بيان ذلك أن أحدنا إذا قال: كتبتُ (1)، يحتمل أن يكون قد كتبه بنفسه، ويحتمل أن يكون استكتب غيره، وليس كذلك إذا قال: كتبت يدي، ومشت رجلي، فإنه لا يحتمل ذلك.
وبعد: فإن هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسرين، فإن المفسرين من لدن الصحابة إلى يومنا هذا على أن المراد بالأبصار: المبصرون، إلاَّ أنهم اختلفوا، فمن قائل: لا يُدرِكُهُ المبصرون في دار الدُّنيا، ومِنْ قائل: لا يدركه المبصرون في حال من الأحوال، وكل تأويل يكون بخلاف تأويل المفسرين كفتوى (2) تكون بخلاف فتوى المفتين.
فإن قيل: لو كان المراد بقوله: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} المبصرون، لوجب مثله في قوله: {وهو يُدرِكُ الأبصارَ} أن يكون المبصرين، ليكون النفي مطابقاً للإثبات، وهذا يقتضي أن يرى القديم نفسه، لأنه من المبصرين، وكل من قال: إنه تعالى يرى نفسه، قال: يراه غيره.
قيل له: إنه تعالى -وإن كان مبصراً- فإنما يرى ما كان يدرك (3) وتصِحُّ رؤيته، ونفسه يستحيل أن ترى لما قدمناه أنه تمدح بنفي الرؤية تمدُّحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً، والنقص لا يجوز على الله تعالى.
وبعد: فإن المراد بقوله: {لا تدركه الأبصارُ} المبصرون بالأبصار، فكذلك في قوله: {وهو يُدرك الأبصَار}، يجب أن يكون هذا هو المراد، ليكون النفي مطابقاً للإثبات، والله تعالى ليس من المُبْصِرين بالأبصار. فلا يلزم ما ذكرتموه.
__________
(1) في (أ): " إنه يحتمل "، وفي (ج): ويحتمل.
(2) في " شرح الأصول ": فهو كفتوى.
(3) " كان يدرك " ساقط من " شرح الأصول ".(5/219)
وبعدُ: فلا يجوز مِنَ الله تعالى أن يُجمَعَ بينه وبين غيره في الخطاب، بل يجب أن يُفرَدَ بالذكر تأديباً لنا، وتعليماً للتعظيم، وعلى هذا فإن أمير المؤمنين عليه السلام لمَّا سمعَ خطيباً يقول: " مَنْ أطاع (1) الله ورسوله فقد رَشَدَ، ومن يَعْصِهما فقد غوى " فنهى عن الجمع بينَ الله ورسوله في الذِّكر إعظاماً وإجلالاً لله جلّ ذكره (2).
فإن قيل: قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصَارُ وهو يُدرِكُ الأبصار} عامٌ في الدَّار (3) الدنيا ودارِ الآخرة. وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] خالصٌّ في دار الآخرة، ومن حقِّ العامِّ أن يُبنى (4) على الخاص، كما أن من حق المُطلق أن يُبنى على المقيَّد.
ورُبما يستدلِّون بهذه الآية ابتداء على أنه تعالى يُرى في دار الآخرة.
وجوابنا أن العام إنما يُبنى على الخاص إذا أمكن تخصيصه، وهذه الآية لا تحتمل التخصيص، لأنه تعالى تمدَّح بنفي الرؤية تمدُّحاً يرجع إلى ذاته (5)، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً، والنَّقصُ لا يجوز على الله تعالى (6).
وبعد: فإن هذه الآية إنما تخصِّصُ تلك الآية إذا أفادت أنه تعالى يُرى (7)
__________
(1) في (د): يطع.
(2) هذا النهي ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد أخرج أحمد 4/ 256، ومسلم (870)، والنسائي 6/ 90، وأبو داود (1099) و (4981) من حديث عدي بن حاتم قال: تشهَّد رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال أحدهما: من يُطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله ". وانظر " صحيح ابن حبان " (2798). وقد تقدم تخريجه 1/ 231.
(3) في (د): دار.
(4) في " شرح الأصول ": يحمل.
(5) في (ج) تمدحا لرؤيته.
(6) في " شرح الأصول " زيادة: على وجه.
(7) في (ج): يرونه.(5/220)
في حالٍ من الأحوال، وليس في الآية ما يقتضي ذلك، لأن النظر ليس هو بمعنى الرؤية. هذا هو الجواب عنه إذا تعلقوا به على هذا الوجه.
