أَرْكَانُ الإِسْلامِ وَدَعَائِمُهُ عِنْدَ الرَّافِضَةِ الإِمَامِيَّةِ
الشيخ أبو محمد شحاتة السكندري
أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَهِبَاتُهُ تَنْزِلُ تَتْرَى عَلَى تَوَالِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَرْجُوهُ وَأَخَافُهُ وَبِيَدِهِ مَقَالِيدُ الأُمُورِ وَيَعْلَمُ كَمَائِنَ الأَسْرَارِ، وَأَشَْهُد أَنْ لا إِلَه إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَهَادَةً دَلائِلُهَا مُشْرِقَةُ الأَنْوَارِ، وَنَتِيجَةُ اِعْتِقَادِهَا مُبَايَنَةُ أَهْلِ الْعِنَادِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُجْتَبَى وَنَبِيُّهُ الْمُخْتَار.
وَبَعْد:
لَوْ أَنَّكَ سَأَلْتَ صَبِيَّاً صَغِيرَاً لَمْ يَبْلُغْ الْحُلُمَ، نَشَأَ فِي بِلادِ الإِسْلامِ لأَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَلَقَّنَهُ أَبَوَاهُ الشَّهَادَتَيْنِ، وعَلَّمَاهُ مِنْ سُورِ الْقُرْآنِ الإِخْلاصَ وَالنَّصْرِ، وَلَمْ يَزِيدَاهُ عَلَيْهِمَا شَيْئَاً، لَوْ سَأَلْتَهُ: يَا بُنِي؛ مَا أَرْكَانُ الإِسْلامِ وَدَعَائِمُهُ؟، لأَجَابَكَ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِلا رَوِيَّةٍ «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».وَأَمَّا، لَوْ سَأَلْتَ أَعْلَمَ مَنِ بَأَقْطَارِهَا مِنَ الرَّافِضَةِ الإِمَامِيَّةِ عَمَّا أَسْرَعَ فِيهِ صَبِيُّنَا وَصَغِيرُنَا بِالْجَوَابِ الرَّاجِحِ الصَّرِيحِ، وَأَتَى فِيهِ بِالْبُرْهَانِ الْوَاضِحِ الصَّحِيحِ، لأَجَابَكَ ذَاكَ الْعَلَّامَةُ الرَّافِضِيُّ بِجَوَابٍ مُضْحِكٍ مُبْكٍ.
فَمَا جَوَابُهُ بِلِسَانِ أَعْلَمِ، وَأَرْفَعِ أَئِمَّتِهِمْ، وَكُبَرَائِهِمْ، وَسَادَاتِهِمْ؟.(1/1)
قَالَ ثِقَةُ الإِمَامِيَّةِ وَحُجَّتُهُمْ وَجُهَيْنَةُ أَخْبَارِهِمْ الْكُلَيْنِيُّ فِي «كِتَابِ الْكُفْرِ وَالإِيْمَانِ» (ج2) مِنْ «الْكَافِي»:
بَابُ دَعَائِمِ الإسْلامِ 1 ـ حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأشْعَرِيُّ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ الزِّيَادِيِّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ عَنْ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلام قَالَ: بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْوَلايَةِ وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْ ءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلايَةِ.
2 ـ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَجْلانَ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قُلْتُ لأبِي عَبْدِ الله عَلَيهِ السَّلام: أَوْقِفْنِي عَلَى حُدُودِ الإيمَانِ، فَقَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، وَالإقْرَارُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ الله، وَصَلَوَاتُ الْخَمْسِ، وَأَدَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحِجُّ الْبَيْتِ، وَوَلايَةُ وَلِيِّنَا، وَعَدَاوَةُ عَدُوِّنَا، وَالدُّخُولُ مَعَ الصَّادِقِينَ.
3 ـ أَبُو عَلِيٍّ الأشْعَرِيُّ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْكُوفِيِّ عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلام قَالَ: بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسٍ: عَلَى الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَالْوَلايَةِ، وَلَمْ يُنَادَ بِشَيْ ءٍ كَمَا نُودِيَ بِالْوَلايَةِ، فَأَخَذَ النَّاسُ بِأَرْبَعٍ، وَتَرَكُوا هَذِهِ يَعْنِي الْوَلايَةَ.(1/2)
4 ـ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الصَّادِقِ عَلَيهِ السَّلام قَالَ: أَثَافِيُّ الإسْلامِ ثَلاثَةٌ: الصَّلاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالْوَلايَةُ لا تَصِحُّ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ إِلا بِصَاحِبَتَيْهَا.(1/3)
5 ـ عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ وَعَبْدِ الله بْنِ الصَّلْتِ جَمِيعاً عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسَى عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيهِ السَّلام قَالَ: بُنِيَ الإسْلامُ عَلَى خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَالصَّوْمِ، وَالْوَلايَةِ، قَالَ زُرَارَةُ: فَقُلْتُ: وَأَيُّ شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلُ؟، فَقَالَ: الْوَلايَةُ أَفْضَلُ، لأنَّهَا مِفْتَاحُهُنَّ، وَالْوَالِي هُوَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِنَّ، قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِي يَلِي ذَلِكَ فِي الْفَضْلِ؟، فَقَالَ: الصَّلاةُ، إِنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه قَالَ: الصَّلاةُ عَمُودُ دِينِكُمْ، قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ الَّذِي يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ؟، قَالَ: الزَّكَاةُ، لأنَّهُ قَرَنَهَا بِهَا، وَبَدَأَ بِالصَّلاةِ قَبْلَهَا، وَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه: الزَّكَاةُ تُذْهِبُ الذُّنُوبَ، قُلْتُ: وَالَّذِي يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ؟ قَالَ: الْحَجُّ، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ ((وَلله عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ))، وَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه: لَحَجَّةٌ مَقْبُولَةٌ خَيْرٌ مِنْ عِشْرِينَ صَلاةً نَافِلَةً، وَمَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ طَوَافاً أَحْصَى فِيهِ أُسْبُوعَهُ، وَأَحْسَنَ رَكْعَتَيْهِ غَفَرَ الله لَهُ، وَقَالَ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ الْمُزْدَلِفَةِ مَا قَالَ، قُلْتُ: فَمَا ذَا يَتْبَعُهُ؟، قَالَ: الصَّوْمُ، قُلْتُ، وَمَا بَالُ الصَّوْمِ صَارَ آخِرَ ذَلِكَ أَجْمَعَ؟، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه: الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ الأشْيَاءِ مَا إِذَا فَاتَكَ(1/4)
لَمْ تَكُنْ مِنْهُ تَوْبَةٌ دُونَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ فَتُؤَدِّيَهُ بِعَيْنِهِ، إِنَّ الصَّلاةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالْوَلايَةَ لَيْسَ يَقَعُ شَيْ ءٌ مَكَانَهَا دُونَ أَدَائِهَا، وَإِنَّ الصَّوْمَ إِذَا فَاتَكَ أَوْ قَصَّرْتَ أَوْ سَافَرْتَ فِيهِ أَدَّيْتَ مَكَانَهُ أَيَّاماً غَيْرَهَا، وَجَزَيْتَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِصَدَقَةٍ، وَلا قَضَاءَ عَلَيْكَ، وَلَيْسَ مِنْ تِلْكَ الأرْبَعَةِ شَيْ ءٌ يُجْزِيكَ مَكَانَهُ غَيْرُهُ، قَالَ: ثُمَّ قَالَ: ذِرْوَةُ الأمْرِ وَسَنَامُهُ وَمِفْتَاحُهُ وَبَابُ الأشْيَاءِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ الطَّاعَةُ لِلإمَامِ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً))، أَمَا لَوْ أَنَّ رَجُلاً قَامَ لَيْلَهُ، وَصَامَ نَهَارَهُ، وَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ، وَحَجَّ جَمِيعَ دَهْرِهِ، وَلَمْ يَعْرِفْ وَلايَةَ وَلِيِّ الله فَيُوَالِيَهُ، وَيَكُونَ جَمِيعُ أَعْمَالِهِ بِدَلالَتِهِ إِلَيْهِ، مَا كَانَ لَهُ عَلَى الله جَلَّ وَعَزَّ حَقٌّ فِي ثَوَابِهِ، وَلا كَانَ مِنْ أَهْلِ الإيمَانِ، ثُمَّ قَالَ: أُولَئِكَ الْمُحْسِنُ مِنْهُمْ يُدْخِلُهُ الله الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ.
اعْتِقَادُ الإِمَامَةِ وَوُجُوبُ مَعْرِفَةِ الإمَامِ وَطَاعَتِهِ رُكْنٌ رَكِينٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ
وَعَلَيْهِ مَنَاطُ تَكْلِيفِ الرَّافِضِيِّ الإِمَامِيِّ، وبِمَعْرِفَتِهِ وَوِلايَتِهِ يَسْتَحِقُ الثَّوابَ
وَبِعَدَاوَتِهِ وَالْجَهْلِ بِهِ يَسْتَحِقُ الْعِقَابَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا أَئِمَّتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ:(1/5)
قَالَ شَيْخُهُمْ الْحُجَّةُ ابْنُ النُّعْمَانِ الْمُفِيدُ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ ((الْمُقْنِعَةُ)): ((فَإِنِّي مُمْتَثِلٌ مَا رَسَمَه ُالسَّيِّدُ الأَمِيرُ الْجَلِيلِ مِنْ جَمْعِ مُخْتَصَرٍ فِي الأَحْكَامِ، وَفَرَائِضِ الْمِلَّةِ وَشَرَائِعِ الإِسْلامِ، لَيَعْتَمِدَهُ الْمُرْتَادُ لِدِينِهِ، وَيَزَدَادَ بِهِ الْمُسْتَبْصِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ، وَيَكُونَ إِمَامَاً لِلْمُسْتَرْشِدِينَ، وَدَلِيلاً لِلطَّالِبِينَ، وَأَمِينَاً لِلمُتَعَبْدِينَ، يَفْزَعُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، وَيَقْضِى بِهِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ، وَأَنْ افْتَتِحَهُ بِمَا يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، مِنْ الاعْتِقَادِ الَّذِي لا يَسَعُ إِهْمَالُهُ الْبَالِغِينَ، إِذْ هُوَ أَصْلُ الإِيْمَانِ، وَالأَسَاسُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاءُ جَمِيعِ أَهْلِ الأَدْيَانِ، وَبِهِ يَكُونُ قَبُولُ الأَعْمَالِ، ويَتَمَيَّزُ الْهُدَى مِنَ الضَّلالِ))، وَذَكَرَ جُمْلَةَ الاعْتِقَادَاتِ الإِمَامِيَّةِ، إِلَى أَنْ قَالَ: اعْتِقَادُ الإِمَامَةِ وَوُجُوبُ مَعْرِفَةِ الإمَامِ وَطَاعَتِهِ رُكْنٌ رَكِينٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ
وَعَلَيْهِ مَنَاطُ تَكْلِيفِ الرَّافِضِيِّ الإِمَامِيِّ، وبِمَعْرِفَتِهِ وَوِلايَتِهِ يَسْتَحِقُ الثَّوابَ
وَبِعَدَاوَتِهِ وَالْجَهْلِ بِهِ يَسْتَحِقُ الْعِقَابَ وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا أَئِمَّتُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ.(1/6)
قَالَ شَيْخُهُمْ الْحُجَّةُ ابْنُ النُّعْمَانِ الْمُفِيدُ فِي مُقَدِّمَةِ كِتَابِهِ ((الْمُقْنِعَةُ)): ((فَإِنِّي مُمْتَثِلٌ مَا رَسَمَه ُالسَّيِّدُ الأَمِيرُ الْجَلِيلِ مِنْ جَمْعِ مُخْتَصَرٍ فِي الأَحْكَامِ، وَفَرَائِضِ الْمِلَّةِ وَشَرَائِعِ الإِسْلامِ، لَيَعْتَمِدَهُ الْمُرْتَادُ لِدِينِهِ، وَيَزَدَادَ بِهِ الْمُسْتَبْصِرُ فِي مَعْرِفَتِهِ وَيَقِينِهِ، وَيَكُونَ إِمَامَاً لِلْمُسْتَرْشِدِينَ، وَدَلِيلاً لِلطَّالِبِينَ، وَأَمِينَاً لِلمُتَعَبْدِينَ، يَفْزَعُ إِلَيْهِ فِي الدِّينِ، وَ يَقْضِى بِهِ عَلَى الْمُخْتَلِفِينَ، وَأَنْ افْتَتِحَهُ بِمَا يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ، مِنْ الاعْتِقَادِ الَّذِي لا يَسَعُ إِهْمَالُهُ الْبَالِغِينَ، إِذْ هُوَ أَصْلُ الإِيْمَانِ، وَالأَسَاسُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاءُ جَمِيعِ أَهْلِ الأَدْيَانِ، وَبِهِ يَكُونُ قَبُولُ الأَعْمَالِ، ويَتَمَيَّزُ الْهُدَى مِنَ الضَّلالِ))، وَذَكَرَ جُمْلَةَ الاعْتِقَادَاتِ الإِمَامِيَّةِ، إِلَى أَنْ قَالَ:
بَابُ مَا يَجِبُ فِي اعْتِقَادِ الإِمَامَةِ وَمَعْرِفَةِ أَئِمَّةِ الْعِبَادِ(1/7)
وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْرِفَ إِمَامَ زَمَانِهِ، وَيَعْتَقِدَ إِمَامَتَهُ، وَفَرْضَ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ أَهْلِ عَصْرِهِ وَسَيِّدُ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُمْ فِي الْعِصْمَةِ وَالْكَمَالِ كَالأَنْبِيَاءِ، وَيَعْتَقِدَ أنَّ كُلَّ رَسُولٍ للهِ تَعَالَى فَهُوَ نَبِيُّ إِمَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِمَامٍ نَبِيَّاً وَلا رَسُولاً، وَأَنَّ الأَئِمَّةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ حُجُجُ اللهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَخَاصَّةُ أَصْفِيَاءِ اللهِ، أَوَّلُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بْنِ عَبْدِ الْمُطَلّّبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ السَّلامُ، وَبَعْدَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ جعفر بن محمد، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحُجَّةُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى. لا إِمَامَةَ لأَحَدٍ بَعْدَ النَّبيِّ غَيْرَهُمْ، وَلا يَسْتَحِقُهَا سِوَاهُمْ، وَأَنَّهُمْ الْحُجَّةُ عَلَى كَافَّةِ الأَنَامِ كَالأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ، وَالشُّهَدَاءُ عَلَى رَعَايَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا أَنَّ الأَنْبِيَاءَ شُهَدَاءُ اللهِ عَلَى أُمَّمِهِمْ، وَأَنَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَوِلايَتِهِمْ تُقْبَلُ الأَعْمَالُ، وَبِعَدَاوَتِهِمْ وَالْجَهْلِ بِهِمْ يَسْتَحِقُ النَّارَ.(1/8)
وَقَالَ الْمُفِيدُ فِي «أَمَالِيهِ»( الْمَجْلِسُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ /ح4):- حَدَّثَنَا أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الْجُعْفِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا عَلِيُّ أَنَا، وَأَنْتَ، وَابْنَاكَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَتِسْعَةٌ مِنْ وَلِدِ الْحُسَيْنِ أَرْكَانُ الدِّينِ، وَدَعَائِمُ الإسْلامِ، مَنْ تَبِعَنَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا فَإِلَى النَّارِ.(1/9)
وَقَالَ فِي «أَمَالِيهِ»( الْمَجْلِسُ الثَّانِي وَالأَرْبَعُونَ /ح4):- أَخْبَرَنِي أبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُولُوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّد بْن عَلِيّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ قال: بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسَةِ دَعَائِمَ: إِقَامِ الصَّلاةِ، وَايتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالوِلايَةِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.(1/10)
- بَابُ مَا يَجِبُ فِي اعْتِقَادِ الإِمَامَةِ وَمَعْرِفَةِ أَئِمَّةِ الْعِبَادِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْرِفَ إِمَامَ زَمَانِهِ، وَيَعْتَقِدَ إِمَامَتَهُ، وَفَرْضَ طَاعَتِهِ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ أَهْلِ عَصْرِهِ وَسَيِّدُ قَوْمِهِ، وَأَنَّهُمْ فِي الْعِصْمَةِ وَالْكَمَالِ كَالأَنْبِيَاءِ، وَيَعْتَقِدَ أنَّ كُلَّ رَسُولٍ للهِ تَعَالَى فَهُوَ نَبِيُّ إِمَامٌ، وَلَيْسَ كُلُّ إِمَامٍ نَبِيَّاً وَلا رَسُولاً، وَأَنَّ الأَئِمَّةَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ حُجُجُ اللهِ تَعَالَى وَأَوْلِيَاؤُهُ، وَخَاصَّةُ أَصْفِيَاءِ اللهِ، أَوَّلُهُمْ وَسَيِّدُهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بْنِ عَبْدِ الْمُطَلّّبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عَلَيْهِ أَفْضَلُ السَّلامُ، وَبَعْدَهُ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ جعفر بن محمد، ثُمَّ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، ثُمَّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْحُجَّةُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُوسَى.(1/11)
لا إِمَامَةَ لأَحَدٍ بَعْدَ النَّبيِّ غَيْرَهُمْ، وَلا يَسْتَحِقُهَا سِوَاهُمْ، وَأَنَّهُمْ الْحُجَّةُ عَلَى كَافَّةِ الأَنَامِ كَالأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّهُمْ أَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ بَعْدَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ السَّلامُ، وَالشُّهَدَاءُ عَلَى رَعَايَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا أَنَّ الأَنْبِيَاءَ شُهَدَاءُ اللهِ عَلَى أُمَّمِهِمْ، وَأَنَّ بِمَعْرِفَتِهِمْ وَوِلايَتِهِمْ تُقْبَلُ الأَعْمَالُ، وَبِعَدَاوَتِهِمْ وَالْجَهْلِ بِهِمْ يَسْتَحِقُ النَّارَ)).وَقَالَ الْمُفِيدُ فِي «أَمَالِيهِ»( الْمَجْلِسُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ /ح4):- حَدَّثَنَا أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أبي قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ أَبِي الْخَطَّابِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الْجُعْفِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا عَلِيُّ أَنَا، وَأَنْتَ، وَابْنَاكَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَتِسْعَةٌ مِنْ وَلِدِ الْحُسَيْنِ أَرْكَانُ الدِّينِ، وَدَعَائِمُ الإسْلامِ، مَنْ تَبِعَنَا نَجَا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنَّا فَإِلَى النَّارِ.(1/12)
وَقَالَ فِي «أَمَالِيهِ»( الْمَجْلِسُ الثَّانِي وَالأَرْبَعُونَ /ح4):- أَخْبَرَنِي أبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُولُوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِي عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّد بْن عَلِيّ الْبَاقِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ قال: بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسَةِ دَعَائِمَ: إِقَامِ الصَّلاةِ، وَايتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالوِلايَةِ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.(1/13)
وَقَالَ حُجَّةُ الرَّافِضَةِ ابْنُ بَابَوَيْهِ الْقُمِّيُّ الصَّدُوقُ فِي «الأَمَالِي وَالْمَجَالِسُ"، الْمَجْلِسُ الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ سَنَةِ ثَمَانِ وَسِتِينَ وَثَلاثَمِائَةٍ واجتمع فِي هذا الْيَوْمِ إلَى الشَّيْخِ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ ابْنِ بَابَوَيْهِ الْقُمِّيِّ أَهْلُ مَجْلِسِهِ وَالْمَشَايخُ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِمْ وَصْفَ دِينِ الإِمَامِيَّةِ عَلَى الإِيْجَازِ وَالاخْتِصَارِ، فَقَالَ: «دِينُ الإِمَامِيَّةِ هُوَ: الإِقْرَارُ بِتَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَنَفْي التَّشْبِيهِ عَنْهٌ، وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا لا يَلِيقُ بِهِ، وَالإِقْرَارُ بِأَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، وَحُجُجِهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَالإِقْرَارِ بِأَنَّ مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ هُوَ سيِّدُ الأنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَمِنْ جَمِيعِ الْمَلائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَأَنَّهُ خَاتَمَ النَّبِيِّينَ، فَلا نَبِي بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ جَمِيعَ الأنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالأَئِمَّةِ عَلَيْهُمْ السَّلامُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلائِكَةِ، وَأَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ مُطَهَّرُونَ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ وَرِجْسٍ، لا يَهِّمُونَ بِذَنْبٍ صَغِيرٍ، وَلا كَبِيرٍ، وَلا يَرْتَكِبُونَهُ، وَأَنَّهُمْ أَمَانٌ لأَهْلِ الأَرْضِ، كَمَا أَنَّ النُّجُومَ أَمَانٌ لأَهْلِ السَّمَاءِ، وَأَنَّ الدَّعَائِمَ الَّتِي بُنِيَ الإسْلامُ عَلَيْهَا خَمْسٌ: الصَّلاةُ، وَالزَّكَاةُ، وَالصَّوْمُ، وَالْحَجُّ، وَوِلايَةُ النَّبيِّ وَالأَئِمَّةِ بَعْدَهُ، وَهُمْ اثْنَا عَشْرَ إِمَامَاً: أَوَّلُهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، ثُمَّ الْحَسَنُ(1/14)
وَالْحُسَيْنُ، ثُمَّ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، ثُمَّ الْبَاقِرُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ الصَّادِقُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْكَاظِمُ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، ثُمَّ الرِّضَا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى، ثُمَّ الْجَوَّادُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ الْهَادِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، ثُمَّ الْعَسْكَرِيُّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثُمَّ الْحُجَّةُ ابْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالإِقْرَارُ بِأَنَّهُمْ أُولُو الأَمْرِ الَّذِينَ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِطَاعَتِهِمْ، فَقَالَ ((أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ))، وَأَنَّ طَاعَتَهُمْ طَاعَةُ اللهِ، وَمَعْصِيَتَهُمْ مَعْصِيَةُ اللهِ، وَوَلِيَهُمْ وَلِي اللهِ، وَعَدُوَهُمْ عَدُو اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.....». وَذَكَرَ بَقِيَّةَ مُعْتَقَدَاتِهِمْ الرَّافِضِيَّةِ.
وَقَالَ فِي ( الْمَجْلِسِ الْخَامِسِ وَالأَرْبَعُونَ /ح14): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ المُتَوَكِّلِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ السَّعْدَآبَادِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْبَرْقِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنْ المُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الصَّادِقِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلامُ قال: بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسِ دَعَائِمَ: عَلَى الصَّلاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ، وَالْحَجِّ، وَوِلايَةِ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ، وَالأَئِمَّةِ مِنْ وَلِدِهِ عَلَيْهِمْ السَّلامُ.
