراث الشيخ الألباني رحمه الله وحكمه على الحديث من جهة القبول أو الرد ، وقد التزمت ذلك أيضا في بقية الأجزاء المتعلقة بالبحث والتي ستأتي تباعا إن شاء الله .
وسبب ذلك كثرة الأحاديث الواردة في شرح الاسم لغة وشرعا وفهم دلالتها مطابقة وتضمنا والتزاما ، وكذلك كثرة ما ورد منها في الدعاء بنوعيه ، دعاء المسألة ودعاء العبادة ، كما أن الشيخ الألباني من المحدثين المعاصرين الذين أسهموا في تنقية السنة الشريفة من الأحاديث المكذوبة والضعيفة ، وألف كتبا خصصها للأحاديث الصحيحة وأخرى للأحاديث الضعيفة والموضوعة ، وعزل الصحاح عن الضعاف في كتب السنن وغيرها ، وتعد موسوعته الالكترونية مرجعا هاما لدى الباحثين المحققين بعد مطابقتها على المراجع الأصلية .
* الشرط الثاني من شروط الإحصاء :(31/30)
علمية الاسم ، فيشترط في إحصاء الأسماء أن يرد النص مرادا به العلمية ومتميزا بعلامات الاسمية المعروفة في اللغة كأن يدخل على الاسم حرف الجر كما ورد في قوله تعالى : ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ? [الفرقان:58] ، وقوله : ? تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? [فصلت:2] ، أو يرد الاسم منونا فالتنوين من علامات الاسمية كقوله تعالى : ? بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ? [سبأ:15] ، وقوله : ? وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ? [النساء:17] ، أو تدخل عليه ياء النداء كما ورد عند البخاري من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( أن النَّبِيِّ ? قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ : يَا رَبِّ نُطْفَةٌ ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ ) (37) ، وكما ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ ( أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ? جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّى ثُمَّ دَعَا : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ? : ( لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (38) ، أو يكون الاسم معرفا بالألف واللام كقوله تعالى : ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ? [الأعلى:1] ، وقوله : ? تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ? [يس:5] أو يكون المعنى مسندا إليه محمولا عليه كقوله : ? الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً ? [الفرقان:59] ، وقوله تعالى : ? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ? [الكهف:58] ، فالمعنى في الآيتين ورد محمولا على اسم الله الرحمن والغفور مسندا إليهما ، فهذه خمس علامات(31/31)
يتميز بها الاسم عن الفعل والحرف وقد جمعها ابن مالك في قوله :
بالجر والتنوين والندا وأل : ومسند للاسم تمييز حصل (39) .
وهذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى : ? قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ ? [الإسراء:110] ، وقوله أيضا : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف:180] ، ومعنى الدعاء أن تدخل عليها أداة النداء سواء ظاهرة أو مضمرة والنداء من علامات الاسمية ، فلا بد أن تتحقق في الأسماء علامات الاسم اللغوية وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الشرط في قوله : ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها ) (40) ، وعليه فإن كثيرا من الأسماء المشتهرة على ألسنة الناس هي في الحقيقة صفات أفعال وليست أسماء ، ونحن قد علمنا من مذهب السلف الصالح أن أسماء الله الحسنى توقيفية لا بد فيها من أدلة قرآنية أو ما صح عن رسول الله ? في السنة النبوية ، وليست أسماء الله مسألة عقلية اجتهادية يشتق فيها الإنسان لربه من أوصافه وأفعاله ما يشاء من الأسماء ، فكثير من العلماء لاسيما من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم جعلوا المرجعية في علمية الاسم إلى أنفسهم وليس إلى النص الثابت في الكتاب والسنة ، وهذا يعارض ما اتفق عليه السلف في كون الأسماء الحسنى توقيفية .
ومثال الأسماء التي تدخل تحت هذه النوعية ، تسميتهم لله عز وجل بالمعز المذل الخافض الرافع المبديء المعيد الضار النافع المنتقم المميت الباعث الباقي العدل المحصي المقسط المغني ، فمن الذي سمى الله بهذه الأسماء ؟(31/32)
هذه الأسماء جميعها لم ينطبق عليها الشرط الأول وهو ورود النص بعلمية الاسم ، فالمعز المذل اسمان اشتهرا بين الناس شهرة واسعة على أنهما من الأسماء الحسنى ، وهما وإن كان معناهما صحيحا لكنهما لم يردا في القرآن أو السنة ، فقد ذكرهما من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وكذلك عند ابن ماجة والبيهقي وغيرهم (41) ، لكن حجتهم أو مستندهم في إثبات الاسمين هو ما ورد في قول الله تعالى : ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [آل عمران:26] ، فالله أخبر أنه يُؤْتِي وَيَنْزِعُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ ، ولم يذكر في الآية بعد مالك الملك واسمه القدير سوى صفات الأفعال ، فهؤلاء اشتقوا لله اسمين من فعلين وتركوا على قياسهم اسمين آخرين ، فيلزمهم تسمية الله عز وجل بالمُؤْتِي وَالمنْزِعُ طالما أن المرجعية في علمية الاسم إلى الرأي والاشتقاق لا إلى تسمية الله لنفسه أو تسمية نبيه ? .
والخافض الرافع استندوا فيهما إلى ما رواه الإمام مسلم من حديث أَبِى مُوسَى الأشعري ( أن النبي ? قال : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ) (42) ، واستند الإمام البيهقي فيهما إلى المعنى الذي ورد في قول الله تعالى : ? يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ? [الرحمن:29] ، وما ذكره بسنده مرفوعا أنه ? قال : ( من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ) (43) ، وهذا غير كاف في إثبات الاسمين .(31/33)
وأيضا المبديء المعيد ذكرهما من أدرج الأسماء في حديث الترمذي وابن ماجة والحاكم وكذلك البيهقي وغيره ؛ فهم جميعا اشتقوا لله هذين الاسمين باجتهادهم استنادا إلى قوله تعالى : ? إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ? [البروج:13] ، وقوله : ? أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ? [العنكبوت:19] ، ومعلوم أن أسماء الله توقيفية وليس في الآيتين سوى الفعلين فقط .
وكذلك الضار النافع استندوا فيه إلى المفهوم من قوله تعالى : ? قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ ? [الأعراف:188] ، أو ما ورد عند الترمذي وصححه الألباني من حديث ابن عباس ( أن النبي ? قال له : ( وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ) (44) .
ولم يُذكر في الآية أو الحديث النص على الاسم أو حتى الفعل ، ولم أجد في القرآن أو في السنة إلا ما ورد عند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : ( فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلاَّ نَفَعَ اللَّهُ بِهَا ، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ ) (45) ، وهذا أيضا لا يكفي في إثبات الاسم ، أما الضار فالجميع استند إلى المفهوم من الآية والحديث (46) .(31/34)
وكذلك تسميتهم لله بالعدل ، فالعدل لم يرد اسما ولكنهم استندوا إلى المعنى الذي ورد في قوله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان ? [النحل:90] ، وتسميتهم لله بالجليل حيث ذكره جمع كبير ؛ مع أن هذا الاسم لم يرد في الكتاب ولا في السنة ، ولكن استندوا في إثباته إلى اجتهادهم في الاشتقاق من الوصف الذي ورد في قوله تعالى : ? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ? [الرحمن:27] ، وقوله : ? تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ? [الرحمن:78] .
ومن ذلك أيضا تسميتهم لله بالباعث استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله تعالى : ? وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ? [الأنعام:36] ، وقوله : ? ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? [البقرة:56] ، وتسميتهم لله بالمحصي لقوله تعالى : ? لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ? [مريم:94] ، وقوله : ? أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ ? [المجادلة:6] ، وكذلك في اسمه المميت استنادا إلى اجتهادهم في الاشتقاق من الفعل الذي ورد في قوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ? [غافر:68] ، وسموه المنتقم استنادا إلى الاشتقاق من الوصف الذي ورد في قوله تعالى : ? فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ? [إبراهيم:47] (47) .(31/35)
والمقسط أيضا لم يستندوا فيه إلى وصف أو فعل ولكن إلى أمره تعالى بالقسط ومحبته للمقسطين في قوله : ? قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ? [الأعراف:29] ، وقوله : ? وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ? [المائدة:42] ، وكذلك سموه المانع استنادا إلى جتهادهم في الاشتقاق من الفعل الذي ورد في حديث مُعَاوِيَةَ ( مرفوعا : ( اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلاَ مُعْطِىَ لِمَا مَنَعْتَ ) (48) ، وسموا الله بالمغني استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله : ? حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ? [النور:33] وكذلك الباقي لم أجد دليلا استندوا إليه إلا ما ورد في قوله تعالى : ? وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ? [الرحمن:27] ، وكذلك الدافع استنادا إلى المصدر من الفعل دفع في قوله تعالى : ? وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ? [البقرة:251] ، والقاضي استنادا إلى الاشتقاق من الفعل في قوله تعالى : ? وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ? [غافر:20] (49) .
والأمثلة في ذلك كثيرة ، والقصد منها أننا لا نشتق الأسماء الحسنى من صفات الله وأفعاله ، لأن دورنا حيال الأسماء الإحصاء وليس الإنشاء ، ولأن الله تعالى أفعاله صادرة عن أسمائه وصفاته بعكس أسماء المخلوقين فهي صادرة عن أفعالهم ، فالرب تبارك وتعالى أفعاله عن كماله ، والمخلوق كماله عن أفعاله ، فاشتقت له الأسماء بعد أن كمل بالفعل ، فالرب لم يزل كاملا فحصلت أفعاله عن كماله ، لأنه كامل بذاته وصفاته ، فأفعاله صادرة عن كماله ، كمل ففعل ، والمخلوق فعل فكمل الكمال اللائق به (50) ، وسيأتي في المبحث الرابع بإذن الله تعالى حصر الأسماء التي لم تنطبق عليها شروط الإحصاء .
* الشرط الثالث من شروط الإحصاء :(31/36)
أن يرد الاسم على سبيل الإطلاق دون تقييد ظاهر أو إضافة مقترنة ، وذلك بأن يفيد الثناء بنفسه ، لأن الإضافة والتقييد يحدان من إطلاق الحسن والكمال على قدر المضاف وشأنه ، والله عز وجل ذكر أسماءه باللانهائية في الحسن ، وهذا يعني الإطلاق التام الذي يتناول مطلق الكمال في الذات والصفات والأفعال ، ولذلك فإن هذا الشرط مأخوذ من قوله تعالى : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? ، أي البالغة مطلق الحسن بلا قيد ، قال الآلوسي : ( الحسنى أنيث الأحسن ، أفعل تفضيل ، ومعنى ذلك أنها أحسن الأسماء وأجلها لأنبائها عن أحسن المعاني وأشرفها ) (51) .
ويدخل في الإطلاق اقتران الاسم بالعلو المطلق ، لأن معاني العلو كلها - سواء علو الشأن أو علو القهر أو علو الذات والفوقية - هي في حد ذاتها إطلاق ، فالعلو يزيد الإطلاق كمالا على كمال ، كما أن الله عز وجل ذكر من أسمائه الحسنى القدير ، فورد الاسم مطلقا معرفا ومنونا ومرادا به العلمية ومضافا إلى معاني العلو والفوقية في كثير من النصوص القرآنية ، كما ورد في قوله تعالى : ? وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [التوبة:39] ، ثم ذكر الاسم في موضع آخر مطلقا فقط فقال : ? عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ ? [الممتحنة:7] ، وعند المقارنة نجد أن العلو لا يحد من إطلاق الوصف بل يزده كمالا على كمال ، ولذلك فإن كل اسم اقترن بمعاني العلو والفوقية على كل شيء ، فهو في حكم المطلق الذي يفيد المدح والثناء بنفسه ، وهذا الشرط أشار إليه ابن تيمية في تعريفه للأسماء الحسنى بقوله : ( الأسماء الحسنى المعروفة هي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها ) (52) .(31/37)
وإذا كانت الأسماء الحسنى لا تخلو في أغلبها من تصور التقييد العقلي بالممكنات وارتباط آثارها بالمخلوقات كالخالق والخلاق والرازق والرزاق ؛ أو لا تخلو من تخصيص ما يتعلق ببعض المخلوقات دون بعض ؛ كالأسماء الدالة على صفات الرحمة والمغفرة مثل الرحيم والرءوف والغفور والغفار ؛ فإن ذلك التقييد لا يدخل تحت الشرط المذكور وإنما المقصود هو التقييد بالإضافة الظاهرة في النص كالغافر والقابل والشديد في قوله تعالى : ? غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ? [غافر:3] ، وكذلك الفاطر والجاعل في قوله تعالى : ? الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً ? [فاطر:1] ، والمنزل والسريع في الحديث الذي رواه البخاري من حديث عَبْد اللَّهِ بْنَ أَبِى أَوْفَى ( أن رَسُول اللَّهِ ? دَعَا يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ في دعائه : ( اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأَحْزَابَ ) (53) .(31/38)
وكذلك أيضا البالغ في قول الله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ? [الطلاق:3] ، والمحيي ورد مقيدا في قوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى ? [فصلت:39] ، والرفيع في قوله : ? رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ? [غافر:15] ، والمخزي في قوله سبحانه : ? وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ? [التوبة:2] ، والمتم في قوله تعالى : ? وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ? [الصف:8] والمستعان في قوله : ? وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ? [يوسف:18] ، والفالق والمخرج في قوله : ? إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ? [الأنعام:95] ، والحفي في قوله : ? قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ? [مريم:47] .