فأمَّا إذا استدلُّوا به ابتداءً، فالجواب عليه أن يقال لهم: ما وجه الاستدلال بهذه الآية؟
فإن قالوا: إنه تعالى بيَّن أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه والنظر هو معنى الرؤية.
قلنا: لا نسلِّم أن النظر بمعنى الرؤية، فما دليلُكم على ذلك؟ فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً. ثم يقال لهم: كيف يصح أن يكون النظر بمعنى الرؤية؟ ومعلومٌ أنهم يقولون: نظرت إلى الهلال، فلم أره، فلو كان أحدهما هو الآخر، لتناقض الكلام، وتنزَّل منزلة قول القائل: رأيتُ الهلال، وما رأيتُ، وذلك متناقضٌ (1) فاسدٌ.
وبعد: فإنَّهم يجعلون الرُّؤية غايةً للنظر، فيقولون: نظرتُ حتى رأيت. فلو كان أحدهما هو الآخر، لكان بمنزلة أن يُجعَلَ الشيء غايةً لنفسه، وذلك لا يجوز، ولذلك لا يجوز أن يُقال: رأيت حتى رأيت.
وبعد: فإنهم يُعْقِبُونَ النظر بالرؤية، فيقولون: نظرت فرأيت، فلو كان أحدهما هو الآخر، لكان في ذلك تعقيبُ الشيء بنفسه، ويُنزل (2) منزلة قولك: رأيت فرأيت، وهذا لا يستقيم.
وبعد: فإنهم يُنَوِّعُون النظر، فيقولون. نظرتُ نَظَرَ (3) راضٍ، ونظرت نظر غضبان، ونظرت نظر شزْرٍ. وعلى هذا قول (4) الشاعر:
نظروا إليكَ بأعيُنٍ مُزْورَّةٍ ... نَظَرَ التُّيوسِ إلى شِفَارٍ الجَازِرِ
__________
(1) في (ج) و" شرح الأصول ": مناقض.
(2) في (ب): تنزل.
(3) في (د): نظرة.
(4) في (ب) و (ج) و (د): قال.(5/221)
خُزْرَ (1) الحواجِبِ ناكسي أذقانِهم (2) ... نَظَرَ الذَّليلِ إلى العَزيزِ القَاهِرِ
وقال آخر (3):
تُخَبِّرُني العَيْنَانِ ما الصَّدْرُ كَاتِمٌ ... وما جَنٌّ بالبغضاءِ والنَّظرِ الشَّزْر
وأيضاً فإنهم يقولون في تفسير الأقبل -وهو الأحول- هو الذي إذا نظر إليك كأنه ينظر إلى غيرك، فلو كان النظر هو الرؤية، لكان تقديره هو الذي إذا رآك كأنه يرى غيرك، وهذا لا يستقيم.
وبعد، فإنا نعلم ضرورة كون الجماعة ناظرين إلى الهلال، ولا نعلم كونهم رائين له ضرورة، ولهذا يَصِحُّ أن يسأل عن ذلك. فلو كان أحدهما هو الآخر، لم يَجُزْ ذلك. ويدلُّ على ذلك أيضاً قوله تعالى: {وتراهُم ينظُرُون إليك وَهُم لا يُبْصِرُون} [الأعراف: 198]، أثبث النظر، ونفي الرؤية. فلو كان أحدهما بمعنى الآخر، لتناقض الكلام، وتنزَّل منزلة قول القائل، يَرَوْنَك ولا يَرَوْنَكَ. وذلك خُلْفٌ من الكلام.
فإن قيل: إن ذلك مجازٌ، لأنه ورد في شأن الأصنام.
قلنا: إنه -وإن كان كذلك- إلاَّ أن المجاز كالحقيقة في أنه لا يصح التناقض.
وحاصل هذه الجملة: أن النظر من الرؤية بمنزلة الإصغاء من السماع، والذوق من إدراك الطَّعم، والشَّمِّ من إدراك الرَّائحة.
فإن قيل: النظر إذا أُطلِقَ يحتملُ معاني كثيرةً كما ذكرتموه، فأما إذا عُلِّق بالوجه، فلا يحتمل إلاَّ الرؤية، كما إذا عُلِّق بالقلب لا يحتمل إلاَّ الفكر، وربما
__________
(1) في (أ): غرر.
(2) في (ب): أبصارهم.
(3) ذكر عجزه في " اللسان " (جنن)، ونسبه إلى الهذلي.(5/222)
يقولون: إن النظر إذا غُلِّق بالوجه وعُدِّي بـ " إلى "، لم يحتمل إلاَّ الرؤية.