وَالكُلَيْنِيُّ ثِقَةُ الإِمَامِيَّةِ يُؤَكِّدُ أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زِمَانِهِ، أَوْ عَرَفَهُ فَأَنْكَرَهُ وَلَمْ يُطِعْهُ، فَهُوَ كَافِرٌ ضَالٌ.
إعلام اللبيب
بحكم خليط التمر والزبيب
لفضيلة الشيخ المُحدث
أبو محمد أحمد شحاتة الألفي السكندري
بسم الله الرحمن الرحيم(1/15)
الحمد لله الهادي من استهداه طلباً لمرضاته، الواقي من اتقاه رَغَبَاً في جناته. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير رسله ودعاته.
وبعد....
لم يزل حملةُ الآثار ونقَّالُ أخبارِها، وفقهاءُ الأقطار وعلماءُ أمصارِها، متوافرون على القول بالنهى عن نبيذ الخليطين، حتى صار تحريمُه هو القول المأثور، والرأي الشائع المنصور، لا يكاد يُعرف في الناس إلا إيَّاه، إذ لا حجَّة ولا برهان لرأىٍ سواه.
وانقضى قرنُ الصحابة وشطرٌ من قرن الأتباع، وليس بهم ميلٌ لهوىٍ ولا رغبةٌ في ابتداع، حتى انتحل طائفةٌ من فقهاء الكوفة في الأنبذة مذهباً مرذولا، لا أثارةَ عليه من علمٍ معقولاً كان أو منقولا، إذ لم يحرِّموا إلا شراباً لا تحريم عندهم لسواه، وهو عصير العنب إذا أسكر ما لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه، وما عداه من نبيذ أو نقيع أو عصير، فلا تحريم له في رأيهم في قليل ولا كثير، وكأن لم ينبئوا بما في أمهات دواوين الإسلام، أنَّ ما أسكر كثيره فقليله حرام، وأن كل مسكرٍ خمر وكل خمرٍ حرام.
ومن عجبٍ ساد هذا المذهب وشاع، وكثُر مقلدوه لموافقته الطباع، فالناس أساري شهواتهم، مائلون إلى من وافق رغباتهم، سيما الرغبة في لذائذ المطعوم والمشروب، فلا بأس باجتناب خمور الأعناب إذ هي ليست بأعز مطلوب، وليُشرب بعدها كلُّ نبيذٍ ويباح، حتى إذا قارب شاربُه السُّكر أمسك واستراح، إذ ليس عليه ذنبٌ ولا جريرة، ما لم يحصل الإسكار بنقطةٍ أخيرة *، وفيما قاله أئمة الكوفة غنية عن الاعتذار، إذ التعويل على فتياهم كافٍ للنجاة من النار، فقد رخصوا لنا، فليحملوا عنا أوزارنا !!.(1/16)
ولما لم يكن في التقدير والحسبان، اجتماع الأمة على العصيان والبهتان، لاستحالة ذلك فيما قضاه الله وقدَّره، وأخبر به الصادق المصدوق وقرَّره، أنَّ أمَّته لا تجتمع على الضلال، فإنَّ ذلك عين الباطل والمحال، فقد أحيا أئمة المذاهب المتبوعة، ورواة الأخبار المسموعة، أحيا الله قلوبهم، ونضَّر يوم القيامة وجوههم، أحيُّوا ما أمات غيرُهم من آثارٍ واردةٍ في الشراب: نبيذِه وعصيرِه، وخرَّجوا الأخبار القاضية بتحريم المسكر: قليلِه وكثيرِه، وحرَّموا على الناس نبيذ الخليطين، واجتمع على ذلك إماما الحرمين **، طيَّب الله ثراهما، وجعل جنان الخلد مأواهما، وتابعهما على قول من يُعتمد قوله ويُقبل، ثالث الأئمة أحمد بن حنبل، رضي الله عنه ورضَّاه، وجعل جنة النعيم داره ومثواه، ثم جاء العلامة المناظر الحجَّاج، المنعوت قلمه بسيف الحجَّاج، الذي لولا بدعته في نفى القياس، لكان الإمام المقدَّم عند كل الناس، أعنى ابن حزم فقيه أهل الظاهر، فقطع حجَّة كل مخالفٍ مجاهر، وأردى أقوال المخالفين صرعى، وحشد في ((محلاه)) الدلائل فأوعى. فهؤلا الأئمة لا تضل بإتباعهم، ولله درُّ داعٍ إلى نصر أقوالهم:
قدْ أحدثَ الناسُ أموراً فلا... تعملْ بها إني امرؤٌ ناصحُ
فما جماع الخير إلا الذي... كانَ عليه السلفُ الصالحُ
فلا يهولنك كثرة القائلين بالجواز مع الكراهة، فإنَّ إتباعَ الرخص ضربٌ من البلاهة، وليس من الديانة تقليد ما وافق الهوى، فقد ضلَّ من اتخذ إلهه هواه وغوى.
فإن أبيت إلا الشقاق والخلاف، ولم تقنع لنفسك بسلوك سبيل الأسلاف، وخضت مع الخائضين في بحر التقليد، وزعمت أنك تأوي إلى ركن شديد، فلا أحسبك إلا كمن أتته الآياتُ فانسلخ منها، أو عرضت عليه أطايب المأكل والمشرب فأعرض عنها.
[(1/17)
مقصد ] أحاديث النهي عن الخليطين صحاح متواترة، وقد تلقاها الأئمة بالقبول، وأودعوها صحاحهم ومسانيدهم، وإن اختلفوا في بعض معانيها. وممن رواها من الصحابة: جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وأَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ، وأَبُو هُرَيرَةَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وأَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، وأَبُو طَلْحَةَ الأَنْصَارِيُّ، وعائشة الصديقة، وأم سلمة، وامرأة كعب بن مالك، وأم مغيث جدة ربيعة بن أبى عبد الرحمن، ورجل من الأنصار، وعطاء بن يسار مرسلاً، خمسة عشر نفساً.
وقد رواها الإمام أبو الحسين مسلم في ((كتاب الأشربة)) من ((صحيحه)) من أحاديث الصحابة الستة الأوائل، فمن اللائق البدء بما أخرجه من أحاديثهم، فقد قال:
(1986) حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ ثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ ثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُخْلَطَ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ، وَالْبُسْرُ وَالتَّمْرُ.
(1986) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا لَيْثٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا، وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الرُّطَبُ وَالْبُسْرُ جَمِيعًا.
((1/18)
1986) وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ح وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَاللَّفْظُ لابْنِ رَافِعٍ قَالا ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ لِي عَطَاءٌ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَجْمَعُوا بَيْنَ الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ، وَبَيْنَ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ نَبِيذاً.
(1986) وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ثَنَا لَيْثٌ ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الْمَكِّيِّ مَوْلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُنْبَذَ الزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا وَنَهَى أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعاً.
(1987) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا، وَعَنِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ أَنْ يُخْلَطَ بَيْنَهُمَا.
(1987) وحَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُمْ، فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا، أَوْ تَمْرًا فَرْدًا، أَوْ بُسْرًا فَرْدًا.(1/19)
وحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ ابْنُ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيُّ بِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَخْلِطَ بُسْرًا بِتَمْرٍ، أَوْ زَبِيبًا بِتَمْرٍ، أَوْ زَبِيبًا بِبُسْرٍ، وَقَالَ: " مَنْ شَرِبَهُ مِنْكُمْ " فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ.
(1988) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ وَهُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أِبِي قَتَادَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلا تَنْتَبِذُوا الرُّطَبَ وَالزَّبِيبَ جَمِيعًا، وَلَكِنِ انْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِه، وَزَعَمَ يَحْيَى أَنَّهُ لَقِيَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي قَتَادَةَ فَحَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا...
وحَدَّثَنِيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَيْنِ الإِسْنَادَيْنِ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: الرُّطَبَ وَالزَّهْوَ، وَالتَّمْرَ وَالزَّبِيبَ.
(1988) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" لا تَنْتَبِذُوا الزَّهْوَ وَالرُّطَبَ جَمِيعًا، وَلا تَنْتَبِذُوا الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جَمِيعًا، وَانْتَبِذُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ".(1/20)
وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
(1989) حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَاللَّفْظُ لِزُهَيْرٍ قَالا ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ أَبِي كَثِيرٍ الْحَنَفِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ وَالْبُسْرِ وَالتَّمْرِ، وَقَالَ: " يُنْبَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ".
وحَدَّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أُذَيْنَةَ وَهُوَ أَبُو كَثِيرٍ الْغُبَرِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِهِ.
(1990) وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخْلَطَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا وَأَنْ يُخْلَطَ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ جَمِيعًا، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ جُرَشَ يَنْهَاهُمْ عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيب.
(1991) حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: قَدْ نُهِيَ أَنْ يُنْبَذَ الْبُسْرُ وَالرُّطَبُ جَمِيعًا وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ جَمِيعًا.
كتبه:
أبو محمد أحمد شحاتة الألفي السكندري
الإسكندرية مساء ثالث عاشر من رمضان المبارك سنة 1425 هـ(1/21)
أُكْذُوبَةٌ رَافِضِيَّةٌ: مُحَمَّدٌ وَعِتْرَتُهُ أَوَّلُ الْخَلْقِ !
الْحَمْدُ للهِ الآمِرِ بِالصِّدْقِ وَالإِحْسَانِ. النَّاهِي عَنْ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ. وَالصَّلاةُ وَالسَّلاُم الأَتْمَّانِ الأَكْمَلانِ عَلَى أَصْدَقِ وَأَكْرَمِ مَنْ هَدَى إِلَى اللهِ بِأَصْدَقِ لَهْجَةٍ وَأَبْلَغِ بَيَانِ. وَعَلَى صَحْبِهِ وَآلِ بَيْتِهِ أُولِي الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ وَالإِحْسَانِ.
وَبَعْدُ..
فَإِنَّ مِنْ أَفْرَى الْفِرَى وَأَكْذَبِ أَكَاذِيبِ الرَّافِضَةِ: زَعْمُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدَاً وَعِتْرَتَهُ أَوَّلُ خَلْقِ اللهِ، خَلَقَهُمْ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ، فَكَانُوا أَبْدَانَاً نُورَانِيَّةً مُؤَيَّدَةً بِرُوحِ الْقُدُسِ، تُسَبِّحُ اللهَ وَتُقَدِّسُهُ وَتُمَجِّدُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، وَالْعَرْشَ وَالْكُرْسِي، وَاللَّوْحَ وَالْقَلَمَ وَالْمَلائِكَةَ بِأَلْفِ دَهْرٍ.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذِهِ الَعَقِيدَةَ هِيَ الدِّيَانَةُ الَّتِي مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مَحَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ.
وَقَدْ أَفْرَدَ حُجَّةُ الإِمَامِيَّةِ الْكُلَيْنِيُّ لِهَذِهِ الأُكْذُوبَةِ الرَّافِضِيَّةِ السَّبَئِيَّةِ بَابَاً كَامِلاً فِي أُصُولِ الْكَافِي (ج1/ كِتَابُ الْحُجَّةِ / بَابُ مَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه)، نَجْتَزِئُ مِنْهُ أَكْذَبَهَا وَأَفْظَعَهَا.
((1/22)
3) أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ عَنْ مُرَازِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ؛ إِنِّي خَلَقْتُكَ وَعَلِيَّاً نُوراً يَعْنِي رُوحاً بِلا بَدَنٍ قَبْلَ أَنْ أَخْلُقَ سَمَاوَاتِي وَأَرْضِي وَعَرْشِي وَبَحْرِي، فَلَمْ تَزَلْ تُهَلِّلُنِي وَتُمَجِّدُنِي، ثُمَّ جَمَعْتُ رُوحَيْكُمَا فَجَعَلْتُهُمَا وَاحِدَةً، فَكَانَتْ تُمَجِّدُنِي وَتُقَدِّسُنِي وَتُهَلِّلُنِي، ثُمَّ قَسَمْتُهَا ثِنْتَيْنِ، وَقَسَمْتُ الثِّنْتَيْنِ اثنْتَيْنِ، فَصَارَتْ أَرْبَعَةً: مُحَمَّدٌ وَاحِدٌ وَعَلِيٌّ وَاحِدٌ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ثِنْتَانِ، ثُمَّ خَلَقَ الله فَاطِمَةَ مِنْ نُورٍ ابْتَدَأَهَا رُوحَاً بِلا بَدَنٍ، ثُمَّ مَسَحَنَا بِيَمِينِهِ، فَأَفْضَى نُورَهُ فِينَا.
((1/23)
5) الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاشْعَرِيُّ عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ إِدْرِيسَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عَلَيْهِ السَّلامُ، فَأَجْرَيْتُ اخْتِلافَ الشِّيعَةِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَزَلْ مُتَفَرِّدَاً بِوَحْدَانِيَّتِهِ، ثُمَّ خَلَقَ مُحَمَّدَاً وَعَلِيّاً وَفَاطِمَةَ، فَمَكَثُوا أَلْفَ دَهْرٍ، ثُمَّ خَلَقَ جَمِيعَ الأَشْيَاءِ، فَأَشْهَدَهُمْ خَلْقَهَا، وَأَجْرَى طَاعَتَهُمْ عَلَيْهَا، وَفَوَّضَ أُمُورَهَا إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يُحِلُّونَ مَا يَشَاءُونَ، وَيُحَرِّمُونَ مَا يَشَاءُونَ، وَلَنْ يَشَاءُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ هَذِهِ الدِّيَانَةُ الَّتِي مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا مَحَقَ، وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ خُذْهَا إِلَيْكَ يَا مُحَمَّد.
(7) عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ: قُلْتُ لأبِِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلامُ: كَيْفَ كُنْتُمْ حَيْثُ كُنْتُمْ فِي الأظِلَّةِ؟، فَقَالَ: يَا مُفَضَّلُ، كُنَّا عِنْدَ رَبِّنَا لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرُنَا فِي ظُلَّةٍ خَضْرَاءَ، نُسَبِّحُهُ وَنُقَدِّسُهُ وَنُهَلله وَنُمَجِّدُهُ، وَمَا مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلا ذِي رُوحٍ غَيْرُنَا، حَتَّى بَدَا لَهُ فِي خَلْقِ الأشْيَاءِ، فَخَلَقَ مَا شَاءَ كَيْفَ شَاءَ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ أَنْهَى عِلْمَ ذَلِكَ إِلَيْنَا.
((1/24)
9) أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ الله الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَعْفَرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: إِنَّ الله كَانَ إِذْ لا كَانَ، فَخَلَقَ الْكَانَ وَالْمَكَانَ، وَخَلَقَ نُورَ الأنْوَارِ الَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ الأنْوَارُ، وَأَجْرَى فِيهِ مِنْ نُورِهِ الَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ الأنْوَارُ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً، فَلَمْ يَزَالا نُورَيْنِ أَوَّلَيْنِ إِذْ لا شَيْءَ كُوِّنَ قَبْلَهُمَا، فَلَمْ يَزَالا يَجْرِيَانِ طَاهِرَيْنِ مُطَهَّرَيْنِ فِي الأصْلابِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى افْتَرَقَا فِي أَطْهَرِ طَاهِرَيْنِ: فِي عَبْدِ الله وَأَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ.
(10) الْحُسَيْنُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلامُ: يَا جَابِرُ، إِنَّ اللهَ أَوَّلَ مَا خَلَقَ خَلَقَ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِه وَعِتْرَتَهُ الْهُدَاةَ الْمُهْتَدِينَ، فَكَانُوا أَشْبَاحَ نُورٍ بَيْنَ يَدَيِ الله، قُلْتُ: وَمَا الأشْبَاحُ؟، قَالَ: ظِلُّ النُّورِ أَبْدَانٌ نُورَانِيَّةٌ بِلا أَرْوَاحٍ، وَكَانَ مُؤَيَّداً بِرُوحٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ رُوحُ الْقُدُسِ، فَبِهِ كَانَ يَعْبُدُ الله وَعِتْرَتَهُ، وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ حُلَمَاءَ عُلَمَاءَ بَرَرَةً أَصْفِيَاءَ، يَعْبُدُونَ الله بِالصَّلاةِ وَالصَّوْمِ وَالسُّجُودِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَيُصَلُّونَ الصَّلَوَاتِ، وَيَحُجُّونَ، وَيَصُومُون.(1/25)
التَّشَوُّفُ بِنَقْدِ أَسَانِيدِ وَرِوَايَاتِ خِرْقَةِ التَّصَوُّفِ
الْوَارِدِ ذِكْرُهَا فِي أَسَانِيدِ بَعْضِ الأَثْبَاتِ وَالْمَعَاجِمِ وَالْمَشْيَخَاتِ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِى رَفَعَ مَنَارَ الْحَقِّ وَأَوْضَحَهُ، وَخَفَضَ الْكَذِبَ وَالزُّورَ وَفَضَحَهُ، وَعَصَمَ شَرِيعَةَ الإِسْلامِ مِنْ التَّزِييفِ وَالْبُهْتَانِ، وَجَعَلَ الذِّكْرَ الْحَكِيمَ مَصُونَاً مِنْ التَّبْدِيلِ وَالتَّحْرِيفِ، وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، بِمَا حَفِظَهُ فِى أَوْعِيَةِ الْعِلْمِ وَصُدُورِ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالإِتْقَانِ، وَبِمَا عَظَّمَ مِنْ شَأْنِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَبْعُوثِ بِوَاضِحَاتِ الصِّدْقِ وَالْبُرْهَانِ.
فَفِى مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، وَفِى الصَّحِيحِ الْمُتَوَاتِرِ عَنْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَكْذِبُوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَكْذِبْ عَلَيَّ يَلِجِ النَّارَ»، وَقَالَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.(1/26)
»وَمَعَ ذَا، فَكَمْ وَضَعَ الْوَضَّاعُونَ، وَالآفَّاكُونَ، وَالزَّنَادِقَةُ، وَضِعَافُ الْحِفْظِ، وَالْمُغَفَّلُونَ مِنْ الزُّهَادِ وَالْعُبَّادِ، بِقَصْدٍ وَتَعَمُّدٍ، أَوْ بِغَفْلَةٍ وَسُوءِ حِفْظٍ، كَمْ وَضَعُوا مِنْ أَحَادِيثَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِى التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، وَالزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، وَفَضَائِلِ الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ، وَمَنَاقِبِ الصَّحَابَةِ وَالأَخْيَارِ، فَكَشَفَ اللهُ عَلَى أَيْدَى الْجَهَابِذَةِ مِنْ حُفَّاظِ الآثَارِ وَنُقَّادِ الأَخْبَارِ زَيْغََهُمْ، وَفَضَحَ كَيْدَهُمْ، إِذْ بَيَّنُوا أَحْوَالِ رِوَاتِهَا، وَحَلَّلُوا أَسَانِيدَهَا، وَمَيَّزُوا صَحِيحَهَا وَسَقِيمَهَا، فَكَشَفُوا عَوَارَ الْبَاطِلِ وَالْمَوْضُوعِ، وَأَوْضَحُوا عِلَلَ الْمُنْكَرِ وَالْمَصْنُوعِ. وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ السَّيِّدُ الْجَلِيلُ، وَالإِمَامُ الْقُدُوةُ النِّحْرِيرُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: مَا هَذِهِ الأَحَادِيثُ الْمَوْضُوعَةُ؟، أَجَابَ قَائِلاً: تَعِيشُ لَهَا الْجَهَابِذَةُ.