ومن ذلك أيضا الوالي في قوله : ? وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ? [الرعد:11] ، والنور في قوله تعالى : ? اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? [النور:35] ، والهادي في قوله : ? وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ? [الحج:54] ، والبديع في قوله : ? بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? [البقرة:117] ، والجامع في قوله تعالى : ? رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ? [آل عمران:9] ، والعالم في قوله تعالى : ? عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ? [الرعد:9] ، والعلام في قوله : ? قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ? [سبأ:48] .(31/39)
ومن ذلك أيضا المحيط فقد ورد في القرآن مقيدا في قوله تعالى : ? وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ ? [البقرة:19] ، والكاشف في قوله : ? وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ ? [الأنعام:17] ، والخادع في قوله : ? إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ ? [النساء:142] ، والصاحب والخليفة فيما ورد عند الإمام مسلم من حديث ابن عُمَرَ ( في دعاء السفر أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ في الأَهْلِ ) (54) ، ومقلب القلوب ورد مقيدا في حديث ابن عمر ( عند أبي داود وصححه الألباني قال : ( أكثرُ مَا كان رسولُ الله ? يحلفٌ بهذه اليَمِين ، لا ومُقَلِّبَ القُلوبِ ) (55) ، والقائم ورد مقيدا في قوله تعالى : ? أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ? [الرعد:33] .(31/40)
ويدخل في ذلك أيضا المقيد بقرينة ظاهرة في سياق النص كالزارع في قول الله تعالى : ? أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ? [الواقعة:63/64] حيث قيد الاسم فيها بما يحرثون ، وكذلك الموسع في قوله تعالى : ? وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ? [الذاريات:47] ، والماهد في قوله سبحانه : ? وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ? [الذاريات:48] ، والفاعل في قوله : ? يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ? [الأنبياء:104] ، وكذلك الطبيب في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث أَبِي رِمْثَةَ ( أنه قَالَ : ( فَقَالَ لَهُ أَبِى : أرني هَذَا الذي بِظَهْرِكَ فإني رَجُلٌ طَبِيبٌ ؟ قَالَ ? : اللَّهُ الطَّبِيبُ ، بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ ، طَبِيبُهَا الذي خَلَقَهَا ) (56) ، فالاسم هنا مقيد بما أصاب النبي ? ، وكأنه ? قال : الله طبيب ما أصابني ، بدليل قوله ? بعدها : طبيبها الذي خلقها .
وكثير من الذين توسعوا في جمع الأسماء ولم يلتزموا شرط الإطلاق وقعوا عند إحصاء الأسماء في اضطراب شديد حتى بدا جمعهم مبنيا على الاجتهادات الشخصية دون القواعد العلمية أو الأصول المنهجية ، فأدخل بعضهم ما استحسنه من الأسماء واستعبد منها ما يشاء .
وعلى ذلك فالأسماء المقيدة بالإضافة لا تدخل في الأسماء الحسنى ، وإنما هي من قبيل الصفات الاسمية التي يجوز الدعاء بها على الوضع الذي قيدت به ، ومعلوم أن باب الصفات أوسع من باب الأسماء ، وباب الأفعال أوسع من باب الصفات باب الأخبار أوسع من باب الأفعال (57) .
* الشرط الرابع من شروط الإحصاء :(31/41)
دلالة الاسم على الوصف فلا بد أن يكون اسما على مسمى ، لأن الله عز وجل بين أن أسماءه الحسنى أعلام وأوصاف ، فقال في الدلالة على علميتها : ? قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الإسراء:110] ، فكلها تدل على مسمى واحد ؛ ولا فرق بين الرحمن أو الرحيم أو الملك أو القدوس أو السلام أو المؤمن أو المهيمن أو العزيز أو الجبار أو المتكبر إلى آخر ما ذكر من أسمائه الحسنى في الدلالة على ذاته .
وقال سبحانه وتعالى في كون أسمائه دالة على الأوصاف : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف:180] ، ودعاء الله بها مرتبط بحال العبد ومطلبه وما يناسب حاجته واضطراره ؛ من ضعف أو فقر ، أو ظلم أو قهر ، أو مرض أو جهل ، أو غير ذلك من أحوال العباد ، فالضعيف يدعو الله باسمه القادر القوي ، والفقير يدعوه باسمه الرزاق الغني ، والمقهور المظلوم يدعوه باسمه الحي القيوم إلى غير ذلك مما يناسب أحوال العباد والتي لا تخرج على اختلاف تنوعها عما أظهر الله لهم من أسمائه الحسنى ، ولولا يقين الداعي الفقير أن الله غني قدير لا نظير له في غناه ما التجأ إليه أو دعاه ، واللَّه عز وجل بين أنه يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء لكمال أسمائه وصفاته ، وانفراده عن عباده بالإلهية المطلقة كما قال سبحانه : ? أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَءلَهٌ مَعَ اللَّه قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ? [النمل:62] ، فعلم العقلاء أنه لا يجيب المضطر إذا دعاه ، وهو عاجز لا صفة له مطلقا .(31/42)
وقد ذكر ابن القيم في تعريفه بمنهج السلف في أسماء الله أن الأسماء الحسنى لها اعتباران : اعتبار من حيث الذات ، واعتبار من حيث الصفات ، فهي بالاعتبار الأول مترادفة ، وبالاعتبار الثاني متباينة ، فهي أعلام وأوصاف ، والوصف بها لا ينافي العلمية بخلاف أوصاف العباد فإنها تنافي علميتهم (58) ، فالرحمن اسمه تعالى ووصفه ، لا تنافي اسميته وصفيته ، فمن حيث هو صفة جرى تابعا على اسم الله ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع ، ورود الاسم علما ، وكذلك فإن الأسماء مشتقة من الصفات ، إذ الصفات مصادر الأسماء الحسنى (59) .
كما أن أسماء الله الحسنى لو كانت جامدة لا تدل على وصف ولا معنى لم تكن حسنى لأن الله أثنى بها على نفسه فقال : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الأعراف:180] والجامد لا مدح فيه ولا دلالة له على الثناء ، كما أنه يلزم أيضا من كونها جامدة أنه لا معنى لها ، ولا قيمة لتعدادها أو الدعوة إلى إحصائها ، ويترتب على ذلك أيضا رد ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ( مرفوعا : ( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمَا مِائَةً إِلاَّ وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ ) (60) .(31/43)
ولذلك استقبح أهل العلم مذهب المعتزلة في إثبات الأسماء ونفي دلالتها على الصفات ، لأن معنى ذلك أنهم أثبتوا وجود الذات فقط ، وجعلوا أسماء اللَّه الدالة عليها أسماء فارغة من الأوصاف ، أسماء بلا مسمى ، فقالوا : هو العليم بلا علم والسميع بلا سمع ، والبصير بلا عين ، ومعلوم من مذهب السلف الصالح أن أسماء الله في دلالتها لا تشبه أسماء المخلوقين في دلالتها ، فقد يسمى الإنسان سعيدا وهو حزين ، أما رب العزة والجلال فهو الغني الذي يتصف بالغني لا الفقر ، وهو القوي الذي يتصف بالقوة لا الضعف ، وهو السميع الذي يتصف بالسمع تعالى اللَّه عن ضدها ، وهكذا في سائر الأسماء والصفات ، ولهذا كانت أسماؤه حسنى وعظمى ولا تكون حسنى وعظمى بغير ذلك .
أما مثال ما لم يتحقق فيه الدلالة على الوصف من الأسماء الجامدة ما ورد عند البخاري من حديث أَبِي هريرة ( أن رسول الله ? قال : ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ ، يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ ، بِيَدِي الأَمْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ) (61) ، فالدهر ذكره ابن حزم في الأسماء الحسنى استنادا إلى هذا الحديث (62) ، والأمر ليس كذلك لأن الدهر اسم جامد لا يتضمن وصفا يفيد الثناء بنفسه .(31/44)
وقد ذكر الشيخ ابن عثيمين من أسباب استبعاده أنه لا يحمل معنى يلحقه بالأسماء الحسنى ، كما أنه في حقيقته اسم للوقت والزمن ؛ كما قال تعالى عن منكري البعث : ? وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ? [الجاثية:24] وهم يريدون مرور الليالي والأيام ، والحديث لا يدل على أن الدهر من أسماء الله تعالى ، وذلك أن الذين يسبون الدهر إنما يريدون الزمان الذي هو محل الحوادث لا يريدون الله تعالى ، فيكون معنى قوله ?: ( وأنا الدهر ) ما فسره بقوله : ( بيدي الأمر أقلب الليل والنهار ) ، فهو سبحانه خالق الدهر وما فيه ، وقد بين أنه يقلب الليل والنهار وهما الدهر ، ولا يمكن أن يكون المقلب هو المقلب ، وبهذا يتبين أنه يمتنع أن يكون الدهر في هذا الحديث مرادا به الله تعالى (63) .
ويلحق بذلك أيضا الحروف المقطعة في أوائل السور والتي اعتبرها البعض من أسماء الله ، حيث قيل هي اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها ، وقيل : هي أسماء لله أقسم بها ، وقال آخرون : الم ، الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ? ، وقيل : الألف مفتاح اسمه الله ، واللام مفتاح اسمه اللطيف ، والميم مفتاح اسمه المجيد ، وقيل أيضا : الم تعني أنا الله أعلم ، والر أنا الله أرى ، والمص أنا الله أفصل ، فالألف تؤدي عن معنى أنا ، واللام تؤدي عن اسم الله ، والميم تؤدي عن معنى أعلم وهذه كلها آراء اجتهادية ليست مبنية على حديت ثابت مرفوع (64) .(31/45)
قال العكبري : ( هذه الحروف المقطعة كل واحد منها اسم ، فألف اسم يعبر به عن مثل الحرف الذي في قال ، ولام يعبر بها عن الحرف الأخير من قال وكذلك ما أشبهها ، والدليل على أنها أسماء أن كلا منها يدل على معنى في نفسه ، وهي مبنية لأنك لا تريد أن تخبر عنها بشيء ، وإنما يحكى بها ألفاظ الحروف التي جعلت أسماء لها فهي كالأصوات نحو غاق في حكاية صوت الغراب ) (65) ، وقد ذكر القاضي أبو بكر بن العربي بطلان مثل هذا الكلام فقال : ( ومن الباطل علم الحروف المقطعة في أوائل السور ) (66) .
وقال السيوطي : ( وقد تحصل لي فيها عشرون قولا وأزيد ، ولا أعرف أحدا يحكم عليها بعلم ولا يصل منها إلى فهم ، والذي أقوله إنه لولا أن العرب كانوا يعرفون أن لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي ? ، بل تلى عليهم حم فصلت و ص وغيرهما فلم ينكروا ذلك ، بل صرحوا بالتسليم له في البلاغة والفصاحة مع تشوفهم إلى عثرة وغيرها وحرصهم على زلة ، فدل على أنه كان أمرا معروفا بينهم لا إنكار فيه ) (67) .(31/46)
ولا يعني القول باشتراط دلالة الاسم على الوصف أن نشتق لله من صفاته وأفعاله أسماءه ؛ لأن ذلك مرجعه إلى النص الشرعي دون القياس اللغوي ، وليس مراد من قال من أهل العلم أن أسماء الله مشتقة من الصفات والأفعال سوى أنها تلاقي مصادرها اللغوية في اللفظ والمعنى ، لا أنها متولدة منها وصادرة عنها صدور الفرع عن أصله ، وتسمية النحاة المصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر ؛ وإنما هو باعتبار أن أحدهما متضمن للآخر وزيادة ، فالاشتقاق هنا ليس هو اشتقاقا ماديا أو تشبيها عقائديا يحكمه ما يحكم المخلوق ، وإنما هو اشتقاق لغوي متلازم بين الاسم والفعل والوصف ؛ ولا محذور في القول باشتقاق أسماء الله الحسنى على هذا المعنى مع التنبيه على أن حق التسمية تكون المرجعية فيه إلى تسمية الله لنفسه أو تسمية نبيه ? ، وأن الأسماء الحسنى أزلية أولية بأولية الذات (68) .
وعلى ذلك فإن الاسم إذا أطلق على الله عز وجل جاز أن يشتق منه المصدر والفعل فيخبر به عنه فعلا ومصدرا ، نحو السميع البصير القدير ؛ يطلق عليه منه السمع والبصر والقدرة ، ويخبر عنه بالأفعال من ذلك نحو قوله تعالى : ? قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ? [المجادلة:1] ، وقوله : ? فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ? [المرسلات:23] ، هذا إن كان الفعل متعديا ، فإن كان لازما لم يخبر عنه به نحو الحي بل يطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل (69) .
* الشرط الخامس من شروط الإحصاء :(31/47)
أن يكون الوصف الذي دل عليه الاسم في غاية الجمال والكمال فلا يكون المعنى عند تجرد اللفظ منقسما إلى كمال أو نقص أو يحتمل شيئا يحد من إطلاق الكمال والحسن ، وذلك الشرط مأخوذ من قول الله تعالى : ? وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ? [الأعراف:180] ، وكذلك قوله سبحانه : ? تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ ? [الرحمن:78] ، فالآية تعني أن اسم الله جل شأنه تنزه وتمجد وتعظم وتقدس عن كل معاني النقص (70) ، لأنه سبحانه وتعالى له مطلق الحسن والجلال وكل معاني الكمال والجمال .
والله عز وجل لا يتصف إلا بالكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه كالحياة والعلم والقدرة ، والسمع والبصر والرحمة ، والعزة والحكمة والعظمة وغير ذلك من أوصاف الكمال ، أما ضد ذلك من أوصاف النقص كالموت والعجز والظلم ، والغفلة والسنة والنوم ، فالله منزه عنها وعن كل وصف لا يليق بجلاله مما وصف الواصفون فقال : ? سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ ? [الصافات:180] .
أما إذا كان الوصف عند تجرده عن الإضافة في موضع احتمال ، فكان كمالا في حال ونقصا في حال ، فهذا لا يصح فيه إطلاق الاسم أو الوصف ، وينبغي على المسلم ألا يثبته لله إثباتا مطلقا ولا ينفيه عنه نفيا مطلقا ، بل لا بد من البيان والتفصيل والتقيد بما ورد في التنزيل ، وهذا منهج السلف الصالح في الألفاظ التي تحتمل وجهين عن التجرد عن الإضافة ، كالمكر والخداع والنسيان ، والاستهزاء والكيد والخذلان وغير ذلك من الأوصاف كالتردد والاستخلاف (71) .(31/48)
فالمكر مثلا هو التدبير في الخفاء بقصد الإساءة أو الإيذاء وهذا قبيح مذموم ، أو بقصد الابتلاء والجزاء وهذا ممدوح محمود ، ولهذا لا يصح إطلاق الماكر اسما ووصفا في حق الله دون تخصيص لأن الإطلاق فيه احتمال اتصافه بالنقص أو الكمال ، والله نسب إلى نفسه المكر مقيدا فقال : ? وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ? [آل عمران:54] ، وقال جل شأنه : ? وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ? [النمل:50] ، وفي هذه المواضع لا يحتمل التقييد إلا الكمال فجاز أن يتصف به رب العزة والجلال .
