صح أن يُشتق للعبد ما لا يشتق للرب من اسم المُطيع والعابد والعاصي والكافر والمؤمن والمتقرِّب وما لا يُحصى، فكذلك الظالم وفاعل الظلم والقبيحِ ونحو ذلك.
وقول ابن متويه: ويشبه القصد في هذا الوجه قولنا: إيثارٌ واختيارٌ يعني أنهما من أسماء الإرادة عند تعلقها ببعض الوجوه المخصوصة، وأنهما لا يتعلقان بفعل الغير كالقصد، فيجب أن يكونا وما تعلقا به من فعل فاعلٍ واحدٍ، كما هو قول الأشعرية في الإرادة، فالإيثار اسم لإرادة الإحسان إلى الغير ممن ليس له غيرُ ما أعطى، والاختيار هنا هو في معنى النية بزيادة شرط المقارنة والقدرة، فهو اسمٌ للإرادة على هذه الشروط المخصوصة.
الوجهُ الثالث: أن الشيخ أبا هاشمٍ، وهو شيخ الاعتزال، قد جوَّر أن تؤثِّر الإرادة في الخطاب، وإن كانت من فعل الله تعالى والخطاب من فعلنا، فيكون خبراً أو إنشاءً بها، ويُنْسَبُ كونه خبراً أو إنشاءً إلينا، كما أن العلم الضروري بالصناعات المحكمة التي هي فِعْلُنا تؤثِّر في أحكامها، وتنسب الأحكام إلينا، مع أن العلم الضروري المؤثر في صحة الأحكام من فعل الله تعالى، وهذا كلامٌ صحيحٌ.
وقد اعترضه ابن متويه بأنها لو أثرت، وهي من فعل الغير، لكان أحدنا إذا أوجد (1) الكلام ووجدت هذه الإرادة خرج عن الاختيار في جعل كلامه خبراً، ومعلومٌ أن كونه خبراً مضافٌ إلى الفاعل، ولا يمكن التسوية بينها وبين العلم، لأن مع وجود العلم تصح أحكام الفعل، ويبقى الاختيار له فيه، سواء كان العلمُ من فعله أو من فعل غيره.
والجواب على ابن متويه: أنه قد اعترف في " تذكرته " أنه يصح وجود الإرادة غير متعلقةٍ، وهو مذهب أبي هاشم وغيره، فيمكن أن يقول: إن الله تعالى
__________
(1) في (ش): وجد.(7/43)
يُوجِدُها في المتكلم غير متعلقةٍ بكون كلامه خبراً أو إنشاءً، ثم يُعَلِّقُها المتكلم بأحدهما باختياره.
بيانه: أنه قد ثبت أن للإرادة بالمراد تعلُّقاتٍ شتى، فبالنظر إلى حدوثه يسمى إرادةً، وبالنظر إلى كونه خبراً وصدقاً وكذباً يُسَمَّى قصداً، فلأبي هاشمٍ أن يجعل هذا التعلق المختص باسم القصد من فعلنا واختيارنا، وإن كانت الإرادةُ في ذاتها من فعل الله، وهي تسمى مؤثرة في الخطاب في الحقيقة العُرفية. وإن كان التأثير على التحقيق لهذا التعلق الخاص، لا سيما، وقد نصَّ ابن متويه في الكلام الذي مضى في الوجه الثاني على هذا المعنى، وهو أن المؤثر في الكلام هو نوع من الإرادة يختصُّ باسم القصد، فإنه إنما اختص بذلك الاسم لوقوع الكلام به على وجهٍ.
وذكر في فصل آخر أن القبيح لا يقبُحُ بالإرادة في وجه القبح مثل كون الخبر كَذِباً، لأنه إنما يصير خبراً بالإرادة.
قلت: ومعنى هذا أنها مُصَحِّحَةٌ لوقوع الكلام خبراً كاذباً، والمؤثِّر في قبحه وقوعه (1) كذلك لا بالإرادة، فليست هي المؤثرة، ولكنها مصححةٌ للوجه المؤثر.
وكلامه ها هنا (2) لا يناقض ما قدمه من أن الكلام لا يصير خبراً إلاَّ بالقصد، لأن القصد نوعٌ من الإرادة، كما أن النية نوعٌ منها، والأنواع لا يتميز بعضها من بعض، ولا تتميز هي من أجناسها إلاَّ لوقوعها على الوجوه المختلفة، كما ذكر في تقاسيم الإرادة، حتى قسمها إلى: عَزْمٍ ونية وقَصْدٍ وإيثارٍ واختيارٍ ومحبةٍ وحَسَدٍ وغِبْطَةٍ ومُوالاةٍ ومُعاداةٍ، وكل هذه الأقسام يتميَّز بعضها من بعض بوجه مفهوم يقع الفعل عليه باختيار المختار، فيتغير اسم الإرادة ليدل تغييره وتبديله على المعاني المختلفة، وهذا التفصيل بمنزلة التقييد.
وقوله في غير هذا الفصل: إن الكلام يصير خبراً بالإرادة بمنزلة المطلق
__________
(1) في (ش): هو وقوعه.
(2) في (ش): فكلامه هذا.(7/44)
المُتَجوَّز فيه، وإنما عنى بالإرادة حيث أطلق تأثيرها في الكلام، فعلى هذا القصد الذي بُيِّن في هذا التفصيل أن الإرادة (1) تسمى به حين تختص بالتأثير في الكلام.
فعلى هذا لو سلَّم أهل السنة أن الإرادة فعل الله وحده في العبد والاختيار إلى العبد، جاز أن يوقع الفعل به على الوجه القبيح، ويكون القبيح منسوباً إلى العبد دون الله تعالى، كما أن الله لما أوجد فيه العلم والقدرة المؤثرين في الإحكام، ووقع الإحكام باختياره، كان الإحكامُ منسوباً إلى العبد.
على أنا لو سلمنا ضعف كلام أبي هاشم في ذلك، فقد عرفت مما ذكرته أن الأمر قد انتهى في هذه المسائل على الدقة الكبيرة (2)، فمن بنى مذهبه على مثل هذا وشاركه في أساس مذهبه مثل أبي هاشم وأتباعه كان خليقاً عند المعتزلة بعدم التكفير، بل بعدم التشنيع والتحقير، وكل ما بُنِي على التدقيق، فهو دقيقٌ بلا خلاف بين أهل التحقيق، فيرتفع بذلك التكفير والتفسيق، وتَنسَدُّ إليه عند الإنصاف الطريق.
فإن قيل: فكلام هذه الفرقة ينبني على صحة القول بمقدورٍ بين قادرين، وتجويز فعلٍ واحدٍ لفاعلين، فما الذي ألجأهم إلى هذا؟
قلت: أمران عقلي وسمعي:
أما العقلي: فالفِرار من تعجيز الله عز وجل، فإن من قال بإحالة ذلك استلزم القول بأن الله عزَّ وجلَّ لا يقدر على أعيان مقدوراتِ العباد، حتى أفعال ما ضربه الله تعالى مثلاً في الضعف والحقارة من البعوضة والذباب والعنكبوت، وقد التزمت هذا المعتزلة إلاَّ أبا الحسين، حتى قالت البهاشمة من المعتزلة: إن في العدم ذواتٍ مُمكِنَة الوجود، وهي غير مقدورةٍ لله تعالى، وهي جميع مقدورات العوالم والحيوانات.
__________
(1) في (ش): فعلى هذا القصد بين في هذا التفصيل لأن الإرادة.
(2) في (أ): الكثيرة.(7/45)
وقد أُلزِمُوا (1) التكفير في هذا، واعتذروا عنه بحيلتهم المعروفة في تسميته مُحالاً، وتفسير المحال بأنه لا شيء، والمنع من القدرة على لا شيء.
وبهذه الحيلة احتال كل عدوٍّ للإسلام في تعجيز الرب جل جلاله عن كثير من الممكنات، حتى اعتذر بذلك من منع من معاد الأجساد من الزنادقة.
ومن العجب أن الذي ألجأ المعتزلة إلى هذا القول الساقط أمرٌ قريب، وهو قولهم: إن أحد القادِرَيْن لو أراد إيجاد مقدوره، وأراد الآخر خلافه، أدى إلى أحد باطِلَيْن: إما وجودُ مقدور القادر من غير إرادته، وإما عدمه عندها (2).
وجوابه واضحٌ: وهو أن مقدوره إنما يكون مقدوراً له بشرط عدم المانع، ومع وجود المانع ليس بمقدورٍ، والقادران إن كانا مِثْلَيْنِ كالعبد مع العبد جاز أن يتمانعا حين يستويان، وأن يغلب أحدهما الأضعف حين يتفاضلان، وإن لم يكونا مثلين كالعبد مع الرب عزَّ وجلَّ كان في مقدور الله تعالى واقعاً مطلقاً متى أراد، ومقدور العبد مشروطاً بعدم منع الرب عزَّ وجلَّ له، وليس في هذا دِقَّةٌ، فمعذرتهم في هذا غلطةٌ داحِضَةٌ لا شبهةٌ غامضةٌ.
ولولا كثرة التجرُّؤ على ذي العزة والجلال ما أقدموا على تعجيزه سبحانه بمثل هذا الخيال، ولكن ليس يلزم من القول بقدرة الرب تعالى على أفعال العباد القطع بأنه سبحانه قد شاركه في فعلها، فإنه سبحانه موصوفٌ بالقدرة التامة على ما يفعل وعلى ما لا يفعل، وهذا هو مذهبُ طوائف أهل السنة الثلاث الآتي ذكرها، وهو أوسط الأقوال وأعدلها.
وأما الأمر السمعي، فهو نوعان: عمومٌ وخصوصٌ.
أما العموم: فكثيرٌ شهير، مثل قوله تعالى: {الله خَالِقُ كلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله: {وخَلَقَ كُلَّ
__________
(1) في (أ): التزموا، وكتب فوقها: ألزموا، وهي كذلك في (ش): ألزموا.
(2) في (ش): عند وجودها.(7/46)
شيءٍ فقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]، وهو أشهر وأكثر من أن يُذْكَرَ ويُحصر، غير أنهم اختلفوا في تفسير الخلق والخالق.
فمنهم من فهم أنه المؤثر في الذات علي جهة الاستقلال من غير معين، فجوز أن يؤثر العبد في الذات، وهو غير مستَقِلٍّ، وهؤلاء اعتبروا الاستقلال دون مجرد التأثير، وهم الفرقة الأولى.
ومنهم من اعتبر مجرد التأثير في وجود الذات، وهم أهل الكسب الأشعري وأتباعه، وأما الجُوَيني وأصحابه فسيأتي تحقيق مذهبهم في الفرقة الرابعة.
النوع الثاني: الخصوص (1) الوارد في ذلك، وهو قليلٌ ومحتمل لما في تفسيره من الخلاف بين أهل السنة، كما سيأتي في مثل قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، وقوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96].
وحديث حذيفة بن اليمان، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله يصنعُ كلَّ صانعٍ وصَنْعَتَهُ ".
رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " (2) وغير ذلك، وسيأتي ذلك مستقصى ويُبين اختلاف أهل السنة في الاحتجاج بهذه الحجج الخاصة والصحيحُ من أقوالهم إن شاء الله تعالى.
الفرقة الثانية: الذين يُنْسَبُ إليهم الجبر المحض، وأنه لا تأثير لقدرة العبد في فعله، ولا في صفةٍ من صفات فعله، بل يقولون: إن الله تعالى يخلق الفعل بقدرته، ويخلق للعبد قدرةً متعلِّقَةً به، مقارنةً له (3) في الوجود، غير سابقةٍ عليه (4) ولا مؤثِّرةٍ فيه، ولا تصلُحُ لتركه ولا لضِدِّه ولا لغيره.
__________
(1) في (ش): المخصوص.
(2) ص 26 و260 و388، وهو حديث صحيح، وسيأتي تخريجه ص 116.
(3) " له " سقطت من (ش).
(4) " عليه " لم ترد في (ش).(7/47)
وهذا (1) قول الأشعري، وقد شَذَّ به ولم يُتابَعْ عليه، ورد عليه أصحابه هذا كما ردَّ به المعتزلة، وذلك واضحٌ في كتبهم.
وأهل هذا القول على رِكَّتِه وتصريحهم بما يُفهم منه الجبر الصريح، قد صرَّحوا بما يخرجهم عن صريح الجبر، وجحد الضرورتين العقلية والشرعية، فروى عنهم الرازي في " نهاية العقول " واللفظ له، والبيضاوي في " مطالع الأنوار " (2)، والشهرستاني في " نهاية الإقدام " أنهم يقولون: إن الاختيار إلى العبد، فإن اختار الطاعة خلقها الله تعالى فيه عقيب اختياره لها، وإن اختار المعصية خلقها الله تعالى فيه عقيب اختياره لها.
قال الرازي: ولهذا يحسن عندهم توجيه الأمر والنهي إليه.
قلت: وقد تقدم الكلام على الاختيار، وأنه وصفٌ إضافي وليس بشيء حقيقي وما يترتب عليه من الكلام سؤالاً وانفصالاً.
وتحقيق مذهب هؤلاء أن اختيار العبد شرطٌ عادي (3) في الحركة والسكون، كما أن فعله عند المعتزلة شرطٌ عادي (3) في تأثير السحر وفي خلق الولد من النطفة وسائر المسبِّبات ففعل العبد على هذا مرتبطٌ بالعبد وبالرب من جهتين
__________
(1) في (ش): وهذا هو.
(2) كذا سماه المؤلف رحمه الله " مطالع الأنوار "، والمعروف المتداول أنه " طوالع الأنوار " وهو مطبوع.
والبيضاوي: هو القاضي أبو الخير أو أبو سعيد، ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد بن علي الشيرازي، صاحب التصانيف البديعة المشهورة في التفسير والفقه وأصوله، كان إماماً مبرِّزاً نظّاراً صالحاً متعبداً زاهداً، والبيضاوي نسبة إلى مدينة البيضاء، وهي مدينة مشهورة بفارس قرب شيراز، توفي سنة (685 هـ) في مدينة تبريز. انظر ترجمته في " الوافي بالوفيات " 17/ 379، و" طبقات الشافعية " للسبكي 8/ 157 - 158، و" البداية والنهاية " 13/ 327.
(3) الجادة أن يقال: " المعتاد " لأن العادي في لغة العرب هو القديم.(7/48)
مختلفتين، فارتباطه بالعبد من أجل اختياره ارتباط المشروطات بشروطها، وارتباطه بالرب من أجل قدرته ارتباط المعلولات بعِلَلِها، ولهذا الارتباط يصح أن يُسمى (1) العبدُ فاعلاً، والربُّ فاعلاً، وليس هذا من تجويز مقدورٍ بين قادِرَيْنِ، وفعلٍ بين فاعلين في شيء على التحقيق.
وإن كان صاحب " الخارقة " (2) قد أطلق ذلك عليه فقال ما لفظه: وأما قوله: لا (3) يصح مقدورٌ بين قادرين، وكذا فعلٌ بين فاعلين، فنقول: إذا كانا فاعلين لمعنى (4) واحد، وقادرين بمعنى واحدٍ، فذلك هو الممتنع، وأما إذا كانا على وجهين مختلفين فلا يمنع.
وبيانه: أن الآدمى محلٌّ لفعل الله تعالى ومحلٌّ لمقدوره، ولا تمانُعَ بين الله وبين عبده لأن الله تعالى فاعلٌ مُخترعٌ، والأدمي محل لذلك، فأين التمانع؟
وهذا كما تقول: قتل الأمير فلاناً، وتقول: قتله الجلاد، ولكن (5) الأمير قاتلٌ بمعنى، والجلاد قاتل بمعنى آخر.
وذلك أنه تعالى خلق في العبد القدرة، وارتبطت القدرة بالإرادة، والحركة بالقدرة ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبطت بقدرة الله تعالى ارتباط الشرط بالمشروط، وارتبطت بقدرة الله تعالى ارتباط المعلول بالعلة، وكل ما له ارتباط بقدرة، فإن محلَّ القدرة يسمى فاعلاً كيفما كان الارتباط كما يسمى الجلاد
__________
(1) في (ش): اسم، وهو تحريف.
(2) هو عالم الأشعرية عبد الرحمن بن منصور بن أبي القبائل الهمذاني، وكان حياً سنة 608 هـ، وهي رسالة صدرها باسم " الخارقة لأستار القدرية المارقة " وقد رد عليه فيها الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بكتاب سماه " الشافي ". انظر " فهرس المخطوطات بالجامع الكبير بصنعاء " 1/ 173 - 176.
(3) في (ش): فلا.
(4) في (ش): بمعنى.
(5) في (ش): وذلك.(7/49)
قاتلاً، والأمير قاتلاً، لأن القتل ارتبط بقدرتيهما، ولكن على جهتين مختلفتين. انتهى.
وفيه بيان أنه ليس من المقدور بيان قادرين في شيء، بل هذا مقدوران بين قادرين، فمقدور العبد مجرد الاختيار لا سوى، ومقدور الرب ما سوى ذلك.
فهؤلاء اعتقدوا أن كل موجودٍ من جسمٍ عَرَضٍ، ومن مُحْكَمٍ وغير محكم يسمى مخلوقاً، وكل مخلوق فلا يطلق على الحقيقة إلاَّ فيما خلقه الله تعالى، واحتجوا بنحو قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3]، وقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].
فلم يجيزوا مقدوراً بين قادرين، لأنه يقتضي أن يشترك العبد والرب في إيجاد الشيء المخلوق، وإن كان العبد غير مستقلٍّ، بخلاف الطائفة الأولى فأجازوا ذلك مع إعانة الله تعالى لعبده وإذنه، ولا يسمى خالقاً إلاَّ المستقل، وسيأتي الكلام على هذه الآيات في الكلام على الفرقة الرابعة، إن شاء الله تعالى.
وأما الاختيار فليس عند هؤلاء شيئاً حقيقياً، فلا يستحق الدخول في عموم خلق كل شيء، فلذلك نَسَبُوه إلى قدرة العبد.
ولبعض المعتزلة قول شبيه (1) بهذا، وهو قول الجاحظ وثُمامة بن الأشرس: إنه لا فعل للعبد إلاَّ الإرادة، لكن المعتزلة يتعافَوْنَ البدع فيما بينهم حتى يقول بها غيرهم، وألزموه الكفر، وأخرجوه من الإسلام، وإلا فأيُّ فرقٍ بين قول الأشعري وثمامة والجاحظ.
فأما كون الإرادة شيئاً حقيقياً بخلاف الاختيار، فلا أثر لذلك، لما مضى من تقرير إجماع المعتزلة على أن الحسن والقبح لا يتعلَّق بذوات الأشياء
__________
(1) في (أ): يشبه.(7/50)
الحقيقية، فالحسنُ والقبحُ اللذان في الإرادة مثل الحسنِ والقبحِ اللذين في الاختيار عند المعتزلة، والذنوب والحسنات، إنما نشأت من ذلك لا من الذوات عندهم، بل قول الأشعريِّ أبعد من الجبر من قولهما.
إن قالا: ليس للعبد فعلٌ إلاَّ الإرادة من دون الاختيار لزم الجبر، وكانت كإرادة المريض للعافية عند (1) حصول العافية، فإن مقارنة الإرادة للعافية لا توجب أن العافية فعلٌ للعبد (2).
وإن قالا: إن الاختيار للعبد مع الإرادة، فالذي (3) أخرجهما من الجبر هو القول بأن الاختيار إلى العبد، وقد شاركهما في ذلك الأشعري، على أن للأشعري أن يُفَسِّر الاختيار بالإرادة، وينازع في كونها ذاتاً حقيقية، ويذهب مذهب أبي الحسين في الأكوان، ولا يمنعه من ذلك ضرورةٌ عقلية ولا شرعية.
واعلم أنه لا خلاف بين فرق الأشعرية في إثبات الاختيار للعبد، حتى إن الرازي في " نهاية العقول " صرَّح بأن الحق هو الجبر، ثم يُفَسِّر الجبر بوقوع الفعل عند الرجحان قطعاً مع بقاء الاختيار، وهذا تصريح بأن تسميته لذلك جبراً خلاف في مجرد العبارة، إلا أن الرازي وحده كثير التَّلوُّن في تصرفاته، وليس من جنس الأشعرية، وله في " المحصول " هفواتٌ قلَّ من يُدْرِكُ غَوْرَها.
فمنها: أنه صرح فيه (4) بنفي الاختيار، وناقض نصوصه المتكررة في " النهاية "، كأنه تكلم في " النهاية " عن المذهب، وفي " المحصول " عن اختياره هو في نفسه، وذلك أنه يتحامى مخالفة أصحابه (5) في علم الكلام دون أصول الفقه، ولذلك حكى كلام الفلاسفة في كتابه " الأربعين " في الوصف العدميِّ في المسألة الأولى منه، ثم قال بعده: وهذا سؤالٌ قويٌّ، ثم أجابه وقرَّر الجواب على الصواب ومضى.
__________
(1) " عند " سقطت من (ش).
(2) في (ش): العبد.
(3) في (ش): والذي.
(4) انظر " المحصول " 5/ 255.
(5) في (ش): وذلك يتحابى أصحابه.(7/51)
ولما تكلَّم في " المحصول " على الوصف العدمي في باب القياس ذكر كلام الفلاسفة واختاره تصريحاً، وذكر الجواب الذي رد به عليهم في " الأربعين "، ثم نَقَضَهُ في " المحصول ".
وتراه في " النهاية " يتلوَّن، ففي مسألة حدوث العالم قال: لا جواب على الفلاسفة إلاَّ بمذهب المعتزلة في ترجيح الفاعل لأحد مقدوريه من غير مرجحٍ.
وفي مسألة خلق الأفعال أبطل قول المعتزلة في هذه المسألة بعينها.
وكذلك صرَّح فيما أحسِبُ بنفي الاختيار في مقدمات " المحصول " في أصول الفقه في الاحتجاج على نفي التحسين العقلي، وجوّد ابن الحاجب الرد عليه في " المنتهى " كما نقلته في هذا الكتاب في آخر هذه المسألة.
واضطرب الرازي في " مفاتح الغيب " فقال: إن إثبات الإله يُلجِىءُ إلى القول بالجبر، وإثبات الرسل يُلجِىءُ إلى القول بالقدر (1)، ثم قال: بل هنا سر آخر وهو فوق الكل، وهو أنا لما رجعنا إلى الفطرة السليمة والعقل الأول، وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه لا يترجَّح أحدهما على الآخر إلا بمرجح، وهذا يقتضي الجبر، ونجد أيضاً تفرقةً بديهيةً بين الحركات الاختيارية والاضطرارية، وجزماً بديهياً بحُسْنِ المدح والذم والأمر والنهي، وذلك يقتضي مذهب المعتزلة.
فكأن هذه المسألة وقعت في حيِّز التعارض بحسب العلوم الضرورية، وبحسب العلوم النظرية، وبحسب تعظيم الله تعالى نظراً إلى قدرته، وبحسب تعظيمه نظراً إلى حكمته، وبحسب التوحيد والنُّبُوَّة، وبحسب الدلائل السمعية.
__________
(1) كتب في (أ) و (ف) فوق لفظة " بالقدر ": بالاختيار، ثم حشِّي علبها في الهامش: هكذا في بعض كتب الفن منقولاً عن الرازي.(7/52)
فلهذه المآخذ التي شرحناها، والأسرار التي كشفنا عن (1) حقائقها، صَعُبَتِ المسألة وغَمُضَتْ، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا للحق. انتهى كلامه.
وإنما أوردته ليعرف أنه ليس كل ما (2) وُجِدَ نُسِبَ إلى طائفة الأشعرية، فكيف بمن يَنْسِبُ مثل ذلك إلى أهل الحديث والأثر.
وقد قال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (3) ما لفظه: الفَخْرُ بن الخطيب، صاحب التصانيف، رأس في الذكاء والعقليات، لكنه عريٌّ عن الآثار، وله تشكيكاتٌ على مسائل من دعائم الدين (4) تُورِثُ حَيْرةً، نسأل الله أن يُثَبِّتَ الإيمان في قلوبنا، وله كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " (5)
__________
(1) في (أ): على.
(2) في (أ): كما، وهو خطأ.
(3) 3/ 340.
(4) " التي " لم ترد في " الميزان " ولا في (ش).
(5) جاء في " كشف الظنون " ص 989: " السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم " للإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي، المتوفى سنة 606 هـ. وقيل: إنه مختلق عليه، فلم يصح أنه له، وقد رأيت في كتاب أنه للحرالي أبي الحسين علي بن أحمد المغربي، المتوفى سنة 637 هـ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقال اللكنوي في " الفوائد البهية " ص 192: كتاب " السر المكتوم في علم النجوم " ليس من مؤلفات فخر الدين، وإنما هو من وضع بعض الملاحدة نسبه إليه ليروِّجَه بين الناس، وقد تبرّأ الرازي نفسه من هذا الكتاب في بعض مصنفاته، فالطاهر أنه نسب إليه وهو حي.
وقال السبكي في " طبقاته " 8/ 87: وأما كتاب " السر المكتوم في مخاطبة النجوم " فلم يصح أنه له، بل قيل: إنه مختلق عليه.
وقال ابن خلدون في " المقدمة " ص 1154: وذكر لنا أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتاباً في ذلك (أي: في السحر والطلسمات) وسماه بالسر المكتوم، وأنه بالمشرق يتداوله أهلُه، ونحن لم نقف عليه، والإمام لم يكن من أئمة هذا الشأن فيما نظن، ولعل الأمر بخلاف ذلك.
وقال ابن قاضي شهبة في " طبقات الشافعية " 2/ 84: ومن تصانيفه على ما قيل كتاب " السر المكتوم في مخاطبة الشمس والنجوم " على طريقة من يعتقده، ومنهم من أنكر أن يكون من مصنفاته.(7/53)
سِحرٌ صريح، فلعله تاب منه إن شاء الله تعالى. انتهى.
فمن تشكيكاته ما تراه يصنع في المعجزات، فإنه في الكلام على التحسين والتقبيح من " المحصول " نفى الاختيار، ثم أورد من أدلة المعتزلة ما يلزم من نفي التحسين والتقبيح بطلان النبوة، وقرر ذلك أبين تقريرٍ، ثم إنه اقتصر في جوابه على المعتزلة بأن لهم من القواعد ما يقتضي بطلان النبوة أيضاً، ثم أورد ذلك وأوضحه وقرَّره أبين تقريرٍ، ثم ترك ذلك في كتابه على هذه الصفة.
وما يزيد أعداء الإسلام على ما صنع شيئاً، بل لا يستطيع أعداء الإسلام مثل هذا، فإن كُتُبَهم مهجورةٌ، وهذا جعل هذا مقدمةً لأصول الفقه، أحد أركان علوم الإسلام، وصدر من أحد علماء الإسلام، وأخرجها مخرج الرد على المبتدعة، فنفوس أهل السنة قبل التأمُّل تميل إليها، وإذا تأملت، وجدته قرَّر بطلان النبوات على كلا المذهبين، تقريراً يعلم أنه يصعب على أكثر المسلمين الانفصال عنه.
فما هذا صُنْعَ المعتزلة والأشعرية، فإن الجميع يَسْعَوْنَ في تقرير النبوَّات، كما صنع القاضي عياض في كتابه " الشِّفا في التعريف بحقوق المصطفى "، وذكر الذهبي في ترجمة الجاحظ من " النبلاء " أنه جود الكلام في النبوات فرحمه الله (1).
وكذلك فليكن علماء الإسلام، وكذلك هذا الكلام الذي ذُكِرَ عن الرازي آنفاً فيما أودعه تفسيره قوله: إن مسألة الجبر والقَدَرِ وقعت في حيِّز التعارض بالنظر إلى العلوم، فإنه مما لا يخفى على مثله فساده، لأن استحالة التعارض بين العلوم مطلقاً، ثم بين العلوم الضرورية خاصة مما يعرفه المبتدىء في العقليات، وهو يمرض القلوب من كلا الطرفين، ويُشوِّش على أهل المذهبين، ويستلزم مذهب أهل التجاهل، وأنا لا ندري ولا يدري أنا لا ندري، وإذا
__________
(1) بعد هذا في (أ) و (ش) بياض بقدر ثلاث كلمات، وكلام الذهبي هذا الذي أشار إليه المؤلف ليس في المطبوع من " النبلاء "!(7/54)
تأمَّلت، وجدته مخالفاً لإجماع المسلمين، ولم ينف الاختيار أحدٌ من أئمة الدِّين.
وقد حاف الرازي وما أنصف في دعواه التعارض بالنظر إلى العلوم الضرورية، فما علمنا أحداً ادعى ثبوت الجبر بالضرورة، بل الجَمُّ الغفير من الأشعرية وأبو الحسين وأصحابه من المعتزلة ادَّعوا الضرورة في ثبوت الاختيار، كما تأتي ألفاظهم في ذلك إن شاء الله تعالى.
وكما أقرَّ الرازي مع الجماعة ثم انفَرَدَ وحده، وشذَّ عن الجماعة، وادَّعى معارضة هذه الضرورة التي قد أقر بها مع الناس، ومن حق الضرورة أن يشترك فيها جميع الناس.
فأما قوله: إن الممكن لا يترجَّح إلاَّ بمرجِّحٍ، فإن هذا ضروري، فمُسَلَّمٌ له ذلك.
وأما قوله: إن ذلك يقتضي الجبر، فغيرُ مُسَلَّمٍ، بل ولا صحيح في النظر كما يأتي، وكما أقر به في " النهاية "، وسيأتي لفظه في ذلك.
فانظر كيف أوهم الضرورة في هذا القدر، وأدرجه في العلم الضروري بأن الممكن لا يترجَّح إلاَّ بمرجِّحٍ، وله أمثال هذا كثيرٌ.
والقصد التحذير مما في مصنفاته من هذا القبيل ونسبته (1) إلى طائفة الأشعرية، وأهل السنة، وليس القصد إساءة الظنِّ به، فإن بركات العلم والإسلام قد أدرَكَتْهُ، ولله الحمد، فتاب عن جميع ذلك، وقال في وصيَّتِهِ رحمه الله ما لفظه (2): وأما ما انتهى الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فعلى (3) ما ورد في
__________
(1) " ونسبته " سقطت من (أ).
(2) انظر وصيته مع اختلاف يسير، في " تاريخ الإسلام " للذهبي في الطبقة الحادية والستين ص 211 - 215، طبع مؤسسة الرسالة، و" طبقات الشافعية " للسبكي 8/ 90 - 92، و" عيون الأنباء " لابن أبي أصيبعة 3/ 40 - 42.
(3) في " تاريخ الإسلام " و" الطبقات ": وكل، وفي " العيون ": فكل.(7/55)
القرآن والأخبار الصحيحة المتَّفَقِ عليها بين الأمة المتعين فيها المعنى الواحد والذي لم يكن كذلك، فأقول: يا إله العالمين، إني أرى الخلق مُطْبِقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وكلُّ ما مَرَّ بقَلْبِي، أو خطر ببالي، فأشهد وأقول: كل ما علمت مني أني أريد به تحقيق باطلٍ أو إبطال حقٍّ، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت أني ما سعيتُ إلاَّ في تقرير ما اعتقدت أنه الحق وتصورتُ أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي فذلك جهدُ المقل، وأنت أكرم من أن تضايق الضعيف الواقع في الزلة، فأغثني وارحمني يا من لا يزيدُ ملكه عرفانُ العارفين، ولا ينقص بخطأ المجرمين، وأقول: ديني متابعةُ محمد سيِّدِ - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي هو القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما. إلى آخر كلامه في هذا المعنى.
وإنما أوردته هنا ليَحْسُنَ فيه ظنُّ الواقف على ما في مصنفاته مما ذكرته، ومن أمثاله على أنه يمكن أنه لم يُرِدْ بالجبر نفي الاختيار، وإنما أراد وجوب وقوع الراجح بالنظر إلى الداعي كما هو مذهب أبي الحسين المعتزلي، بل ذلك هو الظاهر من تصرُّفات الرازي، فإنه صرح في " نهاية العقول " ببقاء الاختيار مع وجوب وقوع الراجح، وسمَّى ذلك الوجوب فيها جبراً كما سيأتي بحروفه في ذكر الفرقة الرابعة، فيكون الحمل عليه في تسميته بهذا الاسم، لما فيه من إيهام القول الباطل بالجبر المحض الذي يستلزم إفحام الرسل، وتقبيح الأمر والنهي والمدح والذم، والثواب والعقاب، وما عُلِمَ بالضرورتين العقلية والشرعية، كما اعترف بذلك هو، والله سبحانه أعلم.
الفرقة الثالثة: أهل الكسب، وهم جمهور الأشعرية، وقد طال اللَّجَاجُ بينهم وبين المعتزلة وبعض من يخالفهم من الأشعرية في أن الكسب معقولٌ أو غير معقولٍ، والإنصاف يقتضي أنه معقولٌ، كما عقله الشيخ مختارٌ المعتزلي في كتابه " المجتبى " وبيَّن الجواب عنه، بل هو واضحٌ جليٌّ كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.(7/56)
قال الشيخُ مختارٌ في " المجتبى ": وأما معنى الكسب عندهم، فقال بعضهم: إنه تعالى يخلُقُ الفعل، ويخلق قدرته في العبد مستَقِلَّةً بالفعل مقارِنَةً له غير مؤثِّرةٍ فيه.
زاد الرازي: إن الله عنذهم إنما يفعل ذلك عند اختيار العبد لذلك كالمسببات عند المعتزلة.
قال الشيخ مختار: وقال بعضهم: أصل الحركة بقدرة الله تعالى وتعينها بقدرة العبد وهو الكسب.
وقال بعضهم: إن الفعل بالله تعالى وصفته بالعبد، وهو قريبٌ من الثاني. انتهى.
وقد رأيت أن أُورِدَ كلام الأشعرية بنصِّه لعدم التفات المعتزلة إلى تحقيقه فيما رأيت من مشهور مصنفاتهم، فاقول: قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام ": قال القاضي -يعني الباقِلاَّني-: الإنسان يُحِسُّ من نفسه تفرقةً ضرورية بين حَرَكَتَي الضرورة والاختيار، كحركة المرتعش، وحركة المختار، والتفرفة لم تَرْجِعْ إلى نفس الحركتين من حيث الحركة، لأنهما حركتان متماثلتان، بل إلى أمرٍ زائدٍ على كونهما حركتين، وهو كون أحدهما مقدوره ومراده، ثم لا يخلو الأمر من أحد حالتين:
فإما (1) أن يُقال: تعلَّقت القدرة بأحدهما، كتعلق العلم من غير تأثيرٍ أصلاً، فيؤدي ذلك إلى نفي التفرقة، فإن نَفْيَ التأثير كنفي التعلق فيما يرجع إلى ذاتي الحركتين، والإنسان يجد التفرقة بينهما وبينهما لا (2) في أمر زائد على وجوديهما وأحوال وجودهما، ثم لا يَخْلُو الحال:
إما أن يرجع التأثير إلى الوجود والحدوث.
__________
(1) في (ش): إما.
(2) في (ش): وبينها إلا.(7/57)
وإما أن يرجع إلى صفةٍ من صفات الوجود، والأولُ (1) باطل لما ذكرنا من أول لو أثرت في الوجود، لأثرت في كل موجودٍ، فيتعين أنه يرجع التأثير إلى صفةٍ أخرى، وهي حالٌ زائدة على الوجود.
قال: وعند الخصم قادرية (2) الباري تعالى لم تؤثر إلاَّ في حالٍ هو (3) الوجود، لأنه أثبت في العدم سائر صفات الأجناس من الشيئيَّة (4) والجوهرية والعَرَضية والكونية، إلى أخصِّ الصفات من الحركة والسكون والسواديَّة والبياضية، فلم يَبْقَ سوى حالةٍ وهي الحدوث، فليأخذ منا في قدرة العبد مثله.
قلت: قد تقدم أن بعض المعتزلة لا يجعلون الحال الذي هو الوجود مقدوراً على الحقيقة عند المناقشة، وإنما المقدور جعل الذات عليها، وقد تقدم (5) ما عليهم في ذلك من الإشكال.
ثم ذكر الشهرستاني قول المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية في نفي الكسب، وأنه غير معقولٍ.
ثم قال في الجواب: ألسنا أثبتنا وجوهاً واعتباراتٍ للفعل الواحد، وأضفنا كل وجهٍ إلى صفةٍ أثَّرت فيه مثل الحدوث، فإنه من آثار القدرة، والتخصيص ببعض الجائزات فإنه من آثار الإرادة، والإحكام، فإنه من دلائل العلم، وعند الخصم كون الفعل واجباً ومندوباً وحلالاً وحراماً وحسناً وقبيحاً صفاتٌ زائدةٌ على الوجود، بعضها ذاتية للفعل، وبعضها من آثار الإرادة.
وكذلك الصفات التابعة للحدوث، مثل كون الجوهر متحيِّزاً وقابلاً للعرض، فإذا جاز عنده إثبات صفاتٍ هي أحوالٌ أو وجوهٌ واعتباراتٌ زائدة على الوجود (6) لا يتعلق بها القادرية وهي معقولة ومفهومة، فكيف يُستَبْعَدُ إثبات وجه
__________
(1) في (ش): الأول.
(2) في (ش): فإن ربه، وهو تحريف.
(3) " هو" لم ترد في (ش).
(4) في (أ): الشيئة، وفي (ش): التشبيه.
(5) في (أ): وتقدم.
(6) في (ش): الذات.(7/58)
أثرِ القُدرة الحادثة معقولاً ومفهوماً.
ومن أراد تعيين ذلك الوجه الذي سمَّيناه حالاً، وأثبته أثراً، فطريقه أن يجعل حركة إما (1) اسم جنسٍ يشمل (2) أنواعاً وأصنافاً، أو اسم نوعٍ يتمايز بالعوارض واللوازم، فإن الحركة تنقسم إلى أقسامٍ، فمنها ما هو كتابةٌ، ومنها ما هو قولٌ، ومنها ما هو صناعة باليد، وينقسم كل قسمٍ أصنافاً، فتكون كونها حركة كتابةً، وكونها صناعة متمايزين، وهذا التمايز راجعٌ إلى حالٍ في إحدى الحركتين يُمَيِّزُها (3) عن الثانية، مع اشتراكهما في كونهما حركةً.
وكذلك الحركة الضرورية والحركة الاختيارية فتضاف تلك الحال إلى العبد كسباً وفعلاً، ويُشْتَقُّ له منها اسمٌ خاص مثل: قام وقعد، وقائِمٌ وقاعدٌ، وكتب وقال، وكاتبٌ وقائلٌ، ثم إذا اتصل به أمرٌ ووقع ذلك على وفق الأمر سُمِّي عبادةً وطاعةً، فإذا اتصل به نهيٌ ووقع على خلاف الأمر سُمِّي جريمةً ومعصيةً، ويكون ذلك الوجه هو المكلَّف به، وهو المقابل بالثواب والعقاب كما قال الخصم: إن الفعل يقابل بالثواب والعقاب لا من حيث إنه موجودٌ، بل من حيثُ إنه حسنٌ وقبيحٌ، فالحسن والقبح حالتان زائدتان (4) على كونه فعلاً، وعلى كونه موجوداً، والخصم أبعد من العدل، فإنه أضاف إلى العبد ما لم يُقابَلْ بثوابٍ ولا عقابٍ، وقابَلَ بالثواب والعقاب ما لم يكن من آثار قدرة العبد.
والقاضي الباقِلاَّني عيَّن الجهة التي لا تقابل عنده بالجزاء وهي الوجود، فأثبتها فعلاً للرب سبحانه، وعيَّن الجهة التي هي تُقابَلُ بالجزاء وهي كونُ ذلك الوجود طاعةً أو معصيةً، فأثبتها من فعل العبد وكسبه، ثم قابلها بالجزاء، وذلك هو العدل. إلى آخر ما ذكره من تقرير هذا المذهب، وهو كلامٌ طويلٌ.
__________
(1) في (أ) و (ف): ما، وهو خطأ.
(2) في (ش): يشتمل.
(3) في (أ): بتميزها، وكتب فوقها " يميزها: ط "، وفي (ش): يتميز بها.
(4) في (أ): زائدان، وهو خطأ.(7/59)
وفي هذا القدر كفايةٌ مع ما يَرِدُ من ذكر الشهرستاني لمذاهب المعتزلة والجواب عنه.
ثم ذكر أن كلام المعتزلة ينحصر في مسلكين (1): أحدهما: مَدْرَكُ العقل (2)، والثاني: مَدرَكُ السمع.
قال: أما الأول: فهو أن الإنسان يُحِسُّ (3) من نفسه وقوع الفعل على حسب الدواعي والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرَّك، وإذا أراد أن يَسْكُنَ سكن، ومن أنكر ذلك، فقد جحد الضرورة، ولولا صلاحية القدرة الحادثة لإيجاد ما أراد لما أحس (4) من نفسه ذلك، قالوا: وأنتم توافقونا على إحساس التفرقة بين حركتي الضرورة والاختيار، ولم يَخْلُ من أحد أمرين:
إما أن يرجع إلى نفس الحركتين من حيث إن إحداهما واقعةٌ بقدرته، والأخرى واقعة بقدرة غيره.
وإما أن يرجع إلى صفةٍ في القادر من حيث إنه قادرٌ على أحدهما أو غير قادر (5) على الآخر، وإن كان قادراً فلا بد من تأثيرٍ ما في مقدوره، ويجب أن يتعين الأثر في الوجود، ولأن حصول الفعل بالوجود لا بصفةٍ أخرى تقارن الوجود، وما سميتموه كسباً فغير معقولٍ، فإن الكسب إما أن يكون شيئاً موجوداً أم لا، فإن كان شيئاً موجوداً فقد سلَّمْتُمُ التأثير في الوجود، وإن لم يكن موجوداً، فليس بشيء فلا تأثير.
وأكدوا هذا بقولهم: إثبات (6) قدرةٍ لا تأثير لها كنفي القدرة، فإن تعلقها بالقدرة كتعلق العلم بالمعلوم، ولا يجد الإنسان تفرقة بين حركتين في أن
__________
(1) في (ش): مسألتين.
(2) في (ش): الفعل، وهو خطأ.
(3) في (أ): يحسن، وهو خطأ.
(4) في (أ): أحسن، وهو خطأ.
(5) في (ش): وهو قادر.
(6) في (ش): إن إيثار، وهو تحريف.(7/60)
إحداهما (1) معلومةٌ، والثانية مجهولةٌ، ويجد التفرقة بينهما في أن إحداهما (1) مقدورةٌ، والثانية غير مقدورةٍ.
قال الشهرستاني في الجواب مع اختصار بعضه: ما ذكرتُموه من التفرقة بين الحركتين، إما الوجدان فمُسَلَّمٌ، ولكن ما قلتم من أنها راجعةٌ إلى أن إحداهما (2) موجودةٌ بالقدرة الحادثة فغيرُ مُسَلَّمٍ، وأحال إلى ما تقدم من البيان، ثم عطف بنحو ما تقدم.
إلى أن قال: فالوجود من حيث هو وجود (3) إما خيرٌ مَحْضٌ، وإلا لا خيرٌ ولا شرٌّ انتسب (4) إلى الله سبحانه إيجاداً وإبداعاً (5) وخلقاً، والكسب المنقسم إلى الخير والشر منتسبٌ إلى العبد فعلاً واكتساباً، وليس ذلك مخلوقاً بين خالقين، بل مقدورٌ بين قادرين من جهتين مختلفتين، أو مقدورين متمايزين، ولا يُضاف إلى أحد القادرين ما يضاف إلى الثاني.
إلى أن قال: المسلك الثاني لهم في إثبات الفعل للعبد (6) ايجاداً قولهم: التكليف متوجِّهٌ إلى العبد بافْعَلْ، أولا تفعلْ، فلم يَخْلُ الحال من أحد أمرين: إما أن لا يتحقق من العبد فعلٌ أصلاً، فيكون التكليف سَفَهاً وعَبَثاً، ومع كونه سفهاً يكون متناقضاً، فإن تقديره: افعَلْ يا مَنْ لا يفعلُ.
وأيضاً فإن التكليف طلبٌ، والطلب يستدعي مطلوباً ممكناً من المطلوب منه، وإذا (7) لم يُتصوَّر منه فعلٌ بَطَلَ الطلب.
وأيضاً فإن الوعد والوعيد مقرونٌ بالتكليف، والجزاء مقدر (8) على الفعل
__________
(1) في (أ): أحدهما، وهو خطأ.
(2) في (أ): أحدهما، وهو خطأ.
(3) في (ش): فالوجود ممن هو موجوداً، وهو خطأ.
(4) في (ش): ينسب.
(5) في (ش): ابتداعاً.
(6) " للعبد " سقطت من (ش).
(7) في (ش): وإن.
(8) في (ش): مقدور.(7/61)
والتَّرك، فلو لم يحصل من العبد فعلٌ ولم يتصور ذلك بَطَلَ الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، فيكون التقدير: افعل وأنت لا تفعل، ثم إن فعلتَ ولم تفعل فيكون لك الثواب أو العقاب على ما لم تفعل، وهذا خروجٌ عن قضايا الحِسِّ، فضلاً عن قضايا العقول، حتى لا يبقى فرقٌ بين خطاب الإنسان العاقل، وبين خطاب الحمار، فلا فصل بين أمر التَّسخير والتعجيز، وبين أمر التكليف والطلب.
قالوا: ودَعِ التكليف الشرعي، أليس المتعارف منا، والمعهود بيننا مخاطبة بعضنا بعضاً بالأمر والنهي، وإحالة الخير والشر على المختار، وطلب الفعل الحسن، والتحذير عن الفعل القبيح، ثم تُرَتَّبُ المجازاة على ذلك.
فمن أنكر هذا فقد خرج عن حد العقل خروج عناد، فلا يُناظَرُ إلاَّ بالفعل كمناظرة السُّوفِسْطائِيَّة (1) فيُشتَم ويُلطَمُ، فإن غضب من الشتم وتألم من اللطم، وتحرك للدفع والمقابلة (2) فقد عرف بأنه رأى من الفاعل شيئاً يوجب الجزاء والمكافأة، وإلا فما له غَضِبَ منه، وأحال الفعل عليه.
والجواب من وجهين: أحدهما: الإلزامات على مذهبهم، والثاني: التحقيقُ على مذهبنا.
الأول: نقول: عَيِّنُوا لنا ما المُكَلَّفُ به، فإن القول بأن التكليف متوجِّهٌ على العبد ليس يُغني في تقدير أثر القدرة الحادثة وتعيينه.
فإن قلتم: المكلَّف به هو الوجودُ من حيث هو وجودٌ، لا من حيث كونه قبيحاً وحسناً، ومن المعلوم أن المطلوب بالتكليف (3) مختلف الجهة، فمنه: واجبٌ مطلوبٌ فِعْلُه، ومنه: حرامٌ مطلوبٌ تَرْكُهُ.
وإن قلتم: المكلَّف به هو جهة الوجود، وهو الذي يستحق المدح والذم
__________
(1) في (أ): السوفصطائية.
(2) في (ش): والمقاتلة.
(3) في (ش): أن المكلف به.(7/62)
عليه، فمُسَلَّمٌ، وذلك الوجه ليس (1) يندرج تحت القدرة عندكم، بل هو صفةٌ تابعةٌ للحدوث، فيا هو المكلف به حقيقةً لم يندرج تحت القدرة، وما اندرج تحت القدرة لم يكن مكلفاً به.
فإن قيل: المقدور هو وجود الفعل، إلاَّ أنه يلزمه وجود ذلك الوجه المكلف به لا مقصوداً في الخطاب.
قيل: وما يُغنيكم هذا الجواب، فإن التكليف لو كان مُشعِراً بتأثير القدرة في الوجود، لكان المكلَّف به هو الوجود من حيث هو وجودٌ لا غير، ولكان تقديرُ الخطاب أوجد الحركة التي إذا وُجِدَتْ وُجِدَ (2) معها كونها حسنةً وعبادةً وصلاةً وقُربَةٌ، فما هو مقصودٌ بالخطاب غير موجودٍ بإيجاد العبد، فيعود الإلزام عكساً عليكم: افعل يا من لا يفعل.
فليت شعري أي مكلفٍ به يندرج تحت قدرة المكلف، ولا يندرج تحت قدرة غيره، وبين مكلفٍ به يندرج تحت قدرة المكلف ولا يندرج (3) من جهة ما كُلِّفَ به، والمندرج تحت قدرة غيره من جهة ما لم يُكَلَّف به، أليست القضيتان لو عُرِضَتا على محل العقل، كانت الأولى أشبه بالخبر.
إلى قوله: لزمهم (4) الأعراض التي اتفقوا على أنها حاصلةٌ بإيجاد الله تعالى، وقد ورد الخطاب بتحصيلها وتركها، وتوجه الثواب والعقاب عليها، وهي أيضاً مما يتعارفه الناس ويتداولونه مثل بعض الألوان والطعوم، واستعمال الأدوية والسموم والجراحات المُزْهِقَةِ للرُّوح، والفهم عقيب الإفهام، والشِّبَع عقيب الطعام، إلى غير ذلك، فإن هذه كلها حاصلةٌ بإيجاد الباري، وقد ورد الخطاب بتحصيلها عقيب أسبابٍ يُباشِرُها العبد، ووجهُ الإلزام أن الخطاب يتوجَّهُ بتحصيل أعيانها مقصوداً، ولذلك يُعاقَبُ عليه ويُمدَحُ.
__________
(1) " ليس " سقطت من (ش).
(2) " وجد " سقطت من (ش).
(3) " ولا يندرج " سقطت من (ش).
(4) في (ش): لنا إلزامهم.(7/63)
ومن المعلوم أن من استأجر صبَّاغاً ليُبَيِّضَ ثوبه فسوَّدَه غَرِمَ، ومن قتل إنساناً بالسُّمِّ، استَوْجَبَ القَوَدَ، ومن أحرق ثوب إنسانٍ، أو غرَّق سفينة، أو فتح نقباً حتى هلك زرعٌ أو خَرِبَتْ دارٌ، عُوقِبَ على ذلك وضَمِنَ وغَرِمَ، فمورِدُ التكليفِ غير ما اندرج تحت القدرة، وما اندرج تحت القدرة غير مَورِدِ التكليف.
والجوابُ عن السؤال من حيث التحقيق: أنا قد بيَّنَّا وجه الأثر الحاصل بالقدرة الحادثة، وهو وجهٌ أو حالٌ مثل ما أثبتوه للقادرية والأزلية، فخذوا من العبد ما يُشابِهُ فعل الخالق عندكم، ولينظر إلى الخطاب بافعَلْ أو لا تفعل (1)، أو خُوطِبَ أوْجِدْ أو لا تُوجِد، أو خوطِبَ: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، فجهة العبادة التي هي أخصُّ وصف الفعل حاصلٌ بتحصيل العبد مضافٌ إلى قُدرته، فما ضرَّكم (2) إضافة أخرى يعتقدها وهي مثل ما اعتقدتموه تابعاً.
فالوجود عندنا كالتابع أو كالذاتي الذي كان ثابتاً في العدم عندكم، والفرقُ بيننا أنا جعلنا الوجود متبوعاً وأصلاً، وقلنا: هو عبارةٌ عن الذات والعين، وأضفنا إلى الله تعالى وجميع ما يلزمه من الصفات، وأضفنا إلى العبد ما لا يجوز إضافته إلى الله تعالى، حيث لا يقال: أطاع الله وعصى الله، وصام وصلَّى وباع واشترى ومشى، فلا تتغيَّرُ صفاته بأفعاله، بخلاف ما يضاف إلى العبد، فإنه يُشتَقُّ له وصفٌ واسمٌ من كل فعلٍ يباشره وتتغير ذاته وصفاته بأفعال، ولا يجحد العلماء بجميع (3) وجوه اكتسابه وأعماله، وهذا معنى ما قاله الأستاذ أبو إسحاق: إن العبد فاعلٌ بمعنى، والرب سبحانه فاعلٌ بمعنى.
ثم ذكر الشهرستاني الجواب على أصل الأشعري والجبرية الخُلَّص بنحو ما تقدم من قول الرازي عنهم، إلى أن قال: ومما يُوضِحُ الجواب غاية الإيضاح أن التكليف بافْعَلْ ولا تفعل، ورد بالاستعانة بالله تعالى في نفس المكلف به كقوله: {اهْدِنا الصِّرَاطَ المستَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، وقوله: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا
__________
(1) في (أ): أو يفعل، وهو خطأ.
(2) في (ش): يضركم.
(3) مكان قوله: " ولا يجحد العلماء " في (ش) بياض.(7/64)
بَعدَ إذْ هَدَيتَنا} [آل عمران: 8].
وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {واصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ} [النحل: 127] لأنه قصر إمكان المأمور به على إعانة الله تعالى، وحصره فيها.
قال: وسواءٌ كانت الهداية بنفسها المسؤولة بالدعاء أو الثبات عليها، فلا شك أن العبد لو كان مستقلاًّ بإنشائها بقدرته مستنداً بالثبات عليها، كان مستغنياً عن هذه الاستعانة، ثم الله سبحانه يمُنُّ على من يشاء من عباده بأن هَدَاهُمْ إلى الإيمان، وعند الخصم هو محمولٌ على خلق القدرة، وهي صالحة للضدين جميعاً على السواء، وذلك يبطل قضية الامتنان بالهداية، قال الله تعالى: {بَلِ الله يَمُنُّ عليكُمْ أنْ هَدَاكُمْ للإيمانِ} [الحجرات: 17].
وتحقيق ذلك من غير حَيْدٍ عن الإنصاف أن العبد كما يُحِسُّ من نفسه التمكن من الفعل يُحِسُّ الافتقار والاحتياج إلى مُعِينٍ في كل ما يتصرف ويجد في استطاعة، وفِقدان الاستقلال والاستبداد بالفعل في كل ما يأتي ويَذَر، ويُقَدِّمُ ويؤخر من تصرفات فِكْرِهِ نظراً واستدلالاً، ومن حركات لسانه قِيلاً وقالاً، ومن تردُّدَات يديه يميناً وشمالاً، فيُحِسُّ الاقتدار على النظر، ولا يُحِسُّ الاقتدار على عدم العلم بعد حصول النظر، فإنه لو أراد أن لا يحصل العلم لم يتمكن منه، ويُحِسُّ من نفسه تحريك لسانه بالحروف، ولو أراد أن يُبَدِّلَ المخارج ويغير الأصوات حَسَّ (1) ذلك، ويُحِسُّ تحريك يده وأَنْمَلَتِه، ولو أراد تحريك جزءٍ واحدٍ من غير تحريك (2) الرِّباطات المتصلة لم يتمكن من ذلك.
وعند الخصم القدرة صالحةٌ للأضداد والأمثال وهي متشابهة في القادرين، والعبد مستقلٌّ بالإيجاد والاختراع وليس لله من هذه الأفعال إلاَّ خلق القدرة، واشتراط النية وهو من أضعف ما يُتصور، والحق في المسألة تسليم التمكن والتأنِّي والاستطاعة على الفعل على وجهٍ يُنْسَبُ إلى العبد معه وجهٌ من الفعل
__________
(1) في (ش): من.
(2) " تحريك " لم ترد في (ش).(7/65)
يليق بصلاحية قدرته واستطاعته وإثبات الافتقار والاحتياج إلى الله تعالى، ونفي الاستقلال والاستبداد، فيجد في التكليف مورداً إلى موردي الخطاب فعلاً واستطاعةً، ويصادف في الجزاء تفضُّلاً ومقابلة، والله أعلم، وهو الموفق سبحانه.
انتهى كلام الشهرستاني في " نهاية الإقدام "، وبعضه يحتاج إلى شرحٍ لمن لم يَتَدَرَّبْ في علم الكلام، ولكن قد طال الكلام، والزيادة على هذا تُورِثُ السَّآمة والملل.
وقد أوجز الرازي العبارة في تفسير الكسب، فقال في كتاب " الأربعين ": إن الله تعالى يخلق الحركة المطلقة بقدرته سبحانه، والعبد بقدرته يجعل تلك الحركة صلاةً وظلماً، أو كما قال.
وقال الرازي في " النهاية " والشيخ مختار في (1) " المجتبى " في تفسير طريقة الباقِلاَّني في الكسب: هي أن القدرة الحادثة وإن لم تكن مؤثِّرَةً في وجود الفعل، لكنها مؤثرة في وجود صفةٍ له، وهي كونه طاعةً ومعصيةً. انتهى.
قلت: وبعض المتكلمين من الأشعرية كإمام الحرمين وأصحابه وبعض المعتزلة كأبي هاشم وأصحابه شَنَّعُوا على أهل الكسب في قولهم: إنه غيرُ معقولٍ، فإن معنى " غير معقول " (2) أنه يستحيل تصوُّرُه في الذهن وتفهمه، وإذا استحال ذلك، استحال الجواب المعين عليه بالبطلان، وهذا غلوٌّ في العصبية فاحش وليس كذلك (3)، ولا في معناه شيء من الغموض والدقة، فإن الكسب هو فعل العبد بعينه الذي هو الطاعات والمعاصي والمباحات وسائر التصرفات، وهذا شيءٌ ليس فيه دقةٌ، وإنما اختاروا تسمية فعل العبد بالكسب دون الفعل،
__________
(1) " في " سقطت من (أ).
(2) عبارة " فإن معنى غير معقول " ليست في (أ) و (ف).
(3) " وليس كذلك " لم ترد في (أ).(7/66)
ومعناهما واحدٌ عندهم، لأن الكسب يختص بفعل العبد دون فعل الرب، ولا يجوز أن يسمى الله تعالى كاسباً بخلاف الفعل فإنه مُشتَرَكٌ، فيجوز أن يُسَمَّى الله تعالى فاعلاً، وأن يُسَمَّى العبد فاعلاً، ثم الله تعالى يختص باسم الخالق المبدع المخترع، والعبد يختص باسم المطيع والعاصي وسائر أنواع الأفعال.
ولما كان الكسب يعُمُّ الطاعة والمعصية، ويختص بفعل العبد دون فعلِ الرب عز وجل، اختاروه (1) في التعبير عن فعل العبد كما اختاروا الخلق في التعبير عن فعل الرب عزَّ وجلَّ مع اعترافهم أن الفعل والكسب صادرٌ (2) عن العبد، وأنهما مترادفان، وله يُنْكِروا أفعال العباد، ولكن خصَّصُوها لتميز بعض أسمائها (3) الصحيحة لغة وشرعاً ونصّاً وإجماعاً وهو الكسب.
فإن كان المعتزلي لم يعرف ما الكسب، فليبحث كتب اللغة والتفسير، وليسأل ما معنى قول الله تعالى: {لها مَا كَسَبَتْ وعَلَيها ما اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله تعالى: {وتَشْهَدُ أرجُلُهم بما كانوا يكسِبُونَ} [يس: 65] وأمثال ذلك.
فإن قال: هو أعمال العباد من الواجبات والمحرمات، ترك مذهبه وأقرَّ بما قاله أهل الكسب، وإن فسَّره بتفسير المعتزلة ومذهبهم، وهو أمرٌ رابع ليس هو ذات الشيء ولا وجوده ولا كليهما (4)، فقد جاء في (5) المثل: رمتني بدائها وانسَلَّتْ (6)، وأين الكسب وجلاؤه ووضوحه من إثبات الذوات في الأزل،
__________
(1) في (ش): اختاره، وهو خطأ.
(2) في (أ): صادرة.
(3) في (ش): أسبابها، وهو خطأ.
(4) في (أ) و (ش): كلاهما، وهو خطأ.
(5) " في " لم ترد في (أ) و (ف).
(6) يقال لمن عيَّر صاحبه بعيب هو فيه، وقصة المثل أن سعد بن زيد مناة بن تميم كان تزوج رُهْمَ بنت الخزرج بن تيم الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة، وكانت من أجمل النساء، فولدت له مالك بن سعد، وكان ضرائرها إذا ساببنها يقلن لها: يا عفلاء، فشكت ذلك إلى =(7/67)
ودعوى الفرق بين الثبوت والوجود، والقِدَمِ والأزل، والقديم والأزلي مع عدم معرفة أهل اللغة للفرق بينها، وإذا جاز لهم أن يصطلحوا في ذلك على ما لا يعرفه غيرهم، فما الذي حصر الاصطلاح على المجهولات عليهم، وحَظَرَهُ على غيرهم.
وقد حكى صاحب " شرح الأصول الخمسة " (1) عن الجاحظ أنه يقول: إن المؤثِّر في أفعال العباد هو الطبع.
وحكى عن ثُمامة بن الأشرس أنه يقول: إنها حوادث لا مُحْدِثَ لها (2)، فلم تَنْسُبِ المعتزلة إليهما من الجبر والتشنيع نحو ما نسبته إلى أهل الكسب، فبهذا (3) يعرف أن فيهم أهل هوى، وإن لم يشعر بعضهم.
وقد غَلِطَ بعض متكلِّمي المعتزلة عليهم في مواضع:
الموضع الأول: ذكروا عن أهل الكسب أنهم يقولون: لا فاعل في الشاهد، وهذا غلطٌ فاحش، وقد تقرَّر في كلامهم الذي نقلته (4) عنهم أنهم يُسمون الكسب فعلاً، والمكتسب فاعلاً، وإنما يمنعون إطلاق الخلق والإيجاد والإبداع والاختراع متى كانت تُفيِدُ إخراج المعدوم إلى الوجود، وإنشاء عين (5) الذات الأزلية عند المعتزلة، مع أنهم لا يمنعون إطلاق هذه الأشياء في الشاهد
__________
= أمها، فقالت: إذا ساببنك، فابدئيهن بعَفَالِ سُبِيتِ، فسابَّتها بعد ذلك امرأةٌ من ضرائرها، فقالت لها رُهم: يا عفلاء -كما وضحتها أمها- فقالت لها السابَّة: " رمتني بدائها وانسلَّت "، فأرسلتها مثلاً. انظر " مجمع الأمثال " 1/ 102 و286، و" المستقصى في أمثال العرب " 2/ 103، و" فصل المقال " ص 92 - 93، و" لسان العرب " 11/ 457، و" زهر الأكم " 3/ 60 - 61.
(1) " الخمسة " لم ترد في (أ)، وصاحب الكتاب هو قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، وانظر حكاية قول الجاحظ فيه ص 387.
(2) " شرح الأصول " ص 388.
(3) في (ش): بهذا.
(4) في (أ) و (ف): نقله.
(5) في (ش): غير.(7/68)
على غير هذا المعنى، فإنه يجوز نسبة الخلق إلى العبد متى صُرِفَ عن ذلك المعنى إلى معنى التقدير، كما قال تعالى عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]، وكما قال سبحانه: {فتبارَكَ الله أحْسَنُ الخَالِقينَ} [المومنون: 14].
وكذلك الخلق بمعنى الكذب، قال الله تعالى: {وتَخْلُقون إفْكاً} [العنكبوت: 17]، وأما الخلق الذي يختص بالله تعالى هو إنشاء عين الذات، وعلى هذا قال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غيرُ الله} [فاطر: 3] وأمثالها.
الموضع الثاني: ذكروا عنهم أنهم لا ينسبون الاختيار إلى الفاعل من العباد، وأنهم ينسبونه إلى الله تعالى، وهذا لم يصح عن الجبرية الأشعرية كما تقدم، فكيف بأهل الكسب؟
وقد تقدم تصريحهم بخلاف ذلك، وتكذيبهم في حكايتهم لمذاهبهم حرامٌ بالإجماع، ولو فتحنا باب التكذيب لأهل المذاهب لم تكن فِرقةٌ أولى به من فرقةٍ، ولانسَدَّ باب نقل المقالات عن أربابها.
الموضع الثالث: ذكروا عنهم أنهم يقولون: قدرة العبد على الكسب مقارنةٌ لمقدورها، فلا تؤثر فيه، ولا يخرجهم القول بالكسب عن الجبر. وهذا جحدٌ لصريح ردهم على الأشعري في قوله: قدرة العبد متعلقةٌ بفعله غير مؤثرةٍ فيه.
وقد تقدم تصريحهم بالرد عليه كما في كلام الباقلاني (1) الماضي، وسيأتي ردُّ ابن الحاجب عليه في مواضع من " مختصر المنتهى ".
وقد ذمَّ صاحب " الخارقة " منهم صاحب " الرادة " بأنه يرمي أهل الكسب بمذاهب أهل الجبر، ونص على أن الكسب غير معقولٍ، ويجتزىء بهذا القدر في إبطاله، وعابَه بهذا أشد العيب، وتمثل في الرد عليه بقول الشاعر:
__________
(1) في (ش): بالرد عليه كالباقلاني، وهو خطأ.(7/69)
أتانا أن سهلاً ذمَّ جهلاً ... علوماً (1) ليس يعرفهنَّ سهلُ
ولو لم يخلُ منها ذَبَّ عنها ... ولكن الرضا بالجهل سهلُ
فإن قيل: كيف يصح القول بالكسب وهو مبنيٌّ على أن الله تعالى يوجبُ ذات فعل العبد، وأن العبد أكسب تلك الذات صفة الحسن والقبح، وليس يصحُّ أن تكون الذاتُ لفاعلٍ، وصفتها لفاعلٍ آخر.
فالجواب أن من (2) أورد هذا السؤال، فقد عقل ماهية الكسب، وبطل دعواهُ أنه غير معقولٍ، ودعواه أنه قولُ الجبرية، ودعواه أنه كفرٌ، فإنه يؤدي إلى تلك الشناعات، ولم يبق إلاَّ أنه صوابٌ أو خطأ، وهذا سهلٌ، فإن المعتزلة عشرُ فِرَقٍ، وبين أبي علي وأبي هاشم والبصرية والبغدادية وأصحاب أبي الحسين من الاختلاف في القطعيات ما هو أكثر من هذا، وهذه المسألة بعينها مما اختلفوا فيه.
وقد جوَّز أبو (3) الحسين ما منعه السائل من كون الذات الجسمية فعلاً لله تعالى، وصفتها الكونية في الجهات فعلاً للعبد، وكفى وشفى في الرد على من منع ذلك، ومن أحبَّ ذلك فليطالع كتبه وكتب أصحابه مثل محمود بن الملاحِمِي (4)، وصاعد، ومختار صاحب " المجتبى "، والإمام يحيى بن حمزة.
ومن أرَكِّ (5) ما جاءت به البهاشمةُ في منع ذلك أنهم احتجوا بكلامنا وكلام الغير، قالوا: فإنا لما (6) قدرنا على ذات كلامنا، قدرنا على جعله على جميع صفاته من كونه خبراً أو إنشاءً، ولما لم نقدر على كلام الغير لم نقدر على
__________
(1) في (ش): أموراً.
(2) " من " سقطت من (أ).
(3) في (أ) و (ش): أبي، وهو خطأ.
(4) في (أ): محمود الملاحمي، ومحمود بن الملاحمي هذا ذكره أحمد بن يحيى بن المرتضى في " المعتزلة " ص 71 فقال: ومن تلامذة أبي الحسين البصري الشيخ النِّحرير محمود بن الملاحمي مصنف " المعتمد الأكبر ".
(5) في (ش): أدرك، وهو تحريف.
(6) " لما " سقطت من (ش).(7/70)
جعله على شيء من تلك الصفات، فدارت العلة على القدرة على الذات وجوداً وعدماً.
فنقض أبو الحسين ما ذكروا بأنه (1) ليس لكلامنا بكونه خبراً أو إنشاءً صفةٌ حقيقية، لأنه لا يوصف بالخبر والإنشاء من الكلام إلاَّ الجُمَلُ، ويستحيل وصف الحرف الواحد بذلك، مع أنه لا يصح عند الخصم أن يوجد (2) من الكلام إلا الحرف بعد الحرف، والمعدوم لا يصح وصفه بصفةٍ حقيقيةٍ.
سلمنا أن كلامهم في هذه المسألة هو الصحيح دون كلام أبي الحسين، وأن كلام الشيخ أبي الحسين مع البهاشمة يختص بصفات الأجسام التي هي باقيةٌ دون التي لا بقاء لها كما يشير إلى ذلك كلام الشيخ مختار في " المجتبى " في الرد على من قال بالكسب، فإنه لا يلزم أهل الكسب منه شيء، لأن كلامهم في الكسب إنما هو إكساب (3) الذات صفات الحسن والقبح، وهي إضافيةٌ لا وجود لها، بدليل أنا نصف التروك بها، وليست التروك بأشياء على المذهب الصحيح وهو مذهب البهاشمة.
ولو سلمنا أن التروك أشياء، فالقول بأن الوجوب والتحريم ونحوهما ليست بأشياء حقيقيةٍ وإنما هي أوصافٌ إضافية كلمة إجماعٍ بين المتكلمين، ولو كانت أعراضاً وجوديةً، لوجب قيامُ العَرَض بالعَرَض، فإن الصلاة عَرَضٌ، فلو كان وجوبها عرضاً آخر وهي متصفة به، لكان العرض قد حل العرض.
وخلاصة مذهبهم أن الهَمَّ بالفعل اختيار وقوعه على الوجوه من أثر قدرة العبد، وذلك سابقٌ على حدوثه الذي هو قدرة الله، فلما كان الله يخلق حدوث الفعل في العبد بعد همِّ العبد واختياره المؤثر في حسن كسب العبد وقبحه (4)،
__________
(1) في (ش): به أنه، وهو تحريف.
(2) في (ش): يؤخذ، وهو خطأ.
(3) في (ش): اكتساب، وهو خطأ.
(4) في (أ): وكسبه، وهو خطأ، والمثبت من (ش)، وقد كتبت على الصواب فوق الكلمة في (أ).(7/71)
وتسميته بأخصِّ أسمائه لم يمنع ذلك لتقدم اختيار العبد في نيته من فعل الله تعالى لشعوره به قبل وقوعه وحال وقوعه (1)، فإنه إنما وقع على جهة الامتحان عندهم، كما يؤثر الله في التفريق عند السحر عند الجميع على جهة الامتحان، وكما يؤثر سبحانه في قبض الأرواح عند فعلنا لسبب ذلك.
وكذلك سائر المسبَّبَات عند الجميع فتؤثر نية العبد في المسببات إجماعاً مع عدم استقلاله في ذلك إجماعاً، والتشاغلُ بمثل هذا يحتاج إلى الاعتذار.
ولولا أن القصد بذكره أن يكون وسيلةً إلى ترك التكفير لمن غَلِطَ في هذه الدقائق التي لا تُعْلَمُ ضرورة من الدِّين، فإني ما قصدت إلاَّ هذا، ولم أقصد تصحيح القول بالكسب دع عنك الجبر، فإن المختار عندي قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة، وابن تيمية وأصحابه من أهل السنة، فإنهم قد صححوا أن الحركة والسكون وَصْفَانِ إضافيان تابعانِ للذات، ولهم ردودٌ قوية على من زعم أن الأكوان ذواتٌ ثُبوتيةٌ، وأين من يعرف ما قالوا كيف الأمر برده بالبراهين القاطعة (2).
ولو ذهب ذاهب من أهل الكسب إلى مذهبهم لجوز تأثير قُدرة العبد في الأكوان، ونزَّلَها أنفسها منزلة الوجوه والاعتبارات عند الباقلاني، وهو مذهبٌ صحيح الاعتبار، قوي الأساس على قواعد النظار.
وإذا ضمه الجويني إلى ما اختار، لم يبق عليه غُبار، ومنتهى ما يلزم أهل الكسب أن يكون فعل العبد، وخلق الرب سبحانه مقدورين مختلفين معنىً، متلازمين وجوداً، بين قادرين غير متمانعين، ولا ماء من ذلك قاطعٌ بحيثُ يمنع قدرة الله تعالى عن أن يشرك العبد في فعله هذه المشاركة، بل منتهى ما فيه مقدورٌ واحدٌ بين قادرين، وقد جوزه أبو الحسين وأصحابه من المعتزلة وجماهيرُ الأشعرية، وليس فيه كفرٌ ولا فسوقٌ ولا عصيان ولا مُروق.
__________
(1) " وحال وقوعه " لم ترد في (أ)، و (ف).
(2) في (أ): وإن من يعرف ما قالوا كيف من يرده بالبراهين القاطعة.(7/72)
ومتى كان الخطأُ متوقِّفاً على مثل هذه الدقائق لم يكن التكفير فيه بلائقٍ، وهدا هو مقصودي (1) بوُلُوج هذه المضايق والبحث عن الحقائق، والله تعالى عند لسان كل ناطقٍ، وسريرة كل كاذبٍ وصادقٍ، لأن هذا الكتاب إنما صُنِّفَ في الذب عن السنة النبوية لا في الذب عن الجبرية، ولا عن الأشعرية، لكن الذي أنكر صحة السنن النبوية وصحة التمسك بها توسَّل إلى ذلك بأن رُواتها أو كثيراً منهم جبرية كفار تصريحٍ، متعمِّدُون للكذب على الله تعالى ورسوله، وجعل الأشعرية وخصومهم من أهل الحديث والجمود (2) من جملة الجبرية الخالصة الغلاة (3)، فقصدت تمييز بعضهم من بعض، لأنه كما ذكره الشيخ مختار المعتزلي في " المجتبى "، فإنه ميَّز أهل الكسب من غُلاة الجبرية الخالصة، وقال: إنه المشهور من مذهبهم، وإنه قول أكثر أهل السنة فنُفْرِد لكل واحد من المُجْبِرةِ الخالصة والكسبية مسألةً على حَِدَةٍ. انتهى كلامه بحروفه.
وقد أوضحت في المجلد الأول (4) إجماع الأمة والعترة على قبول أهل التأويل من طرقٍ عديدة من طريق العترة والشيعة والمعتزلة وأهل السنة، وإنما كلامي هنا في بيان الوجه في قبول أهل الإجماع لأهل التأويل، وبيان دقة الأمر الذي تأولوا فيه، وبيان مراتب البدع، كل ذلك حتى لا يلزم انطماس السنن والآثار التي هي تفسير القرآن، وعليهما (5) عمل جميع أهل الإسلام والإيمان، وقد تقدم أنه يلزم مُنكِرُ ذلك أكثر من مئتي إشكال لما (6) يؤدي إليه من الضلال والإضلال، والله المستعان.
الفرقة الرابعة من أهل السنة: الذين قالوا: إن فعل العبد واقع بقدرته
__________
(1) في (أ) و (ف): مقصر، وهو تحريف، وقد كتبت فوقها على الصواب، وفي (ش): مقصدي.
(2) في (ش): والجحود، وهو خطأ.
(3) في (ش): العداة.
(4) انظر الجزء الثاني بتقسيمنا ص 316 وما بعدها.
(5) في (ش): عليها.
(6) في (ش): بما.(7/73)
لتمكين الله تعالى له ذلك، وسابق مشيئته وتقديره وتيسيره، والتأثير عندهم لقدرة العبد المخلوقة من غير استقلال العبد بنفسه، ولا استغنائه طَرْفَةَ عين عن ربه، لتوقُّف تأثير قدرته على ما سبقها من مشيئة ربه عزَّ وجلَّ وتقديره وتيسيره، وهذه الفرقة طائفتان:
الطائفة الأولى: الذين يقولون إن الأكوان التي هي أفعال العباد كالحركة والسكون ليست ذواتاً حقيقيةً، وإنما هي صفاتٌ إضافيةٌ. ومثال الصفات الإضافية: القبلية والبعدية، فإن اليوم " قَبْلٌ " بالنظر إلى غدٍ، و" بعدٌ " بالنظر إلى أمس، وليس له بذلك وصفٌ حقيقيٌّ كالسوادية والبياضية.
وهذا القول أعدل الأقوال كلِّها وأقواها، وهو المختار لمن سبح في هذه الغمرات، ولم يَقِفْ مع أهل الحديث والأثر في ساحل النجاة. وإنما كان أقوى هذه الاختيارات، لأنه سلم من جميع التكلُّفات، وساعدت عليه قواطع البراهين العقليات، والنصوص السمعيات، أخذ من قول أهل السنة: تأثير القدرة الحادثة في مجرد الأمور الإضافيات، وعدم تأثيرها في وجود الأشياء التي هي ذوات حقيقيات، وسَلِمَ من جميع ما تُورِدُه المعتزلة ويورده بعض الأشعرية على بعضهم من الإشكالات (1).
ولم يبق الخلاف بين أهله وبين سائر أهل المقالات إلاَّ في أن الأكوان صفاتٌ لا ذواتٌ، والدلالة على ذلك من أوضح الدلالات، وقد تقدم ما قلته في ذلك وشرحتُهُ من الأبيات.
وقد توافق على هذه المسألة جماعةٌ جِلَّةٌ من أمراء علم المعقولات والمنقولات، مثل شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن تيمية وأصحابه من متكلِّمِي أهل الحديث والأثر، والإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة من أئمة أهل البيت عليهم السلام، وشيخ الاعتزال أبي الحسين البصري وأصحابه، وهم
__________
(1) في (ش): على بعض الإشكالات.(7/74)
رجالُ المعتزلة كما قاله الفخر الرازي، وفي كتب هؤلاء من نُصْرَةِ هذا (1) المذهب ما يُغني عن التطويل بذكره ها هنا.
الطائفةُ الثانية: من يقول بأن الأكوان أشياءُ حقيقيةٌ وجوديةٌ، وذلك إمام الحرمين (2) أبو المعالي الجُوَيني وأصحابه، وعزاه الرازي في " النهاية " إلى الشيخ أبي إسحاق، قال الرازي في " النهاية ": صرح به الجويني في كتابه " النِّظامي "، ورواه الإمام يحيى بن حمزة في " التمهيد " عن الجويني، وصرح به الجويني في مقدمات كتاب " البرهان " له بأن القول بالكسب (3) تمويه بهذه العبارة، وقال فيه: وأما سِرُّ ما يعتقده في خلق الأفعال، فلا يحتمله هذا الموضع. انتهى بحروفه.
ثم إني لم أقف على قوله في ذلك منصوصاً في كتبه، لكن قال أبو نصرٍ السبكي في " جمع الجوامع " (4) له ما لفظه: وقال إمام الحرمين: خلق الطاعة.
وقال شارح " جمع الجوامع ": قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام ": وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثراً هو الوجود، إلاَّ أنه لم يثبت للعبد استقلالاً بالوجود ما لم يستند إلى سببٍ آخر، ثم تسلسل الأسباب في سلسلة الترقِّي إلى البارىء تعالى، وهو الخالق المُبْدعُ المستقِلُّ بإبداعه من غير احتياج إلى سبب، إلى قوله: وإنما حمله على تقرير ذلك الاحترازُ عن (5) رَكَاكَةِ الجبر.
قلت: لكنه رحمه الله وقع في ركاكة تأثير قدرة العبد في إخراج الذوات من العدم إلى الوجود، فلو قال: بما (6) اخترناه من أن الأكوان إضافيةٌ كالطائفة الأولى
__________
(1) في (أ) و (ف): أهل، وكتب فوقها تصحيحاً لها: هذا، وهو الصواب، وهي كذلك في (ش): هذا.
(2) من قوله " من يقول " إلى هنا سقط من (ش).
(3) في (ش): بأن الكسب.
(4) انظر " جمع الجوامع " مع حاشية العطار 2/ 469 - 470.
(5) في (ش): من.
(6) في (ش): كما.(7/75)
سَلِمَ من الرَّكاكتينِ في كِلْتا المقالتين.
قال الشهرستاني بعد قوله " إن الجويني فر من ركاكة الجبر ": والجبر لازِمٌ في كل تقديرٍ حتى الاختيار على المختار جبر.
قلت: هذا معنىً صحيحٌ، وقد قدمت ذكره في المرتبة الأولى، ولكنها عبارة مبتدعةٌ مكروهةٌ لأنها توهم خلاف الصواب، وهذا وَلَعٌ شديد بتسمية العبد مجبراً وإن لم يكن تحت هذه التسمية في الاختيار، كما ذلك دَأْبُ الرازي يطلقُ المجبر وهو يعني به المختار، ويقول: الصحيحُ هو الجبرُ، ويفسِّره بالاختيار (1)، وهذه مراغَمَةٌ للمعتزلة، وفيها مفسدةٌ بَيِّنَة، فإنها تُوهِمُ خلاف الصواب في اعتقاد أهل السنة، ويكون عُذراً للغالط عليهم في مذهبهم، وهذا وأمثاله هو الذي شبَّ نار الاختلاف، وبهَّج منار الاعتساف، وقد جوَّد الغزالي التحذير من هذا وأمثاله في مقدمة كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " فليطالع، فإنه مفيدٌ جداً.
وما الذي ألجأ الشهرستاني إلى القول بلزوم (2) الجبر على كل تقدير، وهو الذي أبطل مذهب الجبر، وادعى الضرورة في فساده، وصرَّح بأن من وقف على كلامه في الإرادة هانت عليه تمويهاتُ الجبرية بهذه العبارة كما تقدم.
واعلم أن الأساس الذي ينبني عليه قول هذه الفِرقة الرابعة في عدم استقلال العبد بنفسه، هو القول بأن الداعي الراجح موجبٌ لوقوع ما دعى إليه بالاختيار لذلك من الفاعل. وهذا القول مُجْمَعٌ عليه عند البحث، وإن كان يروى فيه الاختلاف الشديد فإنما (3) هو في العبارة كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى، وهو قول من قدمته من هاتين الطائفتين، وحكاه الرازي في " الأربعين " عن جمهور الفلاسفة، وهو اختيار الرازي.
وإنما ادعيت أن الخلاف فيه لفظي لأن القائمين بحرب أهله وتَعْفِيَة رسمه
__________
(1) من قوله " ويقول: الصحيح " إلى هنا سقط من (ش).
(2) في (أ): يلزم.
(3) في (ش): وإنما، وهو خطأ.(7/76)
هم المعتزلةُ غير أبي الحسين وأصحابه، ومع غُلُوِّ المعتزلة في إنكاره قد صرَّحوا بتصحيحه في أربع مسائل مهمةٍ:
المسألة الأولى قالت المعتزلة: إن الله تعالى قادرٌ على فعل القبيح مع أنه لا يفعله قطعاً، ما ذلك إلاَّ لرجحان الداعي إلى تركه، وبطلان الصارف المعارض للداعي، ومن قال: إن الداعي مُوجِبٌ لم يزد على ذلك شيئاً، فإن الرازي -وهو من الغلاة في إيجاب الداعي- صرح في " النهاية " إنه لم يرد بالإيجاب نفي الاختيار، وأن القول بذلك خروجٌ عن الإسلام.
المسألة الثانية: احتجوا على أن أفعالنا لنا لا لله تعالى بوقوعها على حسب قصورنا ودواعينا، وانتفائها على حسب كراهتنا وصوارفنا، وهذا الدليل لا نسلم صحته إلاَّ مع القطع باستمرار هذا التلازم بين رُجحان الداعي (1) ووجود الفعل على وجهٍ لا يجوز وقوع (2) خلافه في الخارج، إذ لو صح أن تكون أفعالنا في بعض الأحوال غير متوقِّفةٍ على دواعينا، لبطل الاستدلال، ومع تسليم استمرار التلازم يزول النزاع، فإنه الذي أراد من قال بأن الداعي موجبٌ.
المسألة الثالثة: احتجتَّ المعتزلة على ثُبوت التحسين والتقبيح عقلاً بأن من خُيِّرَ بين الصدق والكَذِب مع استواء الدواعي من كل وجهٍ إلاَّ أن أحدهما صِدْقٌ، فإن العاقل يختار الصدق ويفعله دون الكذب قطعاً بمُجَرَّد ترجيحه للصدق على الكذب (3) المرجوح بمجرد قدرته عليه، وهذا هو عين مذهب الأشعرية.
المسألة الرابعة: احتجت المعتزلة وسائر (4) المسلمين أن المشركين إنما لم يعارضوا القرآن الكريم لعجزهم عن المعارضة لا استحقاراً له، ولمن جاء به، ولذلك فإن (5) العقلاء إذا دُعُوا إلى أمرٍ يكرهونه ويهون عليهم لدفعه وإبطاله بَذْلُ
__________
(1) في (ش): الدواعي.
(2) " وقوع " لم ترد في (ش).
(3) من قوله " قطعاً بمجرد " إلى هنا سقط من (ش).
(4) في (ش): على سائر، وهو خطأ.
(5) في (أ) و (ش) و (ف): إن.(7/77)
أموالهم وأنفسهم، وكان من يدعوهم إلى ذلك يدعوهم بحجة يُبْرِزُها، وكانوا متمكنين من إيراد ما يدحضها من غير ضررٍ عليهم، ولا مشقة عظيمةٍ تلحقهم، فلا بد أن يأتوا بها، ومتى لم يأتوا بها (1) دل على أنهم غير متمكنين من الإتيان بها (1).
قال الجاحظ، ثم الإمام المؤيد بالله: ألا ترى أن واحداً لو جاء وادَّعى النبوة في قومٍ وهم له كارهون، ولتكذيبه مجتهدون، فقال لهم: معجزي أن من كلمته منكم في هذا اليوم لا يمكنه أن يجيبني بكلمةٍ، ثم أخذ يكلمهم طول النهار من غير أن يجيبه أحدٌ منهم مع قوة دواعيهم إلى توهين أمره، وتوهين أصحابه عنه بإظهار كذبه، دلَّنا ذلك على أن جوابه قد تعذر عليهم وأن ذلك حجة له، وهذا مما لا يختلُّ على أحد أنصف من نفسه على ما قلنا.
وجملة هذا الباب أن كل من علمنا من حاله أنه لا يفعل فعلاً ما مع وفور الدواعي إليه، وقوة البواعث عليه، ومع ارتفاع الموانع عنه، وفَقْدِ الحواجز دونه، يعلم أنه لم يفعله إلاَّ لتعذُّره عليه، لولا ذلك لم يكن لنا طريقٌ من جهة الاكتساب يُتوصَّل به إلى العلم بتعذر شيء على أحد. انتهى بحروفه من كتاب الإمام المؤيد بالله في إثبات النبوات الذي أخذه من كلام العترة والشيوخ، ولا سيما كتاب الجاحظ المستجاد (2) في هذا الباب، وفيما جمعه الإمام المؤيد بالله من ذلك عن العترة والشيوخ وسائر علماء الإسلام ما يطيب ويكثر، ويكاد يخرج عن الحصر من اجتماع الكلمة منهم على الاستدلال بتلازم الدواعي في الأفعال على ما نحققه هنا، ولكنا نقتصر على هذه الأربع المسائل على أن الواحدة منها كافيةٌ، فإن قليل البراهين العلمية في القوة مثل كثيرها. فهذه الأربع المسائل دلت على موافقة جميع المعتزلة في إيجاب الداعي مع بقاء الاختيار.
وأما موافقةُ الأشعرية على بقاء الاختيار مع القول بوجوب الداعي (3)،
__________
(1) في (أ) و (ف): به، وهو خطأ.
(2) في (أ): السجاد، وهو خطأ.
(3) في (ش): الدواعي.(7/78)
فنصوصهم الصريحة المتواترة، بل صرح الرازي ببقاء الاختيار في المعنى مع لزوم الجبر في اللفظ كما مضى (1).
وقد قصدت تكثير النقل لألفاظ الأشعرية في إثبات الاختيار ليُقابَلَ جحد بعض المعتزلة لذلك، وقد تقدم طرفٌ من ذلك، وأُرِدفُه هنا وفيما بعد بما يوجب الاضطرار إلى العلم باتفاق مقاصدهم على ذلك.
أما هنا فأُورِدُ كلام الرازي في " نهاية العقول "، لأنه من الغُلاة في تصحيح الجبر والمصرِّحين به، ومع ذلك فقال في مسألة خلق الأفعال من " النهاية " ما لفظه: قوله: الممكن يحتاج إلى المرجِّح في حق القادر أم في حق غيره؟
قلناة على الإطلاق، إلى أن قال: قوله: الهارب من السَّبُعِ يختار أحد الطريقين لا لمرجِّحٍ.
قلنا: لا نُسلِّمُ، بل الله تعالى يخلق فيه إرادةً ضروريةً لسلوك أحد الطريقين دون الآخر، فأما إن لم يخلقها فيه توقَّف، كما أنا توافقنا على أن الله تعالى لو خلق فيه صارِفاً عن العدو، فإنه يترك العدوَّ والفِرار.
إلى أن قال في تجويز أسئلة المعتزلة: قلنا: هذا الكلام يقدح في كون الله تعالى فاعلاً مُوجِداً، بيانه: أن صدور الفعل عن قادريَّتِه إما أن يتوقف على داعٍ مرجح أو لا، فإن لم يتوقف فلم لا (2) يجوز مثله في العبد، وإن توقف، فإما أن يكون حصول ذلك الفعل واجباً مع ذلك المرجِّح أو لا، فإن كان واجباً، لزم من قدم إرادته قِدَمُ مُرادِهِ، فيكون ذلك قولاً بقدم العالم، ولأن أفعال العباد من جملة مراداته عندكم، فيلزم قدم أفعال العباد، وذلك معلوم الفساد بالبديهة، وإن لم يكن حصول الفعل في حقه تعالى واجباً مع ذلك المرجح، فلم لا يجوز مثله ها هنا، إلى قوله في وجوب هذا.
__________
(1) في (ش): في الدليل الذي مضى.
(2) " لا " ساقطة من (أ) و (ش).(7/79)
قوله: هذه (1) الحجة تنفي كون الله تعالى مُوجِداً.
قلنا: لا نُسَلِّمُ.
قوله: إما أن تكون أفعاله واجبةً، أو لم تكن.
قلنا: بل هي واجبة، فإن الله تعالى كما إرادته واجبةٌ، وصفاته واجبةٌ، فتعلُّقات صفاته بمتعلقاتها واجبة (2).
فعلى هذا نقول: تعلق إرادة الله تعالى بإيقاع الحادث المتعيِّن في الوقت الفلاني واجبةٌ، ولما كان ذلك التعلق (3) واجباً، استغنى عن مرجِّحٍ آخر، فلما كانت الصفة متعلِّقةً بتخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت المخصوص لا جَرَمَ، لم (4) يلزمنا قدم العالم وقدم سائر الحوادث.
لا يُقال: لما كان تعلق إرادته سبحانه بإيجاد بعض الأشياء على بعض الوجوه واجباً، وتعلقها بإيجاد تلك الأشياء على بعض الوجوه واجباً، وتعلقها بإيجاد تلك الأشياء على غير تلك الوجوه مُحالاً، لم يكن البارىء سبحانه وتعالى مختاراً قادراً، بل كان عِلَّةً موجبة، وذلك خروج عن الإسلام، لأنا نقول: إن كون الفاعل بحالٍ يجب أن يكون فاعلاً لبعض الأشياء لا تخرجه عن الفاعلية، ألا ترى أن عند المعتزلة الإخلال بالواجب يدل إما على الجهل أو الحاجة، فإذا وَجَبَ على الله تعالى الثواب، استحال إخلاله به لاستحالة مما يلزمُ من ذلك الإخلال في حقه وهو الجهل أو الحاجة، وإذا استحال منه أن لا يفعل، وجب أن يفعل، ففي هذه الصورة وجوب صدور الثواب عن البارىء تعالى واستحالة إلا صدوره عنه لا محالة تكون لأجل وجوب الداعي إلى الفعل، واستحالة حصول الداعي إلى الترك، ولا يُنَافي كونه قادراً، لأنه في ذاته بحالةٍ لو لم تكن
__________
(1) " قوله هذه " ليست في (ش).
(2) في (ش): فتعلقات صفاتها واجبة.
(3) في (ش): المتعلق.
(4) في (ش): لا.(7/80)
هذه الإراداتُ واجبةً، بل لو حصلت له إراداتٌ أُخَر، لكان هو تعالى عند تلك الإرادات قادراً على عين (1) ما أحدثه الآن.
واعلم أنه لا خلاص للمعتزلة عن هذا الإشكال إلاَّ إذا قالوا: إن تركه تعالى للواجب لا يُؤَدِّي إلى محالٍ، أو (2) لا يقولون: إنه يؤدي إليه أو لا يؤدي إليه، بل يُمْسِكُون عن القولين، ولكن هذا الجواب ركيكٌ، لأنهم إن (3) عنوا بذلك أن أحد القسمين حقٌّ في نفسه، ولكن لا ينطقون به، فذلك مما لا يُفِيدُهم، لأنه ليس المقصود من الإلزام أن ينطقوا به، وان عَنَوْا بذلك فساد طَرَفَي النقيض، فهو معلومٌ البطلان بضرورة العقل.
إلى أن قال: قوله: القادر هو الذي يمكنه الفعلُ والترك، فلو كان كذلك لم تحصل المكنة في شيء من الأحوال.
قلنا: إن عنيتم بقولكم " القادر: هو الذي يكون متمكِّناً من الفعل والترك " أنه الذي يمكنه الإتيان بكل واحدٍ منهما بدلاً عن الأخر من غير مرجِّحٍ، فلا يمكن دخول هذه الحقيقة في الوجود، فإن النزاع ما وقع إلاَّ فيه.
وإن عنيتم أنه الذي يمكنه الإتيان بكل واحدٍ بدلاً عن الآخر عند حصول الدواعي المختلفة (4) فذلك حاصِلٌ، واعتبار الدواعي لا ينافي ما ذكرنا.
إلى أن قال: قوله: لم لا يجوز أن يقال: حصول أحد المقدورين عند حصول الداعية يصير أولى بالموجود، ولكن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد (5) الوجوب؟
قلنا: لوجوهٍ:
الأول: أنه يلزم (6) أن يكون كلُّ واحدٍ من الأمرين معقولاً ممكناً، وكلُّ
__________
(1) في (ش): غير.
(2) في (أ) و (ش): و.
(3) " إن " سقطت من (ش).
(4) " المختلفة " سقطت من (ش).
(5) " حد " لم ترد في (أ)، و (ف).
(6) في (ش): لا يلزم.(7/81)
ممكنٍ فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محالٌ (1) وإلاَّ لكان أيضاً محالاً، لأن ما لا يوجد إلاَّ عند وقوع المحال فهو محال. إلى آخر ما ذكره.
انتهى ما أردتُ من نقل كلامه، وهو صريحٌ في أنه ما عنى بوجوب الفعل وإحالة الترك ما يخرج عن القدرة والاختيار، ويُبْطِلُ معنى الفاعلية، وإنما عنى الذي عنته المعتزلة في فعل الله تعالى لما يجب في حكمته والاحتجاج به كثير في كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18]. فهدا الرَّدُّ عليهم مبنيٌّ على أنه لا يقع من الأفعال ما لا داعي إليه، وإن كان مُمكِناً في نفسه بالنظر إلى القدرة، وإنما لم يقع مثل ذلك، لأنه لا داعي إلى عذاب الولد والحبيب وإن كانا مذنبين، فإن الداعي إلى العفو عنهما موجود، والصارف مفقود، وحينئذ يجب وقوع العفو ويترجَّح على العقاب.
ومن ذلك قوله تعالى لمن ادعى ذلك منهم: {فَتَمَنَّوُا المَوتَ إنْ كُنتُم صادِقينَ} [البقرة: 94] وإنما ألزمهم تَمَنِّيه لوجوب الداعي الراجح لو صحَّت دعواهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] فإنه قطع على نفي تمنِّيهم لذلك، وعَلَّله بوجود الصارف الراجح، وذلك الصارف هو علمهم بما قدَّمت أيديهم وما يستَحِقُّون عليه من العقوبة.
ومن ذلك قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21]. ووجه الاحتجاج بذلك أن الكذب لا يقع إلاَّ لداعٍ أو جهلٍ بقبحه، وقد تبين نزاهة الرسل في الأمرين معاً، إذ (2) كانوا مهتدين لا يجهلون قبحه غير سائلين لأجرٍ، فلا (3) يُتَّهَمُونَ بالحيلة بالكذب على تحصيل المال، والكذب لا
__________
(1) في (ش): بحال، وهو خطأ.
(2) في (ش): إذا، وهو خطأ.
(3) " فلا " سقطت من (ش).(7/82)
يجب لمجرد كونه (1) كذباً، ولا نفع (2) لذلك عند جميع العقلاء، فيجب في من هذه حاله اعتقاد صدقه.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} الآية [الزخرف: 33] وذلك يدلُّ على أن الداعي إلى الكفر لو كان راجحاً للجميع، لوقع من الجميع.
ونحو ذلك قوله تعالى: {ولو بَسَطَ الله الرِّزْقَ لِعِبادِه لبَغَوا في الأرضِ} [الشورى: 27].
ومنه قوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُم إنْ شَكَرتُم وآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
ومن ألطفه قوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154] فإنه مع بنائه على أن المرجوح لا يقع مبنيٌّ على لطيفةٍ أخرى: وهي أن تفضيل الذكور على الإناث عقلي لما يلزم الذكور من المنافع الراجحة، والخصال الحسنة المحمودة.
ومثلها قوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]. وقد كانت العرب تعرف هذا ومن لا يعرف النظر الدقيق، ولهذا قال علماء المعاني في قول الشاعر (3):
__________
(1) في (ش): لكونه، وهو خطأ.
(2) في (ش): يصح.
(3) هو الحارث بن حِلِّزة اليشكري، شاعر قديم مشهور، من المقلِّين، وهو صاحب الجاهلية السائرة:
آذنَتْنا بِبَيْنِها أسماءُ ... رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ منه الثَّواءُ
يقال: إنه ارتجلها بين يدي عمرو بن هند ارتجالاً في شيء كان بين بكر وتغلِب بعد الصلح.
وهو آخر بيت من قصيدة مطلعها:
مَنْ حاكمٌ بيني وبيـ ... ـن الدَّهرِ مالَ عليَّ عَمْدا =(7/83)
والعيشُ خيرٌ في ظِلا ... لِ الجهل مِمَّنْ عاشَ كَدَّا
إن معناه: ممن عاش كدّاً مع العقل، حتى يمكن الترجيح، إذ لو اجتمع العيش مع العقل لم يصح من عاقلٍ أن يفضِّل عليه العيش مع الجهل.
ومع ذلك جميع ما تقدم في مسألة الإرادة من التيسير لليسرى والعسرى، ومن آيات المشيئة التي لا يمكن حَمْلُها على الإكراه، لقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28 - 29] على ما تقدم تقريره.
فثبت بهذه الجملة أن الراجح واقعٌ، والمرجوح ممتنعٌ، وأن الاختيار مع ذلك ممكنٌ كما مضى تقريره (1)، وكما سيأتي.
وهذا القسم هو المسمى بالممكن لنفسه، الممتنع لغيره، والتكليف به جائز بالإجماع مثل تكليف من عَلِمَ الله أنه لا يؤمن ومع توقُّف الفعل على الدواعي والصوارف وتوقُّفِهما على خلق الله لها، فأجمعت فِرَقُ الإسلام، بل العقلاء على أنه لا تأثير لها في وجود الفعل.
ممن ذكر الإجماع على ذلك الشهرستاني في " نهاية الإقدام " أن العلم لا يؤثر في المعلوم إجماعاً، ومما يدل على ذلك وجوه:
__________
= أنشدها صاحب " الأغاني " 11/ 49 - 50، ونقل عن النضر بن شميل أنه كان يستحسنها ويستجيدها.
وقد استشهد أصحاب المعاني بهذا البيت على الإيجاز المخلِّ، إذ هو يريد أن العيش الناعم في ظل الجهل أو النَّوك خير من العيش الشاق في ظل العقل، وألفاظ البيت لا تفي بهذا المعنى. انظر " معاهد التنصيص " 1/ 308.
ورواية البيت في " الشعر والشعراء " 1/ 198 لابن قتيبة:
والنَّوك خيرٌ في ظِلا ... لِ العيش مِمَّنْ عاشَ كدّا
(1) في (أ) و (ف) مكان قوله " ممكن كما مضى تقريره " بياض.(7/84)
الوجه الأول: أن العلم (1) لو كان يؤثر، وكذلك سائر الدواعي، لَزِمَ نفيُ القدرة والاختيار عن الرب عز وجل، فإن ما علم الله وجوده أو كان راجحاً، استحال عدمه، وما علم عدمه أو كان مرجوحاً استحال وجوده، ولو كانت هذه الاستحالة إلى ذات المعلوم (2) رَفَعَتِ القدرة والاختيار، فثبت أنه لا استحالة بالنظر (3) إلى الذات، وإنما تُطلَقُ الاستحالة هنا مع إطلاق الإمكان باعتبار الجهتين كما مر في أول مسألة الأقدار.
الثاني: أنه يلزم أن يكون العلم (4) مُغْنِياً عن القدرة وكذلك الرجحان، فيكون ما علم الله وجوده أو ترجَّح وُجِدَ، سواء كان من علم أو من ترجَّح له قادراً أو لا، وفي ذلك انقلاب العلم والدواعي قدرة، وهذا مُحالٌ.
الثالث: أنه يلزم أن يحسن من الله تعالى الاحتجاج على العباد بمجرد سبق العلم بأنه يعذِّبُهم من غير ذنب ولا حجة، ورجحان الداعي وإن لم يكن داعي حكمةٍ كما تقدم في مسألة الإرادة، والسمع بريءٌ من مثل هذه الحجة، والعقل يدرك رِكَّتها إدراكاً ضرورياً، ولو كان في ذلك حجة، لم يقل الله سبحانه وتعالى: {لئلاَّ يكونَ لِلنَّاسِ على الله حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسلِ} [النساء: 165].
وقد حكى الله تعالى، وحكت عنه أنبياؤه كيفية إقامة حُجَجِه على عباده يوم القيامة، ولم يكن في شيء منها أنه احتج على أحد من خلقه بمجرد سَبْقِ علمه بتعذيبه بغير ذنبٍ ولا حجةٍ، وفي " الصحيح ": أنه " ما أحدٌ أحبَّ إليه العذر من الله " (5) فسبحان من له الحجة والحكمة والعزة والمشيئة.
الوجه الرابع: أنه كان يلزم أن لا يتعلق العلم بالرب القديم سبحانه، لأنه
__________
(1) بعد هذا في (أ) عبارة " لا يؤثر في المعلوم إجماعاً "، والصواب إسقاطها كما في (ش).
(2) " المعلوم " سقطت من (ش).
(3) في (ش): له بالنظر.
(4) " العلم " سقطت من (ش).
(5) تقدم تخريجه في هذا الكتاب 1/ 170.(7/85)
يستحيل التأثير فيه، فلما علمنا تعلُّق علمه وعلمنا بذاته المقدَّسة، علمنا أن تعلق العلم بالمعلوم لا يؤثر فيه ألبتة، وهذا الوجه ذكره الجويني في مقدمات كتابه " البرهان " (1).
الوجه الخامس: ما تقدم في غير موضع من الاحتجاج في هذه المسألة بالسمع المعلوم لفظه ومعناه بالضرورة مثل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نفساً إلاَّ وُسْعَها} [البقرة: 286]، بل عُلِمَ من الدِّين الامتنان على العباد بالسماحة من الممكنات، وأن التكليف ورد باليُسْرِ دون العسر، وبَذْلِ السهولة ونفي الحرج، وسمع ذلك جميع العقلاء من المسلمين وغيرهم، فلم يعترضه أحد.
وكذلك من سمعه من العقلاء، علم صدقه، إلاَّ من مَرِضَ قلبه بداء الكلام، وهذا يدل على أنه الفِطرة، وعلى أن التوغُّل في الكلام يُغَيِّرُ الفطرة، ولهذا لا يوجد من ينكر العلوم كلها إلاَّ في المشتغلين بالمعقولات كالسُّوفِسطَائِيَّة وأمثالهم (2).
الوجه السادس: ما ذكره ابن الحاجب من أن ذلك يؤدي إلى أن التكاليف كلها محالٌ، قال: وهو خلاف الإجماع مع ما تقدم من الحجج العقلية من وِجْدان الفَرْقِ الضروري بين الحركتين الاختيارية والاضطرارية، والعلم الضروري بحسن الأمر والنهي في أفعالنا، واستحقاق المدح والذم فيها دون أجسامنا وألواننا. وقد أقرَّ بهذا الرازي، ولكن ادعى أنه معارض بعلم ضروري مثله، فأوهم (3) أن العلوم الضرورية تتعارض، وذلك يستلزم بطلان العلوم، ولم يقل بذلك أحد.
وأما قوله: إن الممكنين لا يقع أحدهما دون الآخر إلاَّ بمرجِّحٍ وإن ذلك ضروري فمُسَلَّم، لكن لزوم نفي الاختيار من هذا غير ضروري، بل ولا نظريٌّ، بل وهميٌّ باطل.
__________
(1) 1/ 105.
(2) " وأمثالهم " لم ترد في (أ) و (ف).
(3) في (ش): فأفهم، وهو خطأ.(7/86)
فانكشف أن قوله: إن الضرورتين تعارضتا، تمويهٌ نازل منزلة قول القائل: إن النفي والإثبات قد اجتمعا، وإن النقيضين قد صدقا، ولو كان مثل ذلك يصح لم يكن إلى صحته طريق، لأن ذلك يبطل الثقة بالعلوم، ومعرفة الصحة والبطلان لا يكون إلاَّ مع بقاء العلوم.
وإنما يصح أن يقال: تعارض المذهبان المستخرجان من هاتين الضرورتين فدلَّ (1) على فساد أحد الاستخراجين، وهو استخراج نفي الاختيار من وجوب وقوع الراجح، ووجوب احتياج الممكن إلى مرجِّحٍ، لأن هذا الوجوب وجوب أولويةٍ واستمرارٍ، لا وجوب عجزٍ واضطرار، كما أقر به الرازي في حق البارىء تعالى، وقال: إن خِلافه خروجٌ من الإسلام كما مرَّ (2).
وقد قطعنا بعدم تأثير الدواعي، فنقطع أيضاً بتوقف تأثير القدرة عليها وتوقف الجميع على الاختيار، فإنا نقطع بقدرة أحدنا على ما لا يفعله قطعاً من التردِّي من الشواهق بغير موجبٍ، وشرب السموم، وقتل الأولاد، ومع قطعنا بأنا لا نفعل ذلك، فإنا نجد فرقاً ضرورياً بين تركنا لذلك بسبب الصارف عنه، وبين ترك ذلك عند العجز عنه بالمنع بالغلِّ والقيد، وأن الداعي الراجح هنا لو دعا إلى الفعل ما صدر منا، وإذا دعا الداعي الراجح إلى الفعل في الصورة الأولى وقع لا محالة.
وبهذا الفرق الضروري، جميع ما تقدم، يندفع الجبر ويثبت الاختيار، وتقدم في مسألة الأقدار وفي أول الكلام على الأفعال تحقيق ذلك على حسب وُسْعِ البشر، ومدارك العلوم (3) والنظر.
واعلم أنه ليس للمعقول (4) وراء هذا مَدْرَك، وكل ما ذكرناه من إحساس الاختيار ووقوع الراجح قطعاً، وحاجة الممكن إلى الراجح ضروري في فِطَرِ
__________
(1) في (ش): تدل، وكذلك أثبت فوق (أ) و (ف).
(2) " كما مر " لم ترد في (ش).
(3) في (ش): العقول.
(4) في (ش): للعقول.(7/87)
العامة، وإنما استفاد الخائضون فيه تحرير العبارات، وإثارة العداوات، وتطويل الخصومات، واستراح أهل الحديث والأثر حين غَلَّقوا هذه الأبواب، وقنعوا بما في أوَّليَّات الفِطَنِ والألباب، وأيَّدُوها بمعارف السنة والكتاب.
فصل: وإذ قد تم الكلام على فِرَق أهل السنة ومقالاتهم وتقريراتهم من نفي (1) الاختيار، بقي تفسيرُ قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، وقولهم: لا خالق إلا الله تعالى، فإن أكثر الغالطين عليهم في مذاهبهم ما غلطوا إلاَّ بسبب قلة الفهم لمرادهم في هاتين المسألتين.
وأنت إذا تأملت ما تقدم من كلامهم، عرفت ذلك، ولكني أحببت زيادة البيان لقوة عصبية المعتزلة عليهم في ذلك.
ولنبدأ بقولهم: إنه لا خالق إلاَّ الله تعالى، وهذا إجماعُ أهل السنة، ونصوص القرآن دالَّةٌ عليه، غير أن هذا الإجمال يحتاج إلى تفصيل مُرادهم، وإيضاح مقصدهم، وعلى معرفته تركيب (2) معرفة مرادهم بخلق أفعال العباد، وذلك أن " الخلق " لفظةٌ مشتركةٌ بين ثلاثة معانٍ، والألفاط المشتركة يتعرَّض الجدليُّ للتشغيب فيها إن لم يتبين المراد بالنص الجلي، ولا يُكتفى فيها بمجرد القرائن.
فقد يكون الخلقُ بمعنى التقدير، مثل تقدير الخَرَّازين للجلود أنطاعاً وأسقيةً، ونعالاً، والخلق بهذا المعنى يطلق على العباد بشرط دلالة (3) القرينة عليه، والله سبحانه أجَلُّ من أن يَتَمَدَّح بالتفرد بهذا، قال الله تعالى بهذا (4) المعنى حكايةً عن عيسى - صلى الله عليه وسلم -: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ} [آل عمران: 49]، وقال تعالى: {فَتَبارَكَ الله أحسنُ الخَالِقينَ} [المؤمنون: 14].
__________
(1) في (ش): بقاء.
(2) في (ش): تركب.
(3) تحرفت في (ش) إلى: الأدلة.
(4) عبارة " قال الله تعالى بهذا " لم ترد في (ش).(7/88)
وقال الجوهري في " صحاحه " (1): يقال: خلقتُ الأديم، إذا قدَّرتَهُ (2)، قال زهير (3):
ولأنت تفري ما خلقتَ وبعـ ... ـضُ القوم يخلُقُ ثم لا يَفْرِي
وقال الحجاج: ما خلقتُ إلاَّ فريتُ، ولا وعدتُ إلاَّ وَفَّيتُ. انتهى كلام الجوهري.
والخلق بهذا المعنى يطلق على العباد مع القرائن الدالة عليه، وذلك من جملة أفعالهم التي مَكَّنهم الله تعالى منها بمشيئته وأقداره وسابق علمه وتقديره، على ما مضى من شرح ذلك وتقريره.
المعنى الثاني: الخلق بمعنى الكذب، قال الله تعالى: {وَتَخْلُقون إفْكاً} [العنكبوت: 17].
وقال في حكاية كلام الكفار: {إنْ هذا إلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص: 7] وهو كثير شهير.
والله تعالى مُنَزَّهٌ عن إضافة الخلق بهذا المعنى بإجماع المسلمين، ومن تأوَّل في تجويز هذا على الله تعالى، فهو من المُلحدين.
المعنى الثالث: الخلق بمعنى إنشاء الموجودات من العدم وتصوير العوالم والصور، وتركيبها وتدبيرها على ما اشتملت عليه كتب التشريح، ثم على ما شاهده (4) كلُّ ذي نَظَرٍ صحيح.
__________
(1) 4/ 1470 - 1471 (خلق).
(2) زاد في " الصحاح ": قبل القطع.
(3) من قصيدة يمدح بها هَرِمَ بن سنان ومطلعها:
لمن الديارُ بقُنَّةِ الحِجْرِ ... أقْوَيْنَ من حِجَجٍ ومن دهرِ
والفَرْي: القطع، يقول: فأنت إذا تهيّأت لأمرٍ مضيت له. انظر " شرح شعر زهير بن أبي سلمى " ص 82، صنعة أبي العباس ثعلب.
(4) في (ش): يشاهده.(7/89)
والخلق بهذا المعنى هو الذي تفرَّد الرب عز وجل به كله دِقِّهُ وجِلِّهُ، صغيره وكبيره، وعظيمه ويسيره، وهو الذي تمدَّح الرب سبحانه بالتفرد به، والذي أراد أهل السنة بنسبته إليه وقصره عليه، ولا يجوز إطلاق الخلق على غير الله تعالى -وإن أُريد به التقدير- إلاَّ مع القرينة الدالة على ذلك كالربِّ، فإنه لفظة مشتركة يقال: رَبُّ الدار، ورب المال، بهذه القيود والقرائن، ومتى تجرد (1) عنها لم يَجُزْ إطلاقه إلاَّ على الله تعالى، وهذا هو محل النزاع بين أهل السنة وبعض المعتزلة، ففي المعتزلة من يسلِّمُ مذهب أهل السنة وهم البغدادية، فقد حكى ابن متويه في " تذكرته ": أن المخلوق عندهم بغير إلهٍ.
ومن المعتزلة من جعل الخلق على الحقيقة للعباد فلا يطلق على الله تعالى إلا مجازاً، وذلك لمخالفته في معناه، لا أنه جعل المعنى الذي ينسبه أهل السنة إلى الله تعالى مقصوراً على العباد: منهم أبو عبد الله البصري (2) ذهب إلى أن الخلق بمعنى الفكر، والفكر لا يجوز على الله تعالى، وهذا ما لا أصل له إلا أن يكون استخرج ذلك من قول اللغويين: إن الخلق بمعنى التقدير، وظن أن الفكر بمعنى التقدير، وغفل عن كون صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين.
فلو ذهبنا هذا المذهب، عطَّلناه سبحانه عن (3) جميع صفاته، فإن الإرادة فينا تستلزم الحاجة، وصفة العلم والقدرة والحياة تستلزم الجسمية والبنية المخصوصة، وقد تقدم ذلك.
والعجبُ من الزمخشري مع تَضَلُّعه في (4) علم اللغة واشتغاله بتفسير القرآن
__________
(1) في (ش): تجردت، وهو خطأ.
(2) هو أبو عبد الله الحسين بن علي البصري، الملقب بالجُعَل، الفقيه المتكلم صاحب التصانيف، قال الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 16/ 224: من بحور العلم، لكنه معتزلي داعية، وكان من أئمة الحنفية، توفي سنة (369 هـ). وانظر أيضاً " ذكر المعتزلة " ص 62 - 63 لابن المرتضى.
(3) في (ش): من.
(4) في (ش): من.(7/90)
والحديث، وتصنيفه فيهما " الكشَّاف " و" الفائق "، كيف اختار هذا المذهب الباطل، وزَعَم في " أساس البلاغة " (1) أن قولنا: خلق الله الخلق من المجاز.
والذي يدلُّ على بطلان كلامه ومن تابعه من المعتزلة أن أهل اللسان العربي والمعاصرين (2) لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين وغيرهم استعملوا هذه اللفظة مضافةً إلى الله عزَّ وجلَّ ومقصورةً عليه، وشاع ذلك وذاع، وتواتر واستفاض، وصدعت به النصوص، وتداوله العموم والخصوص، وكان السابق إلى الأفهام من غير قرينةٍ.
وأجمع أهل علم التفسير من التابعين وتابعيهم بإحسانٍ على أن نسبة الخلق إلى الله تعالى من المحكم الذي لا يحتاج إلى التأويل، ولا علامة للحقائق في جميع اللغة إلاَّ مجرد الاستعمال الذي لا يبلغُ أدنى أدنى أدنى (3) مراتب هذا الاستعمال المتواتر المعلوم من الضرورات كلها: ضرورة اللغة وضرورة القرآن، وضرورة السنن والآثار، وضرورة إجماع المسلمين.
ولو كُلِّفَ الزمخشري أن ينقل مثل هذا الاستعمال العظيم في كل لفظةٍ زعم أنها حقيقة لغصَّ بريقه، بل لو كُلِّفَ بهذه اللفظة بعينها، وهي أن الخلق بمعنى التقدير أن ينقُل مثل (4) ذلك أو قريباً منه لانقطع، وليس المجاز شيئاً (5) يختصُّ به الزمخشري، فعلامته معروفة: وهو ما لا يسبق الفهم إليه إلاَّ بقرينة، وهذا يَفُتُّ في عَضُدِ دعواه.
وأقلُّ أحوال هذه اللفظة أن يكون إطلاقها على الله حقيقةً عُرفيَّةً أو شرعيَّةً، وهما أقوى من الحقيقة اللغوية كما قال علماء الإسلام في لفظة الصلاة وسائر ألفاظ الشرع.
__________
(1) ص 173.
(2) في (ش): المعاصرين، بلا واو.
(3) في (ش): أدنى، مرة واحدة.
(4) من قوله " هذا الاستعمال " إلى هنا سقط من (ش).
(5) في (أ) و (ش): شيء، وهو خطأ.(7/91)
وعلى كلام الزمخشري اسمه الخالق واسمه الخلاَّق وهما من أسمائه الحسنى، متى أُطلِقا وتجرَّدا عن القرائن سبق الفهم إلى أن المراد بهما بعض الخرَّازين ومن يُستَخْبَثُ ذكره من أخسِّ أهل المهن من صُنَّاع النعال ومُصلِحي ما تخرَّقَ، ولا ينصرف إلى الله تعالى إلاَّ مع القرينة كما هو حق المجاز.
بل أخبث من هذا أنه يلزمه نفي هذين الاسمين الشريفين عن الله تعالى من غير قرينةٍ، كما هو علامة المجاز (1)، فإنه لا يجوز لك أن تصف الرجل الشجاع بأنه أسد وتسميه بذلك إلاَّ مع القرينة، ويجوز لك أن تنفي عنه اسم الأسد بغير قرينة باتفاق علماء المعاني والبيان، وإلا لزم الحاجة إلى القرينة في الحقيقة والمجاز معاً، ولم يقل بذلك قائل.
فعلى كلام الزمخشري يجوز للمسلم أن (2) يقول: إن الله تعالى ليس بخالقٍ ولا خلاَّقٍ من غير قرينةٍ ولا بيانٍ لمراده.
ويوضح بطلان ما توهَّمه أنه بنى (3) ذلك على أن حقيقة الخلق (4) التقدير، وحقيقة التقدير عنده يستلزم الفكر، وذلك يستلزم النقص، فوجب أن لا يُنْسَبَ إلى الله تعالى إلاَّ مجازاً.
والجواب عليه أن كل ما استلزم (5) النقص لا يُنسَبُ إلى الله تعالى لا حقيقةً ولا مجازاً، والأسماء الحسنى أرفع مرتبةً من ذلك عند أهل الحق، على ما بَسَطْتُهُ في الصفات، ثم في الإرادة، ولله الحمد.
وهذا المُسَمَّى منهم بالعلامة، فكيف بشيوخ الكلام منهم الذين وصفهم الزمخشري بضيق العَطَنِ والمسافرة عن علم البيان مسافة أعوام، ذكره في تفسير
__________
(1) من قوله " بل أخبث " إلى هنا سقط من (ش).
(2) " أن " لم ترد في (أ).
(3) في (أ): بنى على، وهو خطأ.
(4) في (ش): الخالق، وهو تحريف.
(5) في (ش): يستلزم.(7/92)
{بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ} (1) [المائدة: 64].
وهاك أيها السني ما يُقِرُّ عينك في هذه المسألة من نصوص الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيلٌ من حكيم حميد.
والوارد في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - أقسام:
القسم الأول: المُجْمَعُ على صحة الاحتجاج به عند فِرَقِ أهل السنة.
والقسم الثاني: المختلف في صحة الاحتجاج به بين علمائهم.
أما القسم الأول فهو أنواع:
النوع الأول: النصوص الدالة على تمدُّح الرب عزَّ وجلَّ بالتفرد بالخلق والاختصاص به دون غيره، وذلك مثل قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللهِ} [فاطر: 3]، وقوله سبحانه: {أفَمَنْ يَخلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أفَلا تَذَكَّرونَ} [النحل: 17] وقوله تعالى: {ألاَ لَه الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54].
النوع الثاني: العامُّ المُعَلَّل بما يمنع جواز التخصيص، مثل قوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16].
فقوله: {قُلِ الله خالِقُ كُلِّ شَيء} وإن (2) خرج مخرج العموم، والعمومُ يحتمل التخصيص، فإن تعليلها يوجب القطع على منع تخصيصها، وذلك من وجهين:
الأول: أن الكلام خرج مخرج التمدُّح بالتفرُّد بمُسَمَّى (3) الخلق.
وثانيهما: أنه خرج مخرج الإنكار على من أثبت هذه المِدْحَةَ لغير الله
__________
(1) لم أقف عليه في المطبوع من كتابه في هذا الموضع، فلعله ذكره في غيره.
(2) في (ش): فإن.
(3) في (ش): لمنشىء.(7/93)
تعالى، فلو كان المراد بالعموم خلق بعض الأشياء لحَسُنَ من العباد مشاركته في مثل هذا التمدح بخلق كل شيء، وهم يريدون تقدير بعض الأشياء من النِّعال والأنطاع ونحو ذلك، ولا أعظم جنايةً على كتاب الله تعالى من تطريق مثل هذا إلى مماح آياته السنية، وصرائح نصوصه الجلية.
النوع الثالث: العام من غير تعليل، وهو كثير جداً، مثلُ قوله تعالى: {الله خَالِقُ كلِّ شَيءٍ} [الرعد: 16]، وقوله: {إنَّا كُلَّ شَيءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقوله: {وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَه تَقديراً} [الفرقان: 2] وهو كثير جداً.
وفي هذه الآية مع عمومها دليلٌ على بطلان دعوى الزمخشريِّ لقَصْرِ الخلق في الحقيقة على التقدير، لأن الله تعالى نصَّ على المغايرة بينهما، حيث عطف التقدير على الخلق في قوله: {وخَلَقَ كلَّ شيءٍ فقَدَّرَه تَقديراً} [الفرقان: 2] فدل على أن الخلق في المعنى الذي نص عليه أهل السنة من إنشاء العين من العدم.
ومن الدليل على ذلك من السنة الصحيحة ما لا يُحصى، مثلُ حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تبارك وتعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلُقُ كخلقي، فليخلُقُوا ذَرَّةً، وليخلقوا حبَّةً أو شَعِيرةً ". خرجه البخاري آخر " الصحيح " (1).
وفي " الصحيحين " (2) من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن أصحاب الصُّوَرِ يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحْيُوا ما خلقتم ".
__________
(1) (5953) و (7559)، وصححه ابن حبان (5859).
(2) البخاري (2105) و (3224) و (5181) و (5957) و (5961) و (7557)، ومسلم (2107) (96)، وصححه ابن حبان (5845). وقد فاتنا أن نعزوه في تخريجنا لابن حبان إلى البخاري، وأحمد 6/ 70 و80 و223 و246، وابن ماجه (2151)، فيستدرك من هنا.(7/94)
وفي " الصحيحين " (1) أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله ".
وفي روايةٍ " الذين يُشَبِّهُون بخلق الله ".
وفي هذا وفي حديث أبي هريرة تفسير قوله: " أحيوا ما خلقتم " أي ما شبَّهتُم بخلق الله تعالى، وادَّعيتم من خلقه ما لستم له بأهل، فلو كان الخلق لله تعالى مجازاً وللعباد حقيقةً، لم يحرم عليهم معلَّلاً بهذه العلة، التي هم عند الزمخشري أحقُّ بها من الله تعالى، بل هي لهم دونه.
ولما كانت الحياة ونحوها من الأعراض تُسَمَّى مخلوقة لأنه لا تقدير فيها، ويحتمل في مجرد التقدير والتصوير لما ليس فيه روح أن يسمى خلقاً، سواء كان من فعل الله تعالى أو من فعل العباد، بخلاف إيجاد الأعيان وإنشائها من العدم، وذلك لقول عيسى عليه السلام: {أَنِّي (2) أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا (3) بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، ولِما ثبت في " الصحيحين " أنه يقال للمصوِّرين: " أحيوا ما خلقتم " أي: ما صوَّرتم، فسمى التصوير خلقاً، كما سماه عيسى عليه السلام.
يوضحه: أن ليس القصد إضافة كل خلقٍ إلى الله تعالى، ولا تفرُّدَه
__________
(1) البخاري (5954) و (6109)، ومسلم (2107) (91) و (92)، وصححه ابن حبان (5847).
(2) قرأ نافع: " إني " بكسر الهمزة على الاستئناف، وقرأ الباقون (أني) بالفتح، قال الزجاج: " أني " في موضع جر على البدل من (آية).
(3) فرأ نافع (طائراً) على واحد، كما تقول: رَجْلٌ وراجل وركب وراكب، قال الكسائي: الطائر واحد على كل حال، والطير يكون جمعاً وواحداً، وحجته أن الله أخبر عنه أنه كان يخلق واحداً، ثم واحداً.
وقرأ الباقون (طيراً) وحجتهم: أن الله جل وعز إنما أذن له أن يخلق طيراً كثيرة، ولم يكن يخلق واحداً فقط. " حجة القراءات " ص 164.
(4) في (أ): شيء.(7/95)
سبحانه لكل ما يُسمى خلقاً، لأن الكذب يسمى خلقاً، ولا يجوز إضافته إليه سبحانه، كما قال تعالى: {وتَخْلُقُون إفْكاً} [العنكبوت: 17]، وقال: {إنْ هذا إلاَّ اخْتِلاقٌ} [ص: 7].
وإنما القصد تفرُّدُه سبحانه بالخلق الذي هو إنشاء الأعيان من العدم الذي لا يقدر عليه سواه، وتفرده بالقدره على خلقِ كل مخلوقٍ، كما دلت عليه الكتبُ السماوية والنصوص النبوية.
وإذا عرفت معاني الخلق، وأن أهل السنة ما قصروا على الله تعالى منها إلا إنشاء العين من العدم، عرفت معنى قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، وأخذته من نصوصهم البَيِّنَة في تلخيص مذاهبهم، كما تقدم في الفرق الأربع، وعرفت حينئذ أنهم إنما عنوا بالمخلوق أعيان الذوات المُخرَجَة من العدم، التي يصح عليها تحقيق الاتصاف بالوجود التي هي عند المعتزلة ثابتةٌ في العدم، والتي لا تصح عند المعتزلة أن تعلق بها قدرة الرب عز وجل، كيف إلاَّ العبدُ الضعيفُ؟
وأما ما يقع عليه الجزاء بالذم والعقاب، والثناء والثواب، من الأمور العدمية والإضافية، التي ليست بشيء حقيقي أصلاً كالتروك على الصحيح، وإنما هي جهات استحقاقٍ مثل تروك الواجبات، وتروك المحرمات عند الخصوم، فليست عند أهل السنة مخلوقةً كما يأتي (1) الدليل عليه قريباً من وجوه ثلاثة قرآنية.
وكيف يصح عندهم وصف ما ليس بشيء في الحقيقة بالحق، وإن كانت تُسمى أشياء في العرف كما أن التروك تسمى فيه أشياء، ولا (2) عبرة بالألفاظ.
وقد مر تقدير أن الثواب والعقاب لا يستلزمان أن يكونا على أشياء حقيقية عند المعتزلة (3)، فإن الثواب يُستحق بترك الحرام، والعقاب يُستحق بترك الواجب، والعقل يُدرِكُ ذلك بالفطرة، والعقلاء أجمعون (4) عليه، فإنهم يذُمُّون
__________
(1) في (ش): مر، وهو خطأ.
(2) في (ش): فلا.
(3) " المعتزلة " سقطت من (ش).
(4) في (ش): والعقال مجمعون.(7/96)
من ترك قضاء الدين، وترك رد الودائع، ولا يُرَاعُون في ذلك القطع بأن التروك أمر وجودي، له حقيقة في الخارج كما له حقيقة في الذهن، بحيث لا يجزم عاقل على ذم من ترك قضاء الدين، ورد الوديعة، حتى يكون من ذلك على بصيرة، فجمهور النقلة لمذهب أهل السنة من خصومهم جهلوا أو (1) تجاهلوا مذهب أهل السنة وغَلِطُوا على جميع فرقهم.
فأما الفرقتان الأولتان، فإنهم وإن اتفقوا على أن أفعال العباد المقابلة بالجزاء مخلوقةٌ أنفسها، فإنهم متفقون على بقاء اختيار العبد لها، وأن اختياره لوجودها شرط في وجودها سابق على الوجود، وإن الاختيار ليس بشيء حقيقي، فلا يصح وصف الخلق بذلك كما مر تحقيقه.
ولا يلزمهم الجبر إلاَّ بنفي الاختيار، كما لم يلزم الجبرُ إمامي الاعتزال الجاحظ وثُمامة بن الأشرس وأتباعهما مع قولهما: إن قدرة العباد غير مؤثرةٍ في أفعالهم، وإنه ليس لهم فعل إلاَّ الإرادة، ثم اختلفا (2):
فقال الجاحظ: إن المؤثر في أفعال العباد هو الطَّبْعُ الضروري الراجع إلى قدرة الله وخلقه.
وقال ثمامة: إن أفعال العباد حوادث لا مُحدِثَ لها،
وهذا شرٌّ من قول هاتين الطائفتين، لأنه يستلزم جواز استغناء الحوادث عن مُحدِثها جل وعز، ومع ذلك فلم يَعُدَّهُما أحد من المعتزلة من الجبرية.
وأما الفرقتان الآخرتان، فإنهما لم يَنْسُبَا إلى الله تعالى التفرد بالخلق إلاَّ في إنشاء العين الثُّبوتية وإخراجها من العدم إلى الوجود، ولم ينسبوا إلى الله تعالى خلق ما ليس بشيء حقيقي من الإضافات والوجوه والأحوال والاعتبارات التي
__________
(1) في (ش): و.
(2) في (ش): اختلفوا. وقد تقدم حكاية قول الجاحظ وثمامة عند المؤلف ص 619.(7/97)
تختلف بها أسماء الذوات، فإن ذات (1) الحركة المخلوقة واحد، ثم تختلِفُ أسماؤها باختلاف أحوالها، فتُسَمَّى طاعةً ومعصيةً وكتابةً وصناعةً، وأجمعوا هم والجمهور أن المخلوق من مُسَمَّى الصلاة والعبادة والطاعة والمعصية ذواتها التي هي مُطلَقُ الحركة دون الوجه المخصوص الذي سُمِّيَتْ به (2) طاعة ومعصية.
وأما القدر المقابل بالجزاء، فليس هو مرادهم بقولهم: إن الله خالق كلِّ شيء، لأنه ليس بشيءٍ حقيقي، والخلق لا يصح أن يطلق على غير شيء، والله عز وجل إنما تمدح بأنه خالق كل شيء لا خالق لا شيء، لأن المراد كل شيء يُسَمَّى مخلوقاً، والقدر المقابل بالجزاء لا يسمى مخلوقاً لوجوه:
الأول: قوله تعالى: {ربَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً} [آل عمران: 191] فلو كان الله تعالى خالق الباطل الذي فعله العباد لم يتنزه عن خلق الحق في حالِ كونه باطلاً، لأن خلق الباطل أشدُّ قبحاً من خلق غيره في حال كونه باطلاً، كما أن من فعل الكفر لم يَتنَزَّه (3) عن ترك الضلال كفراً.
الثاني: قوله تعالى: {ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ} [النساء: 119] فلو كان الله خالق تغييرهم، لكان خلقاً آخر لا تغييراً لخلق الله، كما أن الشيب في الشعر خَلْقٌ آخر بعد السواد لا تغييرُ خلق الله، ولقال الله: ثم أنشأناه خلقاً آخر، كما قال في تغيير النطفة إلى العلقة، ثم (4) قال في آخر التغييرات: {فتبارك الله أحسنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] ولم يقل: أحسن المغيِّرِين.
وكذلك لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواشمات المغيرات خلق الله (5)، ولم يجعل تغييرَهُنَّ خلقاً منه آخر كما خلق النطفة علقةً، وخلق الشيب بعد الشباب.
__________
(1) في (ش): فإرادة.
(2) في (ش): له.
(3) في (أ): ينزه.
(4) في (أ): حين.
(5) أخرجه ابن حبان في " صحيحه " (5505) من حديث عبد الله بن مسعود، وانظر تخريجه فيه.(7/98)
الثالث: قوله تعالى: {الذِي أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] أي على حسب ما أراد، فوجب وصف جميع مخلوقات الله بالحسن، فلو كان القدرُ المقابل بالجزاء من أفعال العباد مخلوقاً، لم تُوصَفْ معاصيهم بالقبح، ووجب وصف قبائحهم بالحسن، وهذا باطلٌ بالإجماع.
وعلى أن في أهل السنة من يقول: إن الحركة المطلقة وصفٌ إضافيٌّ لا شيءٌ حقيقي، وإن الشيء الحقيقي المخلوق هو المتحرِّك نفسه، لا مجرَّد حركته، وهو القوي الصحيح كما تقدم.
وأما الإمام الجويني وأصحابه، فيقولون بخلق الأفعال كما يقوله أهل السنة، ولكن توجيه ذلك يُشكِلُ عليهم جداً مع قولهم: إن الحركة شيءٌ حقيقيٌّ، وإنها أثر قدرة العبد حتى يتأمل مقصدهم وزال الإشكال.
والإشكال عليهم من وجهين:
الوجه الأول: أنه يلزم أن لا يصح وصفهم لفعل العبد بأنه مخلوق.
والجواب ما ذكره الشهرستاني حيث قال: " وغلا إمام الحرمين حيث أثبت للقدرة الحادثة أثراً هو الوجود، إلاَّ إنه لم يُثْبِتْ للعبد استقلالاً بالوجود ما لم يستند إلى سبب آخر، ثم تسلسل الأسباب في سلسلة الترقِّي إلى البارىء تعالى وهو الخالق المبدىء المستقل بإبداعه من غير احتياجٍ إلى سبب.
وقد أشار الشهرستاني بهذا إلى موافقة الجويني لأهل السنة في مسألتين:
أحدهما: توقُّفُ الأفعال على الدواعي مع أن الدواعي من فعل الله تعالى.
وثانيهما: توقُّف الأفعال على سبق (1) مشيئة الله تعالى وقضائه وقدره على ما مر تحقيقه.
__________
(1) " سبق " لم ترد في (ش).(7/99)
فإن القول بذلك هو الفاروق ما بين السني والبدعي، وإن بقية الاختلاف إنما أكثرُهُ في العبارات.
فتأمل هذه الفائدة العظمى وأيقِظْ بها قلبك، وشُدَّ بها يديك، فهي من نفائس علوم الخاصة، وما يعقلها إلاَّ العالمون.
فمن هنا أطلق إمام الحرمين وأصحابه على أفعال العباد أنها مخلوقة، ويحتجون على صحة هذه التسمية بما ذكرناه من أدلة السمع الخاصة والعامة المُتَّفَقِ عليها بينهم، والمختلف فيها على حسب رأيهم في المختلف فيها.
وقد أشار الغزالي في مقدمات " الإحياء " (1)، بل صرح أن الحامل على تسمية أفعال العباد مخلوقة إنما هو الإيمان بقوله تعالى: {خَالِقُ كلِّ شيء} [الأنعام: 102]، وصرَّح فيها ببطلان الجبر، وأن بطلانه ضروري للفرق بين الحركة الاختيارية والضرورية ضرورةً، والله أعلم.
الوجه الثاني: أن يقال: يلزمهم أن يوصف العبد بأنه خالقٌ لأفعاله.
والجواب عنهم في ذلك أنه لا يلزم في كل شيء أن يسمى مخلوقاً في اللغة لوجهين:
أحدهما: أن تسمية كل شيء بذلك يحتاج إلى نقل صحيح عن أهل اللغة وهو معدوم، ولم يُعهَد عن أحدٍ من أهل اللغة أنه يقول: خَلَقتُ قياماً (2) ولا صياماً ولا حلالاً ولا حراماً.
الوجه الثاني: أنه يُفهَمُ من كثيرٍ من الكتاب والسنة وكلام البُلَغاء أن ذلك يختص ببعض الأمور دون بعض.
من ذلك قوله: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] فعطف الهدى المتعلِّق بالأفعال على الخلق المتقدم لها، وظاهره المغايرة
__________
(1) 1/ 110 و111.
(2) تحرفت في (ش) إلى: فتأمل.(7/100)
في التسمية، وإن كان الكل بمشيئته سبحانه.
وكذلك قوله تعالى: {ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54] وهي أبينُ آيةٍ في هذا، لأنه قسَّم المسمَّيات فيها إلى قسمين مختلفين متغايرين:
أحدهما: الخلق، وهو أخصُّهما ولذلك قدمه.
وثانيهما: الأمر، وهو أعمُّهما ولذلك أخَّره، لأن الخلق نوع من جنس الأمر يدخل تحته بدليل قوله تعالى: {وإلَيْهِ يَرجِعُ الأمرُ كُلُّه} [هود: 123] فدخل فيه الخلق والأمر.
فإن قالت المعتزلة: يخرج منه التكاليف، لقوله تعالى في آخر الآية: {فَاعْبُدْه وتَوكَّلْ عليه} [هود: 123] فأمره بالعبادة، وما كان إلى الله لم يأْمُر به.
قلنا: هذا ممنوع لقوله تعالى: {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ باللهِ} [النحل: 127] بأبلغ صيغ المبالغة، وهي الحصر بالاستثناء بعد النفي العام، وقد تقدم تقرير ذلك عقلاً وسمعاً مع منع الجبر قطعاً عقلاً وسمعاً.
وكذلك خصَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوعيد فيمن تعرَّض لمثل ذلك الجنس المُجْمَعِ على تسميته خلقاً، وقيل للمصوِّرين: " فليخلقوا حبَّةً أو شعيرةً " وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يُضَاهُون بخلق الله، والذين يُشَبِّهُون بخلق الله " (1) ولم يقل لهم: اخلقوا قياماً ولا قعوداً، ولا قيل لمن قام وقعد: إنه ضاهى بخلق الله.
وكذلك في " الصحيح " (2) ذم الواشمات بتغيير خلق الله وتسميتهن المغيرات خلق الله، ففرَّق بين كسبهن الحادث وبين الخلق. ويشهد له من القرآن قوله تعالى: {ولآمُرَنَّهم فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119].
__________
(1) تقدم تخريجه قريباً.
(2) تقدم تخريجه قريباً أيضاً.(7/101)
ويدل على ذلك حديث رِفاعة بن رافع، وسيأتي (1) في تفسير قوله تعالى: {والله خَلَقَكُم وَمَا تَعمَلُون} [الصافات: 96].
وهذه أحاديث صحاحٌ، وفيها شهادة على الفرق المعلوم من الدين والعقل بين خلق الرب سبحانه وفعل العبد الضعيف، وأن بينهم من التمايز والتباين العظيم ما أوجب (2) على العبد تحريم تشبيهه لكسبه الراجع إلى الوجوه الإضافية العدمية، الموقوف على سائر القَدَرِ والتيسير والمشيئة بخلق ربه عز وجل.
بل هذه مذاهب الأشعرية في جميع أفعال العباد إلاَّ ما كان تقديراً وتصويراً في الأجسام، فإنه يُسَمَّى خلقاً بمعنى آخر، أي: تقديراً.
وأما سائرُ أفعال العباد (3)، فعند أهل السنة كلهم أنها من حيث نُسِبَتْ إلى العباد لا تسمى خلقاً، وإنما تُسمى كسباً وعملاً وفعلاً. فالوجه عندي في ذلك فيها واحدٌ، وهو أن أهل اللغة سَمَّوْها بذلك فَرْقاً بينها وبين إيجاد الأجسام من العدم وتصويرها، لا (4) لأنها أفعالُ العباد خاصة، بل هذا مذهب البغدادية من المعتزلة: أن الخلق اسمٌ لما يوجده الله بغير مباشرةٍ.
وبعد اعتراف الأشعرية بأسمائها هذه، بقي (5) تسميتها خلقاً مجرد دعوى تحتاج إلى دلالةٍ تقطع الخلاف.
ولأمرٍ ما اختلفت العباراتُ عن أفعال الله تعالى أيضاً فعبَّر سبحانه عن بعضها بالخلق، وعن بعضها بأخصِّ أسمائه كإنزال المطر، ورفع السماء، فإن المطر والسماء يُسَمَّيَان مخلوقين، والإنزال والرفع لا يُسَمَّيَان مخلوقين بل مفعولين.
__________
(1) ص 115 من هذا الجزء.
(2) في (ش): يوجب.
(3) من قوله " إلاَّ ما كان تقديراً " إلى هنا سقط من (ش).
(4) " لا " سقطت من (ش).
(5) تصحفت في (أ) إلى: نفى.(7/102)
وكذلك قال الله تعالى: {مِنْها خَلَقْناكُم وفِيها نُعِيدُكُم} [طه: 55] ولم يُسَمِّ الإعادة إلى الأرض خلقاً، لأنها عبارة عن الدَّفْنِ الذي هو من جنس أفعال العباد.
وأوضح من هذه الآية {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17 - 20].
ولذلك فرَّق أئمة السنة بين الخلق والجعل في مسألة القرآن كما مضى تقريره في مسألة القرآن.
وقد يجوز في بعض ما عُدِلَ به عن لفظ الخلق إلى اسمه الخاصِّ به أن يسمى خلقاً مثل قوله: {وَمِنْها نُخرِجُكم تَارةً أُخرى} [طه: 55] فإن الإخراج هذا (1) يجوز أن يسمى خلقاً إن كان ترجم به عن الخلق، وإن كان إنما أراد الإخراج من حيث هو إخراجٌ، ولم يُشِرْ به إلى الخلق، فلا يظهر تسميته خلقاً على انفراده، فقد يستدل الجويني ومن وافقه من أصحابه ومن معتزلة بغداد بهذه الأمور على أن الخلق في اللغة يختص بالمعاني التي قدمنا ذكرها، فيجبُ قَصْرُه عليها، وتفسيرُ {خالق كلِّ شيء} بما (2) يُسمى خلقاً، ولا يلزم من قال بهذا من أهل اللغة محذورٌ، ولا مخالفةٌ لمذهب أهل السنة وحقيقته، لأنهم إنما يقولون:
الأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق من الأمر لا من الخلق، فرقاً بين مجرد (3) التسمية مع اعترافهم بأن الخلق والأمر، كلاهما لله (4) وحده لا شريك له، على أنهم لم يصرحوا بهذا، وإنما هو منتهى ما يلزمهم (5) عند التحقيق، ولهم أن يوافقوا على ما أجمع عليه السلف الصالح منهم من تسمية
__________
(1) في (ش): هنا.
(2) في (ش): إنما.
(3) في (ش): مجرى.
(4) في (ش): مع اعترافهم بأنهما لله تعالى.
(5) في (ش): يلزم.(7/103)
الأفعال مخلوقةً: أي: مقدَّرةً لأن تسميته بذلك بهذا المعنى تسميةٌ صحيحةٌ باتفاق أهل اللغة.
فعلى هذا التلخيص أن الله خالق كل شيء بمعنى التقدير، وخالق كل شيء بمعنى الإيجاد، وما بمعنى الثاني -وهو الإيجادُ- يختص بالأشياء الحقيقية وهي الذوات، ويكون معناه: خالق كل مخلوق، ويخرج منه الأمر مع كونه لله وإلى الله (1) وحده لا شريك له، ولذلك لم يدخل القرآن في قوله تعالى: {خالِقُ كلِّ شيء} [الأنعام: 102] عند فرق أهل السنة القائلين بقِدَمِه والمانعين من ذلك، على ما مر تحقيقه في مسألة القرآن في آخر الكلام في الصفات، مع أنهم مُجمِعُون مع اختلافهم في القِدم على أن القرآن ليس بمخلوقٍ، وأن القول بأنه مخلوق، ولذلك أنكر ذلك قدماء أهل البيت عليهم السلام كما ثبت في " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، وقد تقدم في مسألة القرآن.
وثبت بهذا أنه لا حجة في العمومات على أن أفعالنا مخلوقةٌ، لأن معنى: إن الله خالق كل شيء، أي: كل شيء يسمى مخلوقاً، ولذلك خرج القرآن من ذلك، لأن الكلام لا يسمى في اللغة مخلوقاً إلاَّ (2) بمعنى المكذوب، وكذلك لا تسمى أفعالنا بذلك.
فثبت أن كل شيء يسمى مخلوقاً من الأجسام وصورها والطعوم والألوان والروائح وسائر ما في العوالم من نحو ذلك، داخلٌ في أن الله خالق كل شيء، وما لم يثبت أنه يسمى مخلوقاً كأفعالنا لا يدخل في ذلك بمرَّة (3).
ولو سلمنا أنه يدخل فيه لغةً جاز تخصيص القبائح منه، كما هي مخصوصةٌ من قول سليمان عليه السلام: {وأُوتينا من كلِّ شيءٍ} [النمل: 16] بل من قوله تعالى في بلقيس: {وأُوتِيَتْ من كلِّ شيء} [النمل: 23].
__________
(1) عبارة " وإلى الله " لم ترد في (ش).
(2) " إلا " سقطت من (ش).
(3) في (أ): ثمرة، وهو تصحيف.(7/104)
ألا ترى أنها لم تُؤْتَ ملك سليمان، ولو أُوتِيَتْ ذلك ما قهرها وغلبها، ولو دخلت في هذا القبائح كانت زانيةً بَغِيَّةً، مسافِحَةً مجاهرةً، ولو كانت كذلك ما تزوجها عليه السلام.
يوضحه: أن الله يعلمُ كلَّ شيء، ولا يلزم أن يعلم عدم موجودٍ، ولا سعادة شقيٍّ، ولا كذب صادقٍ، لأن المعنى: يعلم كل شيء معلوم، فكذلك هو خالقُ كل شيء، وكذلك لم يدخل شيء في ذلك من كلمات الله تعالى التي تَقِلُّ البحار عن أن تكون مِداداً لها.
فليلخص (1) من هذا أن أهل السنة وإن أجمعوا على أن أفعال العباد تُسَمَّى مخلوقةً، فلم يعنوا بذلك أمراً يُوجِبُ الجبر وينفي الاختيار، واختلف تفسيرهم لهذه العبارة بما تقوم معه لله سبحانه وتعالى على عباده الحجة البالغة، والحمد لله رب العالمين.
القسم الثاني: من أدلة أهل السنة على خلق الأنعال: ما اختلفوا في صحة الاحتجاج به، وتفرَّد به الفرقتان الأوَّلتان، ومَنَعَ من الاحتجاج به الفرقتان الآخرتان: آيتان وحديثان.
الآيةُ الأولى: {وَمَا رَمَيْتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمَى} [الأنفال: 17] احتج بها من قال بخلق الأفعال أنفسها، وأجاب الآخرون بأنها مَسُوقَةٌ لبيان إعانة الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أثر تلك الرمية، أو تولِّيه سبحانه لأثرها كله، وليس في الآية ما يدلُّ على أن الله تعالى هو المتفرِّدُ بكل ما فعل (2) العبد من جميع الوجوه، وكيف يصح ونص الآية شاهدٌ بإثبات فعل العباد حيث قال: {إذْ رَمَيْتَ} فالله تعالى أثبت الرمي في نص الآية منسوباً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونفاه عنه في نصها أيضا، فوجب تأويلُ ذلك على كل مذهب، وتنزيله منزلة قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] مع قوله تعالى: {لَيسَ على الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61].
__________
(1) في (ش): فتلخص.
(2) في (ش): بخلق أفعال.(7/105)
والوجه في الآية أنها نزلت في رَمْيَةٍ (1) مخصوصة، وقع لها أثرٌ (2) عظيمٌ لا يقع مثله في الرمي الذي يكون مصدره من قدر العباد وقواهم، فأثبت الله تعالى الرمي منسوباً إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا كان منه في ذلك من الكسب اليسير، ونفاه عنه، لأن أثره العظيم منفيٌّ عنه، فنَزَّلَ الله تعالى رَمْيَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - منزلة المنفي عنه المعدوم بالنسبة إلى ذلك الأثر العظيم.
ودلَّ على ذلك التجوُّز في نفي الرمي عنه مطلقاً بنصِّه (3) على نسبة الرَّمْيِ إليه - صلى الله عليه وسلم - في صريح الآية عقلاً وشرعاً من ثبوت عمى الأبصار، على نحو ما ذكرنا في تأويل الرمي أنه من كون مَضرَّة عَمَى الأبصار كَلاَ شيءٍ بالنسبة إلى مضرَّةِ عمى البصائر.
وأما أولُ آية الرمي. وهو قوله تعالى: {فَلَمْ تَقتُلُوهم ولكِنَّ الله قَتَلَهم} [الأنفال: 17] فيحتمل أنها على الحقيقة كذلك، لأن الإماتة فعلُ الله تعالى، وجميع المسببات عند أهل السنة فعل الله، وهي عند المعتزلة مختلفةٌ، بعضها فعل الله كالإحراق بالنار وصبغ الثياب بالألوان، وبعضها يخالفون فيه، وليس هذا موضع تفصيل (4) هذا.
وقد تقدم في كلام الشهرستاني في الكسب إشارةٌ إلى ما يسمى فعلاً للعبد، ويدخله الأمر والنهي عرفاً، وهو مجمَعٌ على أنه من (5) أثر قدرة الله عند أهل السنة والمعتزلة، وعدَّ منه إزهاق الأرواح، فما كان من هذا القبيل لم يحتج إلى تأويل نسبته إلى الله تعالى، بل ينعكس الأمر، ويجب تأويل نسبته إلى العباد، فنقول: معنى القتل المنسوب إلى العباد أسباب القتل، وفي بعضها نفيٌ، بل كلها نفي للقتل عنهم، وإثباته لله تعالى.
__________
(1) في (ش): قصة، وهو خطأ.
(2) في (ش): بها أمر.
(3) في (أ) و (ف): بنصه، هكذا رسمت، ويمكن قراءتها هكذا: بتبقيه أو لعلها محرفة عن كلمة " بنصّه ".
(4) " تفصيل " لم ترد في (ش).
(5) " من " لم ترد في (ش).(7/106)
وأما آيةُ النفي فتعارض فيها النفي والإثبات، فاستحقَّتِ التأويل، ولو لم نتأولها وجرينا على ظاهر نفي الرمي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن ظاهرها يجري على مذهب أحدٍ من فرق أهل السنة الأربع، فإنهم يجمعون على نسبة أفعال العباد وإن كانت مخلوقةً، ويكون ظاهرها محتاجاً إلى التأويل بالإجماع.
ولذلك احتج بظاهرها ابن عربي الطائي في " فصوصه " (1) على الاتحاد، وظن أن ظاهرها كلها (2) تساعده على ذلك، وليس كذلك، فإنه إن ساعده ظاهرُ شطرها، نافره ظاهرُ الشطر الثاني، وكفى بذلك تعارُضاً يوجب ترك الظاهر والعدول إلى سائر الآيات المُحكَمَات الدالة على إثبات أفعال العباد، ونفي ما توهَّمَهُ من الاتحاد، وبطلانُ جميع ذلك أوضح من أن يعين الاحتجاج عليه دليل، فإنه معلوم (3) من ضرورة الدين والعقل، والمُعَوَّل عليه في مثل هذه المعلومات هو القرائن الضرورية القاضية بالعلم، والعقول المفطورة على الفهم، التي لولا هي، لم يصح الخطاب، ويُخصَّ (4) به ذوو الألباب في نصوص الكتاب.
ولآية الرمي سببٌ نزلت عليه، فَلْتَتِمَّ الفائدةُ في الإشارة إليه، قال الواحدي في " أسباب النزول " (5): أكثر أهل التفسير أن الآية نزلت في رمي النبي - صلى الله عليه وسلم - القبضة من حصى (6) الوادي يوم بدرٍ حين قال للمشركين: " شاهت الوجوه " ورماهم بتلك القبضة، فلم تَبْقَ عينُ مشرك إلاَّ دخلها منه شيء.
قال حكيم بن حزام: لمَّا كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حَصَاةٍ وَقَعَتْ في طَشْتٍ، ورمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الحصيات، فانهزمنا، فذلك قوله تعالى: {ومَا رَمَيْتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رَمى} [الأنفال: 17].
__________
(1) ص 185.
(2) " كلها " ليست في (ش).
(3) " معلوم " سقطت من (ش).
(4) في (ش): يختص.
(5) ص 156 - 157.
(6) في " أسباب النزول ": حصباء.(7/107)
ورُوي غير هذا في أسباب النزول، وهذا أشهره.
وفي " المستدرك " (1) من حديث سعيد بن المسيب، عن أبيه: أن الآية نزلت في طعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بن خلفٍ. وقال على شرطهما.
الآية الثانية: قوله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95 - 96].
وقد احتج بها الطائفتان الأوَّلَتَان من أهل السنة، منهم أبو عبيد، ومنع ذلك الآخرون منهم ابن قتيبة، فإنه رد على أبي عُبيدٍ في " مشكل القرآن ".
ولأجل اختلاف أهل السنة في ذلك قال ابن كثيرٍ في أول " البداية والنهاية " (2) في قصة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: وسواء كانت " ما " مصدرية، أو بمعنى الذي، فمقتضى الكلام أنكم مخلوقون والأصنام مخلوقةٌ، فكيف يعبد مخلوقٌ لمخلوقٍ. انتهى.
فأشار إلى القولين ولم يتعرض لنصرة أحدهما على الآخر لاختلافهم في ذلك.
ووجه كلام المُحتَجِّين بها هو ما يُتَوهَّم قبل التأمل من أن ظاهرها يقتضي ذلك، ووجه كلام المانعين من أهل السنة المنع من ظهور ذلك في الآية، ثم دعوى ظهور خلافه، فهذان مقامان.
__________
(1) 2/ 327. وأخرج ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (15829) عن الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} قال: جاء أُبي بن خلف الجمحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعظم حائل ... فذكر الخبر.
وأورد هذين الخبرين الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 3/ 572 إلاَّ أنه جعل حديث الحاكم في " مستدركه " عن سعيد بن المسيب ولم يرفعه إلى أبيه! وصحح إسناده. ثم قال: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضاً جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة .. والله أعلم.
(2) 1/ 137.(7/108)
المقامُ الأول: المنع من ظهور معناها فيما زَعَمُوا، وذلك أن المنع يترتب على ظهور الاشتراك الذي يمنع تحقيقه من الظهور، وبيان الاشتراك الذي فيها ما في لفظة " ما " من الاحتمال المعلوم عند أهل علم البيان (1) ونُقَّاد هذا الشأن، فإنها مُحتَمِلَةٌ لمعنيين:
الأول: أن تكون موصولةً بمعنى: الذي، مثل قوله تعالى: {أتَعْبُدونَ ما تَنْحِتونُ} [الصافات: 95].
الثاني: أنها مصدريةٌ بمعنى: وعملكم. وعلى تقدير أنها موصولةٌ تكون أيضاً محتملةً لمعنيين:
أحدهما: أن المراد بالذي تعملونه الأصنام، أي تعملون أشكالها ومقاديرها، كما يقال: صنع النجار الباب، وهذا السيف صنعه فلانٌ، وتسميتُها معمولة حقيقة وعملاً مجازاً، أو حقيقة (2) عُرفِيَّة شائعة.
ومنه حديث رفاعة بن رافع البدري رضي الله عنه، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لهم حين دعاهم إلى الإسلام: " من خلق السماوات والجبال؟ " قلنا: الله، قال: " فمن عمل هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن، قال: " فالخالق أحق بالعبادة أم المخلوق وأنتم عملتموها؟ والله أحق أن تعبدوه من شيءٍ عملتموه ".
رواه الحاكم في أول كتاب البر من " المستدرك " (3) وصحَّحَه، كما يأتي بإسناده وتمام متنه، وهو ظاهر كلام المفسرين.
قال البغوي (4): وما تعملون بأيديكم من الأصنام. هذا وهو من أهل السنة، وممن ظن مع هذا أن الآية تدل على خلق الأعمال.
__________
(1) في (أ) و (ف): اللسان.
(2) في (أ): وحقيقة.
(3) 4/ 149، وسيأتي عند المؤلف ص 115، فانظر الكلام عليه هناك.
(4) تمام نصه في " تفسير البغوي " 4/ 31: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} بأيديكم من الأصنام، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى.(7/109)
الثاني: أن يكون المرادُ: وما تعملونه من أعمالكم، وعلى هذا التقدير فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون المراد من أعمالكم مُطلقاً، فيدل على خلق الأفعال كالمصدرية.
وثانيهما: أن يكون المراد من أعمالكم في الأصنام وهو صنعتها (1) أصناماً، وعلى هذا يكون المعنى: وما تعملون فيه.
وذلك أن الفعل قد يُطْلَقُ على المصدر، وهو الذي في مَحلِّ القدرة: مثل حركة اليد عند تصوير الأصنام، وقد تُطلَقُ على الأثر المتعدِّي عن محلِّ القدرة (2) وهو التصوير الباقي (3) بعد فراغ الفاعل من حركته، وهذا المتعدِّي هو الذي أنكره ثُمامة والمطرِّفِيَّةُ من الزيدية أن يكون فعلاً للعبد، وسَمَّوْهُ مفعولاً لا فعلاً.
والمراد في هذا الوجه الثاني: والله خلقكم والذي تعملون فيه عملكم، أي: والأصنام التي تصورون فيها تلك التصاوير.
والاحتمال الأول معناه: وخلق الأجسام التي هي عملكم، أي: مَعمُولكم، ومع وضوح الاحتمالات، بل الاحتمال الواحد يبطل ظهور الآية فيما ادَّعَوْا، ويبقى في حيِّز الاحتمال حتى يقضي الترجيح الصحيح لما ادَّعوه، لكنه قاضٍ عليهم لا لهم كما يظهر في المقام الثاني، وهو ظهورُ خلاف ما فهموه.
وذلك أن المعوَّل عليه في مثل هذه المشكلات هو ترك العناد والعصبية أولاً، ثم ترك القرائن العقلية النظرية واللغوية العادية تعمل عملها، وتطلب أثرها، ولا شك أنها تقضي بأن المراد بما تعملون الأصنام أنفسها كما ثبت ذلك
__________
(1) في (ش): صنعها.
(2) من قوله " وقد تطلق على الأثر " إلى هنا سقط من (ش).
(3) في (ش): الثاني، وهو تحريف.(7/110)
في حديث رفاعة الصحيح، وذلك لوجوهٍ:
الوجه الأول: أن الله تعالى ساق الآية للاحتجاج على بطلان عبادة الأصنام، وليس في كون أعمال العباد مخلوقةً حجةٌ على بطلان عبادة الأصنام، وفي كون الأصنام مخلوقةً لله تعالى أوضح برهانٍ على بطلان عبادتها لوجهين:
أحدهما: أن الله تعالى نصَّ على هذا المعنى في غير آيةٍ، والقرآن يُفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الفرقان: 3]، وقال في سورة النحل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ (1) مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20].
وثانيهما: أن المشركين حينئذ يُنَبِّهون على أنهم مثلها في كونهم مخلوقين، وليس ينبغي أن يكون العبد والرب من جنسٍ واحد، لا سيما والعابد منهما هنا (2) أشرف من المعبود بالضرورة من جهتين:
الجهة الأولى: أنه حيٌّ ومعبودُهُ جمادٌ.
والجهة الثانية: أنه الذي صوَّره المعبود، وعلى الهيئة التي كانوا يستحسنون معها العبادة، فإنهم لم يكونوا يستحسنون عبادة الحجر المطموس الذي لا شَكْلَ له، حتى يكونوا هم الذين يُشَكِّلُونه ويضاهون بصورته خلق الله تعالى، وهو من هذه الجهة يسمى معمولاً لهم ومفعولاً، كما يقال في السيف: إنه عَمَلٌ، ونحوه، وكذلك سائر الحُلِيِّ التي هي من تصرُّف الصُّنَّاع في خلق الله، وهذه التسمية حقيقةٌ عُرفِيَّةٌ، وكذلك سائر المسببات كالمِدَاد وسائر الأصباغ.
__________
(1) هكذا قرأ جمهور القراء بالتاء المثناة من فوق، وحجتهم ما تقدم قبل الآية وما تأخر: فما تقدم {وإن تَعُدُّوا نعمةَ الله}، وما تأخّر {إلهُكم إلهٌ واحد}، وقرأ عاصم: {والذين يَدعُون مِن دون الله} بالياء، إخباراً عن المشركين. انظر " حجة القراءات " ص 387، و" زاد المسير " 4/ 437.
(2) " منهما هنا " لم ترد في (ش).(7/111)
وهذه معصيةٌ أخرى تضمنها تصويرهم للحجارة، وهي من أدل دليلٍ على (1) عِظَمِ الجهالة، إذ مجرد تشكيل الصورة من غير حياةٍ غير مميِّزٍ للجماد بمَزِيَّةٍ يشرف بسببها على غير المصوِّر فجمعوا من جهالاتهم (2) في ذلك ظُلُماتٍ بعضها فوق بعض. وهذا الوجه قوي جداً، لأن مقدماته معلومةٌ ضرورية (3)، فإنا نعلم بالضرورة أن الآية مسُوقَةٌ لإقامة الحجة على بطلان ربوبية الأصنام، ونعلم ضرورةً أن الحجة بما ذكرناه أقوم وألزم، وأنها على تقدير أن المراد خلق أعمال العباد خَفِيَّةُ المعنى، والله سبحانه أعلم.
الوجه الثاني: أن قرينة الحال وصنعة البيان تقتضي أن قوله تعالى: {وَمَا تَعْمَلُونَ} في آخر الآية موافقٌ (4) لقوله: {ما تَنْحِتُونَ} في صدرها، لأنه صَدَّرَ الآية الكريمة بإنكار عبادة المنحوت في حال خلق الله له، لكن سمَّاه معمولاً، تجنُّباً للتكرار، فإن الواو حاليَّةٌ في قوله: {والله خَلَقَكُم} والحال هذه العجيبة (5) القاضية تَبْرَأُ منكم في الجهل إلى هذه الغاية البعيدة. وأنت إذا نظرت في طِبَاقِ الكلام وسياقه لم يحسن أن يكون المعمول غير المنحوت، ووجب أن يكون هو إيَّاهُ.
أما إن الأول لا يحسن (6)، فلأنَّ الجملة الحالية تقتضي في مثل هذا الموضع زيادة شدة النكارة معها، كما تقول: أتسُبُّ فلاناً وهو أخوك؟! أتَجْفُوهُ وهو أبوك؟! ولو كان المعمول غير المنحوت لم يكن الشرك معه أقبح، ألا ترى أن الشرك على تقدير خلق الأعمال ليس بأقبح من الشرك مع خلاف ذلك.
وأما إنه يجب أن يكون المنحوتُ هو المعمول، فلما في ذلك من زياده قُبْحِ الشرك، لأنه لا يَخْفَى على عاقلٍ أن أقبح الشرك أن يجعل لله شريكاً وهو خلقه وملكه.
__________
(1) " على " سقطت من (ش).
(2) في (ش): جهالات.
(3) في (ش): ضرورة.
(4) في (أ) و (ش) و (ف): موافقاً، وهو خطأ.
(5) في (أ): العجبية، وهو خطأ.
(6) " لا يحسن " سقطت من (أ).(7/112)
فدلَّ على أن قوله تعالى: {وَما تَعْمَلُونَ} كِنايةٌ عن قوله: {ما تَنْحِتُونَ} خالف بين لفظهما من اتحاد معناهما، لِمَا في ذلك من حُسْنِ السَّبْك وعدم التَّكرار، على ما يعلمه أهل اللسان من أئمة البديع والبيان.
الوجه الثالث: حديث رفاعة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، على ذلك كما سيأتي الآن.
الوجه الرابع: النصُّ على أن أعمالهم مخلوقةٌ لله تعالى يُنافي توبيخهم والاستنكار الشديد لصدوره عنهم.
ولذلك قضى جمهور أهل السنة في الخلق الذي تَمَدَّح الرب سبحانه بالتفرد به أنه خلق الأعيان وإنشاؤها (1) من العدم وتشكيل (2) الصوره التي ورد الوعيد لمن ضاهاه من العبيد.
فكيف إذا ورد ذكر الخلق في مثل هذه الصورة احتمل (3) مثل هذه الاحتمالات؟ أليس توجيهه إلى خلق الأعيان المُنْشَأة من العدم أسبق إلى الأذهان، وأقوم في البرهان، وأجْدر أن يفسر به القرآن، وأولى بنص المعاني والبيان!
ويؤيِّدُ (4) مذهب هذه الطائفة من أهل السنة قول إبراهيم الخليل - صلى الله عليه وسلم - فيما حكى الله سبحانه عنه في غير هذه الآية في سورة العنكبوت: {إنَّمَا تَعبُدُونَ مِنْ دُونِ الله أوْثاناً وتَخْلُقُون إفْكاً} [العنكبوت: 17] فنسب إليهم الخلق الذي بمعنى الكذب، وذمَّهم به لما كان من أفعالهم الاختيارية المحرمة عليهم، وإن كانوا مع ذلك تحت مشيئة الله وعلمه وقضائه وقَدَرِهِ.
ولا شك أن لأفعال العباد عند جميع فِرَق أهل السنة جهتين مختلفتين: جهة يدخلها الحسن والقبح، ومنها تُنْسَبُ الأفعال إلى العباد.
__________
(1) في (أ) و (ش): وأنشاها.
(2) في (أ): أو تشكيل.
(3) في (ش): هذه الآية إلاَّ احتمل.
(4) في (ش): ويؤكد.(7/113)
وجهة لا يدخلها القبح ويدخلها الحسن وحده دون القبح، ومنها تُنسَبُ كل الكائنات إلى الله تعالى، ولكن المجادل لا يحسن منه أن يُلَقِّنَ خَصْمَه شُبهةً وإن كانت باطلةً.
ولا شك أن نسبة الأفعال إلى الله تعالى من شُبَهِ الكفار، ولذلك احتجوا بأقلِّ (1) شبهةٍ منها فيما حكى الله عنهم، وقالوا: {لَو شَاءَ الله ما أشْرَكْنا} [الأنعام: 148] وقد مَرَّ الجواب عليهم مُستوفىً ولله الحمد والمنة في آخر مسألة المشيئة.
فلم يكن الخليل عليه السلام لِيُلَقِّنَهم أعظم من هذه الشبهة التي قد (2) لَهِجُوا بها ودَقَّتْ (3) على خلائق من علماء المِلَّة (4) الإسلامية كيف إلاَّ عبَّاد الحجارة الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غِشَاوةً مع ما أُوتِيَ الخليل عليه السلام من وضوح الحجة، وحُسْنِ العبارة حتى في الدعاء إلى الله تعالى، وحسن الثناء عليه.
ومن ألطف ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: {وإذا مَرِضْتُ فَهُو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله، وإن كانا معاً فِعْلَ الله بإجماع المسلمين، لأن سبب المرض قد يكون منه إما بتناول ما يضُرُّه، وإما بذَنْبٍ يرتَكِبُهُ، والشفاء لا يُضَافُ إلاَّ إلى الله تعالى، وإن كان العبد سببه، لأنه على كلِّ تقديرٍ من نِعَمِ الله تعالى التي يجب شكرها، وأقل الشكر الاعتراف بها.
فمن عرف مثل هذه المباحث، وتمكن من معرفة الراجح، وإلا فلا يَفُتْهُ العمل على قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
على أن الحاكم قد روى حديثاً يصلح إيراده في تفسير هذه الآية الكريمة،
__________
(1) في (ش): لأقل.
(2) " قد " لم ترد في (ش).
(3) في (ش): ودق.
(4) لفظة " الملّة " سقطت من (أ) و (ف).(7/114)
ذكره في أول كتاب البر والصلة من " المستدرك " وصححه فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل، حدثنا إبراهيم بن يحيى بن محمد المقرىء الشَّجَرِيُّ، حدثني أبي، عن عبيد (1) بن يحيى، عن مُعاذ بن رفاعة بن رافع الزُّرَقي، عن أبيه رفاعة بن رافع، وكان قد شَهِدَ بدراً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه خرج وابن خالته معاذ بن عفراء حتى قَدِما مكة، فلما هبطا من الثَّنِيَّة رَأَيَا رجلاً تحت الشجرة -إلى قوله- قلنا: من أنت؟ قال: " انْزِلُوا " فنزلنا، فقلنا: أين الرجل الذي يدعي ويقول ما يقول؟ فقال: " أنا " فقلت: فاعرض فعرض علينا الإسلام، وقال: " من خلق السماوات [والأرض] والجبال؟ " فقلنا: الله، فقال: " من خلقكم؟ " قلنا: الله، قال: " فَمَنْ عَمِلَ هذه الأصنام التي تعبدون؟ " قلنا: نحن، قال: " فالخَالِقُ أحقُّ بالعبادة أم المخلوق فأنتم أحق أن يعبدوكم وأنتم عملتموها والله أحق أن تعبدوه من شيء عملتموه " إلى قوله: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2).
قلت: فقال - صلى الله عليه وسلم -: " فمن عَمِلَ هذه الأصنام التي تعملون " مقرِّراً للحجة عليهم، ولم يقل: فمن خلق عملكم لهذه الأصنام.
وأصرح من ذلك قوله: " والله أحق أن تعبدوه من شيءٍ عملتموه " ولم يقل: من شيءٍ خلق الله عملكم فيه وعبادتكم له.
وفي تفسير كتاب الله تعالى بالرأي وعيدٌ شديد ليس هذا موضِعَ ذكره،
__________
(1) في المطبوع من " المستدرك ": عبد، وهو خطأ.
(2) " المستدرك " 4/ 149 - 150، قلت: وفي تصحيح الحاكم لإسناده نظر، فقد تعقبه الذهبي في " تلخيصه " بقوله: يحيى الشجري -والد إبراهيم- صاحب مناكير، قلت: وابنه إبراهيم لين الحديث، وعبيد بن يحيى مجهول، لم يرو عنه غير يحيى بن محمد الشجري هذا، ولم يوثقه غير ابن حبان 7/ 158، وذكره البخاري في " التاريخ الكبير " 6/ 7، وابن أبي حاتم 6/ 5 ولم يأثرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقد وقع في هذه المصادر الثلاثة في ترجمته " معان بن رفاعة " بالنون، وهو تحريف.(7/115)
ونرجو أن لا يكون العمل بمقتضى القرائن اللغوية والفِطْرية من ذلك إن شاء الله تعالى، وما (1) كَثُرَ فيه الإشكال، ودَقَّ فيه الاحتمال، فأعوذ بالله من الخوض فيه بآراء الرجال، وهذا المستند الذي معي قد أبْدَيْتُ صفحته للناظرين، فمن عرف خيراً منه وأوضح وأبيَنَ فَلْيَتَّبِع الهدى، ولا يَمِلْ عن الأقوى، فإن ذلك صنيع أهل الأهواء، وما أصبت فيه فبحمد الله ومشيئته وحُسْنِ توفيقه، وما أخطأت فيه فبسُوء اختياري، والله سبحانه من ملامته بريءٌ كما صح عن أبي بكرٍ وعمر أنهما قالا ذلك كما سيأتي بيانه.
وكما صح عن ابن مسعود أنه قال مثل ذلك في قصة بَرْوَعَ بنت واشِقٍ وهو المُجَارُ على لسان محمد عليه أفضل الصلاة والسلام كما يأتي بيان صحة ذلك ونظائره في آخر خاتمة هذه المسألة الجليلة إن شاء الله تعالى، وبيان تواتر نصوص الكتاب والسنة وإجماع الصدر الأول على صحة هذه العبارة وحسنها، وعلى مطابقته لقواعد فِرَقِ أهل السنة الجميع، ولله الحمد.
وأما الحديثان النبويَّان:
فالحديث الأول: ما حكى البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " (2) عن الإمام الحافظ أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى أنه روى -يعني في غير " الصحيح "- فقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر محمد بن أبي (3) الهيثم المُطَّوَّعي ببخارى، أخبرنا محمد بن يوسف الفِرَبْرِي، قال: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري (4) يقول: حدثنا علي بن عبد الله -يعني: ابن المديني- حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك، عن رِبْعِيِّ بن حِرَاش، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يصنع كل صانع وصنعته " وتلا بعضهم عند ذلك: {والله خَلَقَكُم ومَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] (5).
__________
(1) في (ش): ومتى.
(2) ص 260.
(3) " أبي " سقطت من (أ) و (ش).
(4) في " خلق أفعال العباد " (117).
(5) إسناده صحيح. أبو مالك: هو سعد بن طارق الأشجعي. وأخرجه الخطيب =(7/116)
ذكره البيهقي في باب الفرق بين التلاوة والمَتْلُوِّ.
وقال في باب بدء الخلق من " الأسماء والصفات " (1) أيضاً: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو النضر محمد بن محمد الفقيه (2)، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا مروان بن معاوية، حدثنا أبو مالك الأشجعي، عن رِبْعي بن حِرَاش، عن حذيفة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث كما تقدم.
انتهى ما أورده البيهقي رحمه الله تعالى.