وَللهِ درُّ الْعَلاَّمَةِ مُحَمَّدِ عَلِيٍّ آدَمَ الأثْيُوبِيُّ، حَيْثُ يَقُولُ فِى مَنْظُومَتِهِ «تَذْكِرَةُ الطَّالِبِينَ بِبَيَانِ الْوَضْعِ وَأَصْنَافِ الْوَضَّاعِينَ:
لَمَّا حَمَى اللهُ الكِتَابَ الْمُنْزَلا... عَنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ أَوْ يُبَدَّلا
أَخَذَ أقْوَامٌ يَزِيدُونَ عَلَى... أَخْبَارِ مَنْ أَرْسَلَهُ لِيَفْصِلا
فَأنْشَأَ اللهُ حُمَاةَ الدِّينِ... مُمَيِِّزينَ الْغَثَّ مِنْ سَمِينِ
قَدْ أَيَّدَ اللهُ بِهِمْ أَعْصَارَا... وَنَوَّرُوا الْبِلادَ وَالأَمْصَارَا
وَحَرَسُوا الأَرْضَ كَأَمْلاكِ السَّمَا... أَكْرِمَ بِفِرْسَانٍ يَجُولُون الْحِمَى
وَقَالَ سُفْيَانُ الْمَلائِكَةُ قَدْ... حَرَسَتْ السَّمَاءَ عَنْ طَاغٍ مَرَدْ(1/27)
وَحَرَسَ الأَرْضَ رُوَاةُ الْخَبَرِ... عَنْ كُلِّ مَنْ لِكَيْدِ شَرْعٍ يَفْتَرِى
وَابنُ زُرَيْعٍ قَالَ قَوْلاً يُعْتَبَرْ... لِكُلِّ دِينٍ جَاءَ فِرسَانٌ غُرَرْ
فِرْسَانُ هَذَا الدِّينِ أَصْحَابُ السنَدْ... فَاسْلُكْ سَبِيلَهُمْ فَإِنَّهُ الرَّشَدْ
وَابْنُ الْمُبَارِكِ الْجَلِيلُ إِذْ سُئِلْ... عَمَّا لَهُ الوَضَّاعُ كَيْدَاً يَفْتَعِلْ
قَالَ: تَعِيشُ دَهْرَهَا الْجَهَابِذَةْ... حَامِيَةً تِلَكَ الغُثَاءَ نَابِذَةْ
وَبَعْدُ.. فَقَدْ سَأَلَنِي جُمَاعَةٌ مِنَ الْفُضَلاءِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلِيَّ إِجَابَتُهُمْ لِمُرَادِهِمْ، وَقَدْ بَانَ لِي صِدْقُ نَوَايَاهُمْ وَحُسْنُ قَصْدِهِمْ: عَنْ نَقْدِ الْوَاهِي وَالْمُنْكَرِ وَالْمَوْضُوعِ مِنْ أَسَانِيدِ الأَثْبَاتِ وَالْمَعَاجِمِ وَالْمَشْيَخَاتِ، بِنَحْوِ مَا يُفْعَلُ بِرَوَايَاتِ أُمَّهَاتِ الْكُتُبِ الْمُعْتَمَدَاتِ، كَالصِحَّاحِ وَالسُّنُنِ وَالْمَسَانِيدِ وَالْمُصَنَّفَاتِ، إِذْ لَمْ يَكْتَفِى أَئِمَّةُ التَّحْقِيقِ بِالْوُثُوقِ بِإِمَامَةِ جَامِعِيهَا، وَلَمْ يَرْكَنُوا إِلَى جَلالَةِ وَفَخَامَةِ مُصَنِّفِيهَا، بَلْ دَقَّقُوا وَأَمْعَنُوا النَّظَرَ فِي الْمُتُونِ وَالأَسَانِيدِ وَالرِّوَايَاتِ، وَبَيَّنُوا مُسْتَحَقَّ كُلٍّ مِنْهَا مِنَ الْمَرَاتِبِ وَالدَّرَجَاتِ، مَعَ التَّعْلِيلِ وَالإِبَانَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْبَحْثِ فِي الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ، كَنَحْوِ فِعْلِ الإِمَامَيْنِ الشَّيْخَيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، حَتَّي خَلَصَتْ الصِّحَاحُ مِنَ الضِّعَافِ خُلُوصَ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعَيْنِ، وَسَفَرَ وَجْهُ السُّنَّةِ مُشْرِقَاً وَضَّاحَاً، كَإِشْرَاقَةِ الشَّمْسِ عَلَى الْكَوْنِ إِذَا طَلَعَتْ صَبَاحَاً.(1/28)
فَإِذَا كَانَ هَذَا صَنِيعُ الْمُحَقِّقِينَ، مَعَ مُصَنَّفَاتِ الأَمَاجِدِ السَّالِفِينَ، الْمُجْمَعِ عَلَى إِمَامَتِهِمْ وَجَلالَتِهِمْ، وَالْمَوْثُوقِ بِضَبْطِهِمْ وَعَدَالَتِهِمْ، فَكَيْفَ نَثِقُ بَعْدَ ذَا بِالأَثْبَاتِ وَالْمَشْيَخَاتِ، الْمَشْحُونَةِ بِأَسَانِيدِ الطُّرُقِ الْبَاعَلَوِيَّةِ وَالْقَادِرِيَّةِ وَالرِّفَاعِيَّةِ وَالْكَازَرُونِيَّةِ وَالسَّهْرَوَرْدِيَّةِ وَالشَّاذُلِيَّةِ وَالْمُرْسِيَّةِ وَالْعَرُوسِيَّةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّرُقِ الصُّوفِيَّةِ، أَمْ كَيْفَ نَعْتَمِدُ عَشَرَاتِ الْكُتُبِ فِي الْخِرْقَةِ الصُّوفِيَّةِ كَ «إِتْحَافِ الْفِرْقَةِ الْفَقْرِيَّةِ الْوَفِيَّةِ بِأَسَانِيدِ الْخِرْقَةِ الْقَادِرِيَّةِ» و «الْبَرْقَةِ الْمَشِيقَةِ فِي إِلْبَاسِ الْخِرْقَةِ الأَنِيقَةِ» وَ «الْبَرْقَةِ الْمُدْهِشَةِ فِي لُبْسِ الْخِرْقَةِ الْمُنْعِشَةِ» وَ «الطُّرُقِ الصُّوفِيَّةِ الْمَرْضِيَّةِ فِي إِلْبَاسِ الْخِرْقَةِ الْعَلِيَّةِ»، وَمَا احْتَوَتْهُ مِنَ الْمَرَاسِمِ وَالأَحْوَالِ الْبِدْعِيَّةِ وَالشِّرْكِيَّةِ؟!.
وَقَالَ سَائِلٌ مِنْهُمْ مُتَيَقِّظٌ، وَمُتَأَدِّبٌ مُتَحَفِّظٌ: «يَا شَيْخَنَا، هَلْ يَجُوزُ قَبُولُ هَذِهِ الإِجَازَاتِ، وَالاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الأَثْبَاتِ وَالْمَشْيَخَاتِ، وَالْحَالُ كَمَا وَصَفْنَاهُ، وَمَا خَفِيَ عَلَيْنَا أَكْثَرُ مِمَّا عَرَفْنَاهُ؟!. يَا شَيْخَنَا، بَيِّنْ لَنَا، وَاشْفِ غَيْظَ قُلُوبِنَا، وَأَطَلْ فِي بَيَانِكَ، وَاذْكُرْ لَنَا الْمَصَادِرَ وَالْمَرَاجِعَ الَّتِي نَاقِشَتْ ذَلِكَ، وَكَشَفَتْ الْنِقَابَ عَنْ مَقَاصِدِهَا وَمَرَامِيهَا، وَزَيَّفَتْ دَلائِلَهَا وَقَوَّضَتْ مَبَانِيهَا.(1/29)
فَقُلْتُ: الآنَ، قَدْ وَجَبَ الْبَيَانُ، اسْتِجَابَةً لِقَوْلِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ «وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ». وَقَدْ سُئِل شَيْخُ الإِسْلامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْحَلِيمِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ بْنِ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ عَنْ أَكْثَرِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُونَ السَّابِقُونَ، وَالإِخْوةَ ُالْمُتَيَقِّظُونَ الْمُتَحَفِّظُونَ. فَرَأيْتُ أَنْ أَنْقُلَهُ أوَّلاً، ثُمَّ أُعَقِّبُ عَلَيْهِ بِذِكْرِ نَقْدِ الأَسَانِيدِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْكُتُبِ الْمَسْئُولِ عَنْهَا ثَانِيَاً.
فَأَقُولُ بِاللهِ تَعَالَى مُسْتَعِينَاً، رَاضٍ بِهِ مُدَبِّرَاً مُعِينَاً:
سُئِل شَيْخُ الإِسْلامِ _ طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ _: عَنْ جَمَاعَةٍ يَجْتَمِعُونَ فِي مَجْلِسٍ، وَيُلَبِّسُونَ لِشَخْصِ مِنْهُمْ لِبَاسَ «الْفُتُوَّةِ»، وَيُدِيرُونَ بَيْنَهُمْ فِي مَجْلِسِهِمْ شَرْبَةً فِيهَا مِلْحٌ وَمَاءٌ، يَشْرَبُونَهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ هَذَا مِنْ الدِّينِ، وَيَذْكُرُونَ فِي مَجْلِسِهِمْ أَلْفَاظَاً لا تَلِيقُ بِالْعَقْلِ وَالدِّينِ.(1/30)
فَمِنْهَا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلْبَسَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لِبَاسَ الْفُتُوَّةِ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يُلْبِسَهُ مَنْ شَاءَ، وَيَقُولُونَ: إنَّ اللِّبَاسَ أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُنْدُوقٍ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى «يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسَاً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ» الآيَةَ !!. فَهَلْ هُوَ كَمَا زَعَمُوا؟، أَمْ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ؟ وَهَلْ هُوَ مِنْ الدِّينِ أَمْ لا؟، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الدِّينِ فَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَوْ يُعِينُ عَلَيْهِ؟.
وَمِنْهُمْ: مَنْ يَنْسِبُ ذَلِكَ إلَى الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ لِدِينِ اللهِ، إلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ الدِّينِ؛ فَهَلْ لِذَلِكَ أَصْلٌ أَمْ لا؟، وَهَلْ الأَسْمَاءُ الَّتِي يُسَمَّوْنَ بِهَا بَعْضَهُمْ بَعْضَاً مِنْ اسْمِ الْفُتُوَّةِ وَرُءُوسِ الأَحْزَابِ وَالزُّعَمَاءِ، هَلْ لِهَذَا أَصْلٌ أَمْ لا؟.(1/31)
وَمِنْهَا: أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ الْمَجْلِسَ الَّذِي يَجْتَمِعُونَ فِيهِ «دَسْكَرَةً»، وَيَقُومُ لِلْقَوْمِ نَقِيبٌ إلَى الشَّخْصِ الَّذِي يُلْبِسُونَهُ، فَيَنْزِعُهُ اللِّبَاسَ الَّذِي عَلَيْهِ بِيَدِهِ، وَيُلْبِسُهُ اللِّبَاسَ الَّذِي يَزْعُمُونَ أَنَّهُ «لِبَاسُ الْفُتُوَّةِ» بِيَدِهِ، فَهَلْ هَذَا جَائِزٌ أَمْ لا؟.(1/32)
وَإِذَا قِيلَ: لا يَجُوزُ فِعْلُ ذَلِكَ وَلا الإِعَانَةُ عَلَيْهِ؟، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الأَمْرِ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ؟، وَهَلْ لِلْفُتُوَّةِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ أَمْ لا؟، وَإِذَا قِيلَ: لا أَصْلَ لَهَا فِي الشَّرِيعَةِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى غَيْرِ وَلِيِّ الأَمْرِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لا؛ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الإِنْكَارِ؟، وَهَلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَوْ التَّابِعِينَ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَعَلَ هَذِهِ الْفُتُوَّةَ الْمَذْكُورَةَ، أَوْ أَمَرَ بِهَا أَمْ لا؟، وَهَلْ خُلِقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النُّورِ؟، أَمْ خُلِقَ مِنْ الأَرْبَعِ عَنَاصِرَ، أَمْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ؟، وَهَلْ الْحَدِيثُ الَّذِي يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ «لَوْلاك مَا خَلَقَ اللهُ عَرْشَاً، وَلا كُرْسِيَّاً، وَلا أَرْضَاً، وَلا سَمَاءً، وَلا شَمْسَاً، وَلا قَمَرًا، وَلا غَيْرَ ذَلِكَ» صَحِيحٌ هُوَ أَمْ لا؟، وَهَلْ «الأُخُوَّةُ» الَّتِي يُؤَاخِيهَا الْمَشَايِخُ بَيْنَ الْفُقَرَاءِ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي السَّمَاعِ وَنَحْوِهِ أَمْ لا؟، وَهَلْ آخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، أَمْ بَيْنَ كُلِّ مُهَاجِرِيٍّ وَأَنْصَارِيٍّ؟، وَهَلْ آخَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمْ لا؟.
بَيِّنُوا لَنَا ذَلِكَ بِالتَّعْلِيلِ، وَالْحُجَّةِ الْمُبَيِّنَةِ، وَابْسُطُوا لَنَا الْجَوَابَ فِي ذَلِكَ بَسْطَاً شَافِيَاً مَأْجُورِينَ. أَثَابَكُمْ اللهُ تَعَالَى.
أَجَابَ شَيْخُ الإِسْلامِ _ طَيَّبَ اللهُ ثَرَاهُ _:(1/33)
الْحَمْدُ للهِ. أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ إلْبَاسِ لِبَاسِ«الْفُتُوَّةِ»؛ السَّرَاوِيلَ أَوْ غَيْرَهُ، وَإِسْقَاءِ الْمِلْحِ وَالْمَاءِ فَهَذَا بَاطِلٌ لا أَصْلَ لَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، لا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَلا غَيْرُهُ، وَلا أَحَدٌ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ. وَالإِسْنَادُ الَّذِي يَذْكُرُونَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخَلِيفَةِ النَّاصِرِ إلَى عَبْدِ الْجَبَّارِ إلَى ثُمَامَةَ فَهُوَ إسْنَادٌ لا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، وَفِيهِ مَنْ لا يُعْرَفُ، وَلا يَجُوزُ لِمُسْلِمِ أَنْ يَنْسُبَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الإِسْنَادِ الْمَجْهُولِ الرِّجَالِ أَمْرَاً مِنْ الأُمُورِ الَّتِي لا تُعْرَفُ عَنْهُ، فَكَيْفَ إذَا نُسِبَ إلَيْهِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ عَلَيْهِ !، فَإِنَّ الْعَالِمِينَ بِسُنَّتِهِ وَأَحْوَالِهِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا مِنْ الْكَذِبِ الْمُخْتَلَقِ عَلَيْهِ، وَعَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ نُزُولِ هَذَا اللِّبَاسِ فِي صُنْدُوقٍ هُوَ مِنْ أَظْهَرْ الْكَذِبِ بِاتِّفَاقِ الْعَارِفِينَ بِسُنَّتِهِ. وَاللِّبَاسُ الَّذِي يُوَارِي السَّوْأَةَ هُوَ كُلُّ مَا سَتَرَ الْعَوْرَةَ مِنْ جَمِيعِ أَصْنَافِ اللِّبَاسِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لَمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، وَيَقُولُونَ: ثِيَابٌ عَصَيْنَا اللهَ فِيهَا لا نَطُوفُ فِيهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، وَأَنْزَلَ قَوْلَهُ «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»، وَهذا من الْكَذِبُ والافتراء، بَلْ هُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَذِبِ.(1/34)
وأما مَا ذُكِرَ مِنْ «لِبَاسِ الْخِرْقَةِ»، وَأَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَاجَدَ حَتَّى سَقَطَتْ الْبُرْدَةُ عَنْ رِدَائِهِ، وَأَنَّهُ فَرَّقَ الْخِرَقَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَأَنَّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ، وَقَالَ لَهُ: إنَّ رَبَّك يَطْلُبُ نَصِيبَهُ مِنْ زِي الْفَقْرِ، وَأَنَّهُ عَلَّقَ ذَلِكَ بِالْعَرْشِ، فَهَذَا أَيْضَاً كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجْتَمِعْ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَلَى سَمَاعِ كَفٍّ، وَلا سَمَاعِ دُفُوفٍ وَشَبَّابَاتٍ، وَلا رَقْصٍ، وَلا سَقَطَ عَنْهُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِهِ فِي ذَلِكَ، وَلا قَسَمَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَكُلُّ مَا يُرْوَى مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِسُنَّتِهِ.(1/35)
وَأَمَّا لَفْظُ «الْفَتَى» فَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ الْحَدَثُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى «إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ»، وقَوْله تَعَالَى «قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبْرَاهِيمُ»، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ». لَكِنْ لَمَّا كَانَتْ أَخْلاقُ الأَحْدَاثِ اللِّينَ صَارَ كَثِيرٌ مِنْ الشُّيُوخِ يُعَبِّرُونَ بِلَفْظِ «الْفُتُوَّةِ» عَنْ مَكَارِمِ الأَخْلاقِ، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: طَرِيقُنَا تُفْتَى وَلَيْسَ تُنْصَرُ. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْفُتُوَّةُ أَنَّ تُقَرِّبَ مَنْ يُقْصِيك، وَتُكْرِمَ مَنْ يُؤْذِيك، وَتُحْسِنَ إلَى مَنْ يُسِيءُ إلَيْك، سَمَاحَةً لا كَظْمًا، وَمَوَدَّةً لا مُضَارَةً. وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْفُتُوَّةُ تَرْكُ مَا تَهْوَى لِمَا تَخْشَى. وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي تُوصَفُ فِيهَا الْفُتُوَّةُ بِصِفَاتِ مَحْمُودَةٍ مَحْبُوبَةٍ، سَوَاءٌ سُمِّيَتْ فُتُوَّةً، أَوْ لَمْ تُسَمَّ، وَهِيَ لَمْ تَسْتَحِقَّ الْمَدْحَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إلا لِدُخُولِهَا فِيمَا حَمِدَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الأَسْمَاءِ، كَلَفْظِ الإِحْسَانِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالْعَفْوِ، وَالصَّفْحِ، وَالْحِلْمِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَالْبِرِّ، وَالصَّدَقَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالْخَيْرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الأَسْمَاءِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ. فَكُلُّ اسْمٍ عَلَّقَ اللهُ بِهِ الْمَدْحَ وَالثَّوَابَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَهْلُهُ مَمْدُوحِينَ، وَكُلُّ اسْمٍ عَلَّقَ بِهِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَانَ أَهْلُهُ مَذْمُومِينَ، كَلَفْظِ الْكَذِبِ، وَالْخِيَانَةِ، وَالْفُجُورِ، وَالظُّلْمِ وَالْفَاحِشَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.(1/36)
وَأَمَّا لَفْظُ «الزَّعِيمِ»، فَإِنَّهُ مِثْلُ لَفْظِ الْكَفِيلِ وَالْقَبِيلِ وَالضَّمِينِ، قَالَ تَعَالَى: «وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ»، فَمَنْ تَكَفَّلَ بِأَمْرِ طَائِفَةٍ فَإِنَّهُ يُقَالُ: هُوَ زَعِيمٌ؛ فَإِنْ كَانَ قَدْ تَكَفَّلَ بِخَيْرِ كَانَ مَحْمُودَاً عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا كَانَ مَذْمُومَاً عَلَى ذَلِكَ. وَأَمَّا «رَأْسُ الْحِزْبِ» فَإِنَّهُ رَأْسُ الطَّائِفَةِ الَّتِي تَتَحَزَّبُ أَيْ تَصِيرُ حِزْبَاً، فَإِنْ كَانُوا مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلا نُقْصَانٍ فَهُمْ مُؤْمِنُونَ، لَهُمْ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ زَادُوا فِي ذَلِكَ وَنَقَصُوا، مِثْلَ التَّعَصُّبِ لِمَنْ دَخَلَ فِي حِزْبِهِمْ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالإِعْرَاضِ عَمَّنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي حِزْبِهِمْ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَهَذَا مِنْ التَّفَرُّقِ الَّذِي ذَمَّهُ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ، فَإِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أَمَرَا بِالْجَمَاعَةِ وَالائْتِلافِ، وَنَهَيَا عَنْ التَّفْرِقَةِ وَالاخْتِلافِ، وَأَمَرَا بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَنَهَيَا عَنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ».(1/37)
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يُسْلِمْهُ، وَلا يَخْذُلْهُ»، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمَاً أَوْ مَظْلُومَاً»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ أَنْصُرُهُ مَظْلُومَاً، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمَاً، قَالَ: «تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ؛ فَذَلِكَ نَصْرُك إيَّاهُ»، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ؛ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ، وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ؛ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ، وَيُشَيِّعُهُ إذَا مَاتَ»، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ وَأَمْثَالُهَا فِيهَا أَمْرُ اللهِ وَرَسُولِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ.(1/38)
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تَقَاطَعُوا، وَلا تَدَابَرُوا، وَلا تَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا»، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئَاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا؛ وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ»، وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؟»، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «صَلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، لا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ». فَهَذِهِ الأُمُورُ مِمَّا نَهَى اللهُ وَرَسُولُهُ عَنْهَا.(1/39)
وَأَمَّا لَفْظُ «الدَّسْكَرَةِ» فَلَيْسَتْ مِنْ الأَلْفَاظِ الَّتِي لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ، فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حَمْدٌ أَوْ ذَمٌّ؛ وَلَكِنْ هِيَ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ الْمَجَامِعِ، كَمَا فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ: «أَنَّهُ جَمَعَ الرُّومَ فِي دَسْكَرَةٍ»؛ وَيُقَالُ لِلْمُجْتَمِعِينَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ: إنَّهُمْ فِي دَسْكَرَةٍ؛ فَلا يَتَعَلَّقُ بِهَذَا اللَّفْظِ حَمْدٌ وَلا ذَمٌّ؛ وَهُوَ إلَى الذَّمِّ أَقْرَبُ؛ لأَنَّ الْغَالِبَ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ بِذَلِكَ الاجْتِمَاعَ عَلَى الْفَوَاحِشِ وَالْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ. وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ لَكِنَّهُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ؛ فَإِنْ قَامَ بِهِمَا مَنْ يَسْقُطُ بِهِ الْفَرْضُ مِنْ وُلاةِ الأَمْرِ؛ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَالأَوْجَبُ عَلَى غَيْرِهِمْ أَنْ يَقُومَ مِنْ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.(1/40)
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُلِقَ مِمَّا يُخْلَقُ مِنْهُ الْبَشَرُ؛ وَلَمْ يُخْلَقْ أَحَدٌ مِنْ الْبَشَرِ مِنْ نُورٍ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللهَ خَلَقَ الْمَلائِكَةَ مِنْ نُورٍ؛ وَخَلَقَ إبْلِيسَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ؛ وَخَلَقَ آدَمَ مِمَّا وَصَفَ لَكُمْ»، وَلَيْسَ تَفْضِيلُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى بَعْضٍ بِاعْتِبَارِ مَا خُلِقَتْ مِنْهُ فَقَطْ، بَلْ قَدْ يُخْلَقُ الْمُؤْمِنُ مِنْ كَافِرٍ، وَالْكَافِرُ مِنْ مُؤْمِنٍ؛ كَابْنِ نُوحٍ مِنْهُ، وَكَإِبْرَاهِيمَ مِنْ آزَرَ. وَآدَمُ خَلَقَهُ اللهُ مِنْ طِينٍ، فَلَمَّا سَوَّاهُ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَأَسْجَدَ لَهُ الْمَلائِكَةَ، وَفَضَّلَهُ عَلَيْهِمْ بِتَعْلِيمِهِ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَبِأَنْ خَلَقَهُ بِيَدَيْهِ؛ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ. فَهُوَ وَصَالِحُو ذُرِّيَّتِهِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلائِكَةِ، وَإِنْ كَانَ هَؤُلاءِ مَخْلُوقِينَ مِنْ طِينٍ؛ وَهَؤُلاءِ مِنْ نُورٍ. وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَبِيرَةٌ مَبْسُوطَةٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ فَإِنَّ فَضْلَ بَنِي آدَمَ هُوَ بِأَسْبَابِ يَطُولُ شَرْحُهَا هُنَا. وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَضْلُهُمْ إذَا دَخَلُوا دَارَ الْقَرَارِ «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ».(1/41)
وَالآدَمِيُّ خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ؛ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ؛ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ مَنْ صِغَرٍ إلَى كِبَرٍ، ثُمَّ مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ، فَلا يَظْهَرُ فَضْلُهُ وَهُوَ فِي ابْتِدَاءِ أَحْوَالِهِ؛ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَضْلُهُ عِنْدَ كَمَالِ أَحْوَالِهِ؛ بِخِلافِ الْمَلَكِ الَّذِي تَشَابَهَ أَوَّلُ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ. وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ فَضَّلَ الْمَلائِكَةَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ حَيْثُ نَظَرَ إلَى أَحْوَالِ الأَنْبِيَاءِ وَهُمْ فِي أَثْنَاءِ الأَحْوَالِ؛ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى مَا وُعِدُوا بِهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ مِنْ نِهَايَاتِ الْكَمَالِ. وَقَدْ ظَهَرَ فَضْلُ نَبِيِّنَا عَلَى الْمَلائِكَةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، لَمَّا صَارَ بِمُسْتَوَى يُسْمَعُ فِيهِ صَرِيفُ الأَقْلامِ، وَعَلا عَلَى مَقَامَاتِ الْمَلائِكَةِ، وَاَللهُ تَعَالَى أَظْهَرَ مِنْ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ، وَعَجِيبِ حِكْمَتِهِ مِنْ صَالِحِي الآدَمِيِّينَ مِنْ الأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِثْلُهُ مِنْ الْمَلائِكَةِ، حَيْثُ جَمَعَ فِيهِمْ مَا تَفَرَّقَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَخَلَقَ بَدَنَهُ مِنْ الأَرْضِ، وَرُوحَهُ مِنْ الْمَلأِ الأَعْلَى، وَلِهَذَا يُقَالُ: هُوَ الْعَالَمُ الصَّغِيرُ، وَهُوَ نُسْخَةُ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ.(1/42)
وَمُحَمَّدٌ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَيْهِ، وَمِنْ هُنَا قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ اللهَ خَلَقَ مِنْ أَجْلِهِ الْعَالَمَ، أَوْ إنَّهُ لَوْلا هُوَ لَمَا خَلَقَ عَرْشَاً، وَلا كُرْسِيَّاً، وَلا سَمَاءً، وَلا أَرْضَاً وَلا شَمْسَاُ، وَلا قَمَرَاً. لَكِنْ لَيْسَ هَذَا حَدِيثًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا صَحِيحَاً، وَلا ضَعِيفَاً، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ وَلا يُعْرَفُ عَنْ الصَّحَابَةِ، بَلْ هُوَ كَلامٌ لا يُدْرَى قَائِلُهُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَسَّرَ بِوَجْهِ صَحِيحٍ كَقَوْلِهِ «سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ»، وَقَوْلُهُ «وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا»، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ الآيَاتِ الَّتِي يُبَيِّنُ فِيهَا أَنَّهُ خَلَقَ الْمَخْلُوقَاتِ لِبَنِي آدَمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ للهِ فِيهَا حِكَمَاً عَظِيمَةً غَيْرَ ذَلِكَ، وَأَعْظَمَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ يُبَيِّنُ لِبَنِي آدَمَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنْ النِّعْمَةِ، فَإِذَا قِيلَ: فَعَلَ كَذَا لِكَذَا لَمْ يَقْتَضِ أَنْ لا يَكُونَ فِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى.(1/43)
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: لَوْلا كَذَا مَا خُلِقَ كَذَا لا يَقْتَضِي أَنْ لا يَكُونَ فِيهِ حِكَمٌ أُخْرَى عَظِيمَةٌ، بَلْ يَقْتَضِي إذَا كَانَ أَفْضَلُ صَالِحِي بَنِي آدَمَ مُحَمَّدٌ، وَكَانَتْ خِلْقَتُهُ غَايَةً مَطْلُوبَةً وَحِكْمَةً بَالِغَةً مَقْصُودَةً أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِ صَارَ تَمَامَ الْخَلْقِ وَنِهَايَةَ الْكَمَالِ حَصَلَ بِمُحَمَّدِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَاللهُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ آخِرُ الْخَلْقِ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، وَفِيهِ خُلِقَ آدَمَ، وَهُوَ آخِرُ مَا خُلِقَ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ فِي آخِرِ يَوْمِ الْجُمْعَةِ. وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَهُوَ الْقَائلُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إنِّي عِنْدَ اللهِ لَمَكْتُوبٌ خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَإِنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ فِي طِينَتِهِ»: أَيْ كُتِبَتْ نُبُوَّتِي، وَأُظْهِرَتْ لَمَّا خُلِقَ آدَمَ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، كَمَا يَكْتُبُ اللهُ رِزْقَ الْعَبْدِ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ إذَا خُلِقَ الْجَنِينُ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ.(1/44)
فَإِذَا كَانَ الإِنْسَانُ هُوَ خَاتَمُ الْمَخْلُوقَاتِ وَآخِرُهَا، وَهُوَ الْجَامِعُ لِمَا فِيهَا، وَفَاضِلُهُ هُوَ فَاضِلُ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقَاً، وَمُحَمَّدٌ إنْسَانُ هَذَا الْعَيْنِ؛ وَقُطْبُ هَذِهِ الرَّحَى، وَأَقْسَامُ هَذَا الْجَمْعِ كَانَ كَأَنَّهُ غَايَةُ الْغَايَاتِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ، فَمَا يُنْكَرُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ لأَجْلِهِ خُلِقَتْ جَمِيعهَا، وَإِنَّهُ لَوْلاهُ لَمَا خُلِقَتْ على معنى هَذَا الْكَلامُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَأَمَّا إذَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ غُلُوٌّ مِنْ جِنْسِ غُلُوِّ النَّصَارَى بِإِشْرَاكِ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الرُّبُوبِيَّةِ كَانَ ذَلِكَ مَرْدُودًا غَيْرَ مَقْبُولٍ؛ فَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلا الْحَقَّ إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرَاً لَكُمْ إنَّمَا اللهُ إلَهٌ وَاحِدٌ»، وَاَللهُ قَدْ جَعَلَ لَهُ حَقَّاً لا يُشْرِكُهُ فِيهِ مَخْلُوقٌ، فَلا تَصْلُحُ الْعِبَادَةُ إلا لَهُ، وَلا الدُّعَاءُ إلا لَهُ، وَلا التَّوَكُّلُ إلا عَلَيْهِ، وَلا الرَّغْبَةُ إلا إلَيْهِ، وَلا الرَّهْبَةُ إلا مِنْهُ، وَلا مَلْجَأَ وَلا مَنْجَا مِنْهُ إلا إلَيْهِ، وَلا يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إلا هُوَ، وَلا يُذْهِبُ السَّيِّئَاتِ إلا هُوَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بِهِ، «وَلا تَنْفَعُ(1/45)
الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ»، «مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلا بِإِذْنِهِ»، «إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدَاً.