وما يقال في المكر يقال أيضا في الاستهزاء والخداع والسخرية والكيد ، فليس من أسمائه الماكر والخادع والفاتن والمضل والفاعل والكاتب ونحوها لأن ذلك يكون كمالا في موضع ونقصا في آخر فلا يتصف به إلا في موضع الكمال فقط .
وهكذا القول في وصف الخلافة التي تضمنها الاسم المقيد في حديث مسلم عن ابن عُمَرَ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ في دعاء السفر : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ في الأَهْلِ ) (72) ، لأن الخلافة تعني عند التجرد النيابة عن الغير ، وتكون عن نقص أو عن كمال ، قال الراغب الأصفهاني : ( والخلافة النيابة عن الغير ، إما لغيبة المنوب عنه ، وإما لموته ، وإما لعجزه ، وإما لتشريف المستخلَف ) (73) ، فلا يمكن أن يحمل كلام النبي ? على الوجه الأخير .(31/49)
وقال ابن القيم : ( لفظ الخداع ينقسم إلى محمود ومذموم فإن كان بحق فهو محمود ، وإن كان بباطل فهو مذموم ) (74) ، وقد ذكر أيضا مما يدخل تحت هذه النوعية المكر ، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم وحقيقته إظهار أمر وإخفاء خلافه ليتوصل به إلى مراده ، فمن المحمود : مكره تعالى بأهل المكر مقابلة لهم بفعلهم وجزاء لهم بجنس عملهم ، وكذلك الكيد ينقسم إلى نوعين ، وقال تعالى : ? إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا ? [الطارق/16:15] (75) .(31/50)
وقال أيضا في معنى الشرط الخامس من شروط الإحصاء : ( فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها ، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته ، وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته له دون اللفظ ولاسيما إذا كان مجملا أو منقسما إلى ما يمدح به وغيره ؛ فإنه لا يجوز إطلاقه إلا مقيدا ، وهذا كلفظ الفاعل والصانع ، فإنه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا أطلقه على نفسه ، كقوله تعالى : ? فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ? [البروج:16] ، وقوله : ? يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ? [الحج:18] ، وقوله : ? صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ? [النمل:88] ، فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم ولهذا المعنى والله أعلم لم يجيء في الأسماء الحسنى المريد ، كما جاء فيها السميع البصير ، ولا المتكلم ولا الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء ، بل وصف نفسه بكمالاتها وأشرف أنواعها ، ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا فأدخله في أسمائه الحسنى ، فاشتق له اسم الماكر والخادع والفاتن والمضل والكاتب ونحوها من قوله : ? وَيَمْكُرُ اللَّهُ ? [الأنفال:30] ، ومن قوله : ? وَهُوَ خَادِعُهُمْ َ? [النساء:142] ، ومن قوله : ? لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ? [طه:131] ، ومن قوله : ? يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ? [الرعد:27] وقوله تعالى : ? كَتبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ ? [المجادلة:21] ) (76) ، ثم بين رحمه الله خطأهم في ذلك من عدة وجوه :
الأول : أنه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء فإطلاقها عليه لا يجوز .
الثاني : أنه سبحانه أخبر عن نفسه بأفعال مختصة مقيدة فلا يجوز أن ينسب إليه مسمى الاسم عند الإطلاق .(31/51)
الثالث : أن مسمى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدح عليه المسمى به وإلى ما يذم فيحسن في موضع ويقبح في موضع ، فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل .
الرابع : أن هذه ليست من الأسماء الحسنى التي يسمى بها سبحانه كما قال تعالى : ? وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الأعراف:180] ، وهي التي يحب سبحانه أن يثنى عليه ويحمد بها دون غيرها .
الخامس : أن هذا القائل لو سمي بهذه الأسماء ، وقيل له : هذه مدحتك وثناء عليك فأنت الماكر الفاتن المخادع المضل اللاعن الفاعل الصانع ونحوها لما كان يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدها مدحة ، ولله المثل الأعلى سبحانه وتعالى عما يقول الجاهلون به علوا كبيرا .
السادس : أن هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه اللاعن والجائي والآتي والذاهب والتارك والمقاتل والصادق والمنزل والنازل والمدمدم والمدمر وأضعاف ذلك فيشتق له اسما من كل فعل أخبر به عن نفسه وإلا تناقض تناقضا بينا ، ولا أحد من العقلاء طرد ذلك ، فعلم بطلان قوله والحمد لله رب العالمين (77) .
هذه الشروط هي التي تتبعنا من خلالها الأسماء الحسنى في الكتاب والسنة ، وقد ذكر مختلف العلماء الذين تكلموا في إحصاء الأسماء الحسنى ما يزيد على المائتين والثمانين اسما ، وعند تطبيق هذه الشروط على ما جمعوه لم تنطبق إلا على تسعة وتسعين اسما فقط دون لفظ الجلالة ويعلم الله أنها كانت مفاجأة لي كما هو الحال لدى القارئ ، وقد ساعدني في ذلك التقنية الحديثة في استقصاء الاسم ومشتقات المعنى اللغوي في القرآن الكريم ومختلف كتب السنة من خلال الموسوعات الإلكترونية الضخمة ، فكانت النتيجة كما ذكر نبينا ? تسعة وتسعين اسما .
وهذه الأسماء التي تتبعتها نظمها الشيخ أبو يزن حمزة بن فايع الفتحي في قصيدته التي سماها اللؤلؤة الفضلى في نظم أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة وقد ضمنها شروط الإحصاء مع ضرب الأمثلة لها فقال :(31/52)
ثم هنا قد تمت الأسماءُ : تسع وتسعون ولا افتراءُ
فخذها بالقبولِ والتسليمِ : فإنها من مصدرٍ عليمِ
قد حدها بالقيد والشرائطِ : محصورةً في خمسةِ الضوابطِ
النص محفوظٌ بلا إقحامِ : وكونُه اسماً من الأعلامِ
وإنه يجري على الإطلاقِ : يحمل ذا الوصف بلا شقاقِ
في غاية الجمالِ والكمالِ : ليس بمقسومٍ ولا انفصالِ
تلك هي الشروط باستيفاءِ : فطبقن من غير ما هباء ِ
ينأى بها البديع والعلام : والمكر والدهر كذا القيام
فحل ذا النفس بذي الأسماء : وزنها بالإخلاص والرجاء
أما الأسماء الحسنى التي انطبقت عليها شروط الإحصاء والتي سيأتي بيان أدلتها من القرآن وصحيح السنة فهي كالتالي : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ الأَوَّلُ الآخِرُ الظَّاهِرُ البَاطِنُ السَّمِيعُ البَصِيرُ المَوْلَى النَّصِيرُ العَفُوُّ القَدِيرُُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ الوِتْرُ الجَمِيلُ الحَيِيُّ السِّتيرُ الكَبِيرُ المُتَعَالُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الحَقُّ المُبِينُ القَوِيُِّ المَتِينُ الحَيُّ القَيُّومُ العَلِيُّ العَظِيمُ الشَّكُورُ الحَلِيمُ الوَاسِعُ العَلِيمُ التَّوابُ الحَكِيمُ الغَنِيُّ الكَرِيمُ الأَحَدُ الصَّمَدُ القَرِيبُ المُجيبُ الغَفُورُ الوَدودُ الوَلِيُّ الحَميدُ الحَفيظُ المَجيدُ الفَتَّاحُ الشَّهيدُ المُقَدِّمُ المُؤخِّرُ المَلِيكُ المُقْتَدِرْ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ القَاهِرُ الديَّانُ الشَّاكِرُ المَنانَّ القَادِرُ الخَلاَّقُ المَالِكُ الرَّزَّاقُ الوَكيلُ الرَّقيبُ المُحْسِنُ الحَسيبُ الشَّافِي الرِّفيقُ المُعْطي المُقيتُ السَّيِّدُ الطَّيِّبُ الحَكَمُ الأَكْرَمُ البَرُّ الغَفَّارُ الرَّءوفُ الوَهَّابُ الجَوَادُ السُّبوحُ الوَارِثُ الرَّبُّ الأعْلى الإِلَهُ .(31/53)
هذا مع مراعاة أن ترتيب الأسماء الحسنى مسألة اجتهادية راعينا في معظمها ترتيب اقتران الأسماء بورودها في الآيات مع تقارب الألفاظ على قدر المستطاع ليسهل حفظها بأدلتها ، والأمر في ذلك متروك للمسلم وطريقته في حفظها .
المبحث الثالث
الأدلة على أسماء الله الحسنى
ــــــــــــــــ
1- ( ( الرَّحْمَنُ :
اسم الله الرحمن ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا ومنونا مفردا ومقترنا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه كما جاء في قوله تعالى : ? الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ ? [الرحمن:1/2] ، وقوله : ? قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الإسراء:110] ، وقد ورد الاسم في خمسة وأربعين موضعا من القرآن اقترن في ستة منها باسمه الرحيم ، ولم يقترن بغيره في بقية المواضع ، قال تعالى : ? هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ? [الحشر:22] ، وقال : ? تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ِ? [فصلت:2] .(31/54)
ومما ورد في السنة ما رواه أحمد وصححه الألباني من حديث ابنِ مَسْعُودٍ ( أن النَّبِي ? قَالَ : ( الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ ، فَفَرَسٌ لِلرَّحْمَنِ وَفَرَسٌ لِلإِنْسَانِ وَفَرَسٌ لِلشَّيْطَانِ ، فَأَمَّا فَرَسُ الرَّحْمَنِ فَالَّذِي يُرْبَطُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .. الحديث ) (78) ، وفي المسند أيضا وصححه الألباني من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ( أِنَّ النَّبِيَّ ?قَالَ : ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنِ اسْمِي .. الحديث ) (79) ، وكذلك من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ ( وصححه الألباني في دعائه ? : ( وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ إِلاَّ طَارِقاً يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ .. الحديث ) (80) .
2- ( ( الرَّحِيمُ :
اسم الله الرحيم تحققت فيه شروط الإحصاء ، فقد ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا ومنونا ، مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، واسم الله الرحيم اقترن باسمه الرحمن كما تقدم في ستة مواضع من القرآن ، وغالبا ما يقترن اسم الله الرحيم بالتواب والغفور والرءوف والودود والعزيز ، وذلك لأن الرحمة التي دل عليها الرحيم رحمة خاصة تلحق المؤمنين ، فالله عز وجل رحمته التي دل عليها اسمه الرحمن شملت الخلائق في الدنيا ، مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم ، لكنه في الآخرة رحيم بالمؤمنين فقط (81) .
ومما ورد في الدلالة على ثبوت اسم الله الرحيم قوله تعالى : ? تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم ِ? [فصلت:2] ، وقوله : ? سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ? [يّس:58] ، وكذلك قوله تعالى : ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? [الحجر:50] .(31/55)
أما أدلة السنة فمنها ما رواه البخاري من حديث أَبِى بَكْرٍ الصديق ( أَنَّهُ قَالَ لِلنَّبِيِّ ? : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي ، قَالَ : ( قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (82) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث عبد الله بنِ عُمَرَ ( قَالَ : ( إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ? فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَىَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (83) .
3- ( ( المَلِكُ :
اسم الله الملك ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا بالألف واللام مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه ، ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُون َ? [الحشر:23] ، وقوله : ? فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم ِ? [المؤمنون:116] .(31/56)
وعند مسلم من حديث عَلِىِّ ( في دعاء النبي ? إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ : ( اللهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ .. الحديث ) (84) ، وعند البخاري من حديث أبي هُرَيْرَةَ ( قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ? يَقُولُ : ( يَقْبِضُ اللهُ الأَرْضَ وَيَطْوِى السماوات بِيَمِينِهِ ثُمَّ يَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَيْنَ مُلُوكُ الأَرْضِ ) (85) ، وعند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( أن رَسُولِ اللهِ ? قَالَ : ( يَنْزِلُ اللهُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُل لَيْلَةٍ حِينَ يَمْضِي ثُلُثُ الليْلِ الأَوَّلُ فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ ، أَنَا المَلِكُ ، مَنْ ذَا الذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ؟ .. الحديث ) (86) .
4- ( ( القُدُّوسُ :(31/57)
ورد الاسم في القرآن مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه في موضعين من القرآن ، الأول في قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر:23] ، والثاني في قوله : ? يُسَبِّحُ لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ ? [الجمعة:1] ، ومن السنة ما ورد عند مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (87) ، وفي سنن أبي داوود وقال الألباني حسن صحيح من حديث شَرِيقٌ الهَوْزَنِي ( عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا هَبَّ مِنَ الليْلِ كَبَّرَ عَشْرًا وَحَمِدَ عَشْرًا ، وَقَالَ : سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ عَشْرًا ، وَقَالَ : سُبْحَانَ المَلِكِ القُدُّوسِ عَشْرًا وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا وَهَللَ عَشْرًا .. الحديث ) (88) .
5- ( ( السَّلامُ :
لم يرد الاسم في القرآن إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر:23] ، وفي هذا الموضع ورد مطلقا معرفا مرادا به العلمية ومسندا إليه المعنى محمولا عليه ودالا على الوصفية وكمالها .(31/58)
وعند البخاري من حديث ابن مسعود ( قال : ( كُنَّا إِذَا صَليْنَا خَلفَ النَّبِيِّ ? قُلنَا : السَّلاَمُ عَلَى جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ ، السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ ، فَالتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ? فَقَالَ : إِنَّ اللهَ هُوَ السَّلاَمُ .. الحديث ) (89) ، وفي صحيح مسلم من حديث ثَوْبَانَ ( أنه قَالَ : ( كَانَ رَسُولُ اللهِ ? إِذَا انْصَرَفَ مِنْ صَلاَتِهِ اسْتَغْفَرَ ثَلاَثًا وَقَالَ : اللهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ) (90) ، وفي صحيح الجامع من حديث أبي هريرة ( أن النبي ? قال : ( إن السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم ) (91) .