قلنا: ما ذكرتموه أولاً فممَّا لا نسلمه، فما دليلكم عليه؟.
فإن قالوا: الدليل عليه هو أن الآلة التي يرى بها الشيء في الوجه، فيجب في النظر إذا عُلِّق به أن لا يحتمل إلاَّ الرؤية، لأنه لو لم يكن كذلك، لكان لا تثبت لتعليقه (1) به فائدة.
قلنا: لو وجب صحة ما ذكرتموه من حيث إن الآلة التي يرى بها في الوجه، لوجب صحة أن يقول (2) القائل: ذُقتُ بوجهي، ويريد به: أدركت الطعم، لأن آلة الذوق في الوجه. وهكذا في قوله: شممتُ بوجهي. وقد عُرِفَ خلافه.
وأما ما قالوه من أن النظر إذا عُلق بالوجه، وعدي بـ " إلى " لم يحتمل إلا الرؤية، فسنتكلَّم عليه إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: النظر المذكور في الآية إذا لم يُفِدِ الرؤية، فما تأويل الآية؟
قيل له: قد قيل: إنَّ النظر المذكور ها هنا بمعنى الانتظار، فكأنه تعالى قال: وجوهٌ يومئذ ناضرة لثواب ربِّها منتظرة، والنظر بمعنى الانتظار قد ورد، قال تعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى ميسَرَةٍ} [البقرة: 280] أي: انتظار، وقال عزَّ وجلَّ حاكياً عن بلقيس: {فناظِرَةٌ بِمَ يرجِعُ المُرسَلُونَ} [النمل: 35]، أي منتظرة. وقال الشاعر:
فإن يكُ صدرُ هذا اليوم وَلَّى ... فإنَّ غداً لِنَاظِرِهِ قريبُ (3)
__________
(1) في (د): لتعلُّقه.
(2) في (د): قول.
(3) مكان بيت الشعر بياض في (ب)، وهذا البيت من قصيدة لهدبة بن خشرم أوردها القالي في " أماليه " 1/ 72 يقول فيها:
يؤرقني اكتئابُ أبي نُميرٍ ... فقلبي من كآبتِه كَئِيبُ =(5/223)
وقال آخر:
وإنَّ امرءاً يرجو السبيل إلى الغِنَى ... بغيرك عن حَدِّ الغِنَى جدُّ حَائر
يراهُ (1) على قُربٍ وإن بَعُدَ المَدَى ... بأعيُنِ آمالٍ إليك نواظِرِ
وقال آخر:
وُجُوهٌ يومَ بدرٍ ناظراتٌ ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص (2)
وقال الخليل: تقول العرب: إنما أنظر إلى الله تعالى وإلى فلان من بين الخلائق، أي: أنتظر خيره، ثم خير فلان.
فإن قيل: النظر إذا عُدِّي بـ " إلى " كيف يجوز أن يكون بمعنى الانتظار؟
قلنا: كما قال عز وجل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. ذكر النظر، وعدَّاه بـ " إلى " وأراد به الانتظار، كما تقول العرب على ما قال الخليل.
وقال الشاعر:
__________
= فقلتُ له هداك الله مهلاً ... وخيرُ القول ذو اللب المُصِيبُ
عسى الكربُ الذي أمسيت فيه ... يكونُ وراءه فرجٌ قريبُ
فَيَأمَنُ خائفٌ ويُفَكُّ عانٍ ... ويأتي أهلَه الرجلُ الغريبُ
وانظر " الحماسة البصرية " 1/ 44.
(1) في " شرح الأصول ": تراه.
(2) أنشده الرازي في " تفسيره الكبير " 29/ 229 بلفظ:
وجوه ناظرات يومَ بدرٍ ... إلى الرحمن تنتظر الخلاصا
وقال: هذا الشعر موضوع، والرواية الصحيحة:
وجوه ناظرات يوم بكرٍ ... إلى الرحمن تنتظرُ الخلاصا
والمراد من هذا الرحمن: مسيلمة الكذاب، لأنهم كانوا يسمونه رحمن اليمامة، فأصحابه كانوا ينظرون إليه ويتوقعون منه التخلص من الأعداء.(5/224)
إنِّي إليك لما وَعَدْتَ لَنَاظِرٌ ... نَظَرَ الفقيرِ إلى الغَنِيِّ المُوسِرِ (1)
فإن قيل: إن النظر إذا عُلِّق بالوجه، وعدي بـ " إلى "، كيف يراد به الانتظار؟
قلنا: إن ذلك غير ممتنعٍ، وعلى هذا قول الشاعر:
وجوه يوم بدر ناظرات ... إلى الرحمن يأتي بالخلاص
على أن " إلى " في الآية -على ما قيل- ليس بحرف جرٍّ ولا حرف التعدية، وإنما، هو واحد الآلاء التي هي النعم، فكأنه تعالى قال: وجوهٌ يومئذٍ ناضرة، نعمة (2) ربها ناظرة أي منتظرة، ونِعمَه مترقِّبة.