وخرج البزار هذا الحديث في " مسنده " (3) ولفظه: " خلق الله كل صانعٍ وصنعته ". قال الهيثمي (4) ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله أبي الحسين بن الكردي، وهو ثقةٌ.
ومعنى هذا الحديث معنى صحيح، يشهد له ما نصَّ الله سبحانه عليه من تعليمه بالقَلَمِ، ومنَّ (5) بذلك على عباده، وهو نصٌّ في أنه سبحانه المعلِّمُ لصنعة
__________
= البغدادي في " تاريخه " 2/ 30 - 31 عن محمد بن علي بن أحمد المقرىء، عن محمد بن عبد الله النيسابوري أبي عبد الله الحافظ، بهذا الإسناد.
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (358)، والبزار (2160)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 26 من طرق عن مروان بن معاوية الفزاري، به.
وأخرجه ابن أبي عاصم (357)، وابن عدي في " الكامل " 6/ 2046، والحاكم 1/ 31 - 32 من طريق الفضيل بن سليمان، عن أبي مالك الأشجعي، به. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(1) ص 388، وهو في " المستدرك " للحاكم 1/ 31، وأخرجه عنه البيهقي أيضاً في " الاعتقاد " ص 144.
(2) في " المستدرك ": محمد بن يوسف الفقيه، ويوسف جده. انظر: " سير أعلام النبلاء " 15/ 490 - 492.
(3) (2160) " كشف الأستار ".
(4) في " المجمع " 7/ 197.
(5) في (أ): وما، وهو خطأ وقد كتبت فوقها على الصحيح، وفي (ش): وامتن.(7/117)
الكتابة، وليس فيه حجةٌ على خلق الأفعال، إذ ليس كلُّ فعلٍ يسمى صنعةً، فإن الصنعة اسمٌ لُغَوي تختصُّ بما يحتاج إلى علاجٍ ويُفهَمُ، بحيث يختص به بعض العقلاء في الحقيقتين اللغوية والعُرفية، وهي مقدَّمةٌ على اللغوية، ومنتهى الأمر أن هذا محتملٌ، والقطع ببطلانه في الظنِّيَّات حرامٌ إلاَّ بدليلٍ، كيف في القطعيات؟!
الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله تعالى حين يريد أن يَخْلُقَ الخلق يبعث ملكاً فيدخُلُ الرحم، فيقول: يا رب ماذا؟ فيقول: غُلامٌ أو جاريةٌ، فيقول: يا رب، شقيٌّ أم سعيدٌ؟ فيقول: شقيٌّ أو سعيدٌ، فيقول: يا رب، ما أجله ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، فما من شيءٍ إلاَّ وهو يُخْلَقُ معه في الرحم " (1).
قال الهيثمي (2): رواه البزار ورجاله ثقات.
قلت: فيه الاشتراك في لفظة الخلق، فقد تكون بمعنى التقدير ومعناه هنا (3) صحيحٌ ولا نزاع فيه، وقد تكون بمعنى الإيجاد ولا يَصِحُّ هذا المعنى، لأن العمل غير موجودٍ في الرحم، ولأن سياق الحديث يدلُّ على ذلك من أوله، وانما ذكر الخلق في آخره ليُتَرجِمَ عما تقدم في أوله من الأمور التفصيلية، فكأنه قال: ما مِنْ شيءٍ من الذُّكورة (4) والأُنُوثة، والرزق والأجل، والسعادة والشقاوة، إلا يُخلَقُ في الرحم.
فهذان الحديثان أقوى ما عرفت في ذلك، ولم يذكروا منهما إلاَّ حديث حُذيفة، ولعلهم إنما تركوا حديث عائشة لظهور الأمر (5) فيه، وأن الخلق فيه بمعنى التقدير.
__________
(1) أخرجه البزار (2151)، ونسبه الحافظ المزي في " تهذيب الكمال " 5/ 110 إلى أبي داود في " القدر ".
(2) في " المجمع " 7/ 193.
(3) في (ش): هذا.
(4) في (أ): الذكور.
(5) في (ش): الأثر.(7/118)
وأما ما رواه الطبراني (1) عن ابن عباسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه قال: قال الله عز وجل: أنا خلقت الخير والشر، وطوبى لمن قَدَّرْتُ على يديه الخير، وويلٌ لمن قدَّرْتُ على يده الشر " فلا حجة فيه لوجهين:
أحدهما: أن فيه مالك بن يحيى النُّكري، وهو ضعيف، وتكلم فيه ابن حبان (2)، وقال البخاري: في حديثه نظر (3)، ولم أعلم أن أحداً وَثَّقَه.
وثانيهما: أن الخير والشر المنصوص في الحديث إنهما مخلوقان ليسا عبارةً عن الأعمال بدليل قوله: " فطُوبى لمن قَدَّرْتُ على يده الخير ". فالتقدير على اليد هو العمل، وعلى تقدير أن الخير والشر هما العمل نفسه، فإن لفظة " الخلق " مشتركة، وأحد معانيها: التقدير، وأحد معانيها: إيجاد العين، ولا يجوز القطع على أن المراد أحدُ المعنيين إلاَّ بدليل، ولا الظن إلاَّ بقرينةٍ، والقرينة هنا تدل على أنه بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد، وتلك القرينة هي قوله: فطوبى لمن قَدَّرتُ " فإن هذا أمرٌ نِيطَ بقوله: " خَلَقْتُ " وهو كالترجمة عنه، وذلك مُدرَكٌ بالذوق عند أهل اللسان، ومنتهى ما فيه أنه محتَمَلٌ، فلا يصح القطع بأنه غير مرادٍ.
ومما يصلح أن يحتج به الفرقتان الأوَّلتان من أهل السنة قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
__________
(1) أورده السيوطي عنه في " الجامع الكبير " (12797). وقال الهيثمي في " المجمع " 8/ 192 بعد أن نسبه للطبراني: وفيه مالك بن يحيى النكري وهو ضعيف.
(2) في " المجروحين " 3/ 37، قال: منكر الحديث جداً، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد عن الثقات بالمفاريد التي لا أصول لها.
(3) نقله عنه العقيلي في " الضعفاء " 4/ 174، وابن عدي في " الكامل " 6/ 2379، ولم أره في " التاريخ الكبير " ولا في " الصغير " وكلاهما للبخاري، والمؤلف نقل كلام البخاري وابن حبان فيه من " الميزان " للذهبي 3/ 429.(7/119)
وتفسيرها في حديث: " كلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ على الفِطرة، وإنما أبواه يُهوِّدانِهِ ". الحديث (1).
وفيه ما تقدم في حديث عائشة وابن عباسٍ من الاحتمال الناشىء من الاشتراك في معنى الخلق، ويُوضِحُه أن الخلق هنا راجعٌ إلى الفِطْرَةِ.
وقد دلَّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتفق على صحته، أنها العقل القابل للإسلام حتى يخالفه الأبوان، يوضحه ما تقدم من امتناع تفسير الخلق بإيجاد الأعمال، لعدم وجودها في ذلك الوقت بالضرورة، وهذا منتهى ما عَرَفْتُ في هذه المسألة الجليلة.
وقد ادعى بعض الفرقتين الأُولَيَيْنِ الإجماع على ما اختاره، ولم يُسَلِّمْ لهم ذلك الآخرون.
والحق عندي في دعوى الإجماع في ذلك من السلف رضي الله عنهم أنه يُمكِنُ أنها صحيحةٌ على وجهٍ دون وجهٍ، وذلك أن الخلق لفظةٌ مشتركة بين التقدير ويين إيجاد الرب عزَّ وجلَّ للذوات، ولا شكَّ أن أفعال العباد مخلوقةٌ بالمعنى الأول: أي مُقَدَّرةٌ معلومةٌ مكتوبةٌ، مقطوعٌ بوقوعها منهم باختيارهم على جهةٍ تُوجِبُ الحجة عليهم وتقطع أعذارهم، من غير جَبْرٍ ولا سَلْبِ اختيارٍ، وفي الآثار في (2) " الجامع الكافي " عن قدماء أهل البيت ما يكفي ويشفي.
وأما المعنى الثاني ففي دعوى الإجماع عليه بخصوصه بُعْدٌ كثيرٌ مع شهرة هذا النزاع بين متكلمي أهل السنة، فكيف بغيرهم من سائر متكلمي أهل الإسلام؟! فكيف بالسلف الذين كانوا أبعد الناس عن الخوض في مثل هذا والتنصيص عليه؟! وسيأتي قريباً كلام القاضي عياض، والنَّواوي، وابن الحاجب في اختلاف أهل السنة في ذلك، مع ما مضى من ذلك.
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الثالث ص 387.
(2) في (أ) و (ش): والآثار وفي، وهو خطأ، وقد نبَّه على الصواب في (أ) بخط مغاير.(7/120)
والظاهر أنه يتعذَّر نقلُ نصٍّ واحدٍ عن رجل واحدٍ منهم في ذلك بطريقٍ صحيحةٍ بل لا أعلم مثل ذلك نُقِلَ عن أحدٍ منهم بطريق ضعيفةٍ إلاَّ ما رُوِيَ عن علي عليه السلام من طريق أهل البيت عليهم السلام، وهي من أحسنِ الطُّرُق، لكنها مُنقَطِعَةٌ غير مُسنَدَةٍ، ذكرها في " الجامع الكافي " عن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي، عن علي عليه السلام قال: سُئِلَ عليٌّ عليه السلام، فقال -يعني في أفعال العباد-: هي من الله خَلْقٌ، ومن العباد فِعْلٌ، لا يسأل عنها أحدٌ بعدي.
قال أحمد: إنما يعذب الله العباد على فعلهم، لا على خلقه.
وقال أحمد: إنها من الله خَلْقٌ، ومن العباد فعلٌ، لا أن خلق الله تقدم فعل العباد، ولا فعل العباد تقدم خلق الله. روى الجميع عنه محمد بن منصور الكوفي المرادي في كتاب أحمد، وقد تقدم من توعِير معرفة الإجماع ما يُزهِّدُ في كثيرٍ من دعاويه، فمن أشفِّ ما اعتمدوه من دعوى الإجماع أمران:
أحدهما: قول أبي عبد الله البخاري رحمه الله (1)، سمعت عبيد الله بن سعيد يقول: سمعت يحيى بن سعيد يقول: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: أفعال العباد مخلوقةٌ. انتهى.
قلت: البخاري وشيخه عبيد الله بن سعيد، وشيخُه يحيى القَطَّان رحمهم الله، أئمةٌ أثباتٌ من أجِلاَّء ثقات المسلمين لا ريب في صدقهم، لكن القطَّان كان في الطبقة السادسة، فإنه وُلِدَ سنة عشرين ومئةٍ، وتُوفِّيَ سنة ثمانٍ وسبعين ومئة، وذلك قريبٌ من رأس المئتين. وقد قال الذهبي في آخر الطبقة الرابعة من " التذكرة " (2) وهو ما بعد المئة الأُولى إلى الخمسين ومئةٍ ما لفظه: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرة عمرو بن عُبيد العابد، وواصل بن عطاء الغَزَّال، ودعوا إلى
__________
(1) في " خلق أفعال العباد " (125). وأورده عن البخاري: البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 260، وفي " الاعتقاد " ص 109 - 110، والخطيب في " تاريخه " 2/ 31.
(2) 1/ 159 - 160.(7/121)
الاعتزال " والقول بالقدر "، وظهر بخُراسان الجَهْمُ بن صفوان ودعا إلى تعطيل الرب عزَّ وجلَّ وخَلْقِ القرآن، وظهر في قُبَالَتِه مقاتل بن سليمان المفسِّر وبالغ في إثبات الصفات حتى جَسَّمَ، وقام على هؤلاء علماء التابعين وأئمة السلف، وحذَّرُوا من بِدَعِهم. اننهى.
وهو يدُلُّك (1) على أن القطان وشيوخه الذين سمع منهم ما (2) حكاه عنهم من خلق الأفعال قد كانوا بعد زوال أَلفَة الأمة، وانشقاق (3) عصا الإجماع، وظهور الاختلاف والابتداع، فإن حملنا كلامه على ظاهر قول أصحابنا، وهو أنهم الذين يوافقونه في العقيدة من أئمة الحديث والأثر فصحيحٌ، وقد ذكرت في الفرقة الأولى أن غالب المحدِّثين على ذلك، فقد ذكر ابن الحاجب في " المنتهى " أن القول بتكليف ما لا يُطاقُ نُسِبَ إلى الأشعري لقوله بخلق أفعال العباد.
وقد نقل النواوي في كتاب الجُمُعة من " شرح مسلم " (4) والقاضي عياض ما يدل على اختلاف بين مُتَكلِّمي أهل السنة في ذلك دع عنك غير أهل الكلام منهم، فقال في تفسير الختم على القلوب المنسوب إلى الله، دع عنك أفعال العباد (5): قال القاضي: اختَلَفَ المتكلِّمُون في هذا اختلافاً كثيراً، فقيل: هو إعدامُ اللُّطف وإعدام أسباب الخير، وقيل: هو خلق الكفر في صدورهم، وهو قول أكثر متكلِّمي أهل السنة، وقال غيرهم: هو الشهادة عليهم، وقيل: هو علامةٌ جعلها الله تعالى في قلوبهم لتعرف بها الملائكة من تَمدَحُ ومن تذُمُّ. هذا بعد أن ذكر أن الختم بمعنى الطبع والتغطية، ومثله الرَّيْنُ، وقيل: الرَّين اليسير من الطبع، والطبع اليسير (6) من الإقفال، والإقفال أشدُّها. انتهى كلامه.
__________
(1) في (أ) و (ش): بذلك، وهو خطأ.
(2) في (أ) و (ش): من، وهو خطأ، وقد نبه على الصواب في (أ).
(3) في (أ): واشتقاق، وهو تحريف.
(4) 6/ 153.
(5) عبارة " دع عنك أفعال العباد " لم ترد في (ش).
(6) في (أ): أيسر، والمثبت من " شرح مسلم ".(7/122)
وتفريقه بينها يدلُّ على تفسيره بغير الخلق، لأن الخلق لا يكون بعضُهُ أشدَّ من بعضٍ، فثبت أن القول بخلق الأفعال على الجملة صحيحٌ عن (1) كثيرٍ من أهل السنة، شهيرٌ بينهم في العصر الذي ذكره البخاري، ولكن لا يكون ذلك روايةً لإجماع الأمة بغير شكٍّ.
وكذلك إن أراد إجماع أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقةٌ على الجملة، مع ما بيَّنَّاهُ من اختلافهم في تفسير ذلك صحيحٌ أيضاً.
وكذلك إن حملنا كونها مخلوقةً على كونها مقَدَّرةً بقدرٍ أن يختاروها غير مجبرين صحيح أيضاً.
وأما إن حملنا كلامه (2) على أنه أراد بأصحابنا أهل الإسلام، وأن الخلق هو فِعلُ الله، وأن المخلوق من أفعال العباد هو القدر المقابل بالجزاء بلا خِلافٍ في ذلك فغير واضحٍ، ولا يَصِحُّ لأحدٍ أن يروي عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن قدماء التابعين في ذلك نَصّاً ولا ظاهراً.
ولو كان شيءٌ من ذلك يصح لدوَّنَتْهُ الأئمة في دواوين الإسلام من الصِّحاح والسنن والمسانيد والتواريخ، كما دوَّنُوا كلام يحيى القطان هذا عن أهل عصره الذين لا يُوازنون عندهم صحابياً واحداً، وأين آثار الصحابة الصحاح فهي ثابتةٌ [ثبوت] النصوص النبوية، ولذلك دوَّنَها أهل السنة لما عُلِمَ من سلامة أذهانهم من ظلمات الشُّبَهِ وبُعْدِهم عن التكليف لتعريف العقل ما لا يعرفه، والتعرُّض لعلم ما لا يعلم، والتعاطي للدعاوي الباطلة على العقول وعلى الإسلام، وثباتهم على الفطرة التي فطر الله عباده عليها، وتركهم ما لا يعنيهم، وحفظهم لما علموه بالضرورة من نبيهم صلوات الله عليه وسلم، بل لم يذكر ذلك الإمام مالكٌ في " الموطأ "، وقد ذكر في أواخره (3) أمثال ذلك، مثل ما ذكر ما جاء في
__________
(1) في (ش): عند.
(2) في (أ): كلامك، وهو خطأ.
(3) 2/ 900.(7/123)
القدر ونحوه، وكذلك أمثال ذلك ممن صنَّف في ذلك العصر وتكلم في الاعتقاد، ولا ذكره من يليهم.
الأمر الثاني: ما رُوِيَ من ذلك في العقيدة الشهيرة التي رواها أبو الحسن الأشعري في كتاب " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " (1) وهي التي أولها: جُملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله.
قال الذهبي في ترجمة زكريا بن يحيى (2) المعروف بالساجي في الطبقة العاشرة من " التذكرة " (3): إن الأشعري أخذ عن السَّاجي تحرير مقالة أهل الحديث والسلف.
قال الذهبي: قال ابن بَطَّةَ: حدثنا أحمد بن زكريا بن يحيى الساجي قال: قال أبي: في القول في السنة التي رأيت عليها أهل الحديث الذين لَقِيتُهم، إلى آخرها.
قال الذهبي في " الميزان " (4) في ترجمة زكريا بن يحيى الساجي: راوي الإجماع عن أهل السنة على هذه العقيدة التي ذكر فيها إجماعهم على خلق الأفعال.
قال أبو الحسن بن القطان: إنه مُختَلَفٌ فيه في الحديث وَثَّقَه قومٌ وضعَّفه آخرون.
قلت: فبطل الاحتجاج بروايته، إذ لا قائل بتقديم التوثيق على الجرح
__________
(1) ص 290 - 297.
(2) في (أ) و (ش): يحيى بن زكريا، وهو خطأ.
(3) 2/ 709.
(4) 2/ 79، لكن من قوله " راوي الإجماع " إلى قوله " خلق الأفعال " ليس في النسخة المطبوعة منه!(7/124)
المتساويين (1)، على أنه إنما حكى عمن رأى من المحدِّثين، وليس ذلك من عبارات الإجماع (2) في شيء، وعلى أن رواية الإجماع تحتاج إلى استفسارٍ لشدة الخلاف في كثيرٍ من صُوَرِهِ.
فمن الناس من يرى إجماع أهل مذهبه حجةً، بناءً على أنهم أهل الحق، وأنهم المُعتَبَرُون في الإجماع، وهذا كثيرٌ.
ومن الناس من يرى عدم علمه بإنكار القول بعد إنتشاره دليلاً على إجماع الباقين على موافقة المتكلم، وهذا كثيرٌ أيضاً.
على أن في هذه العقيدة التي أخذها الأشعري عن الساجي ما لفظه: ويقرون أن الإيمان قولٌ وعملٌ، ويزيدُ وينقُصُ، ولا يقولون: مخلوقٌ ولا غيرُ مخلوقٍ، مع قوله فيها: وعلى أن أعمال العباد يَخلُقُها الله.
فهذا يدل على ما رواه الرازي والشهرستاتي والبيضاوي أن الأشعري لا يجعل الأعمال المخلوقة هي مَورِدُ التكليف، ويجعله ما ليس بمخلوقٍ، إذ لا يمكن حمله على التناقض الصريح في كلامٍ واحدٍ متقاربٍ، مع أن الرجل من أئمة النظر وأهل الحِذْقِ بالكلام والجدل.
أو يكون أراد بالخلق الذي أثبته التقدير، وبالخلق الذي لم يُثْبِتْهُ الفعل، فلا شكَّ في خلق الأفعال بمعنى تقديرها فيهم، وعبارة من ادَّعى الإجماع محتملةٌ لذلك، والله سبحانه أعلم.
وكذلك عقيدة أهل السنة التي رُوِيَتْ عن حرب بن إسماعيل الكَرْمَاني صاحب أحمد بن حنبل عن أهل السنة، ليس فيها ذِكْرُ خلق الأعمال البتة، وإنما فيها ذكر مشيئة الله تعالى، وذلك يُفَسِّرُ القدر، وبين المسألتين فَرْقٌ كما مرَّ تقريره في تفسير القدر في آخر مسألة المشيئة في المرتبة الثانية.
__________
(1) في (ش): المساويين.
(2) في (أ): الإيمان، وكتب فوقها الصواب كما هو مثبت، وفي (ش): الإثبات.(7/125)
على أن الذهبي نصَّ في " النبلاء " (1) في ترجمة أحمد على وضع تلك العقيدة على الإمام أحمد رحمه الله، فقال بعد أن أسندها وذكر شيئاً من ألفاظها، ما لَفْظُه: إلى أن ذكر بهتاً (2) من هذا الأُنمُوذَج المنكَر، والأشياء التي والله ما قالها الإمام أحمد، فقاتَلَ الله واضِعَها، فانظر إلى جهل المحدِّثين يروون مثل هذه الخُرافة ويسكُتُون. انتهى كلام الذهبي.
وقد ذكرته في الذبِّ عن أحمد رحمه الله تعالى، وأعدته هنا لعلَّ المحدِّثين يتنَبَّهُون لمثل ما كان الذهبي رحمه الله يَتَنَبَّهُ له من هذه البواطل التي تشتهر ولا أصل لها.
وبعد أن نقل الإجماع واحدٌ فقد ينقله خلقٌ كثير مستندين إلى ذلك الواحد كما نقله أبو محمد بن حزم في كتابه " الإجماع "، ونقله عنه الفقيه جمال الدين الرَّيْمِي (3) في كتابه في " الإجماع " فلا تفيد كثرة النَّقَلَةِ من المتأخِّرين قوَّة الظن بسبب ذلك.
وهذا آخر ما وعدت بذكره في القسم الثاني من أدلة أهل السنة على خلق الأفعال التي اختلفوا فيها، واختص بها الفرقتان الأوَّلَتَان منهم من أصحاب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني (4)، ولم يحتج إليها جمهورُ الأشعرية أصحابُ
__________
(1) 11/ 303.
(2) في (أ): هنا، وفي " السير ": أشياء.
(3) هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر الحُثَيثي الصردَفي جمال الدين الريمي، فقيه شافعي، اشتغل بالعلم وتقدم في الفقه، وصنف التصانيف النافعة، منها " شرح التنبيه " و" المعاني الشريفة " و" بغية الناسك في المناسك " و" خلاصة الخواطر " و" اتفاق العلماء " -وهو الذي أشار إليه المصنف وسماه " الإجماع "- توفي سنة 792 هـ. والصردفي والريمي نسبة إلى ناحيتين في اليمن. انظر ترجمته في " إنباء الغمر " 3/ 47 - 48، و" الدرر الكامنة " 3/ 486، كلاهما لابن حجر، و" العقود اللؤلؤية " للخزرجي 2/ 218، و" شذرات الذهب " للعماد 6/ 325.
(4) في (أ) و (ش): الأشعري، وهو خطأ، وقد كتبت على الصواب في (أ) فوق الكلمة الأولى.(7/126)
الكسب أتباع القاضي أبي بكر الباقلاني، وأصحاب ابن تيمية وإمام الحرمين، وما قصدتُ بجميع ما ذكرته إلاَّ نصيحة المسلمين، وبراءة أئمة السنة من نفي الاختيار.
ثم أختِمُ الكلام في هذه المسألة العظمى بما يُؤيِّدُ ما ذكرتُه من براءتهم عن نفي الاختيار بذكر فصلٍ أُورِدُ فيه جُملةً شافيةً مما وقفت عليه من نصوصهم الدالة على تواتر ذلك لاختلاف أهلها بُلداناً وأزماناً وأسباباً (1)، ولا أُمَيِّزُ من هو من الفرقة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة في هذا الفصل، وبالله التوفيق.
فمن ذلك قول صاحب " الخارقة " في أوائلها: خلق الله الفعل (2) في عبده لا يؤدي إلى الإجبار، كما أن علمه بوجوده ووقوعه في محلٍّ مخصوص ووقتٍ مخصوص لا يؤدي إلى الإجبار، وإلا فما الفرق بين الأمرين، إذ ما عُلِمَ، فلا بُدَّ من وجوده، وما خُلِقَ فلا بد من حدوثه ... إلى قوله: فليت شعري، أي الأمرين أسلم، أنُصَدِّقُ الله تعالى فيما قال، ونَرجِعُ على أنفسنا باللوم والتعيير فيما خالفنا فيه الشريعة؟ أم نقول: نحن مُستَبِدُّون بخلق أفعالنا ولا يقدر الله تعالى على خلق شيء منها؟
إلى قوله: فقد بان أنَّ مقالة المُجْبِرَةِ: إن الإنسان مُجبَرٌ على جميع أفعاله، مُلجَأٌ إليها، مُضطَرٌّ إلى فعلها، وأنه لا فعل له أصلاً، تجويرٌ للبارىء وإبطالٌ للتكليف (3)، وحَسْمٌ لباب الثواب والعقاب، ومَقالَةُ القدرية تجهيلٌ للبارىء بأمر خلقه، وتعجيزٌ له عن تمام مشيئته فيهم، وكلا الصِّفَتَيْنِ لا تليق بمن وصف نفسه بأنه أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين.
فظهر لك أن أهل السنة والجماعة قد سَلَكُوا طريقةً سليمةً من شناعة المقالتين،
__________
(1) في (أ): وإنساناً، وهو تحريف.
(2) " الفعل " لم ترد في (أ)، وقد أُلحقت في (ش) إلحاقاً بخط مغاير.
(3) في (أ): التكليف.(7/127)
مُنتَظِمَةً لكل واحدٍ من الطرفين، ارتفعت عن تقصير الجبربة، وانحطت عن غُلُوِّ القدرية.
إلى قوله: وقد رُوِيَ عن جعفر بن محمد عليه وعلى آبائه السلام أن رجلاً قال له: العباد مجبُورُون؟ فقال: الله عزَّ وجلَّ أعدَلُ من أن يُجبِرَ عبده على معصيته، ثم يُعَذِّبَه عليها، فقال له السائل: فهل أمرُهم مُفَوَّضٌ إليهم؟ فقال: الله أعزُّ من أن يُجَوِّزَ في مُلكِهِ ما لا يريد، فقال له السائل: فكيف ذاك إذاً؟ قال: أمرٌ بين الأمرين، لا جَبْرٌ ولا تفويضٌ.
فبنى أهل السنة تفريع مقالتهم هذه على أصل الغَرَض منه أن لله تعالى علم غيبٍ سَبَقَ بكلِّ ما هو كائن قبل كونه، ثم خلق الإنسان فجعل له عقلاً يُرشِدُه، وقدرةً يصح بها (1) تكليفه، ثم طوى علمه السابق عن خلقه، وأمرهم ونهاهم، وأوجب عليهم الحجة من جهة الأمر والنهي الواقعين عليهم، لا من جهة علمه السابق فيهم، فهم يتصرفون بين مطيع وعاصٍ، وكلهم لا يعدو علمه السابق فيهم (2)، وليس في علم الله الأمور إجبارٌ على ما توهَّمَه المُجبِرُون، ولا تَتِمُّ الاستطاعة على ما يهُمُّ به من الأمور إلاَّ بأن يُعينه الله عليه، فإن عصمه مما يَهُمُّ به من المعصية، كان فضلاً، وإن وَكَلَه إلى نفسه، كان عدلاً، فإذا اعتبرت حال العبد من جهة الإضافة إلى علم الله السابق فيه، وجدته في صوره المُجْبَر، وإذا اعتبرت حاله من جهة الإضافة (3) إلى الاستطاعة المخلوقة له، والأمر والنهي الواقعين عليه وجدته (4) في صورة المُفَوَّض، وليس هناك إجبار مُطلَق، ولا تفويضٌ مُطلَق، إنما هو أمرٌ بين أمرين يَدِقُّ عن أفكار المُعَبِّرِين، ويُوِلهُ أذهان المتولِّهين، وهذا (5) ما أشار إليه أهل السنة من قولهم: إن العبد لا مُوثَقٌ ولا مُطلَقٌ.
__________
(1) في (ش): بهما.
(2) " فيهم " سقطت من (ش).
(3) من قوله " إلى علم الله السابق " إلى هنا سقط من (أ) و (ف).
(4) في (أ): وجد.
(5) في (ش): وهذا معنى.(7/128)
ولأجل هذا الإشكال والدِّقة رأى المشيخةُ من أهل السنة وجِلَّة العلماء الوقف عن الكلام في ذلك، وترك الخوض فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ذُكِرَ القضاء فأمْسِكُوا " (1).
فكان هذا المذهب أحسن (2) المذاهب لمن أراد الخلاص والسلامة، لكن عند الضرورات تُباح المحظورات. انتهى بحروفه.
ومن ذلك قول البيضاوي في كتابه " طوالع (3) الأنوار " وقد ذَكَرَ احتجاج المعتزلة بالآيات الدالة على أن أفعال الله عزَّ وجلَّ لا تتصف بصفات أفعال العباد من الظلم ونحوه، قال ما لفظه: أجيب بأن كونه ظلماً اعتبار تعرُّض بعض الأفعال بالنسبة إلينا لقُصُور ملكنا واستحقاقنا، وذلك لا يمنع صدور أصل الفعل عن البارىء تعالى مجرداً عن هذا الاعتبار.
واعلم أن أصحابنا لما وجدوا تَفْرِقَةً بديهيةً بين ما يزاوله وبين ما يُحِسُّه من الجمادات ورادَّهم قائم البرهان عن إضافة الفعل إلى العبد قطعاً، جمعوا بينهما وقالوا: الأفعال واقعةٌ بقدرة الله تعالى وكسب العبد، على معنى أن العبد إذا صمَّم العزم فالله يخلق الفعل، وهو أيضاً مُشْكِلٌ، ولصعوبة هذا المقام أنكر السلف على المناظرين (4) فيه. انتهى بحروفه.
ومن ذلك قول ابن الحاجب في كتابه " مختصر منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل " وهو كتاب مُتداوَلٌ في أيدي الزيدية في هذه الأعصار، فأحببتُ أن أستكثر النقل منه، ليتَوَضَّحَ لهم غَلَطُهم على أهل السنة في النقل، وقد ذكر ما يدل على ذلك في مواضع:
منها: نَقْضُه في مسألة التحصين والتقبيح استدلال بعض الجبرية على
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء السادس.
(2) في (ش): آخر.
(3) " طوالع " لم ترد في (أ).
(4) في (ش): الناظرين.(7/129)
بطلان التحسين والتقبيح بما معناه: أن العبد غير مختارٍ، بدليل أن الفعل مع الرجحان واجبٌ، ومع عدم الرجحان ممتنع، فإن قُدِّرَ تخلُّفُه مع الرجحان ووقوعه مع عدمه، فهو اتفاقي، وأكثر من تَلَهَّجَ بهذه الرازي، لكنه رجع في " نهاية العقول " إلى أن ذلك لا يوجب نفي الاختيار كما تقدم.
قال ابن الحاجب في " المنتهى " في رد هذه الشبهة ما لفظه: وهذا ضعيفٌ، فإنا نُفَرِّقُ بين الاختيارية والضرورية ضرورةً، ويلزم عليه فعل البارىء، وأن لا يوصف بحُسْنٍ ولا قبحٍ شرعاً، والتحقيق أنه يترجح بالاختيار. انتهى كلامه.
وهو نصٌّ لا يحتمل التأويل في نفي الجبر.
ومنه قوله في المحكوم فيه، وهو من أفعال العباد ما لفظه (1): شرط المطلوب الإمكان، ونُسِبَ خلافه إلى الأشعري، ثم ذكر احتجاج من قال بذلك بأمرين:
أحدهما: أن القدرة مقارِنَةٌ للمقدور (2).
وثانيهما: أن الأفعال مخلوقةٌ.
ثم أجاب عن الوجهين معاً بأن ذلك يستلزم أن التكاليف كلها تكليفٌ بالمستحيل، وهو باطلٌ بالإجماع.
هذا نصُّ ابن الحاجب، وفيه أوضح دليلٍ على مخالفتهم للأشعري في معنى خلق الأفعال، وفي مقارنة القدرة على ما تقدم تقريره.
وإنما قال: نُسِبَ خلافه إلى الأشعري، على صيغة ما لم يُسَمَّ فاعله، لأن الأشعري لم يَنُصَّ على التكليف بغير الممكن، ولا هو لازِمٌ له قطعاً لما تقدم
__________
(1) انظر " مختصر ابن الحاجب مع حاشية التفتازاني " 2/ 9 و11.
(2) في (ش): لوجود المقدور.(7/130)
من نَقْلِهم عنه أنه يرى أن التكليف غير مُتَوجِّهِ إلى الفعل المخلوق عنده، وإنما هو متوجِّهٌ إلى الاختيار، وليس الاختيار عنده بمخلوقٍ إذ ليس بشيء حقيقيٍّ.
ولكن ألزمه القول بجواز التكليف بالمحال من وقف على ظاهر قوله: إن الأفعال مخلوقةٌ وإن القدرة مقارنة، وقد تقدم أنه لم يَقُلْ بذلك في مورد الطلب والتكليف، لأن المقارنة غير مؤثرةٍ ألبتة، ولا يصح أن تقارن ما وقع بها من الاختيار، وإنما تقارن المخلوق بقدرة الله تعالى.
وقال ابن الحاجب في هذه المسألة (1): لو كُلِّفُوا بعد علمهم لانتفت فائدةُ التكليف، ومثله غير واقعٍ.
وقال في المسألة الثانية (2): لو صحَّ لأمكن الامتثال.
وقال في المسألة الثالثة في معنى الترك (3): لا تكليف إلاَّ بفعلٍ، لنا: لو كان لكان مُستدعىً حُصُولُه منه، ولا يُتَصَوَّرُ، لأنه غير مقدورٍ له، وأُجِيبَ بمنع أنه غير مقدورٍ له كأحد قولي القاضي.
وقال في المسألة الرابعة (4): قال الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، ومَنَعه الإمام والمعتزلة، فإن أراد الشيخ أن تعلُّقه لنفسه فلا ينقطع بعده، وإن أراد أن تنجيز التكليف به باقٍ، فتكليفٌ بإيجاد الموجود، وهو محال، لامتناع إتيان المكلَّف به (5)، ولعدم صحة الابتلاء، فتنتفي فائدة التكليف قالوا: مقدورٌ حينئذٍ باتفاقٍ، فيصح التكليف به. قلنا: بل يمتنع (6) بما ذكرنا.
ففي هذا التصريحُ بمخالفتهم للأشعري، والتصريح بأن الأشعري يُعَلِّلُ صحة التكليف بكونه مقدوراً، وذلك يدل على صحة ما ذكره الرازي
__________
(1) 2/ 11.
(2) 2/ 12.
(3) 2/ 13.
(4) 2/ 14.
(5) عبارة " لامتناع إتيان المكلَّف به " ليست في المطبوع من " المختصر ".
(6) في (أ): يمنع، وفي (ش): ممتنع، والمثبت من " المختصر ".(7/131)
والشهرستاني عنه من إثبات الاختيار.
وقال ابن الحاجب (1) في المحكوم عليه: الفهم شرط التكليف، لنا: لو صحَّ، لكان مُستدعىً حصوله منه طاعةً كما تقدم.
وقال فيه (2): يصح التكليف بما عَلِمَ الآمر انتفاء شرط وقوعه من الإرادة، قالت المعتزلة: لو صح لم يكن الإمكان شرطاً فيه، وأُجيب بأن الإمكان المشروط فيه أن يكون مما يتأتَّى فِعلُه عادةً عند وقته واستجماع شرائطه كما لو جَهِلَ الآمر، وهو اتفاق.
قالوا: لو صح لصحَّ مع علم المأمور، أُجِيبَ بانتفاء فائدة التكليف وهو (3) يطيع ويعصي بالعزم والبشر والكراهة.
وقال في البيان والمبين (4): تأخير البيان عن وقت الحاجة مُمتنِعٌ. إلى آخر كلامه في المسألة.
وكذلك توجيهُه للصلاة في الدار المغصوبة باعتبار الجهتين، وكلامه في الواجب المخَيَّر وفي ما لا يَتِمُّ الواجب إلاَّ به، وأمثال ذلك.
كل ذلك يدل على مراعاتهم للعقل والشرع في منع المحالات، ولو تعرَّضْتُ لشرح كلامه وبيان مقاصده لطال، وبيان مأخذي من مقاصده، لطال وأمَلَّ، فمن أحبَّ ذلك فليطالع شروح كتابه.
والذي يدل على ما أنا بصدده أن شرَّاح كتابه من الأشعرية يقرِّرون ما ذكره في هذا، ولا يقدحون عليه، ولا ينسبونه إلى التفرُّد باختيار شيء، كما قد يكون من الرازي، ثم كتاب الأصل الذي مختصر المنتهى راجعٌ إليه هو تأليف السَّيف الآمديِّ، أحد أئمَّتهم في الكلام، وكتابه أحد كتبهم المشهورة، وهذه الأمورُ تفيد العلم الضروري بأنهم لا ينفون الاختيار.
__________
(1) 2/ 14.
(2) 2/ 16.
(3) في " المختصر ": ولهذا.
(4) 2/ 164.(7/132)
فالعجب ممن استخرج لابن الحاجب نفي الاختيار وصريح الجبر من قوله في شرح مقدمة " الكافية " في الإعراب في المفعول به من المنصوبات في قوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أنه يفيد العموم في المخلوقات، وهذا ظن من لم يعرف مذهبهم في الشيء الحقيقي الذي يوصف بأنه مخلوقٌ.
فإن قلت: قول الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، وقوله بمقارنة القدرة صريح في التكليف بالمحال.
قلت: كلاَّ، بل فيه أقوى قرينةٍ على أنه ما أراد ذلك، فإنه لو أراد ذلك، وخَلَعَ رِبْقَةَ النظر في التمييز بين الممكن والمحال، لم يقيده بحال حدوثه ولا يشترط قدرةً مقارنةً، ولقال: إنه يصح التكليف بالفعل بعد حدوثه أبداً، ومن غير قدرةٍ أصلاً، ولكن قد اشتهر بين أهل النظر أن العبارة قد تُوهِمُ غير مقصد العالم، لا سيما فيما كَثُرَ غموضه ولَطُفَت دِقَّتُه، ولذلك يكثر اعتراض النُّظَّار للحدود، فلا يكاد تصح عبارة مع صحة المقصود، وربما (1) تعذرت العبارات. بالمرة، وحُكِمَ بالخطأ على كل عبارةٍ كما زعم بعضهم في تحديد العلم.
والذي أحسِبُ أن الأشعري أراد به ما أراد به المعتزلة في التكليف بالمسبَّبَات بعد فعل أسبابها، وبُطلان الاختيار فيها، فإن التكليف قد يُطلَقُ ويراد به تنجيز الفعل، وليس هذا مقصوداً هنا، وقد يطلق ويراد الحكم على الفاعل باستمرار حكم الطاعة والعصيان (2) من غير طلبٍ لتنجيز الفعل، وهذا قد يُتَصَوَّر وقوع الاختلاف فيه لدقته وغموضه، وقد وقع شيخ المعتزلة أبو هاشم في مثل هذا.
قال الجويني في " البرهان " (3): مسألة: من تَوسَّط أرضاً مغصوبةً على علم، فهو متعدٍّ، مأمورٌ بالخروج عن الأرض المغصوبة، ثم الذي ذهب إليه أئمتنا أجمعون أنه إذا افتتح الخروج (4) واشتد أقرب المسالك، وأخذ [فيه]
__________
(1) في (ش): لما، وهو خطأ.
(2) في (ش): أو العصيان.
(3) 1/ 298 - 302.
(4) " الخروج " سقطت من (أ).(7/133)
على مبلغ الجهد، فليس هو مع التَّشمير واجتناب التقصير ملابِساً عدواناً، بل هو منسلك في سبيل الامتثال (1).
وقال أبو هاشم: هو إلى الانفصال عاصٍ، وعَظُمَ النكير عليه من جهة أن من فيه الكلام لا يألوا جهداً (2) في الامتثال، وإذا كانت حركاته امتثالاً، استحال أن تكون محتسبةً عليه عدواناً، وهذا المسلك ناءٍ عن طريق القول في الصلاة في الدار المغصوبة، فإن العدوان في تلك المسألة غير (3) مختصٍّ بالصلاة وحكمها، فانفصل مقصود الصلاة عن مقتضى النهي عن الغصب، كما سبق مقرراً.
والأمر بالخروج فيما نحن مدفوعون إليه مباين للعُدوان على حكم المضادَّة، فكان الحكم (4) للخارج بمُلابسة الامتثال في جهة ترك العدوان مناقضاً لاستصحاب حكم العدوان عليه، وهذا يَلزَمُ أبا هاشمٍ جدّاً، من حيث إنه جعل أكوان الغاصب خارجةً عن وقوعها طاعةً في جهة الصلاه، ورأى تقرير ذلك تناقضاً، فكيف يحكم على الخارج بالامتثال مع استمرار حكم العدوان عليه؟
والذي هو الحق عندي أن القول في ذلك معروضٌ على مسألةٍ من أحكام المظالم، وهي أن من غصب ما لا وغاب به، ثم ندم على ما تقدم وتاب (5)، فالذي ذهب إليه المُحَصِّلُون أن سقوط ما يتعلق بحق (6) الله يتنجز إما مقطوعاً به على رأيٍ، أو مظنوناً على رأي، وأما ما يتعلق بمطالبة الآدميِّين، فالتوبة لا تبرئُهُ منها، ولست أعني بها الغُرْمَ، وإنما أعني بها الطلبة الحاقة في القيمة.
__________
(1) تحرفت في (أ) إلى الأمثال.
(2) " جهداً " ليست في (أ) و (ش)، وهي من " البرهان ".
(3) " غير " سقطت من (أ).
(4) في (ش): الحاكم، وهو خطأ.
(5) في " البرهان ": وثاب، وفيه بعدها عبارة " واسترجع وآب، وأتى بتوبته على شرطها ".
(6) " بحق " سقطت من (أ)، و (ف).(7/134)
فأما المغارم، فقد ثبتت من غير انتساب إلى المآثم، كالذي يجب على الطفل بسبب ما جنى، والسبب في بقاء المظلمة مع حقيقة الندم، وتصميم العزم على استفراغ كُنْهِ الجهد في محاولة الخروج عن حق الآدمي، أن (1) الذي تورط فيما يندم عليه، فلا (2) ينجيه الندم ما لم يخرج عما خاض فيه.
فإذا وضح ذلك (3) انعطفنا على عرض المسألة قائلين: من تخطى (4) أرضاً مغصوبةً، نظر، فإن اعتمد ذلك متعدِّياً، فهو مأمورٌ بالخروج، وليس خارجاً عن العدوان والمظلمة، لأنه كائنٌ في البقعة المغصوية والمعصية مستمرة، وإن كان في حركاته في صوب الخروج ممتثلاً للأمر، وهذه تلتفت على (5) مسألة الصلاة في الدار المغصوبة، فإنها تقع امتثالاً من وجه، وعصياناً (6) واعتداءً من وجهٍ، وكذلك الذاهب إلى صوب الخروج ممتثلٌ من وجهٍ، عاصٍ ببقائه من وجهٍ.
فإن قيل: إدامة حكم العصيان عليه متلقّىً من ارتكابه نهياً، والإمكان مُعتَبَرٌ في المنهيات اعتباره في المأمورات، فكيف الوجه في إدامة معصيةٍ فيما لا يدخل في وسعه الخلاص منه؟
قلنا: تسبُّبُه إلى ما تورَّط فيه آخراً سبب معصيته، وليس هو عندنا منهيّاً عن الكون في هذه الأرض مع بذله المجهود في الخروج منها، ولكنه مرتبك في المعصية مع انقطاع (7) تكليف النهي عنه، هذا تمام البيان.
__________
(1) في (أ) و (ش) و (ف): أنه، والمثبت من " البرهان ".
(2) في (أ) و (ش): ولا، والمثبت من نسختين من " البرهان ".
(3) في (أ) و (ش): لك، والمثبت من " البرهان ".
(4) في (أ) وش و (ف): تعطا، والمثبت من " البرهان "، وقد كتبت على الصواب في (أ) فوق الكلمة تصحيحاً لها.
(5) في " البرهان ": وهذا يلتفت إلى.
(6) " وعصياناً " ليست في (أ) و (ش) و (ف).
(7) في (أ) و (ف): ارتكاب، والمثبت من (ش) و" البرهان ".(7/135)
ويظهر الغرض منه بمسألةٍ ألقاها أبو هاشم حارت فيها عقول الفقهاء، وأنا ذاكرها ومُوضحٌ ما فيها: وهي أن من توسط جمعاً من الجرحى، وجثم على صدر واحدٍ منهم، وعلم أنه لو بقي على ما هوعليه، لهلك من تحته، ولو انتقل عنه، لكان في انتقاله هلاك من انتقل إليه، فكيف حكم الله عليه؟
وهذه المسألة لم أتحصَّل فيها من قول الفقهاء على ثَبَتٍ، والوجه المقطوع به سقوط التكليف عن صاحب الواقعة مع استمرار حكم سُخط الله عليه.
أما وجه سقوط التكليف، فلأنه يستحيل تكليفه ما لا يُطِيقُه، ووجه استمرار حكم العصيان عليه تسبُّبُه إلى ما لا تخلُّصَ منه. انتهى كلام الجويني.
وفيه ما ترى من الإنصاف، فإنه لم يُعنِّف (1) عدوَّهم أبا هاشم، ويؤاخذه بظاهر العبارة، ويلزمه الجبر وتكليف ما لا يُطاق، بل غاص فكره اللطيف في غَمْرَةِ هذه المشكلة حتى استخرج العذر لأبي هاشم.
وكذلك يجب من المعتزلي أن يستخرج عذر أبي الحسن الأشعري كما يستخرجه حُذَّاق أتباعه، ولو فعل الفريقان هكذا لذهب عنهم نصب الشيطان، والله المستعان.
إذا عرفت كلام الجويني في مراد أبي هاشم، فاعلم أن منهم من يُسمِّي بقاء حكم العصيان تكليفاً، وإن لم يكن فيه اقتضاء فعلٍ وطلب تنجيزه، فيَنْسُبُ إليه أن يقول بتكليف المحال، ومن ذلك قول الأشعري: " لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوث " أراد استمرار الحكم من غير طلبٍ، وإنما صح استمرار الحكم عنده، لأن اختياره كان سبب خلق الله تعالى لذلك ووقوع العبد فيه، وانقطاع اختياره فيه حينئذٍ غير عُذرٍ له، لأن اختياره أوَّلاً هو كان سبب انقطاع اختياره ثانياً، كالرامي يتُوبُ قبل أن يُصيب، ثم يصيب سهمه ويقتل، والمُلْقِي لغيره في النار يندَمُ عقيب إلقائه.
__________
(1) في (أ) و (ش) و (ف): يغنم.(7/136)
وهذا هو معنى تكليف ما لا يطاق عند من أجازه (1) من غير طلبٍ لوقوع ما لا يطاق ممن لا يطيقه، كما سيأتي ذلك عند الكلام عليه بخصوصه، ولذلك قال ابن الحاجب فيما تقدم: إن القول بخلق الأفعال ومقارنة القدرة يؤدي إلى أن التكاليف كلها تكليفٌ بالمحال، قال: وذلك خلاف الإجماع.
ففي حكايته للإجماع هذا دِلالةٌ على أن من جوَّز ذلك جوَّزه في صورةٍ نادرةٍ، ومع نُدُور ذلك، فإنما خلاف المخالف فيه في تسمية ذلك الذي لا طلب فيه تكليفاً، كما أن من جوَّز تكليف من (2) لا يفهم إنما أراد بذلك تنفيذ طلاق السكران، والاقتصاص منه إذا جنى، وإيجاب الأرش عليه والغرامة، وسمى ذلك تكليفاً له، ولم يُرِدْ أن الله أراد تفهيمه ما لا يفهم في حال سكره، فيجب على الوَرِعِ المتَّقي أن يَتَثَبَّت في النقل، ولذلك لم يجزم ابن الحاجب بنسبة تكليف المحال إلى الأشعري.
ومن ذلك كلام قطب الدين الشيرازي (3) أحد أئمة المعقولات منهم، فإنه قال في شرح كلام ابن الحاجب المتقدم في بعض شبهة الراجح والمرجوح في نفي التحسين والتقبيح ما لفظه: وتوجيه الاعتراض الأول أن نقول: ما ذكرتم من الدليل تشكيكٌ في الضروريات، فلا يستحِقُّ الجواب، لأنا نُفرِّقُ بين الأفعال الاختيارية والاضطرارية بالضرورة، ونُدرِكُ أن أفعالنا اختياريةٌ.
ويمكن توجيهه بوجهٍ آخر: وهو دلالة البديهة على أن البعض ليس اضطرارياً مع استلزام دليلكم كون الكل كذلك. إلى آخر كلامه في شرح بقية الحُجَجِ الثلاث المقدمة.
__________
(1) في (ش): اختاره.
(2) في (ش): ما.
(3) هو العلامة محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي قطب الدين الشيرازي الشافعي، ولد بشيراز سنة 634، له " شرح مختصر ابن الحاجب "، و" شرح المفتاح " للسكاكي، و" شرح الكليات " لابن سينا، و" شرح الإشراق " للسهروردي، وغيرها، وتوفي سنة 710. انظر " طبقات السبكي " 10/ 386، و" الدرر الكامنة " 4/ 339 - 341.(7/137)
فانظر كيف تواتَرَتْ (1) عنهم النصوص البَيِّنَة على دعوى الضرورة في أن أفعالنا اختياريةٌ لنا، وهذا أبلغ من قول المعتزلة، فإنهم قالوا: إن علمنا بذلك استدلاليٌّ يُنسب المُنكِرُ له إلى التأويل، ويحتاج إلى المناظرة.
وإذا كان مثل هذا من المنصوص في كتبهم المتداولة في بلاد الزيدية والمعتزلة، فكيف يحسُنُ بمن يدعي العلم والتُّقى أن ينسب إليهم كما فعله هذا المعترض، وكما يفعله كثير من المعتزلة والشيعة في مصنفاتهم.
ومن ذلك قول قطب الدين الشيرازي في " شرح مختصر ابن الحاجب " في مسألة التحسين والتقبيح ما لفظه: والتحقيق في هذه المسألة أن فعل العبد جائزٌ صدوره ولا صدوره، ويترجح وجوده بالاختيار (2).
قوله -يعني صاحب الشبهة-: الفعل مع المرجح إن كان لازماً كان اضطرارياً، ممنوعٌ، لأن وجود الشيء بشرط الغير لا ينافي القدرة عليه، وإلاَّ لَزِمَ نفي قدرة الله تعالى لوجوب صدور المعلومات عنه بشرط إرادته الجازمة .. إلى آخر ما ذكره.
وقال الجويني في مقدمات " البرهان " (3):
فإن قيل: ما عَلِمَ الله أنه لا يكون، وأخبر عن (4) وَفْقِ علمه أنه لا يكون، فلا يكون، والتكليف بخلاف المعلوم جائزٌ.
قال الجويني: قلنا: إنما يسوغ ذلك لأن خلاف المعلوم مقدورٌ في نفسه، وليس امتناعه بالعلم (5) بأنه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه، فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، والعلم (6) بالمعلوم لا يغيِّرُه ولا يوجبه، بل يتبعه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يُؤَثِّرُ في المعلوم، لما تعلق العلم بالقديم
__________
(1) في (أ): توارت، وهو خطأ.
(2) في (أ) الاختيار.
(3) 1/ 105.
(4) في " البرهان ": على.
(5) في " البرهان ": للعلم.
(6) في " البرهان ": وتعلّق العلم.(7/138)
سبحانه وتعالى، وتقريرُ ذلك في الكلام.
وقال الشهرستانيُّ في " نهايته ": ولذلك اتفق المتكلِّمون بأسرهم على أن العلم يَتْبَعُ المعلوم، فيتعلق به على ما هو عليه، ولا يُكْسِبُه صفةً، ولا يكتسب عنه صفةً.
وقال ابن عبد السلام في أواخر " قواعده " (1) في فصلٍ ذكره في البدع وأقسامها، إلى قوله: وللبِدَع المُحَرَّمة أمثلةٌ، منها: مذهب القدرية، ومنها: مذهب الجبرية، ومنها: مذهب المرجئة، ومنها: مذهب المُجَسِّمَة، والرَّد على هؤلاء من البدع الواجبة. انتهى بحروفه.
وهو يكفي في تأويل ما يخالفه من الظواهر في كتابه " القواعد "، وهذا وإن كان له عبارةٌ رَدِيَّةٌ في بعضه تُوهم أن الله تعالى عذَّب العصاة على نفس ما خلقه فيهم بغير سببٍ آخر، وهذا خطأ منه، وشرُّ عبارةٍ مع اعترافه بنفي الجبر وثبوت الاختيار، فإن المقابل بالجزاء هو غير الأمر المخلوق في السمع والعقل، ولكنهما اتَّحدا في الذات على قول، وتمايزا (2) فيها على القول الآخر، كما مر تحقيقه، وإلا أدَّى إلى (3) القول بالجبر الذي صح تزييفه (4)، فتأمل ذلك.
وقال البغوى (5) في تفسير قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7]: اختلف العلماء في إسناد الختم إلى الله تعالى، فقيل: هي (6) علامةٌ جعلها الله تعالى على قلوبهم تعرفهم الملائكة، وقيل غير ذلك،
__________
(1) ص 173.
(2) في (أ): ربما يرا، وهو تحريف.
(3) " إلى " سقطت من (أ).
(4) في (ش): ترهيقه، وهو خطأ.
(5) " معالم التنزيل " 1/ 49، ونص كلامه: {خَتَمَ اللَّهُ} أي: طبع الله {عَلَى قُلُوبِهِمْ} فلا تعي خيراً ولا تفهمه، وحقيقة الختم: الاستيثاق من الشيء كي لا يدخله ما خرج منه، ولا يخرج عنه ما فيه، ومنه الختم على الباب. قال أهل السنة: أي حكم على قلوبهم بالكفر لما سبق من علمه الأول فيهم، وقال المعتزلة: جعل على قلوبهم علامة تعرفهم الملائكة بها.
(6) في (ش): هو.(7/139)
وقال أهلُ السنة: ختم الله على قلوبهم بالكفر.
وقال الشيخُ الصالح العارف شهاب الدين السُّهْرَوَرْدِي الصوفي في كتابه " عوارف المعارف " (1) في الباب الثامن والعشرين ما لفظه: ومن أولئك قوم يزعمون أنهم (2) يغرقون في بحار التوحيد، ولا يثبتون لأنفسهم حركةً ولا فعلاً، ويزعمون أنهم مجبورون على الأشياء، وأن لا فعل لهم مع الله تعالى، ويسترسلون في المعاصي، ويركنون إلى (3) البطالة والاغترار بالله تعالى، والخروج عن الملة، وترك الحدود والأحكام والحلال والحرام.
وقد سُئِلَ سَهلٌ عن رجلٍ يقول: أنا كالباب لا أتحرك إلاَّ إذا حُرِّكْتُ، فقال: هذا لا يقوله إلاَّ صِدِّيقٌ أو زنديق، لأن الصِّدِّيق يقول هذا (4) إشارةً إلى أن (5) قِوام الأشياء بالله مع إحكام الأُصول، ورعاية حقوق العبودية، والزنديق يقول ذلك إحالةً للأشياء على الله تعالى، وإسقاط اللائمة عن نفسه، وانخلاعاً من الدين ورسمه.
وقد تقدم كلام الخطابي في تفسير القضاء والقدر، وتصريحه فيه بنفي الجبر، وقد نقله عنه بلفظه النواوي في " شرح مسلم " (6)، وابن الأثير في " جامع الأصول " (7).
وقد بالغ شيخ الإسلام العلامة أبو العباس أحمد بن تيمية الحنبلي رحمه الله في ذم الجبرية في جميع مصنفاته التي يعرض فيها ذكرهم، ومن أخصِّ ما له في ذلك كلامه في رسالته المعروفة "بالفرق بين الأحوال الربانية والأحوال
__________
(1) ص 72، وهو في الباب التاسع منه.
(2) " يزعمون أنهم " سقطت من (أ) و (ش) و (ف)، واستدركت من " العوارف ".
(3) " إلى " سقطت من (أ) و (ش)، وقد تصحف فيهما " ويركنون " إلى: ويركبون.
(4) في (أ): هذه.
(5) " أن " لم ترد في (أ) و (ش) و (ف).
(6) 1/ 154 - 155.
(7) 10/ 104 - 105.(7/140)
الشيطانية" (1) وهو قوله: ومن ظن إن القدر حجة لأهل الذنوب (2) فهو من جنس المشركين الذين قال الله تعالى عنهم: {سَيَقُولُ الذين أشركوا لو شاء الله ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا} قال الله ردّاً عليهم (3): {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149].
ولو كان القدر حجة لم يعذب الله المكذبين للرسل، وتكلم في حديث مُحاجَّة آدم وموسى في هذه الرسالة المذكورة بكلامٍ نفيس يأتي عند الكلام على الحديث إن شاء الله تعالى.
وكذلك رفيقه في السماع وتلميذه ابن كثيرٍ رد على الجبرية بما يأتي ذكره عند الحديث.
وقال شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية في كتابه " الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي " (4) بعد ذكره لأنواع الشرك في الفصل الثاني الذي ترجم عليه بأنه يكشف سر المسألة ما لفظه: وكذلك ما قدره حق قدره من قال: إنه يعاقب عبده بما لا يفعله العبد ولا له عليه قدرة، ولا تأثير له فيه البتة، بل هو نفس فعل الرب جل جلاله، فعاقب عبده على فعله وهو سبحانه الذي جبر العبد عليه، وجبره سبحانه على الفعل أعظم من إكراه المخلوق [للمخلوق]، فإذا كان من المستقر في الفطر والعقول أن السيد لو أكره عبده على فعلٍ، أو ألجأه إليه، ثم عاقبه عليه، لكان قبيحاً، فأعدل العادلين، وأرحم الراحمين كيف يجبر العبد على فعلٍ لا صنيع له فيه ولا تأثير، ولا هو واقعٌ بإرادته، بل ولا هو فعله البتة، ثم يعاقبه عليه عقوبة
__________
(1) " الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان " ص 104.
(2) " لأهل الذنوب " لم ترد في " (أ) و (ش) و (ف)، وهي من " الفرقان ".
(3) عبارة " رداً عليهم " من " الفرقان ".
(4) ص 164 - 165 و166.(7/141)
الأبد، تعالى عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً، وقول هؤلاء شرٌّ من قول أشباه المجوس والطائفتان (1) ما قدروا الله حق قدره.
وكذلك لم يقدُرُه حق قدره من قال: إنه يجوز أن يُعذِّب أولياءه، ويُنَعِّمَ أعداءه عقلاً، وإنما الخبر (2) المحض جاء عنه بخلاف ذلك، فمنعناه للخبر لا لمخالفة حكمته وعدله، وقد أنكر سبحانه على من جوَّز عليه ذلك غاية الإنكار، وجعل الحكم به من أسوإِ الأحكام.
وقال في هذا الكتاب وقد ذكر أنواع المغرورين نحواً من ذلك وأخصر (3).
وقال في كتابه " حادي الأرواح " (4) وقد ذكر الحديث الصحيح الذي فيه " الخير بيديك والشر ليس إليك " ما لفظه: ولم (5) يقف على المعنى المقصود من قال: الشر لا يُتَقَرَّبُ به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ من الوجوه، لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمالُ المطلق من جميع الوجوه، وصفاته كلها صفات [كمال] يُحمَدُ عليها ويثنى [عليه] بها، وأفعاله كلها خيرٌ ورحمة وعدلٌ وحكمة لا شر فيها بوجهٍ ما، وأسماؤه كلُّها حسنى، فكيف يضاف إليه الشر، بل الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصل عنه إذ فعله غير مفعوله، ففعله خيرٌ كله، وأما المفعول المخلوق ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً، فهو لا يضاف إليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: وأنت لا تخلق الشر، حتى يُطلَبَ تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفاً وفعلاً واسماً. انتهى.
وقد فسَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديث الآخر الذي خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأثر الشريف الإلهيِّ الذي فيه: "يا عبادي، إنما هي أعمالُكُم أُحْصِيها عليكم، فمن وجد خيراً،
__________
(1) في (أ): والطائفتين، وهو خطأ.
(2) في (أ): الجبر، وهو تصحيف.
(3) انظر ص 21 وما بعدها من " الجواب الكافي ".
(4) ص 264 - 265.
(5) في (ش): ولا، وهو خطأ.(7/142)
فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسه" (1).
وفيه إشارةٌ إلى ما تقدم من حكمة الله سبحانه في خلق الشُّرور الدنيوية والأخروية، وبعض أسباب الشرور الدينية، وأن فعل الله تعالى وخلقه في ذلك حَسَنٌ لوقوعه في حسان (2)، وإن لم يُحِطِ البشر بجميع وجوه حكمته في بعض أفعاله ولا شيءٌ منها في بعضها، فالله سبحانه وتعالى له الحجة الدامغة، والحكمة البالغة، والإراده النافذة، والقدرة القاهرة، والكمال المطلق، وقصورُ العبد الظلوم الجهول عن معرفة أعيان الحكم على التفصيل لا ينتهض معارضاً للبراهين القاطعة الدالة على ثبوت أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، ومن أُشْرِبَ قلبه صفو الإيمان أغناه هذا الإجمال، ومن أصابه الشيطان بشيء من شؤم الكلام، والبدع، فليراجع ما تقدم في المرتبة الرابعة في حكم الله تعالى في تقدير الشرور، وما ذكرناه في المرتبة الثانية في الحكمة في عدم هداية الجميع.
خاتمةٌ: ومما أوهم على أهل السنة أنهم يقولون بالجبر ونفي الاختيار أنهم فِرَقٌ مختلفةٌ كما تقدم في مسألة الأفعال، ومنهم من يخوض في علم الكلام ويُعَبِّرُ بعباراتٍ مبتدعةٍ، ولا يتوقف على عبارات الكتاب والسنة والسلف الصالح السالمة من الشناعة، وإيهام ما لم يُقصد.
ولنذكر من ذلك عبارةً واحدةً في كتب بعض المتكلمين من الأشعرية كالغزالي ومن تابعه من المتأخرين: وهي أن الكفر وأنواع القبائح والفواحش من الله تعالى، وأن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة والسلف الصالح مع تصريحه قبل هذا في " الإحياء " بنفي الجبر المحض، وإثبات الكسب للعبد الذي يختص باسم الكفر والقبائح (3).
__________
(1) تقدم ص 19.
(2) في (ش): في الحكم إحسان.
(3) في (ش): وأنواع القبائح.(7/143)
وكيف يصحُّ له مع هذا قوله: إن ذلك الكسب الذي هو كفر وكذب وفجور وظلم من الله سبحانه وتعالى.
بيانه: أن الكفر والمعاصي إن كانت على زعمه من الله وحده ولا أثر فيها من العبد، فهذا محض الجبر الذي اعترف ببطلانه، ففيه أيضاً نفيُ الكسب الذي اعترف بثبوته وأنه لا بد منه، وإن اعترف أن ذلك من الله ومن العبد معاً، فإما أن يقول بتمييز ما هو من الله عما هو من العبد، كقول الأشعرية بالكسب، فالذي من العبد عندهم يُسَمَّى كسباً، والذي من الله عندهم يسمى خلقاً، لا كسباً ولا كفراً ولا معصيةً، والذي من العبد هو الكسب الذي هو كفرٌ ومعصيةٌ.
وكذلك إن اختار تمييز الخلق من الكسب، وقال: مقدورٌ بين قادرين، فإنهم فرَّقوا في المعنى والاسم كما تقدم تحقيقه، ولو كانت المعاصي من الله كان عاصياً، وقد تمدح سبحانه بالمغفرة، ولا يصح لمن ليست المعاصي منه قطعاً، وإلا كان غافراً لنفسه سبحانه وتعالى.
وما الملجىء إلى هذه العبارة المُوهِمَة للجبر الذي قد اعترف ببطلانه مع براءة الكتاب والسنة وعبارات السلف منها، بل مُضَادَّةٌ لذلك كله لها، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن كانت ذهبت العلوم فأين الأدب والعقول، فيالها من زلةٍ قبيحةٍ، ونسبةٍ إلى أهل السنة غير صحيحة، بل فيها تمكينٌ لأعدائهم من التشنيع عليهم، وجنايةٌ عليهم بالتنفير عنهم، وتجهيلٌ لعوامِّهم لاعتقادهم من ظاهرها أن العبد مُجْبَرٌ غير مختارٍ، بل إنه لا فعل له ألبتة لا اختياري ولا اضطراري، لمصادمته لما جاءت به الشرائع، وعُلِمَ من الكتاب والسنة من إضافة أفعال العباد إليهم بهذه العبارة بعينها وسائر العبارات كما أُوضِحُه إن شاء الله تعالى.
ومع وضوح الخطأ في هذه العبارة على أهل السنة فقد قلَّد المُبتَدع لها كثيرون، على ظن أنها عقيدة أهل السنة.(7/144)
فإن كان المتكلم بهذا أراد الترجمة عن أوائل الخلق فإن الله تعالى خلق الكافر وقدرته والداعي له، ولم يمنعه بمانعٍ ضروريٍّ، ولا مانعٍ اختياريٍّ، ووكله إلى نفسه ليَبْلُوَه ويُقيم عليه حجة عدله، لما له في ذلك من الحكمة البالغة على ما أشار إليه قوله تعالى في أهل السعادة: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكويرة 29]، وقوله تعالى في أهل الشقاوة: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]، وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] وسائر ما تقدم في ذلك فهذا أمرٌ متفق عليه.
وهذه العبارة لا تدل عليه بل تُضَادُّه، لأن الله تعالى علم وقوع المعاصي من العاصي باختياره حجة عليه، وما قَدَّر الله أنه من غيره، لم يكن من الله، وإلا لكان قد انعكس عليه مراده في القدر، والقَدَرُ سَبَق بأن الحجة لله، والذنب من المذنب واقعٌ بالاختيار على وجهٍ يكون حجة عليه في علم الله وعقول العقلاء.
وقد قدمت الكلام في تسلسل الأمور وتدريجها بالحكمة البالغة إلى قدر الله وقضائه في المرتبة الأولى، وأن ذلك إجماع من يُعْتَدُّ به من المسلمين، لم يخالف فيه إلاَّ من نفى علم الغيب.
وإن كان المتكلم أراد بذلك الجبر ونفي الاختيار رد عليه بالتفرقة الضرورية بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب كرهاً كما مضى، وبالنصوص الصَّادِعَة: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة: 42] وهو نصٌّ جليٌّ لا يمكن مدافعته البتة، ولله سبحانه الحجة البالغة.
ومن ذلك قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ومنه قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75]، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ(7/145)
سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43]، وقوله: {عَلِمَتْ نفسٌ ما قَدَّمَتْ وأخَّرَتْ} إلى: {يَعْلَمونَ ما تَفْعَلونَ} [الانفطار: 5 - 12]، وأمثال ذلك، ولا حاجة إلى التطويل فيه لعدم ظهور المنازع، وفي كتب الأشعرية مِنْ رد الجبر مثل ما في كتب المعتزلة.
وإن كان المتكلِّم بذلك أراد الترجمة بذلك عن مذهب أهل السنة أجمعين فقد فَحُشَ خطؤه، وقد مضى بيان افتراق مذاهبهم (1) وإجماعهم على نفي الجبر وإثبات الاختيار.
وإنما صواب العبارة عن مذهبهم الذي لا يفترقون فيه: أن الكفر وجميع القبائح من العباد باختيارهم بقَدَرٍ من الله سابقٍ، وتمكينٍ للعباد لاحقٍ، لما (2) في الجمع بين التقدير والتمكين من الجمع بين حكمة (3) الله البالغة، وحجته (4) الدامغة، وعِزَّتِه القاهرة، ومشيئته النافذة، ومطابقة آياته الكريمة وحسنى أسمائه الشريفة، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها، ومن أُمَّهاتها: الملك الحميد.
فاقتضى تفرده بكمال الملك والعزة، وعلم الغيوب، والقدرة على كل شيء، والكمال الأعظم في ذلك كله، نفوذ المشيئة وسبق القضاء، كي لا يفوت عليه مرادٌ فيما يتعلق بالعباد مثل مالا لا يتعلق بالعباد.
وهنا خالفت طوائف المبتدعة من المعتزلة والقدرية، ويكفيك في هذا المقام أن تؤمن بأن الله على كل شيء قدير، وبما ورد من آيات المشيئة مثل قوله تعالى: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29] وقوله: {وَلَوْ شِئْنا لآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاها} [السجدة: 13] ونحو ذلك.
وتؤمن مع ذلك بأنه حكيم في جميع ذلك، له الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وزياده السُّنِّيِّ على هذا القدر يوقعه في نفي التقديس والتسبيح، فافهم
__________
(1) في (ش): مذهبهم.
(2) " لما " سقطت من (أ).
(3) في (ش): حِكَمِ.
(4) في (ش): حججه.(7/146)
ذلك، وكن منه على عظيم الحذر.
واقتضى تفرده بكمال الحمد والعدل والثناء والتسبيح والتقديس أوْفَرَ نصيبٍ لأفعاله الشريفة الحميدة العادلة السديدة من التنزيه والتعديل، والحكمة والترجيح، والتسبيح والتقديس، ولو على جهة الإيمان الجملي بالتأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وذلك لكمال الحجة لله تعالى على خلقه بالتمكين والإقدار والاختيار، وخلق العقول والأسماع والأبصار، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78] في آيات كثيرة زاد سبحانه على ذلك القدر، فقطع كثيراً مما لا يجب في عرف العقلاء قطعه من أعذار الجاهلين، حتى لم يَقْضِ يوم القيامة بعلمه الحق، مع حُسْنِ ذلك لو فعله، حتى أضاف إليه ما يعتاده أهل العدل وأهل العقول من الخلق من إحضار الكتب والموازين والشهود العدول، حتى أشهد الأيدي والجلود حين يَعْرِضُ المنافقون للقدح في ملائكته الشهود (1) الكرام، كما ثبت في الحديث الصحيح.
وفي نحو ذلك لقول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، فلم تمنعه عِزَّتُه القاهرة من لطيف الحكمة كما هو عادة الجبابرة، بل جمع كمال اللُّطف في العدل إلى كمال العز في الملك، وكان بذلك حميداً مجيداً: حميد النعوت والأسماء والأفعال، مجيد الملك والجلال والكمال، ولذلك قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وثبت في " الصحيحين " عن أعلم الخلق به محمد - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب " (2).
وثبت في " صحيح مسلم " في الحديث الجليل الرَّبَّاني، الذي عَظَّمَهُ علماء
__________
(1) " الشهود " لم ترد في (ش).
(2) تقدم تخريجه في الجزء الخامس ص 58.(7/147)
السنة من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه، أن الله تعالى يقول: " إنما هي أعمالكم أُحصيها عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد شراً، فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسه " (1).
فكيف يحسُنُ نسبتُها إلى الله تعالى من جميع الوجوه على الإطلاق، أو يحسن إيراد ما يوهم ذلك من العبارات، والله تعالى يقول: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180]، و {تَعالَى عَمَّا يقولون} [الإسراء: 43] فكيف يقال فيما تعالى عنه، وسبَّح نفسه العزيزة: إنه منه.
وقد أشار الغزالي إلى هذا المعنى بعبارة أخرى في كتاب محبة الله من " الإحياء " في السبب الرابع منه.
واعلم أن جميع الاختلاف والتطويل هنا يرجع إلى ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا (2) مشيئة، لا قبل مشيئة الله ولا بعدها، وهو قول الجبربة.
الثاني: أنه لا مشيئة لله ولا قدرة ولا أثر في فعل العبد إلاَّ الواجب عليه بعد التكليف عندهم، وهو قول المعتزلة.
وثالثها: أن للعبد مشيئةً واختياراً وفعلاً بتيسيره (3)، وهو قول أهل السنة.
فالمعتزلة احتجوا بقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُم أنْ يَستَقِيمَ} [التكوير: 28].
وأهل السنة احتجوا بقوله بعد ذلك: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، وكذلك: " لا حول ولا قوة إلاَّ بالله " وفي الكهف: {لا قُوَّةَ إلاَّ بالله} [39]، وفي ن: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18]، وذلك كثيرٌ معلومٌ ضرورةً.
__________
(1) تقدم ص 19.
(2) في (أ): ولا.
(3) في (أ): وتيسيره.(7/148)
والجبرية احتجوا بقوله (1): {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، {وما تشاؤون} وترك الاستثناء فيها، فهم أَرَكُّ الفرق الثلاث. وأهل السنة أعدلهم وأوسطهم، فإنهم جمعوا بين المُطْلَق والمقيَّد، فقدموا الاستثناء المنطوق المنصوص على الإطلاقين: التخيير الذي تمسَّكت به المعتزلة، وإطلاق التعجيز الذي تمسكت به الجبرية.
وبذلك يجب العمل عند علماء الأصول في المطلق والمقيد، وعليه اجتمعت الفرق المختلفة في مسائل لا تُحصى، حيث لا عصبيَّةَ ولا هوى، وإنما أُتِيَ أهل السنة من عبارات مبتدعةٍ قبيحةٍ صَدَرَتْ من كثيرٍ من أهل الكلام منهم تُوهِمُ الجبر، وتُضادُّ الحق.
وكذلك توسَّط أهل السنة في نظر العقول، فاعترفوا بالاختيار الضروري الفارق بين حركة المختار والمفلوج والمسحوب، مع الاعتراف بالافتقار إلى الله تعالى في كل طرفة عينٍ، وعدم الاستقلال كما قال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] فدل على ثبوت الاختيار والافتقار، والجبرية أنكروا الاختيار الضروري من العقل والدين، والمعتزلة أنكروا الاحتياج (2) إلى الله عز وجل في الأفعال بعد تعلق القدرة، وما يجب عندهم من اللطف الذي يقدر على تركه منه، وذلك خلاف المعروف بين المسلمين والمعلوم من دين المؤمنين، فالله المستعان.
وقولهم: لو قَدَرَ عليه ولم يفعله كان قبيحاً، كقول الفلاسفة: لو قدر على أحسن من هذا العالم ولم يبادر بالجود به، كان بخيلاً، تعالى الله عن قول المبطلين عُلُوّاً كبيراً.
وبالجملة: فالمعلوم من العلوم الضرورية العقلية والشرعية أن الأنبياء والكتب الربانية، وجميع الأديان، ما وردت بنفي الأفعال عن العباد، ولا بنفي المشيئة عنهم، وإنما وردت بتوقف أفعالهم ومشيئتهم على مشيئة الله وتقديره عند
__________
(1) في (أ): بقولهم، وهو خطأ.
(2) في (أ): الاحتجاج، وهو خطأ.(7/149)
أهل السنة، وعلى تخلية الله بينهم وبين نفوسهم على قول المعتزلة.
وكما قال أهل السنة تواردت النصوص كتاباً وسنةً، كما مرَّ وكما لا يُحصى، نحو قوله تعالى: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].
ومن ذلك الحديث المشهور في النهي عن أن يقال: " ما شاء الله وشاء فلانٌ " بل يقال: " ما شاء الله ثم شاء فلان " (1).
وكذلك قال الله: {وما تشاوون إلاَّ أن يشاء الله} [التكوير: 29]، و {لا قُوَّةَ إلاَّ بالله} [الكهف: 39] والإجماع منعقدٌ على ذلك، فقد أجمع أهلُ السنة على وجوب كراهة الكفر والقبيح من الجهة التي صار منها كفراً وقبيحاً، لأنه من تلك الجهة غير منسوبٍ إلى الله، بل هو منها منسوبٌ إلى كسب العبد فكيف يُنْسَبُ من حيث سُمِّيَ كفراً وقبيحاً إلى الله تعالى وهو يجب علينا (2) الرضا بأفعاله سبحانه، فلو صح الجميع لوجب التناقض.
وقد اجتهد أهل السنة في التبرُّؤ من الجبر، وافترقوا على فِرَقٍ كثيرة تقدم بيانها، كل منهم بين ما يتعلق بقدرة العبد أهل الكسب وغيرهم، ولولا فرارهم من الجبر، ما ذكروا الكسب (3)، والأدلَّة عليه، وهذه العبارة تلزمهم الجبر،
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد 5/ 384 و394 و398، وأبو داود (4980)، والنسائي في " اليوم والليلة " (985)، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (236) بتحقيقنا، من طرق عن شعبة، عن منصور بن المعتمر، عن عبد الله بن يسار الجهني، عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان ". وهذا إسناد صحيح.
وفي الباب عن جابر بن سمرة وقتيلة بنت صيفي الجهنية، كلاهما عند الطحاوي (237) و (238) و (239). فانظر تخريجهما فيه.
(2) في (أ): بحيث علمنا.
(3) من قوله: " وغيرهم ولولا " إلى هنا سقط من (أ).(7/150)
وتُبطِلُ عنايتهم في التبرُّؤ منه، فثبت أنها جِنايةٌ عليهم.
يوضحه: أنها عبارةٌ توافق مذهب الجبرية الباطل بالضرورة عند أهل السنة وبالوفاق، فكيف تكون مع ذلك موافِقَةً لمذهب السنة ومُترجمةً عنه، وعن الجبر الذي هو نقيضه، فتأمَّل ذلك.
وأهلُ السنة ما أنكروا على المعتزلة إثبات أفعال العباد، ولا نِسبتها إليهم، ولا اختيارهم فيها، بل نسبوا من جحد ذلك من الجبرية إلى مخالفة الضرورة، وزادوا في دعوى الضرورة في ذلك على جمهور المعتزلة.
وإنما أنكر أهل السنة في هذه المسألة على المعتزلة، أو على أكثرهم قولهم: إن إرادة الله فيما يتعلق بهداية العباد غير نافذةٍ، وإن أفعالهم غير مقدورةٍ لله تعالى بأعيانها، مبالغةً في المنع من مقدورٍ بين قادرين، وإن الذوات غير مقدورةٍ لله عزَّ وجلَّ لثبوتها في الأزل، وتعجيز الرب جل جلاله عن هداية العصاة واستلزام مذهبهم لذلك، وإن منعت المعتزلة من تسميته تعجيزاً مع تسميتهم له غير مقدورٍ كما مرَّ بيانه.
وأما قول أهل السنة: إن أفعال العبادِ مخلوقةٌ لله مفعولةٌ للعباد، فقد تقدم بيان مرادهم بذلك مبسوطاً، وأنه لا يقتضي سقوط حجة الله على عباده إلا الجبرية الغُلاة، أما على (1) قول الجويني وأصحابه من أهل السنة، فلأنَّ كونها مخلوقةً مُفَسَّرٌ عندهم بكونها مقدرة، لأن التقدير أشهر معاني الخلق، ولذلك ادعى فيه أنه الحقيقة دون غيره، وقد تقدم مبسوطاً، وأما بقيتهم، فلأن الخلق من الله عندهم من فعل العبد بمنزلة تمكين العباد من المسببات كلَوْنِ المداد ونحوه عند المعتزلة، فهو بمنزلة خلق القدرة والقادر، لا أنه القدر المقابل بالجزاء كما مرَّ محقَّقاً.
وقد أجمعت على تنزيه الله سبحانه من الظلم، بل من العبث واللعب،
__________
(1) " على " سقطت من (أ).(7/151)
جميعُ الشرائع السمعية والبراهين العقلية، كما اجتمعت على تعظيم جلاله، وعزته في نفاذ مشيئته، وعموم قدرته وبطلان قول المعتزلة في خلاف ذلك.
وقد بالغ أئمة الكلام من الأشعرية في نفي الجبر وتزييفه كالشهرستاني في " نهاية الإقدام "، والجويني في كتبه في الأصول والكلام، كما مضى قريباً في مسألة الأفعال بحمد الله تعالى.
وظهر من ذلك أن الجبرية في الأفعال مثل الاتحادية في التوحيد، وذلك أن أهل الاتحاد سمعوا تعظيم المقربين لله ونسيان ما عداه، حتى جرى على ألسنتهم: أنه لا موجود سواه، أي في قلوبهم، فحسبوهم جحدوا الضرورة في وجود المخلوقات فقالوا: إن الله -تعالى عن قولهم- هو خلقه، ليصح لهم بزعمهم حقيقة التوحيد، ولا يكون مع الله سواه، فصوَّبوا عبادة الأصنام لذلك إلاَّ (1) في مجرد تحقيقها.
وكذلك الجبرية لما سمعوا تعظيم إلى ملف لمشيئة الله تعالى وتأثيرها أنكروا أن يكون لغيره سبحانه مشيئةٌ أو فِعلٌ (2)، وجعلوا ذلك مُحَالاً وعجزاً، والرب يتعالى عنه (3)، فلم يثبتوا قدرةً لله تعالى على أن يجعل أحد عباده قادراً فاعلاً مختاراً.
فرجع تعظيمهم لقدرة الله تعالى إلى تهوينها، ونسبة القبائح إليه، ولم يعلموا أن مشيئة العباد وأفعالهم متى ثبتت بمشيئة الله، كان أعظم لإجلال الله وتقديسه، فاحذر مواقع الغُلُوِّ، فإنها أساس البدعة، نسأل الله السلامة.
وبعد هذا كله يجب على العبد أن ينظر فيما يحبه سيِّدُه ومولاه ثم يقصده ويتحرَّاه، وقد نظرنا في كتاب الله تعالى، فوَجَدْنا الله سبحانه وتعالى يحبُّ التنزه
__________
(1) أثبت فوقها " لا " في (ف).
(2) في (أ): فعلاً، وهو خطأ.
(3) العبارة في (أ) هكذا " وجعلوا ذلك محالاً ولا عجزوا الرب تعالى عنه " وفيها خلل بيّن، وكانت هكذا في نسخة (ش) لكنها صححت من قِبل قارىء النسخة.(7/152)
عن قبائح الأسماء والأفعال، ويحب الاتصاف بالعدل والحكمة وإقامة الحجة وإعذار الخلق (1)، وإزاحة العِلَل الباطلة وكثيرٍ من أعمال المُبْطِلين، ولولا ذلك ما كَلَّفَهم، ولا نَصَبَ لهم حِساباً وموازين، وبعث رُسُلَهُ، وأنزل كتبه، وكتب أعمالهم، وأشهد ملائكته عليهم، فلمّا لم يقبلوهم أشهد جلودهم.
فنظرنا: هل المناسِبُ لهذا أن تُنْسَبَ ذنوبُهم إليه، ونقول: هي منه؟ أو إليهم، ونقول: هي منهم؟ فلا يشك عاقل أن القول بأنها منهم أنسب لما يحب ربُّنا لو لم يَنُصَّ على أنها منهم، كيف وقد نص عليه نصوصاً جمة كما أُوضحه الآن.
ثم قد أرشدنا إلى الأدب في العبارة فيما أنزل في كتابه على رسوله، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ومعناهما واحدٌ، لكن لما تعلق بأحدهما بعض المفاسد اللفظية كيف إلاَّ ما يُوهِمُ تَوْهِينَ حُجَجِ الله وحكمته التي شرع جميع ما ذكرنا لتقويتها وبيانها، حتى تسمى بالحق المبين ليكون آخر كلام الخلائق يوم الدِّين {الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] كما جاء في الكتاب المبين.
وهذه مقدمةٌ أحببتُ تقديمها تمهيداً لما أُورِدُه من الأدلة على بطلان هذه العبارة التي ظنَّ المغتَرُّ بها أنه ترجم بها عن مذاهب السلف وأهل السنة، بل ظن أنه ترجم بها عن الكتاب والسنة، فعَظُمَ خطؤه، وفَحُشَ في ذلك.
والأدلة على ذلك لا تُحصى، وقد رأيت أن أجعلها أنواعاً، كل نوعٍ يشتمل على الإشارة إلى أدلةٍ جَمَّةٍ.
النوع الأول: ما يَدُلُّ على أن الكفر وكُلَّ قبيح من العباد بلفظ " من " المسمى بحرف الجر الذي معناه الابتداء من غير استقصاء، فلنذكر هنا نَيِّفاً وعشرين آية من كتاب الله تعالى، من ذلك:
__________
(1) في (أ): الحق، وهو خطأ.(7/153)
قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فجعل الظلم منهم بالنصِّ.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] فجعل الكفر منهم بالنص.
وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا} [البقرة: 182]، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79]، وقوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 78].
بل قال تعالى في عقوبة الذنوب: {قُل هُوَ مِنْ عِنْدِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، وقال تعالى في ذلك: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، فأما قوله قبلها: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله} بعد قوله: {وإنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ}، {وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [النساء: 79] فلأن المراد عقوبات الذنوب التي من فعلِ الله بالاتفاق، ولذلك قال: {مَا أَصابك} ولو كانت للذنوب، لقال: ما أصبت، وإنما رد عليهم بقوله: {قُلْ كلٌّ من عِنْدِ الله} [النساء: 78] لأنهم تشاءموا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنسبوا إليه (1) عقوبات الله لهم على تركها (2). فلا نسبوها إلى خالقها سبحانه وتعالى، ولا إلى فاعل سببها.
ومنه قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].
ومنه قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
__________
(1) في (أ): إليهم، والمثبت من (ش)، وقد أشير إلى صوابها في (أ).
(2) في (ش): تركهم الإسلام.(7/154)
ومنه قوله تعالى: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران: 112] ففرق بين ما هو من الله وما هو من الناس، وإن كان الكل بقدرٍ سابقٍ، فلا يقال في الجميع: إنه من الله.
ومنه قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وهذا في الحلال كيف في الحرام؟!
ومنه قوله (1): {وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ} [المائدة: 13].
ومنه: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].
ومنه قوله تعالى: {ولكِنْ يَنالُه التَّقْوى مِنْكُم} [الحج: 37]، وهذا في طاعة الله تعالى التي يحسن إضافتها إلى فضله، ويجب حمده عليها، فكيف بمغضباته التي حرَّمها وقبَّحها، ولام فاعلها ولعنه وأعد له عقوبته.
ومن ذلك قوله سبحانه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].
ومنه: {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25].
ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9].
ومنه: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6]
ومنه ما حكى الله عن موسى من قوله: {هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيطانِ} [القصص: 15].
__________
(1) " ومنه قوله " لم ترد في (أ).(7/155)
ونحوه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]. وقوله: {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] وهاتان الآيتان مُصَدَّرَتان بإنما التي تقبل الحصر، وقصر ذلك على الشيطان لعنه الله.
وفي القرآن الكريم كثيرٌ من هذا بغير لفظ " من "، ومعناه معناها كقوله: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282].
ومن ذلك حديث أبي هريرة وأبي سعيد قالا معاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنه اصطفى من الكلام أربعاً " إلى قوله: " ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قِبَلِ نفسه كُتِبَ له ثلاثون حسنةً، وحُطَّ عنه ثلاثون سيِّئَةً " رواه النسائي واللفظ له، والحاكم في " المستدرك " بمعناه وقال: صحيح على شرط مسلم (1).
قلت: وله شاهد في كتاب الله، وهو قوله تعالى: {وتثبيتاً من أنفسهم}
__________
(1) النسائي في " عمل اليوم والليلة " (840)، والحاكم 1/ 512.
وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 310 و3/ 35 و37، وابن أبي شيبة 10/ 428، والطبراني في " الدعاء " (1681) عن أبي هريرة وأبي سعيد. ولفظ الحديث بتمامه مرفوعاً " إن الله اصطفى من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر، فمن قال: سبحان الله، كُتِبَ له عشرون حسنة، وحُطَّت عنه عشرون سيئة، ومن قال: الله أكبر، فمثل ذلك، ومن قال: لا إله إلاَّ الله، فمثل ذلك، ومن قال: الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه كُتِب له ثلاثون حسنةً، وحُطَّت عنه ثلاثون سيئة ".
وأخرج أوله بنحوه النسائي (841)، وابن حبان (836) عن أبي هريرة وحده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خير الكلام أربعٌ، لا يضرك بأيهنَّ بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ".
وأخرجه كذلك أحمد 4/ 36، والنسائي (842) من طريق أبي صالح السمّان، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، مرفوعاً. وعلقه البخاري 11/ 575 في الأيمان والنذور: باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم، ولم يسم صحابياً للحديث.
وفي الباب عن سمرة بن جندب عند ابن حبان (835)، انظر تخريجه فيه.(7/156)
[البقرة: 265]، وفي أثر إلهي يقول الله تعالى: " يا ابن آدم، ما أنصفتني، الخير منِّي إليك هابِطٌ، والشر منك إليَّ صاعدٌ " أو كما ورد، وبه يخطب خطباء المسلمين في جُمَعهم وجماعاتهم ولا ينكره مسلم.
وفي مراسيل [أبي داود] عن أبي رجاء محمد بن سيف الأزديِّ أنه سأل الحسن عن النُّشْرَةِ؟ فقال: ذكر لي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه قال:] " إنها من عمل الشيطان " (1).
__________
(1) " المراسيل " (453) بتحقيقي، عن علي بن الجعد، عن شعبة، عن أبي رجاء، به.
وهذا سند رجاله ثقات رجال الصحيح غير أبي رجاء -وسماه المزي في " التحفة ": محمد بن سيف الأزدي الحداني- فقد روى له أبو داود في " المراسيل " والنسائي، وهو ثقة.
وأخرجه موصولاً الحاكم 4/ 418 من طريق مسكين بن بكير، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: سألت أنس بن مالك عن النُّشرة، فقال: ذكروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من عمل الشيطان. وقال: هذا حديث صحيح، وأبو رجاء هو مطر الورّاق (كذا سماه)، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وفي الباب ما يشهد له عن جابر بن عبد الله، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النشرة، فقال: " هو من عمل الشيطان " أخرجه أحمد 3/ 294، وأبو داود (3868)، وسنده قوي.
قال البغوي في " شرح السنة " 12/ 159: النشرة: ضرب من الرقية يعالج بها من كان يُظن به مس من الجن، سميت نُشرة، لأنه يُنشر بها عنه، أي: يحل عنه ما خامره من الداء، وكرهها غير واحد، منهم إبراهيم وقال سعيد بن المسيب: لا بأس بها.
قال البغوي: والمنهي من الرقى ما كان فيه شرك أو كان يذكر مردة الشياطين، أو ما كان منها بغير لسان العرب، ولا يدرى ما هو، ولعله يدخله سحراً وكفراً.
فأما ما كان بالقرآن أو بذكر الله عز وجل، فإنه جائز مستحب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه بالمعوذات، أخرجه البخاري (5735)، ومسلم (2192) وقال - صلى الله عليه وسلم - للذي رقى بفاتحة الكتاب على غنم: " من أين علمتم أنها رقية؟ أحسنتم اقتسموا واضربوا لي معكم بسهم " أخرجه البخاري (2276) وقال: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " أخرجه البخاري (5737) وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوِّذُ الحسن والحسين: " أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة " أخرجه البخاري (3371).
وقال جبريل - صلى الله عليه وسلم -: "بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد =(7/157)
ومنه: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فإنها تدل على أنه لا يضاف إلى الله ما فيه نقصٌ ولا قُبْحٌ.
ومنه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] فدل على أن حكم الجاهلية ليس حكماً من الله، فكذلك كل حكمٍ قبيحٍ.
ومنه: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52].
ومنه: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} [الأنفال: 32].
ومنه: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] ففرَّق بينهما، والكل بقَدَرٍ سَبَقَ من الله، وأمثالُ ذلك كثير.
وهذا أيضاً في الأحاديث وفي آثار السلف كثيرٌ شهير، وقع في محافلهم المحشودة بجماعاتهم من غير نكيرٍ، واشتملت عليه دواوين الإسلام، وتواليفُ علماء السنة والإسلام، من غير مُناكرةٍ ولا تأويلٍ ولا معارضةٍ، فكان إجماعاًً من ذلك الصدر، إذ لا يُنْقَلُ شيءٌ من إجماعاتهم إلاَّ على هذه الصفة، أو على ما هو دونها، مع إجماعهم (1) على عدم تأويل ما ذكرته من آيات القرآن الكريم، والعادة (2) تقتضي العلم في مثل ذلك، كما تقدم في آيات المشيئة، فتأمل ذلك.
فمن ذلك ما خرجه البخاري ومسلم في " الصحيحين " وأبو داود والترمذي وغيرهما من أئمة السنة من حديث أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " التَّثَاؤُبُ من الشيطان، يضحك منه إذا قال: ها ".
__________
= الله يشفيك بسم الله أرقيك" أخرجه مسلم (2185).
وروي عن عوف بن مالك الأشجعي: كنا نرقي في الجاهلية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اعرضوا علي رقاكم، فإنه لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك " أخرجه مسلم (2200).
(1) في (ش): اجتماعهم.
(2) في (ش): والعبادة، وهو تحريف.(7/158)
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح (1)، وسيأتي كلام أئمة السنة في تفسيره.
وخرج الجماعة من حديث أبي قتادة " الرؤيا الصالحة من الله، والحُلُمُ من الشيطان " (2).
ولمسلم مثله عن (3) أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - (4).
وروى البخاري والترمذي والنسائي عن أبي سعيدٍ كذلك، وقال: " إنما هي من الشيطان " (5) بالحَصْرِ.
وخرج ابن ماجه وابن عبد البر في " التمهيد " مثل حديث أبي هريرة من حديث عوف بن مالك، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (6).
وإنما تواترت النصوص في الرؤيا، لأنه يُتَوهَّمُ أنه يشتبه الأمر فيها ولا يتميَّزُ إلا بالنص.
وخرج البخاري ومسلم والأربعة وغيرهم أيضاً حديث أبي هريرة في سجود
__________
(1) وانظر " صحيح ابن حبان " (2357) و (2358).
(2) وصححه ابن حبان (6059). وانظر تخريجه فيه.
(3) في (أ) و (ش): وعن، وهو خطأ.
(4) " صحيح مسلم " (2263)، ولفظه: " إذا اقترب الزمانُ لم تكد رؤيا المسلم تكذب " إلى أن قال: " والرؤيا ثلاثة: فرؤيا الصالحة بشرى من الله، ورؤيا تحزين من الشيطان، ورؤيا مما يحدِّث المرء نفسه ". وأخرجه أيضاً أبو داود (5019)، والترمذي (2280)، والنسائي في " اليوم والليلة " (910).
(5) البخاري (6985) و (7045)، والترمذي (3453)، والنسائي في " اليوم والليلة " (893)، وفي الرؤيا من " الكبرى " كما في " التحفة " 3/ 371. واستدركه الحاكم 4/ 392 على الشيخين وتابعه الذهبي، فوهما!
(6) ابن ماجه (3907)، وابن عبد البر في " التمهيد " 1/ 286، وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (6042) بتحقيقنا، وانظر تمام تخريجه فيه.(7/159)
السهو، وفيه: " إن أحدكم إذا قام يُصَلِّي جاءه الشيطان، فلَبَّسَ عليه، حتى لا يدري كم صلَّى " (1).
وفي ذلك نسبة سبب النسيان إلى الشيطان، وتخصيصه بذلك ذمّاً له، كما شهد له قوله تعالى: {وما أنْسَانِيهُ إلاَّ الشيطان} [الكهف: 63].
وكذلك ثبت في " الصحيحين " (2) عن عائشة، عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الالتفات في الصلاة اختلاسٌ يَخْتَلِسُه الشيطان من صلاة العبد.
وثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال في صلاة الجمعة: إنَّ تقليب الحَصَى من الشيطان (3)، رواه مسلم في " الصحيح " وإماما أهل السنة مالك وأحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي وذا لفظه وأحمد به.
وخرَّج أحمد في " المسند " وأبو داود، والنسائي، والحاكم في " المستدرك " من حديث أبي ثعلبة الخُشَنِي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن تَفَرُّقكم في الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان " (4).
__________
(1) البخاري (1232)، ومسلم (389)، وأبو داود (1030)، والترمذي (397)، والنسائي 3/ 31، وابن ماجه (1216) و (1217)، وصححه ابن حبان (2683).
(2) كذا نسبه المؤلف إلى الصحيحين، وهو سبق قلم، فليس هو في " صحيح مسلم "، فقد أخرجه البخاري في " صحيحه " (751) و (3291)، وصححه ابن حبان (2287)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) هو قطعة من حديث صحيح، أخرجه أحمد 2/ 10، والنسائي 2/ 236 - 237 و3/ 36.
وأخرجه من غير هذه القطعة مالك في " الموطأ " 1/ 88 - 89، ومن طريقه أحمد 2/ 65، ومسلم (580) (116)، وأبو داود (987)، والنسائي 3/ 36 - 37.
قلت: وعزو قول ابن عمر: " إن تقليب الحصى من الشيطان " إلى هذه المصادر جملة ذهول بين كما هو واضح من التخريج، وكذلك في عزوه إلى الترمذي، فإنه لم يخرج هذا الحديث.
(4) أحمد 4/ 193، وأبو داود (2628)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " =(7/160)
قال الحاكم: صحيح الإسناد، وهو كما قال، خرجه أبو دواد، والحاكم في الجهاد، والنسائي في السير.
وخرَّج الترمذي من حديث سهل بن سعد (1) مرفوعاً " الأناة من الله، والعجلة من الشيطان ". وقال: حديث حسن غريب أخرجه في كتاب البر (2).
ومن ذلك حديث أبي هريرة المتفق على صحته " كل مولودٍ يولد على الفِطْرَة، وإنما أبواه يهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه " (3).
ومن ذلك حديث المستحاضة وقوله - صلى الله عليه وسلم - فيه: " إنما ذلك رَكْضَةٌ من الشيطان " خرجه أبو داود والترمذي وأحمد، وصححاه من حديث حَمْنَةَ بنت جحشٍ (4).
__________
= 9/ 133، والحاكم 2/ 115، وصححه ابن حبان (2690).
(1) تحرف في (أ) إلى: سعيد.
(2) رقم (2012). وفي إسناده عبد المهيمن بن عباس بن سهل متفق على ضعفه.
قلت: وفي الباب عن أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " التأنِّي من الله، والعجلةُ من الشيطان " أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (4256)، والبيهقي 10/ 104. وفيه سعد بن سنان وهو مختلف فيه، لكن حديثه يصلح في الشواهد والمتابعات.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 8/ 19 وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح! كذا قال، مع أن سعد بن سنان لم يخرج له واحد منهما في " الصحيح "، والبخاري أخرج له في " الأدب المفرد " فقط.
وزاد نسبته ابن حجر في " المطالب العالية " 3/ 35 إلى أبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع، والحارث بن أبي أسامة، وقال البوصيري في " إتحاف المهرة " 2/ 147: رواته ثقات.
وله شاهد من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأشجِّ عبد القيس: " إن فيك خصلتين يحبُّهما الله: الحِلم والأناة " أخرجه مسلم (17) (25)، وصححه ابن حبان (7204).
وعن الأشج العَصَري عند ابن حبان (7203)، وانظر تخريجه فيه.
(3) تقدم مراراً.
(4) أبو داود (287)، والترمذي (128)، وأحمد 6/ 439، وقال الترمذي: حديث =(7/161)
وقال ابن الأثير في " النهاية " (1): المعنى أن الشيطان قد وجد بذلك سبيلاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها. ذكره في حرف الراء مع الكاف.
وفي " المسند " عن ابن عباس وأبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا تأكل الشريقة (2)،
__________
= حسن صحيح، وكذا نقل عن أحمد أنه قال: هو حديث حسن صحيح.
قلت: وأخرجه أيضاً الدارقطني 1/ 214، والحاكم 1/ 172 - 173، والبيهقي 1/ 338 - 339.
قال الخطابي في " معالم السنن " 1/ 89 - 90: أصل الركض: الضرب بالرجل والإصابة بها، يريد به الإضرار والإفساد، كما تركض الدابة، وتصيب برجلها، ومعناه -والله أعلم- أن الشيطان قد وجد بذلك طريقاً إلى التلبيس عليها في أمر دينها، ووقت طهرها وصلاتها حتى أنساها ذلك، فصار في التقدير كأنه ركضة نالتها من ركضاته، وإضافة النسيان في هذا إلى فعل الشيطان كهو في قوله تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن نساني الشيطان شيئاً من صلاتي فسبحوا " أو كما قال، أي: إن لبس عليَّ.
(1) 2/ 259.
(2) كذا نقل المؤلف عن " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وهو تصحيف صوابه " الشريطة " كما في " المسند " و" سنن " أبي داود و" مستدرك " الحاكم و" سنن " البيهقي.
قال ابن المبارك: والشريطة أن يخرج الروح منه بشرطٍ من غير قطع الحلقوم.
وقال الخطابي في " معالم السنن " 4/ 281: إنما سمى هذا شريطة الشيطان من أجل أن الشيطان هو الذي يحملهم على ذلك ويحسن هذا الفعل عندهم، وأُخذت الشريطة من الشرط: وهو شق الجلد بالمبضع ونحوه، كأنه قد اقتصر على شرطه بالحديد دون ذبحه والإتيان بالقطع على حلقه.
وقال الزمخشري في " الفائق " 2/ 233: " نهى - صلى الله عليه وسلم - عن شريطة الشيطان " هي الشاة التي شُرِطت: أي أثر في حلقها أثر يسير كشرط الحاجم من غير فَرْي أوداج ولا إنهار دمٍ، وكان هذا من فعل أهل الجاهلية يقطعون شيئاً يسيراً من حَلْقها، فتكون بذلك ذكية عندهم، وهي كالذبيحة والذكية والنَّطيحة.
وقال ابن الأثير في " النهاية " 2/ 460: وفيه " نهى عن شريطة الشيطان " قيل: هي الذبيحة التي لا تقطع أوداجها، ويُستقصى ذبحها وهو من شرط الحجَّام، وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حَلْقها ويتركونها حتى تموت، وإنما أضافها إلى الشيطان، لأنه هو الذي =(7/162)
فإنها ذبيحةُ الشيطان" (1) وهي التي تشرق بالماء فتموت، وهو الحديث (355) من مسند ابن عباس من " جامع " ابن الجوزي.
وقد أجمعت الأُمة إجماعاًً ضرورياً أنه يجب الرضا بما كان من الله تعالى، والتحسين له، والثناء به، وأنه يجب كراهة المعاصي وسخطُها والتقبيح لها، فلو كانت المعاصي من الله لتناقض الإجماعان، واتحد محلُّ السخط والرضا.
والعجب من الغزالي أنه صرح في كتبه " منهاج العابدين إلى الجنة " وغيره أنه يجب الكراهة للمعاصي، ويجب الرضا بأفعال الله تعالى، ومع ذلك قال: إن المعاصي من الله، وقال أيضاً: إن الجبر باطلٌ بالضرورة، فما الفرق بين القول بالجبر، والقول بأن المعاصي من الله سبحانه وتعالى.
ومن ذلك حديث ابن عباس: ماتت زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكت النساء، فجعل عمر يَضْرِبُهُنَّ بسوطه، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، وقال: " مهلاً يا عمر، إنه ما كان من العين والقلب فمن الله، ومن الرحمة، وما كان من اليد واللسان فمن الشيطان ".
رواه أحمد وابن تيمية في " المنتقى " (2).
__________
= حملهم على ذلك، وحسَّن هذا الفعل لديهم، وسوَّله لهم.
قلت: ولم يتنبه إلى هذا التصحيف ابن الجوزي، فقال في " غريب الحديث " 1/ 534: ولا أحسبها إلاَّ التي تَشْرَق بالماء فتموت، وأخذه عنه ابن الأثير في " نهايته " 2/ 465، فتبعهما ابن الوزير على ذلك.
(1) أخرجه أحمد في " المسند " 1/ 289، وأبو داود (2826)، وابن حبان (5888)، والحاكم 4/ 113، والبيهقي 9/ 278، وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي! مع أن فيه عمرو بن عبد الله بن الأسوار اليماني، وهو ضعيف.
(2) تحرف في (أ) و (ش) إلى: المنتهى، وقد كتبت على الصواب في (أ) فوقها.
والحديث في " مسند أحمد " 1/ 237 - 238 و335 وفي سنده علي بن زيد بن جُدعان وهو ضعيف. وانظر " نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار " 4/ 149. =(7/163)
فهذه خمسة عشر حديثاً، عن أبي هريرة منها ست، وعن ابن عباس حديثان، وبقيتُها عن ابن عمر بن الخطاب وعائشة وأبي ثعلبة، وسهل بن سعد، وأبي قتادة، وأبي سعيدٍ، وعوف بن مالك، وحَمْنَة بنت جحش من غير استقصاءٍ، ومن غير الآثار الموقوفة على (1) الصحابة كما نذكره الآن عن ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وأبي بكر الصدِّيق، وعلي عليه السلام.
قال الإمام الحافظ أبو داود في " سننه، (2) المشهورة، التي هي أحد دواوين الإسلام، في كتاب النِّكاح في باب من تزوج ولم يفرض صداقاً: حدثنا عُبيد الله (3) بن عمر هو القواريري، حدثنا يزيد بن زُرَيْع، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة، عن خِلاَس وأبي حسان، كلاهما عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود أنه أُتِي في مسألةٍ فاختلفوا إليه شهراً، أو قال: مراتٍ، قال: فإني أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان (4).
__________
= وأخرجه ابن سعد في " الطبقات " 8/ 37، إلاَّ أنه قال في روايته " رقية بنت رسول الله " بدل " زينب "، وفيه أيضاً علي بن زيد بن جدعان.
(1) في (أ): عن.
(2) (2116).
(3) في (أ) و (ش): عبد الله، وهو خطأ.
(4) إسناده صحيح على شرط الشيخين، غير أن أبا حسان -وهو الأعرج- أخرج له مسلم فقط، ورواية يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة قبل الاختلاط.
قلت: وقد فات المزي أن يذكره في " تحفة الأشراف " في ترجمة عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عمه عبد الله بن مسعود، ويظهر أن النسخة التي اعتمدها من " السنن " لم يكن فيها هذا الحديث، بدليل أنه لم يرمز بـ " د " على رواية خلاس وأبي حسان عن عبد الله بن عتبة بن مسعود في تراجم الثلاثة من كتابه " تهذيب الكمال ".
وأخرجه أيضاً أحمد 1/ 447 عن محمد بن جعفر، والبيهقي 7/ 246 من طريق عبد الوهَّاب بن عطاء، كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، بهذا الإسناد.
وأخرجه أحمد 4/ 279 عن أبي داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن قتادة، عن خلاس وحده، به.(7/164)
وقال إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل في مسند الجَرَّاح بن أبي الجراح من " مسنده " (1): قرأتُ على يحيى بن سعيدٍ، عن هشام قال: حدثنا قتادة بالحديث المتقدِّم ولفظه: " فإن أصَبْتُ فالله عزَّ وجلَّ يُوفِّقُني لذلك، وإن أخطأتُ فهو مِنِّي ".
وفي الباب عن علي عليه السلام وأبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم.
أما عليٌّ فهو إمام التنزيه لله تعالى، وهو في كلامه كثيرٌ غير قليلٍ، وذكر ابن حجر أن هذه العبارة قد وُجِدَتْ في كلامه عليه السلام في حكم أم الولده، ولم أقف عليها بنصِّها.
وأما أبو بكر، فإنها مشهورة عنه في الكلالة فإنه قال فيها: أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني وأستغفر الله.
رواه ابن حجر في " التلخيص " (2) في كتاب القضاء (3)، وذكر سنده عن عبد الرحمن (4) بن مهدي، عن حماد بن زيدٍ، عن سعيد (5)، عن محمد بن سيرين قال: لم يكن أحدٌ أهيب لِمَا لم يُعلَم من أبي بكرٍ، فإنها نزلت به فريضةٌ لم يجد لها في كتاب الله أصلاً، ولا في السنة أثراً، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأً فمني، وأستغفر الله.
__________
(1) هذا سبق قلم من المؤلف رحمه الله، فهذا الحديث بهذا السند أخرجه أحمد 1/ 430 - 431 في مسند عبد الله بن مسعود، وليس في مسند الجراح، وهو في مسند الجراح 4/ 279 - 280 من طرق أخرى.
(2) 4/ 195.
(3) في (أ) و (ش): النص، وهو تحريف.
(4) في (أ) و (ش): عبد الله، وهو خطأ، والتصوبب من " التلخيص ".
(5) " عن سعيد " سقطت من (أ) و (ش)، واستدركت من " التلخيص "، وسعيد هذا: هو ابن أبي صدقة البصري.(7/165)
قال ابنُ حجر: وأخرجه قاسم بن محمد في كتاب " الحُجَّة والرد على المقلِّدين " (1).
وروى ابن حجر في كتابه هذا أيضاً (2) أن البيهقي روى من طريق الثوري، عن الشيباني (3)، عن أبي الضُّحى، عن مسروق قال: كتب كاتبٌ (4) لِعُمَرَ: هذا ما أرى الله أمير المؤمنين، فانتهره عمر، وقال: اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمن عمر (5).
قال ابن حجر: إسناده صحيح.
قلت: وروى الذهبي في ترجمة عَمَّار من " النبلاء " (6) مثله عن عُمَرَ في قصةٍ أخرى من حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، وهما من رجال الجماعة.
فدلَّ ذلك على إجماع الصدر الأول على تنزيه الله تعالى من إضافة الخطأ إليه، كيف الكفر وجميع المعاصي والفواحش والكذب والرذائل؟! تعالى الله عمَّا يقول الكاذبون عليه (7) عُلُوّاً كبيراً، بل ما زال هذا إجماع من يُعتَدُّ به من المسلمين، فقد ذكر الذهبي في " الميزان " في ترجمة محمد بن علي (8) بن عطية
__________
(1) زاد في " التلخيص ": وهو منقطع. قلت: وجه الانقطاع فيه أن محمد بن سيرين لم يدرك أبا بكر.
(2) 4/ 195.
(3) تحرف في (أ) و (ش) إلى: سفيان. والشيباني: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان.
(4) في (أ): كنت كاتب، وكان في أصل (ش): كتب كاتب، بالرفع فصححها قارئها إلى " كاتباً "، وهو خطأ.
(5) " سنن البيهقي " 10/ 116.
(6) " سير أعلام النبلاء " 1/ 423.
(7) " عليه " لم ترد في (ش).
(8) في (أ) و (ش): علي بن محمد، وهو خطأ وقد كتب على الصواب فوق الاسم في (أ). وهو في " الميزان " 3/ 655.(7/166)
أبي طالب المكي أنه وعظ في بغداد (1)، فقال: إنه لا أضرَّ على المخلوقين من الخالق، فبدَّعوه (2) وهجروه.
وهذا في الضُّرِّ وسيأتي الكلام عليه، كيف في جميع القبائح الخبيثة؟!
وهذا إشارةٌ إلى كلام (3) أهل السنة، فدَلَّ على أنهم أبرياء من هذه البِدعَةِ، وإن تكلم بها بعض من ينتسب إليهم، ثم ساق بعض هذا الكلام في أثر عبد الله بن مسعود إلى آخره وسيأتي إن شاء الله تعالى.
وقال الحافظ النسائي في " سننه " التي هي أصح السنن بعد " الصحيحين " عند أئمة هذا الشأن في كتاب النكاح، في إباحة التزويج بغير صداق: حدثنا علي بن حُجْرٍ، حدثنا عليُّ بن مُسْهِر، عن داود بن أبي هندٍ، عن الشَّعبي، عن علقمة، عن ابن مسعود بنحوه ولفظه: فاختلفوا إليه فيها شهراً قال: سأقول فيها بجَهْدِ رأيي، فإن كان صواباً فمن الله وحده لا شريك له، وإن كان خطأً فمِنِّي ومن الشيطان، والله ورسوله منه براءٌ (4).
ورواه النسائي أيضاً (5) من طريق زائدة بن قُدَامة، عن منصورٍ، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود كلاهما عن ابن مسعود ولفظه: " فإن كان صواباً فمِنَ الله " وقد تفرَّد زائدة بذكر الأسود.
وذكر ذلك أبو السَّعادات ابن الأثير في كتابه الجليل المعروف بـ "جامع
__________
(1) في (أ) و (ش): في مكة، وهو خطأ، والتصويب من " الميزان " و" تاريخ بغداد " 3/ 89.
(2) في (أ): فبدعونه، وهو خطأ، وكتبت فوق الكلمة على الصواب.
(3) " كلام " ليست في (أ) و (ش)، لكنها أضيفت إلى (ش) بخط مغاير.
(4) إسناده صحيح على شرط مسلم. وهو في " السنن " 6/ 122 - 123، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة 4/ 301 - 302 عن ابن أبي زائدة، عن داود بن أبي هند، بهذا الإسناد.
وصححه ابن حبان (4101) لكن ليس فيه " ومن الشيطان ".
(5) 6/ 121، وصححه ابن حبان (4100).(7/167)
الأصول" (1) في الفرع الأول من الفصل الثاني من كتاب الصَّداق من حرف الصاد، وعَزَاه إلى أبي داود والنسائي.
وذكره الحافظ أبو الحَجَّاج المِزِّي الشافعي في كتابه الجليل المسمى " تحفة الأشراف في علم الأطراف " (2) في مسند معقل بن سنان.
وذكره إمام الشافعية في عصره صاحب كتاب " البدر المنير " في الكلام على أحاديث الرافعي الكبير في كتاب الصداق منه، فقال ما لفظه، وقد أورد طرقه المختلفة فيه: وهو المسند كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قال (3) الحافظ ابن النحوي: هذا حديثٌ صحيح، رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم، وابنُ حِبَّان في " صحيحه "، والحاكم في " المستدرك " من رواية معقل بن سنان، وقال الحاكم: على شرط مسلم.
وقال ابن حزم في رسالته الكبرى في إبطال القياس: لا مَغْمَزَ فيه لصحة إسناده.
ونقل الرافعي عن صاحب " التقريب " (4) أنه صحَّح الحديث وأنه قال:
__________
(1) 7/ 17 الطبعة الشامية بتحقيق صاحبنا العلامة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط نفع الله به.
(2) 8/ 456.
(3) في (أ): وقال.
(4) هو الإمام الجليل القاسم بن محمد بن علي الشاشي، ولد الإمام الجليل القفَّال الكبير، وكتابه " التقريب " شرحٌ على " المختصر " للمزني، وهو شرح جليل استكثر فيه من الأحاديث ومن: نصوص الشافعي، بحيث إنه يحافظ في كل مسألة على نقل ما نص عليه الشافعي فيها في جميع كتبه، ناقلاً له باللفظ بحيث يُستغنى به غالباً عن جميع كتب الشافعي. انظر " تهذيب الأسماء واللغات " 2/ 278 - 279، و" طبقات الشافعية " للسبكي 3/ 472 - 477، و" طبقات ابن قاضي شهبة " 1/ 182 - 183، و" طبقات ابن هداية الله " ص 117 - 118، وذكر صاحب " هدية العارفين " 1/ 827 أن القاسم بن محمد توفي في حدود سنة 400 هـ.(7/168)
الاختلاف في الراوي لا يَضُرُّ الصحابة، لأنهم عُدُولٌ كلهم، ويحتمل أن بعضهم نسب الراوي إلى أبيه، وبعضهم إلى جَدٍّ قريب أو بعيد، وبعضهم إلى قومه.
وقال البيهقي في " سننه " (1) بعد أن نقل كلام الشافعي في الوقف في صحة المرفوع: لكن عبد الرحمن بن مهدي إمام من أئمة الحديث، رواه وذكر إسناده ثم قال: هذا إسنادٌ صحيح ورُواته ثِقَات (2)، ومَعْقِل بن سِنان صحابي مشهور.
قال -يعني البيهقي في " سننه "-: ورواه يزيد بن هارون، وهو أحد حُفَّاظ الحديث مع عبد الرحمن بن مهدي بإسنادٍ صحيح، وذكر سنده.
ثم ساقه البيهقي باختلاف طُرُقه، ثم قال: وهذا الاختلاف لا يُوهِنُ الحديث، فإن جميع هذه الروايات أسانيدها صحاح، وفي بعضِها ما دَلَّ على (3) أن جماعةً من أشجع شَهِدُوا بذلك، فكأن بعض الرواة سمَّى منهم واحداً، وبعضهم سمى اثنين، وبعضهم أطلق ولم يُسَمِّ، وبمثل ذلك لا يُرَدُّ الحديث، ولولا ثقة من رواه عنه، يعني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما كان لِفَرَحِ عبد الله بن مسعود بروايته معنى، ثم ساقه من طريق فراس، [عن الشعبي، عن مسروق]، عن عبد الله، عن مَعْقِلِ بن سِنان، إلى قوله حكايةً عن الحاكم: فصار هذا الحديث على شرط الشيخين.
وذكر الشيخُ تقي الدين بن دقيق العيد في كتاب " الاقتراح " (4) في القسم الرابع: في أحاديث رواها من أخرج له الشيخان في " صحيحيهما " ولم يُخَرِّجا تلك الأحاديث.
وخالف الحفَّاظَ كُلَّهم أبو بكر بن أبي خَيْثَمة، فقال في ترجمة معقِل بن سنان (5): هذا حديثٌ مختلفٌ فيه.
__________
(1) 7/ 245.
(2) " ورواته ثقات " لم ترد في " السنن ".
(3) " على " لم ترد في (أ).
(4) ص 430 - 431.
(5) " بن سنان " لم ترد في (أ).(7/169)
قال أبو سعيد: ما خلق الله مَعْقِل بن سنان، ولا كانت بَرْوَع بنت واشق!
قال النواوي: هذا غلطٌ منه، وجهالةٌ لما عليه الحُفَّاظ، والصوابُ أنه حديث صحيح. وإنما ذكرت هذا، لأنبِّه (1) على بُطلانه، لئلاَّ يراه من لا يعرف حاله فيتوهَّمُه صحيحاً.
ولقد أحسن صاحب " التقريب " من أصحابنا حيث صحَّح الحديث كما تقدم نقله.
وعبَّر الشيخ نجم الدين (2) في كتابه " المطلب شرح الوسيط " عن كلام صاحب " التقريب " بأن قال: يحتمل أن يكون يَساراً أبوه، وسِناناً جدُّه، وأشجع قبيلَتُه، فنسبه أحد الرواة لأبيه، والآخر لجدِّه، والآخر لقبيلته. انتهى ما ذكره ابن النحوي.
وفي " الترمذي " (3) أن الشافعي رضي الله عنه رجع إلى القول به بمصر، وأنه حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، ورُوِي عن ابن مسعودٍ من غير وجهٍ. انتهى.
__________
(1) في (أ): لأنه، وهو تحريف، وقد كتبت على الصواب فوقها تصحيحاً لها، وقد سقطت من (ش).
(2) هو الشيخ الإمام أحمد بن محمد بن علي بن مرتفع بن صارم بن الرِّفعة، نجم الدين أبو العباس، ولد بمصر سنة 645 هـ، كان إماماً في الفقه والخلاف والأصول، واشتهر في الفقه إلى أن صار يضرب به المثل، وكتابه " المطلب " في نحو أربعين مجلداً، قال ابن قاضي شهبة: هو أعجوبة من كثرة النصوص والمباحث، ومات ولم يكمله، بقي عليه من باب صلاة الجماعة إلى البيع. وكان ابن الرفعة قد نُدب لمناظرة ابن تيمية، وسئل ابن تيمية عنه بعد ذلك، فقال: رأيت شيخاً يتقاطرُ فقه الشافعية من لحيته، توفي سنة 710 هـ ودفن بالقرافة.
" طبقات السبكي " 9/ 24 - 27، و" طبقات ابن قاضي شهبة " 2/ 273 - 276، و" الدرر الكامنة " 1/ 284 - 287، و" طبقات ابن هداية الله " ص 229 - 230.
(3) 3/ 451 في النكاح: باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها.(7/170)
واعلم أن متن الحديث: أن ابن مسعود قضى في المرأة التي تزوجها رجلٌ ولم يفرض لها صداقاً، ثم مات قبل أن يدخل بها، أن لها صداق نِسائِها لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وعليها العِدَّةُ ولها الميراث، فقام مَعقِلُ بن سِنَان الأشجعي فشَهِد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بذلك.
وفي رواية: معقل بن سنان، وفي رواية: جماعة من أشجع، وفي رواية: اثنان، فاختلف الحُفَّاظُ في صحة المرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسبب ذلك.
وأما فتوى ابن مسعود، وقوله: إن أخطأتُ فمِنِّي ومن الشيطان، فلا خلاف في صحته وشُهرَتِهِ وعدالة رواته، وأنهم رجال الحديث وأئمة الإسلام كما تقدم بيانهم حين ذكرت الأسانيد، كابن مسعود الذي قال فيه (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رضيتُ لأُمَّتي ما رَضِيَ لها ابن أُمِّ عَبْدٍ " (2)، وقال فيه: " إنَّ الله عَصَمَه من الشيطان " (3) وأجمعت الأمة على فضله وإمامته وعِلْمِه واجتهاده وجلالته في الإسلام.
أفَتَراهُ حين نَسَبَ الخطأ إلى نفسه وإلى الشيطان، ونَزَّهَ منه ربه سبحانه وتعالى إنه (4) معتزليٌّ، أو أنه يُنكِرُ الأقدار وهو راوي حديث الصادق المصدوق
__________
(1) في (أ): الذين قال فيهم، وهو خطأ.
(2) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 1/ 325.
(3) لم أقف على شيء من هذا لابن مسعود في المصادر المتيسرة، وقد ثبت ذلك لعمار، فقد أخرج البخاري في " صحيحه " من طريق إبراهيم، قال: ذهب علقمة إلى الشام، فلما دخل المسجد، قال: اللهم يسر لي جليساً صالحاً، فجلس إلى أبي الدرداء، فقال أبو الدرداء: ممن أنت؟ قال: من أهل الكوفة، قال: أليس فيكم أو منكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره؟ يعني حذيفة، قال: قلت: بلى، قال: أليس فيكم أو منكم الذي أجاره الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - يعني من الشيطان، يعني عماراً، قلت: بلى ....
(4) في (أ): فقال إنه.(7/171)
"وإنَّ أحدَكُمْ يُجْمَعُ في بَطنِ أُمِّهِ" (1) كما مضى مقرَّراً في أحاديث الأقدار.
أو ترى أن أهل ذلك العصر يُتَّهَمُون بهذه البدع حيث لم ينكروا عليه؟ أو أن علقمة والأسود وعبد الله بن عُتْبَة بن مسعود التابعين الأجلاَّءِ الرواة لذلك عن ابن مسعود اتُّهِمُوا بذلك؟ أو اتُّهِم بذلك من لم ينكر عليهم من التابعين وتابعيهم؟
وكذلك سائر رواية النبلاء الكبرى مثل إبراهيم، والشعبي، وإبراهيم التيمي، ومنصور بن المعتمر، وزائدة بن قُدامة، وهشامٍ، ويحيى بن سعيد القَطَّان، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي، وخِلاس بن عمرو، وأبي حسان، وداود بن أبي هند، وعليِّ بن مُسهِر، وعليِّ بن حُجْر، وعثمان بن أبي شيبة، وسفيان، وشعبة، وغُنْدَر، وبُنْدَار، وعبد الرزاق، كل هؤلاء من رجال البخاري وسائر أئمة الإسلام الستة وغيرهم، وحديثهم في جميع دواوين الإسلام إلاَّ اثنين منهم، فانفرد مسلمٌ بإخراج حديثهما دون البخاري: وهما أبو حسان، وداود بن أبي هند وقد خرَّج له تعليقاً، ولم يخرِّج الترمذي لعثمان، وكذا أبو داود وابن ماجه لم يخرِّجا (2) لعليِّ بن حُجْر، واحتج بهما الباقون، وقد رواه هؤلاء كلهم وحسبك بهم، وخلقٌ غيرهم.
فقد قال المِزِّيُّ في " أطرافه " (3) رواه أبو داود في النكاح عن عثمان بن أبي شيبة، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق (4)، عن ابن مسعود.
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه البخاري وغيره، وصححه ابن حبان (6174) وانظر تخريجه فيه.
(2) كان في (أ) بعد قوله " تعليقاً ": وخرَّج النسائي لعثمان ولا وخرج ابن ماجه لعلي بن حجر، وفي (ش): وخرج النسائي لعثمان وكذا خرج لعلي بن حجر، وكلتا العبارتين فيهما اضطراب وخطأ، ويغلب على ظني أن ما أثبته هو الصواب إن شاء الله.
(3) 8/ 456 في مسند معقل بن سنان.
(4) في (أ) و (ش): علقمة، وهو خطأ، والتصويب من " الأطراف ".(7/172)
وعن عثمان، عن يزيد بن هارون وابن مهدي، كلاهما عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، علقمة.
ورواه النسائي فيه عن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، عن سفيان، عن فراس نحوه.
وعن إسحاق بن منصور، عن ابن مهدي، وعن أحمد بن سليمان، عن يزيد بن هارون، كلاهما عن سفيان، عن منصور به.
وعن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن زائدة بن قدامة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود معاً عن ابن مسعود.
وعن علي بن حُجر [عن علي بن مسهر، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن عبد الله]، وعن شعيب بن يوسف (1) النسائي، عن يزيد بن هارون، عن ابن عون، عن الشعبي، عن الأشجعي، عن ابن مسعود.
وعن محمد بن بشار (2)، عن محمد - يعني غُدر-، عن شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن ابن مسعود.
وعن أحمد بن (3) عبد الله بن الحكم المصري، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن سيَّار (4)، عن الشعبي، عن ابن مسعود.
وعن أحمد بن سليمان الرُّهَاوي، عن يعلى بن عبيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ابن مسعود.
__________
(1) مكان كلمة " يوسف " في (أ) و (ش) بياض، والمثبت من " الأطراف ".
(2) في (أ): ت عن ابن يسار، وفي (ش): كذا عن ابن يسار، وكلاهما خطأ، والتصويب من " الأطراف ".
(3) كان هنا بعد " بن " في (أ): سليمان، وهو خطأ.
(4) في (أ) و (ش): يسار، وهو تحريف.(7/173)
ورواه الترمذي ببعضه عن محمود بن غيلان، عن زيد (1) بن حُباب، وعن الحسن بن علي الخَلاَّل، عن يزيد بن هارون وعبد الرزاق، ثلاثتهم عن سفيان به، وقال: حديث حسن صحيح.
كل هؤلاء وغيرهم رَوَوْهُ، ودوَّنُوه، واحتَجُّوا به، وعَمِل به أئمة الحديث كالثوري، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، كلهم رووه وعملوا به، وهم أئمة السنة وأعداء البدعة، فما أنكر أحدٌ منهم هذا اللفظ على ابن مسعود، ولا على أحدٍ ممن رواه، ولا حذَّر من اعتقاد ظاهره، ولا ذكر له تأويلاً ألبتة.
وروى البغوي في تفسيره للكلالة، لكنه قدمه إلى آخر باب المواريث من سوره النساء (2)، والدَّامغاني في رسالته في المذاهب مثل لفظ ابن مسعود في نسبة الخطأ إلى نفسه دون الله تعالى، عن الشعبيِّ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين تَكَلَّم في الكلالة برأيه رضي الله عنه، ولم يُنكِرْه البغوي ولا تأوَّلَه، وهو من كبار أهل السنة.
وعن ابن عباس نحو ذلك في قوله: إن الشيطان سَرَقَ كذا وكذا آيةً -يعني بسم الله الرحمن الرحيم- في أول كل سورة (3) يعني أنه سرق ذلك على من أسقطه من أوائل السور.
رواه أبو عبيد القاسم بن سَلاَّم (4) بإسناد جيد، ولفظه: أغفلها الناس. ورواه البيهقي، ذكره ابن كثير في حديث " المنتهى ".
__________
(1) في (أ) و (ش): يزيد، وهو تحريف.
(2) 1/ 403.
(3) أخرجه البيهقي في " السنن " 2/ 50 بنحوه من طريق محمد بن جعفر بن أبي كثير، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال: إن الشيطان استرق من أهل القرآن أعظم آيةٍ في القرآن " بسم الله الرحمن الرحيم ". وقال: هو منقطع.
(4) في " فضائل القرآن " ورقة 53/ 1، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن ليث -وهو ابن أبي سليم- على مجاهد، عن ابن عباس قال: آية في كتاب الله أغفلها الناسُ "بسم الله الرحمن =(7/174)
وذكر الشيخ العارف السُّهْرَوَرْدِي في كتابه " عوارف المعارف " (1) في الباب التاسع أن الجبري زنديق إلى قوله: فأما من كان مُعتَقِداً للحلال والحرام، والحدود والأحكام، معترفاً بالمعصية إذا صدرت منه (2)، فهو سَلِيمٌ صحيحٌ، فصَرَّح بأن المعصية من العبد العاصي.
وقال في الباب الستين في ذكر المَقَامات من قولهم في الرضا (3): وقال يحيى -يعني ابن معاذ-: يرجع الأمر كله إلى هذين الأصلين: فعل منه بك، وفعل منك له، فترضى بما عَمِلَ، وتُخْلِصُ فيما تَعمَلُ. انتهى بحروفه، وهو صريحٌ فيما ذكرتُ.
وقال الأنصاري في المحاسبة (4): إنها تمييز ما للحق عليك مِما لك ومنك.
وهؤلاء من كبار أئمة المعرفة والصلاح.
وفي " نهاية غريب الحديث " (5) تأليف أبي السَّعَادات بن الأثير صاحب " جامع الأصول في أحاديث الرسول " وهي عُمْدَةُ أهل السنة في تفسير الحديث، وهو أحد علماء أهل السنة بلا نِزَاع، قال في كتابه هذا في تفسير " التثاؤب من الشيطان " كما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لفظه: إنما جَعَله (6) من الشيطان كراهةً له، وإنما يكون من ثِقَلِ البَدَنِ، وميله إلى الكسل
__________
= الرحيم". وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث بن أبي سليم، وقول المصنف رحمه الله: " إسناد جيد " ليس بجيد!
(1) ص 72 - 73.
(2) بعد هذا في " العوارف ": معتقداً وجوب التوبة منها.
(3) ص 238.
(4) انظر " مدارج السالكين " 1/ 173 لابن القيم، والأنصاري: هو الإمام الحافظ أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، شيخ خراسان، وهو من ذرية صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أبي أيوب الأنصاري. انظر السير 18/ 503 - 518.
(5) 1/ 204.
(6) في (أ) و (ش): فعله، والمثبت من " النهاية ".(7/175)
والنوم، فأضافه إلى الشيطان لأنه الذي يدعو إلى إعطاء النَّفْس شَهْوَتَها، وأراد به التحذير من السبب الذي يتولَّد منه، وهو التوسُّع في المطعم والشِّبَع فيَثْقُلُ عن الطاعات، ويَكْسَلُ عن الخيرات. انتهى بحروفه.
فانظر إلى عبارات أئمة السنة واعترافهم بصحة إضافة القبائح إلى أهلها بحرف " مِنْ "، فإنه لم يجعل ذلك موضع الإكسال فتناوله، وإنما جعل موضعه أن التثاؤب قد يكون ضرورياً من فعل الله، لكنه حينئذٍ يكون سببه اختيارياً من فعل الشيطان، فأُضيف السبب والمُسَبَّبُ إلى الشيطان، كما قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، وكما قال موسى كليم الله عليه السلام: {هذا من عَمِلِ الشيطان} [القصص: 15].
وأما فعل القبيح الاختياري الذي هو التوسع في المطعم فلا إشكال في أنه من الشيطان بغير تأويلٍ، ولو نقلنا جميع ما لأهْلِ السنة في هذا لطال وأدَّى إلى الإملال.
وفي معنى كلامهم: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50].
وكذا قال الفقهاء في المغصوب: إذا زاد إما أن يكون من الخالق أو المخلوق. ذكره ابن رشد (1) في الغصب من " نهايته " (2) مطولاً.
وكل ذلك يدل على شهرة نسبة القبائح والفضائح والرذائل والفواحش إلى من اختارها لنفسه من شرار العباد من أهل الغَيِّ والفساد، ومتى نُسِبَتْ إلى تقدير العزيز العليم الذي قَدَّرَ وُقوعها بحكمةٍ بالغةٍ، وحُجَّةٍ دامغةٍ، نُسِبَتْ إلى ذلك بالعبارات التي ارتضاها ربُّ العباد لنفسه، واصطفاها في كتابه، وانتقاها في كلامه، فقال: إنها ابتلاءٌ من الله وتمحيصٌ، كما قال سبحانه وتعالى بعد ذكر
__________
(1) في (ش): رشيد، وهو تحريف.
(2) " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " 2/ 317.(7/176)
فرعون: {وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49] ولم يقل: إنه من ربِّكم بالإطلاق، لأنه قبيحٌ، والبلاء الذي فيه من الله تعالى حَسَنٌ.
وبذلك جاء القرآن والسنة، وبه عَبَّرَت الصحابة والتابعون، فما نُقِلَ عن أحدٍ منهم بسندٍ صحيح ولا ضعيفٍ إنه قال: الكفر والفسوق والقبائح والفواحش والفضائح من الله، ولا تَفَوَّهَ أحدٌ منهم، ولا من أهل السنة القدماء بهذا، حتى تفاحَشَ الغُلَوُّ في علم الكلام والجدال، وفَشَا التقليد في ذلك، وابتُدِعَتْ عبارات أهل الجبر وأهل الاعتزال، وتَرْجَمَ عن الحق وأهله من لم يشتغل بتأمل القرآن والسنة، ويتوقَّفُ عليهما وعلى آداب السلف الصالح.
النوع الثاني: قريبٌ من هذا الأول، لكن (1) دلالته بالمفهوم الصحيح الواضح، لا بالنُّصُوصِيَّة، من ذلك قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147]، وفي آية أخرى: {فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60]، وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 26] وقوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [البقرة: 149]، وقوله تعالى: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] إلى أمثالٍ لذلك كثيرة.
ففي هذه الآيات الكريمة أوضح دلالةٍ على أن المضاف إلى الله يختصُّ بصفة الحق، ولا يجوز أن يكون باطلاً، ولو كان كما زعم المخالف لَمَا كان لتخصيص الحق بذلك معنى ألبتة، ومن هنا تَسَمَّى بالحق، وكان قوله الحق، وحكمه الحق، وهو الحق اسماً ومعنىً، وقضاءً وقَصَصاً، وفعلاً وقولاً، وخلقاً وأمراً، وعدلاً وفضلاً، وابتداءً وانتهاءً، ودنيا وآخرةً، وتفاصيل ذلك ما لا يُحصِيه الكتاب، ولا يجمعه الكتاب، وجُملَتُها يَجْمَعُها الحقُّ المبين، الحق في نفسه، المبين لكونه حقاً بأفعاله وعجائب مخلوقاته، وعظيم نِعَمِهِ، فلم يكن سبحانه باطلاً منفِيّاً، ولا حَقّاً خَفِيّاً، بل جمع أسباب (2) الكمال، وتَنَزَّهَ من النقائص عن أدنى أدنى أدنى احتمالٍ.
__________
(1) في (ش): ولكن.
(2) في (أ): أشتات.(7/177)
ولذلك ثبت في " البخاري " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في مناجاته في قيام الليل: " أنت الحقُّ، ووعدك الحق، ولِقَاؤُك الحَقُّ، وقولك حقٌّ " (1).
ولذلك قال الله تعالى في حق من أنكره: {قُتِلَ الإنسانُ ما أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، فكذلك من أنكر اختصاصه بالحق دون الباطل من جميع الوجوه كما قدَّمْتُه، وكما يأتي في تفسير: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وما في معنى ذلك.
النوع الثالث: قوله تعالى حكايةً عن كليمه موسى عليه السلام: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15].
وقال تعالى في نحو ذلك: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90] يعني المعاصي المتعلقة بها من أفعال العباد، ولذلك قال بعد ذلك: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91].
ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168]، ومنه: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100].
ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن رسوله أيوب عليه السلام حيث قال: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، فأضاف ما أصابه إلى الشيطان، وإن كان من فعل الله، لأنه عقوبةٌ على ذَنْبِهِ الذي هو من الشيطان، والله تعالى منه بريء، مبالغةً في الأدب، وعملاً بسنة الله في ذلك حيث قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وفي قراءة: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (2)، وقوله:
__________
(1) " صحيح البخاري " (1120) و (6317) و (7385) و (7442) و (7499) من حديث ابن عباس. وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " (2597) و (2598) و (2599)، وانظر تخريجه فيه.
(2) هي قراءة الجمهور، وقرأ نافع وابن عامر: {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} بغير فاء. انظر "حجة =(7/178)
{وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48]، وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] وأمثال ذلك كما يأتي في موضعه.
فاخبرني أيها السُّنِّيُّ على الإنصاف: من أعلم بأقدار الله، والفرق (1) بين ما يضاف إلى الخلق وإلى الله: كبار أنبيائه ورسله، أو أصاغِرُ الأشاعرة المترجمون في دعواهم عن أهل السنة؟ وأيُّ كتابٍ أصدق من كتاب الله؟ وأي عبارةٍ أفصحُ منه؟
النوع الرابع: أنه ثبت بالنصوص والاجماع أن نسبة القبائح بالإضافة إلى الله تعالى لا يجوز ولا يصدق، أعني بصيغة الإضافة، فلا يقال في الذنوب: إنها ذنوب الله، ولا في الكفر: إنه كُفْرُ الله، فكذلك لا يقال: إنها منه، لأن ما كان منه أُضِيفَ إليه، قال الله تعالى في ذلك: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} [البقرة: 93] فثبت أنه منهم حين حَسُنَتْ إضافته إليهم، وقَبُحَتْ إضافته إلى الله.
وكذلك قوله تعالى: {وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 58].
وقوله حكايةً عن خليله عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] أضاف الخطيئة إلى نفسه، والمغفرة إلى ربه، ولم يجعلهما معاً من ربِّه.
ومنه: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 167]، ومنه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، ومنه: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2]، ومنه: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 11]، ومنه: {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
يوضحه: أن الله تعالى ساوى (2) بين الإضافة بصيغتها والإضافة بمن،
__________
= القراءات" ص 642، و" زاد المسير " 7/ 288.
(1) " والفرق " سقطت من (ش).
(2) في (ش): سوى.(7/179)
وعَطَفَها عليها في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] فجعل إضافة الصدِّ عن سبيل الله إليهم بصيغة الإضافة كإضافة الظلم إليهم بحرف " مِنْ "، وساوى بينهما في ذَمِّهم بهما، فوجب امتناعهما معاً في حَقِّهِ سبحانه.
النوع الخامس: قال الله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
وقال: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120].
وهذا نصٌّ على الفرق بين الوعدين، فإن وعد الله موصوفٌ بالصدق، واجب الرُّكون إليه والإيمان به، وَوَعْدُ الشيطان على العكس من ذلك كله.
وعلى قول الخصم: إنهما معاً من الله، فأيُّ مُسلمٍ يرضى لنفسه أن يقول: إن وعد الشيطان وعدٌ من الله كاذِبٌ؟ وأيُّ عارفٍ بلُغَة العرب لا يقطع على فساد هذه العبارة إن كانت ترجمةً عن (1) اعتقاد أهل السنة والسلف الصالح، أو على خُسْران قائلها إن كان مُترجِماً عن مذهب الجبرية مختاراً له.
النوع السادس: أنه يلزمه أن يقول: إن الأمر بالفحشاء من الله، لأن الله قد أخبر أن الشيطان يأمُرُ بالفحشاء، وحكى أنه قال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء: 119]، وقد التزم الخصم أن كل (2) ما كان من الشيطان وغيره، فهو من الله.
قلنا له: صادمت قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. وإنْ قال: إنه من الله أمْرٌ، وهو لا يأمُرُ به، ناقض وقال ما لا يَعرِفُ.
وكذلك إن قال: هو من الله، وليس هُو منه أمرٌ، فإن اعترف أن الأمر بالفحشاء من الشيطان كما دَلَّ عليه كتاب الله، فكذلك الكفرُ بالله وسائر القبائح.
__________
(1) " عن " لم ترد في (أ).
(2) " كل " لم ترد في (ش).(7/180)
النوع السابع: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 279]، وهذا وعيدٌ شديدٌ بالإجماع، فلو كانت أفعال العباد من الله لكان حرب المشركين للمسلمين حرباً (1) من الله للمسلمين، وهذا خلاف الإجماع، ولو كان كذلك، كانوا خارجين من ولاية الله، فدل على أن الفساد جاء من هذه العِبارة المُبتَدَعَة المُتَكَلَّفَة المُختَرَعَة المُتَعَسّفة.
النوع الثامن: ما جاء بصيغة الحَصْرِ والقَصْر على غير الله، نحو قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175].
ومنه: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105].
ومنه: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]، ومنه: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} [العنكبوت: 47]، وفي آيةٍ: {إلاَّ الظَّالِمونَ} [العنكبوت: 49]، وفي آيةٍ: {إلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].
ومنه: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة: 10].
فكيف يضاف (2) إلى الله بحرفٍ مما قصره الله على الشيطان، وحَصَرَه بهذا الحرف ذَمّاً لهم، ومقتاً ولوماً، وهل أوضح من ذلك دلالة على أن إضافة القبيح بهذا الحرف إلى الفاعل المختار صيغة ذمٍّ ولومٍ يجب تنزيه الله تعالى عنها.
النوع التاسع: ما لا يصح في اللغة أن يكون إلاَّ من اثنين فصاعداً مثل الاقتتال، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [البقرة: 253] فأضاف إليه المشيئة الدالة على التفرُّد بالملك، وأضاف (3) إليهم الاقتتال الدالَّ على الضعف المستلزِم في كثيرٍ من الأحوال للقبح.
__________
(1) في (أ) و (ش): حرب، وهو خطأ،
(2) تحرفت في (ش) إلى: يصار.
(3) في (أ): فأضاف.(7/181)
وأما قوله في آخر الآية: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] فمعناه: من المشيئة النافذة الدالة على العزة والملك، لا من الاقتتال الذي يناقض العزة والملك، ولا يصح إلاَّ من العباد الضعفاء المتضادِّين المتغالبين المتكاذبين في الدعاوي، فلو كان ذلك من الله وحده، كان مُغَالِباً لنفسه، تعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً، وإنما يقع ذلك من عباده بينهم، وله العِزَّةُ والحكمة والمشيئة والحُجَّة والكمال في كل شيءٍ، لا إله إلاَّ هو.
ومن أوضح هذا النوع قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27] فكيف تكون مُشاقَّتُه تعالى منه، فيكون هو مُشَاقّاً (1) لنفسه.
ومنه: {واللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما} [المجادلة: 1].
ومنه: {مِنْ قَبْلِ أنْ يَتَماسَّا} [المجادلة: 3].
ومنه: {وَشَاوِرْهُم في الأمْرِ} [آل عمران: 159].
فإن قلت: عند (2) الخصم لا يُسَمَّى بذلك التقاتل والتنازع ونحوه من الوجه الذي يُنْسَبُ إلى الله.
قلنا: وكذلك هو عندهم لا يسمى من ذلك الوجه كفراً ولا قبيحاً ولا معصيةً.
ومن أوضحه قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] فلو كان الله سبحانه هو خالق أفعال العباد من كل وجهٍ، ولا اختيار لهم ولا فعل، لم يكن مُحتاجاً إلى الأمر فيما وحده وهو منه لا من سواه.
__________
(1) في (ش): فيكون ميثاقاً، وهو تحريف.
(2) في (ش): إنه عند.(7/182)
النوع العاشر: ما جاء من الأفعال مُقَيَّداً بصفة ذمٍّ لازمةٍ له، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} [النساء: 30] فإنه يتعذر أن يكون فعله عدواناً وظلماً من الله، لأنه يلزم أن يكون من الله عدواناً وظلماً، وهو من الله حَسَنٌ عنذ الخَصْمِ، وتَجَرُّدُه عن هذه الصفة القبيحة لا يمكن، لأن الله قد قيَّده بها وهو أصدق القائلين.
ومنه: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ} [الكهف: 22]، ومنه: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] فالرَّجْمُ بالغيب، والرَّهبة والرَّغبة مُحالةٌ (1) في حق الله تعالى، ونظائره كثيرةٌ.
النوع الحادي عشر: ما كان من أفعال العباد بلفظ الكسب، مثل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، فإن أهل السنة وغيرهم أجمعوا على أن الفعل من حيث يسمى كسباً لا يُنْسَبُ إلى الله، لأن مفهوم هذا اللفظ لا يصح في حقه تعالى، وإنما ذكر أهل السنة أنه يُنْسَبُ إلى الله وحده من الجهة التي يُسَمَّى منها خلقاً وإبداعاً وإيجاداً من العدم.
وهذا سبب تخصيص أهل السنة للعبد بالكسب، وما كان عندهم كسباً للعبد، فهو فعلٌ له أيضاً، وإنما خَصُّوه باسم الكَسْبِ، لأنه لا يصحُّ نسبته إلى الله بهذا الاسم، كما لا تصح نسبته إلى العبد باسم الخلق الذي هو إيجادُ الذات المعدومة، وأما الفعل، فإنه يصح أن يُنسَبَ إلى الله تعالى وإلى العبد، فتركوا التعبير به لاشتراكه، لا لأن كسب العبد ليس بفعلٍ له، فافهم هذه اللطيفة.
ولذلك نص شيخ الأشاعرة الشهرستاني في " نهاية الإقدام " على أن لِفِعْلِ العبد اسماً من الجهة التي هي فعلٌ له يختصُّ بها العبد ويُسمى بها: كالكسب والعبادة والصلاة والصوم والمعصية والطاعة، ويُسمى بها كاسِباً وعابداً ومُصلِّياً وصائماً ومطيعاً وعاصياً.
__________
(1) في (أ): مخالفة، وهو تحريف.(7/183)
قال: ولو كان الله فعل ما فعل العبد من جهةٍ واحدةٍ لا يستحق هذه الأسماء سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، وقد تقدَّم كلامه ووجهه، ولذلك قال: إن من عرفه هانَتْ عليه تهويلات القدرية، وتمويهات الجبرية، وعِلْمُ ما حققه يجب الجزم به عقلاً ببُطلان هذه العبارة، كما يأتي في الوجوه النظرية.
النوع الثاني عشر: قوله تعالى: {وإنَّ الشياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيَائِهم} [الأنعام: 121] فيلزم أن يكون وحي الشياطين وحياً من الله، ويلزم من ذلك أحد باطلين: إما أن يكون حقاً، وإما أن يكون وحي الله منقسماً إلى حقٍّ وباطلٍ.
النوع الثالث عشر: قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، وقالت الملائكة عليهم السلام: {أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها} [البقرة: 30]، فلو كان الفساد الذي من الخلق من الله ما استنكرتِ الملائكة أن يَخْلُقَ من يُفسِدُ، بل لكان مفسداً في المعنى، سبحانه عن ذلك وتعالى علواً كبيراً.
وإن كان الخصم يقول: إنما لا نسميه بذلك، لأن الشرع منع منه، وليس كما زعم لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك، لكان امتناعنا من ذلك بالقهر، وليس المدح أن يمتنع عبيد الملك من ذمه بما فيه من النقائص خوفاً من عقوبته، فإن كثيراً من ملوك الأرض الناقصين كذلك، وإنما المدح أن يكون مُنَزَّهاً حقاً عن النقائص، ومع ذلك لا ينقصه أن يخلي بعض عبيده يذُمُّه وينقصه كَذِباً منه وزُوراً، ثم يحلم عنه ولا يُؤاخِذُه أو يعاقبه على ذلك بحق وعدل.
الوجه الثاني: أنه لو كان كذلك، لكان استحقاقه عزَّ وجلَّ لأضداد تلك الأسماء غير صادقٍ، وهذا أفحشُ من الأول.
فإن قلت: أليس الله تعالى خلق المفسدين، وقدَّر وقوع الفساد ولم يمنع منه مع قدرته؟(7/184)
قلت: بلى، ولكنه فعل ذلك بالحق وللحق، والطبيب الذي يُؤلِمُ العليل بالفِصَاد والحِمْيَة والأدوية الكريهة لا يُسَمَّى ظالماً ولا مفسداً، ولا يسمى بشيء من أسماء اللوم البتة، بل هو مُحسِنٌ مُحِقٌّ ساعٍ في الخير، مُتوسَّلٌ إليه مُثْنٍ بكل خير عليه، فكيف بالله العليم الحكيم الرحمن الرحيم، الذي له المثلُ الأعلى والأسماء الحسنى، لا مِثْلَ للطف حكمته الخفية، وغايات تدبيره الحميدة؟!
أما قولنا: إنه فعل ذلك بالحق، فحيث يكون عقوبةً على الذنوب مثل ما دلَّت عليه الآيات وغيرها كما تقدَّم.
وأما قولنا: إنه فعله للحق، فلأنه سبحانه لا يعاقب العبد إلاَّ لحكمةٍ خفيةٍ، ومصلحةٍ راجحةٍ، هي تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله، ولولا ذلك لما اختار العقوبة على العفو، وقصور العقول عن ذلك لا يَضُرُّ علام الغيوب.
وقد صرَّح الغزالي بهذا في " المقصد الأسنى " (1) في شرح الرحمن الرحيم، وفي مقدمات " إحياء علوم الدين " في كتاب العلم.
وأشار إليه النواوي في " شرح مسلم " (2) وفي " الأذكار " (3) في شرح قوله عليه أفضل الصلاه والسلام: " الخير بيديك، والشر ليس إليك " فإن في أحد تأويلاته أنه ليس بِشَرٍّ بالنظر إلى حكمتك فيه. انتهى.
وإنما تلزم الشناعة بنفي الحكمة عن الله باطناً وظاهراً، ولهذا موضعٌ يُبْسَطُ فيه القول غير هذا، وقد كشفت الغطاء عن هذا السر قصة موسى والخَضِر، فكل جاهلٍ بتأويل الخضر يعُدُّه متعدِّياً، وكل عالمٍ بتأويله يعدُّه مُحسِناً، فكيف بغلاَّم الغيوب البريء من النقائص والعيوب؟!
النوع الرابع عشر: قال الله تعالى في السبع المثاني التي اختارها للصلوات
__________
(1) ص 62 - 63.
(2) 2/ 59.
(3) ص 93 باب ما يقوله بعد تكبيرة الإحرام.(7/185)
الواجبات المفروضات من جميع كتبه المُنزلات، وكلماته الطيبات المباركات: {إيَّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاكَ نَستَعِينُ} [الفاتحة: 5] فالاستعانة من العبد بالله، ولا يصح أن تكون الاستعانة إلاَّ بين اثنين، لأن المستعين لا يكون إلاَّ مفتقراً محتاجاً، والمستعان به لا يكون إلاَّ غنياً حميداً كريماً عليماً قديراً لطيفاً رحيماً، فكيف يصح أن تكون الاستعانة له منه؟! فيجتمع فيه الفقر والغِنى، والعجز والقدرة.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة شيخ الأشاعره الشهرستاني في " نهاية الإقدام " على القدرية والجبرية، فقال ما معناه: إن العبد لو كان مستقلاًّ بنفسه وقُدرته ومشيئته لم يحتج إلى الاستعانة، ولو لم يكن له فعل يتوقف على اختياره وجهده لم يحتج إلى الاستعانة أيضاً، فإنك لا يصح في لغة العرب التي نزل عليها كتاب الله أن تستعين الله على أفعاله المَحْضَةِ، فلا تستعينه على أن يغفر لك أو يُطِيلَ عُمرَك، بل تسأله أن يفعل ذلك لا أن يُعِينَك عليه.
قال: وكل مُنْصِفٍ يجد من نفسه ذلك، فإنه يهتم بما يقدر عليه، وتجد الداعي الباعث لك على أن تفعله وتُحسِنَ الاقتدار على الاحتراك فيه، ولا تجدُ اقتداراً على التمام وبلوغ أقصى المرام من أفعالك حتى تجد القدرة على الرَّمْي دون الإصابة، وعلى الكتابة دون التجويد الذي تَمَنَّاه، وعلى التساوي بحيث لا يختلف، وعلى الصلاة دون كمال الخشوع الذي لا نسيان فيه ولا غفلة ولا شيء من أنواع النقص.
وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، ولذلك ورد الوعيد بالتَّخْلِيَة بين العبد وبين نفسه عند الغضب على العبد والمؤاخذة والاستعاذة من ذلك، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
النوع الخامس عشر: ما جاء على جهة الشرط والجزاء لفظاً أو معنىً، أو ما يقارب ذلك، كقوله تعالى: {فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُم} [البقرة: 152] فإن الذكر الأول قُربَةٌ من العبد إلى الله، صدرت على نية التعبُّد والتذَلُّل لِعِزَّة الله، والذِّكر(7/186)
الثاني فَضْلٌ عظيم من الله الرحمن الرحيم، فكيف يُجْعَلان معاً من الله وبينهما أبعد مما بين السماء والأرض من التفاوت، وأين ذِكْرُ العبد الحقير الذليل من ذكر الرب العزيز الجليل، ولو كانا معاً من الله لاستويا قَدراً، إذ لم يكن أحدهما عبادةً، والآخر ثواباً.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَمّا زَاغُوا أزاغَ الله قُلُوبَهم} [الصف: 5] فالآية واضحة الدلالة على أن إزاغة قلوبهم من الله عقوبةٌ مُستَحَقَّةٌ بمحض العدل الحق على ما تقدم منهم من الزَّيْغِ الأول الواقع بتخلية الله بينهم وبين نفوسهم ليبلوهم أيهم أحسن عملاً كما بيَّنه الله في كتابه الكريم.
فمن شفاه ذلك وكفاه لَحِقَ بالصحابة والتابعين والسلف الصالحين، ومن تَوَغَّل في الدقائق الكلامية، وخالجه ما خالجهم من تركيب شكوكٍ على نصوص كتاب الله تعالى مقتضاها التَّطَلُّع إلى حكمة الله الخفيَّة في ذلك الابتلاء، فقد طلب أن يُعْطَى أكثر مما أُعطِيَ رسل الله ملائكته عليهم السلام، فقالت الرسل: {لا عِلْمَ لَنا} [المائدة: 109]، وقالت الملائكة: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32].
والجواب عليه الحق أن الغاية القصوى في هذا المقام أنه لا يعلم تأويل ذلك إلاَّ الله سبحانه وتعالى، فلا حرج في وِجدان النكارة في القلب، إنما الحرج في الإخلاد إليها، واعتقاد الجاهل أن ما لا يعلمه فإنه يبعُدُ أن يعلمه الله، وهذا ليس ينبغي منه اعتقاده في عالمٍ آخر من أبناء جنسه، كيف إلاَّ رب العالمين علاَّم الغيوب؟!
فإذا تقرَّر هذا، فكيف يُتَصَوَّرُ في مثل هذا أن يكون الذنب والعقوبة معاً من الله، ولو كان كذلك لنصَّ على ذلك في كتبه الكريمة، فإن الملك العزيز الذي لا يخاف من أحدٍ ولا يَتَّقيه، ولو شاء لخلق الخلق في النار ابتداءً ولم يحتج إلى تمكينٍ وتكليفٍ وكتبٍ ورسلٍ وبَعْثٍ وحُكمٍ وعدلٍ وشهود عدولٍ وموازين، فحين عدل عن ذلك إلى هذا علمنا أن مراده أن يوصف بالعدل، وأن لا يُنْسَبَ(7/187)
إليه ما عابه على عباده من قبائحهم وفضائحهم، والعلمُ بذلك ضروريٌّ لمن هو سيلم العقل، ونسبة الذنب والعقوبة عليه إلى الله سبحانه يُضَادُّ مراده بهذه الأمور كلها، فتأمَّل ذلك.
ومن ذلك: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وإنما قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} ليُبَيِّنَ أنه صَدَرَ منه على وجهٍ حَسَنٍ، وهو مجازاتهم بخلاف مَكْرِهمُ القبيح الذي لا أقبح منه، حيث وضعُوه موضع الشكر الواجب عليهم، وإنما سمَّى فعله مكراً على جهة المقابلة كقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وهو أيضاً من هذا القبيل.
وأما قوله: {أفَأَمِنُوا مَكْرَ الله} [الأعراف: 99] فسماه مكراً استعارةً لأخذ العبد من حيث لا يَشْعُرُ كقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] وهذا جزاء مكرهم وإن لم يتقدم ذكره لما عُلِمَ وتقرَّر من سنة الله في جزاء الشيء بمثله في قوله: {ومَكَرُوا ومَكَرَ الله} وفي ما لا يُحصَى، فهو من المطابَقَةِ في المعنى، ولذلك قيَّد المكر المذموم بوصف الشيء حيث قال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] فتقرر بهذه الآية أن المكر في نفسه غيرُ قبيحٍ لذاته، بل لوقوعه على وجهٍ قبيح، وهذا بَيِّنٌ ولله الحمد.
وفي " صحاح " الجوهري (1) ما يدل على ذلك، فإنه فَسَّرَ المكر بالخديعة، ثم فَسَّرَ الخديعة في بابها (2) بأن يريد به المكروه من حيث لا يعلم، وهذا معنى صحيحٌ، فإن الله إنما يريد المكروه لمن يستحقه.
ومنه قوله: {فَلِلَّهِ المَكْرُ جَمِيعاً} [الرعد: 42] وقد فُسِّرَ ذلك بالقدرة على المُجَازَاة مع علم الأعمال كلِّها والإمهال.
ومن هذا النوع: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيها بِكُفْرِهم} [النساء: 155].
ومنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
__________
(1) 2/ 819.
(2) 3/ 1201.(7/188)
بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال: 53] فكيف يحسُنُ أن يكون المعنى: حتى يُغَيِّرَ الله ما بأنفسهم، وكيف يصح أن لا يُغيِّرَ حتى يُغَيِّرَ، وكيف يُجعَلُ هذا هو معنى كلام الله على الحقيقة، فإلى هذا يَؤُولُ النَّظَرُ الصحيح.
ومنه: {يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16].
ومنه: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80].
ومنه: {ادْعُونِي أَستَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
النوع السادس عشر: أن الله وهو أصدق القائلين بأنه الغفور الغفار واسع المغفرة، فإما أن يكون الذنب من غيره والمغفرة منه، فذلك المعقول، أو يكون الذنب والمغفرة منه، فذلك المعقول، أو يكون الذنب والمغفرة منه معاً، فيكون غافراً لنفسه، وهذا شيءٌ لم يُعقَلِ التمدح به قط.
النوع السابع عشر: قول يونس عليه السلام: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، وما أعظم أدبه وألطفه عليه السلام حيث قَدَّمَ التسبيح قبل أن يُجْرِيَ ذِكرَ ظُلمه لنفسه، ناسِباً للظلم إلى نفسه دون رَبِّه، فما نَزَّهَ ربه إلاَّ في ذكر الظلم في خطابه لربه غير منسوب إلى ربه، كما نقول للملك العادل: إن الظلم -حاشاك من ذِكرِهِ- شِعارُ غيرك.
ومن أدبه عليه السلام تقديم التسبيح على ذِكْرِ الظُّلم المنفيَّ عن الله، كأنه استقتح أن يتقدم ذكر الظلم في خطاب الله تعالى حتى يتقدمه تنزيه الله وتقديسه من مجرد مرور ذلك على لسانه في خِطَابِ الملك القدوس السُّبُوح، ربِّ الملائكة والروح.
فكيف ترى مع ذلك تَحْسُنُ إضافة الظلم إلى الله بحرف " مِن " الدالة على الاختصاص، ولدلالتها على الاختصاص قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، فهذا في العقوبات لِلعُصاةِ التي خلقها وحده(7/189)
سبحانه، فكيف بمعاصيهم الخاصة بهم التي أضافها إليهم، وذمهم بها، وعاقبهم عليها.
النوع الثامن عشر: قال الله عز وجل: {الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَه} [السجدة: 7] فكُلُّ ما كان من الله، فهو مخلوقٌ له، وكلُّ مخلوقٍ له، فهو حَسَنٌ بالنص والمعقول.
أما النص فهذه الآية الكريمة، وأما المعقول فلأنَّه حكيمٌ ولا يجوز عليه الظلم، ولا العَبَثُ ولا اللَّعِبُ، فوجب الحُكْمُ على جميع أفعاله بالحسن، بخلاف معلوماته ومقتضياته المنسوبة إلى عباده شرعاً وعقلاً.
ومن هنا أجمعت فِرَق أهل السنة على أنه لا بد من أثرٍ لقدرة العبد، فلا يجور أن يقال: الكفر من الله بهذا الاعتبار أيضاً، لأن الكفر مذمومٌ عقلاً وسمعاً وإجماعاً، وكذلك سائر المعاصي.
النوع التاسع عشر: القول الكاذب من أقوال الكافرين، سواءٌ حكاها الله عنهم، كقوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 24 - 25] أو لم يَحْكِهَا عنهم فإن القول بأنها من الله تصريحٌ بأن الكذب من الله، ولا فرق بين ذلك وبين تسميته منه، وذلك ممنوعٌ بالإجماع، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
النوع المُوفي عشرين: قوله تعالى: بعد ذكر تكليف العشرين بمئتين، والمئة بألف: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66].
ووجه الدليل من الآية الكريمة أن أفعال العباد لو كانت من الله تعالى، لما صحَّ تعليل التخفيف بضعفهم، لأن التعليل بذلك يقتضي أن الضعف وصفٌ لمن صدر منه الفعل الذي هو مغالبة (1) الكُفرَيْنِ، ولو كان ذلك الفعل صادراً من
__________
(1) في (ش): مقابلة، وهو تحريف.(7/190)
الله لَزِمَ أن يكون ضعيفاً، تعالى عن ذلك وعن ذكره عُلُوَّاً كبيراً. فهذا بالنظر إلى أفعال المؤمنين الغالبين.
وكذلك لو كان فعل الكافرين المغلوبين من الله لزم منه محذوران فاحشان: أحدهما: أن يكون المؤمنون مُغالِبِين لربهم سبحانه وتعالى، وأن يكون آمِراً لهم بذلك.
وثانيهما: أن يكون تعالى موصوفاً بأنه مغلوبٌ، تعالى عن ذلك.
النوع الحادي والعشرون: قوله تعالى: {إلاَّ تَنْصُروهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] فكيف يكون عدم نَصْرِهِ من الله ونصره من الله (1)، وأمثال ذلك.
النوع الثاني والعشرون: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا والله يُرِيدُ الآخِرَةَ}، [الأنفال: 67] فكيف تكون الإرادتان معاً منه.
النوع الثالث والعشرون: قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع فرعون والسحرة: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 118 - 119] فكيف يُتَصوَّرُ الحق والباطل من جهةٍ واحدة؟ أو أن الغالب والمغلوب، والعزيز والصَّاغِرَ كذلك؟ فيكون الله تعالى كالمُغَالِبِ لنفسه، والمناقض لأمره أو حُكمِهِ، تعالى عن ذلك.
النوع الرابع والعشرون: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) يَكَادُ (2) السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88 - 90].
__________
(1) عبارة " ونصره من الله " سقطت من (ش).
(2) هذه قراءة نافع والكسائي " يكاد " بالياء، لأن السماوات جمع قليل، والعرب تذكر فِعل المؤنث إذا كان قليلاً كقوله {فإذا انسَلخَ الأشهرُ الحرُمُ} ولم يقل: انسلخت، وقوله {وقال نسوةٌ} ولم يقل: وقالت، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم " تكاد " بالتاء، لتأنيث السماوات. " حجة القراءات " ص 448، و" زاد المسير " 5/ 264 - 265.(7/191)
وهذا عند جميع المفسرين، بل العقلاء أجمعين، لشدة كراهة الله وبراءته منه وغضبه على مرتكبه، ولو كان قولهم هذا العظيم القبح من الله، وهو مرادٌ له محبوب مرضيٌّ، لم يُستفصح ولا يُستبلغ هذا الكلام ولا حَسُنَ هذا المذكور من هذه المخلوقات المطيعات الموافِقات لمولاهُنَّ.
النوع الخامس والعشرون: قال الله تعالى: {وآخَرونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهم} [التوبة: 102]. وثبت في الحديث الصحيح " أن سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلاَّ أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلاَّ أنت " (1).
أجمع العلماء على أن تفسير أبوء بذنبي: أُقِرُّ وأعترف، نص على ذلك أهلُ السنة كالنواوي في " الأذكار " و" رياض الصالحين " و" شرح مسلم "، وابن الأثير في " النهاية " و" جامع الأصول ".
فثبت أن القرآن والسنة والإجماع والعقول تطابقت على حُسْنِ اعتراف المذنب بذنبه، وأنه من أسباب المغفرة، وإنما بقي الكلام في تفسير الاعتراف: هل معناه اعتراف المذنب أن الذنب منه، أو اعترافه أنه ليس منه؟
فإن قال الخصم بالأول (2) انقطع النزاع، واجتمعت الكلمة على تقبيح القول بأن الكفر من الله.
وإن قال: إنَّ الاعتراف في لغة العرب التي نزل عليها كتاب الله، وكانت لغة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو قول المذنب: إن الذنب ليس منه، عرفنا أنه معانِدٌ لا يستحق المناظرة.
__________
(1) أخرجه البخاري (6306) و (6323) وغيره من حديث شداد بن أوس، وصححه ابن حبان في " صحيحه " (932) و (933)، وانظر تخريجه فيه.
(2) " بالأول " سقطت من (أ).(7/192)
فإن ادَّعى إنه يمكنه إيرادُ أدلةٍ من القرآن والسنة ولغة العرب أن الاعتراف بالذنب هو الانتفاء منه، فليأت بها منسوبةً إلى مواضعها المعروفة كما فعلنا في أدلَّتِنا، فمرحباً بالوِفَاقِ، فإنه ليس بين المسلم وبين الحق عداوةٌ، والله تعالى عند لسان كل قائل، وهو الهادي إلى الصواب، لا إله إلاَّ هو.
فإن رجع إلى أن العاصي وقدرته من الله، وأمثال ذلك، قلنا: هذا صحيح ومُجْمَعٌ عليه، ولكن ليس شيءٌ من ذلك يُسَمَّى ذنباً للعبد، وإنما كلامنا في القدر المختص بقدرة العبد عند أهل السنة المُسَمَّى ذنباً وكفراً وقبيحاً وفاحشةً، وأقل من هذا يكفي المُنْصِفَ، وأكثر منه لا يكفي المتعسِّف (1).
وليس يَصِحُّ في الأذهان (2) شيءٌ ... متى (3) احتاج النهارُ إلى دليلِ (4)
وقد كنت بسطت في هذه المسألة أكثر من هذا حتى سَئِمْتُ مع نشاطي، فظَنَنْتُ أن غيري أكثر سآمةً للتطويل مني، فاقتصرت خوف التنفير، وهذه الوجوه تُرَجِّحُ للسني قول الإمام المتفق على إمامته لفظاً ومعنى أبي المعالي الجويني، أحد أئمة أهل السنة، فإنه اختار أن فعل العبد أثر قدرته بمشيئة الله تعالى لتمكينه وسابق تقديره وتيسيره بالدواعي المقرونة بالحكمة والعدل، كما هو مُحقَّقٌ في موضعه من هذا الكتاب.
ومما قلتُ في ذلك:
__________
(1) في (أ): التعسف، وهو خطأ.
(2) رواية " الديوان ": في الأفهام.
(3) في (ش) و" الديوان ": إذا.
(4) البيت لأبي الطيب المتنبي من مقطوعة تشتمل على سبعة أبيات وهي في ديوانه 3/ 90 - 92 بشرح العكبري، قالها وقد حضر مجلس سيف الدولة الحمداني وبين يديه أترج وطَلْع، وهو يمتحن الفرسان، فقال لابن شيخ المصيصة: لا يتوهم هذا للشرب، فقال أبو الطيب هذه القصيدة وأولها:
شديدُ البعد من شرب الشَّمُولِ ... تُرُنجُ الهند أو طَلْعُ النخيلِ(7/193)
تَنَكَّبْ عن طريق الجبر واحذر ... غَوَائِل مُبْدَعَاتِ الاعتزال
وسِرْ وَسطاً طريقاً مستقيماً ... كما سار الإمام أبو المعالي
بأفْعالِ العِبَادِ غَدا إماماً ... رِضا عندَ التفرُّق غير غالي
تكميلٌ يناسِبُ هذه الخاتمة: قال الله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}.
وكذلك قال في سورة الناس، وكذلك قال في سورة آل عمران: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] ولم يجعل الشر بيده مُسَمّى باسمه، ولذلك نظائر كثيرةٌ في كتاب الله تعالى.
منها قوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53 - 54].
وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
فانظر إلى ما في هذه الآية من الإرشاد إلى حسن العبارة فيما يُصاف إلى الله تعالى من النعمة وكشف الضُّرِّ اللَّذَيْنِ يسمى بهما مُنعِماً وكاشف الضُّرِّ، دون الضر نفسه، وإن كان من فعله، لأنه ليس بضُرٍّ بالنسبة إلى حكمته.
ألا ترى أن إنزاله الضر بالظالم هو عين المنع للمظلوم، فهو يسمى به عادلاً بالنظر إلى الظالم، نافعاً محسناً بالنظر إلى المظلوم، ولذلك كثر مثل هذا في كتاب الله، وفي كلام أنبياء الله مثل إبراهيم الخليل عليه السلام: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] أضاف المرض إلى نفسه، لأنه قد يكون(7/194)
عقوبةً على ذنبٍ كما في قصة أيوب، وقد يكون بأكل الإنسان بما يضُرُّه في العادة، وأضاف الشِّفاء إلى الله تعالى.
وكذلك قال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] كما تقدم.
وقال الله تعالى في الزمر: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8].
وفيها أيضاً: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49].
وفي آخر السجدة: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 49 - 50] وبعدها: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51].
وفي آخر حم عسق: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48].
وفي هذه الآية الكريمة التصريح بالسبب في عدم إضافة ذلك إلى الله مع كونه فعله، وذلك بين قوله: {بِما قَدَّمَتْ أيدِيهِم} [البقره: 95] فهو مثلُ قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].
وقال الله تعالى في سورة يونس: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12].
وقال تعالى في هود: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ(7/195)
لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9 - 10].
وقال تعالى في بني إسرإئيل: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
وقال تعالى في الروم: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33].
وفي الروم أيضاً: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
وهذه أيضاً مُوضحَةٌ للعلة في ذلك، مع ما فيه من النصوص كقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] الآيات في الزمر.
وقوله: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41].
وقوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] مع ما جاء في تفسيرها من الأحاديث.
وقوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34].
ويقارب هذه الآيات في المعنى قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7].
لكن هاتان وأمثالهما في ترك (1) بعض الخير لما علم (2) فيه من الشرِّ، وما
__________
(1) في (ش): تركه.
(2) في (ش): يعلم.(7/196)
تقدم في إنزال (1) الضر لدفع المعاصي لطفاً أو للعقوبة عليها.
وربما جاء القرآن الكريم بلفظ إرادة السوء ولا يجيء بغيرها، لأنه يُشْتَقُّ لله منها اسم المريد كقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقوله تعالى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب: 17] ولم يقل: وإذا أساء إلى قوم، ولا أساء إليكم لوجهين:
أحدهما: أنه لو قال ذلك، لسُمِّي مُسِيئاً، وذلك لا يجوز قطعاً، إنما يسمى عادلاً حكيماً في جميع عقوباته.
وثانيهما: أن إرادة الله تعالى لم تُعلق إلاَّ بالسوء -بضم السين- الذي معناه هو المكروه في الطبيعة، وهذا يسمى محسناً كيف مريد؟
ولا أعلم شيئاً من الأول صريحاً إلاَّ ما يحتمل التأويل من قوله تعالى: {إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ} [الزمر: 38] وهذا يشبه قوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] مع أن الجزاء حَسَنٌ لا سَيِّىءٌ، لكن سمَّاه باسم السيئة الأولى على جهة المطابقة، وهي أحد أنواع البديع.
وهذا لما سمَّاه ضُرّاً في أول الآية حيث وقع مراداً أضافه إلى نفسه بذلك الاسم المتقدم، مع القطع بأنه بالنَّظَرِ إلى حكمته عدلٌ وحكمة، وأن ما كان عدلاً وحكمةً لا يستحق أن يسمى ضراً حقيقة كما لا يُسَمَّى فِعلُ الطبيب بالمريض ضُرّاً.
وكذلك قوله تعالى في سورة الأنعام: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 17 - 18] فيه صرفٌ لاسم الضُّرِّ عن الله حيث قال: {يَمْسَسْكَ بِضُرِّ}، وفي آخر يونس مثلها ولم يقل: يَضُرُّكَ.