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا»، وَقَالَ تَعَالَى «وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ»، فَجَعَلَ الطَّاعَةَ للهِ وَلِلرَّسُولِ، وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى للهِ وَحْدَهُ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ «وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إنَّا إلَى اللهِ رَاغِبُونَ»، فَالْإِيتَاءُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فَعَلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَالرَّغْبَةُ إلَى اللهِ وَحْدَهُ.
وَأَمَّا «الْمُؤَاخَاةُ» فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَمَا آخَى بَيْنَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَبَيْنَ أَبِي الدَّرْدَاءِ، وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِتِلْكَ الْمُؤَاخَاةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ»، فَصَارُوا يَتَوَارَثُونَ بِالْقَرَابَةِ، وَفِي ذَلِكَ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى «وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ»، وَهَذَا هُوَ الْمُحَالَفَةُ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ هَلْ التَّوَارُثُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَابَةِ وَالْوَلاءِ مُحْكَمٌ أَوْ مَنْسُوخٌ عَلَى قَوْلَيْنِ:(1/46)
أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَلَمَّا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لا حِلْفَ فِي الإِسْلامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلامُ إِلا شِدَّةً.
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ مُحْكَمٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى عَنْهُ.
وَأَمَّا «الْمُؤَاخَاةُ» بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، كَمَا يُقَالُ: إنَّهُ آخَى بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَإِنَّهُ آخَى عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ ذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ بِمَكَّةَ، وَبَعْضُهُمْ ذَكَرَ أَنَّهُ فَعَلَ بِالْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ نَقْلٌ ضَعِيفٌ: إمَّا مُنْقَطِعٌ وَإِمَّا بِإِسْنَادِ ضَعِيفٍ، وَاَلَّذِي فِي الصَّحِيحِ هُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَمَنْ تَدَبَّرَ الأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، وَالسِّيرَةَ النَّبَوِيَّةَ الثَّابِتَةَ تَيَقَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ.(1/47)
وَأَمَّا عَقْدُ «الأُخُوَّةِ» بَيْنَ النَّاسِ فِي زِمَانِنَا، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْتِزَامَ الأُخُوَّةِ الإِيْمَانِيَّةِ، الَّتِي أَثْبَتَهَا اللهُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ «إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ»، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يُسْلِمْهُ وَلا يَظْلِمْهُ»، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ»، وَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مِنْ الْخَيْرِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ»، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الإِيْمَانِيَّةِ الَّتِي تَجِبُ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، فَهَذِهِ الْحُقُوقُ وَاجِبَةٌ بِنَفْسِ الإِيْمَانِ، وَالْتِزَامُهَا بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ، وَالْمُعَاهَدَةِ عَلَيْهَا كَالْمُعَاهَدَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَهَذِهِ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ مُؤَاخَاةٍ.(1/48)
وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إثْبَاتَ حُكْمٍ خَاصٍّ كَمَا كَانَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فَهَذِهِ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ أَمْ لا؟، فَمَنْ قَالَ: إنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، قَالَ: إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهُ لَمْ يُنْسَخْ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى قَالَ: إنَّهُ مَشْرُوعٌ. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الَّتِي يَلْتَزِمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فِي السَّمَاعِ وَغَيْرِهِ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى الْمُشَارَكَةِ فِي الْحَسَنَاتِ، وَأَيُّنَا خَلَصَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلَصَ صَاحِبُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذِهِ كُلُّهَا شُرُوطٌ بَاطِلَةٌ، فَإِنَّ الأَمر يَوْمئِذٍ للهِ وحده «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئَاً»، وَقَالَ تَعَالَى «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ». وَكَذَلِكَ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطَاً مِنْ الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلا يُوفُونَ بِهَا، وَمَا أَعْلَمُ أَحَدَاً مِمَّنْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا شَرَطَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَفَّى بِهَا، بَلْ هُوَ كَلامٌ يَقُولُونَهُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْحَالِ؛ لا حَقِيقَةَ لَهُ فِي الْمَآلِ. وَأَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ قَامَ بِمَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، فَضْلاً عَنْ أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ زِيَادَاتٍ عَلَى ذَلِكَ.(1/49)
وأَمَّا الشَّيْخُ عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرِ بْنِ صَخْرٍ فَكَانَ رَجُلاً صَالِحَاً، وَلَهُ أَتْبَاعٌ صَالِحُونَ، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ فِيهِ غُلُوٌّ عَظِيمٌ يَبْلُغُ بِهِمْ غَلِيظَ الْكُفْرِ، وَقَدْ رَأَيْت جُزْءَاً أَتَى بِيَدِ أَتْبَاعِهِ، فِيهِ نَسَبُهُ وَسِلْسِلَةُ طَرِيقِهِ، فَرَأَيْت كِلَيْهِمَا مُضْطَرِبَاً. أَمَّا النَّسَبُ، فَقَالُوا: عَدِيُّ بْنُ مُسَافِرِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ مُوسَى بْنِ مَرْوَانَ بْنِ أَحْمَد بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ مَرْوَانَ الأُمَوِيِّ، وَهَذَا كَذِبٌ قَطْعَاً، فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ خَمْسَةُ أَنْفُسٍ. وَأَمَّا «الْخِرْقَةُ»، فَقَالُوا: دَخَلَ عَلَى الشَّيْخِ الْعَارِفِ عُقَيْلٍ الْمَنْبِجِيِّ، وَأَلْبَسَهُ الْخِرْقَةَ بِيَدِهِ، وَالشَّيْخُ عُقَيْلٌ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ مَسْلَمَةَ الْمردجي، وَالشَّيْخُ مَسْلَمَةُ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ أَبِي سَعِيدٍ الْخَرَّازِ.
قُلْت: هَذَا كَذِبٌ وَاضِحٌ، فَإِنَّ مَسْلَمَةَ لَمْ يُدْرِكْ أَبَا سَعِيدٍ الْخَرَّازِ، بَلْ بَيْنَهُمَا أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ سَنَةٍ، بَلْ قَرِيبَاً مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ.(1/50)
ثُمَّ قَالُوا: وَالشَّيْخُ أَبُو سَعِيدٍ الْخَرَّازُ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْعَنْسِيَّ، و الْعَنْسِيُّ لَبِسَهَا مِنْ يَدِ الشَّيْخِ عَلِيِّ بْنِ عَلِيلٍ الرَّمْلِيِّ، وَالشَّيْخُ عَلِيُّ بْنُ عَلِيلٍ لَبِسَهَا مِنْ يَدِ وَالِدِهِ الشَّيْخِ عَلِيلٍ الرَّمْلِيِّ، وَالشَّيْخُ عَلِيلٌ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ عَمَّارٍ السَّعْدِيِّ، وَالشَّيْخُ عَمَّارٌ السَّعْدِيُّ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ الشَّيْخِ يُوسُفَ الْغَسَّانِيِّ، وَالشَّيْخُ يُوسُفُ الْغَسَّانِيُّ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ وَالِدِهِ الشَّيْخِ يَعْقُوبَ الْغَسَّانِيِّ، وَالشَّيْخُ يَعْقُوبُ الْغَسَّانِيُّ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَوْمَ خَطَبَ النَّاسَ بِالْجَابِيَةِ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِسَ الْخِرْقَةَ مِنْ يَدِ جِبْرِيلَ، وَجِبْرِيلُ مِنْ اللهِ تَعَالَى.
قُلْت: لُبْسُ عُمَرَ لِلْخِرْقَةِ وَإِلْبَاسُهُ، وَلُبْسُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخِرْقَةِ وَإِلْبَاسُهُ، يَعْرِفُ كُلُّ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ أَنَّهُ كَذِبٌ.(1/51)
وَأَمَّا الإِسْنَادُ الْمَذْكُورُ مَا بَيْنَ أَبِي سَعِيدٍ إلَى عُمَرَ فَمَجْهُولٌ، وَمَا أَعْرِفُ لِهَؤُلاءِ ذِكْرًا لا فِي كُتُبِ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ، وَلا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ، وَمِنْ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ هَؤُلاءِ كَانُوا شُيُوخَاً، وَقَدْ رَكَّبَ هَذَا الإِسْنَادَ عَلَيْهِمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَزْمَانَهُمْ، وَاَللهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ أَمْرِهِمْ. ثُمَّ ذَكَرُوا بَعْدَ هَذَا «عَقِيدَتَهُ»، وَقَالُوا: هَذِهِ عَقِيدَةُ السُّنَّةِ مِنْ إمْلاءِ الشَّيْخِ عَدِيٍّ، وَالْعَقِيدَةُ مِنْ «كِتَابِ التَّبْصِرَةِ» لِلشَّيْخِ أَبِي الْفَرَجِ الْمَقْدِسِيِّ بِأَلْفَاظِهِ نَقْلَ الْمِسْطَرَةِ، لَكِنْ حَذَفُوا مِنْهَا تَسْمِيَةَ الْمُخَالِفِينَ وَأَقْوَالَهُمْ، وَذَكَرُوا مَا ذَكَرَهُ مِنْ الأَدِلَّةِ، وَزَادُوا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ يَزِيدَ وَغَيْرِهِ أَشْيَاءَ لَمْ يَقُلْهَا الشَّيْخُ أَبُو الْفَرَجِ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ مَوْضُوعَةٌ.
وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَهَذَا اعْتِقَادُنَا، وَمَا نَقَلْنَاهُ عَنْ مَشَايِخِنَا نَقَلَهُ جِبْرِيلُ عَنْ اللهِ، وَنَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ جِبْرِيلَ، وَنَقَلَهُ الصَّحَابَةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَكَرُوا أَنَّ هَذَا أَمْلاهُ الشَّيْخُ عَدِيٌّ مِنْ حِفْظِهِ، وَأَمَرَ بِكِتَابَتِهِ، وَرَوَوْا ذَلِكَ بِالسَّمَاعِ مِنْ الشَّيْخِ حَسَنِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بِسَمَاعِهِ مِنْ وَالِدِهِ عَدِيِّ بْنِ أَبِي الْبَرَكَاتِ بْنِ صَخْرِ بْنِ مُسَافِرٍ، وَهُوَ عَدِيٌّ الْمَذْكُورُ. اهـ بِنَصِّهِ(1/52)
قُلْتُ: وَلا تَسْتَطِلْ كَلامَ شَيْخِ الإِسْلامِ أبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، فَإِنَّهُ نَافِعٌ جِدَّاً جُمْلَةً وَتَفْصِيلاً، فَقَدْ أَحَاطَ بِالْكَثِيْرِ مِنْ أَكَاذِيبِ الصُّوفِيَّةِ وَتُرَّهَاتِهِمْ وَافْتَرَاءَاتِهِمْ، وَأَصُولِ فَسَادِهِمْ وِإِفْسَادِهِمْ، وَانْحِرَافِ عَقَائِدِهِمْ وَنِحَلِهِمْ. وَمَا يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الْمُخَالِفَاتِ لأَوَامِرِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا يَبْتَدِعُونَهُ مِنَ الأَحْوَالِ الْمُسْتَقْبَحَةِ الشَّنِيعَةِ، فَأَكْثَرُ بِكَثِيْرٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَكُلُّهُ مَأْخُوذٌ عَنِ الزَّنَادِقَةِ وَالرَّافِضَةِ، وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ أَصْلُ كُلِّ بَلاءٍ يُصِيبُ الْمُسْلِمِينَ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَحَيْثُ رَاجِتِ الْبِدَعُ التَّعَبُّدِيَّةُ الْمُشَابِهَةُ لِلطُّقُوسِ وَالْمَرَاسِمِ الْوَثَنِيَّةِ، كَالْغِنَاءِ وَالرَّقْصِ وَالاخْتِلاطِ وَالإِبَاحِيَّةِ، وَالطَّوَافِ بِالْقُبُورِ وَالتَّمَسُّحِ بِأَعْتَابِهَا وَأَرْكَانِهَا، وَالتَّذَلُّلِ وَالتَّوَسُّلِ وَالاسْتِشْفَاعِ بِقُطَّانِهَا، فَفَتِّشْ عَنْ رُؤوسِ الزَّنْدَقَةِ وَالرَّفْضِ !.
الطي والنشر لدلالة حديث ((لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ))
لفضيلة الشيخ/أحمد شحاتة السكندري
الْحَمْدُ للهِ الهادي مَنْ اسْتَهْدَاهُ. الواقي مَنْ اِتَّقَاهُ. وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ الأَوْفَيَانِ عَلَى أَكْمَلِ خَلْقِ اللهِ. وبعد..
قال الإمام مسلم فى ((كتاب الصوم))(1176):حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ وَإِسْحَقُ قَالَ إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا وَقَالَ الآخَرَانِ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ.(1/53)
وحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ.
وأخرجه كذلك ابن أبى شيبة (2/300/9220)، وأحمد (6/42)، وإسحاق بن راهويه ((مسنده))(1505)، والترمذي (756)، والنسائي ((الكبرى))(2/165/2872)، وأبو القاسم البغوي ((مسند ابن الجعد))(1744)، وابن حبان (3608)، وأبو نعيم ((المسند المستخرج))(3/261/2683)، والبيهقي ((الكبرى))(4/285) من طرقٍ عن أبى معاوية عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ.
وأخرجه أحمد (6/190)، والنسائي ((الكبرى))(2/165/2873)، وابن خزيمة (2103)، وأبو نعيم ((المسند المستخرج))(3/261/2684) من طرقٍ عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مهدي عن الثوري عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ.
وتابعهما عن الأعمش: يعلى بن عبيد، وأبو عوانة، وحفص بن غياث، وأبو خالد الأحمر، وفرات القزاز.
ومن دلالة الحديث بمجموع لفظيه: الإخبار بنفي صيام النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَشْرَ مِنْ ذِي الْحِجَّة مجتمعة متتابعة، ووراء ذلك أحكام تتعلق بمقصود عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا من إيراده، ودلالته على حكم صيام الْعَشْرَ مِنْ ذِي الْحِجَّة.(1/54)
وقد تأوَّل شيخ الإسلام أبو زكريا النووي حديث عائشة، وأحاله عن مراده، وأبعد عن مقصود أم المؤمنين من إيراده، فقال ((شرح مسلم))(8/71): ((قَالَ الْعُلَمَاء: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا يُوهِم كَرَاهَة صَوْم الْعَشْرِ , وَالْمُرَاد بِالْعَشْرِ هُنَا: الأَيَّام التِّسْعَة مِنْ أَوَّل ذِي الْحِجَّة , قَالُوا: وَهَذَا مِمَّا يُتَأَوَّل فَلَيْسَ فِي صَوْم هَذِهِ التِّسْعَة كَرَاهَة , بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّة اِسْتِحْبَابًا شَدِيدًا لا سِيَّمَا التَّاسِع مِنْهَا , وَهُوَ يَوْم عَرَفَة , وَقَدْ دلتْ الأَحَادِيث على فَضْله , وَثَبَتَ فِي صَحِيح الْبُخَارِيّ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَا مِنْ أَيَّام الْعَمَل الصَّالِح فِيهَا أَفْضَل مِنْهُ فِي هَذِهِ)) - يَعْنِي: الْعَشْر مِنْ ذِي الْحِجَّة -. فَيُتَأَوَّلُ قَوْلُهََا: لَمْ يَصُمْ الْعَشْر , أَنَّهُ لَمْ يَصُمْهُ لِعَارِضِ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ غَيْرهمَا , أَوْ أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهِ , وَلا يَلْزَم عَنْ ذَلِكَ عَدَم صِيَامه فِي نَفْس الأَمْر , وَيَدُلّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيل حَدِيث هُنَيْدَة بْن خَالِد عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْع ذِي الْحِجَّة , وَيَوْم عَاشُورَاء , وَثَلاثَة أَيَّام مِنْ كُلّ شَهْر: الاثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْر وَالْخَمِيس. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَهَذَا لَفْظه، وَأَحْمَد، وَالنَّسَائِيُّ وَفِي رِوَايَتهمَا ( وَخَمِيسَيْنِ ) وَاَلله أَعْلَم)) اهـ.
وتبع النووى جماعة من الشرَّاح، ونقلوا كلامه بلفظه، كما فعل المباركفورى فى ((تحفة الأحوذى))(3/384)، وأبو الطيب العظيم آبادى فى ((عون المعبود بشرح أبى داود))(7/65)، والشوكانى فى ((نيل الأوطار))(4/324).(1/55)
وذهب جماعة من الحفاظ إلى احتمال أن تكون عائشة لم تعلم بصيامه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا ((فإنِّه كان يقسم لتسع نسوةٍ، فلعله لم يتفق صيامُه في نوبتها))، قاله الحافظ الزيلعى فى ((نصب الراية))(2/156).
وأما الإمام أبو بكر البيهقى، والحافظان الزركشى وابن حجر، فقالوا: فى حَدِيثِ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ زيادةٌ ينبغى قبولها والعمل بمقتضاها، والْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافِى. وزاد ابن حجر ((الفتح))(2/460) قوله: ((ولعلَّه لم يصم لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يترك العمل، وهو يحب أن يعمله، خشية أن يفرض على أمَّته)). وبهذا جزم الحافظ المناوى حاسما للشبهة عنده، فقال ((فيض القدير))(5/474): ((يبعد كل البعد أن يلازم عدَّةَ سنين عدمُ صومه في نوبتها دون غيرها، فالجواب الحاسم لعِرْقِ الشبهة أن يقال: الْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافِى على القاعدة المقررة)).