وقد أجاب شيخنا أبو عبد الله البصري بأن النظر إذا كان بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة تعدَّى بـ " إلى " وكذلك إذا كان بمعنى الانتظار، ولا يمتنعُ أن يُعدّى بـ " إلى "، لأن المجازات يُسلك بها مسلك الحقائق، وهذه إشارةٌ إلى أن النظر بمعنى الانتظار مجازٌ، وحقيقته (3): تقليب الحَدَقَة الصحيحة، وليس كذلك، لأن النظر لفظةٌ مشتركةٌ بين معانٍ كثيرةٍ على ما مرّ.
وبعد: فإذا جاز تعليق (4) النظر بالعين، ويراد به الانتظار، جاز أن يُعلَّق بالوجه أيضاً، ويُراد به الانتظار. ومعلوم أنهم يعلقون (5) النظر بالعين، ويُعدُّونه بـ " إلى "، ويريدون به (6) الانتظار. وعلى هذا قال (7) الشاعر:
يَراه على قُرْبِ وإن بَعُدَ المدى ... بأعيُنِ آمالٍ إليك نَوَاظِرِ
على أن الوجه ها هنا ليس بمقصودٍ، وأن المقصود صاحب الوجه، كما قال
__________
(1) أنشده القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن " 19/ 109، ولم ينسبه لأحد.
(2) في " شرح الأصول ": آلاء.
(3) في (ب): وحقيقة.
(4) في (ج) و (د): تعلق.
(5) في الأصول: " لا يعلقون "، والمثبت من " شرح الأصول ".
(6) ساقطة من (ب).
(7) في (ج): قول.(5/225)
الله عز وجل: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 24، 25].
ومعلومٌ أن الوجوه لا تظُنُّ، وإنما أصحاب الوجوه يظنون، وهذا هو التَّأويلُ الأول، والكلام عليه.
وأما التأويل الثاني، فهو أن النظر بمعنى تقليب الحدقة الصحيحة، فكأنه قال تعالى: وجوهٌ يومئذٍ ناضرة إلى ثواب ربها ناظرة. ذكر نفسه، وأراد غيره، كما قال في موضعٍ آخر: {واسألِ القريَةَ} [يوسف: 82] يعني: أهل القرية.
وقال: {إني ذَاهبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99] أي: إلى حيث أمرني ربي، وقال تعالى: {وجاء ربُّك} [الفجر: 22] أي: أمر ربك. وقال الشاعر (1):
هلاَّ سألتِ الخيلَ يا ابنة (2) مالكٍ ... إن كُنْتِ جاهلة بما لم تعلمي (3)
أي: أرباب الخيل، وقال جميل:
سَلِ الرَّبْعَ أنَّى يَمَّمَتْ أمُّ مالكٍ ... وهل عادةٌ للربع أن يَتَكَلَّما (4)
فكِلا التأويلين مرويَّان عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وعن عبد الله بن العباس، وجماعةٍ من الصحابة رضي الله عنهم.
قالوا على التأويل الأول: هذه الآية وردت في شأن أهل الجنة، فكيف يجوز أن تكون بمعنى الانتظار؟! لأن الانتظار (5) يورِثُ الغمَّ والمشقَّة، ويؤدي إلى التَّنغيص (6) والتكدير، حتَّى يقال في المثل: الانتظارُ يُورِثُ الاصفرار،
__________
(1) في " شرح الأصول ": عنترة.
(2) تحرفت في الأصول إلى: " بالله " والمثبت من (ب) و" شرح الأصول ".
(3) البيت لعنترة بن شداد العبسي من جاهليته السائرة، ومطلعها:
هل غادر الشعراءُ من متردم ... أم هل عرفتَ الدارَ بعدم توهُّمِ
انظر " شرح القصائد العشر " للتبريزي ص 236.
(4) ديوانه ص.
(5) ساقطة من (ج).