__________
(1) في (أ): وإنزال، وهو خطأ.(7/197)
وهنا تنبيهٌ على نقض الحكم فيه بقوله: {فلا كاشف له إلاَّ هو} وذلك أنه نَبَّه بذلك على الرجوع فيه في كشفه، وذلك من الدواعي إلى إنزاله، وفي آخر الآية إشارةٌ إلى أن المراد التمدُّح بكمال القدرة والملك، فسُمِّي الله بهذه الأسماء، ويُشتَقُّ له من ذلك أحسن الأسماء لا حَسَنُها، وهي هذه الأربعة: القدير، القاهر، الحكيم، الخبير.
ولذلك اختار الله تعالى للقِصاص اسم الحياة، لأنها هي المقصودة به، فقال: {وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ولم يسمه ضُرّاً.
لذلك سلمنا أنه يسمى ضراً، فلا نُسَلِّمُ أنه يسمى بذلك ضارّاً، فقد جاء في كتاب الله سبحانه أن الله يهدي من يشاء ويُضِلُّ من يشاء، ولم يرد في الأسماء الحسنى أنه المُغْوِي المضل، وإنما ورد فيها أنه النور الهادي، وذلك أنه لا تُسَمَّى إلاَّ الحسنى توقيفاً كما نصَّ على ذلك: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] فكان ذلك منه عدلاً لِحكمةٍ بالغة يسمى بها عادلاً لا مُضِلاًّ، وديَّاناً عزيزاً خَفِيَّ الحكمة، لا ظالماً ولا لاعباً، فافهم هذا، فإنه يفتح لك باب الفهم في أسماء الله الحسنى.
ولذلك قال غير واحدٍ من العلماء: إنه لا يجوز إفراد الضارِّ عن النافع في الأسماء الحسنى، لأن مضرته للظالم هي عين منفعته للمظلوم، فهو نافعٌ بعين ما هو ضارٌّ، بل اسم النافع أولى به في ذلك الضرِّ، لأنه إنما أراد النفع بذلك الضُّرِّ لا الضُّرَّ، فمراده بضرر الظالم هو منفعة المظلوم لا مضرَّةُ الظالم، ولذلك أمر المظلوم بالعفو عن الظالم في كتابه وعلى لسان رسوله، وحثَّهُ على ذلك، ووعده عليه العفو والمثوبة.
فلو كان مُراده بالعدل والانتصاف مضرَّة الظالم حَرَّمَ العفو عنه ولم يأمر به، ويدل عليه قوله تعالى: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14] بضم الكاف وكسر الفاء، وهو نوحٌ عليه السلام.
فكان الداعي إلى جزاء الكافرين ما فيه من المثوبة للأنبياء والمؤمنين، وفي(7/198)
ذلك آياتٌ كثيرة ذُكِرَتْ في غير هذا الموضع في ترجيح عقوبة الكافرين على العفو عنهم، ولا مُوجِبَ لقَصْرِ قوله: {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} على أقرب مذكورٍ، بل الظاهر أنه تعليل لجميع ما قبله من هلاك قومه ونَجاتِهِ، كقوله تعالى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 14 - 15].
فثبت أن مراده بمضرَّة الظالم منفعة المظلوم، وهو يسمى بذلك نافعاً ومُحسِناً وعادلاً، ولذلك قلتُ في ممادحه تعالى:
تبارك من أدنى مَمَادِحِهِ العَدْلُ ... ومُوجِبُهُ منه المحامِدُ والفَضْلُ
فقد عاد منه العَدْلُ فضلاً وكَمْ به ... لأضْدَادِ سُبلِ الحمدِ قد جُمِعَ الشَّمْلُ
والمعنى في البيت الثاني أنه لم يَعْدِلْ من الفضل إلى العدل إلاَّ لحكمةٍ راجحةٍ هي تأويل المتشابه الذي لو عُلِمَ، لظهر أن ذلك العدل مُشتَمِلٌ على ما يُصيِّرُهُ فضلاً راجحاً في الغاية الحميدة التي يجب الإيمان بها في جميع أفعاله، فإنه سبحانه لا يجوز عليه على الصحيح فعل المباح المتساوي الطرفين لأنه هو اللعب والعيب، وهو مُنَزَّهٌ عنهما.
واعلم أنهم إنما نصُّوا على أنه لا يجوز إفراده عن النافع، لأنه وحده ليس باسمٍ حَسَنٍ (1) مُشتَمِلٍ بنفسه على الحمد والثناء، ولو كان كذلك، لأُفْرِدَ ولم يجب أو يُستَحَبَّ ضَمُّه إلى النافع، وقد نبَّه الله تعالى على الذم للضُّرِّ الذي لا نفع عليه حيث قال: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} [الحج: 13].
فإن قيل: إن عذاب الآخرة من الله تعالى، وهو أعظم المضارِّ (2).
__________
(1) " حسن " لم ترد في (ش).
(2) في (ش): الإضرار.(7/199)
قلت: ليس عذاب الآخرة منسوباً إلى الله تعالى من كل جهةٍ، بل من جهةٍ دون جهةٍ، كالكسب عند الأشعرية سواء، فإنه منسوبٌ إلى العبد لكونه جزاء ذنوبه، ومُتَفَرِّعاً عليها ومتولِّداً عنها، فهو من العبد ظُلمٌ لنفسه وضَرٌّ لها، ومن الله عدلٌ وحكمةٌ لا ظلمٌ ولا ضَرٌّ، وذلك لقوله تعالى: {ذُوقُوا ما كُنْتُم تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55] وفي آية: {ذُوقُوا ما كُنتُم تَكسِبُونَ} [الزمر: 24] سمَّاه كسباً لهم وعملاً، وقوله: {ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ ليوم القيامة} [الأنبياء: 47] وأمثالها، ولقوله: {ومَا ظَلَمُونا ولَكِنْ كانوا أنْفُسَهم يظلمون} [البقرة: 57]، [الأعراف: 160].
ولو كان العذاب من الله تعالى ضرّاً (1) محضاً من كلِّ وجهٍ لم يوصف بأنه كسبهم، وأنه ظُلمٌ من العبد لنفسه، ولا قال الله: {فَأخْرَجَهُما مِمَّا كانَا فِيهِ} [البقرة: 36]، ولا قال: {مَا أصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، ولا قال أيوب عليه السلام في عقوبة الله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41].
فالعدل فيه بَيِّنٌ، حيث كان جزاءً وفاقاً وقع بعد (2) التمكين والتقدم بالإنذار والقطع للأعذار، وإشهاد العدول والوزن بموازين الحق، والحكمة فيه من حيث إن له تأويلاً لا يعلمه إلاَّ الله، ولولا ما فيه من الحكمة الخفية التي اختصَّ بعلمها ربنا سبحانه وتعالى ما احتاج إلى التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وتمامُ هذا مذكورٌ في مسألة الحكمة في الشُّرور، والله الموفق.
وحيث لم يصح أن الضَّرَّ في نفسه اسمٌ حَسَنٌ (3)، كيف يدخل في الأسماء الحسنى، وإنما معنى الأسماء الحسنى ما يفيد أحسن المدح الحَسَنِ، والوصف الجميل الحميد اللاَّئِق بالمَلِكِ المجيد، لأن الحسنى أحسن الأسماء لا حَسَنها، ولهذا قال العلماء: لا يقال: يا ربَّ الكلاب والخنازير، وإنما يقال:
__________
(1) " ضراً " سقطت من (أ).
(2) " بعد " سقطت من (ش).
(3) تحرفت في (ش) إلى: جنس.(7/200)
يا ربَّ كلِّ شيء، أو يقال: يا رب السماوات والأرض ورب العرش العظيم، فافهم المعنى في الأسماء الحسنى.
بل قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، ولم يقل: إني أنا المعذِّب المُؤْلِم، فجعله من مخلوقاته لا من أسمائه الحسنى.
فلو قيل: إنه مُنزِلُ الضر أو مُقدِّرُه أو خالقه، سلَّمنا أنه يسمى ضراً، فلا نسلِّم أنه يسمى بذلك ضارّاً، كان أنسب (1)، على أن اسم الضار مقروناً بالنافع لم يرد في " الصحيح " مع رواية البخاري ومسلم أوَّله، وهذا أشدُّ في العِلَّةِ فيه، وإنما رواه الترمذي (2) ولم يُصَحِّحْهُ ولم يُحَسِّنْه أيضاً، بل نص على أنه ليس له إسنادٌ صحيحٌ.
وحسَّنه النواوي (3) وصححه الحاكم (4) وتُعُقِّبا بأنه لم يُرْوَ إلاَّ من طريق صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة.
__________
(1) في (ش): السبب.
(2) (3507) وقال بعده: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلاَّ في هذا الحديث، وقد روى آدم بن أبي إياس هذا الحديث بإسنادٍ غير هذا عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر فيه الأسماء، وليس له إسناد صحيح.
(3) في " الأذكار " ص 54 - 55.
(4) " المستدرك " 1/ 16 من طريق موسى بن أيوب وصفوان بن صالح، كلاهما عن الوليد بن مسلم، بهذا الإسناد.
وأخرجه الترمذي (3507)، وابن حبان (808)، والبيهقي في " الأسماء والصفات "
ص 5، والبغوي (1257) من طريق صفوان بن صالح، به. وانظر الكلام عليه في " صحيح ابن حبان " بتحقيقنا.(7/201)
تفرَّد به صفوان، عن الوليد، وصفوان ثقةٌ ولكن الوليد مدلس مكثر من التدليس حتى عن الكذابين، وتَعانَى تدليس التسوية فلا ينفع قوله: حدثنا ولا سمعت، لأن معنى تدليس التسوية أنه قد سمع من شيخه شعيبٍ، ثم أسقط شيخ شعيبٍ الذي بينه وبين أبي الزِّناد، فيحتمل أن يكون في الإسناد ساقطٌ ضعيفٌ، بل كذَّابٌ، فكيف يَحسُنُ الحديث مع هذا، مع أنه قد رواه الثقات الحفَّاظ عن أبي الزناد بغير ذكر الأسماء.
وقد رواه البخاري ومسلمٌ والترمذي عن ابن عيينة، عن أبي الزناد بغير ذكر الأسماء (1).
ورواه البخاري والنسائي من حديث شعيب بغير ذكرها.
ورواه البخاري عن أبي اليمان الحكم بن نافع، والنسائي عن علي بن عياش كلاهما عن شعيب بغير ذكر الأسماء (2).
ولذلك ذكرتُ أن صفوان لم يتابع على ذلك، عن الوليد (3)، ولم يتابع الوليد على ذلك عن (4) شعيب، كما لم يُتَابَعْ شعيبٌ على ذلك عن أبي الزناد، ولو صَحَّ شعيب.
وأما قول الحاكم: إنه لا خلاف أن الوليد بن مسلم أوثق وأحفظ وأعلمُ وأجلُّ من أبي اليمان، وبِشر بن شعيب، وعلي بن عياش، فما يُغْنِي ذلك شيئاً مع ما ذكرنا من التدليس الفاحش عنه وتدليس التسوية، فما يصح له مع ذلك حديثٌ
__________
(1) البخاري (6410)، ومسلم (2677) (5)، والترمذي (3508).
(2) البخاري (2736) و (7392)، والنسائي في النعوت من " سننه الكبرى " كما في " التحفة " 10/ 174.
(3) بل تابعه موسى بن أيوب النصيبي عند الحاكم كما تقدم في تخريجه.
(4) عبارة " الوليد ولم يتابع الوليد على ذلك عن " ليست في (أ) و (ش)، ولا يستقيم لمعنى إلاَّ بها.(7/202)
إلا أن يَخْلُوَ الإسناد عنه، وعمن فوقه من العنعنة ونحوها منه إلى الصحابي على أقل الأحوال، ولم يحصل ذلك.
وقد قال الحاكم: إن الوليد بن مسلم تفرد بسياقه، وإن ذلك هو العلة فيه عند البخاري ومسلم (1). فهي عِلَّةٌ قوية.
وأما قول الحاكم: إنه قد وُجِدَ الحديث عند عبد العزيز فهو ابن حُصَيْن، وثَّقَهُ الحاكم، وقال ابن حجر في " تلخيصه " (2): بل هو متفقٌ على ضعفه.
وذكر ابن كثير له شاهداً من طريق زهير بن محمد، عن موسى بن شعيب (3)، عن الأعرج. وزعم أن ابن ماجه روى ذلك، وطَلَبْتُه في كتاب " الأطراف " عن المِزِّي فلم أجده، ولا ذكر ابن ماجه شيئاً في هذه الترجمة، فيُحَرَّرُ ذلك.
ثم قال: وقال ابن كثير في " إرشاده " (4) في كتاب الأيمان منه ما لفظه: والذي عوَّل عليه جماعةٌ من الحُفَّاظ المُتقنين أن سَرْدَ الأسماء في هذا الحديث مُدرَجٌ فيه، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم، وعبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمدٍ أنه بلغه عن غير واحدٍ من أهل العلم أنهم قالوا
__________
(1) تعقب ابن حجر في " فتح الباري " 11/ 215 كلام الحاكم هذا بقوله: ليست العلة عند الشيخين تفرُّد الوليد فقط، بل الاختلاف فيه والاضطراب وتدليسه، واحتمال الإدراج.
(2) 4/ 172 - 173.
(3) كذا وقع للمؤلف عن ابن كثير " موسى بن شعيب " وهو خطأ، والصواب " موسى بن عقبة "، وهو في " الأطراف " للمزي 10/ 220 في ترجمته عن الأعرج عن أبي هريرة.
وهو في " سنن ابن ماجه " (3861) عن هشام بن عمار، عن عبد الملك بن محمد الصنعاني، عن زهير بن محمد التميمي، عن موسى بن عقبة، به. قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 240/ 2: إسناده ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد الصنعاني.
(4) هو" إرشاد الفقيه إلى أدلة التنبيه -للشيرازي في فقه الشافعية- " منه نسخة في مكتبة فيض الله الملحقة بالسلمانية في اسطنبول، رقمها 283.(7/203)
ذلك: أي أنهم جمعوها من القرآن كما رُوِيَ عن جعفرٍ الصادق (1) بن محمد، وسفيان بن عيينة، وأبي زيدٍ اللغوي (2). انتهى بحروفه. وهو عندي قويٌّ جداً.
فإذا كان كذلك لم يسلم لمن استنبط ذلك إدخال الضَّارِّ في الأسماء الحسنى بالرأي، فإنه شبيهٌ بالمُضِلِّ المُغْوِي المقابل لاسم (3) النور الهادي، وهو غير مناسب لما قدمت ذكره من الآيات، بل يسمى إضلال الفاسقين المستحقين لذلك عادلاً لإخفاء الحكمة دياناً مبتلياً عزيزاً ونحو ذلك.
وكيف يوصف باسم الضارِّ على جهة المدح من مدحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه:
" لا يَضُرُّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم " فيما خرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح غريب، وهو من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه (4).
وهو يعُمُّ جميع أسماء الله الحسنى، لأن تخصيصه لبعضها تحكُّمُ، وهو يصلح لإرادة العموم مع اسم الضار النافع أيضاً على ما يأتي، مع أنهما معاً في معنى مالك الضر والنفع، وذلك في قوة مالك الملك، لكن شرط صحته ورود السمع بذلك.
وتلخيص الدلالة في الحديث أن من تمدح بأنه لا يضر مع اسمه شيء لا يصح أن يكون اسمه ضاراً، ومن لا يصح أن يكون اسمه ضارّاً (5) لا يصح أن
__________
(1) " الصادق " ليست في (أ).
(2) تحرف في (أ) إلى: ابن زيد البغوي.
(3) في (أ): كاسم، وهو خطأ.
(4) أبو داود (5088) و (5089)، والترمذي (3388) ولفظه " من قال: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مراتٍ، لم تُصِبه فجأةُ بلاءٍ حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح ثلاث مراتٍ لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي " وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (852) و (862)، وانظر تمام تخريجه في الموضع الأول منه.
(5) عبارة " لا يصح أن يكون اسمه ضارّاً " الثانية، سقطت من (أ).(7/204)
يكون ذاته ضاراً ولا فعله -كما ذكره ابن قيم الجوزية، ويأتي كلامه الآن- مُصَادِمٌ للحديث الصحيح عن علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في التوجه في الصلاة: " الخير بيديك، والشر ليس إليك ". رواه مسلم، وإسناده على شرط الجماعة، لأنه من حديث عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عُبيد الله بن أبي رافع عنه به (1).
وروى الحاكم (2) في تفسير سورة بني إسرائيل نحو ذلك من حديث حُذيفة بن اليمان، وقال: على شرط الشيخين، وذكر أنه - صلى الله عليه وسلم - أدخل ذلك في الثناء على الله تعالى في المقام المَحْمُود الذي فتح الله عليه فيه أحبَّ الثناء إليه، فما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يختص التوجه إلى الله في الصلاة، والتوسُّل إليه في ذلك المقام المحمود، إلاَّ بأحب المحامد إليه، وأكرَمِها عنده، وأعزِّها عليه، فكيف يكون نقيضها في الأسماء الحسنى؟ فتأمل ذلك.
وقد تقدم (3) قول النواوي في " الأذكار " و" شرح مسلم ": إن معنا. ليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمتك فيه.
وقد وقع لي مرةً أن من حِكَمِ الله التي لا تُحْصى في تقدير الشرور أن النِّعَمَ قسمان: جلبُ نفعٍ أو دَفْعُ ضررٍ، وأعظمهما (4) موقعاً في قلوب البشر، وأقواهما أثراً في إيقاظ الغافلين عن الشكر: هو دفع الضر، حتى لا تجد النعمة محل موقعها إلاَّ إذا كان فيها خروجٌ من ألمٍ وشدةٍ كالشرب بعد شدة الظَّمإ، والأمانِ بعد شدة الخوف، والوِصال بعد طول المهاجرة، وبلوغ الرجاء بعد اليأس،
__________
(1) مسلم (771)، وهو في " صحيح ابن حبان " (1771) و (1772) و (1773) و (1774)، وانظر تخريجه فيه.
(2) في " المستدرك " 2/ 363 - 364، وفيه " فينادى محمد، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك، والشر ليس إليك " وهو موقوف على حذيفة. وقد تقدم تخريجه في الجزء السادس ص 319.
(3) ص 185.
(4) في (أ) و (ش): وأعظمها.(7/205)
وحتى قال بعضُ علماء الكلام: إن اللذة هي الخروجُ من الألم.
وإذا تقرر ذلك لم يمتنع (1) أن يكون من حِكَم الله في الشرور أن يكون له الشكر على كِلتا (2) النِّعمتين، وذلك على مقتضى الحديث الصحيح أنه " لا أحد أحبُّ إليه الحمد من الله " ويكون لأوليائه من مراتب الصبر الرفيعة ما (3) يكون لخالص الذهب عند إخلاصه، ثم يكون لهم من الثناء والثواب ما يقتضي (4) اسمه الشكور سبحانه، ومن ثَمَّ قال في حق خليله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106]، وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 110].
فتارة يبتلي بمجرد الخوف، ثم ينجي من الوقوع في المخافة بعد حصول الرجوع إليه بالدعاء، ومعرفة الإجابة (5) وقوة اليقين.
وتارة يبتلي بوقوع الضر، ثم يكشفه عن العبد بعد ذَوْقِ العبد الذلة (6) والضرورة، وتضرعه إلى سيده ومولاه، ومعرفته له بكشف الضّرِّ عقيب دعائه، فيكون لله تعالى من ذلك اسم كاشف الضر، ومجيب الدعاء، والمغيث والمعين، ونِعْمَ المُستغاثُ والمستعان، وأمثال ذلك كما نبَّه القرآن عليه فيما ذكرته من الآيات.
ثم وجدت هذا منصوصاً في حديث خلق آدم، وفيه: " أن الله تعالى أخرج ذرِّيَّتَه وأَرَاهُ إيَّاهُم، فرأى فيهم الغني والفقير، والصحيح والسقيم، فقال: يا رب، هلاَّ سوَّيت بين ذريتي، فقال تعالى: فعلتُ ذلك لتشكر نعمتي ". رواه ابن كثير
__________
(1) في (ش): يمنع.
(2) في (أ) و (ش): كلا، والجادة ما أثبت.
(3) في (أ): من، وكتب فوقها " ما " على الصواب، وهي كذلك في (ش): ما.
(4) في (ش): يقتضيه.
(5) كتب فوقها في (أ) و (ف): ظ الإنابة.
(6) في (أ) و (ف): اللذة، وهو تحريف.(7/206)
من طرقٍ في أول " البداية والنهاية " (1).
وقال الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي، وهو ابن قَيِّم الجوزية في كتابه " حادي الأرواح " (2): ولم يقف على المعنى المقصود من قال: إن المعنى: والشر لا يُتقرَّبُ به إليك، بل الشر لا يضاف إليه سبحانه بوجهٍ من الوجوه، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا في أسمائه، فإن ذاته لها الكمال المُطلَقُ من جميع الوجوه، وصفاته كلها (3) يُحمد عليها، ويُثنى بها، وأفعاله كلها خيرٌ ورحمةٌ وعدلٌ وحكمةٌ لا شر فيها بوجهٍ، وأسماؤه حسنى، فكيف يضاف إليه الشر، إذ الشر في مفعولاته ومخلوقاته وهو منفصلٌ عنه، إذ فعله غير مفعوله، ففعله خيرٌ كله، وأما المفعول المخلوق ففيه الخير والشر، وإذا كان الشر مخلوقاً منفصلاً (4) فهو لا يضاف إليه، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: ولا أنت تخلق الشر (5)، حتى نطلب تأويل قوله، وإنما نفى إضافته إليه وصفاً (6) وفعلاً واسماً. انتهى ذلك.
فمن اعتقد صحة حديث الأسماء وتَعْدادها على مذهب المتساهلين في التصحيح، وعدم النظر إلى إعلالها بمخالفة الحفاظ الثقات، أو قَلَّد من صحح واستأنس بمتابعة الأكثر على القبول، فليعتقد في معنى ذلك أمرين:
أحدهما: أنه تعالى الضارُّ النافع بضره، المحسن فيه، العادل به، المحمود عليه، المانُّ به، المستحق أن يسمى ضره نفعاً ومِنَّةً وفضلاً ونعمةً ورحمةً، بالنظر إلى ما فيه من الحكمة، وأن يسمى هو سبحانه بسببه نافعاً عادلاً محسناً محموداً، واستُحِبَّ له أن يتلفظ بذلك أو أكثر منه. ألا ترى إلى قول
__________
(1) 1/ 81، وقد تقدم تخريج الحديث في الجزء السادس ص 322.
(2) ص 264 - 265.
(3) بعد هذا في " الحادي ": صفات كمال.
(4) بعد هذا في " الحادي ": غير قائم بالرب سبحانه.
(5) في " الحادي ": أنت لا تخلق الشر.
(6) في (ش): قولاً.(7/207)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " إن الله كتب الإحسان على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة، وَلْيُحِدَّ أحدُكم شفرته وَلْيُرِحْ ذبيحته " (1). فهذا في أفعال عباده، فكيف أفعال الحميد المجيد؟!
ولذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحمد لله على كل حال، ونعوذ بالله من حال أهل النار " رواه الترمذي وابن ماجه (2).
وفيه تنبيهٌ على أن الله تعالى يستحق الحمد على الإطلاق في الدَّارَيْن على العقوبة والمثوبة، وما حلا أو مَرَّ، أو نفع أو ضر، لكنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ مما لا يطاق الصبر عليه، كما سأل العافية وأمر بسؤالها.
ومن ذلك قيل في محامده تعالى: الحمد لله الذي لا يُحْمَدُ على المكاره سواه.
ولذلك قال الله تعالى: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بعد قوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 43 - 44]، وبعد قوله: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41].
كما قرَّره ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح إلى دار الأفراح " وتقدم منه ما يكفي آخر الكلام في الأقدار، ولكني أفردتُه في جزء والحمدُ لله.
وثانيهما: أن اسم الضار لا يجوز إفراده عن النافع، وحينئذ يصيران معاً كالاسم الواحد المركَّبِ من كلمتين كعبد الله، فلو نطقت بأحدهما وحده لم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) الترمذي (3599)، وابن ماجه (3804) و (3833)، وفي سنده موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف، وقال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه، وليس في نسخة الترمذي التي اعتمدها المزي في " التحفة " 10/ 320 لفظة " حسن "، وهو الصواب.(7/208)
يكن اسماً مستقلاًّ للمسمى به، فلا يكون الضارُّ اسماً مستقلاً، بل الاسم: الضار النافع، لأنه في معنى: مالك الضر والنفع، بل في معنى: مالك الملك، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} [آل عمران: 26].
وهذا معنى مناسبة الأسماء التي بهذا الاعتبار، ومتى أفْرَدْتَ الضَّارَّ لم يُناسِب ذلك البتة، فليلزم هذا المعنى في قلبه ولسانه كل من أطلق هذا الاسم على الله تعالى وظن صحته، وقد نص على هذا غير واحدٍ من أهل العلم، ويدل (1) على ما اخترته ما تقدم من نحو قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 1 - 2] إلى آخر السورة، وتواترت الأحاديث بنحو ذلك، ولم ترد الاستعاذة من شرِّ الله أبداً، بل من شر الشيطان وشركه، كما روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، مُرني بكلماتٍ أقولُهُنَّ إذا أمسيت وإذا أصبحت، قال: " قل: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، ربَّ كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلاَّ أنت، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشِرْكِهِ " رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (2).
وروى أبو مالك مثل حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفيه: " نَعُوذُ بك من شرِّ أنفسنا، وشر الشيطان الرجيم وشركه، وأن نقترف سوءاً [على أنفسنا]، أو نَجُرَّه إلى مسلمٍ " رواه أبو داود (3).
وفي حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعوذ بك من شرِّ كلِّ شيءٍ أنت آخِذٌ بناصيته " (4).
__________
(1) في (ش): فدل.
(2) أبو داود (5067)، والترمذي (3392)، وصححه ابن حبان (962) بتحقيقنا.
(3) رقم (5083)، وهو حديث حسن، وأبو مالك: هو الأشعري.
(4) حديث صحيح، أخرجه مسلم (2713) وغيره، وصححه أيضاً ابن حبان (966) وانظر تخريجه فيه.(7/209)
وعن علي رضوانُ الله عليه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول عند مضجعه:
" اللهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وبكلماتك التَّامَّات من شر كل دابةٍ أنت آخذٌ بناصيتها " رواه أبو داود (1).
وروى بُرَيدة أن خالد بن الوليد شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا ينام الليل من الأرَقِ، فعلَّمه يقول إذا أوى إلى فراشه: " اللهم رب السماوات السبع وما أظَلَّتْ، والأرضين وما أقَلَّتْ، والشياطين وما أضَلَّتْ، كُنْ لي جَاراً من شَرِّ خلقك كُلِّهم جميعاً أن يفرُط عليَّ أحدٌ أو يبغي عز جارك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك " رواه الترمذي (2).
ورواه الإمام مالك في " الموطأ " (3) ولفظه: "أعوذ بكلمات الله التامة من
__________
(1) رقم (5052)، وأخرجه أيضاً النسائي في النعوت كما في " التحفة " 7/ 352، وفي " اليوم والليلة " (767)، وابن السني (711)، والطبراني في " الدعاء " (237) و (238)، وفي " المعجم الصغير " (998). وصحح إسناده النووي في " الأذكار "، وتعقبه ابن حجر في " نتائج الأفكار " كما في " الفتوحات الربانية " 3/ 112 بقوله: حديث حسن .. وفي سنده علتان تحطُّه من مرتبة الصحيح.
(2) رقم (3523)، وقال بعد أن أخرجه: هذا حديث ليس إسناده بالقوي، والحكم بن ظهير -أحد رواة الحديث- قد ترك حديثه بعض أهل الحديث، ويُروى هذا الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً من غير هذا الوجه.
قلت: وأخرجه ابن أبي شيبة 10/ 365، والطبراني في " الكبير " (3839) من طريق عبد الرحمن بن سابط، عن خالد بن الوليد، مثله.
قال الهيثمي في " المجمع " 10/ 126: رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله رجال الصحيح، إلاَّ أن عبد الرحمن بن سابط لم يسمع من خالد بن الوليد، ورواه في " الكبير " بسند ضعيف بنحوه.
(3) 2/ 950 عن يحيى بن سعيد، قال: بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أُرَوَّعُ في منامي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره.
قلت: وقد روي مثله سواء عن الوليد بن الوليد أخي خالد، فقد أخرج ابن أبي شيبة 8/ 60 و10/ 362 - 363 عن عبد الرحيم بن سليمان، وابن السني في " اليوم والليلة " (638) =(7/210)
غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون".
فانظر كيف جَنَّبَ غَضَبَه وعقابه اسم الشر لَمَّا كانا مقرونين بالعدل والحكمة.
وروى الترمذي نحوه من حديث عبد الله بن عمرو (1).
وفي حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما: " يا أرضُ رَبِّي وربك الله، أعوذ بالله من شَرِّكِ وشَرِّ ما خلق فيك، وشر ما يدُبُّ عليك " رواه أبو داود (2).
__________
= من طريقة شعبة، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان أن الوليد بن المغيرة المخزومي شكا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر مثله. وهذا إسناد منقطع محمد بن يحيى بن حبان لم يدرك الوليد بن الوليد.
(1) الترمذي (3528) عن علي بن حُجر، عن إسماعيل بن عياش، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا فَزِعَ أحدُكم في النوم فليقل: أعوذ بكلمات الله التامَّات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، فإنها لن تضره " قال: وكان عبد الله بن عمرو يعلِّمُها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتَبَها في صكٍّ ثم علَّقها في عنقه. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
قلت: وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 181، وأبو داود (3893)، والنسائي في " اليوم والليلة " (765)، وابن أبي شيبة 8/ 39 و63 و10/ 364، والحاكم 1/ 548 من طرق عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. وصحح الحاكم إسناده، مع أن فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد عنعن.
وأخرجه النسائي (766) من طريق أحمد بن خالد، عن ابن إسحاق، به. إلاَّ أنه ذكر فيه فزع خالد بن الوليد، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الدعاء.
(2) رقم (2603). وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 132 و3/ 124، والنسائي في " اليوم والليلة " (563)، وصححه الحاكم 1/ 446 - 447 و2/ 100 ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر كما في " الفتوحات الربانية " 5/ 164.(7/211)
وفي سيد الاستغفار: " أعوذ بك من شر ما صنعتُ " رواه البخاري (1).
ولذلك ترجمةٌ يطول تقصِّيها، وجملتها معلومةٌ، ومعلومٌ تنزيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للربِّ تقدَّسَتْ أسماؤه من إضافة اسم الشر وما يُرادِفُه إلى الله تعالى.
وأما الاستعاذة: فهي الاستجارة، ولا يُجِيرُ على الله سواه كما قال.
وقد أوجب العلماء العمل بالراجح في أحكام المعاملات الدنيوية، فكيف لا يجب المصير إليه، والنُّصرة له في أسماء الله الحسنى، التي هي أعز ما في كتاب الله سبحانه، الذي هو أعز ما في الوجود بعد الله عز وجل.
ولقد غيَّر (2) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى سَمَّى شِعْبَ الضلال شِعْبَ الهدى. رواه أبو داود (3).
وغَيَّرَ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ حَرْبٍ وحَزْنٍ من أسماء أصحابه (4)، فكيف بأسماء الله الحسنى؟!
وذمَّ الله تعالى الذين يجعلون لله ما يكرهون، فلا ينبغي التسامُحُ فيها، والقنوع بأدنى تأملٍ، والتقليد من غير ترجيحٍ، ولا يثبت التصحيح على من أطلق ذلك فلم يُرِدْ إلاَّ الخير، ولكن الأولى أن يجمع بين طيب العبارة وطِيبِ
__________
(1) تقدم تخريجه ص 192 من هذا الجزء.
(2) في (أ): عنى، وكتبت فوقها على الصواب، وهي كذلك في (ش): غير.
(3) أورده أبو داود في " سننه " 5/ 243 لكنه لم يذكر له إسناداً، تركه اختصاراً في جملة أشياء.
(4) أما تغيير اسم حرب، فقد أورده أبو داود بغير سند للاختصار فقال في " سننه " (4956): وسمَّى حَرْباً سِلْماً.
وأما تغيير اسم حزن فقد أخرج البخاري (6190)، وابن حبان (5822) وغيرهما من طريق سعيد بن المسيب، عن أبيه، أن أباه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " ما اسمُك؟ " قال: حَزْن، قال: " أنتَ سَهْلٌ قال: لا أُغيِّرُ اسماً سمَّانِيه أبي. قال سعيد: فما زالت الحُزُونةُ فينا بعد. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان ".(7/212)
المعنى، وبلوغ الغاية القصوى في ذلك.
ومنه جاء ذكر يمينه في القرآن دون شماله، وفي الحديث: " كِلتا يديه يمينٌ " (1)، ولم نُرِدْ بتجَنُّب هذا الاسم في الأسماء الحسنى ما أراد من نفي سبق المقادير، أو ضعف مشيئة من هو على كل شيء قدير، وإنما أردنا أنه لا يصح اشتقاق هذا الاسم له من تلك المقدورات (2) المخلوقات الضارة لحكمته فيها البالغة، وإرادته فيها ما لا نعلمه من المنافع والعدل والدفع واللطف والاعتبار، كما أن الطبيب مع قطعه بعض الأعضاء، وكَيِّهِ بالنار لبعضها، لا يسمى ضاراً للأليم بالإجماع، فكذلك أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين. ألا تراه خلق الظلمات والنور جميعاًً، ويُسَمَّى النور لا الظلام، وخلق الشرَّ ولا يُسمَّى الشِّرِّيرَ (3)، ونحو ذلك.
وكذلك اسم الضارِّ مع عدم الاتفاق على صحة وُرُودِ ذلك في السمع، فتأمل ذلك، واحذر كل الحذر من ظنِّك أنا قلنا (4): إن الله ليس بخالقٍ للضرِّ ولا مريدٍ ولا مُقدِّرٍ، وإنما قلنا: إنه خلقه ليُسَمَّى بسببه كاشف الضر، والنافع الدافع له. ألا ترى أن الحُمَّى حَظُّ المؤمن من النار، والحدود كفارات لأهلها مع تسمية الله لها نَكالاً وعقاباً، والكافر يُلْقَى في النار فِداءً للمسلم، ويُقتَلُ في الدنيا ليَشْفِيَ الله صدورَ قومٍ مؤمنين ويُذهِبَ غيظ قلوبهم.
وقد بُسِطَ هذا في الحكمة في عذاب الكفار في الآخرة.
وأما قول الغزالي في شرح هذا الاسم في " المقصد الأسنى " (5): فلا تظنَّنَّ
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد 2/ 160، ومسلم (1827)، والنسائي 8/ 221، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 324 من حديث عبد الله بن عمرو رفعه " إن المقسطين عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولُوا ".
(2) في (أ): المقدرات.
(3) في (ش): الشر.
(4) في (ش): نريد.
(5) ص 129.(7/213)
أن السُّمَّ يَضُرُّ بنفسه، وقوله: إن الأمور الضارة في حق الرب سبحانه كالقلم للكاتب (1). إلى آخر كلامه في تحقيق نسبة الضرِّ إلى الله وإن كان على الجن والإنس والشياطين.
وتلخيص ذلك فما أوجب ضمه إلى ما قرره في هذا الكتاب بنفسه، وفي مقدمة " إحياء علوم الدين " فإنه كشف الغطاء عن هذه الشبهة فقال في " المقصد الأسنى " (2) في شرح الرحمن الرحيم ما لفظه: سؤالٌ وجوابه، لعلك تقول: ما معنى كونه تعالى رحيماً وأرحم الراحمين، والدنيا طافحةٌ بالأمراض والمِحَنِ والبلايا، وهو قادرٌ على إزالة جميعها، وتاركٌ عباده مُمتَحَنِينَ.
فجوابه: أن الطفل المريض قد تَرقُّ له أمُّه، فتمنعه من الحِجَامَةِ، والأبُ العاقل يَحمِلُه عليها قهراً، والجاهل يظن أن الرحيم هو الأم دون الأب، والعاقل يعلم أن إيلام الأب بالحِجامة من كمال رحمته، وأن الأم عَدُوٌّ له في صورة صديق، فإن ألم الحجامة القليل إذا كان سبباً لِلَّذَّة الكثيرة لم يكن شراً، بل كان خيراً.
والرحيم يريد الخير بالمرحوم لا محالة، وليس في الوجود شرٌّ إلاَّ وفي ضِمْنِهِ خيرٌ، ولو رُفِعَ ذلك الشر لبطل ذلك الخير الذي في ضمنه، وحصل ببطلانه شر أعظم من الشر الذي يتضمن ذلك الخير.
قلت: وما أبين هذا المعنى وأوضحه في كتاب الله تعالى كما مضى قريباً، ولو لم يَرِدْ في ذلك إلاَّ قوله تعالى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون: 75]، وقوله: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6 - 7]، وقوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27] وقوله: {وَعَسى أنْ تَكرَهُوا شَيئاً وهُوَ خَيرٌ لَكُمْ
__________
(1) نص قوله في المطبوع من " المقصد ": وجملة ذلك بالإضافة إلى القدرة الأزلية كالقلم بالإضافة إلى الكاتب في اعتقاد العامي.
(2) ص 62.(7/214)
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
قال الشيخ (1): واليد المتآكلة قطعها شرٌّ في الظاهر، وفي ضمنها الخيرُ الجزيل، وهو سلامة البَدَنِ، ولو تُرِكَ قطعها لحصل هلاك البدن، ولكن قطعها لسلامة البَدَن شرٌّ، وفي ضمنه خيرٌ، لكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع هو السلامة التي هي خيرٌ محضٌ، وهي مطلوبةٌ لذاتها ابتداءٌ، والقطع مطلوبٌ لغيره ثانياً لا لذاته، فهما داخلان تحت الإرادة، لكن أحدهما مُرادٌ لذاته والآخر لغيره، والمراد لذاته قبل المراد لغيره، ولأجل ذلك قال الله تعالى: " سبقت رحمتي غضبي " (2) فغضبه إرادته الشر، والشر بإرادته، ورحمته إرادته الخير، والخير بإرادته، ولكن إرادة الخير للخير نفسه، وإرادة (3) الشر لذاته، يعني لكونه شراً، بل لما في ضمنه من الخير، فالخير مقتضى بالذات، والشر مقتضى بالعرض (4) وكلٌّ بقدرٍ، وليس ذلك مما يُنافي الرحمة أصلاً.
والآن إن خَطَر لك نوعٌ من الشر لا ترى فيه خيراً، أو خطر لك أنه كان يمكن حصول (5) ذلك الخير لا في ضمن الشر، فاتهم عقلك القاصر في أحد الطرفين (6):
إما في قولك: إن بعض (7) الشر لا خير تحته، فإن هذا مما تقصُرُ العقول عن معرفته، مثل أمِّ الصبي التي ترى الحِجامة شراً مَحْضاً، ومثل الغبيِّ الذي يرى القتل قِصاصاً شراً محضاً، لأنه ينظر إلى خصوص شخص المقتول، وأنه في حقه شر محضٌ، وذَهَلَ عن الخير العامِّ الحاصل للناس كافةً، ولا يدري
__________
(1) أي الغزالي، وهو في " المقصد الأسنى " ص 62 - 63.
(2) تقدم تخريجه في الجزء الخامس ص 275.
(3) في " المقصد " في الموضعين: أراد.
(4) في " المقصد ": لغيره.
(5) في " المقصد ": تحصيل.
(6) في " المقصد ": الخاطرين.
(7) في " المقصد ": هذا.(7/215)
أن التوصل بالشر الخاصِّ إلى الخير العام خيرٌ محضٌ، لا ينبغي لحكيمٍ (1) أن يُهْمِلَه.
واتهم خاطِرَك الثاني وهو قولك: إنه يمكن تحصيل ذلك الخير لا في ضمن ذلك الشر، فإن هذا أيضاً دقيق [غامض]، فليس كلُّ مُحالٍ ومُمْكنٍ مما يُدرَك إمكانه واستحالته بالبديهة، ولا بالنظر القريب، بل يُعرف ذلك بنظرٍ غامضٍ دقيقٍ يَقْصُرُ عنه الأكثرون.
فاتَّهِمْ عقلك في هذين الطرفين، ولا تشكَّ أصلاً في أنه أرحم الراحمين، وأنه سبقت رحمته غضبه، ولا تَستَرِيبنَّ (2) في أن مريد الشر للشر لا للخير غير مستحق اسم الرحمة، وتحت هذا سر منع الشرع من إفشائه، فاقنع بالإيماء (3) ولا تطمع في الإفشاء، ولقد نَبَّهت بالإيماء والرمز إن كنت من أهله فتأمل.
لقد أسمعتَ لو نَادَيْتَ حَيّاً ... ولكِنْ لا حَيَاةَ لِمَنْ تُنَادِي (4)
هذا حكم الأكثرين.
وأما (5) أنت أيها المقصود بالشرح، فلا أظنك إلاَّ مستبصراً بسِرِّ القدر، مستغنياً عن هذه التحويمات (6) والشبهات. انتهى بحروفه.
وهو قريبٌ من مذهب البغدادية، أو هو هو، وقد نصره شيخُ الإسلام الحَرَّاني إمام المعقولات والمنقولات، وجوَّد تلميذه ابن قيِّم الجوزية ذلك في
__________
(1) في " المقصد ": للخير.
(2) في " المقصد ": تسترب.
(3) في " المقصد ": بالإيمان، وهو خطأ.
(4) البيت غير منسوب في " الأمثال والحكم " للرازي صاحب " مختار الصحاح "، و" زهر الأكم " 2/ 249 لليوسي وهو آخر بيت من قصيدة أنشدها عز الدين المقدسي في كتابه " كلام الطيور والأزهار " على لسان الغراب انظرها في " حياة الحيوان " 2/ 104 للدميري.
(5) في (أ): فأما.
(6) في (أ) و (ش): التخويفات، والمثبت من " المقصد ".(7/216)
كتابه " حادي الأرواح " وأفْشَى هذا السرَّ كما يأتي في مسألة دوام العذاب، ولم يَرَوْهُ سراً (1)، بل ذكروه (2) عن جماعةٍ وافرةٍ من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام، واحتجوا عليه بالكتاب والسنة، وإن كان الوقف عما تجاسروا عليه أحوط في الدين وأولى بمن يحب اتباع السلف الصالحين، لكنه خير من الرمز بالأسرار في أمور الإسلام لما يؤدي إليه من سوء الظنون.
مع أنه يمكن أن الغزالي أراد ما ثبت النهي عنه من إظهار (3) الرحمة والرجاء لمن يخاف عليه الفساد، وقد اختلفت الآثار في هذا المعنى، واستقرَّ الأمر على جواز رواية الأخبار في ذلك، كما يجوز تلاوة الآيات المُقتضية لذلك، ومن عصى الله تعالى بسبب ذلك، فما أُتِيَ إلاَّ من سوء اختياره (4)، إذ قد سمع تلك البِشَارات خلقٌ كثيرٌ من السلف الصالح ومن بعدهم، فشكروا عليها، وازدادوا نشاطاً، فالعاصي (5) بذلك كالعاصي بسماعه أن الله غفور رحيم، والله سبحانه أعلم.
وأما قول الغزالي: إنه لا يمكن خلو الخير من الشر، فإن أرادَ في أنظار العقول، فذلك يُمكِنُه دعواه، والتشكيك فيه، والتجويز البعيد له، ولعل مراده في بعض مدارك العقول على سبيل المعارضة للشبه الفلسفية (6) بمثلها، وأما بالنظر إلى البراهين السمعية، فإنه معلومٌ ضرورة إمكان تحصيل كل خير بقدرة الله تعالى خالصاً من الشرور، ولكن لا يعلم أن ذلك أرجح بالنظر إلى حكمته التي هي تأويل المتشابه.
فإن نازَعَ في هذا المقام منازِعٌ رَدَدْناه إلى السؤال الأول، وكم بين نعيم
__________
(1) في (أ): شراً، وهو خطأ.
(2) في (أ) و (ش): ذكره، والصواب ما أثبته.
(3) " من إظهار " سقطت من (أ).
(4) في (ش): فما أتي إلاَّ من جهة نفسه، وقد.
(5) في (ش): والعاصي.
(6) في (ش): لشبه الفلسفة.(7/217)
الجنة بعد مقاساة مصائب الدنيا وضروراتها وهمومها، وبين لَذَّتِها لو خُلِقَ أهلها فيها قبل ذلك؟! كما أنه لا يخفى أن لذة شرب الماء العذب بعد العطش الشديد أعظم منها قبله، وقد أوضحت هذا في مرتبة الدواعي، فيراجع (1) منها.
وقد تواتر خَرْقُ العادات في المعجزات، ونطق القرآن بأن عيسى كان يُحيي الموتى، ويُبْرِىءُ الأكمه والأبرص، وأجابه الله في إنزال المائدة كما أجاب سليمان عليه السلام في إعطائه ذلك الملك العظيم الخارق لعادات ملوك المخلوقين أجمعين. وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 40 - 41] في آياتٍ كثيرةٍ في هذا المعنى دالةٍ على أن لله تعالى حكمةً في خلق المذنبين، مع قدرته على تبديلهم بخيرٍ منهم، لولا ما سبق في حكمته وحق من كلماته (2).
وقال تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69] مع أنه تعالى لم يفعل ذلك في حقِّ أهل الأُخدود، فدل على شمول قدرته، وغموض حكمته، وقد تواتر الأمر بسؤال العافية في الدَّارَيْنِ، وأجْمَعَ المسلمون على ذلك.
وقال الغزالي أيضاً في كتاب العلم من " إحياء علوم الدين " (3) في أقسام العلوم الباطنة ما لفظه: القسم الثاني من الخفيات التي منع الأنبياء والصِّدِّيقون من ذِكْرِها: ما هو مفهومٌ في نفسه لا يَكِلُّ الفهم عنه، ولكن ذِكْرُه يَضُرُّ بأكثر المستمعين، ولا يَضُرُّ بالأنبياء والصدِّيقين، وسرُّ (4) القدر الذي منع أهلُ العلم به من إفشائه من هذا القسم (5)، فلا (6) يبعد أن يكون ذكر بعض (7) الحقائق مُضِرّاً
__________
(1) في (ش): فليراجع.
(2) في (ش): كتابه.
(3) 1/ 101 في كتاب قواعد العقائد في الفصل الثاني منه، لا كما أشار إليه المصنف رحمه الله أنه في كتاب العلم.
(4) في (أ) و (ش): وهو سر، والمثبت من " الإحياء ".
(5) عبارة " من هذا القسم " لم ترد في (أ) و (ش).
(6) في (أ) و (ش): ولا.
(7) " بعض " سقطت من (أ).(7/218)
ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش، وكما يضر ريح الورد بالجُعَل، وكيف يبعد هذا؟!
وقولنا: إن الكفر والزنى والمعاصي والشرور (1) بقضاء الله وإرادته ومشيئته حقٌّ في نفسه، وقد أضر سماعه (2) بقوم إذا أوهم ذلك عندهم أنه (3) دلالةٌ على السَّفَهِ، ونقيضُ الحكمة، والرضا بالقبيح والظلم، وقد ألحد (4) ابن الرَّاوَنْدِي وطائفةٌ من المخذولين بمثل ذلك.
وكذلك سر القدر إذا أُفشِيَ أوهم عند أكثر الخلق عجزاً إذ تقصُرُ أفهامهم عن درك (5) ما يُزيل هذا الوهم (6).
ولو قال قائل: إن القيامة لو ذُكِر ميقاتها وأنها بعد ألف سنةٍ أو أكثر أو أقل لكان مفهوماً (7)، ولكن لم يذكر لمصلحة العباد وخوفاً من الضرر، فلعلَّ المدة (8) إليها بعيدةٌ فيطول الأمد (9)، وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها، ولعلها كانت قريبةً في علم الله، ولو ذُكِرَت لعَظُمَ الخوف، وخَرِبَتِ الدنيا، وأعرض الناس عن الأعمال، فهذا المعنى لو اتجه وصح، لكان مثالاً لهذا القسم. انتهى.
وفي كلامه هذا والكلام المُقَدَّم قبله المنصوص في " المقصد الأسنى " ما يدل على أنه كان يُضمِرُ القول بوجوب الاعتراف بحكمة الله وتعليل أفعاله وأقداره كلِّها بالغايات الحميدة، والحِكَمِ البالغة في تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله تعالى، كما أوضحه الله تعالى في قصة موسى والخَضِرِ عليهما
__________
(1) في (أ) و (ش): إن الكفر والشر.
(2) في (أ): ذلك.
(3) " أنه " ليست في (أ) و (ش).
(4) في (أ) و (ش): وألحد.
(5) في " الإحياء ": إدراك.
(6) في " الإحياء ": ذلك الوهم عنهم.
(7) " لكان مفهوماً " ليست في (أ) و (ش).
(8) بعدها في نسخة (أ): وإن كانت!
(9) في (أ) و (ش): الأمر، والمثبت من " الإحياء ".(7/219)
السلام، وأشار إليه في قوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وفي قوله: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]، ولم يَرِدِ العكس من ذلك ولا يجوز أن يرد. بل قد صرح الغزالي بذلك في أوائل " إحياء علوم الدين " في كتاب العلم في ذكر علوم المكاشفة منه، فإنه قال: إن مَنْ عَلِمَ علوم المكاشفة، عرف حكمة الله تعالى في خلق الدنيا والآخرة.
وقد أوضحتُ هذا المعنى في آخر مسألة الأفعال، ولعل هذا هو الذي أشار إليه الغزالي، أو بعض ما أشار إليه في خطبة (1) " المقصد الأسنى ": وكيف لا وللبَصِير عن هذه الغَمْرَة صارِفان، إلى قوله:
والثاني: أن الإفصاح عن كُنْهِ الحقِّ فيه (2) يكادُ يُخالِفُ ما سبق إليه (3) الجماهير، وفِطَامُ الخلق عن العادات، ومألوفات المذاهب عسيرٌ، وجَنَابُ الحق يَجِلُّ عن أن يكون مشرعاً لكلِّ واردٍ، وأن يَطَّلِع عليه إلاَّ (4) واحدٌ بعد واحدٍ، ومهما عَظُمَ المطلوب قلَّ المُسَاعِد، ومن خالط الخلق جديرٌ أن يتحامى، ولكن من أبصر الحق عسيرٌ عليه أن يتعامى، ومن لم يعرف الله، فالسُّكوت عليه حَتْمٌ، ومن عرفه، فالسكوت له حَزْمٌ. انتهى.
فإذا عرفت هذا من مذهبه، فينبغي أن يُجمَعَ بينه وبين ما يظن الغبي أنه يخالِفُه، وكان من تمام الصنعة أن يذكر كلامه في تفسير (5) الرحمن الرحيم بعد كلامه في تفسير الضار النافع، أو يشير إليه كي لا يتوهم الجاهل أن نسبة الضر إلى الله تعالى مع بقاء اسمه ومعناه، وليس كذلك، لأن مفهومه في اللغة: ما هو شرٌّ بلا نَفْعٍ، وذلك ما لا يدخل في فعل أحكم الحاكمين سبحانه
__________
(1) " خطبة " لم ترد في (أ).
(2) " فيه " لم ترد في (أ) و (ش)، وأثبتها من " المقصد الأسنى " ص 23.
(3) " إليه " لم ترد في (أ).
(4) في " المقصد ": وأن يتطلع إليه إلا.
(5) " تفسير " لم ترد في (أ).(7/220)
وتعالى، فإنه سبحانه وتعالى تَمَدَّحَ بأنه الذي يُجيبُ المضطرَّ إذا دعاه، ولم يتمدح (1) بأنه الذي يضطرُّ، وإن كان هو خالق الضرورات، لأنه خلقها ليَسُوقَ العباد إلى دعائه، فيُجيبهم، فيعرفونه ويشكرونه، قال الله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 42 - 43]. وقال: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].
وفي " عوارف المعارف " للسُّهْرَوَرْدِي: إن الضرورات للعبد بمنزلة السوط للدابة، لا تُضْرَبُ به حتى تَتْرُكَ السير، أو تسير في غير الطريق.
ومن هنا وجب شكر الله على ما نفع وضر، وحلا ومرَّ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الحمد لله على كل حالٍ، وأعوذ بالله من حال أهل النار " رواه الترمذي وابن ماجه (2).
فإذا تقرَّر في الشرور التي خلقها الله تعالى وحده، وليس للعباد فيها كسبٌ، ولا لقدرتهم بها تعلُّقٌ، لا تضاف إليه إلاَّ مُغَيَّرَة الاسم، مُعتَقَداً فيها أنها خيرٌ وبركةٌ ورحمةٌ وحكمةٌ، فكيف يضاف إلى الله تعالى ذنوبُ العباد وفواحِشُهم من الوجه الذي هي منه كفرٌ وفجورٌ مستحقةٌ لجميع الأسماء القبيحة، والمعاني الخَسِيسَةِ.
وقد ذكر أهل العلم في قوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50] أن في ذلك تنبيهاً على أنه لا يُشتَقُّ لله تعالى أسماءٌ من مخلوقاته الضارة، لأنه لم يقل: إني المعذِّب المؤلم، كما قال: إني أنا الغفور الرحيم.
وذلك تعليمٌ لحسن الأدب والتعبير عن مختلفات أفعاله التي دارَتْ على
__________
(1) في (أ): بمدح.
(2) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 208.(7/221)
الحِكَم والغايات (1) الحميدة، وهذا هو مذهب أهل السنة.
وكذلك ذكر الذهبي أنهم بَدَّعوا أبا طالبٍ المكيَّ حيثُ قال في وعظه: إنه ليس شيءٌ أضَرَّ على المخلوقين من الخالق. ولو مشينا على ظاهر تفسير الغزالي اسم الضار، ولم يُضَمَّ إليه تأويله المذكور في شرح الرحمن الرحيم، لكان (2) كلام الغزالي في شرح الضار مثل هذا الكلام المنكر أو أقبح. ذكر ذلك في ترجمته من " الميزان " (3) واسمه محمد بن علي بن عطية.
فإن قلت: هل ورد في القرآن اسمٌ لله عزَّ وجلَّ يناسب ما وقع من المصائب والبَلاوِي؟
قلت: نعم، وهو المُبْتَلِي، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} [المؤمنون: 30]، وقال: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ} [الفجر: 15]، وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وهو من أسمائه الحسنى، لأن الابتلاء من فعل الحكيم، لِيَمِيزَ الخبيث من الطيب، فالحكمة فيه ظهور طيب الطيب، وإبانته ورَفْعُ منزلته، لا ظهورُ خبث الخبيث، ولكن المحاسن لا تُعرَفُ إلاَّ بأضدادها.
والحجة الواضحة على أن ذلك المراد لا عَكسُه قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] ولم يقل: أيُّكم أقبح عملاً، ولذلك قال العارفون: إن الخلق كلهم مثل شجرةٍ، ثمرتها المقصود بها أهل الخير منهم.
وفي الحديث: " لما دعا الخليلُ على من رآه يعصي، قال الله له: إنَّ قَصْرَ عبدي مني إحدى ثلاثٍ: إما أن يتوب فأتوب عليه، أو يستغفرني، فأغفر له،
__________
(1) في (أ): والعنايات، وكتب فوقها " والغايات "، وهي كذلك في (ش): والغايات.
(2) في (أ): لكن، وهو خطأ.
(3) 3/ 655.(7/222)
أو أُخرِجَ من صلبه من يعبدني" رواه الطبراني (1)، ومعنى قَصْره: منتهاه.
وربما عبَّر عن المبتلي بالعزيز المقتدر، كقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]، كما أشار إليه في سورة الشعراء حيث قال بعد كل قصةٍ فيها تعذيب أعدائه الكافرين، ورحمة أوليائه المؤمنين: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 9] حتى تكرَّر ذلك ثمان مرارٍ بعد ثمان قصصٍ، فكان فيه تنبيهٌ لنا على تسمية العزيز القدير بالنظر إلى انتقامه (2) من الكافرين، وإنزاله بهم المضار والعقوبات، وتسميته بالرحيم بالنظر إلى المؤمنين كقوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43].
وكذلك قد يُسمَّى بالدَّيَّان أو الحكيم أو خَفِى الحكمة في هذه المواضع، ونحو ذلك مما وَرَدَ به السمع واستُعمِلَ في الثناء، والله أعلم.
فإن قلت: فهل يدخل اسمه المانع في معنى الضار فيُستَحَبُّ اجتنابه في الأسماء الحسنى؟
قلت: كلا، فإنه قد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " لا مانِعَ لما أعطيت ولا مُعطِيَ لِما مَنَعْتَ " (3).
وقيل: إن معناه المانع (4) من المخاوف، والمنجي من المهالك، والله تعالى مانعٌ من الكفر وسائر المحرمات والقبائح والمذامِّ بالتحريم لها، والنهي عنها، والوعيد عليها.
على أن الطبيب إذا منع المريض من شهواته الضارة لا يُسَمَّى ضارّاً في
__________
(1) في " الأوسط " كما في " المجمع " 8/ 201، قال الهيثمي: وفيه علي بن أبي علي اللهبي وهو متروك.
(2) في (أ): انتفائه، وكتب فوقها " انتقامه " على الصواب، وهي كذلك على الصواب في (ش).
(3) تقدم تخريجه.
(4) " المانع " سقطت من (أ).(7/223)
اللغة ولا في العُرْف، وإن سُمِّي مانعاً.
وقد يمنع الله العبد من إجابة بعض ما يدعو به من مضرَّةِ العبد، فيعيضه به ما هو خيرٌ له كما ورد مرفوعاً.
وفي الحديث: " إن الله يحمي عبده المؤمن الدنيا كما يحمي أحدُكم مَرِيضَه الماء " (1) أو كما ورد.
وفيه: " إن أمر المؤمن كله عجيبٌ: إن سرَّه كان خيراً له، وإن ساءه كان خيراً له ". روى أحمد معناه (2).
وروى ابن أبي الحديد في " شرح النهج " أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أن قل لعبادي المتسَخِّطِين برزقي يَحْذروا أن أسْخَطَ عليهم، لأفْتَح عليهم الدُّنيا.
وفي كتاب الله تعالى ما يشهد لصحة هذا، وذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44]، وكذلك قوله: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27].
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 428 من طريق أبي سلمة، عن عبد العزيز الدراوردي، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد رفعه. " إن الله عز وجل يحمي عبده المؤمن من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه " وأخرجه الحاكم 4/ 208 وصححه ووافقه الذهبي من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عمرو بن أبي عمرو بهذا الإسناد إلاَّ أنه زاد فيه: عن أبي سعيد الخدري، وصحح إسناده، ووافقه الذهبي، وأخرجه أيضاً 4/ 207 من طريق إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، عن قتادة بن النعمان مرفوعاً بلفظ: " إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء ".
(2) هو في " المسند " 4/ 332 و333 من حديث صهيب رضي الله عنه، ورواه مسلم في " صحيحه " (2299)، وصححه ابن حبان (2896) وانظر تمام تخريجه فيه.(7/224)
وكذلك المميت لقوله تعالى: {يُحْيِي ويُمِيتُ} [البقرة: 258]، وقول الخليل: {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81]، ولأنه في معنى القهار، وذلك لأن الموت لقاءٌ، وقد ثبت في " الصحيح " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أحبَّ لقاء الله أحبَّ الله لقاءه، ومن كَرِهَ لِقَاء الله كره الله لِقاءه " فقالوا: كلُّنا يَكرَهُ الموت. قال: " إنَّ المؤمن لا يَمُوتُ حتى يُبَشَّرَ، فيُحب الموت " (1).
ورُوي أن الخليل عليه السلام قال: يا ربّ، أيُحِبُّ الخليلُ موت خليله؟ فقال الله تعالى: " هل يكره الخليلُ لقاء خليله؟! " قال: لا يا ربّ (2).
وبالجملة: فقد ورد القرآن بالتمدُّح بفعل الخير، والقدرة على كل شيء من خيرٍ وشر، ومثوبةٍ وعقوبةٍ، وذلك بَيِّنٌ في قوله: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40]، وفي آية: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 218]، وفي آية: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120].
وذلك لأن مُوجِبَ كماله وملكه الحق يقتضي أن يكون ملكاً عزيزاً مَخُوفاً مهيباً، يُخافُ ويُهابُ ويُخشى ويُتَّقى مثل ما يُستَرحَمُ ويُستَعطَفُ ويُسألُ ويُرتَجى، فيكشف السوء كما يُعطِي السُّؤل، ويمنع المخوف، كما يُبَلِّغُ المأمول.
وفي هذه الآيات الثلاث إشارةٌ إلى ما قدَّمْتُه من أنه سبحانه يسمى بالنظر إلى فضله بالغفور الرحيم ونحو ذلك، ويُسَمَّى بالنظر إلى عدله في عقوباته بالقدير والمقتدر، والعزيز والقهَّار والمتكبِّر والجبار، ونحو ذلك مما ورد به السمع المعلوم الصحيح، والمدح المعقول الصريح.
وكذلك يجوز أن يُنسَبَ الخير والشر معاً إلى قدرته وملكه وخزائنه، ولا يُفرد
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الخامس ص 127.
(2) أورة الحافظ ابن حجر في " فتح الباري " 11/ 361 ولم يعزه إلى أحد، لكن قال: وقد ذكر بعض الشراح أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت لما أتاه لِيقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فذكر نحوه.(7/225)
الشرُّ بذلك إذا صحَّ حديث ابن مسعود الذي فيه مرفوعاً: " اللهم إني أسألك من كل خيرٍ خزائنه بيديك، وأعوذ بك من كل شرٍّ خزائنه بيديك " (1).
وقد ذكر صاحب " سلاح المؤمن " أن ابن حبان والحاكم أخرجاه، واللفظ للحاكم وصححه وقال: على شرط البخاري.
وهذا يُؤذِنُ بأنه ليس على شرط مسلم، وقد يختلفان في الرجال مثلَ اختلافهما في توثيق عكرمة عن ابن عباس، وأبي (2) الزبير عن جابر، الأول شرط البخاري، والثاني شرط مسلم. ويُمكِنُ في مثل هذا الانتقاد فيُحرَّر ذلك، لكن يشهد له عموم: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} الآية [الحجر: 21].
وعلى كل تقديرٍ، فإن كون الشر في خزائنه مثل كونه تحت قدرته، ولا معنى له سوى ذلك، وكونه تحت قدرته اسم مدحٍ وِفاقاً، لأنه من كمال الملك الذي يلزمه الخوف والرجاء، ولا يلزم منه أن يُسَمَّى شرِّيراً قطعاً، وكذلك اسم الضارِّ ولم يلزم من كونه تحت قدرته ومشيئته.
وأين هذا من قول سيد الرسل المترجم عن محامده عزَّ وجلَّ بقوله في الأحاديث الصحاح المتقدمة: " الخير بيديك، والشر ليس إليك " ولو لَزِمَ أن
__________
(1) أخرجه الحاكم 1/ 525 من طريق عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن أبي الصهباء، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن ابن مسعود، وصححه على شرط البخاري، وتعقبه الذهبي بقوله: أبو الصهباء لم يخرج له البخاري. قلت: وعبد الله بن صالح سيىء الحفظ فالسند ضعيف وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " (934) من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن العلاء بن رؤبة التميمي، عن هاشم بن عبد الله بن الزبير أن عمر بن الخطاب أصابته مصيبة، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وفي آخره " وأسألك من الخير الذي هو بيدك كله "، وليس فيه: " وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيديك " ورجاله ثقات غير العلاء بن رؤبة وشيخه هاشم، فلا يعرفان بجرح ولا تعديل.
(2) في (أ): وابن، وهو تحريف.(7/226)
يشتق له اسماً مما كان تحت قدرته وتقديره، لزم مناقشة أسمائه الحسنى تعالى عن ذلك.
فأين هذا من اسمه القُدُّوس السُّبُّوح ربِّ الملائكة والروح، وأين من يعرف ذلك حتى يعرف ما يُضادُّه من الأسماء، ويعرف أن السمع لا يَرِدُ بالتناقض والتضاد فيما دون هذا، فالله المستعان.
وما أحسن قول الغزالي في هذا المقام في تفسير القدوس فلنختم به هذا المعنى فنقول: قال في " المقصد الأسنى " (1) في شرح هذا الاسم الشريف ما لفظه: ولستُ أقول: إنه مُنَزَّهٌ عن العيوب والنقائص، فإنَّ ذِكر ذلك يكاد يَقْرُبُ من ترك الأدب، فليس من الأدب أن يقول القائل: مَلِكُ البلد ليس بحائِكٍ ولا حَجَّام، فإن نفي الوجود يوهم إمكان الوجود، وفي ذلك الإيهام نقصٌ، بل أقول: القدوس: هو المنزه عن كل وصف من أوصاف كمال المخلوقين الذي يظنه أكثر الناس كمالاً في حقهم، لأن الخلق أولاً نظروا إلى أنفسهم، وعرفوا صفاتهم، وأدركوا انقسامها إلى ما هو كمالٌ ولكن في حقهم مثل علمهم وقدرتهم وسائر صفاتهم، ووضعوا هذه الأسماء بإزاء هذه المعاني، وقالوا: هذه الأسماء هي الكمال، فإذا أثنوا على الله تعالى، وصفوه بما هو أوصاف كمالهم، وهو منزه عن أوصاف كمالهم، كما هو منزَّهٌ عن صفات نقصهم، بل كُلُّ صفة متصوَّرةٍ للخلق، فهو منزه مقدس عنها وعما يشبهها، ولولا ورود الرخصة والإذن بإطلاقها لم يَجُزْ إطلاق أكثرها (2). انتهى.
وهو نصٌّ صريح في معنى ما ذكرت من وجوب التحري في تصحيح الإذن الشرعي في اسم الضار ونحوه، وأن الواجب أن لا يطلق من ذلك ما في صحته خلافٌ بين أئمة السنة وعلماء الأثر، ونُقَّاد التصحيح، وحسبك بترك البخاري ومسلم لذلك مع رواية أولِ الحديث.
__________
(1) " المقصد الأسنى ": ص 65.
(2) في (ش): ذكرها.(7/227)
وإنما حملهم على تعداد الأسماء الطمع في الإحاطة بالتسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة، وذلك أمر لا يمكن القطع بحصوله، ولا يُتَوَصَّلُ إليه إلاَّ بتوفيق الله، فإن لله تعالى أسماء كثيرة غير مُحصاةٍ، وهذه التسعةُ والتسعون من أسمائه وليست جميع أسمائه، لِما ثبت في حديث ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم إني أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك " الحديث (1).
فدلَّ على أن تمييز التسعة والتسعين يحتاج إلى نص متفق على صحته، أو توفيقٍ رباني، وقد عُدِمَ النص المتفق على صحته في تعيينها، فينبغي في تعيين ما تعين منها على ما ورد في كتاب الله منها بنصه، أو ما ورد في المتفق على صحته من الحديث.
واعلم أن الحسنى في اللغة هو جمع الأحسن، لا جمع الحسن، فإن جمعه حِسان وحَسَنَةٌ، فأسماء الله التي لا تحصى كلها حسنةٌ، أي: أحسن الأسماء، وهو مثل قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] أي: الكمال الأعظم في ذاته وأسمائه ونُعُوته، فلذلك وجب أن تكون أسماؤه أحسن الأسماء لا (2) أن تكون حسنةً وحِساناً لا سوى، وكم بين الحَسَنِ والأحسن من التفاوت العظيم عقلاً وشرعاً ولغةً وعُرفاً.
وما أحسن قول من قال في الإشارة إلى ما تضمنه حديث ابن مسعودٍ من كثرة أسماء الله الحسنى:
وعلى تفنُّن واصِفِيهِ بِوَصْفِه ... يفنى الزمانُ وفيه ما لم يُوصَفِ
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه أحمد 1/ 391 و452 وغيره، وصححه ابن حبان (972)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) في (أ) و (ش): إلا، وهو خطأ.(7/228)
وهذا آخر هذه الخاتمة المباركة، ختمت بها مسألة الأفعال التي هي المرتبة الخامسة من الكلام على الوهم الثامن والعشرين، وقد طال الكلام فيه طولاً خرق عوائد المتوسِّعين، وذلك على الحاجة الداعية إلى ذلك، فإن الغرض في ذلك إيضاح الحق على حسب استتاره (1)، وذلك لا يتقدَّر بميزانٍ ولا مكيالٍ، بل يقف على مقتضى الحال، والحمد لله الذي بلّغ أقصى المراد، ووفَّقَ للاقتصاد في الاعتقاد أحب الحمد إليه، وأرضاه لديه، والحمد لله حمداً كثيراً (2) طيباً مباركاً فيه.
وهذه الأسماء القرآنية:
هو الله الذي لا إله إلاَّ هو، الإله، إله الناس، الواحد، الأحد، الرحمن، الرحيم، ذو الرحمة الواسعة، الغني، ذو الرحمة، الغفور ذو الرحمة، الذي كتب على نفسه الرحمة، أرحم الراحمين، خير الراحمين، الواسعُ كل شيءٍ رحمةً وعلماً، الغافر، الغفور، الغفار، واسع المغفرة، أهل التقوى وأهل المغفرة، الذي يغفر الذنوب جميعاًً، ولا يغفر الذنوب إلاَّ هو، الحاكم، الحكم، الحكيم الأحكم، أحكم الحاكمين، خير الحاكمين، العالم، العليم، الأعلم، علام الغيوب، الواسع كل شيءٍ رحمة وعلماً، الرب البَرُّ، رب الفلق، رب الناس، رب كل شيءٍ، ربُّ العالمين، رب العزة، رب العرش العظيم، الواسع، المُوسِعُ، واسع المغفرة، واسع كلِّ شيءٍ رحمةً وعلماً، الملك، المليك، المالك، ملك الناس، الرازق، الرزاق، خير الرازقين، الخالق، الخلاق، أحسن الخالقين، الناصر، نعم النصير، خيرُ الناصرين، الحافظ، الحفيظ، خير الحافظين، القويُّ الأقوى، ذو القوة المتين، العليُّ، الأعلى، المتعالي، القادر، القدير، المقتدر، العزيز، الأعزُّ، رب العزة، الشاكر، الشكور، قابل التوب، التواب، القريب، الأقرب، الحي، القيوم، القائم على كل نفس، الفاعل، الفَعَّال لما يريد، الوارث، خير الوارثين، الكريم، الأكرم، فالق الإصباح، فالق الحبِّ والنوى، العظيم،
__________
(1) في (ش): " استيساره " وهو خطأ.
(2) من قوله " والحمد لله " إلى هنا سقط من (ش).(7/229)
الأعظم، نعم المولى (1)، الشاهد، الشهيد، الكبير، الأكبر، القاهر، القهار، نعم القادر، نعم الماهِدُ، نعم الوكيل، الصمد، المتين، الخبير، المُبْرِمُ، الغني، الحميد، المجيد، الوهاب، الجامع، المحيط، الحسيب، المقيت الرقيب، كاشف الضر، الفاطر، المبتلي، اللطيف، الصادق، الحق، الودود، الحَفِيُّ، المستعان، الفتاح، نور السماوات والأزض، رفيع الدرجات، المنتقم، الزارع، الأول، الآخر، الظاهر الباطن، القدوس، السلام، المؤمن المهيمن، الجبار، المتكبر، البارىء، المصوِّر، مخرج الميت من الحي، جاعل الليل سكناً، خير الفاصلين، أسرع الحاسبين، خير المنزلين، المتِمُّ نوره، البالغ أمره، الغالب على أمره، ذو الطول، ذو المعارج، ذو الفضل العظيم، ذو العرش العظيم، ذو الجلال والإكرام، الذي لا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، وسِعَ كرسيُّه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما، لم يكن له كُفُوَاً أحدٌ، ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار وهو يُدْرِك الأبصار، ليس بظلاَّمٍ للعبيد، لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، ولا يُبَدَّل القول لديه، ولا يُخْلِفُ الميعاد، الذي يُجيرُ ولا يُجَارُ عليه، ولا شريك له في الملك، ولا ولي له من الذُّلِّ، له الحجة والحكمة، والمشيئة والنعمة والمِنَّة، والرحمة والرأفة، والملك والحمد، والخلق والأمر، وهو على كل شيء قدير، الم، الم، المص، الر، الر، المر، الر، الر، كهيعص، طه، طسم، طس، طسم، الم، الم، الم، الم، يس والقرآن الحكيم، ص، حم، حم، حم، حم عسق، حم، حم، حم، حم، ق، ن.
زاد الترمذي (2) مما لم أجده بنصه في القرآن ثمانية وعشرين اسماً، وهي:
القابض، الباسط، المُعِزُّ، المذل، الخافض، الرافع، العدل، الجليل، المُحْصِي، المُبدىء، المعيد، المُحيي، المُميت، الواحد، الماجد، المقدم، المُؤَخِّر، الوالي، المُقْسِط، الغني، المُغني، المانع، الضار، النافع،
__________
(1) في (ش): الولي نعم المولى.
(2) (3507).(7/230)
الهادي، الكافي، الرشيد، الصبور.
وليس في " البخاري " (1) منها إلا: المقدِّم المؤخِّر.
وزاد الحاكم في " المستدرك " (2): الحَنَّان، المنان، الكافي، الدائم، المولى، الجميل، الصادق، القديم، الوِتْرُ، المُدَبِّرُ، الشاكر، الرفيع. زادها على الترمذي.
وزاد عليه مما في القرآن: الإله، الرب، الفاطر، المليك، المالك، الأكرم.
وزاد ابن حزم مما في " الصحيح ": الوِتْرُ، السيد، السُّبُّوح، الدَّهرُ.
وزاد مما لم أعرف من خرَّجه: المحسن، المعطي، المُجِلُّ.
لكن تسميته سبحانه الدهر في الحديث محتملةٌ للمحاز، بل ظاهرة فيه، لتفسيره في متن الحديث أنه سبحانه مُقَلِّبُ الليل والنهار ومصرِّفُهُما (3).
وأما المشتقات من أفعاله سبحانه، فلا تحصى، وقد جمع بعضهم منها ألف اسمٍ: مثل: كاتب الرحمة على نفسه، المحمول، العادل، المعبود، المُحْكِم، المنعم، المحسن، متمُّ النعمة، المُطعم، المُقَدِّرُ، القاضي،
__________
(1) (1120) و (6317). وانظر ابن حبان (2597) و (2599).
(2) 1/ 16.
(3) تحرفت في (ش) إلى: " مشرفهما " وقال القاضي عياض فيما نقله عنه الحافظ في " الفتح " 10/ 566: زعم بعض من لا تحقيق له أن " الدهر " من أسماء الله، وهو غلط، فإن الدهر مدة زمان الدنيا، وعرفه بعضهم بأنه أمد مفعولات الله في الدنيا، أو فعله لما قبل الموت. وقد تمسك الجهلة من الدهرية بظاهر هذا الحديث، واحتجوا به على من لا رسوخ له في العلم، لأن الدهر عندهم حركات الفَلَك، وأمد العالم، ولا شيء عندهم ولا صانع سواها وكفى في الرد عليهم قوله في بقية الحديث: " أنا الدهر أقلب ليله ونهاره " فكيف يقلب الشيء نفسه، تعالى الله عن قولهم عُلُوّاً كبيراً.(7/231)
المدَبِّر، المحق، الشافي، الباري، الماحي، المُثبّتُ، المريد، الكافي، العاصم، القاصم، المدافع، المُمْلِي، الآخِذُ، المجير، المُزَكِّي، الموفق، المُصَرِّف، المُمَكِّن، مقلب الليل والنهار، الصانع، الواقي، المتكلم، المريد، المرجُوُّ، المَخُوف، المَخَشْيُّ، المرهوب، السابق، الدَّيَّانُ، المستجار، المُستعاذ، المُعَاذُ، المُنجي، المُلجِىء.
ومن الممادح -وإن لم يكن مشتقاً- ما لا يُحصى، مثل: قديم الإحسان، دائم المعروف، المأمول، المُستَغَاثُ.
وينبغي أن يُدعى معها بحديث ابن مسعودٍ، في النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، وابن أَمَتِك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عَدْلٌ في قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذَهابَ هَمِّي وغَمِّي ".
رواه أحمد في " المسند " وأبو عوانة في " صحيحه " (1).
فهذا أجمع شيءٍ علمته فيها، وإنما ذكرت أوائل السور المُقَطَّعَة، لأنه قد رُوِيَ أنها أسماءٌ، وإن لم تصح، فقصدت ذكرها للاحتياط والتَّبرُّك بها، وكذلك صفات النفي، لأنها في معنى الأسماء، والله سبحانه أعلم.
الوهم التاسع والعشرون: وَهْمُ المعترض أن مذهبهم الجميع القول بتكليف ما لا يطاق.
وليس كذلك، فلم يذهب إلى هذا إلاَّ القليل من متأخري أهل علم الكلام منهم، كالرازي والسبكي من غلاة علم الكلام، دون حَمَلَة العلم النبوي، الذين أصل كلامنا فيهم، وذبُّنا عنهم، ومن ذهب إلى هذا منهم لم يُرِدْ ما يُفْهَمُ من ظاهر العبارة فيما ظهر لي، ولم أر فيهم من بالغ في نُصرته من غير
__________
(1) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه.(7/232)
تأويلٍ إلاَّ الرازي في مقدمات " المحصول " (1) دون " النهاية "، لكنه تاب من ذلك وأمثاله، فلا يَحِلُّ نسبته إليه، سامحه الله تعالى.
وقد ردوا ذلك، وأنكروه عليه، وعلى من ذهب إليه في مُصنفاتهم المشهورة في بلاد الزيدية، مع قلَّةِ كتبهم فيها، مثل كتاب " مختصر " منتهى السُّول " في أصول الفقه " (2) لابن الحاجب، فإنه صرَّح فيه بردِّ هذا المذهب، وأورد الحجج على بطلانه، ولم يجزم بصحة روايته عن أحدٍ ممن يُعتمد عليه من أئمتهم، وإنما رواه بصيغة التمريض عن الأشعري، لأنه لم يَنُصَّ عليه الأشعري وإنما أخذوه له من قوله بخلق الأفعال، وعدم تأثير القدرة.
وقد بيَّنَّا في مسألة خلق الأفعال أن الأشعري يقول بأن التكليف متوجِّهٌ إلى العزم، والاختيار الذي هو عنده فعل العبد وأثر قدرته كقول الجاحظ وثُمَامَة بن أشرس من المعتزلة، وليس يتعلق التكليف عنده بالأفعال، فإنها عنده أثر قدرة الله تعالى، فبطل تخريج هذا القول له من هذا الوجه.
وتقدم هناك أيضاً بيان مقصد الأشعري في قوله: إنه لا ينقطع التكليفُ بفعلٍ حال حدوثه وإن لم يُرِدِ الطلب.
وقد قرَّر شُرَّاح " مختصر المنتهى " كلام ابن الحاجب في تزييف هذا القول، ولم يقولوا: إنه خرج فيه عن مذهبهم، ولا مال عن القوي المنصوص عندهم.
وكذلك يقول هو، يدل على أنه المنصوص المنصور في كتاب السيف الآمدي (3) أحد علماء الكلام منهم، لأن كتاب السيف الآمدي هو أصل كتاب
__________
(1) انظر 2/ 363 - 399.
(2) انظر ص 41 - 43.
(3) في (ش): " للآمدي "، وهو خطأ. والسيف الآمدي: هو: العلامة المصنف سيف الدين علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التغلبي الآمدي، تبحَّر في العلوم، وتفرّد بعلم المعقولات والمنطق والكلام، وقصده الطلاب من البلاد. توفي سنة 631. انظر ترجمته في " السير " 22/ 364.(7/233)
ابن الحاجب، وليس في كتاب ابن الحاجب إلاَّ ما في كتاب السيف.
وهذا يدلُّ على أن المشهور المنصوص في كتبهم هو التَّنزُّهُ من هذا المذهب الرَّكيك، بل صرَّح السبكي في " جمع الجوامع " أن الآمدي منع من تجويز التكليف بالمحال لذاته، وحكى عن جلة أئمتهم المنع من تكليف المحالِ على اختلاف تفصيل مذاهبهم، منهم: الشيخ أبو حامدٍ الإسفراييني، والمسمى عندهم بالحجة الغزالي، وإمام الحرمين أبو المعالي الجويني، والسيف الآمدي، وخاتمة محقِّقيهم الشيخ تقيُّ الدين، الشهير بابن دقيق العيد صاحب كتاب " الإمام " (1) كل هؤلاء حكى ذلك عنهم صاحبهم المخالف لهم أبو نصرٍ السُّبكيُّ في مقدمة كتابه " جمع الجوامع ".
وكذلك الجويني صرَّح في كتابه " البرهان " في أصول الفقه ببطلان هذا المذهب، وكتاب الجويني موجود في بلاد الزيدية أيضاً.
قال الجويني في " البرهان " (2) ما لفظه: فإن قيل: فما الصحيح من تكليف ما لا يُطاق؟
قلنا: إن أُريد بالتكليف طلبُ الفعل وهو مما لا يطاق فذلك محالٌ (3) من العالم باستحالة وقوع المطلوب.
وإن أريد به وقوع (4) الصيغة، وليس المراد بها طلباً كقوله: {كونوا قردة خاسئين} [البقرة: 65] فهذا غير ممتنع، فإن المراد بذلك: كوّنَّاهُم (5) قردة خاسئين، فكانوا كما أردناهم. إلى آخر ما ذكره في الرد على من قال بذلك.
__________
(1) وهو كتاب كبير، تضمن الأحكام، واشتمل على الفوائد النقلية، والقواعد العقلية، والنكت الخلافية، والمباحث المنطقية، والعلوم اللغوية والنحوية والحديثية، والكتاب لم يتم، لكنه أكمل تسويده، وبيَّض منه قطعة، ولو كمل تصنيفه وتبييضه، لجاء في خمسة عشر مجلداً. انظر " تذكرة الحفاظ " 4/ 1482.
(2) 1/ 104.
(3) في " البرهان ": فهو فيما لا يطاق محال.
(4) في " البرهان ": ورود.
(5) في (ش): " كوّنّا ".(7/234)
وهذا (1) الوجه الذي ذكره، وهو ورودُ صيغة الأمر من غير طلب الفعل المحال هو الذي أراد من جوَّز تكليف ما لا يطاق منهم، ولم يريدوا أن الله تعالى يريد به تنجيز وقوع ما لا يطاق في الخارج من العباد، وقواعد مذهبهم تمنع إرادة المحال، وذلك أنهم يعتقدون أن مرادات الله تعالى واقعة قطعاً، فلا يصح أن يريد المحال، لأن المحال لا يقع عندهم، ولأن الإرادة عندهم لا يصح تعلُّقُها بالمحال، بل لا تعلق من الممكن إلاَّ بالمتجدد كما مضى.
ولكن المعتزلة لما كان مذهبهم أن الأمر والإرادة متلازمان، ربما تَوَهَّمَ ذلك في خصومهم من ليس له تحقيق منهم في هذه المسألة.
وعند الأشعرية أن الأمر غير متلازم للإرادة، وقد تقدم تحقيقُ مذهبهم في ذلك في الكلام على الإرادة في مسألة الأفعال كما ذكر الشهرستاني، وقد وَضَحَ أنهم أرادوا تكليف ما لا يطاق ما لا إرادة فيه لتنجيز وقوع المحال، وهذا القدرُ هو القبيح عقلاً عند خصومهم، ولكن ادَّعَوْا في أحكامٍ مخصوصةٍ لا إرادة فيها لذلك أنها تُسَمَّى تكليفاً وذلك في صورٍ:
الأُولى: الحالة التي يُسمى العبد فيها عاصياً ومطيعاً ومعاقباً ومُثاباً، وإن لم يتمكن من الانفكاك عن الفعل بسبب اختياره وتورطه لأجله فيما لا حيلة له فيه، كالرامي لغيره إلى النار يَنْدَمُ ويتوب قبل وقوع المرمي فيها (2)، ومثل من تَوَسَّطَ أرضاً مغصوبةً متعمداً، فإنه بخروجه عاصٍ، لا على أنه منهيٌّ عن الخروج كما تقدَّم تحقيقه في الفصل الذي ختمت به مسألة الأفعال، فإنه مذهب أبي هاشم ومذهب غيره من المعتزلة ومن غيرهم.
ومن هنا نُسِبَ تكليف ما لا يطاق إلى الأشعري، وهو منه بريءٌ، لكنه لما اعتقد أن اختيار المكلف لفعله يكون سبباً لخلق الله لفعله، اعتقد أن الأفعالَ المخلوقة مسببات لاختيار العبد، وأنه وإن لم يكن فيها مختاراً، فقد فعل سببها، فوقع باختياره أول الأمر فيما لا خيار له فيه، فهو معاقب أو مثابٌ على
__________
(1) في (ش): " ومن ".
(2) في (ش): " به فيها ".(7/235)
ما ليس له فيه اختيار، لوقوعه فيه باختياره، وهذا معنى قول الأشعري: لا ينقطع التكليف بفعلٍ حال حدوثه، أي لا ينقطع اللوم والعقاب، ولم يُرِدْ: لا ينقطع طلب التنجيز، وهذا المذهب شائع في المعتزلة والقائل به منهم أكثر، وجمهور أهل السنة على رده.
الصورة الثانية: حكاها الغزالي في كتابه " الاقتصاد في الاعتقاد " (1) فقال: فإن قيل: فهو ما لا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه عبث، والعبث على الله محال.
قلنا: هذه ثلاث دعاوى:
الأولى: أنه لا فائدة فيه، ولا نُسَلِّمُ، فلعل فيه فائدةً للعباد اطلع الله عليها، فليس الفائدة الامتثال والثواب عليه، بل ربما يكون في إظهار الأمر، وما يتبعه من اعتقاد التكليف فائدة، فقد ينسخ الأمر قبل الامتثال كما أمر الله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بذبح ولده ثم نسخ قبل الامتثال. إلى آخر ما ذكره.
وهذه المسألة التي احتج بها، وهي النسخ قبل التمكن مسألة خلاف بينهم وبين المعتزلة أيضاً، والإمام المنصور بالله يقول فيها بقولهم، والجويني يقول فيه بقول المعتزلة.
وقد ظهر أن من جوَّز منهم تكليف ما لا يطاق، وهي فرقة شاذة، فما أرادوا نسبة قبيح إلى الله في إرادة تنجيز وجود المحال وترتيب وقوع العقوبة عليه كما في التكليف بالممكن. فهذا نوع من التكليف خاص له أحكام تخصه عند هذه الفرقة الشاذة نازل منزلة قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 42 - 43].
وآخرها دليلٌ على الفرق بين الدعاء الذي ليس معه استطاعة وبين الدعاء في الدنيا، وهي حجةٌ لهم في تجويز مثل ذلك، مجرد تجويز على جهة
__________
(1) ص 113.(7/236)
تخصيص العام بالنادر ولمخالفتهم في أن تكليف هذه الدار مع القدرة.
ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أن يَعْقِدَ بين شَعِيرَتَيْنِ " (1).
خرجه البخاري، وأبو داود، والترمذي من حديث ابن عباس (2).
وخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ كَذَبَ في حُلُمِهِ كُلِّفَ عقد شعيرةٍ " (3).
وفي أحاديث المصورين أنه يقال لهم يوم القيامة: " أحْيُوا ما خلقتم ".
وهي صحاح مشاهير (4)، ترجم النسائي لها: ذكر ما يكلف أصحاب الصور يوم القيامة (5)، وساقها.
لا يقال: هذه كلها في دار الآخرة، وليس فيها تكليفٌ وإنما كلامنا في دار التكليف، لأنهم يقولون: عِلَّةُ المنع عندكم ليس شيئاً يرجع إلى الدار إنما هو حُكْمٌ بأن العقل يُقَبِّحُ ذلك، وأنه ظلم مع ترتب العقاب عليه، وعَبَثٌ مع خلاف ذلك، فالآخرة، وإن لم تكن دار تكليف، فليست عندكم دار ظلمٍ ولا يحسن فيها قبيحٌ عقلي.
والأوامر التي لا يراد بها تنجيز التكليف ولا معنى الطلب كثيرةٌ نحو قوله: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65]، و {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: 50 - 51]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]، وقوله: {مُوتُوا} [البقرة: 243] فماتوا، وقوله: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11].
__________
(1) في (ش): " شعرتين "، وهو تحريف.
(2) تقدم تخريجه 5/ 293.
(3) تقدم تخريجه 5/ 293.
(4) انظر تخريجها 5/ 293.
(5) " سنن النسائي " 8/ 215.(7/237)
وهو بابٌ واسع ومعانيه مختلفة، ولكن تسميته تكليفاً بدعة خارجة عن اللغة والعرف.
قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي آية: {إلاَّ ما آتَاهَا} [الطلاق: 7] وهذا وعد صادق صدر على جهة التمدح، ومعناه واضح ولا يُعارِضُه ما يُقاربه في القوة والوضوح، والحق رَدُّ المحتملات إلى الواضحات (1) لا العكس.
ومن أين للسني أن الله يرضى بقول القائل: إن تكليف المحال جائزٌ عليه، وهو يقول ما قدمنا، بل يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
وأما قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284]، فهي عامة فيما يطاق من ذلك مع المشقة والحرج، وما لا يطاق البتة، والعموم يجوز تخصيصه مع أنه لم يطلب منهم أن يقع في أنفسهم شيءٌ من ذلك، وإنما أخبر أنه يُحاسبهم عليه، فَيُعَذِّبُ من يشاء، ولعله إنما كان معذباً -لو تم ذلك- بما يطاق من ذلك، بل قد تبين أنه كذلك، بل صح في حديث عائشة أن الحساب للمؤمنين هو العرض (2).
وكذلك صح في حديث ابن عمر المعروف بحديث النجوى (3).
__________
(1) عبارة: " المحتملات إلى الواضحات " بياض في (ش).
(2) انظر 5/ 274 ت (5).
(3) أخرج أحمد 2/ 74 و105، والبخاري (2441) و (4685) و (6070) و (7514)، ومسلم (2768) من طريق صفوان بن محرز المازني، قال: بينما أنا أمشي مع ابن عمر رضي الله عنهما آخِذٌ بيده، إذ عَرَضَ رجل، فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يُدني المؤمن، فيضع عليه كنفه، ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربِّ، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، =(7/238)
وأما قولهم: " كلّفنا ما لا نُطِيق " (1)، فقد يورد ذلك فيما يَشُقُّ (2) ويصعُبُ كثيراً، ولعله قول بعضهم، ولا حجة فيه مع أنه من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة، وفي توثيقه وتضعيفه خلافٌ كثير، ولذلك لم يُخَرِّجْ له البخاري شيئاً ولا أخرج هذا الحديث، ولعل مسلماً إنما أخرجه لموافقته لحديث ابن عباس بنحوه، لكنه لم يذكر قولهم: " لا نطيق " بل قال: إنه دخل في قلوبهم منها شيء، لم يذكر في قلوبهم من شيء.
وكذلك لفظ النسخ لم يذكره ابن عباسٍ في حديثه عند مسلم، فلفظ ابن عباس علي ما ذكرته، وأن آخر الآية مفسرٌ لأولها لا ناسخ، والله سبحانه أعلم.
وأما التحميل في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] فليس بتكليفٍ إنما هو مثل إنزال الأمراض والبلاوي العظيمة.
وما خالف هذه القاعدة المنصوصة في محكم كتاب الله تعالى على وفق الحكمة المعقولة من الأوامر ما لا يُطاق فليست للطلب والتنجيز، ولها معان لطيفة يعرفها أئمة المعاني والبيان، فلتطلب من مَظَانِّها.
إذا عرفت هذا فاعلم أن من قال: ليس بتكليفٍ، كما هو الحق، فسره بما قدمنا عن الجويني، ومن قال: إنه تكليف، لم يُخالف في الحقيقة إلاَّ في معنى التكليف كما قال الغزالي فزعم أن إيراد صيغة الأمر في خطاب من يفهم يسمى تكليفاً وإن لم يُرِدْ به حصول الامتثال، والفائدة فيه عنده اعتقاد أنه مكلف، ومعنى كونه مكلفاً به كونه مخاطباً به، والعقوبة فيه على زعمه على ترك هذا الاعتقاد، لا على الامتثال.
__________
= وأما الكافر والمنافقون، فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين". وصححه ابن حبان (7355) و (7356) وانظر تمام تخريجه فيه.
(1) انظر تمام الحديث وتخريجه 5/ 183 و184.
(2) في (أ): " فيما لا يشق ".(7/239)
الصورة الثالثة: ما تقدم عن الفرقة الأُولى أنهم جزموا في مسألة الأفعالِ أن مقدورات العباد كلها غير مقدورة لهم وحدهم إلاَّ بإعانة الله تعالى، فهي بالنسبة إلى عدم إعانته غير مطاقة، وبالنسبة إلى إعانته مطاقة، على ما تقدم تحقيقه في مسألة مقدور بين قادرين، وأن شرط التكليف عندهم أنه يخلقها الله حين يختارونها حتى يمكنهم أن يفعلوها حين خلقها الله أن يؤثروا فيها مع الله تعالى أثراً ما تقوم به الحجة عليهم.
والتأثير في الوجوه والاعتبارات فرعٌ على خلق الذوات، ولكن لا (1) يلزم من ذهب إلى تكليف ما لا يطاق بهذا أن يكون التكليف كله تكليف ما لا يُطاق، كما ألزمه ابن الحاجب وغيره من احتج على نفي الاختيار. وقد قال ابن الحاجب: إن ذلك خلاف الإجماع، فإن أراد بالتكليف الطلب لتنجيز الوقوع، والفعل محال، فالإجماع على بطلان ذلك صحيحٌ، وإن أراد طلب التنجيز للمحال عند إمكانه واستجماع شرائطه، فالخلاف مشهور، وهو خلاف في العبارة مثل خلاف أبي القاسم البلخي في نفي المباح وأمثال ذلك.
الصورة الرابعة: وجوب الأرش على السكران في جناياته، وتنفيذ طلاقه، ونحو ذلك.
منهم من سمى ذلك تكليفاً لم يرد بالتكليف أن الله تعالى أراد منه أن يفهم حال سكره، فنسب إليهم تجويز تكليف من لم يفهم، وتجويز ما لا يطاق وإرادة ذلك.
فأما الإرادة فغلط واضح عليهم (2) وخطأ فاحش، وأما ما سموه تكليفاً من غير إرادة، فغير معلوم القبح، ولا مستلزم للمحال، ولكن هي لجاجٌ في بِدَعٍ أدى إليها بعض القواعد الكلامية، كما أدى خصومهم المعتزلة إلى مثل ذلك في مسألة المشيئة وغيرها.
__________
(1) " لا " سقطت من (ش) و (ف).
(2) " عليهم " سقطت من (ش).(7/240)
إذا تقرر هذا، فاعلم أن إطلاق القول بتكليف ما لا يطاق غَلَطٌ في العبارة لا يخرُجُ صاحبه من الإسلام، فليس كل ما ظهر فيه الرِّكَّة من البدع، فقد كفر صاحبه، نسأل الله العافية من كل بدعة، والخروج من كل شبهة.
وقد ذكرت غير مرة أن في كل فرقة طوائف شاذةً تقول بمنكراتٍ من البدع، فمن أضاف بدعهم إلى عموم الفرقة التي شَذُّوا منها، فقد أساء، وتَنَزَّل منزلة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي " الصحيح ": " لا يؤمن أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسه " (1)، والله تعالى يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
وفي أهل السنة أيضاً من يَغْلَطُ، فَيَنْسِبُ إلى الزيدية مذاهب الإسماعيلية، والمطرفية، والحسنية (2)، ونحو ذلك فالله المستعان.
والذي يُرجى لمن قال ذلك من أهل الإسلام أنه بالغ في التعظيم، فأساء العبارة، ومراده أن الله لو صدر عنه مثل ذلك، لوجب القطع بأن له فيه حكمةً تخرجه عن الظلم والعبث، لا أن ذلك جائزٌ، لكن على نحو قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] على قول.
ونحو ما تقدم في الحديث الثاني والسبعين في أحاديث الأقدار: " لو أن الله عذب أهل السماوات والأرض عذبهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم " (3).
وقوله: {إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17].
__________
(1) رواه من حديث أنس أحمد 3/ 176 و272، والبخاري (13)، ومسلم (45)، وابن ماجه (66)، والترمذي (2515)، والدارمي 2/ 307، وابن حبان (234) و (235)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) في (ف): الحسينية.
(3) انظر 6/ 471.(7/241)
وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65].
فمن قال: إن هذه الأمور جائزة على الله مع ما فيها من تجويز تعذيب ملائكة الله ورسله ونحو ذلك، فهو مبطل حقاً، وإنما وردت مَوْرِدَ التعظيم بذكر ما لا يقطع قطعاً أنه لو وقع كيف كان الحكم والأدب أن يقال: لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لَفَسَدَتَا، والله سبحانه أعلم.
الوهم الثلاثون: وهم المعترض أنهم يخالفون في القدر الضروري من القول بجواز التعذيب بغير ذنبٍ أو الإيلام لغير حِكمةٍ، وليس كذلك، فإن الأكثرين والمحققين لا يجوِّزُون ذلك.
وقد قدَّمْتُ غير مرةٍ أنه لا يلزم الطائفة العظيمة ما شذَّ به بعضُ غُلاتِهم، وإلاَّ دخلت الشناعة على كل فِرقةٍ، ولم تختصَّ بأهل السنة والأشعرية، ولنتكلم في هذه الجملة خصوصاً وعموماً.
أمَّا الخصوص، ففي مسألتين:
المسألة الأُولى: الكلام في الأطفال.
واعلم أن المعتزلة والشيعة ينسِبُون إليهم القول بأن أطفال المشركين في النار بذنوب آبائهم، هكذا من غير استثناءٍ، وهذا تقصيرٌ كبيرٌ في معرفة مذاهبهم، ولهم في المسألة أقوال:
قال ابنُ عبد البرِّ في " تمهيده " وقد روى حديث الصَّعب بن جَثَّامَة الذي خرَّجه أبو داود (1)، وفيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يُبَيَّتُون فيصابُ (2) من ذراريهم ونسائهم، فقال: " هم منهم ".
__________
(1) برقم (2672)، ورواه أيضاً أحمد 4/ 37، والبخاري (3012)، ومسلم (1745)، والترمذي (1570)، وابن ماجه (2839)، وابن حبان (136)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) " فيصاب ": ساقطة من (أ).(7/242)
قال أبو عمر بن عبد البَرِّ: وقولهم: هم من آبائهم، فمعناه: حكمُ آبائهم لا دية فيهم ولا كفارة، ولا إثم لمن لم يقصد قتلهم، وأما أحكامهم في الآخرة، فليس من هذا الباب في شيءٍ، وقد تقدم القول فيهم. انتهى.
وهذا إشارةٌ إلى أقوالهم فيها، ولهم فيها أقوالٌ:
القول الأول: أنهم في الجَنَّةِ.
قال النواوي في شرح " مسلم " (1): إن هذا قول المحقِّقين منهم. هكذا وصف القائلين منهم بهذا بالتحقيق، واختاره لنفسه واحتجَّ عليه، وكذلك إمام الشافعية في عصره العلامة علي بن عبد الكافي الشهير بالسبكي، اختار ذلك، واحتج عليه.
فمما احتج به النواوي على ذلك بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
واحتج أيضاً بما رواه البخاري في " صحيحه " (2) عن سَمُرَةَ في حديثٍ طويل، وفيه ذكر رؤيا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيها ما لفظه: " والشيخ في أصل الشجرة، والصِّبيان حوله أولاد الناس ". قالوا: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: " وأولاد المشركين ". انتهى.
والمرادُ بالشيخ: إبراهيم عليه السلام، والشجرة: شجرةٌ في الجنة، وسؤالهم هذا وجوابه عليهم كان في اليَقَظَة، ولو لم يكن في اليقظة، لكانت الرؤيا وحدها حُجَّةً صحيحةً، لما في سِياقها من الدِّلالة، لأنها رؤيا حقٍّ، ولأن رؤيا الأنبياء صلواتُ الله عليهم حقٌّ، وخصوصاً نبينا - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تنامُ عيناي ولا ينامُ قلبي " (3).
__________
(1) 16/ 208.
(2) (7047)، ورواه أيضاً النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 82.
(3) تقدم تخريجه 1/ 175 - 176.(7/243)
قال السبكي في كتابه في الأطفال (1): ووردت أحاديث أُخَرُ مصرِّحةٌ بأنهم في الجنة، لكن في أسانيدها ضعفٌ.
قال السبكي: وفي حديث " البخاري " كفايةٌ مع ظاهر القرآن، وفي حديثٍ آخر " أولاد المشركين خدمُ أهل الجنة ". انتهى.
قلت: أما الأحاديث الضِّعاف، فإنها باجتماعها تقوى، لأنهم لا يُطلقون الضعيف إلاَّ على من في حفظه شيءٌ ليس بالفاحش، وليس بكذَّابٍ متعمِّدٍ، ولا فاسقٍ مصرِّحٍ، كما ذلك معروفٌ في علوم الحديث، ومن هو على هذه الصفة، فأكثرهم، بل كلهم مقبولون عند الأصوليين وكثير من الفقهاء وإن انفردوا، وحديثهم إذا تنوَّعت طرقه يقوى عند المحدثين، وربَّما صحَّ.
وأما الحديث الذي أشار إليه السُّبكي، فقال ابن قيم الجوزية في الباب الثاني والخمسين في كتابه " حادي الأرواح " (2): رواه يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازمٍ المدينيِّ، عن يزيد الرَّقاشيِّ، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سألتُ ربي اللاَّهين مِنْ ذُرِّيَّة البشر أن لا يُعَذِّبَهُم، فأعطانيهم، فهم خدمُ أهل الجنة " يعني: الأطفال.
قلت: وتأويله على مذهب كثير من أهل السنة ومذهب المعتزلة أن لا يكلِّفَهم فيعصوا، أو أن لا يعذِّبَهم على أحد الوُجوه التي يصح منها تعذيبهم عند الجميع، كما سيأتي شرحه.
ثم قال الدارقطني: ورواه عبد العزيز الماجِشُون، عن ابن المنكدر، عن
__________
(1) هو رسالة ضمن مجموع " فتاواه " 2/ 360 - 365. وهذا النص في 2/ 362.
(2) ص 148، والحديث وإن كان ضعيفاً بهذا الإسناد لضعف يزيد الرقاشي، حسن بطرقه التى سترد عند المصنف. أبو حازم المديني: هو سلمة بن دينار. وأورده الحافظ في " الفتح " 3/ 290، ونسبه إلى أبي يعلى، وقال: إسناده حسن!
واللاهون: قيل: هم البُلْه المغفَّلون، وقيل: الذين لم يتعمدوا الذنوب، وإنما فرط منهم سهواً ونسياناً، وقيل: هم الأطفال الذين لم يقترفوا ذنباً. قاله ابن الأثير في " النهاية ".(7/244)
يزيد الرَّقاشيِّ به (1).
ورواه فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس (2).
قلت: فمداره على يزيد الرقاشي الرجل الصالح، ولم يُقدَح فيه إلاَّ بسوءِ الحفظ، ولم يكن فاحشاً في ذلك، فقد قال الحافظ ابن عدي (3): أرجو أنه لا بأس به، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (4): قال فيه ابن معين: رجل صدوق، ووثَّقه ابن عدِيٍّ، وقد تابعه وشهد له عبد الرحمن بن إسحاق، وهو أيضاً وإن كان قد ضعَّفه بعضهم، فقد قال ابن خزيمة، والنسائي مع تشدُّده في الرجال: ليس به بأسٌ، وقال البخاري مع تشدده أيضاً: إنه ممن يُحْتَمَلُ في بعض (5).
وروى أبو يعلى مثل ذلك عن أنسٍ مرفوعاً من طُرُقٍ، ورجال أحدها ثقات، قاله (6) الهيثمي (7) في " مجمعه " (8).
__________
(1) إسناده ضعيف كسابقه لضعف يزيد الرقاشي، وأخرجه أبو يعلى (4101) عن أبي خيثمة، حدثنا حجين بن المثنى، حدثنا عبد العزيز الماجشون، به.
ورواه أبو يعلى (3636)، وعنه ابن عدي في " الكامل " 5/ 1800 عن عمرو بن مالك، عن فُضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق القرشي، عن محمد بن المنكدر، عن أنس. وهذا إسناد ضعيف لضعف عمرو بن مالك الراسبي البصري.
(2) أخرجه أبو يعلى (3570) عن عبد الرحمن بن المتوكل البصري، وابن عدي في " الكامل " 4/ 1610 عن عبد الرحمن بن إسحاق المدني، عن عبد الرحمن بن المتوكل، عن فضيل بن سليمان به.
وعبد الرحمن بن المتوكل ذكره ابن حبان في " الثقات " 8/ 379، وقال: يروي عن الفضيل بن سليمان، حدثنا عنه أبو خليفة، مات بعد سنة ثلاثين ومئتين بقليل، ووثقه الهيثمي في " المجمع " 7/ 219.
(3) في " الكامل " 7/ 2713.
(4) 7/ 219.
(5) انظر " ميزان الاعتدال " 2/ 547.
(6) في (أ): " قال "، وهو خطأ.
(7) من قوله: " مثل ذلك " إلى هنا سقط (ش).
(8) 7/ 219.(7/245)
وقال السيد أبو طالب في " أماليه ": أخبرنا أبو عبد الله بن عدي الحافظ، حدثنا علي بن إسماعيل بن حمادٍ البزَّار، حدثنا عمرو بن عدي، حدثنا عيسى بن شُعيبٍ، حدثنا عبَّادُ بن منصورٍ، عن أبي رجاءٍ، عن سَمُرَة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن أطفال المشركين، فقال: " هم خدم أهل الجنة ".
وروى حديث سمرة هذا الطبراني في المعجمين " الكبير " و" الأوسط "، كلهم من طريق عبَّاد بن منصورٍ، وثقه يحيى القطان، وفيه ضعفٌ، قال الهيثمي (1): وبقية رجال الطبراني والبزَّار ثقات (2).
وعن أنس مرفوعاً مثله. رواه أبو يعلى والبزار والطبراني في " المعجم الأوسط "، إلاَّ أنهما قالا: أطفال المشركين. وفي إسناد أبي يعلى: يزيد الرَّقاشي (3).
وعن الأسود بن سريعٍ، قيل: يا رسول الله، من في الجنة؟ قال: " النبيُّ في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة "، رواه الطبراني (4)، وفيه جماعةٌ وثَّقهم ابن حِبّان، وضعَّفهم غيره، وبقيتهم رجال الصحيح.
وعن ابن عباسٍ مرفوعاً مثله، وزاد: " والموؤودة في الجنة ". رواه البزار (5)
__________
(1) في " المجمع " 7/ 219.
(2) رواه البزار (2172)، والطبراني في " الكبير " (6993).
(3) أبو يعلى (4090)، ورواه أيضاً الطيالسي (2111)، وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 308 من طريق يزيد الرقاشي عن أنس.
ورواه البزار (2170) من طريق مبارك بن فضالة عن علي بن زيد، عن أنس مرفوعاً، ومبارك مدلس، وقد عنعن، وعلي بن زيد، وهو ابن جدعان، ضعيف.
ثم رواه البزار (2172) من طريق مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أنس قوله.
(4) " المعجم الكبير " (838)، ورواه أيضاً البيهقي في " السنن الكبرى " 6/ 203.
وقوله: " وفيه جماعة ... " نقله المصنف عن الهيثمي في " المجمع " 7/ 219.
(5) (2168) وأخرجه أحمد 5/ 58 و409 من طريق حسناء بنت معاوية عن عمها، =(7/246)
ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن معاوية بن مالجٍ (1)، وهو ثقةٌ.
وعن أنس مرفوعاً: " المولود في الجنة، والموؤودة "، رواه البزار (2) وفيه مختار بن مختارٍ، تكلَّم فيه الأزدي وفيه ابن (3) إسحاق أيضاً، وبقيتهم ثقات.
ذكر ذلك الهيثمي (4)، ثم قال: وتقدمت أحاديث من هذا النحو في النكاح، وفي حق الزوج، وطاعة المرأة لزوجها.
ثم روى حديث: " كل مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ " من طريق جابر بن عبد الله.
رواه أحمد (5)، وفيه أبو جعفر الرازي، وبقيتهم ثقاتٌ.
وعن سَمُرَة، رواه البزار (6)، وفيه عبَّاد بن منصور المقدم.
وعن ابن عباس، رواه البزار أيضاً (7). قال الهيثمي (8): وفيه من لم أعرفه.
والحديث متفق على صحته (9) من غير هذه الطرق، وإنما ذكرتها شواهد للصحيح، فهذه الأسانيد يشدُّ كلٌّ منها الآخر، وأظنها الأحاديث التي أشار إليها السبكي، وهي مع حديث البخاري عن سَمُرَةَ وظواهر القرآن، وما تواتر وشَهِدَتْ به فِطَرُ العقول من سعة رحمة الله تعالى، تزداد قوة، والله سبحانه أعلم.
__________
= قال: قلت يا رسول الله من في الجنة؟ قال: " النبي في الجنة والمولود في الجنة والموؤودة في الجنة " وحسن إسناده الحافظ في " الفتح ".
(1) تحرف في الأصلين إلى: " صالح ".
(2) (2169)، ومحمد بن إسحاق مدلس، وقد عنعن.
(3) تحرف في (أ) إلى: " أبي ".
(4) في " مجمع الزوائد " 7/ 219.
(5) " المسند " 3/ 353، وأبو جعفر الرازي: هو عيسى بن أبي عيسى، وهو سيىء الحفظ.
(6) برقم (2166).
(7) (2167).
(8) " المجمع " 7/ 218.
(9) وقد تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة 3/ 287.(7/247)
وأما الأحاديث الواردة بأنهم في النار بالتصريح، فقد أجابوا عنها بأنها كلها ضعيفةٌ، ممن قال بضعفها على الإطلاق، ولم يستثن شيئاً: الحافظ ابن الجوزي. ذكره في " جامع المسانيد " بعد رواية الحديث السادس والثمانين من مسند الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روى حديث خديجة رضي الله. عنها في السؤال عن ولديها من طريق محمد بن عثمان، ثم قال: محمد بن عثمان لا يُقبل حديثه، قال: ولا يصح في تعذيب الأطفال حديثٌ. قال ابن حِبَّان: لا يجوز الاحتجاج بمحمد بن عثمان بحالٍ. انتهى كلام ابن الجوزي.
وكذلك الهيثمي أورد الحديث، ثم قال (1): رواه عبد الله بن أحمد، وفيه محمد بن عثمان، ثم رواه عن خديجة من طريق فيها انقطاع (2).
ثم روى في معناه حديثاً مرفوعاً بنحوه عن عائشة رضي الله عنها رواه أحمد، وفيه أبو عقيلٍ يحيى بن المتوكِّل، ضعَّفه جمهور الأئمة ويحيى بن معين، وفي متنه: " لو شِئْتِ لأسْمَعْتُكِ تَضاغيهم في النار " (3).
وأما السبكي، فقال: كلها ضعيفةٌ إلاَّ حديث سلمة بن يزيد الجُعفيِّ (4)،
__________
(1) 7/ 217. والحديث في " المسند " 1/ 134 - 135، ومحمد بن عثمان: قال فيه الذهبي في " الميزان " 3/ 642: لا يدرى من هو، وله خبر منكر، ثم ساق له هذا الحديث من رواية عبد الله بن أحمد.
(2) رواه الطبراني 23/ (27) من طريق عبد الله بن الحارث، وأبو يعلى 328/ 1 من طريق عبد الله بن نوفل أو عبد الله بن بريدة، عن خديجة. قال الهيثمي: عبد الله بن الحارث بن نوفل وابن بريدة لم يدركا خديجة.
(3) المسند 6/ 208، قال الحافظ في " الفتح " 3/ 290: وهو حديث ضعيف جداً، لأن في إسناده أبا عقيل يحيى بن المتوكل مولى بهية وهو متروك.
والتضاغي: الصياح والضجيج والبكاء.
(4) رواه أحمد 3/ 478، والبخاري في " التاريخ الكبير " 4/ 72 و73، والطبراني في " الكبير " (6319) و (6320)، والنسائي في التفسير من " السنن الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 4/ 55، وأبو داود في كتاب " القدر " كما في " تهذيب الكلمال " 11/ 331، والمزي =(7/248)
فإنه صحيح الإسناد، لكنه غيرُ عامٍّ، وإنما هو نصٌّ في موؤودة بعينها، فاحتمل التأويل، وذلك أن سياق الحديث أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أختٍ لهم موؤودةٍ في الجاهلية لم تبلغِ الحِنْثَ، فقال: " إنها في النار ".
__________
= في " تهذيب الكمال " 11/ 330 و331 من طريق داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة، عن سلمة بن يزيد الجعفي، قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلنا يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم، وتقري الضيف، وتفعل وتفعل هلكت في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: لا. قال: قلنا: فإنها كانت وأدت أختاً لنا في الجاهلية، فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال: " الوائدة والموؤودة في النار إلاَّ أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها " وعلقه البخاري عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل.
وأخرجه البخاري في " تاريخه " وأبو داود في " سننه " (4717) عن إبراهيم بن موسى الرازي، حدثنا ابن أبي زائدة، قال: حدثني أبي، عن عامر الشعبي، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الوائدة والموؤودة في النار " قال يحيى بن زكريا، قال أبي: فحدثني أبو إسحاق أن عامراً حدثه بذلك عن علقمة، عن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قلت: الرواية الأولى معضلة، والرواية الثانية وإن كانت متصلة إلاَّ أن زكريا بن أبي زائدة قد سمع من أبي إسحاق بعد الاختلاط.
وأخرجه ابن حبان (7480) من طريق ابن أبي زائدة بهذا الإسناد.
قلت: يترجح عندي نكارة هذا المتن وبطلانه لمخالفته للأحاديث الصحيحه، ولقوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} فإذا كان الله سبحانه وتعالى يسأل الوائدة عن وأد ولدها بغير استحقاق ويعذبها على وأدها، فكيف يعذب الموؤودة بغير ذنب.
وقال الآلوسي في " روح المعاني " 30/ 53: وتوجيه السؤال إلى الموؤودة في قوله تعالى: {سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها، وإسقاطه عن درجة الخطاب، والمبالغة في تبكيته، فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني، ونسبت إليه الجناية دون الجاني، كان ذلك بعثاً للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه، فيرى براءة ساحته، وأنه هو المستحق للعقاب والقصاص، وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ}.(7/249)
فإن كان لهذا الحديث علَّةٌ، لم يحتج إلى جوابٍ آخر، وقد قيل: لعله - صلى الله عليه وسلم - اطلع على أن سِنَّ تلك الموؤودة بلغت التكليف، ولم يلتفت إلى قول السائل: لم تبلُغِ الحنثَ، لجهله بوقت البلوغ الشرعي، أو يكون التكليف في ذلك الوقت منوطاً بالتمييز، والسائل يجهله، وليس كون التكليف في ذلك الوقت منوطاً بالتمييز في ذلك الوقت من الأمور المحتاج إلى معرفتها حتَّى يبيِّنَه للسائل.
وهذا الجواب مثل جواب المعتزلة في تأويلهم الأطفال بمن قد بلغ، لكنه أقوى، لاختصاصه بشخصٍ معيَّنٍ، وقد بالغت بالبحث عن صحة هذا الحديث حتى وجدت ما يمنع القطع بصحته، فسقط الاحتجاج به ولله الحمد.
وذلك ما ذكره ابن الجوزي في مسند سلمة بن يزيد من " جامع المسانيد "، فإنه قال بعد رواية الحديث هذا: إن محمد بن سعد ذكر في " الطبقات " (1) أنَّ سلمة بن يزيد هذا الرَّاوي ارتدَّ عن إسلامه هو وأخوه لأُمِّه قيس بن سلمة بن شراحيل، وهما ابنا مُليكَةَ بنت الحلوى، قال ابن الجوزي: فظاهرُ هذا كفرهما، ثم قال: وظاهر ما روينا أنهما عادا إلى الدين، ورويا الحديث.
قلت: الحديث ما رواه إلاَّ سلمة، وما علمت لأخيه روايةً أصلاً، وقوله: إنَّ الطاهر رجوعهما عن الرِّدَّة، واستدلاله على ذلك بمجرد رواية الحديث عن سلمة من غير نقلٍ صحيحٍ، بل ولا ضعيفٍ، لا يفيد شيئاً، ومثل هذا لا يثبت معه حديثٌ، مع أن في إسناده داود بن أبي هندٍ، وقد تجنَّب البخاري إخراج حديثه في " الصحيح " قال الذهبي (2): داود حجة، ما أدري لِمَ لم يخرج له البخاري!
__________
(1) 1/ 324 عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، عن أبيه وأبي بكر بن قيس الجعفي ... وهذا خبر شبه موضوع، هشام بن محمد بن السائب قال الدارقطني وغيره متروك، وقال يحيى بن معين: غير ثقة، وليس عن مثله يروى الحديث، وأبوه محمد بن السائب متهم بالكذب كما في " التقريب ".
(2) في " ميزان الاعتدال " 2/ 11. قلت: داود بن أبي هند وثقه سفيان الثوري وأحمد =(7/250)
فثبت أنه ليس في تعذيب الأطفال حديثٌ صحيحٌ صريحٌ.
وذكر السبكي أن سائر الأحاديث ضعيفةٌ، حتى حديث عائشة الذي خرجه مسلمٌ في " الصحيح " (1)، وفي متنه " عُصفُورٌ من عصافير الجنة "، وقد قدحوا على مسلمٍ لتخريجه، ممن قدح بذلك القرطبي في " تفسيره " وغيره.
وبالجملة، فإن مسلماً وغيره ممن روى الحديث خرَّجوه من حديث طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيميِّ الكوفيِّ، وهو متكلَّمٌ عليه كثيراً، ولم يُتابِعْهُ على الحديث غيره (2). وقد قال البخاري: إنه منكر الحديث، وقال يحيى القطان، والنسائي، وابن معين في رواية: ليس بالقوي (3)، وقد وثَّقه ابن معين، وغيره، ولكن لا يرتقي مع هذا الاختلاف إلى مرتبة رجال الصحيح، وغايته أن يكون مِمَّن يُقْبَلُ حديثه مع الشواهد والتوابع، فأمَّا مع الشُّذوذ، فلا.
وقد ذكر الذهبي في " الميزان " (4) أنه تفرَّد بأول الحديث، وهو الذي يخصُّ الأطفال دون آخره.
ولعلَّ مسلماً إنما أخرج الحديث، لثبوت الشواهد على آخر، لكن في أوله
__________
= وابن معين وأبو حاتم والنسائي والعجلي، ويعقوب بن شيبة وقال الإمام أحمد: لا يُسأل عن مثله. وقال الآجري عن أبي داود: إلاَّ أنه خولف في غير حديث، وقال ابن حبان: وقد روى عن أنس خمسة أحاديث لم يسمعها منه وكان داود من خيار أهل البصرة من المتقنين في الروايات إلاَّ أنه كان يهم إذا حدَّث من حفظه، ولا يستحق الإنسان الترك بالخطأ اليسير يخطىء، والوهم اليسير يهم حتى يفحش ذلك منه، لأن هذا مما لا ينفك من البشر، ولو سلكنا هذا المسلك للزمنا ترك جماعة من الثقات الأئمة لأنهم لم يكونوا معصومين من الخطأ بل الصواب في هذا ترك من فحش ذلك منه والاحتجاج بمن كان فيه لا ينفك من البشر، ووثقه ابن حجر وأشار إلى أنه كان يهم بأخرة.
(1) تقدم تخريجه 6/ 403.
(2) قلت: تابعه عليه فضيل بن عمرو عند مسلم وغيره، وهو ثقة.
(3) انظر " ميزان الاعتدال " 2/ 343.
(4) 2/ 343.(7/251)
زيادةٌ مستقلة بحُكْمٍ، فلم يكن لمثل طلحة بن يحيى أن يستقل بمثلها، ولا لنا أن نقبله في مثل ذلك. فهذا آخر الكلام على تقرير القول الأول (1).
القول الثاني: أنه يجوز أن يعذِّبَ الله تعالى من له الحجة عليه، ولا يكونُ ذلك ظلماً، فإنه تعالى يعلم من وجوهِ الحكمة ما لا نعلم، وله الحجة البالغة، وقد نص في كتابه أن يوم القيامة يجعل الولدان شيباً في سياق الوعيد وتعظيم ذلك اليوم، فمن المعلوم أنه ما جعلهم شِيباً إلاَّ ما لَحِقَهُم من شدة طوله، وهذا نوعٌ من العذاب. وفي " الصحيحين " (2) من حديث أبي سعيدٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يا آدم، قم فابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ من ذُرِّيَّتِكَ " فيقول: وما بعث النار؟ فيقول: " مِنْ كُلِّ ألفٍ تِسْعَ مئةٍ وتِسْعَةً وتسعين إلى النار وواحدٌ إلى الجنة (3)، فحينئذٍ يَشيِبُ الصغير " -إلى قوله:- " أبْشِرُوا، فإن منكم واحداً ومن يأجوج ومأجوج ألفاً " الحديث.
وهذا الوجه الجُمليُّ يكفي، ولو لم يرد تعيين ذلك الوجه في السمع، كيف وقد ورد تعيين ذلك في وجوهٍ ثلاثةٍ ذكروها.
الوجه الأول: ذكر السبكي (4) وغيره حكايةً عمن اختاره منهم، وذلك أنها وردت أحاديث بأن أطفال المشركين يُمتحنون يوم القيامة، تؤجَّجُ لهم نارٌ،
__________
(1) قلت: وقد أورد الحديث ابن القيم في " طريق الهجرتين " ص 520، وقال بإثره: فهذا الحديث يدل على أنه لا يشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة وإن أطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنهم في الجنة، ولا يشهد لمعين بذلك إلاَّ لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وجه الحديث الذي يشكل على كثير من الناس، ورده الإمام أحمد، وقال: لا يصح، ومن يشك أن أولاد المسلمين في الجنة؟ وتأوله قوم تأويلات بعيدة.
(2) تقدم تخريجه 6/ 285.
(3) جملة " وواحد إلى الجنة " لم ترد في " الصحيحين "، ولا عند من خرجه من حديث أبي سعيد، وإنما وردت في حديث عمران بن حصين الذي خرجه الترمذي (3169) وغيره.
(4) " فتاوى السبكي " 2/ 363.(7/252)
فيقال: رِدُوها وادخُلُوها، فيردُها أو يدخُلُها من كان في علم الله سعيداً لو أدرك العمل، ويُمْسِكُ عنها من كان في علم الله شقيَّاً لو أدرك العمل، فيقول الله عز وجل: " إيَّاي عَصَيْتُم، فكيف رُسُلي لو أتتكم؟ " (1).
قال السبكي: رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الناس من يُوقِفُه عليه (2).
وروي معناه أيضاً من حديث أنس، ومعاذ، والأسود بن سريع، وأبي هريرة، وثوبان ستَّتُهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وذكر عبد الحق في " العاقبة " (3) حديث الأسود بن سريعٍ في ذلك وصححه، ورواه أحمد في " مسنده " من حديث الأسود، وأبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال السيد الإمام أبو عبد الله العلوي الحسني في كتابه " الجامع الكافي "
__________
(1) رواه البغوي في الجعديات (2126)، والبزار (2176)، وفيه عطية العوفي، وهو ضعيف.
(2) ونقل القرطبي في " التذكرة " ص 514 نحو هذا عن أبي عمر بن عبد البر.
(3) ص 279، وقد أورده عن مسند البزار، ولم يذكر إسناده، وهو في " كشف الأستار عن زوائد البزار " (2174) حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يُعرض على الله الأصم الذي لا يسمع شيئاً والأحمق والهرم ورجل مات في الفترة، فيقول الأصم: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، ويقول الأحمق: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، ويقول الذي مات في الفترة: رب ما أتاني لك من رسول -قال البزار: وذهب عني ما قال الرابع- قال: فيأخذ مواثيقهم ليطيعُنَّه، فيرسل إليهم تبارك وتعالى: ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها، لكانت عليهم برداً وسلاماً ".
ورواه ابن حبان في " صحيحه " (7357) بتحقيقنا من طريق إسحاق بن راهويه عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود بن سريع ... وهذا إسناده صحيح، وانظر تمام تخريجه فيه.(7/253)
على مذهب الزيدية في المجلد السادس في هذه المسألة ما لفظه: وروى محمد بن فراتٍ، وروى محمد بن منصورٍ، عن محمدٍ، قال: قال أحمد بن عيسى عليه السلام: كان زيد بن علي عليه السلام يقول: أطفال المشركين، والأبكم، والشيخ الفاني يوم القيامة يقولون: يا ربِّ، بعثتَ رسولاً، وأنزلتَ كتاباً، وأنا طفلٌ لا أعقِلُ، ويقول الشيخ: وأنا فانٍ لا أعْقِلُ، ويقول الأبكم: وأنا لا أعْقِلُ، فيقول الله عز وجل: " صدقتم، أنا باعثٌ إليكم رسولاً، فمن أطاعه كان كمن أطاعني في الدنيا، ومن عصاه، كان كمن عصاني في الدنيا، فَيَخْدُدُ الله لهم أخدوداً في النار، ثم يقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها منكم، كانت عليه برداً وسلاماً، قال: وليس يدخُلُها أحدٌ منهم لِعلمِ الله فيهم ".
وسألت أحمد بن عيسى عن الحديث في الأطفال أتثبته؟ قال: قد جاء ذلك عن زيد بن علي، وأنا مُرَوٍّ فيه، فلم يثبته.
وقال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام فيما روى ابن صبَّاحٍ عنه، وهو قول محمد بن منصورٍ في المسائل: صحَّ لنا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أولاد المسلمين في الجنة "، وأما أولاد المشركين، فقد اختلفت الرواية فيهم عنه - صلى الله عليه وسلم -، والأمر فيه إلى الله تعالى، لأنه يقول: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، وهذا مما لا يعلم أن العبد يسأل عنه في القيامة، ونحن نعلم أن الله لا يُعذِّبُ أحداً حتى يحتجَّ عليه، لأنه قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
قال محمد: سألت أحمد بن عيسى، فأجابني بنحو هذا الجواب.
قلت: وروى عنه نحو هذا السيد أبو عبد الله الحسنيُّ في أول المسألة، وهذا أتمُّ من طريق عليٍّ، يعني: ابن محمدٍ الشَّيباني، عن ابن هارون، يعني: محمد بن محمد بن هارون، عن سعدان، عن أحمد بن عيسى عليه السلام.
فبان بذلك أن زيد بن علي عليه السلام من هذه الطائفة القائلين بالامتحان(7/254)
في القيامة، وأن سائر من ذكرنا من أولاده وأتباعه مُجَوِّزُون لذلك، غير قاطعين (1) بنفيه، ولا منكرين على من قال به، ولكن المعترض أُتِيَ من الجهل بمذهب أسلافه الكرام، مع الجهل بمذاهب علماء الإسلام.
وقال ابن كثير في المجلد الأول من " البداية والنهاية " (2) في ذكر يأجوج ومأجوج ما لفظه:
فإن قيل: [فكيف] دلَّ الحديث المتفق عليه أنهم فداءٌ للمؤمنين يوم القيامة، وأنهم في النار، ولم يُبعثْ إليهم رسلٌ، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
فالجواب: أنهم لا يُعَذَّبُون إلاَّ بعد قيام الحجة عليهم والإعذار إليهم، فإن كان قد أتتهم رسل، فقد قامت الحجة عليهم (3) وإلا فهم في حكم أهل الفترة ومن لم تبلُغْهُ الدعوة، وقد دلَّ الحديث المروي من طُرُقٍ عن جماعةٍ من الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من كان كذلك يُمْتَحَنُ في عرصات يوم القيامة، فمن أجاب الداعي، دخل الجنة، ومن أبى، دخل النار، وقد أوردنا الحديث بطرقه وألفاظه وكلام الأئمة عليه عند قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] (4)، وقد حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري إجماعاًً عن أهل السنة والجماعة. انتهى.
وفيه ما ترى من تنزيه الله من التعذيب من غير حُجَّةٍ ولا إعذار، وابنُ كثير والأشعري من أئمة أهل السنة والكلام منهم.
وقال الهيثمي (5): باب من لم تبلُغْه الدعوة، ثم أورد حديث الأسود بن سريعٍ في الأربعة: الأصمِّ والأحمق، والهَرِمِ والميت في الفترة. رواه أحمد
__________
(1) في (ش): " عنه لا قاطعين ".
(2) 2/ 100، وما بين حاصرتين منه.
(3) ساقطة من (أ)، وفي المطبوع من " البداية والنهاية ": " عليه ".
(4) انظر الجزء الخامس من تفسيره ص 50 - 58.
(5) " مجمع الزوائد " 7/ 215.(7/255)
والبزار والطبراني بنحوه، وذكر بعده إسنادا إلى أبي هربرة بنحوه، ورجال أحمد، وطريق الأسود، وأبي هريرة رجال الصحيح، وكذلك رجال البزار فيهما (1).
وعن أنسٍ مرفوعاً في المولود والمعتوه في الفترة والشيخ الفاني مثله. رواه أبو يعلى والبزار بنحوه، وفيه ليث بن أبي سُلَيْمٍ (2).
وعن أبي سعيدٍ مرفوعاً في الهالك في الفترة والمعتوه والمولود نحو الأول. رواه البزار، وفيه عطية (3) وهو ضعيفٌ.
وعن معاذٍ مرفوعاً في الممسوخ عقلاً، والهالك في الفترة، والهالك صغيراً بنحوه. رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، وفيه عمرو بن واقد (4) وهو متروكٌ عند البخاري وغيره، ورُمِيَ بالكذب، وقال محمد بن المبارك الصُّوري: كان يتبع السلطان، وكان صدوقاً، وبقية رجال " الكبير " رجال الصحيح (5).
__________
(1) حديث الأسود بن سريع رواه أحمد 4/ 24، والطبراني في " الكبير " (841) من طريقين، عن معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الأحنف بن قيس، عن الأسود، ورواه أيضاً البيهقي في " الاعتقاد " ص 169، وصححه ابن حبان (7357)، وعبد الحق الإشبيلي في " العاقبة " ص 279.
ورواه البزار (2174) عن محمد بن المثنى، عن معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع، وحديث أبي هريرة رواه أحمد 4/ 24، والبزار (2175)، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 169 من طريق معاذ بن هشام، حدثني أبي، عن الحسن، عن أبي رافع، عن أبي هريرة، وانظر " مجمع الزوائد " 7/ 216.
(2) رواه أبو يعلى (4224)، والبزار (2177)، وليث بن أبي سليم ضعيف، وقال الهيثمي 7/ 216: وباقي رجال أبي يعلى رجال الصحيح. قلت: الراوي عن أنس عند أبي يعلى والبزار: هو عبد الوارث مولاه، لم يوثقه غير ابن حبان، وليس له رواية في " الصحيحين "، ولا في " السنن " الأربعة!
(3) عطية: هو ابن سعد بن جنادة العوفي، وقد تقدم تخريج الحديث قريباً.
(4) تحرف في (ش) إلى: " عاقد ".
(5) هو عند الطبراني في " الكبير " 20/ (158). وانظر " المجمع " 7/ 217.(7/256)
هذا جملة ما حضرني من صحيحٍ وضعيفٍ في حجة أهل هذا القول، وهي لا تناقض ما قدمنا من أنه لم يصح حديثاً في دخول أولاد المشركين النار، لأنا عنينا دخولهم على العموم، وهذه الأحاديث لا تقتضي ذلك، وإنما تقتضي دخول من عَلِمَ الله أنه لو أدرك العمل، لكان شقياً بعد إقامة الحجة عليه وعصيانه لله تعالى.
قال السبكي (1) بعد قوله: أسانيدها صالحة: قال ابن عبد البر (2): ليست من أحاديث الأئمة الفقهاء، وهو أصلٌ عظيمٌ، والقطع فيه بمثل هده الأحاديث ضعيفٌ في النظر، مع أنه قد عارضها ما هو أقوى مجيئاً منها.
وقال الحُليميُّ: إن هذا الحديث مخالِفٌ لأُصول المسلمين، لأن دار الآخرة ليست بدار امتحانٍ (2).
قلت: فأجاب القائلون بها على ابن عبد البر أنه لا يُشتَرَطُ في الرواة أن يكونوا أئمة فقهاء.
وأما قوله: إنها مُعارِضَةٌ لما هو أقوى مجيئاً منها، فإنما أشار إلى قول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " الله أعلم بما كانوا عاملين ". وليست معارضة له، بل زيادةٌ عليه وبيانٌ له، وفرقٌ بين المعارضة والزيادة والبيان، إلاَّ حديث البخاري عن سمرة، فإنه يعارض ظاهره، لكنها أخص منه عند التحقيق، فإنه، وإن كان خاصاً بالنظر إلى أولاد المشركين، ففيه عمومٌ بالنظر إلى الشقي منهم والسعيد، وهذه خاصة بالأشقياء الذين علم الله أنهم لو أدركوا العمل لَعَصَوْهُ.
وأما قوله: إنه أصلٌ عظيم، والقطع فيه بمثل هذه الأحاديث ضعيفٌ،
__________
(1) 2/ 363 - 364.
(2) قلت: نقل قول ابن عبد البر، وقول الحليمي القرطبي في " التذكرة " ص 514، وتمام قول الأخير فيه: فإن المعرفة بالله تعالى فيها تكون ضرورة، ولا محنة مع الضرورة، ولأن الأطفال هناك لا يخلو من أن يكونوا عقلاء، أو غير عقلاء، فإن كانوا مضطرين إلى المعرفة، فلا يليق بأحوالهم المحنة، وإن كانوا غير عقلاء، فهم من المحنة أبعد.(7/257)
فكذلك القطع بتكذيبهم عقلاً وسمعاً، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب أهلِ الكتاب (1)، لئلاَّ يكون ما رَوَوْهُ حقاً، وليس القطع مقصوداً ها هنا.
وغاية المرام في مثل هذه المشكلة وضوح أدنى تجويزٍ لوجهٍ من وجوه الحكمة يُقَوِّي إيمان المؤمن بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) فيما لا طريق إلى تكذيب راويه.
وأما ما قاله الحُليميُّ، فمسلَّمٌ بعد استقرار الخلق في الدارين، وأما في البرزخ ويوم القيامة، فغير مُسَلَّمٍ لهذه الأحاديث وأمثالها، ولما قدمنا من رواية الأشعري إجماع أهل السنة على ذلك في " الأسماء والصفات " (3) عن الخطابي أنه قال في تأويل حديث أبي هريرة في ذكر الصورة (4) ما لفظه: وليس بمنكر (5) أن يكون الامتحان إذ ذاك بعد قائماً، وحكمه على الخلق جارياً حتى يفرغ من الحساب (6)، ويقع الجزاء بما يستحقونه من الثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حقَّت الحقائق، واستقرَّت أمور العباد قرارها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42]، وجاء في الحديث أن المؤمنين يسجدون وتبقى ظهور المنافقين طَبَقاً واحداً (7). انتهى بحروفه.
ويدل عليه مثل قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:
__________
(1) روى البخاري (4485) و (7362) و (7542) من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله، وما أنزل إلينا ". ورواه من حديث أبي نملة عبد الرزاق (20059)، وأحمد 4/ 136، وأبو داود (3644)، وصححه ابن حبان (6257).
(2) في (ش): " عن القوم ".
(3) ص 296.
(4) تقدم تخريجه 5/ 85.
(5) في " الأسماء والصفات ": " ننكر ".
(6) في (أ) و (ش): " حتى يفرغ الحساب " والمثبت من " الأسماء والصفات ".
(7) تقدم تخريجه من حديث ابن مسعود 5/ 91.(7/258)
28]، وقوله تعالى في الحكاية عن المشركين: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى موسى صلوات الله عليه في قبره قائماً يُصلي (1).
وأحاديث الفتنة في القبر والضَّمَّة فيه تؤيِّد ذلك كما سيأتي في المسألة الثانية.
وفي " الصحيح " من حديث ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " آخر من يدخل الجنة رجلٌ يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفَعُه النار مرةً، فإذا ما جاوزها، التفت إليها، وقال: تبارك الذي نجَّاني منك، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاهُ أحداً من الأولين والآخرين، فتُرْفَعُ له شجرةٌ، فيقول: يا رب، أدنِني من هذه الشجرة، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، ثم تُرفَعُ شجرةٌ هي أحسن من الأُولى، فيقول: يا رب، أدنني من هذه الشجرة، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، وربُّه يعذِرُه، لأنه يرى ما لا صبر له عليه ". الحديث (2).
وفي " الصحيح " عن أبي سعيد بنحوه (3) وهو مشهور، وهو يرد على الحليميِّ وابن عبد البر، والله أعلم.
ومذهب البغدادية من المعتزلة أن معرفة الله في الآخرة استدلاليةٌ، وألزموا جواز التكليف في الآخرة فالتزمهم شيخهم أبو القاسم البلخي، فهذا هو الخطأ قطعاً، لا قول أهل السُّنَّة.
وفي " البخاري " (4) من حديث أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجيء نوحٌ، فيقول الله: هل بلَّغْتَ؟ فيقول: نعم، أي رب، فيقول لأمته: هل
__________
(1) روى أحمد 3/ 148 و248، ومسلم (2375)، والنسائي 3/ 215 و216، وابن حبان (49) و (50) من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مررت ليلة أسري بي على موسى عليه السلام وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر ".
(2) تقدم تخريجه 5/ 91 - 94.
(3) تقدم أيضاً 5/ 84 - 86.
(4) (3339) و (4487) و (7349)، ورواه أيضاً أحمد 3/ 32، وابن ماجه (4284).(7/259)
بلَّغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا مِنْ شيءٍ".
والحديث له في كتاب الله أعظم شاهدٍ، وهو ما حكى الله تعالى من قولِ الكفار لجوارحهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21]، وقال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
فامتَنَّ عليهم بالتثبيت في الآخرة، ولولا حاجتهم إليه، لما صح ذلك، ولا حاجة إلاَّ مع الابتلاء، وليس المانع من ذلك عند المعتزلة إلاَّ أن الخلق مضطرون إلى الإيمان يوم القيامة، ولا يصح الابتلاء مع الاضطرار.
والجواب عليهم أن الاضطرار فعل الله فيهم، لا فعلهم في أنفسهم عقلاً وسمعاً، وقد قال الله يعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
وقد تقدمت بقية الحجج في هذا البحث عند ذكر هذه الآية الشريفة في مسألة الإرادة.
الوجه الثاني: أن كل من عَلِمَ الله أنه إن (1) بلغه الكِبَر، آمن، أدخله الجنة، وكل من علم الله أنه إن (1) بلغه الكبر، كفر، أدخله النار.
وهذا القول كالذي قبله، إلاَّ أن في الذي قبله زيادة الإعذار من الله، وإظهار إقامة الحجة، وهي زيادةٌ لا معارضة، ولعلها الذي توهم ابن عبد البر أنها معارضةٌ، وهي زيادةٌ حسنةٌ ملائمةٌ لسنة الله تعالى في إرسال الرُّسُل وإزاحة الإعذار، وفي " الصحيح " عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ من الله، لذلك أرسل الرُّسُل " (2).
__________
(1) في (ش): " من ".
(2) تقدم غير مرة.(7/260)
وأهل هذا القول احتجوا بالحديث المتفق على صحته من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئِلَ عنهم: " الله أعلم ما كانوا عاملين " (1).
وهؤلاء لا ينبغي أن يقال: إنهم يجيزون على الله التعذيب بغير ذنبٍ، بل يقال: إنهم يُجيزون على الله التعذيب بالذنب المعلوم وقوعه قبل أن يقع.
وروى السيد أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع " في موضعين من المجلد السادس أحدهما في هذه المسألة عن السيد الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام ما يدل على مثل قولِ هذه الطائفة، فإنه روى عنه أنه قال: قد أدخل الله النار أولاد المشركين بالذي سبق في علمه أنهم لا يؤمنون، قال الله سبحانه لنوح: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]، وقال نوحٌ: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27].
وأهلك الولدان في زمن عادٍ وثمود بالصيحة، ولا ذنب لهم، وقتل الخَضِرُ الغلامَ ولم يبلغ الحُلُم، فبلغنا في الحديث أنه يوجد في كتفه مكتوبٌ: كافر خِلْقَةً (2). انتهى بحروفه.
ولا شك أن العلم بقبح هذا غير ضروري من الدين فلا يُكَفَّرُ، ولا ضروري من العقل، فلا يُنْسَبُ قائله إلى تعمُّد الكذب ومحض العناد، فإن أهل الشريعة وأهل المعقول، لو علموا أنهم إن لم يقتلوا صغيراً كان في حياته هلاك
__________
(1) حديث صحيح، أخرجه عبد الرزاق (20077)، وأحمد 2/ 58 و266 و393 و471 و518، والبخاري (1384)، ومسلم (2659)، والنسائي 4/ 58، وابن حبان (131) من حديث أبي هريرة، وأخرجه البخاري (1383) و (6597)، ومسلم (2660)، وأبو داود (4711)، والنسائي 4/ 59 من حديث ابن عباس، ورواه أبو داود (4712) من حديث عائشة.
(2) من قوله: " قد أدخل الله النار " إلى هنا، تقدم بتمامه مع التعليق عليه 5/ 223 - 224.(7/261)
المسلمين قطعاً، وثبت لهم ذلك بطريقٍ سمعيةٍ، لم يُكَفَّرْ من استحل قتله بذنبه المعلوم وقوعه في المستقبل، ولا نقطع بأنه فاسق تصريحٍ، وإن كان القاتل لا يخاف على نفسه متى خاف على المسلمين.
بل قد وقع نحو هذا، فإن عمر رضي الله عنه استأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل ابن صَيَّاد لمَّا ظن أنه الدجال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن هو، فلن تُسَلَّطَ عليه، وإن يكن غيره، فلا خير لك في قتله ". والحديث صحيح (1).
وإن كان ابن صيادٍ صغيراً، فأفهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن غيره، فلا خير لك في قتله " أنه لا بأس بقتله لو تحقَّق أنه الدجال، لكنه لا يُسلَّط عليه (2).
وفي قصة الخَضِر والغلام الذي قتله ما يدل على هذا، وقد قال ابنُ عباسٍ (3): إن ذلك الغلام طُبِعَ كافراً.
وذكر ابن بَطَّالٍ في الباب الثاني من أبواب القدر في " شرح البخاري " مما يقوِّي ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
فإن قيل: إنه يحتمل أن قتل الدجال من قبيل المصالح، لا من قبيلِ عقوبته بما سيفعله، كما هو مذهب مالكٍ في المصالح، بل كما هو مذهبُ الأكثر في قتل المسلم إذا تترَّس به الكفار وعلمنا أنه إن لم يقتل قتلوه وقتلوا المسلمين معه.
__________
(1) رواه من حديث ابن عمر البخاري (1354) و (3055) و (6173) و (6618)، ومسلم (2930)، وأبو داود (4329)، والترمذي (2250)، وأحمد 2/ 148 و149، وابن منده في " الإيمان " (1040)، وابن حبان (6785)، وقد تقدم.
(2) من قوله: " وإن كان ابن صياد صغيراً " إلى هنا، سقط من (ش).
(3) هو من رواية ابن عباس عن أُبيّ بن كعب، وقد تقدم تخريجه 5/ 224.(7/262)
قلنا: هذا الاحتمالُ صحيحٌ، ولسنا نستقوي هذه المسألة، ولكنا نرى الاحتمال الذي معهم، فوجب أن يُجْعَلُوا من أهل التأويل، فلا يُكَفَّرُوا، ولا نقطع بعنادهم. ومما يقوي مثل هذا -أعني عدم تكفيرهم والقطع بعنادهم (1) - وورود ما يشتبه في السمع من هذا القبيل، كقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] فإنه ترك الإسماع لهم مؤاخذةً بما (2) عَلِمَ من عدم استماعهم لو أسمعهم.
وكذا ما يظهر قبل التأمل من قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (3) [الإسراء: 16]، فإن الله تعالى أراد الهلاك قبل الأمر لما سبق في علمه من فسقهم بعد، فقدم الإرادة قبل استحقاقهم، والقوي (4) خلاف هذا عندي، وليس هذا موضع بسطه، وإنما قصدتُ إيراد هذه الأشياء لبيان أنهم من أهل التأويل، وليس هذا كمن يقول: إن الله يعذِّبُ بمجرد سبق علمه بالتعذيب من غير علمٍ بذنبٍ مستقبلٍ كما ذكرنا في مسألة الدواعي، فتأمل الفرق بينهما.
وأهل هذا القول الثالث يريدون أن خلق الفعل وإبلاغ التكليف من قبيلِ الزيادة في الإعذار من الله تعالى، وإلا فعلمه (5) سبحانه الحق الذي يعلم الكل يوم القيامة أنه حقٌّ كافٍ في إقامة الحجة. بل قد تقدم أنه يجوز أن يكون الله عَلِمَ أن في عذاب أهل النار حكمةً غير الجزاء على الذنوب، كالحكمة في إيلام الأطفال والبهائم، بل مرَّ تقرير الدليل على رجحان مثل ذلك، لأن حُسْنَ التعذيب من قبيل الإباحة التي لا رُجحان فيها، والله يتنزَّه عن فعل ذلك، لأنه عبثٌ.
__________
(1) من قوله: " ومما يقوي " إلى هنا سقط من (أ).
(2) في (أ): " فما ".
(3) من قوله: " وكذا ما يظهر " إلى هنا سقط من (ش).
(4) في (ش): " والقول ".
(5) في (ش): " فعلمه السابق ".(7/263)
وإنما أراد الله إزاحة إعذار المبطلين كما ورد به الحديث الصحيح " لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل "، وشهد بذلك القرآن كما تقدم، فأراد الله أن يدخلوا النار بسبب الذنوب، لما في ذلك من الحِكَم البالغة، والمصالح الراجحة، والغايات الحميدة، كما أخرج آدم من الجنة على وجه (1) العقوبة لأجل هذه الأشياء، مع أنه ما خُلِقَ إلاَّ خليفةً للأرض، كما نص عليه القرآن، وأحاديث الأطفال تشهد بذلك، وإقامة العدل والحجة (2) عليهم، والله سبحانه أعلم، وقال ابن عبد البر: إن هذا قول الأكثرين. وعندي -والله أعلم- أنه راجعٌ إلى القول الثاني، فإنه طرفٌ منه، لكن في القول الثاني زيادة الابتلاء وإقامة الحجة يوم القيامة.
وأول أحاديثه أن من علم الله أنه يكون شقياً لو أدرك العمل، لكان من أهل النار، ولكن بزيادة الابتلاء وإقامة الحجة يوم القيامة، لكن لما كان في هذه الزيادة ما قدمنا. من الإشكالات، اقتصر أهل هذا القول على أول الحديث تورُّعاً من آخره، معتقدين أن الحجة البالغة والحكمة التامَّة لله تعالى على عباده كيف شاء.
إن هذا الاحتمال أقوى من القطع بتعيُّن (3) وجه الحكمة في الابتلاء يوم القيامة، فأما إن كانوا نَفَوُا الابتلاء يوم القيامة والحكمة، فقولهم باطل، والقول الثاني أقوى منه.
القول الرابع: إن الله تعالى قد خلقهم فيما مضى، وكلفهم وعصوا، فبذلك استحقوا العذاب، ويحتجون على ذلك بالحديث المشهور في إخراج ذرية آدم من صُلبه على صورة الذَّرِّ، وخطابهم بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] كما سيأتي تفصيله. روى هذا الترمذي وحسَّنه، ورواه أحمد
__________
(1) في (ش): جهة.
(2) في (ش): " والحكمة "، وهو تحريف.
(3) في (ش): بتعيين.(7/264)
والنسائي وابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ وابن حبان في " صحيحه " من طرق عن الإمام مالكٍ من طريق مسلم بن يسارٍ الجهني، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يُدركه (1).
قال أبو حاتم: وبينهما نُعَيْم بن ربيعة، وقد رواه أبو داود (2) كذلك، وقال الدارقطني (3): هو الصواب، وقد تقدَّم تفصيل ذلك في أحاديث الأقدار.
وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، رواه أحمد في " المسند " (4)، وقال الهيثمي (5): رجاله رجال الصحيح، والحاكم في " المستدرك " (6). وروى الترمذي (7) مثله في التفسير عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: حديث حسن صحيح. قال: وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال ابن كثير في " البداية والنهاية " (8): وروي هذا عن ابن عمرو مرفوعاً، قال: وحديث ابن عباس جيد الإسناد على شرط مسلم، إلاَّ أن الأكثر وقفه عليه.
__________
(1) هو في " الموطأ " 2/ 898 - 899، ومن طريق مالك رواه أحمد 1/ 44 - 45، وأبو داود (4703)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 114، والترمذي (3075)، وابن جرير الطبري في " جامع البيان " (15357)، وابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " 2/ 273، وصححه ابن حبان (6166)، والحاكم 1/ 27 و2/ 324 - 325 و544، ووافقه الذهبي في الموضعين الثاني والثالث، وخالفه في الموضع الأول، فقال: فيه إرسال. وانظر التعليق على هذا الحديث في " صحيح ابن حبان "، و" شرح العقيدة الطحاوية " 1/ 305.
(2) برقم (4704)، ونقل ابن كثير قول أبي حاتم هذا في تفسيره 3/ 503.
(3) في " العلل " 2/ 222.
(4) 1/ 272، وهو حديث صحيح، وسيأتي التعليق على إسناده قريباً.
(5) في " المجمع " 7/ 25.
(6) 1/ 27 و2/ 544.
(7) برقم (3076)، وقد تقدم تخريجه من غير طريق الترمذي 6/ 322.
(8) 1/ 83، وأخرجه في " التفسير " 2/ 273 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وعزاه لابن جرير. وانظر " جامع البيان " (15354) و (15355) و (15356).(7/265)
قال أحمد: حدثنا حسين بن محمد، حدثنا جرير، يعني: ابن حازم، عن كلثوم بن جبر (1)، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس يرفعه. ثم قال ابن كثير: رواه ابن جرير، والنسائي، والحاكم من حديث حسين ابن المروزي به، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2).
وروى ابن كثير (3) مثل ذلك من حديث أبي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من طريق أبي جعفر الرازي، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبي بن كعب.
ثم قال: رواه عبد الله بن أحمد، وابنُ أبي حازمٍ، وابن مردويه، وابن جريرٍ في تفاسيرهم.
قلت: ورواه الحاكم (4) مطولاً، وقال: صحيح الإسناد، وذكر أن الله أخذ من النبيين ميثاقاً آخر، وفُسِّر به قوله: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الآية [الأحزاب: 7]، وفُسِّر بذلك قوله: {فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30]، وقوله: {هذا نذيرٌ من النذر الأولى} [النجم: 56]، وقوله: {وما وجدنا لأكثرهم من عهدٍ} [الأعراف: 102]، وقوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا
__________
(1) تحرفت في الأصلين وكذا عند ابن كثير في " التاريخ " والتفسير إلى " جبير ".
(2) قلت: وتمام كلام ابن كثير: إلاَّ أنه اختلف فيه على كلثوم بن جبر، فروي عنه مرفوعاً وموقوفاً، وكذا روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً، وهكذا رواه العوفي والوالبي والضحاك وأبو جمرة عن ابن عباس قوله، وهذا أثبت وأكثر والله أعلم. قلت: الحديث في " المسند " 1/ 272، ورواه أيضاً ابن جرير في " جامع البيان " (15338)، والنسائي في " التفسير " كما في " التحفة " 4/ 440، والحاكم 1/ 27 و2/ 544، وابن أبي عاصم في " السنة " (202)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 327. وقال الحاكم: وكلثوم بن جبر احتج به مسلم. وقال النسائي: كلثوم هذا ليس بالقوي، وحديثه ليس بالمحفوظ. قلت: قد وثقه أحمد وابن معين.
(3) في " البداية والنهاية " 1/ 84، و" التفسير " 2/ 274، وقد تقدم تخريجه 6/ 322.
(4) 2/ 323 - 324.(7/266)
بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْل} [يونس: 74]، قال: كان في علمه يوم أقروا بما أقروا به من يصدق به ومن يكذب.
قال ابن كثير (1): وروي عن مجاهدٍ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والسُّدِّيِّ، وقتادة وغير واحد من علماء السلف بسياقاتٍ توافق هذه الأحاديث.
ورواه ابن كثير من غير ذكر الإشهاد من طرق جمة، عن أبي هريره (2)، وأبي الدرداء (3) مرفوعاً، وعن الحسن (4) وابن عباس موقوفاً (5).
وقال ابن كثير (6): إن ذكر الإشهاد في الحديث هو قول الجمهور، وقد استوفى ما ورد في هذا في تفسير هذه الآية (7).
وقال الهيثمي (8) في حديث أُبي بن كعب المقدم: رواه عبد الله بن أحمد، عن شيخه محمد (9) بن يعقوب الرَّبالي (10)، وهو مستور، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وروى ما يقتضي صحته أحمد بن عيسى بن زيد بن علي رضي الله عنهم في كتاب " الأمالي " المعروف بعلوم آل محمد، فقال في الحج في زيارة البيت (11)
__________
(1) في " البداية والنهاية " 1/ 84، وفي " التفسير " 2/ 274 - 275.
(2) تقدم قريباً.
(3) تقدم تخريجه 6/ 408، وإسناده صحيح.
(4) تقدم تخريجه 6/ 322 و410.
(5) الرواية الموقوفة أخرجها الطبري في " جامع البيان " (15339) - (15341).
(6) " البداية والنهاية " 1/ 83.
(7) " البداية والنهاية " 1/ 83، وانظر " تفسير ابن كثير " 2/ 272 - 275.
(8) " مجمع الزوائد " 7/ 25.
(9) في (ش): " ابن محمد ... "، وهو خطأ.
(10) تحرف في الأصلين إلى " الرماني ".
(11) عبارة " في زيارة البيت " ساقطة من (أ).(7/267)
في الجزء الخامس من تجزئته: عباد يعني: ابن يعقوب، عن يحيى، يعني: ابن سالم، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر أن الله حين أخذ ميثاق بني آدم من ظهورهم استودعه هذا الحجر فمسُّكم إياه بيعتكم (1) فيما عاهدتم عليه حين أخذ ميثاقكم أن الله ربكم. انتهى.
ولم أجد هذا في فضائل الركن في الكتب الستة، ولا في " مجمع الزوائد "، وتقدمت عشرة أحادث في أحاديث القدر (2) في كل واحد منها ذكر إخراج أهل الجنة من كتف آدم اليمنى، وأهل النار من كتفه اليسرى، أولها الحديث الخامس والخمسون عن أبي الدرداء وأم هانىء، وآخرها الرابع والستون عن الحسن البصري.
وفي الأحاديث الصحاح شواهد قوية بهذا المعنى، فمنها: ما رواه البخاري ومسلمٌ وأحمد عن أنس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أن الله عزَّ وجلَّ يقول لأهون أهل النار عذاباً: لو أن ما في الأرض من شيءٍ كنت تفتدي به؟ قال: نعم، فقال: قد سألتك أهون من هذا وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا الشرك " (3).
ومن ذلك ما ثبت في " الصحيحين " (4) عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقهم، قامت الرحم، فقال: مه؟ قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة ".
وتقدم حديث عبد الله بن عمرو (5) سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله
__________
(1) في (أ): تبعتكم.
(2) 6/ 408 - 410.
(3) رواه أحمد 3/ 218، والبخاري (3334) و (6538) و (6557)، ومسلم (2805)، وابن حبان (7351)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) البخاري (4831) و (4832)، ومسلم (2554)، ورواه أيضاً ابن حبان (441)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(5) انظر 6/ 394 - 395.(7/268)
خلق خلقه في ظُلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور، اهتدى، ومن أخطأه، ضل ". رواه البيهقي في " الأسماء والصفات "، وأحمد في " المسند "، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.
فهذه الآثار وأمثالها تقوِّي القول بإخراج ذرية آدم من صلبه مرة أولة. ويدل عليه أيضاً ما ذكره ابن عبد البر وغيره في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] فإنهم فسروا إسلام الخلق كلهم بذلك، وقالوا: إن الله تعالى لما قال لهم: {ألست بربكم}؟ قالوا: كلهم: {بلى}، فأمَّا أهل السعادة، فقالوا عن معرفة له طوعاً، وأما أهل الشقاوة، فقالوه كرهاً.
ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُم} [آل عمران: 106] ففيه أن كل كافر قد كفر بعد إيمانه، وهذا لا يصح ظاهره في هذا التكليف المعلوم لنا، وكذلك ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11]، فظاهرها خلق جميع المخاطبين قبل الأمر بالسجود لآدم في عالم الذر، وهو قول مجاهدٍ، وقتادة، والربيع، والضحاك، ومجاهد من أصح المفسرين تفسيراً وقتادة -على حفظه- من قدماء المعتزلة في مسألة الأفعال.
فأما قول ابن عباس: " خُلِقُوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء "، فلا يناقض هذا، وإن كان الحاكم صححه على شرط الشيخين (1)، فإن الجميع من الخلق والتصوير ممكن أنه كان في ذلك الخلق الأول، وذلك داخل، وهو ظاهر الترتيب في قوله: {ثم قلنا للملائكة} [الأعراف: 11].
ويترجح بما تقدم والله سبحانه أعلم على أنه موقوفٌ، لا يجب أو لا يجوز ترك الظاهر له، خصوصاً مع عدم شذوذ القائل به وكثرة شواهده.
__________
(1) " المستدرك " 2/ 319، ووافقه الذهبي على تصحيحه.(7/269)
وكذلك قوله تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَة} [الأعراف: 29 - 30].
وكذلك قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُم} [البقرة: 28] فإن الموت في الحقيقة لا يكون إلاَّ بعد حياة، ولا يجوز حمل كتاب الله على المجاز في جميع هذه الآيات المتقدمة إلاَّ لضرورة تمنع من الظاهر، ولا ضرورة في حق من هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء بصير.
فإن قلت: قوله تعالى: {أمتنا اثنتين} [غافر: 11] ينافي ذلك، لأنه يؤدي إلى الإماتة ثلاث مرات.
قلنا: بل هو أحد الأدلة على ذلك، فإن موتهم بعد ذلك الخلق الأول في عالم الذر هو الموتة الأولى، وموتهم بعد هذا الخلق الثاني هو الموتة الثانية.
هذا هو الأظهر ويؤكده أن المرتبتين (1) مما يختص بالإقرار به أهل الحق، بدليل قوله تعالى: {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين} [الصافات: 58 - 59]، وقوله تعالى: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيل} [غافر: 11].
فأما تسمية النطفة ميتةً مجازاً، فلم يخالف فيه كافرٌ ولا مبتدع، ولا ورد الشرع بوجوب اعتقاده، ولا يسمى معتقده مؤمناً.
وأما قوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] فمفهومٌ لا ينتهض لمعارضة المنطوقات متى سُلِّم أنه مفهومٌ صحيحٌ، وليس بمسلَّمٍ، لأنه استثناء من الموت المذوق، وهو المؤلم، وأحد الموتتين يمكن أنها كانت غير مؤلمةٍ، كالنوم الذي سماه الله تعالى وفاةً في قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42]. ويدل على ذلك أنه لا يشترط في تسمية الموت أن يكون مذوقاً حقيقة أو مجازاً في اللغة، فجاز
__________
(1) في (ش): " أهل المرتبتين ".(7/270)
انقسامه إلى مَذُوقٍ وغير مذوق، والاستثناء (1) من أحد القسمين -وهو المذوق- دون الآخر، مع أن أهل الجنة لا يذوقونه في الجنة، فوجب أن يكون الاستثناء منقطعاً.
وإنما سماها الموتة الأولى بالنظر إلى تقدمها لوقت الكلام، لا بالنظر إلى أول موتة على الإطلاق، كما يقول: الساعة الأولى، ولا يعني بها أول ساعة، بل ساعة قبلها، وكذلك الصلاة الأولى، يؤيده أنه لا يصح في العربية أن يقال: الأولى من كذا، فكانت بمنزلة: زيدٌ الأفضل، فإنه لا يتعين المفضل عليه إلا فيما ذكرت فيه " من ".
ولو سلمنا أنه ظاهرٌ في أول موتة، فجائزٌ أن تكون الموتة الأولى في الجنة يوم خلق عالم الذر، لأن آدم في ذلك العصر كان في الجنة قبل أن يذنب ويخرج منها، ويكون الاستثناء على هذا متصلاً، ولا يَرِدُ عليه أن الجنة التي كان فيها آدم غير جنة الخلد، لأنه لا دليل على ذلك، ويدل عليه ظاهر قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَم} [الأعراف: 11].
فهذا يقتضي أن خروجهم على صور الذَّرِّ كان في الجنة، لأن خروج آدم كان بعد لأمر بالسجود، وقد جعله الله بعد تصوير الجميع، والظاهر أن حياتهم لم تطل، فهذا محتملٌ أيضاً، ومنتهى ما فيه أن نقف في معنى هذا لاشتباهه، ونقول بمعنى تلك الآيات لظهوره.
فأمَّا قولهم: إن الموتة الأولى (2) هي التي بعد الخلق، وهي المعلومةُ للجميع، والموتة الثانية التي تكون في القبر بعد الحياة فيه، فليس بقوي، لأن تلك الموتة التي في القبر مثل النوم، لأنها متكررة كل يوم، لقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] ولما ورد في الحديث من عرض مقاعدهم عليهم في الجنة أو النار كل يوم (3)، ولما ورد في عذاب
__________
(1) في (ش): والمستثنى.
(2) " الأولى " ساقطة من (أ).
(3) روى مالك في " الموطأ " 1/ 239، ومن طريقه أحمد 2/ 113، والبخاري =(7/271)
القبر، وهو لا يكونُ إلاَّ مع الحياة.
وقد تقدم أن الله تعالى سمى النوم وفاة، ويجور أن يكون في الخلق من مات مرتين فقط، وفيهم من مات أكثر، وفيهم من لم يمت إلاَّ مره واحدة كالملائكة.
والذين ماتوا أكثر من ثِنْتَيْنِ، كالذي أماته الله مئة عام ثم بعثه، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، والرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه الله تعالى كما ثبت في الحديث الصحيح (1).
وفي الحديث: " أنا أول من تنشق عنه الأرض، فإذا موسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش، فما أدري أكان ممن استثناه الله تعالى، أم حوسب بصعقة الطُّور؟ " (2).
__________
= (1379)، ومسلم (2866)، والنسائي 4/ 107 - 108، وابن حبان (3130)، والبيهقي في " إثبات عذاب القبر " (48)، والبغوي (1524) من حديث ابن عمر يرفعه: " إن أحدكم إذا مات عُرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة، فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار، فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة ".
(1) روى عبد الرزاق (20824) من حديث أبي سعيد الخدري، حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدجال، فقال فيما حدثنا: " يأتي الدجال وهو محرَّم عليه أن يدخل أنقاب المدينة، فيخرج إليه رجل وهو خير الناس يومئذ، أو من خيرهم، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته، أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيسلط عليه، فيقتله، ثم يحييه، فيقول حين يحيى: والله ما كنت بأشد بصيرة فيك مني الآن، فيريد قتله الثانية، فلا يسلط عليه ". ومن طريق عبد الرزاق رواه أحمد 3/ 36، وابن حبان (6801)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) رواه البخاري (2412) و (3298) و (4638) و (6916) و (6917) و (7427) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً بلفظ: " لا تحيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق، أم حوسب بصعقة الأولى؟ ". =(7/272)
ففيه إشارةٌ إلى تجويز أن يكون موسى عليه السلام ممن مات أكثر من مرتين، إذاً لم يُحاسب بالصعقة (1)، وكانت تسمى موتة.
فإن قلت: كيف يجوز على العقلاء نسيان تلك الحياة الأولة؟
فالجواب: أنه لا مانع من ذلك، فإن الذكر والنسيان من أفعال الله تعالى بالإجماع، وإنما اشترط بعض أهل الكلام أن لا ينسى العاقل الأمور العظيمة القريبة العهد، لأن ذلك من علوم العقل التي ينبني عليها التكليف، فهو عند بعضهم يُخِلُّ بالحكمة، لا لأن الله تعالى غير قادر على أن يُنْسِيَها العبد، والنسيان لما كان في الخلق الأول لا يخل بشيء في الحكمة ولا في القدرة، وبخاصةٍ ومدة تلك الحياة قصيرةٌ إنما كانت قدر ما يتسع للسؤال والجواب على ما يفهم من سياق الأحاديث أو بعضها، فصارت كالرؤيا التي جرت العادة بنسيان كثير منها، وذكرها بعد نسيانها من شاء الله، وإنما الباطل ما ذكره كثير من الفلاسفة أن النفس كانت قديمة أزلية مجردة، ثم تعلقت بالبدن، وهي لا تذكر ذلك بعد طوله، والله سبحانه أعلم.
فإن قيل: إن الله سبحانه وتعالى قال: {وإذ أخذ ربُّك من بني آدم}
__________
= قال الإمام ابن القيم في " الروح " ص 54، ونقله عنه ابن أبي العز الحنفي في " شرح العقيدة الطحاوية " 2/ 603 بتحقيقنا: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين، فجاء هذا، والحديثان هكذا:
أحدهما: " إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق ".
والثاني: هكذا: " أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ... ".
فدخل على الراوي هذا الحديث في الحديث الآخر.
قلت: الحديث الأول رواه البخاري (2411) و (3408) و (6517) و (7428)، ومسلم (2373) (160)، وأبو داود (4671)، والبغوي (4302) من حديث أبي هريرة.
والحديث الثاني تقدم تخريجه 1/ 176 - 177.
(1) من قوله: " ففيه إشارة " إلى هنا سقط من (ش).(7/273)
[الأعراف: 172] ولم يقل: من آدم، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه لا يلزم في هذه الأحاديث أن تكون تفسيراً للآية، ولا واردة في معنى الآية، لكنها لما كانت شبهة بمعنى الآية، ذكروها مع الآية، لتقاربهما في المعنى، لا لاتحادهما فيه، وهو اختيار ابن كثير، فثبت أن الأحاديت حجة في المقصود، وإن لم تكن تفسيراً للآية.
الوجه الثاني: الجمع بين الآية والأحاديث بالتأويل، وقد ذكر في ذلك وجهان، ولا حاجة إلى التطويل بذكر ذلك، لكراهة التعرض لتأويل المتشابه، وفي الوجه الأول كفاية.
ويحتمل وجهاً آخر ليس فيه مخالفةٌ للظاهر، وهو أن يكون أخرجهم في المرة الأولى متناسلين بعضهم من بعضٍ كما أخرجهم في المرة الآخرة، وهو قول الواحدي.
وقيل: أخرج الذرية قرناً بعد قرنٍ، وعصراً بعد عصرٍ.
فهذا جملة ما حضرني مما ذكره أهل السنة في كتب الحديث وشروحها من وجوه الحكمة في ذلك على تقدير وقوعها.
والقصد بهذا كله أن لا يقطع على ثقات الرواة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنهم كذبوا أحاديث الأطفال، كما يجري على ألسنة كثير من المبتدعة فيما لم يعرفوا تأويله، وذلك أن رواة أحاديث الأطفال وغيرها مما ينكره أهل البدع هم رواة كثيرٍ من أحكام الشريعة، وفي تكذيبهم أو تُهمتِهم خللٌ عظيمٌ يرجع على جميع فرق الإسلام، وليس يعرفُ هذا إلاَّ من عرف من روى هذه الأحاديث كلها، وليس المراد من روى الأحاديث المصرحة بأنهم جميعهم في النار.
وقد قدمنا أنه لم يصح منها حديثٌ واحد، ولكن الأحاديث المفهوم ذلك منها من غير تصريحٍ مثل الأحاديث التي فيها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عنهم(7/274)
قال: " هم مع آبائهم، أو من آبائهم " فقيل له: بعملٍ أو بغير عملٍ؟ فقال: " الله أعلم بما كانوا عاملين " (1). وأيضاً فالأحاديثُ التي لم تصح في الباب إنما لم تصح (2) على قواعد المحدثين، وأما على قواعد غيرهم، فإنها تصح على كلامهم مثل حديث خديجة، فإن المحدثين قدحوا فيه بالإرسال، فمن يقبلُ المرسل يقول بصحته، وكذلك من لا يرُدُّ الراوي بالضعف اليسير يقبل كثيراً من رواتها، وهو مذهب الأصوليين، وكذلك من لا يقدح بالعلل، وأمثال ذلك.
وعلى الجملة، فلولا شهرة الآثار الواردة في هذا الباب، ما اختلف عاقلان أبداً، فإن العقول تقتضي أن الله تعالى لا يعذب العصاة على معاصيهم، لسعة رحمته وكرمه، وغناه التام عن تعذيبهم، وعدم تضرره بذنوبهم، ولولا ورود السمع بعذاب المذنبين ما قال به قائل.
ولكن الشريعة المطهرة وردت بالابتلاء الشديد في الأعمال بالميثاق، والعقائد بالمتشابه، وأحسن المؤمنين إيماناً أثبتهم إيماناً بما يخالف عقله بشهادة قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143]، وقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّب} [آل عمران: 179]، وقد تقدم هذا المعنى عند ذكر الحكم في تقدير الشرور وإنزال المتشابه في مسألة الأقدار، فليراجع في موضعه، فإنه نافع إن شاء الله.
والقصد ببسط الكلام في هذه المسألة وما تقدمها من المشكلات:
المبالغة في حمل المسلمين على السلامة، لما ورد في الأخبار المتواترة من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسلم أن يحب للمسلمين ما يحب لنفسه (3)، ومن ورود الثناء في
__________
(1) حديث صحيح. رواه أحمد 6/ 84، وأبو داود (4712) من حديث عائشة.
(2) قوله: " في الباب إنما لم تصح " سقط من (ش).
(3) روى أحمد 3/ 176 و251 و272 و289، والبخاري (13)، ومسلم (45) من حديث أنس مرفوعاً: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " وصححه ابن حبان (234) و (235)، وانظر تمام تخريجه فيه.(7/275)
القرآن العظيم على الذين يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، وجاء في النهي عن التباغض ما لا يخفى (1)، وجاء في " الصحيح ": " بحسب امرىء من السوء أن يحقر أخاه المسلم " (2).
المسأله الثانية مما يتوهم مخالفتهم فيه: تعذيب المسلم الميت ببكاء الحي عليه.
والجواب عنهم من وجوه:
الأول: أن منهم من تأول ذلك بالوصية ونحوها، منهم البخاري في " الصحيح، (3) والخطابي (4)، وحكاه عنه ابن الأثير في شرح غريب حرف الميم (5)، والنواوي في " رياض الصالحين " (6)، وفي " الروضة " (7) ذكره في كتاب الجنائز منها. وقال في " شرح مسلم " (8) في كتاب الجنائز منه: إنه قول الجمهور، وإنه الصحيح. قال: وقالوا: فأما من بكى عليه أهله من غير وصيةٍ منه فلا يعذب، لقوله تعالى: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى} [الإسراء: 15]، قالوا:
__________
(1) روى مالك في " الموطأ " 2/ 907، ومن طريقه البخاري (6076)، وفي " الأدب المفرد " (398)، ومسلم (2559) (23)، وأبو داود (4910)، وابن حبان (5660)، وأبو نعيم في " الحلية " 3/ 374، والبغوي (3522) من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ".
(2) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 1/ 189.
(3) في الجنائز: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه ".
(4) في " معالم السنن " 1/ 303.
(5) من " جامع الأصول " 11/ 93 - 94.
(6) ذكر الإمام النووي الحديث في " رياض الصالحين " ص 625 بتحقيقنا تحت باب تحريم النياحة على الميت ولم يعلق عليه بشيء.
(7) 2/ 145 بتحقيقنا مع صاحبنا العلامة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط.