6- ( ( المُؤْمِنُ :
ورد الاسم في القرآن الكريم في موضع واحد وهو قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر:23] ، وفي هذا الموضع كما سبق في اسمه السلام ورد مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، هذا بالإضافة إلى الإسناد إليه وحمل المعنى تابعا عليه ، ولم يرد في السنة إلا في أحاديث سرد الأسماء عند الترمذي من طريق الوليد بن مسلم ، وعند ابن ماجة من طريق عبد الملك الصنعاني وعند غيرهما أيضا ، وهذه الأسماء مدرجة في الأحاديث وتعيينها ليس من كلام النبي ? باتفاق أهل المعرفة بحديثه ، وإن كانت آية الحشر كافية شافية في إثبات الاسم وإحصائه .
7- ( ( المُهَيْمِنُ :
لم يرد في القرآن إلا في موضع واحد وهو قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر:23] ، ولم يرد في السنة .
8- ( ( العَزِيزُ :(31/59)
ورد اسم الله العزيز في كثير من النصوص القرآنية مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في قول الله تعالى : ? هُوَ الذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ? [آل عمران:6] ، وقوله : ? وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ? [الفتح:7] ، واسم الله العزيز ورد مقترنا ببعض الأسماء الحسنى كالحكيم والعليم والخبير والحميد والرحيم والغفار والوهاب والقوي .
وفي الجامع الصغير وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ? كان إذا تضور من الليل - تقلب وتلوى من شدة الألم - قال : ( لا إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (92) .
9- ( ( الجَبَّارُ :
ورد الاسم في القرآن الكريم في موضع واحد وهو قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر:23] ، وانطبقت عليه شروط الإحصاء وهي الإطلاق والعلمية ودلالته على كمال الوصفية ، وقد وردت في السنة النبوية أدلة كثيرة منها ما رواه البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( أن النَّبِي ? قال : ( تَكُونُ الأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً ، يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ ، كَمَا يَكْفَأُ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ ، نُزُلاً لأَهْلِ الْجَنَّةِ ) (93) .
وعند مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ : ( يَأْخُذُ الْجَبَّارُ عَزَّ وَجَلَّ سَماَوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ ) (94) .
10- ( ( المُتَكَبِّرُ :(31/60)
لم يرد في القرآن الكريم إلا في قوله تعالى : ? هُوَ اللهُ الذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? [الحشر:23] وفي هذا الموضع سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى أيضا محمولا عليه مسندا إليه ، وفي السنة روى أحمد بسند صحيح عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( أنه قَالَ : ( قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ? هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ : ? وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون َ? قَالَ : ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا الجَبَّارُ ، أَنَا المُتَكَبِّرُ ، أَنَا المَلِكُ ، أَنَا المُتَعَالِ ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ قَالَ : فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ? يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) (95) .
11- ( ( الخَالِقُ :
ورد الاسم في القرآن مطلقا ومقيدا معرفا ومنونا كما في قوله تعالى : ? هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الحشر:24] ، وقوله : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ? [فاطر:3] ، وورد مقيدا في مواضع كثيرة كقوله تعالى : ? اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? [الزمر:62] .(31/61)
أما ما ورد في السنة فقد روى الإمام أحمد وصححه الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( قَالَ : غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ? فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (96) ، وقد صح من حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري والنواس بن سمعان ( ، أن النَّبِي ? قَالَ : ( لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخالق ) (97) .
12- ( ( البَارِئُ :
ورد الاسم في القرآن مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ? هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الحشر:24] ، وورد مقيدا في قوله تعالى عن موسى ( : ? فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? [البقرة:54] ، والاسم لم يرد في السنة إلا في سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة ، وسرد الأسماء ليس من كلام النبي ? .
13- ( ( المُصَوِّرُ :
لم يرد الاسم في القرآن الكريم إلا في قوله تعالى : ? هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى ? [الحشر:24] ، وقد تحققت فيه شروط الإحصاء كما في الأسماء السابقة ، ولم يثبت الاسم في السنة النبوية .
14- ( ( الأَوَّلُ :(31/62)
اسم الله الأول سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في نص واحد من النصوص القرآنية ، قال تعالى : ? هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الحديد:3] ، وورد في السنة عند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( أن النَّبِيِّ ? قال : ( اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَاغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ ) (98) .
15- ( ( الآخِرُ :
اسم الله الآخر ورد مع الاسم السابق في قوله تعالى : ? هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الحديد:3] ، وكذلك ورد في السنة في دعاء النَّبِيِ ? الذي تقدم : ( وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء ) .
16- ( ( الظَّاهِرُ :
ورد الاسم مقترنا بالاسمين السابقين في قوله تعالى : ? هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الحديد:3] ، وفي السنة أيضا دعاء النَّبِيِ ? الذي تقدم في اسمه الأول : ( وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء ) .
17- ( ( البَاطِنُ :
ورد الاسم مع الأسماء الثلاثة السابقة في قوله تعالى : ? هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? [الحديد:3] ، وكذلك ورد في السنة في دعاء النَّبِيِ ? الذي تقدم في اسمه الأول : ( وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء ) .
18- ( ( السَّمِيعُ :(31/63)
سمى الله نفسه السميع في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، وقد ورد فيها الاسم مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فمن القرآن قوله تعالى : ? ليْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? [الشورى:11] ، وقوله : ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ? [النساء:58] ، وقد ورد الاسم مقترنا باسم الله العليم في أكثر من ثلاثين موضعا ، ومقترنا باسم الله البصير في أكثر من عشرة مواضع ، ومقترنا باسم الله القريب في قوله تعالى : ? قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ? [سبأ:50] .
وفي السنة ورد عند البخاري من حديث أبي موسى ( قال : كنّا مع النبيِّ ? في سَفَر ، فكنا إذا عَلونا كبَّرنا ، فقال النبيُّ ? : ( أيها الناس أربَعوا على أنفُسِكم فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائباً ، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ) (99) .
وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أَبِى سَعِيدٍ الخُدْرِي ( أن النبي ? كان يستفتح في صلاته قبل القراءة بقوله : ( أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) (100) .
19- ( ( البَصِيرُ :(31/64)
اسم الله البصير ورد مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقترنا باسم الله السميع في آيات كثيرة كقوله تعالى : ? سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ليْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسْجِدِ الأَقْصَى الذِي بَارَكْنَا حَوْلهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ? [الإسراء:1] ، وقوله : ? اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ? [الحج:75] ، وقد ورد مطلقا منونا مفردا في موضعين ومقترنا بالسميع في ستة مواضع ، قال تعالى : ? وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ? [الفرقان:20] .
أما ما ورد في السنة فقد تقدم الحديث في الاسم السابق : ( فإنكم لا تَدْعونَ أصمَّ ولا غائبا ، ولكنْ تدعون سميعاً بصيراً ) ، وورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ ( أنه قْرَأ هَذِهِ الآيَةَ : ? إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً ? ، ثم قَالَ : رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ? يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ (101) .
20- ( ( المَوْلَى :(31/65)
اسم الله المولى ورد في القرآن علي سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ? وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ? [الأنفال:40] ، وقال سبحانه : ? وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ? [الحج:78] ، وقد ورد مقيدا في قوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ? [محمد:11] ، وقوله : ? قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? [التوبة:51] .
وعند البخاري من حديث الْبَرَاء بْن عَازِبٍ ( أن أبا سفيان قال يوم أحد : ( إِنَّ لَنَا الْعُزَّى وَلاَ عُزَّى لَكُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ?: أَلاَ تُجِيبُوا لَهُ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا اللَّهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ ) (102) .
21- ( ( النَّصِيرُ :(31/66)
ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقرونا باسم الله المولى في موضعين من القرآن ، قال تعالى : ? وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ? [الأنفال:40] ، وقال : ? وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ? [الحج:78] ، وقد ورد الاسم مقيدا في غير موضع من القرآن كقوله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ? [التوبة:116] ، وقوله : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ? [الفرقان:31] ، وعند أبي داود والترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ( أن رَسُولُ اللَّهِ ? كَانَ إِذَا غَزَا قَالَ : ( اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي ، بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ ) (103) .
22- ( ( العَفُوُّ :
سمى الله نفسه العفو على سبيل الإطلاق في قوله تعالى : ? إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ? [النساء:149] ، وقوله : ? فَأُولَئِكَ عَسَي اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ? [النساء:99] وقوله : ? ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ? [الحج:60] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو ؟ قَالَ : تَقُولِينَ : اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ) (104) .(31/67)
وعند أحمد وحسنه الألباني من حديث عبد الله بن مسعود ( قَالَ : ( إِنَّ أَوَّلَ رَجُلٍ قُطِعَ فِي الإِسْلاَمِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ أُتِي بِهِ إلى النَّبِي ? فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا سَرَقَ ، فَكَأَنَّمَا أُسِفَّ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ ? رَمَاداً ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَي يَقُولُ مَا لَكَ ؟ فَقَالَ : وَمَا يَمْنَعُنِي وَأَنْتُمْ أَعْوَانُ الشَّيْطَانِ عَلَي صَاحِبِكُمْ ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَفْوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ ، وَلاَ يَنْبَغِي لِوَالِي أَمْرٍ أَنْ يُؤْتَي بِحَدٍّ إِلاَّ أَقَامَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ : ? وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? (105) .
23- ( ( القَدِيرُُ :
ورد اسم الله القدير في القرآن والسنة ، قال تعالى : ? يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ العَلِيمُ القَدِيرُ ? [الروم:54] ، فالاسم ورد في الآية معرفا مطلقا مقترنا باسم الله العليم ، وهو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد معرفا بالألف واللام ، وقد ورد مطلقا منونا في ثلاثة مواضع ، منها قوله تعالى : ? عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? [الممتحنة:7] .(31/68)
أما بقية المواضع في القرآن والتي تزيد على ثلاثين موضعا فقد ورد الاسم مقرونا بالعلو والفوقية المطلقة على كل شيء ، مما يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ذكرنا ذلك في ضوابط الإحصاء ، قال تعالى : ? قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلكِ تُؤْتِي المُلكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [آل عمران:26] ، وفي صحيح البخاري من حديث مُعَاوِيَةَ ( أَنَّ النَّبِيَ ? كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ ، وَهْوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ ، وَلاَ مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ ) (106) .
24- ( ( اللَّطِيفُ :
اسم الله اللطيف ورد مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في قوله تعالى : ? أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ? [الملك :14] ، وقوله سبحانه : ? وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفا خَبِيرا ? [الأحزاب34] ، ولم يقترن اسم الله اللطيف إلا باسمه الخبير ، وورد الاسم مقيدا في قوله تعالى : ? إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ? [يوسف:100] ، وكذلك قوله : ? اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ? [الشورى:19] ، وقد ورد الاسم في السنة في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ? قال لها : ( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (107) .(31/69)
25- ( ( الخَبِيرُ :
اسم الله الخبير ورد في الكتاب والسنة على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في نصوص كثيرة ، ففي القرآن ورد مطلقا معرفا مقترنا بثلاثة أسماء هي الحكيم كما في قوله تعالى: ? وَهُوَ القَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ ? [الأنعام:18] ، واللطيف كما في قوله سبحانه : ? لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ? [الأنعام:103] ، ومقترنا باسم الله العليم في قوله تعالى : ? فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ العَلِيمُ الخَبِيرُ ? [التحريم:3] ، وورد الاسم مطلقا منونا في نصوص كثيرة منها قوله تعالى : ? وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ? [الأحزاب:34] ، وقد ورد الاسم في السنة عند مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي ? قال لها : ( لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (108) .
26- ( ( الوِتْرُ :(31/70)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? فيما رواه البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ( أنِه ? قَالَ : ( لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا ، مِائَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا ، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ ) (109) ، فقد ورد الاسم مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوترية وكمال الوصفية ، وقد ورد المعنى في قوله : يحب الوتر محمولا على الاسم مسندا إليه ، وورد أيضا عند مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( مرفوعا : ( وَإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (110) ، وعند أبي داود والترمذي وابن ماجة والنَسائي وصححه الألباني من حديث عَلِي بن أبي طالب ( قَالَ : أَوْتَرَ رَسُولُ اللَّهِ ? ثُمَّ قَالَ : ( يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ أَوْتِرُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ ) (111) .
27- ( ( الجَمِيلُ :(31/71)
ورد الاسم في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( أن النَّبي ? قَالَ : ( لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ، قَالَ رَجُلٌ : إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً ، قَالَ : إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ) (112) ، والحديث ورد الاسم فيه مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وورد في رواية أحمد في مسند ابن مسعود ( : ( فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي غَسِيلاً وَرَأْسِي دَهِيناً وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيداً وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عِلاَقَةَ سَوْطِهِ ، أَفَمِنَ الْكِبْرِ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لاَ ، ذَاكَ الْجَمَالُ ، إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ سَفِهَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ ) (113) .
28- ( ( الحَيِيُّ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? فيما رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث يَعْلَى بن أمية ( : ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بِالْبَرَازِ بِلاَ إِزَارٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ ? : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) (114) .(31/72)
والاسم ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وفي سنن أبى داود وصححه الألباني من حديث سَلْمَانَ الفارسي ( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) (115) .
29- ( ( السِّتيرُ :
ورد الاسم في السنة مقرونا باسم الله الحيي ، وقد اشتهر اسم الستار بين الناس بدلا من الستير وهو خطأ لأنه لم يرد في القرآن أو السنة ، أما الستير فقد ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في الحديث الذي دل على اسمه الحيي ، وعند النسائي وصححه الألباني : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَلِيمٌ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ ، يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَتِرْ ) (116) ، وفي سنن البيهقي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( : ( أَنَّ رَجُلَيْنِ سَأَلاَهُ عَنْ الاِسْتِئْذَانِ فِي الثَّلاَثِ عَوْرَاتٍ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا في الْقُرْآنِ ، فَقَالَ لَهُمُ : إِنَّ اللَّهَ سِتِّيرٌ يُحِبُّ السَّتْرَ ... الحديث ) (117) .