(6) تصحفت في (أ) و (ج) إلى: التبعيض.(5/226)
والانتظار الموت الأحمر، وهذه الحالة غير جائزةٍ على أهل الجنة.
وجوابنا أن الانتظار لا يقتضي تنغيص العيش على كل حال، وإنما يوجب ذلك متى كان المنتظر لا يتيقَّن حصول ما ينتظره إليه، أو يكون في حبسٍ، ولا يدري متى يتخلص من ذلك، وهل يتخلص، أم لا؟ فإنه -والحال هذه- يكون في غمٍّ وحسرةٍ. فأمَّا إذا تيقَّن وصوله إليه، فلا يكون في غمٍّ وحسرةٍ، خاصة إذا كان حال انتظاره في أرغد عيشٍ وأهناه.
ألا ترى أنَّ من كان على مائدة قومٍ، وعليها ألوان الأطعمة اللذيذة، يأكل منها ويلتذُّ بها، وينتظر لوناً آخر، ويتيقن وصوله، فإنه لا يكون في تنغيصٍ وتكدير، بل يكون في سرورٍ متضاعفٍ، حتى لو قُدِّم إليه الأطعمة كلها دفعة واحدة لتبرَّم بها، كذلك حال أهل الجنة لا يكونون في غمٍّ وتنغيص إذا كانوا يتيقنون وصولهم إلى ما ينتظرون على كل حال.
وللقوم شُبَهُ في هذا الباب: من جملتها: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قالوا: بين الله تعالى (1) أن الوجوه يوم القيامة تنظر إليه، وهذا يدل على كونه مرئيّاً على ما نقوله. والأصل في الكلام عليهم أن نمنعهم من الاستدلال بالسمع، لأن (2) الاستدلال بالسمع ينبني على أنه تعالى عَدْلٌ، حكيم، لا يُظهر المُعْجِز على الكذابين، والقوم لا يقولون بهذا، فلا يمكنهم الاستدلال بالسمع أصلاً على شيءٍ، وعلى (3) أنا قد بينا أن النظر ليس هو الرؤية. وتكلمنا عليه، فلا وجه لإعادته.
ومما يتعلقون به: قوله تعالى: {ربِّ أرني أنظُرْ إليكَ} [الأعراف: 143]. قالوا: فهذا سؤالٌ، وقد سأل موسى الله الرؤية، فدلَّ على أنها جائزة على الله تعالى، فلو استحال ذلك، لم يجُزْ أن يسأله، والذي يدلُّ على أن
__________
(1) قوله: " قالوا بين الله تعالى " بياض في غير (د).
(2) في (ب) و" شرح الأصول ": بالسمع أصلاً لأنَّ.
(3) تحرفت في (أ) إلى: الناس.(5/227)
السؤال سؤال موسى عليه السلام: وجهان: أحدهما أنه أضاف السؤال إلى نفسه. والثاني: أنه تاب، والتوبة لا تصحُّ إلاَّ من فعل النفس.
وقد أجاب شيخنا أبو الهذيل عن هذا بأن الرؤية ها هنا بمعنى العلم، ولا اعتماد عليه، لأن الرؤية إنما تكون بمعنى العلم متى تجرَّدت، فأمَّا إذا قارنها النظر، فلا تكون بمعنى العلم. فالأولى ما ذكره غيره من مشايخنا، وهو أن السؤال لم يكن سؤال موسى عليه السلام، وإنما كان سؤالاً عن قومه، والذي يدلُّ عليه قوله تعالى لمحمَّد - صلى الله عليه وسلم -: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وقوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55]، فصرَّح الله تعالى بأن القوم الذين حملوه على هذا السؤال.
ويدل عليه أيضاً قوله تعالى حاكياً عن موسى عليه الكلام: {أتُهلِكُنَا بما فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]، فبين أن السوال سؤالٌ عن قومه، وأن الذنب ذنبهم.
فإن قيل: لولا أن الرؤية غير مستحيلةٍ على الله تعالى، وإلاَّ لما جاز أن يسأله (1) لا عن نفسه ولا عن قومه، كما لا يجوز أن يسأل الله الصاحبة والولد لما كان مستحيلاً عليه.
قلنا: فرق بينهما، لأن مسألة الرؤية يمكن معرفتها بالسمع، فجاز أن يطلب فيها دلالة سمعية بخلاف مسألة الصاحبة والولد. وقد قيل: إنه علم أن الرؤية مستحيلة على الله جل وعز، ولكنه سأله عن ذلك، لأن الأمة لم يكن نَفَعَهُم (2) جوابه، فسأل الله سبحانه لِيَردَ من جهته جوابٌ (3) يُقْنِعُهُم. فأمَّا ما ذكروه
__________
(1) في " شرح الأصول ": يسأله ذلك.