(8) 6/ 228 - 229.(7/276)
وكان من عادة العرب الوصية بذلك، ومنه قول طرفة بن العبد:
إذا مِتُّ فانعيني (1) بما أنا أهلُه ... وشُقِّي عليَّ الجَيْبَ يا ابنة مَعْبَدِ (2)
فخرج الحديث مطلقاً حملاً على ما كان معتاداً لهم.
وقالت طائفةٌ: هو محمولٌ على من أوصى بذلك، أو لم يوص بتركه، فإنه يعذب بتفريطه في إهماله الوصية بتركه، وحاصل هذا إيجاب الوصية بتركه ذلك.
وقالت طائفة: معنى ذلك أنهم كانوا ينوحون بتعديد محاسن الميت في زعمهم، وهي قبائح في الشرع، نحو قولهم: يا مُرَمِّل النسوان، ومُوتّم الولدان، ومُخرِّب العمران، مما يرونه شجاعةً وفخراً، فيعذب بذلك القبيح (3).
وقالت طائفة: إنه يعذب بسماعه لبكاء أهله، لأنه يرق لهم. وإلى هذا ذهب محمد بن جرير وغيره (4).
__________
(1) في (أ) و (ش): فابكيني، والتصويب من شرح مسلم.
(2) تحرف في (ش) إلى: " يا أم معبد "، والبيت من جاهليته السائرة التي مطلعها:
لخولة أطلالٌ بِبُرْقَة ثَهْمَدِ ... تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليد
قال التبريزي في " شرح القصائد العشر " ص 121: انعيني، أي: اذكري من أفعالي ما أنا أهله، يقال: فلان ينعى على فلان ذنوبه: إذا كان يعددها عليه ويأخذه بها. وقال الأعلم الشنتمري في " أشعار الشعراء الستة " 2/ 55: أوصى ابنة معبد أن تذيع خبر وفاته، وأن تثني عليه، وأن تشق جيبها، وابنة معبد: قيل: هي زوجه، وقيل: بنت أخيه.
(3) قال الإسماعيلي فيما نقله عنه الحافظ في " الفتح " 3/ 155: ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون، ويَسْبُون، ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكيته بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به، لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زبادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها.
(4) ورجحه القاضي عياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة الثقفية التي سيذكر المؤلف موضع الشاهد منه.(7/277)
وقال القاضي عياض: وهو أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زجر امرأة عن البكاء على أبيها، وقال: " إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه، فيا عباد الله، لا تعذبوا إخوانكم " (1).
وقال ابن الأثير في شرح قوله: " إن الميت لَيُعَذَّب ببكاء أهله عليه " في كتاب الموت من حرف الميم (2) في شرح غريبه ما لفظه: قال الخطابي: يشبه أن يكون هذا من حيث إن العرب كانوا يوصون أهاليهم بالبكاء والنوح عليهم، وإشاعة النعي في الأحياء، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وموجوداً في أشعارهم كثيراً. قال: تلزمه العقوبة في ذلك بما تقدم من أمره إليهم وقت حياته. انتهى بحروفه.
الوجد الثاني: أنت من قرَّره على ظاهره منهم، قطع أن له وجه حكمةٍ لا يعلم تأويله إلاَّ الله، كما هو مذهبهم في جميع المتشابه.
الوجه الثالث: ما قدمنا في المسألة الأولى من حكاية إجماعهم على أنه يجوز في البرزخ ما يجور في دار التكليف من الامتحان بالآلام، والأمور المشتبهة، وقد أجمعت الأمة على أن ذرية المشركين الذين لم يذنبوا يلحقهم الرِّق في الدنيا بسبب كفر آبائهم، ويتمشى تأويل هذا على كل مذهب، فإنه لم يخرج مخرج العقوبة لمن لا ذنب له بذنب غيره.
وكذلك تعذيب الميت ببكاء أهله (3) ليس فيه تصريحٌ بأنه عقوبة له، ومنتهى ما فيه دخول الباء، فلا يدل على العقوبة، كاسترقاق الذرية بكفر (4) آبائهم.
__________
(1) قطعة من حديث مطول رواه الطبراني في " الكبير " 25/ (1)، وابن أبي شيبة وابن أبي خيثمة، كما في " الفتح " 3/ 155، وابن منده كما في " الإصابة " 4/ 380، وحسَّن إسناده الحافظ في " الفتح "، وقال ابن عبد البر في " الاستيعاب " 4/ 381: وقد شرحه أهل العلم، وهو حديث حسن.
(2) من " جامع الأصول " 11/ 93 - 94 الطبعة الشامية.
(3) " أهله " ساقطة من (أ).
(4) في (ش): " بذنب ".(7/278)
وقد ذكر الذهبي ما يدلُّ على هذا في " النبلاء " (1)، أظنه في ترجمة سعد بن معاذ، فإنه ذكر أن ضمة القبر من جملة الآلام التي تصيب المؤمن وغيره، كآلام الدنيا. وهذا ممشى على أصول المعتزلة، فإن منهم من يجيز الألم متى كان للألم عِوَضٌ، ولا مانع من هذا بعد الموت، ومنهم: من يَشْرُطُ مع العوض للاعتبار، ولا مانع منه أيضاً، فإنه يجوز أن يعتبر به المكلَّفون لعلمهم به، وتصديقهم له.
وقال ابن عبد السلام في " قواعده " (2) في قاعدة عقدها في المستثنى من القواعد الشرعية: الثاني والعشرون: الصلاة واجبة على الأموات، لافتقارهم إلى رفع الدرجات، وتكفير السيئات، إلاَّ أن الأطفال لا يدعى لهم بتكفير (3) السيئات.
وقد روى مالكٌ، عن سعيد بن المسبب أنه سمع أنساً (4) يدعو لصبيٍّ في الصلاة عليه أن يُعيذه الله من عذاب القبر. وهذا ليس ببعيدٍ، إذ يجوز أن يُبتلى في القبر كما يبتلى في الدنيا، وإن لم يكن له ذنبٌ، فيجوز أن يكون هذا رأياً من أنس، و [يجوز] أن يكون أخذه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انتهى.
وهو مثل كلام الذهبي في تشبيه ذلك بآلام الدنيا، وعدم خُلُوه من الحكمة إن ثبت ذلك على الصحيح، والله أعلم.
الوجه الرابع: أن يكون الميت يستحق العذاب، ويكون البكاء عليه سبباً لوقوع العذاب في ذلك الوقت، فقد جاء في " الصحيح ": " من نُوقِشَ الحساب، عُذِّبَ " (5) وله شواهد في الصحاح، ومن لم يُبْكَ عليه أُخِّر عذابه
__________
(1) 1/ 290 في ترجمة سعد بن معاذ.
(2) 2/ 142 - 143، وما بين حاصرتين منه.
(3) في (أ) و (ش): تكفير، والمثبت من " القواعد ".
(4) " الموطأ " 1/ 228، لكن فيه: عن أبي هريرة، وليس عن أنس، والخطأ من ابن عبد السلام، وتابعه عليه المؤلف.
(5) تقدم تخريجه 5/ 274، وهو حديث صحيح.(7/279)
المستحق حتى يجازى به في الآخرة أو يُعفى عنه. وإلى نحو هذا ذهبت عائشة، فإنها ذهبت إلى أن الكافر وغيره من أصحاب الذنوب يعذب في حال بكاء أهله عليه بذنبه، لا ببكائهم. حكاه النواوي عنها في شرح " مسلم " (1) وهو نحوه، إلاَّ أن فيما لخصته زيادةً حسنةً تناسب كون البكاء سبباً للعذاب المستحق، لا موجباً له، والله أعلم. وتكون الحكمة في تعجيل العقوبة المستحقة بسبب البكاء الزَّجر عنه.
ومع هذه الوجوه وما لا تحيط به العقول من حكمة الغنيِّ الحميد، الذي لا يُتَّهَمُ بظلم العبيد، كيف يسوغ تكذيب الثقات في رواية الأخبار النبوية، ونسبتهم إلى تجويز الظلم إلى بارىء البرية، وقد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تكذيب اليهود فيما نقلوه من الإسرائيليات (2)، فالعجب ممن يتجرأ مع ذلك على تكذيب الثقات الأثبات.
فهذا ما وعدنا به من ذكر مذاهب أهل السنة على جهة الخصوص في إثباتهم حكمة الله عزَّ وجلَّ في هاتين المسألتين من المتشابه الذي لا تدرك العقول منه إلاَّ ما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فصل: وأما ما وعدت به من ذكر مذاهبهم في ذلك على جهة العموم، فذلك كله إجماعٌ من أهل السنة، وقد ذكر ذلك الزنجاني في شرح قصيدته الرائية الشهيرة بالحث على السنة التي أولها:
__________
(1) 6/ 228، وروى مالك في " الموطأ " 1/ 234 ومن طريقه أحمد 6/ 107، والبخاري (1289)، ومسلم (932) (27)، والترمذي (1600)، والنسائي 4/ 17 - 18، وابن حبان (3123) من طريق عمرة بنت عبد الرحمن أنها سمعت عائشة، وذكر لها أن ابن عمر يقول: إن الميت ليعذب ببكاء الحي، قالت عائشة: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يُبكى عليها، فقال: " إنهم يبكون عليها، وإنها لتعذَّب في قبرها ".
(2) انظر ص 145 (ت) رقم (1).(7/280)
تَمَسَّك بحبلِ الله واتبع الخبر
وقد نص على ذلك الإمام الشافعي في أوائل كتاب " الأم " ولم يحضرني لفظه، فلينظر فيه.
وقال ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ": إنه إجماع الفقهاء كما سيأتي.
ولما حكى الذهبي عن عكرمة قوله: إن الله أنزل المتشابه ليضل به، قال الذهبي: ما أسوأها عبارة وأخبثها، بل أنزله ليهدي به وليضل به الفاسقين. وهذا منه -رحمه الله- إشارةٌ إلى قول الله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]. ذكره في ترجمة عكرمة من " الميزان " (1).
وقال ابن كثير في الأول من " البداية والنهاية " (2) في قصة نوح عليه السلامُ في تفسير (3) قوله فيما حكى الله عنه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون} [هود: 34]: أي: من يرد الله فتنته، فلن يملك أحدٌ هدايته، هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، وهو الحكيم العليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة. انتهى بحروفه.
وتقدم قول ابن الجوزي (4): بُتَّ الحكم، فلم يعارض بـ " لِمَ " فأقدام الطلب (5) واقفةٌ على جمر التسليم.
وقال النواوي في " الأذكار " (6) في حديث " والشر ليس إليك " (7): أي: ليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمتك، فإنه لا يفعل العبث، وفي شرح " مسلم " (8) مثله.
__________
(1) 3/ 94.
(2) 1/ 102.
(3) في (أ): " قصة ".
(4) " العواصم ": 3/ 324.
(5) في الأصلين: " الطالب "، وكتب فوقها في (أ): " الطلب ظ ".
(6) ص 93.
(7) تقدم تخريجه 5/ 296.
(8) 6/ 59.(7/281)
وقال أيضاً في كتابه " التبيان في آداب حملة القرآن " في الباب التاسع (1) منه: فصلٌ: وينبغي لمن أراد السؤال عن تقديم آيةٍ على آيةٍ في المُصحف أو مناسبة هذه الآية في هذا الموضع ونحو ذلك أن يقول: ما الحكمة في كذا.
انتهى بحروفه. ولم يعترضه في ذلك أحدٌ، بل ما زال علماء الإسلام يذكرون الحكمة في ذلك خصوصاً أئمة التفسير، وعلماء الأمة مُجمعون على تقرير ذلك وتصويبه سلفهم وخلفهم.
قال الشيخ العلامة محمد بن موسى الدميري الشافعي (2) في كتابه " حياة الحيوان " (3) في ذكر الذباب من حرف الذال: إن الله تعالى خلق الذبابة، وجعل لها الهداية إلى أن تُقَدِّم الجناح الذي فيه الداء، وتؤخِّر الذي فيه الدواء، لما فيه من الابتلاء الذي هو مَدْرَجَة (4) التعبد (5)، ومن (6) الامتحان الذي هو مِضمار التكليف، وله في كل شيء حكمةٌ وما يذَّكَّر إلاَّ أولو الألباب.
بل حكى هذا الكلام عن الإمام الخطَّابي (7) وقرره، فاتفقا معاً عليه، وردّا معاً على من طعن في الحديث الوارد من طريق أبي هريرة وأبي سعيدٍ (8)، وتكلَّفا
__________
(1) بل في الباب السابع ص 141 منه بتحقيق صاحبنا الأستاذ العلامة عبد القادر الأرنؤوط نفع الله به.
(2) هو محمد بن موسى بن عيسى بن علي، أبو البقاء كمال الدين الدميري، مهر في الفقه والأدب والحديث، وشارك في الفنون، ووعظ وخطب فأجاد، وكان ذا حظ من العبادة توفي سنة 808 هـ. وكتابه " حياة الحيوان " قال عنه السخاوي: إنه نفيس أجاده وأكثر فوائده، مع كثرة استطراده فيه من شيءٍ إلى شيءٍ. انظر " إنباء الغمر " 5/ 347، و" الضوء اللامع " 10/ 59.
(3) 1/ 505.
(4) تحرفت في الأصلين إلى " مدحه "، والمثبت من " حياة الحيوان " و" السنن ".
(5) تحرفت في (ش) إلى: " العبد ".
(6) " من " لم ترد عند الدميري والخطابي.
(7) وهو عنده في " معالم السنن " 4/ 259.
(8) رواه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 229 و246 و355 و388 و398 و446، =(7/282)
الوجوه الغامضة في الرد، ولو كان نفي الحكمة يسوغ عندهما، كان أقرب وأقطع.
وقال شيخ الحنابلة ومتكلمهم ابن قيم الجوزية في كتابه " حادي الأرواح " (1): محالٌ على أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين أن تكون أفعاله معطلة عن المصالح والغايات المحمودة، والقرآن والسنة والعقول والفطر والآيات شاهدة على ذلك.
وقال أيضاً في كتاب " الجواب الكافي " (2) له: إنه ما قدر الله حق قدره من نفى حقيقة حكمته التي هي الغايات المحمودة المقصودة بفعله.
وقال ابن العربى المالكي المتكلم في شرح " الترمذي " (3) ما لفظه: فإن الباري لا يجوز عليه الإهمال بحالٍ ولا بوجهٍ، وقد وهم (4) في ذلك المتكلمون من علمائنا في بعض الإطلاقات على الله، وذلك قبيح، فلا تلتفتوا إليه. انتهى بحروفه. وهو صريح في إثبات الحكمة. ذكره في أول كتاب الصيام.
وقال الغزالي في أوائل " إحياء علوم الدين " (5) في كتاب العلم في ذكر علوم
__________
= والبخاري (3320) و (5872)، وأبو داود (3844)، وابن ماجه (3505)، وابن الجارود (55)، والدارمي 2/ 98، والبيهقي 1/ 252، والبغوي (2813) و (2814)، وابن خزيمة (105)، وابن حبان (1246).
وحديث أبي سعيد الخدري رواه أحمد 3/ 24 و67، والنسائي 7/ 178، وابن ماجه (3504)، والبيهقي 1/ 253، والبغوي (2815)، وصححه ابن حبان (1247).
ورواه من حديث أنس البزار (2866)، قال الهيثمي في " المجمع " 5/ 38: رجاله رجال الصحيح.
(1) ص 266.
(2) ص 165.
(3) 3/ 199.
(4) في (ش): " قال: فقد وهم ".
(5) 1/ 20.(7/283)
المكاشفة من كتاب العلم: إن من علم علوم المكاشفة: علم حكمة الله تعالى في خلق الدنيا والآخرة. انتهى بلفظه.
وصرح غير واحد من أهل السنة بذم أهل هذا القول من غلاة المتكلمين، على أن غلاة المتكلمين من الأشعرية الذين صرحوا به، وبالغوا في نصرته قد استشنعُوا ذلك، وحاولوا الاعتذار عنه، فقال الرازي: إنهم لا يخالفون في إدراك العقول قبح صفات النقص، كالجهل والكذب، وحسن صفات الكمال، كالعلم والصدق، وأن الله متصف بصفات الكمال، ومنزه عن صفات النقص، وإنما خالفوا بأنا (1) لا نعرف بمجرد العقل استحقاق فاعلها ما ورد به الشرع من الجزاء في الدنيا والآخرة.
وهذا حسنٌ جداً، لكنه يناقضه كما سيأتي، بل يلزمه ثبوت الحكمة في الأفعال كالأقوال سواء.
وكذلك ذكر الرازي أن فائدة العمل والتكليف مع سبق الأقدار، وهي تعجيل البشرى للمؤمن والإنذار للكافر، ويدل على قوله هذا قوله تعالى: {وما نرسل المرسلين إلاَّ مبشرين ومنذرين} [الكهف: 56]. وكلامه هذا يدلُّ على ثبوت الحكمة، وكذلك صرح بثبوتها في كلامه المقدم في الجبر والقدر الذي ذكره في " مفاتح الغيب "، فإنه ذكر فيه أن هذه المسألة وقعت في حيز التعارض بحسب تعظيم الله تعالى، نظراً إلى قدرته، وبحسب تعظيمه سبحانه نظراً إلى حكمته. إلى آخر كلامه في ذلك.
واعلم أنه لا فرق بين معرفة العقول أن الكذب صفة نقص يجب تنزيه الله عنها، وبين معرفتها أن تعذيب الأنبياء والأولياء في يوم الجزاء بذنوب أعداء الله صفة نقص يجب تنزيه الله عنها، وأن مَدْرَكَ قبح الأفعال والأقوال في العقول واحد، ومن حاول الفرق بينهما، فقد غالط وأبطل، وإنما ألجأهم إلى الفرق
__________
(1) في (ش): " في أنا ".(7/284)
بينهما مخافة صريح الكفر في تجويز الكذب على الله، تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
قال الشهرستاني في " نهاية الإقدام " ما لفظه: ونحن لا ننكر أن أفعال الله تعالى توجهت إلى الصلاح ولم يخلق الخلق لأجل الفساد، ولكن الحامل له ما كان صلاحاً يرتقبه ولا خيراً يتوقعه، بل لا حامل له.
قلت: تعبيره بالحامل والارتقاب والتوقع (1) قبيح، ولو لم يقبح إلاَّ لكونه يوهم أن المخالفين له يُجَوِّزُون هذه العبارات القبيحة على الله تعالى. فكيف يوهم ذلك، ويستغلط الناظر في كلامه، فلو عبَّر بالحكمة، أصاب الحق ولم يوهم الباطل، {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِه} [الأعراف: 180].
وقد اعترفت الأشعرية أن الله تعالى لا يفعل إلاَّ بالإرادة، ولم يسموها حاملاً له تعالى على الفعل. فكذلك قال: إنه لا يفعل إلاَّ بحكمة لا يلزمه تسميتها حاملاً، على أن هذه العبارة مجازية، ولا مانع من حقيقتها، وليس تعتبر الأسماء بغير المعاني الصحيحة بالإجماع.
قال: وفرقٌ بين لزوم الخير والصلاح لأوضاع الأفعال، وبين حمل الخير والصلاح على وضع الأفعال.
قلت: مجموعهما أكمل وأفضل، وعلى ذلك الشرع المُنَزَّل والعقل الأول.
قال: كما تفرق فرقاً ضرورياً بين الكمال الذي يلزم وجود الشيء، وبين الكمال الذي يستدعي وجود الشيء، فإن الأول فضيلة هي كالصفة اللازمة، والثاني فضيلة هي كالعلة الحاملة.
قلت: فضيلتان أكمل من فضيلةٍ، وتعطيل الرب من إحدى الفضيلتين هفوةٌ جليلةٌ، فجدوى هذا التمثيل قليلةٌ.
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: " والترفع ".(7/285)
ثم ذكر أن عموم الخلق عندهم في توفيق الله الشامل لهم، وذلك بنصب الأدلة والإقدار على الاستدلال بإرسال الرسل، وتسهيل الطرق، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165]. إلى آخر كلامه.
قلت: واستشهاده بالآية يكفي في الرد عليه، وكذا قوله (1): إن عموم الخلق في توفيق الله إلى آخر كلامه، فإن ذلك دليل الحكمة، إذ لا يترجح أحد الممكنين بغير مرجِّح بالضرورة، ولهم في هذا المذهب مقصدان:
أحدهما: أن المنافع والمضار، وإن تفاوتت بالنظر إلى الخلق، فهي غير متفاوتة بالنظر إلى الخالق، فإذاً الترجيح بالنظر إليه محالٌ، وذلك غاية الغنى وأتمه وأبلغه.
وثانيهما: قطع مادة الاعتراض لأفعال الله التي لا يُدْرَك بالعقول وجه الحكمة فيها.
وهذان مقصدان حسنان لولا ما أدَّيا إليه من القبائح، وصادماه من قواطع النصوص الصريحة (2) بل ما خالفاه من الضروره العقلية والضرورة الشرعية، وقد كان اللائق ترك الاحتجاج على ذلك لجلائه، ولكني رأيت الاغترار بكلامهم قد فشا في عوام أهل السنة، وكاد مقصدهم فيه بالعبارات المموَّهة يخفى على بعض الخاصة، فرأيت أن أقصد وجه الله تعالى، فأتلو من آيات كتاب الله تعالى أكثر من مئة آيةٍ مما تقشعر الجلود لمخالفته، وتخضع القلوب لجلالته من غير استقصاءٍ لذلك لكثرته، والنصوص القرآنية في ذلك أنواع كثيرة ولله الحمد.
النوع الأول: ما جاء بأصرح صيغ التعليل مما يتعذر فيه التأويل مع مراعاة الحياء من التنزيل، مثل ما ورد في تعليل خلق السماوات والأرض، وفيه آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا
__________
(1) في (أ) و (ش): " قولهم "، وهو خطأ.
(2) في (أ) و (ف): " الصريح "، وهو خطأ.(7/286)
خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون} [الدخان: 38 - 39].
وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا (1) إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِين} [الأنبياء: 16 - 17].
وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 27 - 28].
وقوله تعالى: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُون} [الأحقاف: 3].
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 190 - 191].
وقوله تعالى: {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون} [الجاثية: 22].
وقوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5].
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} إلى قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [الطلاق: 12].
__________
(1) من قوله تعالى: (لاعبين) إلى هنا لم يرد في (ش).(7/287)
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7].
وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون} [الرعد: 2].
ومن ذلك، وهو من أصرحه وأفصحه، قوله تعالى في الرد على اليهود: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18] حيث ادَّعوا أنهم أبناؤه وأحباؤه، فإنها (1) مناديةٌ نداءً صريحاً على أنهم لا يُعَذَّبون بمجرد القدرة والمشيئة من غير نظرٍ إلى غيرهما، لأنه لو كان كذلك، لما علَّل انتفاء التعذيب بحصول المحبة، وأفحم بذلك الخصم، وأمر نبيه عليه السلام أن يناظر بذلك، وأودعه كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ومن ذلك تعليل عذاب أهل النار بكونه جزاءً لهم على ذنوبهم (2)، وهذا معلومٌ بالضرورة من الدين ونصوص القرآن المبين.
والعجب ممن يعرف القرآن الكريم كيف يقول بذلك؟!
قال الله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُم} [النساء: 147].
وقال: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ يُجَازى (3) إِلَّا الْكَفُور} [سبأ: 17].
وقال: {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون} [سبأ: 25].
وقال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15].
__________
(1) في (أ): " فإنه ".
(2) قوله: " بكونه جزاء لهم على ذنوبهم " ساقط من (أ).
(3) هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو بن العلاء، وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {وهل نجازي إلاَّ الكفور}. انظر " حجة القراءات " ص 587.(7/288)
وقال: {هل تجزون إلاَّ ما كنتم تعملون} [النمل: 90].
وقال: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} [سبأ: 45].
وقال: {كذلك نجزي كل كفور} [فاطر: 36].
وقال: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِه ... فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 43 - 45].
وقال تعالى: {إنَّ ربَّهُم بهم يومئذٍ لخبير} (1) [العاديات: 11].
وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين} [يس: 60].
وقال تعالى: {إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاَّ الله يستكبرون} [الصافات: 35].
وقال تعالى: {جزاءً بما كانوا يعملون} [الأحقاف: 14].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُون} إلى قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (2) [السجدة: 18 - 21].
وقال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُون} [الجاثية: 21].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّار} [ص: 28].
وقال تعالى: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26].
__________
(1) هذه الآية لم ترد في (أ).
(2) آيات " السجدة " لم ترد في (ش).(7/289)
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُون} [الأنعام: 125].
وقال تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُون} [يونس: 100].
وقال تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} إلى آخر الجاثية: [28 - 37].
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3].
فهذا وأمثاله في تعليل عقوبة أهل النار.
وكذلك ثواب أهل الجنة جاء في كتاب الله معللاً بمجازاتهم على أعمالهم، وليس ذلك بمانع من دخولهم الجنة برحمته سبحانه.
فإن قيل: فكيف الجمع بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحداً لم يدخل الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا، إلاَّ أن يتغمدني الله برحمةٍ منه وفضلٍ " وبين الآيات القرآنية، مثل قوله تعالى: {ادخُلُوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32]، وكيف يعارض القرآن بخبر الواحد؟
قلنا: ليس بخبر واحدٍ، بل هو متواتر عند أهل البحث التام عن طرق الحديث، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من بضعة عشر طريقاً: عن أبي هريرة، وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأبي سعيدٍ الخدري، وأبي موسى، وشريك بن طارقٍ، وأسامة بن شريك (1)، وأسد بن كُرْزٍ، وأنسٍ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وواثلة بن الأسقع.
فحديثُ أبي هريرة وحديث عائشة متفقٌ عليهما، وحديث جابر عند مسلم، وبقيتها في " مجمع الزوائد " من مسانيد الأئمة الحفاط، وثق الهيثمي رجال أربعة
__________
(1) في (أ) و (ش): شريك بن طريف، وهو تحريف، فلا يعرف في الصحابة أحد بهذا الاسم.(7/290)
منها وبقيتهم رجال التواتر (1).
وشهدت بها آيات القرآن -كما يأتي الآن- في أقوال السلف والخلف، وعلى تسليم أنها آحادٌ عند الخاصة، كما هو كذلك عند العامة، فليس
__________
(1) حديث أبي هريرة رواه البخاري (6463)، ومسلم (2816) و (2817). ورواه أيضاً أحمد 2/ 235 و326 و390 و509 و514 و524 و537، وابن حبان (438) و (660).
وحديث عائشة رواه البخاري (6464)، ومسلم (2818).
وحديث جابر رواه مسلم (2817). ورواه أيضاً أحمد 3/ 337، والدارمي 2/ 305، وابن حبان (350).
وحديث أبي سعيد الخدري رواه أحمد 3/ 5. قال الهيثمي 10/ 356: وإسناده حسن، مع أن فيه عطية العوفي، وهو ضعيف.
وحديث أبي موسى رواه البزار (3447). قال الهيثمي 10/ 357: رواه البزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، وفي أسانيدهم أشعث بن سوار، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهم ثقات.
وحديث شريك بن طارق رواه البزار (3446)، والطبراني في " الكبير " (7218) - (7221)، وابن حبان في " الثقات " 3/ 188 - 189. قال الهيثمي بعد أن أورده من حديث شريك: رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدهما رجال الصحيح.
وحديث أسامة بن شريك رواه الطبراني في " الكبير " (493).
وحديث أسد بن كرز رواه البخاري في " التاريخ الكبير " (1001)، والطبراني في " الكبير " 2/ 49. قال الهيثمي 10/ 357: رواه الطبراني، وفيه بقية بن الوليد، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. قلت: قد صرح بالتحديث عند البخاري، وذكره الحاظ في " الإصابة " 1/ 49، وحسَّن إسناده.
وحديث أنس رواه البزار (3444). قال الهيثمي: فيه صالح المري، وهو ضعيف.
وحديث ابن عمر رواه الطبراني في " الأوسط ". وقال الهيثمي 10/ 357 - 358: فيه أيوب بن عتبة، وهو ضعيف، وفيه توثيق لين.
وحديث واثلة بن الأسقع رواه الطبراني في " الكبير " 22/ (140) وفيه بشر بن عون، وهو متهم بالوضع.(7/291)
بمعارضٍ للقرآن الكريم، بل ليس بمعارضٍ في الحالين معاً، وليس بمعارض القرآن والأخبار، ولا يجوز ذلك وإن جهل معناه الجاهلون، ومعنى الحديث صحيحٌ كلفظه، وفي القرآن معناه في غير آية.
قال الله تعالى في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم} [الحديد: 21].
وقال في سورة الدخان بعد ذكر الجنة: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيم} [الدخان: 56 - 57].
وقال في آل عمران: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون} [آل عمران: 107].
وقال في سورة الأحزاب: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 47]، فسمى الأجر فضلاً كما سمى الفضل جزاءً، وذلك غير متناقضٍ، وقد نطق به التنزيل مفرَّقاً في غير آيةٍ ومجموعاً في قوله:
{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِين} [آل عمران: 171].
وليس في كتاب الله أن العمل يدخل الجنة، وإنما فيه أن الله هو يُدخل الجنة به في بعض الآيات، وفي بعضها بالعمل وبتكفير الله تعالى للسيئات، وهو زيادةٌ يجب اعتبارها، وبها يظهر فضل الله.
قال في سورة التغابن: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التغابن: 9].
وقال في سورة الطلاق: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار} [الطلاق: 11].(7/292)
وفي آخر آل عمران نحوهما، [اقرأ الآية: 198].
وكذلك: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُون} [الزمر: 35]، وهو كثيرٌ، ولا دليل على أن التكفير واجبٌ بالعمل، بل الأدلة ناهضةٌ بخلافه، منها: {ولو يُؤاخِدُ الله الناس} الآيتين [النحل: 61]، {فاطر: 45] وما في معناهما من الأحاديث، وقد تقدمت مبسوطة.
منها: تسمية الجنة فضل الله.
ومن ذلك: أن الله يعلم العلم، ويثيب عليه، قال: {وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى} [الضحى: 7]، {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79].
ومن ذلك: {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُون} [الدخان: 41]، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيم} [الدخان: 42]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَه} [غافر: 9]، قال: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَان} [الحديد: 20].
وأما الجواب على السؤال، فمن وجوهٍ أربعة:
الوجه الأول: أن الأعمال الصالحة إنما صلحت برحمة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاء} [النور: 21].
وقال تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7].
وقال تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَان} [الحجرات: 17].(7/293)
وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].
وأوضح منهما قوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94].
وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة} [الحجرات: 7 - 8].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيم} [المائدة: 54].
وحكى الله عن ذي القرنين أنه قال: {هذا رحمةٌ من ربي} [الكهف: 98] يعني ما صنعه الله تعالى.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
ويوضحه من النظر أن المحسن بالسبب مُحْسِنٌ بالمسبِّب، خصوصاً مع قصد الإحسان بهما.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يحكي عن الله عز وجل: " إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أُوَفِّيكم بها، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومن إلاَّ نفسه ".
أخرجه مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه (1).
__________
(1) تقدم تخريجه ص 19.(7/294)
ويشهد لذلك قوله تعالى {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
ويشهد لدخول الجنة برحمة الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [هود: 66].
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]، {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين} [هود: 94].
ونحوه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53].
ونحوه: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقال: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118] وهو في خطابه لمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وقول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47].
وقول آدم وحواء: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} (1) [الأعراف: 23].
وقول يونس: {سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87].
وقول إبراهيم: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين} [الأنعام: 77].
وقوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين} [الشعراء: 82].
__________
(1) هذه الآية لم ترد في (ش).(7/295)
فهؤلاء الأنبياء، فكيف غيرهم؟!
الوجه الثاني: لن يدخل الجنة أحد منكم بعمله بالمعاوضة، لأن العمل حقيرٌ ليس يُستحق بمثلِه مثلُ الجنة لو رجعنا إلى العوض المحقق، والباء في قوله: {بما كنتم تعملون} [النحل: 32]، باء السببية، فالأعمال سبب ذلك الفضل العظيم، والباء في السببية ظاهرةٌ شهيرةٌ، وقد تكون الأسباب عللاً في التفضل.
وقد جمع الله الأمرين في قوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
الوجه الثالث: ما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال.
ويدل على هذا حديث أبي هريرة، وفيه " أن أهل الجنة إذا دخلوها، نزلوا فيها بفضل أعمالهم ". رواه الترمذي (1).
وقد دل على ذلك ما لا يُحصى من كتاب الله، مثل قوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12].
ومثل قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} [يونس: 4].
والتحقيق أن مقدار الأجر المستحق على تقدير وجوبه غير معروفٍ عقلاً، فجائز أن يكون حقيراً لو بيَّنه الله، وقد سمى الله الجنة فضلاً، فلا موجب لتأويله، لأنه عز وجل جعلها جزاء عملٍ حقيرٍ كرماً فضلاً، ولو لم يزد على القدر المستحق على تقدير صحته، لكان ما لا قدر له ولا نفع.
__________
(1) برقم (2549). ورواه أيضاً ابن أبي عاصم في " السنة " (585) و (587)، وابن ماجه (4336)، وابن حبان (7438) وإسناده ضعيف. وانظر " صحيح ابن حبان "، فقد فصلنا القول فيه هناك.(7/296)
ويدل على ذلك حديث الرجل الذي عبد الله خمس مئة سنة في جزيرة من البحر، وأراد أن يدخل الجنة بعمله، فحوسب، فما وفَّى عمله بنعمة البصر. خرَّجه الحاكم في " المستدرك " وصححه، وهو حديث مشهور (1).
ويشهد لمعناه ظاهر قوله تعالى في خليله إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِين} [العنكبوت: 27].
وفي " الكشاف " (2) في قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]، وهذا يدلُّ على أن الجنة مستحقة بالعمل، لا بالتفضل كما يقوله المبطلة.
فكتب بعض أهل العلم (3) في حاشيته ما لفظه: نعم يا شيخ المُحِقَّة.
قلت: الجنة بالعمل، فالعمل بماذا؟ قلت: بالاختيار فالاختيار بماذا؟ رأى الأمر يُفضي إلى غايةٍ، فصيّر آخره أوَّلاً، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّه} [الأعراف: 43]. انتهى.
وألحقه بعضهم: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21]، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَان} [الحجرات: 17].
وقد دل القرآن على أن العمل نعمة، والجزاء عليه نعمة.
أما الأول، ففي قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَة} [الحجرات: 7 - 8]، وقوله: {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَر} [القمر: 35].
وقد ختم الزمخشري " كشافه " (4) بتضرع إلى الله طويل، قال في آخره:
__________
(1) تقدم تخريجه 5/ 257، وهو حديث ضعيف.
(2) 2/ 80.
(3) في (ش): " أهل السنة ".
(4) 4/ 304.(7/297)
ويُحلَّني دار المقامة من فضله بواسع طوله، وسابغ نوله (1) إنه هو الجواد الكريم، الرؤوف الرحيم. انتهى بحروفه.
وهو شاهدٌ على أن مذهب أهل السنة هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأن الخصوم عند أن تَحِقَّ الحقائق يرجعون إليها، ولو رجع إلى تحقيق مذهبه، لكان مسألته للجنة عبثاً لا فائدة فيه، لأنه إن كان عاملاً بما كلَّفه، فهي له حقٌّ واجبٌ، لا يصح من الله الإخلال به، وإلا كانت المسألة لله أن يفعل قبيحاً ويُخلف وعده ويكذب فيه، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.
ومما يتعذر تأويله من صيغ التعليل مثل قوله تعالى: {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل} الآية [المائدة: 32].
ومن ذلك تأويل المتشابه، وعلى قولهم ليس له تأويل، وقصة الخَضِر وموسى مصادِمَةٌ لمذهبهم بالضرورة، ولا معنى لإنكار موسى، ثم لجواب الخَضِر إلاَّ اعتقادهما تغاير أحكام الأفعال بتغاير أسبابها عند الله تعالى، ألا تراهما لم يتنازعا في مشيئة الله تعالى وأمره، ولذا ما قال موسى: إن الله لم يشأ هذا ولا أمر به، ولا قال الخَضِر: إن هذا شاءه الله وأمر به، ولا كان الخضر أعلم من موسى بالنظر إلى مجرد أن ما شاء الله كان، وما شاء أن لا يكون لم يكن، فعامة المؤمنين يعرفون ذلك، إنما تفاضلا في معرفة حكمة الرب المتشابه (2) التي نفتها هذه الطائفة.
الوجه الرابع: أن التوحيد عملٌ، بل هو أفضل العمل، كما ورد في الصحيح، وأجمعت عليه الأمة: من مات عقيب قوله: لا إله إلاَّ الله مخلصاً غير منافق (3)، بل ذلك معلومٌ ضرورةً من الدين، يوضحه أنا قد أجمعنا علي أن النار لا تُدْخَلُ إلاَّ بعمل، وأن من أشرك بالله، فقد استحق النار بأقبح العمل وهو الشرك.
__________
(1) في (أ) و (ش): " نيله "، والمثبت من " الكشاف ".
(2) في (ش): " للمتشابه ".
(3) انظر 5/ 127 و160.(7/298)
فإذا ثبت بالنصوص والإجماع أن الشرك عمل، فكيف لا يكون التوحيد عملاً؟! وكما أن من عذبه الله تعالى من المشركين، فقد عذبه بعمله، فكذلك من أثابه الله من الموحدين، فقد أثابه وأدخله الجنة بعمله.
فبطل ظن من قال: إن الرجاء يؤدي إلى أن الإيمان قولٌ بلا عمل، أو إلى أن الجنة تُدخل بغير عمل، وقد عظَّم الله القول الثابت بقوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
واعلم أن أهل السنة لا ينكرون أن الجنة تُدخل بعملٍ كما ورد في القرآن، وإنما ينكرون ما ليس في القرآن من كونها تستحق على الله بالعمل استحقاق المبيعات بأثمانها، بحيث إنه لا فضل للبائع على المشتري.
فمرجع النزاع في أن الباء التي في قوله تعالى: {بما كنتم تعملون} [النحل: 32] هل هي باء المعاوضة للشيء بمقدار ثمنه، مثل الثوب بالدرهم، أو هي باء السببية، كقولك: أكرمني الملك بسابق معرفةٍ، أو بكلمة طيبة سمعها مني، أو نحو ذلك؟
والقرآن إنما نص على العمل، لا على أن الباء فيه للثمن المساوي، ولو قال أهل السنة بعدم العمل، لجوزوا الجنة للمشركين، فاعرف هذه النكتة.
وقد ظهر أن الخلاف إنما هو في كيفية الجمع بين الآيات والأخبار، وظهر عند كل منصفٍ وعارفٍ قصور العمل عن الوفاء بنعم الله وشكره، وما يحق له، كما قال: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91].
ويلحق بهذا النوع جميع ما احتج الله تعالى به من البراهين على التوحيد، وأنزله من الكتب، وأرسله من الرسل، فإنه معلومٌ أن الحكمة فيها والداعي إليها هو إقامة الحجة البالغة، كما ورد في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب " (1).
__________
(1) تقدم تخريجه.(7/299)
والآيات في هذا كثيرة، ويأتي منه شيءٌ في النوع الثاني.
النوع الثاني: ما جاء من أفعال الله تعالى معلَّلاً بلام " كي "، وهو أكثر من أن يُحصى.
فمنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5].
وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} [الكهف: 2].
وقوله تعالى: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8].
وقوله تعالى: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41].
وقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].
وقوله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73].
وقوله: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ(7/300)
الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال: 11].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 36 - 37]
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} [لقمان: 31].
وقوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} [السجدة: 3].
وقوله تعالى: {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ} [الأحزاب: 8].
وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 43].
وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14].
وقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 1 - 2].
وقوله: {ليظهره على الدين كله} [التوبة: 33].
وقوله: {ليغيظ بهم الكفار} [الفتح: 29].
وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 30].
وقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6].
وقوله: {لِتُنْذِرَ (1) مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70].
__________
(1) كذا في (أ): بالتاء، وهي قراءه نافع وابن عامر، وقرأ الباقون: {ليُنذر}: بالياء. انظر =(7/301)
وقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].
ومنه ما يمكن تأويله بأن اللام فيه للعاقبة، ومنه ما لا يمكن ذلك فيه، كما لا يخفى على المتأمل النبيه.
والعجب من الشهرستاني أنه اختار أفعال الله تعالى غير معلَّلةٍ بداعٍ ولا حكمة، ثم لم يُورد على قوله من السمع إشكالاً قط إلاَّ قوله تعالى: {وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22]، وأجاب بأن اللام فيها للعاقبة، كقوله تعالى في شأن موسى عليه السلام: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وكقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} [يونس: 67].
وتمسُّكُه بهذه الآية الثانية ممنوعٌ، فإنه ادعى ظهور أن اللام فيها للصَّيرورة والعاقبة بغير حجةٍ.
وأما الآية الأولى، فقد أكثر المتكلمون المتأولون من الاستشهاد بها، ولا دليل لهم قاطعٌ على أن اللام فيها للعاقبة، لأنه يمكن أن اللام فيها على أصلها من التعليل، وذلك أن التقاطهم لموسى عليه السلام إنما كان من كرامات الله تعالى له، لأنهم كانوا مجتهدين في قتل الولدان لما (1) قضى به أهل علم النجوم من ظهور مولودٍ في ذلك العصر تكون له الدولة عليهم، فكان الرأي والنظر يقضي أن يكون الطفل الذي قذفه البحر في صندوقٍ هو الذي له الشأن العظيم، فيكون هو الذي يقتلونه دون غيره، أو هو أولى بذلك من غيره، فحين أعماهم الله تعالى من ذلك، لإنفاذ قَدَرِهِ ورغَّبَهم في التقاطه إكراماً لموسى، ورحمةً وحفظاً ولطفاً وإظهاراً لعظيم قدرته في أن يخدُمَه أعدى عَدُوٍّ له، مع الحرص الشديد على قتله وقتل جميع الولدان من أجله، كان هذا الالتقاط من
__________
= " حجة القراءات " ص 603.
(1) في (ش): " بما ".(7/302)
أفعال الله تعالى التي ينفرد بها، وليس لهم فيها كسبٌ ولا اختيارٌ، لما فيه من منافاة أغراضهم، فكان بمنزلة رد موسى إلى أمه، لأن الله تعالى نسبه إلى فعله، حيث قال: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [القصص: 13] مع أن ذلك الرد كان على يدي أخته.
وكذلك رميُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدرٍ في وجوه المشركين لما وقع له ذلك الموقع العظيم، قال الله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (1) [الأنفال: 17].
ونحو ذلك من أفعال العباد كثيرٌ يجري على أيديهم، وهو منسوبٌ إلى الله تعالى في المعنى، وهذا الالتقاط من ذلك القبيل، هو فعل الله تعالى على يد آل فرعون.
والله تعالى بيَّن أن ذلك الالتقاط من ذلك القبيل (2) الذي قدره ويسر وأذن فيه ليكون لهم عدواً وحزناً.
فهذا تعليل فعل الله في الالتقاط الذي فعله آل فرعون ومراده، لا تعليل فعلهم ومرادهم، فقد بين سبحانه عنهم أنهم أرادوا أن يكون موسى لهم قرة عينٍ، وأن ينفعهم أو يتخذه ولداً.
فاعجب كيف غفلوا عن هذا الاحتمال، ومنتهى ما فيه تسليم أن اللام في هذه الآية للعاقبة، ولكن ذلك مجازٌ لا يجوز العدول إليه في سائر الآيات إلا لموجبٍ.
على أن ذلك يتعذر في كثيرٍ من الآيات، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، فإنا لو قلنا: إن اللام هنا للعاقبة، لم تكن الآية دالة على الترتيب في تدبر كتاب الله تعالى، وهذا
__________
(1) انظر ص 106 من هذا الجزء.
(2) من قوله: " هو فعل الله تعالى " إلى هنا سقط من (ش).(7/303)
اعتقادٌ فاحشٌ، نسأل الله العافية.
النوع الثالث: ما جاء معللاً بالباء السببية، كقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
وقوله تعالى: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 136].
وقوله تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (1) [الأعراف: 146].
وقوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الروم: 36].
وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ} [لقمان: 31].
وقوله تعالى: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14].
وقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
وقال: {اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون} [يس: 64].
وقال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26].
وقال: {كل نفسٍ بما كسبت رهينةٌ} [المدثر: 38].
__________
(1) لم ترد هذه الآية في (ش).(7/304)
وقال: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72].
وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3] وما قبلها في سورة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
النوع الرابع: ما جاء معللاً بلام الجر، كقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42].
وقوله: {وذلَّلناها لهم} [يس: 72].
وقوله: {خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة: 29].
وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].
وقوله تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} [الأنعام: 126].
وقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
النوع الخامس: ما جاء معللاً " بأن " المفتوحة الخفيفة، كقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57].
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31].
وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].
النوع السادس: ما جاء من المفعول لأجله، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} [الروم: 24].
وقوله: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44].
وقوله تعالى: {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7].(7/305)
وقوله تعالى: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [الأنفال: 11].
وقوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43].
وقوله تعالى: {نكالاً من الله} [المائدة: 38].
وقوله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلاَّ تخويفاً} [الإسراء: 59].
وقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ (1) وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64].
وقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
النوع السابع: ما جاء بـ "لو"، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 96].
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64].
وقوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].
وهي من أصرح الآيات في ذلك.
النوع الثامن: ما جاء بـ " لولا "، كقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33].
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 19]، [هود: 110]، [فصلت: 45].
__________
(1) من بداية هذه الآية إلى هنا لم يرد في (ش).(7/306)
وقوله: {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21].
النوع التاسع: ما جاء بـ " لمَّا "، كقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59].
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
وقوله تعالى: {فلما آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55].
وقوله: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [يونس: 98].
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس: 13].
النوع العاشر: ما جاء بـ " إذا "، كقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16].
النوع الحادي عشر: ما جاء بصيغة الحال، كقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الكهف: 56].
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45 - 46].
وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].
النوع الثاني عشر: ما جاء بـ " من " الشرطية، كقوله سبحانه: {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ: 12].
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23].
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36].(7/307)
وقوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
النوع الثالث عشر: ما جاء بـ " ما " الشرطية، كقوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
وقوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215].
وقوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
النوع الرابع عشر: ما جاء بـ " الكاف "، كقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51].
النوع الخامس عشر: ما جاء بـ " كي "، كقوله تعالى: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ} [طه: 40].
وقوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37].
وقوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7].
وقوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5].
النوع السادس عشر: قوله تعالى: {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5].
وقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: 149].
ومن أسمائه الحسنى: الحكيم، وهو منصوصٌ في كتاب الله تعالى متكرِّرٌ، وقد ردوه إلى معنى العليم، وجعلوه مُرادِفاً له، غير زائدٍ عليه، وأوَّلُوه بمعنى(7/308)
المحكم لتصوير مخلوقاته في مقاديرها، ومنعوا أن يكون له حكمة في أحكامها. ونقل هذا عنهم بعض أهل السنة من غير علمٍ لهم يقابلهم في نفي الحكمة، وإنما نقلوا عنهم أن الحكيم هو المُحْكِم لأفعاله، وحَسِبُوا أنهم قالوا ذلك نقلاً عن أهل اللغة كما يفعله أهل تفسير الغريب، فإنا لله وإنا إليه راجعون، " إن هذا الدين بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ " (1)، فهذا أوان غرابته.
ألا ترى إلى هذه الطائفة -مع جلالتهم في الإسلام- يُبالغون في إنكار حكمة الله تعالى لما قَصَّرَتْ عن دركها أفهامهم، ويردونها إلى مجرد الإحكام الذي إذا تجرد عن الحكمة، كان من أقبح القبائح، فإن قصائد الكفار (2) في سبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسب أصحابه رضي الله عنهم أجمعين في غاية الإحكام بالنظر إلى أوضاع اللغة ولطائف المعاني والبيان. وكذلك كتب الزنادقة والفلاسفة في سب الباري سبحانه وتعطيله محكمة التصنيف والترصيف، فتكون حكمة الله تعالى في جميع مخلوقاته وكتبه ورسله وآياته راجعة إلى مثل ما رجع إليه أحكام السفهاء والجهلاء لقبائحهم وفواحشهم ومخازيهم.
وقد ثبت أن الشيطان الرجيم من العلماء بالله تعالى وصفاته ورسله وشرائعهم، ولذلك تمكن من الدعاء إلى الباطل، والصَّدِّ عن الحق، لأن ذلك لا يتم إلاَّ بعد العلم بهما، وقد أحكم وسوسته وشيطنته ومكايده. أفيصح أن يُسمَّى (3) حكيماً لإحكامه لأفعاله القبيحة؟! أو يصح أن يرجع بحكمه من صح وصفه بأن له الحكمة البالغة والحجة الدامغة إلى مثل ذلك.
قال أبو نصر الجوهري في " صحاحه " (4): الحُكْمُ -يعني: بضم الحاء-: الحكمة من العلم، والحكيم: العالم صاحب الحكمة، والحكيم: المتقِنُ
__________
(1) حديث صحيح، وتقدم تخريجه 1/ 225 - 226.
(2) في (ش): " المشركين ".
(3) في (أ): " يكون يسمى ".
(4) 5/ 1901 - 1902.(7/309)
للأمر، وقد حَكُمَ -بضمِّ الكاف-: أي صار حكيماً.
قال النَّمِر بن تولب:
وأبْغِضْ بَغِيضَك بُغْضَاً رويداً ... إذا أنت حاولت أن تحكما (1)
قال الأصمعي: إذا أنت حاولت أن تكون حكيماً.
قال: وكذلك قول النابغة:
واحكم كحُكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حَمَامٍ وشِراعٍ وارِدِ الثَّمَدِ (2)
والمُحَكَّم -بفتح الكاف- الذي في شعر طرفة (3): الشيخ المجرَّب المنسوب إلى الحكمة.
__________
(1) البيت في اللسان " حكم "، وفي مختارات ابن الشجري 19، و" خزانة الأدب " 10/ 254، وقبله:
وأحبب حبيبك حباً رويداً ... فليس يعولك أن تصرما
وانظر القصيدة بتمامها في " شرح شواهد المغني " 1/ 385 - 386.
(2) البيت من معلقة النابغة الذبياني يخاطب بها النعمان بن المنذر ويعاتبه ويعتذر إليه مما اتُّهم به عنده، ويتنصل بها عما قذفوه به، ومطلعها:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وبعد هذا البيت:
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فَقَدِ
وفتاة الحي: هي زرقاء اليمامة.
وانظر البيت في " ديوان النابغة " ص 24، و" شرح المعلقات " للتبريزي ص 446، و" خزانة الأدب " 10/ 254.
(3) وبيت طرفة بن العبد هو قوله:
ليت المحكّم والموعوظَ صوتكما ... تحت التراب إذا ما الباطل انكشفا(7/310)
وقال محمد بن نشوان في " ضياء الحلوم " (1): الحكمة: فهم المعاني (2)، قيل: سُمِّيت حكمةً، لأنها مانعةٌ من الجهل، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
قلت: وقال الله تعالى في يوسف (3) عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22].
وقال أيضاً: والحكيم (4): صاحب الحكمة، قيل: هو المانعُ من الفساد، وقيل: هو المصيب للحق، والحكيم من صفاته تعالى، يجوز أن يكون بمعنى العالم، ويجوز أن يكون بمعنى (5) الفاعل الأفعال المحكمة، والقرآن الحكيم: أي المُحْكَم (6)، والمحكم من القرآن: ما هو قائمٌ بنفسه، لا يفتقر إلى الاستدلال، قال: والمحكم: المجرَّب (7): المنسوب إلى الحكمة.
وقال ابن الأثير في " النهاية " (8) في تفسير اسمه " الحكيم " سبحانه، وقيل: الحكيم: ذو الحكمة، والحكمة: عبارةٌ عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل المعلوم. وفي الحديث: " إن من الشعر لحُكْماً " (9) أي: كلاماً نافعاً يمنع الجهل والسَّفَةَ، وينهى عنهما، وقيل: أراد بهما المواعظ والأمثال التي ينتفع بها الناس، والحُكْم: العلم والفقة والقضاء بالعدل. ويُروى: "إن من الشعر
__________
(1) قوله: " في ضياء الحلوم " سقط من (ش). وانظر " شمس العلوم " لنشوان الحميري 1/ 452 - 454.
(2) في (ش): " المعنى ".
(3) في (ش): " ليوسف ".
(4) في (أ) و (ش): " والحكم "، والمثبت من " شمس العلوم ".
(5) عبارة: " العالم ويجوز أن يكون بمعنى " سقطت من (أ).
(6) قوله: " والقرآن الحكيم: أي المحكم " سقط من (ش).
(7) تحرفت في (ش) إلى: " المجون ".
(8) 1/ 418 - 419.
(9) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 3/ 251.(7/311)
لحكمةً" (1)، وهو بمعنى الحكم. ومنه: " الصمت حُكمٌ، وقليلٌ فاعله " (2).
ومنه: " الخلافة في قريش، والحكم في الأنصار " (3) لأن أكثر فقهاء الصحابة منهم: معاذٌ وأُبي بن كعبٍ، وزيد بن ثابت.
قلت: وقد جاءت الحكمة مقرونةً بالكتاب في كلام الله تعالى، واتفقوا على تفسيرها بما يرجع إلى معرفة محاسن الأمور من قبائحها. والدليل على تغاير صِفَتَي العلم المجرد والحكمة ما جاء في كتاب الله تعالى من التفرقة الظاهرة بين الحكم والعلم، كآية يوسف عليه السلام المقدمة قريباً، وبين الحكيم والعليم، لورودهما متغايرين في النصوص، كقوله تعالى: {إنَّ الله كان عليماً حكيماً} [الإنسان: 30]، وقوله تعالى: {وهو الحكيم الخبير} [الأنعام: 18] وذلك كثيرٌ جداً في كتاب الله تعالى.
على أن دِلالة الفعل المحكم على العلم مستلزمةٌ لدلالة العلم على الحكمة، وذلك أن تخصيص الموجودات بوقوعها على بعض الوجوه دون بعضٍ من الإحكام وموافقة الأغراض أو منافرتها لا تكون إلاَّ بالحكمة المعبَّر عنها في علم الكلام بالدواعي المرجِّحة لبعض المُمكنات على بعض، وإلاَّ أدى إلى ترجيح بعض الممكنات من غير مرجِّحٍ، وهذا يؤدي إلى استغناء العالم عن الباري سبحانه وتعالى. وهذه هي حجة هؤلاء الغلاة من الأشعرية
__________
(1) حديث صحيح، تقدم تخريجه 3/ 250.
(2) حديث صحيح. رواه ابن حبان في " روضة العقلاء " ص 41، والقضاعي في " مسند الشهاب " (240) من حديث أنس. ورواه الديلمي في " مسند الفردوس " (3851) من حديث ابن عمر، وضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث " الإحياء " 3/ 108 - 109، وقال: رواه ابن حبان بسند صحيح عن أنس. وأورده الحافظ في " المطالب العالية " 3/ 190، ونسبه لأبي يعلى.
(3) رواه أحمد 4/ 185، والطبراني في " الكبير " 17/ (298) من حديث عتبة بن عبد السُّلمي، وزادا فيه: " والدعوة في الحبشة "، " والهجرة في المسلمين والمهاجرين بعد " وإسناده حسن، وذكره الهيثمي في " المجمع " 4/ 192، وقال: رجاله ثقات.(7/312)
في أكثر مذاهبهم التي يُعَوِّلون عليها ويلجؤون إليها.
وفي هذه المسألة خالفوا الأصول، وأضاعوا المعقول والمنقول.
وعلى كلامهم: لا فرق بين اتصاف الله بالحكمة والرحمة والعفو والجود وأضدادها.
وعلى كلامهم: لا فرق بين ما تمدَّح الله به من إقامة العدل يوم القيامة، ونصب موازين الحق، وإكرام أنبيائه وأوليائه، وإدخالهم الجنة، وتشفيعهم، وإخزاء أعدائه وتعذيبهم، وبين العكس من ذلك كله، وأن الله -تعالى عن ذلك- لو عكس جميع أحكامه العادلة يوم القيامة، وعذَّب الأنبياء والأولياء وأخزاهم ومقتهم ولعنهم وخلَّدهم في طبقات النِّيران، وأشمت بهم أعداءهم، وجعل كرامتهم وما أعدَّ لهم لأعدائهم وأعدائه الكفرة الفجرة الخِساس الأراذل، لكانا في محض حكمته وعقول العقلاء على سواءٍ.
فإن اعترف منهم مُنْصِفٌ أن هذا العكس صفة نقصٍ يجب تنزيهه عنها، كالكذب سواء، فقد هُدِيَ إلى سواء السبيل، وإن رام بينهما فرقاً، فقد طَمِعَ في غير مطمعٍ.
وتلزمهم أيضاً تسوية جميع أفعال الله تعالى في الدارين معاً بالاتِّفاقيَّات، وبآثار العلل الموجبة، وبأفعال المجانين والصِّبيان، بل والمفسدين، فإن أفعال هؤلاء صاروا مثلاً في النقص والخِسَّةِ، لخُلوِّها من الحكمة، وقد جعلوا أفعال الله تعالى أبعد منها عن الحِكَمِ لوجهين:
أحدهما: أنهم جعلوها كلِّها كذلك، وجعلوا تجويز الحكمة فيها من المُحال، وليس تجويز الحكمة على ما ذكرنا من المحال.
وثانيهما: أنهم جعلوا الحكمة في حق الله تعالى تؤدِّي إلى أن يكون فقيراً محتاجاً إليها، فجعلوها صفة ذمٍّ له، وهذا مخالفٌ للمعقول والمنقول والإجماع، وكان يلزمهم تنزيه الله تعالى من الإرادة والعلم والقدرة، وأن يكون(7/313)
محتاجاً إلى مثل (1) ذلك.
وهذا مذهب القرامطة، وهذه شبهتهم، والقول بأن وجوب أسماء الله الحسنى له توجب أو بعضها وصفه بالفقر إليها من الباطل الجليِّ، فنسأل الله العافية من البدع والشَّناعات.
ولا معنى -على قولهم- لقول الله تعالى: {ساء ما يحكمون} [العنكبوت: 4]، ولا لقوله في الجواب على الملائكة: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، ولا لقوله سبحانه: {أفنجعلُ المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون} [القلم: 35 - 36]، وقوله: {أم تأمُرُهُم أحلامُهُم بهذا} [الطور: 32]، ولا لجواب الخضِرِ على موسى، ولا لتسليم موسى لجوابه دون فعله من غير جوابٍ ولا بيان، ولا لتمدح الرب جل جلاله بأنه أحكم الحاكمين، وخير الرازقين، وأرحم الراحمين، لأن ذلك كله عندهم مساوٍ لأضداده في حكمة الرب ومحض العقل، وهذا تعطيل لأسمائه الحسنى وصفاته العلى، نسأل الله الهدى، ونعوذ بالله من الرَّدى.
على أن السنن الصِّحاح قد جاءت بصريح ذلك، مثل ما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من قوله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: " لا أحد أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب ".
وقد تقدم أن ما قرره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ولم يُشعروا بتأويله، أنه يحرُمُ تأويله، لأنَّ العادة تقضي بأنه غير مؤوَّلٍ ضرورة.
وقد اقتصرت على ذكر هذه الآيات، ولم أُورِدْ ما في معناها من الأحاديث، ولا أوردتُ وجه الاحتجاج بها، ونقل كلام أئمة أهل السنة في تفسيرها، لأن دلك يحتاج إلى تأليفٍ مستقلٍّ، والمسألة أجلى من أن نتكلم في ردها، وليس فيها شبهةٌ إلاَّ جلالة من قال بها في القلوب، وشهرتهم بالتدقيق في العلم،
__________
(1) في (ش): " جميع ".(7/314)
فنسأل الله السلامة من هذا التدقيق، ونسأله أن يَهَبَ لنا عِوَضَه الإيمان والتصديق، واللطف والتوفيق.
على أن هذه الطائفة من الأشعرية يُناقضون نفي الحكمة والعِلَّة في أفعال الله تعالى في كتبهم في أُصول الفقه، خصوصاً في باب القياس، وقد صرحوا فيه بأن أكثر صِيَغ التعليل التي ذكرتها في الآيات الكريمة صيغٌ صريحةٌ، وأن أكثر الشريعة مُعَلَّلٌ، وذلك ظاهرٌ، قال ابن الحاجب في " مختصر المنتهى " (1) في مسالك العلة: إنها صريحٌ وتنبيهٌ وإيماءٌ، فالصريح مثل: لعلة كذا، أو لسبب، أو لأجل، أو كي، أو إذا، أو مثل: لكذا، أو إن كان كذا، أو بكذا، أو مثل " فإنهم يحشرون " (2). {فاقطعوا أيديهما} [المائدة: 38]، ومثل: " سها فسجد " (3). ثم ذكر الإيماء والتنبيه بعد ذلك، فأعرض عن هذا على ما قدمته لك في الأنواع المقدمة، والله الموفق.
بل ادعى ابن الحاجب في دليل العمل بالسَّبر وتخريج المناط إجماع الفقهاء على أنه لا بد للحكم من علةٍ وظهور التعليل وغَلَبَتِهِ، ثم احتج على ذلك بعد الإجماع بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، قال: والظاهر التعميم، وقرَّره الشُّرَّاح.
لكن قال الشيخ عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الشافعي (4) في " شرحه ": إن ذلك إجماع الفقهاء وجوباً عند المعتزلة، وتفضُّلاً
__________
(1) ص 179.
(2) قطعة من حديث " زملوهم بكلومهم، فإنهم يُحشرون وأوداجهم تشخب دماً " وهو في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه بنحوه.
(3) تقدم تخريجه 2/ 302، وهو حديث صحيح.
(4) كان قاضي قضاة المشرق، وشيخ العلماء والشافعية بتلك البلاد، قال السبكي: كان إماماً في المعقولات، عارفاً بالأصلين والمعاني والبيان والنحو، مشاركاً في الفقه. توفي سنة 756. وشرحه لمختصر ابن الحاجب قال فيه الشوكاني: قد انتفع الناس به من بعده، وسار =(7/315)
عند غيرهم، يعني: الإرسال لا التعليل.
فتأمل كلام ابن الحاجب والشيخ عَضُدِ الدِّين في هذه المسألة، فإني لم أنقله كله، وهو أبسط وأفصح (1) مما (2) ذكرت، ولله الحمد والمنة.
والعجبُ أن المعتزلة -مع شدة تقبيحهم لمذهب هؤلاء الغُلاة من الأشعرية في هذا- قد قالوا به بعينه وهم لا يشعرون، وذلك قولهم في عذاب الآخرة: إنه من الله تعالى بمنزلة المُباح منَّا. بل قال الفقيه حميدٌ (3) في كتابه " العمدة ": إنه بمنزلة المكروه منَّا، وهذا أقبح من قول الأشعرية، لأنهم منعوا أن يكون فعل الله مرجوحاً أو راجحاً، والفقيه حميدٌ -وهو من كبار أهل الاعتزال مع التشيُّع- جوَّز أن يكون في أفعاله مرجوحٌ، والمرجوح عند قدماء المعتزلة هو القبيح، إذ لا واسطة بين القبيح والحَسَن في العقليَّات عندهم. وقد تقدم أنه لا يُفيدهم اعتذارهم بتقدُّم الوعيد لوجوهٍ أربعةٍ، فانظرها هناك.
فانظر إلى شُؤم الكلام على أهله كيف يوقعهم فيما ينكرون، ويلجئهم إلى ما يكرهون.
على أن كلام غلاة الأشعرية هذا يلزم المعتزلة من طريق آخر، وذلك أنه
__________
= في الأقطار، واعتمده العلماء الكبار، وهو من أحسن شروح المختصر، من تدبره، عرف طول باع مؤلفه، فإنه يأتي بالشرح على نمط سياق المشروح، ويوضح ما فيه خفاء، ويصلح ما عليه مناقشة، من دون تصريح بالاعتراض كما يفعله غيره من الشُّرَّاح، وقلّ أن يفوته شيء مما ينبغي ذكره، مع اختصار في العبارة يقوم مقام التطويل، بل يفوق. انظر " طبقات السبكي " 10/ 46، و" الدرر الكامنة " 2/ 322، و" البدر الطالع " 1/ 326 - 327.
(1) في (ش): " وأوضح ".
(2) في (أ): " ما " وكتب فوقها: " من ظ ".
(3) هو الإمام حميد بن يحيى الهمداني المتوفى سنة 652. وتقدمت ترجمته 3/ 288.
وكتابه " العمدة " هو: " عمدة المسترشدين "، يقع في أربعة مجلدات وهو في أصول الدين.
ذكره أحمد بن صالح بن أبي الرجال في " مطلع البدور " 490/ 2.(7/316)
لا أثر للداعي عندهم، فإنه يجوز أن يفعل القادر ما لم يَدْعُ إليه داعٍ، كما فعل الله سبحانه في عذاب (1) الآخرة عندهم، وهذا داخلٌ عندهم في قِسْمِ الحسن، ولا معنى للعبث إلاَّ هذا، فالعبث عندهم حسنٌ، وهو على هذا جائزٌ على الله، تعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً. فإن منعوا هذا، نقضوا أُصولهم في تجويز الفعل من غير داعٍ، كما نقضت الأشعرية أصولها في المنع من ذلك. وهكذا علم الكلام عامةً، أدلَّتُه تشتمل على التناقض، وعامة جهدهم في الاعتذار من ذلك، وغاية سؤلهم السلامة منه.
فاعجب لعلم وُضِعَ لرفع المشكلات، فكان أحسن أحوال أهله إيهام الخلاص منها بعد لزومه، أو دعوى وضوحه بعد غموضه، فهم في ذلك كناتش (2) الشوكة بالشوكة، والمستجير من الرَّمضاء بالنار (3). وكذلك علوم الفلاسفة وسائر من عادى الكتب السماوية والسنن النبوية.
ومن وازن بين ما جاؤوا به وما جاءت به الرسل زالت عنه الوساوس، وانجلت عنه الحنادِس (4)، ولا بد من وقوع العقول في المواقف والمحارات، وتسليم العقول لوقوع ما لم يُحكم بوقوعه في مذاهب الكفر والإسلام مثل وجود القديم سبحانه على كلام المسلمين، وقِدَم العالم على كلام الكافرين، أو حدوثه من غير محدث.
__________
(1) في (ش): " أفعال ".
(2) في (ش): " كناقش " وهما بمعنى يقال: نتش الشوكة ونقشها: إذا استخرجها بالمنتاش وهو المنقاش.
(3) اقتباس من بيت قاله كليب وائل لما قتله جساس، وهو بتمامه:
المستجير بعمروٍ عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
وذلك أن جساس بن مرة لما طعن كليباً طلب منه السُّقيا، فامتنع، وكان مع جساس عمرو في الحارث بن ذهل شيبان، فنزل إلى كليب، فحسب أنه يسقيه. فلما علم أن نزوله للإجهاز عليه، قال ذلك.
انظر " المستقصى في الأمثال " 2/ 19، و" خزانة الأدب " 7/ 251، و" اللسان " 7/ 36.
(4) جمع " حِندس "، بكسر الحاء، وهو الليل المظلم.(7/317)
فإذا كان لا بد من محارةٍ لا تهتدي العقول إلى طريقها، ولا تحظى بطائل في تحقيقها، فالتسليم لمن تميَّز بجنس المعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، مع ما اشتملت عليه أحوال الأنبياء عليهم السلام من الصفات الحميدة، والقرائن الكثيرة المفيدة، مع تأملها للعلم الضروري، أنهم المخصوصون بالعصمة من الخطإِ والزلل في العلم والعمل، وأنهم منزهون من تخبُّط النُّظَّار ورجمهم بالظنون، وتخيلهم للأقيسة، ووقوعهم في هذا التعارض الشديد.
ومن شكَّ ذلك ولم يصدق فليجرب، ومن جرب القليل، فلم يجد ما ذكرتُ، فليوغل حتى يحقق، ومن لم يعرف إلاَّ كلام طائفةٍ، ولم يدر بكلام سائر الفرق والفلاسفة، فهو يُعَدُّ من العوام، وما عنده علم ما الكلام.
فإن قلت: فما حمل الأشعرية على هذا القول؟
قلت: قصدوا إفحام الفلاسفة في اعتراضهم الشرائع، وحسم المادة في توجيه الاعتراض على الصانع، ولكنهم في ذلك كمن يداوي من المرض بالموت، فإن الفلاسفة لم تكن تطمع في تسليم المسلمين لنفي حكمة ربهم عز وجل، وإنما قصدوا بكلامهم في الاعتراض على الشرائع التشكيك في حكمة الله التي اتفقت عليها الشرائع وأهلها، وكانوا قانعين بمجرد التشكيك، فأما القطع بنفي الحكمة والتصنيف في ذلك والدعاء إليه، والرد على من اعتقد غيره، ونسبته إلى الجهل بصفات الله تعالى، فأمرٌ لم يكن يطمع فيه المُلحدون، فيا عجباً (1) كيف أصبح يدعو إليه الموحِّدُون.
ولهم بعد ذلك شُبَهٌ أربع:
الأولى: ذكرها الرازي في " نهايته " قال: لو كان لله تعالى غرضٌ، لكان قديماً، ويلزم من ذلك أن يكون العالم قديماً.
والجواب: أن تسمية الحكمة غرضاً عبارةٌ مُوهِمَةٌ، وكثيرٌ من مُتكلِّمي
__________
(1) في (ش): " فيا عجباه ".(7/318)
المسلمين -كالمعتزلة- يمنعونها، ثم إن الرازي يقول بقدم الإرادة، وقد ألزمته المعتزلة والفلاسفة قِدَمَ العالم بذلك، فانفصل عنه بأن الإرادة تتعلق بالمراد في وقتٍ مخصوصٍ، لا مطلقاً، فلم يلزم وجوده إلاَّ في ذلك الوقت المخصوص، وكذلك الجواب في الداعي.
وقد تبلَّد الرازي مع شدة ذكائه في جواب كلام الفلاسفة في هذه في أوائل " نهاية العقول "، واضطر إلى التزام مذهب المعتزلة في أن الفاعل يُرجِّح أحد مقدوريه (1) من غير مُرَجِّحٍ، وادعى الضرورة في الفرق بين الداعي والعلة، ثم نقض ذلك كله في مسألة أفعال العباد، وفعل في ترجيح مذهب الفلاسفة ما لا يخفى على متأمل، ولولا خوف الإملال، لنقلت ألفاظه في ذلك.
واعلم أن هذه المسألة من محارات العقول التي تحيَّر فيها جميع الفحول، ولا مرجِعَ فيها إلاَّ إلى التسليم والمنقول، ويأتي كلام ابن تيمية فيها في القول الثالث، وبها يُعرف أنها محارةٌ لا محالة، وأنه ليس فيها مع جميع النُّظَّار من العلم إلاَّ أَثاره، كيف إلاَّ دلالة (2).
الثانية: قال الرازي: يلزم في الغرض أن يكون فيه جلب نفعٍ أو دفعُ ضُرٍّ لله تعالى أو للغير، فإذا كان للغير، فإن كان في حصوله وعدمه على السواء بالنسبة إليه، لزم أن لا يكون غرضاً له في حصوله، وإن لم يكونا بالسواء بالنسبة إليه، لزم أن (3) يكون مُحتاجا إلى ما له غرضٌ في حصوله.
فالجواب: أن انحصار الحكم في جلب النفع ودفع الضرر ممنوعٌ، والاستناد فيه إلى مجرد قياس الخالق على المخلوقين، وهو باطل وتسمية داعي الحكمة الذي هو عبارةٌ عن مجرد العلم برجحان الممكن غرضاً للغني عن كل شيءٍ قياسٍ في اللغة، وفي أسماء الله تعالى وصفاته والقياس فيهما معاً ممنوعٌ.
__________
(1) في (ش): مقدوراته.
(2) في (ش): " كيف الأدلة ".
(3) من قوله: " أن لا يكون " إلى هنا، سقط من (ش).(7/319)
ولو سلمنا جميع ذلك، لم نسلِّم تسمية الرب القادر على كل شيء بغير مشقة محتاجاً إلى إيجاد مراده بغير مشقةٍ تلحقه في الإيجاد، فإنه لا معنى للغني في صحيح اللغة، وفِطَرِ العقلاء وعُرفِ أهل الشرائع، إلاَّ القدرة التامَّة على كل مرادٍ من غير مشقة، ولا استعانةٍ بأحد، ولو كان الغني هو الذي أراد الرازي من عدم الداعي، لزم أن يكون الجماد، بل المعدوم، أغنى من الله -تعالى عن ذلك عُلُوَّاً كبيراًً- لأن استحالة الداعي في الجماد والمعدوم على زعمهم.
وبعد، فالمخالف في هذا من المسلمين لا يخلو: إما أن يثبت إرادة الله تعالى، أو لا.
إن لم يثبتها، عطَّل السمع، وخالف إجماع من يعتدُّ به.
وإن أثبتها، فإما أن يثبتها مثل إرادة المخلوقين، لزمه إن الله محتاجٌ، فإن المخلوق لا يريد إلاَّ ما له فيه منفعةٌ أو دفع مضرةٍ.
وإن قال: إن إرادة الله تعالى غير مُشَبَّهَةٍ بإرادة المخلوقين، كذاته وجميع صفاته، فكذلك يقول في الداعي: إن له سبحانه داعي حكمةٍ في أفعاله، وإنه ليس لجلب نفعٍ له، ولا دفع ضررٍ عنه، ولا يلزمه تشبيهه بدواعي المخلوقين، وما الذي خصَّ الداعي بأنه يكون مشبهاً دون الذات وسائر الصفات، وقد قام الدليل على نفي التشبيه من كل شيءٍ يتعلق بالرب جل جلاله.
الثالثة: قال الرازي: لو فعل الله لغرضٍ، لكان إمَّا أن يُمْكِنَه تحصيل ذلك الغرض بدون ذلك الفعل كان التَّوسُّل بتلك الوسيلة عبثاً، وإن لم يمكن، كان ذلك الغرض مشروطاً بتلك الوسيلة، وذلك باطلٌ، لأن أكثر المقاصد إنما تحصُلُ بعد انقضاء تلك الوسائل، وحصوله بعد عدمه يمنع كونه شرطاً فيه.
والجواب: أنه قادرٌ بغير وسيلةٍ.
قوله: تكون الوسيلة عبثاً، غير مسلَّمٍ للقطع بجواز أن يكون الشيء على سببٍ أوَّليٍّ في الحكمة، والله تعالى يعلم من وجوه الحكمة ما لا نعلمه، لا سيما(7/320)
في المتشابه. وقد مرت الإشارة إلى ذلك.
فإما أن يسلِّم ذلك حصل عرضاً، وإن ادعى أنه لا يجوز أن يعلم الله من الحِكَم ما لا نعلمه، احتاج إلى برهانٍ قاطعٍ على ذلك، ولا برهان إلاَّ مجرد الوهم لقياس الخالق على المخلوق، وهو باطل.
وأين الرازي من قوله:
العلم للرحمن جل جلاله ... وسواه في جَهَلاتِه يَتَغَمْغَمُ
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلمُ (1)
والعجب من الرازي -مع ذكائه- كيف يمنع الوسائل لكونها عبثاً في الاستدلال على أن جميع أفعاله سبحانه عبثٌ عنده، ومن قبل جعل العبث حقيقة الغنى، والحكمة حقيقة الحاجة.
فيا هذا، إذا كانت أفعال الله تعالى عندك كلها عبثٌ، لا حكمة فيها، ولا يتمُّ غناه إلاَّ بذلك، فكيف يكون ما أدى إلى مذهبك الحق باطلاً، لاستلزامه الغنى الذي هو حقٌّ، ومستلزم الحق حقٌّ.
وهلا قلت: لزم أن يكون غنيّاً بالمعجمة والنون، لا عبثاً بالمهملة والمُوَحَّدَةِ ثم المثلثة، وقد سميت الداعي حاجةً، والمتصف به محتاجاً، فغيرت اسم الحكمة وسميتها حاجةً، واسم الحكيم وسميته محتاجاً، تشنيعاً على خصمك، كما غيرت اسم العبث وسميته غنى، واسم العابث وسميته غنيّاً، حين احتجت إلى ذلك، فبان غلاطك وقلبك لأسماء الصفات، ووقوفك مع مجرد العبارات، وهذا كلامٌ نازلٌ، وتطاولٌ ليس تحته طائلٌ.
فإن قلت: إنما عنيت أنه يلزم المخالف على أصله أنه عبث.
قلنا: هو مشترك الإلزام بينك وبينه، فكما أنك تَسَتَّرت بتسميتِهِ عبثاً،
__________
(1) تقدم هذان البيتان: 2/ 101.(7/321)
فَلِخَصْمِكَ أن يتستر بتسميته مباحاً (1) حسناً، لا حرج فيه، ولا ذمَّ ولا كراهة.
فإن كان التستر بتبديل عبارةٍ مكان أخرى، والمعنى واحدٌ ينفعك مع خصمك، وإن كان لا ينفع خصمك، فكذلك (2) المماراة والتلبيس على الضعفاء.
ويؤيد هذا أن الأشعرية نازعت المعتزلة في كون العبث: هو ما لا غرض فيه، كما ذكره البيضاوي في " المطالع " قال: ولا بُدَّ من تصويره أوّلاً وتقريره ثانياً.
والجواب: أما تصويره في الذهن دون الخارج، فهو ما جَوَّزَتْه الأشعرية على الله من فعل ما لا غرض فيه ولا نفع. وأما في اللغة، فذلك قرآنيٌّ لُغوي، معلوم الوقوع بالضرورة، ومستنده إليها، فالمرجع فيه إلى أئمتها.
الرابعة: قال الرازي: تعليل الفاعلية بالغرض متفرِّعٌ على الحسن والقبيح العقليَّيْن، وهما باطلان.
والجواب من وجهين:
أحدهما: منع ذلك، فإنا بيَّنَّا أن فاعلية الرب سبحانه تُوقف على نصوص القرآن المعلومة المعنى مع القرائن القطعية على عدم تأويلها، بل ذلك معلومٌ من ضرورة الدين وإجماع المسلمين. وتلك القرائن المفيدة للعلم استمرار تلاوتها من غير تنبيهٍ على قبح الظاهر، وهو دليلٌ قاطع لأهل التأويلات المبتدعة.
الوجه الثاني: أن أهل السنة غير مجمعين على بطلان التحسين والتقبيح عقلاً، فهذا ابن تيمية وأصحابه يقولون بذلك وهم من رؤوس الحماة (3) عن السنة.
__________
(1) في (ش): " كونه مباحاً ".
(2) في (ش): " فدع ".
(3) " وهم " سقطت من (أ)، وفي (ش): " وهم رؤوس الجماعة ".(7/322)
ويأتي بيانُ قول الحنفية، واختيار الزنجاني (1) من الشافعية، وأبي الخطاب (2) من الحنابلة من التفصيل، وقول الزركشي من الشافعية: إنه المنصور ثبوته في الفِطرة وآيات القرآن، وسلامته من الوهن والتناقض (3).
قلت: وهذا الرازي -على غُلُوِّه في إبطاله- رجع إلى الاعتراف به في المعنى، لكن سمَّى الحُسْنَ كالعلم، والصدق صفة كمالٍ، والقبيح كالجهل، والكَذِبَ صفة نقصٍ، وليس الخلاف عنده إلاَّ في استحقاق صفة النقص هذه للعقاب في الآخرة، والذَّمِّ في الدنيا بمجرد العقل، وبذلك استدل على منع الكذب على الله سبحانه.
نعم، لو سلَّمنا ترك التحسين والتقبيح عقلاً بالمرَّة، جوَّزنا ما ذكره تجويزاً من غير قطعٍ، لكن يصعُبُ الاستدلال على أن الله سبحانه صادقٌ.
وفيما قدمناه من السمع دلائلٌ واضحةٌ على ثبوت التحسين العقلي، كقوله تعالى: {سَاءَ ما يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 4]، وقوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 - 36]، وقوله في جواب الملائكة: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147].
ومن أحسنها دليلاً على ذلك: قصة الخَضِر وموسى وقوله في جواب الملائكة: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون}، ولم يقل: إنه لا حكمة له (4) كما تظنُّون،
__________
(1) تحرف في (أ) إلى: " الريحاني "، وهو أسعد بن علي الزنجاني، تقدمت ترجمته 5/ 164.
(2) تحرفت في (أ) و (ش) إلى: " ابن " وأبو الخطاب: هو: محفوظ بن أحمد بن حسن الكلواذاني. تقدمت ترجمته 5/ 164.
(3) انظر الوهم الثاني والثلاثين (8/ 3)، وتقدمت الإشارة إلى هذا في آخر الوهم السابع والعشرين (5/ 164).
(4) في (ش): " لي ".(7/323)
ثم سؤال الملائكة دليلٌ على اعتقادهم لذلك.
وهذه مسألةٌ كبيرةٌ، لا يصلح ذكرها في جنب غيرها، فهذه شُبَهُ غُلاة الأشعرية التي ذكرها الرازي في " نهايته ".
فأما قوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فإنها في الاحتجاج على بطلان المعبودين من دون الله، كما دل عليه سياق الآيات قبلها وبعدها في سورة الأنبياء، فإن قبلها: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} الآيات [الأنبياء: 21]. فهي في الاحتجاج على بطلان ربوبية من يُسأل عن أعماله سؤال الحساب، فهو مربوبٌ محاسبٌ، إما مُعَذَّبٌ أو مرحومٌ، مثل احتجاجه بأنهم لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون، وهو كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158]، وليس هذا يناقض أن يكون لله تعالى حكمة يمتنُّ بتعريفها على من يشاء من عباده، كما منَّ بذلك على الخَضِر في المتشابه، وعلى الجميع في المُحكم.
ولا يناقض ذلك أن يسأل من فضله تعليمنا ما ينفعنا من ذلك، كما أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وقل رب زدني علماً " (1) والله سبحانه أعلم.
وإنما الآية في معنى نفي (2) أن يكون تعالى مربوباً مديناً مسؤولاً عن
__________
(1) روى الترمذي (3599)، وابن ماجه (251) و (3833) من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، والحمد لله على كل حال ". وفي سنده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
وروى أبو داود (5061)، والنسائي (865)، وابن السني (761) كلاهما في " عمل اليوم والليلة " من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا استيقظ من الليل، قال: " لا إله إلاَّ الله، سبحانك، اللهم إني أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمتك، اللهم زدني علماً، ولا تزغ قلبي بعد أن هديتني، وهب لي من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب ". وصححه ابن حبان (5531)، والحاكم 1/ 450، ووافقه الذهبي.
(2) سقطت من (ش).(7/324)
حكمته، وعن بيانها، خائفاً من المناقشة عليها -سبحانه عن ذلك وتعالى عُلُوّاً كبيراً -لا أنه نفي أن تكون له حكمةٌ، ولا أن يكون حكيماً، إنما سيقت الآية لتعظيم العزة، لا لنفي الحكمة، فإنه تمدح بالعزة والحكمة، بل جمع التمدح بالعزيز الحكيم في آية واحدةٍ (1) كثيراً في غير موضعٍ من كتابه، كما جمع بين الغفور الرحيم لعدم اجتماع ذلك على الكمال لغيره جل جلاله.
ثم ذكر الرازي لجماهير المسلمين من الأشعرية والمحدثين وطوائف المسلمين حُجَّتين عقليَّتين، وأعرض عن صوادع نصوص القرآن، كأنه لا يعدُّها في شيءٍ من البرهان.
أحدهما: أن كلام غلاة الأشعرية يؤدي إلى أن جميع أفعال الله عبثٌ، وأن إدخال الأنبياء الجنة ليس أولى من إدخالهم النار، وأحال بالجواب إلى نفي التحسين، وهذا منه قبيحٌ على كل مذهبٍ، حتى على مذهبه، فإنه يُوهِمُ أنه يجوز دخول الأنبياء نار جهنم، وليس كذلك، فإنه ممتنعٌ عند الجميع، لكن عند هؤلاء الغلاة أنه ممتنعٌ سمعاً، وعند سائر المسلمين عقلاً وسمعاً، لكن استدلالهم بالسمع مع اعتقادهم مشكلٌ.
الحجة الثانية: أنه يؤدي إلى ترجيح أحد طرفي الممكن من غير مُرَجِّحٍ، وأحال بالجواب إلى ما ذكره في مسألة حدوث العالم والجواب على الفلاسفة.
وإنما قال هناك: إنه لا جواب إلاَّ مذهب المعتزلة، وهو أن القادر يرجِّحُ أحد مقدوريه من غير مرجِّحٍ، وليس هذا المذهب إلاَّ لبعض المعتزلة، والذاهب إليه من المعتزلة يناقضه، ويقول ببطلانه في مسائل كما مضى في المرتبة الخامسة، وهو مذهبٌ ساقطٌ، ولذلك لم يستمر لمن ذهب إليه من المعتزلة القول به.
وقد صرح الرازي في مسألة أفعال العباد ببُطلانه، واحتجَّ على ذلك
__________
(1) " واحدة " سقطت من (أ).(7/325)
بالحُجَحِ القاطعة، حيث يتميز الراجح من المرجوح، فأما حيث يترجح أحد الأمرين المستويين، فمحارةٌ غامضةٌ، والصواب فيها الوقف مع القطع بأن فاعل أحد الأمرين غير موصوفٍ بالعبث مع وجود الحكمة في أحدهما، لا بعينه، كالواجبات المحيرة. وسواءٌ قدَّرنا أن التخصيص بداعٍ خاصٍّ لم يُدْرَكْ، أو بالداعي الأول الجمليِّ.
ويوضح ذلك إطباق العقلاء على ذم من ترك الواجب أو المرجّح (1) لعدم هذا الداعي الخاص، كترك المشي في أحد الطريقين مع الحاجة إلى ذلك، وعدم الصارف، والله أعلم.
وهذه المسألة هي التي اضطرب فيها الرازي سامحه الله وإيَّانا، إنه عز وجل لا يضرُّه خطأُ الجاهلين، ولا ينفعُه عرفان العارفين، وإن وصية الرازي المشهورة تقضي له أنه مات من التائبين من جميع مذاهب المبطلين، والحمد لله رب العالمين.
تم بعونه تعالى الجزء السابع من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء الثامن وأوله:
الوهم الحادي والثلاثون: قال: إنهم يقولون بإثابة الفراعنة
__________
(1) في (ش): " الراجح ".(7/326)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الثامن
مؤسسة الرسالة(8/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
8(8/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(8/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(8/4)
بسم الله الرحمن الرحيم (1)
وبه نستعين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
الوهم الحادي والثلاثون:
قال: إنهم يقولون بإثابة الفراعنة بطاعات الأنبياء وتوهم (2) أن هذا يمضي، فالله المستعان.
وقد مر الجواب في مسألة المتأولين، فخذه من هناك.
الوهم الثاني والثلاثون:
قال: ومن العجب العُجاب قول فخر الدين الرازي في " محصوله " (3): إن شكر المنعم لا يجب عقلاً، وإن قُبْحَ القبيح لا يُعرف عقلاً ... إلى آخر كلامه.
أقول: بل من العجب العجاب أن الرازي يقول في " محصوله " هذا الذي نقلت عنه:
إن أهم ما في هذه المسألة معرفة موضع الخلاف بينهم وبين المعتزلة،
__________
(1) من بداية هذا المجلد وحتى نهاية الكتاب اعتمدنا النسخة التي رمزنا إليها في المقدمة ص 130 بـ (د)، وكنا ذكرنا أنها تبدأ بالوهم الثاني والثلاثين، والصواب أنها تبدأ بالوهم الحادي والثلاثين، كما هو مثبت هنا، ثم انتهى إلينا أصل جديد من المجلد الرابع الذي يستوعب الجزء الثامن والتاسع من طبعتنا هذه زودنا بها القاضي إسماعيل الأكوع شكر الله له، وقد رمزنا لها بحرف (ف) وهي نسخة جيدة مقروءة نادرة الخطأ.
(2) في (ش): " ثم وهم ".
(3) 1/ 193.(8/5)
ثم يصرح الرجل ببيانه بأوضح عبارةٍ، وأجلى نصٍّ، وأصرح بيان، ثم تغلط عليه في النقل من ذلك الكتاب (1) بعينه، وقد تقدم أن الرجل قد اعترف في " المحصول " هذا الذي نقلت عنه، فما حصَّلت نقلك، ولا حضرت عقلك: أنهم لا يخالفون في التحسين والتقبيح باعتبارات ثلاثة:
الأول: بالنظر إلى صفة الكمال، كالعلم والصِّدق، يعني الذي ليس بضارٍّ، وإلى صفة النقص، كالجهل والكذب، يعني الذي لم يقع إليه ضرورة، ولهذا لم يجيزوا الكذب من الله تعالى ولا شيئاً من صفات النقص عقلاً وسمعاً.
الثاني: بالنظر إلى النفع، كالصدقة، وإنقاذ الغرقى، ونصر المظلوم، ونحو ذلك، وبالنظر إلى المضرِّة كالظلم ونحوه.
الثالث: بالنظر إلى العادة، كستر العورة وكشفها قبل الشرع، وعند البراهمة ونحوهم ممن لا يتحكَّمُ للشرع (2).
فهذه الوجوه الثلاثة يُقِرُّون بالتحسين والتقبيح بها عقلاً، وسائر التقبيح والتحسين عندهم شرعي.
__________
(1) في (د): " النقل " وعبارة " من ذلك الكتاب " ساقطة من (ش).
(2) يعني أن التحسين والتقبيح في هذه الأشياء غير مستفادة من الشرع، فإن البراهمة مع إنكارهم للشرائع عالمون بها.
قلت: والبراهمة نسبة إلى هندي يُدعى: برهم. وهم طوائف، فطائفة تقول بقدم العالم، وتعترف بمدبر له قديم، وترى أن الإنسان غير مكلف بغير المعرفة، وطائفة تقول بحدوث العالم، وتعترف بوجود صانع حكيم، ولكنها تُنكر النبوات والكتب السماوية، وترى أن الواسطة بين الخالق وخلقه هو العقل فقط.
وطائفة تقول بحدوث العالم، وتعترف بوجود الخالق، ولكن تؤمن بأن الذي يدبر شؤون العالم هو الأفلاك السبعة البروج الاثنا عشر.
انظر: " الملل والنحل " 2/ 250 وما بعدها و" الحور العين " لنشوان الحميري ص 143 - 144.(8/6)
قال: وليس موضع الخلاف بيننا وبينهم في تقبيح هذه القبائح، وإنما موضع الخلاف في أن فاعل القبيح -الذي يسمُّونه صفة نقصٍ، كالكذب الذي ليس بضارٍّ- هل يستحق عليه العقوبة في الآخرة، والذم في الدنيا بمجرد العقل قبل ورود الشرع بذلك، أم لا؟ فهم (1) يقولون: لا نعرف استحقاق ذلك على هذا القدر قبل الشرع بمحض العقل المجرد عن النظر إلى الشرائع والعوائد، بل لا بد من تعريف الشرع بذلك، والمعتزلة تقول: بل يستقلُّ العقل بمعرفة ذلك قبل ورود الشرع به (2)، ولكن معرفة العقل لذلك عندهم معرفة (3) جملية، ولا يُهتدى إلى تفصيل (4) مقدار العقوبة إلاَّ بالشرع، وهذا عندهم هو الذي اختص الشرع ببيانه (5).
وقال الزركشي في " شرح جمع الجوامع " للسبكي: الحُسْنُ والقبح يُطلق بثلاثة اعتبارات:
أحدها: ما يلائم الطبع وينافره، كإنقاذ الغريق، واتهام البريء.
والثاني: صفة الكمال والنقص، كقولنا: العلم حَسَنٌ، والجهل قبيحٌ، وهو بهذين الاعتبارين عقليٌّ بلا خلاف، إذ العقل يستقل بإدراك الحسن والقبح فيهما (6)، فلا حاجة في إدراكهما إلى شرعٍ.
والثالث: ما يوجب المدح والذم الشرعي عاجلاً، والثوات والعِقاب آجلاً، فهو محلُّ النِّزاع.
__________
(1) كتب فوقها في (ش): " أي الأشعرية ".
(2) ساقطة من (ش).
(3) قوله: " عندهم معرفة " ساقطة من (ف).
(4) " تفصيل " ساقطة من (ف).
(5) انظر المحصول 1/ 1/159 - 166.
(6) في (ش): " فيها ".(8/7)
إلى قوله في التنبيهات:
التنبيه الثاني: ما اقتصر عليه المصنِّف من حكاية قولين هو المشهور، وتوسَّط قومٌ، فقالوا: قبحها ثابتٌ بالعقل.
قلت: يعني والذم عليها، وإلاَّ لكان هو الأول.
قال: والعقاب متوقِّفٌ (1) على الشرع، وهو الذي ذكره سعد بن علي (2) الزنجاني من أصحابنا، وأبو الخطاب من الحنابلة، وذكره الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة نصّاً (3)، وهو المنصور لقوته من حيث الفطرة، وآيات القرآن المجيد وسلامته من الوهن والتناقض. انتهى (4).
وهو نقلٌ مفيدٌ، واختيارٌ سديدٌ، وهو كثير النقل في الغرائب من " المسودة " (5) لابن تيمية (6).
قوله: وآيات القرآن المجيد.
__________
(1) في (ف): " يتوقف ".
(2) تحرف في الأصول إلى: " أسعد " وقد تقدمت ترجمته 5/ 164.
(3) في (ف): " أيضاً ".
(4) تقدمت الإشارة إلى هذا البحث 5/ 164 - 165.
(5) هو كتاب في أصول الفقه تتابع على تصنيفه ثلاثة من العلماء من آل تيمية أولهم: أبو البركات مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن الخضر المتوفى سنة 652، وثانيهم ولده أبو المحاسن شهاب الدين عبد الحليم بن عبد السلام المتوفى سنة 682، وثالثهم شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المتوفى سنة 728، وقد كتب كل واحد من هؤلاء العلماء ما كتبه وتركه مُسَوَّدة، ثم جمع مُسَوَّدَاتِهم، ورتبها، وبيضها الفقيه الحنبلي أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الغني الحراني، المتوفى سنة 745، ووضع علامة تميز كلام كل واحدٍ منهم عن كلام الآخرين.
(6) من قوله: " وهو نقل مفيد " إلى هنا، سقط من (ف).(8/8)
يعني: الدالة على أن القبيح عقلي مثل قصة الخضر وموسى، ورجوعهما معاً إلى تأويل المستقبحات العقلية بوجوه عقليةٍ تُحَسِّنُها العقول (1)، ولو كان حسن الأشياء شرعياً محضاً (2)، لامتنع أن يكون ذلك متشابهاً محتاجاً إلى تأويلٍ عند أعرف العارفين، وكذلك قوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35 و36]. وأمثال ذلك.
ولا شك أن هذا الموضع الذي وقع فيه الخلاف دقيقٌ لا يرتقي إلى مرتبة الضروريات الأوَّليَّات، ولا يُعلم من صاحبه تعمُّد العناد كما ادعاه الخصمُ عليهم، ومن ها هنا أجمع أهل البيت عليهم السلام: على أنهم من أهل التأويل كما تقدم ذكر نصوصهم على ذلك.
واعلم أنك قد أغفلت أو تغافلت عن أمرين مهمَّين:
الأول: أنك بالغت في ذكر مساوىء الخصوم، حتَّى قلت عنهم ما لم يكن لأجل عمومٍ وقد بيَّنوه، أو إلزامٍ لم يلتزموه، أو قول بعض شواذِّهم مما قد أنكروه وقبحوه، وتركت (3) بعض محاسنهم المعلومة بالضرورة عنهم من المحافظة على أركان الإسلام، وتعظيم شعائره، والذَّبِّ عن شرائعه، وظهور أمارات الإخلاص والإيمان من دوام العمل والخشوع والبكاء عند أسبابه، وترك المحرمات، وذكر تحريمها، والأدلة عليه في كتبهم، وذم مرتكبيها وتخويفهم (4) وتأليفهم في الترغيب والترهيب، وأمثال ذلك مما يضطر من عَلِمَه منهم بمشاهدةٍ أو تواترٍ إلى اعتقاد تأويلهم، وترجيح ذلك على اعتقاد القطع بتعمُّدهم للكفر، وعلمهم أنهم كفرةٌ فجرةٌ، ساعون بجهدهم في غضب الله، مصرُّون على ذلك في حال الصِّحة والمرض، وعند شدة الآلام، واقتراب
__________
(1) " العقول " ساقطة من (ف).
(2) تحرفت في (ش) إلى: " مخفياً ".
(3) في (ش): " ونزلت ".
(4) " تخويفهم " ساقطة من (ش).(8/9)
الأجل، وظنهم للقاء الله عز وجل، وهذا الذي غفلت عنه هو الذي حمل علماء الإسلام من أهل البيت عليهم السلام وسائر العلماء الأعلام على إثبات حكم التأويل لهم ولأمثالهم من الفرق (1) الإسلامية، والله تعالى نصب الموازين يوم القيامة للحسنات والسيئات، مع علمه الغيب وشهادة ملائكته الكرام وشهادة الأعضاء من الأنام، وأنت تركت سنة الله، وسنة رسله الكرام، وسنة العدل المحمود بين (2) الأنام.
الأمر الثاني: أن من سلك ما سلكت من رمي أهل المذاهب بمجرد ما يُشنَّع عليهم به من غير تأمُّلٍ (3) لمقاصدهم، أمكنه نسبة إنكار الضرورة إلى كل طائفة غالباً، فقد خالف كبراء شيوخ المعتزلة في أمورٍ تظهر لمن لم يبحث عن مقاصدهم فيها، أنهم أنكروا الضرورة، مثل قول البصريين من المعتزلة، المسمين بالمخترعة: إن الماء لا يُرْوي، والنار لا تَحْرِقُ، والطعام لا يُشبعُ.
وقولهم: إن النار والماء مثلان لا ضدان ولا مختلفان، وبهم يُعرِّضُ أبو السعود من شعراء المطرِّفيَّة حيث قال في أرجوزته المشهورة:
ما نحن قلنا النار مثل الماء ... والقارُ مثل الفِضَّة البيضاء
ومن ذلك: قول المعتزلة: إن الله ليس برحمن ولا رحيمٍ على الحقيقة، وإنهما في ظاهرهما، وحقيقتهما من أسماء الذم القبيحة، ولهذا (4) تعارضهم القرامطة في تقبيح المعتزلة عليهم قولهم: إنه تعالى ليس بعالمٍ ولا قادرٍ حقيقةً.
وكذا (5) تقول البغدادية منهم في " سميعٍ بصيرٍ "، وفي " مريد ": إنها في
__________
(1) في (ش): الفرقة.
(2) في (ف): " من ".
(3) في (ف): " تأول ".
(4) في (ش): " وهذا "، وفي (ف): " وبهذا ".
(5) في (ف): وكذلك، وفي (ش): " وكذا قول ".(8/10)
ظاهرها قبيحةٌ، وإنما تأويلها أن الله عالم غير ساهٍ ولا غافلٍ، وأمثال هذا في مذاهبهم، والقصد والإشارة (1)، فكما أمكن الخصم بجعلهم -مع ذلك- من أهل التأويل، فكذلك مثل ذلك في الأشعرية، وإلا لكان كما قيل:
وعينُ الرضا عن كل عيبٍ كليلة ... ولكنَّ عين السُّخط تُبدي المساويا (2)
والله سبحانه أعلم.
الوهم الثالث والثلاثون:
ذكر السيد عن الفقهاء أنهم يجيزون إمامة الجائر، وحكى عن ابن بطَّالٍ أنه قال ما لفظه: الفقهاء مُجمعون أن المُتغلِّب طاعته لازمةٌ ما أقام الجُمُعات، والأعياد، والجهاد، وأنصف المظلوم غالباً، وأن طاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدَّهماء، وحقن الدماء، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أطيعوا السلطان ولو كان عبداً حَبَشِيّاً " (3) ولا يمتنع من الصلاة خلفه، وكذلك المذموم ببدعةٍ أو فِسْقٍ. انتهى.
إلى قول السيد: فإذا كان هذا مذهب القوم، عرفت أنهم كانوا مع أئمة الجور الذين قتلوا الأئمة الأطهار، وأنهم شيعة الححاج بن يوسف، بل شيعة يزيد قاتل الحسين عليه السلام، وشيعة هشامٍ قاتل زيد بن عليٍّ عليه السلام،
__________
(1) في (ش): في الإشارة.
(2) البيت لعبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب، وقد تقدم تخريجه 7/ 21.
(3) لم يرد بهذا اللفظ في كتب الحديث، فقد رواه البخاري (693) و (696) و (7142)، وأحمد 3/ 114 و171، والبيهقي 3/ 88 من حديث أنس بلفظ: " اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله ".
وعن أبي ذر نحوه - رواه مسلم (1837)، والبيهقي 3/ 88.
وعن أم الحصين الأحمسية، رواه أحمد 6/ 402، ومسلم (1838)، والطبراني في " الكبير " 25/ (377) - (382).(8/11)
وشيعة أبي الدوانيق (1) قاتل محمد بن عبد الله (2) وأخيه إبراهيم عليهما السلام، وشيعة هارون الرشيد قاتل يحيى بن عبد الله (3)، لأنهم يعتقدون بغي من خرج على المُتَغَلِّب الظالم، كما صرح به ابن بطَّال، ويصوّبون (4) قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاةٌ على قولهم.
أقول: اشتمل كلام السيد هنا على أوهامٍ كثيرةٍ، وهي تبين بالكلام على فصولٍ:
الفصل الأول: في بيان أن الفقهاء لا يقولون بأن الخارج على إمام الجَوْرِ باغٍ، ولا آثمٌ، وهذا واضحٌ من أقوالهم، ومعلومٌ عند أهل المعرفة بمذاهبهم، ويدلُّ عليه وجوهٌ:
الوجه الأول: نصُّهُم على ذلك وهو بَيِّنٌ لا يُدفع، مكشوفٌ لا يتقنَّع، قال النووي في كتاب " الروضة " (5) ما لفظه: الباغي في اصطلاح العلماء: هو
__________
(1) أبو الدوانيق: هو لقب الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور المتوفى سنة 158. قال الذهبي في " السير " 7/ 83: كان يلقب أبا الدوانيق، لتدنيقه ومحاسبته الصناع لما أنشأ بغداد، وقال: كان فحل بني العباس هيبةً وشجاعة ورأياً وحزماً ودهاءً وجبروتاً، وكان جمَّاعاً للمال، حريصاً، تاركاً للهو واللعب، كامل العقل، بعيد الغور، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم.
(2) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الملقب بالنفس الزكية.
خرج هو وأخوه إبراهيم بن عبد الله على أبي جعفر المنصور. قتلا سنة (145) هـ. انظر " السير " 6/ 210 - 224.
(3) هو يحيى بن عبد الله بن الحسن، أخو محمد وإبراهيم ابني عبد الله السالف ذكرهما، دعا إلى نفسه بالخلافة، ومات محبوساً في خلافة هارون الرشيد سنة 180 هـ. انظر " تاريخ بغداد " 14/ 110 - 112.
(4) في (ش): " وتصويب ".
(5) 10/ 50 واسمه الكامل " روضة الطالبين وعمدة المفتين " اختصره الإمام النووي من كتاب أبي القاسم عبد الكريم الرافعي " فتح العزيز في شرح الوجيز " اختصاراً مركزاً بحيث =(8/12)
المخالف لإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجبٍ عليه أو غيره، انتهى كلام النووي.
وقال الخليل بن إسحاق الجندي المالكي (1) شارح " مختصر ابن الحاجب الفرعي " المسمى بـ " التوضيح ": الباغية: فرقةٌ خالفت الإمام بمنع حقٍّ، أو لقلعه، فللعدل قتالهم وإن تأوَّلوا. ذكره في مختصر له، صنعه لبيان ما به الفتوى في مذهب مالكٍ رحمه الله تعالى.
وذكر النووي في " الروضة " (2): أن القهر أحدُ طرق الإمامة، لكنه إن كان عادلاً لم يأثم، وإن كان جائراً أثِمَ، وعصى بالتَّغَلُّب، أو كما قال، وهو نصُّ في موضع الخلاف وقد حكى هذا النووي فيما تقدم الآن عن العلماء على الإطلاق، ولم يُبين أحداً وروى عنهم الإمام المنصور بالله عليه السلام نفيض ما ذكره السيد من متابعة أهل البيت عليهم السلام، وبالغ في براءتهم من ذلك، وتجهيل (3) من نسب إليهم ما ذكره السيد، ذكره في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان من المجموع المنصوري، وكذلك في جوابه على وَرْدسان، وكذلك نقل عنهم التصريح بنقيض كلام السيد الإمام العلامة أبو الحسن (4) علي بن
__________
= استوعب جميع فقه الكتاب حتى الوجوه الغريبة إلاَّ أنه رحمه الله جَرَّدَهُ من معظم الأدلة التي وردت فيه، واستدرك عليه في مواطن غير قليلة وزاد عليه كثيراً من الفروع التي جمعها من أمهات المصادر في الفقه الشافعي، وقد طبع في اثني عشر مجلداً في دمشق وكان لي شرفُ تحقيقه على ثلاثة أصول خطية مع زميلي الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، حفظه الله ورعاه.
(1) هو الخليل بن إسحاق بن موسى المالكي الجندي، سُمِّي بذلك. لأنه كان يلبس زي الجند، ولم يُغيره، وكتابه هذا يقع في ست مجلدات ولم يطبع بعد. توفي سنة 776 هـ، وقيل: غير ذلك.
وابن الحاجب تقدمت ترجمته 1/ 436 و2/ 15.
(2) 10/ 46.
(3) في (ش) و (ف): " ويجهل ".
(4) تحرف في (ش) إلى: " الحسين ".(8/13)
محمد بن عليٍّ الطبري، الملقب عماد الدين، المعروف بالكيا الهَرَّاسي تلميذُ الجويني، ذكره ابن خَلِّكان في ترجمته من تاريخه المشهور (1)، وسيأتي لفظه في ذلك (2).
فتطابق نقلهم عن أئمتهم ونقل أئمتنا عن أئمتهم على تكذيب هذه الدعوى عليهم، مع أنها دعوى مجرَّدةٌ عن البيِّنة، مصادمة لنصوصهم البينة، فكانت من قبيل الافتراء، ولَحِقَتْ بالفحش المذموم في هجو الشعراء، وخرجت من أساليب الحكماء وشهدت على أن راويها ليس من العلماء.
الوجه الثاني: أن الكلام في الخروج على أئمة الجور عندهم من المسائل الظنية، فالذي يخرج على الجائر -مستحلاً لذلك- غير آثمٍ، لأنه عَمِلَ باجتهاده في مسألة ظنيةٍ فروعيَّةٍ، فلم يستحقُّ التأثيم، ولا يُوصف فعله ممن استحله بالتحريم.
ذكر ما يقتضي ذلك غير واحدٍ منهم، ممن ذكر ما يقتضي ذلك الرازي في كتابه " الأربعين في أصول الدين "، وشيخي النفيس العلوي (3)، بل ذكر الإمام
__________
(1) " وفيات الأعيان " 3/ 288. وقال عنه: كان من أهل طبرستان، وخرج إلى نيسابور، وتفقه على إمام الحرمين الجويني، وكان حسن الوجه جهوري الصوت، فصيح العبارة، حلو الكلام، ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح. وقال الذهبي: كان أحد الفصحاء ومن ذوى الثروة والحشمة، واتهم بأنه باطني، يرى رأي الإسماعيلية، فنمت له فتنة، وهو بريء من ذلك. و" الكيا " في اللغة العجمية: الكبير القدر، المقدم بين الناس. انظر: " السير " 19/ 350 - 352.
(2) ص 30.
(3) هو سليمان بن إبراهيم بن عمر بن علي بن عمر نفيس الدين أبو الربيع ابن البرهان العلوي، نسبة لعلي بن راشد بن بولان، برع في الحديث، وصار شيخ المحدثين ببلاد اليمن وحافظهم، له كتاب " الأربعين " في الحديث، و" إرشاد السالكين " في التصوف توفي سنة 825 هـ. انظر ترجمته في " إنباء الغمر " 7/ 474، و" الضوء اللامع " 3/ 259 - 260، و" شذرات الذهب " 7/ 170، و" فهرس الفهارس " 2/ 980.(8/14)
المقلد بالله ما يقتضي ذلك عند أهل البيت عليهم السلام، فإنه ذكر في آخر الزيادات في " مسائل الاجتهاد " اختلافهم في ذلك، كما يأتي بيانه في الفصل الثالث في الموضع الأول منه في (1) هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
وذكر صاحب " الكافي " (2) نحو ذلك عن أحمد بن حنبل في القسم الثالث من أقسام البغاة مع تجويز تسميته باغياً، وفيه شذوذٌ، وفي صحته نظر، والله أعلم. وذكر أنه (3) من لم يكن له تأويلٌ منهم، فحكمه حكم قُطَّاع الطريق.
قلت: وهذا مثل يزيد وأمثاله كما سيأتي نصُّهم على ذلك.
الوجه الثالث: أن ذلك جائزٌ في مذهبهم وعند كثيرٍ من علمائهم، فإن للشافعية في ذلك وجهين معروفين، ذكرهما في " الروضة " النووي وغيرها من كتبهم، وقد اختلفوا في الأصح منهما (4)، فمنهم من صحح منهما (4) لمذهبهم انعزال الإمام بالفسق.
قال الإمام العلامة صلاح الدين العلائيُّ (5) في " المجموع المُذْهَب في قواعد المذهب " ما لفظه: الإمام الأعظم إذا طرأ فسقُه، فيه ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه ينعزل، وصححه في " البيان ".
__________
(1) سقطت من (د).
(2) 4/ 147.
(3) " أنه " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): " منها ".
(5) هو خليل بن كيكلدي بن عبد الله العلائي الدمشقي، كان إماماً حافظاً محدثاً ثبتاً ثقة، عارفاً بمذهبه، وبأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً أصولياً متكلماً أديباً شاعراً ... وله مصنفات كثيرة تزيد على الخمسين، وهي سائرة مشهورة نافعة متقنة محررة، وكتابه " المجموع المذهب "، يقع في مجلدين في 325 صفحة، توجد منه نسخة في مكتبة الأزهر، ونسخة ثانية في مكتبة محمود الأول باستنبول، وثالثة بالمكتبة السليمانية في استنبول. توفي العلائي سنة 761. وانظر ترجمته في " الدرر الكامنة " 2/ 90 - 92.(8/15)
الثاني: أنه لا ينعزل، وصححه كثيرون، لما في إبطال ولايته من اضطراب الأحوال.
قلت: وسيأتي في الموضع الأول من الفصل الثالث من هذه المسألة أنه قول أحمد بن عيسى بن زيد بن علي عليهم السلام المعروف بأنه فقيه آل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
قال العلائي: الثالث: إن أمكن استتابته أو تقويم أَوَدِهِ، لم يُخلع، وإن لم يمكن (1) ذلك، خُلِعَ.
وقال القاضي عياض: لو طرأ عليه كفر، أو تغييرٌ للشرع، أو بدعةٌ، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه، ونصب إمامٍ عادلٍ إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلاَّ لطائفةٍ، وجب عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب على المبتدع القيام إلاَّ إذا ظنُّوا القدرة عليه، فإن تحققوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها، ويفر بدينه.
قال: وقال بعضهم: يجب خلعه إلاَّ أن يترتب عليه فتنةٌ وحربٌ. انتهى. نقل ذلك عنهما النفيس العلويُّ.
ولما ذكر ذلك القرطبي في " تفسيره " (2) الجليل في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]، وقال: في ذلك سبع مسائل. إلى قوله: الثالثة: قال ابن العربي المالكي: فيه أنه لا تجوز إمامة الفاسق، ويصلح أن تُعاد الصلاة خلفه نقله العلوي أيضاً، وكذلك كلام ابن بطال الذي نقله السيد أيضاً، فإنه يدلُّ بمفهومه على جواز الخروج وعدمه، لأنه
__________
(1) في (ش): " يكن ".
(2) 16/ 311.(8/16)
قال: إن طاعة المتغلِّب (1) خيرٌ من الخروج عليه، لما في ذلك من تسكين الدهماء، وحقن الدماء، ولو كان الخروج حراماً قطعاً، والطاعة واجبةً قطعاً، لم يقل: إن الطاعة خيرٌ من الخروج، كما لا يقال: إن صوم رمضان خيرٌ من فِطْرِهِ، لأنهما لم يشتركا في الخير حتى يُفاضَلَ بينهما فيه، وإنما يقال ذلك مجازاً، والظاهر في الكلام عدم التجوز (2)، ولذلك لم يقل أحدٌ (3) ببقاء الحكم على مفهوم قوله تعالى: {وأن تصوموا خيرٌ لكم} [البقرة: 184]، بل قيل:
منسوخٌ، وقيل: لأهل الأعذار، فالسيد ظن أن كلام ابن بطَّالٍ حجَّةٌ له، وهو حجةٌ عليه، فأُتِيَ مما هو مستند إليه.
ومثل كلامه (4) هذا كلام أبي عمر بن عبد البر في " الاستيعاب "، فإنه قال (5) في الكلام على حديث مالكٍ، عن يحيى بن (6) سعيدٍ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جدِّه، قال: " بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في العسر واليُسر والمَنْشطِ والمكره، وأن لا نُنازِع الأمر أهله " (7).
قال ابن عبد البر: واختلف الناس في معنى قوله: " وأن لا ننارع الأمر أهله " فقال قومٌ: هم أهل العدل والفضل والدين، وهؤلاء لا ينازَعُون، لأنهم أهل الأمر على الحقيقة.
وقال أهل الفقه: إنما يكون الاختيار في بدء الأمر، ولكن الجائر من الأئمة إذا أقام الجهاد والجُمُعة والأعياد، سكنت له الدَّهماء، وأنصف بعضها من
__________
(1) في (ش): المتغلب طاعته.
(2) في (ش): التجويز.
(3) ساقطة من (د) و (ف).
(4) كتب فوقها في (ش): " أى: كلام ابن بطال ".
(5) في (د) و (ف): " قال فإنه ".
(6) تحرف في (ش) إلى: " أبي ".
(7) الحديث في " الموطأ " 2/ 445 - 446. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (4547).(8/17)
بعضٍ في تظالمها، لم تجب منازعته، ولا الخروج عليه، لأن في الخروج عليه استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء، وشنِّ الغارات، والفساد في الأرض، وهذا أعظم من الصبر على جَوْرِه وفسقه، والنظر يشهد أن أعظم المكروهين أولاهما بالتَّرك، وأجمع العلماء على أن من أمر بمنكرٍ، فلا يُطاع. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا طاعةَ إلاَّ في المعروف " (1)، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. انتهى.
وقال شيخُ الإسلام عموماً، وشيخ الشافعية خصوصاً تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي في كتابه في " رفع اليدين في الصلاة ": قال الذهبي في " الميزان " (2) في ترجمة عبد الرحمن بن أبي الموال: إنه ثقةٌ مشهورٌ، خرج مع محمد بن عبد الله، من رجال البخاري في " الصحيح "، وحكى عن أحمد بن حنبل أنه لا بأس به، وعن (3) ابن عدي: أن حديثه مستقيمٌ.
وقال ابن حجر في مقدمته في " شرح البخاري " (4) وثقه ابن معين، والنسائي وأبو زُرعة.
إلى هنا انتهت الزيادة، وليست مناسبةً لما نحن فيه.
وقال الذهبي في " الميزان " (5): عبد الملك بن مروان بن الحكم: أنَّى له العدالةُ، وقد سفكَ الدِّماءَ، وفعل الأفاعيل؟!
فإذا عرفت هذا، تبين لك أنهم لا يعيبون على من خرج على الظلمة، لأن جوازه منصوصٌ عليه في كتب فقههم، ولو كان ذلك محرَّماً عندهم (6) قطعاً، لم
__________
(1) رواه ابن حبان (4567) من حديث علي رضي الله عنه بلفظ: " إنما الطاعة في المعروف ". وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) 2/ 592 - 593.
(3) في (ش): " وعنده ". وهو خطأ.
(4) ص 419.
(5) 2/ 664.
(6) في (ش): عليهم.(8/18)
يختلفوا فيه (1) ويجعلوه أحد الوجوه في مذهبهم الذي يحِلُّ للمفتي أن يُفتيَ به، وللمستفتي أن يعمل به، كما أنه ليس لهم (2) وجهٌ في جواز شيءٍ من الكبائر، ولا شك أن كل مسألةٍ لهم فيها قولان أو وجهان أنهم لا يُحَرِّمُون فعل أحدهما، ولا يجرحون من فعله (3) مستحلاً له، ولا يُفسِّقونه (4) بذلك، وهذا يعرفه المبتدىء في العلم، كيف المنتهي؟!
فبان بذلك بطلان قول السيد؛ إنهم يقولون الخارج على أئمة الجَوْرِ باغٍ بذلك.
الوجه الرابع: ما يوجد في كلام علمائهم الكبار في مواضع متفرِّقةٍ، لا يجمعها معنى، مما يدلُّ على ما ذكرته من تصويبهم لأهل البيت عليهم السلام وغيرهم في الخروج على الظَّلمة، بل تحريمهم لخروج الظلمة على أهل البيت أئمة العدل، وهي عكس ما ذكره السيد، وزيادةٌ على ما يجب من الرد عليه.
ومن أحسن من ذكر ذلك، وجوّده الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن خرجٍ الأنصاري الخزرجي الأندلسي المالكي القرطبي في كتابه " التذكرة بأحوال الآخرة " في مواضع متفرِّقة من كتاب الفتن والملاحم وأشراط الساعة، وقد ذكر فيها مقتل الحسين بن علي عليه السلام بأبلغ كلامٍ (5)، وذكر حديث عمَّار: " تقتلك الفئة الباغية " (6)، وقول ابن عبد البر (7) إنه من أصح الأحاديث. قلت: بل هو متواترٌ، كما قال الذهبي في ترجمة عمار من " النبلاء " (8) إلى قول القرطبي (9):
__________
(1) سقطت من (ش).
(2) في (ش): له.
(3) في (ف): " جعله " وهو خطأ.
(4) في (ش): ويفسقونه.
(5) ص 563 - 572.
(6) ص 546، وتقدم تخريجه 2/ 170.
(7) " الاستيعاب " 2/ 474.
(8) 1/ 421.
(9) ص 546.(8/19)
وقال فقهاء الإسلام فيه ما حكاه الإمام عبد القاهر في كتاب " الإمامة " تأليفه:
وأجمع فقهاء الحجاز (1) والعراقي من فريقي الحديث والرأي، منهم: مالكٌ والشافعي والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المتكلمين: أن علياً مصيبٌ في قتاله لأهل صِفِّين، كما قالوا بإصابته في قتل أصحاب الجمل، وقالوا أيضاً بأن الذين قاتلوه بُغَاةٌ ظالمون له، ولكن لا يجوز تكفيرهم ببغيهم.
قال الإمام أبو منصور التميمي البغدادي في كتاب " الفرق " (2) تأليفه في بيان عقيدة أهل السنة: وأجمعوا أن علياً كان مصيباً في قتال أهل الجمل وصِفّين، وذكر قبل ذلك عن أبي الخطاب دعوى الإجماع على ذلك.
ثم قال: وقال الإمام أبو المعالي في كتاب " الإرشاد " (3) في فضل علي رضي الله عنه: كان إماماً حقّاً، ومُقاتلوه بغاةٌ إلى آخر ما ذكره، وهو آخر فصل ختم به كتابه.
ثم تكلم القرطبي في الحجة على ذلك، وأجاد رحمه الله.
ومن ذلك ما ذكره الحاكم أبو عبد الله في كتابه " علوم الحديث " (4) في النوع
__________
(1) في (د): أهل الحجاز.
(2) 350 و351، ولفظه: وقالوا بإمامة علي في وقته، وقالوا بتصويب علي في حروبه بالبصرة وبصفين وبنهروان ... وقالوا في صفين: إن الصواب كان مع علي رضي الله عنه، وإن معاوية وأصحاب بغوا عليه بتأويلٍ أخطأوا فيه، ولم يكفروا بخطئهم.
(3) ص 433.
(4) ص 84، وهذا النوع خصه بمعرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قِوامُ الشريعة، وقد أدرج في هذا النوع فقه الحديث عن أهله ليُستدل بذلك على أن أهل هذه الصنعة من تبحر فيها لا يجهل فقه الحديث إذ هو نوع من أنواع هذا العلم.
وروى فيه حديث " تقتل عماراً الفئة الباغية " عن الحسين بن محمد الدارمي، عن أبي =(8/20)
العشرين في آخر هذا النوع، في ذكر إمام الأئمة ابن خزيمة ومناقبه، وقد ذكر حديث أمِّ سلمة من طريقه، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تقتلك يا عمار الفئة الباغية ". قال ابن خزيمة بعد روايته: فنشهد أن كلَّ من نازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في خلافته فهو باغٍ، على هذا عهدت مشايخنا، وبه قال ابن إدريس رضي الله عنه، انتهى بحروفه.
وهو يعني الإمام الشافعي، وهذا (1) نقل إمام الشافعية بلا مدافعةٍ، وقد جود (2) الحاكم الثناء عليه، ووصفه بالتَّبَحُّر في العلوم.
ومن ذلك أن البيهقي ذكر في " السنن الكبير " في باب ما جاء في القصاص في القتل (3): إذا كان الورثة صغاراً ما معناه: أن من جوز ذلك، احتج بقتل الحسن بن عليٍّ لابن ملجم، ولعلي عليه السلام أولادٌ صغارٌ، ثم قال: وقد أجاب عن ذلك بعض أصحابنا بأنه قتله حداً على كفره، لا قصاصاً انتهى.
فظهر من هذا أن فعل الحسن عليه السلام حجَّةٌ عندهم، ولما كان ذلك من حُجَجِ الحنفية، لم تدفعه الشافعية بأن فعل (4) الحسن ليس بحجةٍ، بل أجابوا بما يقتضي: أن المُكَفِّر لأمير المؤمنين علي عليه السلام كافرٌ عندهم.
وفي صحيح البخاري في كتاب التفسير منه تفسير سورة براءة، في باب قوله: {ثَانِيَ اثنينِ إذ هما في الغار} [براءة: 40] من حديث يحيى بن معين، حدثنا حجاج، حدثنا ابن جريجٍ قال لي ابن أبي (5) مُليكة: قلت لابن عباس:
__________
= بكر بن خزيمة، حدثنا أبو موسى، حدثنا عبد الصمد، حدثنا شعبة، عن خالد، عن الحسن، عن أمه، عن أم سلمة رفعته.
(1) في (ف): " وهكذا ".
(2) تحرف في (د) إلى: " جوز ".
(3) 8/ 58. وانظر ردّ ابن التركماني عليه.
(4) " فعل ": سقطت من (د) و (ف).
(5) لفظ " أبي " سقط من الأصول الثلاثة ".(8/21)
أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتُحل حرم الله (1)، فقال (2): معاذ الله، إن الله كتب ابن الزبير وبني أمية مُحِلِّين، وإني والله لا أُحله أبداً (3).
فصرح البخاري بتصحيح ذم بني أمية، وأدخله في كتابه " الصحيح " الذي اختاره للمسلمين، وخلفه يعمل به من بعده، إلى يوم الدين، ولم يتأول ذلك ولا يضعفه، ولا عاب ذلك عليه أحدٌ من أهل السنة، ولا تركوا ذلك تقيَّةً من أعداء أهل البيت مع قوتهم وكثرتهم.
وذكر الحافظ شمس الدين عليُّ بن أبي بكر الهيثمي الشافعي في تفسير قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ} [المائدة: 27] من كتاب التفسير من " مجمع الزوائد " (4) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعاً: " أشقى الناس ثلاثة: عاقر ناقة ثمود، وابن آدم الذي قتل أخاه " قال الهيثمي: وسقط من الأصل الثالث، والظاهر أنه قاتل علي رضي الله عنه، وفي إسناده محمد بن إسحاق صاحب " السيرة النبوية ".
__________
(1) في " البخاري ": ما حرم الله.
(2) في (د): " فقلت "، وهو تحريف.
(3) " البخاري " (4665) وقوله: " إن الله كتب " أي: قدر، وقوله " محلين " أي: أنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم، وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنما بدأ منه أولاً رفعهم عن نفسه، لأنه بعد أن ردهم الله عنه، حصر بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن إباحته القتال في الحرم، وكان بعض الناس يسمي ابن الزبير: المحل. وقوله: " لا أحله أبداً " أي: لا أبيح القتال فيه، وهذا مذهب ابن عباس أنه لا يقاتل في الحرم ولو قوتل فيه.
(4) 7/ 14، ولم ترد في المطبوع نسبته إلى مخرجه، وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 61 - 62، وعزاه للطبراني، ولم يذكر الثالث. ومن رواية الطبراني أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 4/ 307 - 308، وقال: غريب من حديث سعيد، لم نكتبه إلاَّ من حديث سلمة، قلت: فيه بالإضافة إلى تدليس ابن إسحاق حكيم بن جبير، وهو ضعيف، وقال الهيثمي: متروك.(8/22)
وذكر الترمذي في " جامعه " حديثاً فحسنه عن سفينة الصحابي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنه لما روى الحديث: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكٌ بعد ذلك " قال له سعيد بن جمهان: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم، قال: كذبوا بنو (1) الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
هذه رواية الترمذي، وفي رواية أبي داود: قال سعيد: قلت لسفينة إن هؤلاء يزعمون أن علياً لم يكن بخليفةٍ، فقال: كذبت (2) أستاه بني الزرقاء، يعني بني مروان (3).
وروى الترمذي عن الحسن بن علي عليه السلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرِي بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر} يملكها بعدك بنو أمية يا محمد (4).
__________
(1) في الأصول " بني " وهو خطأ.
(2) في (ش): " كذب ".
(3) " الترمذي " (2226)، وأبو داود (4646)، وهو حديث حسن. وصححه ابن حبان (6657) و (6943). وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) رواه الترمذي (3350) من طريق أبي داود الطيالسي، حدثنا القاسم بن الفضل الحدّاني، عن يوسف بن سعد، قال: قام رجل إلى الحسن بن علي بعدما بايع معاوية، فقال: سوَّدت وجوه المؤمنين، أو يا مسوِّد وجوه المؤمنين، فقال: لا تؤنِّبني رحمك الله، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُري بني أُمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يا محمد، يعني نهراً في الجنة، ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر}. يملكها بعد بنو أمية يا محمد، قال القاسم، فعددنا فإذا هي ألف شهر لا تزيد ولا تنقص.
ورواه من طريق الطيالسي الطبراني في " الكبير " (2754)، والحاكم 3/ 170 - 171، والبيهقي في " الدلائل " 6/ 509 - 510 كلهم من حديث القاسم بن الفضل الحداني عن يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن مازن الراسبي.
وصححه الحاكم في الرواية الأولى، وقال الذهبي: والقاسم وثقوه، رواه عنه أبو داود =(8/23)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= والتبوذكي، وما أدري آفته من أين.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة، وثقه يحيى القطان وابن مهدي، قال: وشيخه يوسف بن سعد، ويقال: يوسف بن مازن رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلاَّ من هذا الوجه.
وتعقبه الحافظ ابن كثير في تفسيره 8/ 462 - 463، فقال: وقول الترمذي: إن يوسف هذا مجهول فيه نظر، فإنه قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد، وقال فيه يحيى بن معين: هو مشهور، وفي روايته عن ابن معين: هو ثقة، ورواه ابن جرير 30/ 260 من طريق القاسم بن الفضل عن عيسى بن مازن كذا قال، وهذا يقتضي اضطراباً في هذا الحديث والله أعلم.
ثم هذا الحديث على كل تقدير منكر جداً، قال شيخنا الحافظ الحجة أبو الحجاج المزي: هو حديث منكر.
قلت: وقول القاسم بن الفضل الحداني: إنه حسب مدة بني أمية فوجدها ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص، ليس بصحيح؛ فإن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- استقل بالملك حين سلَّم إليه الحسن بن علي الإمرة سنة أربعين، واجتمعت البيعة لمعاوية، وسمي ذلك العام عام الجماعة، ثم استمروا فيها متتابعين بالشام وغيرها، لم تخرج عنهم إلاَّ مدة دولة عبد الله بن الزبير في الحرمين والأهواز وبعض البلاد قريباً من تسع سنين، لكن لم تَزُل يدُهُم عن الإمرة بالكلية، بل عن بعض البلاد إلى أن استلبهم بنو العباس الخلافة في سنة اثنتين وثلاثين ومائة، فيكون مجموع مدتهم اثنتين وتسعين سنة، وذلك أزيد من ألف شهر، فإن الألف شهر عبارة عن ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر، وكأن القاسم بن الفضل أسقط من مدتهم أيام ابن الزبير، وعلى هذا فتقارب ما قاله للصحة في الحساب، والله أعلم.
ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنه سيق لذم بني أمية، ولو أريد ذلك لم يكن بهذا السياق، فإن تفضيل ليلة القدر على أيامهم لا يدل على ذم زمانهم، فإن ليلة القدر شريفة جداً، والسورة الكريمة إنما جاءت لمدح ليلة القدر، فكيف تمدح بتفضيلها على أيام بني أمية التي هي مذمومة، بمقتضى هذا الحديث، وهل هذا إلاَّ كما قال القائل:
ألم تَرَ أن السيف ينقُصُ قدره ... إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا
وقال آخر:
إذا أنت فضَّلتَ أمرأً ذا بَرَاعةٍ ... على ناقص، كان المديحُ من النقص =(8/24)
قال القاسم بن الفضل: فعددناها، فإذا هي ألف شهرٍ، لا تزيد يوماً، ولا تنقص.
قال الذهبي في " الميزان " (1) في ترجمة عبد الرحمن بن مُلجمٍ المرادي: ذاك المعَثَّر الخارجي، ليس بأهلٍ أن يروى عنه، وكان عابدا قانتاً، لكنه خُتِمَ له بِشَرٍّ، فقتل أمير المؤمنين.
وقال فيه (2) في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي: مقدوحٌ في عدالته، ليس بأهلٍ أن يُروى عنه، وقال أحمد بن حنبل: لا ينبغي أن يروى عنه.
وقال فيه (3) في ترجمة شِمُرِ بن ذي الجوشن: ليس بأهلٍ للرواية، فإنه أحد قتلة الحسين رضي الله عنه.
وحكى عن أبي إسحاق، قال: كان شِمْرٌ يصلي معنا، ويستغفر، قلت: كيف يغفِرُ الله لك، وقد أعنت على قتل ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال: ويحك إن أمراءنا أمرونا، ولو خالفناهم كنا شراً (4) من الحُمر السُّقاة.
قال الذهبي: إن هذا العذر قبيحٌ، وإنما الطاعة في المعروف.
وقال فيه (5) في ترجمة عمر بن سعد بن أبي وقاص: هو في نفسه غيرُ
__________
= ثم الذي يفهم من ولاية الألف الشهر المذكورة في الآية هي أيام بني أمية، والسورة مكية، فكيف يحال على ألف شهر هي دولة بني أمية، ولا يدل عليها لفظ الآية ولا معناها؟! والمنبر إنما صنع بالمدينة بعد مدة من الهجرة، فهذا كله مما يدل على ضعف هذا الحديث ونكارته، والله أعلم.
(1) 2/ 592.
(2) أي في " ميزان إلاعتدال " 4/ 440.
(3) 2/ 280.
(4) تحرفت في الأصول " سواء "، والمثبت من " الميزان ".
(5) 3/ 198 - 199.(8/25)
متهمٍ، لكنه باشر قتال الحسين، وفعل الأفاعيل، وروى شعبة عن أبي إسحاق، عن العَيزار بن حُريثٍ (1)، عن عمر بن سعد، فقام إليه -يعني إلى العيزار- رجل، فقال: أما تخاف الله، تروي عن عمر بن سعدٍ؟! فبكى -يعني العيزار- وقال: لا أعود.
وقال أحمد بن زهير: سألت ابن معينٍ: أعمر بن سعدٍ ثقةٌ؟ فقال: كيف يكون من قتل الحسين ثقةً؟!
ثم ذكر توثيق العجلي له (2)، وهذا شيءٌ تفرَّد به العجلي، وليس فيه دليلٌ على أن العجلي لا يُفَسَّقُه، لأن العجلي كان يرى توثيق الفاسق الصدوق في لهجته، ولذلك وثق جماعةً من صحَّ عنه سبُّ أبي بكر وعمر، ومن سبهما، فهو عنده فاسقٌ، بل صح عنه توثيق من يرى كفرهما من غلاة الروافض الصادقين في الرواية، فساوى بين أهل الصدق في الحديث من الروافض والنواصب، ولذلك حكى الحاكم عن النسائي أنه قال: العجلي ثقة، مع أن الحاكم والنسائي من أئمة الشيعة، وأهل المعرفة التامة بالرجال.
وذكر المزي (3) كلام العجلي، ثم عقبه بكلام ابن معين، كالرد عليه، ثم ذكر من أخباره وبُغْضِ أبيه له، ثم قال: وروي عن محمد بن سيرين، عن بعض أصحابه، قال: قال علي لعمر بن سعدٍ: كيف أنت إذا قمت مقاماً تُخَير فيه بين الجنة والنار، فتختار النار؟
وممن وثقه العجلي: أبو معاوية الضرير، محمد بن خازم (4)، وقد قال الحاكم: احتج به الشيخان وهو ممن اشتهر عنه الغلو. قال الذهبي (5): أي الغلو
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: " حرب ".
(2) " ثقات العجلي " ص 357.
(3) " تهذيب الكمال " 21/الترجمة رقم (4240).
(4) " الثقاث " ص 403.
(5) في " الميزان " 1/ 575.(8/26)
في التشيع، وقد قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب من " الميزان " (1): إن الغلو في التشيع عبارة عن تكفير الشيخين: أبي بكر وعمر وسبهما.
فتوثيق العجلي لبعض غلاة الشيعة يدل على أنه يوثق الصدوق، وإن كان عنده صاحب بدعةٍ ومعصيةٍ، وقد مرَّ لي ذلك (2) في مواضع.
منها في ترجمة مندل بن علي العنبري الكوفي (3)، ضعَّفه أحمد بن حنبل، وقال العجلي (4): جائز الحديث يتشيع.
ومنها ترجمة تليد بن سليمان في " التهذيب " (5): قال العجلي (6) وأحمد: لا بأس به، وقد صح عنه شتم أبي بكر وعمرو عثمان، والرفض، وضعَّفه الشيعة (7)، قال ابن معين: غير ثقةٍ، وقال: ليس بشيءٍ، وقال النسائي -على تشيعه-: ليس بالقوي. وقال العجلي فيه (8): تابعي ثقة.
وهو دليل أن العجلي يعني بالثقة: الصدوق في روايته، لا الصالح في دينه عنده، فإن الغلاة في عرفهم من يكفر الخلفاء (9) الثلاثة، أو يسبهم أدنى الأحوال، وليس فيمن يفعل ذلك عند العجلي خيرٌ قطعاً، فلو دل توثيقه عمر بن سعدٍ على بُغض علي عليه السلام وأهله، لدل توثيقه حَبَّة العُرني (10) على
__________
(1) 1/ 6.
(2) في (ش): " في ذلك ".
(3) " الميزان " 4/ 180، و" التهذيب " 10/ 265.
(4) " الثقات " ص 439.
(5) " تهذيب الكمال " 4/ 321 - 322، و" تهذيب التهذيب " 1/ 447.
(6) ص 88.
(7) " تهذيب الكمال " 5/ 351 - 354.
(8) " الثقات " ص 105.
(9) سقطت من (ش).
(10) تصحفت في (ش) إلى: " القرني ".(8/27)
بغض سائر الخلفاء وأتباعهم، ولزم اجتماع النصب والرفض فيه، وذلك غيرُ واقعٍ مع أهل القبلة مع أنه يمكن أنه غَلِطَ أو غُلِطَ عليه، وأنه عنى بذلك التوثيق غيره، ففي الرواة جماعةٌ مشتركون في هذا الاسم، منهم عمر بن سعدٍ الخَفَري، أبو داود الرجل الصالح (1)، ومنهم عمر بن سعدٍ القُرَظ، ومنهم عمر بن سعدٍ الخولاني.
فالحمل على السلامة يوجب ذلك، وحاله يحتمل الحمل على السلامة لوجهين:
أحدهما: أنه لم يذكر بتحاملٍ على علي عليه السلام قط، والرمي ببغض علي عليه السلام شديدٌ، فلا تحل نسبته إلى من ظاهره الإسلام إلاَّ بعد صحةٍ لا تحتمل التأويل كالتكفير والتفسيق، ولذلك كان القول بجميع ذلك لا يجوز إلا بدليل قاطع. وقد كان ابن أبي داود (2) يقول: كل أحدٍ في حلٍّ إلاَّ من نسب إليَّ بُغضَ عليٍّ عليه السلام.
وحقوق المخلوقين ومطالبهم خطرة، وفي الحديث الصحيح: " إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث " (3)، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في
__________
(1) من قوله: " عمر بن سعد الحفري " إلى هنا سقط من (ف).
(2) هو عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، كان فقيهاً عالماً حافظاً، وكان يُحدث من حفظه، رحل به أبوه من سجستان فطوف به شرقاً وغرباً، توفي سنة 316، وصلى عليه نحو ثلاث مئة ألف إنسان.
وقوله هذا ذكر الخطيب في " تاريخه " 9/ 468، والذهبي في " تذكرة الحفاظ " 2/ 771.
مترجم في " سير أعلام النبلاء " 13/ 221 - 237.
(3) حديث صحيح. رواه من حديث أبي هريرة مالك 2/ 907 - 908، ومن طريقه رواه أحمد 2/ 465 - 517، والبخاري (6066)، ومسلم (2563) (28)، وأبو داود (4917)، والبيهقي 6/ 85 و8/ 333 و10/ 231، والبغوي (3533)، وصححه ابن حبان (5687).(8/28)
العقوبة (1)، وقد ثبت: " إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " (2) كيف بالقطع في موضع الاحتمال، ومن أشد ما يخاف المخطىء في ذلك أن يكون عليه إثم الباغض لعليٍّ عليه السلام، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (3)، وكذلك غير لفظ الكافر ترجع على قائلها، وفي
__________
(1) روى الترمذي (1424)، والدارقطني 3/ 84، والحاكم 4/ 384، والبيهقي 8/ 238 من طريق يزيد بن زياد الشامي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مرفوعاً: " ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يُخْطِىءَ في العفو، خيرٌ من أن يُخطىء في العقوبة ".
ورواه ابن أبي شيبة 9/ 569 - 570، والترمذي، والبيهقي 8/ 238 من طريق وكيع، عن يزيد بن زياد به موقوفاً على عائشة.
وقال الترمذي: يزيد بن زياد ضعيف، ورواية وكيع (الموقوفة) أصح وبنحوه قال البيهقي.
وصحح الحاكم الرواية المرفوعة، فتعقبه الذهبي بقوله: يزيد بن زياد شامي متروك.
(2) حديث صحيح بشواهده، رواه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976)، وابن حبان (229)، والبغوي (4132)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (192)، والخطيب في " تاريخه " 4/ 309 و5/ 172 و12/ 64 من حديث أبي هريرة.
ورواه القضاعي (191)، والطبراني في " الصغير " (884) من حديث زيد بن ثابت، قال الهيثمي في " المجمع " 8/ 18: فيه محمد بن كثير بن مروان، وهو ضعيف.
ورواه أحمد 1/ 201، والطبراني في " الكبير (2886)، و" الصغير " (1080)، و" الأوسط "، والقضاعي (194) من حديث الحسين بن علي. قال الهيثمى 8/ 18: ورجال أحمد و" الكبير " ثقات.
ورواه مالك 2/ 903، ومن طريقه الترمذي (2318)، والبغوي (4133) من حديث علي بن الحسين مرسلاً. وقال أحمد وابن معين والبخاري والدارقطني: لا يصح إلاَّ عن علي بن الحسين مرسلاً.
(3) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 2/ 439.(8/29)
ذلك حديثٌ صحيح لم يحضرني لفظه (1)، وكذلك اللعن لغير المستحق، ولا يتعرض حازِمٌ لمثل هذه الأخطار.
وثانيهما (2): أن توثيقه غير واحد من غلاة الشيعة، وتوثيق النسائي له يدل على ذلك، وليس فيه دليل على أن العجلي لا يفسِّقه، فإنهم قد يوثِّقون الفاسق والكافر والرافض والجهمي (3)، وهو مثل قول محمد بن إسحاق -مع أنه معتزلي-: حدثني الثقة، قيل له: من الثقة؟ قال: يعقوب اليهودي. رواها عنه الذهبي في ترجمته من " الميزان " (4).
فقد يوثِّقون الصدوق في كلامه، وإن كان أبغض العصاة إلى الله، ولم يحتج العجلي على توثيقه إلاَّ بأن الناس رووا عنه، وهذا غير صحيحٍ، فلم يرو عنه إلاَّ الأقل، مما يدل على سوء حاله كما يأتي، ولو رووا عنه، فذلك ليس بدليل على توثيقهم له، كما ذكروه في علوم الحديث وفي الأصول.
ولهذا وأمثاله حكم علماء الحديث أن (5) العالم الثقة إذا قال: حدثني الثقة، ولم يوضح من هو، لم يحكم بصحة الحديث، لجواز أن يخالفه في توثيقه لو بينه، إما بأن يعلم من حاله ما لا يعلم، أو بأن يختلف فيما يقتضيه حاله المعلوم للجميع.
وسر المسألة أن التوثيق ظني اجتهادي، ولا يجوز للمجتهد أن يقلِّد فيما هذا حاله مع التمكن، ومن هنا لم يصحِّحوا المرسلات (6).
__________
(1) ولفظه: " لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق، ولا يرميه بالكفر، إلاَّ ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ". رواه أحمد 5/ 181، والبخاري في " صحيحه " (6045)، وفي " الأدب المفرد " (432)، والبيهقي في " الآداب " (158).
(2) في (ش): وثانيها.
(3) في (د) و (ف): " فالجهمي ".
(4) 3/ 471.
(5) في (ف): " على أن ".
(6) أي: جمهور أهل الحديث، وانظر في حجية المرسل واختلاف العلماء فيه فيما كتبناه في مقدمة المراسيل لأبي داود.(8/30)
وقال عبدان في جميل بن الحسن الأهوازي: كاذبٌ فاسقٌ. قال ابن عدي (1): أما في الرواية، فإنه صالحٌ فيها (2).
وقال الذهبي في " الكاشف " (3): يعني عبدان: أنه كاذبٌ في كلامه، يعني في مذهبه (4)، لا في روايته، وهو في معنى كلام المنصور بالله في " الصفوة " وقد تقدم، وأعيد منه ها هنا ما تَمَسُّ إليه الحاجة.
قال عليه السلام بعد أن اختار قبول رواة الخوارج، وادعى إجماع الصحابة على ذلك ما لفظه: وقول من قال: إن من عُرِفَ بالكذب في المعاملات لا يقبل خبره، فكيف يقبل خبر من عرف بالكذب على أفاضل الصحابة وسادات المسلمين لا يتسق، لأن المعلوم من حالهم أنهم لا يكذبون على الصحابة في الرواية عنهم، وإنما يكذبون عليهم في الاعتقاد فيهم، وذلك خارج من باب الأخبار، وكانوا لا ينتقصون إلاَّ من يعتقدون الصواب في انتقاصه ومحاربته. انتهى.
فالخوارج قد شركوا عمر بن سعد في ذنبه (5)، وزادوا أنهم كانوا يُكَفِّرون أميرَ المؤمنين عليه السلام ومن والاه، وعمر بن سعد لم يُنقل عنه التكفير، فإذا أوجب المنصور بالله عليه السلام قبول قول (6) الخوارج، ولم يدل على بغضه علياً عليه السلام، لم يبعد أن يوثق (7) العجلي عمر بن سعد بهذا المعنى، ولا يبغض الحسين عليه السلام، وإنما هو في معنى قول الذهبي: إنه لم يكن يُتَّهم -يعني بالكذب-.
__________
(1) " الكامل في الضعفاء " 2/ 594.
(2) " ميزان الاعتدال " 1/ 423.
(3) 1/ 132.
(4) قوله: " يعنى في مذهبه " لم يرد في (ش).
(5) في (ش): دينه.
(6) ساقطة من (د) و (ف).
(7) في (ف): " توثيق ".(8/31)
وكذا قال قتادة في عمران بن حطان: لم يكن يُتَّهم (1) في الحديث، وقال أبو داود: ليس (2) في أهل الأهواء أصح حديثاً من الخوارج، ذكره المزي في ترجمة عمران بن حِطان (3).
وكذلك كثيرٌ من المشركين، ولذلك، كان دليل النبي - صلى الله عليه وسلم - حين هاجر مشركاً، فوثق (4) به في دلالة الطريق، وكذلك وثِقَ بعهد سراقة أنه لا يخبر به أحداً، ودعا له، وكتب له لظنه (5) أنه يصدق في عهده (6)، وذلك في معنى قول أهل البيت: إن حديث الخوارج مقبول، ودعوى المنصور بالله الإجماع عليه يستلزم روايته عن جميع أهل البيت القدماء مع تكفيرهم لعلي عليه السلام، وقد تقدم في مسألة المتأولين بيان مذاهب أهل البيت في ذلك.
وقال المنصور بالله في " المجموع المنصوري " في رسالةٍ ذكرها عقيب " تحفة الإخوان ": وقد كان دليل رسول - صلى الله عليه وسلم - كافراً لما غلب في ظنه أنه ينصحه. انتهى.
وقد يوثق الشيعي من يهلكه بهذا المعنى، كما نقل الذهبي عن النسائي في (7) أنه وثق نُعيم بن أبي هند، قال الذهبي في " الميزان " (8) نعيم لون غريب، كوفي ناصبي.
وكذلك السني قد يوثق الشيعي، كما قالوا في الحاكم أبي عبد الله وغير واحد.
__________
(1) في (ش): متهم.
(2) في (د): لم يكن، وكتب فوقها: " ليس ".
(3) " تهذيب الكمال " 22/رقم الترجمة (4487). وانظر أيضاً " الميزان " 3/ 236.
(4) في (ش): " يوثق "، وفي (ف): " وثق ".
(5) ساقطة من (ش).
(6) انظر " صحيح ابن حبان " (6280) و (6281).
(7) " في " سقطت من (د) و (ف).
(8) 4/ 271.(8/32)
ومما يدلُّ على ذلك أنه لم يرو عن عمر بن سعد أحد من أهل الكتب الستة المعتمدة إلاَّ النسائي، والنسائي (1) من المشاهير بالتشيع وتهليك أعداء عليٍّ عليه السلام، ولم يرو عنه إلاَّ حديث: " لا يحل دمُ امرىءٍ مسلمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث " (2)، وهو مشهور من غير طريقه، ولا يُتَّهم في مثله، فهو حجة عليه، ولعل النسائي ما أورده من طريقه إلاَّ ليعلم أنه فاسق تصريحٍ يروي مثل هذا النص في تحريم أمرٍ، ثم يخالفه في أفضل أهل دهره.
وقد روى الذهبي عن مسلم في ترجمته في " النبلاء " (3) أنه قال في علي بن الجعد: إنه ثقة، لكنه كان جهمياً، والجهمي عندهم شرٌّ من الفاسق.
وروى في ترجمة الحاكم في " التذكرة " (4) عن أبي (5) إسماعيل الأنصاري أنه سئل عن الحاكم، فقال: ثقةٌ في الحديث، رافضي خبيث.
وفى " الميزان " (6) في ترجمة زكريا بن إسحاق المكي صاحب عمرو: أنه ثقة حجة مشهور، وقال ابن معين: قدري ثقة.
__________
(1) (والنسائي) ساقطة من (ش).
(2) وتمام الحديث: " إلاَّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة " والحديث مخرج في " صحيح ابن حبان " (4407) و (4408). وليس هو من رواية عمر بن سعد لا عند النسائي ولا عند غيره كما توهم المصنف رحمه الله، وإنما روى النسائي له 7/ 121 حديثاً آخر هو: " قتال المسلم كفرٌ، وسبابه فسوق ". رواه من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن عمر بن سعد، عن أبيه. وهو عند عبد الرزاق في " المصنف " (20224)، ومن طريقه رواه الطحاوي في " مشكل الآثار " (845) بتحقيقنا بهذا الإسناد، ورواه الطحاوي (844) وغيره من طريق محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، وله شاهد من حديث ابن مسعود مخرج في " صحيح ابن حبان " (5939)، وشرح مشكل الآثار " (846).
(3) 12/ 568.
(4) " تذكرة الحفاظ " 3/ 1045، وذكره أيضاً في " النبلاء " 17/ 174.
(5) تحرف في (ش) و (ف) إلى: " ابن ".
(6) 2/ 71.(8/33)
ولهم من هذا (1) شيء كثير، وهو يدل على أنهم قد يطلقون التوثيق على من يعتقدون فيه الخبث والعصيان.
وبالجملة، فهي قبيحةٌ من العجلي، نادرةٌ مقصورةٌ عليه، وليس الاحتجاج بها على أنهم خوارج، أولى من الاحتجاج بكلام ابن معين وشعبة على أنهم شيعةٌ، بل سائر كلامهم المقدم الصريح في جميع الباب، وإن صح أن العجلي قال ذلك، وقصد به تحسين قتل الحسين عليه السلام كان ذلك جرحاً فيه وفيمن لم يجرِّحه بعد معرفة ذلك، ولا يضر الحديث وأهله العجلي، وطرح حديثه لو كان له حديثٌ، كيف وليس له رواية؟
قال الذهبي في ترجمته في كتاب " التذكرة " (2): ما علمت وقع لنا من حديثه شيء، وما أظنه روى شيئاً إلاَّ حكايات، حدث عنه ولده صالح بمصنفه في الجرح والتعديل، مات سنة إحدى وستين ومئتين بطرابلس المغرب.
وكما أنه لا يَطَّرِحُ على الزيدية والشيعة والآل قول (3) من كَفَّر الشيخين، وسبهما من الشيعة مع كثرتهم في الشيعة (4)، فلا يطرح على أهل السنة قول العجلي مع نُدُوره وشذوذه وتكليف أهل السنة أن لا يوجد فيهم مبطلٌ تكليف ما لا يطاق، وليس قصدي إلا الذب عن السنة النبوية، وأن لا يجعل المبتدع وجود مثل هذا سبباً للتنفير عنها، فكم وُجِدَ من غلاة المتكلمين من الباطل على الله وأسمائه وكتابه، فلم يجعلوا ذلك (5) مُنَفِّراً عن (6) علومهم، وأقرُّوا الخطأ على صاحبه.
وقد صرح السيد في رسالته بأنهم شيعة يزيد، وأنهم يصوبون قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، لأنهم بغاةٌ على قولهم.
__________
(1) في (ش). " ذلك ".
(2) 2/ 560.
(3) سقطت من (ش).
(4) بياض في (ش).
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): " من ".(8/34)
فاسمع الآن نصوص هؤلاء الذين افتريت عليهم أنهم شيعة يزيد.
قال الذهبي في " النبلاء " (1) في ترجمة يزيد بن معاوية، أو في ترجمة الحسين عليه السلام (2) كان يزيد ناصبياً، فظاً، غليظا، جِلفاً، يتناول المُسْكِرَ، ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين بن علي رضي الله عنه، واختتمها بوقعة الحرة، فمقته الناس، ولم يبارك في عمره، وخرج عليه غيرُ واحد بعد الحسين رضي الله عنه، كأهل المدينة [قاموا] لله.
وذكر من خرج عليه، قال (3): وروى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن مكحولٍ، عن أبي عبيدة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. " لا يزال أمر أمتي قائماً حتى يثلمه رجلٌ من بني أمية يقال له: يزيد " أخرجه أبو يعلى في " مسنده " (4).
قلت: ورجاله متفق على الاحتجاج بهم في الصحيحين (5).
__________
(1) 4/ 37 - 38، وما بين حاصرتين منه.
(2) بل في ترجمة يزيد، وشك المصنف رحمه الله يؤكد أنه لم يكن وقت تأليفه كتابه هذا ينقل من كتاب، وإنما استظهر تلك الكتب، ثم شرع في التأليف.
(3) 4/ 39.
(4) برقم (871).
(5) قلت: ومع كون رجاله متفقاً على الاحتجاج بهم في " الصحيحين " فهو ضعيف لا يصح، لأن الوليد بن مسلم مدلس، وقد عنعن، ومكحول لم يدرك أبا عبيدة. ففيه انقطاع أو إعضال.
ورواه أبو يعلى أيضاً (870) من طريق هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أبي عبيدة.
ورواه البزار (1619) من طريق سليمان بن أبي داود الحراني، عن أبيه، عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني، وهذا إسناد ضعيف أيضاً. سليمان بن أبي داود ضعيف، ومكحول لم يدرك أبا ثعلبة الخشني.
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5/ 241: رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، إلاَّ أن مكحولاً لم يدرك أبا عبيدة.(8/35)
قال الذهبي (1): ورُويَ عن صخر بن جويرية (2)، عن نافع، قال: مشى عبد الله بن مطيع إلى ابن الحنفية في خلع يزيد. وقال ابن (3) مطيع: إنه يشرب الخمر، ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.
وعن عمر بن عبد العزيز، قال رجلٌ في حضرته أمير المؤمنين يزيدُ، فأمر به، فضُرِبَ عشرين سوطاً. انتهى.
وقال ابن الأثير في " نهايته " (4) ما لفظه: إنه ذكر الخلفاء بعده، فقال: " أوَّه لِفِراخِ آل محمد من خليفةٍ يُسْتَخْلَفُ، عِتريفٍ مُتْرفٍ، يقتُل خَلَفي، وخَلَفَ الخَلَف " (5).
قال ابن الأثير: العتريف: الغاشم، الظالم، وقيل: الداهي الخبيث، وقيل: هو قلب العفريت، الشيطان الخبيث.
قال الخطابي: قوله: " خلفي "، يُتأوَّل على ما كان من يزيد بن معاوية إلى الحسين بن علي وأولاده الذين قتلوا معه، وخلف الخلف: ما كان منه يوم الحرة إلى أولاد المهاجرين والأنصار. انتهى بلفظه.
ولما ذكر ابن حزم (6) خُرُوم الإسلام التي لم يَجْرِ أفحش منها، عدها أربعة، وعد منها: قتل الحسين عليه السلام علانية، ولم يَعُدَّ منها قتل عمر بن الخطاب، ولا يوم الجمل، ولا أيام (7) صفين، تعظيماً لقتل الحسين عليه
__________
(1) في " السير " 4/ 40.
(2) في الأصول الثلاثة: " عن حوثرة " وهو خطأ، والتصويب من " السير ".
(3) تحرف في (ش) إلى: " أبوه ".
(4) 3/ 178.
(5) الحديث رواه الخطابي في " غريب الحديث " 1/ 250، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف.
(6) " جوامع السيرة " ص 357.
(7) في (ف): " يوم ".(8/36)
السلام وأنه بلغ (1) في النكارة إلى شأوٍ جاوز الحد في ارتكاب الكبائر، هذا مع أن ابن حزمٍ موصومٌ بالتَّعصب لبني أمية، وهذا لفظ ابن حزمٍ في آخر " السيرة النبوية " التي صنَّفها، وذكر في آخرها أسماء الخلفاء، ونبذاً من أخبارهم.
فقال في يزيد بن معاوية ما لفظه: بويع يزيد بن معاوية (2) إذ مات أبوه، وامتنع من بيعته الحسين بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير بن العوام، فأمَّا الحسين رضي الله عنه، فنهض إلى الكوفة، فقُتِل قبل دخولها، وهي ثانية (3) مصائب الإسلام وخرومه، ولأن المسلمين استضيموا في قتله ظلماً علانية.
وأما عبد الله بن الزبير بن العوَّام، فاستجار بمكة، فبقي هنالك (4) إلى أن أغزى يزيد الجيوش إلى المدينة، حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى مكة حرم الله عز وجل، فقتل بقايا المهاجرين والأنصار يوم الحرة، وهي ثالثة (5) مصائب الإسلام وخرومه، لأن أفاضل الصحابة (6)، وبقية الصحابة رضي الله عنهم (7)، وخيار التابعين (8) قُتِلَوا جهراً ظلماً في الحرب وصبراً، وجالت الخيل في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وراثت وبالت في الروضة بين القبر والمنبر، ولم تصل جماعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الأيام (9)، ولا كان فيه أحدٌ حاشا سعيد بن المسيب، فإنه لم يفارق المسجد، ولولا شهادة عمرو بن عثمان بن عفان،
__________
(1) في (ش): " أبلغ ".
(2) قوله: " ابن معاوية " سقط من (ش).
(3) في " جوامع السيرة " وهو ثالثة مصائب الإسلام بعد أمير المؤمنين عثمان، أو رابعها بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) قوله: " فبقي هنالك " سقط من (ف).
(5) عند ابن حزم: وهي أيضاً أكبر مصائب الإسلام ...
(6) عند ابن حزم: المسلمين.
(7) عبارة: " وبقية الصحابة رضي الله عنهم " سقطت من (ش).
(8) عند ابن حزم: وخيار المسلمين من جلة التابعين.
(9) في (ش): في " تلك الأيام "، والعبارة غير موجودة في المطبوع من " جوامع السيرة ".(8/37)
ومروان بن الحكم له عند مسلم (1) بن عقبة بأنه مجنونٌ لقتله، وأكره الناس على أن يبايعوا يزيد بن معاوية، على أنهم عبيدٌ له، إن شاء باع، وإن شاء أعتق، وذكر له بعضهم البيعة على حكم القرآن فأمر بقتله (2) فضُرِبَتْ عنقه صبراً رحمه الله.
وهتك يزيد بن معاوية الإسلام (3) هتكاً، وأنهب المدينة ثلاثاً، واستُخِف بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومُدَّت الأيدي إليهم، وانتهبت (4) دورهم، وحُوصِرت مكة، ورُمِيَ البيت بحجارة المنجنيق (5)، وأخذ الله يزيد، فمات بعد الحرة بأقل من ثلاثة أشهر، وأزيد من شهرين، في نصف ربيع الأول سنة أربع وستين، وله نيَّفٌ وثلاثون سنةً. انتهى كلام ابن حزم.
وخرج الطبراني نحواً من هذا، رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (6) في باب فيما كان من أمر ابن (7) الزبير، وفيه قصة في نبش قبر مسلم بن عقبة، وأنه وُجِدَ معه ثعبان، وأنه قد التوى على عنقه، قابضاً بأرنبة أنفه يمصها، لاوياً ذنبه برجليه (8)، رواه الهيثمي من طريق عبد الملك بن عبد الرحمن الذّماري
__________
(1) عند ابن حزم: " مجرم بن عقبة المري "، وهو مسلم بن عقبة بن رباح بن ربيعة المري، كان أميراً ليزيد بن معاوية في وقعة الحرة، فأسرف قتلاً ونهباً، فسماه أهل الحجاز مسرفاً، وفي ذلك يقول علي بن عبد الله بن عباس:
هم منعوا ذماري يوم جاءت ... كتائب مسرف وبنو اللكيعة
انظر " الكامل في التاريخ " لابن الأثير 4/ 120، و" الإصابة " 3/ 470.
(2) في (د) و (ش): فقتله.
(3) عند ابن حزم: فهتك مسرفٌ أو مجرم الإسلام ...
(4) في الأصول الثلاثة: " وانتهب "، والمثبت من " جوامع السيرة ".
(5) في (ش): " بالمنجنيق ".
(6) 7/ 249 - 250.
(7) " ابن " ساقطة من (ش).
(8) في (د) و (ش): " برجله ".(8/38)
ومحمد بن سعيد بن رمانة، فأما [عبد الملك] بن عبد الرحمن، فوثقه ابن حبان وغيره، ومحمد بن سعيد بن رُمانة، لم يعرفه الهيثمي (1).
وذكر الطبراني بعد ذلك مكاتبةً جرت بين ابن عباسٍ ويزيد، أغلظ ابن عباسٍ فيها ليزيد، وذكر من مساوئه ما لا مزيد عليه، اختصرته لطوله ومعرفة مكانه.
وقال الهيثمي (2) بعد روايته: رواه الطبراني وفيه جماعةٌ لم أعرفهم.
وقد ذكر الذهبي في ترجمة ابن حزم في " التذكرة " (3) أنه نُقِمَ عليه التَّعصُّب لبني أمية، فإذا كان هذا كلامه، فكيف بغيره، ولكن ابن حزم كان هاجر (4) من مواضع التقية إلى باديةٍ في إشبيلة، وتكلم (5) بأخباره، ولو أمِنَ غيره كما أمن، لتكلم أعظم من كلامه، ولكنهم اكتفوا بالإشارات والتلويح، كما حكى ابن خلكان في تاريخه المسمى " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان " (6) في المجلد الثالث في ترجمة أبي الحسن عليٍّ بن محمد بن علي الطبري (7) الملقب عماد الدين. المعروف بالكياالهراسي الفقيه الشافعي، تلميذ إمام الحرمين الجويني ما لفظه:
وسُئِلَ الكيا عن يزيد بن معاوية، فقال: إنه لم يكن من الصحابة، لأنه وُلِدَ في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما أقوال (8) السلف، ففيه لأحمد قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولمالكٍ قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولأبي حنيفة قولان: تلويحٌ وتصريحٌ، ولنا قول واحد: تصريح دون تلويح، كيف لا يكون كذلك وهو
__________
(1) قلت: ترجم له البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 95، وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 7/ 264، ولم يذكرا فيه جرحاً وتعديلاً، وذكره ابن حبان في " الثقات " 9/ 35.
(2) 7/ 252.
(3) 3/ 1152.
(4) في (ش): يهاجر.
(5) في (ش): ويتكلم.
(6) 3/ 287.
(7) في الأصول: " الطبراني " وهو خطأ.
(8) في " الوفيات ": " قول ".(8/39)
اللاعِبُ بالنرد، المتصيِّد بالفُهود، ومدمن الخمر، وشعره في الخمر معلومٌ، ومنه قوله:
أقول لِصَحْبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يَتَرَنَّمُ
خذوا بِنَصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكل وإن طال المدى يَتَصَرَّم
وكتب فصلاً طويلاً، ثم قلب الورقة وكتب: لو مُدِدت ببياضٍ، لمددت (1) العنان في مخازي هذا الرجل، وكتب فلان بن فلانٍ.
انتهى كلام إلكيا. وفيه ما ترى من النقل الصريح عن أهل المذاهب الأربعة (2) فيه، فأما الشافعية، فقد بيَّن أن قولهم فيه واحدٌ، تصريحٌ غير تلويح.
وأما سائر أهل (3) المذاهب الأربعة (4)، فلكلٍّ منهم قولان تصريحٌ وتلويح، وإنما لوحوا بذمه وتضليله في بعض الأحوال، ولم يُصرِّحوا في جميعها تَقيَّةً من الظلمة، ولهذا صرحوا كلهم بتضليله في بعض الأحوال، وفي هذا أكبر دليلٍ على فضلهم وورعهم، لأنهم حين خافوا، لوَّحوا (5) بتضليله، ولم يترخصوا بالخوف، فيصرِّحوا بالثناء عليه تقية، ولا تجاسروا على ذلك، حتى مع الخوف المبيح لكلمة الكفر تقية.
وقد قال علي عليه السلام عند الإكراه: فأما السب، فسبوني، فإنه لكم نجاة ولي زكاة، وأما البراءة، فلا تبرؤوا مني، فإني ولدت على الفطرة.
وقد ذكر الذهبي في ترجمة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس
__________
(1) في (ش): " لمدت ".
(2) شطح قلم ناسخ نسخة (ش)، فكتب: " أهل البيت عليهم السلام المذاهب الأربعة ".
(3) " أهل " ساقطة من (ش).
(4) " الأربعة " ساقطة من (ف).
(5) في (ف): " لمحوا ".(8/40)
الهاشمي الأمير (1): أنه ليس بحجةٍ. قال: ولعل الحُفَّاظ إنما سكتوا عنه مداراة للدولة. انتهى.
وفيه ما يدل على أنه قد يمنعهم الخوف من التصريح ببعض الأمور حتى يخفى مذهبهم فيها، وهذا نقل شيخ الشافعية الكيا المفضل عندهم على الغزالي.
قال ابن خلكان في ترجمته (2): تفقه بالجويني مدة إلى أن بَرَعَ.
قال الحافظ عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي فيه: كان من رؤوس معيدي إمام الحرمين في الدروس، وكان ثاني أبي حامدٍ الغزالي، بل هو آصل وأصلح وأطيب في الصوت والنظر، وارتفع شأنه، وتولى القضاء، وكان محدِّثاً، يستعمل الأحاديث في مناظرانه ومجالسه (3)، ومن كلامه: إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهابِّ الرياح.
انتهى كلامهم في الثناء على ناقل مذاهبهم في يزيد بن معاوية، وأقلُّ من هذا يكفي المنصف، وأكثر منه لا يكفي المتعسِّف.
وقد بالغ الإمام المنصور بالله في تنزيه أئمة الفقهاء الأربعة في مُجانبة أئمة العترة، وروى عن كل واحد منهم (4) ما يشهد له بالبراءة عن ذلك ذكره في " المجموع المنصوري " في الدعوة العامة إلى جيلان وديلمان وفي غيرها (5)، فاتفق نقلهم ونقل أئمة الزيدية عنهم (6).
فليت شعري، من هؤلاء الذين أشار إليهم السيد، وأوهم أهل الحديث والسنة ورُواتها، صرح السيد بغير مراقبةٍ لله تعالى: بأنهم شيعة يزيد بن معاوية
__________
(1) في " ميزان الاعتدال " 2/ 620.
(2) " وفيات الأعيان " 3/ 286 - 287.
(3) في (ش). " ومجالساته ".
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): " وغيرها ".
(6) في (ش): " عنهم على ذلك ".(8/41)
والحجاج بن يوسف، وأنهم يُصَوِّبُون فعلهما في قتل الحسين بن علي عليه السلام وأهل بيته وأصحابه من خيار المسلمين، وهل هذا إلاَّ قطعٌ من غير تقدير وهجومٌ على الرجم بالذنب الكبير، لأن هذه جهالةٌ مجاوزة للحد، مع اعتقاد غاية المعرفة التامة، فنسأل الله العافية من مثل هذه البلية.
وما أحسن كلام شيخ الإسلام العلامة المحدث المتكلم أحمد بن تيمية
الحراني الحنبلي حيث قال في " فتاويه " (1): وكذلك عمر بن الخطاب لما وضع ديوان العطاء، قال للمسلمين: بمن أبدأ؟ قالوا: ابدأ بنفسك (2). قال: كلا، ولكن أبدأ بأهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدَّمهم وجمعهم، بني هاشمٍ وبني المطلب، فقدم العباس، لأنه كان أقرب الخلق (3) نسباً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك استسقى به لقرابته (4)، وإن كان غيره أفضل منه، فإن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه أفضل منه، فقدمه إكراماً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن من محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - محبة أهل بيته، وموالاتهم، كما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني تارك فيكم الثَّقلين. أحدهما أعظم من الآخر؛ فذكر كتاب الله -وحرَّض عليه- ثم قال: وعِترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أُذكركم الله في أهل بيتي ". فقيل لزيد بن أرقم وهو راوي الحديث من أهل بيته؟ قال: الذين حُرِمُوا الصدقة، آل علي، وآل عقيل، وآل العباس (5).
__________
(1) 28/ 491 وما بعدها.
(2) في (ش): " بنصيبك ".
(3) في (ش): " الناس ".
(4) روى البخاري (1010) و (3710)، وابن خزيمة (1421)، وابن حبان (2861)، والبغوي (1165) من حديث أنس، قال: كانوا إذا قحطوا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، استسقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فيستسقي لهم فيسقون، فلما كان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في إمارة عمر قحطوا، فخرج عمر بالعباس يستسقي به، فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا على عهد نبيك - صلى الله عليه وسلم - واستسقينا به فسقيتنا، وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك - صلى الله عليه وسلم -، فاسقنا، فسقوا. لفظ ابن حبان.
(5) حديث صحيح، وقد تقدم 1/ 178.(8/42)
وفي حديثٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " والذي نفسي بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم لله، ولقرابتي " (1). وكان أبو بكر يقول: ارقبوا محمداً في أهل بيته (2)، وكان السلف يقولون: حب أبي بكر وعمر إيمان، وبغضهما نفاق، وحب بني هاشم إيمان، وبغضهم نفاق، فمن نصب العداوة لآل محمدٍ أو بغضهم أو ظلمهم أو أعان من ظلمهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين (3).
إلى قوله: ولكن الذي ابتدع الرفض، كان زنديقاً يهودياً أظهر الإسلام، وهو منافقٌ، فابتدع أكاذيب ألقى بها العداوة بين الأُمة حتى ظن الجُهَّال أن
__________
(1) رواه ابن أبي شيبة 12/ 108، وأحمد 1/ 207 و207 - 208، و4/ 165، والترمذي (3758)، والحاكم 3/ 333 من طرق عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد المطلب بن ربيعة الهاشمي. وقال الترمذي: حسن صحيح، مع أن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف.
ورواه أحمد 1/ 207، والحاكم 3/ 333 و4/ 75، وأحمد بن منيع في " مسنده " من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن العباس. وهذا سند ضعيف أيضاً.
ورواه ابن ماجه (140)، والحاكم 4/ 75 من طريق محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن أبي سبرة النخعي، عن محمد بن كعب القرظي، عن العباس وهذا سند رجاله ثقات، إلا أنه منقطع، محمد بن كعب القرظي لم يسمع من العباس كما قال الذهبي في " النبلاء " 2/ 88، والبوصيري في " زوائد ابن ماجه " 11/ 1.
(2) رواه البخاري (3713) و (3751).
(3) وذكره أيضاً شيخ الإسلام في " الفتاوى " 4/ 435 مختصراً، وعزاه لابن مسعود.
وأخرجه مختصراً أيضاً من حديث أنس ابن عدي في " الكامل " 3/ 943، وفيه حازم بن الحسين، وهو ضعيف.
وأخرجه الديلمي، وابن عساكر من حديث جابر بلفظ: " حب أبي بكر وعمر من الإيمان، وبغضهم كفر، ومن سب أصحابي، فعليه لعنة الله، ومن حفظني فيهم، فأنا أحفظه يوم القيامة " وضعفه السيوطي، وانظر " فضائل الصحابة " لأحمد (487).(8/43)
السابقين كانوا يظلمون بني هاشم.
وقد صنف أبو الحسن الدارقطني (1) كتاباً كبيراً في ثناء الصحابة على القرابة، وثناء القرابة على الصحابة إلى آخر كلامه.
وهذه ألفاظه بحروفها، فانظر إلى لعنه لأعداء البيت، ومن أعانهم.
وكذلك عالم الأشعرية عبد الرحمن بن أبي القبائل بن منصور الهمداني قد أثنى على أهل البيت عليهم السلام في رسالته " الدامغة " و" الخارقة "، كلتيهما، وصرح في " الخارقة " بلعن من يبغضهم في غير موضعٍ، وسب من يسبهم، وذكر أبياتاً بليغة ضمنها ذلك، فقال فيها:
فضلُ الأئمة أهل البيت مُشتهرٌ ... وحبهم عندنا دينٌ ومُفْتَخَرُ
وبغضهم عندنا كفرٌ وزندقةٌ ... وقربهم ملجأٌ فينا ومُدَّخَرُ
إلى قوله:
وقال قومٌ هم في الفضل مثلُكُمُ ... ولا أرى اليوم تحقيق الذي ذكروا
أنا وَطِينة عليين طينتكم ... وطينة الناس إلاَّ أنتم العَفَرُ
تلك المكارم لا قَعْبَان من لبنٍ ... وذلك الدين ليس الجبرُ والقدرُ
فانظر كيف نص في هذه الأبيات، التي قصد بتسييرها وتخليدها في رسالته على أن بغض العترة كفر وزندقة (2)، مع ما كان بينه وبين معاصره منهم من النزاع في المذاهب والعصبية المؤدية إلى العداوة.