فهذه جملة التأويلات التى اعترضوا بها على دلالة حديث عائشة على نفى صيام العشر مجتمعةً متواليةً. ويمكن تلخيصها فى اعتراضاتٍ أربعٍ:
[ أولها ] أَنَّهَا لَمْ تَرَهُ صَائِمًا فِيهَا، ورأه غيرُها من أزواجه.
[ ثانيها ] العمل بحديث الْمُثْبِتُ لصيامه مُقَدَّمٌ على النافِى له.
[ ثالثها ] الجزم بصحَّة حَدِيثَ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ.
[ رابعها ] قصر دلالة حديث ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَل مِنْهُ فِي العشر)) على الترغيب فى الصوم.(1/56)
ومن الواضح البيِّن أن الدافعَ لهذه التأويلات هو ثالث هذه الاعتراضات، أعنى الجزم بصحَّة حديث هُنَيْدَة بْن خَالِدٍ ((كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْع ذِي الْحِجَّة)). وقد تنبه إلى هذا الحافظ ابن القيم، فقال ((الهدى النبوى))(1/164): ((والْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ على النافِى إنْ صَحَّ)) اهـ، فقيَّد العمل بمفهوم هذه القاعدة بثبوت صحَّة الحديث.
والقصد: أنَّه ليس فيما ذكروا دليلٌ ناهضٌ على إحالة حديث عائشة عن دلالته ومفهومه، وليس وراء هذا الدافع الآنف ذكره إلا قولهم: لعلَّ.. ويحتمل !!. ولا يغيبنَّ عنك أنَّ أكثر شئٍ اُعترض به على صحاح الأحاديث ودلالتها، هو: لعلَّه كذا وكذا، ويُحتملُ كذا وكذا.
وليس واحدٌ من هذه الاعتراضات إلا وهو مدفوع بما هو أقوى منه، وكاشفٌ لخطئِه وبعدِه عن الصواب. فمن ذلك قول الزيلعى ((فلعلَّه لَمْ يتَّفقُ صِيَامُهُ فِي نَوْبَتِهَا))، فإنَّه مُضْحِكٌ مُبْكٍ، فهل يُتصَّورُ مضاءُ عشرة أيامٍ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو مقيمٌ غيرُ ظاعنٍ، ينتقل بين أزواجه كلِّهن، ولا يوافق ذلك نوبة أحبِّ أزواجه إليه !، هذا مع قول أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، قَالَ قَتَادَةَ: قُلْتُ لأَنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ ؟، قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ. أخرجه أحمد (3/291)، والبخارى (268)، والنسائى ((الكبرى))(5/328/9033)، وأبو يعلى (2941،3203،3176)، وابن خزيمة (231)، وابن حبان (1208)، والبيهقى ((الكبرى))(7/54) جميعاً من طريق مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ به.(1/57)
وأعجبُ شئٍ وأبعدُه عن حقائق الحكمة النبوية المبثوثة فى ثنايا أقواله وأفعاله وأحواله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قول الحافظ ابن حجر ((ولعلَّه لم يصم لاحتمال أن يكون ذلك لكونه كان يتركُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ، خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَى أمَّتِهِ)) !!.
وقد يقال: ويتأيَّد قوله ذا بما أخرجاه فى ((الصحيحين)) من حديث مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ، فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ.
فنقول: بل الحق أن النَّبىِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يترك عملاً بالكليَّة، وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَهُ، ولا ينبغى اعتقاد ذلك فى حقِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أرادته عائشة بقولها ذا، وإن خشى أن يفرض على أمته ذاك العمل المحبوب عنده، لم يتركه بمرةٍ، وإنما يَعْمَلُهُ دون أن يطلعهم عليه، ومن غير أن يروه وهو يَعْمَلُهُ، لئلا يأتسوا به ويفرضوه على أنفسهم. وهذا هو اللائق بمفهوم حديث عائشة، كما دلَّ عليه قولها ((إنْ كان لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّه))، وتعنى: أنه يدع العمل مما يعمله فى الخفاء، لئلا يراه أصحابه، فيقتدوا به، وربما تعنى: لا يواظب عليه، فيعمله مرة، ويتركه أخرى.
وأما قولها رَضِيَ اللهُ عَنْهَا ((مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَائِماً الْعَشْرِ قَطُّ))؛ فليس بهذه السبيل، إذ لو أحبَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَامَ الْعَشْرِ ما تركه بالكليَّة، ولفعله ولو مرَّة من عُمُرِه، ولما قالت ذلك رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، فهى أولى النَّاس به إحاطةً ومعرفةً.(1/58)
فإن قيل: بل فعله، إذ أخبر بفعله إيَّاه بَعْضُ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟.
قلنا: لقد سبق القول بأن الجزم بصحَّة حَدِيثَ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ اِمْرَأَته عَنْ بَعْض أَزْوَاج النَّبِيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، هو الدافع الأكبر لهذه التأويلات التى أحالت حديث عائشة عن دلالته ومرادها منه.
وإذ قد أتينا عليه، فقد تعيَّن بيان ما به من الاضطراب الموجب لنفى صحته، بله الاحتجاج به فى دفع دلالة حديث عائشة الصحيح. ويتبع بتوفيق الله وعونه، لا إله غيره، ولا رب سواه.
بيان الاضطراب على إسناد ومتن حَدِيثَ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِىِّ
كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُوم تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ أوفى الأئمة تخريجاً لحديث هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِىِّ، واستيفاءً لرواياته؛ هو الإمام أبو عبد الرحمن النسائى، فقد ذكر الاختلاف على رواية الحديث عنه فى ((المجتبى))(4/221،220) فى خمس رواياتٍ، فقال:
(2415) أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ زُهَيْرٍ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ هُنَيْدَةَ الْخُزَاعِيَّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُهَا تَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ، ثُمَّ الْخَمِيسَ، ثُمَّ الْخَمِيسَ الَّذِي يَلِيهِ.
((1/59)
2416) أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضْرِ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَقَ الأَشْجَعِيُّ كُوفِيٌّ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلائِيِّ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ.
(2417) أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ، وَخَمِيسَيْنِ.
(2418) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ.
((1/60)
2419) أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ هُنَيْدَةَ الْخُزَاعِيِّ عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَوَّلِ خَمِيسٍ وَالاثْنَيْنِ وَالاثْنَيْنِ.
فبان بهذا أن الاضطراب على هذا الحديث تطرق إلى الإسناد والمتن معاً.
فأما المتن، فعلى خمسة ألوان:
(1) كان لا يدع: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَعَشْرَ ذى الْحِجَّةِ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ.
(2) كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
(3) كَانَ يَصُومُ الْعَشْرَ من ذى الحجة، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ.
(4) كان يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ: أَوَّلَ اثْنَيْنِ، وَخَمِيسِين.
(5) كان يَأْمُرُ بِصِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أَوَّلِ خَمِيسٍ وَالاثْنَيْنِ وَالاثْنَيْنِ.
ومن الواضح البيِّن: أن إحداها شذَّت بقولها ((أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ))، ومنهن ((صِيَامُ عَشْرَ ذى الْحِجَّةِ))، وأنها متفقة كلُّها على ((صِيَامِهِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ))، ولكنها اختلفت على تعيينها.
وأما الإسناد، فالاختلاف على هنيدة على خمسة ألوان:
(1) ((عنه عَنْ حفصة)).
(2) ((عنه سمعت أم المؤمنين)) هكذا غير مسماة.
(3) ((عنه عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) كذا غير مسمَّاة.
(4) ((عنه عَنْ أُمِّهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ)).
(5) ((عنه عَنْ اِمْرَأتِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ)). وهذا الأخير أخرجه أبو يعلى والطبرانى، كما سيأتى بيانه.
[ الوجه الأول ] وهو أوهنها إسناداً ومتناً.(1/61)
قال أحمد (6/287): حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الأَشْجَعِيُّ الْكُوفِيُّ ثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ عَنِ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صِيَامَ عَاشُورَاءَ، وَالْعَشْرَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَالرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ.
وأخرجه كذلك النسائى ((الكبرى))(2/135/2724) و ((المجتبى))(4/220)، وأبو يعلى (7048،7041)، وابن حبان (6422)، والطبرانى ((الأوسط))(7831) و ((الكبير))(23/216،205/396،354)، والخطيب ((تاريخ بغداد)) (9/246،105و12/364) جميعاً من طريق هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ عن أبِي إِسْحَاقَ الأَشْجَعِيِّ عَنْ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ به.
قلت: وهذا حديث شاذ , وإسناد ضعيف جداً، له أربع آفات:
[ أولها ] التفرد والغرابة، إذ لم يروه عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ عَنْ حَفْصَةَ إلا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ الْمُلائِيُّ، تفرد عنه أَبُو إِسْحَاقَ الأَشْجَعِيُّ، ولا يتابع على هذا الوجه.
قال أبو القاسم الطبراني: ((لم يرو هذا الحديث عَنْ عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ إلا الأَشْجَعِيُّ، ولا عَنْ الأَشْجَعِيُّ إلا أبو النضر هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ)).
[ ثانيها ] جهالة أبى إِسْحَاقَ الأَشْجَعِيِّ شيخ أبى النضر. إذ لا راوي له غير هاشم بن القاسم، ولا خلاف أن جهالة الراوي مع تأخر طبقته عن التابعين أدعى لترك الاحتجاج بما تفرد به، فكيف إذا خالف وشذَّ !.
[ ثالثها ] المخالفة على الإسناد والمتن. فقد خالف الأشجعيَّ غيرُه من الأثبات من أهل طبقته: أبو عوانة، وزهير، ومحمد بن فضيل، كما سبق بيانه فى تفصيل روايات النسائي الخمسة، ويأتي مزيد بيان لها.
[(1/62)
رابعها ] النكارة فى قوله ((لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ))، إذ لو كان كما زعم لا يدع صيام العشر، ما خفي علم ذلك على عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، ولوجب أن تكون أعلمَ النَّاس به، ولَمْ تَقُلْ ((لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ)).
النبراس
ببيان كذب التقاء النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس
الحمد لله الذي إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. والصلاة والسلام على المخصوص بالسيادة والشرف المصون. والمنزل عليه وحياً فى الكتاب المكنون. ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)). وعلى آله وصحبه المصدقين له والمؤمنين به وبالآخرة هم يوقنون. ((أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)). وبعد..
فقد يلهج كثير من الخطباء والوعاظ، بذكر هذه القصص الواهية، التى ابتدعها الوضَّاعون من القصاص، وجهلة الزهَّاد والعبَّاد، سيما قصص الأنبياء من بنى إسرائيل. ولا يغيبن عنك أن تاريخ أنبياء بنى إسرائيل مفعم بالأمور العجائب، والأقاصيص الغرائب، مما جعله مرتعاً خصباً لاختلاق الأحاديث وتلفيقها، ونسبة هذا الغثاء إلى الصادق المصدوق الذى لا ينطق عن الهوى.(1/63)
يقول محقق ((موضوعات ابن الجوزى))(1/10): ((لم تكن حركة وضع الأحاديث المكذوبة على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حركة ارتجالية عفوية في كل الأحيان، إنما تطورت إلى حركة مدروسة هادفة، وخطة شاملة، لها خطرها وآثارها. كان من نتائجها المباشرة على العديد من أجيال المسلمين في العديد من أقطارهم، شيوع ما لا يحصى من الآراء الغريبة، والقواعد الفقهية الشاذة، والعقائد الزائفة، والافتراضات النظرية المضحكة، التى أيدتها، وتعاملت بها، وروجت لها، فرق وطوائف معينة، لبست مسوح الدروشة والتصوف حينا، والفلسفة حينا، والعباد والزهاد أحيانا. وجافت في غالب أحوالها السلوك السوى، والفكر والعقل السليم، فضلا عن مجافاتها الصارخة لكتاب الله العظيم، وهدى نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام)) اهـ.ومما أوردوا من الواهيات الموضوعات: قصة التقاء النَّبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإلياس عليه السلام، وذكروا حديثين:
[ الأول ] حديث أنس بن مالك(1/64)
قال ابن أبى الدنيا ((الهواتف))(102): حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنِ يَزِيدَ الموصلى التيمى مولى لهم حدثنا أبو إسحاق الجُرَشِىّ عن الأوزاعي عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: ((غزونا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتَّى إذا كنا بفج الناقة عند الحجر، إذا نحن بصوتٍ يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفورة لها، المتاب عليها، المستجاب لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: يا أنس انظر ما هذا الصوت ؟!، فدخلت الجبل، فإذا أنا برجلٍ أبيض الرأس واللحية، عليه ثيابٌ بيضٌ، طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فلما نظر إلىَّ قال: أنت رَسُولُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟، قلت: نعم، قال: ارجع إليه فأقرئه منى السلام، وقل له: هذا أخوك إلياس يريد يلقاك، فجاء النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا معه، حتى إذا كنا قريبا منه، تقدَّم النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأخرت، فتحدثا طويلا، فنزل عليهما من السماء شِبْهُ السُّفْرَةَ، فدعواني، فأكلت معهما، فإذا فيه كمأة ورمان وكرفس، فلما أكلت، قمت فتنحيت، وجاءت سحابة، فاحتملته، أنظر إلى بياض ثيابه فيها، تهوى به قِبَلَ الشام، فقلت للنبى صلى الله عليه وسلم: بأبى أنت وأمى، هذا الطعام الذى أكلنا من السماء نزل عليك ؟، فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سألته عنه، فقال: أتانى به جبريل في كل أربعين يوماً أكلة، وفى كل حولٍ شربة من ماء زمزم، وربما رأيته على الجب يمد بالدلو، فيشرب، وربما سقاني)).
وأخرجه كذلك ابن الجوزى ((الموضوعات))(1/200) من طريق ابن أبى الدنيا بسنده ومتنه سواء.
وأخرجه أبو الشيخ بن حيَّان ((العظمة))(5/1530) قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن داود ثنا أحمد بن هاشم ثنا يزيد أبو خالد البلوي ثنا أبو إسحاق الجُرَشِيّ به نحوه.(1/65)
وتابعهما عن يزيد بن يزيد: أحمد بن عبد الله البرقى، إلا أنه خالفهما على سنده، فقال ((أبو إسحاق الفزارى))، وأتى بمعانٍ مغايرة فى وقت فطره، ووصف المائدة، ولم يذكر شربه من زمزم مرة كل عامٍ.
فقد أخرجه الحاكم (2/674) قال: حدثني أبو العباس أحمد بن سعيد المعداني ببخارا أنا عبد الله بن محمود نا عبدان بن سيَّار حدثني أحمد بن عبد الله البرقي ثنا يزيد بن يزيد البلوي ثنا أبو إسحاق الفزاري عن الأوزاعي عن مكحول عن أنس بن مالك قال: ((كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فنزلنا منزلا، فإذا رجل في الوادي يقول: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفورة المتاب عليها، قال: فأشرفت على الوادي، فإذا رجل طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع، فقال لي: من أنت ؟، قلت: أنا أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأين هو ؟، قلت: هو ذا يسمع كلامك، قال: فائته فاقرئه السلام، وقل له: أخوك إلياس يقرئك السلام، قال: فأتيت النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته، فجاء حتى لقيه، فعانقه وسلَّم، ثم قعدا يتحدثان، فقال له: يا رسول الله إني ما آكل في السنة إلا يوما، وهذا يوم فطري، فآكل أنا وأنت، قال: فنزلت عليهما مائدة من السماء، عليها خبز وحوت وكرفس، فأكلا، وأطعماني، وصلينا العصر، ثم ودَّعه، فرأيته مرَّ في السحاب نحو السماء)). وأخرجه البيهقي ((دلائل النبوة))(5/422:421) قال: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ بسنده ومتنه سواء.
وأخرجه ابن عساكر ((تاريخ دمشق))(9/212) من طريق البيهقي به مثله.
وقال أبو عبد الله الحاكم: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه)).
وقال أبو بكر البيهقي: ((إسناد هذا الحديث ضعيف بمرة)).
وتعقبه الحافظ الذهبي بقوله: ((هذا موضوع، قبَّح الله من وضعه. وهذا مما افتراه يزيد البلوي)).(1/66)
وقال أبو الفرج بن الجوزي: ((هذا حديث موضوع لا أصل له. ويزيد الموصلي، وأبو إسحاق الجُرَشِيّ لا يعرفان. وقد روى أبو بكر النقاش أن محمد بن إسماعيل البخاري سئل عن الخضر وإلياس هل هما في الإحياء ؟، فقال: كيف يكون هذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على ظهر الأرض أحد)).قلت: وهو كما قال الحافظان ابن الجوزي والذهبي، وقد افتضح واضع هذا الحديث بالجهل والسذاجة. فأمارات الوضع لائحة عليه، لا تخفى على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة، ومن الدلائل على وضعه:
[(1/67)
أولاً ] قوله ((طوله أكثر من ثلاثمائة ذراع))، فهذا من أسمج الكلام وأبعده عن حقيقة خلق بنى آدم، بله وخلق أبيهم آدم عليه السلام، فإنه لم يزد على ستين ذراعاً. ففى ((كتاب الأنبياء)) من ((صحيح البخارى))(3079) قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((خَلَقَ اللهُ آدَمَ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ، فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ الْمَلائِكَةِ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ: تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا: السَّلامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ)).فهذا بيِّن أن طول إلياس عليه السلام دون الستين ذراعاً ((فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ)).[ ثانياً ] أنه لو كان إلياس عليه السلام حيَّاً زمن بعثة النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ما وسعه أن يجوب الفلوات، ويسكن الكهوف والمغارات، ويأوى مجاهل الشام، ولا يأتى بين يدى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليؤمن به ويؤازره وينصره، ويندرج فى جملة أصحابه وأتباعه، تصديقاً لقول الله تعالى ((وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)).(1/68)
وقد قال الإمام أحمد (3/387): حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ ثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ، أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ، فَقَالَ: ((أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ، فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي)).
ولو كان باقياً بعد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يدعيه غلاة الصوفية، لكان تبليغه للبراهين القرآنية، والأخبار المصطفوية، وقتاله مع المسلمين فى الغزوات، وشهوده للجمع والجماعات، ومؤازرته للعلماء والحكام، وبيانه لأصول وفروع الأحكام، وإحياءه للسنة النبوية، وإماتته للمذاهب البدعية، أزكى وأنفع وأفضل له ولأمة محمَّدٍ من كمونه بالمغارات، وجوبه الصحارى والفلوات !!. وهذا من أوضح الأدلة وأنصعها على كذب من ادَّعى حياته، والتقاءه بسيد المرسلين، واجتماعه بالخضر كل عام فى الحج، فيحلق كل واحدٍ منهما رأس صاحبه، ويشربان من زمزم شربةً تكفيهما إلى العام المقبل.
[(1/69)
ثالثاً ] هذا الاضطراب فى وقت أكله وإفطاره، ففى رواية الجوهرى ((في كل أربعين يوما أكلة))، وفى رواية البرقى ((ما آكل في السنة إلا يوماً)) !!، وقد ذكروا عن وهب بن منبه: أنه لما دعا إلياس ربَّه أن يقبضه إليه، جعل له ريشاً، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، وصار ملكياً بشرياً، سماوياً أرضياً. وهذا من تناقض من يثبت وجودَه وحياتَه وبقائَه، فهذه أوصاف متعارضة متضاربة، ينقض بعضها بعضاً، ولا يصح منها شئ البتة !.
[ رابعاً ] قوله عن جبريل عليه السلام ((وربما رأيته على الجبِّ يمدّ بالدلو، فيشربُ، وربما سقاني))، من الكذب المحال، أيصدق مؤمن عاقل أن سيد الملائكة وأعظمهم، الموكِّل بالوحى إلى رسل الله، يقوم على بئر زمزم، لينزع دلواً، فيشرب منها ؟!. أما علم هذا الوضَّاع المتهوِّك أن الملائكة لا يأكلون ولا بشربون، غذاؤهم التسبيح والتقديس والتهليل، ولا يفترون عن ذكر الله طرفة عين، يلهمون الذكر كما يلهم أحدنا النفسَ والطرفَ.
[ خامساً ] إن قول الله تعالى لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ))، مما دلَّ على أن إلياس عليه السلام ليس بحىٍّ إلى الآن، ولا إلى زمن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه من جملة البشر، يدركه الموت كما أدركهم، فليس لواحدٍ من البشر خلوداً فى الدنيا، ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)).