(2) في (ب) و (د) و" شرح الأصول ": يقنعهم.
(3) في " شرح الأصول ": جواباً.(5/228)
في الصاحبة والولد، فلا يصح، لأنه إنما لم يسأل، لا لأن الصاحبة والولد مستحيلٌ على الله تعالى، والرؤية غير مستحيلةٍ، بل لأنهم لا يطلبون منه ذلك، حتى لو قدَّرنا أنهم طلبوا منه ذلك، وعَلِمَ أنه لا يُقنعهم، لجاز أن يسأل الله تعالى ذلك، وقد قيل: إن بين الموضعين فرقاً، لأن إحدى المسألتين لا يمكن أن يُستدلَّ عليها بالسمع والأخرى يُمكن ذلك فيها، ففارق أحدُهما الآخر.
وأما ما ذكروه من أن السؤال سؤال موسى عليه التسلام، لأنه أضاف الرؤية (1) إلى نفسه بقوله: {ربِّ أرني أنظُر إليك}، فلا يصح، لأنه غير ممتنع أن يكون السؤال سؤال قومه، ثم إنه يضيفه إلى نفسه، وهذا ظاهرٌ في الشاهد. ألا ترى أن الكبير منَّا إذا شَفَعَ لغيره في حاجةٍ، ربما يقول: اقضِ حاجتي، وأنْجِح طَلِبَتِي (2)، وما جرى هذا المجرى، فيُضِيفُه إلى نفسه، وإن كانت الحاجة حاجة غيره.
وأما ما قالوه من أن السؤال سؤال موسى، لأنه تاب من ذلك، والتوبة لا تصح إلاَّ من فعل نفسه، فلا تصح أيضاً، لأن توبته هو، لأنه سأل الله تعالى بحضرة القوم بغير إذنٍ، ولا يجوز من (3) الأنبياء أن يسألوا الله تعالى بحضرة الأمة من غير إذنٍ سمعيّ، لأنه لا يمتنع أن يكون الصلاح في أن لا يُجابوا، فيكون ذلك تنفيراً عن قبول قوله.
وأما الصاعقة، فلم يكن ذلك عقوبةً، وإنما كان امتحاناً وابتلاءً، كما امتحن الله غيره من الأنبياء، وهده الآية حجة لنا عليهم من وجهين:
أحدهما هو أنه تعالى قال مُجيباً لسؤاله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي}، و" لن " موضوعةٌ للتأبيد، فقد نفي أن يكون مرئياً ألبتة، وهذا يدل على استحالة الرؤية عليه.
__________
(1) في " شرح الأصول ": سؤال الرؤية.
(2) في (د): طلبي.
(3) في (د): على.(5/229)
فإن قالوا: أليس أنه قال تعالى حاكياً عن اليهود: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 95] أي: لا يتمنَّون الموت، ثم قال حاكياً عليهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، فكيف يقال: إن " لن " موضوعٌ للتأبيد؟
قلنا: إن " لن " موضوعةٌ للتأبيد، ثم ليس يجب أن لا يصح استعماله إلاَّ حقيقة، بل لا يمتنعُ أن يستعمل مجازاً، وصار الحال فيه كالحال في قولهم: أسدٌ، وخنزيرٌ، وحمارٌ، فكما أن موضوعها (1) وحقيقتها لحيوانات مخصوصةٍ، ثم يُستعمل في غيرها على سبيل التوسع والمجاز، واستعمالهم في غيرها لا يقدح في حقيقتها، كذلك ها هنا.
والوجه الثاني من الاستدلال بهذه الآية: هو أنه تعالى قال: {لن تراني ولكن انظُر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني} علَّق الرؤية باستقرار الجبل، فلا يخلو: إما أن يكون علَّق الرؤية باستقراره بعد تحرُّكه وتَدَكْدُكِهِ، أو علَّقها به حال تحرُّكه، لا يجوز أن تكون الرؤية قد علقها باستقرار الجبل بعد تحركه، لأن الجبل قد استقر، ولم ير موسى ربَّه، فيجب أن يكون قد علق الرؤية باستقرار الجبل حال تحركه، دالاً بذلك على أن الرؤية مستحيلة عليه، كاستحالة استقرار الجبل حال تحركه. ويكون هذا بمنزلة قوله: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، وأشباهه.