30- ( ( الكَبِيرُ :(31/73)
ورد اسم الله الكبير مقترنا باسمه المتعال في قوله تعالى : ? عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ ? [الرعد:9] ، ومقترنا بالعلي في عدة مواضع منها قوله : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ ? [لقمان:30] ، وفي هذه المواضع ورد مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد في السنة عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( أن النَّبِيَّ ? قَالَ : ( إِذَا قَضَى اللهُ الأَمْرَ في السَّمَاءِ ضَرَبَتِ المَلاَئِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَالسِّلسِلَةِ عَلَى صَفْوَانٍ ، فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا : مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ؟ ، قَالُوا لِلذِي قَالَ : الحَقَّ وَهْوَ العَلِىُّ الكَبِيرُ ) (118) .
31- ( ( المُتَعَالُ :
ورد اسم الله المتعال في القرآن في موضع واحد على سبيل الإطلاق معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، قال تعالى : ? عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ ? [الرعد:9] ، وفي السنة عند أحمد بسند صحيح من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ( أنه قَالَ : ( قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ? هَذِهِ الآيَةَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ : ? وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? قَالَ ?: ( يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا الجَبَّارُ أَنَا المُتَكَبِّرُ ، أَنَا المَلِكُ أَنَا المُتَعَالِ ، يُمَجِّدُ نَفْسَهُ ، قَالَ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ? يُرَدِّدُهَا حَتَّى رَجَفَ بِهِ المِنْبَرُ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيَخِرُّ بِهِ ) (119) .
32- ( ( الوَاحِد ُ:(31/74)
ورد الاسم معرفا بالألف واللام مطلقا ومنونا ، وكذلك ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في قوله تعالى : ? يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا للهِ الوَاحِدِ القَهَّار ِ? [إبراهيم:48] ، وقوله سبحانه : ? قُل اللهُ خَالقُ كُل شَيْءٍ وَهُوَ الوَاحِدُ القَهَّار ُ? [الرعد:16] ، ودائما ما يقترن اسم الله الواحد باسمه القهار لأن علو القهر من لوازم الوحدانية ، كما قال سبحانه وتعالى : ? لوْ أَرَادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الوَاحِدُ القَهَّار ُ? [الزمر:4] ، والاسم في هذه المواضع وغيرها مراد به العلمية ودال على كمال الوصفية ، وعند النسائي وصححه الألباني من حديث حَنْظَلَةُ بْن عَلِيٍّ أَنَّ مِحْجَنَ بْنَ الأَدْرَعِ ( حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? دَخَلَ المَسْجِدَ إذَا رَجُلٌ قَدْ قَضَى صَلاَتَهُ وَهُوَ يَتَشَهَّدُ فَقَال َ: اللهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللهُ بِأَنَّكَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي إنَّكَ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ? : قَدْ غُفِرَ لَهُ ثَلاَثاً (120) ، وروى البخاري من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ( قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ? لأَصْحَابِهِ : أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ (121) ، وعند مسلم وأحمد من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالَتْ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِذَا بُدِّلَتِ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ أَيْنَ النَّاسُ(31/75)
يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : عَلَى الصِّرَاطِ (122) .
33- ( ( القَهَّارُ :
سمى الله نفسه القهار على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في قول الله تعالى : ? يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? [يوسف:39] وقوله : ? قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? [الرعد:16] ، وفي السنة تقدم في الاسم السابق حديث عَائِشَة رضي الله عنها عند مسلم ، وورد أيضا في الجامع الصغير وصححه الشيخ الألباني من حديثها رضي الله عنها أن النبي ? كان إذا تضور من الليل قال : ( لا إله إلا الله الواحد القهار ، رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (123) .
34- ( ( الحَقُّ :
اسم الله الحق ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، كما جاء في قوله تعالى : ? فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيم ? [المؤمنون:116] ، وقوله : ? ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الحَقِّ أَلا لَهُ الحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الحَاسِبِينَ ? [الأنعام:62] ، وقوله : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي المَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير ٌ? [الحج:6] ، وفي الصحيحين من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( في دعاء النبي ? إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ مِنْ جَوْفِ الليْلِ : ( أَنْتَ الحَقُّ ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ ، وَقَوْلُكَ الحَقُّ ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ ، وَالنَّارُ حَقٌّ ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ .. الحديث ) (124) .
35- ( ( المُبِينُ :(31/76)
اسم الله المبين ورد في القرآن مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، كما في قوله تعالى : ? يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ? [النور:25] ، ولم يذكر الاسم إلا في هذه الآية فقط ، ولم يرد في حديث صحيح ، لكن الآية دليل صريح على أن الله سمى نفس به ، وقد ورد هذا الاسم في أعقاب اتهام المنافقين لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك فأظهر الله براءتها وأبان للمسلمين طهارتها ومكانتها .
36- ( ( القَوِيُِّ :
سمى الله نفسه القوي على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد معرفا بالألف واللام مقترنا باسم الله العزيز في موضعين ، قال تعالى : ? اللهُ لطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ? [الشورى:19] وقال : ? إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ? [هود:66] .
وورد منونا في خمسة مواضع منها قوله تعالى : ? كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ? [المجادلة:21] ، وقوله : ? مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لقَوِيٌّ عَزِيز ٌ? [الحج:74]، وفي مسند الإمام أحمد وحسنه الألباني من حديث عَائِشَة رضي الله عنها أنها قَالتْ عن يوم الخندق : ( وَبَعَثَ اللهُ عَزَّ وَجَل الرِّيحَ عَلى الْمُشْرِكِينَ ، فَكَفَى اللهُ عَزَّ وَجَل الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَال وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ) (125) .
37- ( ( المَتِينُ :(31/77)
سمى الله نفسه المتين على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها في آية واحدة من القرآن ، فقد ورد معرفا بالألف واللام في قوله : ? إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? [الذاريات:58] ، وفي سنن أبى داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بن مسعود ( أنه قَال : ( أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللهِ ? : إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (126) .
38- ( ( الحَيُّ :
اسم الله الحي تحققت فيه شروط الإحصاء ، فقد ورد مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ? وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ً? [الفرقان:58] ، وقال : ? هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? [غافر:65] ، ولم يقترن الحي إلا باسمه القيوم لأن جميع الأسماء الحسنى تدل عليهما باللزوم ، قال تعالى : ? اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ? [البقرة:255] ، وسوف يأتي في الجزء الخاص بدلالة الأسماء على الصفات بيان ذلك وشرح العلة في كونهما الاسم الأعظم .
وعند مسلم من حديث أُبَىِّ بْنِ كَعْبٍ ( أن رَسُول اللَّهِ ? سأله : ( يَا أَبَا الْمُنْذِرِ ، أَتَدْرِى أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ أَتَدْرِي أي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَعَكَ أَعْظَمُ ؟ قَالَ قُلْتُ : اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ، قَالَ : فَضَرَبَ فِي صدري ، وَقَالَ : وَاللَّهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ ) (127) .(31/78)
وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني منْ حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِي ? قَالَ : ( اسْمُ اللَّهِ الأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ : ? وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ? ، وَفَاتِحَةُ آلِ عِمْرَانَ : ? ألم اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَي الْقَيُّومُ ? ) (128) .
39- ( ( القَيُّومُ :
ورد الاسم مقترنا باسم الله الحي كما في الآيات السابقة وأيضا في قوله تعالى : ? وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْما ً? [طه:111] ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ ( أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ? جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ثُمَّ دَعَا : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ? : ( لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (129) .
وقد اعتبر بعض العلماء القائم والقيم والقيام من الأسماء الحسنى (130) ، وليست كذلك لأنها وردت مضافة مقيدة ، وورد الإطلاق في القيام فقط لكن في قراءة شاذة عن عمر بن الخطاب ( (131) .
40- ( ( العَلِيُّ :(31/79)
ورد الاسم مقرونا بالعظيم في موضعين من القرآن فقال تعالى : ? وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ? [البقرة:255] ، وقال أيضا : ? لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ ? [الشورى:4] ، واقترن باسمه الكبير في أربعة مواضع من كتاب الله منها قوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِير ُ? [الحج:62] ، وعن أبي داود وابن ماجه وصححه الألباني من حديث عبادة بْنِ الصَّامِتِ ( أن رَسُولُ اللَّهِ ? قَالَ : ( مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ حِينَ يَسْتَيْقِظُ : لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ العَلِىِّ العَظِيمِ ، ثُمَّ دَعَا رَبِّ اغْفِرْ لي ، غُفِرَ لَهُ ) (132) .
وفي سنن ابن ماجه أيضا وصححه الألباني من حديث عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الكَرْبِ : ( لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَلِىُّ العَظِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (133) .
41- ( ( العَظِيمُ :(31/80)
اسم الله العظيم ورد في القرآن والسنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد منفردا ومقترنا باسم الله العلي ، قال تعالى : ? إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ العَظِيمِ ? [الحاقة:33] ، وورد في ثلاثة مواضع الأمر بالتسبيح به خاصة وبنص واحد في قوله تعالى : ? فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ ? ، موضعان في سورة الواقعة والثالث في سورة الحاقة (134) ، أما اقترانه باسمه العلي فقد ورد في موضعين كما تقدم .
وقد ورد الاسم في السنة في كثير من المواضع منها ما ورد عند البخاري من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ ( أن النَّبِيِّ ? قَالَ : ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) (135) .
وفي سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو ( عَنِ النَّبِيِّ ? أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ المَسْجِدَ قَالَ : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ العَظِيمِ ، وَبِوَجْهِهِ الكَرِيمِ ، وَسُلطَانِهِ القَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) (136) .
42- ( ( الشَّكُورُ :
سمى الله نفسه الشكور علي سبيل الإطلاق ، فقد ورد الاسم منونا مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية ، وقد ورد مقترنا باسمه الغفور في موضعين الأول في قوله تعالى : ? لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ? [فاطر:30] ، والثاني في قوله : ? وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ? [فاطر:34] ، وورد مقترنا بالحليم في قوله تعالى : ? إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ? [التغابن:17] .
43- ( ( الحَلِيمُ :(31/81)
اسم الله الحليم ورد في آيات كثيرة مطلقا منونا مقترنا باسم الله الغفور كما في قوله تعالى : ? وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ? [البقرة:225] ، وورد مقترنا بالغني في قوله : ? قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ ? [البقرة:263] ، واقترن بالشكور كما تقدم في الاسم السابق ، واقترن بالعليم في قوله : ? وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً ? [الأحزاب:51] ، وفي صحيح البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( قَالَ : ( كَانَ النَّبِىُّ ? يَدْعُو عِنْدَ الكَرْبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ العَظِيمُ الحَلِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (137) .
44- ( ( الوَاسِعُ :
اسم الله المبين ورد في القرآن مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد اقترن باسمه العليم في عدة مواضع منها قوله تعالى : ? وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? [البقرة:115] ، وقد ورد مقيدا في قوله تعالى : ? إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَة ِ ? [النجم:32] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة كما سبق .
45- ( ( العَلِيمُ :(31/82)
ورد اسم الله العليم في كتاب الله معرفا ومنونا مطلقا ومقيدا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، فمن ذلك قوله تعالى : ? فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ? [البقرة:137] ، والاسم ورد مقرونا في الكتاب والسنة بأسماء أخرى كثيرة تحمل في اقترانها معان كبيرة سيأتي بيانها إن شاء الله عند الحديث عن دلالة الأسماء على الصفات ، فاقترن الاسم بالسميع والحكيم والعزيز والحليم والخلاق والقدير والفتاح والخبير ، وفي السنة ورد عند أبي داود وصححه الألباني من حديث أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي ( أن النبي ? قَالَ : ( أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ ) (138) ، وتجد الإشارة هنا إلى أن ما انطبقت عليه شروط الإحصاء من الأسماء التي تدل على صفة العلم اسم الله العليم فقط ، ولم تنطبق على العالم والعلام والأعلم لأنها جميعا لم ترد في القرآن والسنة إلا مضافة مقيدة ، وهي في حقيقتها أوصاف تدخل تحت دلالة اسم الله العليم .
46- ( ( التَّوابُ :
ورد اسم الله التواب في القرآن في ستة مواضع معرفا بالألف واللام مطلقا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها كما في قوله تعالى : ? فَتَلَقَّي آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم ُ? [البقرة/37] .
وورد في خمسة مواضع منونا كما في قوله : ( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيم ٌ? [النور10] ، وعند الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني من حديث عبد الله بْنِ عُمَرَ ( أنه قَالَ : ( كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ ? فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَي إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ ) (139) .(31/83)
47- ( ( الحَكِيمُ :
ورد اسم الله الحكيم في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، قال تعالى : ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ? [البقرة:129] ، والاسم ورد مقترنا في أغلب المواضع باسمه العزيز كقوله : ? لا إِلَهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ? [آل عمران:6] ، وورد أيضا مقترنا باسمه الخبير وكذلك العليم .
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( مرفوعا : ( .. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ : ? وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ? قَالَ : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) (140) .
48- ( ( الغَنِيُّ :
اسم الله الغني ورد في القرآن مطلقا معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى : ? وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ ? [الأنعام:133] ، وقوله تعالى : ? قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ? [يونس:68] ، وغالبا ما يقترن اسم الله الغني باسمه الحميد ، كقوله : ? لهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? [الحج:64] ، واقترن اسم الله الغني بالحليم والكريم .(31/84)
وفي سنن أبي داود وحسنه الألباني والحاكم في المستدرك وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، من حديث عروة عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها مرفوعا : ( اللهُمَّ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ ، أَنْتَ الْغَنِىُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ أَنْزِلْ عَليْنَا الْغَيْثَ وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلى حِينٍ ) (141) .
49- ( ( الكَريمُ :
سمى الله نفسه الكريم على سبيل الإطلاق معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في كثير من النصوص القرآنية والنبوية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه نحو قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ? [الانفطار:6/7] ، وقوله : ? وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ? [النمل:40] .
وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَلِىٍّ ( أنه قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ? : ( أَلاَ أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ إِذَا قُلتَهُنَّ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَإِنْ كُنْتَ مَغْفُورًا لَكَ ، قَالَ : قُل لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ العَلِىُّ العَظِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ الحَلِيمُ الكَرِيمُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ سُبْحَانَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ العَظِيمِ ) (142) ، وعند أبي داود وصححه الألباني من حديث سَلمَانَ ( أن رَسُول اللهِ ? قال : ( إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا ) (143) ، وعند الترمذي وقال حَسَنٌ صَحِيحٌ من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في الدعاء الذي أمر به النبي ? ليلة القدر : ( اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى ) (144) .
50- ( ( الأَحَدُ :(31/85)
اسم الله الأحد ثبت في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق ، وقد ورد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قول الله تعالى : ? قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد ٌ? [الإخلاص:1/4] ، فالاسم ورد في السورة مطلقا منونا ، وقد أسند إليه تفسير معناه بما ورد بعده ، كما ورد معرفا بالألف واللام عند البخاري من حديث أبي هريرة ( أن النبيِّ ? قال : ( قال الله تعالى كذَّبني ابنُ آدمَ ولم يكُن له ذلك ، وشَتَمني ولم يكن له ذلك فأَما تكذيُبهُ إيايَ فقوله : لن يعيدني كما بدأنِي وليس أوَّلُ الخلقِ بأَهونَ عليَّ من إعادته ، وأما شتمُهُ إيايَ فقولُه : اتَّخَذَ اللَّهُ ولداً وأَنا الأَحدُ الصمدُ ، لم أَلِدْ ولم أُولَد ولم يكُن لي كُفواً أحد ) (145) .
وورد عند ابن ماجة أيضا وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ ( قَالَ : ( سَمِعَ النَّبِيُّ ? رَجُلاً يَقُولُ : اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّكَ أَنْتَ اللهُ الأَحَدُ الصَّمَدُ الذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : لَقَدْ سَأَلَ اللهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ) (146) .
51- ( ( ُ الصَُّمَدُ:(31/86)
اسم الله الصمد ورد مع اسمه الأحد في سورة الإخلاص فقط : ? قُل هُوَ اللهُ أَحَد اللهُ الصَّمَدُ ? ، وقد ورد في السنة في عدة مواضع منها حديث أبي هريرة ( عند البخاري وقد تقدم ، وعنده أيضا من حديث أبي سعيد الخدريِّ ( قال : ( قال النبيُّ ? لأصحابِهِ : أَيعجِزُ أحدُكم أن يقرَأَ ثلثَ القرآن في ليلة ؟ فشقَّ ذلك عليهم وقالوا: أَيُّنا يطيقُ ذلك يا رسول الله ؟ فقال: اللهُ الواحِدُ الصَّمَدُ ثلث القرآنِ ) (147) ، وعند مسلم من حديث أبي هريرة ( قال : (خرج إلينا رسول الله ? فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ : ? قل هو الله أحد الله الصمد ? حتى ختمها ) (148) ، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ ( قال : ( كَانَ رَسُولُ الله ? يُوتِرُ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبَّكَ الأَعْلَى ، وَقُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ، وَالله الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ) (149) .
52- ( ( القَرِيبُ :
ورد اسم الله القريب في القرآن الكريم مطلقا منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ومقترنا باسم الله المجيب كما في قوله تعالى : ? فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ? [هود:61] ، واقترن باسمه السميع في قوله : ? قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ? [سبأ:50] ، وورد الاسم مفردا في قوله تعالى : ? وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ? [البقرة:186] ، ولم يرد الاسم إلا في حديث سرد الأسماء عند ابن ماجة من رواية عبد الملك بن محمد الصنعاني ، وهي ليست حجة في إثبات الأسماء الحسنى كما تقدم .
53- ( ( المُجيبُ :(31/87)
سمى الله نفسه المجيب على سبيل الإطلاق والتعظيم ، وقد ورد الاسم معرفا ومنونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ? وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ? [الصافات:75] ، وقوله سبحانه : ? فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ? [هود:61] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة .
54- ( ( الغَفُورُ:
اسم الله الغفور ورد مطلقا معرفا ومنونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، ففي أحد عشر موضعا من القرآن ورد معرفا بالألف واللام كما في قوله تعالى : ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيم ُ? [الحجر49] وقوله : ? وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ? [الكهف:58] ، وفي اثنين وسبعين موضعا ورد منونا كقوله تعالى : ? وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ? [البقرة:199] .
وعند البخاري من حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو أن أبا بَكْرٍ الصديق ( قَالَ لِلنَّبِي ? عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي قَالَ : ( قُلِ اللهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ ، وَارْحَمْنِي ، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (150) .
وعند أبي داود وصححه الألباني عن وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ ( أنه قَالَ : ( صَلي بِنَا رَسُولُ اللهِ ? عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : اللهُمَّ إِنَّ فُلاَنَ بْنَ فُلاَنٍ فِي ذِمَّتِكَ وَحَبْلِ جِوَارِكَ فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ وَأَنْتَ أَهْلُ الْوَفَاءِ وَالْحَمْدِ ، اللهُمَّ فَاغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (151) .
55- ( ( الوَدودُ:(31/88)
اسم الله الودود ورد مطلقا معرفا ومنونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، قال تعالى : ? وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُود ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ? [البروج:14/15] ، وقال أيضا : ? وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ? [هود:90] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وهو ضعيف كما تقدم .
56- ( ( الوَلِيُّ :
ورد الاسم مطلقا معرفا في قوله تعالى : ? أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? [الشورى:9] ، وقوله سبحانه : ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيد ُ? [الشورى:28] وقد ورد مقيدا في نصوص أخرى كثيرة كقوله تعالى : ? اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا ? [البقرة:257] ، وقوله : ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ? [المائدة:55] .
وعند البخاري من حديث عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ( أنه قَالَ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ ? جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ : ( إِنَّ آلَ أَبِى لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا ) (152) ، يَعْنِي أَصِلُهَا بِصِلَتِهَا .
57- ( ( الحَميدُ :(31/89)
اسم الله الحميد ورد في القرآن على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في كثير من النصوص القرآنية ، وقد ورد مفردا ومقترنا باسم الله العزيز والغني والولي والمجيد والحكيم ، ومن ذلك قوله تعالى : ? وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ? [الحج:24] ، وقوله : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ? [فاطر:15] ، وقوله : ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ? [الشورى:28] ، واقترن بالمجيد في قوله : ? قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيد ٌ? [هود:73] واقترن بالحكيم في قوله تعالى : ? لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ? [فصلت:42] .
وعند البخاري عن كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ( أنه قَالَ : ( سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ ? فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (153) .
58- ( ( الحَفيظُ :(31/90)
ورد في قوله تعالى : ? وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ? [سبأ:21]، وفي قوله تعالى عن هود ( : ? فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ? [هود:57] ، وقد تقدم في شروط الإحصاء أن الاسم المقترن بالعلو والفوقية يزيد الإطلاق كمالا على كمال ، فالله من فوق عرشه حفيظ له مطلق الكمال في الوصف ، فإذا انضم إلى ذلك اجتماع معاني العلو ظهر في الإطلاق جمال الكمال ، وقد ورد الاسم مقيدا في قوله تعالى : ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ? [الشورى:6] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة كما تقدم .
59- ( ( المَجيدُ :
المجيد اسم من أسماء الله الحسنى ورد في القرآن والسنة على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، قال تعالى : ? قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ? [هود:73] ، وقال : ? ذُو العَرْشِ المَجِيدُ ? [البروج:15] ، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم ذو العرش المجيدُ رفعا وهذه القراءة دليل على أن المجيد اسم ، وقرأ حمزة والكسائي ذو العرش المجيدِ خفضا (154) .(31/91)
وعند البخاري من حديث أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُ ( : ( أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّى عَلَيْكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ ) (155) .
60- ( ( الفَتَّاحُ :
سمى الله نفسه الفتاح على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في نص واحد من النصوص القرآنية وهو قوله تعالى : ? قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيم ُ? [سبأ :26] ، وهذه الآية ورد فيها الاسم والوصف معا ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وليس بحجة .
61- ( ( الشَّهيدُ :
ورد الاسم في كثير من النصوص القرآنية مقرونا بالعلو والفوقية كما في قول الله تعالى : ? قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? [سبأ:47] ، وقوله : ? أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? [فصلت:53] وقد ورد مقيدا في آيات كثيرة كما في قوله : ? لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ? [النساء:166] .(31/92)
وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( مرفوعا : ( .. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ العَبْدُ الصَّالِحُ : ? وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ? قَالَ : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) (156) .
62- ( ( المُقَدِّمُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في الحديث المتفق عليه عند البخاري والمسلم من حديث ابْنَ عَبَّاسٍ ( أن النَّبِي ? كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ قَالَ : ( اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّماَوَاتِ وَالأَرْضِ .. إلى أن قال : فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَوْ لاَ إِلَهَ غَيْرُكَ ) (157) .
63- ( ( المُؤِّخرُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? ، فقد ورد مع الاسم الذي تقدم في قوله ? : ( أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ ) ، والذي ورد في القرآن الفعل كما في قوله تعالى : ? وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ? [المنافقون:10] ، لكن الاشتقاق من الفعل مرجعيته إلى النص وليس إلى اجتهاد الشخص ، ولذلك فإن اسم الله المؤخر ثابت لوروده في السنة .
64- ( ( المَلِيكُ :(31/93)
اسم الله المليك ورد في القرآن مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما جاء في قوله تعالى : ? إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِر ? [القمر:55] ، وقد ورد الاسم مقيدا في السنة ، فعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هُرَيْرَةَ ( أن أبا بَكْرٍ الصديق ( قال : يَا رَسُولَ الله مُرْنِي بِشَيْءٍ أَقُولُهُ إذَا أَصْبَحْتُ وَإذَا أَمْسَيْتُ قَالَ : ( قُل : اللهُمَّ عَالِمَ الغَيْبِ وَالشّهَادَةِ ، فَاطِرَ السَّمَاواتِ والأَرْضِ ، رَبَّ كُلِّ شَيءٍ وَمَلِيكَهُ أشْهَدُ أَن لاَ إِله إِلاّ أنْتَ أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وشِرْكِهِ ، قَالَ قُلهُ إذَا أَصْبَحْتَ وَإذَا أَمْسَيْتَ وإِذَا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ ) (158) .
65- ( ( المَقْتَدِرُ :
اسم الله المقتدر سمى الله نفسه به في قوله تعالى : ? وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ ? [القمر:42] ، وقال أيضا : ? إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ? [القمر:55] ، فالاسم في الآيتين ورد مطلقا منونا مرادا به العلمية ودلا على كمال الوصفية ، وورد مقرونا بالعلو والفوقية في قوله تعالى : ? وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ? [الكهف:45] ، وقد علمنا أن الاقتران بالعلو يزيد الإطلاق كمال على كمال ، ولذلك فإن هذه الآية بمفردها كافية في إثبات اسم الله المقتدر ، ولم يرد الاسم في حديث ثابت ، وإنما ورد في رواية الوليد بن مسلم عند الترمذي وهي رواية ضعيفة ، كما أن سرد الأسماء فيها من إدراج الرواة وليس من كلام النبي ? (159) .
66- ( ( المُسَعِّرُ :(31/94)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? ، فقد ورد الاسم في صحيح السنة مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، ففي سنن الترمذي وقال حسن صحيح وكذلك عند أبي داود وابن ماجه وأحمد وصححه الألباني جميعهم يروي عن أَنَسٍ ( أنه قَالَ : ( قَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ غَلاَ السِّعْرُ فَسَعِّرْ لَنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (160) .
وكذلك أخرجه أحمد برواية فيها تقديم وتأخير ، وفيها قَالَ أَنَس ( : ( غَلاَ السِّعْرُ عَلَي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ? فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ سَعَّرْتَ ، فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الخَالِقُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ الْمُسَعِّرُ ، وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (161) .
ولا بد هنا من التنبيه على قضية هامة حول هذا الحديث ، فأغلب العلماء الذين تتبعوا الأسماء استدلوا به في إثبات القابض الباسط الرازق واستبعدوا المسعر بلا دليل أو تعليل ، بل بعضهم يستبعد الرازق أيضا ، فهل اسم الله المسعر ليس فيه كمال مطلق ، أو أنه يحتمل معنى من معاني النقص عند الإطلاق فيلزم تقييده ؟
في الحقيقة لم أجد لا هذا ولا ذاك فهو من حيث الإطلاق أطلقه الرسول ? دون تقييد ، ومن حيث الكمال دلالته أبلغ من القابض الباسط لأنه يشملهما معا لكن العجب أنني وجدت ذلك الأمر قد اجتمع عليه أعلام أجلاء كالإمام البيهقي وابن العربي والأصبهاني وابن منده حتى المعاصرين كابن عثيمين وعبد المحسن العباد جميعهم استبعد المسعر (162) .(31/95)
أما الرازق فذكره البيهقي وابن منده والأصبهاني وابن الوزير والغصن من المعاصرين ، وإن استبعد ابن الوزير مع المسعر أيضا القابض الباسط مع أنه لا دليل على القابض الباسط الرازق إلا هذا الحديث (163) ، والعلامة ابن حجر العسقلاني استبعد الجميع مع ثبوت الحديث عنده وتصحيحه له ، فهو القائل : ( هذا الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارمي والبزار وأبو يعلى من طريق حماد بن سلمة عن ثابت وغيره عن أنس وإسناده على شرط مسلم ، وقد صححه ابن حبان والترمذي ) (164) .
والقصد أن الاسم ثابت بالحديث الصحيح وليس لنا أن نرد قول نبينا ? في تسميته لله بهذا الاسم بناء على اجتهاد أو استحسان ، فلم أجد علة ذكرها أحد لاستبعاده من الأسماء ، فما يسري عليه يسري على بقية الأسماء الواردة في الحديث ولذلك أدخله القرطبي في الأسماء الحسنى (165) .