__________
(1) هو الإمام الحافظ أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني، توفي سنة 385 هـ. وقد تقدمت ترجمته 3/ 72. وكتابه منه قطعة في دار الكتب الظاهرية (مجموع 47/ 2) تحت عنوان " فضائل الصحابة ومناقبهم " انظر " تاريخ التراث العربي " لسزكين 1/ 424، و" فهرس مجاميع المدرسة العمرية بدار الكتب الظاهرية " لصاحبنا المتقن الأستاذ ياسين السواس ص 240 - 241.
(2) ساقطة من (ش).(8/44)
وقال الحافظ أبو الخطاب ابن دِحْيَة الكلبي (1) في " العلم المشهور " في ذكر يوم عاشوراء ما لفظه مختصراً: وفي هذا اليوم قُتِلَ السيد الأمير، ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سيد شباب أهل الجنة، أبو عبد الله الحسين بن فاطمة البتول، يومَ الجمعة، وقيل: يوم السبت، سنة إحدى وستين، بالطَّفِّ بكربلاء، وهو ابن ست وخمسين سنة، ولما أحاطوا بالحسين عليه السلام، قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: قد نزل بي من الأمر ما ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها، وانشمر (2) حتى لم يبق منها إلاَّ صُبابة كصبابة الإناء، وإلا خسيس عيشٍ كالمرعى الوبيل، ألا ترون الحق لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله عز وجل، وإني لا أرى الموت إلاَّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاَّ ندماً. رواه الطبراني عن محمد بن الحسن (3) بن زبالة.
__________
(1) هو الشيخ العلامة، المحدث الرحال المتفنن مجد الدين أبو الخطاب عمر بن حسن بن علي بن الجُميِّل، ينتهي نسبه إلى دحية الكلبي كما ذكر هو، قال الذهبي: كان بصيراً بالحديث، معتنياً بتقييده، مكباً على سماعه حسن الخطِّ، معروفاً بالضبط، له حظٌّ وافر من اللغة، ومشاركة في العربية وغيرها، وقال: ونسبه شيء لا حقيقة له، وما أبعده من الصِّحة والاتصال، ولابن عنين فيه:
دحية لم يُعقِبْ فلم تعتزي ... إليه بالبهتان والإفكِ
ما صح عند الناس شيءٌ سوى ... أنك من كلبٍ بلا شكِ
وكتابه " العلم المشهور " هو: " العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور " منه نسختان خطيتان في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء (تصوف 61 - 62) انظر فهرس المكتبة ص 375 و376، وانظر " تاريخ الإسلام " الطبعة الرابعة والستون (191)، و" سير أعلام النبلاء " 22/ 389.
(2) في الأصول والطبراني ": " واستمرت "، والمثبت من " المجمع ".
(3) تحرف في (ش) إلى: " محمد بن الحسين بن ريالة ". قلت وهو ضعيف جداً، بل كذَّبه غير واحد، وقالوا: كان يضع الحديث. والخبر في " معجم الطبراني الكبير " (2842)، وأورده الهيثمي في " المجمع " 9/ 193، وقال: محمد بن الحسن بن زبالة متروك، ولم يدرك القصة.(8/45)
وكان عبيد الله بن زياد كتب إلى الحر بن زيادٍ أن جعجع بالحسينِ، أي: ضيق عليه، ثم أمده بعمر بن سعدٍ المتكفِّل المتكلِّف بقتال الحسين عليه السلام، حتَّى يُنْجِزَ له عبيد الله الدعي ما سلف من وعدٍ، وهو أن يُمَلِّكَه مدينة الري، فباع الفاسق الرشد بالغي، وهو القائل:
أأترُكُ ملكَ الريِّ والريُّ مُنْيتي ... وأرجع يوماً ما بقتل حسين
فضيق عليه اللعين أشد تضييقٍ، وسد بين يديه وضح (1) الطريق، إلى أن قتله في التاريخ المقدم سنة إحدى وستين، ويُسمى عام الحزن، وقُتِلَ معه اثنان وثمانون رجلاً من أصحابه مبارزةً، وجميع ولده إلاَّ علي بن الحسين زين العابدين، وقُتِل أكثر إخوة الحسين وبني أعمامه:
لمحمدٍ سلّوا سيوفَ محمدٍ ... قطعوا بها هامات آل محمَّد
وفي هذا اليوم الذي قتل فيه الحسين على جده وعليه أفضل السلام، رؤي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجمع دم الحسين في قارورةٍ، وإن كانت رؤيا منام، فإنها صادقة، ليست بأضغاث أحلام، أسند ذلك إمام أهل السنة الصابر على المحنة، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، قال (2): حدثنا عبد الرحمن، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، قال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - نصف النهار أشعث أغبر، معه قارورةٌ فيها دم يلتقطه فيها، قلت: يا رسول الله، ما هذا؟ قال: " دم الحُسين وأصحابه، لم أزل أتتبعه منذ اليوم "، قال عمار: فحفظنا ذلك اليوم، فوجدناه قُتِلَ ذلك اليوم.
قال ابن دحية: هذا سند صحيح، عبد الرحمن: هو ابن مهدي، إمام أهل الحديث. وحماد: إمام فقيه ثقة، وعمار من ثقات التابعين، أخرج مسلمٌ
__________
(1) في (ش): " أوضح " والوضح: الضياء والبياض.
(2) 1/ 242. ورواه أيضاً 1/ 283، والطبراني في " الكبير " (2822) و (12837)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 471.(8/46)
أحاديثه في " صحيحه " ورواه الهيثمي في كتابه " مجمع الزوائد " (1) وعزاه إلى الطبراني، وأحمد بن حنبل. وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.
وتولى حمل الرأس بشر بن مالكٍ الكندي، ودخل به على ابن زياد وهو يقول:
املأ ركابي فضةً وذهبا ... أنا قتلتُ الملكَ المُحجبا
قتلت خير الناس أماً وأبا (2)
وقد صدق هذا القائل الفاسق في المديح وتقريظ هذا السيد الذبيح، ولقي الله بفعل القبيح.
وأمر عبيد الله بن زيادٍ من قوّر رأس الحسين حتى يُنْصَبَ في الرمح، فتحاماه أكثر الناس، فقام طارق بن المبارك، فأجابه إلى ذلك وفعله، ونادى في الناس، وجمعهم في المسجد الجامع، وصَعِدَ المنبر، وخطب خطبة لا يحل ذكرها، ثم دعا عبيد الله بن زياد زُحر بن قيس الجعفي، فسلم إليه رأس الحسين ورؤوس أهله وأصحابه، فحملها حتى قدموا دمشق، وخطب زُحَرُ خطبة فيها كذبٌ وزورٌ، ثم أحضر الرأس ووضعه بين يدي يزيد، فتكلم بكلامٍ قبيح وقد ذكره الحاكم والبيهقي وغير واحد من أشياخ أهل النقل بطرقٍ ضعيف وصحيح (3).
__________
(1) 9/ 194، وكذا أورده الحافظ ابن كثير في " تاريخه " 8/ 202، وقوى إسناده.
(2) الرجز في الطبري 5/ 454، والقرطبي في " التذكرة " ص 566، وابن عبد البر في " الاستيعاب " 1/ 378، وابن كثير في " تاريخه " 8/ 199، وتمامه عندهم
وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وزاد القرطبي بعد:
في أرض نجد وحرا ويثربا
(3) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " منهاج السنة " 4/ 556 - 558:
والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب، كما زادوا في قتل عثمان، وكما =(8/47)
وقد ذكر ذلك كله الحافظ أخطب الخطباء ضياء الدين، أبو المؤيد موفق
__________
= زادوا فيما يُراد تعظيمه من الحوادث، وكما زادوا في المغازي والفتوحات وغير ذلك.
والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم كالبغوي وابنِ أبي الدنيا وغيرهما، ومع ذلك فيما يروونه آثارٌ منقطعة، وأمور باطلة. وأما ما يرويه المصنفون في المصرع بلا إسناد، فالكذب فيه كثير، والذي ثبت في الصحيح أن الحسين لما قُتِلَ حُمِلَ رأسه إلى قُدام عبيد الله بن زياد، وأنه نكت بالقضيب على ثناياه، وكان بالمجلس أنسُ بن مالك رضي الله عنه وأبو برزة الأسلمي.
ففي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعل في طست فجعل ينكت، وقال في حسنه شيئاً، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان مخضوباً بالوسمة.
وفيه أيضاً عن ابن أبي نُعْم، قال: سمعت ابن عمر، وسأله رجل عن المُحرم يقتل الذباب، فقال: يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب، وقد قتلتم ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هما ريحانتي من الدنيا ".
وقد رُوى بإسناد مجهول أن هذا كان قدام يزيد، وأن الرأس حُمِلَ إليه، وأنه هو الذي نكت على ثناياه. وهذا مع أنه لم يثبت، ففي الحديث ما يدل على أنه كذب، فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق. والذي نقله غيرُ واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولا كان له غرض في ذلك، بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه، كما أمره بذلك معاوية رضي الله عنه. ولكن كان يختار أن يمتنع من الولاية والخروج عليه، فلما قدم الحسين، وعلم أن أهل العراق يخذلونه ويسلمونه، طلب أن يرجع إلى يزيد، أو يرجع إلى وطنه أو يذهب إلى الثغر، فمنعوه من ذلك حتى يستأسر، فقتلوه حتى قُتِلَ مظلوماً شهيداً رضي الله عنه، وأن خبر قتله لما بلغ يزيد وأهله ساءهم ذلك، وبكوا على قتله، وقال يزيد: لعن الله ابن مرجانة -يعني عبيد الله بن زياد-[أما] والله لو كان بينه وبين الحسين رحم لما قتله. وقال: قد كنت أرضى من طاعة أهل العراق بدون قتل الحسين. وأنه جهز أهله بأحسن الجهاز، وأرسلهم إلى المدينة، لكنه مع ذلك ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، ولا أخذ بثأره.(8/48)
الدين بن أحمد الخوارزمي (1) في تأليفه في مقتل الحسين عليه السلام وهو عندي في مجلدين.
وذكر شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، قال: حدثنا الحافظُ أبو عبد الله محمد بن عبد الله، سمعت أبا الحسن علي بن محمد الأديب يذكرُ بإسنادٍ له، أن رأس الحسين عليه السلام لما صُلِبَ بالشام، أخفى خالد بن غفران شخصه من أصحابه، وهو من أفاضل التابعين، فطلبوه شهراً حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته، فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول:
جاؤوا برأسك يا ابن بنتِ محمدٍ ... متزمِّلاً بدمائه تزميلا
وكأنما بك يا ابن بنت محمدٍ ... قتلوا جهاراً عامدين رسولا
قتلوك عطشاناً ولم يترقبوا ... في قتلك التنزيلَ والتأويلا
ويُكبِّرون بأن قُتِلْتَ وإنَّما ... قتلوا بك التكبير والتهليلا (2)
قال ابن دحية: واعجبوا -رحمكم الله- من الأمم الذين كانوا من قبلكم، وقد فضَّل الله أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، منهم المجوس يعظمون النار، لأنها صارت برداً وسلاماً على إبراهيم، والنصارى يعظمون الصليب، لادعائهم أنه من جنس العود الذي صُلِبَ عليه ابن مريم، وابن مرجانة (3)، وأصحابه العِدا قتلوا الحسين ابن نبيِّ الهدى، ولم يلتفتوا إلى قول أصدقِ القائلين: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23].
__________
(1) كان خطيباً شاعراً أديباً فقيهاً، أخذ العربية عن الزمخشري بخوارزم، وتولى الخطابة بجامعها، وفيها قرأ على ناصر بن عبد السيد المطرزي. له عدة مصنفات غير كتابه هذا، منها: " مناقب علي بن أبي طالب "، و" مناقب الإمام أبي حنيفة " توفي سنة 568. انظر الأعلام 7/ 333، وفهرس مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء ص 121.
(2) وأنشد هذه الأبيات ابن كثير في " تاريخه " 6/ 238 و8/ 200، وفي " الشمائل " ص 451.
(3) هو عبيد الله بن زياد، ومرجانة: أمه.(8/49)
قال: ولما قدم برأس الحسين صاحت نساء بني هاشم، فقال مروان:
عجَّتْ نساء بني زيادٍ عجةً ... كعجيج نِسوتنا غداة الأرنبِ (1)
قلت: رويدك يا مروان حتَّى تعلم من يعجُّ غداً حين يشتد غضب الديان، ومن يدعو ثبوراً كثيراً في طبقات النيران.
قال ابن دحية (2): وأنا أقول قولاً هو الإيمان: هنيئاً لك (3) الشماتة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا مروان.
وفي صحيح البخاري (3)، عن ابن عمر أنه سأله رجلٌ عن دم البعوض، فقال له: ممن أنت، قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا الذي يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هما ريحانتاي في (4) الدنيا ".
أخرجه البخاري من طريقين في كتاب المناقب، وفي كتاب الأدب، والطبراني (5) من حديث أبي أيوب من طريق الحسن بن عنبسة، والبزار (6) من
__________
(1) البيت لعمرو بن معد يكرب، وأنشده الطبري في " تاريخه " 5/ 466، وعنده أن المتمثل به عمرو بن سعيد لا مروان. وقال الطبري: والأرنب: وقعة كانت لبني زبيد على بني زياد من بني الحارث بن كعب، من رهط عبد المدان. وانظر " اللسان " 1/ 435 (رنب)، والعج: الصياح ورفع الصوت.
(2) سقط من (ش).
(3) (3753) و (5994) " ورواه ابن حبان " (6969).
(4) في " البخاري ": " من ".
(5) في " المعجم الكبير " (3990). قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 9/ 181: وفيه الحسن بن عتبة، وهو ضعيف.
(6) رقم (2622). قال الهيثمي 9/ 181: رجاله رجال الصحيح. قلت: فيه عباد بن يعقوب شيخ البزار، أخرج له البخاري مقروناً، وهو رافضي، قال فيه ابن حبان: يستحق الترك.(8/50)
حديث سعد بن أبي وقاص برجال الصحيح.
وقال إبراهيم النخعي الإمام، فيما حكاه أبو سعد السمان (1) الرازي بسنده إليه: لو كنت فيمن قاتل الحسين، ثم أُتِيتُ بالمغفرة من ربِّي، فأُدخِلْتُ الجنة، لاستحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن أمرَّ عليه فيراني. ورواه الطبراني (2) بإسنادٍ رجاله ثقات.
قال ابن دحية: عباد الله، اعجبوا من هؤلاء الملاعين، إذ قتلوا الحسين بن فاطمة ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم أكبوا في شمالهم على شُرب شمولهم، تعساً لشيوخهم، وكهولهم. في صلاتهم (3) يصلون على محمدٍ وآله، ثم يمنعونه شرب نطفةٍ من الفرات وزُلاله، ويجتمعون على قتله وقتاله، ويذبحونه، ولا يستحيون من نور شيبه وجماله، أما والله إن حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته أن يعظموا (4) تراب نعل قدمه، بل تراب نعل خادمٍ من خدمه.
فليت شعري، ما اعتذار هؤلاء الأشرار في قتل هؤلاء الأخيار عند محمدٍ المختار: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار} [غافر: 52] إلى قوله: وقد سلط الله عليهم المختار، فقتلهم حتى أوردهم النار.
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: " السماء "، وهو الإمام الحافظ، العلامة البارع، المتقن، أبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسين السمان. كان من المكثرين الجوالين، سمع من نحو أربعة آلاف شيخ، وكان معتزلي المذهب، وكان إماماً بلا مدافعة في القراءات والحديث والرجال، والفرائض والشروط، عالماً بفقه أبي حنيفة، وبالخلاف بين أبي حنيفة والشافعي وفقه الزيدية. توفي في حدود سنة خمس وأربعين وأربع مئة. انظر " سير أعلام النبلاء " 18/ 55.
(2) في " الكبير " (2829). وانظر " مجمع الزوائد " 9/ 195.
(3) في (د) و (ف): أفي أصلابهم.
(4) في (ش): " يعظمون "، وهو خطأ.(8/51)
وخرَّج الترمذي في " جامعه الكبير " ما هذا نصه: حدثنا واصلُ بنُ عبد الأعلى، حدثنا أبو معاوية [عن] الأعمش، عن عُمارة بن عميرٍ، قال: لما جيء برأس عُبيد الله بن زيادٍ وأصحابه، نُضِّدَت (1) [في] المسجد، فانتهيت إليهم وهم يقولون: قد جاءت، قد جاءت، فإذا حية قد جاءت (2) تَخَلَّل الرؤوس حتى دخلت في مِنْخَرَي عُبيد الله، فمكثت هُنيهةً، ثم خرجت، فذهبت حتى تغيبت، ثم قالوا: قد جاءت، ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً. هذا حديث حسن صحيح (3).
انتهى المنقول من كتاب ابن دحية، وهو أحد أئمة أهل السنة في الاعتقاد وقد أورده الإمام العلامة القرطبي صاحب " التفسير الكبير " وأحد أقطاب مذهب أهل السنة نحو هذا الكلام، بل أظنه نقله بحروفه في آخر كتابه " التذكرة في أحوال الآخرة " (4).
ونقل الحافظ الهيثمي الشافعي في كتابه " مجمع الزوائد " عن أئمة الحديثِ وثقاتهم، الكثير الطيب مما يدلُّ على حب أهل البيت، مما يرويه الشيعة في مقتل الحسين عليه السلام، من كراماته العظيمة، ومناقبه الكبيرة، وزاد على نقل الشيعة بيان من رواه من أئمة الحديث، وبيان ثقة رواته عند أهلِ العلمِ بهذا الشأن. فقال:
وخرج الطبراني في " أوسط معاجمه " من طريق علي بن سعيد بن بشيرٍ الحافظ، عن رجاء بن ربيعة (5) في مناقب الحسن بفتح الحاء، والبزار، عن
__________
(1) تحرف في (ش) إلى: " قصدت ".
(2) عبارة: " قد جاءت " ساقطة من (ش).
(3) الترمذي (3780)، وما بين حاصرتين منه.
(4) انظر ص 563 - 569.
(5) في الأصول: " رجاء بن حيوة "، والمثبت من " المجمع "، " البزار ".(8/52)
رجاء بن ربيعة أيضاً بإسنادٍ رجاله ثقات في مناقب الحسين بضم الحاء (1) أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال فيه: والله إنه لأحب أهل الأرض إلى أهل السماء (2).
وعن عمارة بن يحيى بن خالد بن عُرْفُطَة، قال: كنا عند خالد بن عرفطة يوم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، فقال لنا خالد: هذا ما سمعتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي " رواه الطبراني والبزار، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير عمارة، وعمارة وثقه ابن حبان (3).
وعن شهر بن حوشب، قال: سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين عليه السلام لعنت أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل، عزَّوه وذلُّوه، لعنهم الله. رواه الطبراني، ورجاله موثقون (4).
وعن أسلم المِنْقَرِيِّ (5) قال: دخلت على الحجاج، [فدخل] سنانُ بنُ أنسٍ قاتل الحسين، فأوقف بحيال الحجاج، فنظر إليه، فقال: أنت قتلت الحسين؟ قال: نعم، قال: فكيف صنعت؟ قال: دعمته بالرمح، وهَبَرْتُه
__________
(1) كذا قال المصمف رحمه الله، وفي " المجمع " أن الأول في مناقب الحسين، والثاني في مناقب الحسن، وكذلك هو في " البزار ".
(2) قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 186 - 187: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه علي بن سعيد بن بشير، وفيه لين، وهو حافظ، وبقية رجاله ثقات.
وحديث البزار في " مسنده " (2632)، قال فيه الهيثمي 9/ 177: رجاله رجال الصحيح غير هاشم بن البريد، وهو ثقة.
(3) " المجمع " 9/ 194، وهو عند الطبراني في " الكبير " (4111)، والبزار (2645) وذكره البخاري في " التاريخ الكبير " 6/ 498.
(4) الطبراني (2818)، وانظر " المجمع " 9/ 194. وشهر بن حوشب في حفظه شيءٌ، وبعضهم يحسن حديثه.
(5) رواه الطبراني في " المعجم الكبير " (2828)، وما بين حاصرتين منه.(8/53)
بالسيف هبراً، فقال الحجاج: أما إنكما لن تجتمعا في دار. رواه الطبراني، ورجاله ثقات.
وعن أنس، قال: لما أُتي برأس الحسين إلى عُبيد الله بن زياد، جعل ينكُتُ بالقضيب ثناياه، فقلت: والله لأسُوءَنَّكَ (1)، إني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَلْثُمُ حيث يقع قضيبُك. قال: فانقبض. رواه البزار والطبراني بأسانيد، ورجاله وثقوا (2).
وخرَّج له الطبراني شاهداً من حديث زيد بن أرقم من طريق حرام بن عثمان (3).
وعن عمرو بن بعجة قال: أول ذلٍّ دخل على العرب: قتل الحسين، وادِّعاءُ زيادٍ. رواه الطبراني ورجاله ثقات (4).
وعن أبي رجاءٍ العُطاردي، قال: لا تسبوا علياً، ولا أحداً من أهل بيته، فإن جاراً لنا قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق قتله الله -يعني الحسين بن علي- فرماه الله بكوكبين في عينيه، فطمس الله بصره. رواه الطبراني ورجاله ثقات (5).
وعن حاجب عبيد الله بن زياد، قال: دخلتُ القصر خلف عبيد الله بن زياد حين قُتِلَ الحسين، فاضطرم القصر في وجهه ناراً، فقال هكذا بكُمِّه على
__________
(1) في (د) و (ش): " لا أسوءنك "، وهو خطأ.
(2) البزار (2646)، والطبراني (2878) و (2879)، وفي أحد إسنادي الطبراني علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
(3) " المعجم الكبير " (5107) و (5121). قال الهيثمي 9/ 195: وفيه حرام بن عثمان، وهو متروك. قلت: وقال ابن حبان: كان غالياً في التشيع.
(4) الطبراني (2870)، و" المجمع " 9/ 196. قلت: وعمرو بن بعجة ترجمته في " التاريخ الكبير " 6/ 316، و" الجرح والتعديل " 6/ 221 لم يوثقه غير ابن حبان، ولم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي، وقال الذهبي في " الميزان ": لا يعرف.
(5) الطبراني (2830)، وقال في " المجمع " 9/ 196: ورجاله رجال الصحيح.(8/54)
وجهه. فقال: هل رأيت؟ قلتُ: نعم، وأمرني أن أكتم ذلك. رواه الطبراني ورجاله ثقاتٌ إلاَّ حاجب عبيد الله (1).
وعن الزهري، قال لي عبد الملك بن مروان: أيُّ واحدٍ أنت إن أعلمتني أي علامةٍ كانت يوم قتل الحسين؟ قلت: لم تُرفع حصاةٌ من بيت المقدس إلا وُجِدَ تحتها دم عبيط، فقال: إني وإياك في هذا الحديث لفردان (2). رواه الطبراني. ورجاله ثقات (3)
وعن الزهري، قال: ما رُفِعَ بالشام حجرٌ يوم قُتِلَ الحسين إلاَّ عن دمٍ. رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح (4).
وعن أم حكيمٍ، قالت: قتل الحسين، فمكثت السماء أياماً مثل العَلَقَةِ.
رواه الطبراني، ورجاله إلى أم حكيم، رجال الصحيح (5).
وعن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكبُ نصف النهار، حتى ظننا أنها هي. رواه الطبراني بإسناد حسن (6).
وله شواهد: عن عيسى بن الحارث الكندي. رواه الطبراني (7).
__________
(1) الطبراني (2831)، وقال في " المجمع " 9/ 196: وحاجب عبيد لم أعرفه.
(2) في " الطبراني " و" المجمع ": " لقرينان ".
(3) الطبراني (2856)، والمجمع " 9/ 196. وانظر " دلائل النبوة " للبيهقي 6/ 471، والدم العبيط: هو الطري الخالص.
(4) الطبراني (2835)، و" المجمع " 9/ 196.
(5) هذا الأثر بتمامه سقط من (ش)، وهو عند الطبراني (2836)، ورواه أيضاً البيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 472، و" المجمع " 9/ 196.
(6) الطبراني (2838)، قلت: وأنَّى له الحسن وفيه عبد الله بن لهيعة وهو سيء الحفظ، وأبو قبيل -واسمه يحيى بن هانىء- ضعفه الحافظ في تعجيل المنفعة، لأنه كان يكثر النقل عن الكتب القديمة.
(7) الطبراني (2839). قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 197: وفيه من لم أعرفه. =(8/55)
وعن محمد بن سيرين. رواه الطبراني، من طريق يحيى الحِمَّاني، وهو من رجال مسلم في " الصحيح "، وفي حديثه أنه لم يكن في السماء حُمْرَةٌ حتى قتل الحسين (1).
فإن قيل: كيف يمكن صحة هذا، وقد ثبت أن أول وقت العشاء زوال الشفق الأحمر عند أهل البيت، وأكثر الفقهاء؟ وذلك ثابتٌ منذ شُرِعَتِ الصلوات في وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتفق جمهور العلماء وأهل اللغة على أن الشفق هو الحمرة، حتى قال الزمخشري في " الكشَّاف " (2): إن أبا حنيفة رجع إلى ذلك، لأنه المخالف في ذلك.
قلت: يمكن (3) أنه كان شيئاً يسيراً، وأنه كان في وقت قتل الحُسين عليه السلام حُمرةٌ عظيمةٌ متفاحشةٌ كما تقدم ذلك عن أم حكيم من رواية الطبراني
__________
= قلت: فيه جد ابن أبي شيبة واسمه إبراهيم بن عثمان، قال الذهبي في " الميزان ": هالك، وقال الحافظ في " التقريب ": متروك.
(1) الطبراني (2840). قال الهيثمي: فيه يحيى الحماني، وهو ضعيف.
وقول المؤلف: " وهو من رجال مسلم في الصحيح " وَهَمٌ منه رحمه الله قاده إليه ما رآه في " التقريب " من رمز " م " في نهاية ترجمته، وهذا خطأ من الحافظ، فإن الحافظ المزي في " تهذيب الكمال " لم يرمز له بشيء، وليست له رواية في صحيح مسلم، وإنما ذكره مسلم في " صحيحه " بإثر الحديث (713) الذي رواه عن يحيى بن يحيى، عن سليمان بن بلال، عن ابن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد، عن أبي حميد أو أبي أسيد.
فقال: سمعت يحيى بن يحيى يقول: كتبت هذا الحديث من كتاب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحِمَّاني يقول: كتبت هذا الحديث من كتب سليمان بن بلال، قال: بلغني أن يحيى الحِمَّاني يقول: وأبي أسيد. يعني: أن الرواية عن كليهما، لا عن أحدهما.
قال الحافظ ابن كثير في " تاريخه " 8/ 203: ولقد بالغ الشيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة كذباً فاحشاً ...
(2) 4/ 198.
(3) " يمكن " ساقطة من (ف).(8/56)
بإسنادٍ رجاله ثقاتٌ، وأنه بقي ذلك مدة كثيرة (1) إلى وقت كلام (2) محمد بن سيرين المتكلم بهذا، وهو من التابعين وعلمائهم وثقاتهم، ثم تناقص عن تلك الكثرة، كما تناقصُ الآيات المختصة بمقتله عليه السلام.
وقد اشتهرت قصة الحمرة بعد قتله عليه أفضل السلام حتَّى ذكرها المعرِّيُّ في شعره على بُعده من الأفراد المشهورات من الشرائع، فقال:
وعلى الدَّهرِ مِنْ دماء الشهيديـ ... ـنِ عليٍّ ونجله شاهدانِ
فهما في أواخر الليلِ فجرانِ ... وفي أُولياتهِ شَفَقَانِ (3)
فكيف وقد اعتقدت هذه الشهرةُ بإسناد على شرط مسلم من طريق المحدثين!
قال الهيثمي: وعن سفيان، قال: حدثتني جدتي أُمُّ أبي، قالت: شهدَ رجلان من الجعفيين اللذين تولّيا (4) قتل الحسين، فأما أحدهما، فطال ذكره حتى كان يلُفُّه، وأما الآخرُ، فكان يستقبل الراوية بفيه، حتى يأتي على آخرها، قال سفيان: رأيت ولد أحدهما كأن به خبلاً، أو كأنه مجنون. رواه الطبراني
__________
(1) في (د): " كثيراً ".
(2) " كلام " ساقطة من (ش).
(3) البيتان في " سقط الزند " ص 96 من قصيدة مطلعها:
علِّلاني فإنَّ بيض الأماني ... فَنِيَتْ والظلام ليس بفانِ
وقد أجاب فيها الشريف أبا إبراهيم موسى بن إسحاق عن قصيدة أولها:
غير مُسْتَحْسَنٍ وِصَالُ الغواني ... بعدَ ستين حِجَّة وثمان
قال البطليوسي في شرح هذين البيتين: إنما قال هذا، لأنه يمدح علوياً، وفرقة من الشيعة تزعم أن الحمرة التي ترى في الآفاق في أوَّل الليل وآخره لم تكن إلاَّ مذ قُتِلَ علي وابنه رضي الله عنهما، ومنهم من يرى أن ادعاء مثل هذا محال، لأن تلك الحمرة لم تزل موجودة قبل قتلهما.
(4) عبارة " اللذين توليا " لم ترد عند الطبراني والهيثمي.(8/57)
ورجاله ثقات إلى جده سفيان (1). وبسنده (2) إليها، قالت: رأيت الوَرْسَ الذي أُخِذَ من عسكر الحُسين، صار مثل الرماد.
وروى الطبراني عن حُميدٍ الطَّحَّان، كنت في خُزاعَة، فجاؤوا بشيءٍ من تركة الحسين، فقيل لهم: نَنْحَرُ أو نبيع فنقسم؟ قال: انحروا، فجلس على جفنةٍ، فلما وُضِعَتْ، فارت ناراً (3).
وعن الأعمش قال: خَرِيَ رجلٌ على قبر الحسين، فأصاب أهل ذلك البيت خَبَلٌ وجنون وجذامٌ وبرصٌ وفقرٌ. رواه الطبراني (4) ورجاله رجال الصحيح.
وعن الحسن البصري قال: قُتِلَ مع الحسين ستةَ عشر رجلاً من أهل بيته، والله ما على ظهر الأرض يومئذٍ أهل بيتٍ يشبهونهم.
قال سفيان: ومن يشُكُّ في هذا؟! أخرجه الهيثمي، وسقط ذِكْرُ مُخَرِّجِه من أهل المسانيد (5).
وروى الطبراني من حديث محمد بن الحَسَن بن زبالة المخزوميِّ أحدِ رجال أبي داود أنه لما أُدْخِلَ ثقل الحسين على يزيد لعنه الله أنشد عبد الرحمن ابن أمِّ حكيمٍ.
لَهَامٌ بجنب الطفِّ أدنى قَرَابَةً ... من ابن زياد العَبْدِ ذي النسب الوَغْلِ
__________
(1) الطبراني (2857).
(2) أي الطبراني (2858)، ورواه البيهقي في " الدلائل " 6/ 472، والورس: نبت أصفر يزرع باليمن.
(3) الطبراني (2863). قال الهيثمي 9/ 196: وفيه من لم أعرفه.
(4) رقم (2860).
(5) " مجمع الزوائد " 9/ 198، وهو عند الطبراني (2854).(8/58)
سميَّة أمسى نَسْلُها عَدَدَ الحصى ... وبِنْتُ رسولِ اللهِ ليسَ لها نسلُ (1)
وعن أبي قبيلٍ، قال: لما قُتِلَ الحسين، احتزوا رأسه، وقعدوا في أول مرحلةٍ يشربون النبيذ يتحيَّون بالرأس، فخرج إليهم قلمٌ من حديدٍ من حائط، فكتب بسطر دمٍ:
أترجو أُمةٌ قتلت حُسيناً ... شفاعة جَدِّهِ يومَ الحسابِ
فهربوا وتركوا الرأس. رواه الطبراني (2).
وعن إمامٍ لبني سليم (3)، عن أشياخٍ له، قال: غزونا الروم، فنزلوا في كنيسةٍ من كنائسهم، فقرؤوا في حجرٍ مكتوب:
أترجو أمةٌ قتلتْ حسيناً ... شفاعةَ جَدِّهِ يومَ الحسابِ
فسألناهم: منذ كم بُنِيَتْ هذه الكنيسة؟ قالوا: قبل أن يُبعث نبيكم بثلاث مئة سنة. رواه الطبراني (4).
وعن أم سلمة، قالت: سُمِعَتْ الجِنُّ تنوح على الحسين. رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5).
__________
(1) الطبراني (2848)، ومحمد بن الحسن بن زبالة ضعيف جداً.
(2) الطبراني (2873). قال الهيثمي 9/ 199: وفيه من لم أعرفه.
(3) في الأصول و" المجمع ": " سليمان "، والمثبت من الطبراني و" مختصر تاريخ دمشق " لابن منظور 7/ 155.
(4) الطبراني (2874)، وصدر البيت الأول عنده:
أيرجو معشرٌ قتلوا حسيناً
قال الهيثمي 9/ 199: وفيه من لم أعرفه. قلت: إمام بني سليم وأشياخه مجاهيل.
(5) الطبراني (2862) و (2867).(8/59)
وعن ميمونة مثله. ورواه الطبراني برجال الصحيح (1).
وعن أمِّ سلمة مثله بزيادة ذكر نَوْحِهِم، وذكر منه:
ألا يا عينُ فاحتفلي بجُهد ... ومن يبكي على الشهداء بعدي
على رهطٍ تقُودُهُمُ المنايا ... إلى مُتَجَبِّرٍ في مُلكِ عَبْدِ
رواه الطبراني من طريق عمرو بن ثابتٍ بن هرمز (2).
وعن أبي جناب (3) قال: حدثني الجَصَّاصُون، قالوا: كنا (4) إذا خرجنا إلى الجبال (5) بالليل عند مقتل الحسين عليه السلام؛ سمعنا الجن ينوحون عليه، ويقولون:
مَسَحَ الرسولُ جبينهُ ... فَلَهُ بريقٌ في الخدودِ
أبواه من عُليا قريشٍ ... وجُدودُه (6) خيرُ الجدودِ
رواه الطبراني (7).
وعن أحمد بن محمد (8) بن حُمَيدٍ الجهمي -من ولد أبي جهم بن حذيفة- أنه كان يُنْشِدُ في قتل الحسين، وقال: هذا الشعر لزينب بنت عقيل بن أبي طالب:
__________
(1) (2868).
(2) تحرف في الأصول إلى " هرم ". والخبر عند الطبراني (2869). قال الهيثمي 9/ 199: وعمرو بن ثابث بن هرمز ضعيف. قلت: بل متروك، ثم إنه لم يدرك أم سلمة.
(3) تحرف في (ش) إلى: " حبان ".
(4) لفظ " كنا " سقط من (ش).
(5) عند الطبراني: " الجبانة ".
(6) عند الطبراني و" المجمع " و" مختصر ابن عساكر: " جده ".
(7) (2865) و (2866). قال الهيثمي: فيه من لم أعرفه، وأبو جناب مدلس.
(8) " بن محمد ": سقط من (ش).(8/60)
ماذا تقولون إن (1) قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ
بعترتي (2) وبأنصاري وذريتي ... منهم أُسارى وقتلى ضُرِّجُوا بدمِ
ما كان هذا (3) جزائي إذ نصحتُ لكم ... أن تَخلفوني بسوءٍ في ذوي رحمِ
قال أبو الأسود الدُّؤلي: نقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين} [الأعراف: 23]. رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما انقطاع، وفي الآخر وهو أجود من المنقطع.
فقال أبو الأسود الدؤلي:
أقول وزادني حَنَقَاً (4) وغَيْظَاً ... أزال اللهُ ملكَ بني زيادِ
وأَبْعَدَهُم كما بَعِدُوا (5) وخَانُوا ... كما بَعِدَتْ ثمودُ وقومُ عادِ
ولا رجعتْ رِكابُهُم إليهم ... إذا قَفَّتْ إلى يوم التَّنادِ (6)
وعن سليمان بن الهيثم، قال: كان علي بن الحسين يطوف بالبيت، فإذا أراد أن يستلم الحجر، أوسع له الناس، والفرزدق بن غالبٍ ينظرُ إليه، فقال رجل: يا أبا فراس، من هذا؟ فقال الفرزدق:
__________
(1) في (ش): "لو"، وفي (ف): " إذا ".
(2) في " الطبراني ": " بأهل بيتي ".
(3) في " الطبراني ": " ذاك ".
(4) في " الطبراني ": " جزعاً ".
(5) في " الطبراني ": " غدروا ".
(6) في (د): " التنادي " بإثبات الياء. والخبر عند الطبراني في " الكبير " (2853) و (2875)، وأبيات أبي الأسود في الرواية الأولى.
وانظر " تاريخ دمشق " قسم تراجم النساء ص 124.(8/61)
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَهُ ... والبيتُ يعرفه والحِلُّ والحَرَمُ
الأبيات إلى قوله:
أيُّ العشائر (1) ليست في رقابهمُ ... لأوَّلِيَّةِ هذا، أولَه نِعَمُ
رواه الطبراني (2).
انتهى ما أردت نقله من كتاب الإمام الهيثمي المحدِّث الشافعي، وهو المتكلم على الأسانيد، وكل ما لم أذكر فيه توثيقاً ولا تصحيحاً منها، فهو مما قال فيه المصنف: فيه من لم أعرفه، وذلك هو النادر، وهذا المنقول قليلٌ من كثيرٍ، لأنه اقتصر على نقل ما اتصل إسناده، وهو شرط أهل المسانيد، ولم يذكر ما لم يذكروه، وهم لا يتعرَّضون لذكر المراسيل والمقاطيع، وإنما ذكر الطبراني فيما تقدم مقطوعاً واحداً، لأن له سنداً آخر متصلاً، فهو شاهدٌ للمتصل.
وفي كتاب ابن عبد البر " الاستيعاب " (3) و" النُّبلاء " (4) للذهبي وسائر من صنف المناقب من أهل السنة من مناقب الإمام الحسين بن عليٍّ عليهما أفضلُ السلام الكثير الطيب، وانظر كتاب " ذخائر العُقبى في مناقب ذوي القُربى " (5) من تواليف أئمة الحديث من الشافعية، وللذهبي كتابٌ مفردٌ، سمَّاه " فتح المطالب في مناقب علي بن أبي طالب ". وابن جرير من أئمة الحديث هو الذي
__________
(1) في " ديوان الفرزدق ": " الخلائق ".
(2) الطبراني (2800)، والخبر والأبيات في ديوان الفرزدق 2/ 179 - 181.
(3) 1/ 377 - 383.
(4) 3/ 280 - 321.
(5) للشيخ العلامة أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبراني، المتوفى سنة 694 هـ. وهو مطبوع متداول.(8/62)
صنَّف " جزءاً " في طرق حديث: " من كُنْتُ مولاه، فعليٌّ مولاه " (1)، وصنف الذهبي جزءاً في طرقه وحكم بتواتره. وقد اشتمل " مسند " الإمام أحمد بن حنبل مِن مناقب العِتْرَة على ما لا يرويه ناصبيٌّ، ونقل الأئمة والشيعة منه، واحتجوا بنقله، وهو إمام المحدثين في الاعتقاد والانتقاد.
والقصد الاستدلال على خطأ من يفتري على أهل الحديث بُغْضَ أهل البيت، وقد عُلِمَ منهم التَّبري من ذلك بالضرورة.
وقد أكثرت من النقل في ذلك (2) على جهة الاستدلال، وهو يحتاج إلى اعتذار، لأنه استدلالٌ على أمرٍ ضروري:
وليس يصح في الأذهان شيءٌ ... متى احتاج النَّهارُ إلى دليل (3)
والعذر في ذلك جَحْدُ ذلك مِمَّن جَهِلَ أو تجاهل، فالله المستعان.
بل تصريح الخصم بأنهم يقولون ببغي الحسين عليه السلام وتصويب قَتَلَتِه، هكذا قال، ولم يستحي من الله، وهذه تواليفهم المعلومة تكفي في تكذيب من يقول ذلك منهم (4) كما تقدم، ومن بَقِي له أدنى تقوى وَزَعَهُ من ذلك ما جاء في الحديث المتفق على صحته من رُجُوع ما رُمِيَ به البريء على من يرميه من كُفْرٍ وغيره (5)، وإنما يُجزىءُ من يَنْسِبُ هذا إليهم بغير بصيرةٍ أنه قد
__________
(1) حديث مشهور، قد روي عن غير واحد من الصحابة، انظر " صحيح ابن حبان " (6931).
(2) " في ذلك " ساقطة من (ش).
(3) البيت لأبي الطيب المتنبي من قصيدة في " ديوانه " 3/ 92 شرح العكبري، وقبله:
وهذا الدُّرُّ مأمونُ التَّشظِّي ... وأنت السيفُ مأمون الفُلولِ
(4) في (د): " عنهم ".
(5) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " وقد تقدم تخريجه 2/ 438 - 439.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلعن الريحَ، فإنها مأمورة، وليس أحدٌ يلعن شيئاً له بأهل، إلاَّ رجعت =(8/63)
يقع خلافٌ بين بعض السنة وبعض الشيعة والمعتزلة في وجهين آخرين:
الوجه الأول: جواز الاستغفار لبعض العصاة والتَّرَحُّم والترضية، وذلك مختلفٌ فيه، والمشهور في كتب أهل السنة جوازه لمن ليس بكافرٍ ولا مُنافقٍ، ولا يدلُّ دينه على شيءٍ من ذلك، ولا يستلزمه بناء على مذهبهم في الشفاعة والرجاء عموماً، وفي الصحابة خصوصاً.
فقد روى الهيثمي في " الفتن " (1)، عن طارق بن أُشَيْمٍ أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " بحسب أصحابي القتل ". رواه أحمد، والطبراني بأسانيد، والبزار (2)، ورجال أحمد رجال الصحيح (3).
وعن سعيد بن زيدٍ مرفوعاً مثله، رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها (4) ثقات، ورواه البزار كذلك (5).
وعن أُمِّ حبيبة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "رأيتُ ما تَلْقَى أمتي بعدي، وسفك بعضها [دماء بعض] (6)، وسبق ذلك من الله كما سبق في الأمم (7) قبلهم، فسألت الله
__________
= عليه". رواه أبو داود (4908)، والترمذي (1978)، والطبراني (12757) من حديث ابن عباس، وصححه ابن حبان (5745) واللفظ له.
(1) 7/ 223 - 224.
(2) " والبزار " ساقطة من (ش).
(3) أحمد 3/ 472، والبزار (3263)، والطبراني (8195) و (8196) وهو حديث صحيح.
(4) تحرفت في (ش) إلى: " أحدهما ".
(5) رواه أحمد 1/ 189 والبزار (3261) و (3262)، والطبراني (347) و (348) و (349).
(6) سقط من الأصلين و" المجمع "، واستدرك من " مسند أحمد ".
(7) في (ف): " للأمم ".(8/64)
أن يُوَلِّيِنيَ شفاعة (1) يوم القيامة فيهم، ففعل". رواه أحمد والطبراني في " الأوسط " ورجالهم رجالُ الصحيح إلاَّ أن رواية أحمد عن ابن أبي حسين أنبأ أنس، عن أم حبيبة، ورواية الطبراني عن الزهري عن أنس (2).
وعن عبد الله بن يزيد (3) الخطميِّ، قال - صلى الله عليه وسلم -: " عذابُ أمتي في دنياها " رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " ورجاله ثقاتٌ (4).
قلت: وشواهد كثيرة جداً متفرقة.
ومنها في تفسير قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:
__________
(1) في (ش): " شفاعتهم ".
(2) رواه أحمد 6/ 427 - 428 من طريق أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي حمزة، عن ابن أبي حسين، عن أنس بن مالك، عن أم حبيبة. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: قلت لأبي: ها هنا قومٌ يحدثونه عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري: قال: " ليس هذا من حديث الزهري، إنما هو حديث ابن أبي حسين. وفي هامش " مجمع الزوائد ": الصحيح رواية أحمد، وقد ذكروا أن أبا اليمان عن شعيب رواه كذلك على الصواب بعد أن كان وهم، فرواها عن الزهري.
(3) تحرف في (ش) إلى: " زيد ".
(4) هو عند الطبراني في " الصغير " (893) من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا عن إبراهيم بن سويد النخعي، حدثنا الحسن بن الحكم النخعي، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن عبد الله بن يزيد الخَطْمي رفعه. ورواه الحاكم 1/ 50 من طريق عثمان بن أبي شيبة به.
قلت: والحسن بن الحكم النخعي وثقه ابن معين، وأحمد، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبان في " المجروحين " 1/ 233، وقال: يخطىء كثيراً، ويَهِمُ شديداً لا يعجبنى الاحتجاج بخبره إذا انفرد، وروى له حديثه هذا، وحديثاً آخر، وقال: هذان الخبران بهاتين اللفظتين باطلان، وقد فصلنا القول في هذا الحديث وما ورد في معناه في الجزء السادس من هذا الكتاب.(8/65)
123] (1). قال ابن عبد البر: رُوي عن أبي بكرٍ من وجوهٍ شتى أنه في حق المسلمين مصائب الدنيا.
ومنها في تفسير: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة: 8] (2).
ومنها: في فضل المصائب والآلام أحاديثٌ كثيرةٌ شهيرةٌ متفقٌ على صحة كثير منها بهذا المعنى، لكنه يخرج منه (3) من أظهر الشهادتين لمصلحة دنياه (4)، وليس من الإسلام في شيء، لما ورد في الصحاح كلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طرقٍ صحيحة متعددة متكاثرة أو متواترة أنه يُختلجُ دونه إلى النار يوم القيامة قومٌ من أصحابه يعرفهم، ويقول: "أصحابي! فيقال له: إنك لا
__________
(1) أخرج أحمد 1/ 11، والطبري في " جامع البيان " (10521) - (10529)، والمروزي في " مسند أبي بكر " (111) و (112)، وأبو يعلى (98) - (101)، والبيهقي 3/ 373 من طرق عن أبي بكر قال: يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} وكل شيء عملنا جُزينا به؟ فقال: " غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ " قال: قلت: بلى، قال: " هو ما تجزون به ". وصححه ابن حبان (2910)، والحاكم 3/ 74 - 75، ووافقه الذهبي.
(2) أخرج ابن جرير في " جامع البيان " 30/ 268، وابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " 4/ 578، من حديث أنس، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} فرفع أبو بكر يده من الطعام، وقال: يا رسول الله، إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر، فقال: " يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر، ويدخر لك الله مثاقيل الخير حتَّى توفاه يوم القيامة ".
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 593، وزاد نسبته لابن المنذر والطبراني في " الأوسط " والحاكم في " تاريخه " وابن مردويه والبيهقي في " شعب الإيمان " وانظر " تفسير ابن كثير " 4/ 577 - 578.
(3) في (ش): " عنه ".
(4) في (ش): " دنيا ".(8/66)
تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً لمن بدل بعدي" (1) وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة شهيرة صحيحة بألفاظٍ متنوعة، وقد تقصَّاها أهل الصِّحاح، وابن عبد البر في أول " الاستيعاب " (2) وإيرادُهم لها دليل صدقهم في الحديث، وتحرِّيهم لنقل الصحيح، وهذا عارضٌ لبيان خصوص هذه البشرى بالمخلصين في الإيمان، المقرين بذنوبهم، الذين تسُرُّهُم حسناتهم، وتسوؤهم سيئاتهم، ويحبون الصالحين، وإن لم يكونوا منهم.
ولنعد إلى تمام الشواهد على ذلك مع ما تقدم.
قال الهيثمي بعد حديث عبد الله بن يزيد الخَطمي مرفوعاً: " عذاب أمتي في دنياها ": وعن أبي هريرة مرفوعاً نحو رواية الطبراني في " الأوسط " فيه سعيد بن مسلمة الأُموي (3).
__________
(1) أخرجه البخاري (5682)، ومسلم (2304) من حديث أنس.
وأخرجه البخاري من حديث ابن مسعود: البخاري (6576)، ومسلم (2297).
وأخرجه من حديث سهل بن سعد: البخاري (6583) و (7050)، ومسلم (2290)، وأحمد 5/ 333 و339، والطبراني (5783) و (5834) و (5894) و (5996).
وأخرجه من حديث حذيفة: أحمد 5/ 388، ومسلم (2297)، وابن أبي شيبة 11/ 441.
وأخرجه من حديث أبي بكرة: أحمد 5/ 48 و50، وابن أبي شيبة 11/ 443 - 444.
ومعنى قوله: " يختلج ": يجتذب ويقتطع.
(2) 1/ 2 - 9.
(3) " المجمع " 7/ 224. وتمامه كلامه: وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان، وقال: يخطىء، وبقية رجاله ثقات.
قلت: قال يحيى بن معين: سعيد بن مسلمة ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، في حديثه نظر، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، ضعيف الحديث منكر الحديث، وقال النسائي: ضعيف، وذكره أبو زرعة الرازي في الضعفاء، وقال الترمذي: ليس عندهم بالقوي، وذكره العقيلي وابن الجوزي والذهبي في جملة الضعفاء.(8/67)
وعن معقل بن يسار مرفوعاً: " عقوبة هذه الأمة بالسيف، وموعدهم الساعة، والساعة أدهى وأمر " رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن عيسى الخزّاز (1).
وعن أبي بُرْدَةَ عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه - صلى الله عليه وسلم -: " عقوبة هذه الأُمة بالسيف ". رواه الطبراني في " الكبير "، ورجاله رجال الصحيح (2).
فمن استغفر له لعاصٍ منهم، فهو محمول إن شاء الله على نحو مقصد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال: {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وحيث استغفر لأبيه في حياته حتى تبين له أنه عدو لله، وجادل في قوم لوطٍ، ولم يكن ذلك رضا منه بكفر أبيه، ولا مُوالاة له (3) على شِركِه.
وكذلك قول عيسى عليه السلام: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [المائدة: 118].
وكذلك رد السلام على اليهودي إذا ابتدأ به، بل هذا من قبيل استغفار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأكبر أعداء الله، وأعدائه - صلى الله عليه وسلم - كبير المنافقين عبد الله بن أُبي بن (4) سلولٍ، وصلاته عليه ميتاً (5) قبل أن ينصَّ عليه تحريم ذلك، وليس في ذلك رضاً عنه، ولا رضاً بفعله، فمن أقر بقبح ذنب المذنب، وتبرأ من الرضا به، كان خلافه في جواز الاستغفار سهلاً، ولذلك (6) ذهب زيد بن علي عليهما السلام إلى الصلاة على الفاسق، رواه عنه القاضي شرف الدين حسن بن محمدٍ
__________
(1) الطبراني 2/ (460) من طريق عقبة بن مكرم، عن عبد الله بن عيسى، عن يونس بن عبيد، عن الحسن عن معقل بن يسار به، وعبد الله بن عيسى الخزاز، قال فيه أبو زرعة: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن عدي: هو مضطرب الحديث، وأحاديثه أفراد كلها.
(2) " مجمع الزوائد " 7/ 224 - 225.
(3) في (ش): " موالاته ".
(4) " بن " سقطت من (ش).
(5) " عليه ميتاً " سقط من (ف).
(6) في (ش): " وكذلك ".(8/68)
النحوي في " تذكرته " وهذا خلاصة مذهب القوم، وهو شبيهٌ بالشفاعة في الآخرة لأهل الذنوب مع كراهتها عند وقوعها ووجوب النهي والحرب على (1) بعضها.
قال الذهبي (2): وروى الخطيب (3) عن ابن (4) المظفر الحافظ، عن محمد بن جرير، قال: سمعت عباداً يقول: من لم يبرأ في صلاته كل يوم (5) من أعداء آل محمد، حشر معهم.
قال الذهبي: فقد عادى آل علي آل العباس (6)، والطائفتان آل محمدٍ قطعاً، فممن نبرأ؟! (7) بل نستغفر للطائفتين، ونبرأ من عدوان المعتدين، كما تبرَّأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مما (8) فعل خالد لما أسرع في قتل بني جُذَيْمَة (9)، ومع ذلك،
__________
(1) في (ف): " عن ".
(2) في " ميزان الاعتدال " 2/ 379 - 380.
(3) هذا وهم من المصنف رحمه الله، فالذي ذكره الخطيب عن ابن المظفر حكاية أخرى نقلها عنه الذهبي في " الميزان ".
وأما هذا النص، فقد ذكره بإثر تلك الحكاية؛ فقال: محمد بن جرير، أي: روى محمد بن جرير.
(4) تحرف في (ش) إلى: " أبي ".
(5) " كل يوم " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): تعادى آل علي وآل العباس.
(7) في " الميزان ": " نتبرأ ".
(8) في (ش): " فيما "، وهو تحريف.
(9) أخرج عبد الرزاق (9434)، ومن طريقه أحمد 2/ 150 - 151، والبخاري (4339) و (7189)، والنسائي 8/ 237، وابن حبان (4749)، والبيهقي 9/ 115 عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يُحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، وجعلوا يقولون. صبأنا صبأنا، وجعل خالد يأخذهم أسراً وقتلاً، ودفع إلى كل رجل منهم أسيراً، حتى كان يوماً، فقال خالد: ليقتل كل رجل منكم أسيره، فقدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر له صنيع خالد، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه، وقال: " اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ".(8/69)
فقال فيه: " خالدٌ سيفٌ سلَّه الله على المشركين " (1)، فالتَّبرُّؤ من ذنبٍ سيُغفر، لا يلزم منه البراءة من الشخص. انتهى كلامه.
وإنما أوردته ليُعرف مذهبهم وإجماعهم على كراهة فعل المذنب والتَّبرُّؤ منه، وإن لم يتبرَّؤوا من فاعله، محتجِّين بقوله تعالى: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَه} [الممتحنة: 4]، وبقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] والعدو هنا: الكفار دون عصاة المؤمنين إجماعاً، وفي البُغاة: {إنما المؤمنون إخوة} [الحجرات: 10] الآية، مع قوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} [محمد: 19].
ففي الآيات (2) صح الجمع بين الذنوب والإيمان والأمر بالبراءة من (3) ذنب المؤمن، وبالاستغفار له، وشواهده كثيرة، ومن أوضحها قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10].
وفي الحديث بيانٌ كثيرٌ (4) لهذا، وكفى بأحاديث الشفاعة، وهي متواترة عند أهل العلم بالآثار، والحمد لله.
ولا شك أن الرضا بفعل المذنب بمنزلة ارتكاب الذنب.
قال الإمام المهدي محمد بن المُطَهّر: الموالاة المجمع على تحريمها:
__________
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى عبد الله بن أحمد في " فضائل الصحابة " (13)، والبزار (2592) و (2719)، والطبراني في " الكبير " (3801)، و" الصغير " (580)، وصححه ابن حبان (7091)، والحاكم 3/ 298.
(2) " ففي الآيات ": ساقطة من (ش).
(3) في (ش): " عن ".
(4) في (ش): " لكثير ".(8/70)
موالاةُ العاصي لأجل معصيته، ويكون حكم صاحب هذه الموالاة حكم من والاه في الفسق والكفر، وفي مذهب المهدوية من الزيدية وهم أكثرهم (1) تشديداً: أنه تجوز محبَّة الفاسق لخَصْلَة خيرٍ فيه، وقد يكون في أهل السنة والشيعة من يحب بعض الفسقة لخصلة خيرٍ فيه، إما صحيحة أو في ظن من أحبه.
وقال محمد بن منصورٍ الكوفي الشيعي في كتابه المعروف بكتاب أحمد -يعني أحمد بن عيسى بن زيد عليهما السلام-: إن أحمد بن عيسى عليه السلام قال: فإن جَهِلَ الولاية رجلٌ، فلم يتولَّ أمير المؤمنين عليه السلام، لم تنقطع بذلك عصمته، وإن تبرَّأ وقد عَلِمَ، انقطعت منا عصمته، وكان منّا (2) في حدِّ براءة مما دان به، وأنكر من فرض الولاية، لا نراه يخرج بها من حد المناكحة والموارثة وغير ذلك مما تجري به أحكام المسلمين بينهم بعضهم في بعض على مثل من وافقنا في الولاية وإيجابها في المناكحة والموارثة، غير أن هذا الموافق، موافقٌ معتصمٌ بما قد اعتصمنا به من الولاية، ونحن من الآخر في حدِّ براءةٍ من فعله.
وقوله: على مثل هذه الجهة، لا على مثل البراءة منا من أهل الشرك (3) اليهود والنصارى والمجوس، وهذا وجه البراءة عندنا ممن خالفنا. انتهى بحروفه من آخر المجلد السادس من " الجامع الكافي على مذهب الزيدية ".
الوجه الثاني: إن أهل السنة يكرهون اللَّعن والسب على الإطلاق، ولا سيّما للموتى، لما ورد في الحديث من النهي عن سبِّهم (4).
__________
(1) في (ش): " وهو أكبرهم ".
(2) " منا " ساقطة من (ش).
(3) في (د) و (ف): " الشر ".
(4) تقدم من حديث عائشة 5/ 4، وهو حديث صحيح.(8/71)
وفي الباب عن زيد بن أرقم، رواه أحمد والطبراني بأسانيد، رجال أحدها ثقاتٌ (1).
وعن صخرٍ مرفوعاً، وفيه عبد الله بن سعيد بن أبي مريم (2)، وهو ضعيف.
وعن عبد الله بن عمرو (3) يرفعه: " سباب الميت (4) كالمشرف على الهلكة " برجال الصحيح (5).
وقد رأيت مصنفاً مستقلاً لبعضهم في النهي عن اللعن، أورد فيه حديثاً كثيراً في هذا المعنى، ويشهد لذلك قوله تعالى: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين} إلى قوله: {أن تَوَلَّوْهُمْ} الآية [الممتحنة: 9]، لأنه اعتبر المفسدة في الآية (6) عند المحاربة، وقد نهى رسوله - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ رِعْلٍ وذكوان الذين قتلوا سبعين من خير أصحابه، وقال سبحانه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128] (7) وما أردت بذكر هذا إلاَّ وجهين:
__________
(1) رواه أحمد 4/ 369 و371، والطبراني في " الكبير " (4973) و (4974) و (4975)، ورواه أيضاً ابن أبي شيبة 3/ 366، وصححه الحاكم 1/ 385، ووافقه الذهبي.
(2) صخر: هو ابن وداعة الغامدي، وحديثه عند الطبراني في " الكبير " (7278)، و" الصغير " (590).
(3) في (ش): عمر، وهو تصحيف.
(4) في (ف): " الموتى ".
(5) وانظر هذا الحديث والحديثين قبله في " مجمع الزوائد " 8/ 76.
(6) في الأصول: الذلة، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
(7) أخرج أحمد 2/ 255، والبخاري (4560)، ومسلم (294) من حديث أبي هريرة كان يقول: " اللهم العن لحيان ورعلاً وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله " قال: ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزلت: {ليس لك من الأمر شيء ... } الآية. وانظر " صحيح ابن حبان " (1972).(8/72)
الوجه الأول: بيان التفاوت العظيم بين المخالفين، فكم بين الرَّاضي بالفعل الذي لولاه ما أحبَّ الفاعل، وبين الكاره له الذي لو لم يكن له غيره، ما أحبَّ الفاعل، كما أنه فرقٌ عظيمٌ بين الزاني والمستغفر له، أو المجوِّز للشفاعة له، أو الصَّلاة عليه من أهل العلم والدين.
الوجه الثاني: تحسين الظن بالمسلمين من الطائفتين ما استطعت، وإذا كان لأحدٍ من الطائفتين محملٌ قبيحٌ، ومحملٌ أقبح منه، حملته على أقلِّهما قبحاً، إن لم أجد محتملاً حسناً، والله عند لسان كل قائل، وقلبه ونيته. فأمَّا من علمنا منه بُغض علي عليه السلام، فإنَّا نُبْغِضُه لله، وكيف لا نبغضُه وقد صح بغير نزاعٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يبغضك إلاَّ منافق " (1).
ولكنه ينبغي التنبيه على أمرٍ لطيفٍ وهو أن المحبة مما تزيد وتنقص، وتقِلُّ وتكثر، كالإيمان على الصحيح، فقد صح في أحاديث الشفاعة الصحاح أن يكون لمن في قلبه أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، وإذا كان قليل الإيمان ليس بكفرٍ، فكذلك قليل المحبة ليس ببغضٍ، ومن المعلوم أن حب فاطمة عليها السلام لعلي بن أبي طالب أكثر من حب عائشة رضي الله عنها له، وكذلك حب الحَسَنَيْنِ له عليهم السلام أكثر من حبِّ ابن عمر له، وكذلك حبُّ المؤمنين (2) لله ولرسوله في غاية التفاضل.
وصحت النصوص في فضائل الإيمان إلى أن عُدَّ فيه ما هو أدنى من مثقال حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ، ولم يُحكم للقبيل بالكفر في شيءٍ من ذلك.
ولم يعنِّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة حيث لم تُحِبَّ أمير المؤمنين كحبِّ أبيها، ولا كحب فاطمة له، ولا كَرهَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك ولا طلقها، ولا يلزمُ من التفضيل عليه البغض له، فإنا نفضِّله على ولديه عليهما السلام، ولا نبغضهما،
__________
(1) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 1/ 370.
(2) في (ف): " أمير المؤمنين ".(8/73)
وأهل الحديث يُفَضِّلون أبا بكرٍ على عُمَرَ، ولا يُبغضون عمر، وأهل الإسلام يفضلون النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وأهله، ولا يبغضونهم، بل على الأنبياء عليهم السلام.
ولكن نعرض من هذا صورة نسبة البغض، وهي شدة المراء في التفضيل والقدح في أدلة المفضلين في الجانبين، ألا ترى أن أحداً من الغلاة لو فضل علياً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجادلناه، وقدحنا فيما يحتج به على ذلك، لكان يظن بنا كراهة علي، وكذا لو فضَّل أحدٌ منا الحسين (1) بن علي على أبيه، أو عمر على أبي بكر، فَرُدَّ عليه، لتوهم المردود عليه فيمن رد عليه بأنه يكره المُفَضَّل، وإنما كَرِهَ التفضيل لا المُفَضَّل، فينبغي الاحتراز في ذلك حتى لا يُنْسَبَ إلى بُغض علي من يحبه، فيكون جنايةً عليه، وظلماً له، والله يحب الإنصاف.
__________
(1) في (ف): " الحسن ".(8/74)
الفصل الثاني
في بيان أن من منع الخروج على الظلمة استثنى من ذلك من فَحُشَ ظُلمه، وعَظُمَتِ المفسدة بولايته، مثل يزيد بن معاوية، والحجَّاج بن يُوسُف، وأنه لم يقُل أحدٌ ممن يُعْتَدُّ به بإمامة من هذا حاله، وإن ظن ذلك من لم يبحث من ظواهر بعض إطلاقهم، فقد نصوا على بيان مُرادهم، وخصُّوا عُموم ألفاظهم، ويظهر ذلك بذكر ما أمكن من نصوصهم.
فمن ذلك ما نقله لي شيخي النَّفيس العلوي -أدام الله عُلُوَّه- عن إمام مذهب الشافعية الجويني، فإنه قال في كتابه " الغياثي " (1)، وقد ذكر أن الإمام لا ينعزل بالفسق ما لفظه: وهذا في نادر الفِسق، فأما إذا تواصل منه العِصيان، وفشا منه العدوان، وظهر الفساد، وزال السَّداد، وتعطَّلت الحقوق، وارتفعت الصِّيانة، وَوضُحَتِ الخيانة، فلا بد من استدراك هذا الأمر المتفاقم، فإن أمكن كفُّ يَدِهِ، وتولية غيره بالصفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك، لاستظهاره بالشوكة إلاَّ بإراقة الدماء، ومُصادَمَة الأهوال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مندفعون إليه، مُبْتَلُون به (2) بما يعرض وقوعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يُتَوَقَّع، فيجب احتمال المتوقَّع، وإلا فلا يسُوغُ التشاغل بالدفع، بل يتعين الصبر والابتهال إلى الله تعالى. انتهى بحروفه.
__________
(1) ص 105 - 110.
(2) " به " ساقطة من (د) و (ف).(8/75)
ومما يدلُّ على ذلك أنه لما ادعى أبو عبد الله (1) بن مُجاهد الإجماع على تحريم الخروج على الظلمة، ردوا ذلك عليه وقبَّحوه، وكان ابن حزمٍ -على تعصُّبه لبني أُمَيَّة- ممَّن ردَّ عليه، فكيف بغيره؟ واحتج عليه ابن حزمٍ بخروج الحسين بن علي عليهما السلام على يزيد بن معاوية، وبخروج ابن (2) الأشعث ومن معه من كبار التابعين على الحجاج، ذكره في كتاب " الإجماع " (3) له، ورواه عنه الرِّيمَيُّ في آخر كتاب " الإجماع " له في الترتيب الذي ألحقه به، فقال ابن حزم ما لفظه: ورأيت لبعض من نَصَبَ (4) نفسه للإمامة والكلام في الدين، فُصولاً ذكر فيها الإجماع، فأتى فيها بكلامٍ لو سكت عنه (5)، لكان أسلم له في أُخراه (6)، بل لعل الخرس كان أسلم له، وهو ابن مجاهد البصري (7) المتكلِّم الطائي، لا المقريء، فإنه ذكر فيما ادعى فيه الإجماع: أنهم أجمعوا على أنه لا يُخْرَجُ على أئمة الجَوْرِ، فاستعظمتُ ذلك، ولعمري إنه لعظيمٌ أن يكون قد عَلِمَ أن مخالف الإجماع كافرٌ، فيُلقي هذا إلى الناس، وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية السلف يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية، وأن ابن الزبير ومن تابعه من خيار الناس خرجوا عليه، وأن الحسين بن علي ومن تابعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضاً رضي الله عن الخارجين عليه، ولعن قتلتهم، وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم. أترى هؤلاء كفروا؟ بل والله من كَفَّرهم، فهو أحق بالكفر منهم، ولعمري لو كان اختلافاً (8)
__________
(1) في الأصول: " أبو بكر "، وهو خطأ. وابن مجاهد. هو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يعقوب بن مجاهد الطائي البصري، صاحب أبي الحسن الأشعري، صنف التصانيف ودرس علم الكلام، وكان حسن التدين، جميل الطريقة. مترجم في " السير " 16/ 305.
(2) " ابن " ساقطة من (ش).
(3) ص 177 - 178.
(4) في " الإجماع ": " ينسب ".
(5) " عنه " سقطت من (د).
(6) تحرفت في (ش) إلى: " أجره ".
(7) في الأصول: " المصري "، وهو تحريف.
(8) في الأصول: " حليفاً "، وهو خطأ والمثبت من " الإجماع ".(8/76)
-يخفى-، لعذرناه، ولكنه مشهورٌ يعرفه أكثر من في الأسواق، والمخدرات في خُدورِهِنَّ لاشتهاره، ولكن يحق على المرء أن يَخْطِمَ كلامه ويزُمَّه إلاَّ بعد تحقيق ومَيْزٍ، ويعلم أن الله تعالى بالمرصاد، وأن كلام المرء محسوبٌ مكتوبٌ مسؤولٌ عنه يوم القيامة مُقَلَّداً أجر من اتبعه عليه، أو وزره. انتهى بحروفه. وقرَّره الفقيه جمال الدين الرِّيَمي، ولم يعترضه.
فإذا كان هذا كلام من نصوا على أنه يتعصب لبني أمية في يزيد بن معاوية، والخارجين عليه، فكيف بمن لم يُوصَمْ بعصبيةٍ البتة، وليس يمكن أن يزيد الشيعي المحتدُّ على مثل هذا.
وممن أنكر على ابن مجاهدٍ دعوى الإجماع في هذه المسألة، القاضي العلامة عياض المالكي، قال: ورد عليه بعضهم هذا بقيام الحسين بن عليٍّ رضي الله عنه، وابن الزبير، وأهل المدينة على بني أمية، وقيام جماعةٍ عظيمةٍ من التابعين، والصدر الأول على الحجاج مع ابن الأشعث.
وتأول هذا القائل قوله: " ألا ننازع الأمر أهله " (1) على أئمة العدل.
قال عياضٌ: وحجة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس بمجرد الفسق، بل لما غيَّر من الشرع، وأظهر من الكفر. انتهى كلامه.
وفيه بيان اتفاقهم على تحسين ما فعله الحُسين عليه السلام وأصحابه وابن الأشعث وأصحابه، وأن الجمهور قصروا جواز الخروج على من كان على مثل تلك الصفة، وأن منهم من جوَّز الخروج على كلِّ ظالمٍ، وتأول الحديث الذي فيه: " وألا ننازع الأمر أهله " على أئمة العدل.
وفيه أنهم اتفقوا على الاحتجاج بفعل الحسين عليه السلام، ولكن منهم من احتج على جواز الخروج على الظلمة مطلقاً، ومنهم من قصره على من فَحُشَ ظلمه وغيَّر الشرع، ولم يقل مسلمٌ منهم ولا مِنْ غيرهم: إنَّ يزيد مصيبٌ،
__________
(1) قطعة من حديث صحيح تقدم به تخريجه ص 17 من هذا الجزء.(8/77)
والحسين باغ إلاَّ ما ألقاه الشيطان على السيد، ولا طمَّع الشيطان بمثل هذه الجهالة أحداً قبل السيد.
والعجب أن السيد ادعى على ابن بطال أنه نص على ما ادعاه، ثم أورد كلام ابن بطال وهو يشهد بتكذيب السيد، فإن ابن بطال روى عن الفقهاء أنهم اشترطوا (1) في طاعة المتغلِّب إقامة الجهاد والجُمُعات والأعياد، وإنصافَ المظلوم غالباً، ومع هذه الشروط، فما قال ابن بطال عن الفقهاء: إن طاعته واجبةٌ، ولا إن الخروج عليه حرامٌ، بل قال عنهم: إنه متى كان كذلك، فطاعته خيرٌ من الخروج عليه، لما فيها من حقنِ الدماء وتسكين الدهماء.
واعلم أني لا أعلم لأحد من المسلمين كلاماً في تحسين قتل الحسين عليه السلام، ومن ادعى ذلك على مسلمٍ، لم يُصَدَّق، ومن صح ذلك عنه، فليس من الإسلام في شيءٍ، وقد ذكر المنصور بالله نزاهة الفقهاء عن هذا في الدعوة العامة كما تقدم، ثم ذكر في بعض أجوبته على وَرْدسان، وقال فيه ما لفظه: وأما فقهاء الجُرُوبِ والمَزَاود، ولُقاطاتِ الموائد، فلا يُعتدُّ بهم، ثم روى أنه حدثه من يَثِقُ (2) به عن عبد الرحمن بن محمد الخصك الذي كان بصنعاء أنه قال بنحوٍ مما ذكره السيد، وهذا غير عبيد مما لا يُعرف بدين ولا علم، فقد كان مع يزيد جيوش كثيرة كلهم على رأيه، وكذلك جميع الشياطين على كثرتهم يُحسنون الفجور والكذب، وإنما الكلام في نسبة ذلك إلى فقهاء الإسلامِ وثقات الحُفَّاظ، ونُسِبَ إلى الغزالي كلامٌ مضمونه أنه لم يصح عن يزيد بن معاوية الرضا بقتل الحسين، وهذا يدل على استقباح قتل الحسين، بحيث لم يتجاسر الغزالي على القطع بنسبة الرضا به إلى يزيد. ذكر هذا ابن خلكان في " تاريخه " (3) في ترجمة علي بن محمد المعروف بإلكيا الهراسي، ثم ذكر عن الهراسي صاحب الترجمة ما يخالف ذلك، وأثنى عليه حتى نقل تفضيله على
__________
(1) في (ش): " يشترطون ".
(2) في (ش): " وثق ".
(3) 3/ 287.(8/78)
الغزالي، كما هو معروف في التاريخ المذكور.
وقد رأيت أن أورد الكلام المنسوب إلى الغزالي، وأنقُضَه على الإنصاف وهل صح عنه أو لم يصح، على أني أنزه الغزالي عن صحة ذلك الكلام لما فيه من الشبه الركيكة، ولما يؤدي إليه من الإلزامات الشنيعة، ولما صح عنه مما يناقضه كما سيأتي، وأنا أُبين من ذلك ما يظهر مع ذلك صحة ما ذكرته.
فأقول: قال صاحب الكلام -وقد سئل عن لعن يزيد- ما لفظه: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعن مسلماً، فهو الملعون، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المسلم ليس بلعَّان " (1)، وكيف يجوز لعن المسلم، ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن ذلك (2)، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنصِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، ويزيد صح إسلامه، وما صح قتله الحسين عليه السلام، ولا أمره ولا
__________
(1) رواه من حديث ابن مسعود بلفظ: " ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش " أحمد 1/ 416، والبخاري في " الأدب المفرد " (312)، وابن أبي شيبة 11/ 18، والترمذي (1977) وحسنه، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم 1/ 12، ووافقه الذهبي، وانظر مزيد تخريجه عند ابن حبان بتحقيقنا.
(2) أخرج أحمد 4/ 429 و431، والدارمي 2/ 286، ومسلم (2595)، وأبو داود (2561)، وابن حبان (5740) و (5741) من حديث عمران بن حصين، قال: بينما نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر وامرأة على ناقة لها، فضجرت، فلعنتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خذوا متاعكم وارحلوا عنها وأرسلوها، فإنها ملعونة ". قال: ففعلوا، فكأني أنظر إليها ناقة ورقاء. وله شاهد من حديث جابر مخرج عند ابن حبان (5742)، وشاهد آخر من حديث أبي برزة مخرج أيضاً عند ابن حبان (5743).
(3) أخرج ابن ماجه (3932) من حديث ابن عمر، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطوف بالكعبة، ويقول: " ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك ماله ودمه، وأن نظن به إلاَّ خيراً ". وقال البوصيري في " زوائد ابن ماجه " 245/ 1: هذا الإسناد فيه مقال. شيخ ابن ماجه ضعفه أبو حاتم وذكره ابن حبان في " الثقات "، وباقي رجال الإسناد ثقات. =(8/79)
رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه، فلا يجوز أن نظن به ذلك، فإن إساءة الظن أيضاً بالمسلم حرام (1)، وقد قال الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله حرَّم من المسلم دمه وماله وعِرْضَه، وأن يُظَنَّ به ظن السوء " (2).
ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين عليه السلام أو رضي به، فينبغي أن يعلم به غاية حمقه، فإن من قتل من الأكابر والوزراء (3) والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله أو من الذي رضي به، ومن الذي كرهه، لم يقدر على ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه، وهو يُشاهده، فكيف لو كان في بلدٍ بعيد، وفي زمنٍ بعيد، وقد انقضى؟ فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريبٌ من أربع مئة سنة في مكان بعيد.
وقد تطرَّق التعصب في الواقعة، فكثرت فيها الأحاديث من الجوانب، فهذا أمرٌ لا تعرف حقيقته أصلاً، فإذا لم يعرف، وجب اجتناب (4) الظن بكل مسلم يمكن إحسان الظنِّ به، ومع هذا، فلو ثبث على مسلم أنه قتل مسلماً، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافرٍ، والقتل ليس بكفر، بل هو معصيةٌ، وإذا مات القاتل فربما أنه مات بعد التوبة، والكافر لو تاب من كفره، لم يجز لعنه، فكيف من تاب عن قتلٍ، ولم يُعرف أن قاتل الحسين عليه السلام مات قبل التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فإذاً لا يجوز لعن أحد (5) ممن مات (6) من
__________
= ورراه الترمذي (2032)، والبغوي (3526) من حديث ابن عمر قوله، وصححه ابن حبان (5763).
(1) في (ش): " محرمة ".
(2) أخرجه البيهقي في " شعب الإيمان " فيما قاله الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " 3/ 151 أما من حديث ابن عباس بسند ضعيف.
(3) " والوزراء " سقطت من (ش) و (ف).
(4) في " الوفيات ": " إحسان ".
(5) في (د) و (ش): " أحداً "، وهو خطأ.
(6) في (ش): " تاب ".(8/80)
المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، ولو جاز لعنه، فسكت لم يكن عاصياً بالإجماع، بل لو لم يلعن إبليس [طول عمره، لا يقال له يوم القيامة: لِمَ لم تلعن إبليس؟] (1) ويقال للاعن: لِمَ لعنت؟ ومن أين عرفت أنه مطرود ملعون؟ والملعون: هو المبعدُ من الله عز وجل، وذلك غيبٌ لا يُعرف إلاَّ فيمن مات كافراً، فإن ذلك عُلِمَ بالشرع، وأما التَّرحم عليه، فهو جائزٌ، بل مستحبٌّ، بل هو داخل في قولنا في (2) كل صلاةٍ: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، فإنه كان مؤمناً، والله أعلم. انتهى كلامه.
وقد يتعلق بهذا ثلاث طوائف: النواصب، والروافض، ومن يقول بتحريم لعن المعين، وإن كان كافراً محارباً مشركاً أو ذمياً يهودياً أو نصرانياً، إلاَّ من علمنا أنه مات كافراً، فليردّ على كل طائفةٍ:
أما النواصب، فربما فرحوا به، أو توهَّموا أن قائله منهم، فتكثروا بالإمام أبي حامد الغزالي، وليس في كلام الرجل شيءٌ من النصب أبداً، وقد اشتهر عنه أن الله تعالى غَضِبَ على أهل الأرض لقتل الحسين عليه السلام، رواه عنه الثقات، كابن حجر في كتابه " التلخيص " وابن النحوي في كتابه " البدر المنير " بل أودعه الغزالي كتابه الشهير بـ " كشف علوم الآخرة " وسيأتي ذكر ذلك قريباً.
على أن الغزالي قد صرح في خطبة " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى " (3) أنه كان غير متمكن من التصريح خوفاً وتقيَّةً، ومن كلامه في ذلك في هذا الكتاب المذكور: إن الإفصاح عن كُنه الحق يكاد يُخالف ما سبق إليه الجماهير، وفِطام الخلق عن العادات ومألوفات المذاهب عسيرٌ، وجانب (4) الحق يُجَلُّ عن أن يكون مُشرَعاً لكل واردٍ، وأن يطلع (5) عليه إلاَّ واحدٌ بعد
__________
(1) ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدرك من " الوفيات ".
(2) عبارة " قولنا في " ساقطة من (ش).
(3) ص 23.
(4) في " المقصد الأسنى ": " جناب ".
(5) في " المقصد الأسنى ": " يتطلع ".(8/81)
واحدٍ، مهما عَظُمَ المطلوب، قلّ المساعد، ومن خالط الخلق جديرٌ أن يتحامى، ولكن من أبصر الحق عسيرٌ عليه أن يتعامى. انتهى.
فلو صح عنه ذلك الكلام، لعرفنا بقرينة الحال، ووساطة هذا الكلام، أن حاله ما كان مساعداً له على الجهر بالحق، كيف وقد رجَّح ذلك تصريحه به في " كشف علوم الآخرة " وغيره، وقد قال في كتاب " إحياء علوم الدين " (1) في أوائله في أواخر العقيدة: إن ما جرى بين الصحابة محمولٌ على الاجتهاد، وكل مجتهدٍ من عليٍّ ومعاوية مصيبٌ أو مخطىءٌ، ولم يقل بأن علياً مخطىءٌ ذو تحصيلٍ. انتهى بحروفه.
وفيه إشارةٌ إلى ما صرح به غيره من إجماع الأئمة الأربعة، وسائر أهل السنة على أن معاوية باغٍ على عليٍّ عليه السلام، لتواتر الحديث في ذلك، كما قد ذكرته مبسوطاً في غير هذا الموضع، ولكنه كان منافياً ألا تراه ذكر في " الإحياء " (2) في العقيدة أن الله يكلِّف ما لا يطاق، واتفق النقلة عنه أن مذهبه إنكار ذلك، نقله السبكي في " جمع الجوامع " وابن الحاجب وشرَّاح كتابه (3) مختصر " منتهى السول " وإنما تكلم الغزالي في تحريم لعن كل فاسقٍ وكافرٍ على التعيين، إلاَّ من عُلِمَ أنه مات على الكفر، كما روى عنه (4) النووي ذلك في " الأذكار " (5)، وهذا لا يستلزم النصب.
وأما الروافض، فيقولون: هذا يدل على أن أهل الحديث والأشعرية يُصَوِّبُون يزيد بن معاوية في قتل الحسين عليه السلام، ويحكمون بصحة إمامته، وببغي الحسين وأصحابه عليه.
والجواب على هؤلاء من وجهين:
__________
(1) 1/ 115.
(2) 1/ 112.
(3) " كتابه " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): " عن "، وهو خطأ.
(5) ص 500.(8/82)
الوجه الأول: أن كلامه يدلُّ على نقيض هذا، فإنه صرَّح فيه بأن من ظن في يزيد أنه أمر بقتل الحُسين، أو رضي به، فقد فعل ما لا يحل من ظن السوء، ومن القطع في موضع الشك، وذكر بعد هذا أنه يجوز أن قاتل الحسين مات بعد التوبة، وكل هذا يقتضي تحريم قتل الحسين عنده، ولو كان -حاشاه- باغياً، ويزيد إماماً، لكان قتله -صانه الله- واجباً فدل هذا على أنه لا حجة في هذا الكلام لمن ينسب إلى أهل الحديث والأشعرية إمامة يزيد وتصويبه في قتل الحسين عليه السلام، فإن الرجل إنما تكلم في عدم صحة أمر يزيد ورضاه بذلك، وقد تكررت منه الترضية على الحسين عليه السلام في كلامه، ولم يترحم على يزيد مرة واحدة في جميع كلامه، وهذا يدل على تعظيم الحسين وتمييزه له من غيره.
الوجه الثاني: أنا لو قدرنا صحة شيءٍ من ذلك على الغزالي، والعياذُ بالله، لم يلزم أهل الحديث والأشعرية.
الوجه الثالث: أنه قد روي عن الغزالي مذهب الروافض، ذكر الغزالي ما يقتضي ذلك في كتابه " سر العالمين وكشف ما في الدارين "، وحكاه عنه الذهبي في ترجمته من " النبلاء " (1) قال: ذكره سبطُ ابن الجوزي، وقال: ما أدري ما عذره فيه. فكما لم يلزم صحة ذلك الكلام على الغزالي والقطع على أنه معتقده، ولم يلزم أيضاً نسبة ذلك إلى أهل الحديث والأشعرية، سواء صح أو لم يصح.
الوجه الرابع: ما ذكره الغزالي في كتاب " كشف علوم الآخرة " من أن الله تعالى غضب على أهل الأرض لقتل الحسين عليه السلام، وقد مضى قريباً صحة ذلك عنه.
وأما الطائفة الثالثة، وهم الذين يقولون بتحريم لعن (2) المعين وإن كفر، وارتكاب الكبائر، ولهم حجتان:
__________
(1) 19/ 328.
(2) " لعن " ساقطة من (ش).(8/83)
الأولى: من النظر، وهي أنا إذا جوَّزنا التوبة من أحدٍ لم تحل لعنته (1)، وهذا ممنوع، بل تجوز لعنته كما تجوز عقوبته على الكفر بالقتل، وبالحد، وبالجرح في الشهادة والذم حتى تصح توبته، والتجويز لا يؤثر في منع الظواهر.
الحجة الثانية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت بلعن رعلٍ وذكوان وعُصَيَّة قَتَلَةِ القُرَّاء في بئر معونة، فنهي عن ذلك، ونزلت: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] (2).
والجواب: أن النهي (3) عن ذلك مختصٌّ بحال الصلاة، والنصوص تمنع من (4) القياس كما سيأتي بيانه.
ثم نقول: لا يخلو: إما أن يعتقدوا تحريم ذلك ظناً واجتهاداً مع تصويب من خالفهم، أو رفع الإثم عنه، فمسلم ولا يضر تسليمه، وهذا هو الذي لا يذهب المحقِّقون من أهل الحديث والأشعرية إلى غيره إن ذهب أحدٌ منهم إلى ذلك والله أعلم.
وإما أن يعتقدوا تحريم ذلك، ويفسقوا (5) من خالف فيه، فهذا قول لا ينبغي أن يذهب إليه عالمٌ، وهو الذي ذهب إليه صاحب هذا الكلام الذي أورده ابن خلكان، وسوف يظهر من ضعفه ما يقوِّي نزاهة أبي حامد الغزالي، ونزاهة ساحته منه إن شاء الله تعالى وأما قوله: لا يجوز لعن المسلم أصلاً، ومن لعنه فهو الملعون، فالجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أن المتكلم بدأ في كلامه بلعن نفسه، ولعن خيار المسلمين.
أما لعنه لنفسه، فلأنه لعن من لعن مسلماً، وحكم بأنه ملعون، وقد قرر
__________
(1) في (د): " يحل لعنة ".
(2) انظر ص 72 من هذا الجزء.
(3) عبارة " أن النهي " ساقطة من (ش).
(4) " من " ساقطة من (ف).
(5) في الأصول: " ويفسقون "، والجادة ما أثبت.(8/84)
في كلامه أن قتل المسلم ليس بكفرٍ فكيف لعنه؟
فثبت بهذا أن لاعن المسلم مسلمٌ، وأن صاحب الكلام قد لعنه، وقد حكم على نفسه أن من لعن مسلماً، فهو ملعون، فثبت بحكمه هذا أنه ملعونٌ، لأنه قد لعن مسلماً، وذلك المسلم الذي لعنه هو لاعن يزيد أو غيره من الظلمة.
وأما لعنه لخيار المسلمين، فلأن خيار المسلمين هم أهل القرآن وحملة العلم، وهم يلعنون من لعنه الله في آية القتل ونحوها، ومن لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح كما سيأتي، والإمام أبو حامد الغزالي أجلُّ مِنْ أن يفتتح فتواه بنحو ذلك.
الوجه الثاني: أنه بنى كلامه على مسألة باطلة عند أهل السنة، وهي أن من أقر بالإسلام بلسانه، ولم يقم بفرائضه، وتجنب (1) محارمه، فهو مسلم مؤمنٌ، على الأطلاق، وهذا قول المرجئة، وأما قول (2) أهل السنة، فالإسلامُ والإيمان عندهم معرفةٌ وقولٌ وعملٌ، ويدخلهما الزيادة والنقصان، وقد اختلف الناس قديماً وحديثاً في تفسير المسلم والمؤمن، والإسلام والإيمان، والكلام في اشتقاق ذلك، وقد تكلم غير واحد من أهل السنة في ذلك، منهم القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي في كتاب " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي "، وذكر اضطراب الناس في ذلك، واختار أن المسلم من أسلم نفسه من عذاب الله، والمؤمن من أمن نفسه من ذلك، أو كما قال، وإنما اختلف العلماء في المسألة، لتعارض الآثار في ذلك، ففي بعضها اعتبار الشهادتين فقط، وفي بعضها اعتبارهما مع الصلاة والصوم والحج، وفي بعضها اعتبار ذلك مع أداءِ المقيم، وفي بعضها: " المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه " (3) وفي بعضها: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها
__________
(1) في (ش): " ويتجنب ".
(2) " قول ": ساقطة من (د) و (ف).
(3) تقدم تخريجه 2/ 439.(8/85)
وهو مؤمن" (1)، وفي بعضها: " والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم " (2) وكلها صحيحة.
وكذلك الآيات القرآنية اختلف المفهوم منها في ذلك، ففي بعضها ما
يدل على أن المسلم مؤمنٌ، مثل قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19]، وفي بعضها ما يدل على أن المؤمن غير المسلم (3)، مثل قوله تعالى: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} [الحجرات: 14]، ومثل ما رواه الترمذي وضعَّف سنده من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص " (4).
وقد جمع أهل السنة من الآيات والأحاديث بأن الإيمان والإسلام يزيدان وينقصان، وأن اختلاف الآيات ورد على حسب ذلك، فحيث قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} أراد الإسلام الكامل، حيث قال: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا} أراد أقل الإسلام، وهو ما يحقن الدماء من إظهار الإسلام وإقامة أركانه التي يُقاتل على تركها، وكذلك سائر الأحاديث على ما هو مبسوطٌ في شروح الحديث. قال ابن بطال في شرح البخاري ما لفظه: وكذلك لو أقر بالله ورسوله، ولم يعمل الفرائض، لا يُسمى مؤمناً بالإطلاق،
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 317 و376، والبخاري (2475) و (5578) و (6772) و (6810)، ومسلم (57)، وأبو داود (4689)، والترمذي (2625)، وابن ماجه (3936). وانظر " صحيح ابن حبان " (186).
(2) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 2/ 439.
(3) في (ف): " المسلم غير المؤمن ".
(4) أخرجه الترمذي (3844) عن قتيبة بن سعيد، عن ابن لهيعة، عن مشرح بن عاهان، عن عقبة بن عامر، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث ابن لهيعة، عن مشرح بن عاهان، وليس إسناده بالقوي.
قلت: رواه أحمد 4/ 155 عن عبد الله بن يزيد المقرىء، عن ابن لهيعة. وهذا إسناد حسن، عبد الله بن يزيد أحد العبادلة الذين رووا عن ابن لهيعة قبل احتراق كتبه.(8/86)
وإن كان في كلام العرب قد يجوز أن يُسمى مؤمناً بالتصديق، فغير مستحق لذلك (1) في حكم الله تعالى، لقوله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. أخبر الله تعالى أن المؤمنين على الحقيقة من كانت هذه صفته دون من قال، ولم يعمل، وضيَّع ما أُمِرَ به وفرّط. انتهى.
وفيه دلالة على ما ذكرته من أن أهل الكبائر لا يُسَمَّوْنَ عند أهل السنة مسلمين ومؤمنين علي الإطلاق، وإنما يقال: إنهم مسلمون أقل الإسلام، ومسلمون عصاةٌ فساقٌ ظلمةٌ، بل قد أطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كثيرٍ منهم الكفر والمروق من الإسلام، كما جاء في حديث: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " (2) وحديث: " سِبابُ المسلم فُسوقٌ، وقتاله كفرٌ " (3) وأحاديث مروق الخوارج من الإسلام، وكلها في الصحيح (4)، وهذه ألفاظٌ قد (5) أطلقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فينبغي أن نطلقها كما أطلقها، ونريد ما أراد على الإجمال من كفرٍ مخصوصٍ، أو مطلقٍ أو مجازٍ أو حقيقةٍ شرعيةٍ أو لغويةٍ، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما قصد بإطلاقها زجر أهل هذه المعاصي بإطلاق أقبح الصفات المذمومة عليهم، والحكمة في ذلك باقيةٌ، فكيف نخالف الحكمة (6) النبوية في زجر الناس عن المعاصي بإطلاق الأسماء المذمومة عليهم، ونصف أفجرهم -وهو يزيد الذي تأوَّه منه رسول الله
__________
(1) في (د) و (ف): " ذلك ".
(2) أخرجه من حديث ابن عمر أحمد 2/ 85 و87 و104، والبخاري (4403)، و (6166) و (6785) و (6868) و (7077)، ومسلم (66)، وأبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126، وابن ماجه (3943). وانظر ابن حبان (187).
(3) تقدم مراراً.
(4) انظر 1/ 232 ت (2).
(5) " قد " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): " تخالف النصوص ".(8/87)
- صلى الله عليه وسلم - وسمَّاه عِتْرِيفاً (1) مُتْرَفَاً، وأخبر أنه يَثْلُمُ أمر الأمة- بأحسن الأوصاف ونُسمِّيه بأكرم الأسماء، وهو الإسلام والإيمان، ويترك ذمه بجميع ما يستحقه أو بعضه مِنَ الوصف بالعصيان والفسوق والكفران والمروق كما وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك من فعل بعض ما فعل من الخوارج، مع اختصاصهم دون يزيد بالعبادة والتلاوة والتأويل والصيانة؟! وهل هذا إلاَّ خلاف الحكمة النبوية، وخلاف الأدب مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وإن كان الصحيح أن " الإيمان سريرةٌ، والإسلام علانيةٌ " كما رواه أحمد (2) مرفوعاً بهذا اللفظ ودل عليه كثيرٌ من الآيات والأخبار، كما ذكر في هذا الكتاب مبسوطاً في موضعه.
الوجه الثالث: أنه قد ورد السمع قرآناً وسنةً بلعن مرتكبي معاصٍ كثيرةٍ لا يكفر مرتكبها (3)، مثل قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] وفي الآية أحكامٌ كثيرةٌ، مثل تحريم قتل المؤمن، واستحقاق فاعل ذلك للعقاب والغضب واللعنة، واستحقاق الخلود، ولم يتأول أهل الحديث (4) شيئاً منها إلا الخلود لموجبات (5) ذلك، وقيل: منسوخ، وقيل: مخصوصٌ بالقاتل الكافر.
ومن ذلك ما ورد في جميع دواوين الإسلام من لعن أهل المعاصي، فقد صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من آوى محدثاً، ومن غير منار الأرض، ومن
__________
(1) العتريف: الغاشم الظالم.
(2) 3/ 134 - 135. ورواه أيضاً أبو عبيد في " الإيمان " ص 5، والبزار (201)، وأبو يعلى (2923)، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 1/ 52، وقال: رجاله رجال الصحيح ما خلا علي بن مسعدة، وقد وثقه ابن حبان وأبو داود الطيالسي وأبو حاتم وابن معين، وضعفه آخرون.
(3) في (ش): " مرتكبوها ".
(4) عبارة " أهل الحديث " لم ترد في (د) و (ش).
(5) في (ش): " الموجبات ".(8/88)
لعن والديه، ومن ذبح لغير الله (1)، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون (2)، ولعن آكل الربا وموكله (3)، ولعن الواشمة والموشومة، والنامصة والمتنمصة (4)، وغير ذلك، وهذه أحاديث صحيحة، وأهل هذه المعاصي لا يكفرون إجماعاًً.
الوجه الرابع: أن هذه الفتوى بأن لاعن الفاسق ملعون مخالفة لفتوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا لعن العبد شيئاً، صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، فتأخذ يميناً وشمالاً، فإذا لم تجد مساغاً رجعت إلى الذي لُعِنَ، فإن كان كذلك، وإلا رجعت إلى قائلها " رواه أبو داود من حديث أبي الدرداء من رواية رباح بن الوليد على الصحيح، وكذلك رواه الطبراني، وقيل: الوليد بن رباح عن عمه عمران بن عتبة عن أم الدرداء، عنه - صلى الله عليه وسلم - (5)
__________
(1) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب أحمد 118 و152، وابنه عبد الله في زوائد " المسند " 1/ 108، والبخاري في " الأدب المفرد " (17)، ومسلم (1978)، والنسائي 7/ 232، وأبو يعلى (602)، والبيهقي 6/ 99، والبغوي (2788). وانظر ابن حبان (5896).
(2) رواه الترمذي (358) من حديث أنس، وفي سنده محمد بن القاسم الأسدي، والأكثر على تضعيفه.
(3) أخرجه من حديث ابن مسعود الطيالسي (343)، وأحمد 1/ 393 و394، و448 و462، والدارمي 2/ 246، ومسلم (1597)، وأبو داود (3333)، والترمذي (1206)، وابن ماجه (2277)، والبيهقي 5/ 275. وانظر ابن حبان (5025).
(4) أخرجه من حديث ابن مسعود أيضاً الحميدي (97)، وأحمد 1/ 433 - 434 و448 و454 و462، والبخاري (4886) و (4887) و (5931) و (5939) و (5943) و (5948)، ومسلم (2125)، وأبو داود (4169)، والنسائي 8/ 146 و149، وابن ماجه (1989). وانظر ابن حبان (5504) و (5505).
(5) أبو داود (4905)، وجود إسناده الحافظ في " الفتح " 10/ 467. وانظر " تحفة الأشراف " 8/ 245.
وفي الباب عن ابن مسعود عند أحمد 1/ 408، وحسَّن إسناده الحافظ في الفتح =(8/89)
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بأنها لا ترجِعُ إلى قائلها حتى يكون الملعون بها غير أهلٍ لها (1)، وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد لعن الواشمة والنامصة، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون، ونحوهم من هذه المعاصي المستصغرة بالنظر إلى ما قدمنا ذكر طرق منه من أفعال يزيد، فكيف يقطع أنه (2) لا يستحق اللعنة؟
فإن قيل: إنما أراد صاحب الكلام أنه لا يجوز لعن أحدٍ بعينه من العصاة، وإن جاز لعنه على الإطلاق من غير تعيين.
قلت: هذا لا يصح لوجوهٍ:
الوجه الأول: إن المسألة ظنية خلافية، لا يستحق المخالف فيها (3) التأثيم ولا الإنكار، فضلاً عن التفسيق واللعن، وقد ذكر الإمام النووي في " الأذكار " (4) أن الظاهر جواز ذلك، وقد صدر ذلك عن غير واحدٍ من السلف الصالح، ولو لم يصح فيه إلاَّ ما خرجه البخاري ومسلم (5) عن ابن عمر أنه مرَّ بفتيان مِنْ قريش قد نصبوا طيراً وهم يرمونه، فقال: لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً، فهذا الصاحب الجليل لعن جماعةًَ معيَّنين من فتيان قريشٍ، أيكون عبد الله بن عمر ملعوناً؟! حاشاه - رضي الله عنه - من ذلك.
ومن ذلك ما رواه البيهقي في " سننه الكبرى " في جماع أبواب الكلام في الصلاة في أول بابٍ منه، من حديث عبد الرحمن بن معقل أنه قال:
__________
= 10/ 467.
وعن ابن عباس عند أبي داود (4908)، والترمذي (1978)، والطبراني في " الكبير " (12757)، وصححه ابن حبان (5745).
(1) " لها " ساقطة من (ش).
(2) في (د): بأنه.
(3) " فيها " ساقطة من (ش).
(4) ص 500.
(5) البخاري (5515)، ومسلم (1958). وأخرجه أيضاً أحمد 1/ 338 و2/ 43، والنسائي 7/ 238، والحاكم 4/ 234.(8/90)
شهدت علياً يقنتُ بعد الركوع، ويدعو في قنوته على خمسةٍ، وسمَّاهم، ولم يسمهم البيهقي.
وروى محمد بن جرير الطبري مثل ذلك في " تاريخه " وزاد تسميتهم (1)، ومن ذلك ما روى شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة حين جاء نعي الحسين لعَنَتْ أهل العراق، وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل، عزُّوه وذلُّوه لعنهم الله.
رواه الطبراني والهيثمي في " مجمع الزوائد " وقال: رجاله موثوقون (2).
الوجة الثاني: ما اتفق البخاري ومسلمٌ على إخراجه من حديث أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اللهم إني بشرٌ آسف كما يأسف البشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته، لعنته، جلدته فاجعلها له (3) صلاة " (4) وهذا لا يصح أن يكون إلا على جهة التعيين، لأن سياق الحديث يقتضي ذلك، ولأن الجلد مذكور في الحديث، وتعليق الجلد بغير معين محالٌ.
فإن قيل: إنما لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعلم به الله أنه يموت كافراً (5). كما قال الغزالي.
قلت: هذا لا يصح، لأنه لو كان كذلك، لما دعا لمن لعنه أن يجعل الله اللعنة له صلاةً وزكاةً وطهوراً، ومن علم أنه يموت كافراً، لا معنى للدعاء له بذلك، وأيضاً فذلك الذي قاله خلاف الظاهر، وتأويلٌ بغير دليلٍ، ولو جاز مثل ذلك، جاز تأويل كل ظاهرٍ، وتخصيص كل عامٍّ، وأدى ذلك إلى التَّلعُّب بالشريعة المطهرة، فالواجب (6) على العالم ترك مذهبه ليوافق الحديث، لا
__________
(1) انظر " سنن البيهقي " 2/ 245.
(2) تقدم ص 53 من هذا الجزء.
(3) " له " ساقطة من (ش).
(4) البخاري (6361)، ومسلم (2601). وأخرجه أيضاً ابن حبان (6516)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(5) في (ش): " أنه كافر ".
(6) في (ش): " والواجب ".(8/91)
تأويل الحديث ليوافق مذهبه، وإنما يجوز التأويل عند الضرورة على ما هو مفصَّلٌ في مواضعه.
فأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عائشة رضي الله عنها: " فأيُّما أحدٍ دعوتُ عليه من أمتي بدعوةٍ ليس لها بأهلٍ (1)، فليس ذلك يدلُّ على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يلعن من ليس لذلك بأهلٍ، لأن ظاهر أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - الإباحة، وحديث عائشة هذا ليس فيه ذكر اللعن، وإنما ورد على سببٍ مخصُوصٍ، وهو قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتيمة أُم سلمة: " لا كبِرَتْ سِنُّك " (2) وظاهر هذا الدعاء الإباحة وإن لم تكن اليتيمة أهلاً له، فليس ذلك دالاًّ على تحريمه، وليس يجوز القول بأن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرَّمٌ إلاَّ بدليلٍ واضحٍ (3)، و (4) على أن الصحيح أيضاً عند كثيرٍ من العلماء أنه لا يجوز تعمُّد الصغائر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الوجه الثالث: ما روى مسلمٌ في " صحيحه " (5) عن جابرٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى حماراً قد وُسِمَ في وجهه، فقال: " لعن الله الذي وسمه " وهذا نص في موضع النزاع وفيه ما يرُدُّ على قول الغزالي المقدم في الوجه قبله، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علق اللعن بوسم الوجه، فدل على أنه العلة في جواز اللعن، كما إذا قال: من أحدث فليتوضأ، فإنه يعلم أن الحدث هو علَّةُ الوضوء، وذلك معروفٌ في فن (6) الأصول.
__________
(1) حديث عائشة أخرجه مسلم (2600)، وليس فيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس لها باهل ". إنما هو في حديث أنس الذي أخرجه مسلم برقم (2603). وانظر ابن حبان (6514)، والتعليق الآتي.
(2) انظر التعليق السابق، وحديث عائشة كما رواه مسلم، قالت: دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلان، فكلماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه، فلعنهما وسبهما ...
(3) عبارة " محرم إلاَّ بدليل واضح " ساقطة من (د).
(4) الواو ساقطة من (ف).
(5) برقم (2217). وأخرجه أيضاً ابن حبان (5628)، والبيهقي 7/ 35.
(6) " فن " ساقطة من (ف).(8/92)
الوجه الرابع: أن اللِّعان بين الزوجين المسلمين جائزٌ بنص القرآن، وإجماع المسلمين، وهو معلومٌ من الدين ضرورة، بحيث يكفر جاحده، وهو مشتمل على لعن كل واحد منهما لنفسه إن كان من الكاذبين، فلو كان لعنُ المسلم الفاسق حراماً، لم يحل للمسلم الفاسق أن يلعن نفسه، لأن حق نفسه أعظم من حق أخيه المسلم عليه أو مثله (1).
الوجه الخامس: حديث: " شر أئمتكم الذين يلعنونكم وتلعنونهم " خرجه مسلمٌ عن أبي هريرة (2) والترمذي عن عمر (3)، فأخبرهم أنهم يلعنون أئمتهم، فساقها لهم بذلك ولم يبيِّن تحريمه، فدلَّ على الجواز، بخلاف خبره - صلى الله عليه وسلم - في نحو قطع يد السارق في بيضةٍ، فإنه خبرٌ على القطع وهو غائب، فلا يدلُّ على الجواز.
الوجه السادس: حديث عائشة الصحيح (4)، وفيه أنها قالت لليهود: عليكم السام واللعنة، وإنما نهاها عن الفحش لما بدأتهم بالمشافهة بذلك من غير إظهارهم لذلك دليله ما في الصحيح عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في رجل: " بئس أخو العشيرة "، فلما دخل عليه ألان له القول، فقالت له عائشة في ذلك، فقال: " إن شر الناس من أكرمه (5) الناس اتِّقاء فُحْشِهِ " (6). فسمى المواجهة بذلك فحشاً.
__________
(1) في (د): " ومثله ".
(2) كذا في الأصول: " عن أبي هريرة "، وهو خطأ، إنما هو من حديث عوف بن مالك الأشجعي، وهو عند مسلم (1855). وأخرجه أيضاً أحمد 6/ 24 و28، والدارمي 2/ 324، وابن حبان (4589).
(3) برقم (2264)، وفيه محمد بن أبي حميد، وهو ضعيف. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلاَّ من حديث محمد بن أبي حميد، ومحمد يضعف من قبل حفظه.
(4) حديث صحيح وقد تقدم تخريجه 1/ 261.
(5) في (د) و (ف): " كرهه "، وهو خطأ.
(6) أخرجه أحمد 6/ 38 و158 - 159، والبخاري (6032) و (6054) و (6131)، ومسلم (2591)، وأبو داود (4791)، والترمذي (1996)، وابن حبان (4538) و (5696).(8/93)
الوجه السابع: آية المباهلة، وقوله فيها: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] نص في أهل المباهلة وإن كان لفظه عاماً كما ذكره الأصوليون.
الوجه الثامن: حديث واطىء المسبية الحبلى وفيه: " هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره " (1).
الوجه التاسع: حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: " إذا باتت المرأة هاجرةً فراش زوجها، لعنتها الملائكة حتى تصبح ". رواه مسلمٌ (2) وهو لعنُ المعين.
العاشر: حديث: " لعن الله الراكب والقائد والسائق ". رواه الهيثمي (3) مرفوعاً من حديث [سفينة]، وقال: رجاله ثقاتٌ، وهو لعنٌ لمعينٍ أيضاً.
الحادي عشر: أن الأدلة العامة من الإيمان والأحاديث التي قدمناها وردت معلَّلَةً بتلك المعاصي المذكوره، والتعليل يقتضي جواز اللعنة حيث وجدت المعصية. مثاله قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] معلل بالظلم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله من لعن والديه " (4) معلل بلعن الوالدين، وكذا سائر ما ورد تعليق اللعن به من الأوصاف المذمومة.
واللفظ، وإن كان عاماً، فهو يتناول الآحاد ظاهراً ولو لم يتناول شيئاً منها، لم يكن له معنى (5) وتعيين بعضها من غير دليلٍ تحكُّم، فثبت بمجموع هذه
__________
(1) أخرجه من حديث أبي الدرداء أحمد 5/ 195 و6/ 446، والدارمي 2/ 227، ومسلم (1441)، وأبو داود (2156).
(2) برقم (1436)، ورواه أيضاً أحمد 2/ 439 و480، والبخاري (3237) و (5193)، وأبو داود (2141)، وابن حبان (4171) و (4172).
(3) " مجمع الزوائد " 1/ 113، وما بين حاصرتين منه. والحديث أخرجه البزار (90).
(4) تقدم تخريجه ص 89.
(5) في (ف): " معين ".(8/94)
الأدلة أن لعن أهل الكبائر جائزٌ، بل قد وقع من أرحم الخلق وأشفقهم، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شفيع الخلائق وسيد ولد آدم، وذلك لِمَا فيه من زجر الناس أن يرتكبوا ما ارتكب أولئك الذين استحقوا اللعنة، فكيف يقال: إنَّ من لعن مسلماً على الإطلاق، وإن كان فاسقاً، فهو الملعون.
أفلا يخاف صاحب هذا الكلام أن يكون تناول (1) باللعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخيار الصحابة وخيار المؤمنين.
فحاشا مقام الإمام الغزالي من مثل هذه الجهالة الشنيعة، والبدعة البديعة.
وأما احتجاج صاحب تلك الفتوى على ذلك بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن ليس باللعان " (2)، فالجواب من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يدل على تحريم لعن أحدٍ بعينه، بل هو مطلقٌ، وقد فسَّره صاحب الشريعة، فأجاز لعن الظالمين والكافرين ونحوهم، فدلَّ على أن التحريم منصرفٌ إلى المؤمنين القائمين بفرائض الإيمان، الحافظين لأنفسهم (3) عن انتهاك محارمه، وتعدِّي حدوده.
الوجه الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى أن يكون المؤمن لعَّاناً، وليس اللعان من لعن بعض العُصاة غضباً لله تعالى، وزجراً لأهل المعاصي في بعض الأحوال، كما فعل ذلك (4) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وغير واحد من فضلاء الصحابة (5)، وإنما
__________
(1) في (ش): " يتناول ".
(2) أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 404 و405 و416، وابن أبي شيبة 11/ 18، والبخاري في " الأدب المفرد " (312) و (332)، والترمذي (1977)، والطبراني في " الكبير " (10483)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم 1/ 12، ووافقه الذهبي.
(3) في (ش): " أنفسهم ".
(4) " ذلك " ساقطة من (ش).
(5) في (د): " أصحابه ".(8/95)
اللعان: كثير اللعن عند كل غضب، في صغير الأمور وكبيرها، وكذلك السباب (1)، وقد صح عن أبي بكرٍ الصديق أنه غَضِبَ على ولده عبد الرحمن، فجدَّع وسبَّ (2)، فهذا صَدَرَ من الصِّدِّيق رضي الله عنه على سبب (3) يسير، كما ذلك معروفٌ في كتب الحديث، وليس يستحق الصِّدِّيق أن يُسمى بذلك سبّاباً، وكذلك قول الصِّدِّيق يوم الحديبية لسهيل بن عمرو: امصُص بظر اللاَّت (4)، ولم يكن بذلك الصِّدِّيق فاحشاً، وإن كانت كلمة فُحشٍ لما قالها غضباً لله تعالى.
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -أحلم الخلق وأشفقهم- غَضِبَ على من وسم حماراً في وجهه، فلعن من وَسَمَهُ، فكيف لا يغضب المسلم على من قتل الحسين الشهيد ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقرة عينه، أما يكون العصيان بقتل ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقبح من العصيان بوسم الحمار الذي غضب له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكون قطع رأسه الكريم وتقويره وحمله على عودٍ أوجع للقلب وأقوى في إثارة الغضب والكرب من وسم وجه ذلك الحمار، على أن الذي وسم وجه الحمار لم يفعل ذلك عداوةً للحمار، ولا استهانةً به، وإنما فعله لمنفعةٍ ظنها في ذلك.
فاعجب كيف غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لوسم وجه ذلك الحمار، واعجب من قومٍ يدعون الإسلام الكامل، ولا يغضبون لولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذبح
__________
(1) " السباب " ساقطة من (ف).
(2) أخرجه أحمد 1/ 197 و198، والبخاري (602) و (3581) و (6140) و (6141)، ومسلم (2057)، وأبو داود (3270) و (3271)، وابن حبان (4350).
(3) في (ش) و (ف): " سب " وهو خطأ.
(4) قطعة من حديث مطول أخرجه عبد الرزاق (9720)، من طريقه أحمد 4/ 328 - 331، والبخاري (2731 و2732)، وابن حبان (4872)، وانظر تمام تخريجه فيه.(8/96)
عطشاناً (1) مظلوماً، ومُثِّلَ به، وحُمِلَ رأسه الكريم على رأس عودٍ مغيّراً مشوَّهاً، ولو فعل ذلك بعض أئمة العدل ببعض أولاد هؤلاء لذنبٍ اقتضى ذلك، لسبَّه ولعنه غالباً، وأقل الأحوال أن يقف الغضب العظيم على كون ولده مظلوماً، وكون الفاعل من أهل الجور، فالحسين رضي الله عنه من أعظم المظلومين ومحاربوه أعظم الظالمين، ويزيد أعظمهم أجمعين، وهو، وإن لم يباشر القتل، فهو أعظم إثماً من المباشر (2)، لأن القاتل إنما قتل برضاه وشوكته وقوته.
وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن على القاتل جزءاً من العقاب، وعلى الآمر تسعةٌ وستين (3) جزءاً ". رواه ابن كثير في " الإرشاد "، وقال: رواه أحمد بن حنبل (4)، فإذا كان الإنسان يغضب لولده لو فعل معه دون ما فعل مع الحسين عليه السلام، وإن كان ولده في فضله دون الحسين عليه السلام، وظالم ولده في جرأته دون يزيد، فكيف لا يكون غضبه لله ورسوله أعظم؟ وفي " الصحيحين " من حديث أنسٍ، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " (5). وفي "صحيح
__________
(1) كذا الأصول بالتنوين، والجادة " عطشان " بلا تنوين، وما هنا يخرج على لغة بني أسد فإن تأنيث " فعلان " بالتاء لغة بني أسد، وقياس هذه اللغة صرفها في النكرة.
(2) في (ف): " المباشرة ".
(3) في الأصول: " وسبعين "، وكتب تحتها في (ف): " وستين ".
(4) هو في " مسنده " 5/ 362 من حديث مرثد بن عبد الله، عن رجل من الصحابة، وأورده الهيثمي في " المجمع " 7/ 299، وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن إسحاق، وهو ثقة، لكنه مدلس.
قلت: وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، رواه الطبراني في " الصغير " (526).
قال الهيثمي: فيه الحسين بن الحسن بن عطية، وهو ضعيف. قلت: وفيه أيضاً عطية العوفي، وهو ضعيف كذلك.
(5) البخاري (15)، ومسلم (44). وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 177 و275، والدارمي 2/ 307، والنسائي 8/ 115، وابن ماجه (67)، وانظر ابن حبان (179).(8/97)
البخاري" (1) مثل ذلك من حديث أبي هريرة.
فمن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين، فليكن ولدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إليه من ولد صلبه، وجميع أهله، بل في " الصحيحين " (2) من حديث أنسٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه "، وفي رواية: " لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
فليتصوَّرِ المسلم أنه مكان الحسين رضي الله عنه، وأنه فعل به ما فُعِل بالحسين عليه السلام، وليتصور كيف يكون غضبه على من فعل به ذلك، بل يجب أن يكون أعظم من ذلك، فإنَّ المسلم يُستحبُّ له أن لا يغضب لنفسه، ويجب عليه أن يغضب لمعصية الله، ويُستحب له أن لا ينتصر (3) لنفسه، ويجب عليه أن يَنْصُرَ أخاه المسلم المظلوم. فإذا عرفت هذا، فاحذر أيها السني أن يخدعك الشيطان بتحسين الكلام في يزيد والمجادلة.
فأمَّا لعنُ من لعنه، وتفسيق من سبه، فتهوُّرٌ في مهاوي الجهل والفسوق إلى مرمى سحيقٍ، ونزوع (4) عن الإيمان والإسلام، لا عن التدقيق والتحقيق.
وأما تعلُّقه بأن المسلم أفضل من البهيمة، وحُرمتُه أعظم من حرمة الكعبة، فذلك المسلم الكامل الإسلام بالإجماع، فإن مرتكب الكبائر يجب حدُّه وإهانته، ويستحق الغضب من الله تعالى والعذاب، ولا يجوزُ شيء من ذلك في حق البهائم والكعبة المعظَّمة.
__________
(1) رقم (14). ورواه أيضاً النسائي 8/ 115، وابن منده في " الإيمان " (287).
(2) البخاري (13)، ومسلم (45)، وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 176 و272، والدارمي 2/ 307، والترمذي (2515)، والنسائي 8/ 125، وابن ماجه (66)، وابن حبان (234)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) في الأصول: " ينصر ".
(4) في (ف): " ونزوح ".(8/98)
وأما قوله: إنه صح إسلام يزيد، ولم يصح قتله الحسين، ولا أمره بذلك، ولا رضاه به، وقوله: إن من زعم أنه يعلم ذلك، فينبغي أن نعلم به (1) غاية حمقه إلى آخر ما ذكره في هذا المعنى.
فالجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أنه أما أن يزيد أنا لم نطلع على ما في قلبه من ذلك، فصحيح، لأن أمر السرائر إلى الله تعالى، ولكن إذا كان المرجعُ إلى السرائر، فلم يصح إسلام يزيد أيضاً، لأنا لم نطلع على ما في قلبه من ذلك، فما بالُ إسلامه صح، وإن لم نطلع على ما في قلبه، ورضاه بقتل الحسين لم يصح لسبب هذه العلة، وإن أراد أنه لم يظهر من يزيد الرضا بقتل الحسين عليه السلام في ظاهر أحواله، فذلك عنادٌ واضح أو جهلٌ فاضح، فيزيد ناصبيٌّ عدوٌّ لعلي وأولاده عليهم السلام، مُظهرٌ لعداوتهم، مظهر لسبِّهم (2) ولعنهم من على رؤوس المنابر، ناصبٌ للحرب بينه وبين من عاصره منهم، ومن جَهِلَ هذا، فهو معدودٌ من جملة العامة الذين لم يعرفوا أخبار الناس، ولا طالعوا تواريخ الإسلام، وما أحسن البيت:
والشمس إن خَفِيتْ على ذي مُقْلَةٍ ... نصفَ النهار فذاك محصولُ العمى
فكيف يقال: إنه لم يظهر منه الرضا بذلك، وقد جاؤوا إلى حضرته برأسِ الحسين عليه السلام على عودٍ مغبّراً مُشَوَّهاً مُقَوَّراً متقربين إليه بذلك، مظهرين للمَسرَّة به، فتكلم بأقبح الكلام في حق الحسين عليه السلام، كما نقل ذلك أشياخ أهل النقل كأبي عبد الله الحاكم والبيهقي وموفق الدين ابن أحمد الخوارزمي وغيرهم، كما تقدمت إليه الإشارة (3)، وكيف لا نعلم رضاه بذلك، وإن سكت، أتحسب أن قاتليه قد اختلَّت عقولهم حتَّى يفعلوا ذلك من غير أمره
__________
(1) " به " ساقطة من (ش).
(2) في (ف): " معلن لسبهم "، وفي (ش): " مظهر معين لسبهم ".
(3) انظر ص 47.(8/99)
ولا رضاه، ثمَّ يأتوا به مظهرين للمسرَّةِ، طالبين منه لعظيم (1) المَثُوبة على أمرٍ لم يتقدَّم منه إليهم فيه شيءٌ، ولا عَرَفُوا فيه رضاه (2)، فكيف لا يُقال: بأنَّ الظَّاهر منه الرِّضا بذلك، ولم يخرج على أحدٍ منهم في ذلك، ولا أظهر البراءة من ذلك، ولا أمر بقبرِ رأسِ الحُسين عليه السلام، ولا نهى عن إظهارِ المسرَّةِ بقتلِ الحسين رضي الله عنه، فإنَّهم أظهروا المسرَّةَ بذلك في مملكته.
والنُّكتةُ في هذا الوجه الأول من الجواب: أنَّ رضا يزيد بذلك (3) ظاهر بالضرورة (4) لا يمكن إنكاره، ولا يمكن (5) أبداً المستند (6) فيه مثل ما نعلم كراهة أهل الحسين رضي الله عنه لذلك في الظاهر، وهذا علمٌ ضروريٌّ متعلِّقُه ظواهرُ الأحوال لا سرائر (7) القلوب، ومن لم يحصل له هذا العلمُ لقلَّةِ معرفته بالتَّاريخ وأخبارِ النَّاس، فهو معذورٌ بجهله إذا لزم تكليفُ الجُهَّال، وهو عدم الاعتراضِ على أهل العلم، والله أعلم.
الوجه الثاني: أن يقال لهذا الشأن في رضا يزيد بقتل الحُسين عليه السلام: إمَّا أن يقول: إنَّ جميع ما صدر من أُمراء المُلوك من الحروب والقُتول والغزوات وعظائم الأمور غير منسوبٍ إلى أمرِ المُلوك، ورضاهم، أو لا.
إن قال: لا ينسب إلى الملوك شيء من ذلك في الظَّاهر، ولا في الباطن، وإن لم يظهروا البراءة منه ولا الشِّدَّة على مَن فعله، فهذا خروجٌ من (8) زُمرة العقلاء، لأنَّه يلزم منه أن الحجَّاج بن يوسُف ما صدر عنه إلاَّ مثل (9) ما صدر عن عُمرَ بن عبد العزيز من الأمر بالعدل والرِّفق، ولكنَّ أُمراءَه
__________
(1) في (ش): " عظيم ".
(2) في (ش): " رضا ".
(3) "بذلك" ساقطة من (ش).
(4) في (ش): بالسرور.
(5) عبارة "ولا يمكن" ساقطة من (ش).
(6) في (ش): "والمستند".
(7) في (د) و (ف): "سائر"، وهو تحريف.
(8) في (ف): " عن ".
(9) "مثل" ساقطة من (ش).(8/100)
وجُنده فعلوا ما لم يرضَهُ، وسكت، وما نُقِلَ أنه باشره من ذلك، وأمر به لم يبلغ مبلغ التَّواتُر.
وأمَّا إن أقرَّ إنَّ ظاهر أحوال الأمراء أنهم لا يفعلون (1) في المُهمَّاتِ إلاَّ ما أمرهم به الملوك، فقتلُ أمراءِ يزيد للحسين عليه السلام من ذلك، فإنَّ الطاهر من أمراء يزيد وغير يزيد أنَّهم لا يقدمُون على الأمور العظيمة إلا من (2) جهة الطَّاعة لمن فوقهم، والتَّقرُّب إليه، ولم يكن بين جندِ يزيد وبين الحُسين عداوةٌ تُوجب السَّب، كيف (3) القتل؟ وإنَّما قتلوه طاعةً ليزيد وتقرُّباً إليه.
ولهذا روى أبو عبد الله الذهبي في كتاب " الميزان " (4) عن أبي إسحاق أنه قال: كان شمرٌ يصلِّي معنا ويستغفر، فقلت له: كيف يغفرُ الله لك وقد أعنت على قتل ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال: ويحكَ، كيف نصنع؟! إنَّ أمراءَنا أمرونا، ولو خالفناهم كنَّا شرّاً من الحمير السُّقاة.
قال الذهبي: إنَّ هذا العذر قبيحٌ، فإنما الطَّاعة في المعروف.
قلت: وإنَّما قال أبو إسحاق لشمرٍ: كيف يغفرُ الله لك، لأنَّه فهم من حاله أنَّه لم يتب من قتل الحسين، ويفعل ما يجب من تسليم نفسه قَوداً إلى أولياء الحسين عليه السلام، وإنما قال ذلك على عادةِ المستغفرين مِنَ المصرِّين، مع تهاوُنه بعظيم ذنبه.
وجه آخر: وهو قول الله تعالى لمن عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} [البقرة: 91 - 92] فنسب (5) فعل
__________
(1) في الأصول: " يفعلوا "، والصحيح ما أثبت.
(2) في (د): " على ".
(3) في (ش): " فكيف ".
(4) 2/ 280، وقد تقدم ص 17.
(5) في (د) و (ش): "ونسب".(8/101)
البعض إلى الجميع على سبيلِ الذَّم لرضا الجميع به أو تواليهم، ورضا الجميع معلومٌ لغير الله تعالى بالقرائن، ولذلك حسُنت مناظرتُهم به، وما كان من أمور السَّرائر الَّتي لا يعلمها إلاَّ الله، لما تقع المناظرةُ في دار التَّكليف عليها إلاَّ على طريق التَّنكيت دون الحُجَّةِ، ولذلك لم يكن للمشركين حجَّةٌ في القدر.
الوجه الثالث: إما أن يشكَّ (1) هذا المتكلِّمُ في جميع ما نقله المؤرَّخُون من ثقاتِ المحدِّثين وأهل معرفة الرِّجال، لزمه ألاَّ ينسُب الرَّفض إلى الرَّافضة، والنَّصب إلى النَّواصب، والبدع إلى أحدٍ من أهل المذاهب، ولا يجرح أحداً (2) من الرُّواة، ولا يميز العدل من سواه وإن أقرَّ بقبول أقوالِ الثِّقات من أهل التاريخ والكلام على الرجال، لزمه قبولُهم في يزيد.
الوجه الرابع: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن أمر أمَّته لا يزال مستقيماً حتَّى يثلمهُ يزيد، وتأوَّه من قتله لسلفِه من الصَّحابة رضي الله عنهم وسلفِ سلفهم من التابعين (3) رحمهم الله تعالى، كما قدمنا ذكر ذلك، ورواية ثقاتِ أئمة الحديث له (4)، ومن أخبر عنه بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا ينبغي أن يُحسن به الظَّنُّ، بل الواجبُ تحسين الظَّنِّ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل اعتقاد القطع بوقوع ما أخبر به.
الوجه الخامس: إمَّا أن نقول: تواترُ الأخبارِ وكثرةُ القرائنِ يدلُّ على ما ذكرناه أولاً.
إن قلنا بذلك، لزم صحَّةُ ما ذكرناه، وإن لم نقل بذلك، لزم ألاّ يُنسبَ إلى أحدٍ من الملوك عداوةُ عدُوٍّ ولا رضا بحربه حتى يُحضِرَ الشُّهود العدولَ، ويكتب على نفسه سِجلاًّ بأنَّه يُبغض عدوَّه، ويحب قتله ويرضى به.
__________
(1) في (د) و (ف): " يسلك "، وهو خطأ.
(2) في (ش): " أحد "، وهو خطأ.
(3) " من التابعين " ساقطة من (ش).
(4) ص 35.(8/102)
ومن المعلوم لكلِّ عاقلٍ أنه قد ثبت العلمُ بأعداءِ الملوك ومحبَّة الملوكِ لقتل أعدائهم من غير إقرارٍ صحيح بذلك وكتابة (1) شهادات العدول في السِّجلاَّت بذلك، ولا شكَّ أنَّ عداوة يزيد للحسين من أشهر العداوات، وأنَّ رضاه بقتله من أوضحِ الأمور الظَّاهرات، والله أعلم.
الوجه السادس: أنَّه ثبت في الصَّحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى هرقلَ ملك الرُّوم أنَّ عليه إثم الأَريسيِّين (2)، وهم أهلُ الجهل والخطأ (3) والجفاء مِن أهل دينه مثل الحراثين، ومِنَ المعلوم أنَّه لو لم يأمرهم ويرضى بدينهم ما كان عليه مِن إثمهم شيءٌ، وأنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنَّما قال له بذلك لأن (4)، ظاهر حاله أنه راضٍ بذلك، لقدرته على التغيير، ولو كان كارهاً لغيَّر، فكذلك سائر الملوك الجبابرة الظاهر منهم الرضا بكلِّ قبيح ظهر في ممالكهم ولم ينكروه، وكذلك يزيد، فإن قتلة الحسين عليه السلام جاؤوا برأسه الكريم مبشرين له، وطالبين للثواب منه، ومظهرين له أنهم قد فعلوا له أحب الأمور إليه، فأقرهم على ذلك، ورضي عنهم، وقد يُحكم بالرضا بأقل من هذا، فقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - برضا البكر بالتزويج لسكوتها (5)، وليس القصد القياس، وإنما القصد التنبيه على أن الرضا قد يُعرف بغير نُطقٍ وإلا لزم فيمن تزوجت برجلٍ وهي بكرٌ بالغةٌ وأقامت معه، حتى وُلِدَ له منها أولادٌ (6)
__________
(1) في (ش): " وكتابات ".
(2) انظر 1/ 207 و2/ 45، وانظر أيضاً " مصنف عبد الرزاق (9724)، و" صحيح البخاري " (4553)، و" صحيح مسلم " (1773)، و" مسند أحمد " 1/ 263، و" صحيح ابن حبان " (6555).
(3) " والخطأ " ساقطة من (د) و (ف).
(4) في (ش): " أن ".
(5) أخرج أحمد 6/ 165، والبخاري (5137) و (6946)، ومسلم (1420)، والنسائي 6/ 85 - 86، وابن حبان (4080) و (4081) و (4082) من حديث عائشة مرفوعاً: " استأمروا النساء في أبضاعهن ". قيل: إن البكر تستحيى. قال: " سكوتها إقرارها ".
(6) في " ف ": حتى ولدت له أولاداً.(8/103)
أن يقبل منها إذا أنكرت الرضا بعد ذلك، وأمثال ذلك، بل أوضح من هذا صحة عقُود الأخرس بالإشارة والعلم بكثير فما يرضى به ويحبه.
الوجه السابع: أن صاحب هذه الشبهة علق الحكم بالعلم بما في باطن يزيد، وليس الحكم يتعلق بذلك شرعاً، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسر عمه العباس يوم بدرٍ، ولما ادعى العباس ذلك اليوم أنه كان مكرهاً، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " أمَّا ظاهرك، فكان علينا ". وأخذ منه الفداء (1).
وروى البخاري في " الصحيح " في كتاب الشهادات (2) عن عمر بن الخطاب أنه قال: إن أناساً كانوا يُؤخذون بالوحي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن الوحي قد انقطع، فمن أظهر لنا خيراً أمِنَّاه وقرَّبناه، وليس لنا من سريرته شيءٌ، ومن أظهر لنا سوءاً، لم نأمنهُ ولم نقرِّبه (3)، ولم نصدقه، وإن قال: سريرتُه حسنةٌ. انتهى كلامه رضي الله عنه.
والفرق بين هذا الوجه وبين الوجه الأول. أن الحجة في هذا من السمع والأثر والحجة في الأول من (4) النظر والجدل.
الوجه الثامن: أنا لو قدرنا ما لم يكن من عدم رضا يزيد بقتل الحسين عليه السلام، فإنه فاسقٌ متواتر الفسق والظلم، شرِّيب الخمر، كما قال أبو عبد الله الذهبي في حقه (5): كان ناصبياً جِلفاً فظّاً غليظاً، يتناول المسكر، ويفعل المنكر، وهذا يبيح سبَّه ويُغضِبُ ربه، ولو لم يكن له إلاَّ بغضُ أمير المؤمنين
__________
(1) انظر " طبقات ابن سعد " 4/ 14، و" تاريخ الطبري " 2/ 465 - 466، و" سير أعلام النبلاء " 2/ 81 - 82، وقد تقدم 2/ 292.
(2) برقم (2641)، وقد تقدم 2/ 291.
(3) في (د) و (ف): " نعرفه "، وهذه اللفظة لم ترد عند البخاري.
(4) " من " ساقطة من (ش).
(5) في " النبلاء " 4/ 37 - 38، وقد تقدم ص 26.(8/104)
علي بن أبي طالب عليه السلام، لكفاه فسوقاً ومقتاً عند الله وعند الصالحين من عباده.
ففي الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنه لا يبغض علياً إلاَّ منافق " (1) وأما قوله: إن إساءة الظن بالمسلم حرامٌ، فإنما ذلك في المسلم الكامل الإسلام الذي لم تظهر عليه قرائن الرِّيبة، ودليل الجواز في غير ذلك قول الله تعالى حاكياً عن نبيه يعقوب عليه السلام: {بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ} [يوسف: 18]، وفي الحديث المتفق على صحته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في الملاعنة: " لعلها أن تجيء به أسود جعداً " (2)، وقال: " إن جاءت به أسود أعين ذا أليتين فلا أراه إلاَّ قد صدق عليها ".
وأما قوله في الاستدلال على حماقة من زعم أن يزيد رضي بذلك.
إن من قتل من الأكابر في عصره لو أراد أن يعلم حقيقة من الذي أمر بقتله ورضي به، لم يقدرعلى ذلك، وإن كان قد قُتِلَ في جواره وزمانه وهو يشاهده، فإن أراد لم يقدر على معرفة الرضا، فكذلك لو أقرَّ بالرضا، لم يعلم أنه صادقٌ في إقراره، وإن أراد لم يقدر على معرفة الأمر أيضاً، كما هو ظاهر كلامه، فهذا قلة عقلٍ من قائله، لا قلة علم، فإن من المعلوم أنها لو قامت الشهادة بذلك إلى الإمام أو نحوه، لقُبِلت ووجب في ذلك من العقوبة ما يراه الإمام، ولو كان كما قال، لم تُقْبَلِ الشهادة بذلك (3) بل لوجب جرح الشهود، لأنهم شهدوا بما لا طريق إلى معرفته، وهذا خلاف العقل والشرع، وأيُّ مانعٍ يمنع من الشهادة على من (4) أمر بقتل رجل. هذا ما لا يقوى في عقل مميز أن الغزالي يتكلم به.
__________
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 421 - 422، ومسلم (1495)، وأبو داود (2253)، وابن ماجه (2068)، وابن حبان (4281).
(2) أخرجه من حديث سهل بن سعد الدارمي 2/ 150، والبخاري (4745)، والبيهقي 7/ 400، وابن حبان (4285)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) " بذلك " ساقطة من (د) و (ف).
(4) " من " ساقطة من (ش).(8/105)
وأما قوله: إن التعصب قد تطرَّق في الواقعة، وكثرت فيها الأحاديث.
فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا إشارةٌ إلى خلافٍ وقع، ولم يقع خلافٌ، بل نقل الموافق والمخالف أن يزيد كان بغيضاً ناصبياً شِرِّيباً فاسقاً.
الثاني: أن المختلفين في الواقعة طائفتان، طائفةٌ أثنوا على يزيد، وهم النواصب، وطائفة دمُّوهم، وهم سائر المسلمين. والتعصب لا يكون مع جميعِ الطائفتين، فوجب أن يكون مع من أثنى عليه، لأن الطائفة هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كالحسين وبعض أصحابه، فإنهم صحابةٌ إجماعاً، ولا يجوز نسبة التعصب إليهم، وكذلك من قدمنا ذكره فيمن تكلم على يزيد من أئمة الحديث كالخطابي وابن حزم والذهبي وغيرهم.
الثالث: ليس كل قصةٍ (1) وقع فيها تعصُّبٌ، فقد جهلت، وعمي أمرها، فقد وقع التعصب في العقائد وكثير من الوقائع، بل يؤخذ بما تواتر وبما صح عن الثقات ويُترك كلام المتعصبين.
وأما قوله: إن القاتل ربما مات على التوبة، فصحيحٌ، ولكن أين التوبة وشرائطها الصحيحة؟
وأما قوله: فإذاً لا يجوز لعن أحد ممن مات من المسلمين، ومن لعنه كان فاسقاً عاصياً لله تعالى، فقد تقدم الجواب عليه، وما فيه من الخطر العظيم، وأن ذلك خلاف كلام العلماء، وقد قيَّد النووي ما أطلقه هذا، فقال في " رياض الصالحين " (2): باب تحريم سب الأموات بغير حقٍّ ومصلحةٍ شرعيةٍ وهي التحذير من الاقتداء به في بدعته وفسقه ونحو ذلك. انتهى.
وقد تقدم أن الله تعالى لعن الظالمين، وذلك يعمُّ الأحياء منهم والميِّتين،
__________
(1) في (ف): " قضية ".
(2) ص 593 بتحقيقنا.(8/106)
فما ينفعهم ترك هذا المسكين للعنهم، والله يلعنهم في كتابه وجميع حملة القرآن عند قراءته.
وأما قوله: لو (1) جاز لعنه، فسكت، لم يكن عاصياً بالإجماع، فليس له أن يحتج بهذا على تحريم لعنه، لأن جواز الترك لا يستلزم تحريم الفعل، ولو كان ذلك كذلك، لم يوجد مباحٌ أبداً، ولو كان ذلك كذلك، لَحَرُمَ عليه التَّرحُّمُ والاستغفار والترضية على أبي بكر وعمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم ممن كفَّرته النواصب والروافض احتياطاً، لأن الترضية عليهم (2) لا تجب، ومن تركها، لم يكن عاصياً بالإجماع، ومن العجائب أنه قال: إن الترحم عليه مستحبٌّ عقيب هذا.
إن كان ما ذكرت (3) حجة، فهلاَّ دلَّ على تحريم الترحم عليه، فإن في جواز الترحم عليه خلافاً، ولو جاز وتركت، لم تأثم بالإجماع، فما بال هذه العلة العليلة (4) مقصورةٌ على ما وافق هواك، غير متعدية إلى من عداك؟!
وأما قوله: إن الترحم عليه مستحبٌّ، داخلٌ في قولنا في كل صلاة: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولأن يزيد كان مؤمناً، فذلك غير صحيحٍ لوجوه:
الوجه الأول: أن قوله إنه مؤمنٌ على الإطلاق مع ما ارتكب من العظائم واستهان به من المحارم، وأصرَّ عليه من فواحش (5) المآثم، خلاف كلامِ الفريقين من جماهير أهل السنة والشيعة والمعتزلة.
أما أهل السنة، فقد تقدم كلامهم، وقد نقله شارح البخاري العلامة الشهير بابن بطَّالٍ في شرح كتاب الإيمان من البخاري، متابعاً في ذلك لما قرره البخاري من ذلك، وبوَّب عليه واحتجَّ له، فإنه أكثر من الاحتجاج لذلك بالآيات
__________
(1) في (ف): " فلو".
(2) " عليهم " ساقطة من (ف).
(3) في (ف): " ذكرته ".
(4) في (ش): " القليلة " وهو خطأ.
(5) في (ش): " الفواحش ".(8/107)
والأخبار في تراجم الأبواب ومتون الأحاديث المسندة المتفق على صحتها، مثل قول البخاري في أول كتاب الإيمان (1): قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بُنِي الإسلام على خمس "، وهو قولٌ وفعلٌ ويزيد وينقص، قال الله عز وجل: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} [الفتح: 4]، {وزدناهم هدى} [الكهف: 13]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، {ويزداد الذين آمنوا إيماناً} [المدثر: 31]، وقوله: {فاخشوهم فزادهم إيماناً} [آل عمران: 173]، وقوله: {ما زادهم إلاَّ إيماناً وتسليماً} [الأحزاب: 22]، والحب في اللهِ والبغض الله من الإيمان (2)، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن عديٍّ: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسنناً (3) ... إلى قوله: باب (4) دعاؤكم إيمانكم، أظنه أشار إلى قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] وأورد فيه حديث ابن عمر: " بُني الإسلام على خمس " (5) ثم قال (6): باب أمور الإيمان وذكر قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون} [المؤمنون: 1] الآيات، وأورد فيه حديث أبي هريرة: " الإيمان بِضْعٌ وسبعون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان " (7) أورده من حديث عبد الله بن دينار عن أبي صالحٍ عن أبي
__________
(1) باب رقم (1). انظر " الفتح " 1/ 45 - 46.
(2) أخرج أحمد 3/ 438 و440، وأبو داود (4681) من حديث أبي أمامة مرفوعاً: " من أحب الله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان "، وفيه ضعف، وله شاهد من حديث معاذ بن أنس عند الترمذي (2523)، وعمرو بن الجموح عند أحمد 3/ 430، والبراء بن عازب عند أحمد 4/ 286، فالحديث حسن بطرقه وشواهده.
(3) وصله ابن أبي شيبة في كتاب " الإيمان " (135)، وإسناده حسن.
(4) لفظ " باب " سقط من (ش)، وانظر لزاماً " الفتح " 1/ 49.
(5) رقم (8)، وانظر " ابن حبان " (158) و (1446).
(6) 1/ 50 باب رقم (3).
(7) البخاري (9). وأخرجه أيضاً مسلم (35)، والنسائي 8/ 110، والترمذي (2614)، وابن ماجه (57)، وابن حبان (167) و (190) و (191).(8/108)
هريرة، ورواه معه (1) الجماعة (2)، وفي رواية: " ستون "، وقال بعده: باب المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه، وذكر بعده باب إطعام الطعام من الإيمان (3)، وبعده: باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وذكر فيه حديث أنسٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " (4)، ثم ذكر باب: حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، ثم باب حلاوة (5) الإيمان (6)، وكذلك سائر أئمة الحديث في كتبهم يوردون مثل ذلك قاصدين بذلك الرد على المرجئة.
وقد جوَّد ابن بطال القول في ذلك في " شرح البخاري "، وطوَّل في نقل كلام أئمة أهل السنة في ذلك، وبيان أدلتهم فيه، وتقدم قول ابن بطَّال أن تسمية صاحب الكبائر مؤمناً وإن جاز لغةً، فهو ممنوع شرعاً (7)، واحتجاجه بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُم ... إلى قوله أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وقول القاضي أبي بكر بن العربي في كتابه " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ": إن المؤمن من أمَّن نفسه من عذاب الله، والمسلم من أسلم نفسه، ويزيد أخاف نفسه، وما أمنها، وأوبقها وما أسلمها.
وقد تقدم بقية كلام أهل السنة، وهو موجودٌ في مواضعه، لا حاجة إلى التطويل بنقله، ولكن أُشير إلى مواضعه وهي دواوين الإسلام السنة وما في
__________
(1) في (ش): " مع ".
(2) غير أبي داود، فإنه لم يروه.
(3) في " البخاري ": من الإسلام، وهي رواية الأصيلي.
(4) تقدم تخريجه ص 97 من هذا الجزء.
(5) تحرف في الأصول إلى: " علامة "، والمثبت من " البخاري ".
(6) انظر " الفتح " 1/ 53 - 60.
(7) " شرعاً " ساقطة من (ش).(8/109)
معناها وشروحها، فقد أورد كل حافظٍ منهم ما في ذلك، وزاده بياناً كلُّ شارحٍ ولله الحمد.
وقد يوجد ما يخالف هذا في كلام علماء الكلام من الأشعرية في معارضة المعتزلة في إيجاب الخلود على سبيل القطع لكل مرتكب كبيرةٍ لم يَتُبْ منها، وإن ندرت وإن عظُمَت معها حسناته، وطالت في مكاسب الخيرات حياته، وتقع بينهم اللجاجات (1)، حتى يتوهم (2) بعض متكلمي الأشعرية أنها تستلزم أن يُسمّى الفاجر مؤمناً على الإطلاق، وليس ذلك بصحيحٍ على مقتضى الجمع بين الأحاديث وعدم الطرح لشيءٍ منها، وإنما يُسمى إذا لم يدلَّ دليلٌ سمعي (3) على بقائه مؤمناً أقل الإيمان، فهذان قيدان يقيِّدان إطلاق إيمانه على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
وأما الفريق الثاني -وهم الشيعة والمعتزلة وكثيرٌ من السلف-، فقد يَرَوْنَ أن السمع ورد بأن في الذنوب ما يدلُّ على النفاق، وسوء الاعتقاد، أو على خُلوِّ القلب من اعتقاد الإسلام والكفر وغلبة الغفلة عليه كما هي غالبةٌ على البهائم لامتلائه باشتغالٍ بالفسوق والشهوات العادية (4)، فقد تدل بعض الظواهر على بعض البواطن دلالة الدخان على النار، واللازم على الملزوم، ولهم على ذلك دلائل كثيرةٌ نذكر ما حضر منها:
الأول: قوله تعالى: {ولتعرفَنَّهُم في لحن القول} [محمد: 30] فهذه طريقٌ إلى معرفة المنافقين غير الوحي بما يجري على ألسنتهم مما ليس في مرتبة التصريح، لأن لحن القول في اللغة هو (5) مفهومه ومعناه كما ذكره أهلُ
__________
(1) في (د) و (ش) " الواجبات "، وكتب فوق " الواجبات " في (ش) " اللجاجات " وفي (ف): " إلزامات ".
(2) في (د) و (ف) يتوهم والمثبت من (ش).
(3) في (ف): " شرعي ".
(4) في (ش): " المعادية ".
(5) "هو" ساقطة من (ش).(8/110)
اللغة والتفسير، ويُقوِّيه من كتاب الله تعالى ما حكاه الله عنهم (1) في قصة يوسف عليه السلام، وقرَّرها في قوله. {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 27 - 28]، فدل على حسن الحكم بالقرينة الصحيحة الظاهرة على الأمور الباطنة الخفية.
الثاني: ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم من أئمة الإسلام عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربعٌ من كُنَّ فيه، كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَصْلَةٌ منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتُمِنَ خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر " وفي رواية: " وإذا وَعَدَ أخلف " عِوض: " ائتمن خان " (2).
وروى البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " آية المنافق ثلاثٌ " زاد مسلم: " وإن صام وصلى وزعم أنه مسلمٌ "، ثم اتفقوا: " إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر " وفي رواية لهم الجميع مثله لكن الثالثة: " إذا ائتمن خان " (3)، وروى النسائي (4) من حديث ابن مسعودٍ (5) مثل الرواية الأولى.
__________
(1) " عنهم " ساقطة من (د).
(2) البخاري (34) و (2459) و (3178)، ومسلم (58)، وأبو داود (4688)، والترمذي (2632).
ورواه أيضاً أحمد 2/ 189 و198، والنسائي 8/ 116، وابن حبان (254) و (255)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) البخاري (33) و (2749) و (2682)، ومسلم (59)، والترمذي (2631)، والنسائي 8/ 117.
ورواه أيضاً أحمد 2/ 357 و397 و536، وابن حبان (257).
(4) 8/ 117، وإسناده صحيح.
(5) في (ش): " عن ابن مسعود ".(8/111)
وقال أحمد بن حنبل في " مسنده " (1): حدثنا يزيد -يعني ابن هارون- أخبرنا عبد الملك بن قدامة الجُمحي، عن إسحاق (2) بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. " إن للمنافقين علاماتٍ يُعرفون بها: تحيتهم لعنةٌ، وطعامهم نُهبة (3)، وغنيمتهم (4) غلولٌ، ولا يقربون المساجد إلاَّ هجراً، ولا يأتون الصلاة إلاَّ دبراً مستكبرين، ولا يألفون ولا يؤلفون، خُشُبٌ بالليل صُخُبٌ بالنهار ".
ومن ذلك الحديث الوارد في صفة صلاة المنافق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تلك صلاة المنافقين يجلس [أحدهم] يرقب الشمس، حتَّى إذا كانت بين قرني الشيطان (5) قام، فنقرها أربعاً لا يذكر الله فيها إلاَّ قليلاً " رواه مسلم (6) من حديث أنس، ففي هذا مع قوله: " من أدرك ركعةً من العصر، فقد أدرك العصر " متفق عليه (7)، دلالة على أن المداومة على بعض الأفعال ونحو ذلك من الأمور
__________
(1) 2/ 293، ورواه أيضاً البزار (85)، وإسناده ضعيف لضعف عبد الملك بن قدامة الجمحي، وجهالة إسحاق بن أبي الفرات. قال البزار: لا نعلمه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ بهذا الإسناد، وإسحاق بن بكر لا نعلم حدث عنه إلاَّ عبد الملك. وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 102: رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه يحيى بن معين وغيره، وضعفه الدارقطني وغيره.
(2) في (ش): " ابن إسحاق "، وهو خطأ.
(3) تحرفت في الأصول إلى " نهمة ".
(4) في (ش) و (ف): " وغنمتهم "، وهو تحريف.
(5) في (د) و (ف): " الشمس "، وهو خطأ.
(6) رقم (622)، ورواه أحمد 3/ 149 و185، ومالك 1/ 221، وأبو داود (413)، والترمذي (160)، والنسائي 1/ 254، وانظر ابن حبان (259) - (263).
(7) أخرجه من حديث أبي هريرة مالك 1/ 6، والشافعي 1/ 50، وأحمد 2/ 462، والبخاري (579)، ومسلم (608)، والترمذي (186)، والنسائي 1/ 257، وابن حبان (1484) و (1582) و (1585) و (1557).(8/112)
الظاهرة قد يدلُّ على الأمور الباطنة، ولهذا قطع جماعةٌ من العلماء على تأثيمِ من داوم على ترك السُّنن الخفيفة السهلة.
الثالث: ما صح وثبت عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، فإنه قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي (1) الأُمِّيِّ أنه لا يُحِبّني إلاَّ مؤمن، ولا يبغضني إلاَّ منافق. رواه مسلم في " الصحيح " (2) في كتاب الإيمان، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، وأبي معاوية، وعن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن عدي بن ثابت، عن زِرٍّ بن (3) حُبيش عن علي عليه السلام.
ورواه الترمذي في المناقب من كتابه " الجامع " (4) عن عيسى بن عثمان ابن أخي يحيى بن عيسى الرملي، عن يحيى بن عيسى الرملي (5)، عن الأعمش نحوه: عهد إليَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يحبك إلاَّ مؤمنٌ ولا يُبغضك إلاَّ منافق " وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
ورواه النسائي في " المناقب " (6) عن أبي كريب، عن أبي معاوية بالسند المتقدم، وفي كتاب الإيمان عن واصل بن عبد الأعلى، عن وكيع به، وعن يوسف بن عيسى بن الفضل بن موسى عن الأعمش به. ورواه ابن ماجه (7) في السنة عن علي بن محمد، عن وكيع وأبي معاوية وعبد الله بن نمير عن الأعمش به (8).
ورواه إمام أهل السنة أحمد بن محمد بن حنبل في " مسنده " (9) عن عبد
__________
(1) في (د): " إلى النبي ".
(2) برقم (78).
(3) تحرف في (ش) إلى: " رزبن ".
(4) برقم (3737).
(5) قوله: " عن يحيى بن عيسى الرملي " سقط من (ف).
(6) " فضائل الصحابة " (50).
(7) " السنن " 8/ 117.
(8) برقم (114).
(9) من قوله: " رواه مسلم " إلى هنا نقله من " تحفة الأشراف " 7/ 372 - 373.(8/113)
الله بن نمير ثلاثتهم عن الأعمش، به (1)، وهو الحديثُ السادسُ والستون من مسند علي عليه السلام من " جامع " المسانيد لابن الجوزي، وهذا إسنادٌ صحيح على شرط أئمة الحديث وأئمة الإسلام كلهم خرَّجوا حديث رواته لو لم يرد (2) سواه، كيف وله شواهد، فقد روى الترمذي (3) وغيره عن أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحب علياً منافقٌ ولا يبغضه مؤمنٌ ". رواه جماعة من حُفَّاظ الحديث، وأئمة السنة منهم الزبيري (4) في " المناقب " عن واصل بن عبد الأعلى، ومنهم عبدُ الله بن أحمد بن حنبل في " زوائد المسند " (5)، ومنهم البغوي (6) في " كتابه "، ومنهم ابن عدي في كتاب " الكامل " (7)، ومنهم الذهبي في كتاب " الميزان " (8) ثلاثتهم عن أحمد بن عمران عن البغوي وابن عدي والذهبي ثلاثتهم عن محمد بن فُضيل -أعني أحمد بن عمران-، وعثمان بن أبي شيبة، وواصل بن عبد الأعلى، ورواه محمد بن فضيل، عن أبي نصر عبد الله بن عبد الرحمن بن نصر الأنصاري، عن مُساورٍ الحميري، عن أمه، عن أم سلمة رضي الله عنها.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه.
قلت: ورواته ثقات لم يذكر في كتب الجرح أحد منهم إلاَّ ابن فضيل وشيخه بما لا يقدح، أما ابن فضيل، فذكر فيه التشيع لا سوى، وقال الذهبي (9): هو صدوق صاحب حديث ومعرفة.
__________
(1) هو في " المسند " 1/ 84، وقد تقدم تخريجه 1/ 370.
(2) في (ف): " يكن ".
(3) برقم (3717)، وانظر التعليق رقم (6).
(4) تحرف في الأصول إلى: " الزبيدي ".
(5) 6/ 292، وهو من رواية الإمام أحمد نفسه، لا من زيادات ابنه عبد الله.
(6) هو أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، تقدمت ترجمته 1/ 356.
(7) 4/ 1541.
(8) 2/ 453 - 454.
(9) في " الميزان " 4/ 9.(8/114)
قلت: وهو من شيوخ أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثالهما، وهما شيخا أهل السنة.
وقد تكلم الذهبي في قبول الشيعة في ترجمة أبان بن تغلب في أوائل " الميزان " بما لا مزيد عليه، وحسبك أن حديث ثقاتهم في " الصحيحين " المجمع عليهما عند أهل السنة، وحسبك أن يحيى بن معينٍ وأبا عبيد رويا التشيع عن الإمام الشافعي، ذكره الذهبي في ترجمة الشافعي من " النبلاء " (1).
وقال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب في " الميزان " (2) ما لفظه: فلقائلٍ أن يقول: كيف ساغ [توثيق] مبتدعٍ وحدُّ الثقة العدالة والإتقان؟
وجوابه: أن البدعة على ضربين (3) فبدعةٌ صغرى كغلوِّ التشيع، أو كالتشيع بلا غلوٍّ ولا تحرُّفٍ (4)، فهذا كثير في (5) التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق فلو ذهب (6) حديث هؤلاء، لذهب جملةٌ من الآثار النبوية، وهذه مفسدةٌ بيِّنةٌ.
ثم ذكر الغلاة وتفسيرهم (7). فهذا الكلام انسحب علي من الكلام على
__________
(1) 10/ 58 وفيه: قيل لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، كان يحيى وأبو عبيد لا يرضيانه -يشير إلى التشيع-، وأنهما نسباه إلى ذلك، فقال أحمد بن حنبل: ما ندري ما يقولان، والله ما رأينا إلاَّ خيراً، وزاد البيهقي في " مناقب الشافعي " 2/ 259: ثم قال أحمد لمن حوله: اعلموا رحمكم الله تعالى أن الرجل من أهل العلم، إذا منحه الله شيئاً من العلم، وحُرِمَه قرناؤه وأشكاله، حسدوه، فَرَمَوْهُ بما ليس فيه وبئست الخصلة في أهل العلم.
وقال الذهبي بعد إيراده الخبر: من زعم أن الشافعي يتشيع، فهو مفترٍ، لا يدري ما يقول.
(2) 1/ 5.
(3) في (ش): " صورتين ".
(4) في (ش): " يعرف "، وهو تحريف.
(5) في (ش): " من ".
(6) في " الميزان ": " فلو رُدَّ ".
(7) ونصه: ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحط على أبي بكر وعمر =(8/115)
توثيق محمد بن فُضيلٍ وأما شيخه، فغلط عليه ابن عديٍّ، فقال (1): إنه سمع أنساً، وقال البخاري (2): فيه نظر، وقال الذهبي (3): بل الذي سمع أنساً هو آخر، تقدم (4)، وهذا وثقه أحمد، وقال: أبو حاتم (5) صالح، فصح هذا الحديث.
ولهما شاهدٌ ثالث رواه الحاكم في " المستدرك " (6) في مناقب علي عليه السلام، فقال: حدثنا أبو جعفر بن عبيد (7) الحافظ بهمذان، حدثنا الحسن بن علي الفسوي، حدثنا إسحاق بن بشرٍ الكاهلي، حدثنا شريكٌ، عن قيس بنِ مسلمٍ، عن أبي عبد الله الجدلي، عن أبي ذر، قال: ما كان يُعرف المنافقون إلا بتكذيبهم الله ورسوله، والتخلُّف عن الصلاة، والبُغض لعلي بن أبي طالبٍ عليه السلام. وهذا حديث صحيح على شرط مسلم.
__________
= رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك، فهذا النوع لا يحتج لهم ولا كرامة.
وأيضاً فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلاً صادقاً ولا مأموناً، بل الكذب شعارهم والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله حاشا وكلا.
فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم: هو من تكلم في عثمان والزبير وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب علياً رضي الله عنه، وتعرض لِسَبِّهم.
والغالي في زماننا وعُرْفِنَا: هو الذي يكفر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضاً، فهذا ضال معثر، ولم يكن أبان بن تغلب يعرض للشيخين أصلاً، بل قد يعتقد علياً أفضل منهما.
(1) " الكامل " 4/ 1541، وهذه العبارة من قول البخاري.
(2) " التاريخ الكبير " 5/ 137.
(3) في " الميزان " 2/ 453.
(4) وهو عبد الله بن عبد الرحمن بن أسيد الأزدي. انظر " الميزان " 2/ 452. أما عبد الله بن عبد الرحمن أبو نصر الأنصاري، فقد ترجمه البخاري 5/ 135 - 136، ولم يحك فيه شيئاً.
(5) في " الجرح والتعديل " 5/ 96، وانظر " تهذيب الكمال " 15/ 231.
(6) 3/ 129، وصححه على شرط مسلم، فتعقبه الذهبي بقوله: بل إسحاق متهم بالكذب.
(7) تحرف في (ش) إلى: " عبد الحق ".(8/116)
وله شاهدٌ رابعٌ رواه الترمذي (1) في " المناقب "، عن قتيبة بن سعيد، عن جعفر (2) بن سليمان، عن عمارة بن جُويز، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: إن كنا معاشر الأنصار لنعرف المنافقين ببغضهم علي بن أبي طالب (3) عليه السلام، وقال الترمذي: غريب.
ومن الدليل على صدق المحدثين وإنصافهم وتحريهم للصواب أنهم كذَّّبُوا من روى هذه الفضيلة لأبي بكرٍ وعمر، كما أوضحه الذهبي في " الميزان " في ترجمة معلى بن هلال (4) وترجمة عبد الرحمن بن مالك بن مغول (5). وأجمعتِ الأمة المعصومة على تلقِّي هذه الأحاديث بالقبول، وبها يخطب خطباء أهلِ السنة في الحرمين الشريفين، وعلى رؤوس المنابر في الجُمَعِ والأعياد والمشاهد عند ذكر (6) مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من غير مناكرة، ولا يوجد في تقريرات أهل الإسلام في إجماعاتهم أوضح من هذا، وبذلك دانت العترة الطاهرة.
وليس في عدم تخريج البخاري له شبهةٌ في صحته، لأنه قد روى عن جميع رُواته، ولكنه قد يلتزم ما لا يلزم من الشروط العزيزة، فلا يتم له في بعض الأحاديث الشهيرة فيتركها، ولذلك لم يخرِّج حديثاً في كيفية الأذان أصلاً، ولا في كيفية صلاة العيد، فيقال: إنه شك في الأذان، أو في صلاة العيد، على أنها قد عرفت علته في هذا الحديث، وذلك أن عدي بن ثابتٍ شيخ الأعمش
__________
(1) برقم (3717)، ورواه أيضاً ابن عدي في " الكامل " 5/ 1734، وإسناده ضعيف جداً. أبو هارون العبدي متروك الحديث متهم بالكذب، قال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 177: كان رافضياً، يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، لا يحل كتابة حديثه إلاَّ على جهة التعجب.
(2) في (ف): " وجعفر "، وهو خطأ.
(3) في (ش): " لعلي ".
(4) 4/ 152 - 153.
(5) 2/ 584.
(6) " ذكر " ساقطة من (ش).(8/117)
فيه من (1) مشاهير رجال الشيعة، مع الاتفاق على ثقته وأمانته عند أئمة أهلِ السنة، دع عنك غيرهم، والفضل ما شهدت به الأعداء. قال الحافظ ابن حجرٍ في مقدمة " شرح البخاري " (2): وثقه أحمد بن حنبل والعجلي والدارقطني والنسائي، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن حجر في " شرح نخبة الفكر " في علوم الحديث: قال الذهبي -وهو من أهل التَّتبُّع التَّام-: ما اتفق حافظان من أئمة هذا الشأن على توثيق أو تجريح إلاَّ كان كذلك أو كما قال، ثم قال ابن حجر في " مقدمة الشرح " المذكور: احتج به الجماعة، وما أخرج له البخاريُّ في " الصحيح " شيئاً مما يقوي مذهبه أو نحو هذا.
قلت: قد خرَّج البخاري حديث جماعةٍ من كبار الشيعة في الأصول من غير متابعة.
منهم مالك بن إسماعيل: أبو غسان النهدي، قال ابن حجر (3): كان من كبار شيوخ البخاري، مجمعٌ على ثقته، ذكره ابن عدي في " الكامل " من أجل قول (4) الجوزجاني: إنه كان حسنِيّاً، يعني شيعياً، وقد احتج به الأئمة. انتهى بحروفه.
ومنهم: إسماعيلُ بن أبان الورَّاق الكوفي، من شيوخ البخاري (5)، وثَّقوه إلاَّ الجوزجاني، فقد كان مائلاً عن الحق، قال ابن عدي: يعني ما عليه الكوفيون من التشيع.
قال ابن حجر: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي، فهو ضد الشيعي
__________
(1) " من " ساقطة من (ش).
(2) ص 424.
(3) في " مقدمة الفتح " ص 442.
(4) تحرفت في الأصول إلى: " من أحد قولي ".
(5) انظر " مقدمة الفتح " ص 390.(8/118)
المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعاًً، وينبغي أن لا يسمع قول (1) مبتدعٍ في مبتدع، وأما كلام الدارقطني، فقد اختلف، ولعلَّه اشتبه عليه بشيخ لهم متروكٍ يُسَمَّى إسماعيل بن أبان الغنوي.
وأسيد بن زيدٍ شديد التشيع، ضعيف، وقال النسائي: متروك، ولم يوثق قط، وهو من شيوخه لكن في حديثٍ واحدٍ متابعة، ذكره ابن حجر (2).
وبهز بن أسد في رواية الذهبي (3)، وجرير بن عبد الحميد ابن قرط الضَّبِّي الرازي (4)، أجمعوا على ثقته، وخرَّج عنه الجماعة، ونسبه قتيبة (5) إلى شيءٍ من التَّشيُّع المفرط.
قال ابن حجر (6): وخالد بن مخلد القَطَواني من كبار شيوخ البخاري، وثَّقوه وكان متشيعاً مفرطاً. قاله (7) ابن حجر، وقال: إذا كان الراوي ثبت الأخذ والأداء، لا يضرُّهُ التَّشيُّعُ.
وسعيد بن عمرو (8) بن أشوع الكوفي، وسعيد بن فيروز أبو (9) البختري
__________
(1) في (ف): " كلام ".
(2) في " مقدمة الفتح " ص 391.
(3) قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 393 بعد أن نقل توثيق الأئمة له: وشذ الأزدي، فذكره في " الضعفاء "، وقال إنه كان يتحامل على عثمان (في مقدمة الفتح: على علي). قلت (القائل ابن حجر): اعتمده الأئمة، ولا يعتمد على الأزدي. وقال الذهبي في " الميزان " 1/ 353 بعد أن نقل قول الأزدي: كذا قال، والعهدة عليه، فما علمت في بهز مغمزاً.
(4) انظر " مقدمة الفتح " ص 395.
(5) في (ش): " ابن قتيبة "، وهو خطأ.
(6) المصدر السابق ص 400.
(7) في (د) و (ش): " قال "، وهو قول ابن سعد نقله عنه ابن حجر.
(8) تحرف في الأصول إلى: " عمر ".
(9) في الأصول: "وأبو"، وهو خطأ.(8/119)
الطائي، وأبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي المكي شيعي (1) مختلفٌ في صُحبته، وعبَّاد بن العوَّام الواسطي، وعباد بن يعقوب الرَّواجنيُّ رافضي داعية، كان يشتمُ عثمان، روى عنه البخاري حديثاً مع جماعةٍ تابعوه، وعبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الأنصاري، وعبد الرحمن بن أبي الموالي المدني، ولم يذكره ابن حجر بتشيعٍ، وهو مشهورٌ، ذكره الذهبي في " الميزان " (2).
وخرج البخاري حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي (3)، شيعي قدري، وكذلك سائر الجماعة.
وخرج البخاري من حديثه ما يدلُّ على مذهبه مما تفرد به، وزاده على جرير بن حازم عن شيخهما، وهو ذكر أولاد المشركين بالنصوصية في حديث سمرة في الرؤيا النبوية (4) فإنهما روياه عن أبي رجاء العُطاردي، عن سَمُرَةَ.
وكذلك أخرج عنه حديث الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً (5)، وهي زيادة على جرير في هذا الحديث، فبان بهذا (6) أن البخاري إنما توهَّم أن مدلول الحديث مما يختصُّ مذاهب (7) الشيعة دون أهل السنة، فتركه لذلك، وليس كما توهم، والدليل على أنه ليس كذلك أن البخاري قد خرَّج مثل هذه الفضيلة للأنصار من حديث البراء بن عازب الأنصاري، ومن حديث أنس بن مالكٍ الأنصاري (8) ولا شك في تفضيل علي بن أبي طالب عليه السلام عند أهل
__________
(1) " شيعي " ساقطة من (ف).
(2) 2/ 592 - 594.
(3) تحرف في الأصول إلى. " الأغر ".
(4) رقم (7047)، وانظر (845) و (143) و (1386) و (2085) و (2791) و (3236) و (3354) و (4674) و (6096).
(5) انظر التعليق السابق.
(6) في (ش): " هذا ".
(7) في (ف): " بمذهب ".
(8) سيأتي تخريجهما 123.(8/120)
السنة على جميع الأنصار، بل وعلى قريشٍ في أيام خلافته، وإنما وقع النزاع من البعض في إطلاق تفضيله على الجميع قبل (1) أيام خلافته من أجلِ تفضيل الإمام على المأموم على ما يعتقدونه في ذلك، ولا شكَّ في الإجماع على تفضيله على جميع قريش والأنصار كما ذكره الذهبي في ترجمة عبد الرزاق بن همام من " الميزان " (2)، فإذا صحت هذه الفضيلة للأنصار -وهم في الفضل دونه بالاتفاق- كان بها أولى، ولو اعتبرنا في الرواية ما يعتبر في دعاوي الأحوال الدنيوية من عدم قبول الثِّقات ولم ننقل المناقب عن الفريقين، لبطلت عامة المناقب.
فليحرِص (3) على حفظ المناقب أهلها وأهل المحبة الكبيرة لأهلها، ولذلك لم يرو البخاري هذه المنقبة للأنصار إلاَّ من طريق البراء وأنس، وهما أنصاريان، وقد خرَّج البخاري (4) في مناقب أبي بكر عن أحمد بن أبي الطيب، عن إسماعيل بن مُجالدٍ، وفيهما ضعفٌ، وعن سلمة بن رجاءٍ في مناقب حُذيفة (5).
وتعمُّدُ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أفحش الكبائر. وإذا كان الكذب في الحديث مطلقاً مِنْ علامات النِّفاق، فكيف الكذب فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وتهمة الفريقين (6) المشهورين بالثِّقة والورع عند الجميع مما لا يُلتفتُ إليه، كما
__________
(1) في (ف): " في ".
(2) 2/ 612.
(3) في (ف): " فإنما يحرص ".
(4) رقم (3660)، وهو من حديث عمار، وفيه: قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمسة أعبد وأمرأتان وأبو بكر.
ورواه البخاري (3857) من طريق يحيى بن معين عن إسماعيل بن مجالد.
قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 386 في ترجمة أحمد بن أبي الطيب: روى له البخاري في فضل أبي بكر عنه عن إسماعيل بن مجالد حديث عمار، وقد أخرجه في موضع آخر من رواية يحيى بن معين، عن إسماعيل، فتبين أنه عند البخاري غير محتج به.
(5) برقم (3724).
(6) في (ف): " أئمة الفريقين ".(8/121)
ذكره الذهبي وابن حجر في ترجمة زيد بن وهبٍ التابعي الجليل (1)، ولا مرتبة في العدالة أعظم ولا أرفع أن يكون الموثِّقون للرجل أئمة خصومه.
على أن المعنى العقلي والتجارب المستمرة قاضيةٌ بصحة هذه الأحاديث، وذلك أن من آمن بالله عزَّ وجلَّ ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وباشر الإيمان قلبه، أحبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى الطبيعة والشريعة.
أما الطبيعة، فلما جُبلت عليه القلوب من حبِّ من أحسن إليها، ولا إحسان من المخلوقين أعظم من إحسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعظم نفعه (2) وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وإنقاذهم من الكفر ومن النار، وإكمال شفقته عليهم حتى صحَّ أنها وُهِبَتْ له دعوة مستجابة كما وهبت لكل نبي، فاختبأ دعوته لهم، وآثرهم على نفسه النفيسة ولو نتعرَّض لاستيفاء ما ورد في هذا، لخرجنا عن المقصود.
وأما الشريعة، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: " أنه لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه ومن الناس أجمعين " (3). فإذا ثبت أن الإيمان يستلزم غاية (4) الحب للرسول قطعاً، عقلاً، وشرعاً، فكذلك حُبُّه يستلزم حُبَّ من يحبُّه الرسول وحبَّ ناصريه الذين عُلِمَ بالضرورة حبهم له وحبُّه لهم، وبذلهم أرواحهم على الدوام في مرضاته ووقايته، فكما أن الضرورة تقتضي أن الرسول يحبهم لذلك، وكذلك الضرورة تقتضي أن من يُحِبُّ الرسول يحبُّهم لذلك بقوَّة الداعية الطبيعية البشرية والدينية البشرية الفطرية، ولذلك قيل: أصدقاؤك ثلاثةٌ: صديقك، وصديق صديقك، وعدوُّ عدوِّك. وأعداؤك ثلاثة: عدوُّك، وعدوُّ صديقك وصديق عدوِّك، وأنشدوا في هذا المعنى:
__________
(1) انظر " الميزان " 2/ 107، و" التهذيب " 3/ 426 - 427، و" الإصابة " 1/ 567.
(2) في (ف): " نفعه لهم ".
(3) تقدم تخريجه ص 97 من هذا الجزء.
(4) " غاية " ساقطة من (ف).(8/122)
لعينٍ تُفَدَّى ألفُ عينٍ وتُتَّقى ... وتُكْرَمُ ألفٌ للحبيب المكرَّمِ
ومن أحسن ما رُوي في هذا المعنى (1) بعضهم:
رأى المجنون كلباً ذات يومٍ ... فمدَّ له من الإحسانِ ذيْلا
فلامُوه عليه وعنَّفوهُ ... وقالوا: لِمْ أنلت الكلبَ نيلا
فقال لهم: دعُوني إنَّ عيني ... رأتْهُ مرةً في باب ليلى
{والذين آمنوا أشد حُبَّاً لله} [البقرة: 165] ولذلك شاركته الأنصار عليه السلام في هذه الفضيلة لما شاركته في علتها، وهو الدليلُ الرابع، وذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث البراء بن عازب وأنس: " أنه لا يحب الأنصار إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلاَّ منافقٌ " (2) وفي حديث أنس أن: " آية الإيمان حبُّ الأنصار وآية النفاق بغض الأنصار " (3). وروى الترمذي من حديث ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا يُبغض الأنصار أحد يؤمن بالله واليوم الآخر " (4) وروي مثله من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً (5).
ومن الدلائل على صحة هذه الفضيلة لأمير المؤمنين عليه السلام، وللأنصار رضي الله عنهم أن من أبغضه أبغضهم، ومن أبغضهم أبغضه، لأنهم كانوا من أنصاره عليه السلام في أيام خلافته وأعوانه.
__________
(1) " المعنى " ساقطة من (د) و (ف).
(2) أخرجه أحمد في " المسند " 4/ 283 و292، وفي " فضائل الصحابة " (1455)، والبخاري (3783)، ومسلم (75)، والترمذي (3896)، وابن ماجه (163)، وابن منده في " الإيمان " (534) و (535).
(3) رواه الترمذي (3906)، وقال: حسن صحيح.
(4) أخرجه ابن أبي شيبة 12/ 163 - 164، والطيالسي (2182)، وأحمد 3/ 34 و45 و72 و93، ومسلم (77)، وأبو يعلى (1007)، وابن حبان (72741).
(5) رواه مسلم (76)، وابن منده في " الإيمان " (538) و (539).(8/123)
الخامس: أنه قد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس صلاة أثقل (1) على المنافقين من الفجر والعشاء، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبواً، ولقد هممتُ أن آمر المؤذن يقيم، ثم آمر رجلاً يُؤمُّ الناس، ثم آخذ شُعلاً من نار فأحرِّق على من لا يخرج إلى الصلاة " رواه البخاري (2) في فضل صلاة العشاء في الجماعة من حديث عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة انفرد به البخاري من هذه الطريق، وقد رواه الجماعة من غير هذه الطريق كلهم (3). ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (4) وجعل مالكاً عوض ابن ماجه، ورواه البخاري في وجوب الجماعة وفي الأحكام، والنسائي في الصلاة من ثلاث طرق عن مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة وليس في أوله ذكر أثقل الصلاة على المنافقين (5).
ووجه الحجة فيه أن ظاهره أنه - صلى الله عليه وسلم - عزم على تنجيز العقوبة بما ظهر له من قرينة استمرارهم على ما هو أمارة النِّفاق، ولم يظهر أنه استند في ذلك إلى وحيٍ خاص، لأنه رتَّب العقوبة على ذلك، وهذا أقوى أدلة هذه الطائفة لما فيها من الهمِّ بإيقاع العقوبة على ذلك وتنفيذ الحكم.
السادس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم بالملاعنة (6) بالكذب لقرينة، فقال: "إن جاءت به أسود أعين ذا أليتين، فما أراه إلاَّ صدق عليها، وإن جاءت به أحمرَ
__________
(1) في (ف): " أبغض ".
(2) برقم (657).
(3) رواه البخاري (2420)، ومسلم (651)، وأبو داود (549)، والترمذي (217)، والنسائي 2/ 107، وأحمد 2/ 244 و314 و319 و367، وابن حبان (2097) و (2098)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) 5/ 566.