ومما يتعلقون به: قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَوْنَهُ سلامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، إلى غير ذلك من الآيات التي فيها ذِكْرُ اللقاء، والأصل في الجواب (2) عن ذلك أن اللقاء ليس (3) هو بمعنى الرؤية، ولهذا استُعمل (4) أحدهما حيث
__________
(1) في (أ): موضوعه.
(2) شطح قلم الناسخ في (ب)، فكتبها: اللقاء.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ب) و (ج): يستعمل.(5/230)
لا يُستعمل الآخر. وعلى هذا، فإن الأعمى يقول: لقيت فلاناً، وجلست بين يديه، وقرأت عليه، ولا يقول: رأيته. وكذلك يسأل أحدهم غيره: هل لقيت (1) المَلِكَ؟ فيقول: لا، ولكني رأيته على القصر، فلو كان أحدهما بمعنى الآخر، لم يَجُزْ ذلك، فثبت أن اللقاء ليس هو بمعنى الرؤية، وأنهم إنما يستعملونه فيها مجازاً. وإذا ثبت ذلك، فيجب أن تُحْمَلَ هذه الآية على وجهٍ (2) يُوافِقُ دلالة العقل، فنقول: المراد بقوله تعالى: {تحيتهم يوم يلقونه سلام} [الأحزاب: 44]، أي: يوم يلقون ملائكته، كما قال في موضع آخر: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الرعد: 23، 24] وأما قوله جل وعز: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثواب ربه، ذكر نفسه وأراد غيره. كما قال في موضع آخر (3): {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 42]، أي: إلى طاعة العزيز الغفار (4). وقال تعالى: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أي (5): إلى حيث أمرني ربي. وقوله تعالى: {وجَاءَ ربُّكَ} [الفجر: 22] أي: وجاء أمر ربك. {واسألِ القرية} [يوسف: 82] أي: أهل القرية. ونظائر هذا أكثر من أن تحصر.
وبعد: فلو كانت هذه الآية دالة على أن المؤمنين يرون الله تعالى، لوجب في قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] أن (6) يدل على أن المنافقين يرونه وهم لا يقولون (7) بذلك، فليس إلاَّ أن الرؤية مستحيلةٌ على الله تعالى في كل حالٍ وأن لقاءه بهذه الآية محمولٌ على عقابه، كما في تلك الآية محمولٌ على لقاء ثوابه (8) أو لقاء ملائكته، وفي الحكاية أن
__________
(1) من قوله: " فلاناً " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في (ب): وجوه.
(3) من قوله: " وأما قوله " إلى هنا ساقط من (ج).
(4) قوله: " أي: إلى طاعة العزيز الغفار " ساقط من (ب).
(5) ساقط من (ب).
(6) في (ب): أي.
(7) جملة " وهم لا يقولون " ساقطة من (أ).
(8) تحرفت في (أ) إلى: لتأتوا به.(5/231)
قاضياً من القضاة استدلَّ بقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف: 110] على أنه تعالى مرئيٌّ، فاعترض عليه ملاَّح فقال: إنه ليس اللقاء بمعنى الرؤية، لأن أحدهما يُستعمل حيث لا يستعمل الآخر، بل يثبت أحدهما وينفي الآخر، ولا يتناقض الكلام، وقال: فلو كان اللقاء بمعنى الرؤية، لم يختلف الحال فيه بالمؤمنين والمنافقين، وقد قال الله عز وجل: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، فيجب أن يدل على أن المنافقين يرونه.
فقال له القاضي: من أين لك هذا؟ فقال: من رجلٍ بالبصرة يقال له أبو علي بن عبد الوهاب الجُبَّائي. فقال: لعن الله ذلك الرجل، فقد بثَّ الاعتزال في الدنيا، حتى سلَّط الملاَّحين على القضاة.
ومما يتعلَّقون به: قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قالوا: بيَّن الله تعالى أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله تعالى، وهذا يدل على أن المؤمنين لا يُحجبون، وفي ذلك ما يقوله.
والأصل في الجواب عن ذلك: أن هذا استدلالٌ بدليل الخطاب، وذلك لا يُعتمدُ في فروع الفقه، فكيف في أصول الدين؟
وبعد: فليس في ظاهر الآية ما يدلُّ علي أن الكفار يوم القيامة يحجبون عن رؤية الله تعالى، لأنه تعالى (1) قال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، ولم يقل: عن رؤية (2) ربهم. ومتى قالوا: المرادُ بقوله: عن ربهم: عن رؤية ربهم، قلنا: ليس كذلك، بل المراد: عن ثواب ربهم. لأنكم إذا عدلتم عن الظاهر، فلستم بالتأويل أولى منا فنحمله على وجه يُوافِقُ دلالة العقل.