والمسعر اسم من أسماء الله دل على صفة من صفات الفعل ، والتسعير في حق الله يتعلق بنوعي التدبير ، فالتدبير منه ما هو متعلق بتصريف المقادير وهو التدبير الكوني ومنه ما هو متعلق بالحكم التكليفي وهو التدبير الشرعي ، فالأول هو المقصود عند إطلاق الاسم في حق الله ، لأن ارتفاع السعر أو انخفاضه مرتبط بالتدبير الكوني والتقدير الأزلي ، فالسعر يرتفع بين الناس ؛ إما لقلة الشيء وندرته ؛ وإما لزيادة الطلب وكثرته ، وهذا أمر يتعلق بمشيئة الله وحكمته ، فهو الذي يبتلي عباده في تصريف أرزاقهم وترتيب أسبابهم ، فقد يهيأ أسباب الكسب لإغناء فقير ، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر وهو على كل شيء قدير ، فهذا تدبير الله في خلقه وحكمته في تقدير المقادير .(31/96)
وإذا ألزمنا الناس في هذه الحالة أن يبيعوا بقيمة محددة مع تيسر الأسباب وبسط الأرزاق ، فهذا ظلم للخلق وإكراه بغير حق واعتراض على الله عز وجل في تقسيم الرزق ، ولذلك قال رَسُولُ اللَّهِ ? : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (166) ، فقد رتب النبي ? الحكم علي الوصف المناسب ، فمن حاول التسعير على المعنى السابق فقد عارض الخالق ونازعه في مراده ومنع العباد حقهم مما أولاهم الله في الرخص أو الغلاء ، فبين ? أن المانع له من التسعير أن يتضمن ظلما للناس في أموالهم لكونه تصرفا فيها بغير إذنهم فقال ? : ( وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلاَ يَطْلُبُنِي أَحَدٌ بِمَظْلَمَةٍ ظَلَمْتُهَا إِيَّاهُ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) ، فالنهي عن التسعير مرتبط بوقوع الظلم على العباد ، أما التسعير المتعلق بالتدبير الشرعي فهو منع الظلم وكفه عن الناس وذلك بمنع استغلال حاجتهم أو احتكار التجار لسلعتهم طلبا لزيادة الأسعار ، كأن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع توفرها وضرورة الناس إليها إلا بزيادة عن القيمة المناسبة ، فهنا إلزامهم بقيمة المثل من الأحكام الوجبة ، فالتسعير هاهنا أمر شرعي وإلزام بالعدل الذي ألزمهم الله به (167) .
67- ( ( القَابِضُ :
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى مسندا إليه محمولا عليه في الحديث الصحيح الذي سبق في اسم الله المسعر : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ وإني لأَرْجُو أَنْ أَلْقَي اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يُطَالِبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (168) .
68- ( ( البَاسِطُ :(31/97)
ورد الاسم في السنة في الحديث السابق مع المسعر القابض وقد ورد الاسم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا علي كمال الوصفية في الحديث الصحيح المرفوع الذي سبق : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) .
69- ( ( الرَّازِقُ :
ورد الاسم في السنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ففي حديث أَنَسٍ ( الذي ورد في الأسماء الثلاثة السابقة قول النبي ?: ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّازِقُ ) ، وكذلك ورد الاسم في القرآن مقيدا في قول الله تعالى : ? قَالَ عِيسَي ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ? [المائدة:114] ، والآية لم نعتمد عليها في إثبات الاسم لأنه لم يرد فيها مطلقا وإنما الاعتماد على ما صح في السنة .
70- ( ( القَاهِرُ :
اسم الله القاهر سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في موضعين من القرآن ، قوله تعالى : ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ? [الأنعام:18] ، وقوله : ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ? [الأنعام:61] ، وقد ورد المعنى في هذين الموضعين محمولا عليه مسندا إليه ، ولم يرد اسم الله القاهر في السنة إلا في حديث سرد الأسماء الحسنى عند ابن ماجة وهو ضعيف .
71- ( ( الديَّانُ :(31/98)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فعند البخاري من حديث جَابِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ? يَقُولُ : ( يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ ، أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (169) ، وعند أحمد وقال الألباني حسن لغيره عن عَبْدِ اللَّهِ أن رَسُولَ اللَّهِ ? قال : ( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ قَالَ الْعِبَادُ عُرَاةً غُرْلاً بُهْماً قَالَ قُلْنَا : َمَا بُهْماً ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الدَّيَّانُ ) (170) .
72- ( ( الشَّاكِرُ :
ورد الاسم في القرآن مطلقا منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في موضعين من النصوص القرآنية ، في قوله تعالى : ? إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَو اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ? [البقرة:158] ، وقوله : ? مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ? [النساء:147] ، ولم يثبت الاسم في السنة .
73- ( ( المَنَانُ :(31/99)
اسم الله المنان لم يرد في القرآن ولكن ورد في السنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث أَنَسِ ( أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ? جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلّي ثُمَّ دَعَا : ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ ? : لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى ) (171) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ : ( فَقَالَ النَّبِي ? : تَدْرُونَ بِمَ دَعَا اللَّهَ ؟ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِي بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَي ) ، وكذلك ورد الحديث عند النسائي وابن ماجة ، أما عن اقتران المنان بالحنان في بعض الروايات فلم نحتج بها لأنها ضعيفة ، ولذلك ثبت اسم الله المنان ولم يثبت الحنان (172).
74- ( ( القَادِرُ :(31/100)
سمى الله نفسه القادر في القرآن وسماه به رسوله ?على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، فمن القرآن قوله تعالى : ? فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القَادِرُونَ ? [المرسلات:23] حيث ورد الاسم معرفا مطلقا على وجه المدح والكمال والتعظيم ، ومما ورد مضافا قوله تعالى : ? قُل هُوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ ? [الأنعام:65] ، وعند أحمد وصححه الألباني من حديث أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ( قِيلَ : ( يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى وُجُوهِهِمْ ؟ قَالَ : إِنَّ الذي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرْجُلِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ ) (173) ، وعند مسلم من حديث ابن مسعود ( : ( فَقَالُوا : مِمَّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مِنْ ضِحْكِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ أَتَسْتَهْزِئُ مِنِّى وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ ، وَلَكِنِّى عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ ) (174) .
75- ( ( الخَلاَّقُ :(31/101)
ورد الاسم مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ? إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيم ُ? [الحجر:86] ، وقوله تعالى : ? أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ? [يّس:81] ، وفي مستدرك الحاكم وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه من حديث ابن عباس ( أنه قال : ( جاء العاص بن وائل إلى رسول الله ? بعظم حائل ففته فقال : يا محمد أيبعث الله هذا بعد ما أرم ؟ قال : نعم يبعث الله هذا يميتك ثم يحييك ثم يدخلك نار جهنم ، قال فنزلت : ? أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ .. إلى قوله : أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ... الآيات ? ) (175) .
76- ( ( المَالِكُ :
اسم الله المالك ورد في القرآن على سبيل الإضافة والتقييد مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وإن كانت الإضافة تحمل معنى الإطلاق في الملكية ، لكنه ورد في السنة النبوية مطلقا ، فمن القرآن ما جاء في قوله تعالى : ? قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلكِ ? [آل عمران:26] .(31/102)
والملك يطلق في مقابل الملكوت ، فالملك يراد به عالم الشهادة غالبا أو الحياة الدنيا بصفة عامة والملكوت أيضا يراد به في الغالب عالم الغيب أو عالم الآخرة ، والله عز وجل هو مالك الملك والملكوت رب العالمين ، الذي يملك عالم الغيب وعالم الشهادة بما فيهما ، قال تعالى : ? قُل يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذِي لَهُ مُلكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? [الأعراف:158] ، فالمالك هو المنفرد بملكية الملك والملكوت والله عز وجل كما أفرد نفسه بملكيته لعالم الملك أفرد نفسه بملكيته لعالم الغيب أو عالم الملكوت ، فقال تعالى : ? مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ? [الفاتحة:2/4] (176) .
وإذا كان الحق سبحانه مالكا لعالم الغيب والشهادة وما فيهما كما بينت الأدلة السابقة فهو المالك إذا على سبيل الإطلاق أزلا وأبدا ، وعلى الرغم من ذلك فإن أدلة الاسم في القرآن لا تكفي وحدها لحصره أو عده ضمن الأسماء نظرا لعدم الإطلاق الصريح ، والشرط الذي نلتزمه في حصر الأسماء الحسنى أن يفيد الثناء بنفسه من غير إضافة ، وأن يرد نص صريح صحيح في ذلك ، فالذي ورد في القرآن يعد وصفا أكثر من كونه اسما ، لكن الذي يجعله اسما ووصفا هو ما سماه به رسوله ? فيما ثبت عند الإمام مسلم من رواية أَبُي بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ( أن النَّبِيِّ ? قَالَ : ( إِنَّ أَخْنَع اسْمٍ عِنْدَ اللّهِ رَجُلٌ تَسَمَّى? مَلِكَ الأَمْلاَكِ ، لاَ مَالِكَ إِلاَّ اللّهُ عَزَّ وَجَل ) (177) ، فالرسول ? سماه مالكا على سبيل الإطلاق الصريح مرادا به العلمية ودالا على الوصفية .
77- ( ( الرَّزَّاقُ :(31/103)
سمى الله نفسه الرزاق مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما ورد في قوله تعالى : ? إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ? [الذاريات:58] ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث أَنَسٍ ( قَالَ : غَلاَ السِّعْرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ? فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعِّرْ لَنَا ؟ فَقَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى رَبِّى وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ ) (178) ، وعند الترمذي وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ( قَالَ : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ ? : ( إِنِّي أَنَا الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ) (179) .
78- ( ( الوَكيلُ :(31/104)
ورد اسم الله الوكيل في قوله تعالى : ? الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? [آل عمران:173] ، وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ورد فيه الاسم مطلقا معرفا بالألف واللام ، لكن ورد في مواضع أخرى مقرونا بمعاني العلو ، والعلو كما تقدم يزيد الإطلاق كمالا على كمال كما ورد في قوله تعالى : ? ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? [الأنعام:102] ، وعند البخاري من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( أنه قَالَ : كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ، وقالها محمد ? حين قال له الناس : ? إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ? [آل عمران:173] ، وفي سنن الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِي ( أن النبي ? قال : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ الْقَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِي ? فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ) (180) .
79- ( ( الرَّقيبُ :(31/105)
ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى : ? وَكَانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً ? [الأحزاب:52] ، كما ورد مقيدا في قوله تعالى عن عيسى ( : ? فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? [المائدة:117] ، وقوله تعالى : ? إِنَّ اللهَ كَانَ عَليْكُمْ رَقِيباً ? [النساء:1] ، وعند البخاري ومسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( قَال : ( قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ? خَطِيبًا بِمَوْعِظَةٍ .. إلى أن قال : فَأَقُولُ كَمَا قَال العَبْدُ الصَّالِحُ : ( وَكُنْتُ عَليْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَليْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شيء شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ُ) قَال : فَيُقَالُ لِي إِنَّهُمْ لمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ ) (181) .
80- ( ( المُحْسِنُ :(31/106)
اسم الله المحسن ورد في السنة النبوية مطلقا منونا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية وكمالها ، كما ورد عند الطبراني وصححه الألباني من حديث أنس ( أن رسول الله ? قال : ( إذا حكمتم فاعدلوا وإذا قتلتم فأحسنوا ، فإن الله عز وجل محسن يحب الإحسان ) (182) ، وكذلك ورد من حديث شداد بن أوس ( أنه قال : حفظت من رسول الله ? اثنتين قال : ( إن الله محسن يحب الإحسان إلي كل شيء ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) (183) ، وقد ورد الحديث عند مسلم من حديث شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ( لكن فيه ذكر الوصف دون الاسم قَالَ شَدَّاد : ( ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ? قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ) (184) .
81- ( ( الحَسيبُ :
ورد اسم الله الحسيب في القرآن مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في قوله تعالى : ? وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً ? [النساء:86] ، فالله من فوق عرشه حسيب باسمه ووصفه ، له الكمال المطلق في محاسبته لخلقه وله الكمال في علو شأنه ، فإن أضفت إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة ، وقد ورد الاسم مقيدا في قول الله تعالى : ? فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ? [النساء:6] .
82- ( ( الشَّافِي :(31/107)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فقد ورد معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه فعند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? كَانَ إِذَا أَتَي مَرِيضًا أَوْ أُتِي بِهِ قَالَ : ( أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، اشْفِ وَأَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) (185) ، وكذلك ورد الحديث في صحيح مسلم عن عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها قَالَتْ : ( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ? إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ : أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا ) ، وهذه الأحاديث التي ثبتت في معظم كتب السنة ورد فيها الاسم والوصف معا (186) .
83- ( ( الرِّفيقُ :
اسم الله الرفيق ورد في السنة النبوية مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا علي الوصفية وكمالها ، كما ورد عند البخاري من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتِ : ( اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَي النَّبِي ? فَقَالُوا السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ ، قُلْتُ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ ) (187) ، وعند مسلم عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? قَالَ لها : ( يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِي عَلَي الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَي مَا سِوَاهُ ) (188) .
84- ( ( المُعْطي :(31/108)
لم يرد الاسم في القرآن ولكن سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، فقد ورد معرفا عند البخاري من حديث مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ ( أن رسول الله ? قال : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ وَاللَّهُ الْمُعْطِي وَأَنَا الْقَاسِمُ ، وَلاَ تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ ) (189) ، وفي رواية أخرى عند البخاري ذكر الوصف بدلا من الاسم : ( مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ ، أَو حَتَّى يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ ) (190) ، والوصف لا يكفي وحده لإثبات المعطي المانع ، ولذا فإن الثابت اسم الله المعطي للحديث الذي سبق ونص على الاسم .
85- ( ( المُقيتُ :
سمى الله نفسه في كتابه المقيت فقد ورد الاسم مطلقا منونا مقرونا بمعاني العلو والفوقية في موضع واحد من القرآن في قوله تعالى : ? مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً ? [النساء:85] ، فالله من فوق عرشه مقيت له الكمال المطلق في إقاتة خلقه ورزقهم فإذا أضيف إلى الإطلاق اجتماع معاني العلو كان ذلك من جمال الكمال في الاسم والصفة .