(5) البخاري (644) و (7224)، والنسائي 2/ 107، وهو في " الموطأ " 1/ 129، وانظر " ابن حبان " (2096).
(6) في (ف): " على الملاعنة ".(8/124)
قصيراً كأنه وَحَرَةٌ، فما أراها إلاَّ صدقت" فجاءت به على المكروه من ذلك. رواه البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعدٍ الساعدي الأنصاري (1)، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (2) واحتج من العلماء من قال: إن الحاكم يحكم بعلمه، وعلمه هنا بالأمر الباطن لم يستند هنا إلاَّ بالقرائن (3).
السابع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكى مثل ذلك عمن تقدم من الأنبياء عليهمُ السلام، مثل ما ورد من حديث المرأتين المتنازعتين في الصبي: " وإن داود عليه السلام قضى به (4) للكبرى، فتخاصمتا إلى النبي سليمان، فقال: ائتوني بالسِّكِّين أقسِمُه بينهما نصفين، فرضيت الكبرى بذلك، فقالت الصغرى: لا تفعل رحمك الله، هو لها "، فحكم به للصغرى لما ظهر من شفقتها عليه. رواه ... (5).
الثامن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حكم على رجل من الأنصار أنه مُضَارٌّ في قصة عِذْقِ النخلة الذي امتنع من بيعه من جاره بما يزيدُ عليه في المنفعة، ولا يرغبُ
__________
(1) أخرجه البخاري (4745) من حديث مطول، وأخرجه مسلم (1493)، وليس فيه هذه القطعة، وانظر ابن حبان (4284) و (4285).
والوحرة: دويية شبه الوزغة تلزق بالأرض، جمعها: وحر، ومنه وحر الصدر، وهو الحقد والغيظ، سمي به لتشبثه بالقلب، ويقال: فلان وحر الصدر: إذا دبت العداوة في قلبه كدبيب الوَحَرِ.
(2) أخرجه من حديث ابن عباس البخاري (4747)، والترمذي (3179)، وأبو داود (2254) و (2256). وأخرجه من حديث أنس النسائي 6/ 171.
(3) في (ف): " إلى القرائن ".
(4) " به " ساقطة من (ش).
(5) بياض في (د) و (ف)، وفي (ش): " رواه الحاكم "، وهو خطأ، إنما رواه أحمد 2/ 322 و340، والبخاري (3427) و (6769)، ومسلم (1720)، والنسائي 8/ 234 - 235 و236، وابن حبان (5066) من حديث أبي هريرة.(8/125)
في مثله في العادة. رواه أبو داود (1) من حديث سمُرة.
وحكم عمر بن الخطاب بنحو ذلك على محمد بن مسلمة مع صلاحه.
رواه مالك في " الموطأ " (2) وللحكام (3) أمثالُ ذلك.
التاسع: أن بعض الصحابة قد كان يحكم ويجزم بالقرينة الصحيحة الظاهرة بحضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما كان جابر بن عبد الله يحلف على ابن صيادٍ أنه الدَّجَّال (4)، بل قال أُسيد بن حُضير، لسعد بن عبادة: إنك منافقٌ تُجادل عن المنافقين. رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك (5).
وقال عمر لحاطبٍ مثل ذلك، ورد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكونه من أهل بدرٍ (6).
وحكم الشيعي المحترق غضباً لله ورسوله حكم هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم إن صح أنه أخطأ.
وقد تركتُ ما يختص الشيعة بروايته مما لم أعرف له إسناداً، مثل ما يروى عن يزيد من قوله:
ليت أشياخي ببدرٍ شَهِدُوا ... جزعَ الخزرجِ مِنْ وقع الأسل (7)
__________
(1) برقم (3636)، ورواه البيهقي 6/ 157، وإسناده منقطع، فإن أبا جعفر محمد بن علي الباقر لم يسمع من سمرة.
(2) 2/ 746، ومن طريقه رواه الشافعي 2/ 134 - 135، والبيهقي 6/ 157، وقال: مرسل.
(3) في (ف): " للحاكم " وهو خطأ.
(4) أخرجه البخاري (7355)، ومسلم (2929)، وأبو داود (4331).
(5) البخاري (4750)، ومسلم (2770)، وانظر ابن حبان (4212).
(6) أخرجه أحمد 1/ 105، والبخاري (3081) و (3983) و (6259) و (6939)، ومسلم (2494)، وابن حبان (6499) و (7119).
(7) البيت لعبد الله بن الزبعرى قاله يوم أحد من قصيدة مطلعها: =(8/126)
العاشر: ما رواه البخاري: حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحدٌ من القوم (1) إلاَّ سجد، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصىً أو تراب، فرفعه إلى وجهه، وقال: يكفيني، قال عبد الله: فلقد رأيته بعد (2) قتل كافراً (3).
وقد روى البخاري (4) رحمه الله عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر: إن السجود غير واجب، وأقرته الصحابة، وإلى ذلك ذهب الجمهور، فدل ذلك على أن المكروهات والذنوب قد تقع على وجهٍ ينتهي إلى كفر، نعوذ بالله من ذلك.
الحادي عشر: النظرُ العقليُّ، وذلك أن أهل المعقولات أجمعوا على (5) أن القرائن الضرورية قد يحصل بسببها (6) علمٌ ضروريٌّ لا يندفع عن النفس بالشك، ولعلَّ العمل به يتوقف على السمع، وقد يمنع السمع من العمل ببعض العلوم، كما يقول من قال: إن الحاكم لا يحكم بعلمه، وذلك مثل ما يعلم صدق من يشكو بعض الآلام بما يظهر عليه من لوازم ذلك، بل قد يعلم صدق الجائع في شكوى الجوع بذلك. وكذلك يعلم صدق الصغير في كثير مما
__________
= يا غراب البين أسمعتَ فَقُلْ ... إنما تَنْطِقُ شيئاً قد فُعِلْ
وأجابه حسان بن ثابت بقصيدة مطلعها:
ذَهَبَتْ بابنِ الزِّبعرى وقعةٌ ... كان منا الفَضْلُ فيها لو عَدَلْ
انظر " سيرة ابن هشام " 3/ 143 - 145، و" العقد الفريد " 5/ 131، و" شرح شواهد المغني " 4/ 254، و" الكامل " 3/ 1372، و" ديوان حسان " ص 358.
(1) " من القوم " ساقطة من (ف).
(2) " بعد " ساقطة من (ش).
(3) البخاري (1070)، ورواه أيضاً (1067) و (3853) و (3972) و (4863)، ومسلم (576)، وأحمد 1/ 401 و437 و462، وأبو داود (1406)، وابن حبان (2764)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) برقم (1077).
(5) " على " ساقطة من (ش).
(6) " يحصل بسببها " بياض في (ش).(8/127)
يشكوه من الأمور (1) الباطنة، كما يعلم من البهائم والعجم الباطن في بعض الأحوال من غير شكوى.
وعندي: أنَّا نعلم بهذه الطريقة صحة إيمان كثير من الصحابة والتابعين والصالحين، فإنا على يقين من نفي النفاق عنهم علماً ضرورياً، غير قبولِ الظَّاهر، والحمل على السَّلامة المصحوب بالشك عند التشكيك والإصغاء إليه، فإنا نجد قلوبنا جازمة بنفي النفاق عنهم من الإصغاء إلى جانب الشك غاية الإصغاء، وهذا هو الميزان الذي تعرف به العلوم اليقينية من الظنون الغالبة.
قالت هذه الطائفة: فكذلك يعلم النِّفاق بالقرائن الضرورية، وذلك مقتضى مذهب المالكية من أهل السنة، فإنهم يستحلون القتل على ما يدلُّ على الاستهانة بالإسلام، ولو كانت دلالةً بعيدةً، كقتل من سبَّ (2) صحابياً، أو أحداً من أئمة الإسلام، أو أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال القاضي عياض في آخر كتابه " الشِّفا " (3) ما يقتضي ذلك، وحكى أن مشهور مذهب مالكٍ في ذلك الاجتهاد والأدب المُوجِعُ.
قال مالك رحمه الله (4): من شتم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قُتِلَ، ومن شتم أصحابه أُدِّبَ، وقال أيضاً: من شتم أحداً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن قال: كانوا على ضلالٍ وكفرٍ، قُتِلََ، وإن شتمهم بغير هذا من مشاتمة الناس، نُكِّل نكالاً شديداً.
ونقل صاحب " العقائد " اختلاف السلف في كُفر الحجاج بن يوسف الثقفي لمثل ذلك، ولكن لم يحضرني.
__________
(1) في (ش): " وكذلك صدق من يشكو الأمور ".
(2) في (ف): " كمن سبَّ ".
(3) 2/ 214 وما بعدها.
(4) انظر " الشفا " 2/ 223.(8/128)
وفي " الترمذي " (1) عن هشام بن حسان أنه أُحصِيَ من قُتِلَ صبراً، فوجدوه مئة ألفٍ وعشرين (2) ألفاً، فمن تهاون بشعائر الإسلام، وحُرُماتِه الكبار، وأصرَّ على ذلك من غير ضرورةٍ دلَّ على ذلك، كما فعل يزيد في الاستهانة بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث أدخله الدواب، وبالت فيه وراثت في روضته الشريفة، وانقطعت فيه الصلاة أياماً، كما رواه العلامة أبو محمد بن حزم الموصوم بالعصبية لبني أمية، وطلب البيعة على أنهم عبيدٌ له مماليكُ أرقَّاء، وذكر رجلٌ البيعة على كتاب الله، فأمر بضرب رقبته، فضربت رقبته بأمره، وأمر بقتل من لا ضروره إلى قتله ولا حاجة له فيه من بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار في يوم الحرَّة، حتى ما سلم منهم إلاَّ سعيد بن المسيب، وجدوه في المسجد لم يخرج منه، فَشَهِدَ له مروان وغيره أنه مجنونٌ، فَسَلِمَ بسبب شهادتهما، ذكر ذلك كله ابن حزم.
قال ابن حزم (3): واستُخِفَّ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومُدَّت إليهم الأيدي -يعني قبل (4) ذلك-.
وفي " صحيح البخاري " (5) عن سعيد بن المسيِّب، قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني مقتل عثمان- فلم يبق من أصحاب بدرٍ أحدٌ، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني الحرَّة- فلم يبق من أصحاب الحديبية أحدٌ.
وفيها أستؤصل بقية المهاجرين والأنصار الذين لا يحبُّهم إلاَّ مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلاَّ منافق، وهذا هو الذي افتتح به دولته، ثم اختتمها بقتل ريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسين بن علي عليه السلام وجميع أهله وأصحابه كما مضى
__________
(1) رقم (2220)، ورجاله ثقات.
(2) في (ف): " وعشرون "، وهو خطأ.
(3) في " جوامع السيرة " ص 357، وقد تقدم في الصفحة 38 من هذا الجزء.
(4) كتب فوقها في (ش): " بعد ".
(5) في المغازي: باب شهود الملائكة بدراً، تعليقاً عقب الحديث رقم (4024)، ووصله أبو نعيم في " المستخرج " كما في " الفتح " 7/ 325، و" تغليق التعليق " 4/ 105.(8/129)
ذكره، وما سَلِمَ منهم إلاَّ علي بن الحسين لِصِغَرِهِ ومرضه، بل لمَّا قدره الله مِنْ أجله وخُروج الذرية الطاهرة من نسله، وكان قبل ذلك وفي خلاله مدمن خمرٍ متهتكاً (1) مجاهراً بذلك، وبذلك أوصى أصحابه، حيث قال في شعره المشهور:
أقول لصحبٍ ضمَّتِ الكأس شملهم ... وداعي صبابات الهوى يترنَّمُ
خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ ... فكلٌّ وإن طال المدى يتصرَّمُ
وقد كان مجاهراً بذلك متمتعاً به، وفي " صحيح البخاري ": " كلُّ أمتي معافى إلاَّ المجاهرين " (2). وروى أحمد بن حنبل في " مسنده " (3) من حديث ابن عباس: " مدمن الخمر إن مات، لقي الله كعابد وثنٍ ". ورواه العلامة ابن تيمية في " المنتقى "، لكن رواه ابن حبان (4) بزيادة، فقال: عن ابن عباسٍ مرفوعاً: " من لقي الله مدمن خمرٍ مستحلاًّ لشربه لقيه كعابد وثن ". فهذه الزيادة تدلُّ على تأويله إن صحت وسلمت من الإعلال، فينظر من زادها وعلى من زيدت ذكرها صاحب " أحكام أحاديث الإلمام " في كتاب الأشربة.
وروى النسائي (5) عن عثمان بن عفان أنه قال: والله لا يجتمع الإيمان
__________
(1) في (ش): " منهمكاً ".
(2) البخاري (6069)، ورواه أيضاً مسلم (2990) من حديث أبي هريرة.
(3) 1/ 272 من رواية الأسود بن عامر، عن الحسن بن صالح، عن محمد بن المنكدر، قال: حُدِّثتُ عن ابن عباس ... فذكره. وهذا إسناد رجاله ثقات غير راويه عن ابن عباس، فإنه مجهول.
(4) " ابن حبان " (5347)، وهو حديث ضعيف، وانظر تمام تخريجه فيه. وقول المصنف " بزيادة " وَهَمٌ منه، فإن هذه الزيادة ليست من الحديث، إنما هي من كلام ابن حبان، بَيَّنَ فيه المراد من الحديث، فقد قال بإثر روايته: يُشبه أن يكون معنى هذا الخبر: من لقي الله مدمن خمرٍ مستحلاً لشربه، لقيه كعابد وَثَنٍ، لاستوائهما في حالة الكفر.
(5) 8/ 315 - 316، ورواه أيضاً عبد الرزاق (17060)، والبيهقي 8/ 287 - 288.
ورواه ابن حبان (5348) مرفوعاً بإسناد ضعيف، والصواب وقفه كما قال الحافظان الدارقطني =(8/130)
وإدمان الخمر إلاَّ ليوشك أن يُخرِجَ أحدهما صاحبه.
وروى النسائي عن مسروق: من شربها، فقد كفر، وكفره أن ليس له صلاة. ذكر النسائي في تفسير حديث عبد الله بن عمرو عنه، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن من شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً " (1)، وفي حديث: " لم تُقبل له توبةٌ أربعين يوماً ". (2)
وقد صح أن ترك الصلاة كفرٌ، رواه مسلمٌ من طريقين من حديث جابرٍ، وأهل السنن كلهم إلاَّ النسائي (3). وعن بُريدة نحوه رواه الأربعة كلهم (4).
وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب: وإن مات شارب الخمر في الأربعين، مات كافراً. رواه النسائي (5).
وروى النسائي (6) إنه "لا تُقبل له توبة أربعين يوماً، فإن تاب، تاب الله عليه
__________
= وابن كثير.
(1) النسائي 8/ 314 - 315، وإسناده حسن. وحديث عبد الله بن عمرو عند النسائي 8/ 514 وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 176 و197 و189، والدارمي 2/ 111، وابن ماجه (3377)، والبزار (2936)، وصححه ابن حبان (5357)، والحاكم 4/ 146، ووافقه الذهبي.
(2) النسائي 8/ 317.
(3) مسلم (82)، وأبو داود (4678)، والترمذي (2618) و (2620)، وابن ماجه (1078)، وأخرجه النسائي 1/ 232 كما في إحدى نسخ السنن في " الصلاة "، وأخرجه أيضاً أحمد 3/ 370 و389، وابن أبي شيبة 11/ 33 و34، والدارمي 1/ 280، والبيهقي 3/ 366، وابن حبان (1453).
(4) رواه الترمذي (2621)، والنسائي 1/ 231، وابن ماجه (1079)، وليس هو عند أبي داود، رواه أيضاً ابن أبي شيبة 11/ 34، وأحمد 5/ 346 و355، وصححه ابن حبان (1554)، والحاكم 1/ 6 و7، ووافقه الذهبي.
(5) 8/ 316، وإسناده صحيح.
(6) 5/ 317، وانظر " ابن حبان " (5357).(8/131)
حتى يشربها الرابعة، فإن شَرِبَها بعد الرابعة، كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال "، ولم يقل بعدها: فإن تاب تاب الله عليه.
ومفهوم الحديث أنه إن تاب في الثلاث المرار الأولة بعد الأربعين، تاب الله عليه، وإن شربها الرابعة، لم يوفق لتوبةٍ، ولذلك (1) ورد الأمر بقتله في الرابعة، ذكره غير واحدٍ من الصحابة، ذكر ابن كثيرٍ الشافعي منهم في " إرشاده " سبعة صحابة، وهم: ابن عمر، وابن عمرو، وجابر، وقبيصة بن ذؤيب، ومعاوية، وشرحبيل بن أوس، وعمرو بن الشريد، وكلها عند أحمد إلاَّ حديث قبيصة وجابر، وخرَّج ذلك أحمد وأهل السنن إلاَّ النسائي (2).
وإنما قيل: إنه نسخ، ومن حقق النظر لم يجد النسخ صحيحاً إلاَّ في وجوب قتلهم، لا في جوازه، لأنهم قالوا في الناسخ: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتي بشاربٍ بعد ذلك قد شَرِبَ في الرابعة، فخلَّى سبيله، رواه أحمد (3)، عن الزهري مرسلاً (4)، ومرسلات الزهري ضعيفةٌ، لكن رواه أبو داود من حديث الزهري عن قبيصة بن ذويب، وقال: فجلدوه ورفع القتل، وكانت رخصة. رواه أبو داود، وذكره الترمذي بمعناه (5)، وقوله: وكانت رخصة: صريح فيما أوردته (6)، والحمد لله.
ولا شك أن الإدمان ليس بكفر في ظاهر الشرع، ولكن قد يقع مع المدمن
__________
(1) في (ف): " وكذلك ".
(2) تقدم تخريج هذه الأحاديث 3/ 168 - 169.
(3) 2/ 291، وانظر " صحيح ابن حبان " (4447).
(4) " مرسلاً " ساقطة من (ف).
(5) أبو داود (4885)، والترمذي بإثر الحديث (1444)، وهو مرسل، فإن قبيصة بن ذؤيب وإن وُلِدَ على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إلاَّ أنه لم يسمع منه.
(6) في (ف): " أردته ".(8/132)
استهانة وعدم نكارة تسلب الإيمان لعدم تمكن الاستقباح (1) في القلب كما أشار إليه عثمان، وقد ثبت في حديث أبي سعيد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث النهي عن المنكر: " فمن رأى منكم مُنكراً، فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ". رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي (2)، ورواه مسلمٌ (3) من حديث ابن مسعودٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو ذلك، ولفظه: " ومن جاهدهم بقلبه، فهو مؤمنٌ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردلٍ ". وخرج الحاكم في " المستدرك " (4) على شرط البخاري ومسلمٍ عن أبي موسى مرفوعاً: " من عمل سيئةً فكرِهَها حين يعمل بها، فهو مؤمنٌ " وخرَّج أيضاً عن أبي أُمامة نحوه (5). وخرج البخاري ومسلم (6) عن عمر في خطبته في الجابية: " من سرَّته حسنَتُه وساءته سيئته، فهو مؤمن ".
ولذلك فرَّقت السنة في الوعيد بين شارب الخمر ومُدمنها، وكذلك حبرُ الأمة ابن عباس، فإنه فسَّر اللَّمم بما يُنافي الإصرار، كما ذلك معروف عنه، وأين
__________
(1) تحرفت في (ف) إلى: " الاستفتاح ".
(2) مسلم (49)، وأبو داود (1140) و (4340)، والترمذي (1172)، والنسائي 8/ 11، وابن ماجه (1275)، وأحمد 3/ 10 و20 و49 و52، وابن حبان (306) و (307).
(3) برقم (50)، ورواه أحمد 1/ 458، وابن حبان (6193).
(4) 1/ 54، ورواه أحمد 1/ 14، والبزار (79)، وفيه المطلب بن عبد الله، لم يسمع من أبي موسى، لكنه يتقوى بحديثي أبي أمامة وعمر الآتيبن.
(5) " المستدرك " 1/ 14، ورواه أيضاً أحمد 5/ 251 و252 و256، وعبد الرزاق (20104)، والطبراني في " الكبير " (7539) و (7540)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (400) و (401) و (402)، وصححه ابن حبان (176).
(6) هذا وهم من المصنف رحمه الله، فالحديث لم يروه الشيخان ولا أحدهما، إنما رواه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 102 تعليقاً، وأخرجه أحمد 1/ 18، والترمذي (2165)، والقضاعي (403)، وابن ماجه (2363)، وصححه ابن حبان (4576)، (5586) و (6728)، والحاكم 1/ 114، ووافقه الذهبي.(8/133)
ذنوب يزيد إذا نظرت في مجموعها من ذنوب المؤمنين المقرونة بالخوف والرجاء المحفوفة بالاعتراف والكراهة والاستغفار، البريئة من ذلك العلوِّ والتَّكبُّر والجهار، ثم ضُمَّ إلى ذلك أمرين أوضح منه وأقبح، وهما استحلال تلك الدماء المصونة المحرَّمة بالضرورة عن الدين يوم الطَّفِّ ويوم الحرَّة، وما أدراك ما يوم الطَّفِّ ويوم الحرَّة، ثم ما أدراك ما هما، وأين من يعرف حقيقة ما وقع فيهما، وقد جاء في التَّغليظ في القتل ما لا يخفى، وحسبُك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمى سباب المسلم فسوقاً، وقتاله كفراً. متفق على صحته (1). فهذا قتاله، فكيف قتله، ولو لم يرِد في ذلك إلاَّ قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أعان على قتل مسلمٍ بشطر كلمةٍ، جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله ". رواه ابن ماجه من حديث يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - (2).
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة [وأبي سعيد الخدري]، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دمٍ، لأكبَّهم الله في النار " (3).
وروى النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو، عنه - صلى الله عليه وسلم -: "لزوال
__________
(1) البخاري (48)، ومسلم (64). وقد تقدم تخريجه ص 33.
(2) ابن ماجه (2620)، ورواه أيضاً ابن عدي في " الكامل " 7/ 2715، والبيهقي في " السنن " 8/ 22، وابن الجوزي في " الموضوعات " 3/ 104، وقال البيهقي: يزيد بن زياد، وقيل: ابن أبي زياد منكر الحديث، وقال ابن عدي: كل رواياته مما لا يتابع عليه في مقدار ما يرويه، وضعفه الحافظ في " تلخيص الحبير " 4/ 14، ونقل هو والذهبي في " الميزان " 00/ 425 عن أبي حاتم قوله: هذا حديث باطل موضوع، وقال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: ليس هذا الحديث بصحيح، وقال البوصيري في " الزوائد ": في إسناده يزيد بن أبي زياد، بالغوا في تضعيفه، حتى قيل: كأن حديثه موضوع. قلت: قال ذلك أبو حاتم كما في " الجرح والتعديل " 9/ 163.
(3) الترمذي (1398)، وقال: هذا حديث غريب.
أي: ضعيف، لأن في سنده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف.(8/134)
الدنيا أهون على الله من قتل رجلٍ مسلمٍ" (1).
وعن المقداد، قلت: يا رسول الله، لو أن رجلاً من الكُفَّار ضربني، ثم قال: أسلمت لله، أقْتُلُهُ؟ قال: " إن قتلته، فإنك بمنزلته قبل أن يقولها ". رواه البخاري ومسلمٌ (2).
وثانيهما: المجاهرة بما علم أنه من لوازم النِّفاق من بغض أمير المؤمنين علي عليه السلام، ومن كان معه من خِيرَةِ الأصحاب من المهاجرين والأنصار وبُغض ذُرِّيَّته وأهل بيته الذين هم أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحب أهل الأرض إليه، وشَجَنَهُ في الدنيا، وعلاقة همِّه، وريحانة نفسه، وخُلاصة من بعده، فكيف إذا وقع ذلك القتل المعظَّم قليله في عامة المسلمين وقوعاً فاحشاً على أقبح الوجوه في هؤلاء الذين هم أحب الخلق إلى الله، فظهرت به المسرة والاغتباط، ووقع الإصرار على ذلك وعدم الندم والاستغفار؟! وقد صح من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من عادى لي وليّاً فقد آذنته بحربٍ " رواه البخاري (3).
فهذا في مجردِ بُغض وليٍّ منهم واحدٍ، كيف (4) ببغض طائفتين عظيمتين من خيار الأولياء، وإخافتهم في حَرَمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونصيب الحرب لهم، وسفك دمائهم، والمسرَّة بذلك، والغبطة به، والإصرار عليه؟ وقد ملك كثيرٌ من الظَّلمة أكثر مما ملك (5) يزيد، وطالت لهم المدة، ومالوا إلى الدنيا، واستغرقتهم
__________
(1) الترمذي (1395)، والنسائي 7/ 82 - 83، وقال الترمذي: روي موقوفاً، وهو أصح.
(2) البخاري (4019) و (6865)، ومسلم (95)، ورواه أيضاً أبو داود (2644)، وأحمد 6/ 3 و4 و5 و6، وابن حبان (4750)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) أخرجه البخاري (6502)، وأبو نعيم 1/ 4، والبيهقي في " الزهد الكبير " (690)، والبغوي (1248).
(4) في (ف): " فكيف ".
(5) في (ف): " أكثر مما لك ".(8/135)
الشهوات، فلم يحتاجوا إلى انتهاك محارم الإسلام، واصطلاح أهل الفضل والعلم، واستئصال شأفتهم، والتَّشفِّي بقتلهم وإهانتهم، بل عادة فجرة أهل الإسلام تعظيم أهل العلم والصلاح، وحبُّهم لله، ورجاء بركتهم، وطلب الدعاء منهم، والتَّقرُّب إلى الله بتعظيمهم، كما أن عادتهم تعظيم المساجد وسائر الشعائر، ولا سيما الحرمين الشريفين ومن سكنهما أو عاذ بهما (1)، ومن ثَمَّ فرَّق علماء السنة بين الظلمة، فأجمعوا بعد ظهور فواحش يزيد والحجاج وأمثالهما على الخروج إن أمكن عليهما وعلى أمثالهما ممن لم يبق فيه خيرٌ، ولا يمكن أن تزيد المضرة في الخروج عليه على المضرة في بقائه كما قدمنا نقل ذلك عنهم، واختلف رأيهم فيمن سوى ذلك من غير تأثيمٍ للخارج عليهم، وما روي عن ابن عمر من الإقرار بالسمع والطاعة ليزيد فلا (2) سبيل إلى أنه قاله بعد إحداث يزيد مختاراً غير متَّقٍ، وكيف لا يتَّقي وقد طلب يزيدُ الناس البيعة على أنهم عبيدٌ، وأمر بضرب رقبة من ذكر البيعة على كتاب الله، ولذلك تكلم ابن عمر في ذلك بعدما زالت التَّقيَّةُ، فروى عنه البخاري أن رجلاً سأله عن دم البَعُوض، فسأله: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال ابن عمر: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هما ريحانتاي في الدنيا " وفي رواية: " ريحانتي ".
قال ابن دحية: تفرَّد بإخراجه البخاري من طريقين في كتابين: في كتاب المناقب وفي كتاب الأدب (3).
وفي هذا (4) أعظمُ دلالة لابن عمر أنه معتقدٌ لاعتقاد كل مسلمٍ في تقبيح ما جرى إلى الحسين عليه السلام وأصحابه، وإن اتَّقى في بعض الأحوال كما اتَّقى عمارُ بن ياسر من (5) المشركين، فقال بكلمة الكفر وقلبه مطمئنٌّ
__________
(1) في (ش): " أعاذ ".
(2) في (ش): " ولا ".
(3) تقدم تخريجه ص 50 من هذا الجزء.
(4) في (ش): " ذلك ".
(5) في (ف): " عن ".(8/136)
بالإيمان (1)، بل لقد خرَّج البخاري عن ابن عمر أنه ترك الصدع بالحق تقيَّةً في أيام معاوية، دع عنك أيام يزيد، فروى البخاري (2) عنه أنه قال: دخلت على حفصة ونوساتها (3) تنطف قلت: كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل (4) [لي] من الأمر شيءٌ، فقالت: الحق، فإنهم ينتظرونك، وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقةٌ، فلم تدعهُ حتى ذهب، فلما تفرَّق الناسُ، خطب معاوية، وقال: من كان (5) يريد أن يتكلم في هذا الأمر، فليُطْلِعْ لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة: فهلاّ أجبته؟ فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول بكلمة تفرق بين الجميع، وتسفك الدم، فذكرت ما أعد الله في الجنان. رواه ابن الأثير في " الجامع " (6) في الفتن في حرف الفاء في أمر الحكمين، وخرج عنه ابن الأثير في " جامع الأصول " (7) من طريق سالمٍ أن رجلاً من أهل العراق سأله عن قتلِ محرمٍ بعوضاً، فقال: يا أهل العراق، ما أسألكم عن صغيرةٍ، وأجرأكم على كبيرةٍ، يقتل أحدكم من الناس ما لو كان كعددهم (8) سُبُحاتٍ،
__________
(1) انظر " طبقات ابن سعد " 3/ 249، و" أسباب النزول " للواحدي ص 109، و" مستدرك " الحاكم 2/ 357، و" تفسير " الطبري 14/ 181، و" تفسير " ابن كثير 2/ 609، و" الدر المنثور " 5/ 170.
(2) رقم (4108).
(3) النوسات: الذوات، وتنطف: أي: تقطر. قال الحافظ في " الفتح " 7/ 403: والمراد أن ذوائبها كانت تنوس، أي تتحرك، وكل شيء تحرك، فقد ناس، والنوس: الاضطراب.
(4) في (ش): " يخطر ".
(5) " كان " ساقطة من (ش).
(6) 10/ 93 - 94.
(7) 10/ 71، وانظر ص 40 و126 من هذا الجزء وأخرج الشطر الأخير من الحديث أحمد 5/ 362، وأبو داود (25004)، والقضاعي (878) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فذكر مثل حديث سالم عن أبيه.
(8) في " جامع الأصول ": " لي عددهم ".(8/137)
لرأيت أنه إسرافٌ، وإنا كنا نسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنزلنا منزلاً، فنام رجلٌ من القوم ففزَّعه رجلٌ، فسمع [ذلك] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " لا يحلُّ لمسلمٍ تفزيعُ مسلمٍ ".
ولعل البخاري ما خرَّج هذا (1) المعنى عن ابن عمر في مواضع في " صحيحه " إلاَّ لينفي التُّهمة عن ابن عمر بذلك، ومن كان يقدر على الكلام بذلك في ذلك العصر؟
وأحسن من هذا كله في الشهادة لابن عمر بالبراءة من موالاة أعداء أهل البيت عليهم السلام ما رواه إمام التشيع أبو عبد الله الحاكم في كتاب الفتن من " المستدرك " عن مالك بن مِغْوَلٍ، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال لرجل يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير؟ فقال له ابن عمر: مع أي الفريقين قاتلت، فقُتِلْتَ، ففي لظى. قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه (2).
قلت: فانظر إلى أئمة الحديث من الفريقين، ما أوسع معرفتهم وأكثر إنصافهم! كما أوضحت ذلك في أول هذا الكتاب عند ذكر حديث المتأولين، وظهور قرائن صدقهم، وهذا كله نقيض ما ذكره المشنِّع (3) على أهل السنة، من قوله: إنهم يصوِّبون يزيد في قتل الحسين عليه السلام، فالله المستعان.
وكذلك فرَّقت الأحاديث بين الظلمة، كما فرَّق بينهم أهل السنة، ففي الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - لما وصف لهم أئمة الجور، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة ". رواه مسلم والترمذي وأبو داود من حديث [أم
__________
(1) " هذا " ساقطة من (ف).
(2) " المستدرك " 4/ 471، ووافقه الذهبي على تصحيحه.
(3) في (ش): " المتشيع " وهو خطأ.(8/138)
سلمة] (1)، وفي حديث: " ما لم تَرَوْا كُفراً بَوَاحاً " رواه ... (2).
ولكن القوم كانوا فريقين: أحدهما قَبِلُوا صدقة الله تعالى عليهم في جواز التقية، والأُخر كرهوا الحياة وجِوار الفجرة فتعرَّضوا للشهادة، وإن لم يرجوا غيرها من زوال أولئك الظلمة.
وفي " نهاية " ابن الأثير (3): أنه عُرِضَ على الحجاج رجلٌ من بني تميمٍ ليقتله، فقال الحجاج: أرى رجلاً لا يُقرُّ اليوم بالكفر، فقال: عن دمي تخدعُني، إني أكفر من حمار -وحمارٌ رجل كان في الزمان الأول، كفر بعد الإيمان، وانتقل إلى عبادة الأوثان فصار مثلاً- فهذا مع أن الحجاج قال لقاتل الحسين: والله لا تجتمع أنت والحسين في دار. كما تقدم، فكيف يقال في أئمة أهل السنة وأهل العلم والعبادة: إنهم يُصوِّبُون من قتل الحسين عليه السلام ويعدُّونه باغياً؟ وهذا عارضٌ، والمقصود أن قتل الحسين وأصحابه وأهل الحرة واستحلال ذلك مما احتج به من كفَّر يزيد، لأن حُرمة هؤلاء في الإسلام كحرمة الزنى، وسائر الفواحش، بل أعظم، فكما أن (4) من أظهر استحلال تلك الفواحش يكفُر بلا خلافٍ، فكذلك هذا، وفي هذا أحاديث كثيرة شهيرةٌ منها: ما روى البخاري ومسلمٌ والترمذي والنسائي من حديث ابن مسعود عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " سبابُ المسلم فسوقٌ، وقتاله كفرٌ " (5).
وروى النسائي (6) عن سعد بن أبي وقاصٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوه.
__________
(1) مسلم (1854)، والترمذي (2266)، وأبو داود (4760)، وأحمد 6/ 295 و302.
(2) بياض في الأصول الثلاثة، وهو من حديث عبادة بن الصامت، وقد تقدم تخريجه ص 17.
(3) 4/ 188.
(4) " أن " ساقطة من (ش).
(5) تقدم تخريجه ص 33 من هذا الجزء.
(6) 7/ 121.(8/139)
وروى البخاري ومسلم والنسائي من حديث جرير عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا ترجِعُوا بعدي كفَّاراً يضرِبُ بعضكم رقاب بعضٍ " قال في حجة الوداع. كذا في " الصحيحين " وغيرهما (1).
وفي " جامع الأصول " (2) في الباب الثاني في أحكام الإيمان والإسلام من أول الكتاب مثل ذلك من حديث ابن عمر في حجة الوداع، رواه البخاري ومسلم (3)، وكذلك عن أبي بكرة خرّجاه أيضاً (4)، وكذلك عن ابن عباسٍ، خرجه البخاري (5)، كلُّهم بهذا اللفظ، وفي هذا التاريخ، وكرَّر عليهم في ذلك قوله: " ألا هل بلَّغت، ألا هل بلَّغت، ألا هل بلَّغت؟ " وأمر الشاهد منهم أن يبلِّغ الغائب، فقال ابن عباس في رواية البخاري فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أُمته.
وروى الترمذي (6) عن ابن عباسٍ مرفوعاً نحو المسند من غير تاريخ أيضاً، ورواه أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب أيضاً (7)، ورواه النسائي (8) من حديث ابن مسعود كلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وفي " النهاية " (9) أن الأوس والخزرج ذكروا ما كان منهم في الجاهلية، فثاب
__________
(1) البخاري (121) و (4405) و (6844) و (7080)، ومسلم (65)، وأخرجه أيضاً أحمد 4/ 358 و363 و366، والنسائي 7/ 127 - 128، وابن ماجه (1942)، وابن حبان (5940).
(2) 1/ 261 - 265.
(3) البخاري (4403)، ومسلم (66)، وانظر ابن حبان (187).
(4) البخاري (4406) و (7078)، ومسلم (1679)، وانظر ابن حبان (3848).
(5) (1739).
(6) رقم (2193)، وقال: حسن صحيح.
(7) أبو داود (4686)، والنسائي 7/ 126، وانظر ابن حبان (187).
(8) 7/ 127.
(9) 4/ 186 وقال ابن الأثير: ولم يكن ذلك على الكفر بالله، ولكن على تغطيتهم ما =(8/140)
بعضهم إلى بعضٍ بالسيوف، فأنزل الله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُه} [آل عمران: 101].
وفيها (1) عن ابن مسعودٍ: إذا قال الرجل للرجل: أنت لي عدوٌّ (2)، فقد كفر أحدُهما بالإسلام (3). وهذا شبيه بما ثبت في " الصحيحين " وغيرهما من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (4).
وخرج الحاكم في " المستدرك " عن ابن مسعود، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لو أن رجلين دخلا في الإسلام، فاهتجرا، كان أحدهما خارجاً عن الإسلام حتى يرجع الظالم " وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو من حديث الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود (5). وهذه أشياء كثيرةٌ قد احتجَّت الظاهرية من أهل السنة بأمثالها مما له تأويلٌ عند غيرهم مع (6) اعتقادها بقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّه} [الروم: 10] على أحد الاحتمالين وهو (7) أشد وعيدٍ على التَّجرِّي على الله، وهو الذي نخافه على المرجئة، فنسأل الله العافية.
__________
= كانوا عليه من الأُلفة والمودَّة. وانظر " تفسير الطبري " (7535)، و" أسباب النزول " للواحدي ص 77 - 78، و" الدر المنثور " 2/ 278 - 280.
(1) نفس المصدر السابق.
(2) في (ف): " أنت عدوي ".
(3) لم أجد هذا القول لابن مسعود في شيء من الكتب التي بين يدي، لكن أخرجه الخرائطي في " مساوىء الأخلاق " (20) عن ابن عمر بلفظ: " إذا قال الرجل لأخيه: أنت لي عدوٌّ، فقد باء أحدهما بإثمه إن كان كذلك، وإلا رجعت على الأول ". وانظر " كنز العمال " 3/ (8386).
(4) تقدم تخريجه 2/ 439.
(5) " المستدرك " 1/ 22، ورواه أيضاً البزار (2050)، وأورده الهيثمي في " المجمع " 8/ 66، وقال: رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح.
(6) في (ش): " من " وهو خطأ.
(7) في (ش): " وهذا ".(8/141)
فمن عَمِلَ بهذه الظواهر، وإن كان عند أهل السنة أو بعضهم مخطئاً، فلا يصلح منهم (1) التحامل عليه، لأنه قد وقع في مثل ذلك كثيرٌ من الصحابة والتابعين، كما قدمنا في قول عمر لحاطبٍ، وأسيد بن حضير لعبادة بن الصامت (2)، ونقل ابن دقيق العيد في " شرح العمدة " (3) أن من العلماء من كفَّر من قال لأخيه: كافرٌ.
ونُقِل عن الحسن البصري أنه قال: صاحب الكبيرة منافق، وإنه طرد ذلك استعظاماً منه أن يُصرَّ على كبيرةٍ، وظنّاً أن التصديق بالجزاء يمنع عن ذلك (4) كما يجد في نفسه رضي الله عنه.
وإنما منع أهل السنة من القول بذلك أمورٌ كثيرةٌ منها مرجحات ترك التكفير عند احتماله واحتمال سواه، وقد استُوفيت في " إيثار الحق على الخلق " (5)، فليطالع فيه، ففيها فوائد مهمة، ولكنها لا تصلح إلاَّ عند الاحتمال، وهو موضع النزاع هنا.
ومنها أحاديث النهي عن العُدول عن الظواهر إلى البواطن، كحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: بعث عليٌّ وهو باليمن بذُهَيْبَةٍ إلى رسول الله، فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله، اتق الله، فقال: " ويلك، أولستُ أحق أهل الأرض أن يتقي الله "؟ ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله، ألا أضربُ عنقه؟ فقال: " لا، لعله أن يكون يصلي " فقال خالد: وكم مِنْ مُصَلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لم أُومر أن أُنقِّبَ على قلوب الناس، ولا أشُقَّ بطونهم " رواه البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل (6).
__________
(1) " منهم " ساقطة من (ش).
(2) انظر ص 126.
(3) 4/ 77.
(4) " عن ذلك " ساقطة من (ف)، وفي (د): " من ذلك ".
(5) انظر ص 425 وما بعدها.
(6) تقدم تخريجه 1/ 232.(8/142)
وعن عُبيد الله (1) بن الخيار، عن رجل من الأنصار حدثه أنه أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في مجلس يُسَارُّهُ يستأذنه (2) في قتل رجلٍ من المنافقين، فجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " أوليس يشهد أن لا إله إلاَّ الله "؟ قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له، فقال: " أليس يشهد أن محمداً رسول الله "؟ فقال: بلى، ولا شهادة له، فقال: " أليس يصلي "؟ قال: بلى، ولا صلاة له، فقال: " أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم ". رواه أحمد والشافعي في " مسنديهما " (3).
ولهذا شواهد في " السنة " كثيرةٌ، لا حاجة إلى التطويل ببسطها، وهو قول الإمام أحمد بن عيسى بن زيدٍ عليهما السلام، نصَّ عليه كما سيأتي بيانه، وعَضَّدَ هذا من الأثر أن خوف الخطر من العقوبة، وأن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة (4)، وأن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام تمكن من جماعة ممن حاربه في صِفِّين والجمل وغيرهما، فلم يَسِرْ فيهم سيرة الكفار بإجماع النقلة وإجماع العترة والأمة، فدل على أنه لم يعتقد نفاقهم، وأنه لو اعتقد ظاهر الحديث: " أنه لا يبغضه إلاَّ منافق " (5)، والنفاق الأكبر فمن حاربه أنه يبغضه. وأنه منافقٌ مُظهرٌ للنفاق الذي هو بغضه عليه السلام، ومظهر النِّفاق يجب أن يُسار فيه سيرة الكفار، لا سيرة البغاة، لقوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} [التوبة: 73]، وقد علم منه المنع من السَّبي وتعظيم عائشة عند القدرة، وكذلك عمار، وكذلك عمل الحسين بن علي في صلحه (6) وحديث الثناء عليه بذلك مع صحته وشهرته، إلاَّ أن يقال: البغض لا يعلم من المحارب، وهذا مردود، فإنه أكثر من البغض، وفي الصحيح: "سباب المسلم
__________
(1) تحرف في (ش) و (ف) إلى: " عبد الله ".
(2) في (ف): فاستأذنه.
(3) الشافعي 1/ 13 - 14، وأحمد 5/ 432 و433، وأخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 171، وصححه ابن حبان (5971)، والحافظ في " الإصابة " 2/ 337.
(4) انظر ص 20 ت (4).
(5) تقدم تخريجه.
(6) في (ش): " مصالحة معاوية ".(8/143)
فسوقٌ، وقتاله كفرٌ" (1)، والسِّباب من أمارات البغض بالاتفاق، والحرب أعظم منه.
أو يقال: إن محاربه منافقٌ مستور، لا يجب الحكم بنفاقه، فهذا -على تسليمه- يعود حجةً للخصم، ثم إن أهل البيت قبلوا رواية المتأولين ممن حاربه كالخوارج (2)، وادَّعَوُا الإجماع على ذلك، كما ذكره المنصور بالله، وقد تقدم أول الكتاب مبسوطاً، وليس هذا حكم المنافقين، فيمكن أن يكون هو في ذلك العصر، كمُبغضِ الأنصار من المنافقين، ويمكن أن يكون نفاقٌ دون نفاق، كما قد صحَّ كفرٌ دون كفر، وإيمانٌ دون إيمانٍ بالنصوص والاتفاق في بعضها مثل كفر النساء، أي: كفر العشير (3)، ويؤيده أنه قد ثبت أن من كان إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان، فهو منافقٌ كامل النِّفاق (4)، ومع ذلك (5) لم يحكم له بالنِّفاق الأكبر، مع تأكيد نفاقه بالكمال، ويوضحه (6) أنه نفاقٌ يتجزّأ، والنِّفاق الأكبر لا يتجزّأ، ويوجب التأويل مع ذلك من العقل أنا نعلم من القرائن الضرورية أن الخوارج ما كانوا بأجمعهم يُضمرون تكذيبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيب المعاد وصحة الشِّرك ونحو ذلك، ويقوِّيه أنه قد ثبت تأويل صدر (7) الحديث الأول، وهو أنه لا يحبه إلاَّ مؤمن، فإن الذين عبدوه وأشركوا بالله في ذلك كانوا يحبونه بالضرورة، وقد كفَّرهم وحرَّقهم بالنار، وكذلك من يحبه من الكفرة كالباطنية.
فإن قيل لعله يختم لهم بخير.
قلنا: ليس الكافر يُسمى مؤمناً إذا كان يُختَمُ له بخير، والذين قتلهم عليٌّ عليه السلام وحرَّقهم على عبادته لم يُختم لهم بخيرٍ، وليس تأويل الحديث
__________
(1) تقدم غير مرة.
(2) في (ش): " من الخوارج ".
(3) انظر 2/ 162 و4/ 199.
(4) انظر ص 111 من هذا الجزء.
(5) في (ف): " ولذلك ".
(6) في (ف): " ويؤيده ".
(7) في (ش): " شطر ".(8/144)
بأبعد (1) من ارتكاب القطع بأن ملاحدة الباطنية يُختم لجميعهم بالخير، أو ينكر المعلوم مِنْ تعظيمهم له وحبِّهم، والقرائن شاهدةٌ بذلك، والحكم للظاهر، فهذه أدلة أهل السنة أو بعضها من الأثر.
قالوا: وما المانع من تأويل علي ما يوافق تعظيمه عليه السلام وسائر أفعاله، وقد وجب تأويل كثيرٍ من كتاب الله وسنة رسوله فإجماع العترة والأربعة مع الإنصاف، وتعظيمه عليه السلام، وعدم الميل والجَنَفِ، ومراقبة الله في ذلك كله. وبعد ذلك من النظر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤيد بالعصمة فيما حكم به على بعض من تقدم من النفاق ونحوه، وإن لم يُسند ذلك إلى الوحي، فلا شك أنه معصومٌ فيما فعله، وإن استند إلى الاجتهاد، وعند الفريق الأول أن امتناعه من إجراء أحكام المنافقين في حديث أبي سعيدٍ ونحوه إنما هو لمصالح ظاهرةٍ، كقوله في الملاعنة: " لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن " (2)، وقالوا: ليس ذلك بنافع لهم، كما أنه صلى - صلى الله عليه وسلم - على عبد الله بن أبي بن سلولٍ لمصلحةٍ، واستغفر له، وإن لم يكن ذلك نافعاً له (3).
ومن أحسن ما احتج به أهلُ السنة في كراهة سبِّ الفجرة، مع اعتقاد فجورهم، أحاديث النهي عن سبِّ الموتى، فإنهم قد أفضوا إلى ما عملوا (4)، لأنها خاصة، لم تُعارَضْ إلاَّ بالعمومات، ولكن معناها في أهل الفجور، وإن سلّم أنها تعمُّ أنهم قد وقعوا في اللعنة والعذاب، فلا معنى لسؤال ذلك، لأنه بمنزلة تحصيل الحاصل، فكان كقول القائل:
وهذا دعاء لو سكتُّ كُفيتُه ... لأنِّي سألتُ الله ما هو فاعلُ
__________
(1) في (ف): " بأعظم ".
(2) تقدم تخريجه.
(3) انظر " البخاري " (1366) و (4671)، و" أحمد " 1/ 16، و" الترمذي " (3097)، و" النسائي " 4/ 67 - 68، و" ابن حبان " (3176).
(4) انظر 5/ 305.(8/145)
فعلى العالم بأحوالهم أن يعتقد أن سكوته عن لعنهم لهذه العلَّة، لا لأجل الحرمة، ولكن لما وقعوا في المطلوب باللعن لم نطلب الحاصل، الذي اللَّعن وسيلةٌ إليه، كما أنهم لا يقاتلون بعد موتهم، لأنَّ القتال دفعٌ لشرورهم، وقد بطلت، وبقي في اللعن لهم مفاسد في بعض الأزمان والأحوال خالية عن المصالح، وهي أذى الأحياء، كما أشارت إليه الأحاديث أو غير ذلك.
والقصد بالتطويل في هذا الإصلاح بين الفريقين: الشيعة والسنة، الذين قد اتفقوا على قبح أفعال هؤلاء الفجرة، فإنها قد تقع بينهم عصبيةٌ قبيحةٌ من غير موجبٍ أو بين بعضهم.
والمراد أن الشيعي يحمل من خالفه في الولع بالسَّبِّ الكثير لهؤلاء على ما يحمل عليه إبراهيم الخليل، حيث جادل عن قوم لوطٍ الذين لا أخبث منهم مع الكفر العظيبم، وتكذيب الرسل، فما منع ذلك الخليل من الجدال عنهم، حِلماً ورحمةً ورقةً (1) وسعة رجاءٍ في عظيم رحمة الله سبحانه وتعالى، لا محبة (2) لما هم عليه من الخبائث، ولذلك مدحه الله على ذلك بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيب} [هود: 75]، وعلى ما يحمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته على ابن أبي بن سلول واستغفاره له، ويحمل السُّنِّي الشِّيعي حين يرى ولعه بسبِّهم (3) على أنه غضب لله، وحمله على ذلك البغض في الله الذي هو من الإيمان، كما بوَّب عليه البخاري في كتاب الإيمان من " الصحيح " (4). وعلى ذلك دعا نوحٌ على قومه، فقال: {ولا تَزِدِ الظالمين إلاَّ ضَلالا} [نوح: 24]، وقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، إلى قوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 26 - 28]، وعلى ما حملوا عليه عمر بن الخطاب في قوله لحاطبٍ
__________
(1) في (ش): " ورأفة ".
(2) في (ش): " محبته ".
(3) في (ش): " لسبهم ".
(4) كتاب الإيمان، الباب الأول. انظر " الفتح " 1/ 45.(8/146)
وأسيد بن حضير في قوله لسعد بن عبادة، والحسن البصري في قوله بنفاق صاحب الكبيرة.
ولاختلاف المسلمين والصالحين (1) في هذه الطبيعة أثرٌ عظيمٌ مرجِّحٌ لمن غلب عليه ما وافق طبع صاحبه من الأدلة وصاحبه لا يشعر بأنه المرجح لذلك، ومن هنا اختلف الحسن بن علي عليهما السلام وأصحابه أو أكثرهم في استحسان صُلْحِهِ لمعاوية، حتى دعوه -حاشاه- مسوِّدَ وجوه المسلمين، ومُذِلَّ رقاب المؤمنين، كما هو معروفٌ في كتب التاريخ، ومن هنا كره كثيرٌ من الصحابة صُلح الحديبية، حتى قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه -على جلالته-: ما شككت في الإسلام إلاَّ يومئذ (2). ثبت ذلك عنه في " الصحيح ".
فليحذر العارف مثل ذلك أعني أن يظن ما ثبث في قلبه من قوة الأمن
__________
(1) " والصالحين " لم ترد في (ف).
(2) هذه الجملة قطعة من حديث مطول أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه " (9720) عن معمر، عن الزهري، عن عروه بن الزبير، عن مسور بن مخرمة ومروان بن الحكم.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " (4872) والبيهقي في " دلائل النبوة " 4/ 99 - 8 - 1 من طريق عبد الرزاق بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري (2731) و (2732)، وأحمد 328، والبيهقي في " السنن " 9/ 218 - 221 من طريق عبد الرزاق به. لكن لم ترد عندهم هذه الجملة.
قلت: قال السهيلي في " الروض الأنف " 4/ 37 تعليقاً على قول عمر هذا: وفي هذا أن المؤمن قد يَشُكُّ، ثم يُجَدِّدُ النظر في دلائل الحق، فيذهب شَكُّه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: هو شيء لا يسلم منه أحد، ثم ذكر ابن عباس قول إبراهيم عليه السلام: {ولكن ليطمئن قلبي} والشك الذي ذكره عمر وابن عباس: ما لا يُصِرُّ عليه صاحبه، وإنما هو من باب الوسوسة التي قال عليه السلام مخبراً عن إبليس: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة.
قلت: وفي رواية ابن إسحاق كما في " سيرة ابن هشام " 3/ 331: فكان عمر يقول: ما زلت أتصدَّق وأصوم وأصلي وأعتِقُ من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به حتى رجوت أن يكون خيراً.(8/147)
شريعة، وإنما هو طبيعة، ومِنْ أعجبِه وأوضحِه قضيَّة موسى والخضر، ولاختلاف الناس في ذلك قال علي عليه السلام: لا تحدثوا الناس بما لا تحتمله عقولهم، أتحبُّون أن يكذب الله ورسوله؟! رواه البخاري (1).
ولا آمَنُ أن يكون في كتابي هذا شيء من هذا بالنسبة إلى بعض الناس، فالله المستعان.
وفي حديث عبد الله بن مسعود وقد حكى اختلاف الصحابة في يوم بدرٍ فيما يصنع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لَيُلِينَ قلوب رجالٍ فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليُشَدِّدُ قلوب رجالٍ فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: {وَمَنْ عَصَانِي فإنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 26]، وكمثل عيسى قال: {وإن تغفر لهم فإنك أنت العزير الحكيم} [المائدة: 118]، وإن مَثَلَكَ يا عمر كمثل نوحٍ قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، وكمثل موسى قال: {ربنا اطمس على أموالهم واشدُدْ على قلوبهم} ... الآية إلى: {العذاب الأليم} [يونس: 88]، وهو من حديث ولده أبي عُبيدة رواه أحمد (2)، وهو الحديث العشرون من " جامع المسانيد ".
وكذلك حربُ علي وصلح الحسن عليهما السلام وعلي أفضل من الحسن (3) بالإجماع، وقد صح الخبر بالثناء على فعل الحسن بالسِّيادة في فعله، وقد سُئِلْتُ عنه، فوقع لي -والله أعلم- أنه يحتمل أن فعل كل واحدٍ منهما
__________
(1) تقدم تخريجه 3/ 350.
(2) أحمد 1/ 383 - 384، ورواه أبو يعلى (5187)، والطبراني في " الكبير " (10258)، وصححه الحاكم 3/ 21 - 22، ووافقه الذهبي! مع أن أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود لم يسمع من أبيه. وذكره الهيثمي في " المجمع " 6/ 86، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني، وفيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات.
(3) " من الحسن " ساقطة من (ش).(8/148)
كان هو الأولى بالنظر إلى زمانه، ومراد الله تعالى في عقوبة من عاقبه بذلك أو رحمه، على أنها لا تخلو العقوبة من الرحمة، كالحدود، كما تقدم في الحدود عن علي عليه السلام وعن عبادة، وكذلك قد اختلف طرائق السلف ومن بعدهم، خرَّج أبو داود في ذلك حديث عمرو بن أبي قرة، قال: كان حذيفة بالمدائن، وكان يذكر أشياء قالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق أناس ممن سمع (1) ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان، فيذكرون له ذلك، فيقول: حذيفة أعلم بما يقول، وأتى حذيفة سلمان، فقال: ما يمنعك أن تصدقني؟ فقال سلمان: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغضب، فيقول في الغضب لناس من أصحابه، ويرضى، فيقول في الرضا لناسٍ من أصحابه، ثم قال لحذيفة: أما تنتهي حتى توقع اختلافاً وفُرقةً، ولقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب، فقال: " أيُّما رجل من أُمتي سببته سبةً أو لعنته لعنةً في غضبي، فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة ". والله لتنتهينَّ أو لأكتُبَنَّ إلى عمر. رواه أبو داود وخرجه ابن الأثير في " الفتن " (2)، ورجاله ثقات، رواه في السنة (3)، عن أحمد بن يونس، عن زائدة بن قدامة الثقفي، عن عمر بن قيسٍ بن الماصر، عن عمرو بن أبي قرة، عن سلمان -واسم أبي قرة سلمة- (4).
ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أيُّما رجلٍ من أمتي سببته ... " .. إلى آخر الحديث شواهد كثيرةٌ عن أبي هريرة وجابرٍ وأنسٍ وعائشة وقد تقدم الكلام عليها (5).
وهذا كالتفسير لما رواه ضمرة بن حبيبٍ، عن زيد بن ثابتٍ، عن رسول الله
__________
(1) في (ش): " يسمع ".
(2) من " جامع الأصول " 10/ 60.
(3) تحرف في (ش) إلى: " السند ".
(4) أبو داود (4659)، وسنده قوي، ورواه أيضاً أحمد 5/ 437، والطبراني (6156).
من طريقين عن زائدة بن قدامة بهذا الإسناد.
(5) انظر ص 91 و92 من هذا الجزء.(8/149)
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حديث طويل: " اللهم ما صليتُ من صلاة فعلى من صلَّيتُ، وما لعنت من لعنةٍ، فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفَّني مسلماً وألحقني بالصَّالحين ". رواه أحمد والحاكم في " المستدرك " (1).
والمراد أن لا يتيع كل أحدٍ عورة أخيه ويحمله على شرِّ المحامل، فإن هذا هو الذي أفسد الدين والدنيا، فالله المستعان.
وإنما يجب منهم الجميع التأثيم لمن حسَّن ما فعله يزيد (2) وأمثاله ورضي بذلك، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ومن أنكر فعله بقلبه، فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع " (3).
فأمَّا حين أجمعوا على فجور يزيد وفُسوقه وخروجه عن ولاية الله إلى عداوته، وإنما اختلف اختيارهم (4) في الاستكثار (5) من لعنه لغرضٍ صحيحٍ، فإنه صار مثل إجماعهم على أن الصلاة خير موضوعٍ وإنِ اختلفوا في الاستكثار (5) منها، فهذا شيءٌ لا يصلح أن يُفرِّق الكلمة، وقد نهى الله سبحانه عن التفرق في كتابه الكريم، فوجب بذل الجهد والتَّوسُّل إلى عدمه بكلِّ
__________
(1) أحمد 5/ 191، والحاكم 1/ 516 - 517، والطبراني في " الكبير " (5803) و (4932). وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر (يعني ابن أبي مريم الغساني) ضعيف، فأين الصحة؟! وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 113، وقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثقوا، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف. قلت: وفي الإسناد الآخر عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف أيضاً لسوء حفظه.
(2) في (ش): " فعل يزيد ".
(3) رواه أحمد 6/ 295 و302 و305 و321، ومسلم (1854)، وأبو داود (2266) و (4760) من حديث أم سلمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا، ما صلُّوا ".
(4) في (ش): اختبارهم، وهو خطأ.
(5) تحرف في (ش) إلى: " الاستنكار ".(8/150)
ممكنٍ، ولذلك صنَّف محمد بن منصورٍ الكوفي في ذلك كتاب " الجملة والأُلفة "، ونقل فيه من أقاويل أهل (1) البيت عليهم السلام ما يكفي ويشفي، كما قررته في هذا الكتاب في مسألة القرآن من الكلام على مذهب أهل السنة في الصفات وسائر الاعتقاد (2).
فتقرر بما ذكرنا عن الفريقين أن يزيد لا يُطلق عليه اسم الإيمان الشريف من غير تقييدٍ عند أحدٍ من الفريقين، ولا يدخل فيما يختصُّ به أهل الإيمان على سبيل التشريف لهم من التَّرحُّم والاستغفار الذي خُتِمَت به الصلاة، ويؤيد ذلك قولُه تعالى في صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {ويؤمِنُ للمؤمنين} [التوبة: 61]. أي: يُصدِّقهم، ويقبل روايتهم، وهذا يفيدُ توثيقهم وعدالتهم، ويزيد مجروح العدالة إجماعاً أما عند (3) الشيعة والمعتزلة فظاهرٌ، وأما عند أهل الحديث، فنصَّ على ذلك أئمتهم، كالشافعي ومالكٍ وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة كما قدمنا إسناد ذلك عنهم إلى العلامة الفقيه المحدِّث علي بن محمد الملقب عماد الدين كما أورده ابن خلِّكان في " تاريخه " المشهور في ترجمته، وكذلك ذكر ما يقتضي ذلك المتأخِّرون منهم، كالخطابي وأبي محمد بن حزم وابن دِحية، ونص عليه الذهبي الشافعي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " الذي هو عمدتهم اليوم في نقد الرِّجال.
ومما يدلُّ على ذلك أن من كان مؤمناً على الإطلاق، لم يَجُزْ لعنه ولا قتله ولا إهانته ولا أذاه، وأهل الفسوق والكبائر يجوز على بعضهم جميع ذلك، ويجوز على بعضهم بعض ذلك وقد تقدم دليل (4) جواز لعنهم وبقية هذه الأحكام تجوز عليهم في بعض المواضع بالإجماع، فلا حاجة إلى التطويل بذكر الحجة (5) على ذلك.
__________
(1) في (د) و (ف): " ونقل فيه عن أهل البيت ... ".
(2) هنا بياض في النسخ الثلاثة بمقدار أربعة أسطر.
(3) " عند " ساقطة من (د) و (ش).
(4) " دليل " ساقطة من (ش).
(5) في (ش): " في الحجة ".(8/151)
الوجه الثاني: إن دخول يزيد في عموم قوله تعالى: {ألا لَعْنَةُ الله على الظالمين} [هود: 18] وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله من أحدث حدثاً ومن آوى محدثاً " (1). وفيما رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله المتسلِّطَ بالجبروت ليُعِزَّ من أذل الله ويذلَّ من أعز الله، لعن الله المستحل ما حرَّم الله من عترتي " (2) أقرب من دخوله في قول المصلين: اللهم اغفر للمؤمنين أو مساوٍ له، فكيف يجوز القطع بخروجه عن لعن الظالمين ودخوله في الاستغفار للمؤمنين؟ فما أبعدها لمن تأمل غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من عصى الله تعالى دون معاصي يزيد مثل غضبه على من وسم وجه الحمار حتَّى لعنه، ولعن الواشِمَة والنَّامِصَةَ، ومن أمَّ قوماً وهم له كارهون، ومن آوى محدثاً ونحوهم.
الوجه الثالث: أن الدعاء المشروع في الصلوات يحتمل أنه دعاء تشريفٍ وتعظيم، وهو نظير الدُّعاء للخلفاء الراشدين على المنابر، والفاسق لا يستحق ذلك، فكما أنه لا يحسُن ذكر الجبابرة من سُفَّاك دماء المسلمين مع الخلفاء الراشدين بالترحم والاستغفار، فكذلك لا يحسُنُ ذكر الفُجَّار والفُسَّاق بذلك في الصلاة عقيب ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر آله وأزواجه وذرياته وإبراهيم خليله وآله صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد ذكر الفقهاء هذا في كراهة الصلاة والسلام على غير الأنبياء من المؤمنين كما ذكر النووي في " الأذكار " (3). وقد كره النبي - صلى الله عليه وسلم - النظر إلى وحشي قاتل عمه حمزة بعد إسلام وحشي، وقال له: " إن استطعتَ أن لا أراك " (4)، فهذا في حقِّ التائب من قتل عمِّه، كيف المصر على قتل ولده؟
فإن قلت: ويحتمل أنه دعاءُ رحمةٍ لعصاة المسلمين وشفاعةٍ وإغاثةٍ.
__________
(1) صحيح، تقدم تخريجه ص 89 من هذا الجزء.
(2) تقدم تخريجه 6/ 467.
(3) ص 195.
(4) قطعة من حديث مطول أخرجه أحمد 3/ 501، والبخاري (4072)، وابن حبان (7017)، وانظر تمام تخريجه فيه.(8/152)
قلت: مع احتمال الوجهين، يمتنع القطع بتعيُّنِ أحدهما دون الآخر فيمتنع القطع بإرادة يزيد وجميع النواصب والروافض وأمثالهم وقصدهم شرع ذلك، والله أعلم، بل في " الصحيح " ما يدل على أنه دعاء تشريفٍ، وذلك ما ثبت في حديث ابن مسعودٍ المتفق على صحته، وفيه: وذكر عند قوله وعلى عباد الله الصالحين: فإنكم إذا فعلتم ذلك، فقد سلَّمتم على كل عبدٍ لله صالحٍ في السماء والأرض " (1)، فاختياره في التَّشهُّد لتعيين الصالحين بالذكر ونصه عليهم بوصفهم المميِّز لهم عمَّن هو أحوج منهم إلى ذلك من المذنبين من أهلِ الإسلام، دليلٌ إلى ذلك.
ويشبهُه قول الملائكة عليهم السلام مما (2) حكى الله عنهم: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا} الآية [غافر: 7].
فإن قلت: الاستغفار لأهل المعاصي من المسلمين جائزٌ عند أهل السنة، فَلِمَ منعت من دخول أهل المعاصي في قول المصلي؟
قلت: لما بينته من تجويز أنه موضع تشريفٍ وتعظيمٍ للمذكور فيه مقروناً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذريته، فلا يقطع أن يكون هذا المشرَّف المعظَّم هو المُحْدِثُ الذي لعنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " لعن الله من أحدث حدثاً " وأمثاله مما مضى ذكره، وأما الاستغفار للعُصاة على غير هذا الوجه، فيجوز عند أهل الحديث والفقهاء، ولا يجوز عند بعض الشيعة والمعتزلة.
وذكر الحجج في المسألة مما لم تَعرِض إليه حاجةٌ هنا، ويوضِّح ذلك ما رواه مسلم وأبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه في قصة رجم ماعزٍ لما أقرَّ بالزِّنى فِراراً من غضب الله، وطلباً لمرضاته ببذل الرُّوح، وفي الحديث
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 431، والبخاري (831) و (835)، ومسلم (402)، وابن حبان (1948) و (1950)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) في (ف): " كما ".(8/153)
مع هذه التوبة العظيمة، فما استغفر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سبَّه. هذه رواية مسلم، وفي رواية لأبي داود: ذهبوا يسبُّونه، فنهاهم، قال: ذهبوا يستغفرون له فنهاهم، قال: " هو رجلٌ أصاب حسيبُه الله " (1).
فانظر كيف نهى عن الاستغفار لهذا الرجل مع بذله روحه لصدق توبته، كل هذا لزجر الخلق عن المعاصي، ولذلك خرَّج مسلم في هذا الحديث أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بعد رجمه، وقال في خطبته: " أو كُلَّما انطلقنا غُزاةً في سبيل الله تخلَّف رجلٌ في عيالنا له نبيبٌ كنبيب التَّيس؟ ألا لا أُوتى برجُلٍ فعل ذلك إلا نَكَّلْتُ به " فكيف يقال بعد هذا: إنه في صلاته مشغولٌ بالاستغفار للمُصِرِّين على الفواحش؟ وهذا إغراءٌ لأهل الفواحش وتأنيسٌ لهم، وهو يناقض ما وردت به الشرائع من قطع الذرائع إلى الفساد والله أعلم.
وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترك الصلاة على من عليه دينٌ، ولم يترك له قضاء، وذلك (2) لما في الصلاة عليه من الاستغفار له والإيناس، هذا مع أنه أخذ مال الغير برضاه، فكيف بدماء المسلمين ونفوسهم عمداً وعبثاً وجُرأةً؟ وأحاديث الدَّيْنِ صحيحةٌ شهيرةٌ، منها: عن أبي هريرة وخرجاه والترمذي والنسائي (3).
وعن سلمة بن الأكوع عند البخاري والنسائي (4)، وعن أبي قتادة عند الترمذي والنسائي (5).
__________
(1) انظر 1/ 260.
(2) " وذلك " ساقطة من (ف).
(3) البخاري (5371) و (6731)، ومسلم (1619)، والترمذي (1070)، والنسائي 4/ 66، ورواه أحمد 2/ 453، وابن حبان (3063)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) البخاري (2289) و (2295)، والنسائي 4/ 65، ورواه أيضاً أحمد 4/ 47 و50، وابن حبان (3264).
(5) الترمذي (1069)، والنسائي 4/ 65، وابن ماجه (2407)، وأحمد 5/ 297 و311، وصححه ابن حبان (3058) - (3060).(8/154)
وكذلك حديث الثلاثة المخلَّفين، وهو متفق عليه (1) وهذا كلُّه لما في التخويف قبل الموت وخطوره من المصلحة، وأما ما خرَّجه البخاري من حديث أبي هريرة، والنسائي وأحمد من حديث عمران بن حذيفة عن ميمونة (2)، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أخذ أموال الناس يريد قضاءها، أدَّى الله عنه " (3).
وزادت ميمونة " في الدنيا والآخرة، ومات على ذلك ".
وأما ما خرج مسلم وأبو داود من حديث بريدة عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالصلاة على العامرية، وقال: " لقد تابت توبة لو تابها صاحِبُ مَكْسٍ، لغُفِرَ له " (4).
وكذلك أخرج مسلم وأبو داود حديث بريدة أنه - صلى الله عليه وسلم - جلس بعد يومين أو ثلاثة، فقال: " استغفروا لماعزٍ، لقد تاب توبةً لو قسمت بين أُمتي لوسِعَتْهُم " (5).
فهذا حجة لما ذكرت (6) أنه استغفارٌ شريفٌ، لأن التائب المخلص مغفورٌ له فصحَّ أنه لا يُستحبُّ الاستغفار لأهل الإصرار المغصوب عليهم، خصوصاً ظلمة المسلمين وقاتلي الصالحين.
الوجه الرابع: أنهم لو كانوا داخلين في ذلك العموم، لَحَسُن ذكرُهم بالنَّصِّ على أسمائهم وأوصافهم، إمَّا في الصلاة، أو عقيب كل صلاةٍ، وكان يلزم أو يُستحبُّ للإنسان أن يترحَّم ويُرَضِّي في كل صلاةٍ أو عقيب كلِّ صلاة على قاتل عمر وقاتل عثمان وعلى من لعن أبا بكر وعمر من الروافض، وعلى جميع سَفَلَةِ
__________
(1) انظر البخاري (4418)، ومسلماً (2769)، وابن حبان (3370).
(2) في الأصول: وأما ما أخرجه البخاري من حديث عمران بن حذيفة، والنسائي وأحمد من حديث ميمونة، وهو خطأ.
(3) أخرجه البخاري (2387)، وحديث ميمونة أخرجه أحمد 6/ 32، والنسائي 7/ 315، وكذا أخرجه ابن ماجه (2408)، وابن حبان (5041).
(4) تقدم تخريجه 1/ 260.
(5) تقدم تخريجه 1/ 260.
(6) في (ش): " على ما ".(8/155)
العُصاةِ من الفاعلين والمفعول بهم المتشبهين (1) بالنساء الذين لعنهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويَقْرُنَهُمْ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويُسميهم بأوصافهم الخبيثة، ويذكرهم في الصلوات والخطب والمجامع الشريفة، فيقول القائل في الصلاة أو خطيب (2) الجمعة: اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعلى من قال لا إله إلاَّ الله ممن أحدث حدثاً، أو آوى محدثاً أو غيَّر منار الأرض، أو لعن والديه، أو تشبَّه بالنساء، وأُتي كما تُؤتى النِّساء، أو قتل وليّاً لك، أو انتهك محارمك، وتعدَّى حُدودَك، وضيَّع عُهودك، ويستمرُّ على ذلك وعلى التَّرحُّم على من سبَّ (3) الصديق والفاروق رضي الله عنهما، والمعلوم أن ذلك قبيحٌ، لأنهم ليسوا أهلاً لاستحقاق ذلك، ولِما يؤدِّي إليه من التُّهمة بالرفض، فكذلك الترحم على قاتلِ عليٍّ عليه السلام، وقاتل الحسين وسابِّهما قبيح لمثل ذلك.
الوجه الخامس: أنه لا يجوز أن يلعن والدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد كلِّ صلاةٍ، ولا كل خُطبة، ولا في بعض الأحوال، لما في ذلك من سُوء الأدب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل لا يجوز أن يُؤذي مؤمنٌ بمثل ذلك في والديه، وإن علم موتهما كافرين، لأن أذيَّة المؤمن حرامٌ، فكذلك لا يجوزُ أن يؤذى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته ومحبُّوهم (4) من صالحي المؤمنين بالترحم على يزيد، وإن فرضنا أن الترحم على الفُسَّاق جائزٌ، ولو أن بعض الجبارين قتل ولدَ بعض المومنين عدواناً، وكان الترحم على القاتل يؤذي ذلك المؤمن لَحَرُمَ أذاه بذلك، فتأمل ذلك.
وحاصله أن المُباح قد يقبح لما يقترن به من المفاسد، ولذلك قال الله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، ومعناهما واحد، وأمثالُ ذلك كثيرةٌ، فهذا في حقِّ من يستبيحُ ذلك، فكيف بذلك في حقِّ مَنْ لا يستبيحه؟
__________
(1) في (ش): " من المتشبهين ".
(2) في (ف): " أو في خطبة الجمعة ".
(3) في (ش): " يسب ".
(4) في (ف): " ومحبيهم "، وهو خطأ.(8/156)
الوجه السادس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو كان حياً، لعظُم حزنُه على ولده (1) الحسين عليه السلام، كما عَظُمَ حزنه على عمه الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فكره النظر إلى وجه قاتله بعد إسلامه من بين سائر من أسلم من الكفار، وقال: " لكنَّ الحمزة لا بَواكِيَ له "، فبكته نساء الأنصار (2)، بل الشفقة على الولد أعظم، والقلب له أرق وأرحم، والمعلوم أنه لو حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكان العزاء في الحسين عليه السلام إليه، فانظر أيها المنصف: هل يحسن من المُعزِّي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشتغل بالترحم والاستغفار لقاتل الحسين مواجهاً بذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فمن كان يستحسن هذا في الأدب أو الشرع أو العقل، فليس من المميزين، ومن كان يستقبح ذلك، فليتأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد موته كما يتأدب معه في حياته، ويتصوَّر أنه في حضرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحضرة يزيد الخبيث، ورأس الحسين مقوَّرٌ مشوَّهٌ منصوبٌ على عُودٍ، ويزيد يضحك ويستبشر، فكيف يستطيع مسلم في هذه (3) الحال أن يواجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالترحم والترضية على يزيد، وهي حالة غضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجهين:
أحدهما: لِمَا فيها من عظم عصيان الله بقتل سيد شباب أهل ولايته في جنته.
وثانيهما: لما فيها من الاستهانة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتعدِّي على ولده وريحانته، فكيف يقول بعد هذا: إنه يُستحب أن يقرن في كلِّ صلاه بين ذكرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر ذريته الذين أوجب الله وُدَّهُم، وذكر أعدى عدو لله ورسوله، قاتل سلفه، وسلف سلفه، وثالم أمر أُمته بعد استقامته بنصِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،
__________
(1) " ولده " ساقطة من (ف).
(2) حديث حسن أخرجه أحمد 1/ 40 و84، وابن سعد 3/ 17، وابن ماجه (1591)، والحاكم 3/ 194 - 195 من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن نافع، عن ابن عمر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وكذا صححه ابن كثير في " تاريخه " 4/ 49 على شرط مسلم، مع أن أسامة بن زيد روى له مسلم في الشواهد، وهو حسن الحديث.
(3) في (ش): " هذا ".(8/157)
ولقد توجَّع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يزيد قبل وجوده، وتأوَّه مِنْ قتلِه لِسلفِه كما ورد في الحديث (1).
رحم الله مسلماً غَضِبَ لغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشاركه في حزنه على ولده، ولَزِمَ الأدب بترك الترحم على عدو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فهذا الكلام انسحب على سبب ذكر مذاهب أهل الحديث في خلافة الجائر، وأنهم يقولون بجواز الخروج على مثل يزيد والحجاج، وإنما اختلفوا في الخروج على من تكون المفسدة في الخروج عليه أعظم من الفساد في ظلمه.
والكلام في يزيد في هذه المسألة لا يحتمل التطويل في أكثر الأزمان والبلدان، ولكن احتجت إليه في زماني ومكاني، ولن يخلو من فائدة إن شاء الله تعالى (2)، وبهذا تم الكلام في الفصل الثاني.
وقال الذهبي في " النبلاء " (3) في ترجمة زيد بن علي عليه السلام: خرج متأوِّلاً، وقتل شهيداً رحمه الله (4).
__________
(1) انظر ص 35 و97 من هذا الجزء.
(2) من قوله: " والكلام في يزيد " إلى هنا سقط من (ف).
(3) 5/ 391.
(4) جاء في هامش الأصول الثلاثة ما نصه:
وفي " العبر " (1/ 118) للذهبي في سنة إحدى وعشرين ومئة: قتل زيد بن علي بن الحسين بن علي عليهما السلام بالكوفة، وكان قد بايعه خلقٌ كثير، وحارب متولِّي العراق يوسف بن عمر، فظفر به يوسف، وبقي مصلوباً أربع سنين، ولما خرج أتاه طائفة كبيرة وقالوا: تبرّأ من أبي بكر وعمر حتى نبايعك. فقال: بل أتبرأ ممن تبرأ منهما، فقالوا: إذاً نرفضك.
فمن ذلك الوقت سُمُّوا الرافضة، وسميت شيعته الزيدية، روى عن أبيه وجماعة، وروى عنه شعبة.
قال الصفدي في " شرح لامية العجم " في تعداد المصلوبين: وزيد بن علي بن الحسين =(8/158)
وقال في كتابه " الكاشف " (1): إن زيداً استشهد. فنص على (2) أنه شهيد، ولو كان باغياً عنده، لم يكن شهيداً، ويدلُّ على هذا أن الذهبي لم يذكره في " الميزان "، وقد شرط أن يذكر فيه كل من تكلَّم فيه ممَّن له روايةٌ بحقٍّ أو باطلٍ، لئلاَّ يُستدرك على كتابه (3).
قال (4): وما يضرُّ الثقات حكاية ما قيل فيهم، قال: وقد بني الكلام فيه على ترك المراهنة فلم يذكر فيه زيد بن علي مع أنه من رجال الترمذي وأبي داود وابن ماجه على أنه قلّ من يتكلم فيه بباطل حتى إنه ذكر أُويساً (5) القرني والثوري والصادق وأبا حنيفة (6) وابن معين وأمثالهم، وذكر ما قدح به فيهم، ولم يذكر زيداً ألبتة، وذكره بالتوثيق في كتاب " التذهيب " (7) في رجال الكتب الستة، وكذلك شيخه المزي (8) ذكر توثيقه، ولم يذكر فيه قدحاً.
__________
= عليهما السلام، صلبه يوسف بن عمر في ولاية هشام، وبقي معلقاً أربعة أعوام، ثم أُنزل وأُحرق، لا حول ولا قوة إلاَّ بالله العلي العظيم. ويحيى بن زيد بن علي بن الحسين المذكور صلب في أيام الوليد بالجوزجان، ولم يزل مصلوباً حتى جاء أبو مسلم، فأنزله وواراه وصلى عليه، وأخذ كل من خرج إلى قتاله بعد أن تصفح الديوان، فقتل كل من كان في بعثه إلاَّ من أعجزه، وسود أهل خراسان ثيابهم إذ ذاك، فصار شعاراً لبني العباس، وأمر بإقامة المآتم عليه ببلخ، وقرؤوا سبعة أيام، وأناح عليه النساء، وكل من ولد في تلك السنة من الأولاد والأعيان سموه يحيى.
(1) 1/ 267.
(2) " على " ساقطة من (ش).
(3) انظر " ميزان الاعتدال " 1/ 2.
(4) " الميزان " 1/ 3.
(5) في الأصول: " أويس "، وهو خطأ.
(6) ترجمة أبي حنيفة رحمه الله لا وجود لها في نسخ الميزان الموثوقة المتقنة التي قرئت على المؤلف أكثر من مرة، والترجمة التي في المطبوع منه مما دسَّه بعضُ الحاقدين على الإمام رحمه الله. انظر تفصيل ذلك في ما علّقه الشيخ العلامة المفضال عبد الفتاح أبو غدة على " الرفع والتكميل " ص 121 - 127، فإنه أوفى على الغاية.
(7) 254/ 1.
(8) في " تهذيب الكمال " 10/ 95 - 96.(8/159)
وقال الذهبي في " الميزان " (1) في ترجمة زياد بن أبيه قال ابن حبان في " الضعفاء " (2): ظاهر (3) أحواله المعصية، وقد أجمع أهل العلم على تركِ الاحتجاج بمن كان كذلك.
وفي " الحدائق " (4) في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن: أن قوماً جاؤوا على شُعبة، فسألوه عنه، فقال شعبة: يسألون عن إبراهيم ومن القيام معه لهو عندي بدر الصغرى، وروينا عنه رحمه الله أنه لما بلغه قتله، قال: لقد بكى أهل السماء على إبراهيم بن عبد الله عليه السلام، إن كان مِنَ الدِّين لبمكان. انتهى بحروفه.
وحُكِيَ عن أبي حنيفة أن غزوة معه بعد حجة الإسلام أفضل من خمسين حجة.
وقال الذهبي في ترجمة عبد الملك بن مروان من " الميزان " (5): أنَّى له العدالة وقد سفك الدماء، وفعل الأفاعيل.
وذكر الذهبي في " تذكرة الحفاظ " (6) في الطبقة الخامسة في مناقب ابن أبي ذئب، واسمه محمد بن عبد الرحمن أحد فقهاء المدينة، قال أحمد: هو أورعُ وأقومُ بالحق من مالك، دخل على المنصور فلم يمهله أن قال له الحق، وقال: الظلم ببابك فاشٍ، وأبو جعفر أبو جعفر!
__________
(1) 2/ 86.
(2) 1/ 305.
(3) ساقطة من (ف).
(4) هو" الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية " لحميد بن أحمد بن محمد بن عبد الواحد المحلي الوادعي الهمداني المتوفى سنة 652، وانظر 3/ 288.
(5) 2/ 664.
(6) 1/ 192، وما بين حاصرتين منه.(8/160)
قال أبو نعيم: حججتُ عام حج أبو جعفر ومعه ابن أبي ذئب ومالك، فدعا ابن أبي ذئبٍ، فأقعده معه على دارِ النَّدوة، فقال له: ما تقول في الحسن بن زيد -يعني ابن الحسن بن علي بن أبي طالب- فقال: إنه ليتحرَّى العدل، فقال: ما تقول فيَّ؟ وأعاد عليه، فقال: وربِّ هذه البينة إنك لجائر. قال: فأخذ الربيع بلحيته فقال [له أبو جعفر]: يا ابن اللّخناء، كفَّ، وأمر له بثلاث مئة دينار.
ودخل المهدي مسجد المدينة وهو فيه، فلم يَقُمْ له، فقيل له، فقال: إنما يقوم الناس لرب العالمين. فقال المهدي: دعوه، فقد قامت كل شعرة في (1) رأسي.
وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2): باب فتنة الوليد، ورُوِيَ عن عمر بن الخطاب، قال: وُلِدَ لأخي أُمِّ سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - غلامٌ، فسمَّوه الوليد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سمَّيتُموه بأسماء فراعنتهم، لَيَكُونَنَّ في هذه الأمة رجلٌ يقال له: الوليد، لهو أشرُّ على هذه الأُمة من فرعون لقومه " رواه أحمد بن حنبل في " مسنده "، وقال الهيثمي الشافعي: رجاله ثقات (3).
__________
(1) في (ش): " من ".
(2) 7/ 313.
(3) حديث ضعيف، بعض الحفاظ وضعه، وقد تقدم تخريجه 3/ 216.(8/161)
الفصل الثالث
إن السيد جَهِلَ موضع الخلاف بيننا وبين الفقهاء في هذه المسألة، فإن الفقهاء لم يخالفوا الزيدية في شروط الإمامة كلها إلاَّ في النسب، فمذهبهم فيه كمذهب المعتزلة، وإنما خالفوا في مسألةٍ ثانيةٍ تَعَلَّقُ بالنظر في المصالح بعد التسليم لتحريم نصب الفاسق إماماً، والقول بأنَّه إذا تغلَّب وصار إماماً بالسيف، فإنه عاصٍ لله تعالى، وغير خافٍ على من له أدنى تمييزٍ أن من أحلَّ شيئاً للضرورة، دلَّ اشتراطه الضرورة في جوازه على أنه حرامٌ عنده، ألاَّ ترى أن الجميع يُجيزون أكل الميتة عند الضرورة، بل كلمة الكفر، وليس في ذلك ما يُسَوِّغُ نسبة جواز الكفر وأكل الحرام إلى جميع أهل الإسلام، وقد قال الله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه} [الأنعام: 119]-أي: فلم يحرِّمه- فالفقهاء جَرَوْا على القياس في القول بإمامة الجائر عند الضرورة، وفي ذلك أعظم دلالة على تحريم إمامة الجائر عندهم، وأنا أذكرُ نصوصهم في شروط الإمامة، ثم أذكر محل الخلاف.
أمَّا نصوصهم على الشروط، فقال ابن عبد البر في " التمهيد " (1) ما لفظه:
وقد أجمع العلماء على أن الإمام يجب أن يكون أفضل أهلِ وقته حالاً، وأكملهم خِصالاً، إلى آخر كلامه في ذلك، ذكره في الكلام على حديث مالك عن (2) عبد ربه بن سعيد، عن عمرو بن شعيب (3)، وذكره صاحب " التَّنضيد " في باب الغلول.
__________
(1) 20/ 39.
(2) تحرف في (ش) إلى: " بن ".
(3) انظر " الموطأ " 2/ 457 - 458.(8/163)
وقال النواوي في " الروضة " (1) ما لفظه: شروط الإمامة أن يكون الإمامُ مكلَّفاً، مسلماً، عدلاً، حُرَّاً، ذكراً، عالماً، مجتهداً، شُجاعاً، ذا رأي وكفايةٍ، سميعاً بصيراً، ناطقاً قُرشيّاً، ومثله نصَّ عليه العمراني في " البيان " (2)، بل قال النواوي في " الروضة " (3) في كتاب الزكاة: يشترط في الساعي كونه مكلفاً، مسلماً، عدلاً، حراً، فقيهاً بأبواب الزكاة، إلى آخر كلامه في ذلك.
وقال القاضي عياض: لا تنعقِدُ الإمامة لفاسقٍ ابتداءٌ، حكاه عن القاضي عياض النفيس العلوي (4).
وهذا كما ترى في تحريم إمامة الفاسق، ولا أعلم أحداً من الفقهاء جوَّز الرضا بها، ولا رخَّص في الاختيار لها، وكل من طالع كتبهم الكبار بِحُسْنِ معرفةٍ وذكاءٍ وإنصافٍ، عرف ذلك، وقد أشار إلى ذلك الإمام المهدي لدين الله إبراهيم بن تاج الدِّين أحمد بن بدر الدِّين محمد بن أحمد بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليهم السلام (5)، في دعوته إلى الملك المظفّر، وفيها ما لفظه: هذا والجهابذة مِنْ أتباع الحبر العلاّمة محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه يقولون: إنه لا بُدَّ في الأُمَّة مِنْ قائمٍ بأمر الإسلام من حقِّه بعد المنصب أن يكون جامعاً للفضائل، منزّهاً عن الرذائل. انتهى كلامه عليه السلام، وهو أعدلُ شاهدٍ لهم، وأصدق مخبرٍ عنهم، لا سيَّما وقد صدر به إليهم، واحتجَّ به
__________
(1) 10/ 42.
(2) في فقه الشافعية، للإمام يحيى بن أبي الخير العمراني. انظر 2/ 127.
(3) 2/ 335.
(4) وانظر " شرح مسلم " 12/ 229.
(5) ترجمَهُ السيد إبراهيم بن القاسم المؤيد بالله في " طبقات علماء الزيدية " ورقة 4، فقال: دعا بعد موت عمِّه الحسن بن بدر الدين آخر سنة سبعين وست مئة ... وبايعه علماء وقته، ولم يزل قائماً بأمر الله حتَّى أسره الملك المظفر يوم الجمعة نصف شهر جمادى الأولى سنة أربع وسبعين وست مئة في أفق -بفتح الهمزة- من مغارب ذمار، ثم سجنه في تعز، ولم يزل به حتى توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين وست مئة.(8/164)
عليهم، فليس يروي عنهم مذهباً لهم، ويرسلُ به إليهم، وليس بصحيحٍ عنهم لِمَا في ذلك من التعرض (1) للتكذيب، والبغض في العاجلة والآجلة (2) وهذا واضحٌ ولله الحمدُ.
وأما بيان موضع الخلاف، فاعلم أن الفقهاء إنما تكلموا في موضعين:
الموضع الأول: قال الفقهاء (3): إذا تغلَّب الظالم، وغلب على الظن أن الإنكار يُؤدِّي إلى منكر أكبر مِنَ الذي أُنكِرَ عليه، لم يحلَّ الإنكار عليه، فلهذا منعوا من الخُروج على كثيرٍ من الظلمة لأجل ذلك، وهذا مما لا ينبغي أن يكون خلافُ إجماع العترة عليهم السلام، بل هذا هو المنصوص في كتبنا، وقد أشار المؤيد بالله في " الزيادات " إلى اختلاف أهل البيت في الخروج على الظلمة، فقال في مسائل الاجتهاد: وكذلك خروج الأئمة مثل زيد بن علي عليه السلام، كان رأيه أن الخروج أولى، وكان جعفر بن محمدٍ عليه السلام رأيه بخلاف ذلك، حتَّى كتب إليه بترك الخروج، ورأي الحسن بن علي تركه (4)، ورأي الحسين بن علي خلافه (5). انتهى بحروفه.
وهو يدلُّ على أنها اجتهاديةٌ عنده، ولذلك ذكرها في مسائل الاجتهاد، وعطفها عليها.
وفي " الجامع الكافي " في مذاهب الزيدية، قال محمد بن منصور: قلت لأحمد بن عيسى عليه السلام: إذا فعل الإمام معصيةً كبيرةً، تزول عنه إمامته؟ قال: تزول عنه إمامة الهدى، ويبقى العقد الذي ثبت (6) من أحكامه ما وافق الحق إلى وقت ما يتنحى، لو أن رجلاً لم يبايع له، ولم يعقد له، أقام الحد فمات المحدود، كان ضامناً، والجائر الذي زالت عنه إمامة الهدى، إذا فعل
__________
(1) في (ش): " التعريض ".
(2) " والآجلة " ساقطة من (ف).
(3) عبارة " قال الفقهاء " ساقطة من (ف).
(4) في (ش): " على تركه ".
(5) في (ف): " على خلافه ".
(6) في (ش): " يثبت ".(8/165)
مثل هذه الأشياء، لم يضمن، ولم يتبع بشيء وهو في معنى كلام الفقهاء، وقد قرره محمد بن منصور، ولم يورد عن أحدٍ من أهل البيت عليهم السلام خلافه مثل عادته إذا اختلفوا، وكذا السيد الإمام الحسني المصنِّف لم يذكر خلافاً في هذا المعنى بين ذلك الصدر الأول.
أشار الأمير الحسين بن محمد في " شفاء الأوام " إلى أنه قول أحمد بن عيسى وغيره من أهلِ البيت، ذكره فيما يأخذه السُّلطان الجائر كُرهاً من الزكاة، وذكر أنه لا يجزىء عند الأكثر منهم عليهم السلام، لأن ذلك يرجِعُ إلى الولاية، ولا ولاية للجائر، قال: وذهب بعضُهم إلى أنه يُجزىء، وبه قال أحمد بن عيسى عليه السلام. رواه عنه في كتاب " العلوم ". انتهى بلفظه من كتاب " شفاء الأوام ".
وأنا أذكر ما يدلُّ على هذا من كلام الفقهاء، فمن ذلك كلام الجويني (1) المقدم، فإنه نص فيه على أنه إذا أمكن كفُّ يدِ الظالم المصرِّ المتهتِّك وتوليةُ غيره بالصِّفات المعتبرة، فالبدار البدار، وإن لم يمكن ذلك -لاستظهاره بالشوكة- إلاَّ بإراقة الدماء، ومُصادمة الأهوال، فالوجه أن يُقاس ما الناس مدفوعون إليه منقلبون بما يفرض وقوعه -إلى آخ كلامه-.
وهذا ظاهرٌ في المعنى الذي أردته، فإنه أوجب عند التمكن نصب إمامٍ على الصفات المعتبرة بهذا اللفظ، فدلَّ على معرفتهم للإمامة ولصفاتها (2) المعتبرة، وأنهم إنَّما تكلَّموا في الضروره، ودفع (3) ما يتوقع من الفتن العظام بالصبر على ما هو أهون منها.
ولهذا قال الجويني: إن المفسدة إذا كانت أكبر بالقيام عليه، تعيَّن الصبر والابتهال إلى الله تعالى، ولو (4) كان يعتقد أنه إمام حقٍّ، لم يذكر الابتهال إلى
__________
(1) انظر " غياث الأمم " ص 110.
(2) في (د): " ولصفاتهم "، وفي (ف): " وبصفاتها ".
(3) في (ش): " ووقع ".
(4) في (ف): "فلو".(8/166)
الله تعالى في كشف ما بالمسلمين من المضرة الحاصلة بولاية الجائر، وهذا هو الظاهر من فعل بعض أئمة أهل البيت عليهم السلام، مثل الإمام محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي عليهم السلام، كان من دُعاتهم عليه السلام، لكنه كان في الطالَقَان، فليس له ذكر ولا لعلومه ومذاهبه وأخباره، ذكره ابن حزم في " جمهرة النسب " (1) فقال: كان فاضلاً في دينه، يميل إلى الاعتزال، قام بالطَّالَقان، فلما رأى الأمر لا يتم له إلا بسفك الدِّماء، هرب واستتر إلى أن مات. انتهى.
ولولا (2) أنه يستحلُّ ذلك لم يحل له (3) ترك الإمامة، بل قد ذكر المؤيَّدُ بالله أن هذا هو رأي الحسن بن علي بن أبي طالب كما تقدم، وقد اشتهر عنه (4) وقلت فيه:
أعاذلُ دعني أُرِي مُهْجَتِي ... أزوفَ الرحيل ولُبْسِ الكَفَنْ
فإن كنتَ مقتدياً بالحسينِ ... فلي قدوةٌ بأخيه الحَسَنْ
وعندي أنهما لم يختلفا عليهما السلام، بل كلٌّ منهما عمل بظنِّه فيما يؤدي إليه الاستمرار، بل قد رُوِيَ عن الحسين بن علي عليه السلام إنه عرض عليهم عند قتله الإعراض عنهم، فلم يقبلوا.
وقال النواوي (5) ما لفظه: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء، وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عزله أكثر (6) منها في بقائه، وقد تقدم قول القاضي عياض: إنه يجب القيام عليه، ونصب إمامٍ عادلٍ إن أمكن ذلك، وقوله: فإن تيقَّنُوا العجز لم يجب القيام، وليهاجر المسلمُ عن أرضه، ويفرَّ بدينه.
__________
(1) ص 53 - 54.
(2) في (ش): "ولو"، وهو خطأ.
(3) " له " ساقطة من (ش).
(4) قوله: " وقد اشتهر عنه " ساقط من (ف).
(5) في " شرح مسلم " 12/ 229.
(6) في (ف): " أكبر ".(8/167)
ويدل على هذا تجويزهم للخروج على من قطع الصلاة، وأبطل أمر الجهاد، ولم يلتفت على إنصاف مظلوم البتة، كما ذكره ابن بطال والجويني لما كان الغالب أنَّ المضرَّة في القيام على من هذا حاله أقل من مضرة تركه، فهذه نصوصهم دالة على كراهتهم للجائر ولولايته، ومعرفتهم بوجوب النهي عن المنكر وغير ذلك، وأنهم إنما قصدوا حقن دماء المسلمين، وأن السيد أعظمَ الجناية عليهم حيث قال: إنهم يصوِّبُون أئمة الجور في قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وإنما قصدوا نحواً مما قصده هارون عليه السلام حيث قال: {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيل} [طه: 94] من رعاية الأصلح، ولأنهم ما قصدوا إلاَّ حقن دماء الذين يأمرون بالقسط من الناس، فعكس السيد نصوص مذهبهم لما لم يفهم حقيقة، مقصِدِهم، وفي المثل: أساء سمعاً فأساء إجابة.
الموضع الثاني: وهو محل الخلاف على الحقيقة، وهو في صحَّة أخذ الولاية منهم عند الضرورة إلى ذلك، وفيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يجوز مطلقاً، وهو مذهب الجمهور من أهل البيت عليهم السلام، وكثير من الفقهاء، وهو الصحيح الذي لا يتَّجه غيره، كما سيأتي الدليل عليه.
المذهب الثاني: جواز ذلك عند الضرورة مطلقاً، وهو مذهب أحمد بنِ عيسى عليه السلام وكثيرٍ من الفقهاء.
المذهب الثالث: التفصيل، وهو صحة أخذ الولاية منهم في القضاء دون غيره، وإليه ذهب المؤيد بالله في آخر قوليه، نص عليه في " الزيادات "، وطوَّل في الاحتجاج عليه، وفي هذا الفصل فوائد:
الفائدة الأولى: أن مذهب أحمد بن عيسى والفقهاء قريبٌ من مذهب المؤيد بالله عليه السلام، لأن الكل منهم قد صحَّح أخذ الولاية من الظلمة(8/168)
للضرورة، ولكنه صحَّح ذلك في أمرٍ واحدٍ، وهم صحَّحوه في أكثر منه، وليس المنكر عليهم في هذه المسألة إلاَّ قولهم بصحة الولاية من الظالم، فقد شاركهم المؤيد بالله في هذا القدر، وإن كان قد خالفهم عليه السلام في سائر ما يتعلق بالإمامة من الولايات كإقامة الحقوق (1) ونحوها، وكلامهم أقيس، لأن الولاية لا تجزىء، على أنهم قد نصوا أنه لا ولاية للظلمة مطلقاً، ولكن تنفذ بهم المصالح.
قال ابن عبد السلام في " قواعده " (2) في أوائلها:
فصل في تنفيذ تصرف البغاة، وأئمة الجور لما وافق الحق للضرورة (3) العامة قد ينفذ التصرف العام من غير ولايةٍ، كما ذكرنا في تصرُّف الأئمة البغاة، فإنه ينفذ، مع القطع أنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت (4) تصرفاتهم وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع نُدرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرُّف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وأنه لا انفكاك للناس عنهم إلى آخر ذلك.
وقال قبل هذا الفصل بأسطر يسيرة (5): وأما الولاية العظمى، ففي اشتراط العدالة فيها اختلافٌ لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها، لتعطَّلتِ التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولُّونه من القضاة والولاة والسعاة، وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وقبض ما يُعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولاياتهم، فلم يشترطوا العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق، لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه (6) المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان. انتهى بحروفه.
__________
(1) في (ف): " من إقامة الحدود ".
(2) ص 68.
(3) في " القواعد ": " لضرورة ".
(4) في (ف): " تنفذ ".
(5) " القواعد " ص 68.
(6) " هذه " ساقطة من (ف).(8/169)
فدل على أنهم اعتبروا دفع المفسدة الكبرى بالصغرى للضرورة، كما صرّح في مواضع من قواعده، وعظَّم ثمرة معرفته ذلك، ومفسدة جهله.
الفائدة الثانية: أن الفقهاء قد أطلقوا القول بانعقاد إمامة المتغلِّب للضرورة، والذي لا يتأمَّل كلامهم يُنكره لظنِّه أن مرادهم أنه إمامٌ على الحقيقة، وإنما أرادوا ما ذكرنا مِنْ جواز أخذ الولاية منهم لتنفيذ الأحكام المتعلقة بالمصالح العامة، لاضطرار المسلمين إلى ذلك، كما سنبيِّنُه. والذي يدل على هذا وجوه:
الوجه الأول: أنهم نصُّوا على اشتراط العدالة في الإمام، وهذا واضحٌ.
الثاني: أنه لو كان الجائر عندهم إماماً حقيقياً (1)، لم يحرِّموا نصبه، والرضا به، والاختيار له.
الثالث: أنه لو كان عندهم إماماً حقيقياً، لم يصوِّنُوا من خرج عليه، وينصُّوا على أنه ليس بباغٍ.
الرابع: أن النواوي لما ذكر في " الروضة " (2) عن الشافعي القول بنفي الرد، ونفي توريث ذوي الأرحام، ذكر أن ذلك على الصحيح عندهم إنما يكون على استقامة بيت المال بولاية العادل، وأنه متى ولي بيت المال جائرٌ، رُدَّ بقيَّةُ المال على الورثة، وَوُرِّثَ ذوو الأرحام، ولم يُعط الإمام الجائر. قال: وبه أفتى أكثر المتأخرين. قال: وهو الصحيح أو الأصح عند محقِّقي أصحابنا ومتقدميهم.
قال ابن سراقة (3): وهو قول عامة مشايخنا، وعليه الفتوى اليوم في
__________
(1) في (ش): " حقيقة "
(2) 6/ 6.
(3) هو الحافظ الفقيه الفرضي أبو الحسن محمد بن يحيى بن سراقة العامري البصري. توفي في حدود سنة 410 هـ. انظر " طبقات السبكي " 4/ 211 - 214، و" سير أعلام النبلاء " 17/ 281.(8/170)
الأمصار، ونقله صاحب " الحاوي " على مذهب الشافعي. قال: وغلط الشيخ أبو حامد في مخالفته.
كل هذا لفظه في " الروضة "، وهو دال على أنهم لا يعتقدون أن الجائر مثلُ العادل. إذاً لأوجبوا تسليم بقية مال الميت إليه، لأنه ولي بيت المال كالعادل، وكذا في " الروضة " (1) عن الماوردي أنه إذا كان العامل جائراً في أخذ الصدقة، عادلاً في قسمتها جاز كتمها عنه، وجاز دفعها إليه، وإذا كان عادلاً في الأخذ، جائراً في القسمة، وجب كتمُها عنه.
قلت (2): فلو كان عندهم كالعادل، لم يجب كتمها عنه، ولحرُم ذلك إجماعاً.
الخامس: أنه لو كان عندهم إماماً، لم يقولوا: إن (3) قيامه بالأمر حرامٌ عليه، معصيةٌ منه، وقد نصَّ على ذلك النواوي في " الروضة "، فبان بهذا أنهم إنما قصدوا أخذ الولاية فيما يتعلَّق بالأئمة، مثل ما قصد المؤيَّد بالله في أخذ الولاية من الظلمة على القضاء، وإنهم سمَّوه إماماً لما كانت تنعقد به الأحكام المتعلقة بالأئمة، الموافقة للحق، ولما كان يستحق هذا الاسم في وضع اللغة، ولهذا نصوا على أنه لا تحل طاعته إلاَّ إذا وافق الشرع. نص على ذلك النواوي في " الروضة " (4)، فقال ما لفظه: تجب طاعة الإمام ما لم يُخالف حكم الشرع، سواء كان عادلاً أو جائراً.
قال النفيس العلوي: ونص على ذلك القرطبي في " تفسيره "، فقال: إن كان الوالي فاسقاً، فينفُذ من أحكامه ما كان على الحق (5)، ويُرَدُّ ما خالفه.
فإن قلت: فقد يَعِيبُون الخروج على بعض من خرج على بني أمية وبني العباس؟
__________
(1) 2/ 336.
(2) " قلت " ساقطة من (ف).
(3) " إن " ساقطة من (ف).
(4) 10/ 47.
(5) في (ف): " ما وافق الحق ".(8/171)
قلت: إنما يعيبون ذلك على معنى أنه خلاف الأولى في الرأي والتدبير، كما عاب أصحاب الحسن بن علي عليهما السلام صُلح معاوية عليه، وكما فعل ابن عباس عند خروج الحسين عليهم السلام بدليل ما قدمنا من تجويزهم له في أحد أقوالهم، وكونها عندهم مسألةً ظنية، كل مجتهدٍ فيها مصيبٌ.
وقد صرح بهذا المعنى الذهبي في " النبلاء " (1)، فقال عند ذكره لزيد بن علي عليه السلام: إنه خرج متأوِّلاً، وقتل شهيداً رحمه الله، وليته لم يخرج فترحّم عليه، ونص على أنه عنده مظلومٌ شهيدٌ، وتمنى أنه لم يخرج، شفقةً عليه، وصيانةً له، وتألُّماً مما ناله، ولذلك لم يذكره في " الميزان " الذي ذكر فيه كل من فيه أدنى مقالٍ أو خلاف، ووثقه في كتاب " التذهيب " (2) الذي في الثقات والله أعلم.
الفائدة الثالثة: في بيان الضرورة التي ذكرها الفقهاء، وادعوا أنها تُبيح أخذ الولاية منهم.
وأنا أذكر ما حضرني، فأقول: لا شك أن (3) أكثر الأقطار الإسلامية قد غلب عليها أئمة الجور من بعد انقراض عصر الصحابة، فإن الشام ومصر والمغرب والهند والسند والحجاز والجزيرة والعراقين واليمن وأمثالها، ما استدامت فيها دولة حق في قرونٍ عديدةٍ، ودُهُورٍ طويلةٍ، ولا شك أن في هذه الأقاليم من عامة أهل الإسلام عوالم لا يُحصون، وخلائق لا ينحصرون، ولا شك أنهم في هذه القرون العديدة، وفي هذه الأقطار الكبيرة (4) لو تركوا هَمَلاً لا يقام فيهم حد، ولا يُقضى فيهم بحق، ولا يجاهد فيهم كافر، ولا يُؤدَّبُ فيهم عاصٍ، لفشا فيهم الفساد، وتظالم العباد، ومرج أمر المسلمين، وتعطلت أحكام رب العالمين،
__________
(1) 5/ 391.
(2) 5/ 391، وقد تحرف في الأصول إلى: " التهذيب "، وقول المصنف " الذي في الثقات " فيه نظر، فإن كتاب " التذهيب " يترجم رجال الكتب الستة، وفيهم الثقة والضعيف، والمتروك.
(3) " أن " ساقطة من (ش).
(4) في (ف): " الكثيرة ".(8/172)
وقد علمنا على الجملة أن الله تعالى ما قصد بإقامة الحُدود وشرعها إلاَّ زجر أهل المعاصي، ولا قصد بالجهاد إلاَّ حفظ الحَوْزَةِ، وإرغام العدوِّ، فمتى توقفت على شرط، وتعذر تحصيله، لم يعتبر ذلك الشرط.
وقد ذكر العلماء لهذا نظائر، فمنها نكاح المرأة بغير إذن الوليِّ متى غاب وليُّها وبَعُدَ مكانه، أو جُهِلت حياته، فقد ترك كثير من العلماء شرط العقد المشروع، وهو رضا الولي لأجل مصلحة امرأةٍ واحدةٍ، وخوف مضرة امرأة المفقود، فكيف بمصلحة عوالم من المسلمين وخوف مضرتهم.
ومنها الانتفاع باللُّقَطَة بعد تعريف سنةٍ، لأن المال مخلوقٌ للمنفعة، فلما تعذر انتفاع صاحبه به (1) انتفع به غيره، لئلاَّ يبقى هملاً لا نفع فيه، ولهذا قال عليه السلام في ضالة الغنم: " إنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب " (2) فزال شرط حِلِّ المال، وهو رضا المالك لما تعذر، فهذه شخصية غير ضرورية، فكيف بالكلية الضرورية؟
ومنها ما ذكره المنصور بالله عليه السلام، فإنه ذكر في " المهذب ": أن العدالة في الشهادة إنما شُرِعَتْ لحفظ أموال الناس، فإذا خلت بعض البلاد من العدول، وجب ألا تعتبر العدالة، وقبلنا شهادة قُطَّاع الصلاة والطريق متى كانوا من أهل الصدق، لأنا لو اعتبرنا العدالة، لأضعنا أموال الناس التي لم تُشرع العدالة إلاَّ لحفظها، واحتج عليه السلام بأن الله تعالى قد أجاز قبول (3) شهادة الكفار من اليهود والنصارى في السفر، لأن المسافر من المسلمين إلى أرض الكفار يحتاج إلى شهادتهم، وعنى بذلك قوله تعالى: {أو آخرانِ من
__________
(1) " به " ساقطة من (ش).
(2) أخرجه من حديث زيد بن خالد الجهني مالك 2/ 757، ومن طريقه الشافعي 2/ 137، والبخاري (2372) و (2429)، ومسلم (1722)، وأبو داود (1705)، وابن حبان (4889).
(3) في (ف): " قد قبل ".(8/173)
غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض} الآية [المائدة: 106]، وقد تقدم ذكرها.
قلت: ولذلك قَبِلَ بعض العلماء شهادة الصبيان فيما بينهم قبل التَّفرُّق، لأنه لا يمكن حضور العدول معهم في ملاعبهم، وسائر أحوالهم، والعادة جرت بانفرادهم، ولهذا قُبِلَتْ شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لو بقي عامة المسلمين في قدر ستمئة سنة في أقطار الإسلام وأمصاره لا يُنَصَّبُ فيهم قاضٍ، ولا يُحكم بين المتنازعين منهم، ولا يُقام فيهم حدٌّ، ولا يجاهد فيهم عدوٌّ، لَعَظُمَتْ بهم المضرة بغير شك، وقد علمنا أن هذه الأشياء ما شُرِعَت إلاَّ لمصالحهم، فوجب الحكم بتنفيذها عند عدم شرطها " (1) لأجل الضرورة لما تقدم نظائر ذلك، ومن لم يفرق بين حالي الاختيار والاضطرار، فقد جهل المعقول والمنقول.
أمَّا المعقول، فلإجماع العُقلاء على دفع أعظم المفسدتين بأهونهما، ومن ثم قالوا:
حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهون من بعض (2).
__________
(1) في (ف): " شروطها ".
(2) عجز بيت لطرفة بن العبد وصدره:
أبا منذرٍ أفنيتَ فاستبقِ بعضنا
وهو في ديوانه: 48، و" الكتاب " 1/ 348، و" الكامل " ص 732، و" المقتضب " 3/ 224، وابن يعيش 1/ 118، و" مجمع الأمثال " ص 94، " اللسان ": " حنن "، و" الهمع " 1/ 190.
وأبو منذر: كنية عمرو بن هند يخاطبه حين أمر بقتله، وذكر قتله لمن قتل من قومه تحريضاً لهم على المطالبة بثأره.
وقوله: " حنانيك " مثنى حنان، والحنان: الرحمة، نصب على المصدر النائب عن الفعل، وقد ثني لإرادة التكثير، أراد حناناً بعد حنان، أي: كلما كنت في رحمة منك، فلتكن موصولة بأخرى، وهذا المثنى لا يجيىء إلاَّ مصدراً منصوباً، ولا يكون مثنى إلاَّ في حال =(8/174)
ومن أمثالهم: إن للشر خياراً (1).
وأما المنقول، فمعلومٌ بالضرورة من الدين في مواضع، أعظمُها قوله تعالى في جواز النطق بكلمة الكفر: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وأعمُّها قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119].
وروى الأمير الحسين في " الشفاء " عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عند الضرورات تباح المحظورات " (2). وفي حد الضرورة اختلافٌ بين العلماء، وهو ظني معروفٌ، وقد جعلها المؤيد بالله ما خرج عن حدِّ الاختيار في كثير من المواضع، وقد رخَّص النبي - صلى الله عليه وسلم - في لباس الحرير المحرم لأجل الحِكة، متفق على صحته (3).
__________
= الإضافة كما لم يكن " سبحان الله " و" معاذ الله " إلاَّ مضافين.
وقوله " بعض الشر أهون من بعض " قال الميداني: يضرب عند ظهور الشرين بينهما تفاوت وهذا كقولهم: إن من الشر خياراً.
(1) في " فصل المقال " ص 244: قال أبو عبيد: قال الأصمعي في نحوٍ منه: " إن في الشر خياراً "، قال: ومعناه: إن بعض الشر أهون من بعض.
قال البكري: قال أبو خراش فنظمه:
حَمِدْتُ إلاهي بَعْدَ عُروَةَ إذ نجا ... خِراش وبَعْضُ الشر أهْوَنُ من بعضِ
بلى إنها تعفو الكُلومُ وإنما ... نوكَّلُ بالأدنى وإن جلَّ ما يَمْضِي
تعفو الكلوم: تبرأ الجروح، نوكل بالأدنى: نحزن على الأقرب فالأقرب، وما مضى ننساه وإن كان الرزء به جليلاً على الخِيار والأخيار، وكذلك الشر يجمع على الشرار والأشرار، أي إن في الشر أشياء خياراً، ومنه المثل كما قيل: " بعض الشر أهون من بعض " ويجوز أن يكون " الخيار " الاسم من الاختيار، أي: في الشر ما يختار على غيره.
(2) ذكره السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 269، وعلي القاري في " المصنوع في معرفة الحديث الموضوع " ص 121، وقالا: ليس بحديث، وقال السخاوي: ومعناه صحيح، وقد اعتمده الفقهاء في إساغة اللقمة لمن خشي التلف بجرعة من خمر من غير أن يزيد على الحاجة.
(3) أخرج أحمد 3/ 180 و255 و272، والبخاري (2921) و (2922) و (5819)، =(8/175)
فمن جوَّز أمراً للضرورة، ونسب إليه جوازه مطلقاً، كان الناسب إليه من الكاذبين، بل كالنَّاسب (1) إلى كتاب الله تعالى جواز الكفر والمحرمات مطلقاً.
وقد ورد القرآن الكريم بقتل النفس لمصلحةٍ غير كلية في قصة يونس عليه، وأنه لما عرف أن أهل السفينة يغرقون جميعاً إن لم يُلْقِ أحدهم بنفسه إلى التهلكة ويرم بها في البحر، رأى أن رمي أحدهم بنفسه وحده (2) أهون من موتهم الجميع، فرمى - صلى الله عليه وسلم - بنفسه الشريفة، حين وقع السهم عليه، قال الله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141 (3)].
ولا شك أن قتل النفس في أصل الأمر حرامٌ، لكن جاز للضرورة، وهذا في فعل المحرم في الشرع لمصلحة، فأولى وأحرى أن يجوز ما ورد الشرع به من إقامة الحدود ونحوها للمصلحة، لأنه في نفسه مصلحة، لكن فقدَ بعضَ شُروطه، وعمل المصلحة المشروعة عند فقد بعضِ شُرُوطها للضرورة أولى من عمل المفسدة للضرورة مثاله: الصلاة بغير طهور ولا تيمُّم للضرورة (4)، أهونُ من أكل الميتة للضرورة، ولم يزل العقلاء يدفعون المضرة العظمى بما دونها، ويستحسنون قطع العضو خوفاً من السراية.
وقد ذكر علماء الأصول الكلام في المصالح، وطوَّلوا القول فيه، ومما ذكروه: أن الكفار إذا تترَّسوا بمسلم، ولم يمكنا قتالهم حتى نقتله، وخِفنا إن لم نقتله (5) أن يقتلونا ويقتلوه معنا، أنه يجوز لنا قتله، وشرط الغزالي أن تكون
__________
= ومسلم (2076)، والنسائي 8/ 202، وابن ماجه (3592)، وابن حبان (5430) و (5431) عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في لبس الحرير من حِكَّةٍ كانت بهما.
(1) في (ش): " كان الناس " وهو خطأ.
(2) " وحده " ساقطة من (ش).
(3) انظر " تفسير الطبري " 23/ 98 - 99، و" ابن كثير " 3/ 201 و4/ 23 - 24، و" الدر المنثور " 7/ 121 - 129.
(4) " للضرورة " ساقطة من (ف).
(5) عبارة " إن لم نقتله " ساقطة من (ش).(8/176)
المصلحة كليةً قطعيةً (1)، وعنى بالقطعية أن يعلم أن هذا هو المخوف علماً قطعياً، وبالكلية أنا نعلم أنَّا إن لم نقتله قتل، وقتل جميع المسلمين.
ورد عليه بعضُ المالكية، وأبطل اشتراطه للكلية بقصة يونس عليه السلام، وأبطل اشتراطه للقطعية بأنه لا سبيل إلى القطع البتة، وما لا سبيل إليه، لا معنى لاشتراطه.
فإن قيل: إن قصة يونس عليه السلام مِنْ شرعِ من قبلنا.
قلنا: هو حجة إذا ذكر في كتابنا، كما ذكره المنصور بالله وغيره، وقد تقدم الدليل على ذلك في مسألة قبول المتأولين.
ومن هذا القبيل الذي ذكره في المصالح، كلام الصحابة في حدِّ الخمر، فعن أنس بن مالكٍ، قال: جلد رسول الله في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما ولي عمر دعا الناس، فقال لهم: إن الناس قد دنوا من الريف، فما تَرَوْنَ في حدِّ الخمر؟ فقال عبد الرحمن: نرى أن نجعله كأخفِّ الحدود، فجلد فيه ثمانين. رواه مسلم وأبو داود، وروى البخاري وابن ماجه بعضه (2).
وعن حضين بن المنذر قال: شهدتُ عثمان، وأُتي بالوليد، فشهد عليه حُمران ورجلٌ آخر، فشهِدَ أحدهما أنه رآه يشربها (3) - يعني -الخمر- وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها. فقال عثمان: إنه لم يتقيأها حتَّى شربها، فقال لعلي عليه السلام: أقم عليه الحد، فقال علي للحسن: أقم عليه الحد، فقال: ولِّ حارَّها من تولَّى قارَّها، فقال علي عليه السلام لعبد الله بن جعفر: أقم عليه الحد،
__________
(1) " المستصفى " 1/ 301.
(2) انظر المسند 3/ 115 و180، والبخاري (6773) و (6776)، ومسلماً (1706)، وأبا داود (4479)، وابن ماجه (2570)، وابن حبان (4448 - 4450).
(3) في (ش): " شربها ".(8/177)
فأخذ السوط وجلده وعليٌّ يعُدُّ، فلما بلغ أربعين، قال: حسبُك، جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين. وأحسبه قال: وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّةٌ، وهذا أحبُّ إليَّ. رواه مسلم وأبو داود وابن ماجه (1).
فجلد الثمانين في الخمر قد شاع في الصحابة، واستمر عليه (2) عمل الأمة إلى هذا العصر، مع أنه غير منصوصٍ في الكتاب، ولا في السنة المتفق على صحتها، وإنما عمل به للمصلحة (3)، فدل على إجماع الصحابة على العمل بالمصالح.
وقد روى الحافظ ابن كثير وغيره عن علي عليه السلام أنه ضمن الصُنَّاع، وقال: لا يُصلِحُ الناس إلاَّ ذلك.
والكلام في هذا المعنى يحتمل البسط الكثير (4)، وقد تكلم الرازي في " المحصول " (5) بكلامٍ حسنٍ في المصالح. وتكلم شارح " البرهان " فيها، ومن أحب الاستقصاء في المصالح، وما يتعلق بها، فليُطالع كتاب " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " للإمام الكبير عز الدين بن عبد السلام، الذي قال النواوي في " شرح المهذب ": إنهم اتفقوا على براعته في العلوم كلها، وعلى أمانته وديانته، أو كما قال، فإن كتابه هذا من أنفس الكُتُبِ في هذا الشأن. والله سبحانه أعلم.
الفائدة الثالثة: في بيان المختار.
واعلم أن كلام أحمد بن عيسى عليه السلام والفقهاء في أخذ الولاية على الإطلاق، وكلام المؤيد بالله في أخذ الولاية على القضاء يشتمل على أمرين:
__________
(1) مسلم (1707)، وأبو داود (4480) و (4481)، وابن ماجه (2571).
(2) " عليه " ساقطة من (ش).
(3) في (د): " في المصلحة "، وفي (ش): " لمصلحة ".
(4) " الكثير " ساقطة من (ف).
(5) 6/ 218 - 225.(8/178)
أحدهما: جواز القضاء، وإقامة الحدود ونحو ذلك في غير وقت الإمام، نظراً إلى ما يلحق المسلمين من المضرة بترك ذلك، وهذا قوي إن لم يصادم النصَّ الشرعي، وهو إجماع العترة في غير القضاء، وأما القضاء، فقد خالف فيه الإمام المؤيد بالله، والمختار جوازه. وأمَّا سائر الأمور، فإن لم يصح إجماع العترة على تحريمه، فلا معدِلَ عنه، وإن صح إجماعهم، أجبنا عن الفقهاء بما يوافقون عليه، وهو أن شرط المصالح ألا يصادم النصوص والإجماع من النصوص بلا خلاف، فنقول: الإجماع صادم النظر المصلحي، فوجب طرحه.
الأمر الثاني الذي خالفوا فيه: أخذ الولاية من الظلمة لما ورد في الآثار من الأمر بتسليم الزكاة إليهم (1) والطاعة في المعروف لهم، فأما الأمر بطاعتهم في غير معصية الله، فهو شهير مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس فيه تصريح بولايتهم في نفس الأمر، وإن كان الاستنباط من ذلك محل نظر.
وأما الأمر بدفع الزكاة إليهم، فرُوِيَ عن سعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وأبي سعيدٍ الخدري، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأبي بكرٍ، وعائشة موقوفة وأسانيدها، أو أكثرها صالحةٌ (2)، ولكن لا حجة متفق عليها في الموقوف، خصوصاً إذا عُورِض بقول صحابيٍّ آخر. وأما حديثٌ مرفوعٌ، فلا أعرف إلاَّ ما رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ادفُعوا إليهم ما صَلَّوُا الخمس ". رواه عن الطبراني ابن حجر في " تلخيصه " (3)، ولم يذكره بصحةٍ ولا ضعفٍ، والغالب على "معجم الطبراني
__________
(1) " إليهم " ساقطة من (ف).
(2) انظر " مصنف ابن أبي شيبة " 3/ 156 - 158، و" سنن البيهقي " 4/ 115، و" تلخيص الحبير " 2/ 164.
(3) تلخيص الحبير " 2/ 164، والحديث عند الطبراني في " الأوسط " (345) وقال: لا يروى هذا الحديث عن سعد مرفوعاً إلاَّ بهذا الإسناد، تفرد به هانىء بن المتوكل. وذكره الهيثمي في " المجمع " 3/ 80، وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه هانىء بن المتوكل، وهو ضعيف.(8/179)
الأوسط" الغرائب والشواذ.
وفي " سنن البيهقي الكبرى " (1) شيء من هذا لم يحضرني.
وروى ابن أبي شيبة (2) عن ابن عمر موقوفاً نحو ذلك، وفي إسناده جابر الجعفي وعضده الفقهاء بظاهر الأمر بطاعة ذوي الأمر في القرآن، ولحديث البخاري ومسلمٍ والنسائي: " إنما الإمام جُنَّةٌ يُتَّقى به، فإن عدل، فإن له بذلك أجراً، وإن جار، فإن عليه بذلك وِزرَاً (3) "، وأمثاله كثيرة صحيحة (4).
وأقول: إن الأصل براءة الذمة من وجوب أخذ الولاية عنهم حتى يقوم على ذلك دليلٌ مرضيٌّ.
فهذا ما عرفت الآن من الحجة على أخذ الولاية من أئمة الجور للمؤمن وأحمد بن عيسى والفقهاء (5).
فأما إن أرادوا أخذها منهم على جهة التقية منهم، وخوف الفتنة في الاستقلال بالولاية، فهذا مُسَلَّمٌ. وقال يوسف عليه السلام: {اجعلني على خزائن الأرض} [يوسف: 55].
وأما إن أرادوا أن لهم ولايةً شرعيةً في نفس الأمر، فلا وجه لذلك متفق عليه، لأنه يمكن إقامة المصالح من غير أخذ ولاية، وذلك (6) لأن الغرض أن
__________
(1) 4/ 115 في الزكاة: باب الاختيار في دفعها إلى الوالي، وقد أدرج تحته عدة أحاديث انظرها فيه.
(2) في " المصنف " 3/ 158.
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (2957)، ومسلم (1835)، والنسائي 7/ 155 - 156.
(4) عبارة " وأمثاله كثيرة صحيحة " ساقطة من (ف).
(5) من قوله: " وأقول: إن الأصل ... " إلى هنا سقط من (ش).
(6) " وذلك " ساقطة من (ف).(8/180)
الشرع ورد (1) بأن الولاية للإمام العادل، فحين تعذَّر الشرط المشروع، لم يجب علينا أن نفعل ما يشبهه في الصورة، كما أنا إذا لم نجد وليَّ المرأة المشروط إذنه في نكاحها، لم يجب علينا أن نستأذن رجلاً أجنبياً لم يرد الشرع بولايته.
وإنما اعتبرنا الرجوع إلى الإمام لما ورد الشرع بذلك (2)، فلهذا لو لم يوجدِ الولي ولا الإمام، لم يعتبر إذن رجلٍ غير معيَّنٍ، ويمكن الفرق بين أن يرضى به المسلمون أول الأمر، ويتابعون وهو صالحٌ قبل الأمر بالاعتزال في آخر الزمان، فيكون كما قال أحمد بن عيسى عليه السلام: تزول عنه إمامة الهدى، وتبقى له (3) الولاية بالاستصحاب، لعدم الدليل على انعزاله من النص والإجماع.
وأما المتغلِّب من الابتداء، فيحتاج من يقول بولايته إلى دليلٍ على ذلك، ويعتضد هذا الأصل بحديث البخاري عن أنسٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " اسمعوا وأطيعوا وإن استُعْمِلَ عليكم عبدٌ حبشيٌّ، كأنَّ رأسه زبيبةٌ، ما أقام فيكم كتاب الله " (4).
وفي " مسلم " عن أمِّ الحُصين نحوه، ورواه الترمذي والنسائي (5).
وللفقهاء أن يُجيبوا عن هذا بوجهين:
أحدهما: الجمع بالتأويل، فظاهر حديث أنسٍ وأمِّ الحصين في العامل، لا في الإمام الأعظم، لحديث علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمير الذي أمر أصحابه
__________
(1) في (ش): وارد.
(2) في (ف): " وإنما اعتبرنا الشرع لما ورد الأمر بذلك ".
(3) " له " ساقطة من (ش).
(4) تقدم تخريجه ص 11 من هذا الجزء.
(5) أخرجه مسلم (1298) و (1838)، والترمذي (1706)، والنسائي 7/ 154، وأخرجه أيضاً أحمد 6/ 402 و403، وابن ماجه (1861)، وابن حبان (6564)، وانظر تمام تخريجه فيه.(8/181)
أن يَحرِقوا (1) أنفسهم. وهو في الصحيح (2).
وحديث عقبة بن مالك لو رأيتَ ما لامَنَا رسول الله، قال: " أعَجَزْتُم إذا بعثتُ رجلاً منكم فلم يَمْضِ لأمري أن تجعلوا مكانه من يَمْضي لأمري "؟ رواه أحمد، وسنده قوي وأبو داود (3).
وروى أحمد من حديث معاذٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم - في " الأمراء ": " أنه لا طاعة لمن لم يُطِعِ الله " وظاهر سنده الصحة، فيه يحيى بن أبي كثير مدلس، لكنه صرح فيه أن أنس بن مالك حدثه بذلك عن معاذ، والراوي عن يحيى حرب بن شداد، وفيه خلاف يسير والله أعلم (4).
وثانيهما: بالترجيح من طريق الاحتياط، ومن طريق قوة (5) الأسانيد، ففي " الصحيحين " من حديث عبد الله، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إنها ستكونُ أَثَرَةٌ وأمورٌ تنكرونها "، قالوا: يا رسول الله، كيف تأمرُ من أدرك ذلك منا؟ قال: " تُؤَدُّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم ". رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيح (6).
__________
(1) تحرفت في الأصول إلى: " يخرجوا ".
(2) تقدم تخريجه ص 18 من هذا الجزء.
(3) حديث حسن، أخرجه أحمد 4/ 110، وأبو داود (2627)، وصححه ابن حبان (4720)، والحاكم 2/ 114 - 115.
(4) أخرجه أحمد 3/ 213، وأبو يعلى في " مسنده " كما في " تعجيل المنفعة " ص 310 من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حرب بن شداد، حدثنا يحيى بن أبي كثير، قال عمرو بن زنيب العنبري إن أنس بن مالك حدثه، أن معاذاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ... الحديث.
قلت: يحيى بن أبي كثير لم يصرح بسماعه من عمرو العنبري وعمرو لم يرِو عنه غير يحيى ولم يوثقه غير ابن حبان. والحديث ذكره الهيثمي في " المجمع " 5/ 225، وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه عمرو بن زنيب، ولم أعرفه!
(5) " قوة " ساقطة من (ش).
(6) أخرجه البخاري (3603) و (7052)، ومسلم (1843)، والترمذي (2190)، =(8/182)
وعن وائل بن حجر نحوه، ولفظه: بعد أن سأله مراراً، وهو يعرض عنه، قال: " اسمعُوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حُمِّلوا (1) وعليكم ما حُمِّلتُم ". رواه مسلم والترمذي، وقال حسن صحيح (2).
وعن ابن عمر، عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " على المرء المُسْلِمِ السمع والطاعة فيما أحبَّ وكره، إلاَّ أن يُؤمَرَ بمعصيةٍ، فلا سمع ولا طاعة " رواه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي (3). قال ابن الأثير (4): رواه الجماعة إلا مالكاً.
وعن أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " عَلَيْكَ السمع والطاعة في عُسرك ويُسرك ومَنْشَطِكَ ومَكْرَهِكَ وأَثَرَةٍ عليك " رواه مسلم والنسائي (5).
وعن عوف بن مالك (6) أيضاً عنه صلى الله عليه وآله وسلم: " خِيارُ أئمتكم الذين تُحبُّونهم ويُحبُّونكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم "، قلنا: أفلا ننابذهم، قال: " لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من وَلِيَ عليه والٍ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزِعَنَّ يداً من طاعة " رواه مسلم.
وعن ابن عبَّاس، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من كره من أميره شيئاً فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبراً، مات ميتةً جاهليةً ". وفي رواية: "فإنه من فارق الجماعة
__________
= وأحمد 1/ 384 و428، وابن حبان (4857).
(1) في (ش): " عليه ما حُمِّل ".
(2) مسلم (1846)، والترمذي (2200).
(3) أخرجه البخاري (2955) و (7144)، ومسلم (1839)، وأبو داود (2626)، والترمذي (1707)، والنسائي 7/ 160، وابن ماجه (2864).
(4) في " جامع الأصول " 4/ 66.
(5) مسلم (1836)، والنسائي 7/ 140.
(6) في الأصول، عن أبي هريرة، وهو خطأ، وقد تقدم تخريجه ص 93 من هذا الجزء.(8/183)
شبراً". رواه البخاري ومسلم (1).
ويعضد هذه الأحاديث ظاهر القرآن في طاعة أُولي الأمر، لأن الجائر منهم لغة، والقرآن نزل عليها، ومن فسَّر بخلافها، فعليه الدليلُ.
ويمكن التَّوسُّطُ، فنقول: لا شك في طاعة أولي (2) الأمر الذين اجتمعت عليهم جماعة المسلمين، وعملوا بكتاب الله، وفي نحو هذا نزلت الآية، ولسبب النزول أثرٌ في التفسير كما بين في موضعه، ويقاتلهم الذين يجوز قتالهم بلا شك، وهم الذين تركوا الصلاة، وأظهروا كفراً بواحاً، كما ورد في الأحاديث، وما بينهما محل نظر، وكل مجتهدٍ في ذلك مصيبٌ إن شاء الله.
ومما يخصُّ عمومات القرآن وأحاديث الفقهاء حديث أم سلمة: " إنه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتُنكرون، فمن كَرِهَ، فقد برىء، ومن أنكر، فقد سَلِمَ، ولكن من رضي وتابع "، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: " لا ما صلُّوا " (3). أي: من كره بقلبه، وأنكر بقلبه (4) كذا عند مسلم، فلم يوجب في هذا طاعتهم (5)، بل حرم قتالهم (6) فقط، وحكم بالنجاة لمن كره وأنكر.
وروى مسلم وغيره من ستِّ طرقٍ عن عرفجة الأشجعي أنه سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه " (7).
__________
(1) أخرجه البخاري (7053) و (7054) و (7143)، ومسلم (1849)، وأحمد 1/ 275.
(2) " أولي " ساقطة من (ف).
(3) أخرجه مسلم (1854)، وأبو داود (4760)، والترمذي (2266)، وأحمد 6/ 295 و302.
(4) قوله: أي: من كره بقلبه ... هو قول ابن الأثير كما في " جامع الأصول " 4/ 69.
(5) في (ف): " قتالهم ".
(6) في (ف): " طاعتهم ".
(7) أخرجه أحمد 4/ 261 و5/ 23 - 24، ومسلم (1852)، وأبو داود (4762)، =(8/184)
فقوله: " وأمركم جميعٌ " يدل على أن المراد في الأحاديث التي ذُكر فيها السلطان، وأولوا الأمر معناها: السلطان العرفي والشرعي، وهو المجمع عليه، لا اللغوي، وهذا قوي، لأنه أخص وأبينُ، والله أعلم.
ويحتمل الجمع بأن الصبر أفضل، والخروج جائزٌ حيث لا جماعة، ويتقوى بفعلِ الحسن عليه السلام.
ويلحق بهذا فوائد ذكرها الفقهاء تدل على تمييزهم ومعرفتهم بالشريعة، وفرقهم بين أئمة الجور وأمراء العدل.
الفائدة الأولى: قال النواوي في " الأذكار " (1): فإن اضطر إلى السلام على الظلمة، بأن دخل عليهم، وخاف ترتُّب مفسدةٍ في دينه أو دُنياه أو غيرهما إن لم يسلِّم سلَّم عليهم.
قال القاضي أبو بكر ابن العربي: قال العلماء: يسلِّم وينوي: " السلام " اسم من أسماء الله تعالى، المعنى: الله عليكم رقيبٌ.
الفائدة الثانية: فرق بين المداهنة والمداراة (2)، فيما يجوز من المخالطة عندهم وما لا يجوز.
قال في " شرح مسلم " ما معناه: إن المداهنة لا تجوز، والمداراة تجوز، قال: والفرق بينهما أن ما كان من أمر الدين، مثل أن يفتي بغير الحق، أو يكذب، أو يفعلَ شيئاً من المحرمات، أو يترك شيئاً من الواجبات، فهذه مداهَنَةٌ محرَّمَةٌ، والمداراة بأمور الدنيا (3)، مثل أن تعطيه مالك، أو تُحْسِنَ إليه، فهذه
__________
= والنسائي 7/ 92، وابن حبان (4406)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(1) ص 372، وما بين حاصرتين منه.
(2) قوله: " فرق بين المداهنة والمداراة " ساقط من (د) و (ف).
(3) في (ش): " الدين "، وهو خطأ.(8/185)
مداراةٌ لا بأس بها. وسيأتي مزيد بيان لهذه الفائدة، إنما أحببتُ ذكر ما ذكروه ليُعرف تمييزُهم لهذا.
الفائدة الثالثة: قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي ": إنه يعرف العلماء ببيت المقدس في يوم الجمعة يستمعون الخطبة، حتى يبلغ الخطيب إلى ذكر أئمة الجور والثناء عليهم، فإذا بلغ ذلك، تركوا الاستماع، وقاموا يتنفلون، واشتغلوا (1) بالصلاة عن استماع مدح الظلمة.
الفائدة الرابعة: قال الشيخ أبو بكر بن فورك (2) في كتابه " النِّظامي " في الإمام الجائر: إنه يجب وعظه وتخويفه وإرشاده وتنبيهه.
وعلى هذا المعنى نص القاضي عياض أيضاً، وكذلك النواوي، فإنه قال في أئمة الجور: فإذا رأيتم ذلك، فأنكروا عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم. انتهى كلام النواوي.
وروى المحدثون (3) في كتبهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطانٍ جائرٍ " (4).
وبتمام الكلام في هذه الفوائد، تم ما أردت ذكره من التعريف بمذهب الفقهاء، وقصدهم في إمامة الجائر. والله سبحانه أعلم.
الوهم الرابع والثلاثون:
__________
(1) في (ش): " ويشتغلون ".
(2) هو الإمام العلامة، شيخ المتكلمين، الأصولي، الأديب النحوي أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك الأصبهاني، كان أشعري المذهب، جرت له مناظرات مع الكرامية، وكان شديد الرد عليهم، مات مسموماً سنة 406. وكتابه " النظامي " في أصول الفقه، ألفه للوزير نظام الملك. انظر ترجمته في " سير أعلام النبلاء " 17/ 214 - 216.
(3) في (ش): " الذي روى عن المحدثين ".
(4) تقدم تخريجه 2/ 68 و4/ 245.(8/186)
أن السيد أيده الله ذكر الزهري قادحاً بروايته على أهل الحديث، وأطال الكلام في ذلك، وعوَّل في جرحِ الزهري على مُخالطته للسلاطين، وموالاته لهم، وإعانتِه لهم، وعلى كتابٍ كتبه إليه بعض إخوانه، فبعض ذلك كان من الزهري، ولا يدلُّ على الجرح في الرواية، وبعض ذلك دعوى على الزهري، لم يكن منه.
والذي كان مِنَ الزهري هو مخالطة السلاطين، وذلك إن لم نحمله على السلامة، نقص في الدرجة (1)، لا جرحٌ في الرواية، والفرق بينهما واضحٌ، فقد تقدم كلام المنصور بالله عليه السلام في الرواية وأن مبناها على ظن الصدق، وتقدم كلام الأئمة في قبول الخوارج الذين يُكَفِّرُون أمير المؤمنين عليه السلام، وقول المنصور بالله عليه السلام: إنهم أولى بالقبول من أهل العقيدة الصحيحة، لتشدُّدهم في الكذب، واعتقادهم أنه كفرٌ.
وقد أخلَّ السيد بقاعدةٍ كبيرةٍ هي أساس الكلام في الجرح والتعديل، وهي ذكر المحاسن والمساوىء، ليقع النظر في الترجيح بينهما، وقد ترك السيد هذا الأمر، فذكر مساوىء الزُّهري مجرَّدةً عن محاسنه التي أوجبت قَبُولَ بعضِ حديثه عند أئمة الحديث، وهو الصحيح المسند السالم من الإعلال والتدليس والإدراج ونحو ذلك، فإن كان هذا لما يعتقده السيد من سقوط مرتبة الزهري، وأنه ليس بأهلٍ لأن يُذكَرَ بخيرٍ، فالله تعالى -مع أنه العدل الذي لا يُتَّهَمُ- قد شرع الإنصاف لكل أحدٍ، ونصب الموازين ليوم القيامة، وأظهر كل ما لأعدائه من الحسنات، ولم يتركها لعداوتهم، ولا اكتفى بعلمه الحق فيهم، ولم يذم أحدٌ قط بالعدل على من يكره، بل هي سنة أهل العدل، وسجيَّة ذوي الفضل.
والأمر في الزهري قريب، والإشكال فيه سهلٌ، لكن هذا القدح الذي قدح به السيد على الزهري يقتضي القدح في كثير من العلماء والفضلاء، ممن خالط الملوك، فإن التاركين لذلك من العلماء هم الأقلُّون عدداً، وإذا طالعت كتب
__________
(1) عبارة " في الدرجة " ساقطة من (ف).(8/187)
التواريخ، لم تكد تجد أحداً من العلماء إلاَّ وله علقةٌ بالسلاطين، أو مخالطةٌ لهم، أو وِفادة عليهم، أو قبول لعطاياهم، فمنهم المقل، ومنهم (1) المكثر، ولو كانت المخالطة في مرتبة التحريم الذي يأثم فاعله ويُجرَحُ، لم يكن بين الإقلال منها (2) والإكثار فرقٌ واضحٌ، ولا كان بين الزهري وغيره من الذين خالطوا مخالطة (3) يسيرة فرقٌ واضح أيضاً، فإن من فعل المحرَّم ولو مرةً واحدة، فقد توجه عليه الجرح والقدح، وشُرْبُ جرعةٍ مِنَ الخمر في الجرح، كالإدمان على شربها، وإن كانت عقوبة المدمن لشُربها أكثر.
فإذا عرفت هذا، فلا بد من الكلام على فوائد قصدت بها وجه الله تعالى في أمرين:
أحدهما: في الذب عن جماعة من العلماء والفُضلاء قد خالطوا المُلوك، إما لغرضٍ دينيٍّ، أو لحاجةٍ دنيويةٍ، أو لتقيةٍ، أو لمصلحةٍ عامةٍ أو خاصةٍ، أو لمجموع هذه الأمور أو مجموع أمرين منها أو أكثر، ولم يرتكبوا في مخالطتهم محرَّماً، ولا كان منهم إلاَّ مجرد المخالطة، فيتوهَّم من لم يعرفِ الشريعة أنهم بمنزلة أهل المعاصي الصريحة، ويتساهل في استحلال غيبتهم وهتكِ حُرْمَتِهم.
وثانيهما: الذب عن العلوم المأخوذة عن هؤلاء، فإن كثيراً من علوم الشريعة -على تباين طبقاتها- (4) مستندةٌ إلى من لم يسلم من شيءٍ من هذا القبيل.
على أن السيد أيَّده الله ذكر في تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النُّكت اللِّطاف " ما يدلُّ على أنه رَخوُ الاعتقاد، سلسُ القياد في هذه المسألة، مع ما يدل على ذلك، مِنْ أحواله وأفعاله وأقواله، وذلك أنه ذكر اختلاف المفسرين
__________
(1) " منهم " ساقطة من (د) و (ش).
(2) " منها " ساقطة من (ف).
(3) في (ش): " في مدة يسيرة ".
(4) في (ش): " صفاتها ".(8/188)
في قوله تعالى: {ولا تَرْكَنُوا إلى الذين ظلموا} [هود: 113]، ولم ينكر شيئاً منها، ولا رد على أحدٍ منهم، بل حكى تصحيح الرخصة في ذلك، وختم به، وهو أجلُّ من أن يشُوبَ القرآن بإدخال البواطل في تفسيره، فقد ورد أن حاكي الكذب أحد الكاذبين، وقد يحكي في تفسير الآية الكريمة عن قتادة، أن المراد: ولا تلحقوا بالمشركين (1)، وقتادة من أكابر علماء المعتزلة القدماء. وعن أبي العالية: لا تَرْضَوْا بأعمالهم (2). وقيل لا تُداهنوا عن السدي (3).
وقيل: الركون المنهي عنه: الدخول معهم في ظلمهم أو إعانتهم، أو الرِّضا بفعلهم، أو موالاتهم، أما إذا دخل عليهم أو خالطهم لدفع شرِّهم، أو أحسن معاشرتهم، ورفَق بهم في القول، ليقبلُوا منه ما يأمرهم به من طاعة الله، فذلك غير منهيٍّ عنه. عن القاضي (4)، قال الحاكم: وهو الصحيح، لقوله تعالى: {فَقُولا له قولاً لَيِّناً} [طه: 44].
قال الواحدي (5): هو السكون إلى الشيء، والميل إليه بالمحبة.
قال ابن عباس (6): لا تميلوا، يريد في المحبة ولين الكلام.
وقال عكرمة (7): هو أن يضيِّفهم أو يودَّهم.
وقال أبو العالية: لا ترضَوْا بأعمالهم.
__________
(1) انظر " تفسير الطبري " (18607).
(2) " الطبري " (18603) - (18605).
(3) ذكره البغوي في " تفسيره " 2/ 404.
(4) هو العلامة المتكلم شيخ المعتزلة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفى سنة (415) هـ. والحاكم: هو المحسِّن بن محمد بن كرامة الجشمي المتوفى سنة 494 هـ.
(5) ونقله عنه الرازي في " التفسير الكبير " 18/ 71.
(6) انظر " تفسير الطبري " (18606)، و" تفسير البغوي " 2/ 404، و" الدر المنثور " 4/ 480.
(7) في (ف): " قتادة "، وهو خطأ، وقول عكرمة هذا ذكره البغوي 2/ 404، وعنده: لا تطيعوهم، وعند السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 410: تطيعوهم أو تودوهم أو تصطنعوهم.(8/189)
وقال الرازي (1): المنهي عنه عند المحققين الرضا بما عليه الظلمة من الظلم، وتحسينه لهم، أو لغيرهم، فأمَّا مداخلتهم لدفع ضررٍ، أو اجتلابِ منفعةٍ عاجلةٍ، فغير داخلٍ في الركون. انتهى بحروفه.
الفائدة الأولى: في حكم مخالطة السلاطين في نفسها (2).
واعلم أن مخالطتهم أقسامٌ:
القسم الأول: المخالطة لمجرد التناول مما في أيديهم من بيوت الأموال، وحقوق المسلمين، فهذا نقصٌ من مرتبة الزَّهادة، وشَيْن في أهلِ العلم والعبادة، ولكنه لا ينحَطُّ إلى مرتبة التحريم، فإن حُبَّ الدنيا، وإن كان مذموماً على الإطلاق، لكنه يختلف، فمنه حرامٌ، ومنه حلالٌ، فالحرام منه هو حب الحرام من الدنيا، والإضراب عن الدين، وأهل هذا، هُمُ الذين ذمَّهم الله تعالى قي القرآن، وحيث يَرِدُ الذم على حبِّ الدنيا مطلقاً أو عاماً، فالمراد به هذا الجنس، بدليل قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 200 - 202]، وقوله: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13]، وقول عيسى: {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} ... إلى: {وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِين} [المائدة: 114]، فهذه الآيات خاصة تبين تلك (3) العمومات، وأن المذمومين في تلك العمومات هم الذين قالوا: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}.
وقد يرتقي حب الدنيا إلى مرتبة الندب والاستحباب مع حسن النية في قصد العفاف بالعفاف (4) عن الحرام، وكفاية الأهل وصلة الأرحام والإخوان، وإعانة الضعيف، وإطعام الطعام.
__________
(1) في " التفسير الكبير " 18/ 72.
(2) في (ف): " عينها ".
(3) في (ش): " لك "، وفي (ف): " هذه ".
(4) في (ش) و (د): " بالحلال ".(8/190)
والذي يدلُّ على أن المُباح قد يصير مندوباً بالنية، وبإعانته على ترك الحرام أحاديث: " إنما الأعمال بالنية " (1)، وما (2) في معناه، وما ثبت في الحديث الصحيح عن أبي ذرٍّ مرفوعاً: " وفي بُضْعِ أحدكم صدقةٌ ". قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوته، ويكون له أجر؟ قال: " أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، كان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال، كان له أجرٌ ". أخرجه مسلم في " الصحيح " (3)، والنواوي في " مباني الإسلام " (4).
ومما يدل على ذلك أنه قد ثبت عن سليمان عليه السلام أنه سأل الله تعالى مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده.
وثبت في " الصحيحين " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه: " اللهم إني أسألك الهدى والتُّقى والعفاف والغِنَى " (5)، ولو كان الغنى نقصاً في الدِّين، وحبُّه رذيلةً لا يليقُ بالمؤمنين، لم يسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا امتنَّ الله عليه به في قوله: {وَوَجَدَك عائِلاً فأغنى} [الضحى: 8].
وكذا (6) ثبت في " الصحيح " عن أم أنس قالت: يا رسول الله ادع لخادمك أنس فدعا له بالغنى أو نحو ذلك (7)، ولو كان نقصاً في دينه على الإطلاق، لكان
__________
(1) أخرجه من حديث عمر رضي الله عنه أحمد 1/ 25 و43، والبخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، وابن ماجه (2427)، والنسائي 1/ 58 - 60 و6/ 158 - 159 و7/ 13.
(2) في (ف): " وبما ".
(3) برقم (1006)، وأخرجه أيضاً أحمد 5/ 167 و168، وأبو داود (5243).
(4) وهي " الأربعون النواوية "، وهو الحديث الخامس والعشرون منها. انظر " جامع العلوم والحكم " ص 220 - 226.
(5) أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 411 و416 و437، ومسلم (2721)، والترمذي (3489)، وابن ماجه (3832)، وابن حبان (900).
(6) في (ش): " وكذلك ".
(7) أخرج أحمد 3/ 194 و248، والبخاري (6334) و (6378) - (6381)، ومسلم =(8/191)
الدعاء عليه، لا له، وحديث أهلِ الدُّثور، وشكاية فقراء المهاجرين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زيادتهم في الفضل، وكثرة الثواب معروفٌ في " الصحيحين " وغيرهما، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " (1).
وفي الصحيح: " أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيعُ " (2)، وقد اشتهر في الحديث الصحيح الاستعاذة من الفقر من غير وجه.
قال الحافط ابن النحوي في كتابه " خلاصة البدر المنير " حديث إنه - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الفقر. رواه أبو داود والنسائي عن أبي هريرة كذلك، وإسناده على شرط مسلم، كما قال الحاكم (3)، ومتفق عليه أيضاً من رواية (4) عائشة، لكن لفظه: " من فتنة الفقر " (5). انتهى.
وعن علي عليه السلام أنه كان يقول في دُعائه: اللهم صُنْ وجهي باليسار، ولا تبذُل جاهي بالإقتار. رواه في " نهج البلاغة " فهذا كلام إمام الزاهدين، وقدوة العارفين.
وروى النسائي من حديث أنسٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُبِّبَ إليَّ
__________
= (2480) و (2481)، وابن حبان (7178) عن أنس، أن أم سليم قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنس خادمك، ادع الله له. قال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته ".
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (843) و (6329)، ومسلم (595).
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة أبو داود (1547)، والنسائي 8/ 263، وابن ماجه (3354)، وصححه ابن حبان (1029).
(3) ولفظه: " اللهم إني أعوذ بك من الفقر والفاقة، وأعوذ بك من أن أَظلِمَ أو أُظلَم ".
أخرجه أبو داود (1544)، والنسائي 8/ 261، وأحمد 2/ 305 و325 و354، وصححه ابن حبان (1030)، والحاكم 1/ 541، ووافقه الذهبي.
(4) في (ف): " حديث ".
(5) أخرجه البخاري (3838) و (6368) و (6376)، ومسلم (589) ص 2078، وأحمد 6/ 207، والنسائي 8/ 262، وابن ماجه (3838).(8/192)
الطيب والنساء، وجُعِلَتْ قرةُ عيني في الصلاة". رواه النسائي في أول " عِشرة النساء " بسندين جيدين عن ثابت، عن أنس، وهو من أحاديث " المجتبى من سننه " (1)، وهو صحيحها، ورواه ابن تيمية بصيغة الجزم، وقال: رواه الإمام أحمد.
وروى النسائي بعد ذلك شاهداً لمعناه من حديث سعيد عن قتادة، عن أنس: لم يكن شيءٌ أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد النساء من الخيل (2).
وذكره ابن الأثير في الطيب من الزينة في (3) حرف الزاي، وفي الباب التاسع من حرف الفاء في فضل الصلاة (4).
ومتى كان طلب المحتاج إليه من الله تعالى، كان من العبادة مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة، ومنه قول عيسى عليه السلام: {وارزُقْنَا وأنت خيرُ الرازقين} [المائدة: 114] فيما حكى الله عنه. وفي الحديث الصحيح " أن أيوب النبي عليه السلام رأى جراداً من ذهبٍ تسقط عنده، فجعل يلتقِطُها، فقال الله تعالى: ألم أُغنك عن هذا؟! فقال: بلى ولكن لا غنى لي عن بركتك " (5).
فهذا وأمثاله كثيرٌ، فأمَّا حب المال المُلهي عن ذكر الله، الشاغل لصاحبه عن طاعة الله والتكاثر والتفاخر، وأمثال ذلك من أفعال الدُّنيويِّين ومقاصدهم، فليس بمحبوبٍ في الشرع، وفي هذا مباحث لطيفةٌ، ليس هذا موضع ذكرها.
__________
(1) حديث حسن، رواه النسائي في " عِشرة النساء " (1) و (2)، وفي " السنن الصغرى " 7/ 61 - 62. ورواه أيضاً أحمد 3/ 128 و199 و285، وأبو يعلى (3482) و (3530)، وصححه الحاكم 2/ 160، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه النسائي في " عشرة النساء " برقم (3)، وفي " السنن الصغرى " 7/ 62.
(3) في (ش): " من ".
(4) " جامع الأصول " 4/ 766 و9/ 396.
(5) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 243 و314 و511، والبخاري (279) و (3391) و (7493)، وابن حبان (6229) و (6230).(8/193)
وقد ذكر القرطبي في " تذكرته " (1) هذا المعنى مستوفى.
وأكثر المحبين للدنيا لا يحبُّونها على الوجه المسنون، بل إنما يحبها الأكثرون بمجرد الطبيعة البشرية وداعية الهوى، وذلك يكون في مرتبة النقص، لا في مرتبة التحريم، مهما بقي صاحبه على حد الشريعة في ترك الحرام، وأداءِ الواجب، فأما ما ورد على صورةٍ تناقض ما قدمنا من قوله عليه السلام: " اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفافَ والغِنى " (2)، فلا أعلم شيئاً من ذلك المناقض لهذا يصح.
وذلك نحو ما رُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " اللهم أحْيِني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشُرني في زُمْرَةِ المساكين ". وهو حديث ضعيف عند كثير من علماء الأثر، ضعفه ابن كثير (3)، وقال ابن النحوي في " خلاصته ": رواه الترمذي (4) عن أنس، وقال: غريب، وابن ماجة عن أبي سعيد بإسناد ضعيف، والحاكم به وصحَّحه (5)، والبيهقي (6) من رواية عبادة بن الصامت، ولا أعلم له علَّةً.
وحديث: " الفقر فخري " غريب، وقال بعض الحُفَّاظ المتأخرين: كذبٌ، لا نعرفه في شيءٍ من كتب المسلمين المعروفة (7). انتهى كلام ابن النحوي.
__________
(1) ص 471 - 472.
(2) تقدم تخريجه ص 185 من هذا الجزء.
(3) في " البداية والنهاية " 6/ 52.
(4) برقم (2352)، ورواه أيضاً البيهقي 7/ 12، وابن الجوزي في " الموضوعات " 3/ 142، وهو ضعيف كما قال الترمذي.
(5) أخرجه ابن ماجه (4126)، والحاكم 4/ 322، والبيهقي 7/ 13، والخطيب في " تاريخ بغداد " 4/ 11، وابن الجوزي في " الموضوعات " 3/ 141، وإسناده ضعيف، ومع ذلك صححه الحاكم، ووافقه الذهبي!
(6) 7/ 12، وإسناده ضعيف.
(7) قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في " أحاديث القصاص " ص 76، وذكر الحديث السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 300، والعجلوني في " كشف الخفاء " 2/ 113، وعلي =(8/194)
وأورد النواوي في كتاب " رياض الصالحين " (1) حديث: " اللهمَّ اجعل رزق آلِ محمَّدٍ قوتاً "، وفي رواية: " كفافاً ". ورواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث أبي هريرة (2)، ولكنه أغرب في تفسيره، فقال: إنَّ القوتَ: سدُّ الرَّمَقِ، وليس كذلك، وإنما القوت كفاية الحاجة، كذا أو نحوه في " صحاح " الجوهري (3)، ويدلُّ عليه الرواية الأخرى: " اللهم اجعل رزق آلِ محمدٍ كفافاً "، ولا شك أن الكفاف، وكفاية الحاجة هو المقصود بالمعنى، فكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كره الزيادة في الغنى.
وبالجملة، فما لم يعارض الأخبار المتَّفق على صحتها، فلا إشكال فيه، وما عارضها لم يَحِلَّ ترجيحُه عليها، وهي أقوى منه إجماعاً، فأما ما ورد في فضلِ الفقراء، فصحيحٌ، ولكن لا يُناقضُ هذا، فإنه من قبيل الأعواض على البلاوي، وليس يلزم المكلف البلوى ويسألها، لما فيها من العوض (4)، ولهذا لم يَرِدْ في الحديث سؤالُ المرض والجُذام والعمى ونحو ذلك، بل جاء في الحديث: " سؤال العافية في الدنيا والآخرة " (5) وإن كانتِ البلوى في الآخرة أكثر
__________
= القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " ص 254، ونقلوا عن الحافظ ابن حجر قوله: هو باطل موضوع.
(1) ص 254.
(2) أخرجه أحمد 2/ 446 و481، والبخاري (6460)، ومسلم (1055)، والترمذي (2361)، وابن ماجه (4139)، وابن حبان (6343) و (6344).
(3) 1/ 261.
(4) في (ف): " الأعراض ".
(5) أخرجه ابن أبي شيبة 10/ 240، وأحمد 2/ 25، والبخاري في " الأدب المفرد " (1200)، وأبو داود (5074)، وابن ماجه (3871) عن عبد الله بن عمر، قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: " اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي. اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتال من تحتي " وصححه ابن حبان (961)، والحاكم 1/ 517 - 518، ووافقه الذهبي.(8/195)
أجراً من العافية، فالسنة: الرغبة إلى الله تعالى في العافية، فالبَشَرُ ضعيفٌ، والصبر قليلٌ، وقد حكى الله تعالى عن أيوب عليه السلام أنه شكا إلى الله تعالى ما نزل به من الضُّرِّ، وقال: {أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأنت أرحم الراحمين} [الأنبياء: 83]، فهذا أيوب الذي قال الله تعالى فيه: {إنَّا وَجَدْنَاهُ صابراً نِعْمَ العبد إنه أوَّابٌ} [ص: 44] فكيف بغيره؟
فإن قلت: عادة أهلِ العلم التزهيد في الدنيا، وهذا الكلام كالمناقض (1) لذلك؟
قلت: ليس كذلك، فإن لكلِّ مقامٍ مقالاً، فالعلماءُ زهَّدوا في الدنيا خوفاً من معصيةِ الله تعالى في الوقوع في الحرام، وخوفاً من الاشتغال عن طاعةِ الله تعالى بمباحها.
وأنا بيَّنْتُ المباح من الحرام خوفاً من معصية الله تعالى في تأثيم من تناول المباح، ورد حديثه والقدح في عِرضه، فالكل قاصدٌ لنصيحة المسلمين، وتحذيرهم من الوقوع في معصية ربِّ العالمين، وقد ذكر بعض العلماء وجوب كسب الحلال، وقال: إنما (2) تركنا حثَّ الناس عليه لأن في طبع البشر ما يكفي، وما زال أهل الزهد والرقائق يُقَبِّحُون حب الدنيا حتى غَلِطَ في ذلك من لا فقه له، وظن أن من تناول شيئاً من الدنيا من أهل العلم، فقد حل عرضه، وبطلت عدالته.
وقد ذكر الغزالي في كتاب " الإحياء " (3) مفاسد المخالطة ومصالحها، فذكر ما يليق بحال كتابه في التَّرفُّق والوعظ.
وأنا ذكرت هنا ما يليق بمقتضى الحال من تعريف محضِ الشَّرع، وصريح الحق، وذلك لا يتناقض عند أهل البصر والمعرفة، وقد ذكر ابنُ بطَّال
__________
(1) في (ف): " مناقض ".
(2) في (ف): " قال: وإنما ".
(3) 2/ 221 - 244.(8/196)
في شرحه للبخاري عن العلامة ابن جرير الطبري، والعلامة ابن المنذر جوازَ الأخذ مما في أيدي الظلمة وغيرهم، إلاَّ ما تعيَّن أنه مظلِمَة بعينه لرجلٍ معروفٍ، وحكاه ابن جرير عن الأئمة من الصحابة والتابعين بهذا اللفظ، وحكاه عن جماعة كثيرةٍ، وعيَّن أسماءهم، منهم (1) تسعةٌ صحابة، وعشرةٌ تابعون أو أكثر.
أما الصحابة: فعلي بن أبي طالب عليه السلام، وابنه الحسن عليه السلام، وابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو هريرة، وعائشة، وابن عباسٍ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعثمان.
وأما التابعون، فأبو جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام، وسعيد بن جبيرٍ، وعلقمة، والأسود، والنخعي، والشعبي، والحسن البصري، ومكحول، وعكرمة، والزُّهري، وابن أبي ذئب.
واحتج ابن المنذر على ذلك باستقراض النبي - صلى الله عليه وسلم - من طعام اليهودي ورهنه درعه، وذلك في آخر أيامه (2)، وقد وصفهم الله تعالى بأكلهم (3) السُّحت (4).
واحتج ابن جرير بأمرين:
__________
(1) " منهم " ساقطة من (ش).
(2) أخرج أحمد 6/ 42 و160 و230، والبخاري (2068) و (2096) و (2200)، ومسلم (1603)، والنسائي 7/ 288 و303، وابن حبان (5936) و (5938) عن عائشة، قالت: توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعاً من شعير.
وأخرجه بنحوه من حديث أنس أحمد 3/ 102 و133 و208 و238، والبخاري (2069) و (2508)، والترمذي (1215)، والنسائي 7/ 288، وابن ماجه (2437)، وابن حبان (5937).
(3) في (ف) و (د) " بأكل ".
(4) ونقل قوله الحافظ في " الفتح " 3/ 338.(8/197)
أحدهما: وجوب الحكم للفُجَّار بما في أيديهم، كوجوبه للأخيار على سواءٍ في حكم الشريعة.
وثانيهما: إباحة أخذِ الجزية من أهل الكتاب وإحلالها للمسلمين، مع علمِ الله أن أكثر أموالهم أثمان الخمور والخنازير، وأنهم يتعاملون بالربا. ذكره ابن بطال في كتاب الزكاة، في باب: من أعطاه الله شيئاً من غير مسألة ولا إشراف نفسٍ في شرح قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر: " إذا جاءَك مِنْ هذا المال شيءٌ وأنت غير سائلٍ ولا مُشرفٍ فخُذْهُ " (1).
وذكر أن عموم هذا القول حجةٌ على قبول عطايا الأمراء والظلمة، وفسَّر إشراف النفس بالتعرض، والشَّره، والطمع، مأخوذٌ من: أشرف (2) الرجل، إذا تطاول ومد بصره، ومنه الموضع المشرف: المرتفع.
وحكى كراهة أموال الأمراء وقبول صلاتهم عن الثوري، ومحمد بن واسعٍ، وأحمد بن حنبل، ومسروق، وعبد الله بن المبارك، وابن سيرين، وأكثرهم للاحتياط لا للتحريم، ومنهم من حرمها.
وحجة من حرمها حديث الشبهات (3)، وقد اختار الخطابي في شرحه الحديث في " معالم السنن " (4) الجواز، وكذلك ابن عبد البر، وحكى النواوي (5) في الشبهات ثلاثة أقوال: الحِلُّ، والتحريم، والكراهة، وهو المختار، لأنه ظاهر الحديث، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الحلال بيناً والحرام كذلك، وجعلها قسماً ثالثاً، وشبَّهها بما حول الحمى لا بالحمى، وجعل العِلَّة في تحريمها خوف
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 52، والبخاري (1473)، ومسلم (1045)، وابن حبان (3403).
(2) في (ش): " إشراف ".
(3) هو حديث النعمان بن بشير: " إن الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات ... "، وقد تقدم تخريجه 2/ 335 - 336.
(4) 3/ 56.
(5) في " شرح مسلم " 11/ 27.(8/198)
الوقوع في الحمى، ولأنه نهى (1) عن أجرة الحجام مرتين، وقال في الثالثة: " اعلفه ناضِحَك وأطعمه رقيقك " (2) فدلَّ على الكراهة، ولما ورد من النواهي الصحيحة عن السؤال عن المسكوت عنه، والأمر باستحلاله حتى ينهاهم (3) عنه، وبذلك احتج من أحلَّها، منهم ابن عبد البر، قال: هي عندنا من الحلال الطيب، ولي فيها تفصيل جيِّدٌ ذكرته في " قبول البشرى ".
على أن الزَّهادة غيرُ الفقر، وكم من فقيرٍ مشغول القلب بالدنيا، وغني مشغول القلب بالآخرة، ومحلها القلب إجماعاً.
وقد روى الترمذي (4) من حديث أبي ذرٍّ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليست الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يديك (5)، وأن تكون في ثواب المصيبة أرغب منك فيها لو أنها بقيت لك ". ورواه رزين، وزاد فيه: " لأن الله تعالى يقول: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم} [الحديد: 23].
وهذا الكلام انسحب من الكلام في مُخالطة الملوك لمحبة تناول شيءٍ مما يحِلُّ تناوله بما في أيديهم.
والقصد ما ذكرته من الزَّجر عن الغيبة، واعتقاد جرح من فعله من أهل الديانة والعلم، فقد ذكر العلماء من أنواع الغيبة قول القائل: فلان مبتلى بمخالطة السلاطين، فالله يُسامِحُهُ، ونحو ذلك من غيبة القُرَّاء.
__________
(1) " نهى " ساقطة من (ف).
(2) أخرجه من حديث ابن محيصة عن أبيه الشافعي 2/ 166، وأحمد 5/ 435، وأبو داود (3422)، وصححه الترمذي (1277)، وابن حبان (5154).
(3) في (ف): " نهاهم ".
(4) برقم (2340)، وأخرجه أيضاً ابن ماجه (4100)، وإسناده ضعيف، فيه عمرو بن واقد النكري، قال الترمذي: منكر الحديث.
(5) في (ش): " يدك ".(8/199)
فإن قلت: هذا مجرد دعوى لإباحة المخالطة إذا لم يكن فيها معصيةٌ، فما الدليل على ذلك؟ قلت: الدليل عليه وجوهٌ:
الوجه الأول: الحديث الصحيح، والنص الصريحُ، وذلك أنه ثبت عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أئمة الجور ومن في معناهم، ثم قال: " فمن غَشِيَ أبوابهم، فصدقهم في كَذِبِهِم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بواردٍِ عليَّ الحوض يوم القيامة، ومن غشيها أو لم يغشها فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يُعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه، وهو وارد علي الحوض يوم القيامة ". رواه الترمذي في موضعين من " جامعه " (1) بإسنادين مختلفين، أحدهما: صحيح، وعليه الاعتماد، والثاني: معلول، وهو شاهد للصحيح غير قادح فيه ورواه أبو طالب في " الأمالي "، فقال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، حدثنا أحمد بن سعيد بن عثمان الثقفي، أخبرنا محمد بن يحيى الذُّهلي، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن خُثيم، عن عبد الرحمن بن سابَط، عن جابر بن عبد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لكعب بن عجرة: الحديث ولفظه: " فمن صدَّقهم في كذبهم، وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولستُ منهم، ومن لم يُصدقهم في كذبهم، ولم يُعِنْهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم، سيردون على حوضي " (2).
ومن ذلك ما رواه أبو داود في " سننه " (3) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المسألة، إلاَّ أن يسأل الرجل ذا سلطانٍ، فهذا عامٌّ في سلاطينِ العدلِ
__________
(1) الترمذي (614) و (2259)، وأخرجه أيضاً النسائي 7/ 160، وصححه ابن حبان (279) و (282) - (285)، والحاكم 1/ 79، ووافقه الذهبي.
(2) هو في " مصنف عبد الرزاق " (20719)، وأخرجه أحمد 3/ 321 و399، والبزار (1609)، وصححه الحاكم 3/ 479 و4/ 422، وابن حبان (1723)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) برقم (1639) من حديث سمرة، وأخرجه أحمد 5/ 19 و22، والترمذي (681)، والنسائي 5/ 100، وصححه ابن حبان (3389) و (3397).(8/200)
والجَوْرِ، وليس يمكنه السؤال إلاَّ بضربٍ من المخالطة.
الوجه الثاني: العموم القرآني، وهو قول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون} [الممتحنة: 8 - 9]. فهذه الآية الكريمة تُخَصِّصُ العمومات (1) الواردة في هذا الباب، وتبيِّنُها.
وقد ذكر الزمخشري في " الكشاف " (2) أن المعنى: لا ينهاكم عن مبرَّة هؤلاء، وإنما ينهاكم عن تولِّي هؤلاء. قال في " الكشاف ": وهذا رحمةٌ لهم لتشدُّدهم وحدهم في العداوة، حيث رخَّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم (3) بقتال المؤمنين، وإخراجهم من ديارهم. انتهى.
فإذا كان هذا في صلة الكفار والبِرِّ بهم، فكيف في الوفادة عليهم، وأخذ أموالهم (4)؟ فإنه ليس في ذلك شيءٌ من البر والإعانة لهم، بل هو في الحقيقة أذيَّة لهم، وتقليلٌ من أموالهم التي ينفقونها في السرف والمعاصي، فكيف في الوِفادة على ملوك المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، مع الإجماع على جواز محبة العاصي لخَصْلَةِ خيرٍ فيه، ولا أعظم في خصال الخير مِنْ قول: لا إله إلاَّ الله محمد رسول الله، كما ثبت في الحديثِ الصحيح (5).
الحجة الثالثة: فعل يوسف عليه السلام مع عزيز مصر، وليس فيها إلاَّ أنه
__________
(1) في (ش): " العموميات ".
(2) 4/ 91.
(3) " منهم " ساقطة من (ف).
(4) من قوله: " وإخراجهم من ديارهم " إلى هنا، سقط من (ش).
(5) انظر 5/ 306 ت (2).(8/201)
من شرع من قبلنا، وقد تقدم أن المنصور بالله وغيره من العلماء قالوا: إنه حجة إذا ذُكِرَ في كتابنا، وقد ثبت الدليل على صحة ذلك فيما تقدم، وليس ينبغي أن نعترض هذه الحجة بأن يوسف عليه السلام نبيٌّ، فإنه لو لم يكن نبياً، لم يحتج بذلك، فتأمَّل ذلك.
الحجة الرابعة: أن الأصل الإباحة، ولا دليل صحيح ينقُلنا عنه، ولنقتصر على هذا القدر في الاحتجاج على إباحة هذا الأمر، لا على استحبابه، فتركُه أفضلُ بلا ريب.
الحجة الخامسة: ما حكاه السيد عن القاضي والحاكم -وهما شيخا الاعتزال- من الاحتجاج على جواز ذلك بقوله تعالى: {فقولا له قولاً ليِّناً لعله يَتَذَكَّرُ أو يخشى} [طه: 44]، وقولهما: إن الظالم أولى بذلك من الكافر، وقد تقدم ذلك مستوفى في مسألة المتأولين، وتقدم بعضه قريباً في أوَّل هذه المسألة.
ويلحق بهذه الجملة تنبيهٌ عظيم النفع، وهو يشتمل على أمرين:
أحدهما: أن الحاجة إلى معرفة هذه المسألة عامة، فالكل مُبتلى بها، إلا النادر، فالأئمة مُبْتَلَوْن بها لمخالطتهم للفَسقة من الجُند والأعوان، ومن ليس من أهل الأمر، ومن لا يخالطهم، فهو مبتلى بمخالطة قُطَّاع الصلاة من العامة، ولكثيرٍ من أهل المعاصي، أما الكبائر أو الملتبسة كالغيبة ونحوها، ولا يكاد الإنسان يسلم من مخالطة من هذه صفته من جيرانه وأهله وأعوانه على الدنيا، بل قد تكون الزوجة والولد كذلك، وأمثال هذا كثير.
الأمر الثاني: أن مُنتهى ما في الباب أن يقوم عند بعض أهل المعرفة دليلٌ على تحريم المخالطة للملوك من غير فعل حرام، لكن هذا لا يقتضي جرح من فعل ذلك. لأن هذه مسألة ظنية، والدليل فيها من كلا الجانبين غير قاطعٍ، فالمعتقد لتحريم ذلك يلزمه (1) المخالطة للملوك من غير اجتنابه، ولا يحل له
__________
(1) من قوله: " فعل حرام " إلى هنا، ساقط من (ش).(8/202)
القدح على من فعل ذلك اجتهاداً أو تقليداً.
وبهذا الكلام تم القسم الأول من أقسام المخالطة، وهو المخالطةُ لنيلِ شيءٍ من الدنيا على وجهٍ يحِلُّ.
القسم الثاني: المخالطة للمصالح المتعلِّقة بالعامة من الشفاعة للفقراء، والتبليغ بالمظلومين (1) أو نحو ذلك، أو المصالح الخاصة بالملوك من وعظهم أو تذكيرهم وتعريفهم بما يجب للمسلمين وتعليمهم معالم الدين، وسواءٌ كان ذلك على جهة التصريح (2) أو التلويح مع حُسْنِ النية، وهذا القسم يكونُ مستحبّاً غير مكروهٍ، وسواء كان الغرض الحاصل من ذلك تركهم للباطل كله، أو تركهم لبعضه، وتخفيفَهم منه، إلاَّ أن يكون في الزمان إمامُ حقٍّ يدعو إلى حرب الظَّلَمَةِ، فإن المصير إليه هو الواجب، وإنما قلت: إن هذا يكون مستحبَّاً، لِمَا ورد في ذلك من الآثار الصحيحة، مثل قوله عليه السلام: " أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائرٍ " (3). وقوله عليه السلام في الحديث الصحيح: " الدين النصيحة ". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ورسوله، ولعامة المسلمين وأئمتهم " (4)، فالسلاطين من جملة عامة المسلمين -أعني أهل الملة- ولأن الأنبياء عليهم السلام كانوا يخالطون الكفار لمثل ذلك، ولأن الحسن عليه السلام كان يُخالط معاوية، ويدخُلُ عليه، ويُكاتبُه لمثل ذلك.