ولله در الإمام الشافعى، فقد كان يكثرُ يتمثلُ بهذين البيتين لطرفة بن العبد:
تمنى رجالٌ أن أموتَ وإن أمتْ ... فتلكَ سبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ
فقلْ للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلِها بالحقِّ قَدِ
[(1/70)
الثانى ] حديث واثلة بن الأسقع، وسياقه أطول، وكله غرائب وعجائب ومنكرات قال ابن عساكر ((التاريخ))(9/213): أنبأناه أبو الكرم المبارك بن الحسن بن أحمد بن علي الشهروزي أنا عمي أبو البركات عبد الملك بن أحمد بن علي الشهرزوي سنة سبع وستين وأربعمائة أنا عبيد الله بن عمر بن أحمد الواعظ حدثني أبي حدثنا أحمد بن عبد العزيز بن منير الحراني بمصر ثنا أبو الطاهر خير بن عرفة الأنصاري ثنا هانيء بن المتوكل ثنا بقية عن الأوزاعي عن مكحول سمعت واثلة بن الأسقع قال: ((غزونا مع رسول الله غزوة تبوك، حتى إذا كنا في بلاد جذام في أرض لهم يقال لها الحوزة، وقد كان أصابنا عطش شديد، فإذا بين أيدينا آثار غيث، فسرنا مليا، فإذا بغدير، وإذا فيه جيفتان، وإذا السباع قد وردت الماء، فأكلت من الجيفتين، وشربت من الماء، قال: فقلت: يا رسول الله هذه جيفتان، وآثار السباع قد أكلت منها، فقال النبي: نعم هما طهوران، اجتمعا من السماء والأرض، لا ينجسهما شيء، وللسباع ما شربت في بطنها، ولنا ما بقي، حتى إذا ذهب ثلث الليل، إذا نحن بمنادي ينادي بصوت حزين: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المبارك عليها فقال رسول الله: يا حذيفة ويا أنس ادخلا إلى هذا الشعب، فانظرا ما هذا الصوت، قال: فدخلنا، فإذا نحن برجل عليه ثياب بياض أشد بياضاً من الثلج، وإذا وجهه ولحيته كذلك، ما أدري أيهما أشد ضوءا: ثيابه أو وجهه ؟، فإذا هو أعلى جسما منا بذراعين أو ثلاثة، قال: فسلمنا عليه، فرد علينا السلام، ثم قال: مرحبا أنتما رسولا رسول الله، قالا: فقلنا: نعم، قالا: فقلنا: من أنت رحمك الله ؟، قال: أنا إلياس النبي، خرجت أريد مكة، فرأيت عسكركم، فقال لي جند من الملائكة على مقدمتهم جبريل وعلى ساقتهم ميكائيل: هذا أخوك رسول الله، فسلم عليه وألقه، ارجعا فاقرئاه السلام، وقولا له: لم يمنعني من الدخول إلى عسكركم إلا أني أتخوف أن تذعر الإبل،(1/71)
ويفزع المسلمون من طولي، فإن خلقي ليس كخلقكم، قولا له: يأتيني، قال حذيفة وأنس: فصافحناه، فقال لأنس خادم رسول الله: من هذا ؟، قال: حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله، قال: فرحب به، ثم قال: والله إنه لفي السماء أشهر منه في الأرض، يسميه أهل السماء صاحب رسول الله، قال حذيفة: هل تلقى الملائكة ؟، قال: ما من يوم إلا وأنا ألقاهم، ويسلمون عليَّ، وأسلم عليهم، قالا: فأتينا النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا، حتى أتينا الشعب، وهو يتلألأ وجهه نوراً، وإذا ضوء وجه إلياس وثيابه كالشمس، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على رسلكما، فتقدمنا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدر خمسين ذراعا، وعانقه ملياً، ثم قعدا، قالا: فرأينا شيئا كهيئة الطير العظام بمنزلة الإبل، قد أحدقت به، وهي بيض، وقد نثرت أجنحتها، فحالت بيننا وبينهما، ثم صرخ بنا النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا حذيفة ويا أنس تقدما، فتقدمنا، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء لم أر شيئا قط أحسن منها، قد غلب خضرتها لبياضها، فتقدمنا، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء، وإذا عليها خبز ورمان وموز وعنب ورطب وبقل ما خلا الكراث، قال النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلوا بسم الله، قال: فقلنا: يا رسول الله أمن طعام الدنيا هذا ؟، قال: لا، هذا رزقي، ولي في كل أربعين يوما وأربعين ليلة أكلة، تأتيني بها الملائكة، وهذا تمام الأربعين يوما والليالي، وهو شيء يقول الله عز وجل له كن فيكون، قال: فقلنا: من أين وجهك ؟، قال: وجهي من خلف رومية، كنت في جيش من الملائكة مع جيش من المسلمين غزوا أمة من الكفار، قال فقلنا: فكم يسار من ذلك الموضع الذي كنت فيه ؟، قال: أربعة أشهر، وفارقته أنا منذ عشرة أيام، وأنا أريد إلى مكة أشرب بها في كل سنة شربة، وهي ريي وعصمتي إلى تمام الموسم من(1/72)
قابل، قال: فقلنا: فأي المواطن أكبر معارك ؟، قال: الشام وبيت المقدس والمغرب واليمن، وليس في مسجد من مساجد محمَّد إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً، قال: الخضر متى عهدك به ؟، قال: منذ سنة، كنت قد التقيت أنا وهو بالموسم، وقد كان قال: إنك ستلقى محمَّداً قبلي، فاقرئه مني السلام، وعانقه، وبكى قال: ثم صافحناه وعانقناه، وبكى وبكينا، فنظرنا إليه حتى هوى في السماء، كأنه يحمل حملاً، فقلنا: يا رسول الله لقد رأينا عجباً إذ هوى إلى السماء، فقال: إنه يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد)). وقال أبو القاسم: ((هذا حديث منكر، وإسناده ليس بالقوي)).
قلت: بل هو أشد سماجةً وبرودةً من سابقه، فعلامات الكذب لائحة على كل فقرة من فقراته. ولستُ بحانثٍ لو أقسمتُ أنه: لم يروه واثلة، ولا مكحول، ولا الأوزاعى. وإنما هو أفك تولى كبره دجَّال من هؤلاء الدجاجلة. والمتهم به بهذا السند: بقية بن الوليد الشامى، فقد سمعه من أحد الكذَّابين، ثم دلَّسه عن الأوزاعى. وقد قال أبو مسهر الدمشقى: أحاديث بقية ليست نقية فكن منها علي تقية. وفى سياق هذه القصة المكذوبة ما ينبئك بشناعة الكذب على أنبياء الله ورسله:
[ أولاً ] أفلو كان نبى الله إلياس حياً زمن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أكان يتخلف عن المثول بين يديه إلى أن يلتقى به فى غزوة تبوك من العام التاسع، بعيداً عن مهبط الوحى ومتنزل الملائكة !.
[ ثانياً ] وأعجب لهذا العذر المانع من إتيانه لإمام المرسلين، وقائد الغر المحجلين: إنه التخوف من ذعر الإبل، وفزع المسلمين من رؤية نبى الله إلياس عليه السلام.
فأين هذا مما ذكره هذا الوضَّاع المتهوِّك بعد ذلك بقوله ((يتلألأ وجهه نوراً، وإذا ضوء وجهه وثيابه كالشمس)) !.
[(1/73)
ثالثاً ] وإن تعجب، فعجبٌ زعم هذا المتهوِّك أن إلياس والخضر يلتقيان بالموسم كل عام !. فإن كانا كذلك، فأين هما من حجَّة الوداع، وكيف لم يلتقيا برسول الله فى أعظم حجَّةٍ، وأكرمها على الله ؟!، بل أين هما من غزوات رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومشاهده ومواقفه، سيما التى تنزلت لها الملائكة كغزوة بدرٍ ؟!. سبحان الله ((إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ)).
[ رابعاً ] وعجبٌ قوله على لسان نبى الله إلياس ((وليس في مسجد من مساجد محمَّد إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً)). أفلا يستحيى هذا الوضَّاع من الله وأنبيائه، أم كان يجهل ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا)) !!.وفى ثنايا القصة كثير مما يستنكر، ولا يخفى مثله على من له أدنى معرفة بحقائق الشريعة.
ما يفترونه من سماع النبى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضر
وشبيه بهذا، ما يفترونه من سماع النبى النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضر، وبعثه أنس يسأله أن يدعو له ولأمته. وهذا من أبشع الكذب والافتراء والجهل بمقام سيد المرسلين صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومما أوردوا فيه من الواهيات الموضوعات حديثين:
[ الأول ] حديث أنس بن مالك، وله ثلاث طرق
[(1/74)
الطريق الأولى ] قال أبو الحسين بن المنادي كما فى ((الزهر النضر فى نبأ الخضر)) ( ص40): أخبرني أبو جعفر أحمد بن النضر العسكري أن محمد بن سلام المنبجي حدثهم قال حدثنا وضاح بن عباد الكوفي حدثنا عاصم بن سليمان الأحول حدثني أنس بن مالك قال: ((خرجت ليلة من الليالي، أحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم الطهور، فسمع مناديا ينادي، فقال لي: يا أنس صه، قال: فسكت، فاستمع، فإذا هو يقول: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني منه، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قال أختها معها، فكأن الرجل لقن ما أراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: وارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنس ضع الطهور، وائت هذا المنادي، فقل له: ادع لرسول الله أن يعينه الله على ما ابتعثه به، وادع لأمته أن يأخذوا ما أتاهم به نبيهم بالحق، قال: فأتيته، فقلت: رحمك الله ! اِدْعُ الله لِرَسُولِ الله أن يُعِيْنَهُ على مَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ، واِدْعُ لأمَّتِهِ أن يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ بالحقِّ، فقال لي: ومَنْ أرسلكَ ؟، فكرهتُ أن أخبره ولم استأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له: رحمك الله ! ما يضرك من أرسلني، ادع بما قلت لك، فقال: لا أو تخبرني بمن أرسلك، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: يا رسول الله ! أبى أن يدعو لك بما قلت له حتى أخبره بمن أرسلنى، فقال: ارجع إليه، فقل له: أنا رسول رسول الله، فرجعت إليه، فقلت له، فقال لي: مرحبا برسول الله رسول الله، أنا كنت أحق ان آتيه، اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقال له: يا رسول الله الخضر يقرأ عليك السلام ورحمة الله، ويقول لك: يا رسول الله إن الله فضَّلك على النبيِّين كما فضَّل شهر رمضان على سائر الشهور، وفضَّل أمَّتك على الأمم كما فضَّل يوم الجمعة على سائر الأيام، قال: فلما وليت سمعته يقول:(1/75)
اللهمَّ اجعلني من هذه الأمَّة المرشدة المرحومة، المتوب عليها)).
وأخرجه ابن الجوزى ((الموضوعات))(1/194) تعليقاً عن ابن المنادى به مثله.
وأخرجه الطبراني ((الأوسط))(3071) عن بشر بن علي بن بشر العجلى، وابن عساكر ((تاريخ دمشق))(16/423:422) عن محمد بن الفضل بن جابر، كلاهما عن محمد بن سلام المنبجى بنحو حديث ابن النضر العسكرى.
وقال أبو القاسم: ((لم يروه عن أنس إلا عاصم، ولا عنه إلا وضاح، تفرد به محمد بن سلام)).
وقال أبو الحسين بن المنادى: ((هذا حديث واهٍ بالوضاح وغيره، وهو منكر الإسناد سقيم المتن، ولم يراسل الخضر نبَّينا صلى الله عليه وسلم، ولم يلقه)).
قلت: صدق أبو الحسين. ما أسمجَه وأبردَه من خبرٍ !، كيف جهل واضعُه مقامَ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرامتَه على ربِّه، ولم يستحيى منه حتى تجرأ عليه، فوضع على لسانه هذا المقال ((اِدْعُ الله لِرَسُولِ الله أن يُعِيْنَهُ على مَا اِبْتَعَثَهُ بِهِ، واِدْعُ لأمَّتِهِ أن يَأْخُذُوا مَا أَتَاهُمْ به نَبِيُّهُمْ بالحقِّ)) !!.
وقد قال إمام المحدثين ((كتاب العلم))(106): حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)).
ولا يستحل مثل هذا الإدعاء، أعنى طلب رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخضر أن يدعو له ولأمَّتِه، إلا الزنادقة الذين يزعمون كذباً وافتراءاً؛ أن مقام الولاية أعلى من النُّبوة والرسالة !!.
فقد تزندق قائلهم، وأعظم على الله الفرية حين قال:
مقامُ النُّبُّوةِ في بَرْزَخٍ ... فُوَيْقَ الرسُولِ وَدُونَ الوليْ
[(1/76)
الطريق الثانية ] قال ابن عساكر ((التاريخ))(16/424:423): أخبرناه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم في كتابه أنا القاضي أبو الحسن علي بن عبيد الله بن محمد الهمداني بمصر أنا أبو الحسن علي بن محمد بن موسى التمار الحافظ نا أحمد بن محمد بن سعيد نا الحسين بن ربيع نا الحسين بن يزيد السلولي نا إسحاق بن منصور نا أبو خالد مؤذن بني مسلمة نا أبو داود عن أنس بن مالك قال: ((كان رسول الله يتوضأ من الليل إلى الليل، فخرجت معه ذات ليلة في بعض طرق المدينة، ومعي الطهور، فسمع صوت رجل يدعو: اللهم أعني على ما ينجيني مما خوفتني،......)) فذكره بنحو حديث الوضاح السالف.
قلت: والمتهم بهذا الحديث أبو داود، وهو نفيع بن الحارث الهمدانى الكوفى القاص الأعمى، مجمع على تركه، وكذبه قتادة.
وقال ابن حبان: كان ممن يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات توهماً، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه إلا على جهة الاعتبار.
[(1/77)
الطريق الثالثة ] قال أبو حفص بن شاهين كما فى ((الزهر النضر فى نبأ الخضر)) (ص42): حدثنا موسى بن أنس بن خالد بن عبد الله بن أبي طلحة بن موسى بن أنس بن مالك ثنا أبي ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا حاتم بن أبي رواد عن معاذ بن عبيد الله بن أبي بكر عن أبيه عن أنس قال: ((خرج رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة لحاجةٍ، فخرجت خلفه، فسمعنا قائلاً يقول: اللهم إني أسألك شوق الصادقين إلى ما شوقتهم إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا لها دعوة لو أضاف إليها أختها، فسمعنا القائل وهو يقول: اللهم إني أسألك أن تعينني بما ينجيني مما خوفتني منه، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجبت ورب الكعبة، يا أنس ! ائت الرجل، فاسأله أن يدعو لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرزقه الله القبول من أمَّته، والمعونة على ما جاء به من الحق والتصديق، قال أنس: فأتيت الرجل، فقلت: يا عبد الله ادع لرسول الله، فقال لي: ومن أنت، فكرهت أن أخبره ولم أستأذن، وأبى أن يدعو حتى أخبره، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته، فقال لي: أخبره، فرجعت، فقلت له: أنا رسول الله إليك، فقال مرحبا برسول الله وبرسول رسول الله، فدعا له، وقال: اقرأه مني السلام، وقل له: أنا أخوك الخضر، وأنا كنت أحق أن آتيك، قال: فلما وليت سمعته يقول: اللهم اجعلني من هذه الأمة المرحومة المتاب عليها)).
وأخرجه كذلك الدارقطنى ((الأفراد)) من طريق أنس بن خالد عن محمد بن عبد الله الأنصارى بمثله.
وقال الحافظ ابن حجر: ((ومحمد بن عبد الله الأنصاري، هو أبو سلمة البصري، وهو واهي الحديث جداً، وليس هو شيخ البخاري قاضى البصرة، ذاك ثقة، وهو أقدم من أبى سلمة)).(1/78)
قلت: أبو سلمة هذا ممن يسرق الأحاديث ويركبه على أسانيد أهل البصرة، ترجمه أبو جعفر العقيلي ((الضعفاء))(4/95) قال: ((محمد بن عبد الله أبو سلمة الأنصاري عن مالك بن دينار منكر الحديث. حدثنا محمد بن موسى بن حماد البربري ثنا محمد بن صالح بن النطاح ثنا أبو سلمة محمد بن عبد الله الأنصاري ثنا مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال: ((كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من جبال مكة، إذ أقبل شيخ متوكئا على عكازه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مشية جني ونغمته، فقال: أجل، فقال: من أي الجن أنت ؟، قال: أنا هامة بن الهيم بن لاقيس بن إبليس....)) فذكر حديثاً طويلاً باطلاً، لا يتابعه عليه إلا مثله أو أكذب منه.
[ الثاني ] حديث عمرو بن عوف المزني أخرجه ابن عدى ((الكامل))(6/62)، ومن طريقه البيهقي ((دلائل النبوة))(5/423)، وابن الجوزي ((الموضوعات)) (1/193) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: ((أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في المسجد، فسمع كلاما من ورائه، فإذا هو بقائل يقول: اللهمَّ أعني على ما ينجيني مما خوفتني، فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع ذلك: ألا تضم إليها أختها، فقال الرجل: اللهم ارزقني شوق الصالحين إلى ما شوقتهم إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك: اذهب يا أنس إليه، فقل له: يقول لك رسول الله صلى الله عليه وسلم تستغفر لي، فجاءه أنس، فبلَّغه، فقال الرجل: يا أنس أنت رسول رسول الله إليَّ، فارجع فاستثبته، فقال النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل له: نعم، فقال له: اذهب فقل له: إن الله فضَّلك على الأنبياء مثل ما فضَّل به رمضان على الشهور، وفضَّل أمتك على الأمم مثل ما فضل يوم الجمعة على سائر الأيام، فذهب ينظر إليه، فإذا هو الخضر)).(1/79)
قلت: والمتهم بهذا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني، ركن من أركان الكذب، قاله الإمام الشافعي. وقال ابن حبان: منكر الحديث جداً، يروى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، لا يحل ذكرها فى الكتب، ولا الرواية عنه.
وهذه المناكير والموضوعات مما يحتج بها غلاة الصوفية والشيعة على حياة إلياس والخضر، وأنهما أعطيا الخلد فى الدنيا إلى الصيحة الأولى، وأنهما يجتمعان كل عامٍ بالموسنم، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل، وأن إلياس موكل بالفيافى، والخضر موكل بالبحر. ولله درُّ من قال: ما ألقى هذا بين الناس إلا شيطان !.
وفى ((المنار المنيف))(1/67) للحافظ الجهبذ ابن القيم: ((فصل: من الأحاديث الموضوعة أحاديث حياة الخضر عليه السلام، وكلها كذب ولا يصح في حياته حديث واحد:
كحديث ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في المسجد، فسمع كلاما من ورائه فذهبوا ينظرون، فإذا هو الخضر)).
وحديث ((يلتقي الخضر وإلياس كل عام)).
وحديث ((يجتمع بعرفة جبريل وميكائيل والخضر)) الحديث المفترى الطويل.
سئل إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر، وأنه باق ؟، فقال: من أحال على غائبٍ لم ينتصف منه، وما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان)).
أَوْضَحُ الْمَسَالِكِ
بِبَيَانِ مَعْنَى قَوْلِ التِّرْمِذِيِّ «يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُ ذَلِكَ»(1/80)
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي اطْمَأَنَتْ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ، وَوَجَبَ عَلَى الْخَلائِقِ جَزِيلُ حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ، وَوَسِعَتْ كُلَّ شِيْءٍ رَحْمَتُهُ، وَظَهَرَتْ فِي كُلِّ أَمْرٍ حِكْمَتُهُ، وَدَلَّتْ عَلَى وَحْدَانِيتِهِ بَدَائِعُ مَا أَحْكَمَ صُنْعَاً وَتَدْبِيْرَاً، وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً. وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ الأَتَمَّانِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ الْقَائِمِ بِأَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ، مع إِيضَاحِ الدَّلالَةِ، وَالذي لَمْ يَأْلُ جُهْدَاً فِي الإِرْشَادِ وَالتَّهْذِيبِ، وَالتَّبْصِرَةِ وَالتَّقْرِيبِ، وَالرِّفْقِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْبَيَانِ وَالْحِكْمَةِ، فَبَيَّنَ مَنْهَجَ السَّدَادِ، وَمَسَالِكَ الْفَلاحِ وَالرَّشَادِ، كُلُّ ذَلِكَ بِبَيَانٍ مُخْتَصَرٍ، وَإِيضَاحِ غَيْرِ مَمْزُوجٍ بِحَصَرٍ؛ آخِذٍ مِنْ الْبَلاغَةِ بِالْعُرْوَةِ الْوَثِيقَةِ، وَمِنَ الْفَصَاحَةِ بِأَيْسَرِ طَرِيقَةٍ، وَكَفِيلٍ بِتَحْدِيدِ الأُصُولِ الْمُهِمَّاتِ، وَتَفْصِيلِ الْوَاجِبَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، حَتَّى صَارَتْ قَوَاعِدُ دِينِهِ مُعَيَّنَةً، لا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي فِيهَا إلَى بَيِّنَة، لِئَلا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ، وَلا يُرَى فِي دِينِهِمْ عِوَجٌ.
وبعدُ. فَقَدْ ثَبَتَ بِمَا ذَكَرَهُ أبُو عِيسَى التَّرْمِذِي فِي حَدِّ الْحَدِيثِ الْحَسَنِ أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ اللازِمَةِ عِنْدَهُ «أَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ».
وَقَدْ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ وَاضِحَةً، لا إِشْكَالَ فِي فَهْمِ مَعْنَاهَا، لِمَنْ لَهُ إطِّلاعٌ وَلَوْ يَسِيْرٌ لـ «جَامِعِ التِّرْمِِذِيِّ»، وَأَنَّهَا تَعْنِي عَلَى الْفَوْرِ، وَبِلا أَدْنَى تَفْكِيْرٍ وَلا رَوِيَّةٍ:(1/81)
تَعَدُّدَ طُرُقِ الْحَدِيثِ، مَهْمَا كَانَ ذَلِكَ التَّعَدُّدُ: عَنِ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بَالْمُتَابَعَاتِ، أَوْ عَنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ أَوْ أَكْثَرَ وَافَقُوهُ عَلَى لَفْظِهِ أَوْ مَعْنَاهُ، وَهُوَ مَا يُعْرَفُ بِالشَّوَاهِدِ، أَوْ بِعِبَارَةٍ أَوْجَزَ: تَعْنِي تَعَدُّدَ الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ لِحَدِيثِ الأَصْلِ.
حَتَّى طَالَعْتُ كَلامَاً شَاذَّاً عَجِيبَاً، يَقُولُ صَاحِبُهُ: «فَالْحَدِيثُ عِنْدَهُمْ مَتْنٌ وَصَحَابِيٌّ، فَإِذَا رَوَي نَفْسَ هَذَا الْمَتْنِ صَحَابِيٌّ غَيْرُ الأَوَّلِ فَهُمَا حَدِيثَانِ أَوْ طَرِيقَانِ، أَمَّا الأَوْجَهُ فَتَخْتَلِفُ عَنْ ذَلِكَ وَتَكُونُ تَحْتَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَمَنْ أَرَادَ الاسْتِقْصَاءَ فَجَامِعُ الترمذي بَيْنَ يَدَيْهِ مَطْبُوعٌ وَللهِ الْمَنِّ وَالْفَضْلُ. وَهَذِهِ هِيَ النُّقْطَةُ الَّتِي أُشْكِلَتْ عَلَي بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَظَنَّ أنَّ الْمَقْصُودَ طُرُقَاً لِلْحَدِيثِ يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضَاًً، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ.
فَكَأَنَّ كَلامَهُ - يَعْنِي التِّرْمِذِيَّ - إِنَّمَا يَدُورَ دَائِمَاً عَلَي سَنَدٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ يُقَوِّي الأَحَادِيثَ بِبِعْضِهَا وَتَكُونَ فِي دَرَجَةِ الْحَسَنِ».
وَلِتَأْيِيدِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْغَرِيبَةِ، أَوْرَدَ مَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ «الْعِلَلُ الْكَبِيْرُ»(143) قَالَ:(1/82)
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ». وَقَوْلَ أَبِي عِيسَى عَنْهُ: «هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ».
ثُمَّ عَقَّبَ عَلَيْهِ قَائِلاً: «وَقَدْ اشْتَرَطَ التِّرْمِذِيُّ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ أَنْ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي السَّنَدِ مَحْلِ الْبَحْثِ، فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ رُمْحٍ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَمُسَدَّدُ بْنُ مَسَرْهَدٍ، وَعَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِىِّ كُلُّهُمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ.