86- ( ( السَّيِّدُ :(31/109)
ثبت اسم الله السيد في السنة ، فقد سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، ففي سنن أبي داود وصححه الألباني من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ ( قالَ : ( انْطَلَقْتُ في وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله ? فَقُلنا : أَنْتَ سَيِّدُنا ، فقَالَ : السَّيِّدُ الله ، قُلْنا : وَأَفْضَلُنا فَضْلاً ، وَأَعْظَمُنَا طَوْلاً ، فَقَالَ : قُولُوا بِقَوْلِكم أَوْ بَعْضِ قَوْلِكمُ وَلاَ يَسْتَجْرِيَنَّكمْ الشَّيْطَانُ ) (191) ، والمعنى تكلموا بما جئتم من أجله ودعكم من المبالغة في التعظيم والتسييد التي تفتح باب الشيطان .
وفي المسند من حديث قَتَادَةَ قَالَ : سَمِعْتُ مُطَرِّفَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ ( أن رجلا جَاءَ إِلَى النبي ? فَقَالَ : ( أنْتَ سَيِّدُ قُرَيْش ، فَقَالَ النَّبِىُّ ? : السَّيِّدُ اللَّهُ ، قَالَ : أَنْتَ أَفْضَلُهَا فِيهَا قَوْلاً وَأَعْظَمُهَا فِيهَا طَوْلاً ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?: لِيَقُلْ أَحَدُكُمْ بِقَوْلِهِ وَلاَ يَسْتَجِرُّهُ الشَّيْطَانُ ) (192) .
فالحديث يدل دلالة صريحة على إثبات اسم الله السيد ، وأن الذي سماه بذلك هو رسول الله ? ، وليس بعد قول رسول الله تعقيب ? ، لأنه ? يعني السيادة المطلقة التي تتضمن كل أوجه الكمال والجمال ، فالسيد إطلاقا هو رب العزة والجلال ، ولم ينف ? السيادة المقيدة التي تليق بالمخلوق ، أو السيادة النسبية التي تتضمن المفاضلة والتفوق على الآخرين (193) .
87- ( ( الطَّيِّبُ :(31/110)
اسم الله الطيب لم يرد في القرآن ولكن ورد في السنة مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما في صحيح مسلم من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( أن رَسُول اللَّهِ ? قال : ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا ) (194) ، وروى الترمذي وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ ( أن النَّبِي ? قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (195) ، وهذا الحديث ليس أصلا في إثبات الاسم لأنه حسن ، والحديث الحسن هو من رواية الصدوق الذي خف ضبطه كما تقدم في شروط الإحصاء ، ولذلك ليس من أسمائه الحسنى النظيف ، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل كما سيأتي ، فالأصل في إثبات اسم الله الطيب هو حديث مسلم فتنبه .
88- ( ( الحَكَمُ :(31/111)
اسم الله الحكم ورد في السنة النبوية مطلقا معرفا مسندا إليه المعنى محمولا عليه مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الألباني من حديث شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ هَانِئٍ ( : ( أَنَّهُ لَمَّا وَفَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِي الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ?فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ : إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ فَرَضِي كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? : مَا أَحْسَنَ هَذَا ، فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ؟ قَالَ لِي شُرَيْحٌ وَمُسْلِمٌ وَعَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قُلْتُ : شُرَيْحٌ ، قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ) (196) ، فالنص صريح في إثبات الاسم .
89- ( ( الأَكْرَمُ :(31/112)
سمى الله نفسه الأكرم في القرآن في قوله تعالى : ? اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ? [العلق:3] وقد ورد الاسم في الآية مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وعند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ قُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ اقْرَأْ فَقُلْتُ مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ : ? اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ ? فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ? يَرْجُفُ فُؤَادُهُ ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رضي الله عنها فَقَالَ : زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي ) (197) .
90- ( ( البَرُّ :
ورد الاسم في القرآن الكريم مطلقا معرفا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ? إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ? [الطور:28] ، ولم يرد الاسم في السنة إلا في حديث سرد الأسماء عند الترمذي وابن ماجة ، وهذه الأسماء مدرجة في الأحاديث وتعيينها ليس من كلام النبي ? باتفاق أهل المعرفة بحديثه ، وعلى ذلك لا يصلح الحديث للاحتجاج به على اسم الله البر ، وإن كانت الآية كافية شافية في إثبات الاسم وإحصائه .
91- ( ( الغَفَّارُ :(31/113)
سمى الله نفسه به على سبيل الإطلاق مرادا به العلمية ودالا على الوصفية محمولا عليه المعنى مسندا إليه مقرونا باسم الله العزيز في ثلاثة مواضع من القرآن ، كما في قوله تعالى : ? رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ? [ص:66] ، وورد مطلقا منونا في قوله تعالى : ? فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارا ? [نوح10] ، وفي الجامع الصغير للسيوطي وصححه الألباني من حديث عائشة رضي الله عنها : ( أن النبي ? كان إذا تضور من الليل ، تقلب وتلوى من شدة الألم ، قال : لا إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) (198) .
92- ( ( الرَّءوفُ :
سمى الله نفسه الرءوف في القرآن في قوله تعالى : ? وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُوفٌ رَحِيم ٌ? [النور20] وقوله : ? رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحِيمٌ ? ، وفي هذين الموضعين ورد مطلقا منونا محمولا عليه المعنى مسندا إليه مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية ، وورد مقيدا بالإضافة في قوله تعالى : ? وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَاد ِ? [البقرة207] ، وعند البخاري من حديث الْبَرَاءِ بن عازب ( : أَنَّ رَسُولَ اللهِ ? صَلى إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ .. إلى أن قال : وَكَانَ الذِي مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ قِبَلَ الْبَيْتِ رِجَالٌ قُتِلُوا لَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ ، فَأَنْزَلَ اللهُ ? وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ? (199) .
93- ( ( الوَهَّابُ :(31/114)
ورد الاسم في القرآن الكريم مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في ثلاثة مواضع منها قوله تعالى : ? أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ? [ص:9] ، وقوله سبحانه : ? رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ? [آل عمران:8] ، ولم يرد الاسم في صحيح السنة إلا بالإشارة إلى الآية التي ورد فيها ، وذلك فيما ورد عند البخاري من حديث أَبِى هُرَيْرَةَ ( أن النَّبِيِّ ? قَالَ : ( إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَىَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ ؛ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى ، قَالَ : رَوْحٌ ، َرَدَّهُ خَاسِئًا ) (200) .
94- ( ( الجَوَادُ :
الجواد من أسماء الله الحسنى التي وردت في السنة ، فقد سماه به النبي ? على سبيل الإطلاق منونا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه ، كما ثبت من حديث ابن عباس ( ، وكذلك من حديث سعد بن أبي وقاص ( أن رسول الله ? قال : ( إن الله عز وجل جواد يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويبغض سفسافها ) (201) ، وهذا الحديث صحيح بمجموع طرقه صححه الشيخ الألباني وغيره ، وهو المعول عليه في إثبات الاسم (202) .(31/115)
وعند الترمذي في سننه وحسنه وكذلك عند أحمد من حديث أَبِي ذَرٍّ ( أن رَسُول اللَّهِ ? قال : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَا عِبَادِي .. لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَحَيَّكُمْ وَمَيِّتَكُمْ وَرَطْبَكُمْ وَيَابسَكُمُ اجْتَمَعُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ مَا بَلَغَتْ أُمْنِيَّتُهُ فَأَعْطَيْتُ كُلَّ سَائِلٍ مِنْكُمْ مَا سَأَلَ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي إِلاَّ كَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ مَرَّ بِالْبَحْرِ فَغَمَسَ فِيهِ إِبْرَةً ثُمَّ رَفَعَهَا إِلَيْهِ ، ذَلِكَ بِأَنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ ، أَفْعَلُ مَا أُرِيدُ ، عَطَائِي كَلاَمٌ وَعَذَابِي كَلاَمٌ ، إِنَّمَا أَمْرِي لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْتُهُ أَنْ أَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) (203) .
وروى الترمذي في سننه وحسنه الألباني من حديث سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ ( أن النَّبِي ? قَالَ : ( إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ يُحِبُّ الطَّيِّبَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكَرَمَ جَوَادٌ يُحِبُّ الْجُودَ فَنَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ ) (204) .
وهذا الحديث والذي قبله ليس أصلا في إثبات اسم الله الجواد لأنه على أجود الأحكام حديث حسن ، والحسن هو ما اتصل سنده بنقل الصدوق الذي خف ضبطه (205) ، ولذلك لم نعتد به في حصر الأسماء الحسنى وإنما في دلالة الاسم على الصفة ، ومن ثم فإنه ليس من أسمائه الحسنى النظيف ولا الماجد ، وإنما الثابت الصحيح في الروايات الأخرى الجميل والجواد والطيب .
95- ( ( السُّبوحُ :(31/116)
ورد الاسم في السنة مطلقا منونا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه في صحيح مسلم من حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ? كَانَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ : ( سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ رَبُّ الْمَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ ) (206) ، والحديث ورد أيضا عند أبي داود والنَسائي وأحمد .
96- ( ( الوَارِثُ :
ورد الاسم في القرآن على سبيل الإطلاق والتعظيم معرفا مرادا به العلمية ودالا على كمال الوصفية في قوله تعالى : ? وَكَمْ أَهْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ? [القصص:58]، وقوله : ? وَإِنَّا لنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُون ? [الحجر:23] ، وورد أيضا في دعاء زكريا ( : ? وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ? [الأنبياء:89] .
97- ( ( الرَّبُّ :
ثبت الاسم في القرآن والسنة ، فقد سمى الله عز وجل نفسه بالرب على سبيل الإطلاق والإضافة ، وكذلك سماه به رسوله ? ؛ فالإطلاق كما ورد في قوله تعالى : ? سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ? [يس:58] ، وكقوله تعالى : ? بَلدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور ٌ? [سبأ:15] ، وفي السنة ما رواه مسلم من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( أن رَسُولُ اللَّهِ ? قال : ( أَلاَ وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ ) (207).(31/117)
وعند الترمذي وقال حسن صحيح ، من حديث عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ ( أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ? يَقُولُ : ( أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ في جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ ) (208) .
وقد ورد الاسم في السنة أيضا في مواضع كثيرة ، منها ما ورد عند البخاري من حديث مالكِ بنِ صَعْصَعةَ ( أن النبيُّ ? قال : ( فأتيتُ على موسى ؛ فسلمت عليه فقال : مَرحباً بكَ من أخ ونبيّ ، فلما جاوَزتُ بكى فقيل : ما أبكاك ؟ قال : يا رب ، هذا الغلامُ الذي بُعِثَ بعدي ؛ يَدخُل الجنةَ من أُمَّتهِ أفضلُ ممّا يدخلُ من أمَّتي ) (209) ؛ فالأدلة كثيرة على أن الرب اسم من أسماء الله الحسنى ؛ سمى الله به نفسه في كتابه وسماه به رسوله ?، وقد اجتمعت فيه شروط الحصر .
98- ( ( الأعْلى :
ورد اسم الله الأعلى في القرآن والسنة مطلقا معرفا مرادا به العلمية ودالا على الوصفية وكمالها ، كما في قوله تعالى : ? سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى ? [الأعلى:1] ، ففي هذا الموضع ورد معرفا مطلقا مسندا إليه المعنى محمولا عليه في قوله : ? الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ? [الأعلى: 2] ، وقد ورد الاسم أيضا في قوله : ? وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى ? [الليل:20] .
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان ( قَالَ : ( صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ ? ذَاتَ لَيْلَةٍ .. إلى أن قال : ثُمَّ سَجَدَ فَقَالَ : سُبْحَانَ رَبِّي الأَعْلَى ) (210) ، وروى أبو داود وصححه الألباني من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ ( : ( أَنَّ النَّبِيَّ ? كَانَ إِذَا قَرَأَ : سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى قَالَ : سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى ) (211) .
99- ( ( الإِلَهُ :(31/118)
سمى الله نفسه بالإله على سبيل الإطلاق والإضافة مرادا به العلمية ودالا على الوصفية في القرآن والسنة ، وقد ورد المعنى محمولا عليه مسندا إليه كما جاء في قوله تعالى : ? وَإِلهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ لا إِلهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ? [البقرة:163] ؛ حيث ورد فيها الإطلاق والإضافة معا ، ومن جهة العلمية اللغوية فقد ورد الاسم منونا مجرورا في قوله تعالى : ? وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلا إِلهٌ وَاحِدٌ ? [المائدة:73] ، وقال الإمام البخاري : ( باب ما يُذكرُ في الذّاتِ والنُّعوتِ وأسامي الله عز وجلّ وقال خُبيب : وذلك في ذاتِ الإِله ، فذكر الذاتَ باسمِهِ تعالى ) (212) ، وهو يشير إلى حديث أبي هريرةَ ( في قصة خبيبٌ الأنصاريُّ ( لما قال قبل قتله وهو في الأسر بعد أن صلى ركعتين :
ولستُ أبالي حينَ أُقتلُ مسلماً : على أيِّ شِقٍّ كان لِلهِ مصرعي
وذلك في ذات الإِلهِ وإنْ يَشا : يُباركْ على أوصالِ شِلوٍ مُمزَّع
فقتله ابنُ الحارث ، فأخبرَ النبيُّ ? أصحابَه خَبرَهم يومَ أُصيبوا ) (213) ، قال ابن حجر : ( وسمعه النبي ? فلم ينكره فكان جائزا ) (214) .
وقد ورد الاسم مضافا مقيدا في آيات كثيرة كقوله تعالى : ? نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لهُ مُسْلمُونَ ? [البقرة:133] .
وعند البخاري من حديث عبد الله بن عباسٍ ( قال : كانَ النبيُّ ? يَدعو منَ الليل : ( اللهمَّ لك أَسلمتُ ، وبكَ آمنتُ ، وعليكَ توكلت ، وإليك أَنَبْتُ ، وبك خاصمتُ ، وإليك حاكمتُ ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ ، وأسرَرْت وأعلنت ، أنتَ إلهي لا إلهَ لي غيرك ) (215) .
المبحث الرابع
الأسماء التي لا توافق شروط الإحصاء
ــــــــــــــــــــــ(31/119)