ومن كلام الإمام الداعي يحيى بن المحسن في " الرِّسالة المخرسة لأهل المدرسة " قال عليه السلام: لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه، لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عُرِفَ بمتابعة الظَّلَمةِ
__________
(1) في (ف): " للمظلومين ".
(2) في (ف): " مع التصريح ".
(3) تقدم تخريجه 2/ 68 و4/ 245.
(4) حديث صحيح، وقد تقدم تخريجه 1/ 214.(8/203)
لوجهٍ يُوجبُ ذلك، فتولى الناصر الكبير عليه السلام منهم، وصلى لهم الجمعة جعفر الصادق، وصلَّى الحسن السِّبط على جنائزهم، وأقام علي بن موسى الرِّضا مع المأمون، وكثر جماعته، وتزوَّج ابنه محمد ابنة المأمون وغير ذلك.
والوجه فيه أن الفعل لا ظاهر له، فتأويله ممكنٌ إلى كلامٍ حذفناه، قال في آخره: لا تكون المتابعة فيما يمكن التأويل فيه موالاة، لأن كثيراً من العِترة عُرِفَ بمتابعة الظلمة لوجه، كما ذكرناه.
القسم الثالث: المخالطة للتقية، وهي جائزةٌ، لِنَصِّ القرآن، قال الله تعالى: {إلاَّ أن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28]، وسواءٌ أظهر المخالط أنه خالط لأجل التقية، أو لم يظهر ذلك، فإن الأكثرين لا يتمكنون من إظهاره، بل التقية تقتضي كتم ذلك.
القسم الرابع: المخالطة لأجل الجهاد والغزو معهم للكفار، ممن يستجيزُ ذلك. وقد فعل ذلك غير واحد من الصحابة والتابعين وغيرهم من خيار المسلمين، بل قد قام الجِلَّةُ والفضلاء مع المختار الكذاب الذي ادعى النبوة، وكَذَبَ على الله ورسوله لما قام بثأر الحسين عليه السلام، وهذا أيضاً لا يُعترض على فاعله، لأنه ظني لا قاطع على تحريمه.
القسم الخامس: المخالطة لأجل القرابة والرحامة، وهذا أيضاً جائزٌ، وقد رخَّص الله تعالى للمسلمين في صِلَةِ المشركين على العموم إذا لم يجاهروهم بالحرب والإخراج من الديار، وفي " الكشاف " (1) أن قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] الآية، نزلت في قتيلة بنتِ عبد العزى أم أسماء بنت أبي بكرٍ، قَدِمت وهي مشركةٌ إلى بنتها، فلم تقبل هداياها، فنزلت الآية، وفي " صحيح البخاري " (2) معنى هذا ولفظه.
__________
(1) 4/ 92.
(2) برقم (2620) و (3183)، وانظر " صحيح ابن حبان " (452) و (453).(8/204)
وأصرح من هذا قوله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معروفاً بين أرحامه من الكفار والمسلمين.
الفائدة الثانية: في الإشارة إلى من فعل شيئاً من ذلك ومن لم يفعله، وهذه الفائدة تحتمل التوسيع الكثير، ولكن لا فائدة فيه، ولا طريق إليه، فالاستقصاء لذلك يحتاج إلى استحضار كثيرٍ من كتب التواريخ، والإشارة إلى الجُملة تكفي مع ذكر عيون ذلك إن شاء الله تعالى.
فأمَّا من لم يقع منه شيءٌ من ذلك، فهم النادر من خواصِّ أهلِ الزهادة، وأفرادهم الذين فرُّوا بأنفسهم من الفِتَنِ، وصبروا على خشونة العيش، ومفارقة الوطن، وأكثر من اشتهر ذلك عنه، وصح تنزهه من ذلك من أئمة العترة عليهم السلام الإمامان الزاهدان: القاسم والهادي وكثيرٌ من أهل البيت عليهم السلام، ولذلك سبقا كثيراً مِمَّن قبلهما، وفاتا من بعدهما، ورجحا في ميزان التفضيل على جلة الأئمة، وتميَّزا بالجلالة العظيمة عند عُلماء الأمة.
وفي الرواية المشهورة: أن المأمون بَذَلَ للقاسم عليه السلام وَقْرَ سبعة أبغُل ذهباً، ويبتديه بكتابٍ أو يجيبُه عن كتابٍ، فامتنع القاسم عليه السلام من ذلك، ولامته زوجته على ذلك، وله عليه السلام أشعارٌ في هذا المعنى، منها قوله عليه السلام:
تقول التي أنا رِدْءٌ لها ... وقَاءَ الحوادث دُون الرَّدى
ألسْتَ ترى المال منهله ... مخارِم أفواهها باللُّهى
فقلتُ لها وهي لوَّامَةٌ ... وفي عيشها لو صَحَتْ ما كفى
كفافُ امرىء قانعٍ قوتُه ... ومن يَرْضَ بالقُوتِ نَالَ الغِنَى
ومنها قوله عليه السلام:
أسَركِ أنْ أكونَ رتعـ ... ـتُ حيثُ المالُ والبَهَجُ(8/205)
ذريني خَلْفَ قاصِيَةٍ ... تَضَايَقُ بي وتَنْفَرِجُ
ولا تَرْمِنَّ بي غرضاً ... تطاير دونه المُهَجُ
ومن أئمة الحديث والفقه أبو حنيفة، ومالكٌ، وأحمد بن حنبل، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم.
وقد تقدم ذكر ما لأحمد بن حنبل في ذلك من المبالغة الكبيرة في ترجمته في الوهم الخامس عشر، وإنما استوفيت ذلك في حقه، لما وقع في حقه من الجهل الفاحش المزري بصاحبه. نسأل الله السلامة.
وفي العلماء والصالحين عددٌ كثيرٌ قد انتهجوا منارهم، واقتفوا آثارهم.
وأما من خالط الملوك، أو كاتبهم، أو قَبِلَ عطاياهم، فهم السواد الأعظم من المتقدمين والمتأخِّرين والصحابة والتابعين.
وأنا أذكر منهم عيوناً حسب ما حضرني، وأقدِّمُ قبل ذلك مقدمتين:
إحداهما: أنِّي، وإن سردتهم في الذكر، فهم متفاوتون عندي في المراتب، حسبما أسلفت من تقسيم المخالطة إلى تلك الأقسام، فمنها المخالطة المستحبَّةُ، ومنها المباحة، ومنها المكروهة، لكن هذه الأنواع كلها تدخل تحت جنس الإباحة لما تقدم من الدليل على ذلك.
المقدمة الثانية: أن القصد بذكر أن يُعْذَرَ المفضول النازلة درجته بسبب ذكر ما فعل الأفضل، وإن كانا مختلفين، فالأفضل فعل ذلك على وجه يُستحبُّ بنيةٍ صحيحةٍ يحصل معها (1) الثواب على فعله، والمفضول يفعل (2) ذلك على وجه يُكره أو يُباح، لكن لو كان ذلك الفعل في رتبة التحريم مثل شرب الخمر، وقتل النفس لم يصدر من الفاضل البتة، ولتحاماه جميع الفضلاء كما تحاموا فعل المحرمات، وكما تحاماه القاسم عليه السلام، ولم يترخص في شيءٍ منه.
__________
(1) في (ف): " بها ".
(2) في (ف): " فعل ".(8/206)
فلتكن هاتان المقدمتان على بالٍ من الناظر في ذلك كي لا يحسب أني لم أُميِّر الفاضل من المفضول، ولم أعرف ما بينهما من الفرق العظيم، وهذا حين أبتدىء في الإشارة إلى ذكرهم على طبقاتهم.
الطبقة الأولى: طبقة الأنبياء عليهم السلام، وقد أشرت إلى مخالطة يوسف عليه السلام لعزيز مصر فيما مضى، وقريبٌ منها مخالطة نوحٍ ولوط لزوجتيهما مع كفر زوجتيهما، وقول نوحٍ عليه السلام: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45] يسأل (1) الله بذلك أن يكون معه في السفينة مخالطاً له وناجياً معه، وهذا إنما يكون حجة إن لم يصح أن ابنه كان منافقاً، وقد رُوِيَ ذلك، والله أعلم بصحته.
فهذا وأمثاله وقع مِنَ الأنبياء عليهم السلام، ولم يجب أن يحملهم على كراهة المعاصي، وكراهة العُصاة على طلاق الزوجة العاصية، وعلى أن لا يرقُّوا لأحدٍ من أرحامهم العصاة (2)، ولا ذمَّهم الله تعالى بهذا لأجل هذا المعنى، بل أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم لما جادل عن قوم لوط، فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75]، ولم يزد في نهيه عن ذلك على أن قال: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [هود: 76].
الطبقة الثانية: الأئمة والسادة من أهل البيت والصحابة رضي الله عنهم، وقد كان الحسن بن عليٍّ عليه السلام يكاتب معاوية، ويدخل عليه، ويأخذ منه العطايا، وذلك على الجملة مشهورٌ في كتب أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، ورُوِيَ أن الحسن عليه السلام وعبد الله بن جعفرٍ الطيار عليه السلام سألا معاوية في خلافة عليٍّ عليه السلام، فأعطى كل واحدٍ منهما مئة ألفٍ، فبلغ ذلك عليّاً عليه السلام، فقال: ألا يستحيان من رجلٍ نَطْعُنُ في عينه بُكرة وعشيَّاً يسألانه المال؟!
__________
(1) في (ف): " سأل ".
(2) " العصاة " ساقطة من (ف).(8/207)
ورُوِيَ عن أبي هريرة أنه كان إذا أعطاه معاوية، سكت، وإن لم يعطه، تكلم (1).
وكانت أرزاق الصحابة بعد صُلح الحسن عليه السلام من معاوية، فإنه تولى ما كان يتولاه الخلفاء من قبله من بُيوت الأموال وأرزاق المسلمين، وكانوا يُخالطونه ويحضُرُون مجلسه، ولهذا نُقِلَ عنهم في الأحاديث الصِّحاح أنهم كانوا ينكرون عليه ما فعله من المنكر بحضرتهم، ولو كانوا غائبين عن حضرته، ما اتفق منهم ذلك على ذلك الوجه، وذِكْرُ ذلك على التفصيل يطول.
ومِنْ أشهرِ ما يُذكر في هذا المعنى مخالطة علي بن موسى الرضا عليه السلام للمأمون بن هارون، وسكونه في قصره، واستنكاحُه ابنته لولده، ورغبته في مُصاهرته، واستمراره على ذلك حتى مات عليه السلام.
ومن ذلك ما رُوِيَ أن الإمام محمد بن إبراهيم صِنْوَ القاسم عليهما السلام، وفَد على بعض البرامكة، فرأى من كرمه وإكرامه أمراً عظيماً، فأقسم أن لا يوفد أحداً بعده، هذا وهو الذي كان القاسم عليه السلام من عُمَّاله، وكان يقال: أعْظِم بإمامٍ القاسم بن إبراهيم عليه السلام من عماله.
ومن ذلك مصاهرة الإمام المنصور بالله عليه السلام للسلاطين بني حاتم، وفي ديوانه عليه السلام ما لا مزيد عليه من الثناء عليهم، والتأليف لهم بالتهاني والمراثي وأمثال ذلك من المُلاطفات، وذكر إقامته معهم في ذي مرمر، والشَّوق إلى عَوْدِ تلك الأيام، وذكر طيبها على عادة الشعراء في الرَّقائق الشَّوقيَّة.
__________
(1) أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " 19/ 247 من طريقين، عن الوليد بن بكر، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا صالح بن أحمد، حدثني أبي أحمد، أخبرنا العلاء بن عبد الجبار، أخبرنا حماد بن سلمة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب ...
وأورده ابن كثير في " البداية والنهاية " 8/ 114 من طريق الإمام أحمد بهذا الإسناد، وقد تحرَّف فيه العلاء بن عبد الجبار إلى عبد الأعلى بن عبد الجبار.(8/208)
ومن ذلك مخالطة السيدين الإمامين المؤيد بالله وأبي طالب للصاحب الكافي (1)، وكان مشهور الحال من جملة وُلاة الظلمة المعروفين ببني بُوَيه، ولما مات لم يستحل المؤيد بالله وقاضي القضاة الصلاة عليه، حدثني بذلك حيٌّ الفقيه علي بن عبد الله رحمه الله -أعني تحريمهم من الصلاة عليه- وأما ظلمه وحاله، فهو معلوم، لكنه كان معتزلي العقيدة، وحسن التشيع، ذا حظ وافرٍ من الأدب والتمييز، بليغ التعظيم لأهل البيت وسائر العلماء وأهل الأدب، وقد كثُرَتْ لذلك مخالطتهم (2) له واتباعهم له، حتى حكى في " الحدائق " (3) أن المؤيد بالله مدحه بقصيدة بليغة ذكرها في " الحدائق " ومنها:
وكم لك في أبناء أحمد من يدٍ ... لها مَعْلَمٌ يوم القيامة ماثلُ
إليك عقيد المجدِ (4) سارَتْ رِكابُهم ... وليس لها إلاَّ عُلاك وسائِلُ
فأعطيتهم حتى لقد سَئِمُوا اللُّهى (5) ... وعاذَ من العُذَّال من هو سائِلُ
وأسعدتَهم والنَّحسُ لولاك ناجمٌ ... وأعززتهم والذُّلُّ لولاك شاملُ
فكل زمانٍ لم تُزَيِّنْهُ عاطلٌ ... وكلُّ مديحٍ غير مدحكَ باطلُ
وقد نَقَمَ على المؤيد هذا البيت مسلمٌ اللجي، وقال: هذا لا يليق إلاَّ في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقصيدة طويلةٌ معروفةٌ مشهورةٌ، ومن جُملتها:
__________
(1) هو الوزير الكاتب الأديب الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم، إسماعيل بن عباد بن عباس الطالقاني، كان وزيراً للملك مؤيد الدين بويه بن ركن الدين، له تصانيف، منها " المحيط " في اللغة، و" الإمامة "، و" الوزراء "، و" الكشف عن مساوىء المتنبي "، توفي سنة 385 هـ. انظر ترجمته في " السير " 16/ 511 - 514.
(2) من قوله: " من الأدب " إلى هنا، سقط من (ش).
(3) هو " الحدائق الوردية في سيرة الأئمة الزيدية " لحميد بن أحمد المحلي الهمداني، وقد تقدمت ترجمته 3/ 288.
(4) عقيد المجد، أي: المجد طبع له.
(5) اللُّهى، بضم اللام: أفضل العطايا وأجزلها، يقال: اللُّهى تفتح اللَّهى.(8/209)
ألا أيُّهذا الصاحب الماجد الذي ... أنامله العليا غُيوثٌ هواطِلُ
أنامل لو كانت تشير إلى الصفا ... تَفَجَّر للعافين منها جداولُ
لأغنيتَ حتى ليس في الأرض مُعْدِمٌ ... وأعطيتَ حتَّى ليس في الناس آمِلُ
ومن ذلك ما رواه السيد الإمام أبو عبد الإله محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي الحسني مصنف كتاب " الجامع الكافي " في مذهب الزيدية، فإنه قال فيه في المجلد السادس في باب محاربة أهل الحرب: قال محمد -يعني ابن منصور-: حدثني أبو الطاهر، حدثنا حسين بن زيدٍ، عن عبد الله بن حسنٍ وحسنُ بن حسنٍ، إنهما دخلا على عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عليهم السلام، وهو يتجهَّز يريد الغزو في زمن أبي جعفر، فقالا له: مع هذا وهو يفعل ويفعل؟! فقال: حدثتني أمي خديجة بنت علي بن الحسين، عن أبيها، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الجهاد حلوٌ خَضِرٌ، لا يزيده عدل عادلٍ ولا ينقصه جور جائرٍ إلى آخر عصابة تقاتلُ الدجال " (1).
__________
(1) أم عبد الله بن محمد بن عمر لم أقف لها على ترجمة، ثم هو مرسل، وأخرجه بنحوه سعيد بن منصور في " سننه " (2367)، وعنه أبو داود (2532)، أخبرنا أبو معاوية، أخبرنا جعفر بن بُرقات، عن يزيد بن أبي نشبة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاث من أصل الإيمان: الكفُّ عمن قال لا إله إلاَّ الله لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار ".
ويزيد بن أبي نشبة مجهول، وأورده الحافظ في " الفتح " 6/ 56، وقال: وفي إسناده ضعف.
وأخرجه أبو داود (2533)، والدارقطني 2/ 57، والبيهقي 3/ 121 عن أحمد بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن مكحول، عن أبي هريرة رفعه، وهذا سند رجاله ثقات إلاَّ أن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة.(8/210)
ومن كثُرَت مطالعته للسير والأخبار، عرف من هذا كثيراً، ولهذا قال المنصور عليه السلام -لما كان من أعرف الناس بالسير والأخبار- روى عليه السلام أنه لم يبق طالبيٌّ إلاَّ وفد على المأمون إلاَّ القاسم عليه السلام.
وأما الطبقة الثالثة: وهي طبقة الفقهاء، فمن المشهور في مثل هذا: مخالطة الإمام الشافعي رضي الله عنه، والقاضي أبي يوسف (1)، ومحمد بن الحسن الشيباني المجمع على نقل مذاهبهم، والاعتداد بهم، فإنهم كانوا يخالطون هارون، وقد كان القاضي أبو يوسف يسافر معه، ويركب معه في المحمِلِ فيما روى أهل التاريخ، وكانت للشعبي التابعي الجليل مخالطةٌ كثيرةٌ، وله في ذلك قصةٌ غريبةٌ مذكورةٌ في ترجمته، على أنه كان من أهل التشيع لأهل البيت عليهم السلام، وقد كان قاضي القضاة وطبقة من علماء الطوائف يخالطون الصاحب الكافي، ويثنون عليه، ويحاضرونه، وكان له مجلسٌ معهم في كل يوم، فأخبارهم في ذلك مشهورة في كتب التواريخ، وقد كان العلامة ابن أبي الحديد وزيراً لابن العلقمي، ومن أجله صنف شرح " نهح البلاغة " كما ذكره في خطبته (2) وله في ابن العلقمي الثناء العظيم والمدح الكبير، مع الاختلاف في المذهب، فابن أبي الحديد معتزلي وابن العلقمي إماميٌّ.
وقد كان القاضي شرف الدين حسن بن محمد النحوي والفقيه حاتم بن منصور معاصرين للأمراء من الأشراف في صنعاء، وكانت طرائقهما مختلفة في مخالطتهم وتحسين العبارة في محاورتهم، وكان القاضي (3) شرف الدين يزورهم، ويبتدئهم بالسلام والإكرام، ويفعلون له مثل ذلك مع ورعه وعلمه، ولم يقتض ذلك قدحاً في حي القاضي شرف الدين، لكونه كان ألين عريكةً
__________
(1) هو الإمام المجتهد المحدث قاضي القضاة يعقوب بن إبراهيم الأنصاري.
(2) " شرح نهج البلاغة " 1/ 3 - 4.
(3) في (ف): " الفقيه ".(8/211)
من حي الفقيه حاتم وغيرهما. ممن (1) لم أحب ذكره لخوف التطويل.
ويلحق بهذا تنبيهٌ، وذلك إنما عَظُمَ إستقباحنا لمخالطة الظلمة، لأنا لم نحوج إلى مخالطتهم، لإقامتنا في بلاد أئمة العدل من أهل البيت عليهم السلام، واعتيادنا لرفقهم بنا، وعدم مؤاخذتهم لنا، وعفوهم إن أخطأنا، وصبرهم إن جهلنا، ومسامحتهم في حقِّهم وبذلهم لحقنا، فنحن كالمعافى الذي لا يألم قط، لا يعرف قدر العافية، ولا يدري ما مع الأليم من الضرورة، ولو أنَّا ابتلينا بالدول الجائرة المتعدية، لعرفنا أعذار من خالط أولئك الظلمة، وعرفنا ما ألجأهم إلى ذلك حق المعرفة، فنسأل الله تعالى دوام النعمة علينا، فإنا في عافية مما الناس فيه، ببركات (2) أهل البيت عليهم السلام، فنحن لعدلهم آمَنُ من الحمام في البيتِ الحرام، بل قد نسينا نعمة الأمانِ بعدلهم، واشتغلنا بطلب رِفدهم وفضلهم، فلله الحمد والمنة، وله الشكر على هذه النعمة.
واعلم أن مقاصد العلماء تختلف في هذا الباب، فقد يستحسن العالم من ذلك (3) ما يستقبحه غيره، وذلك معلومٌ من أحوال العلماء والفضلاء، وقد كان الأمير علي بن الحسين صاحب " اللُّمع " يواصل بعض أعوان أولاد المنصور عليه السلام في زمن الداعي، فاعترضه بذلك الإمام الداعي، والأمير إنما فعل ذلك لمصلحةٍ رآها، وإن كان الداعي لا يراها، وعلَّة التحريم المودة التي نَقَمَها الله على حاطب بن أبي بلتعة، فإذا لم يكن ثمَّ مودة، فالمسألة اجتهادية، والأعمال بالنيات، والمجمع عليه من تحريم المودة أن يكون لأجل المعصية، بخلاف ما إذا كانت لخصلة خيرٍ كما سيأتي.
والفائدة الثالثة في الدليل على أن المخالطة ليست موالاةً، والدليل على ذلك أن الموالاة هي الموادة والمحبة، لا المخالطة.
__________
(1) في (ف): " مما ".
(2) في (ف): " ببركة ".
(3) " من ذلك " ساقطة من (ف).(8/212)
ثم إن الموالاة المحققة التي هي المحبة تنقسم إلى قسمين قطعي وظني:
فالقطعي: محبة العاصي لأجل معصيةٍ، وهذا القدر هو (1) المجمع على تحريمه دون غيره، ذكر ذلك الإمام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام، وهو ينقسم أيضاً، فمنه ما يُجرَح به في الرواية في الحديث، وهو ما وقع على جهة الجرأة دون التأويل، ومنه ما لا يجرح به في الرواية، وإن كان جرحاً في الديانة، وهو ما وقع منه على سبيل التأويل كما قدمنا ذلك في مسألة المتأولين.
القسم الثاني من الموالاة، وهو الظني، وفيه فائدتان:
الفائدة الأولى: أن نصوص أهل المذهب تقتضي الترخيص الكبير في ذلك، فإنهم نصوا على جواز محبة العاصي لخصلة خير منه، ممن نص على هذا: القاضي شرف الدين رحمه الله، وهذا هو الذي جعله القاضي شرف الدين مذهب الهادي مع تشدده عليه السلام في الموالاة، وفيه ترخيصٌ كبير، لأنه قل من ليس فيه خصلة خيرٍ من أهل المعاصي والظلمة، وليس ثبوت فسق فاسق يدلُّ على أنه لم يبق فيه خصلة خير قط، ولو أنك طلبت دليلاً على أن بعض الفسقة أو الكفرة ليس فيه خصلة خير ألبتة، لتعذر ذلك عليك غالباً، بل قياس كلام أهل المذهب جواز محبة العاصي لمنفعةٍ دنيوية، وذلك لأنهم قد أجازوا نكاح الفاسقة بقطع الصلاة وسائر المعاصي، إلاَّ الفاسقة بالزنى.
على أن الفقهاء الأربعة والجمهور أجازوا نكاح الزانية مع الكراهة، لحديث الرجل الذي قال: إن امرأتي لا تَرُدُّ يد لامس، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " طلقها "، قال: إن نفسي تتبعُها، قال: " فاستمتع بها " (2).
ولهم في الآية الكريمة تفسيران (3):
أحدهما: أنها منسوخة، وهو قول سعيد بن المسيب والشافعي.
__________
(1) "هو" ساقطة من (ش).
(2) تقدم تخريجه 2/ 195.
(3) انظر 2/ 195 - 196.(8/213)
والثاني: أنها واردةٌ مورد الذم لمن لا يحب إلاَّ نكاح الزواني والمشركات بدليل أن في ظاهرها ما هو متروك وفاقاً، وهو انفساخ النكاح بزنى الرجل، وجواز نكاح المشركة للزاني، ولأن القراءة: {لا تَنْكِحُ} بالرفع على الخبر.
وكذلك أحمد بن عيسى عليه السلام، وزيد بن علي قد أجازا نكاح الكتابية من اليهود والنصارى (1)، وأجازه (2) الإمام يحيى بن حمزة وكثير من الفقهاء، وقد تقدم ذكر ذلك، ودعوى الإجماع عليه من الصحابة مع أنه لا يكون بين أحدٍ من المحبة والأُنس ما بين الزوجين، فالذي بينهما في ذلك (3) واقعٌ في أرفع مراتب المحبة، فهذا في محبة الزوجة من غير ضرورة إلى نكاح الفاسقة والكتابية، ومن غير اعتبار خصلة خير، فكيف بما وقع من ذلك مع الضرورة، أو كان لخصلة خير؟
الفائدة الثانية -وهي العمدة-: أن الجاهل قد يرى بعض العلماء يفعل فعلاً وهو يحفظ أنه حرامٌ، فيقدح عليه بذلك، ولم يدر أنه إنما يحفظ ذلك تقليداً لأهل المذهب، وليس لأحدٍ أن يعترض غيره في مسألة اجتهاديةٍ، سواء كان مقلداً أو مجتهداً إذا كان ذلك الغير مستحلاً لما فعله، وسواء كان مقلداً أو مجتهداً، ومسائل الموالاة الظنية من هذا القبيل، فلو كان عالماً خالفنا في مسألةٍ ظنية من مسائل الموالاة، فذهب إلى جوازها، وذهبنا إلى تحريمها، لم يكن لنا أن نقدح عليه بفعله لما استحله، وهذا واضحٌ.
واعلم أن أكثر المحرمات تشتمل على قطعي وظني، كالربويات، فإن الربا من الكبائر المنصوصة المجمع عليها، ولا يحل الجرح بمسائل الخلاف التي فيه، فإن المؤيد بالله عليه السلام وغيره من علماء الإسلام يجيزون منه صوراً يذهب غيرهم إلى أنها ربا، وقد قدمت جملة من ذلك.
__________
(1) " والنصارى " ساقطة من (ف).
(2) " أجازه " ساقطة من (ف).
(3) " في ذلك " ساقطة من (ف).(8/214)
ومن لطيف ما يجري في هذا المعنى القدح على كثيرٍ من العلماء الأفاضل بما يجري منهم من الغيبة، أو يجري في حضرتهم ولا ينكرونه، والذي عندي: أن الأولى للمتحرِّي أن يترك الغيبة وينكرها، ولكن لا يقدح على من يفعلها، ولا ينكرها إلاَّ بعد العلم، فإن تلك الغيبة التي صدرت منه غيبةٌ مجمعٌ على تحريمها، مقطوعٌ بقبحها، فإذا وقعت الصورة الظنية المختلف فيها ممن له بصيرةٌ، لم يؤمن أن يكون له وجه تساهله فيها أنه يستحلها، فلا يجوز عقد القلب على سوء الظن به، والقطع بأنه يُقدِمُ على ما يعلم أنه حرام، والله أعلم.
فإذا عرفت هذه الجملة، فاعلم أن الموالاة من جملة المحرمات التي يكون فيها المقطوع بتحريمه، المجمع على تأثيم فاعله، ويكون فيها الظنى الذي كل مجتهدٍ فيه مصيبٌ، فلا يجرح بهذا القدر منها.
وقد كان عمرو بن عبيد على جلالة قدره، وفخامة أمره، يواصل المنصور العباسي، لا لتقريره على ما كان فيه من الفساد في الأرض، وقتله أهل البيت عليهم السلام، ولكن ليعظه، وله معه مواقف مشهورةٌ، ومواعظ مأثورة، فلم تحرم صورة المواصلة، ولا مجرد المخالطة (1).
وقد اشتملت هذه الفائدة على جواب ما ذكره السيد من القدح على الزهري بموالاة الظلمة، وتبين بهذا أن ذلك لا يتم للسيد إلاَّ بعد أمورٍ أربعة (2):
أحدها: أن يدل بدليلٍ قاطعٍ على أن المخالطة لأهل المعاصي محرمةٌ بمجردها، وإن لم يفعل المخالط لهم شيئاً من معاصيهم، ولا يستدل في ذلك بعمومٍ ولا خبرٍ آحادي، فإنهما ظنِّيَّان، ولا بما يجوز (3) أنه معارض أو منسوخٌ أو نحو ذلك.
وثانيها: أن يدل بدليلٍ قاطعٍ على أنها تستلزم الموالاة المُجمع عليها،
__________
(1) من قوله " وقد كان عمرو بن عبيد " إلى هنا، لم يرد في (ف)، ورمج عليه في (د).
(2) " أربعة " ساقطة من (ف).
(3) في (ش): " لا يجوز "، وهو خطأ.(8/215)
التي هي المحبة والموادة التي محلها القلبُ، وأنه يستحيل من المُخالط أن يُضْمِرَ الكراهة لِمَنْ خالطه استحالةً علميةً قطعيةً، وإن لم يكن كذلك، لم يعلم أن المخالط موالي موالاة مجمع على تحريمها.
وثالثها: أن يدل بدليل صحيح قطعي أو ظني على (1) أن الزهري ما أحبهم لأمرٍ من الأمور، إلاَّ لكونهم ظلمةً عُصاة منتهكين لحُرَمِ الإسلام، لا لعَرَضٍ دنيوي يناله منهم، مثلما تجد الأشعريَّة يُحِبُّون الشيخ أبا الحسن الأشعري لكونه إمام مذاهبهم، والمعتزلة يحبُّون الجُبَّائيَّ لمثل ذلك، فهذه ونحوها (2) موالاةٌ قطعاً، وإنما لم تشرط أن يكون الدليل هنا قطعياً، لأنه لا سبيل إلى ذلك، ولأن الظنَّ يكفي في ثُبوت الجرح عن صاحبه، ولكن لا بُدَّ أن يكون ذلك الأمرُ المجروح به قبيحاً في نفسه قطعاً، هذا إن أراد السيد أن يستدل بذلك لنفسه، وإن أراد أن يُلزِمَ غيره جرح الزهري، ويحرم على غيره المخالفة لزم (3) أن يكون دليله على ذلك قطعياً.
ورابعها: أن يستدل السيد بدليلٍ صحيحٍ على أن الزهري في ارتكاب تلك المعصية مجترىءٌ على الله، عالمٌ بما فعل، كشربه الخمور، غير متأوِّلٍ في فعله، كالبُغاة والخوارج، ويكفيه في هذا أن يكون دليله ظنياً إن أراد الاستدلال لنفسه، وإن أراد الإلزام لغيره، وتحريم المنازعة له، لزمه أن يكون دليله قطعياً، فإذا استدلَّ السيد على هذه الأُمور الأربعة على الصِّفة المذكورة، حَسُنَ منه أن يجول في ميدان علماء الجرح والتعديل، وإلا فالصَّمت له أسلم، والله سبحانه أعلم.
الفائدة الرابعة: في الإعانة على المعاصي، وإعانة الظلمة، وهي أيضاً قسمان: قطعي وظني:
__________
(1) " على " ساقطة من (ف).
(2) " ونحوها " ساقطة من (ف).
(3) في (د) و (ش): " لزمه ".(8/216)
فالقطعي منها: هو أن يُعين الظالم بالمال أو نحوه، قاصداً بذلك أن يتمكَّن الظالم بسبب إعانته له من الظلم وفعل الحرام، أو يكون مباشراً للمعصية بنفسه، كمن يقاتل معهم المسلمين، ويقبضُ لهم الأموال، من المعاقبين، أو يأمر بذلك. فأما من لم يفعل المعصية بنفسه، ولا أمر بها، ولا قصدَ الإعانةَ عليها، فإنه لا يُسَمَّى مُعيناً لهم، فإن قوي لبعض العلماء أنه معينٌ لهم، كان ذلك على سبيل الظن والاجتهاد الذي لا يُقْدَحُ به على مخالفه، ولهذا اختلف العلماء في مسائل الاجتهاد (1) مما يتعلق بهذا الباب، منها بيع السلاح والخيل من المحاربين للإمام والمفسدين في الأرض، والخلاف في ذلك معروفٌ. وممن أجاز ذلك: الأمير الحسين بن محمد صاحب " شفاء الأوام ".
وقد أجمع العلماء على جواز صُوَرٍ من هذا القبيل، مثل: صلة الوالدين العاصيين، فقد أمر الله بمصاحبتهما في الدنيا معروفاً، وإن كانا مشركين، فلا خلاف أنه يجوز للولد أن يطعِمَهما ويكسوهما، وإن كان يظن أنه إذا تركهما، قتلهما بالجوع والبرد، وإن طعمه لهما في بقائهما الذي هو سببٌ في معاصيهما، وكذلك يجوز للإنسان أن يبيع طعامه من العاصي، وإن كان يعرف أن العاصي إذا أكل ذلك الطعام يقوى بأكله على فعل كثيرٍ من المعاصي.
ومن ها هنا لم يكن الله تعالى مُعيناً على المعاصي لما كان غير مريدٍ للإعانة عليها، وإن كان قد خلق ما هو عونٌ عليها من الأرزاق الواسعة التي يسوقها إلى العُصاة، وقوة الأبدان وصحتها، وقد تختلف الظنون فيما ليس بقطعيٍّ من الإعانة، ويقع الاختلاف في صُورتين:
إحداهما: في أن الشيء محرَّمٌ أم لا، مثاله: بيع السلاح من البغاة فقد يظن المجتهد أنه لا يحرُم من غير قصدٍ لإعانتهم، فيخالف في جواز ذلك، وإن ظن أن السلاح يعينهم.
__________
(1) " الاجتهاد " ساقطة من (د) و (ف).(8/217)
وثانيهما: دون هذه المرتبة، وهو أن يُسلِّمَ أن ذلك حرامٌ إذا كان يعينهم، ولكن يغلب على ظنه أنه لا يزيدهم، ولا يظهر له أثرٌ في إعانتهم، وأن البيع منهم والامتناع على سواءٍ، ومثل من يبيع العنب ممن لا يظن أنه لا يتَّخذه خمراً، مع اعتقاده أن بيعه ممن يتخذه خمراً حرامٌ، فإذا اختلفت الظنون في مثل هذه الأمور، كان كلٌّ مكلَّفاً بظنِّه.
ثم الإعانة القطعية المجمع على تحريمها تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون جرحاً في الرواية، وهو ما صدر من فاعله مع اعتقاده لتحريمه، ومنها ما يكون جرحاً في الديانة دون الرواية، وهو ما فعله صاحبه مع اعتقاده لجوازه.
وأما القسم الظني، فلا يجرح من استحله، لا في الديانة ولا في الرواية.
وقد تختلف فيه الظنون، فقد يغلِبُ ظنُّ العالم أو غيره أنه لا يعين الظالم بمخالطته، بل قد يظن أن في مخالطته مصلحةً دينيةً، وإن كان غيره يظن أنه يعين الظالم، وأن في مخالطته مفسدة، فليس يجب عليه ترك ظنه والرجوع إلى ظنِّ غيره بالإجماع.
وكذلك الإقامة في مدائنهم: قد يصح فيها قريبٌ مما يصح في المخالطة من أنها إعانةٌ لهم، وأن الناس لو تركوا بلادهم، فلم يجدوا فيها من يُصلِّي بالجماعة، ولا من يفتي العامة، ولا من يفصل بين الخصوم ويقضي بينهم، لكان ذلك مُوحشاً لهم، منفِّراً لكثير من الإقامة في أوطانهم، وفي ذلك تقليل عددهم، وإظهار فسقهم، بل لو هاجر الجميع من المكلَّفين من بلادهم، ما استقروا فيها، ولتعطَّلت مصالحهم من الخراج والجبايات، ففي إقامة المسلمين في بلادهم إعانةٌ وإيناسٌ، ولهذا أوجب الهادي والقاسم عليهما السلام المهاجرة من دار الفسق، لكن هذا لا يجب على القطع، ولهذا خالف المؤيد بالله وغيره من أهل البيت عليهم السلام وسائر الفقهاء، وقالوا: إن ذلك لا يجب، ولم يجرح أحدٌ ممن لم يهاجر من بلادهم، لا في دينه ولا في روايته، فإن الجِلَّة من الصحابة والتابعين ما هاجروا من بلاد الفسقة، كالحسنين عليهما(8/218)
السلام وجميع الصحابة، فإنهم أقاموا في المدينة، والحكم فيها لمعاوية، وهذا حجةٌ على قول الشيعة والمعتزلة، وفي مذهب أهل الحديث فيه ما تقدم من نقل القرطبي، وكذلك علي بن الحسين وولده الباقر وزيد بن عليٍّ وحفيده جعفر الصادق وأمثالهم من الأعلام، وهذا حجة على قول الجميع، ولم يكن عذرهم في ذلك ما يتوهمه بعض الناس من العجز عن الهجرة، وعدم وجدان مهاجر، فهذا لا يكون أصلاً، وقد أخبر الله تعالى إن من يُهاجر يجد في الأرض مُراغماً كثيراً وسَعَةً، وردَّ الله على من اعتذر بهذا، حيث قال: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97] وفي الأرض من شواهق الجبال وبُطون الأودية ما لا تصله الظلمة، والسكون فيها ممكن مقدورٌ، بل هو الذي عليه أهل الوَبَر، وفي الحديث الصحيح: " يُوشك أن يكون خير مال الرجل المسلم غنمٌ يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفرُّ بدينه من الفتن " (1)، ولهذا، فإن القاسم ويحيى عليهما السلام لما اعتقدا وجوب ذلك أمكنهما.
ونص في " الأحكام " على وجوب الهجرة إلى مناكب الأرض وحيث لا يرى ظالماً، وأنه إذا كان له أولادٌ، ولم يقدر على المهاجرة بهم، تكسَّب لهم ما يكفيهم مدة معلومةً شهراً أو نحوه، ثم يخرج بنفسه ويهاجر حتى يعرف أن قُوتَهم قد فرغ، ثم يعود، فيتكسَّب لهم، هكذا نص عليه في " الأحكام " أو كما قال عليه السلام.
فلو ذهبنا نجرح من خالف المذهب، أو خالف الجمهور، لم يسلم من النفاق إلاَّ النادر، وذلك النادر أيضاً لا يروي عن من هو مثله، ألا ترى الهادي عليه السلام لا يمكنه أن لا يروي الحديث إلاَّ عن من هاجر من ديار الفاسقين، ولا يمكننا أن يكون بيننا وبينه عليه السلام مثله في الفضل والورع.
فثبت أن الإعانة للظلمة إذا وقعت ممن يستحلُّها، لم يجرح بها، سواءٌ
__________
(1) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري مالك 2/ 970، والبخاري (19) و (3300) و (3600) و (6495) و (7088)، وأبو داود (4267)، والنسائي 8/ 123 - 124.(8/219)
كانت بإقامةٍ في بلادهم، أو مخالطةٍ لهم، أو بيع السلاح منهم، أو نحو ذلك.
فقد اشتمل الكلام في هذه الفائدة على جواب قول السيد (1) ما لفظه: وتيقنت حينئذ أن الزهري كان معيناً على قتل زيد بن علي عليه السلام، وتبيَّن أن السيد يحتاج في تصحيح هذا اليقين إلى أمور:
أولها (2) دليلٌ قاطعٌ على أن الحاكم أبا سعيد -رحمه الله تعالى- كاذبٌ في أن الزهري خرج مع زيد بن علي عليه السلام.
وثانيها: دليلٌ قاطعٌ على أن في إقامة الزهري مع هشام لتعليم أولاده، والحج معهم زيادةً في ملك هشام، يحصل بها إعانةٌ على المظالم.
وثالثها: أنها حصلت من تلك الإعانة العامة على المظالم إعانةٌ خاصةٌ على قتل زيد بن علي عليه السلام، بدليل قاطع غير محتمل.
ورابعها: أن الزهري كان يعرف تلك الإعانة الحاصلة بوقوفه العام منها، والخاص بزيدٍ عليه السلام.
وخامسها: أنه ما وقف معهم لغرضٍ دنيوي، ولا أخروي، عاجل ولا آجل، إلا ليعينهم على المظالم على العموم، وعلى قتل زيد عليه السلام على الخصوص.
فمتى حصلت له أدلةٌ قاطعةٌ علميةٌ على كل واحد من هذه الأمور الخمسة، حصل اليقين الذي ذكر، ومتى تطرق الشك والاحتمال إلى واحدٍ منها، لم يحصل اليقين بأن الزهري أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام، ولكن يحصل اليقين بأن السيد تكلم بما لا يعلم ونسي قول الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
__________
(1) في (ش): " قوله ".
(2) في (ش): " أقلها " وهو خطأ.(8/220)
الفائدة الخامسة: أن أهل الزهد والدرجة العالية من الفُضَلاء يَعِظُون من كان دونهم في مرتبة الفضل والصلاح، ومن فعل ما لا يليق به من المباحات والمكروهات، ويوردون في وعظه من قوارع البلاغة ومجاز الكلام ما لو خرج مخرج الحقيقة، لدلَّ على إثم الموعوظ ومعصيته، مع (1) أنه لا يُستدلُّ بذلك على تأثيم الموعوظ لما خرج مخرج التذكير والإيقاظ والتقريع والتأنيب.
وقد قدَّمت من هذا إشارةً يسيرةً في خطبة هذا الكتاب (2)، مثل قوله عليه السلام لأبي ذر: " إنك امرؤٌ فيك جاهلية " (3).
وأنا أذكر ها هنا ما لم أذكره من هذا، فمن ذلك: قوله تعالى في خطاب أفضل البشر وسيد ولد آدم - صلى الله عليه وسلم -: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 1 - 10]. ومنه قوله تعالى: في حقه عليه السلام: {وَتَخْشَى الناسَ والله أحقُّ أن تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37]، ومن ذلك قوله تعالى في جماعة من ثقات (4) الصحابة المجمع على فضلهم: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]، ومنه قوله تعالى في جِلَّة المهاجرين والأنصار: {َوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيم} [الأنفال: 68].
ومنه قول علي عليه السلام لأصحابه: أُفٍّ لكم، لقد سئمت عتابكم، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضاً ... إلى آخره. وقوله عليه السلام لهم: بُليت بمن لا يطيع إذا أمرتُ، ولا يجيبُ إذا دعوتُ، لا أبا لكم، ما تنتظرون بنصركم ربكم؟! أما دينٌ يجمعكم؟! أقوم فيكم مستصرخاً أناديكم متغوثاً، فلا تسمعون لي قولاً، ولا تطيعون لي أمراً!. ومنه قوله عليه السلام في كلام له: وددتُ أني صارختُ معاوية صَرْفَ الدينار بالدرهم، أو كما قال عليه السلام،
__________
(1) في (ف): " على ".
(2) انظر 1/ 229 - 233.
(3) تقدم تخريجه 1/ 229 - 330.
(4) " ثقات " ساقطة من (ف).(8/221)
وفي كلاماته عليه السلام لأصحابه من هذا شيءٌ كثير.
ومنه (1) قول الخطيب: نسينا كل واعظةٍ، وأمِنَّا كُلَّ جائحة، فهذا لو كان (2) على حقيقته، كان كذباً ينقُض الوضوء على المذهب.
وقول الخطيب أيضاً: كأن الحق فيها على غيرنا وجب، ولو كان على حقيقته، كان جرحاً، لأن هذا الكلام لا يصدُق إلاَّ على من يضيع الواجب، ومن كان محافظاً عليه، لا يقال: إنه كمن لم يجب عليه واجب، وإنما ذكرت هذه الجملة، لأن السيد احتج على جرح الزهري بأشياء من جملتها موعظةٌ كتبها إليه بعضُ إخوانه في الله، وقد غفل السيد في الاحتجاج هذا على الجرح لوجوهٍ:
أولها: أن ذلك لا يدل على الجرح حتَّى يظهر من الواعظ اعتقاد فسق الموعوظ أو تأثيمه، لكنا قد بيَّنا ما يقتضي خلافه، فإن الوُعَّاظ، وإن لم يعتقدوا قُبح (3) الشيء ولا إثم فاعله، فإنهم يُوردون من قوارع الوعظ وزواجر التذكير ما يُريك وقوع المكروهات من أهل العقول الراجحة في أرفع مراتب القبح تنفيراً عن سَفْسَاف الأمور وترغيباً في معاليها.
وثانيها: إنا وإن سلمنا دلالة الموعظة على استقباح الواعظ للفعل (4) على الحقيقة، لكن لا نسلِّم أنه استقباحٌ قطعيٌّ، فقد يعتقد الواعظ تحريم الشيء، لأن عنده أنه حرامٌ بالنظر إلى اجتهاده، وهو لا يدري ما مذهبُ صاحبه فيه، فيزجره عنه زجر معتقدٍ للتحريم، ولو سُئِلَ عن تأثيم الموعوط، لتوقَّف فيه حتَّى يدري بعذره، فإذا أخبره (5) أنه يستحلُّه، وبين له الوجه، عَذَرَهُ.
وثالثها: أنا وإن سلمنا اعتقاد الواعظ لقبح الشيء على سبيل القطع، لم يكن لنا أن نقلِّده في استقباحه، وإنما نقبله في أن ذلك القبيح وقع من
__________
(1) " ومنه " ساقطة من (ف).
(2) في (ش): " ولو كان ".
(3) في (ش): " قبيح ".
(4) تحرفت في (ف) إلى: " للعقل ".
(5) في (ف): " أخبرته ".(8/222)
الموعوظ، لا في أن ذلك الفعل نفسه قبيحٌ.
ورابعها: أنا وإن علمنا إن ذلك الفعل قبيحٌ، فإنه لا يجب الجرح حتى يكون الذي فعله غير متأوِّلٍ في فعله على القوي المختار، كما تقدم بيانه.
وخامسها: أنا وإن علمنا قبح الفعل وصدوره من (1) فاعله عمداً من غير تأويلٍ، فإنه لا يدل على الجرح مطلقاً، بل القوي المختار ما تقدم من أن الجرح لا يكون إلاَّ بكبيرة أو بغَلَبَةِ المساوىء، أو ما يدلُّ على (2) الخِسَّةِ، فأمَّا الجرح بكل ذنبٍ، فلا يوجد معه عدلٌ غالباً، أقصى ما فيه أن يخالف السيد في هذا، لكن هذه مسألةٌ ظنيةٌ خلافيةٌ، ليس له أن ينكر فيها على أحدٍ، وقد تقدم ذكرُ الدليل فيها وذِكْرُ من قال بذلك، فخُذْه من أول الكتاب.
فإذا عرفت هذا، تبين لك أن شرط الجرح عزيزٌ، ولهذا لم يقبل المحققون الجرح المطلق، ولا قبِلُوا الجرح من ذي الإحنة، ولا جرحوا بما يجري بين الأقران عند الغضب والسِّباب ونحو ذلك.
وبعد الفراغ من هذه الفائدة، أتكلم على ترجمة الزهري (3) بما علمت من كتب أصحابنا وكتب المحدثين، وأجعل الكلام مرتَّباً مراتب (4):
المرتبة الأولى: في اسمه وبعض نسبه:
والذي حملني على ذكره أن بعض أهل المعرفة من الأصحاب نازعني في ابن شهابٍ لما رأيناه في كتاب " أصول الأحكام " مروياً عنه، وهو كتاب الإمام أحمد بن سليمان، فقلت له: هو الزهري، فقال: ليس هو الزهري، منزِّهاً
__________
(1) ساقطة من (ف).
(2) " على " ساقطة من (ف).
(3) في (ف): " في مذهب الزهري ".
(4) انظر ترجمة الزهري في " تاريخ دمشق " لابن عساكر، و" تهذيب الكمال " 1268، و" سير أعلام النبلاء " 5/ 326.(8/223)
للإمام أحمد بن سليمان عن الرواية عن الزهري، وأصر على ذلك، فالله المستعان.
فأقول: الزهري: هو أبو بكر محمد بن مسلم [بن عبيد الله] بن عبد الله بن شهاب [بن عبد الله] بن الحارث بن زهرة القرشي الزهري المدني، يقال له: ابن شهابٍ، نسبةً إلى جدِّ أبيه شهاب بن الحارث، والزهري نسبة (1) إلى جده زهرة.
ولا أتحقَّقُ في اسمه اختلافاً، إلاَّ أنه وقع في نسخة من كتاب " الشجرة في الفقه " للشيخ أحمد بن محمد الرصاص: محمد بن سلمة بن شهاب الزهري، فالظاهر أنه غَلَطٌ من الكاتب، وكذا وقع في نُسخةٍ من " شرح العيون " للحاكم رحمه الله: محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري بالتقديم والتأخير في أبيه وجده، وهذا قريبٌ، فقد وقع للبخاري وغيره مثل هذا كما ذكره ابن الصلاح في كتابه " علوم الحديث "، وقد يحتمل الاختلاف، فقد اختلفوا في أسماء عدةٍ من الرواة والله أعلم.
المرتبة الثانية: في عقيدته ومذهبه، أمَّا عقيدته، فذكر الحاكم رحمه الله في " شرح العيون " أنه كان من أهل العدل والتوحيد، قال الحاكم رحمه الله: وكان ممن خرج مع زيد بن عليٍّ عليه السلام، هكذا بصيغة الجزم، ولم يقل: ورُوي بصيغة التمريض، ذكره الحاكم في فصلٍ أفرده لذكر من ذهب من المحدثين إلى مذهب أهل العدل والتوحيد، فذكره فيمن ذهب إلى ذلك من علماء المدينة، وقول الحاكم: إنه ممن خرج مع زيد بن علي غريبٌ، لم يذكره الذهبي، والزيادة من الثقة مقبولةٌ في التحريم والتحليل المنقول عن صاحب الشريعة، كيف إلاَّ فيما يتعلق بالزهري.
وقال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر في ترجمة علي عليه السلام من
__________
(1) " نسبة " ساقطة من (ش).(8/224)
كتاب " الاستيعاب " (1) روي عن سلمان وأبي ذرٍّ والمقداد وخبَّابٍ وجابرٍ وأبي سعيدٍ وزيد بن أرقم: أن علي بن أبي طالبٍ أول من أسلم، وفضَّله هؤلاء على غيره، قال: وهو قول ابن شهابٍ الزهري. انتهى.
وفي هذا نسبته إلى التشيع، فإن تفضيله عليه السلام هو الخصيصة التي امتاز (2) بها الشِّيعة، على ما ذكره العلامة عبد الحميد بن أبي الحديد، والذهبي ليس له ولوعٌ بذكر ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، إما عصبية، وإما تقية!.
وأما مذهب الزهري، فكان مجتهداً مفتياً لا مستفتياً، ذكره بذلك غير واحدٍ، منهم الشيخ أحمد بن محمد الرصاص في كتاب " الشجرة "، فإنه عدَّ فيه أهل الاجتهاد من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وممن نُقِلَتْ عنه الفتيا، فذكره فيهم، وكذلك ابن حزم ذكره في أهل الاجتهاد من علماء هذه الأمة، وكذلك علي بن المديني العلامة المعتزلي (3) المحدث، فإنه قال: أفتى أربعة: الحكم وحماد وقتادة والزهري، والزهري عندي أفقههم (4).
المرتبة الثالثة: في ذكر بعض شيوخه، وبعض من أخذ العلم عنه، وأين رُوِيَ حديثه.
__________
(1) 3/ 27.
(2) في (ف): " امتازت ".
(3) وصفه بذلك، فيه نظر، فكونه أجاب إلى القول بخلق القرآن في المحنة لا يعني أنه قد انتحل مذهب الاعتزال، فإنه رحمه الله إنما أجاب خوفاً من العذاب الذي لم يكن يُطيقه، ولم يكن في قلبه شيء مما أجاب إليه، ومع ذلك، فقد اعتذر عن ذلك وتاب وأناب وكفَّرَ من يقول بخلق القرآن كفراً عملياً.
قال محمد بن عثمان بن أبي شيبة: سمعت علي بن المديني على المنبر يقول: من زعم أن القرآن مخلوق، فهو كافر، ومن زعم أن الله لا يرى، فهو كافر، ومن زعم أن الله لم يكلِّم موسى على الحقيقة، فهو كافر.
وقال عثمان الدارمي: سمعت ابن المديني يقول: هو كافر -يعني من قال: القرآن مخلوق-. انظر " تهذيب التهذيب " 7/ 349 - 357، و" طبقات الشافعية " 2/ 145 - 150.
(4) أورده ابن عساكر في " تاريخ دمشق " (128) و (204).(8/225)
أما شيوخه، فمنهم: زين العابدين علي بن الحسين، وولده سيد المجاهدين زيد بن علي عليهم السلام، وسيد التابعين سعيد بن المسيب، لازمه ثماني سنين، وقال مالك: عشر سنين وتفقَّه به، وأكثر عنه، ومنهم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن ثعلبة، ومحمود بن الربيع، وسنين أبو جميلة، وأبو الطفيل عامر، وعبد الرحمن بن أزهر، وربيعة بن عبَّادٍ الدِّيلي، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، ومالك بن أوس بن الحدثان، وعلقمة بن وقاص، وكثير بن العباس، وأبو أُمامة بن سهلٍ، وعروة بن الزبير، وأبو إدريس الخَولاني، وقبيصة بن ذُؤيبٍ، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن جبير بن مطعمٍ، ومحمد بن النعمان بن بشيرٍ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عبد الله بن عُتبة، وعثمان بن إسحاق العامري، وأبو الأحوص مولى بني ثابتٍ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وعامر بن سعد، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبد الله بن كعب بن مالك، وأبان بن عثمان، وعبادة بن الصامت. فهؤلاء من شيوخه.
وممن روى عنه: الإمام جعفر بن محمد الصادق، وسادات أهل البيت عليهم السلام. ذكره المزي في ترجمة الصادق من كتابه " التهذيب " (1)، وعمرو (2) بن دينارٍ، ومنصور بن المعتمر الصالحان المشهوران، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة وعطاء المفسران (3) التابعيان المشهوران في كتب الفقه والتفسير والحديث، وزيد بن أسلم، وأيوب السختياني، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري، وأبو الزِّناد، وصالح بن كَيْسَان، وعُقيل بن خالدٍ، ومحمد بن الوليد الزُّبيدي، ومحمد بن أبي حفصة، وبكر بن وائلٍ، وعمرو بن الحارث، وابن جريج، وجعفر بن بَرقان، وزياد بن سعدٍ، وعبد العزيز الماجشون، وأبو أويس، ومعمر بن راشدٍ، والأوزاعي، وشعيب (4) بن أبي حمزة، ومالكٌ الفقيه، والليثُ
__________
(1) " تهذيب الكمال " 5/ 75.
(2) تحرف في الأصول إلى: " عمر ".
(3) " المفسران " ساقطة من (ش).
(4) تحرف في الأصول إلى: " سعيد ".(8/226)
صاحب الخلاف في الفقه، وإبراهيم بن سعدٍ، وسعيد بن عبد العزيز، وفُليح بن سليمان، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، وسفيان بن حسين، وصالح بن أبي الأخضر، وسليمان بن كثيرٍ، وهشام بن سعدٍ، وهُشيم بن بشيرٍ، وسفيان بن عيينة، وأمم سواهم.
وأما سفيان الثوري، فرحل إليه ليأخذ عنه، فتثاقل عليه، ثم أخرج إليه كتاباً، فقال له: أروِ هذا عنّي، فكره الثوري ذلك منه، وترك الرواية عنه لذلك فقط. ذكره المزي في " التهذيب " في ترجمة الزهري والثوري (1).
وروى الحازمي في " الناسخ والمنسوخ " (2) حديث علي عليه السلام في النهي عن المتعة في خيبر (3) عن الثوري عن شيخ الزهري الحسني بن محمد بن
__________
(1) " تهذيب الكمال " ص 1270 في ترجمة الزهري، ولم يذكره المزي في ترجمة الثوري، كما ذكر المصنف، وانظر النص أيضاً عند ابن عساكر ص 152، والذهبي في " السير " 5/ 338.
(2) ص 177.
(3) أخرجه مالك: في " الموطأ " 2/ 542 عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن أكل لحوم الحمر الإنسية، ومن طريق مالك أخرجه البخاري (4216)، ومسلم (1407)، والترمذي (1794)، والنسائي 6/ 126، وابن ماجه (1961)، وابن حبان (4143)، وانظر تمام تخريجه فيه.
ويرى ابن القيم رحمه الله كما في " زاد المعاد " 3/ 344 - 345 بتحقيقي مع صاحبي الشيخ عبد القادر الأرنؤوط أن المتعة لم تحرم إلاَّ عام الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة، وإنما جمع علي بن أبي طالب بين الإخبار بتحريمها وتحريم الخمر الأهلية، لأن ابن عباس كان يبيحها، فروى له علي تحريمها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ردّاً عليه وكان تحريم الحُمر يوم خيبر بلا شك، وقد ذكر يوم خيبر ظرفاً لتحريم الحمر، وأطلق تحريم المتعة ولم يقيده بزمن كما جاء ذلك في " مسند الإمام أحمد " بإسناد صحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " حرَّم لحوم الحُمر الأهلية يوم خيبر، وحرم متعة النساء " وفي لفظ 1/ 79: " حرم متعة النساء، وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ". هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مميزاً فظن بعض الرواة أن يوم خيبر زمن للتحريم، =(8/227)
الحنفية، وأسقط الزهري تدليساً، لأن الحديث لا يُعرف عن الحسن إلاَّ مِنْ طريق الزهري، بل لم يصح عن عليٍّ عليه السلام من وجهٍ من الوجوه إلاَّ وهو يدور على الزهري. ويدل على تدليس الثوري للزهري فيه أن المؤيد بالله عليه السلام رواه في " التجريد " عن أبي زُبَيْد عَبْثَرِ بن القاسم، عن الثوري، عن مالكٍ، عن محمد بن مسلم -وهو الزهري- عن الحسن بن محمد بن الحنفية، فدلَّ على أن الثوري حين احتاج إلى حديثه، رواه مرة بتدليسٍ وعُلُوٍّ، ومرةً بتصريحٍ ونزولٍ على أن إسحاق بن راشدٍ روى عن الزهري أنه لم يسمع هذا الحديث من الحسن، وأنه قال: لو سمعته من الحسن، لم أشك، وقد كان الزهري يدلس أيضاً، ولم يأت عنه التصريح هنا بسماعه إلاَّ من طرف مُعَلَّة فيُحرَّر ذلك.
وأما حديث الزهري، فهو مشهورٌ في كتب أهل البيت عليهم السلام. وفي سائر دواوين الإسلام، وفي كتب الفضائل، وكتب الحلال والحرام، وذكر الحاكم في " علوم الحديث " على تشيعه أنه ممن يجمع حديثه من ثقات أهل العلم كما يأتي قريباً.
المرتبة الرابعة: فيما يدلُّ على علمه وتوثيقه وعدالته من كلام من صحبه وخَبَرَهُ من علماء التابعين المُجمع على عدالتهم، وكلام من بعدهم من أهلِ المعرفة والعدالة، وذلك شيءٌ أوسع، أذكر منه على قدر معرفتي.
فمن ذلك أن عُمَرَ بن عبد العزيز كان يُثني عليه، ويأمرُ بأخذ العلم عنه،
__________
= فقيدهما به، ثم جاء بعضهم، فاقتصر على أحد المحرمين، وهو تحريم الحمر، وقيده بالظرف، فمن ها هنا نشأ الوهم، وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات، ولا استأذنوا في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نقله أحد قط في هذه الغزوة، ولا كان للمتعة فيها ذكر البتة، لا فعلاً ولا تحريماً بخلاف غزاة الفتح، فإنَّ قصة المتعة كانت فيها فعلاً وتحريماً مشهورة.(8/228)
فروى معمرٌ التابعي الجليل عن عمر بن عبد العزيز: إيتوا ابن شهابٍ، فإنه لم يبق أعلم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه (1).
وقال عمر بن عبد العزيز: ما أتاك به الزهري عن غيره، فشدَّ به يديك (2).
وقال أيضاً: عليكم بابن شهاب، فإنكم لا تلقون أحداً أعلم بسنَّةٍ ماضيةٍ منه (3).
فهذا كلام عمر بن عبد العزيز مع أمانته وجلالته ونصيحته للمسلمين (4) مع أن الزهري كان قد صَحِبَ الملوك قبل عمر بن عبد العزيز كما ذكر ذلك الذهبي (5) ولم يمنع ذلك عمر بن عبد العزيز من الثقة به.
وكذلك مالكٌ الفقيه، فإنه قد قَبِلَهُ، واحتج بحديثه، مع تشدده في الرجال، وقد لزمه مالك وأكثر عنه، فروى عنه في " الموطأ " مئة حديثٍ وثلاثين حديثاً (6)، وكان يُثني عليه.
ومن كلام مالك فيه: بقي ابن شهاب وماله في الناس نَظِيرٌ. رواه ابن القاسم عن مالك (7).
وذكره ابن عبد البر في رواة " الموطأ " (8) فأثنى عليه، وقال: ابن شهاب إمامٌ جليل من أئمة الدين، متقدم في الحفظ والإتقان والرواية والاتساع.
وقد احتج الإمام المؤيد بالله عليه السلام بكلام الزهري في الحديث فيما يتعلق بالأحكام، وكذلك الأمير الحسين بن محمد رحمه الله. ذكره الأمير في
__________
(1) انظر " تاريخ دمشق " ص 110 و111.
(2) " تاريخ دمشق " ص 99، و" السير " 5/ 345.
(3) " تاريخ دمشق " ص 110.
(4) في (ش): " المسلمين ".
(5) في " السير " 5/ 339.
(6) كما في " التمهيد " 6/ 114.
(7) " الجرح والتعديل " 8/ 72، و" تاريخ دمشق " ص 123، و" السير " 5/ 336.
(8) " التمهيد " 6/ 101.(8/229)
كتابه " شفاء الأوام " في باب القضاء، وذلك يقتضي جواز الاستناد إليه عندهما وعند غيرهما من علماء الزيدية، فلم يُعلم أن أحداً أنكر ذلك عليهما رضي الله عنهما.
وقد نقل ابن الأثير ذلك في مقدمات " جامع الأصول " (1) عن علامة الشيعة أبي عبد الله ابن البيع الشهير بالحاكم أنه قال: أصح الأسانيد فيما قيل: مالك، عن نافع، عن ابن عمر، وأبو الزِّناد عن الأعرج، عن أبي هريرة، والزهري، عن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، والزهري، عن سالم، عن أبيه، ومحمد بن سيرين، عن عبيدة، عن علي عليه السلام، ويحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. انتهى.
وفيه ما يدلُّ على أن علماء الشيعة لا ينكرون ثقة (2) الزهري في الحديث.
وفي " علوم الحديث " لابن الصلاح نحو هذا.
وقال المنكدر بن محمد: رأيتُ بين عيني الزهري أثر السجود (3).
وقيل لمكحول: من أعلم من لقيت؟ قال: ابن شهاب، قيل: ثم؟ قال: ابنُ شهاب، قيل: ثم؟ قال: ابن شهاب (4).
وقال مكحول أيضاً: ما بقي على ظهرها أعلم بسنةٍ ماضيةٍ من الزهري (5).
وقال عمرو (6) بن دينار: الدراهم عند الزهري بمنزلة البَعْرِ (7).
وقال مالك: كان الزهري من أسخى الناس، فلما أصاب تلك الأموال (8)،
__________
(1) 1/ 154 - 155.
(2) في (ش): " فضل ".
(3) " السير " 5/ 341.
(4) " السير " 5/ 336.
(5) " تاريخ دمشق " ص 114.
(6) في الأصول " عمر " وهو خطأ.
(7) " تاريخ دمشق " ص 96 - 98، و" السير " 5/ 334.
(8) في (ف): " الأمور "، وهو خطأ.(8/230)
قال له مولى له: قد رأيت ما مرَّ عليك من الضيق، فأمسك مالك، قال: ويحك، إني لم أر السَّخِيَّ تنفعُه التجارب (1).
وقال إبراهيم بن سعد: قلت لأبي: بما فاتكم الزهري؟ قال: لم يكن يترك شابّاً إلاَّ ساءله، ولا كهلاً إلاَّ ساءله، وكان يأتي الدار من دُورِ الأنصار ولا يبقي فيها شابّاً ولا كهلاً ولا عجوزاً إلاَّ ساءلهم حتى حاول ربَّات الحِجال (2).
وقال سعيد بن عبد العزيز: سأل هشامٌ الزهري أن يُمْلِيَ على بعض ولده، فدعا بكاتب (3) فأملى عليه أربع مئة حديث، ثم خرج، فقال: أين أنتم يا أصحاب (4) الحديث، فحدَّثهم بتلك الأربع مئة حتى لقي هشاماً بعد شهرٍ أو نحوه، فقال للزهري: إن ذلك الكتاب قد ضاع، قال: لا عليك، فدعا بكاتب (5) فأملاها عليه، ثم قابل هشام بالكتاب الأول، فما غادر حرفاً (6).
وقال معمر: ما رأيت مثل الزهري في الفن الذي هو فيه.
وقال ابن أخي الزهري: جمع عمي القرآن في ثمانين ليلة (7).
وعن الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهابٍ، يحدِّث في الترغيب، فنقول: لا يُحسن إلاَّ هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلاَّ هذا، وإن حدَّث عن القرآن والسنة، قلت: لا يحسن إلاَّ هذا (8).
وقال ابن أبي الزناد عن أبيه: كنا نكتب الحلال والحرام، وكان ابن شهابٍ يكتب كل ما سمع، فلما احتيج إليه، علمت أنه أعلم الناس، وبَصِرَتْ (9) عيني
__________
(1) " السير " 5/ 238.
(2) " تهذيب الكمال " 1270.
(3) في (ف): " بكتاب ".
(4) في (ف): " أهل ".
(5) في الأصول " بكتاب "، والمثبت من " تهذيب الكمال ".
(6) " تهذيب الكمال " ص 1270.
(7) " تاريخ دمشق " ص 50.
(8) " تاريخ دمشق " ص 105 - 106، و" السير " 5/ 328.
(9) في (ف): " ونظرت ".(8/231)
به ومعه ألواحٌ وكتبٌ يكتب فيها العلم والحديث (1).
وقال ابن شهابٍ: ما استودعت قلبي شيئاً قط، فنسيته (2).
وقال بعضهم (3): كنا نرى أن (4) قد أكثرنا عن الزهري، فإذا (5) الدفاتر قد حُملت (6) على الدواب من خزائنه. يقول من علم الزهري.
وكان أول من دوَّن العلم وكتبه ابن شهاب (7).
وقال عمر بن عبد العزيز: ما ساق الحديث أحد مثل الزهري (8).
وقال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أنصَّ للحديث من الزهري (9).
وقال أحمد بن حنبل: الزهري أحسن الناس حديثاً، وأجود الناس إسناداً (10).
وقال أبو حاتم: أثبت أصحاب أنس الزهري.
وقال شعيب بن أبي حمزة عن الزهري: اختلفت من الحجاز إلى الشام خمساً وأربعين سنة، فما استطرفتُ حديثاً واحداً، ولا وجدت من يُطرفني حديثاً.
وقال الزهري: إن عندي لثلاثين حديثاً ما سألتموني عن شيءٍ منها (11).
__________
(1) " السير " 5/ 332.
(2) " تاريخ دمشق " ص 73، و" السير " 5/ 332.
(3) هو معمر، والخبر في " تاريخ دمشق " ص 92.
(4) في (ف): " أنا ".
(5) في (ف): " فإن ".
(6) في (ش): " حمل ".
(7) قال ذلك الدراوردي، كما في " السير " 5/ 334.
(8) " السير " 5/ 334.
(9) نفسه.
(10) " السير " 5/ 335.
(11) الأخبار الثلاثة في " السير " 5/ 335.(8/232)
وقال أبو صالح (1): سمعتُ الزهري يبكي على العلم، ويقول: يذهب العلم، وكثيرٌ ممن كان يعمل به، فقلت له: لو وضعت من علمك عند من ترجو أن يكون خلفاً. قال: والله ما نشر العلم أحدٌ نشري، ولا صبر عليه صبري، ولقد كنا نجلس إلى ابن المسيِّب، فما يستطيع أحدٌ منا أن يسأله عن شيء (2) إلا أن يبتدىء الحديث أو يأتي رجلٌ يسأله عن شيءٍ قد نزل به.
وروى ابن سعد (3) عن أبيه قال: ما رؤي أحدٌ يجمع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَمْعَ ابن شهابٍ.
وقال الليث: ما بقي عند أحدٍ من العلم ما بقي عند ابن شهاب (4).
وقال قتادة: ما بقي أعلم بسنةٍ ماضية من ابن شهاب وآخر، كأنه عنى نفسه (5).
وقال مكحولٌ: ما بقي أعلم بسنةٍ ماضيةٍ من ابن شهاب، آلوتُ ما رأيت أحداً أعلم من الزهري (6).
وقال سفيان: ابن عيينة: كانوا يَرَوْنَ يوم مات الزهري أنه ليس أحدٌ أعلم منه (6).
وعن الزهري قال: حدثت عليَّ بن الحسين حديثاً، فلما فرغت قال: أحسنت بارك الله فيك. هكذا حدثناه. قال الزهري: أراني حدَّثتك بحديثٍ أنت أعلم به منِّي، قال: لا تقل ذاك، فليس من العلم ما لا يُعرف، إنما العلم ما عُرِفَ، وتواطأت عليه الألسنُ (7).
__________
(1) " السير " 5/ 335، و" تاريخ دمشق " ص 108.
(2) " عن شيء " ساقطة من (ف).
(3) هو إبراهيم بن سعد، انظر " السير " 5/ 235.
(4) " السير " 5/ 336.
(5) " السير " 5/ 336.
(6) " السير " 5/ 336.
(7) " السير " 5/ 344 - 345.(8/233)
وقال معمر: كان الزهري إذا رأى علي بن الحسين، قال: لم أر في بيته أفضل منه (1).
وقال الحاكم في النوع التاسع والأربعين من كتابه " علوم الحديث " (2) ما لفظه، هذا النوع من هذه العلوم معرفة الأئمة الثقات (3) المشهورين من التابعين وأتباعهم ممن يجمع حديثهم للحفظ والمذاكرة والتَّبرُّك بهم، وبذكرهم من الشرق إلى الغرب.
فمنهم من أهل المدينة: محمد بن مسلمٍ الزهري، وساق أسماءهم من أهل كل مصرٍ من أمصار الإسلام، فبدأ بالزهري أولهم لإتقانه وكثرة حديثه.
وكذلك قدَّمه في ذكر فقهاء الأمة، فقال في النوع الموفي عشرين نوعاً من علوم الحديث ما لفظه (4): هذا النوع من هذا العلم بعد معرفة ما قدَّمنا ذكره من صحة الحديث إتقاناً ومعرفة، لا تقليداً وظناً، معرفة فقه الحديث، إذ هو ثمرة هذه العلوم، وبه قوام الشريعة.
وأما فقهاء الإسلام أصحاب القياس والرأي والجدل والنظر، فمعروفون في كل عصرٍ وفي كل بلد، ونحن ذاكرون في هذا الموضع فقة الحديث عن أهله، ليُستدلَّ بذلك على أن أهل هذه (5) الصنعة من تبحَّر فيها لا يجهل فقه (6) الحديث، إذ هو نوعٌ من أنواع هذا العلم.
فممن أشرنا إليه من أهل الحديث محمد بن مسلم الزهري، ثم ساق الثناء عليه بذلك بأسانيده عن مكحول، ثم ذكر من استنباط الزهري وكلامه في فقه الحديث شيئاً، ثم ساق بقية فقهاء (7) المحدثين بعد الزهري.
__________
(1) " السير " 5/ 345، وفيه " إذا ذكر علي بن الحسين ".
(2) ص 240.
(3) " الثقات " ساقطة من (ش).
(4) ص 63.
(5) " هذه " ساقطة من (ف).
(6) " فقه " ساقطة من (ف).
(7) " فقهاء " ساقطة من (ف).(8/234)
فانظر إلى إنصاف الحاكم -على تشيُّعه- في معرفة أحوال خصومه في مذهبه، وتنزيل (1) كل أحدٍ منزلته، فكذلك فليكن الإنصاف.
وقال علي بن المديني: دَارَ عِلم الثقات على ستة: الزهري، وعمرو بن دينارٍ بالحجاز، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة، وأبو إسحاق والأعمش بالكوفة (2).
وقال الشافعي: قال ابن عيينة: حدَّث الزهري يوماً بحديث، فقال: هاته بلا إسناد، فقال: إنه في السطح بلا سلم (3).
فقد اشتمل هذا الكلام على الشهادة له بالثقة والعدالة والحفظ والإتقان، أمَّا الحفظ والإتقان، فهي كلمة إجماعٍ، وأما الثقة والعدالة، فعن عُمرَ بن عبد العزيز، ومالكٍ، وأحمدَ بن حنبل، وأبي حاتم، ولا خلاف بين جمهور (4) أهل (5) علم الأثر ورجال الحديث أنه ثقةٌ مأمونٌ إذا صرَّح بالسماع، ولم يقع في
__________
(1) في (ش): " وتنزيله ".
(2) " السير " 5/ 345، بهذا اللفظ، ونص كلامه في " العلل " ص 36 - 37: نظرت فإذا الإسناد يدور على ستة:
فلأهل المدينة ابن شهاب وهو محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب ويكنى أبا بكر، مات سنة أربع وعشرين ومئة.
ولأهل مكة عمرو بن دينار مولى جمح، ويكنى أبا محمد، مات سنة ست وعشرين ومئة.
ولأهل البصرة قتادة بن دعامة السدوسي، وكنيته أبو الخطاب، مات سنة سبع عشرة ومئة.
ويحيى بن أبي كثير، ويكنى أبا نصر، مات سنة اثنتين وثلاثين ومئة باليمامة.
ولأهل الكوفة أبو إسحاق، واسمه عمرو بن عبد الله بن عبيد، مات سنة تسع وعشرين ومئة.
وسليمان بن مهران مولى بني كاهل من بني أسد، ويكنى أبا محمد، مات سنة ثمان وأربعين ومئة.
(3) " السير " 5/ 347.
(4) " جمهور " ساقطة من (ف).
(5) " أهل " ساقطة من (ش).(8/235)
حديثه إعلالٌ ولا إدراجٌ ولا إرسالٌ كما يأتي بيانه، فما تكلَّم فيه أحد منهم على كثرتهم وكثرة تعرُّضهم للكلام على كلِّ من فيه مطعَنٌ، سواءٌ كان منهم أو منَّا، وسواءٌ كان صغيراً أو كبيراً، فقد تكلموا في حفظ الإمام أبي حنيفة على جلالته، وعلى أن كثيراً من الملوك حنفيَّةٌ، وتكلَّموا في كثيرٍ من رجال الصحيحين، فما بالُهم لم يختلفوا في صحة حديث الزهري، مع إجماعهم على الجرح بتعمُّد المعاصي وإجماعهم على أنه لا يُقبل المجهول، وقد تواترت عدالتهم إلاَّ في ذنوب التأويل.
وقد بيَّنَّا كلام الأئمة في وجوب العمل بأخبار المتأولين، ومن جملة ذلك أخبارهم بالجرح والتعديل.
ولا بدَّ من ذكر ما يدلُّ على أنه لم يكن مداهناً للملوك في مخالطته، فنقول:
فإن (1) قيل: هذا ما يدلُّ على عدالته، فأورِدُوا ما قدح به (2) عليه.
قلنا: هذا لازمٌ من بيان ذلك، ولا بُدَّ من بيان ذلك، والجواب عليه فنقول:
جملة ما قُدِحَ على الزهري به أمورٌ أربعة:
أولها: المخالطة للسلاطين، وقد تقدم الجواب عنها، وهي المشهورة عنه، وهي جُلُّ ما يقدح به فيه.
وثانيها: التدليس، قال الذهبي في " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (3) كان الزهري يُدَلِّس في النادر.
وقال صلاحُ الدين العلائي، وأحمد بن زين الدين العراقي في كتابيهما في المدلسين: إنه مشهور بالتدليس (4).
__________
(1) في (ف): " إن ".
(2) " به " ساقطة من (ش).
(3) 4/ 40.
(4) نص العلائي في " جامع التحصيل " ص 125: محمد بن شهاب الزهري الإمام =(8/236)
وقال أحمد بن زين الدين العراقي: إن الطبري ذكر في كتاب " تهذيب الآثار " عن قوم: أن الزهري مِنَ المدلسين، قال: وكلامه يقتضي خلافاً في ذلك.
قلت: وإن اقتضى ذلك، فالمثبت أولى من النافي، والحق أحق أن يُتبع.
والجواب عن هذا واضح، فإن مذهب أهل البيت عليهم السلام: أن التدليس جائزٌ وأنه لا يُجرح الراوي به، وكذلك جماهير علماء المعتزلة ممن يقبل المرسل، وكذلك مذهب جمهور أهل الحديث: أن المدلِّس لا يجرح كالمرسل، فقد دلَّس كثيرٌ مِنْ كبار الثِّقاتِ، وصحَّ عنهم ذلك مع الإجماع على عدالتهم، مثل الحسن البصري، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وخلق كثير، وإنما الذي يمنع منه المحدثون قبول ما احتمل التدليس من رواياتهم دون
__________
= العلم مشهور به (أي: بالتدليس) وقد قبل الأئمة قوله " عن ".
وأحمد بن الحسين العراقي: هو الحافظ أبو زرعة المتوفى سنة (826) ابن الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي المتوفى سنة (806) هـ، وكتابه المنقول عنه هذا النص يغلب على الظن أنه " تحفة التحصيل في ذكر ذوات المراسيل " ذكره في " كشف الظنون " 1/ 364.
قلت: وقد ذكر الحافظ ابن حجر الأمام الزُّهري في المرتبة الثالثة من " طبقاته " ص 109، وقال: وصفه الشافعي والدارقطني وغير واحد بالتدليس، وقد وصف الحافظ أصحاب هذه المرتبة فقال: من أكثر من التدليس، فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم إلاَّ بما صرحوا فيه بالسماع، ومنهم من ردَّ حديثهم مطلقاً، ومنهم من قبله كأبي الزبير المكي.
قلت: وإدراج الحافظ هذا الإمام الجليل في هذه المرتبة وهمٌ مُبين منه رحمه الله، فإن الزهري إمامٌ حافظ حجة متفق على جلالته وإتقانه، وحديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد جدُّ كثير، ولم يقع منه التدليس إلاَّ نادراً، كما وصفه الإمام الذهبي، وهو أعرف من الحافظ بالرجال وأبصر، على أن الحافظ في " الفتح " 10/ 427 وصفه بقلة التدليس، ولذا أرى أن الصواب أن يُدْرَج في المرتبة الثانية، مرتبة من احتمل الأئمة تدليسه، وأخرجوا له في الصحيح لإمامته، وقلة تدليسه في جنب ما روى.(8/237)
ما صرَّحوا فيه بالسماع، أو ظهرت لهم قرينةٌ تدل عليه، كطول المخالطة ونحو ذلك، ولكنَّ اسم (1) التدليس منكرٌ عند من لا يعرف اصطلاح علماء الأصول والحديث.
والتدليس في عرفهم: أن يروي المحدِّث الحديث عن رجلٍ ولم يسمعه منه، وإنما سمعه عن رجل عنه، موهماً أنه سمعه منه من غير أن يكذب، فيقول: حدثني فلان، وذلك شائعٌ في الثقات، وقل من يسلمُ منه (2).
وقد رُوِيَ أن ابن عباس ما سَمِعَ من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ أحاديث يسيرة. قال بعضهم: أربعة أحاديث، وبقية روايته عن الصحابة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو لا يكاد يذكر من بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كذا، حتى يتوهَّم السامع أنه سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا شبيه (3) بالتدليس، لكنه لم يتحقق قصد الصحابي لذلك، وكذلك لم يوصف أحدٌ منهم بالتدليس، وهذا مما احتج به أصحابنا على قبول المرسل.
وقد يجرح أهل الحديث بالتدليس إذا صدر ممن ليس له بصرٌ بالإسناد وعلم الرجال، وكان يُدلس أحاديث الضعفاء ويخلِطُ الغَثَّ بالسمين، وأما أهل البصر بهذا الشأن، المجرَّبُ صدقهم وتحرِّيهم، فالكلام فيهم كما قدمته.
والقدح على الزهري بالتدليس غريبٌ جداً، فلم يذكر هذا أحدٌ، لولا أن الذهبي شرط في كتاب " الميزان " أن لا يترك شيئاً قدح به من حقٍّ أو باطلٍ.
وثالثها: أن الزهري كان يلبس زى الأجناد.
قال الذهبي (4): كان الزهري بزيِّ الأجناد، وكان في رتبة أميرٍ.
والجواب عن هذا ظاهر، فإن زي الأجناد غير محرَّم، لا في الكتاب، ولا
__________
(1) " اسم " ساقطة من (ف).
(2) " منه " ساقطة من (ف).
(3) في (ف): " اشتبه ".
(4) في " السير " 5/ 341.(8/238)
في السُّنة، وقد فسَّر الذهبي هذا الزي الذي كان يلبسه، فقال: كان له قُبَّةٌ معصفرة، وملحفة معصفرة (1).
فهذا هو الذي كان عليه، ولباس الثوب المعصفر مختلفٌ فيه بين أهل العلم، ومذهب الشافعي المنصوص أنه مباحٌ، وليس فيه تحريم على مذهبنا أيضاً، وقد كان هذا مستنكراً في ذلك العصر، لما كان عليه أهل العلم من الخشونة في ملابسهم والاقتداء بالسلف في كثير من أحوالهم، وقد لبس العلماء في الأعصار الأخيرة لباس المترفين، ولا قدح في ذلك، بل الأفضل تركه، وفعله جائزٌ.
والزهري لما خالط الأجناد، وكثُرَت ملازمته لهم، تزيَّا بزيِّهم، ولا جرح في هذا، ولكن نقص في المرتبة، فقد كان الأولى له لزوم المساجد والبعد عن مخالطة أهل الدنيا، ولكن من الذي ما فعل إلاَّ ما هو الأولى والأفضل؟ ولكنَّ الطبيعة البشرية تقتضي من الإنسان أن يرى القذى في عين أخيه، ولا يرى الجِذْعَ في عينه، فالزهري وإن فعل ذلك فهو ثقةٌ مأمون، ولو أنه يغير في دينه، لرَفَضَه علماء التابعين، وجرَّحوه، وحذَّروا طلبة العلم من ملازمته والاعتماد على روايته.
ورابعها: قول محمد بن إشكاب: كان الزهري جندياً، وهذه عبارةٌ بَشِعَةٌ جافيةٌ، لا يليق طرحها على الزهري، لما أُبَيِّن من ترفُّعه عن هذا المحل.
والجواب عن هذا من وجوهٍ:
الوجه الأول: أن محمد بن إشكاب غير معروف، سألت عنه النفيس العلويَّ أدام الله علوَّه، فقال: هو مجهولٌ (2)، وأما أحمد بن إشكاب، فثقةٌ من
__________
(1) لم يفسره الذهبي، وإنما رواه عن الليث بن سعد، ثم إنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك هو زي الأجناد.
(2) هذا خطأ بين من المصنف رحمه الله تابع فيه شيخه النفيس العلوي، فالرجل ليس =(8/239)
رجال الصحيح، وغير خافٍ على أهل التمييز أنه لا بد من معرفة الجارح بالعدالة.
الوجه الثاني: أن محمد بن إشكاب لم يدرك الزهري، فبين وفاته ووفاة الزهري مئة سنة واثنتان وأربعون سنة (1)، ذكره في " درة التاريخ "، وقد ذكرنا ما يدل على عدالة الزهري من كلام أئمة التابعين المشاهير الذين صحِبُوه وخَبَرُوه، وهذا رجل لم يدركه، ولم يعرفه رمى بكلمةٍ لا ندري عمن تلقَّفَها وهل تجوَّز فيها.
وفي كتاب " الميزان " (2) للذهبي نحو هذا في ترجمة خارجة بن مصعب من طريق أحمد بن عبدويه المروزي، عن خارجة بن مصعب، ثم ذكر الذهبي عن كثيرٍ من الأئمة تضعيف خارجة، بل قال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيعٌ (3)، والترك في عبارتهم بمعنى التُّهمة بتعمُّد الكذب، ووكيعٌ شيعي لا يتهمه الشيعة، وعن ابن معين أنه كذاب وهذا أشد الجرح، مع أن في الرواية هذه بعينها عن خارجة أنه ترك الزهري لما رآه صاحب شرط بني أمية في يده حربةٌ. قال: ثم ندم، فقدم على يونس صاحب الزهري، فسمع منه عن الزهري.
وهذا يدل على صدق المحدِّثين في عدم الثقة بخارجة إن صحَّت الرواية،
ولم يُوثِّقهُ أحدٌ، وإنما قال ابن عدي: لا بأس به (4)، وهي عبارة تليين، والجرح
__________
= بمجهول، بل هو حافظ إمام ثقة من رجال البخاري وأبي داود والنسائي، وإشكاب لقب أبيه، فهو أبو جعفر محمد بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان البغدادي المتوفى سنة (261 هـ) مترجم في " التهذيب " و" السير " 12/ 352 - 353.
(1) قلت: توفي الزهري سنة (124 هـ)، ومحمد بن إشكاب سنة (261 هـ) فيكون بين وفاتيهما (137) سنة.
(2) 1/ 625.
(3) " ووكيع " ساقطة من (ف).
(4) بل قال ابن عدي: " وهو ممن يكتب حديثه " انظر " الكامل " 3/ 927، و" الميزان ".(8/240)
الصريح مقدمٌ على مثل هذا وفاقاً. فبطل هذا الإسناد، وإنما استند محمد بن إشكاب إلى مثل هذا.
الوجه الثالث: إن هذا القدر لا يجرح به في الرواية، لأن المحققين لا يقبلون الجرح المطلق غير المفسر، فكيف بما لم يثبت أنه جرحٌ، وذلك لأن خِدْمَةَ الملوك نوعان: محرّمٌ قطعاً، وهو خدمتهم في الحرام، ومباحٌ، وهو خدمتهم فيما ليس بحرامٍ، فإن ذهب عالم إلى تحريم ذلك، فبدليلٍ ظني لا يمنع الخلاف كما قدمنا في المعاونة سواء، ولكن هذه مرتبة نقص شرف تَبَيَّن أن الزهري كان أرفع منها، وإنما ذكرتها للتنقل في مراتب الجواب من الرتبة الدنيا إلى ما يليها.
الوجه الرابع: سلمنا أنه محرَّمٌ قطعاً، لكن لا يجرح به عندنا إلاَّ إذا وقع من غير تأويل، ولم يذكر في " الميزان " أنه قُدِحَ فيه بشيءٍ من هذه الأشياء إلا التدليس، وذلك لما ذكرته من هذه الأشياء مسائل ظنية لا يقدح بها، ولكن بعض أهل العلم قد يتجنب من خالط الملوك نُفرةً من الدنيا ومن قاربها، لا جرحاً محققاً.
وإنما ذكرت هذه الوجوه لما كثر التَّعنُّت، ولما تعرض السيد لذكرها في جوابه.
الوجه الخامس: أنَّا نبيِّنُ ما يدل على أن الزهري، وإن خالط الملوك، فما كان في هذه المنزلة، بل كان عالماً، موحِّداً، عدلياً، ثبتاً، قوَّالاً بالحق، غير مداهنٍ للملوك في أمر الدين، والذي يدل على ذلك وجوه:
الوجه الأول: ما ذكره السيد الإمام الناطق بالحق (1) أبو طالب عليه السلام فإنه ذكر في كتابه " الأمالي " في ترجمة زيد بن علي عليه السلام أن الزُّهريَّ دخل على هشامٍ، بعد قتل زيد بن عليٍّ عليه السلام، فقال له هشام: إني ما أُراني
__________
(1) " بالحق " ساقطة من (ف).(8/241)
إلا أوبقتُ نفسي، فقال الزهري: وكيف ذاك (1)؟ فقال: أتاني آتٍ (2) فقال: إنه ما أصاب أحدٌ من دماء آل محمدٍ شيئاً إلاَّ أوبَقَ نفسه من رحمة الله. قال: فخرج الزهري وهو يقول: أما والله لقد أوبقت نفسك، وأنت الآن أوبقُ.
فهذا الكلام مما يدلُّ على جلالة قدر الرجل، فإنه لا يصدع بقول الحق عند هشام إلاَّ من هو من أهل الديانة والجلالة، وأين مرتبة الأجناد من هذا الكلام، ولا يعرف بقدر هذه الكلمة وأمثالها إلاَّ من يعرِفُ بخبر هشامٍ ويكبره.
ولأمرٍ ما عظَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النُّطق بالحق عند أئمة الجَوْرِ، فقال عليه السلام: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " (3).
قال العلماء في شرح الحديث: وإنما كانت أفضل الجهاد، لأن المجاهد يتمكن من الدفع عن نفسه، والذي عند أهل الجور لا يتمكن من ذلك.
الوجه الثاني: ما ذكره يعقوب بن شيبة (4) الثقة المشهور، قال: حدثني محمد بن إدريس الشافعي، قال: حدثنا عمي، قال: دخل سليمان بن يسارٍ على هشامٍ، فقال: من الذي تولَّى كِبْرَهُ؟ قال: عبد الله بن أُبي بن سلول.
قال: كذبت، هو علي، من هو يا ابن شهاب؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت هو علي، قال: أنا أكذب، لا أبالك؟! فوالله لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة، وعبد الله، وعلقمة بن وقاص، عن عائشة أن الذي تولّى كِبْرَه عبد الله بن أبي بن سلول.
قال: فلم يزل القوم يُغرون به حتى قال له هشام: ارحل، فوالله ما ينبغي
__________
(1) في (ش): " ذلك ".
(2) قوله: " فقال: أتاني آت " ساقط من (ف).
(3) تقدم تخريجه 2/ 68.
(4) في الأصول: " ابن أبي شيبة "، وهو خطأ.(8/242)
لنا أن نرحل (1) عن مثلك، قال: ولِمَ، أنا اغتصبتُك على نفسي؟ أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، قال: لا، ولكنك استدنت ألفي ألفٍ. قال: قد علمت وأبوك [قبلك] أني ما استدنتها عليك، ولا على أبيك. فقال هشام: لا تَهِيجُوا الشيخ. فلما خرج، أمر له هشام بألفي ألفٍ (2)، فأُخبر بذلك، فقال: الحمد لله الذي هذا من عنده.
روى ذلك إمام علم الرجال، أبو الحجاج المزي في " تهذيبه "، والذهبي في " تذهيبه " وغيره (3) وإسنادها صحيحٌ متصلٌ، وكلُّ رجال الإسناد أشهر من أن يعرف بحالهم إلاَّ عمَّ الشافعي، وهو محمد بن العباس بن شافع، وثَّقه أبو عبد الله الحاكم ابن البيع المحدث الشيعي، ذكره في " مناقب الشافعي " رحمه الله، وهي دالةٌ على ترفُّع الزهري من مراتب الأجناد إلى ربوة بعيدة، والدلالة فيها من وجوه:
أولها: ما قدمناه من الصدع بمُرِّ الحق بين يدي هشام بعد العلم بكراهته، لذلك فإن هشاماً قد كان (4) كذَّبَ سليمان بن يسارٍ، والزهري يسمع، وادَّعى أن الذي تولَّى كِبْرَهُ علي عليه السلام، ثم التفت إليه مُنتصراً به على سليمان بن يسارٍ، طالباً منه أن يساعده، على ما ذكر (5)، فصدع بالحق، ولم يُبالِ به، ولو كان ليِّن العريكة في المُداهنة شيئاً قليلاً، لكان يسَعُه أن يقول: الله أعلم، ولا يصرِّحُ بما يقتضي تجهيل هشامٍ وتكذيبه في حضرته، فأين هذا المقام من مقام الأجناد؟ هذا والله مما ينتظم في سلك مقامات الصالحين مع الملوك.
وثانيها: أن هشاماً لما كذَّب سليمان بن يسارٍ، سكت هيبةً لهشامٍ، ولم
__________
(1) كذا الأصول، وفي " السير " وغيره: " نحمل ".
(2) في " السير "، و" تاريخ دمشق ": " ألف ألف ".
(3) لم أجد هذا الخبر في " تهذيب الكمال " وهو في " تاريخ دمشق " ص 162، و" السير " 5/ 339 - 340، و" تاريخ الإسلام " ص 245 - 246.
(4) " كان " ساقطة من (ش).
(5) في (ش): " ذكره ".(8/243)
يَحِرْ جواباً ولا أحلى ولا أمر في الرَّدِّ على هشام مع جلالته، وفضله وعلمه. وأما الزهري، فإن هشاماً لما كذبه، لم يتبلَّد في الجواب، ولا داهن في الحق، ولا سكت عن الصواب، بل قال لهشامٍ: أنا أكذب لا أبالك، والله لو ناداني منادٍ من السماء أن الله قد أحلَّ الكذب ما كذبت، ثم سرد من حديثه بذلك من ثقات التابعين حتى أبطل دعوى هشامٍ وأسكته.
فإن قلت: لولا أن الزهري يُبْغِضُ أهل البيت لما (1) أقام مع من يبغضهم.
قلت: هذا لا يلزم، فإن ابن أبي الحديد كان وزيراً لابن العلقمي الرافضي، وابن أبي الحديد معتزلي معظمٌ للشَّيخين، قائلٌ بتقديمهما في الإمامة على أمير المؤمنين، وابن العلقمي مستحل لسبِّهما، معتقد لرفضهما، ولكن حاجة الناس إلى المال والجاه وقضاء الدين وصلة الأرحام تجرُّهم إلى مثل هذا، وقد توفد عقيل بن أبي طالب على معاوية في خلافة علي عليه السلام لأجل الحاجة إلى المال، وأقام جعفرٌ الطيار بين عُبَّاد الصُّلبان من النصارى سبع سنين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بين المهاجرين والأنصار في عِزٍّ ومَنَعَةٍ وعسكر (2) بغير ذمة ولا جوارٍ، والإنسان يجد من نفسه أنه لا يفعل هذا، ولكن ليس كل ما وجد الإنسان من نفسه أنه لا يفعله قَدَحَ به على الناس، وإن كان مباحاً لهم، واستدلَّ به على ما لا يدلُّ عليه من حيث تواطؤهم، فتأمل ذلك (3).
وثالثها: أن هشاماً لما عاب عليه أنه استدان ألفي ألفٍ، قال له: علمت وأبوك أني ما استدنتها عليك ولا على أبيك، وفي هذا الكلام خشونةٌ ظاهرةٌ ترفعه عن مقام الأجناد، وخَساسة الخُدَّام، فإن ذكر الآباء مُهيِّجٌ للغضب، مثيرٌ للحمية من الكِبْرِ والعُتُوِّ (4)، وإنما يذكر المخاصم أبا خصمه ليُغصِبَه بذلك، وإلا فلا ملجىء إلى ذكر الآباء، وهذا معلومٌ في العادة.
__________
(1) في (د) و (ف): " ما ".
(2) " وعسكر " ساقطة من (د) و (ف).
(3) " ذلك " ساقطة من (ف).
(4) في (ش): " والعنف ".(8/244)
ورابعها: أن القوم لما أغرَوْا به، حتى قال له هشام: ارتحل (1) عنَّا، ألقمه الحجر في الرَّدِّ عليه، ولم يخضع له خُضوع عبيد الدينار والدرهم، بل قال له: ولم؟ أنا اغتصبتُك على نفسي، أنت اغتصبتني على نفسي، فخلِّ عني، يعني (2) أنا ما أكرهتك على صحبتي، بل أنت أكرهتني على صحبتك، فاتركني أرتحل عنك، فأنت الطالب لإقامتي، فهذا إفصاحٌ في الزهد في صحبة هشامٍ، وأنها عندهم مكروهةٌ غير جديرةٍ بأن يحرص عليها، ولا خليقة بأن يُلتفت إليها، وهذا كلام من له شهامةٌ كبيرةٌ وأَنَفَةٌ عظيمةٌ، ولأمرٍ ما لانت له عريكة هشامٍ بعد هذا الكلام، فقال هشام (3): لا تهيجوا الشيخ، أي: لا تُغْضِبُوه، فلو كان في مرتبة الأجناد، لم يتصلَّب في الحق حتى تلين شدة هشام قبل أن يلين الزهري، ولعل المعترض على الزهري بمداهنة الملوك لو قام في مقامه هذا، لارتعدت فرائصه، ورجف فؤاده، ولم يأتِ بعُشر ما أتى به الزهري من الذَّبِّ عن أمير المؤمنين عليه السلام في مقام هذا الجبَّار المتمرِّد، وما أحسن قول أبي الطيب:
وإذا ما خلا الجَبَانُ بأرضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وحده والنِّزالا (4)
الوجه الثالث: من الأصل ما رواه الذهبي (5) عن الزهري، قال: قال لي هشام: اكتب لبنيَّ بعض أحاديثك، فقلت (6): لو سألتني عن حديثين ما تابعتُ بينهما، ولكن إن كنت تريد، فادع كاتباً، فإذا اجتمع الناس وسألوني، كتبت لهم.
__________
(1) في (ش): " ارحل ".
(2) " يعني " ساقطة من (ش).
(3) " فقال هشام " ساقطة من (ش).
(4) البيت من قصيدة يمدح فيها سيف الدولة الحمداني، ومطلعها:
ذي المعالي فَلْيَعْلُوَنْ من تَعالَى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
انظر " الديوان " 3/ 134 بشرح العكبري.
(5) في " السير " 5/ 333.
(6) في (ف): " فقال "، وهو خطأ.(8/245)
وروى الذهبي (1) أنه خرج (2) من عند عبد الملك، فجلس، ثم قال: يا أيها الناس، إنا قد كنا منعناكم شيئاً قد بذلناه لهؤلاء، فتعالوا حتى أحدثكم.
قال الراوي: فسمعهم (3) يقولون: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال الزهري: يا أهل الشام، ما لي أرى أحاديثكم ليست لها أزِمَّةٌ ولا خُطمٌ؟ قال الوليد: فتمسك أصحابنا بالأسانيد من يومئذٍ، قال: وكان يمنعهم أن يكتبوا عنه، فلما ألزمه هشامٌ أن يكتب لبنيه، أذِنَ للناس أن يكتُبوا معهم.
ففي هذا ما يدل على جلالته أنه امتنع أن يُملي على أولاد هشام إلاَّ بحضرة الناس، ولما ألزمه هشامٌ ذلك، كان يُملي عليهم مع الناس، وهو متضجِّرٌ من ذلك، مُظهرٌ لكراهته من غير إثمٍ فيه (4) ولا تحريمٍ، ولكن لما فيه من اختصاص أهل الدنيا والترفه (5) ببذل العلم، ألا ترى كيف خرج على الناس، فقال: يا أيها الناس، إنا كنا قد منعناكم شيئاً قد بذلناه لهؤلاء هكذا (6) بهذه العبارة المؤذنة بالتضجُّر منهم، وعدم التعظيم لهم، فإن قوله: قد بذلناه لهؤلاء، في معنى أنهم غير أحقَّاء بأن يُخَصُّوا بالعلم، ولا شك أن الملوك يأنفون من أقل من هذا الكلام، وإن نِداء الناس بهذا على أبوابهم، والإعلان به لا يَصْدُرُ ممن هو (7) في منزلة الجند في المهانة والمداهنة.
الوجه الرابع: روى في الجزء السابع من كتاب " العقد " (8) في حديثٍ فيه طول (9) إن الزهري جاء وعبد الملك في إيوانٍ وعن يمينه ويساره سِماطان من
__________
(1) " السير " 5/ 234.
(2) " خرج " ساقطة من (ف).
(3) في الأصول: " فسمعتهم " والمثبت من " السير ".
(4) في (ش): " منه ".
(5) في (ف): " والسرف ".
(6) " هكذا " ساقطة من (ش).
(7) " هو" ساقطة من (ش).
(8) " العقد الفريد " 5/ 126 - 127، لابن عبد ربه الأندلسي المتوفى سنة (328 هـ).
(9) في (ش): " حديث طويل ".(8/246)
الناس، لا يمشي أحدٌ بينهما، فقال عبد الملك للذي عن يمينه: هل بلغكم أي شيءٍ أصبح في بيت المقدس ليلة قتل الحسين؟ قال: فسأل كل إنسانٍ صاحبه، حتى بلغت المسألة الباب، فلم يرد أحدٌ فيها شيئاً. قال الزهري: قلت: عندي في هذا علمٌ، قال: فرجعت المسألة رجلاً عن رجلٍ حتى انتهت إلى عبد الملك، فدُعيت، فمشيت بين السِّماطين، فلما انتهيت إليه، سلَّمتُ عليه، فسألني من أنا، فانتسبت له، فعرفني بنسبي، وكان طلاَّبةً للحديث، فسألني، فقلت: نعم، حدثني فلان -لم يسمِّه لنا- لم يُرفَعْ تلك الليلة حجرٌ ببيت المقدس إلاَّ وُجِدَ تحت دمٌ عبيطٌ. قال: صدقت، حدثني الذي حدثك، وإنَّا وإيَّاك في هذا الحديث لقرينان.
وروى الحافظ الطبراني عن الزهري نحوه، ولفظه: قال لي عبد الملك بن مروان: أي واحدٍ أنت إن أعلمتني أي علامة كانت يوم قتل الحسين؟ قلت: لم تُرفع حصاة ببيت المقدس إلاَّ وُجِدَ تحتها دمٌ عبيط. قال: إني وأنت في هذا الحديث قرينان.
قال الهيثمي: رجاله ثقات، وخرج الطبراني عن الزهري نحوه من غير ذكر قصة عبد الملك، قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح (1).
قلت: ورواية " العقد " أبسط، والحديث واحدٌ، ففي هذا أنه لم يُدَاهِنْه، ويتصنَّع إليه بإنكار فضائل أهل البيت عليهم السلام، وفيه أيضاً أنه إنما وصل إليه لأجل الجهاد والمرابطة كما فعل ذلك كثيرٌ من الفضلاء مع أئمة الجور.
الوجه الخامس: أنه لم يُنقل عنه أنه أثنى عليهم، ولا تصنَّع إليهم بشيءٍ من سبِّ علي عليه السلام ولا بُغضِه، ولا سبِّ أحدٍ من أهل البيت عليهم السلام، ومن المعلوم أن خُدَّام الملوك وأجنادهم أتبع لهم من الظِّلِّ، وأطوع لهم من النَّعل، يَسُبُّون من سبُّوا، ويُبْغِضُون من أبْغَضُوا، بل نُقِلَ عنه عكس
__________
(1) تقدم تخريجها ص 55 من هذا الجزء.(8/247)
هذا، فإنه ذبَّ على عليٍّ عليه السلام في القصة المتقدِّمة، وقد نقل الحاكم رحمه الله أنه كان ممن خرج مع زيد بن علي عليه السلام.
الوجه السادس: أنه لم يُنقل قطُّ أن الزهري طلب الولاية ولا الإمارة، ولا شكا أحدٌ من أهل الدِّين أن الزُّهري آذاه ولا نافسه في أمرٍ، ولا نُقِلَ أنه ظلم أحداً من الرَّعيَّة، ولا أعان في مظلِمةٍ مع عِظَمِ المنزلة عند الملوك، وطول الصحبة لهم، وهذا دليلٌ على الديانة، فقلَّ من يمتنع من هذه الأمور إلاَّ للعجز وعدم التمكن، فمن تمكن، ولم يُنقل عنه شيءٌ من ذلك مع طول المدة، فهو دليل ديانته ونزاهته.
فبهذه الوجوه السِّتَّة وأمثالها يتضح ما ذكرته من ارتفاعه من مرتبة الأجناد، والله أعلم.
فإن قلت: هذه الأشياء لا تُوجِبُ العلم بنزاهته، وأنت ألزمتنا العلم (1) بأنه أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام.
قلت: العلم بالنزاهة لا تجب إلاَّ لو ادَّعينا عصمته، ورفعناه من مرتبة العدول إلى مراتب الأنبياء، وإنما ألزمت السيد اليقين هناك حيث ادعى اليقين، فأخبرته أن الدليل على دعوى اليقين لا يكون (2) إلاَّ قاطعاً (3)، ولوِ ادَّعى الظن كما ادعيت، لم أُلزمه ذلك.
واعلم أنه (4) لا سبيل إلى زوال وساوس النُّفوس بسوء الظنون التي لا مُوجب لها إلاَّ العادة والإلف، ومن اشتهر بالثقة، وأطبق الجِلَّة من التابعين ومن بعدهم على الاحتجاج بحديثه لم يُؤخذ بروايةٍ شاذةٍ أو محتملة، ولو كان مثل هذا يؤثِّر في الثقات المشاهير، لم يكد أحدٌ منهم يسلم إلاَّ من لا يكتفي به في العدالة، فإن الحاجة إلى العدول ماسةٌ في الشهادات والحديث والفتاوى
__________
(1) " العلم " ساقطة من (ش).
(2) " لا يكون " ساقطة من (ف).
(3) في (ش): " قطعاً ".
(4) " أنه " ساقطة من (ش).(8/248)
والقضاء والأذان والإمامة (1) الكبرى والصُّغرى وغير ذلك فمن أين كنا في كل مكانٍ وزمان من لم يُتكلَّم فيه بشيءٍ، ولو كان الرجل كالقِدْحِ المُقَوَّمِ، لقال الناس فيه لو ولولا.
هذا ابن عباس حبر الأمة، وبحر التأويل، وإمام التفسير، قد اشتهر في كتب التاريخ أنه أخذ مال البصرة من غير إذن علي عليه السلام، وهذا محرَّمٌ، لا أعلم أحداً يجيزه.
وروي أن علياً عليه السلام كتب إليه في ذلك كتاباً شديداً، قال فيه (2): أمَّا بعد فإني كنت أشركتك (3) في أمانتي، وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن في أهلي أوثق منك في نفسي، لمواساتي ومؤازرتي، وأداء الأمانة إلي، فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كَلِبَ (4)، والعدوِّ قد حَرِبَ، وأمانة الناس قد خزِيت (5)، وهذه الأُمة قد فُتِنَتْ (6)، قلبت لابن عمِّك ظهر المِجَنِّ، ففارقته
__________
(1) تحرفت في (ف) إلى: " الإقامة ".
(2) النص في " نهج البلاغة " ص 581 - 583 تحت عنوان: ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله. قال ابن أبي الحديد في شرحه 16/ 169، وقد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب، فقال الأكثرون: إنه عبد الله بن العباس رحمه الله، ورَوَوْا في ذلك روايات، واستدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب ثم أورد ألفاظاً من هذا الكتاب تؤيد مقالتهم، ثم قال: وقال آخرون وهم الأقلون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عباس علياً عليه السلام ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قتل عليه السلام ...
وهذا عندي هو الأمثل والأصوب.
(3) في (د) و (ف): شركتك، وهو خطأ، ومعنى أشركتك في أمانتي: جعلتك شريكاً فيما قمت فيه من الأمر، وائتمنني الله عليه من سياسة الأمة.
(4) أي: استد، وقوله: والعدو قد حَرِبَ أي: استأسد.
(5) أي: ذلت وهانت.
(6) في " النهج ": فَنَكَتْ وشفرت قال الشيخ محمد عبده: مِنْ فَنَكَتِ الجارية: إذا صارت ماجنة، ومجون الأمة أخذها بغير الحزم في أمرها، كأنها هازلة. قلت: وفي =(8/249)
مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخُنْتَه مع الخائنين، فلا ابن عمك آسَيْتَ، ولا الأمانة أديت، وكأنك لم تكن الله تريد بجهادك، وكأنك لم تكن على بينةٍ من ربك، وكأنك إنما كنتَ تَكِيدُ هذه الأمة عن دنياهم، وتنوي غِرَّتهم عن فيْئِهم، فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة، أسرَعْتَ الكرَّة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قَدَرْتَ عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزَلِّ (1) دامية المِعْزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رَحْبَ الصدر بجملة، غير متأثِّمٍ من أخذه، كأنك -لا أبا لغيرك- حدرت إلى أهلك تراثك من أبيك وأُمِّك، فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب، كيف تُسيغ طعاماً وشراباً وأنت تعلم أنك تأكل حراماً، وتشرب حراماً، وتبتاع الإماء، وتَنْكِحُ النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين، الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال، وأحرز بهم هذه البلاد.
فاتق الله واردُد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأُعْذِرَنَّ إلى الله فيك، أو لأضربنَّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار. والله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادةٌ، ولا ظفِرا مني بإرادةٍ حتى آخذ الحق منهما، وأُزيح الباطل عن مظلمتهما، وأقسم بالله رب العالمين ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أتركه ميراثاً لمن بعدي، فَضَحِّ رويداً (2) وكأنك قد بلغت المدى [ودُفِنت
__________
= " القاموس ": والفنك: العجب والتعدي واللجاج والغلبة والكذب. وشفرت الأمة: خلت من الخير، والمِجَنُّ: الترس، والمعنى: كنت معه فصرت عليه، وهو مثل يضرب لمن يخالف ما عهد فيه.
(1) هو الخفيف الوَرِكين، وذلك أشد لعدوه، وأسرع لوثبه، وإن اتفق أن تكون شاة من المِعزى كثيرة ودامية أيضاً كان الذئب على اختطافها أقدر.
(2) كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة والأناة والسكون، وأصلها أن العرب كانوا يسيرون في =(8/250)
تحت الثرى] وعُرِضَتْ عليك أعمالُك بالمحلِّ الذي يُنادي الظالمُ فيه (1) بالحسرة، ويتمنى المضيِّع الرَّجعة، ولات حين مناصٍ، والسلام.
فهذا الكتاب فيه من التصريح كما ترى بأن ابن عباسٍ رضي الله عنه كان يعلم أن ذلك المال الذي أخذه حرامٌ، وهذا جرحٌ محقَّقٌ لو كان كل ما رُوِيَ صُدِّقَ، وكل ما قيل قُبِلَ، ولكن الذي ظهر من أمانة ابن عباسٍ وعدالته وتقواه يقتضي أن هذا غير صحيحٍ، فالمعلوم المشهور لا يعارض بالمظنون الشاذ، كيف وليس هذا في مرتبة الظن؟ وقد أطبق الصحابة والتابعون على جلالة ابن عباسٍ وأمانته، والأخذ عنه، فلم يُلتفت إلى ما شذَّ في هذه الرواية (2).
وكذلك سائر الثقات المشاهير الذين دارت رواية العلم عليهم من أول الإسلام إلى آخره لا يُسمعُ فيهم من الأقوال الشاذة والروايات الساقطة ما لا يصح، ولا يساوي سماعه.
وإذا قد نجز الغرض من الكلام على هذه الفوائد التي جرَّ إليها الكلام في الزهري، فلنختمها بتنبيهاتٍ:
التنبيه الأول: أن حديث الزهري معروفٌ متميِّزٌ، لم يلتبس بأحاديث سائر (3) الرواة، وجملة حديثه ألفا حديثٍ ومئتا حديثٍ، وفيه بضعةٌ غير مسند لم يُجَرِّحْ أهل الصِّحاح منه شيئاً، وهذا المسند قد صنَّفوه وثبَّتُوه، وتكلموا على رُواته، وكلُّه معروفٌ من غير طريق الزهري إلاَّ النادر اليسير، وإنما روَوْهُ من طريقه لما اختصَّ به من جَوْدَة الحفظ، وقوة الإتقان، وإنما عرفوا حفظه بموافقته للثقاتِ
__________
= ظعنهم، فإذا مروا ببقعة من الأرض فيها كلأ وعشب، قال قائلهم: ألاَّ ضحوا رويداً، أي: رفقوا بالإبل حتى تتضحى، أي: تنال من هذا المرعى.
(1) " فيه " ساقطة من (ش).
(2) " الرواية " ساقطة من (ف).
(3) " سائر " ساقطة من (ف).(8/251)
من الرواة، ألا ترى كيف قال له علي بن الحسين عليه السلام: إنما العلم ما عرِفَ وتواطأت عليه (1) الألسن.
وهذا هو مذهب المحدِّثين. قال مالك: من حدَّث بالغرائب كذب، ومن أصول المحدثين الجرح بكثرة الرواية للغرائب عن الثقات المشاهير، وقد كانوا يجدون من يروون عنه حديث الزهري من أهل الزهادة، لكنهم رأوه أحفظ من أولئك الزهار وأعرف، وكم من زاهدٍ تقيٍّ وهو ضعيفٌ عند المحدثين، لا تحِلُّ الرواية عنه لما جرَّبُوا عليه من الوهم الكبير والتخليط، فمن أنِسَ بعلم الحديث، عرف أن الذي ينفرد به الزهري ويُغْرِبُه لا يكون إلاَّ قدراً يسيراً، ولعل الذي يتعلَّقُ بالتحليل والتحريم لا يكون إلاَّ دون الرُّبُع من ذلك، فلو قدَّرنا بطلان الاحتجاج ما كان ذلك (1) يضرُّ، فكم تكون أحاديثه في جنب أُلوفٍ من الحديث، فجملة ما تفرَّد قدر تسعين حرفاً بأسانيد جيدةٍ، كذا قاله مسلم بن الحجاج فيما نقله عنه ابن الصلاح، ذكره ابن العراقي في " التبصرة " (2) في الكلام على الشاذ، وهذا مقدار ثلث العشر، يزيد يسيراً، فإن ثلث عشر حديثه ثمانون حديثاً، ولا شك أن من روى ثلاثين حديثاً فواق الثقات في تسعةٍ وعشرين، وانفرد بحديثٍ واحدٍ، حافظٌ ثقةٌ، بل قال الفقهاء والأصوليون إذا كان صوابه أكثر، ولو بحديثٍ، وجب قبوله.
فهذه الأحاديث التي شذ بها الزهري لا يكون في الصحيح منها إلاَّ اليسير، ولا يكون في التحليل والتحريم من ذلك إلاَّ اليسير، مع أن كلام مسلمٍ لا يدلُّ على نفي الشواهد، وإنما يدلُّ على نفي المتابعات، وبينهما فرقٌ موضعه علوم الحديث ومع أن جماعةً من الكبار قد حكموا بالغرابة والشذوذ على بعض الأحاديث، ثم انكشف لمن أمعن الطلب وجود متابعات كثيرة لتلك الأحاديث فاعرف ذلك.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) 1/ 195، وقول الإمام مسلم هذا ذكره في " صحيحه " ص 1268.(8/252)
وقد نص العلامة ابن حجر في " مختصره في علوم الحديث " (1) أن الغريب إن لم يأت من طريقٍ أخرى، فهو الفرد المطلق، ويعِزُّ وجوده، وإن جاء من وجهٍ آخر، فهو الفرد النسبيُّ. انتهى.
وهو نص على ما ذكرته من عزة الفرد (2) المطلق، ولا أستحضر الآن أنه ألزم الوهم من أحاديث الأحكام إلاَّ في أربعة أحاديث.
الأول: قوله: إن ذا اليدين هو ذو الشِّمالين الذي قُتِلَ ببدرٍ قبل تحريم الكلام في الصلاة، قال ابن عبد البر (3): وهم فيه الزهري، وكل أحدٍ يؤخذ من قوله ويُتْرَكُ (4).
الثاني: تاريخ النهي عن المتعة بخيبر (5)، تأوَّله سفيان بن عيينة، وعلى ذلك شواهد جمَّةٌ، ولذلك خالف فيه أبو داود ولم يخرِّجه، ويمكن أن يكون الوهم فيه من غيره، فإنه (6) عنعنه، وقد كان يدلِّس، وقد بسطت الكلام في هذا، في الكلام على أحاديث علي عليه السلام.
على أنه لو بطل حديثه كله -مع فرض كثرته- لم يكن علينا في ذلك مضرَّةٌ البتة، بل يحصل السهولة، ويسقط التكليف بالعمل بتلك الأحاديث والتكليف بالبحث عنها.
الثالث: حديث حد الأمة المحصنة (7)، فإنه تفرد به على ما ذكره ابن عبد
__________
(1) المسمى " شرح نخبة الفكر في مصطلح الأثر "، والنص فيه في الصفحة 258 - 259.
(2) في (د) و (ف): " التفريد ".
(3) في " التمهيد " 1/ 366.
(4) حديث ذي اليدين مخرج في " صحيح ابن حبان " (2250) - (2252) و (2675) و (2684) - (2688).
(5) انظر تخريج الحديث والتعليق عليه في " صحيح ابن حبان " (4143).
(6) في (ش): " لأنه ".
(7) هو مخرج في " صحيح ابن حبان " (4444).(8/253)
البرِّ في " التمهيد " (1)، وقد حمل بعضهم الوهم على مالك، فتوبع مالك (2) وتخلص من ذلك، واستقرَّ الوهم فيه على الزهري ودل على وهمه فيه اضطرابُه.
وقد تتبَّعتُ كثيراً مما تفرد به، فوجدته مما يقتضي الاحتياط في الدين، كحديث تحريم المتعة عن علي عليه السلام، وحديث حدِّ الأمة المحصنة، وتأويله حديث ذي اليدين، مما تقدم كتأويل الأصحاب، وغير ذلك مما تفرَّد به، والذي حملهم على روايته مع شذوذه فيه وإعلاله هو محبة الاحتياط.
وللزهري مذهبٌ رديءٌ في الرواية ينبغي الاحتراز منه، والتَّيقُّظ له، وهو إدراج رأيه في آخر الحديث، ذكره ابن عبد البر في موضعين من " التمهيد "، وروايته بفعل ذلك في الاحتياط والتشديد، وهو أقبح ما قُدِحَ فيه به، والله يحب الإنصاف.
الرابع: قوله بعد روايته لكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة- صدقة الإبل والغنم والوَرِقِ ما لفظه: وليس في الذهب صدقةٌ حتى يبلغ صرفها مئتي درهم، ففيها خمسة دراهم، ثم في كل شيءٍ يبلغ صرفه أربعين درهماً درهمٌ حتى يبلغ أربعين ديناراً، ففيها دينارٌ، إلى آخر كلامه في السواني من الإبل والبقر.
قال ابن عبد البر: ليس ذلك في شيءٍ من الأحاديث المرفوعة إلاَّ في حديثه هذا، وهو من رأيه أدرجه في آخر الحديث، وكثيراً ما كان يفعل ذلك.
التنبيه الثاني: أنه ليس بيني وبين هذا الرجل قرابةٌ ولا صحابةٌ، ولا له علي إحسانٌ، ولا أنا أدعي صحة جميع ما في كتب الحديث، فبطلت أسباب العصبية، وأعوذ بالله من العصبية، وإن وُجِدَتْ أسبابها، كيف ولم توجد؟ وإنما أردت بكلامي في هذا الموضع والتطويل بل فيه بيان عُذري في قبول الزهري، وأنه (3) غلب على ظني صدقه وعدالته في بعض الرواية، وذلك حيث يصرِّحُ
__________
(1) 9/ 95.
(2) قوله: " فتوبع مالك "، ساقط من (ش).
(3) في (ش): " وإن ".(8/254)
بالسماع، ولا تحتمل روايته التدليس، ولا الإدراج، ولا تَعَلُّ، ولا يعارضها أرجح منها، فلو لم أعمل بحديثه، لارتكبت ما يغلب على (1) ظني تحريمه، وهذا خلاف الاحتياط في الدِّين، وخلاف العمل بالعقل الرَّصين، وفي العمل بما يظنُّ تحريمه مضرَّةٌ مظنونة، ودفع المضرة المظنونة عن النفس واجبٌ.
التنبيه الثالث: أني لا أريد بكلامي إلزام غيري أن يقبل الزُّهري، بل يثبت مذهبي وحُجتي، ولا لوم على من لا يقبله، والسِّر في هذا التنبيه أن الاختلاف في جرح بعض الرواة وتعديلهم من جملة الاختلاف في المسائل الظنية التي لا يأثَمُ فيها أحدٌ من المخالفين، وقد اختلف المتأخِّرون من أهل البيت عليهم السلام في رواية كافر التأويل وفاسقه، واختلفوا في تكفير الجبرية في أمثال ذلك، ولم يقطع ذلك الولاية، ولا يقدح في العدالة، وقد قال السيد أبو طالب: إنه لا يُعَوَّل على تخاريج ابن بلالٍ وخالفه في ذلك غير واحدٍ من الأصحاب، والأمر في هذه الأمور قريبٌ، ومبناها الظنِّ والتحري.
التنبيه الرابع: إن كان السيد يعتقد أن ذم الزهري وتحريم العمل بحديثه من جملة عقائد أهل البيت عليهم السلام التي أجمعوا (2) عليها، ولم يُرَخِّصُوا فيها، فأين نصوصهم في ذلك؟ وما باله اختصَّ بمعرفة إجماعهم على ذلك؟ وإن لم يكن كذلك فما باله يدخل هذا في ضمن (3) الذبِّ عن مذاهبهم لزعمه لذلك؟ فليبيِّنِ السيد لنا من سبقه من أهل البيت إلى القطع بأن الزهري أعان على قتل زيد بن علي عليه السلام يقيناً، لا شك فيه.
التنبيه الخامس: أن كلام السيد يُوهمُ أن أهل البيت لا يحتجُّون بحديث الزهري، وليس كذلك، ومن شك في الصادق منَّا فليطالع " علوم آل محمد " تأليف محمد بن منصور، وهو المعروف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد، فإنه
__________
(1) في (ف): " في ".
(2) في (ش): " اجتمعوا ".
(3) " ضمن " ساقطة من (ف).(8/255)
فيه أكثر من الاحتجاج بحديث الزهري في أحاديث الأحكام، وكذلك السيد أبو طالب في أماليه مع نسبتهم للتشدد في ذلك إليه، فإنه روى عنه غير حديثٍ، ولم يرو عنه إلاَّ حديث علي عليه السلام في تحريم المتعة في يوم خيبر، فإنه رواه من طريقه كسائر الحُفَّاظ، وهو أصح حديثٍ في هذا الباب، إلاَّ عند أبي داود لما لا (1) يتسع له هذا الموضع.
الوهم الخامس والثلاثون: وهِمَ السيد أيده الله تعالى أن قصة يحيى بن عبد الله عليه السلام مع أبي البختري وشهادة الجمِّ الغفير عليه بالزور يقتضي القدح في الصحابة، وهذا غلوٌّ وإسرافٌ في التهويل والإرجاف، فإنه لا ملازمة بين رواة الحديث وبين جماعة شهدوا (2) زوراً في واقعةٍ معينةٍ، وهذا لا يستحق الجواب، ولكن ننتقل بذكر وجهين:
الأول: أنه يجب على السيد أن يبيِّنَ من حضر تلك الشهادة الباطلة من رُواة الصِّحاح، ونطق بشهادة الزور برواية عدولٍ معدلين وإسنادٍ صحيح كما ألزمنا، ولعلَّ هذا لا يتيسرُ للسيد من رواية كذابين، كيف إلاَّ من رواية عدولٍ.
الوجه الثاني: أن المنصور بالله عليه السلام قد روى عن المطرَّفيَّة أنهم يستحلُّون الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصرة مذهبهم وما يعتقدونه حقاً، وحكى عليه السلام أنهم صرَّحوا له بذلك في المناظرة، وكذلك قد ثبت بالتواتر أن الحسينية كانت تشهد أن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا مع كونه زُوراً، فإنه كفرٌ، وهاتان فرقتان من فرق الزيدية أقاموا دهراً طويلاً يُصنِّفُون ويدرُسُون، فكما لم يلزم الزيدية مذهبهم، لمجاورة البلاد، والاشتراك في اسم الزيدية، فكذلك لا يلزم الثِّقات المحدثين استحلال شهادة الزور (3)، لأن ألفاً وثلاث مئةٍ من الفُسَّاق المصرِّحين استحلُّوا ذلك، ولو أن عدلاً واحداً كان في مصرٍ عظيمٍ يشتمل على مئة ألفٍ من الفُسَّاق ما سرى الفسوق منهم إليه، ولا
__________
(1) في (ف): " لم ".
(2) في (ش): " شهود ".
(3) عبارة " استحلال شهادة الزور " ساقطة من (ش).(8/256)
علِقَتِ العدالة بهم منه، ولولا معرفة المحدثين بكثرة الخَبَثِ، ما اشتغلوا بتمييز الخبيث من الطَّيِّب، ولا اقتصر البخاري على قدر أربعة آلاف حديثٍ من ستَ مئة ألف حديث، كما ثبت ذلك عنه، وقد روي: " الناس كإبل مئة - لا تجد فيها راحلةً " (1).
وعلمت النصوص في ذم الكثرة ومدح القلة، فلم يلزم من فساد الأكثرين فساد الأقلِّين من الصِّالحين، والمعترض ظن أنه اقتدى بالإمام المنصور في إيراد هذه الحكاية، وليس كذلك، فإنه قد صرَّح بصحة كتب الحديث المشهورة (2)، وصرَّح بقبول المتأولين من الصدر الأول من الصحابة ومن بعدهم، فنقل وعقلٌ، أمَّا النقل، فعن جماعةٍ مجهولين أنهم شهدوا زوراً في واقعةٍ معينةٍ، وأما العقل، فلم يُسَوِّ بسبب ذلك بين الخالص والزَّيف، ويخلط الخبيث بالطيب.
الوجه الثالث: أن المعترض (3) إما أن يشترط في عدالة رواة الحديث أن لا يكون في أهل مذهبهم وسكان بلادهم (4) من يشهد الزور أو لا. إن اشترط ذلك خالف ضرورة العقل وضروري الإجماع من النقل، وإن لم يشترطه (5)، فما هذا الترجيف بذكر شهود الزور إيهاماً أنهم رواة الحديث المأثور.
ولو أن المعترض أورد قصة القاضي أبي يوسف أو محمد بن الحسن حين أراد منه (6) هارون الرشيد أن يُفتيه بانتقاضِ أمان يحيى بن عبد الله عليه السلام فامتنع، وقال: هذا أمانٌ مؤكَّدٌ، فشجَّه هارون بالدواة، وقيل: إنه مات مِنْ تلك الشَّجَّة، لكان هذا ألْيَقَ بمقتضى الحال، لأن القاضي أبا يوسف ومحمد بن الحسن أحد أئمة الحديث ورجال القوم، لكن هذا مما يدلُّ على أمانة علماء
__________
(1) حديث صحيح، قد تقدم تخريجه 1/ 245.
(2) في (د) و (ف): " هذه المشهورة ".
(3) " أن المعترض " ساقطة من (ف).
(4) " وسكان بلادهم " ساقطة من (ف).
(5) في (ف): " يشترط ".
(6) " منه " ساقطة من (ش).(8/257)
الحديث، فتركه وعَدَلَ إلى حكايةٍ عن (1) شهود زورٍ مجهولين للقدح بها (2) في ثقات المسلمين المعروفين فالله المستعان.
على أن في القصة ما يقتضي أن أولئك الذين شهدوا هذه الشهادة الزور الباطلة كانوا مكرهين على ذلك، خائفين على أوراحهم وأموالهم إن لم يفعلوا.
وفي بعض الروايات أن يحيى بن عبد الله عليه السلام ذكر ذلك في عرض الاحتجاج على أنه لا يجوز العمل بهذه الشهادة، كما ذلك مبسوطٌ في مواضعه من كتب الأخبار، وكثرتهم تقوي هذا، لأن العادات (3) تُحيل اجتماع الخلق الكثير، والجمِّ الغفير (4) على الباطل المعلوم، مع بقاء الاختيار، ولولا ذلك، بطل حصول العلم بالتواتر، ومن هنا لم تشترط العدالة في المخبرين بالمتواترات (5)، لأن سبب العلم بخبرهم استحالة تواطئهم، لكثرتهم لا عدالتهم، فاعرف ذلك، والله سبحانه أعلم.
الوهم السادس والثلاثون: وهم أن أبا البختري وهب بن وهب الكذاب من ثقاة رُواة الحديث، وليس كذلك، فإنه عند القوم مفترٍ كذَّابٌ، مِمَّن نصَّ على ذلك الحافظ ابن كثيرٍ البصروي في " إرشاد الفقيه إلى أدلة التنبيه "، وقال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (6) ما لفظه (7): وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّى بن قصي، القاضي أبو البختري القرشي المدني. روى عن هشام بن عروة، وجعفرٍ الصادق، وعنه: المسيِّب بن واضحٍ، والربيع بن ثعلبٍ، وجماعة.
سكن بغداد، وولي قضاء العسكر للمهدي، ثم قضاء المدينة، وكان متَّهماً في الحديث.
__________
(1) " عن " ساقطة من (ف).
(2) في (ش): " به ".
(3) في (ش): " العادة ".
(4) " الغفير " ساقطة من (ف).
(5) في (ف): " بالتواتر ".
(6) 4/ 353.
(7) " ما لفظه " ساقطة من (ش).(8/258)
قال ابن معين: كان يكذب عدو الله.
وقال عثمان بن أبي شيبة: إنه يُبعث يوم القيامة دجَّالاً.
وقال أحمد بن حنبل: كان يضع الحديث فيما نرى.
وقال البخاري: سكتوا عنه. وهي عبارةٌ للبخاري في الجرح.
توفي سنة مئتين.
فأما أبو البختري الذي روى عنه الجماعة، فذلك يخالف هذا الكذَّاب نسباً واسماً ووصفاً وزماناً، وهو سعيد بن فيروز الطَّائي مولاهم (1).
روى عن علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، وعبد الله بن مسعود مرسلاً، وعن أبي برزة، وعَبيدَة.
روى عنه عمرو بن مرَّة، ومسلمٌ البَطين.
وقال فيه حبيب بن أبي ثابتٍ: كان أعلمنا، وأفقهنا.
وهو تابعيٌّ قديمٌ، بينه وبين ذلك الكذاب مئة سنةٍ وسبع وعشرون سنة، فإنه توفي سنة ثلاث وسبعين.
وكذلك البَختري بن أبي البَختري، عن أبي بردة، وجماعة. وعنه: شعبة، ووكيع. صدوق، حديثه في " صحيح مسلم " و" سنن النسائي ".
وقد نص المعترض على أن حديث وهب بن وهبٍ في " الترمذي "، وليس كذلك، فليس له في شيءٍ من كتب الحديث هذه السِّتَّة رواية البتة، فليعلم ذلك ويترك ما لا يعرفه، فإن لكل علم رجالاً، ولكل مقامٍ مقالاً، ومن نام عن علمٍ ثم تعرض لما لا يدري به من الاعتراض على أهله، كان كالأعمى يعترِضُ على ذوي الأبصار، وهو لا يعرف الظلمات من النُّور، ولا الليل من النهار.
__________
(1) انظر ترجمته في " تهذيب الكمال " 11/ 32 - 35.(8/259)
وابن اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لَمْ يَسْتَطِعْ صولَةَ البُزلِ القناعيسِ (1)
الوهم السابع والثلاثون: استدل المعترض على بُطلان حديث المجبِّرة والمُرجئة بالقياس على الخَطابية، وجعل العلة الجامعة بينهم في ذلك هو الكذب، فتوهم أن العلماء إنما قدحوا في الخطابية لمجرد الكذب، وهذه غفلة عظيمة، فإن العلماء إنما اتفقوا على القدح فيهم مع اختلافهم في غيرهم بعلة استحلالهم لتعمُّدِ الكذب، بل اعتقادهم لوجُوبه حيث يكون نُصرة لما يظنُّونه حقاً، فكيف يُقاس من يعتقد تحريم الكذب الذي (2) اعتقدوا حُسْنَه ووجوبه، ويغلب على الظن أنه يفعله.
ولو كان مجرد الكذب مع التأويل يستلزمُ مساواة الخطابية، لزم المعترض أن يكون المعتزلة عنده بمنزلة الخطابية، لأنهم عنده كذلك في باب الإمامة، لمقالتهم بخلافة الصحابة، وهم عنده في ذلك من الكاذبين الآثمين، وليسوا بتأويلهم فيه مِنَ المعذورين.
ثمَّ إنه (3) شفع ذلك بما لا يغني شيئاً في هذا المقام من ذكره أحاديثَ ساقطةٍ لا أصل لها في لعن المُرجئةِ والقدرية، ولو صحت الرواية عنهم، فإنه إذا لم يقدحِ الفسق في ذلك أو الكفر الثابت بالأدلة القاطعة، فكيف ما هو فرعٌ من جواز السَّبِّ لهم، ووردت الأحاديث بذمِّهم، فقد وردت الأحاديث الصِّحاح، وتواترت بذمِّ الخوارج الذين كفّروا علي بن أبي طالبٍ عليه السلام، ومع ذلك قالت أئمة الزيدية بقبولهم في الحديث، ممن نصَّ على ذلك: الإمام المنصور في كتابه " صفوة الاختيار " والمؤيد بالله، والإمام يحيى بن حمزة، وصاحب
__________
(1) البيت لجرير من قصيدة يهجو بها عدي بن الرقاع. انظر ديوانه ص 323، والأغاني 6/ 307 - 309، و" شرح شواهد المغني " 1/ 316 - 317.
(2) في (ش): " على الذي ".
(3) " إنه " ساقطة من (ف).(8/260)
" شفاء الأوام "، والقاضي زيدٌ، وعبد الله بن زيد. ورووا (1) إجماع الأُمَّة والعترة على ذلك من عشر طرقٍ وغيرهم، وقد تقدم ذكر طرق ذلك مستوفاةً في مسألة المتأولين.
قال الوجه الرابع: مما يدلُّ على أن في أخبار كتبهم التي يسمونها الصحاح ما هو مردودٌ أن في أخبار هذه الكتب مما يثبت التَّجسيم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء، ومثل ذلك يضرب به وجه راويه (2)، وأقل أحواله أن يكذب فيه إلى آخر كلامه في هذ الوجه.
أقول: هذا مقامٌ وَعِرٌ قد تعرَّض السيد له، وأبدى صفحته، وأراد أن يكذب الرواة في كل ما لم يفهم تأويله، وهذا بحرٌ عميقٌ، لا يصلُحُ ركوبه إلاَّ في سفين البراهين القاطعة، وليلٌ بهيمٌ لا يَحْسُنُ مسراه إلاَّ بعد طلوع أهلة الأدلة الساطعة، وسوف أُجيب عليه في ما ذكره، وأذكر من حُججه ما سطَّره، وقبل الخوض في هذه الغَمْرة أُقدِّمُ مقدِّماتٍ:
المقدمة الأولى: الاعتراف بأن كل ما خالف الأدلة القاطعة المعلومة من العقل أو السمع، وكان من أحاديث الآحاد المظنونة (3)، فإنه غير معمولٍ به.
فإن ثبت (4) دليلٌ على أنه لا يمكن تأويله، وجب ردُّه على راويه، على ما يأتي بيانه في مراتب الرَّدِّ، وإن لم يقم دليلٌ على امتناع ناويله، ترك غير معمولٍ به ولا مقطوعٍ بكذبه.
وإنما ذكرتُ هذه المقدِّمة، وصدَّرتُها قبل الكلام على هذه الجملة، لئلاَّ يتوهم أحدٌ أنِّي أقول بغيرها، فقد كثُر الغلط عليَّ في مواضع، ثم إن السيد أيده الله قد روى في " تفسيره " الأوسط بعض هذه الأحاديث التي أنكرها، ونص على صحتها، وعلى تأويلها، وهي من أشدِّ ما ورد في المتشابه، وذلك أنه قال في
__________
(1) في (ف): " وروى ".
(2) في (ف): " رواته ".
(3) في (ش): " من الأحاديث المظنونة ".
(4) في (ش): " دل ".(8/261)
تفسير سورة الزمر في تفسير قوله تعالى منها: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ما لفظه: وجاء في الحديث الصحيح ما يُوافق الآية، من ذلك ما خرَّجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة:
" يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ " (1).
وأخرجاه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخُذُهُنَّ بيده اليمنى " (2) وهذا مثل الآية على التمثيل والتخييل. انتهى بحروفه.
فإذا جاز عنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المبيِّن للقرآن، يأتي بمثل هذا المتشابه عند نزول المتشابه، فيزيده إشتباهاً، ويُسمعُه عامة أُمَّته، ولا يشمُّهم رائحة التأويل، فأيُّ شيءٍ أنكر روايته بعد تصحيح مثل هذا على المحدثين؟! فالله المستعان.
المقدمة الثانية: أن التأويل المتعسَّف مردودٌ متى عُلِمَ باليقين أنه تأويل متعسَّفٌ، ولم يكن مما يُحتمل، وفي هذه المقدمة نكتةٌ لطيفةٌ، وذلك أنه قد يأتي بعض البُلداء، فيطلُبُ التأويل، فيقع ذهنه على تأويلٍ ضعيفٍ متعسف، فيحسب أنه لا تأويل للحديث إلاَّ ذلك، ويستدل على بطلان الحديث بأن ذلك التأويل متعسَّفٌ، وما كان تأويله متعسفاً، فهو مردودٌ، ولم يشعر المسكين أن حكمه بأن ذلك التأويل متعسَّفٌ صحيحٌ، ولكن لا يلزم منه أنه لا تأويل للحديث سواه، فإنه يمكن أن للحديث تأويلاً صحيحاً، وأنه (3) لم يعرفه، فإن منتهى الأمر أنه طلب، فلم يجد، لكن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
وكذلك إذا وجد بعض شرَّاح الحديث من الأشاعرة وغيرهم، قد يؤوِّل
__________
(1) تقدم تخريجه 3/ 113.
(2) تقدم تخريجه 3/ 114.
(3) في (ش): " وإن ".(8/262)
الحديث بتأويلٍ فيه تعسُّفٌ، لم يقطع بردِّ الحديث لأنه يجوز أن القول بأن ذلك تأويله قولٌ باطلٌ، وأن ذلك المتأوِّلَ إنما صار إليه لقصوره في العلم، وإنما يحكم بردِّ الحديث متى علمنا أنه لا تأويل له صحيحٌ، وأنه لا يدخل في مقدور أحدٍ من الراسخين أن يهتدي (1) إلى معنى لطيف في تأويله، ولكن العلم بهذا صعب عزيز، والدليل على صعوبته أن الناظر في الحديث لا يخلو إما أن يكون من الراسخين في العلم الذين قيل (2): إنهم يعلمون التأويل أم لا. إن لم يكن منهم، فليس له أن يحكم بقصورهم وعجزهم عن تأويله، لأنه لم يرتق إلى معرفة التأويل الصحيح، ومن لم يعرف الشيء وكيف يحكم بنفيه أو ثبوته، وما أمَّنه أنه موجودٌ، لكن لعدم معرفته له جَهِلَهُ، وأما إن كان الناظر في الحديث من الراسخين، فإنه أيضاً يجوز عليه أن يجهل التأويل.
أما على قول أهل السنة -وهو الصحيح- فإن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه، كما هو مقرَّرٌ في كتابي " ترجيح أساليب القرآن " (3)، فإن هذه المسألة مجوّدةٌ فيه، والحمد لله.
وأما على القول الآخر، فإنه يجوز أن الواحد منهم يجهل شيئاً ويعلمه غيره، فإن الله تعالى إنما أثبت العلم بالتأويل لجميع الرسخين، فأمَّا بعضهم، فقد يجوز ألا يعلم التأويل متى عَلِمَه غيره منهم، لأنه إذا علمه واحدٌ منهم، لم يصدق أن الراسخين لا يعلمون، فلا يجوز أنهم الجميع يجهلون التأويل، لأنه حينئذ يكون مخالفاً لما أخبر الله به من علم الراسخين على أحد القولين، فإن الآية على هذا القول تُثبت العلم بالتأويل لجميع الراسخين وجوباً، ولأحدهم جوازاً، لأن كل حكم يَثْبُتُ للجميع لا يجبُ للآحاد إلاَّ بدليلٍ، ولهذا لما أمر الله باتباع سبيل المؤمنين لم يجب اتباع سبيل المؤمن الواحد، أقصى ما فيه أنه يدلُّ على مشاركة الواحد للجميع، لكن دلالة ظنية، وهي غير نافعةٍ في هذا
__________
(1) " أن يهتدي " ساقطة من (ش).
(2) في (ف): " يقولون ".
(3) انظر ص 121 وما بعدها.(8/263)
المقام، لأنا في الكلام على ما يُفيد القطع والثبات بتكذيب الراوي.
وأما الراسخون، فمتى ثبت عندهم أن أحداً منهم ما اهتدى إلى التأويل، لأنه لو كان ثم تأويلٌ، لم يجُزْ على جميعهم جهله، وإن لم يثبت أنهم جهلوا تأويله، وإنما جهله بعضهم. لم يُردَّ الحديث لجواز أن يكون فيهم من يعلم تأويله وفوق كل ذي علم عليم.
فإن قلت: وبأي شيءٍ يعلم أنهم جهلوا تأويله كلهم (1) ولم يبق منهم أحدٌ؟
قلت: بأسهل مما يُعلَمُ به إجماع الأمة والعترة على بعض الأقوال، وأنه ما بقي منهم أحدٌ، لأن الراسخين في العلم أقل من العلماء، فإذا جاز أن يُعلَّقَ (2) الحكم العملي المحتاج إلى تنجيزه بمعرفة ما قال جميع العلماء مع كثرتهم، جاز أن يُعلّقَ الحكم الاعتقادي التفصيلي بمعرفة قول أهل الرسوخ في العلم منهم مع قلتهم، ومع الاستغناء بالاعتقاد الجملي.
مثال العلم بإجماع الراسخين في التأويل: أنهم أجمعوا على بطلان تأويلاتهم الباطنية للجنة والنار والحساب والبعث، وشاع ذلك في كل عصرٍ، وعُلِمَ منهم إنكاره بالضرورة، فهذا وأمثاله مذاهب الخوارج وسائر طوائف الضلال الذين لا يُعتَدُّ بهم في الإجماع.
قد علمنا إجماع الراسخين فيه على بطلان تأويلاتهم للحجح الحق، فيستدل به على بُطلان كثيرٍ من التأويلات، وإن كنا قاصرين عن مثل معرفة الراسخين بوجه بطلان بعض التأويلات على سبيل القطع، وكذلك كل حديثٍ ظهر من الأئمة عليهم السلام النص على أنه لا تأويل له البتة، وشاع ذلك بين الأئمة وذاع، ولم يُنكر، وتكرر حتى علمنا إجماعهم على بُطلان تأويله، فإنه يجب ردُّه.
فإن قلت: ومن الراسخون في العلم؟
__________
(1) " كلهم " ساقطه من (ف).
(2) في (ش): " تعلق ".(8/264)
قلت: هذا بحثٌ ظاهرٌ لغوي، والراسخ في العلم: الثابت فيه، الماهر في معانيه، العارف للأدلة القطعية على ما يعتقد، فهو أرسخ قدماً من شوامخ الجبال، ولهذا ورد في صفة العالم: أنها تزول الرواسي ولا يزول، وليس كل مجتهدٍ، فهو غوَّاص الفِطْنَةِ، سيَّال الذِّهن، وقاد القريحة، لمَّاحاً لخفيَّات المعاني، درّاكاً لمغاصات الدقائق.
وفي كلام العلامة رحمه الله: ليس العارف كالبارع في المعرفة، ولا ليلة المزدلفة كيوم عرفة. انتهى.
ألا ترى أن أبا بكر وعمر وعثمان وكثيراً من الصحابة كانوا مجتهدين، ولما يكونوا في الرسوخ في العلم كأمير المؤمنين، وقد قدمت في أول هذا الكتاب نكتةً حسنةً في تفاضل الناس إلى غير حدٍّ، فخذه من هنالك.
ويحتمل أن كل مجتهدٍ راسخٌ إذا كان ثابت العقائد والقواعد، لا شك فيما قطع به، وقدر احتمال نقيضه، لأن الراسخ: الثابت في اللغة.
المقدمة الثالثة: إذا اختلف رجلان من أهل العدل والتوحيد في حديثٍ يُخالف عقيدتهما، فقال أحدهما: تأويله مما لا دليل على عجز الراسخين في العلم عن تأويله، ولا دليل في العقل، ولا في السمع على أن علياً عليه السلام وسائر الأئمة، والفطناء، وأهل الدِّريَة بالغَوْصِ على الدقائق لو اجتمعوا واجتهدوا في البحث عن وجوه التأويل، لعَجَزُوا عن تأويله، ولم تهتد إليه فكرهم الغَوَّاصة على الدقائق، الماحية لخفيات المدارك البتة، بل يعلم أنه لا يستحيل تأويله في علم الله على الصحيح.
وقال الآخر: أنا أعتقد أنهم لو اجتمعوا كلهم أولهم وآخرهم، ما قدَرُوا على تأويله البتة.
فإنه لا يستحق أحدٌ منهما تكفيراً ولا تفسيقاً ولا تأثيماً، لأن عقيدتهما واحدةٌ، وإنما اختلفا في بعض ما خالف عقيدتهما: هل يمكن أحدٌ من(8/265)
الراسخين تأويله أم لا؟ مع اتفاقهما على أن ظاهرهما متروكٌ، وعلى أنه إذا لم يكن عند أحدٍ من الراسخين له تأويلٌ، فإنه مردودٌ.
وهذه الصورة هي صورة ما بيني وبين السيد من الخلاف في بعض الأحاديث، فينبغي منه ومن غيره التنبيه على أنه ليس بيننا وبينه من الخلاف ما يَجِلُّ خطرُه، ويعظم أثره، إذا وافق على هذا الحد، فإن كثيراً من البُلداء إذا سمع بالمراسلات والمنازعات توهَّم أن ذلك لا يمكن إلاَّ مع تفسيقٍ أو تكفيرٍ، وذلك غير صحيح، ولو شاء أهل العلم وسَّعُوا القول في أدنى المسالك، وقد صنَّف كثيرٌ من العلماء مصنَّفاتٍ كباراً في مسائل فروعيةٍ ولطائف أدبيةٍ.
المقدمة الرابعة: أن السيد أيده الله تعالى جنى عليَّ جنايةً عظيمةً، فنسبني إلى القول بنفي التأويل، وأنا ما قلتُ بذلك في الكتاب الذي اعترضه السيد، والذي قلت به فيه: إن التأويل لا يحِلُّ لي، لأنِّي من الجاهلين به، ولست من الراسخين فيه، مع الإقرار فيه بالتأويل للراسخين، فإن كان السيد يوجب العلم بالتأويل على جميع المكلَّفين من الإماء والنِّساء والحرَّاثين، وأهل الحِرَفِ من الصُّنَّاع، وسائر طبقات المسلمين، فهذا مذهبٌ له وحده لم (1) أعلم أحداً يُوافِقُهُ عليه، ولا يلزمني أن أوافقه فيه.
وما زالت العلماء من المسلمين يجهلون التأويلات الدقيقة، ولا يدرُون بشيءٍ من تلك المغاصات العميقة، ولم ينكر ذلك عليهم أحدٌ من الأئمة عليهم السلام ولا أئمة الإسلام، وإيجاب ذلك عليهم يقتضي إيجاب المعرفة التامة بعلوم الأدب على كل مكلَّفٍ، وهذا خلاف الإجماع، وقد ذكر الزمخشري: أن التفسير يحتاج إلى التبريز في علمي المعاني والبيان (2)، ولا شك أن ذلك غير واجبٍ على العامة، بل كثيرٌ من أهل الإسلام عجمٌ، لا يجب عليهم تعلُّم الجليِّ من كلام العرب.
__________
(1) في (ف): " لا ".
(2) انظر " الكشاف " 1/ 20.(8/266)
وإن كان السيد يعرف أن العلم بالتأويل من خصائص الراسخين في العلم، كما قال الله على أحد القولين، فأنا ما أنكرتُ هذا في ذلك، فكيف ينسِبُني السيد إلى نفي التأويل على الإطلاق، ولم يزل سامحه الله يبني الردود في رسالته على مجرَّد التَّوهمات الواهية، ولولا محبة الرِّفق، لتكلَّمت في هذا الموضع بما يليق بمقتض الحال، فقد قال الله تعالى: {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم} [النساء: 148]، ولكني أرجو أن آخذ نصيباً من العمل بقوله: {وأن تَعفُوا أقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237].
ولو لم أنصَّ على خلاف ما حكى عني في كتابي الأول الذي رسالته جوابٌ له، لعذرته بعض المعذرة، ولكني صرَّحتُ في كتابي الأول بخلاف ما رماني به تصريحاً لا يخفى مثله، ولا يمكن تأويله، وأقل أحوال المجيب أن يدري (1) بما في المبتدأ (2) ولا يتسرَّع إلى القول بما لا يعلم.
وأنا أُوردُ كلامي في المبتدأ بلفظه حتَّى يعرف السيد أنه قد أكثر من الجنايات علي في جوابه بمجرد تخيُّلاته وأوهامه.
قلت: في كلامي المبتدأ ما هذا لفظه: وإن كانوا أنكروا القراءة في كتب الحديث، لِمَا فيها من المتشابه، فالقرآن مشحونٌ بالمتشابه، فهلاَّ نَهَوْا عن محبة قراءة القرآن، وزجروا المتقدمين في حفظ الفُرقان، وإن كانت نفرتهم منه لعدم تمكنهم من معرفة معانيه، وقلة معرفتهم لشرائطه ومبانيه، وتعثُّرهم في ميادين تأويله، وتحيُّرِهم في مسالك تعليله، فلا ذنب للحديث ولا لحَمَلَته في غباوتهم، ولا عَيْبَ عليه ولا على طلبته في بلادتهم (3)، وتأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى في أحد القولين، والراسخون في العلم على القول الآخر، فمن لم يكن من الراسخين في العلم، لم يتضجَّر من عدم معرفته للدقائق، ويقيِّد
__________
(1) في (ف): " يعلم ".
(2) عبارة " بما في المبتدأ " ساقطة من (ف).
(3) في (ف): " بلادهم "، وهو خطأ.(8/267)
فهمه عن السَّير في المزالق.
وابن اللَّبُون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صولَةَ البُزْلِ القناعيس
ومن ها هنا نسبني كثيرٌ من الجهلة إلى القول بالظاهر، لأني لما استصغرت قدري وأمسكت عن الكلام حيث لا أدري، علماً منِّي أني لستُ من الراسخين، وأني بعد لم أرتفع عن مرتبة المتعلِّمين، مع اعتقادي أن الظاهر الذي يخالف مذهب العترة عليهم السلام غير مرادٍ ولا مقصودٍ، ولكني أقف على تأويله، وأكيع (1) عن تعليله، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يصح إجماع العترة عليهم السلام على تأويلٍ معينٍ في ذلك، فلا أشك حينئذٍ في التَّمسُّك بإجماع العترة الهُداة، والرجوع إلى سُفُنِ النجاة، وإن لم يصح عنهم في ذلك إجماعٌ، لم يكن إلاَّ الوقوف في التأويل والإقرار بالتنزيل، لأن التَّقليد إنما شُرِعَ لنا في المسائل العملية الفروعية، لا في المسائل العلمية.
انتهى كلامي في المبتدأ، فكيف ينسُب السيد إلى القول بنفي التأويل، ويحتجُّ علي: بأن الله تعالى لا يخاطِبُ بما لا يعلمون؟ فإذا تقرِّر هذا، فاعلم -أيدك الله- أنك الذي أنكرت وجود العلماء المجتهدين، فضلاً عن وجود الراسخين!
وقلت: إنه (2) لا طريق إلى معرفة تفسير القرآن، هكذا على الإطلاق، فنفيتَ الطريق إلى معرفة تفسير المحكم والمتشابه، وقلت: لا طريق إلى معرفة اللغة العربية عن رواتها، وعلى طريق صحتها، فقبولها منهم تقليدٌ لهم، والتفسير بالتقليد لا يجوز، وقد تقدم كلامك بلفظه، وتقدم الجواب عليه، فبالله أيها الناظر: مَنِ الذي سدَّ على الناس معرفة كلام الله، وصنف في قطع التفسير
__________
(1) في " القاموس ": كِعْتُ عنه، أكيع وأكاع كيعاً وكيعوعة: إذا هبته وجبنت عنه، فهو كائعٌ، وهم كاعة.
(2) " إنه " ساقطة من (ف).(8/268)
لكتاب الله، ومن الذي ردَّ عليه ما قال، وبيَّن أن قوله (1) يؤدي إلى الضلال، والذي يرى كلام السيد مع جلالته يعتقد أنه لم يُجازف فيما لطخني به، وأنه أرفع منزلةً من أن ينسُب إلى أحدٍ ما لم يعلمه، فيظن بي ما ليس عندي، فليكن هذا حدّ السيد في نسبة الأباطيل إليَّ، وطرح الأكاذيب عليَّ.
المقدمة الخامسة: أن المجاز الذي في القرآن غير المتشابه، وذلك أن الله أخبر أنه لا يعلم المتشابه إلاَّ الله والراسخون في العلم على قول الجمهور من المتكلمين، والمجاز معروفٌ جليٌّ سابقٌ إلى الأفهام مع القرينة، فإن العربيَّ الجِلْفَ، المكبَّ -لغباوته- على عبادة الأصنام إذا سَمِعَ قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24] لا يعتقد أن للذُّل (2) جُناحاً حقيقياً أبداً، وكذا إذا سَمِعَ قوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَه} [الكهف: 77]، فإنه لا يعتقد أن الجدار يعزِمُ على الانقضاض، ويريد ذلك.
فإذا ثبت أن الكل من عامة أهل اللِّسان العربي يعرفون معنى ذلك، لم يَجُزْ أن يكون ذلك هو (3) المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الراسخون، وكثير من المجاز المتعلق بصفات الله تعالى من هذا القبيل الذي لا يستحق أن يسمى متشابهاً.
فإن قلت: فما الميزان المعتَبَرُ في الفرق بينهما؟
قلت: كل مجازٍ قرينة التجوز فيه ضروريةٌ أو جليةٌ غير خفيةٍ، فليس من المتشابه، وكل (4) مجازٍ قرينته تنبني على قواعد نظريةٍ دقيقةٍ لا يعرفها إلاَّ الخاصة من العلماء، فهو متشابهٌ، فتأمل ذلك، فإنه نفيس الفوائد وغزير المعارف.
المقدمة السادسة: سوف يأتي إن شاء الله أن القرائن الدالة على المجاز ثلاثٌ: عقليةٌ وعرفيةٌ ولفظيةٌ.
__________
(1) في (ف): " أنه ".
(2) " أن للذل " ساقطة من (ش).
(3) في (ف): " من ".
(4) في (ف): " فكل ".(8/269)
ومثال العقلية: {واسألِ القرية التي كُنَّا فيها والعير} فإن العقل يعلم أن سؤال القرية والعير لا يصح، فيفهَمُ المخاطب أن المراد: سؤال أهلها.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن القرينة العقلية إنما يصح الاستدلال بها على التجوز في الكلام متى كان العقل يقطع على أن المتكلِّم ممن لا يصح الظاهر في حقه، فلهذه النُّكتة يختلف الاستدلال بها، فيصح في مواضع فيما بين الناس، ولا يصح مثله في كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه السلام.
مثال ذلك: أنا نفهم التجوُّز في قول الشاعر:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى ... يا جملي لَيْسَ إليَّ المُشتَكى
وذلك لأن العادة جرت بأن العجماوات لا تُكَلِّمُ إلاَّ الأنبياء (1) عليهم السلام، فتعلم أنَّها لا تكلم سواهم على قولٍ، ونظنُّ ذلك على القول الآخر.
فأمَّا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا الجمل شكا أنَّك تُجيعُه وتُدْئِبُه " (2)، فلا نفهم التَّجوز، لأنا لا نعلم امتناع الظاهر في حقه، ولا نظن ذلك.
ومن ها هنا اختلف كثيرٌ من المحدثين والمتكلمين في تأويل كثير من الأحاديث والآيات، مثل قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُم} [الإسراء: 44]، فالمتكلمون حملوه على التجوز، لاعتقادهم أن الظاهر لا يصحُّ، وأهل الحديث لم يتأوَّلوه، لاعتقادهم أنه لا مانع من صحة الظاهر بالنظر إلى علم الكلام وقدرته، لأنه خبر من يعلم ما لا نعلم، ويقدِرُ على: إنطاق كل شيءٍ بالإجماع، فقد ورد في القرآن: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطيرِ} [النمل: 16]، وكلام سليمان عليه السلام مع الهدهد والنملة، ومن ذلك تسبيح الجبال مع داود عليه السلام، وهذا من خواصِّه ومعجزاته، وأما
__________
(1) في (ش): " للأنبياء ".
(2) أخرجه من حديث عبد الله بن جعفر أحمد 1/ 204 و205، وأبو داود (2549)، وصححه الحاكم 2/ 99 - 100، ووافقه الذهبي.(8/270)
التسبيح المجازي، فالجبال يسبِّحنَ مع غيره عليه السلام.
وأما السنة، فقد صح عنه عليه السلام أنها كلمته الذِّراعُ المسمومة (1)، وحنَّ إليه الجِذْعُ (2)، وسبَّح الحصا في يده (3)، وكان يُسْمَعُ تسبيح الطعام في حضرته (4)، وهذا كثيرٌ في السنة.
وقد ذكر هذا الإمام المهدي محمد بن المطهر عليه السلام في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُون} [البقرة: 159]، فإنه عليه السلام ذكر في تفسيرها كلاماً كثيراً يتعلق بلعن ما ليس بناطقٍ، وذكر الكلام عن الحيوانات من العجماوات، فذكر كلام (5) الثعلب وشعره (6)، وكلام البعير (7)، وكلام العَضْباء (8)، وكلام الضَّبِّ (9)، وحديث الذئب (10)، وحديث الحمار الذي
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (3169)، والدارمي 1/ 32 - 33.
(2) انظر " صحيح ابن حبان " (6506) و (6507) و (6508).
(3) أخرجه من حديث أبي ذر الطبراني في " الأوسط "، والبزار (2413)، وأبو نعيم (338) و (339)، والبيهقي 6/ 64 - 65، كلاهما في " دلائل النبوة "، وابن عساكر في ترجمة عثمان من " تاريخ دمشق " ص 107 - 110، وهو حديث حسن بطرقه. وانظر " الشمائل " لابن كثير ص 252 - 254، و" مجمع الزوائد " 6/ 179 و8/ 299، و" الفتح " 5/ 592.
(4) انظر " صحيح ابن حبان " (6459).
(5) " كلام " ساقطة من (ش).
(6) ستأتي القصة بتمامها في الصفحة التالية.
(7) انظر الصفحة السابقة ت (2).
(8) ذكره القاضي عياض في " الشفاء " ص 313، بلا سند، وعزاه إلى الإسفراييني، وبيض السيوطي في " مناهل الصفاء "، ولم ينسبه إلى أحد.
(9) أخرجه من حديث عمر الطبراني في " الأوسط "، و" الصغير " (948)، وأبو نعيم (275)، والبيهقي 6/ 36 - 38، كلاهما في " الدلائل "، وذكره السيوطي في " الخصائص " 2/ 65، وزاد نسبته إلى ابن عدي، والحاكم في " المعجزات "، وابن عساكر، وأورده ابن كثير في " الشمائل " ص 285 - 288، وأشار إلى أنه غريب منكر، وقال الذهبي في " الميزان " 3/ 651. حديث باطل.
(10) انظر ابن حبان (6494).(8/271)
أُخذ من خيبر وسأله النبي عن اسمه (1)، وحديث الناقة التي نطقت بالشهادة أنها ملكٌ لصاحبها (2)، وحديث الشجرة التي شهدت بالنبوة، وذكرها علي عليه
__________
(1) أخرجه من حديث أبي منظور أبو موسى المديني كما في " الإصابة " 4/ 186، وابن حبان في " المجروحين " 2/ 308 - 309، وابن الجوزي في " الموضوعات " 1/ 293 - 294، وابن عساكر في " تاريخه " كما في " حياة الحيوان " للدميري 1/ 357، وابن كثير في " الشمائل " ص 288، وقال: أنكره غير واحد من كبار الحفاظ، وقال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، فلعن الله واضعه فإنه لم يقصد إلاَّ القَدح في الإسلام، والاستهزاء به، وقال ابن حبان: هذا الحديث لا أصل له، وإسناده ليس بشيء، وقال أبو موسى المديني: هذا حديثٌ منكر جداً سنداً ومتناً، لا أُحِلُّ لأحد أن يرويه عني إلاَّ مع كلامي عليه. وقال الحافظ في " الإصابة ": واهٍ.
(2) لا يصح. ذكره القاضي عياض في " الشفا بتعريف حقوق المصطفى " ص 315، وأخرجه الحاكم 2/ 619 من طريق يحيى بن عبد الله المصري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر قال: كنا جلوساً حول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ دخل أعرابي جهوري بدوي يماني على ناقة حمراء، فأناخ بباب المسجد، فدخل فسلم، ثم قعد، فلما قضى نحبه، قالوا: يا رسول الله إن الناقة التي تحت الأعرابي سرقة.
قال: " أثمّ بينه ". قالوا: نعم يا رسول الله، قال: " يا علي خذ حق الله من الأعرابي إن قامت عليه البينة، وإن لم تقم، فرده إلي ". قال. فأطرق الأعرابي ساعة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " قم يا أعرابي لأمر الله، وإلا فأدل بحجتك "، فقالت الناقة من خلف الباب: والذي بعثك بالكرامة يا رسول الله أن هذا ما سرقني ولا ملكني أحد سواه، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " يا أعرابي بالذي أنطقها بعذرك ما الذي قلت ". قال: قلت: اللهم إنك لستَ برب استحدثناك ولا معك إله أعانك على خلقنا، ولا معك رب فنشك في ربوييتك، أنت ربنا كما نقول وفوق ما يقول القائلون، أسألك أن تُصلي على محمد وأن تبريني ببراءتي.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " والذي بعثني بالكرامة يا أعرابي لقد رأيتُ الملائكة يبتدرون أفواه الأزقة يكتبون مقالتك فأكثر الصلاة علي ".
قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، ويحيى بن عبد الله المصري لست أعرفه بعدالة ولا جرح، وتعقبه الذهبي في " مختصره "، فقال: الخبر كذب، اختلقه يحيى بن عبد الله المصري، وقال في " الميزان ": يحيى بن عبد الله شيخ مصري عن عبد الرزاق ... =(8/272)
السلام في " النهج " (1).
وطوَّل في هذا في قدر كُرَّاسٍ من أشعارٍ وأخبارٍ، وروى ذلك كله بإسناده بالقراءة (2) والسماع بذكر ذلك في كل حديثٍ.
وقد عقد عياضٌ المالكي في ذلك ثلاثة فصول في كتابه " الشفاء " (3): فصلاً في كلام الحيوانات من العجماوات، وفصلاً في كلام الشجر، وفصلاً في كلام سائر الجمادات، واستوعب في ذلك.
وقد صحَّح المتكلِّمُون هذا المعنى، ولم ينكروه بالنظر إلى القدرة، وذكروا ما يقتضي صحته عندهم الجميع في كيفيَّةِ كلام الله تعالى، وفي فضل المعجزات ونحو ذلك.
ومن أعجب ما ورد في ذلك: ما رواه السيد الإمام أبو طالب في كتابه " الأمالي " بإسناده، قال عليه السلام: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني (4) املاءاً، قال: أخبرنا الحسين بن محمد بن أوس الأنصاري الكوفي، قال: حدثنا نصر بن وكيعٍ، قال: حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتاه أعرابي على ناقة له، فنزل ودخل، فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمامه، ثم قال:
__________
= فذكر حديثاً باطلاً بيقين، فلعله افتراه.
قلت: وله طريق أخرى لا يُفرح بها عند الطبراني في " الدعاء " (1055) وفي سنده سعيد بن موسى الأزدي، وهو متهم بالوضع.
وأخرجه الطبراني في " الكبير (4877) وفي " الدعاء " (1054) من حديث زيد بن ثابت، وفي سنده مجاهيل، كما قال السيوطي في " مناهل الصفا " ص 133.
(1) ص 437 - 438، وأخرج نحوه مسلم (3012)، وابن حبان (6524)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 7 - 10. وانظر الدلائل أيضاً 6/ 13 - 17.
(2) في (ش): " بالقرائن ".
(3) ص 298 - 315.
(4) في (ش): ابن الحسني.(8/273)
" حدِّثِ الناس من أمرِ ثعلبِكَ ". قال: يا رسول الله، أنا رجلٌ من أهل نجران، جئت أحتطب من وادٍ يقال له: السَّيَّال، فبينا أنا في الوادي أحتطب الحطب على راحلتي هذه إذ أنا (1) بهاتفٍ يهتف بي (2) من جانب الوادي:
يا حامل الجُرْزَةِ مِنْ سَيَّالِ ... هل لك في أجرٍ وفي نَوَالِ
وحُسْنِ شكر آخر الليالي ... أنقذك الله من الأغلالِ
ومِنْ سعير النار والأنكال ... فامنُنْ فَدَتْكَ النفسُ بالإفضالِ
وحِّلني من وَهَقِ الحِبالِ
فالتفتُّ، فإذا ثعلب إلى شجرةٍ، فقال الثعلب:
يا حامل الجُرزة للأيتام ... عجبتَ مِنْ شأني ومن كلامي
اعجب من الساجد للأصنام ... مستقسماً للكفر بالأزلامِ (3)
هذا الذي بالبلد الحرام ... نبيُّ صدقٍ جاءَ بالإسلامِ
وبالهدى والدين والأحكام ... بالصلوات الخمس والصيامِ
والبرِّ والصِّلات للأرحام ... مهاجرٌ في فتيةٍ كرامِ
غير معايب ولا لئام
فذهبت لأحُلَّه، فإذا هاتفٌ آخر يقول:
يا حاملَ الجُرْزَةِ مِنْ جُرْزِ الحَطَبْ ... أما ترى (4) وأنتَ شيخ منجذِبْ
وفيك عِلْمٌ ووقارٌ وأدبْ ... إنَّ الذي يُنبيك زورٌ وكَذِبْ
محمدٌ أَفْسَدَ ديوانَ العرب
فأنشأ الثعلب يقول:
__________
(1) " أنا " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): " إلي ".
(3) في (ش): " والأزلام ".
(4) في (ش): " ماذا ترى ".(8/274)
إنَّ الذي تسمعُه (1) لَعِيني ... ملعونُ جنٍّ أيّما ملعونِ
يدينُ في الله بغيرِ دينِ ... يُغويكَ بي عَهْداً (2) لكي تُرديني
فامنُن فدتكَ النَّفس بالتَّهوين ... على أخٍ مُضطهدٍ مسكينِ
إن لم تُغِثْني غَلِقَتْ رُهوني
قال: فأتيتُه فحللته (3).
انتهى ما رواه السيد الإمام أبو طالب عليه السلام.
وهذا الباب واسعٌ، لا سبيل إلى استقصائه، ولا حاجة إلى ذلك، وإنما أتيت بهذه القصَّةِ تبرُّكاً بإيراد ما رواه أهل البيت عليهم السلام، وإلا فالإشارةُ في هذا كافيةٌ.
فإذا تقرَّر هذا، فاعلم أن عامَّةَ أهل الأثر لمَّا رأوا هذا داخلاً في قدرة الله تعالى لم يتأولوا كثيراً مِمَّا ورد في هذا المعنى، مثل قوله تعالى في السماء والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طائِعين} [فصلت: 11]، وليس يلزمهُم من هذا أن يسبِّحَ (4) كلُّ جزءٍ مِنَ الأجسام اللطيفة مثل ورقة التِّين والقلم والسِّواك، بل إذا سبحتِ الأرضُ، فقد صدق أنه يسبِّحُ كلُّ شيءٍ، مثلما أنه إذا سبَّح الإنسان، فقد سبَّح منه كلُّ شيءٍ، وإن لم تُسَبِّحْ منه كلُّ شعرةٍ على انفرادها، بل يصدُقُ أنَّ الإنسان سبَّح من غير تجوُّزٍ في ذلك، فكذلك إذا سبَّحت الأرض والسماوات والحيوانات، فقد صدق أنه يسبِّح لله كلُّ شيءٍ من غير تجوز (5)، وإن لم تسبِّحِ الأجسام اللطيفة.
__________
(1) في (ش): " سمعته ".
(2) " عهداً " ساقطة من (ش).
(3) في سنده من لا يعرف، ولوائح الوضع عليه ظاهرة.
(4) في (ش): " تسبحه ".
(5) " من غير تجوز " ساقطة من (ش).(8/275)
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أن المتكلمين والمحدثين إنَّما يختلفون هُنا، لاختلافهم في أن القرينة العقليَّة، هل تدلُّ هنا على التَّجوُّز أم لا؟ والأمر في هذا قريبٌ، والذي قالوه في هذا ممكنٌ عند المتكلِّمين عقلاً.
ويتفرع على هذا تنبيهٌ مفيدٌ، وذلك أن كثيراً من المحدِّثين -لعدم ارتياضهم في العلوم العقلية- يتوقفون في إحالة أشياء عقليةٍ، وإحالتها في العقل ظاهرةٌ جليةٌ مثل حديث (1) أنه " يؤتى بالموت على صُورة كبشٍ أملح " (2) يوم القيامة، فمن لم يكُن له أُنْسٌ بعلم العقل، لم يقطع باستحالة هذا، فربما ظنه على ظاهره، وربما توقف في معناه، وذلك مما لا يصح عند أحدٍ من جمهور أهل الكلام، لأن الموت إمَّا عَرَضٌ على قولٍ، أو عدمُ عَرَضٍ على قول، وكلاهما يستحيلُ أن يصير حيواناً عند جمهورهم، على أن ابن تيمية -وكان من أئمة الكلام- خالفهم في ذلك، وقال: إنه لا يستحيل أن يُنشىء الله تعالى من الأعراض أجساماً تكون تلك الأعراض مادة لها، وإنما المحال ذبح العرض نفسه، وهو ما هو عليه، وطوَّل في الاحتجاج على ذلك، ذكره تلميذه ابن قيّم الجوزية في أواخر " حادي الأرواح " (3).
__________
(1) " حديث " ساقطة من (ف).
(2) أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849)، والترمذي (3156) من حديث أبي سعيد، والحديث بتمامه: " يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادى منادٍ: يا أهل الجنة، فيشرئبُّون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلُّهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلُّهم قد رآه، فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة، خلود، فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت "، ثم قرأ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة}، وهؤلاء في غفلة أهل الدنيا {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُون}.
وأخرجه بنحوه أحمد 2/ 423، والدارمي 2/ 329، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 347 من حديث أبي هريرة.
(3) ص 283 - 284.(8/276)
وتلخيصُ كلامه: أن منعهم لذلك مجرَّد استبعاد، ولا مانع من كون الشيء مادة لمخالفه لا ضده، وإنما يمتنع لو كان يستلزم المُحال، ويؤدِّي إلى الجمع بين النَّقيضين، وأمَّا مجرَّدُ الاستبعاد، فليس هو أبلغ من استبعاد الفلاسفة لإنشاءِ الموجود مِنَ العدم المحض، كما هو قول أكثر أهل الإسلام، ومنتهى ما فيه أنَّ العقل يقِفُ هنا، ولا يقطع بشيءٍ، لكن السمع دلَّ عليه دلالات مختلفة متنوِّعة، فمنه حديث: " تجيء البقرة وآل عمران كأنَّهما غمامتان " (1)، وحديث: " إن ما يذكرون مِنْ جلال الله من تسبيحه وتمجيده وتهليله يتعاطفن حول العرش لهن دويٌّ يُذَكِّرن بصاحبهن " (2)، وحديث الصورة التي تقول للميِّت في قبره: " أنا عملُك الصَّالح أو السَّيِّىء " (3).
فهذا أمرٌ معقولٌ، لو لم يرد به النص، فورود النَّصِّ به من قبيل تطابُق السَّمع والعقل، ثم ساق ما ورد مِنَ الآثار. انتهى بالمعنى.
والسرُّ في هذ التنبيه أن يعرف المتكلِّمُ أنه لا حَرَجَ على من توقف في تأويل هذا الجنس من أهل الأثر، ولا تحلُّ غيبة المتوقِّف في هذا ولا انتقاصه، لأنه مسلمٌ محقونُ العِرْضِ، مستحقٌّ لحقوق جميع المسلمين، والبحث عن هذا -وإن كان من جليَّاتِ علم المعقول- فلا يجب عليه، والوقف في التأويل مع الجهل بالموجب له هو الواجب عليه، وليس كلُّ أمرٍ جليٍّ في العقل يجب على المسلمين النظر فيه، فإن من الجليَّات عند المنطقيين صدق قولنا إذا صدق أنَّ
__________
(1) أخرجه مسلم (804) من حديث أبي أمامة، وأخرجه مسلم (805)، والترمذي (2886) من حديث النواس بن سمعان، وأخرجه أحمد 5/ 348 و352، والدارمي 2/ 450 - 451 من حديث بريدة.