وَبِالنَّظَرِ إِلَي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ بِالتَّحْدِيدِ يَتَبَيِّنُ لَنَا بِالضَّبْطِ مَا الَّذِي يَعْنِيهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ: «وَيُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ» اهـ بِنَصِّهِ.
قَالَ أبُو مُحَمَّدٍ: وَمُفَادُ دَعَوَاهُ أَنَّ الأَوْجَهَ لا تَكُونُ إِلا عَنْ الصَّحَابِِيِّ الرَّاوِي لِلْحَدِيثِ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ قَائِلاً «أَمَّا الأَوْجَهُ فَتَكُونُ تَحْتَ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ» يَقْصَدُ عَنْ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ، وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ هُوَ الَّذِي يَعْنِيهِ التِّرْمِذِيُّ بِقَوْلِهِ «وَيُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ»، وَلا يَعْنِي سِوَاهُ بِمَرَّةٍ !!.
وَاللهِ لَوْ صَحَّ الَّذِي قَدْ قُلْتَهُ... قُطِعَتْ سَبِيلُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ(1/83)
وَأَظْهَرُ قَوْلٍ عِنْدَنَا لإِبْطَالِ هَذِهِ الدَّعْوَى الْغَرِيبَةِ هُوَ تَفْسِيرُ التِّرْمِذِيِّ نَفْسَهُ لِقَوْلِهِ «وَيُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، فَهُوَ مُوَضِّحُ مَعْنَاهُ كَمَا هُوَ وَاضِعُهُ كَشَرْطٍ لازَمٍ لِلْحُكْمِ عَلَى حَدِيثٍ مَا بِأَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَهَذِهِ عُشَّارِيَّةٌ دَالَّةٌ عَلَى أنَّ التِّرْمِذِيَّ أَرَادَ بِهَذَا الْقَوْلِ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ عَنِ النَِّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ يَقُولُ عَقِبَ كُلِّ حَدِيثٍ: «هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا».
وَلا يَخْفَاكَ أَنَّ مَعْنَى هَذَا: أَنَّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ صَحَابِيٌُّ أَوْ أَكْثَرُ غَيْرُ الصَّحَابِيِّ الرَّاوِي لِحَدِيثِ الأَصْلِ، وَهَذَا يَعْنِي تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا يَعْنِي بِمَرَّةٍ الاقْتِصَارَ عَلَى إِسْنَادِ صَحَابِيٍّ وَاحِدٍ !!.(1/84)
وَمَعَ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى بَيِّنٌ بَيَانَاً لا خَفَاءَ فِيهِ وَلا غُمُوضٍ، فَإِنَّ أبَا عِيسَى كَثِيْرَاً مَا يَقْرِنُ قَوْلَهُ «رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بِقَوْلِهِ «وَفِي الْبَاب عَنْ: فُلانٍ، وَفُلانٍ» لِنَفَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ يَذْكُرُهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعْقِيبَاً عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْعشاريَّةِ: «وَفِي الْبَابِ عَنْ: عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو. وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ». فَعِنْدَئِذٍ تَكُونُ رِوَايَاتُ حَدِيثِ عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بِمَعْنَى حَدِيثِ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ هِيَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ «رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
فَهَذَا وَنَظَائِرُ لَهُ كَثِيْرَةٌ فِي تَعْقِيبَاتِ أبِي عِيسَى عَلَى حِسَانِهِ، وَصِحَاحِ حِسَانِهِ، وَغَرَائِبِ حِسَانِهِ كَالْبَيَانِ الْوَاضِحِ لِمُرَادِهِ وَمَقْصُودِهِ لِمَا اشْتَرَطَهُ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ بِقَوْلِهِ «أَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ».
وإلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الشَّرْطِ، فَقَالَ «شَرْحُ الْعِلَلِ»(1/384):
«وَقوله «أَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، يَعْنِي أَنْ يُرْوَى مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الإِسْنَادِ».
وَهَاكَ الْعُشَارِيَّةَ الْمُبَيِّنَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى بَيَانَاً جَلِيَّاً:
[(1/85)
الْحَدِيثُ الأَوَّلُ ]قَالَ التِّرْمِذِيُّ (34): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنْ ابْنِ عَجْلانَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ: أَنَّهَا رَأَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَّأُ، قَالَتْ: مَسَحَ رَأْسَهُ، وَمَسَحَ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ، وَصُدْغَيْهِ وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
قَالَ أَبُو عِيسَى: «وَفِي الْبَاب عَنْ: عَلِيٍّ، وَجَدِّ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفِ بْنِ عَمْرٍو. وَحَدِيثُ الرُّبَيِّعِ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّةً».
[ الْحَدِيثُ الثَّانِي ]
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (184): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ لأَنَّهُ أَتَاهُ مَالٌ، فَشَغَلَهُ عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فَصَلاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ، ثُمَّ لَمْ يَعُدْ لَهُمَا.
قَالَ أَبُو عِيسَى: «وَفِي الْبَاب عَنْ: عَائِشَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَمَيْمُونَةَ، وَأَبِي مُوسَى.(1/86)
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رَوَى غَيْرُ وَاحِدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الْعَصْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَهَذَا خِلافُ مَا رُوِيَ عَنْهُ: أَنَّهُ نَهَى عَنْ الصَّلاةِ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَصَحُّ حَيْثُ قَالَ: لَمْ يَعُدْ لَهُمَا. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ نَحْوُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فِي هَذَا الْبَابِ رِوَايَاتٌ، رُوِيَ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا دَخَلَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعَصْرِ إِلا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ».
[ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ ]
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (2386): حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ، وَلَهُ مَا اكْتَسَبَ».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
قَالَ: «وَفِي الْبَاب عَنْ: عَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَصَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي مُوسَى».
[(1/87)
الْحديثُ الرَّابِعُ ]قَالَ التِّرْمِذِيُّ (2736): حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ بِالْمَعْرُوفِ: يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، وَيَتْبَعُ جَنَازَتَهُ إِذَا مَاتَ، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُهُمْ فِي الْحَارِثِ الأَعْوَرِ».
[ الْحديثُ الْخَامِسُ ]
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (1757): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ ثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اكْتَحِلُوا بِالإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ»، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلاثَةً فِي هَذِهِ، وَثَلاثَةً فِي هَذِهِ.
قَالَ أَبُو عِيسَى: «وَفِي الْبَاب عَنْ: جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَر. حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ إِلا مِنْ حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ».(1/88)
قُلْتُ: وَرِوَايَاتُ حَدِيثِ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَر بِلَفْظِ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَعْنَاهُ، إِلا أَنَّ عَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ تَفَرَّدَ بِهَذَا الْمَتْنِ «كَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ بِهَا كُلَّ لَيْلَةٍ ثَلاثَةً فِي هَذِهِ، وَثَلاثَةً فِي هَذِهِ»، وَلِذَا اسْتَغَرَبَهُ أبُو عِيسَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. عَلَى أَنَّ عَبَّادَاً قَدْ تُوبِعَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ لا يُحْتَجُّ بِمِثْلِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ.
فَقَدْ أَخْرَجَه أبُو نُعَيْمٍ «الْحِلْيَةُ»(8/252) مِنْ طَرِيقِ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنِ الْعَرْزَمِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهُ الْكَي، وَالطَّعَامَ الْحَارَّ، وَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالْبَارِدِ، فَإِنَّهُ ذُو بَرَكَةٍ، أَلا وَإِنَّ الْحَارَّ لا بَرَكَةَ فِيهِ، وَكَانَتْ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلاثَاً ثَلاثَاً».
وَقَالَ: «غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثَ صَفْوَانَ لَمْ نَكْتُبْهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ».
قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ جِدَّاً. مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيُّ الْكُوفِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، قَالَهُ أَحْمَدُ وَيَحْيَى ابْنُ مَعِينٍ وَالْفَلاسُ النَّسَائِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الْجُنَيْدِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: كَانَ صَدُوقَاً إِلا أَنَّ كُتُبَهُ ذَهَبَتْ وَكَانَ رَدِيءَ الْحِفْظِ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ مِنْ حِفْظِهِ وَيَهِمُ، فَكَثُرَتْ الْمَنَاكِيرُ فِي رِوَايَتِهِ، تَرَكَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى الْقَطَّانُ وَابْنُ مَهْدِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ مَعِينٍ.
وَهَاكَ أَحَادِيثَ جَابِرٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ، وَصُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ:
[(1/89)
حَدِيثُ جَابِرٍ ]
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ «الْعِلَلُ الْكَبِيْرُ»(529)، وَأبو يَعَلَى (2058): حَدَّثَنَا أحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ».
وَقَالَ أبُو عِيسَى: «سَأَلْتُ مُحَمَّدَاً عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَلَمْ يَعْرِفْهُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ. وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ».
قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ ثقات كُلُّهُمْ، إلا أنَّهُ يُخْشَي تَدْلِيسُ ابْنِ إِسْحَاقَ، فَقَدْ عَنْعَنَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ سَمَاعَاً. وَقَدْ تَابَعَهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ: هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ وَاخْتُلِفَ عَلَيْهِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، وَسَلامُ بْنُ أَبِي خَبْزَةَ، وَالْفَضْلُ بْنُ عِيسَى الرَّقَاشِيُّ.
فَقَدْ أَخْرَجَه ابْنُ عَدِيٍّ (3/195) قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُكْرَمٍ ثنا أبُو حَفْصٍ عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نَا زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ الْيَحْمُدِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ بِهِ.
وأَخْرَجَه الطَّبَرَانِيُّ «الأَوْسَطُ»(6056) قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْعُصْفُرِيُّ ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ نَا زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ الْيَحْمُدِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ بِهِ.(1/90)
قُلْتُ: قَدْ أَفْسَدَ الْعُصْفُرِيُّ الْحَدِيثَ وَكَشَفَ عَوْرَتَهُ، فَجَعَلَهُ «عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ»، وَلِذَا أَنْكَرَهُ أبُو حَانِمٍ الرَّازِيُّ، وَاسْتَبْعَدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ رِوَايَاتِ الثِّقَاتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ.
قَالَ ابْنُ أبِي حَاتِمٍ «عِلَلُ الْحَدِيثِ»: «سَأَلْتُ أَبِي عَنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ زِيَادُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ. قَالَ أَبِي: هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لَمْ يَرْوِه عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ إِلا الضُّعَفَاءُ مِثَلُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ وَنَحْوِهِ، وَلَعَلَّ هِشَامَ بْنَ حَسَّانٍ أَخَذَهُ مِنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، فَإنَّهُ كَانَ يُدَلِّسُ».
قُلْتُ: هُوَ كَمَا قَالَ، إِلا غَمْزَهُ هِشَامَ بْنَ حَسَّانٍ بِالتَّدْلِيسِ، فَإِنَّهُ ثِقَةٌ ثَبْتٌ لَمْ يَذْكُرْهُ أَحَدٌ بِالتَّدْلِيسِ، وَإِنَّمَا الْوَهْمُ مِنْ زِيَادِ ابْنِ الرَّبِيعِ الَّذِي كَانَ يُسْقِطُ مِنْ إِسْنَادِهِ إِسْمَاعِيلَ بْنَ مُسْلِمٍ أَحْيَانَاً، فَيَجْعَلُهُ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَإنَّمَا الْحَدِيثُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْعُصْفُرِيُّ، فَقَدْ تَابَعَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهَ ثَلاثَةُ مِنَ الثِّقَاتِ.(1/91)
فَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ (5/37/23485)، وَعَنْهُ ابْنُ مَاجَهْ (3496) عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (1085) عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ، وَالْعُقَيْلِيُّ (1/92) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَوْسٍ أبِي زَيْدٍ النَّحْوِيِّ، ثَلاثَتُهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ عِنْدَ النَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ».
قُلْتُ: وَالْحَدِيثُ بِهَذَا الإِسْنَادِ ضَعِيفٌ جِدَّاً. إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ الْبَصْرِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. قَالَ عَلِيُّ بن المدينِيِّ: ضَعِيفٌ لا يُكْتَبُ حَدِيثُهُ أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى تَرْكِ حَدِيثِهِ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: لَيْسَ بِشَئٍ لَمْ يَزِلْ مُخْتَلِطَاً.
وَقَالَ أَحْمَدُ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ النَّسَائِيُّ وَعَلِيُّ بْنُ الْجُنَيْدِ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
وأَخْرَجَه كَذَلِكَ ابْنُ عَدِيٍّ (3/304) مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ أبِي إِسْرَائِيلَ ثَنَا سَلامِ بْنِ أَبِي خَبْزَةَ الْعَطَّارِ، وَالطَّبَرَانِيُّ «الأَوْسَطُ»(6151) مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ مَاهَانَ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَاسِطِيُّ ثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ، وَالسِّلَفِيُّ «الطُّيُورِيَاتُ» (406) مِنْ طَرِيقِ الْفَضْلِ بْنِ عِيسَى الرَّقَاشِيِّ، ثَلاثَتُهُمْ عَنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعَاً بِنَحْوِهِ.(1/92)
قُلْتُ: وَهَذِهِ أَسَانِيدُ لا يُحْتَجُّ بِشَيْءٍ مِنْهَا. فأما الرَّقَاشِيِّ وابْنُ أَبِي خَبْزَةَ الْعَطَّارُ فَمَتْرُوكَانِ، وَأَمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ خَالِدٍ الْوَاسِطِيُّ فَقَدْ ضَعَّفَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ، وَأمَّا مُحَمَّدُ بْنُ مَاهَانَ فَجَهِلَهُ أبُو حَاتِمٍ. وَقَالَ الْعِجْلِيُّ: وَاسِطِيٌّ صَدُوقٌ.
[ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ ]
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ «الْعِلَلُ الْكَبِيْرُ»(530)، وابْنُ مَاجَهْ (3495)، وَالْحَاكِمُ (4/230) مِنْ طُرُقٍ عَنْ أبِي عَاصِمٍ النَّبِيلِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعَرَ».
قاَلَ أبو عِيسَى: «سَأَلْتُ مُحَمَّدَاً عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، فَقَالَ: إِنَّمَا رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَالِمٍ: عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِهِ».
قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ ضَعِيفٌ. عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ يُعْرَفُ بِمُسْتَقِيمٍ مِنْ اسْتِقَامَتِهِ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمَحْمُودَةِ، وَكَانَ مُؤَذِّنَاً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَكَانَ قَلِيلَ الْحَدِيثِ، قَالَهُ ابْنُ حِبَّانَ. وَلَكِنْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَيْسَ بِذَاكَ فِي الْحَدِيثِ. وَقَالَ
أبُو حَاتِمٍ وَالدَّارَقُطْنِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ.
[ حَدِيثُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ](1/93)
أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ «التَّارِيْخُ الْكَبِيْرُ»(8/412)، وَالطَّبَرِيُّ «تَهْذِيبُ الآثَارِ»(2808)، وَالطَّبَرَانِيُّ «الْكَبِيْرُ» (1/109/183) و«الأَوْسَطُ»(1064)، وَأبُو نُعَيْمٍ «الْحليةُ»(3/178)، وَالضِّيَاءُ «الْمُخْتَارَةُ»(724) مِنْ طُرُقٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ النُّفَيْلِيِّ ثَنَا يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عَوْنِ بن مُحَمَّدِ بن الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ، فَإِنَّهُ مُنْبِتَةٌ للشِّعْرِ مُذْهِبَةٌ لِلْقِذَى، مُصْفَاةٌ لِلْبَصَرِ».
وَقَالَ أبُو نُعَيْمٍ: «حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ، لَمْ يَرْوِه عَنْهُ إِلا ابْنُهُ عَوْنٌ، وَلا عَنْهُ إِلا يُونُسُ».
قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ، رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ الْحَرَّانِيُّ صدوقٌ رُمِيَ بالإرْجَاءِ، وَلَيْسَ بِرِوَايَتِهِ بَأْسٌ. وَعَوْنِ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ مَشْهُورُ الرِّوَايَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ بِجَرْحَةٍ. رَوَى عَنْهُ: يُونُسُ بْنُ رَاشِدٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، وَعَبْدُ الْمَلِكِ ابْنُ أَبِى عَيَّاشٍ. وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي «الثِّقَاتِ»(7/279).
[ حَدِيثُ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ الأَنْصَارِيِّ ]
قَالَ الإمام أَحْمَدُ (3/476): حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اكْتَحِلُوا بِالإِثْمِدِ الْمُرَوَّحِ، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ».(1/94)
وَأَخْرَجَهُ كَذَلِكَ أَحْمَدُ (3/499)، وَأبُو دَاوُدَ (2377)، وَالطَّبَرِيُّ «تَهْذِيبُ الآثَارِ»(2793)، وَابْنُ قَانِعٍ «مُعْجَمُ الصَّحَابَةِ»(3/94) أَرْبَعَتُهُمْ عَنْ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ الْجَزَرِيِّ، وَالدَّارِمِيُّ (1733)، وَالْبُخَارِيُّ «التَّارِيْخُ الْكَبِيْرُ»(7/398)، وَالطَّبَرَانِيُّ «الْكَبِيْرُ»(20/341/802)، وَالْبَيْهَقِيُّ «الْكُبْرَى»(4/262)، وَالْمِزِّيُّ «تَهْذِيبُ الْكَمَالِ»(17/459) خَمْسَتُهُمْ عَنْ أبِي نعيمٍ، كِلاهُمَا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ هَوْذَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ حَدِيثِ الزُّبَيْرِيُّ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ عِنْدَ النَّوْمِ، وَقَالَ: لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَلا تَكْتَحِلْ بِالنَّهَارِ وَأَنْتَ صَائِمٌ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ لِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ يَعْنِي حَدِيثَ الْكُحْلِ.
قُلْتُ: وَهَذَا إِسْنَادٌ رِجَالُهُ مُوَثَّقُونَ. عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَارِيُّ مَشْهُورُ الرِّوَايَةِ مَعْرُوفُ الْعَدَالَةِ. قَالَ أبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ هُوَ وَأَبَاهُ فِي «الثِّقَاتِ»(7/530،81)، وَقَالَ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ مَعْبَدٍ: رَوَى عَنْهُ الْْحِجَازِيُّونَ. وَقاَلَ الذَّهَبِيُّ «الْكاشفُ» عَنْهُ: وُثِّقَ.
وَإِنَّمَا حَكَمَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى الْحَدِيثِ أنَّهُ مُنْكَرٌ لِقَوْلِهِ «لِيَتَّقِهِ الصَّائِمُ»، خِلافَاً لِعُمُومِ الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى جَوَازِ الْكُحْلِ لِلصَّائِمُ. وَلا يَتَعَارَضُ هَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِتَعْدِيلِ رُوَاتِهِ، لِجَوَازِ غَلَطِ رَاوِيهِ وَوَهْمِهِ. وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَر فِي
«(1/95)
تَقْرِيبِهِ»(1/352): عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ النُّعْمَانِ الأَنْصَارِيُّ صَدُوقٌ رُبَّمَا غَلَطَ.
[ حَدِيثُ صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ ]
قَالَ الْخَرَائطِيُّ «مَكَارِمُ الأخْلاقِ»(783): حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ عَبَّادُ بْنُ الْوَلِيدِ الْغُبَرِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ ثَنَا دَفَّاعُ بْنُ دَغْفَلٍ ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ صَيْفِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ صُهَيْبِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالإِثْمِدِ عِنْدَ مَضْجَعِكُمْ؛ فَإِنَّهُ مِمَّا يَزِيدُ فِي الْبَصْرِ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ».
[ الْحَدِيثُ السَّادِسُ ]قَالَ التِّرْمِذِيُّ (618): حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ الشَّيْبَانِيُّ الْبَصْرِيُّ ثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ ابْنِ حُجَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَدَّيْتَ زَكَاةَ مَالِكَ، فَقَدْ قَضَيْتَ مَا عَلَيْكَ».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ: أَنَّهُ ذَكَرَ الزَّكَاةَ، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا ؟، فَقَالَ: لا، إِلا أَنْ تَتَطَوَّعَ».
[ الْحَدِيثُ السَّابِعُ ]قَالَ التِّرْمِذِيُّ (1120): حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي قَيْسٍ عَنْ هُزَيْلِ بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُحِلَّ، وَالْمُحَلَّلَ لَهُ.(1/96)
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ».
[ الْحَدِيثُ الثَّامِنُ ]
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (1263): حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: كَانَ عِنْدَنَا خَمْرٌ لِيَتِيمٍ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمَائِدَةُ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُ، وَقُلْتُ: إِنَّهُ لِيَتِيمٍ، فَقَالَ: «أَهْرِيقُوهُ».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا».
[ الْحَدِيثُ التَّاسِعُ ]
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (1936): حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ ثَنَا سُفْيَانُ ثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا حَسَدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوُ هَذَا».
[ الْحَدِيثُ الْعَاشِرُ ](1/97)
قَالَ التِّرْمِذِيُّ (3538): حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ ثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «للهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا».
قَالَ أَبُو عِيسَى: «وَفِي الْبَاب عَنْ: ابْنِ مَسْعُودٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ، وَأَنَسٍ. وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزِّنَادِ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ مَكْحُولٍ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ هَذَا».
وَأَقُولُ: فَفِي هَذِهِ الْعُشَارِيَّةِ وَنَظَائِرَ لَهَا كَثِيْرَةٍ مِنْ تَعْقِيبَاتِ أبِي عِيسَى عَلَى حِسَانِهِ، وَصِحَاحِ حِسَانِهِ، وَغَرَائِبِ حِسَانِهِ بَيَانٌ وَاضِحٌ لِبَعْضِ مَعَانِي قَوْلِهِ «وَأَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، وَالَّذِي جَعَلَهُ شَرْطَاً لازَمَاً فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ.
وإلَى هَذَا الْمَعْنَى ذَهَبَ الْحَافِظُ ابْنُ رَجَبٍ الْحَنْبَلِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ لِهَذَا الشَّرْطِ، فَقَالَ «شَرْحُ الْعِلَلِ»(1/384): «وَقوله «أَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ»، يَعْنِي أَنْ يُرْوَى مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ الإِسْنَادِ».(1/98)
عَلَى أَنَنَا نَذَهْبُ فِي تَفْسِيْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ: «وَأَنَّ يُرْوَي مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ نَحْوُهُ» أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ، وَلا نَقْتَصِرُ بِهَا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْبَيِّنِ فِي هَذِهِ الْعُشَارِيَّةِ، فَلَسْنَا كَالَّذِي حَجَّرَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْعُقَلاءِ وَاسِعَاً، فَاقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِ مَعَانِيهَا، وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ لَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَعْنَى وَدِلالَةٍ.