(2) أخرجه أحمد 4/ 268، وابن ماجه (3809)، وقال البوصيري في " زوائد " ابن ماجه 236/ 1 إسناده صحيح، وصححه الحاكم 1/ 500 و503، ووافقه الذهبي في الموضع الثاني.
(3) قطعة من حديث صحيح مطوّل رواه أحمد في " المسند " 4/ 287 - 288 من حديث البراء بن عازب، وهو مخرج في " صحيح ابن حبان " 7/ 387.(8/277)
كل ألفٍ باءٌ، فبالضرورة يجب أن بعض الباء ألفٌ، وهذا وإن كان صحيحاً، بل ضرورياً، فإنه لا يجب على المسلمين أن يعرفوه.
المقدمة السابعة: اعلم أنَّا نظرنا في هذه الأحاديث التي ذكرها السيد، وقطع أن رواتها تعمَّدُوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل الأولى القطع بتعمُّدِهم الكذب، أم الوقفُ في ذلك؟ فوجدنا الوقف أولى، لوجوهٍ مرجِّحة لذلك (1).
المرجِّح الأول: أن القطع بأنهم تعمَّدُوا الكذب فيها يؤدي إلى بطلان أمر مجمعٍ عليه، وما أدَّى إلى ذلك، فهو باطلٌ، والمقدمة الثانية: أنها مسلمة وفاقية، وبيان المقدمة الأولى أن الأمة قد أجمعت على الرجوع إلى كتب المحدثين هذه المسمَّاة بالصِّحاح، والاجتماع بما فيها، أما الفقهاء، فظاهرٌ، وأما الزيدية، فلوجوهٍ:
أحدها: أن من أول كتابٍ صُنِّفَ في تجريد أدلة الأحكام من الحديث للزيدية، فهو كتاب " علوم آل محمد " تأليف محمد بن منصور المرادي، وهو المعروف بأمالي أحمد بن عيسى، وهو يروي فيه عن محمد بن إسماعيل البخاري، وعن رجال الصِّحاح، وعمَّن دونهم، بل صرَّح فيه بما يقتضي قبول المجاهيل، وبعده كتاب " أصول الأحكام " للإمام المتوكل أحمد بن سليمان عليه السلام، وقد قال في خطبته: إنه نقل من " البخاري " وغيره من كتب الفقهاء، مثل كتاب الطحاوي الحنفي، وكتاب المُزني صاحب الشافعي، وكتاب محمد بن الحسن الشيباني، وكتاب الإمام هذا قد خلط الذي رُوِيَ عنهم بالذي رُوِيَ عن أهل البيت عليهم السلام من غير تمييزٍ لأحدهما عن الآخر بصريح لفظ ولا رمزٍ في خطٍّ ولا قاعدةٍ ذكرها في خطبة الكتاب، والزيدية مجمعون على الرجوع إليه، والمجتهدون منهم معتمدون في معرفة أدلة الأحكام عليه في قدر أربعمئة سنةٍ، ما أنكر ذلك منكرٌ.
__________
(1) في (ف): " في ذلك ".(8/278)
وثانيها: شهرة النقل عنها قديماً وحديثاً في كتب الزيدية من غير نكيرٍ، هذا إمام الأئمة المنصور بالله عليه السلام يقول في كتاب " الرسالة النافعة " بالأدلة القطعية بعد ذكر (1) الصحاح ما لفظه: إذ هذه الكتب التي توجد في أيدي الأمة سبيلٌ (2) إلى ربها. ويقول في " العقد الثمين " ما لفظه: فالذي رويناه من طريق العامة هو ما صحَّت لنا روايته عن الفقيه العالم أبي الحُسين يحيى بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد البطريق الأسدي الحلبي يرفعه إلى رجاله مما رواه من كتب العامة بالأسانيد الصحيحة.
هذا لفظه عليه السلام، وفيه التصريح بصحة أسانيدها، ولم يقل -كما قال السيد- المسماة بالصحاح احترازاً من الكذب، بل قطع المنصور بالله عليه السلام القول بصحتها، وكان إليه المنتهى في التَّقوِّي والتحري.
وقال عليه السلام في هذه الرسالة وقد ذكر ما في كتب الصحاح من فضل أهل البيت عليهم السلام، وعيَّن منها مواضعها حتى قال ما لفظه: " من " صحيح البخاري "، ومن " صحيح مسلم "، وقال: من " الجمع بين الصحيحين " للحُميدي، ولم يقل المسمى " بصحيح البخاري "، والمسمى " بصحيح مسلم "، والمسمى " بالجمع بين الصحيحين "، وقال من " صحيح أبي داود السجستاني "، وهو كتاب " السنن "، ولم يقل المسمى " بالسنن "، وذكر الرواية من " صحيح البخاري " ومن " صحيح مسلم "، وأطلق على الكُلِّ منها لفظ الصِّحة من دون احترازٍ، وقال: من " الجمع بين الصحاح الستة " لرزين بن معاوية العبدي (3)، وأطلق على الكل فيها لفظ الصحاح، قال، وقد ذكر جملة
__________
(1) " ذكر " ساقطة من (ف).
(2) في (د) و (ش): " سبيلاً ".
(3) هو الإمام المحدث أبو الحسن رزين بن معاوية العبدري الأندلسي السرقسطي، المتوفى سنة 535، واسم كتابه: " التجريد للصحاح الستة "، جمع فيه بين " الموطأ "، و" صحيحي " البخاري ومسلم، و" سنن " أبي داود والترمذي والنسائي، وعليه اعتمد أبو السعادات ابن الأثير في تصنيف كتابه " جامع الأصول ". انظر " السير "20/ 204، ومقدمة " جامع الأصول " 1/ 48 - 51.(8/279)
الصِّحاح و" تفسير الثعلبي " و" مسند " ابن حنبل ما لفظه: وهذه الكتب التي تُوجَدُ في أيدي الأمة سببٌ (1) إلى ربِّها، فحكم بأن كتب الحديث المعروفة هي محلُّ النجاة.
وكذلك العلامة الزمخشري ذكر في " كشافه " سماعه في " صحيح مسلم "، وسماه صحيحاً، ولم يقل كتاب مسلم الذي سماه صحيحاً، كما فعل السيد، فكانت للزمخشري بصيرةٌ يُميِّزُ بها بين الصحيح والسقيم.
وذكر الإمام أحمد بن سليمان عليه السلام أنه وجد كتب الحديث في خِزانة الإمام الناصر بن الهادي إلى الحق عليه السلام، وهذا يدل على قِدَمِ وجودها في خزائن الأئمة من غير نكيرٍ على من يعتمد عليها.
وذكر الأمير الحسين رحمه الله في " شفاء الأوام " حديثاًً، وقال: ليس له فيه سماعٌ، ولكنه من كتاب " الفائق "، وهو مشهور عند الشفعوية مقويّاً للحديث بشهرة الكتاب عندهم، وصرح الأمير الحسين في " الشفاء " بالنقل منها.
وقال القاضي العلامة عبد الله بن حسن رحمه الله في " تعليق الخلاصة " فيما يشترط في علم الإمام ما لفظه: والعلم بأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -، يكفي في ذلك كتابٌ مما يشمل الأحاديث المتعلقة بالأحكام " كأصول الأحكام " أو أحد الكتب المصحِّحة المشهورة.
وكذلك الفقيه علي بن يحيى الوشلي رحمه الله ذكر في " تعليق اللمع " أنه يكفي المجتهد مِنَ السنة معرفة (2) كتاب " السنن " لأبي داود.
وكذلك الفقيه العلامة علي بن عبد الله رحمه الله نص على ذلك في " تعليق الجوهرة "، وكان الإمام يحيى بن حمزه عليه السلام ينقلُ منها ويعتمد عليها.
وكذلك الإمام محمد بن المطهِّر عليه السلام، وكذلك حيٌّ الإمام الناصر عليه السلام.
__________
(1) في الأصول: " سبباً ".
(2) " معرفة " ساقطة من (ف).(8/280)
وقد تقدم شيء من هذا، ولكن مقتضى الحال مع لجاج أهل الزمان يقتضي التكرار والبيان الكثير، وإن سئم منه قليل النَّشاط، فالسآمة من طول الاحتجاج على الحق خيرٌ من العماية من طول السكوت عنه (1) والعارف لا يكون كسلان، ومن أحبَّ العلم، لم يسأم التطويل والتكرار.
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لو كان ما في هذه الكتب الصحيحة كُفراً صريحاً، لا يمكن تأويله، بل يجري مجرى سبِّ الأنبياء عليهم السلام، والأمر بعبادة الأصنام، ونحو ذلك من تجويز وأدِ البنات، ونكاح الأمهات، واستحلال الفواحش المحرمات، لم يحل الرُّجوع إليها، ولا النَّقل منها ولا نساختها لخزائن الأئمة الطاهرين من وقت الإمام الناصر أحمد بن يحيى الهادي عليه السَّلام إلى زماننا هذا من غير تحذيرٍ منها، ولا إعلانٍ لتقبيح ما فيها.
ومن العجب أنَّه ما ظهر القول بأن فيها الكفر الصَّريح الذي لا يحتمل التأويل البتة إلاَّ في شهر ذي الحجة من سنة ثمانٍ وثمانمئة سنة من السيد أيده الله، وقد تقدَّمه من هو أعلم منه وأفضل، مثل المنصور بالله، وأحمد بن سليمان المتوكِّل على الله، والإمام يحيى بن حمزة، والإمام الناصر محمد بن علي عليه السلام، وقد كان الفقيه أحمد بن سليمان الأوزري يقرىء فيها في صعدة وقت الإمام الناصر عليه السلام، وقرأ عليه الإمام الناصر والسيد أيضاً من جملة مَنْ سمعها عليه، وكانت العامة (2) تحضُرُ في مجالس السماع على أنها كتبُ الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما أحدٌ أنكر ذلك ولا بيَّن للعامَّة ولا للخاصة.
فلو أن الفقيه الأوزري جاء من تهامة بكتبٍ منسوبةٍ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجد فيها سبَّ الأنبياء وإضافة النقص إليهم بما لا يحتمل التأويل، مثل القول بأن عيسى كان ساحراً، ولم يكن يحيي الموتى على الحقيقة، ومريم العذراء البتول عليها السلام كانت (3) ارتكبت الفاحشة، وولدها كان ولد زنى، وإنما ستر الله
__________
(1) " عنه " ساقطة من (ف).
(2) في (ش): " والخاصة ".
(3) " كانت " ساقطة من (ف).(8/281)
عليها بذكر ما ليس بصحيحٍ من كلام عيسى في المهد، ونحو ذلك، لم يشكَّ عاقلٌ في أن العُلماء والأئمة ما يقرُّونها على الأوزري، ويطلبُون الإجازة فيها، وينسخُونها، ويشحنُون خزائنهم بها، بل كانوا يَؤدِّبُون مَنْ جاء بها ومن قرأ فيها إن كان جاهلاً، ويقتلون من يعتقد صحَّتها.
فإذا كان عند السيد أن في كتب الحديث من نسبة النقص إلى الله تعالى ما لا يحتمل التأويل، فذلك أعظم من سبِّ الأنبياء ونقصهم بما لا يحتمل التأويل (1).
فإذا عرفت هذا فتنبَّه على تعريفٍ مفيد (2)، وهو أنا لو أتينا والناس مجتنبون لها، متواصون بالتحذير من قراءتها، ثم ابتدعنا القراءة فيها، والتصحيح لها، لكنا نستحق الإنكار وأما حين جئنا والإقراء فيها مشهورٌ في المساجد منذ أعصارٍ قديمة، والمذكور في تعليق " اللمع "، و" الخُلاصة "، و" الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ الزيدية في فُنون الفقه والكلام والأصول أنَّ الذي يكفي المجتهد معرفة كتابٍ فيها، وكتبُ الزيدية المتداولة في الحديث مفصحةٌ بالنقل منها، لم يشك أن القراءة فيها غير مُنكَرةٍ، والعمل بما فيها غير محرَّم.
وأما (3) إن قلتم: نعلم ولا نعمل بهذا الأمر بما لا يجوز، ومثل الذين يتعلَّمون ولا يعملون، كمثل الحمار يحمل أسفاراً.
وقد طال الكلام في هذا الوجه، وهو موضعٌ لطول الكلام، وقد تبين من هذا أن رواة هذه الأحاديث لو كانوا معتمدين للكذب -كما ذكر السيد- لم يجُزِ الرجوع إلى كتبهم، ولا إلى ما يجوز أن فيه شيئاً منها من كتب الزيدية والفقهاء، ولا التقليد لمن يستجيز الاحتجاج بها، ونحن لا نعلم في تصانيف المتأخرين ما هو كذلك، ولا نعلمُ منهم من لا يستجيز ذلك، وقد انعقد الإجماع على جواز
__________
(1) من قوله: " فذلك أعظم " إلى هنا، ساقط من (ش).
(2) في (ش): " مقيد ".
(3) في (ف): " فأما ".(8/282)
القراءة في كتب المتأخِّرين، وعلى جواز التَّقليد لهم متى كانوا مجتهدين، فما أدى إلى بطلان هذا الإجماع، فهو أولى بالبطلان.
الوجه الثالث: أن المنصور بالله قد حكى أنَّ المحققين رووا عن المخالفين لنا في الاعتقادات من غير مناكَرَةٍ، والمؤيد بالله عليه السلام قد نص على أن الظاهر من مذهب أصحابنا قبول كُفَّارِ التأويل، هكذا رواه عن أصحابنا على الإطلاق، والقاضي زيدٌ قدِ ادعى الإجماع على قبولهم، وهذا يقتضي أن مذهب الهادي والقاسم عليهما السلام قبولهم، بل قد رواه عنهما نصاً القاضي أبو مُضر خرَّجه عنهما المؤيد بالله عليه السلام، وهو أحدُ تخريجي أبي طالبٍ، وقد تقدَّم تقرير ذلك.
فإن كان هذا في حق الهادي والقاسم عليهما السلام، فكيف بغيرهما من الأئمة والرواة، فثبت بهذا أنا نُجَوِّزُ في جِلَّةِ الأئمة والعلماء المتأخرين والقُدماء أنهم يقبلون رواة هذه الكتب من أهل التأويل. فإذا ثبت ذلك، فالكذب في هذه الكتب إنما دخل (1) فيها مِنْ أنَّ الحشوية كذَبُوا فيها، لكنا بيَّنَّا أن قَبُول هؤلاء الذين سمَّاهم السيد بالحشوية مذهب كثيرٍ من الأئمة الطاهرين نصاً صريحاً، ومذهب أكثرهم قولاً ظاهراً، أو مذهب جميعهم تجويزاً محتملاً، فلا يجوز الرُّجوع إلى أحدٍ منهم حتى نظن أنه لا يروي عن كافر تأويلٍ ولا فاسقه، ولا يستجيز الرِّواية المرسلة عمَّن يقبلهما (2)، وهذا بعيدٌ عزيزٌ، فإن أقصى ما في الباب أنا نجدٌ من لا يروي عن المتأوِّلين بأنفسهم، لكنا نجد من لا يروي عن العدل المتنزِّه عن البدع إذا كان ذلك العدل يقبل المتأولين. ألا ترى أن المؤيد بالله والمنصور بالله يقبلان المتأوِّلين بنصِّهما الصريح، ولا يوجد من الزيدية من لا يقبل حديث المؤيد بالله والمنصور بالله عليهما السلام ويرد مراسيلهما.
__________
(1) في (ش): " يدخل ".
(2) في (ش): " يقبلها ".(8/283)
فإذا ثبت أنه لا يمكن الاحتراز عن (1) حديثهم وروايتهم، ثبت أن القول بأنهم كذبةٌ متعمِّدون يؤدي إلى تحريم القراءة في جميع كتب الحديث مصنَّفات الزيدية والفقهاء، وهذا قولٌ مُخالفٌ للإجماع، وهذا الوجه غير الذي قبله، فلا يقع في ذلك (2) وهم.
الوجه الرابع: أنا قد بيَّنَّا فيما تقدم رواية إجماع الصحابة على قبول المتأوِّلين، وأقل الأحوال أن تكون تلك الطريق (3) توجب أنهم يقولون بذلك، فمع القطع بأن المتأولين هم الذين كذبوا هذه الأحاديث، لا ندري (4) هل الفساق منهم هم الذين كذبوها أم الكفار، فالكل ممن لا يُنَزَّهُ عن تعمُّد الكذب، عند السيد، ومع هذا، فلا ندري فلعل الفُسَّاق المتأولين من الصدر الأول وقت الصحابة هم الذين كذبوهم، وعدول الصحابة، وإن لم يكونوا متَّهمين في أنفسهم لكنه يجوز أن يستحلُّوا الرِّواية عن فُسَّاق التأويل المتَّهمين، فيلزم أن لا يُقبل ثقات الصحابة إلاَّ إذا صرَّحُوا بالسماع، فالعنعنة محتملة، وتجويز توسُّط المتأوِّل (5) بين أهل العدل محتملٌ لجواز أن يذهب العدلي إلى ذلك، وهذا سد لباب الرواية، ومحوٌ لآثار العلم، وتعفيةٌ لسُبل الشريعة، ومخالفةٌ لإجماع الأمة، فلهذا اخترنا القول بتأويل ما في الصحاح محبَّةً للبقاء على ما كان عليه سلفنا الصالح من أهل البيت عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام، وكراهة الابتداع والغلوِّ في الدِّين، لا محبِّةً لتلاوة المتشابهات، ولا شَغَفَاً بظواهر أحاديثِ الصفات. فهذا هو المرجِّحُ الأول الذي بينته. على أن تكذيب رواية الصحاح يُؤدِّي إلى خلاف ما انعقد عليه الإجماع، وقد تبين ذلك بهذه الوجوه الأربعة، ولله الحمد.
المرجح الثاني: قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ} [الإسراء:
__________
(1) في (ف): " من ".
(2) " في ذلك " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): " الطرق ".
(4) " لا ندري " ساقطة من (ف).
(5) في (ش): " المتأولين ".(8/284)
36]، فإن القول بأنَّ رواة الصِّحاح قد تعمَّدُوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأحاديث مما ليس لي به علمٌ، فلو علم ذلك أحدٌ، فلا لوم عليه في تكذيبهم، لكن من لا يعلمُ ذلك ما سبب إلزامِه أن يقطع بغير تقريرٍ ولا هُدى، ولا كتاب منيرٍ، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب اليهود فيما رووه (1) خوفاً أن يصدقوا، فيكون المكذِّب لهم قد كذَّت الحق (2)، فهذا في اليهود القوم البُهْتِ، فكيف بأهل الإسلام؟
المرجِّح الثالث: أنا نخاف أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال تلك الأحاديث، ونخاف أن يكون ما قالها، فنظرنا أيُّ الجَنَبتين أهون، فوجدنا الخطأ في القبول أهون من الخطأ في الرَّدِّ، لأنا متى أخطأنا في القبول، كان تصديقاً له (3) موقوفاً على شرط أنه قال (4): ومتى أخطأنا في الرَّدِّ كان تكذيباً (5) موقوفاً على أنه ما قال، والتصديق الموقوف خيرٌ من التكذيب بالضرورة، أقصى ما في الباب أن يكون الخطأ في القبول كذباً عليه، والخطأ في الرد تكذيباً له، صانه الله تعالى من ذكر ذلك، لكن تعمُّد الكذب عليه فسقٌ، وتعمُّد التكذيب له كفرٌ، فالخطأ فيما عمده فسقٌ أهون من الخطأ فيما عمده كفر، وهذا من نفائس المرجِّحات وخفيَّات المُدركاتِ النظرية.
__________
(1) في (ش): " رووا ".
(2) أخرج عبد الرزاق (20059)، وأحمد 4/ 136، وأبو داود (3644) من حديث أبي نملة الأنصاري مرفوعاً: " ما حدثكم أهل الكتاب، فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وملائكته وكتبه ورسله، فإن كان حقَّاً، لم تكذبوهم، وإن كان باطلاً، لم تصدقوهم ".
وصححه ابن حبان (6257). وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البخاري (4485) و (7362) و (7542) بلفظ: " لا تصدقوا أهل الكتاب بما يحدثونكم عن الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أُنزل إلينا، لأن الله تعالى أخبر أنهم كتبوا بأيديهم، وقالوا: هذا من عند الله ".
(3) " له " ساقطة من (ف).
(4) في (د) و (ف): " أن يقول ".
(5) " تكذيباً " ساقطة من (ف).(8/285)
المرجِّح الرابع: أن الخطأ في العفو أولى مِنَ الخطأ في العقوبة، والقطع على حال الرُّواة بتعمُّد الكذب عقوبةٌ، والوقف (1) في ذلك عفو، والحمل على السلامة ظنٌّ جميلٌ، ولعلَّهم قد بلَّغُوا منه ما سمعوا منه، امتثالاً للأمر النبوي، حيث قال: " ليبلِّغِ الشاهد الغائب " (2)، ولعلَّهم قد شملتهم الدعوة المباركة النبوية، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: " نضَّر الله امرءاً سمع (3) مقالتي، فوعاها، ثم أداها كما سمعها إلى من لم يسمعها " (4). وأنت يا هذا لضيق فهمِكَ، وقِلِّةِ علمك، تكذِّب من امتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تبليغِ كلامه الحق الذي لم يقُلْهُ عبثاً، ولا نطق به سدىً: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4].
وكم من عائِبٍ قولاً صحيحاً ... وآفتهُ من الفهم السَّقيمِ (5)
المرجِّح الخامس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلَّف فينا ثقلين، ووعدنا بالأمان من الضلال أبداً ما تمسكنا بهما (6)، فرجعنا إليهما فلم نجد في واحدٍ منهما الأمر بأنا نقطع بعجز جميع الراسخين في العلم -عليٍّ عليه السلام فمن بعده- عن تأويل تلك الأحاديث، فوقفنا في ذلك ووسعنا في الصمت عن تكذيب الرواة ما وَسِعَ أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في مقدار خمس مئة سنة، فإن هذه الكتب قد سارت في أقطار الإسلام هذا القدر، وتداولتها علماء الأئمة، ونُصحاء الأمة، ونُقَّادُ النظر والأثر، ما نعلم أحداً ممن يُعتدُّ به من جميع الفرق الإسلامية القائلين
__________
(1) في (ش): " والوقوف ".
(2) قطعة من حديث مطول تقدم تخريجه 3/ 370.
(3) في (ش): " عرفها ".
(4) تقدم تخريجه 1/ 246.
(5) هو للمتنبي من قصيدة مطلعها:
إذا غامَرْتَ في أمرٍ مرومٍ ... فلا تقنع بما دونَ النجومِ
انظر الديوان 4/ 119 - 120 بشرح العكبري.
(6) انظر 1/ 178.(8/286)
للآحاد صرَّح بمثل ما صرَّح به السيد بالتكذيب من غير تردُّدٍ البتة.
المرجِّح السادس: أنا قد وجدنا في كتاب الله تعالى شواهد لِمَا ورد فيها من المتشابهات، وقول السيد: إن المتشابه الذي في القرآن جليٌّ قريبٌ، مثل قوله تعالى: {بَلْ يداه مبسوطتان} [المائدة: 64] لا يصلح أن يُقال لمن يعرف القرآن ويدري ما فيه، وهذه الآية ليست مِنَ المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله والرَّاسخون في العلم، بل هي من المجاز الجليِّ الذي يعلمه من سمعه من أجلاف عُبَّاد الأصنام، وذلك لأن بسط اليدين -كما قال السيد- معروفٌ عند العرب أنه كنايةٌ عن الكرم، وهو كنايةٌ عندهم مشهورةٌ، كطول النِّجاد، وكثرة الرَّماد، وما كان مشهوراً عندهم، لم يكن من المتشابه المختصِّ بالراسخين، وإنما ظهر الأمر في ذلك عندهم لوضوح القرينة، وذلك أن الكلام واردٌ مورد المدح والثناء، وغير خافٍ على كل عاقلٍ أن مجرد بسط اليدين ممَّا لا مدح فيه ولا ثناء (1)، فبسط اليدين الحقيقي هو صفة الميت، وصفة الأخطل وكثيرٍ من أهل العاهات.
فلا يشكُّ من سمِعَ تمدُّح ربِّ الأرباب بذلك، لم يُرِدْ هذا الوصف الحقيقي مجرّداً عن الكناية عن جُوده الواسع، ومعروفه الدائم، وأنه إنما أراد ما تعارفته العربُ في لسانها وتداولتها (2) البلغاء في خطابها من الكناية عن الكرم والجُود الفائض.
والسيد قد اختار هذه الآية، وزعم أنها من متشابه القرآن، وأومأ إلى أن بقية المتشابه في القرآن من هذا القبيل، ثم اختار أدقَّ ما في كتب الحديث من المتشابه، وأشار إلى أن بقية ما ورد فيها مِنْ ذلك القبيل، وليس كما أوهم (3) في الجانبين، ففي القرآن ما هو أدقُّ من تلك الآية، وفي السنة ما هو أوضح من تلك الأحاديث.
__________
(1) " ولا ثناء " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): " أو تداولتها ".
(3) في (ش): " وهم ".(8/287)
وقد رأيتُ أن أُورِدَ مِنْ آيات القرآن الكريم ما يُشابه (1) تلك الأحاديث، وأنا أُوردُ الآيات هنا مسرودة، ثم أُبيِّنُ الشواهد منها على كلِّ لفظٍ من ألفاظ تلك (2) الأحاديث، إلاَّ لفظ الضَّحِكِ وحده، فليس له في القرآن شاهدٌ، لكنه مجازٌ قريبٌ، نبيِّن الشواهد عليه من اللغة العربية إن شاء الله تعالى.
وهذه الآيات الكريمة منها: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} [الأنعام: 158]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَة} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّ} [الفجر: 22]، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} [المطففين: 15]، وقوله: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّه} [النمل: 65]، وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِير} [الملك: 16 - 17]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [النمل: 8 - 9]، وقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة} [القيامة: 22 - 23]، وقوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك} [الأعراف: 143]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وقوله: {ثُمَّ استوى إلى السماء} [البقرة: 29]، وقوله في غير موضع: {ثم استوى على العرش}، وقوله: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} [الأعراف: 206]، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ (3) الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]،
__________
(1) في (ش): " شابه ".
(2) " تلك " ساقطة من (د) و (ف).
(3) " عند " بالنون، وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير، وقرأ الباقون: " عباد ". انظر " حجة القراءات " ص 647.(8/288)
وقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، وقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِم} [الأنعام: 127]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54 - 55]، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] و [الشورى: 22]، وقوله: {إنَّ للمتقين عند ربهم جنات النعيم} [القلم: 34]، وقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِم} [الأنعام: 127]، وقوله: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19]، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34] و [الشورى: 22]، وقوله: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات: 33 - 34]، وقوله: {وعنده أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39]، وقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيم} [الزخرف: 4]، وقوله: {وعندنا كتابٌ حفيظُ} [ق: 4]، وقوله: {ولدينا كتابٌ ينطق بالحق} [المؤمنون: 62]، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِم} [السجدة: 12]، وقوله: {لا تختصموا لدي} [ق: 28]، وقوله: {ولو تَرَى إذْ وُقِفُوا على ربِّهِمُ} [الأنعام: 30]، وقوله: {أولئك يُعْرَضُونَ على ربهم} [هود: 18]، وقوله: {يَخَافُون ربَّهم من فوقهم} [النحل: 50]، وقوله: {إذ قال الله يا عيسى إني مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إليَّ ومُطَهِّرُكَ من الذين كفروا} [آل عمران: 55]، وقوله: {وما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفََعَه الله إليه} [النساء: 157 - 158]، وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّون} [السجدة: 5]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، وقوله: {إليه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطيب} [فاطر: 10]، وقوله: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42]، وقوله: {ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي} [ص: 75]، وقوله: {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويَّاتٌ بيمينه} [الزمر: 67]، وقوله: {واصنع الفلك بأعيننا} [هود: 37]، وقوله: {واصبر لحكم ربك(8/289)
فإنك بأعيننا} [الطور: 48]، وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 13 - 14]، وقوله: {ولتصنع على عيني} [طه: 39]، وقوله تعالى: {يوم يكشف عن ساقٍ} [القلم: 42]، وقوله: {سبِّح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1]، وقوله: {وهو العلي العظيم} [البقرة: 255]، وقوله: {الكبير المتعال} [الرعد: 9] وقوله: {ذي المعارج} [المعارج: 3]، وقوله: {رفيع الدرجات ذو العرش} [غافر: 15]، وقوله: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُون} [الأنعام: 75 - 78].
فهذه الآيات في هذا الجنس الذي ذكره السيد، وأما جميع أجناس المتشابهات في القرآن الكريم فذلك بابٌ واسعٌ.
المقدمة الثامنة: في بيان مراتب التصديق والتأويل والرد.
واعلم أن كل ما أخبر الله تعالى أو رسوله عليه السلام بوجوده، فإنه يجب التصديق بوجوده، ولكن للوجود مراتبٌ متفاوتةٌ، وفيها تردد المصدِّقون، ومن بقي في التصديق متمسكاً بواحدة (1) منها، لم يُنسب إلى صريح التكذيب ما لم يصادم تأويله المعلوم من ضروره الدين للجميع لا للبعض، وحينئذٍ لا يُعذر بتأويله، كتأويلات الباطنية للأسماء الحسنى، وصفات الكمال، وتأويلات غلاة أهل البدع المخرجات من الإسلام، نعوذ بالله من ذلك.
ولهذا توقَّف كثيرٌ من العلماء في تكفير كثيرٍ ممن خالف الحق من المسلمين، لتمسُّكهم بعروة التصديق، فمن لم يتمسك بشيء منها، وخرج إلى
__________
(1) في (ف): " بواحد ".(8/290)
جنس تأويل الباطنية المعلوم بطلانه من الدين ضرورة، مثل تأويل الله جل جلاله بالإمام، وقولهم: إن الله ليس بقادر، وأن معنى القادر في حقه تعالى أنه يخلُقُ من هو قادرٌ، فليس هذا بتأويل، إنما هو تكذيبٌ سمَّته الملاحدة تأويلاً، وصادموا في ذلك ضرورة الدين، وتوصَّلوا بذلك إلى إنكار الجنة والنار، وتأويل المَعَاد الأُخروي برمته، وحاولوا ما لم يتم لهم من الكفر الصريح، والتمويه على العامة بدعوى الإسلام.
وهذه مراتب التصديق بوجود ما أخبر الله تعالى به على الحقيقة، والظاهر، ثم على المجاز والتأويل المستعمل بين علماء الإسلام، ثم نذكر مرتبة الرد.
المرتبة الأولى: الوجود الذاتي، وهو الوجود الحقيقي الثابت خارج الحِسِّ والعقل، ولكن يأخد الحسُّ، والعقل عنه صورته، فيسمى ما يتعلق بالحس منه إدراكاً، ويسمى ما يتعلق بالعقل منه علماً وتصوُّراً ومعرفةً على أحد الاصطلاحين، وهذا كوجود الجنة والنار، والبعث والملائكة، وسائر الأمور، فإن وجودها ذاتي حقيقي، كوجود السماوات والأرض وما فيها من المخلوقات وهذا الوجود هو الذي ليس بمتأول، وما دونه من مراتب الوجود، فإنما يُصار إليه بالتأويل.
وأجمعت الأمة إجماعاًً قطعياً أنه لا يجوز النزول منه إلى ما دونه من مراتب التأويل إلاَّ للضرورة وتعذُّر التصديق به، ولا يُخالف أحدٌ من الظاهرية وغيرهم أن الدليل القاطع العقلي والسمعي يوجب التأويل، ولهذا قال أبو محمد بن حزمٍ، وهو من أئمة الظاهرية:
ألم تر أنِّي ظاهريٌّ وأنني ... على ما بدا حتَّى يقومَ دليلُ
وقد صرح الإمام أحمد بن حنبل بالتأويل في غير موضعٍ (1)، فهذا يدلُّ على
__________
(1) قال ابن الجوزي في " زاد المسير " 1/ 225: في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ}: كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا، وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن =(8/291)
أنه لم يُخالف في وجوب التأويل أحدٌ ممن يُعْتَدُّ به من جميع الفِرَقِ، وإنما يُنكره في بعض المواضع من يُخالفنا مدَّعياً أن الدليل الذي ألجأ إليه غير صحيحٍ، فالمنازعة في الحقيقة إنما هي في الأدلة الموجبة له، والله أعلم.
المرتبة الثانية: من مراتب الوجود، وهي أُولى مراتب التأويل: الوجود الحِسِّي، وهو ما تمثل (1) في القوة المُبصرة من العين مما لا وجود له خارج العين، فيكون موجوداً في الحسِّ، ويختص به الحاسُّ، ولا يشاركه فيه غيره إلا من تمثَّل له في قوة بصره مثله، وكذلك كل ما يشاهده النائم، وكل ما يشاهده المريض من ذلك، وكل ما يتمثَّلُه أهل الكشف مما لا وجود له في الخارج، إذ قد (2) تتمثَّل لهم صورٌ لا وجود لها خارج حسهم (3) حتَّى إنهم يُشاهدونه كما نشاهد سائر الموجودات، وذكر بعض أهل العلم أنه قد يتمثل للأنبياء عليهم السلام صورٌ في حال الصحة واليقظة على هذه الصفة من غير وجودٍ حقيقي، وينتهي إليهم الوحي والإلهام بواسطتها، فيتلقَّوْنَ منها في اليقظة ما يتلقاه غيرهم في النوم، وأهل الكشف من الصُّوفية يذكرون مثل ذلك في حال اليقظة والصحة.
وبالجملة، فهذا متفقٌ عليه في المنام وحال تغير العقل، مثل حال المرض (4)، وأما في حال الصحة واليقظة، ففيه خلافٌ، ومن جوَّزه، احتج بأمورٍ:
أولها: قوله تعالى: {قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116]، وقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إليه من سِحْرِهِمْ أنَّها
__________
= أحمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره قال: وقد بينه في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}.
وانظر " فتاوى شيخ الإسلام " 16/ 404 - 406.
(1) في (ش): " يتمثل ".
(2) في (ش): " وقد ".
(3) " حسّهم " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): " المريض ".(8/292)
تَسعَى} [طه: 66]، وهذا -مع نصِّ القرآن عليه- معلومٌ من أحوال السَّحَرةِ وخواص السحر، وفيه ما يدلُّ على جواز وجود الشيء في قوة البصر على سبيلِ التخيل، وإن لم يكن له وجودٌ حقيقيٌّ في حال الصحة واليقظة، ألا ترى إلى قوله تعالى: {يُخَيَّلُ إليه من سحرهم أنها تسعى}، فإن فيه أنه من (1) رآها يُخَيَّل إليه أنها تسعى، وفيه أنها غير ساعيةٍ في الحقيقة، ولهذا سمَّاه تخييلاً، ومنه قوله تعالى: {فَتَمَثَّل لها بشراً سوياً} [مريم: 17]، ومنه تصوُّر الملائكة لقوم لوطٍ على صور شبابٍ حسانٍ، وتمثُّل جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - على صورة دِحية الكلبي مرة (2)، وعلى صورة أعرابيٍّ مرةً (3)، وإلى ذلك أشار ابن الفارض في قوله (4):
يرى ملكاً يُوحَى إليه، وغيرهُ ... يرى رجُلاً يوحى إليه بصحبَةِ
وفي الذكر ذكر اللَّبس ليس بمُنكرٍ ... ولم أعْدُ عن حُكمي كتابٍ وسنةِ
والصحيح: أن صورة جبريل العظيمة لم تُحوَّل عما هي عليه.
الحجة الثانية: قوله عليه السلام: " تنام عيناي ولا ينام قلبي " (5). فإذا ثبت أن قلبه لا ينام، فإنه يتخيل له في النوم ما لا حقيقة له، كما يُخيل له عليه السلام أن في سيفه ثُلْمَةً في وقعة أُحدٍ، وتمثَّلت له بقرٌ مُذَبَّحةٌ (6)، ونحو ذلك مما لا
__________
(1) " من " ساقطة من (د) و (ف).
(2) أخرجه أحمد 2/ 107، والنسائي في العلم من " الكبرى " كما في " التحفة " 5/ 444 من حديث ابن عمر، وصحَّح إسناده الحافظ في " الإصابة " 1/ 463.
وأخرجه النسائي 8/ 403 من حديث أبي ذر وأبي هريرة بإسناد صحيح. وأخرجه أحمد 6/ 148 و152، والطبراني في " الكبير " 23/ (85) من حديث عائشة، وفيه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف.
(3) انظر 5/ 505.
(4) " ديوانه " ص 60.
(5) تقدم تخريجه 1/ 176.
(6) أخرح البخاري (3041) و (3622) و (4081) و (7035)، ومسلم (2272)، =(8/293)
حقيقة له في الخارج، فكذلك غيره في اليقظة مثله في النوم، لأنه على هذا (1) يكون في حال نومه كمن غمض عينيه، وسدَّ أُذنيه، لا يغيب عنه إلاَّ إدراك الحواسِّ، وقلبه محفوظٌ، ولهذا قال ذلك تعليلاً، لكون نومه لا ينقض وضوءه، وفي هذه الحجة مباحث تركتها اختصاراً.
الحجة الثالثة: قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157]، وهي محتملةٌ لا يظهر فيها مرادهم والله أعلم.
الحجة الرابعة: قوله عليه السلام: " عُرِضَتْ علي الجنة والنار في عُرض هذا الحائط " (2)، فإنه عليه السلام قال ذلك في حال اليقظة، في حال صلاة الكُسوف كما ذلك معروف في كتب الحديث (3)، ويستحيل أن تكون الجنة والنار
__________
= والدارمي 2/ 129، وابن حبان من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً: " رأيت في رؤياي أنِّي هززتُ سيفاً فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أحد، ثمَّ هززته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء به الله من الفتح واجتماع المؤمنين، ورأيت فيها بقراً والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أحد ".
(1) " على هذا " ساقطة من (ش).
(2) قطعة من حديث مطول أخرجه البخاري (7294)، ومسلم (2359)، وابن حبان (106) من حديث أنس رضي الله عنه، وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) المعروف في كتب الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك بعد صلاة الظهر، فقد روي البخاري (540) من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج حين زاغت الشمس فصلَّى الظهر، فقام على المنبر فذكر الساعة، فذكر أن فيها أموراً عظاماً ثم قال: " من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلاَّ أخبرتكم ما دمت في مقامي هذا ". فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول: " سلوني ". فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي؟ قال: " أبوك حذافة " ثم أكثر أن يقول: " سلوني ". فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا بالله ربَّاً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً. فسكت. ثمَّ قال: " عُرِضَتْ عليَّ الجنة والنار آنفاً في عُرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر ". =(8/294)
مع سعتِهما انتقلتا إلى ذلك الحائط في الحقيقة، وإنما رآهما فيه كما ترى السماء في الماء. أو في المرآة تخيُّلاً لها هناك من غير حقيقةٍ، وإن كانت الرؤية بالمرآة حقيقة عند المخلصين من النُّظَّار، وإنما قصدتُ التمثيل، لانتقاش الصورة الكبيرة في الجسم الصغير، وفي احتجاجهم بهذا الحديث نظر، فإن ألفاظه الصحيحة تدل على أنها رؤيةٌ حقيقة، لأنه - صلى الله عليه وسلم - هم أن يأخذ من الجنة عُنقُوداً وقال: " لو أخذتُه لأكلتُم منه عُمْرَ الدنيا " أو نحو ذلك، وليس في الحديث أنه رآهما في الحائط فيما علمت، إنما فيه أنه رآهما مطلقاً وقَرُبا منه، والله أعلم.
الحجة السابعة (1): قوله عليه السلام: " يُؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبشٍ أمْلَحَ " (2) الحديث إلى آخره، وقد ثبت عند جمهور علماء الكلام أنه يستحيل أن يكون الموت جسماً على الحقيقة.
الحجة الثامنة: قوله عليه السلام: " من رآني، فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثَّلُ بي " (3)، وهذه الرؤية حِسِّيَّة لا حقيقية، إذ لا تكون رؤيته عليه الصلاة والسلام بمعنى انتقال شخصه الشريف من روضة المدينة، بل على سبيل وجود
__________
= نعم قد ذكر في صلاة الكسوف رؤيته - صلى الله عليه وسلم - الجنة والنار من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس، لكن لم يرد عندهم جملة: " من عُرض الحائط ". انظر " صحيح ابن حبان " (2832) و (2838) و (2841).
(1) كذا الأصول، فإما أن يكون الخطأ في العد، أو أنه سقط منه الحجة الخامسة والسادسة.
(2) تقدم تخريجه ص 276 من هذا الجزء.
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 261 و342 و410 و425 و463 و469 و472، والبخاري (6993)، ومسلم (2216)، وأبو داود (5123)، والترمذي (2280)، وابن ماجه (3901)، وابن حبان (6051) و (6052).
وأخرجه من حديث أبي جحيفة ابن ماجه (3904)، وأبو يعلى (881)، والطبراني في " الكبير " 22/ (279) - (281) و (301)، وصححه ابن حبان (6053).(8/295)
صورته الشريفة في حِسِّ النائمِ.
الحجة التاسعة: قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الطويل الثابث في الصحيح في وصف القيامة، قال فيه: " فيتمثَّل لكل فرقةٍ معبودها، فتتبعه حتى يقدم بها النار، ويتمثل لمن كان يعبد عيسى عليه السلام صورة عيسى، فيتبعها حتَّى تقذفه (1) في النار " أو كما جاء في بعض الألفاظ: " شيطان عيسى على صورة عيسى " (2) ولا يكون على هذه الرواية حجة صريحة والله أعلم.
وفي بعض الأحاديث: " ويبقى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - وأمته، فيتمثل الرب تبارك وتعالى لهم، فيأتيهم " الحديث خرَّجه الطبراني من طُرق من حديث عبد الله بن مسعودٍ، وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد ": ورجال أحد طرق الطبراني رجال الصحيح، غير أبي خالدٍ الدَّالاني، وهو ثقة، ذكره في باب جامع في البعث، ورواه قبل ذلك في أول كتاب البعث موقوفاً على ابن مسعودٍ، وخرجه الحاكم في الفتن من " المستدرك "، فقال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزاهد الأصبهاني، حدثنا الحسين بن حفصٍ، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كُهيلٍ، عن أبي الزَّعراء، عن ابن مسعودٍ، به، وقال: صحيح على شرط الشيخين (3).
وفي أول كتاب الزكاة من " جامع الأصول " (4) عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الذي لا يُؤدي زكاة مالِه يُخيَّل إليه مالُه يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان " الحديث. رواه النسائي وأحمد (5) من طريقين عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وهذا إسناد على شرط الشيخين، بل على شرط الجماعة، إلاَّ أن له علةً غير قادحةٍ ذكرها
__________
(1) في (ف): " تقذف به ".
(2) تقدم تخريجه من حديث أبي هريرة 5/ 84.
(3) تقدم تخريج حديث ابن مسعود 5/ 91 - 94.
(4) 4/ 569.
(5) أحمد 2/ 98 و137 و156، والنسائي 5/ 38 - 39.(8/296)
النسائي وهي: أنَّ عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار رواه عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال النسائي وهو أشبه بالصواب، وعبد العزيز عندنا أثبت من عبد الرحمن. انتهى من " أطراف " المزي (1).
وحديث أبي هريرة رواه البخاري والنسائي ولفظه " مُثِّل " بدلاً من " خُيِّل " كما يأتي قريباً (2). وهذه الرواية للمثال كالمنام الصَّادقِ، إلاَّ أنها في اليقظة، وتحتاج إلى التأويل والتعبير كالمنام، ذكر لي ذلك شيخُنا إمام هذه المعارف عمر (3) بن محمد العَرابي نفع الله به.
ويشهد لهذا أشياء كثيرةٌ معلومةٌ، لا يتسهَّلُ تأويلها لمن مذهبه التأويل إلا بذلك، كقوله تعالى: {أن بُورك من في النار ومن حولها} [النمل: 8]، وقوله: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [القصص: 30]، وهو يسمى عالم المثال (4) وهو قرآنيٌّ شهيرٌ. قال الله تعالى: {فَتَمَثَّل لها بَشَراً سويَّا} [مريم: 17]، ومنه رؤيانا له - صلى الله عليه وسلم - في المنام، ومنه مجيء جبريل عليه في صورة دحية وأعرابي، ومجيء الملائكة إلى إبراهيم ولوطٍ في غير صورهم، وذلك كله بقدرة الله تعالى لا بقدرة الملائكة، ولا نتكلم في ذات الله بشيء من ذلك إلاَّ أن يصح فيه الحديث،
__________
(1) " تحفة الأشراف " 5/ 459.
(2) انظر ص 299.
(3) تحرف في (ش) إلى: عمرو، وهو عمر بن محمد بن مسعود بن إبراهيم النشاوري اليمني المعروف بالعرابي نزيل مكة. أخذ باليمن عن أحمد الحرضي المقيم بأبيات حسين ونواحيها، وكان من جلة أصحابه وعن غيره من صلحاء اليمن، ثم قدم مكة في سنة (811)، فاستوطنها حتى مات لم يخرج منها إلاَّ لزيارة المدينة النبوية غير مرة، ومرةً في سنة (819) إلى اليمن، ورزق حظاً وافراً من الصلاح والخير والعبادة، وكان منور الوجه، حسن الأخلاق والمعاشره، مقصوداً بالزيارة والفتوح من الأماكن البعيدة، وتاب على يده خلق كثير، توفي سنة 827 هـ، ودفن بالمعلاة مترجم في " العقد الثمين " 6/ 360، و" الضوء اللامع " 6/ 131 - 132.
(4) قوله: " وهو يسمى عالم المثال " ساقط من (ش).(8/297)
ولكن شواهده كثيرةٌ، ويتخرَّج بإثبات عالم المثال مشكلاتٌ صعبةٌ كما ذكره بعض العلماء وذكره ابن قُتيبة في فقء موسى عين ملك الموت والله أعلم (1).
وليس في هذا تشبيهٌ، لأنه كالمنام، ولا ردٌّ لتكليم الله موسى، لأن الكلام صدر من الله حقيقةً، ولكن إسماعه موسى عليه السلام كان بواسطة ذلك المثال، كما أن جبريل عليه السلام كلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حقيقةً، وكلم مريم أيضاً حقيقةً، وإن كان السماع منه بواسطة المثال، وليس ذلك بأعجب من سماع كلام المتكلم من صدى الجبال حين يُجيبه، ولا من رؤية صورة الأشياء العظيمة في المرآة.
ومن أوضح الأدلة على نفي الحلول: ما اتفق أهل النقل على صحته من رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - الجنة والنار في عُرض الحائط وهو في الصلاة، حتى استأخر وتقدَّم ليأخذَ قِطْفَاً من الجنَّة ونحو ذلك.
الحجة العاشرة: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُوحى إليه وهو بين الناس، فيسمع صوت المَلَكِ، ويرى صورته، ويقرؤه، ويتحفَّظ منه، وليس من الحاضرين من يرى مَلَكاً، ولا يسمع قراءةٌ، وذلك في حال (2) يقظته عليه السلام، وفي غير مرضٍ، وهو حجة على من ثبت عنده من علماء الكلام من المعتزلة أن ذلك لا يصح على الحقيقة، وأنه لو كان ثم أصواتٌ مسموعةٌ، لوجب أن يسمعها الحاضرون.
الحجة الحادية عشرة: حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الذي لا يُؤَدِّي زكاة ماله يمثِّلُ الله له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان، ثم يلزمه
__________
(1) " تأويل مختلف الحديث " ص 276 - 278، وحديث ملك الموت وموسى عليه السلام هو عند ابن حبان (6223)، وانظر تخريجه فيه.
(2) " في حال " ساقطة من (ف).(8/298)
بطوقه، يقول: أنا كَنْزُك، أنا كَنْزُكَ". رواه البخاري والنسائي (1)، وله شواهد، والحجة: " يمثل ".
الحجة الثانية عشرة: أن ذلك من العلوم الضرورية التجريبية الحاصلة لمن ارتاضَ على مُلازمة الخلوة والذكر على شروط أهل التصوُّف، وقد ذكر الرازي في " مفاتح الغيب " أن أهل الخلوة يسمعون أصواتاً لا يشكُّ فيها، وأن هذا مما أقرَّت به الفلاسفة، لأنهم من أهل الخلوة والرِّياضة، ولم يقع النِّزاع في هذا، وإنما رُوِيَ النِّزاع في ماهيته، فروي عن (2) الفلاسفة أنه تخيُّلٌ كالمنام، ولا حقيقة له، واختار الرازي أنه حقيقةٌ، قال: ولا مُوجب للقول بأنه تخيل.
وهذا يقتضي أن هذا (3) أمرٌ مشهورٌ متواترٌ عن أهل الرياضيات، لكنه لا حجة فيه، وإن سلمنا صحته، إذ لا دليل على وجود تلك الأصوات وجوداً ذاتياً، وإنما تصير إلى الوجود الحسي في بعض المواضع، لتعذُّر الوجود الذاتي، ولكن يقوي قولهم إن صحت لهم التجربة الضرورية غير المسموع من الأصوات، وقد ادَّعوا ذلك في صورتين:
الصورة الأولى: ادعى أهل الرياضات من الصوفية أنهما يشاهدون ما خلف الحجاب الكثيف في حال اليقظة، وتواتر هذا عنهم، وهم جمعٌ عظيمٌ، لا يجوز عليهم التَّواطُؤُ على محض البَهت والكذب، فوجب حملُه على الوجود الحسِّي، إذ يستحيل عند جماعة المحققين من أهل الكلام أن يرى ما خلف الحجاب الكثيف، وأما الصوفية، فيسمونه عالم المثال، وقد جمع بعضهم به بين أحاديث ظاهرها التعارض، مثل قوله: "رأيت موسى قائماً في قبره يصلي
__________
(1) البخاري (1403) و (4565)، والنسائي 5/ 39، وأخرجه أيضاً أحمد 2/ 279 و355، وابن حبان (3258).
(2) " عن " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): " أنه ".(8/299)
عند الكثيب الأحمر" (1)، مع أنه رآه في السماء في ليلة المعراج وهذا مقام وَعْرٌ.
الصورة الثانية: اشتهر عند أهل العلم أن من خواصِّ بعض المرآة أن يرى منها الدنيا كلها، وهي المرآة المسمى بمرآة المنجِّم، وفيها يقول المعرِّي (2):
لقد عَجِبُوا لأهل البيت لما ... أتاهم عِلُمهم في مَسْكِ جَفْرِ
ومرآة المنجِّم وهي صُغرى ... أرتْهُ كلَّ عامرةٍ وقَفْرِ
وقد اشتهرت الرواية، بل تواترت، عن حيٍّ القاضي شرف الدين حسن بن محمد النَّحوي رحمه الله أنه رأى هذه المرآة مع بعض السَّيَّاحين، وأراه فيها أقاليم الدنيا، ومدائن الإسلام، وأراه فيها ما يعرفه القاضي من بعض مزارع صنعاء وحوائطها، ليعرف صِدقَه فيما يجهله من سائر ما رآه في الأقاليم، وحدثني (3) بذلك عن القاضي رحمه الله غير واحد من الثقات.
الحجة الثالثة عشرة: أنه قد ثبت بالضرورة أن العاقل المستيقظ الصحيح قد يتخيَّل الشيء الواحد اثنين، والقائم مُعوَجَّاً، كما يتخيل العمود في الماء، فدل على جواز هذا، لأن كل واحدٍ منهما نظر (4) كاذبٌ في اليقظة والصحة، وإنما كذب لخللٍ وقع، وعذرٍ اتفق في بعض هذه الحجج ما يقرب، وفيها ما هو ضعيفٌ، والله أعلم.
فإذا عرفت هذه الجملة، فلا بد من تفرقة بين الرؤية الحقيقية والحسية، وإلا لزم مذهب بعض منكري العلوم، والفرق في ذلك واضحٌ وهو أن الرؤية الحقيقية تفيد العلم الضروري بالوجود الحقيقي الذي لا يقبل التشكيك مع
__________
(1) أخرجه من حديث أنس ابن أبي شيبة 14/ 307 و308، وأحمد 3/ 120 و148 و248، ومسلم (2375)، والنسائي 4/ 215 و216، وابن حبان (49) و (50).
(2) في " اللزوميات " 2/ 553. المسك: الجلد، والجفر: ولد المعزى، وقد تقدم الكلام على الجفر في الجزء الأول.
(3) في (ش): " وحدث ".
(4) " نظر " ساقطة من (ش).(8/300)
الإصغاء إلى جانب الشك، وقال ابن عربي الصُّوفي في " الفتوح المكية "، في مقام المعرفة، في النوع السادس من علوم المعرفة، وهو علم الخيال وعالمه المنفصل والمتصل. وهو ركنٌ عظيمٌ من أركان المعرفة، وهذا هو علم البرزخ، وعلم عالم الأجساد التي تظهر فيها الروحانيات، وهو علم سوق الجنة والتجلي الإلهي في القيامة في صورة التبديل، وهو علم ظهور المعاني التي لا تقوم بنفسها مجسدة مثل الموت في صورة كبش، وعلم ما يراه النائم، وعلم المواطن التي يكون فيها الخلق بعد الموت وقبل البعث، وفيه تظهر الصور المرئية في الأجسام الضيائية، يعني المرايا، وهو واسطة العقد، إليه تعرج الحواسُّ، وإليه تنزل المعاني، وهو لا يبرَحُ عن موطنه تعضده الشرائع، وتثبته الطبائع، فهو المشهود له بالتصرف التامِّ، وله التحام المعاني بالأجسام محير الأدلة والعقول.
انتهى ذلك، ويعني بالمتصل: السريع انكشاف بطلانه، وبالمنفصل: البطيء، والله أعلم.
فإذا تقرر هذا، فاعلم أن جماعة من العلماء قد صاروا إلى تأويل أمورٍ كثيرةٍ بهذا الوجود الحسي، فمن ذلك حديث الترمذي في النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني ربي هذه الليلة، فقال لي: أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ " (1). فهذا الإتيان لا يجوز أن يكون موجوداً في الحقيقة، فوجب صرفه إلى الوجود الحسي، وقد جاء في بعض روايات هذا الحديث في " الترمذي " مفسراً (2) بأنها رؤية منامٍ نصَّاً لا تأويلاً.
ومن ذلك حديث حمَّاد بن سلمة مفتي أهل البصرة، فإنه روى عن ابنِ عباس في رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه جل جلاله حديثاًً شديد النكارة، تقشعر لذكره الجلود، ذكره الذهبي في ترجمة حمادٍ (3)، وساق طُرُقَه، ثم قال: فهذه الرؤية.
إن صحت رؤية منامٍ.
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 218 - 219.
(2) " مفسراً " ساقطة من (ش).
(3) في " ميزان الاعتدال " 1/ 593 - 594.(8/301)
وقد تكلم الحفاظ في حماد بن سلمة وقدحوا فيه على جلالته وأمانته لغير سببٍ إلاَّ لروايته لهذا الحديث، فاجتنبه البخاري، وترك روايته، وأما مسلمٌ، فروى عنه مقروناً بآخر، وأورد حديثه في الشواهد والمتابعات، إلاَّ حديثه عن ثابت، وأنكره عليه حميد الطويل التابعي الجليل، وقال: " القول هكذا، فقال حماد: يقوله أنس، ويقوله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأكتمه أنا؟! "
ويحتمل أن يكون من هذا القبيل حديث المواصلة في الصوم في قوله عليه الصلاة والسلام: " أني لست كأحدكم، إني أبيتُ يطعمني ربي ويسقيني " (1)، وحديث عيسى عليه السلام الذي فيه: " آمنتُ بالله وكذبت بصري " (2)، ومن هذا القبيل حديث المعراج بطوله، وما كان فيه من رؤية الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك على أحد قولي العلماء من المفسرين والمحدثين وغيرهم، وهو صريح رواية (3) البخاري في " صحيحه " (4).
والصحيح في الجمع بين الأحاديث ما ذكره بعض العلماء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ذلك في المنام قبل النبوة، ثم رآه في اليقظة بعدها، كما رأى دخول مكة في المنام، ثم في اليقظة، قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُون} [الفتح: 27]، وهذا تأويلٌ حسنٌ، لأن في الأحاديث الصحاح ما يدلُّ على أن معجزة الإسراء كانت في اليقظة، ومما صرح في متن الحديث الصحيح
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 281 و315، والبخاري (1965) و (6851) و (7299)، ومسلم (1103)، وابن حبان (3575) و (3576)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) نص الحديث من رواية أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " رأى عيسى ابن مريم رجلاً يسرق، فقال: أسرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلاَّ هو فقال عيسى: آمنت بالله، وكذبت عيني. أخرجه أحمد 2/ 214 و383، والبخاري (3444)، ومسلم (2386).
(3) في غير (ش): " رواه ".
(4) برقم (3207) و (3887) من حديث مالك بن صعصعة وأخرجه أيضاً مسلم (164)، وابن حبان (48)، وانظر تمام تخريجه فيه.(8/302)
أنه كان في المنام قول أنس مرفوعاً في حديث المعراج: " ثم دنا الجبار تعالى فتدلى، فكان قاب قوسين أو أدنى " (1).
ومنه أحد الأحاديث المتعارضة في وصف الدَّجال، وهو حديث ابنِ عمر المتفق على صحته (2).
وعلى كلا القولين، فهي رؤيا نبوةٍ ورؤيا حقٍّ، كان فيها إثبات التكليف بالصلوات، ورفع منار المناقب النبويات.
وإنما سقتُ الكلام في هذا الوجود الحسِّيِّ، وبسطت فيه، لأن بعض الأشاعرة والصوفية قد ضاقت عليه المسالك في تأويل تلك الأحاديث التي رواها السيد، فَتَمَحَّلَ في تأويلها وأبعد، فجعلها من هذا القبيل، وزعم أنه يحصل يوم القيامة من روعة الأهوال ما يُدهش العقول ويذهلها، كما قال تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2]، وإن أدنى الآلام تُغَيِّر العقول، فكيف بأهوال الآخرة؟
قال: ففي خلال تلك الأهوال تَذْهَلُ العقول، ويرى الناس ذلك الذي جاء في الحديث كما قال عليه السلام مثلما يرى النائم والمريض الشيء من غيرِ حقيقةٍ.
قال: والسببُ في رؤيتهم لذلك أن أهوال القيامة لما غَمَرَتْ عقولهم في
__________
(1) أخرجه البخاري (7517)، وأبو عوانة 1/ 125 و135 من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عن أنس بن مالك، وفي رواية شريك هذه أشياء انفرد بها، لم يتابعه عليها أحد من الحفاظ الأثبات الذين رووا حديث الإسراء وقالوا: إنه اضطرب في حديثه هذا عن أنس، وقال الحافظ في " الفتح " 13/ 485. ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك، ثم ذكرها، وذكر منها قوله: إن الإسراء كان مناماً، ونسبة الدنو والتولي إلى الله عز وجل، والمشهور أنه جبريل عليه السلام.
(2) البخاري (1354) و (1355)، ومسلم (2930) وهو عند ابن حبان (6785) وانظر تمام تخريجه فيه.(8/303)
بعض الأحوال، وكان التفكر في خطاب الله تعالى، وما يقول لهم، وما يكون منهم ملء قلوبهم، رأوا ذلك في خلال غمرات الألم، لاهتمامهم بذلك في حال استقامة العقل: قال: ولا يلزم على هذا التأويل أن يجوز في سائر أحوال القيامة أن يكون من هذا القبيل لوجوه:
أحدها: لأنه معلومٌ من الدين ضرورة أن وجود تلك الأحوال (1) كلها ذاتي حقيقيٌّ.
الثاني: إجماع المسلمين على ذلك.
الثالث: أنا بيَّنَّا أنه لا يجوز المصير إلى التأويل إلاَّ لضرورةٍ، ولا ضرورة هناك، والضرورة هنا ألجأت إلى التأويل، مثل ما أولنا كثيراً من تلك الأحاديث التي مر ذكرها، ولم نُؤول سائر أحواله عليه السلام بالمنام.
وأقول كما قال العلامة رحمه الله تعالى: هذا من ضيق العَطَن، والمسافرة عن علم البيان مسافة أعوامٍ، وكأنه توهم في هذه الأحاديث ما توهم السيد من تعذُّر بيانها من أساليب العرب في المجاز، فرَكِبَ الصعب والذُّلول في تأويله، وتقحَّم المسالك المتوعِّرة في تعليله، وسوف يأتي أن الأمر أقرب من ذلك، ولله الحمد.
المرتبة الثالثة: الوجود الخيالي، وهو صورة هذه (2) المحسوسات، إذا غابت في حسِّك، فإنك تقدِرُ على أن تخترع في خيالك صورة فيلٍ أو فرسٍ أو بعيرٍ، وإن كنت مُطبِقاً عينيك، حتى كأنك تشاهده وهو موجودٌ بكمال صورته في دماغك، لا في الخارج، وقد يمكنك أن تخترع صورةً في خيالك ليست في الوجود، ولكنها مجموعةٌ من أشياء موجودةٍ، مثل قصرٍ عظيم من جوهرةٍ شفافةٍ، وقد وردت اللُّغة بالتشبيه بهذا. قيل: ومنه قوله تعالى: {طَلْعُهَا كأنه رؤوس الشياطين} [الصافات: 65]، فرؤوس الشياطين غير معروفةٍ في الوجود، ولكن
__________
(1) في (ف): " الأمور ".
(2) " لهذه " ساقطة من (ش).(8/304)
في الخيال أن صورتها قبيحةٌ المنظر فصح (1) ورود التشبيه بها في القرآن العظيم بناءً على وجود صورتها في الخيال، ومن ذلك قول الشاعر:
بحرٌ من المسك موجُهُ الذهب
وقول الآخر:
أيقتُلْنَني والمشرَفِيُّ مُضَاجعي ... ومسنونةٌ زُرْقٌ كأنياب أغوالِ (2)
وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ إن شاء الله تعالى:
قال الغزالي: ومثال ذلك من الحديث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام عليه عباءتان قطوانيَّتان يُلبِّي، وتُجيبه الجبال والله تعالى يقول: لبيك يا يونس " (3) فالظاهر أن هذا إخبار عن مثل هذه الصورة في خياله عليه السلام، إذ كان وجود هذه الحالة سابقاً على وجود رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
المرتبة الرابعة: أن يكون للشيء حقيقةٌ، ويكون له معنى، فيتلقى العقل مجرد معناه دون أن يُثبت صورته في الخارج، ولا في الحس ولا في الخيال، كاليد مثلاً والنفس والعين، فإن لهن صوراً محسوسةً ومتخيَّلةً، ولهنَّ معنى يتلَّقاه
__________
(1) في (ش): " فيصح ".
(2) البيت لامرىء القيس من قصيدة مطلعها:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يَعِمَنْ من كان في العُصُر الخالي
والمشرفي: سيف منسوب إلى المشارف قرية تُعْمَلُ فيها السيوف، والزرق المسنونة: النبال شبهها في حدتها ومضائها وبشاعتها بأنياب الأغوال، وهذا تشبيه وهمي. انظر " الديوان " ص 142، و" معاهد التنصيص " 2/ 7.
(3) أخرجه الدارقطني في " الأفراد " كما في " كنز العمال " 11/ 519 بهذا اللفظ.
وأخرجه أحمد 1/ 216، ومسلم (166)، وابن ماجه (2891)، وابن خزيمة (2632) و (2633)، وابن حبان (3801) بلفظ: " كأنما أنظر إلى يونس على ناقة حمراء، خِطامُ الناقة خُلْبَة (ليف)، عليه جُبَّةٌ له من صوف، يُهِلُّ نهاراً بهذه الثنية ملبياً ".(8/305)
العقل منهن، فيسمى بأسمائهن، وهو البطش والقدرة لليد فتُسمى القدرةُ يداً، والإدراك للعين، فكل ما أدرك، سُمِّيَ عيناً، وإن لم يكن عيناً، ومحبة الشهوات للنفس، فكل من أحببت له الشهوات ونيل الأماني من ولدٍ أو محبوب سميته نفساً وروحاً. وأمثال ذلك.
وهذا هو المسمى بالمجاز في عُرف الأصوليين وأهل المعاني والبيان وأكثر التأويل يدور عليه، وفيه الجليُّ والدقيق، والقريب والعميق.
والمجاز: مرسلٌ واستعارةٌ، فالمرسل: الذي العلاقة فيه غير المشابهة، كاليد في القدرة والنِّعمة، وله أقسامٌ كثيرةٌ، والاستعارة: حيث تكون العلاقة هي (1) المشابهة، وهي مطلقةٌ ومجردةٌ ومرشحة.
فالمطلقة: التي لا تُتبع بصفات المشبَّه، ولا بصفات المشبه به.
والمجردة: التي لا تُتبع بصفات المشبه، مثل: أسد شاكي السلاح (2).
والمرشحة: التي تتبع بصفات المشبه به، مثل قوله:
له لبِدٌ أظفاره لم تُقَلَّمِ (3)
وقرائن التجوز ثلاث:
الأولى: العقلية، مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، لأنه يستحيل في العقل أن القرية تُخبر وتُجيب السائل.
__________
(1) " هي " ساقطة من (ش).
(2) من قوله: " والمجردة " إلى هنا سقط من (د).
(3) عجز بيت صدره:
لدى أسدٍ شاكي السلاح مُقَذَّفٍ
وهو لزهير بن أبي سلمى، من جاهليته السائرة:
أمِنْ أُمِّ أوفى دِمنةٌ لم تكلم ... بحومانة الدرَّاج فالمتثلّم
انظر " الديوان " ص 16 - 37.(8/306)
الثانية: العُرفية، مثل: بني الخليفةُ المدينة أو القصر، وهزم الأميرُ الجيش، وسد الثغر، ومنه: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36]، وإنما لم تكن القرينة هنا عقلية، لأن الخليفة (1) ممن يجوز في العقل أن يباشر هذه الأمور بنفسه، ولكن ذلك بعيدٌ في العرف، فلهذا (2) سُمِّيت عرفية.
الثالثة: اللفظية، وهي أن يكون في اللفظ ما يدل على التجوز، مثل: لدى أسدٍ شاكي السلاح، ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} [النور: 35]، فقوله {مَثَلُ نُورِهِ} يدل على أنه لم يرد أن الله هو النور، وإنما أراد أنه منوِّرُهما، ولو كان هو نفس النور، لقال: مثله، ولم يقل: مثل نوره، ومنها قوله تعالى في هذه الآية: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فهذه قرينةٌ لفظيةٌ تدل على أنه أراد بقوله: {مَثَلُ نُورِهِ} نور الهدى والعلم، وهذا هو النور المجازي، وأما النور الحقيقي، فقد ساوى الله فيه بين الناس، وهذه قرينةٌ لفظية، ليس معها غيرها، وأما التي قبلها، فهي مصاحبة للقرينة العقلية الدَّالَّةِ على أن الله تعالى ليس كمثله شيء.
وإذا تقرر هذا، فاعرف أمرين:
أحدهما من أنواع المجاز إسناد الفعل إلى ما يُلابس الفاعل الحقيقي أدنى ملابسةٍ على جهة التأويل في إسناد الفعل إلى غير الفاعل الحقيقي، ونعني بالتأويل أن يُقْصِدَ التجوز، ولا يقصد الإسناد الحقيقي، فإنه إذا قصده، كان الكلام حقيقةً، لا مجازاً، وكان المتكلم كاذباً، وذلك مثل قول المؤمن: أنبت الربيعُ البقل، وإذا لم يكن يتأوَّل، لم يكن مجازاً كقول الجاهل: أنبت الربيع البقل، ولهذا لم نحكم بالتجوز في قوله:
أشابَ الصغيرُ وأفنى الكبيـ ... ـر كَرُّ الغَدَاةِ ومرُّ العَشِي (3)
__________
(1) في (ش): " الأمير ".
(2) في (ش): " ولهذا ".
(3) البيت مطلع قصيدة للصّلتان العبدي واسمه: قُثَم بن حُبية شاعر أموي عاصر الفرزدق وجريراً، وله قصيدة في الحُكْمِ بينهما يقول فيها: =(8/307)
لما لا يعلم ولا يظن أن قائله لم يُرِدْ ظاهره، وإنما حكموا أن التجوز في قول أبي النجم (1):
مَيَّزَ عنه قُنْزُعاً عن قُنْزُعِ ... جذْبُ الليالي أبطئي أو أسْرِعي
لقوله:
أفناه قيلُ الله للشمس: اطلُعي
وله أقسام كثيرة.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن القرينة على التجوز متى كانت معروفةً عند
__________
= أرى الخَطَفَى بَذَّ الفرزدق شأوه ... ولكنَّ خيراً من كُلَيْبٍ مُجَاشِعُ
ففضَّل شعر جرير، وفضل قوم الفرزدق.
وبعد البيت الذي استشهد به المؤلف:
إذا هَرَّمَتْ ليلةٌ يومها ... أتى بعد ذلك يومٌ فَتِي
نَرُوحُ ونغْدُو لحاجاتنا ... وحاجَةُ من عاش لا تقضي
انظر " الشعر والشعراء " 1/ 502، و" خزانة الأدب، 2/ 182، و" معاهد التنصيص " 1/ 73.
(1) أبو النجم: هو الفضل بن قُدامة بن عبيد الله العجلي، وهو من رُجَّاز الإسلام، والفحول المتقدمين في الطبقة الأولى منهم، مات في آخر دولة بني أمية.
والرجز من قصيدة مطلعها:
قد أصبحت أمُّ الخيار تدعي ... عليِّ ذنباً كلُّه لم أصنع
مِنْ أن رأت رأسي كرأس الأصلع
والقُنْزُع كقُنْفُذ، والقنزعة، بضم الزاي وفتحها: وهي الشعر حوالي الرأس والخصلة من الشعر تترك على رأس الصبي، أو هي ما ارتفع من الشعر وطال، وجذبُ الليل: فاعل " ميز " قال في " الصحاح ": جذب الشهر: مضى عامته، وقول: ابطئي أو أسرعي: حال من الليالي على تقدير القول، أو كون الأمر بمعنى الخبر، وصحت من المضاف إليه، لأن المضاف عامل فيهما. وقيل الله: أمره.
انظر " خزانة الأدب " 1/ 363 - 364، و" معاهد التنصيص " 1/ 77.(8/308)
المتخاطبين، أو عليها دليلٌ قاطع يوجب اليقين حَسُنَتِ المبالغة في التجوز، وكان تناسي التشبيه أفصح وأبلغ، فإذا وصفت زيداً بأنه أسدٌ، جاز أن تنسُبَ إليه جميع صفات الأسد، كما في قوله:
لدي أسد شاكي السلاح مُقَذِّفٍ ... له لَبِدٌ أظفازه لم تُقَلَّمِ (1)
فوصف الرجل بصفات الأسد من اللَّبِد وطُول الأظفار، وكذلك لو أنك سقت الفن (2) صفةً من صفات الأسد إن أمكنك ذلك، فذكرت صفات الأسدِ ومحلّه وأشباله، ما ازداد المجاز إلاَّ حُسناً، ولم يكن ذلك مما صَعُبَ تأويله في لغة العرب أبداً.
قال علماء المعاني: ولأجل البناء على تناسي التشبيه صح التعجب (3) في قوله:
قامت تُظلِّلُني مِنَ الشَّمسِ ... نَفْسٌ أعزُّ علي من نفسي
قامت تُظلِّلُني ومن عَجَبٍ ... شمسٌ تُظَلِّلُني من الشمس (4)
فإنه إنما صح تعجُّبه تناسياً للتجوز، كأنها شمس حقيقية، فأما الشمس المجازية التي هي (5) المرأة الحسناء، فليس بعجبٍ أن تظلِّلَ من الشمس.
قالوا: ولهذا صح النَّهْيُ عن التعجب في قوله:
__________
(1) انظر ص 306، التعليق رقم (3).
(2) الفن: الطرد، وفن الإبل يفنُّها فناً: إذا طردها. انظر اللسان " فنن ".
(3) في (ش): " العجب ".
(4) البيتان لابن العميد أبي الفضل محمد بن الحسين بن محمد الكاتب. قال ابن الأثير: كان من محاس الدنيا اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره من حسن التدبير، وسياسة الملك، والكتابة التي أتى فيها بكل بديع على حسن خُلُق، ولين عِشرة، وشجاعة تامة، وكانت وزارته أربعاً وعشرين سنة، وعاش نيفاً وستين، ومات بهمذان سنة (360 هـ).
(5) من قوله: " فإنه إنما صح " إلى هنا سقط من (ش).(8/309)
لا تعجبِو مِنْ بلى غِلالته (1) ... قد زُرَّ أزراره (2) على القمر (3)
قالوا: ولهذا يُبنى على علو القدر ما يبنى على علو (4) المكان، مثل قوله:
ويَصْعَدُ حتى يظن الجهول ... بأن له حاجةً في السماءِ (5)
كل هذا ذكره علماء المعاني والبيان، وقد رأيتُ أن أزيد على ما ذكروه من الأمثلة في هذا النوع مطابقةً لمقتضى الحال، فإن الحال يقتضي في كشف غطاء البيان لمسيس الحاجة إلى ذلك.
فمن ذلك كلامُ إمام البُلغاء في هذا المعنى العلامة الزمخشري رحمه الله في " كشافه " في تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16]، فإنه (6) قد تكلم في هذا بما يشهد لما ذكرته (7)، فقال رحمه الله تعالى ما لفظه (8): فإن قلت: هب أن شِراء الضلالة بالهُدى وقع مجازاً في معنى الاستبدال، فما معنى ذكر الربح والتجارة، كأن ثم مبايعة على الحقيقة؟
__________
(1) في (ش): " غلائله ".
(2) في (ش): " أزرارها ".
(3) البيت لأبي الحسن بن طباطبا العلوي المتوفى سنة 332 هـ، وقبله:
يا من حكى الماءُ فرطَ رِقَّتِه ... وقلبه في قَسَاوةِ الحجرِ
يا ليت حظي كحظ ثوبك من ... جسمك يا واحداً من البشرِ
والغلالة شعار يلبس تحت الثوب. انظر " معاهد التنصيص " 2/ 129.
(4) عبارة "القدر ما يبنى على علو" ساقطة من (ش).
(5) البيت لأبي تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدة يرثي بها خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، ومطلعها:
نعاءِ إلى كُلِّ حي نَعَاءِ ... فتى العرب اختَطَّ رَبْعَ الفناءِ
انظر " الديوان " ص 331، و" معاهد التنصيص " 2/ 152.
(6) في (ش): " لأنه ".
(7) في (ش): " ذكر ".
(8) " الكشاف " 1/ 192 - 194.(8/310)
قلت: هذا من الصَّنعة البديعة التي تبلغ بالمجاز الذروة العليا، وهي أن تُساق كلمة مساق المجاز، ثم تُقفَّى بأشكال لها وأخوات إذا تلاحقن، لم يُر كلاماً أحسن ديباجةً، وأكثر ماء ورونقاً منه، وهو المجاز المرشح، وذلك نحو قول العرب في البليد:
كان أذني قلبه خطلاوان، جعلوه كالحمار، ثمَّ رشَّحوا ذلك روماً لتحقيق البلادة، فادَّعَوْا لقلبه أُذنين، وادعوا لهما الخَطَلَ، ليُمثِّلُوا البلادة تمثيلاً تلحقها ببلادة الحمار مشاهدة معاينة، ونحو ذلك:
ولمَّا رأيتُ النَّسْرَ عزَّ ابنَ دَأْيَةٍ ... وعشَّشَ في وكرَيْه، جاش له صدري (1)
لما شبَّه الشيب بالنسر والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. ونحوه قول بعض فُتّاكهم في أمه:
فما أم الردين وإنْ أدلَّت ... بعالمةٍ بأخلاق الكرامِ
إذا الشيطان قصَّع في قفاها ... تنفَّقناهُ بالحبْلِ التُّؤامِ (2)
أي: إذا دخل الشيطان في قفاها، استخرجناه من نافقائه بالحبل المُثَنَّى المحكم.
__________
(1) البيت أنشده الفراء كما في " اللسان " 5/ 405 و14/ 248، و" خزانة الأدب " 6/ 457، وفيها: " جاشت له نفسي " شبه الشيب بالنسر لبياضه، وشبه الشباب بابن دأيةٍ، وهو الغراب الأسود لأن شعر الشباب أسود.
وعزَّه يَعُزُّه: إذا غلبه وقهره، والمراد بالوكرين الرأس واللحية.
(2) دلت المرأة وأدلت: حسن تمنعها مع رضاها، ونفي علمها بأخلاق الكرام كناية عن سوء خُلُقِها، وقصع اليربوع: اتخذ القاصعاء أو دخل فيها، وهي جحره الذي يدخل فيه، وتنفق: اتخذ النافقاء أو خرج منها وهي الطرف الثاني من الحجر الذي خرج منه، وتنفقه الصائد: استخرجه منها، فلجحره بابان إذا أتاه الصائد من الأول خرج من الثاني، والحبل التؤام، الحبل المثنى المفتول.(8/311)
يريد: إذا حرِدَت وأساءتِ الخلق، اجتهدنا في إزالة غضبها، وإزالة (1) ما يسوء من خلقها استعار التقصيع أولاً، ثم ضم إليه التَّنفُّق، ثما الحبل التوأم.
وأنشد العلامة رحمه الله في غير هذا الموضع من " كشافه " (2):
ينازعُني ردائي عبدُ (3) عمروٍ ... رُويْدَكَ يا أخا عمروِ بن بَكْرِ
لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلَكَتْ يميني ... ودُونَك فاعتَجِرْ منه بشطرِ
قال رحمه الله: أراد بردائه: سيفه، ثم قال: فاعتجر منه بشطرٍ، فنظر إلى المستعار في لفط الاعتجار. انتهى كلامه.
ومن ذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِم} [الصف: 8] فذِكْرُ الأفواه هنا من هذا القبيل.
__________
(1) في " الكشاف ": " وإماطة ".
(2) 2/ 432. والبيتان غير منسوبين في " الإيضاح " ص 172.
والأول منهما في " اللسان " 14/ 317.
قال شارح أبيات الكشاف: استعار المنازعة لتسببه في امتداد السيف إليه حتى توسط بينهما كالشيىء يتجاذبه اثنان، واستعار الرداء للسيف بجامع حفظ كل لصاحبه، وعدم الاستغناء عنه، والاعتجار ترشيح، ومعناه التَّلَفُّح والتعمم، فهو ملائم للرداء، ويحتمل أن التركيب كله من باب التمثيل. وعبد عمرو: فاعل، ورويدك: اسم فعل بمعنى: أمهل، والكاف حرف خطاب، قاله الجوهري، وبالنظر لأصله، فهو مصدر، والكاف مضاف إليه، وفيه التفاتٌ، وبكر: أبو قبيلة، والشطر الذي ملكته يمينه: هو مقبض السيف، ودونك: اسم فعل بمعنى: خذ، أي: خذه فتلفع منه بالشطر الآخر، وهو مصدره والأمر للإباحة، وفيه نوع تهكم.
(3) تحرفت في (ش) إلى: " عند ".(8/312)
ومن بديع المعنى قوله رحمه الله يرثي شيخَه أبا مضر (1):
وقائلةٍ ما هذه الدُّرَرُ التي ... تَساقَطُ من عينيك سِمْطَيْنِ سِمْطَيْنِ
فقلتُ لها: بالدُّرُّ التي قد حشا بها ... أبو مُضَرٍ أُذْني تساقطُ من عيني
ومن مطرباته قول أبي العلاء المعري (2)، وقد أبدع فيه وأغرب:
وسألت: كم بين العقيق وبارقٍ (3) ... فعجبتُ (4) من بُعْدِ المدى المتطاولِ
وعذَرْتُ طيفَكِ في الزِّيارة إنه ... يَسري فَيُصْبِحُ دوننا بمراحِِلِ
فإنه لما جعل الطَّيف ممن يزورُ، تناسى التَّجوُّز حتى عيَّب عليه التأخر عن الزيارة، فكأنه سأل عن محل صديقه، فأخبره ببعده المفرط، فعذر بذلك الطيف، وعلم أنه لا يقدر على قطع تلك المسافة المتطاولة في ليلةٍ واحدة، وأنه لا يصح في الطيف أن يأتي في النهار، لأنه وقت اليقظة، وهذا المعنى بهر البُلغاء طرباً.
ومما جاوز الحد في الغرابة من هذا النوع: قول الزمخشري رحمه الله في الكناية عن الجماع:
__________
(1) هو محمود بن جرير الضبي الأصبهاني، مات بمرو سنة سبع وخمس مئة: مترجم في " معجم الأدباء " 19/ 123 - 124، و" بغية الوعاة " 2/ 276. والبيتان في " سير أعلام النبلاء " 20/ 154. وانظر بقية المصادر فيه.
(2) في " سقط الزند " ص 127.
(3) في " سقط الزند ": " إلى الغضى ".
(4) في " سقط الزند ": " فجزعت ".(8/313)
وقد خطبتُ على أعواد منبره ... سبعاً رِقاقَ المعاني جزلةَ الكلمِ
وقد اعترض رحمه الله في استعارة هذه الأمور الشريفة لما لا حظ له في مراتبِ الشرفِ.
وللشيخ ابن الفارض في المعنى دقائق لطيفةٌ، فمنها قوله في قصيدةٍ طويلةٍ (1):
كان لي قلبٌ بجرْعاء الحِمى ... ضاع منِّي (2) هل له رد عَلَيْ
فاعهدوا بطحاء وادي سَلَمٍ ... فهو ما بين كَداءٍ وكُديْ
فإنه لما تجوز في ضياع قلبه، بنى عليه ما يُبنى على الضياع الحقيقي، فأمرهم بطلب قلبه، وعيَّن لهم الموضع الذي فيه بكداء وكدي، وهما موضعان بمكة المشرفة.
ومن ذلك قوله (3)، وهو لطيفٌ:
وقالوا جَرَتْ حُمْراً دُمُوعُك قُلْتُ عن ... أُمورٍ جَرَتْ في كثرة الشوق قَلَّتِ
نحرتُ لِضيف (4) السُّهد في جَفْنِيَ (5) الكرى ... قِرىً، فجرى دمعي دماً فوق وجنتي
__________
(1) في " الديوان " ص 203 والبيت الأول منها:
سائق الأظعان يطوي البيدَ طي ... منعماً عَرَّجْ على كثبان طَيْ
(2) في (ش): " عني ".
(3) الديوان ص 112 من تائيته الكبرى، وفيها أبيات انتقدها عليه الأئمة من أمثال الحافظ العراقي، لأنه يصرح فيها بوحدة الوجود وقد بين ذلك البقاعي في كتابه " تنبيه الغبي " فراجعه.
(4) في " الديوان ": " لطيف ".
(5) في (ف): " عيني ".(8/314)
لما استعار لدمعه لون الدم، تناسى التَّجوُّز، فأخذ يخبرُ عن سبب تلك الحُمْرَةِ التي في دمه كأنها حمرةٌ حقيقة، ولما استعار للسُّهد اسم الضيف، ذكر ما يتعلق بالضيف من النَّحر، ولما جعل الكرى منحوراً، ذكر سيلان دمه على وجنته.
شربنا على ذكر الحبيب مُدَامَة ... سَكِرْنا بها من قبل أن تُخلَقَ الكَرْمُ (1)
لها البدر كأسٌ، وهي شمشٌ يُدِيرُها ... هِلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نجمُ
ولولا شذاها ما اهتدينا لحانِها ... ولولا سَنَاهَا ما تصوَّرها الوَهْمُ
فإن ذُكِرَتْ في الحي أصبح أهلُه ... نَشَاوَى، ولا عارٌ عليهم ولا إثمُ
ومن بين أحشاء الدِّنان تصاعَدَتْ ... ولم يبق منها (2) -في الحقيقة- إلاَّ اسمُ
ولو (3) خطرت يوماً على خاطر امرىءٍ ... أقامت به الأفراح، وارتحل الهمُّ
ولو نظر النُّدمان خَتْمَ إنائها ... لأسكرهُم من دُونها ذلك الختمُ
ولو نَضَحُوا منها ثرى قبرِ مَيِّتٍ ... لعادت إليه الرُّوح وانتعش الجسمُ
ولو طَرَحُوا في فيء حائط كرمها ... عليلاً وقد أشفى، لفارقه السُّقمُ
ولو نال قَدْمُ القوم لَثْمَ قِدامها ... لأكسبه معنى شمائلها اللثْمُ
هنيئاً لأهل الدير كم سكِرُوا بها ... وما شرِبُوا منها ولكنهم هَمُّوا
ودُونكها في الحان واستَجْلِهَا بها ... على نغم الألحان، فهي بها غُنْمُ
فما سكَنَتْ والهَمُّ يوماً بموضعٍ ... كذلك لم يسكُنْ مع النَّغَمِ الغَمُّ
يقولون لي صِفْها، فأنت بوصفِها ... بصيرٌ (4) أجَلْ عندي بأوصافها عِلْمُ
صفاءٌ ولا ماءٌ، ولطفٌ ولا هوى ... ونورٌ ولا نارٌ، وروحٌ ولا جِسْمُ
فإن الشيخ ابن الفارض لما ادعى أنه تولَّه في حب الله جل جلاله، شبه الحب في تلعُّبه بالعقول بالخمر المسكر، فاستعار اسم الخمر للحب، ثم أخذ يفتَنُّ في ترشيح الاستعارة بذكر أوصافِ الخمر، وتناسي التشبيه، فذكر
__________
(1) " ديوان ابن الفارض ": ص 179.
(2) في (ش): " فيها ".
(3) في (ش): " فإن ".
(4) في " الديوان ": " خبير ".(8/315)
الشُّرب، والساقي، والشذا، والحان، والنشوة، والدِّنان، وختم الإناء، والنضيج منها، والكرم الذي عنها منه (1) والحائط الذي كانت عروش العنب نيه، والسكر منها، والتهنئة لأهل الدير الذين سكِرُوا بها، وذكر مزجها، وشربها (2) صرفاً على الألحان التي تُصاحِبُها في العادة، وزوال الهم معها، ونحو ذلك.
فمن قال: هذا شعرٌ ركيك، غير بليغٍ، ولا فصيحٍ، فهو بهيمي الطبع، جامد القريحة، ومن أقر أنه عربيٌّ بليغٌ، في أعلى طبقات الصنعة البديعة عند أهل هذا الشأن، لزمه أن يقول فيما هو أقل منه ترشيحاً بدرجاتٍ كثيرةٍ من الكتاب والسنة أنه يستحيل أن يكون له تأويلٌ ووجهٌ في اللغة العربية عند جميعِ من أظلت السماء من أول الدهر إلى آخره من جميع الفُطناء والعلماء والبلغاء، وأرِنَا أيَّ تجوز في السنة بلغ إلى هذا المبلغ الذي ذكرته لك في البعد على الحقيقة، أو بلغ في الخفاء مبلغ بيت الزمخشري المقدم:
وقد خطبتُ على أعواد منبره ... سبعاً رقاق المعاني جَزْلَةَ الكَلِمِ
ومن يفهم من هذا البيت الكناية عن التَّمتُّع بالنساء، وأين في الكتاب والسُّنَّة نظير هذا؟.
فإن قلت: إن هذه المبالغات لا تجوز إلاَّ في الأشعار، لأنها كذبٌ محضٌ، والقرآن والسنة لا يجوز فيهما الكذب.
قلت: هذا جهلٌ بالبلاغة في اللغة، بل جهلٌ بالكتاب والسنة، لو لم يرد في جواز هذا والشهادة له بالبراءة من الكذب إلاَّ قول الله تعالى: {إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً} [الإنسان: 19]، فإنا نقطع أن من رأى الوِلدان الحِسَانَ لا يحسبهم لؤلؤاً منثوراً على الحقيقة، وإنما معنى الآية الشريفة: أنهم حسانٌ لا سوى، وكذا قول الكاتب: كلام لو مُزِجَ به ماء (3) البحر لَعَذُبَ، ليس بكَذِبٍ،
__________
(1) في (ش): " الذي منها ".
(2) " وشربها " ساقطة من (ف).
(3) " ماء " ساقطة من (ف).(8/316)
لأن معناه إنه كلامٌ بليغٌ لا سوى، وكذا سائر ما يتجوز فيه لا يفهم السامع منه إلا المدح بالمعنى الصحيح، دون ما يبدو من ظاهر لفظه، وإنما قبح الكذبُ لما كان الكاذب يقصد ما ليس بصدقٍ ولا فهم ذلك منه السامع، فوجب أن لا يصح من المجاز شيءٌ إلاَّ ما لم يدل على التجوز منه قرينة.
وقد أكثرت من الشواهد على المبالغة في التجوز لما ادعى السيد أن حديث جرير بن عبد الله البجلي (1) وغيره مما لا يمكن تأويله إلاَّ بتعسُّفٍ، فبالله قِسْ (2) ما مرَّ من التجوزات بحديث جريرٍ عند متأوِّليه، وسيأتي بيان ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
المرتبة الرابعة: الوجود الشبهي، وهي أن لا يكون نفس الشيء موجوداً، لا بصورته، ولا بمعناه، لا في خارج ولا في حسِّ، ولا في خيالٍ، ولا في عقل، ولكن يكون (3) الموجود شيئاً يناسبه في خاصةٍ من خواصه، وصفةٍ من صفاته.
قال الغزالي: مثاله الغضب والصبر ونحو ذلك ما ورد في حقه تعالى، فإن الغضب ألمٌ يعرِضُ في القلب، وانزعاجٌ يسكن بالتَّشفِّي، فهو عرضٌ مؤذٍ يحُلُّ بالقلب عند شعوره ببعض الأمور، وهذا لا ينفك عن نقصانٍ، فمن قام عنده البرهان من أهل الكلام على استحالة ثبوت حقيقة الغضب في حق الله تعالى ثبوتاً ذاتياً وحسياً وعقلياً وخيالياً، نزَّله منزلةً أخرى، وتأويله بثُبوت صفةٍ لله تعالى غير الغضب يصدر منها ما يصدر عند الغضب، وهي إرادة الانتقام وعدم العفو، ولا شك أن وجود إرادة الانتقام (4) لا يصدق عليها في الحقيقة أنها الغضبُ، لكن يصدق ذلك عليها مجازاً.
وهذه المرتبة الرابعة مندرجةٌ في ضمن المجاز المتقدم، ولكني أفردتها بالذكر على عُرْفِ المنطقيِّين في الفرق بين المجاز العقلي والمجاز الشبهي.
__________
(1) هو حديث الرؤية، وقد تقدم تخريجه 5/ 343.
(2) في (ف): " فسّر ".
(3) " يكون " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): " الإرادة للانتقام ".(8/317)
المرتبة الخامسة: دون هذه المراتب كلها، وهي الحكم بالوهم لدليلٍ يوجب ذلك.
والوهم أنواعٌ: فمنه الوهم في اللفظ، وهو صحيحٌ مأثورٌ، ومنه حديثُ عائشة في الصحيح في حق ابن عمر لما روى " أن الميت ليُعَذَّبُ ببكاء أهله عليه ". قالت عائشة: ما كذب، ولكنه وَهَلَ (1).
ومنه الوهم في المعنى، ومنه حديث قيام الساعة لمقدار مئة سنة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قال: " إنها لا تأتي مئة سنة حتى قد أتتكم ساعتكم " (2). هكذا ورد في بعض ألفاظ الصحيح، وساعتهم هي الموت، وهو معنى صحيحٌ، وقد غَلِطَ بعض الرواة في هذا الحديث، فرواه بلفظٍ يوهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد القيامة، فجاء بلفظ القيامة، أو البعث أو النشور، أو نحو ذلك من الألفاظ، فمثل هذا إذا وقع فيه الخطأ، لم يوجب رد الصحاح كلها، لأن الخطأ لا يسلم منه بشر، ولهذا صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من كذب عليَّ مُتعمِّداً، فليتبوأ مقعده من النار " (3)، فقيَّد الوعيد بالتَّعمُّدِ.
وأجمع العلماء على أنه لا يُجرح الثقة بالخطأ في الرواية (4) إلاَّ إذا كثر ذلك منه، واختلفوا في حد الكثرة ومبلغها على ما هو مقرر في كتب الأصول، وكتب أنواع علوم الحديث، ومن ذلك حَكَمَ جماعةٌ من النحاة واللغويين بلحن الرواة
__________
(1) أخرجه البخاري (1286 و1287 و1288)، ومسلم (927) و (928) و (929)، والنسائي 4/ 18 - 19، وابن حبان (3136). وانظر أيضاً ابن حبان (3123) و (3137).
(2) أخرجه من حديث أبي مسعود البدري أحمد 1/ 93، وابنه عبد الله في " زوائد المسند " 1/ 140، والطبراني في " الكبير " 17/ 1693، وأبو يعلى (467) و (583).
والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (372). وأورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 198، وقال: رجالة ثقات.
(3) تقدم تخريجه 1/ 190 و428 و449 و2/ 72.
(4) " في الرواية " ساقطة من (ش).(8/318)
وتصحيفهم، وقد تكلَّف ابن مالكٍ (1) الرد عليهم وتطلب الشواذ للاحتجاج عليهم، ورد عليه أبو حيان (2).
ولا شك أن الحكم بالوهم عزيزٌ، ويحتاج إلى تثُّبتٍ كثيرٍ، والتَّكلُّفُ في تطلب (3) الشواذ بعيدٌ أيضاً، وخيرُ الأمور أوسطها.
ومن أنواع الوهم: رفع الموقوف، وفيه خللٌ كثيرٌ، فإن الصحابي من جملة البشر، ويجوز عليه الخطأ في عقيدته وسائر أحواله، وقد يحسب الذي سمع الحديث مسنداً إلى الصحابي أنه حديثٌ نبويٌّ بشُبهتين:
إحداهما: الإسناد كما تُسنَدُ الأحاديثُ.
وثانيهما: كون المحدِّث قبل ذلك وبعده إنما يروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن أنواع الوهم: الإدراج (3) وهو في الخلل مثل الذي قبله، ومثاله: أن يتكلَّم الصحابي بكلامٍ من نفسه بعد الفراغ من رواية الحديث، والسامع يحسب أن ذلك الكلام من جملة الحديث النبوي، وقد يكون الإدراج من كلام الصحابي والتابعي ومن دونهما.
ومن أنواعه: الوهم في الأسماء، مثل أن يسمع الحديث من ابن الزبير، فيظنه عبد الله، وليس به، وإنما هو اليمني، أو العكس.
وقد يقع بذلك خللٌ كثيرٌ، فإن الثقة وغير الثقة قد يشتركان في الاسم، وفي اسم الأب أيضاً، ويشتركان في الكُنية، فيكون الحديث مرويّاً عن الضعيف، والسامع لا يعرف ذلك الاسم إلاَّ للثقة، فيرويه عن الثقة مصرحاً من اسمه وكنيته
__________
(1) هو جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي المتوفى سنة 672 هـ. انظر ترجمته في " طبقات الشافعية " للسبكي 5/ 28.
(2) هو محمد بن يوسف بن علي بن حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ. انظر ترجمته في " طبقات السبكي " 6/ 31.
(3) انظر بحث الادراج بتوسع في " توضيح الأفكار " 2/ 50 - 67.(8/319)
ونسبه بما لم يشاركه الضعيف فيه (1)، ومن ها هنا يحصل خللٌ كثير، وقد بالغ الحُفَّاظ في الاحتراز من هذا الخلل، وصنَّفوا في ذلك كتب العلل.
فهذا آخر وجوه الحامل، ومع إمكانه لا يجوز أن يحكم على الثِّقات بتعمُّدِ الكذب، وهو ممكنٌ غالباً، فإن التدليس قد اشتهر عن كثيرٍ من الثقات، كالحسن البصري، وسفيان الثوري وأمثالهما من الأعلام، فيحتملُ -إن كان لا بد من تكذيبٍ- أن يكونَ الكاذب من دلَّسُوه، وكتموا اسمه، ورَوَوْا عنه مع الجهالة بحاله، إما لأنهم يستحِلُّون الرواية عن المجهول كما هو مذهب جماعةٍ من العلماء كما تقدم بيانه، وإما لأنهم اعتقدوا أن ظاهره العدالة من غير كبير خبرةٍ وطول صُحبةٍ، ولم يكن كذلك في الباطن.
فإن قلت: فما وجه التدليس من الثقة؟
قلت: له (2) أسبابٌ كثيرةٌ.
منها: أن يكون حديثه عند المدلس صحيحاً، ويخاف إن صرَّح باسمه لا يُقبل، فيدلِّسه لئلاَّ يرد سنة صحيحة عنده.
ومنها: أن يكون في الحضرة من يكره الراوي، ويتناوله بالسب والأذى والغيبة والانتقاص من غير إستحقاقٍ لذلك، فيدلس الراوي اسمه، لئلاَّ يقع في فتنةٍ بذكره، وأمثال ذلك، والله أعلم.
المرتبة السادسة: الحكم بتكذيب الراوي، ولذلك شرطان:
أحدهما: أن يكون راوياً عن غيره (3) أمراً معلوماً أنه لا يحتمل التأويل.
وثانيهما: أن يكون معلوماً أنه لا يحتمل الخطأ والوهم، فإن لم يكن
__________
(1) " فيه " ساقطة من (ف).
(2) " له " ساقطة من (ش).
(3) عبارة " راوياً عن غيره " ساقطة من (ش).(8/320)
للحديث إلاَّ راوٍ واحد، حكم بتكذيبه، وإن كان راوياً عن غيره كرجال السند، فإما أن يكون السند بلفظ سمعتُ ونحوه، حكم بأن فيهم كاذباً غير معيَّنٍ، وإن كان بلفظ العنعنة ونحوها، واحتمل التدليس من بعضهم، وكان ظاهرهم العدالة حكم برد الحديث، وبعدالة الرواة، لأن الحكم بتعمد الكذب على الثقاتِ المعروفين بعيدٌ، فإن غلب على الظن أن الراوي تعمد الكذب، فإن كان ممن ظاهره العدالة والستر، لم يحل القول بأنه كذاب، وجاز التعريف بتلك القرائن الموجبة لتهمته بالكذب، وإن كان مجروحاً، وكثُرتِ القرائن الدالة على تعمده للكذب، فقد اختلفت طرائق أهل الأثر في هذا فمنه من يتجاسَرُ على وصفه بالكذب عملاً بالظن القوي المستند إلى الأمارات الصحيحة، مع القطع على أن الرجل مجروحٌ، وأهل التَّحرِّي منهم يقولون: متهمٌ بالكذب، وهذا هو الصواب إن شاء الله تعالى.
وأحسن المحامل الوهميَّات، الحكم بالوهم في نسبة الكلام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يحتمل أن يكون الراوي واهماً في نفس الكلام، وذلك مثل ما رُويَ أن أبا هريرة وكعب الأحبار كانا يجتمعان، فيحدِّث أبو هريرة عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحدِّثُ كعب الأحبار عن أهل الكتاب، والناس فجتمعون، فإذا راحوا حدثوا بما سمعوا، فربما وهِمَ بعض من ليس من أهل الحفظ، لا سيما مع عدم الملاحظة والدرس والتيقظ، لما في ذلك من الخلل العظيم فيحسب أن الذي سمع عن كعبٍ، عن أهلِ الكتاب (1) مما سمعه عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرويه كذلك (2).
__________
(1) " عن أهل الكتاب " ساقطة من (ش).
(2) أخرجه الإمام مسلم في كتابه " التمييز " ص 128: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، حدثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بسر بن سعيد: اتقوا الله وتحفَّظوا من الحديث، فوالله لقد رأيتنا نُجَالِسُ أبا هريرة، فيحدث عن رسول الله، ويحدثنا عن كعب، ثم يقوم، فأسمع بعض من كان معنا يجعل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كعب، وحديث كعب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قلت: وهذا إسناد صحيح على شرط =(8/321)
ومثل هذا إذا وقع حُكِمَ على صاحبه بالوهم حيث وهم، ولم يُجرح بالمرة، ويُطرح كل ما روى، إلاَّ أن يكثر منه الوهم، ويعرف بالبلة كما تقدم، ومثل هذا إذا اتفق، لم يبطل به علم الأثر، فإنه لو بطل علم الأثر بمثل هذا، لبطل أيضاً علم النظر بمثله، فإن الخطأ قد يقع كثيراً من حُذَّاق النُّظَّار وأهلِ التحقيق في الكلام، وتجد الأقوال الركيكة صادرةً عن أئمة علم المعقول، فكما أن علم النظر لم (1) يبطل بذلك، فكذلك علم الأثر لا يبطُلُ باتفاق الخطأ النادر، ولو كان ذلك يقدح، لحَرُمَ على الإنسان الرجوع إلى نفسه في كثير من المسائل والأحوال، لأنه قد يعلم من نفسه أنه قد وهِمَ وغلِطَ، والفطين يعلم أن ذلك جائزٌ عليه، وإن لم يكن قد اتفق له، مع أنه لا يوجد من لم يتفق له الوهم والخطأ، ولأنه كان يلزم مثله في أحوال الدنيا، فلا يعمل بخبر ثقةٍ أبداً، لأنه قد ينكشف عليه الوهم في نادر الأحوال، وذلك باطلٌ بالضرورة، وخلاف إجماع العقلاء.
فإن قلت: فرقٌ بين علم النظر والأثر، فعلم النظر يجب الوصول فيه إلى العلم، وبعد ذلك يحصلُ الأمان من الخطأ.
قلت: هذا صحيح، وعلم الأثر أيضاً قد حصل لنا العلم أن التكليف فيه بالظاهر المظنون دون القطع على الصحة في الباطن، فمتى سلم لنا الظاهر، فقد حصل العلم لنا أن قَبُولَه تكليفنا، ولا يضرُّنا ما وقع من الثِّقات من الخطأ، فمتى كثر وزال معه الظَّنُّ للصواب، بطل التكليف بخبر من هذه حاله.
إذا تقرر هذا، فاعلم أنه لا يحل القطع بأن المحدثين تعمدوا الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما ذكره السيد، وإن وجدنا في الحديث ما يُعلم قطعاً أنه لا (2) يصدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لاحتمال الوهم فيه أو التدليس عمن يقوى في الظن
__________
= مسلم، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن عبد الرحمن، ومروان الدمشقي فمن رجال مسلم.
(1) في (ش): " لا ".
(2) في (ف). " لم ".(8/322)
نسبة الوهم أو غيره إليه. والحكم بالوهم عليهم فيما كان كذلك أولى، لوجهين:
أحدهما: أنه (1) يحصل به الغرض من تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بقاء ما أجمعت الأمة عليه من الرجوع إلى كتب السنن وأحاديث الثقات.
وثانيهما: أن الحكم بتعمد الكذب مما لا دليل عليه، فكان القطع به محرماً لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 39]، ونحو هذه الآية الكريمة ولسائر (2) ما قدمته من المرجِّحات للتأويل على التكذيب، فخذه من هنالك.
تنبيه: إياك أن تسمع هذا الكلام، فيصرفك عن كتب السنة، واهماً أن حديثها قد اختلط فيه الصحيح بالضعيف، والخطأ بالصواب، فإن مصنفيها أئمة علم الأثر، ونُقَّاد هذا الشأن، وإليهم المنتهى في معرفة فنِّهم. فإذا كان الخطأ في كتبهم، فما ظنك بغيرها، بل هذا يحث الإنسان على الاعتماد عليها، والرجوع إليها، ألا ترى أنك لو وجدت خطأ في " كتاب " سيبويه في العربية، لم تطرح جميع ما رواه في " كتابه " لأجل ذلك، فإنه إذا جاز أن يُخطىء -مع عنايته بالفن- فكيف بمن هو دونه في العناية بفنِّه؟ وهذه إشارةٌ قد حققتُ المقصود منها في آخر مسألة المتأولين عند ذكر الإنصاف والخصيصتين، فخذه هنالك، ولا تقنع فهذا (3) الكلام في هذا المعنى نافعٌ جداً.
وهذا القدر كافٍ في التمهيد للجواب بإيراد المقدمات.
ولنشرع الآن في الجواب ونتكلم فيه على فصلين: فصل في الجواب الجُمليِّ، وفصل في المعارضات.
فأما الجواب على جهة التفصيل والتحقيق، فهو متعذِّرٌ لوجهين:
__________
(1) في (ش): " أن ".
(2) في (ش): " وسائر ".
(3) في الأصول: " بهذا ".(8/323)
أحدهما: ما قدمته من قُصوري عن بلوغ مرتبة التأويل، فإن التأويل لا يصح (1) إلاَّ من الراسخين في العلم على قول الخصم، فلو ذهبتُ إلى التأويل عن أساليب العلماء، لكنت قد ناقضتُ في كلامي.
وثانيهما: أن التفصيل والتحقيق يحتاج إلى بسط ٍكثيرٍ، فلعلي لو كنت من أهل ذلك، وتعرضت له، ما فرغ الكلام على هذه الأحاديث التي أشار السيد إليها إلاَّ في مجلدات، والذي أختار لنفسي ما يليق بمقتضى حالي في قصور باعي (2) في العلم، وعدم رسوخي فيه، وهو المروي عن الأكثرين من السلف.
قال النووي في " شرح مسلم " (3): اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات قولين:
أحدهما: -وهو مذهب معظم السلف أو كلهم، وهو مذهب جماعةٍ من المتكلمين، واختاره جماعةٌ من محققيهم، وهو أسلمُ-: أنه لا يُتكلَّمُ في معناها، بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها، ونعتقد لها معنىً يليق بجلال الله تعالى، مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيءٌ، وأنه منزَّهٌ عَنِ التجسيم إلى آخر كلامه، وهو محكي بلفظه، لكن فيه تقديم لبعض ما أخره.
قلت: وإنما ذهبوا إلى هذا واختاروه لوجهين: عقلي وسمعي.
أمَّا العقلي: فلأن المتأول إما أن يقطع أن تأويله هو مراد الله، وأنه لا تأويل سواه، فهذا خطأٌ، لأنه (4) لا دليل على أنه لا تأويل سواه يمكن أنه مراد الله، وأقصى ما في الباب أنه طلب، فلم يجد، لكن عدم وجود المطلوب لا يدل على عدم المطلوب في نفسه، وكم من عالمٍ يأتي بتأويلٍ، ثم يأتي غيره بأحسن منه، بل قد يأتي هو بأحسن منه فيما بعد، وإن لم يقطع على أن تأويله مراد الله،
__________
(1) في (ش): " مرتبة التأويل الذي لا يصح ".
(2) من قوله: " ما فرغ الكلام " إلى هنا سقط من (ش).
(3) 3/ 19.
(4) في (ف): " فإنه ".(8/324)
فمجرَّد الاحتمال (1) ليس بتفسيرٍ ولا معنى للظن إلاَّ في العمليات. ومن هنا تظهر لك قوة عدم علم الراسخين بتأويل المتشابه، لأن غايته أن يكون ظناً، فلا يجوز عطفه على علم الله عزَّ وجلَّ الذي لا يدخله (2) الظن.
فإن قيل: قد يُسمى الظن علماً.
قلنا: قد يكون كثيرٌ من التأويل لمجرد الاحتمال، ولا يُسمَّى علماً إجماعاً، وإن كان بالظنِّ، فلا يجوز هنا خاصةً تسميته علماً، لأنه مجازٌ، أو مشترك، وهو في حقِّ الله للعلم اليقين، فلو عطف عليه غيره، كنا قد استعملنا اللفظ في كلا معنييه، والصحيح أنه لا يجوز لغةً، وادعى أبو هاشم أنه محالٌ عقلاً.
وأما السمعي، فقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36]، وما رُوِيَ عن ابن عباسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال في القرآن بغير علم، فليتبوَّأ مقعده من النار. وفي رواية: " من قال في القرآن برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار ". أخرجه الترمذي، وحسنه (3).
وعن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال في كتاب الله برأيه، فأصاب، فقد أخطأ ". أخرجه أبو داود والترمذي وغرّبه (4).
وأما إجماع الصحابة على التفسير بالرأي، وقول أبي بكر في الكلالة: " أقول فيها برأيي " (5)، فإنما أرادوا بالرأي: التفسير للحادثة الخاصة بالعُموم اللغوي لكي لا يُوهموا أنهم سَمِعُوا ما حكموا به عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنصوصية. ألا ترى أن الكلالة في اللغة مطابقةٌ لتفسير أبي بكرٍ؟ فلم يكن تفسيره رأياً محضاً،
__________
(1) في الأصول: " الإجمال "، وهو خطأ.
(2) في (ش): " لأجله "، وهو خطأ.
(3) حديث ضعيف، وقد تقدم تخريجه 5/ 197.
(4) تقدم تخريجه 5/ 197.
(5) تقدم تخريجه 3/ 352.(8/325)
ولو سلم، فذلك (1) في العمليات، ولا نزاع فيها لضرورة العمل، وإمكان الوقف في غير العمليات، ولو سلم إجماع في مسألتنا، فظنِّي، ولا ينفع هنا، الحديثان المقدَّمان يعارضانه، وهذا الذي حكاه النَّووي عنهم هو اختياري لنفسي، ولمن هو لمثل صفتي، لكني اقول: إنما يجب علينا أن نؤمن بالمعلوم من ذلك، فأما المظنون، فنؤمن به على شرط أنه صدر عن الله، أو عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
قال النووي (2): والقول الثاني -وهو قول معظم المتكلمين- أنها تُتَأوَّل على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفاً بلسان العرب، وقواعد الأصول والفروع، ذا رياضةٍ في العلم.
قلت: وهذا الذي ذكره هو معنى الرسوخ في العلم، وأنا لا أُنكره على الراسخين في العلم إن تكلموا في ذلك بما يعلمونه، وإنما المنكر خبطُ الجُهَّال بغير علمٍ ولا هدى (3) ولا كتابٍ منير.
أمَّا الفصل الأول: فالجواب: أن السيد أيده الله ذكر أحاديث معينةً، وذكر أنه لا يصحُّ لها تأويلٌ.
فنقول له: هل مرادك لا يصحُّ لها تأويلٌ عندك؟ فمسلم، ولا يضرُّك تسليمه، أو مرادُك: لا يصحُّ لها تأويلٌ في علم الله تعالى، ولا عند أحدٍ من الراسخين، فممنوعٌ، ودليل المنع وجهان:
الوجه الأول: أن موسى عليه السلام لما تعلَّم (4) تأويل فعل الخضر عليه السلام، لم يجب ألا يعلمه (5) الخضر عليه السلام، فإذا جاز على موسى الكليم أن يجهل ما عَلِمَهُ غيره، جاز عليك أكثر من ذلك.
__________
(1) في (ش): " قولك ".
(2) " شرح مسلم " 3/ 19.
(3) " ولا هدى " ساقطة من (ش).
(4) في (ف): " لم يعلم ".
(5) في (ف): " إلى تعلمه ".(8/326)
الوجه الثاني: أن الملائكة عليهم السلام ما عرفوا حكمة الله في جعل آدمَ خليفةً في الأرض، فقالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك}، فلم يجب عليه إلاَّ بالجواب الجُمليِّ، فقال الله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقره: 30] فإذا كفى الملائكة العلم الجمليُّ، كفى كثيراً من المسلمين.
فإن قلت: فرقٌ بين الأفعال والأقوال، لأن الإيمان بحُسْنِ الأفعال على الجُملة تكفي، وأمَّا الأقوال، فلا بد من فهم معناها، وإلا لكان الخطاب عبثاً، والعبث لا يجوز على الله تعالى.
قلت: ما مرادك بقولك: يجب فهم معناها؟ هل تريد على جميع المسلمين أو على علماء المسلمين؟ فإن قلت: على جميع المسلمين، كنت قد جمعت بين المُناقضة والمباهتة.
أمَّا المناقضة، فحيث منعت المعرفةَ بتفسير كتاب الله في أوَّل جوابك، ثم أوجبت العلم بمعانيه في آخره.
وأما المباهتة: فلأنَّ الأمة مجمعةٌ إجماعاً ضرورياً على أن العلم بجميع معاني كلام الله تعالى جَليِّها وخفيِّها ومُحكمها ومتشابهها لا يجب على النساء والإماء والفلاحين وسائر عامَّة المسلمين.
فإن قلت: إنه لا يجب أن يكون كلام الله معلوم المعنى إلاَّ لعلماء المسلمين، فلم ننازِعْكَ في هذا، ولكنك ادعيت في كتابك أنك لست من العلماء، ولا ممن يعرف معاني كلام الله، لأنك شككت في إمكان الاجتهاد، ولا يصح هذا الشك وأنت مجتهدٌ.
وأما التفسير، فمنعت أنت معرفته بالمرة، فلا يجب إذا لم تعلم تأويل أغمضِ المتشابهات أن تقطع على عجز العُلماء الراسخين، مستدلاً على عجزهم بأنك عجَزت عَنِ المعرفة، لأنه لا مُلازمة في العقل ولا في الشَّرع بين(8/327)
جهل من هو معرفٌ أنه ليس من المجتهدين وجهل الراسخين في العلم حتى يستدل بأحدِهما على الآخر (1)، ولو كان يصح الاستدلال على جهل العلماء بجهل غيرهم، لوجب أن يكون العلماء لا يعرفون إلاَّ ما يعرف، وفي هذا غاية الفساد، وهذا الموضع يحتمل التطويل بإيراد أسئلةٍ ومعارضاتٍ ومُطالباتٍ لمدعي المعرفة بتأويل القرآن أن يفسِّرَ لنا آيات من القرآن العظيم، مثل قوله: {كهيعص} [مريم: 1]، وطلب الدليل على التفسير الذي يقوله: هل هو مجرد تجويزٍ؟ فليس بتفسيرٍ، أو هو قولٌ عن دليلٍ؟ فما ذلك الدليل؟ هل هو نص نبوي، أو نص لغوي، أو برهان عقلي، ويتفرع في هذا المقام أسئلة عويصة ومباحث صعبة تركتها اختصاراً وقد أوردتها في كتاب " ترجيح أساليب القرآن " (2).
الفصل الثاني: في المعارضات
وقبل الخوض فيها، أذكر مقدمة، وهي (3) أنه لا يلزمُني أن أقول بقوَّة الأسئلة التي أوردها، ولا أعتقدها، ولا يظن هذا إلاَّ من لا يعرف معنى المعارضة عند أهل النظر، وذلك لأنها تقتضي أن نُورد على الخصم مثل ما احتج به، وإن كان ضعيفاً عند المُورِدِ له، بل وإن كان باطلاً، وإنما يُورد لوجهين:
أحدهما: ليدفع المورد له عن نفسه ما يرِدُ عليه من ذلك القبيل، فيدفع الباطلَ بالباطلِ، ويكتفي بالشر من غير خُروجٍ من حقِّ، ولا دُخُولٍ في باطلٍ، ومثال ذلك قول أصحابنا والحنفية في الاحتجاج بالقيافة (4) على المنافقين،
__________
(1) في (ف): " بالآخر ".
(2) انظر ص 112 وما بعدها.
(3) في (ف): " وهو".
(4) القيافة: تتبع الأثر، يقال: قفوتُه أقفوه وقُفته أقوفُه وقفيتُه: إذا اتبعت أثره، والقائف يتبع الآثار، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، وحديث القيافة رواه البخاري (6770) و (6771)، ومسلم (1459) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل =(8/328)
وليست حجةً صحيحةً، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما استبشر بها لغَلَبِ الخصم الذي يقول بصحتها، لا بها في نفسها، فهي باطلةٌ.
الوجه الثاني: تعريف الخصم بضعف قوله الذي استلزم تلك الأشياء الضعيفة، فإن القوي لا يستلزم الضعيف، قال المنطقيون في الجدل -وهي من أنواعه-: إن الغرض به: إقناع القاصر عن دَرْكِ البرهان وإلزام الخصم.
إذا تقرر هذا، فاعلم أن المعارضات نوعان:
النوع الأول: أنها قد وردت عن سلفنا (1) رحمهم الله تعالى من أهل العدل والتوحيد من الزيدية والمعتزلة تفاسير كثيرةٌ يستبعدها كثيرٌ من الناس، وتأويلها في البعد مثل تأويل هذه الأحاديث التي أنكر السيد تأويلها، فمن ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] الآية، فإن ظاهرها يقتضي ما لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام من التشبيه، وقد تأولها الزمخشري (2) وغيره بأنه عليه السلام إنما أراد أن يحتج على غيره ويبيِّن له الدليل على حدوث الأجسام وبطلان ربوبيتها بدليل الأعراض. هذا معنى كلامهم.
فأقول: لا يخلو: إما أن يكون الاستبعاد يمنع من صحة التأويل، أو لا.
__________
= علي مسروراً تبرق أساريرُ وجهه، فقال: " ألم تري أن مُجَزِّزاً المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيداً وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض ".
قلت: كان الناس قد ارتابوا في نسب أسامة من زيد، إذ كان زيد أبيض اللون، وجاء أسامة أسود اللون، وكان المنافقون يتكلمون فيهما بما يسوء النبي - صلى الله عليه وسلم - سماعه، فلما قال: القائف ما قال مع اختلاف اللون، سُرَّ النبي بذلك، لكونه كافَّاً لهم عن الطعن فيه لاعتقاهم ذلك. وانظر " شرح السنة " 9/ 284 - 286.
(1) في (ش): " سلف الأمة ".
(2) في " الكشاف " 2/ 31.(8/329)
إن كان لا يمنعُ، جاز تأويل تلك (1) الأحاديث، ولم يمنع لمجرد الاستبعاد، وإن كان يمنع، فهذا التأويل المذكور في هذه الآية بعيدٌ لوجوه:
الوجه الأول: أنه لو أراد دليلَ الأعراض، لكفاه الاستدلالُ بدليلِ الأعراض على النجم، ولم يحتج إلى إعادة الدليل في حق القمر، ثم في حق الشمس، لأن دليل الأعراض دليلٌ كليٌّ، يدخل تحته، كل جسمٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، ولو كان المستدل به كلما رأى جسماً، لم يكفه ما مضى من الاستدلال حتَّى يعيد الدليل، لم يزل مستدلاً وهذا شيء لم يقل به أحدٌ.
الوجه الثاني: لو أراد ذلك، لم يكن لتخصيصها بالاستدلال معنى، فإن الحركة والسكون، جائزان على كلِّ جسمٍ من الحجارة والشجر والتراب والحيوان والسماء والأرض، فما خصَّ النجم ثم القمر ثم الشمس؟!
الوجه الثالث: أنه لم يحصل فيها دليل الأكوان مثل غيرها، لأنه عليه السلام ما رآها إلاَّ متحركةً فقط، ولا استدل إلاَّ بالأفول الذي يستلزم الحركة، وهو غير دليل الأكوان، فإنه لا يصح إلاَّ بالنظر إلى الحركة والسُّكون معاً.
الوجه الرابع: أن إبراهيم عليه السلام قد علم أن الشمس والقمر كانا آفِلَيْن قبل شروقهما، فلو استدل على طريقة المتكلمين في الأكوان، لم يكن الأفول الثاني بأدل على حدوثها من الأفول الأول.
الوجه الخامس: أن مسير هذه الأشياء إلى وسط السماء أو أقل من ذلك مثلُ أُفولها بالنظر إلى دليل الأكوان، لأن القليل والكثير من ذلك دالٌّ على الحركة والنقلة التي تدل على الحدوث.
الوجه السادس: أنه حين قال في القمر: هذا ربي، تأخر عن الجواب إلى أن غرب القمر في آخر الليل، ثم فعل ذلك في الشمس، فتأخر عنِ الجواب من طلوعها إلى غروبها، وذلك يبعُدُ من المحتج على غيره لوجهين:
__________
(1) " تلك " ساقطة من (ش).(8/330)
أحدهما: أن الخصم لا ينتظره في المجلس الواحد يتطلب الجواب يوماً وليلةً.
وثانيهما: أن المحتج على الغير لا يجوز أن يسلِّمَ للغير ما يدعي إلاَّ ويبين للغير في تلك الحال، أن تسليمه تسليم جدلٍ، ثم تعقَّبه بإبطال كلامه من غير تراخٍ، لأنه لو جاز أن ينطِقَ بالكفر، ويسلمه للخصم يوماً كاملاً مع حضور الدليل، لجاز ذلك شهراً أو سنة والعمر كله.
الوجه السابع: أنه عليه السلام قال عقيب أُفول القمر: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّين}. وهذا لا يقوله المناظر (1) في مثل هذه الحالة المجادل فيها عن الحق المُبين للغير، وإنما يقوله الناظر المتحيِّر في الاستدلال.
الوجه الثامن: أنه قال في الشمس: {هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَر}. وهذا لا يشبه كلام المجادلين للغير، المحتجين بدليل الأعراض، لأن ما كثر نوره مثل ما قل نوره بالنظر إلى دليل الأعراض، بل الجسم المنير والمظلم بالنظر إلى ذلك على سواءٍ.
الوجه التاسع: أنه قال: هذا ربي، ولم يقل للخصم: هذا ربك، ولا قال: هذا ربنا، ولا قال: هذا رب، وقلَّما يتفق مثل هذا من مُخاصمٍ لغيره وإن كان ذلك جائزاً، لكنه بعيدٌ.
الوجه العاشر: قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} فهذا يشعر بأن علة رؤيته للكوكب جنونُ الليل عليه، وعلة قوله: هذا ربي رؤيةُ الكوكب، كما تقول: فلما دخلتُ دار الإمارة، رأيتُ رجلاً وسيماً، قلت: هذا الأمير، ولو كان كما قالوا مخاصماً لغيره، لكان القياسُ: فلما قيل له: هذا ربُّك، قال: هذا ربي.
__________
(1) " المناظر " ساقطة من (د) و (ف).(8/331)
الوجه الحادي عشر: قوله تعالى بعد هذه الآية: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّه} [الأنعام: 80]، فعطف على هذه القصة قصةً أخرى، معناها أن إبراهيم تحاجَّ هو وقومه، فلو كانت القصة الأُولى محاجة مع قومه، لما حَسُنَ بعد الفراغ منها أن يُقال: وحاجَّه قومه كما لا يقال: اختصم زيدٌ وقومه في قِدَمِ العالم، فقال: إن ما فيه من الصنعة تدل على حدوثه، واختصم قوم زيد وزيد في حدوث العالم.
الوجه الثاني عشر: أن سياق الآية من أولها يدل على بعد التأويل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 75 - 76] الآية، فظاهر هذا السياق يدلُّ على أن الله تعالى أراه الملكوت ليؤمن بالله تعالى ويستدل عليه، لا ليناظر ويجادل، وفي هذا السياق ما يدل على أن إبراهيم عليه السلام ما كان قد رأى السماوات والأرض، وأنه كان محجوباً، كما قد رُوِيَ ذلك (1).
فإذا تأملت هذه الوجوه حق التأمل، وتركت العصبية، علمت أن قول الزمخشري وغيره بعيد في تأويل هذه الآية، وأين هذه الآية من دليل الأكوان الذي ينبني على أربع دعاوي، وهي أن (2) الأجسام لا تخلو من الأعراض، ولا تتقدمها، وأن الأعراض أمورٌ ثبوتيةٌ، وأن هذه الأعراض محدَثَة، وأن ما لم يخل من المحدث، ولم يتقدمه، فهو محدث مثله.
وإذا كان هذا التأويل قد صدر من علامة المعاني والبيان، وإمام البلغاء بغير منازعةٍ، وكان الجِلَّةُ من العلماء مستمرين على قراءته من غير اعتراضٍ عليه، ولا تشكيكٍ فيه، فإني سأبيِّنُ أن تأويل تلك الأحاديث التي أنكر السيد تأويلها قريبٌ من هذا على قانون أهل التأويل، وهذا على بعد الزمخشري من التأويلات البعيدة.
__________
(1) " ذلك " ساقطة من (ش).
(2) " أن " ساقطة من (ش).(8/332)
ومن ذلك تأويل الزمخشري رحمه الله لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، فإنه أولها بما معناه (1): وإن من شيء إلاَّ يدل على أن الله يستحق التسبيح، ولكن إذا رأيتم هذه الأشياء لم تفقهوا ما فيها من الدِّلالة على استحقاقه للتسبيح، هذا معنى كلامه، وقد قدمت ما فيه من النظر، لأنه لا ملجىء إليه مع ما فيه من البعد.
فأمَّا غير الزمخشري رحمه الله من المفسرين على أساليب أهل الكلام، فلهم تأويلاتٌ بعيدةٌ، وفي " تهذيب " (2) الحاكم رحمه الله كثيرٌ من هذه الأشياء، منها في تفسير: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 27 - 28]، فإن الحاكم رحمه الله أنكر صحة عودهم إلى ما نهوا عنه بعد مشاهدة القيامة وأهوالها، وتأول الآية على أن المراد: إذا رُدُّوا إلى الدنيا كما يُرَدُّ من النوم إلى اليقظة، قال: فأما بعد المعاينة والعلم الضروري، فلا يجوز الرد إلى حال التكليف، للإلجاء الحاصل. هذا لفظه.
والعجب كيف يستغرب أن تحمل الآية على أنهم لو رُدُّوا كالرد من النوم إلى اليقظة، لعادوا لما نهوا عنه، والله قد نص على أنهم إنما تمنوا الرد لما وُقِفُوا على النار، وبدا لهم ما كانوا يخفون من قبل: وكذَّبهم الله في قوله في تلك الحال: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ}، فقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْه}، وأكَّد ذلك بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون}.
وإذا كان هذا التأويل قريباً، فنحن لا نتأول تلك الأحاديث بأبعد من هذا، وان كان بعيداً، ولا ننكر على صاحبه فما بال تلك الأحاديث اختصت بالإنكار.
__________
(1) " الكشاف " 2/ 451.
(2) هو الحاكم الجشمي، وقد تقدمت ترجمته 1/ 296 و2/ 333.(8/333)
وبالجملة، فهذا بابٌ واسعٌ، فقد أنكرت معتزلة بغدادٍ الظواهر المفهومة من القرآن الدالة على أن الله سميعٌ بصيرٌ، وتأولوا ذلك على معنى أنه عالمٌ فقط، وفي تأويلهم لذلك بعدٌ. وقد ذهب جماعةٌ من أهل العدل والتوحيد كالشيخ أبي الحسين وأصحابه إلى أن إرادة الله تعالى هي علمه لا سوى، وهذا أيضاً بعيدٌ، وقدِ اختاره الفقيه عبد الله بن زيدٍ، وفي السمع ما يصعب تأويله على هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 85]، فإنه يبعد أن يكون معناه: يعلم الله بكم اليسر، وهذا القبيل كثيرٌ، حتى إن طائفةً من المعتزلة أنكروا وجُود الشيطان على الحقيقة، وادعوا أن جميع ما في القرآن من ذكره مجازٌ، والمراد به الشهوة أو نحو ذلك وفي السمع ما يصعب تأويله على هذا، مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27]، ومثل قصته مع آدم عليه السلام، وخطابه له، ومقاسمته، وسؤاله للإنظار من الله تعالى، ونحو ذلك.
وفي سلفنا رحمهم الله من كان يؤثر عنه تأويل العرش والكرسي بالمُلك (1)، وفي القرآن ما يصعب تأويله على هذا المعنى، مثل قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، وقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، ونحو ذلك.
وقد فسر الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام آية النور في كتابه " الحكمة الدُّرِّية " (2) بتفسيرٍ بعيدٍ، فأول الزيت بالعقل، والنار
__________
(1) جاء في نسخة (ش) بخط الإمام الشوكاني ما نصه: هو الهادي عليه السلام، وله كتاب سماه كتاب " العرش والكرسي "، وقفت عليه ...
قلت: الإمام الهادي: هو يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي، وقد تقدمت ترجمته 3/ 458. وكتابه هذا توجد منه نسخة خطية في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء ضمن المجموع رقم 230. انظر فهرس المكتبة ص 810.
(2) واسمه الكامل: " الحكمة الدرية والدلالة النبوية ". منه نسخة خطية في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء. انظر الفهرس ص 157.(8/334)
بالشرع، والزجاجة والمصباح والمِشكاة والشجرة والكوكب الدُّرِّي برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وهذا تأويلٌ بعيدٌ، ومع بُعده، فلا ملجىء إليه، لأن ظاهر الآية مما يجوزُ إرادته.
وللإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة أغرب من ذلك، وهي تأويل الآية الكريمة في قصة هاروت وماروت وما أُنزل عليهما، فإنه ذكر أن ذلك كله مَثَلٌ ضربه الله تعالى على سبيل التجوز، ولا حقيقة لشيء من ذلك. حكاه لي الإمام المنصور بالله علي بن محمد بن علي.
ولمجاهدٍ التابعي الجليل مثل ذلك في اليهود والمخسوف بهم قردةً، قال: هو مثلٌ ضربه الله، حكاه عنه ابن كثير في " البداية والنهاية " في المجلد الأول (1).
وللحاكم (2) رحمه الله تعالى قريبٌ من هذا في فضائل علي عليه السلام وأبي بكرٍ وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ذكره في كتابه " السفينة ".
فإذا نظر الإنسان إلى كثيرٍ من تأويلات العلماء قديماً وحديثاًً، وجد فيها البعيد والقريب، فلا ينبغي أن نُنكر على من قال بصحَّة بعضِ الأحاديث، وجواز أن لها تأويلاً عند العلماء، أو تأولها بمثل هذه التأويلات، فإنه لم يؤثر عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى النكير على من تأول تأويلاً ضعيفاً مستبعداً متى كان صحيح العقدة، والاختلاف في أن هذا التأويل قويٌّ أو ضعيفٌ أو متعسَّفٌ، لا يحتمل الإنكار والتشنيع، فتأمل ذلك.
__________
(1) 2/ 113، وذكره أيضاً في " التفسير " 1/ 109، وقال في " البداية والنهاية ": وهذا صحيح إليه، وغريب منه جداً، ومخالف لظاهر القرآن، ولما نص عليه غير واحد من السلف والخلف، والله أعلم.
(2) هو أبو سعيد المُحَسِّن بن محمد بن كَرَّامة الجشمي البيهقي الحنفي ثم الزيدي، وكتابه " السفينة " يقع في أربع مجلدات ومضمونه التاريخ جمع فيه سيرة الأنبياء وسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسيرة الصحابة والعِترة وهو معتمدٌ عند الزيدية يكثرون النقل عنه، والإفادة منه.(8/335)
النوع الثاني من المُعارضات: فهو أنا نُورِدُ في تأويل تلك الأحاديث نظير ما ورد في تأويل القرآن العظيم من غير أن نكون قائلين بأن ذلك التأويل هو معنى الحديث قطعاً، لأني أختار لنفسي مذهب السلف المقدم وكما سبق موضحاً في الوهم الخامس عشر، ولجواز أن يكون له معنى هو أصحُّ من ذلك، وإنا لقصورنا لم نهتد إليه، وقد بيَّنتُ قصوري عن مرتبة التأويل، وإنما مرادي أُورد مثل كلامهم على وجهٍ يعرف المنصف أن مثله مما لا طريق إلى العلم القطعي بأن أهل تلك التأويلات لو سمعوه، لأجمعوا على أنه باطل.
فأقول: قد انتخب السيد أحاديث من أدقِّ ما وجد، وأنا أتكلَّم على كلِّ حديثٍ منها مستعيناً بالله تعالى:
فالحديث الأول: فقد ثبت أن عُلماء المعاني والبيان والزمخشري ومن لا يُحصى كثرةً قالوا في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} [الأنعام: 158]، كل هذا قالوا فيه: إن إسناد المجيء والإتيان إلى الله تعالى مجازٌ، وهو من قبيل الإيجاز: أحد علوم المعاني والبيان، وهو حذف بعض الكلام لدلالة القرينة على حذفه، والقرينة الدالة هنا هي القرينة العقلية، وهي أقوى القرائن دلالة، وكان هذا مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ} [يوسف: 82]، أي: أهل القرية، قالوا: المعنى: وجاء أمر ربك أو عذابه، أو نحو ذلك من المقدورات.
فنقول: وكذلك الحديث الذي رواه السيد، وفيه: " فيأتيهمُ اللهُ "، وفي رواية " أتاهم ربُّ العالمينَ " (1)، فيه حذفٌ وتقدير، فيقال: المرادُ أتاهم مَلَكٌ من ربِّ العالمين، أو أتاهم رسول رب العالمين. وقوله: إني ربكم: أي رسلُ
__________
(1) قطعة من حديث أبي هريرة في الرؤية، وقد تقدم تخريجه في الجزء الخامس.(8/336)
ربكم، وكذلك قولهم: أنت ربنا: أي رسول ربنا، وإذا جاز تأويل لفظٍ على معنى، جاز تأويله على ذلك المعنى، وإن تكرر منه مرة فالعمدة أن الدليل العقلي صارف عن الظاهر، وإلا فالذي في القرآن من المتشابه في هذا المعنى يوهم أنه على ظاهره لو لم يكن ثمَّ دليل عقليٌّ يوجب التأويل من غير خلافٍ في هذا، وقد ذكرنا في المقدِّمات أن الترشيح لغويٌّ صحيحٌ متى ثبت معرفة المخاطب بالتجوز، وتقدمت أمثلة ذلك، فلا ينكر ما ورد من ذلك ولو كثر وإنما تجد النكارة لعدم وضوح الدليل في نفس السامع تارة، وفي نفس الأمر أخرى إلا من سمع جناح الذل لا يجد شكاً في معرفة المعنى وأنه مجاز وإن لم يكن من العارفين بخلاف من سَمِعَ قوله تعالى في آدم عليه السلام: " خَلَقْته بيدي " وقد ذكر النووي في " شرح مسلم " (1) تأويل هذا الحديث فقال ما لفظه: وقيل: المراد يأتيهم الله، أي: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي عياض: وهذا الوجه أشبه عندي بالحديث. قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات (2) الحديث الظاهرة على الملك والمخلوق.
قال: أو يكون معناه: يأتيهم الله في صورةٍ أي بصورةٍ ويُظهر لهم صورة ملائكته ومخلوقاته التي لا تُشبه صفات الإله ليختبرهم (3). وهذا آخر امتحان المؤمنين، فإذا قال لهم: هذا الملك، أو هذه الصورة: أنا ربكم، رأوا عليه من سمات المخلوقين ما يعلمون به أنه ليس ربهم، ويستعيذون بالله منه.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - (4): " فيأتيهم الله في صُورته التي يعرفون بها "، فالمراد بالصورة هنا: الصفة، ومعناه: فيتجلَّى (5) لهم على الصفة التي يعلمونها وإنما عبَّر في الصفة بالصورة، لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام، فإنه تقدم ذكر الصورة.
__________
(1) 3/ 19 - 20.
(2) في (ف): " صفات ".
(3) في (ف): " ليحيرهم ".
(4) في الأصول: وأما قولهم، والمثبت من " شرح مسلم " 3/ 20.
(5) في (ف): " فتجلى ".(8/337)
وأما قولهم (1): " نعوذ بالله منك "، فقال الخطابي: يحتمل أن تكون الاستعاذة من المنافقين خاصةً، وأنكر القاضي عياض هذا.
قال النووي: وما قاله القاضي عياض هو الصواب، والحديث مصرِّحٌ به، أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه لما قدَّمناه من كونهم رأوا سِمَات المخلوق.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيتبعُونه "، فمعناه: فيتبعون أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة. انتهى.
وفيه ما يُوافق ما ذكرته ولله الحمد، إلاَّ أن قوله: " يتجلَّى على صفة " يحتاج إلى تأويلٍ كتأويل قوله تعالى: {فلما تَجَلَّى رَبُّهُ للجبل} [الأعراف: 143]، فأقول: يحتمل على أساليب المتأولين أن المراد بـ (تَجَلَّى) ما يدلُّ على عِظَم (2) قُدرته، وإحاطة علمه من عجائب أفعاله المُعجزة التي نعلم بها أنه المتكلم المخاطب.
ومن هذا القبيل -ولم يذكره السيد- حديثُ نزول الرب جل جلاله كل ليلةٍ إلى سماء الدنيا (3)، أوَّلوه بنزول ملكٍ، وليس في الحديث الذي رواه السيد أكثر من هذا الذي ذكرته إلاَّ ثلاثة أشياء: أحدها: ذكر أنهم سجدوا له (4)، والجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنه يجوز أن يكون قَصَدُوا بالسجود: التَّعبُّدَ لله تعالى عند رؤيتهم
__________
(1) في (ش): " قوله ".
(2) في (ف): " عظيم ".
(3) والحديث بتمامه: " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ ".
أخرجه من حديث أبي هريرة مالك 1/ 214، وأحمد 2/ 287 والبخاري (1145) و (6321) و (7494)، ومسلم (758)، وأبو داود (1315)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (480)، وابن حبان (920)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) " له " ساقطة من (ش).(8/338)
لذلك الملك تعظيماً لله حين رأوا من مخلوقاته العظيمة ما يُوجب الزيادة في التعظيم، ولا نص في الحديث يُبطِلُ هذا.
وثانيهما: أنه يجوز السجود للملك على سبيل التعظيم والتكرمة دون العبادة، وإنما حرَّم هذا علينا بالشرع، وقد سجدت الملائكة لآدم عليه السلام، فأولى أن يسجد بنو آدم لملكٍ من الملائكة الكرام، وقد سجد ليوسف إخوته عليه السلام.
الأمر الثاني مما ورد في الحديث: ذكر الصورة، وأنه جاءهم على صورتين، فقد ذكر أن الذي جاءهم على قول كثيرٍ من أئمة التأويل مَلَكٌ من ملائكة الله تعالى، وذلك جائزٌ في حقه.
فإن قلت: لا يجوز أن يكون للملك صورتان، وإنما المعروف أن له صورة واحدة؟
أجبنا بوجهين:
أحدهما: أنه لا مانع من ذلك، فذلك في قدرة الله تعالى.
ثانيهما: أنه قد جاء حديثٌ صحيح في تفسير تينكَ (1) الصورتين، وأنه جاءهم في الليلة الأولى محتجباً عنهم، وفي المرة (2) الثانية متجلِّياً لهم. رواه الحافظ العلوي في كتاب " الأربعين "، وقد تقدم ما ذكره القاضي عياض والنووي في تأويل الصورة بالصِّفة، وفيه كفايةٌ، وقد تقدم في المرتبة الثانية ذكر حديث ابن مسعودٍ الذي خرَّجه الطبراني والحاكم في الفتن، وصححه على شرطهما في تمثل الرَّبِّ تعالى وتبارك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمَّته، ومن أحب التَّقصِّي بجميع الوجوه المُحتمِلَةِ للتأويل، وهذا الحديث بعينه، وفي أمثاله، فليطالع كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي رحمه الله، وقد حكى الله تعالى عن خليله عليه السلام ما حكى حين رأى النَّجم، ثم القمر، ثم الشمس. قيل: إن ذلك في
__________
(1) في (ش): " تلك ".
(2) " المرة " ساقطة من (ش).(8/339)
أوَّلِ أحوال النظر، وربما كان في حقه عليه السلام قبل بُلوغ التكليف على ما رُوِيَ في بعض الآثار، وليس يلزم من هذه الأشياء ما توهَّمته الاتحادية من أن الرب جل جلاله، الموصوف بالأسماء الحسنى، مجرد خيالٍ كالأحلام، وأنه لا حقيقة له إلاَّ الوجود المطلق الذي لا وجود له عند سائر العقلاء من علماء الإسلام وجماهير الفلاسفة. ألا ترى أن تمثل (1) جبريل عليه السلام على صورة دِحية لم يدلُّ على أنه لا ذات له البتة إلاَّ خيالية، وقد أوضح هذا في غير هذا الموضع.
ثم ذكر السيد الحديث الثاني، وهو مثل هذا سواء، إلاَّ أنه قال فيه: " فيكشف عن ساقٍ " (2)، وهذا اللفظ معروفٌ في لغة العرب كنايةً عن شدة الأمر، وأما هنا، فلسنا محتاجين إلى الكناية، بل نرُدُّ ذلك كله إلى الملك، وقد شنَّع السيد على البخاري لقوله في روايته: " فيكشف عن ساقه " (3)، وذلك بناءً منه
__________
(1) في (ش): " تمثيل ".
(2) قطعة من حديث مطول تقدم تخريجه في بحث الرؤية من الجزء الخامس.
(3) قلت: هذه الرواية بهذا اللفظ أخرجها البخاري في كتاب التفسير من " صحيحه " (4919) من طريق سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سَمِعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يَكْشِفُ ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقاً واحدة ".
قلت: وقد انفرد سعيد بن أبي هلال بهذا اللفظ، ورواه غير واحد بلفظ: " ويكشف عن ساق "، وسعيد بن أبي هلال نقل الساجي عن أحمد قوله: ما أدري أي شيء يخلط في الأحاديث.
وقال الإسماعيلي كما في " الفتح " 8/ 664 في قوله: " عن ساقه " نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم بلفظ: " يُكْشَفُ عن ساق " قال الإسماعيلي هذا أصح لموافقتها لفظ القرآن، لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء.
قلت: يعني بلفظ القرآن قوله تعالى في سورة القلم: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}، قال عبد =(8/340)
على رجوع الضمير إلى الله تعالى، وفي هذا الحديث الثاني ما ليس في الأول، " فيضع الرب قدمَه "، وتأويله على ما ذكرناه فيضع رسول الرب قدمه، وكذا قوله: " فيضع الجبار "، أي: رسول الجبار.
وقال العلامة ابن حجر في " مقدمته لشرح البخاري " في تأويل هذا الحديث: قدمه: الذين قدَّمهم لها من شِرَارِ خلقه. أي: للنار، فهم قدم الله للنار، وقيل في تفسيره: يأتيهما أمر الله فيكفهما عن طلب المزيد ويُسكن فورتها، كما يقال لكل أمرٍ أبْطلته: وضعتُه تحت قدمي، ومنه الحديث: " كل دمٍ ومأثَرَةٍ تحت قدمي هاتين " (1) أراد إعدامها وإبطالها وإذلال أمر الجاهلية. انتهى.
__________
= الرزاق، عن معمر، عن قتادة: عن شدة أمر، وعند الحاكم 2/ 499 من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: هو يوم كرب وشدة، وقال الفراء في " معاني القرآن " 3/ 177. حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قرأ: (يوم تكشف عن ساق) يريد القيامة والساعة وشدتها، (قلت: وهذا سند صحيح) قال: وأنشدني بعض العرب لجد أبي طرفة:
كشفت لهم عن ساقها ... وبدا من الشرِّ البواح
وقال ابن قتيبة في " تأويل المشكل " ص 137: فمن الاستعارة في كتاب الله قوله عز وجل: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي: عن شدة من الأمر كذلك قال قتادة، وقال إبراهيم: عن أمر عظيم، وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناته والجد فيه، شمَّر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشِّدَّة.
وقال النووي في " شرح مسلم ": فسَّر ابن عباس وجمهورُ أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا بالشدة، أي: يكشف عن شدة وأمر مهول.
قلت: واتفاق هؤلاء العلماء على تفسير الآية بما تقدم يقضي بأن لفظها غير مراد، وأنه ليس هناك ساق ولا كشف، وإنما هي كناية أو استعارة، ففيه ردٌّ على من ينفي وجود المجاز في القرآن الكريم.
(1) أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو أبو داود (4548)، وابن ماجه (2627)، وأحمد 2/ 11، وصححه ابن حبان (6011)، وانظر تمام تخريجه فيه.(8/341)
ويكشف ربُّنا عن ساقه، أي: رسول ربنا (1)، وهذا النوع المسمى بالإيجاز عربي فصيحٌ، ومنه قول جبريل عليه السلام: {لأهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيَّاً} [مريم: 19]، في أحد القراءتين (2)، ومنه قول عيسى عليه السلام: {وأُحيي الموتى بإذن الله} [آل عمران: 49]، أراد: ويحيي الله الموتى عنه إن أريد ذلك.
وانظر الفرق بين تأويلنا لهذا الحديث، وتأويل: {وجاء ربك}، أو: {يأتي ربك}، أن يأتيهم الله، فما ثمَّ فرقٌ أبداً إلاَّ أن هذه الألفاظ المؤوَّلة تكرَّرت في الحديث أكثر مما تكررت في الآيات. ومن المعلوم عند كل مُنصفٍ أن التأويل متى كان ممكناً في نفسه، حسناً بالنظر إلى اللغة، جاز تكريرُه، وحَسُنَ ترديده، لأن الشيء الحَسَنَ في نفسه لا يقبُحُ بتكريره، وإلا لزم ألا يجوز للإنسان أن يكرِّرَ تلاوة: {وجاء ربُّك} قدر مراتٍ كثيرةٍ، وما علمنا شيئاً يحسُنُ النطق به مرةً واحدةً ويقبُحُ تكريره.
وأما نسبةُ الضحك إلى الله تعالى في بعض تلك الأحاديث، فهو أسهل من هذا كله. وإن شئنا نسبناه إلى المَلَكِ الذي قدَّرنا أنه المراد، ويكون الضحك على ظاهره، والتجوز في إسناده، وإن شئنا كان الإسناد إلى الله تعالى على ظاهره، وجعلنا التجوز في الضحك لا في الإسناد، فقد صح نسبة الغضب إلى الله تعالى، وكذلك الرضا والعجب والضحك مثل هذه الأمور، وقد اشتهر الضحك المجازي في لُغة العرب، وشحن البلغاء أشعارهم بذكر ضحك البُروق
__________
(1) قلت: هذا التأويل مبني على صحة هذه اللفظة، وقد علمت فيما مضى أنها منكرة وأن سعيد بن أبي هلال تفرد بها، على أن ابن الأثير رحمه الله قد تأول هذه اللفظة في " النهاية " فقال في حديث القيامة: " يكشف عن ساقه ": الساق في اللغة الأمر الشديد، وكشفُ الساق مثلٌ في شدة الأمر كما يقال للأقطع الشحيح: يده مغلولة ولا يد ثَمَّ ولا غل، وإنما هو مثل في شدة البخل، وكذلك هذا لا ساق هناك وكشف، وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمرٍ شديد يقال: شمَّر عن ساعده، وكشف عن ساقه للاهتمام بذلك الأمر العظيم.
(2) هي قراءة عامة القراء غير أبي عمرو وورش والحلواني عن نافع، فإنهم قرؤوا: " ليهبَ لك " بالياء. أنظر " حجة القراءات " ص 440.(8/342)
والأزهار والأنوار، وقد فسَّروا ضحك الرب برضاه، وقد ذكر ابن متوية ضحك الأرض في المجاز، وأنشد في ذلك:
تضحك الأرضُ من بكاء السماء.
وقد أذكرني في (1) هذا بليلةٍ عجيبةٍ كانت اتَّفقت لي، فقلت فيها:
وليلةٍ ضَحِكَتْ أنوارُها طَرَباً ... بروقُها وزهور الرَّوض والقمرُ
فَكِدْتُ أضحكُ لولا حَنَّ رَاعِدُها ... حنينَ شاكٍ ولولا أن بكى المطرُ
فذكَّرَ الرَّعدُ قلبي في تَحَنُّنه ... حنين خِلِّيَ لما أن دنا السفرُ
فنُحتُ حتى تباكَتْ كلُّ ضاحكةٍ ... من الثلاث وحتى رقَّ لي الشجرُ
وهذا المعنى مطروقٌ مشهورٌ في أشعار المتقدمين والمتأخرين، وقد اتسعُوا في ذلك، حتَّى نسبوا الضحك إلى القبور، دع عنك نسبته إلى الأنوار والزهور.
قال شيخ المعرة (2):
رُبَّ قبرٍ قد صار قبراً مراراً ... ضاحكٍ (3) من تزاحم الأضدادِ
فإذا عرفت هذا، فاعلم: أن السيد قد انتقى هذين الحديثين من أدق ما وجد في كتب الحديث، مما توهم أنه لا يحتمل التأويل البتة، فقد رأيت من هو غير معدودٍ في العلماء، لا عند الناس ولا عند نفسه كيف تبين أن تأويل ذلك مثل تأويل آيات القرآن الكريم سواء، فكيف لو تعرَّض للفحص عن وجوه (4) في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، وحبر الأمة ابن عباس المفقَّه (5) في الدين،
__________
(1) " في " ساقطة من (ش).
(2) في ديوانه: " سقط الزند " 3/ 971 من قصيدة مطلعها:
غيرُ مجدٍ في ملَّتي واعتقادي ... نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنُّمُ شادِ
(3) في الأصول: " ضاحكاً " وهو خطأ.
(4) " في ذلك " ساقطة من (ش).
(5) في (ش): " المتفقه ".(8/343)
المعلم التأويل وأمثالهما من العترة الطاهرة، وتفجرت عليك بحار علومهم، وتموَّرت أمواج معارفهم، وافتنُّوا في مغاصات التأويل العميقة، وخاضوا في غَمَرَات المجاز والحقيقة، إذاًَ لعرفت حينئذ من الرجال حق الرجال، واستيقنت أنا وأنت أمثال ربَّات الحِجال، ولقُلت لمن تعرض منا للدقائق، وادعى معرفة الحقائق، ورسوخ القدم في تلك المضايق:
أطرِقْ كَرا أطرق كَرا ... إن النَّعام بالقرى (1)
فإن قلت: إن كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الأحاديث توهم الناس التشبيه، وذلك لا يجوز.
قلت: الجواب من وجهين:
__________
(1) قال البغدادي في " خزانة الأدب " 2/ 374 - 375: البيت من الرجز أورده كذلك ابن الأنباري وابن ولاَّد، وأبو علي القالي والجوهري في " الصحاح " والصاغاني في " العباب ".
وأورده المبرد في " الكامل " والزمخشري في " مستقصى الأمثال " ص 221 هكذا: " أطرق كرا إن النعام في القرى " بناء على أنه نثر لا نظم، وصوابه: أطرق كرا مرتين كما نبه عليه البطليوسي فيما كتبه على " الكامل ". ومعنى البيت، قال ابن الأنباري والقالي: أغْضِ، فإن الأعزاء في القرى، والكرا: هو الكروان وهو طائر ذليل يقول: ما دام عزيز موجوداً، فإياك أيها الدليل أن تنطق ضربه مثلاً.
وقال ابن الحاجب في " الإيضاح ": " وأطْرِقْ كرا ": مَثَلٌ لمن يتكلم وبحضرته أولى منه بذلك، كأن أصله خطابٌ للكروان بالإطراق لوجود النعام، ويقال: إن الكروان يخاف من النعام.
وفي " العباب " للصاغاني: وأطرق: أرخى عينه ينظر إلى الأرض، وفي المثل:
أطرق كرا أطرق كرا ... إن النَّعام في القرى
يضرب للمعجب بنفسه، وللذي ليس عنده غناء ويتكلم، فيقال: اسكت وتوق انتشار ما تلفظ به كراهية ما يتعقبه.
وقولهم: إن النعام في القرى، أي: تأتيك فتدوسُك بمناسمها.(8/344)
أحدهما: على أصول السلف وأهل السنة، كما مرَّ في الوهم الخامس عشر في القاعدة الثالثة من كلام ابن تيمية.
وثانيهما: على أُصول المتكلمين، فهو أن الناس على ضربين: منهم من يعرف العقيدة الصحيحة بالأدلة القاطعة، ومنهم من لا يعرف ذلك، فأمَّا الذي لا يعرفُ العقيدة الصحيحة، فإن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية توهمه ذلك كلها، ولا فرق في الإيهام، وأما من يعرف العقيدة الصحيحة، فإنه لا يتوهم من ذلك شيئاً، ولهذا فإن علماء العدل والتوحيد ما زالوا يقرؤون كتب الحديث، ولا يتوهمون التشبيه، ولا يعبِّرون بالظواهر، ولكن السامع لهذه الأحاديث يجد فرقاً بين سماع الحديث والآيات، وذلك الفرق ليس هو لأمرٍ يرجع إلى إمكان التأويل وتعذره، وإنما هو لوجهين:
أحدهما: أنه قد تمرَّن على سماع الآيات وتلاوتها وإلفها واعتيادها (1)، وللإلف والعادة تأثيرٌ في عدم الاستنكار، ألا ترى أن الإنسان يستنكر من الخطيب في بلاد المعتزلة لو سمعه يخطب بخطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - التي أولها: " من يهده الله، فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ، فلا هادى له " (2). ولو أنه تلا آية من كتاب الله في هذا المعنى، لم يكن في الاستنكار بمنزلة الحديث، بل لو يسمع
__________
(1) في (ف): " وألفها واعتادها ".
(2) قطعة من حديث صحيح أخرجه أحمد 1/ 392 و393 و432، والدارمي 2/ 142، وأبو داود (2118)، والترمذي (1105)، والنسائي 3/ 105، وابن ماجه (1892) عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبة الحاجة: " إن الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا. من يهد الله، فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران: 102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].(8/345)
المسلم رجلاً يقول: لا إله إلاَّ الله، موسى رسول الله؛ لاستنكر ذلك لعدم العادة، وإن كان حقاً، وإن كان السامع من غير أهل العلم، ربما حكم على المسموع أنه يهودي، ولم يدر أن اليهودي لم يكن يهودياً بقوله: موسى رسول الله، وإنما كان يهودياً بجحد نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر الثاني: وهو يختص من يعرف التأويل ويُصِحُّه، وهو أن الواحد منا قد سمع تأويل الآيات، ورسخ في ذهنه، فحين يسمعها (1) يتبادر تأويلها الذي يعرفه إلى الذهن، فلا تقع النكارة والحديث الذي لم يألف سماعه، ولم يعرف تأويله حين يطرق الأسماع غير معروف اللفظ، ولا محفوظ التأويل، بل يقشعر منه القلب، وينبو منه السمع، وليس ذلك لأمر يرجع إلى تعذُّر تأويله، لما ذكرته لك من عدم الاعتياد لسماعه، وعدم المعرفة لتأويله، ولو أن الإنسان لم يكن يعرف القرآن، ولا قد سمِعَه، وكان يعرف إعتقادات المتكلمين ويأْلَفُها، ثم سمع المتشابه من القرآن عندهم، وهو لا يدري أنه كلام الله تعالى، لوجد النكارة لِمَا سمعه، والوحشة مما تدل تلك الآيات عليه، والله سبحانه أعلم.
وبعد، فقد روى البخاري ومسلم في " صحيحيهما ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " قال الله عز وجل إذا تقرَّب عبدي مني شبراً، تقربت منه ذراعاً، فإذا تقرب مني ذراعاً، تقربت منه باعاً، فإذا أتاني يمشي، أتيته هرولَةً "، وفي رواية: " وإذا أقبل إليَّ يمشي، أقبلت إليه أُهَرْوِلُ " (2).
وروى مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله عزَّ وجلَّ يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْنِي، قال: يا رب، كيف أعودُك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مَرِضَ، فلم تعده؟ لو أنك عدته،
__________
(1) في (ش): " سمعها ".
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (7405)، ومسلم (376) و (2672)، وأحمد 2/ 509، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، وابن حبان (328) و (376) و (811) و (812)، وانظر تمام تخريجه فيه.(8/346)
لوجدتني عنده". إلى آخر الحديث، وما ورد فيه من ذكر الاستطعام (1). فهذا وأمثاله مما كان يعرف السامعون من المجازات النبوية.
فإن قلت: كيف وردت السنة في ذلك بأكثر مما ورد به القرآن؟
قلت: مثل هذا السؤال لا يصدر عن عارفٍ، فإن القرآن مبنيٌّ على الإيجاز العظيم، وكل ما ورد فيه من الشرائع وغيرها، فهو في السنة أبسطُ غالباً، مثل الصلاة، وتفصيل شرائطها، ومفسداتها، وعدد ركعاتها، ومثل الزكاة وأنصبتها، وما يُعفى عنه فيها، وكذلك الصوم ولوازمه، والحج ومناسكه، وعذاب القبر، وأحوال البعث، وصفة الحساب، والصراط، والجنة، والنار، وغير ذلك. وهذا واضحٌ.
ثم إن السيد أيده الله تعالى نظم حديث جريرٍ بن عبد الله البجلي، وهو الحديث الثالث في هذا النمط، ما كأن السيد قد قرأ كتاباً في علم المعاني والبيان، وقوله عليه السلام في حديث جرير: " سَتَرَوْنَ ربكم " (2) متواترٌ عند أهل الحديث، رَوَوْا فيه قدر ثمانين حديثاًً عن نيِّفٍ وثلاثين صحابياً. ممن ذكر ذلك النفيس العلوي في كتابه في الرؤية، وذكر أكثره ابن تيمية وابن قيم الجوزية في " حادي الأرواح " (3). ومعناه عند المعتزلة صحيحٌ من غير تأويلٍ ولا تجوزٍ، فقد ذكر كثيرٌ من أئمة الاعتزال والشيعة ما يدلُّ على أنه محمولٌ على الحقيقة اللغوية، لم يخرج قط إلى المجازات المعنوية، وذلك لقولهم فيه: إن الرؤية بمعنى العلم، وذلك حقيقةٌ لغويةٌ فصيحةٌ قرآنيةٌ، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} [الفيل: 1]، {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنبياء: 30] في آيات كثيرة وهذا ما لا نزاع فيه، وذكر ذلك صاحب " ضياء الحلوم " (4)، وذكرهُ النُّحاة
__________
(1) تقدم تخريجه 4/ 175.
(2) تقدم تخريجه في الجزء الخامس.
(3) ص 205 - 231، وقد تقدم تخريجها في الجزء الخامس.
(4) انظر " شمس العلوم " 2/ 299.(8/347)
في أفعال القلوب المتعدية إلى مفعولين، وذكر ذلك (1) صاحب " الضياء "، وذكر الحديث وتفسيره وإنما يدخل التجوز (2) في تشبيه (3) العلم برؤية القمر، وذلك أجلى ما يكون من التجوز لإثبات حرف التشبيه، وهو مثل قولنا: زيدٌ شجاع كالأسد، وكرمه معروفٌ كالنهار، وأهل الحديث لا يجهلون هذا، ولا يخالفون في أن الرؤية لفظةٌ مشتركةٌ، وإنما احتجوا به على جواز الرؤية بالأبصار، لأن سِيَاق الحديث في السؤال عن رؤية الأبصار عندهم، والجواب لا يصح أن يكون أجنبياً عما وقع عنه السؤال، وهم يدعون الضرورة في هذا الموضع من جهة التواتر في النقل، ومن جهة القرائن في المعنى، والمعتزلة ينازعونهم في الموضعين معاً، فذلك محلُّ النزاع، لا صحة التأويل وإمكانه على ما مضى تقريره في الوهم السادس عشر.
وأما لو تجردت ألفاظ الحديث عن تلك القرائن التي احتفت به، لم يمنع مميزٌ من إمكان تأويل الرؤية بالعلم في الوضع اللغوي، فاعرف (4) ذلك، فهو مثل كلام الشيعة في لفظة المولى في غدِيرِ خُمّ سواء.
وأما توهم السيد أنه دالٌّ على التشبيه، ومانعٌ عن التأويل لما في من صفة القمر بالتمام والصَّحو مِنَ الغيم، فذلك جائز على القمر، وإنما الإشكال لورود ذلك في وصف الله تعالى، مثل أن يقول: سَتَرَوْنَ ربكم يوم القيامة متجلِّياًَ من غير حجابٍ، فلو ورد هكذا لأمكن أهل التأويل تأويله، مثل ما أمكنهم تأويل القرآن، حيث قال الله تعالى: {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكّاً} [الأعراف: 43]، وحيث قال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51].
__________
(1) " ذلك " ساقطة من (ش).
(2) في (ف): " التجويز ".
(3) في (ش): " مشتبه "، وهو خطأ.
(4) في (ف): " فافهم ".(8/348)
فإن قلت: إن تشبيه رؤية الله برؤية القمر يقتضي تشبيه الله تعالى بالقمر قطعاً.
قلت: هذا ما لم يَقُلْ به مُوحِّدٌ ولا مشبِّهٌ ولا ظاهري ومُؤوِّلٌ، فإنه لو شبه الله تعالى بالقمر ما اقتضى ذلك، ولم يشبِّهه تعالى بالقمر البتة وإنَّما شبه رؤيته، التي هي العلم الضروري عند المعتزلة، برؤية القمر، وقد أجمع العقلاء -دع عنك العلماء- على أن الإنسان لو قال: كرم حاتمٍ معروفٌ كالنهار إذا تجلى، وعلم علي كالقمر إذا بدا، أنه لا يجب المماثلة المحققة (1) في جميع الصفاتِ بين كرم حاتم والنهار، وبين علم علي والقمر.
يوضح ما ذكرته: أنه يجوز عند أهل العلم بلغة العرب أن يقول القائل: سترون كرم ربِّكم يوم القيامة كالقمر في الليلة الصحو، ليس دونه سحابٌ، وإن هذا الكلام لا يقتضي أن يكون كرم الله جسماً منيراً مستديراً على صورة القمر (2) كما فهم السيد من حديث جريرٍ أنه يقتضي ذلك في حق الله تعالى.
والوجه فيما ذكرته أن المشهور عند علماء المعاني، وأهل اللغة أن تشبيه الشيء بغيره لا يجب أن يكون مثله في كل وصفٍ من صفاتها، وإنما يكون في بعضها، فقد يكون تشبيهاً بذلك الغير في إمكانه، مثل قوله:
فإن تفُقِ الأنام وأنت منهم ... فإن المِسْكَ بعضُ دمِ الغزالِ (3)
وقد يكون للاستطراف، كتشبيه فحمٍ فيه جمرٌ يتوقَّدُ ببحرٍ من المسك موجه الذهب. ومنه:
ولا زَوَرْدِيَّةٍ تزهو بِزُرْقَتِها ... فوقَ الرِّياض على حُمْرِ اليَواقيت
__________
(1) في (ش): " للحقيقة ".
(2) في (ف): " كالقمر ".
(3) البيت من قصيدة للمتنبي يرثي فيها أم سيف الدولة، مطلعها:
نُعِدُّ المشرفِيَّة والعَوَالي ... وتَقْتُلُنا المنونُ بلا قتالِ
انظر الديوان 3/ 8 - 20 بشرح العكبري.(8/349)
كأنها فوقَ قاماتٍ ضَعُفْنَ بها ... أوائل النار في أطراف كبريتِ (1)
وقالوا: فلان كالأسد، وفلانٌ أسدٌ، لم يُريدوا في بشاعة وجهه، وكريه صورته، وفلانٌ كالبحر، لم يُريدوا في مُلوحَةِ مائِهِ، وكراهية رائحته.
وقد يكون التشبيه للهيئة (2) مثل قوله:
كأن مُثارَ النقع فوق رُؤوسنا ... وأسيافُنا ليلٌ تهاوى كواكبهْ (3)
ومما يجري مجرى النصِّ في هذا الموضع بيت علماء المعاني المشهور (4):
__________
(1) البيتان لابن الرومي يَصِفُ البنفسج وقبلهما:
بنفسج جُمِعَتْ أوراقُه فحكى ... كُحلاً تشرَّب دمعاً يوم تشتيتِ
انظر " معاهد التنصيص " 2/ 56.
(2) ويقال للتشبيه الذي من هذا النوع التشبيه التمثيلي وهو الذي يكون وجه الشبه فيه صوراً من أمورٍ متعددة، ووجه الشبه في بيت بشار هذا هو الهيئة الحاصلة من هوي أجرام مشرقة مستطيلة، متناسبة المقدار متفرقة في جوانب شيء مظلم، وذلك متحقق في المشبه والمشبه به، إذ أن المشبه هو النقع المثار الذي تتحرك فيه السيوف، والمشبه به هو الليل تتساقط كواكبه، وكلاهما أمرٌ حِسّي.
(3) البيت لبشار بن برد من قصيدة يمدح بها مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، مطلعها:
جفا ودُّه فازَوَّر، أو مَلَّ صاحِبُه ... وأزرى به أن لا يزال يُعَاتِبُه
ومنها الأبيات السائرة:
إذا كنت في كُلِّ الأمور معاتباً ... صديقك لم تَلْقَ الذي لا تُعاتِبُه
فَعِشْ واحداً أو صِلْ أخاك فإنه ... مُقارِفُ ذنبٍ مرَّةً ومجانبُه
إذا أنت لم تشرب مِراراً على القذى ... ظمئتَ وأيُّ الناس تصفو مشاربُه
انظر " ديوان بشار " 1/ 325 - 430 بتحقيق الطاهر بن عاشور
(4) هو للقاضي علي بن محمد بن داود التنوخي من أبيات أولها: =(8/350)
وكأنَّ النُّجوم بَيْنَ دُجاها ... سُننٌ لاح بينهن ابتداعُ
فإنه شبَّه فيه السنن بالنُّجوم مع أن السنن ليست بأجسامٍ، والنجوم أجسامٌ، فدل على أن تشبيه ما ليس بجسمٍ بما (1) هو جسم حسنٌ في اللغة، فصيح في البلاغة. فلو أن الحديث ورد بتشبيه الله -تعالى عن الشبه- بالقمر على سبيل المجاز (2) عند أهل التأويل مما لا يتعذَّر تأويله، ثم لو نزل عن هذه المرتبة، فهو رد بتشبيه العلم بالله تعالى بالقمر، لكان عربياً فصيحاً، فكيف وقد نزل إلى مرتبة ثالثة، فورد عند الخصوم بتشبيه العلم بالله تعالى برؤية القمر، لا بالقمر، فهذا شيءٌ لا يستنكره عاقلٌ، فضلاً عن عالمٍ.
وقد شاع التشبيه للاشتراك في بعض الأوصاف، ومِنْ طريفٍ ما رُوِيَ في هذا قولُ بعضهم، وقد وفد على رجُلٍ يُقال له قرواش، فاتهمه بأنه مُنتحلٌ لشعره، نقال: إن صدقت في أنك صاحب هذا الشعر، وناسجُ بُردَتِه، فامدحني واهجُ أصحابي هؤلاء، وكان له مغن يُقال له: البرقعيدي، ووزيرٌ يقال له: سُليمان بن فهدٍ، وحاجبٌ يقال له: أبو (3) جابر، فقال (4):
__________
= رُبَّ ليلٍ قطعته بصُدود ... أو فراقٍ ما كان فيه وداعُ
موحشٍ كالثقيل تقذى به الـ ... ـعينُ وتأبى حديثه الأسماعُ
وكأن النجوم بين دُجاها ... سُننٌ لاح بينهن ابتداعُ
مشرقاتٌ كأنهنَّ حِجاجٌ ... تقطع الخصم والظلامُ انقطاعُ
وكأن السماء خيمةُ وشيٍ ... وكأن الجوزاء فيها شِرَاعُ
انظر " معاهد التنصيص " 2/ 10، و" يتيمة الدهر " 2/ 394 - 395.
(1) في (ف): " ما ".
(2) في (ش) و (ف): " أهل المجاز ".
(3) " أبو" ساقطة من (ف).
(4) هو الطاهر الجزري كما في " دمية القصر " ص 50، والأبيات في " وفيات الأعيان " 5/ 265، و" فوات الوفيات " 3/ 199، و" معجم البلدان " 1/ 388 وقرواش: هو ابن المقلد بن المسيب العقيلي معتمد الدولة صاحب المَوْصِل والكوفة والمدائن وسقي الفرات =(8/351)
وليلٍ كَوَجْهِ البرقعيدي مظلمٌ ... وبرد أغانيه وطول قرونِهِ
سريتُ ونَومي فيه نوم مُشَرَّدٍ ... كعقلِ سُليمان بن فهدٍ ودينِهِ
على أوْلَقٍ فيه اختباطٌ كأنه ... أبو جابرٍ في خَبْطِه وجُنُونِه
إلى أن بدا ضوءُ (1) الصباح كأنه ... سنا وجهِ قرواشٍ وضوء جبينه
__________
= المتوفى سنة 444 هـ، مترجم في " السير " 17/ 633 - 634. وهذا الأسلوب يقال له في علم البديع الاستطراد، ومنه قول البحتري من قصيدة في وصف فرسه ديوانه ص 1740:
وأغر في الزمن البهيم مُحَجلٍ ... قد رُحْتُ منه على أغر مُحَجَّل
كالهيكل المبني إلاَّ أنه ... في الحسن جاء كصورةٍ في هيكلِ
مَلَكَ العيون فإن بدا أعْطَيتُه ... نظر المحبِّ إلى الحبيب المقبلِ
ما إن يَعَافُ قذى ولو أوردته ... يوماً خلائق حمدويه الأحول
وقد احتذى البحتريُّ في شعره هذا أبا تمام في هجو عثمان بن إدريس السامي:
حلفتُ إن لم تثبت أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان
ومنه قول ابن عُنين ديوانه ص 205 في اثنين كانا يتناظران وقد لقب أحدهما بالبغل والثاني بالجاموس:
البغلُ والجاموس في جدليهما ... قد أصبحا عِظَة لكل مناظرِ
برزا عشية ليلةٍ فتباحثا ... هذا بِقَرْنَيْهِ وذا بالحافرِ
ما أتقنا غير الصياح كأنما ... لقنا جدال المرتضى بن عساكر
لفظٌ طويلٌ تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر
اثنان مالهما وحقِّك ثالثٌ ... إلاَّ رقاعةُ مدلويه الشَّاعرِ
ومدلويه: لقب الشاعر عبد الرحمن بن محمد المعروف بابن النابلسي وكان مقيماً في دمشق ولابن عنين فيه عدة مقاطع هجو.
(1) في (ف): " وجه ".(8/352)
ومن هذا القبيل بيتُ " المقامات " (1):
تفترُّ عن لؤلؤٍ رطب وعن بَرَدٍ ... وَعَنْ أقاحٍ وعَنْ طلعٍ وعن حَبَبِ
ومنه بيتُ الوأواء الدِّمشقي (2) الذي رواه الحريري (3)، وهو قوله:
فأمطرت لُؤلؤاً من نرجسٍ فسقت ... وَرْداً وعَضَّت على العُنَّاب بالبَرَدِ
ودع عنك الأشعار (4)، فقد ورد هذا في القرآن العظيم وروداً كثيراً، فمن
__________
(1) ص 25 في المقامة الحلوانية، وقبله:
نفسي الفداء لثغرِ راق مَبْسِمُه ... وزانه شَنَبٌ ناهيك عن شَنَبِ
الثغر: الأسنان، والمبسم: الفم، والشنب: الماء القليل الجاري على الأسنان، وناهيك: كافيك، يقال: ناهيك بفلان، أي: قد انتهى الأمر فيه إلى الغاية.
ويفتر: يكشف ويبسم، ورطب: طري كما أخرج من أصدافه، وفي اللؤلؤ إذ ذاك رطوبة وسطوع بياض، والطلع: أول حمل النخلة وهو القرح فإذا انشق فهو المضحك، وبه تشبه الأسنان في بياضه، والحَبَب: تنضد الأسنان. انظر الشريشي 1/ 51.
(2) ص 26، وهو من قصيدة مطلعها:
لما وضعت على صدر المحبِّ يدي ... وصحتُ في الليلة الظلماء واكبدي
وقبل البيت المستشهد به:
آنسة لو بَدَتْ للشمس ما طَلَعَتْ ... للناظرين ولم تَغْرُبْ على أحد
قالت وقد فَتَكَتْ فينا لواحِظُها ... ما إن أرى لقتيل الحبِّ مِن قَوَدِ
فأمطرت لؤلؤاً من نرجِسٍ وسقت ... ورداً وعضَّت على العُناب بالبرد
ثم استمرت وقالت وهي ضاحكة ... قوموا انظروا كيف فعلُ الظبي بالأسد
(3) في المقامة الحلوانية وهي الثانية، وهي تتضمن محاسن من التشبيهات والاعتراضات، والنرجس: نوار أصفر في نَوْرِه انكسار وفتور لا يكاد يرى له ورقة قائمة، تُشبه به العينان إذا كان في نظرهما فتور.
(4) عبارة: " ودع عنك الأشعار " ساقطة من (ش).(8/353)