بَلْ نَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْمَعْنَى الآنِفِ - أَعْنِي تَعَدُّدَ الطُّرُقِ وَالْمَخَارِجِ – أَحَدُ ثَلاثِ مَعَانٍ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَكُلُّهَا مِنْ مُرَادِ التِّرْمِذِيِّ وَمَقْصُودِهِ.
لا يصح فى إحياء ليلتي العيدين شيء
الحمد لله ناصر الحق ورافعي لوائِه. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أتقى خلقه وأوليائه. وبعد..
فقد أكثر المصنفون فى الرغائب من ذكر الأباطيل والمناكير والموضوعات، ولما تيقنوا أن الصلاة خير موضوع، فقد لهجوا بذكر ما ورد فيها من الترغيب، ولعل أكثرها مما لا يصح، ولا يثبت، ولا تنتهض به حجة. وأنكر ذلك الصلوات الحولية والأسبوعية والشهرية والليلية، كصلاة التسابيح، وألفية رجب، وليلة النصف من شعبان، وآخر جمعة من رمضان، وليلة عاشوراء ويومها، وليلتي الفطر والضحى، وليالي الأسبوع كلها.
ومن أنكر ذلك وأبطله ما وضعه الوضاعون فى إحياء ليلتي العيدين، وفيها خمسة أحاديث. ومن اللائق أن نذكر ما قرَّره الحافظ ابن القيم فى (( زاد المعاد فى هدى خير العباد ))(1/212) من هدى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة النحر: (( ثم نام حتى أصبح، ولم يحيى تلك الليلة، ولا صح عنه في إحياء ليلتي العيدين شيء )).
وهاك الأحاديث التي احتجَّ بها المرغبون فى إحياء ليلة العيد، وبيان ما فيها:
[ الأحاديث الأول والثانى والثالث ] أحاديث عبادة بن الصامت، وأبى الدرداء، وأبى أمامة(1/99)
قال أبو القاسم الطبرانى (( الأوسط ))(159): حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان ثنا حامد بن يحيى البلخي ثنا جرير بن عبد الحميد عن عُمَرَ بْنِ هَارُونَ البلخي عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ عبادة بن الصامت أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْفِطْرِ وَالأَضْحَى، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ)).
قال أبو القاسم: (( لم يرو هذا الحديث عن ثور إلا عمر بن هارون، تفرد به جرير )).
وأورده الحافظ الهيثمي فى (( مجمع الزوائد ))(2/198)، فقال: (( رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه عمر بن هرون البلخي، والغالب عليه الضعف. وأثنى عليه ابن مهدي وغيره، ولكن ضعفه جماعة كثيرة )).
وذكره الشيخ الألباني فى (( السلسلة الضعيفة ))( رقم520)، وقال: موضوع.
قلت: هو كما قال، وإسناده واهٍ بمرَّة، وله ثلاث آفات:
[ الأولى ] عُمَرَ بْنِ هَارُونَ البلخي أبو حفص الثقفي، يروى المناكير عن المشاهير ويضع الحديث وضعاً، رماه بالكذب: عبد الله بن المبارك، وابن معين، وصالح جزرة. وعبد الرحمن بن مهدي وإن أثنى عليه مرَّة، فقد قال فى رواية أخرى: ليس له قيمة عندي. وقال ابن حبان: كان ممن يروى عن الثقات المعضلات، ويدعى شيوخاً لم يرهم.
[ الثانية ] الاختلاف على رفعه. فقد أخرجه الشافعي (( الأم ))(1/231)، ومن طريقه البيهقي (( شعب الإيمان ))(3/341/3711) عن إبراهيم بن محمد نا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عن أبي الدرداء قال: (( مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْعِيدِ مُحْتَسِبَاً، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ )).(1/100)
قلت: هكذا خالفه إبراهيم بن محمد، فجعله من (( مسند أبى الدرداء ))، وأوقفه. وإبراهيم بن محمد بن أبى يحيى الأسلمى المدنى تركوا حديثه. قال مالك بن أنس ويحيى بن سعيد وابن معين: هو كذاب. وكان يحيى بن سعيد يقول: ما أشهد على أحد أنه كذاب إلا على إبراهيم بن أبي يحيى، ومهدي بن هلال، فإني أشهد أنهما كذابان. وقال مالك بن أنس: ليس بثقة ولا في دينه. وقال أحمد بن حنبل والبخاري: قد ترك الناس حديثه. وقال النسائي وعلي بن الجنيد والأزدي والدارقطنى: متروك.
والشافعى وإن روى عنه إلا أنه جالسه فى صباه، فحفظ عنه، فلما نزل مصر أودع كتبه أحاديثه من حفظه، ولم يكن عنده بموضع الثقة، وقال: كان قدرياً ولم يكن يكذب. وقال ابن حبان: كان قدرياً جهمياً، وكان يكذب مع ذلك.
[ الثالثة ] الاضطراب على صحابيه. فمرة (( عن عبادة بن الصامت ))، وثانية (( عن أبى الدرداء )) موقوفاً، كما سبق، وثالثة (( عن أبى أمامة )).
فقد أخرجه أبو القاسم الأصبهانى (( الترغيب والترهيب ))(1/248/373)، وابن الشجرى (( أماليه الخميسية )) كلاهما من طريق عُمَرَ بْنِ هَارُونَ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مرفوعاً به.
وقال ابن ماجه (1782): حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْمَرَّارُ بْنُ حَمُّويَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى ثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( مَنْ قَامَ لَيْلَتَيِ الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا للهِ، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ )).(1/101)
قلت: وهذا إسناد تالف. بقية بن الوليد الحمصى، أبو يحمد الكلاعى مدلِّس سئ التدليس، فهو يروى عن الكذابين ثم يسوِّى الإسناد فيسقطهم، ويرويه عن الثقات. ولا يُستبعد أن يكون أخذ الحديث عن عمر بن هارون الكذاب، ثم أسقطه وسوَّى إسناده، ودلَّسه عن ثور بن يزيد الثقة. ولهذا قال على بن مسهر: أحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية.
والحاصل أن الحديث موضوع، ركَّبه عمر بن هارون البلخي على أسانيد مضطربة، وألزقه بها، وإنما هو مما عملته يداه، وزيَّنه له شيطانه، فلا يحل روايته إلا على التعجب !.
[ الحديث الرابع ] حديث معاذ بن جبل أخرجه نصر المقدسي (( جزء من الأمالي ))(2/186)، والديلمي (( مسند الفردوس ))( ق:148)، والأصبهاني (( الترغيب والترهيب ))(1/348/374)، وابن الجوزي (( العلل المتناهية ))(934)، وابن عساكر (( تاريخ دمشق ))(43/93) من طريق عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن وهب بن منبه عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( من أحيا الليالي الأربع وجبت له الجنة: ليلة التروية، وليلة عرفة، وليلة النحر، وليلة الفطر ))، وفى رواية الأصبهاني (( الليالي الخمس )) بزيادة (( وليلة النصف من شعبان )).
قلت: وهذا حديث موضوع، وإسناده واهٍ بمرَّة. والمتهم به عبد الرحيم بن زيد العمى، كذبه يحيى القطان. وقال البخاري وابن معين وأبو حاتم: تركوه. وقال أبو زرعة: واه. وقال النسائي: متروك ليس بثقة. وقال ابن حبان: يروي عن أبيه العجائب، مما لا يشك من الحديث صناعته أنها معمولة أو موضوعة.
[(1/102)
الحديث الخامس ] حديث كردوس غير منسوب أخرجه ابن الجوزي (( العلل المتناهية ))(924) من طريق المفضل بن فضالة عن عيسى بن إبراهيم القرشي عن سلمة بن سليمان الجزري عن مروان بن سالم عن ابن كردوس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ أَحْيَا لَيْلَتي الْعِيدِ، وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ فِيهِ الْقُلُوبُ )).
وعزاه الحافظ ابن حجر فى (( الإصابة )) إلى الحسن بن سفيان، وعبدان المروزي، وابن شاهين، وعلى بن سعيد العسكري جميعاً من طريق مروان بن سالم به.
قال أبو الفرج: (( هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه آفات. أما مروان بن سالم، فقال أحمد: ليس بثقة. وقال النسائي والدارقطني والأزدي: متروك. وأما سلمة بن سليمان، فقال الأزدي: هو ضعيف. وأما عيسى، فقال يحيى: ليس بشيء )).
قلت: وهذا الحديث منكر، والمتهم به سالم بن مروان الجزري، عامة ما يرويه مناكير لا يتابع عليها.
وقال أبو حاتم الرازي: منكر الحديث جدا ضعيف الحديث ليس له حديث قائم. وقال أبو عروبة الحراني: يضع الحديث. وقال الحاكم أبو أحمد: حديثه ليس بالقائم. وقال أبو أحمد بن عدي: عامة حديثه لا يتابعه الثقات عليه.
والله الموفق للصواب، والحمد لله أولاً وآخراً.
كتبه الشيخ / أحمد شحاته الألفي السكندري.
نُورُ عَلِيٍّ أَطْفَأ لَهَبَ جَهَنْمَ، وَهِي أَشَدُّ مُطَاوَعَةً لَهُ مِنْ الْغُلامِ لِسَيِّدِهِ!!
من جملة مقالاتنا ((الصَّوَاعِقُ وَالْبُرُوقْ الْمَاحِقَةُ لأَمَالِي الشَّيْخِ الصَّدُوقْ))
الحمد لله الآمر بالعدل والإحسان. النَّاهي عن الكذب والافتراء والبهتان. والصَّلاة والسَّلام النَّاميان الوافيان على محمد عبده ورسوله، عدد ما خلق اللهُ من أنسٍ وجان.
وبعد..(1/103)
لقد أجمع العارفون بمقالات الفرق الزَّائغة عن سواء السَّبيل أن الشَّيعة الرَّوافض على اختلاف طوائفهم أكذبُ الخلق على اللهِ ورسولِهِ وآلِ بيتِهِ، وأنهم قد وضعوا ألوفاً من الأحاديث فى فضائل آل البيت، وذمِّ أبي بكر وعمر، وزوجتى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عائشة وحفصة رضي الله عنهما. وكلُّما كان الرجل أمكن فى الكذب والافتراء، كان عندهم ممدوحا، وبالغوا فى الثناء عليه، وتوثيقه، واعتماد روايته.
قَالَ زَكَرِيَا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ وَمَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ الشَّعْبِيُّ قال: لَوْ كَانَتْ الشِّيعَةُ مِنْ الطَّيْرِ لَكَانَتْ رُخْمَاً، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الْبَهَائِمِ لَكَانَتْ حُمُرَاً، وَمَا رَأَيْتُ قَوْمَاً أَحْمَقَ مِنْ الشِّيعَةِ، لَوْ أَرَدْتُ أَنْ يَمْلأُوا لِي بَيْتِي هَذَا وَرِقَاً لَمَلَؤُوهُ.
وقال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ مِغْوَلٍ سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ يَقُولُ: لَوْ شِئْتُ أَنْ يُمَلأَ بَيْتِي هَذَا وَرِقَاً عَلَي أَنْ أَكْذِبَ لَهُمْ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَفَعَلْتُ، واللهِ لا كَذَبْتُ عَلَيْهِ أَبَدَاً.
ومن أكاذيبهم الممقوتة:(1/104)
قال الشَّيْخُ الصَّدُوقُ فى ((المجلس الرابع والعشرون))( ح4 ): حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبْو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: ((إِذَا سَأَلْتُمْ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاسْأَلُوهُ لِي الْوَسِيلَةَ))، فَسَأَلْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَنْ الْوَسِيلَةِ ؟، فقال: ((هِي دَرَجَتِي فِي الْجَنَّةِ، وَهِي أَلْفُ مِرَقَاةٍ، مَا بَيْنَ الْمِرَقَاةِ إِلَى الْمِرَقَاةِ حَضَرُ الْفَرَسِ الْجَوَادِ شَهْرَاُ، وَهِي مَا بَيْنَ مِرَقَاةِ جوَهْرٍ إِلَى مِرَقَاةِ زَبَرْجَدِ، وَمِرَقَاةِ ياقوت إلى مرقاة ذهب إلى مرقاة فضة، فيؤتى بها يوم القيامة حتى تنصب مع درجة النبيين، فَهِي فِي دَرَجِ النَّبِيِينَ كَالْقَمَرِ بَيْنَ الْكَوَاكِبِ، فَلا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ نَبِيٌّ، وَلا صِدِّيقٌ، وَلا شَهِيدٌ، إِلا قَالَ: طُوبَى لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ دَرَجَتَهُ، فَيَأْتِي النِّدَاءُ مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُسْمِعُ النَّبِيِينَ وَجَمِيعَ الْخَلْقِ: هَذِهِ دَرَجَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَأُقْبِلُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُتَّزِرٌ بِرَيْطَةٍ مِنْ نُورٍ، عَلِىَّ تَاجُ الْمُلْكِ، وَإِكْلِيلُ الْكَرَامَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمَامِي، وبيده لوائي، وَهُوَ لِوَاءُ الْحَمْدِ، مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: لا إِلَه إِلا اللهُ الْمُفْلِحُونَ هُمْ الْفَائِزُونَ باللهِ، وَإِذَا مَرَرْنَا بِالنَّبِيِينَ، قَالُوا: هَذَانِ مَلَكَانِ كَرِيمَانِ مُقَرَّبَانِ لَمْ نَعْرِفْهُمَا، وَلَمْ نَرَهُمَا، وَإِذَا مَرَرْنَا(1/105)
باِلْمَلائِكَةِ، قَالُوا: هَذَانِ نَبِيَّانِ مُرْسَلانِ، حَتَّى أَعْلُو الدَّرَجَةَ، وعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَتَّبَعُنِي، حَتَّى إِذَا صِرْتُ فِي أَعْلَى الدَّرَجَةِ مِنْهَا، وعَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ أَسْفَلَ مِنِي بِدَرَجَةٍ، فَلا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ نَبِيٌّ، وَلا صِدِّيقٌ، وَلا شَهِيدٌ، إِلا قَالَ: طوبى لهذين العبدين، ما أكرمهما على الله، فيأتي النداء مِنْ قِبَلِ اللهِ جَلَّ جَلالُهُ، يسمع النبيين والصديقين والشهداء والمؤمنين: هَذَا حَبِيبِي مُحَمَّدٌ، وَهَذَا وَلِيي عَلِيٌّ، طُوبَى لِمَنْ أَحَبَّهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ))، ثُمَّ قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: ((فَلا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ أَحَبَّكَ يَا عَلِيُّ، إِلا اِسْتَرْوَحَ إِلَى هَذَا الْكَلامِ، وَاِبْيَضَّ وَجْهُهُ، وَفَرِحَ قَلْبُهُ، وَلا يَبْقَى أَحَدٌ مِمَّنْ عَادَاكَ، أَوْ نَصَبَ لَكَ حَرْبَاً، أَوْ جَحَدَ لَكَ حَقَّاً، إِلا اِسْوَدَّ وَجْهُهُ، وَاضْطَرَبَتْ قَدَمَاهُ، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ، إِذَا مَلَكَانِ قَدْ أَقْبَلا إِلَيَّ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَرُضُوانٌ خَازِنُ الْجَنَّةِ، وأما الآخر فمالك خازن النار، فيدنو رضوان، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَحْمَدُ، فَأَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلَكُ، مَنْ أَنْتَ فَمَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ، وأطيب ريحك ؟، فيقول: أنا رُضُوانُ خَازِنُ الْجَنَّةِ، وَهَذِهِ مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ، بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَخُذْهَا يَا أَحْمَدُ، فَأَقُولُ: قَدْ قَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْ رَبِّي، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا فَضَّلَنِي بِهِ، وَأَدْفَعُهَا إِلَى أخي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ رُضُوانُ، فَيَدْنُو مَالِكٌ، فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَحْمَدُ، فَأَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ(1/106)
أَيُّهَا الْمَلَكُ، مَنْ أَنْتَ فَمَا أَقْبَحَ وَجْهَكَ، وَأَنْكَرَ رُؤْيَتَكَ ؟، فَيَقُولُ: أَنَا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَهَذِهِ مَقَالِيدُ النَّارِ، بَعَثَ بِهَا إِلَيْكَ رَبُّ الْعِزَّةِ، فَخُذْهَا يَا أَحْمَدُ، فَأَقُولُ: قَدْ قَبِلْتُ ذَلِكَ مِنْ رَبِّي، فَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى مَا فَضَّلَنِي بِهِ، وَأَدْفَعُهَا إِلَى أخي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ مَالِكٌ، فَيُقْبِلُ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ الْجَنَّةِ، وَمَقَالِيدُ النَّارِ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى حُجْزَةِ جَهَنْمَ، وَقَدْ تَطَايرَ شَرَرُهَا، وَعَلا زَفِيرُهَا، وَاشْتَدَّ حَرُّهَا، وَعَلِيٌّ عليه السَّلامُ آخِذٌ بِزِمَامِهَا، فَتَقُولُ لَهُ جَهَنْمُ: جزني يَا عَلِيُّ، قَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي، فَيَقُولُ لَهَا عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: قَرِّي يَا جَهَنْمُ، خُذِي هَذَا، وَاتْرُكِي هَذَا، خُذِي هَذَا عَدُوي، وَاتْرُكِي هَذَا وَلِيي، فَلَجَهَنْمُ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مُطَاوَعَةً لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنْ غُلامِ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ، فَإِنْ شَاءَ يُذْهِبُهَا يَمْنَةً، وَإِنْ شَاءَ يُذْهِبُهَا يَسْرَةً، وَلَجَهَنْمُ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مُطَاوَعَةً لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيمَا يَأْمُرُهَا بِهِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلائِقِ)).
قلت: وأحاديث هذا المجلس، وعددها أربعة أحاديث كلُّها كَذِبٌ، ولا يصحُّ منها شيءٌ ألبته. وقد أسلفنا ذكرَ أول أحاديثه ((الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يُزًيِّنَانِ عَرْشَ الرَّحْمَنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا يُزَيِّنُ الْمَرَأةَ قِرْطَاهَا)).(1/107)
وهذا الحديث أكذب منه، فواضعُه لم يستحيى من اللهِ وَرَسُولِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَأَهْلِ سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ. وقد قال عَزَّ وَجَلَّ ((إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))، وقال تعالى ((إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)).أرأيتك غلواً وإفراطاً كقوله ((تَقُولُ جَهَنْمُ لِعَلِيٍّ: قَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي))، وقوله ((فَلَجَهَنْمُ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مُطَاوَعَةً لِعَلِيٍّ مِنْ غُلامِ أَحَدِكُمْ لِصَاحِبِهِ))، وقوله ((فَإِنْ شَاءَ يُذْهِبُهَا يَمْنَةً، وَإِنْ شَاءَ يُذْهِبُهَا يَسْرَةً)) !!. بل الحديث كله أكذوبة الأكاذيب.
قَدْ لَفَّقُوهَا أَسَاطِيراً مُحَبَّرَةً... بِحِكْمَةٍ ذَاتِ أَشْكَالٍ وَأَلْوَانِ
كَأَنَّهُمْ قَدْ أَصَابُوا طُرْفَةً عَجَبَاً... أَوْ جَاءَهُمْ نَبَأُ صِدْقٍ بِبُرْهَانِ
تَبَارَكَ اللهُ عَمَّا قِيلَ وَابْتُدِعَتْ... فِي ذَاتِهِ مِنْ أَضَالِيلٍ وَبُهْتَانِ
والمتهم بهذا الحديث أبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ عُمَارَةُ بْنُ جُوَيْنٍ الْبَصْرِيُّ. قال خالد بن خداش عن حَمَّاد بن زيدٍ: كان أبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ كَذَّابَاً، يروى بالغداة شيئاً، وبالعشى شيئاً. وقال يحيى بن سعيد القطان عن شعبة: لأن أقدَّم فتضرب عنقي أحبَّ إلِيَّ من أن أحدِّث عنه، أتيته، فرأيت عنده كتاباً فيه أشياء منكرة في على رضي الله عنه، فقلت:
ما هذا ؟، قال: هذا الكتاب حقٌ. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ليس بشيءٍ. وقال العبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدوريُّ عن يحيى بن معين: أبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ كان عنده صحيفة، يقول هذه صحيفة الْوَصِىِّ، وكان عندهم لا يصدَّقُ في حديثه. وقال مرَّة: ليس بثقةٍ. وقال السعدي: كذَّاب مفتر. وقال النسائيُّ: متروك الحديث.(1/108)
وقال الدارقطني: يتلَّون خارجيٌّ وشيعيُّ. وقال ابن حبَّان: كان يروي عن أبي سعيدٍ ما ليس من حديثه، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب.
وأما أبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ ذَكْوَانَ الْبَصْرِيُّ، وهو الذي يقال له عُمَرُ بْنُ أَبِي خَلِيفَةَ، فهو مُغَفَّلٌ وَاهٍ ذَاهِبُ الْحَدِيثِ. قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه:
تركنا حديثه وحرقناه. وقال العبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدوريُّ عن يحيى بن معين: ليس بشيءٍ. وقال علي بن المدينيِّ: ليس بثقة. وقال البخاريُّ: ليس بالقوي. وقال النسائيُّ: متروك الحديث. وقال السعديُّ: أبُو حَفْصٍ الْعَبْدِيُّ وأبُو هَارُونَ الْعَبْدِيُّ يُرفض حديثُهما. وقال ابْنُ حبَّان: كان يشتري الكتب، ويحدِّث بها من غير سماعٍ، ويجيب فيما يُسْأَل، وإن لم يكن مما يحدِّثُ به، وهو الذي روى عن ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ مرفوعاً ((يَدُ الرَّحْمَنِ عَلَى رَأْسِ الْمُؤَذِّنِ مَا دَامَ يُؤَذِّنُ، وَإِنَّهُ لَيُغْفَرُ لَهُ مَدَّ صَوْتِهِ أَيْنَ بَلَغَ)).
وذكر له ابْنُ عَدِيٍّ في ((كامله))(5/49) جملة من بلاياه عَنْ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ مرفوعاً ((مَنْ رَفَعَ قِرْطَاسَاً مِنْ الأَرْضِ فِيهِ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِجْلالاً للهِ أَنْ يُدَاسَ، كَتَبَهُ اللهُ مِنْ الصِّدِّيقِينَ، وَخَفَّفَ عَنْ وَالِدِيهِ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ))، وبه مرفوعاً ((مَنْ كَتَبَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَجَوَّدَهُ تَعْظِيمَاً للهِ، غَفَرَ اللهُ لَهُ)).
وقال ابن عديٍّ: وله غيرُ ما ذكرتُه، والضَّعف بيِّنٌ على رواياته.(1/109)