ومما يتعلقون به: إجماع الصحابة. قالوا: أتَّفقت الصحابة على أنه تعالى يُرى، وإجماعهم حجة، فيجب القضاء بأنه تعالى مرئيٌّ.
__________
(1) قوله: " لأنه تعالى " لم يرد في (ب).
(2) من قوله: " الله تعالى " إلى هنا لم يرد في (ج).(5/232)
قلنا: لا يمكن ادّعاء إجماع الصحابة على ذلك، فقد رُوِي عن عائشة لما سمِعَتْ قائلاً يقول: إن محمداً رأي ربه، فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت ثلاثاً من زعم أن محمداً رأي ربه، فقد أعظم الفِرْيَةَ على الله ثم تلت قوله تعالى (1): {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} (2).
وبعد، فمعلومٌ من حال أمير المؤمنين علي عليه السلام، وأكابر الصحابة أنهم كانوا ينفون الرؤية عن الله تعالى، وأنت إذا نظرت (3) في خُطَب أمير المؤمنين، وجدتها مشحونةً بنفي الرؤية عن الله، فبطل ما قالوه، والحمد لله.
ومما يتعلقون به: أخبارٌ مرويَّةٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأكثرها (4) يتضمَّن الجبر (5) والتشبيه، فيجب القطع بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقلهُ، وإن قال، فإنما قال حكايةً عن قومٍ، والراوي حذف الحكاية، ونقل الخبر من جملتها، وهو أسف (6) ما يتعلقون به ما يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر " (7).
قلنا (8): في الجواب عن هذا طرق ثلاث:
أحدها: هو أن هذا الخبر يتضمن الجبر (9) والتشبيه، لأنا لا نرى القمر إلا عالياً مُدَوَّرَاً مُنَوراً، ومعلوم أنه لا يجوز أن يُرى القديم على هذا الحدِّ، فيجب أن يُقطع أنه كذبٌ على النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله، وإن قال، فإنما قال حكايةً عن قومٍ
__________
(1) قوله: " ثم تلت قوله تعالى " بياض في (أ)، وساقط من (ج).
(2) صحيح وقد تقدم تخريجه.
(3) من قوله: " من حال أمير المؤمنين " إلى هنا بياض في (أ) و (ج).
(4) ساقطة من (و).
(5) تصحفت في (ب) إلى الخبر.
(6) في (ب) و (ج) و" شرح الأصول ": أشف.
(7) تقدم تخريجه ص 436.
(8) في (ج): " ولنا "، وفي (د): فلنا.
(9) تصحفت في الأصول إلى: الخبر.(5/233)
على ما ذكرناه.
والطريقة الثانية: هو أن هذا الخبر يُروى عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجليِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيسٌ هذا مطعونٌ من وجهين:
أحدهما: أنه كان يرى (1) رأي الخوارج، يُروى أنه قال: منذ سمعت عليّاً على منبر الكوفة يقول: انفروا إلى بقية الأحزاب -يعني أهل النهروان- دخل بغضه قلبي، ومن دخل بغض أمير المؤمنين (2) قلبه، فأقلُّ أحواله ألاَّ يُعتمد على قوله، ولا يُحتجَّ بخبره (3).
والثاني: قيل: إنه خُولِطَ في عقله آخر عمره، والكتبة يكتبون عنه -على عادتهم (4) - في حال عدم التمييز، ولا ندري أن هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أم مختلط العقل (5)، يُحكى عنه أنه قال لبعض الناس: اعطني درهما أشتري به عصاً أضرب بها الكلاب، وهذا من أفعال المجانين. ويقال (6) أيضاً. إنه كان محبوساً في بيت، فكان يضرب بيده على الباب، فكلما طقطق، ضحك، فلا يمكن الاحتجاج (8) بقوله، لأنَّ هذا دلالة الجنون عليه (9).
والطريقة الثالثة: أن يقال: إن صحَّ هذا الخبر، وسَلِمَ، فأكثرُ ما فيه أن
__________
(1) في (أ): يروى.
(2) قوله: " أمير المؤمنين " لم يرد في (أ).
(3) قلت: هذه الحكاية لم أجدها في كتب الرجال المعتمدة التي ترجمت لقيس بن أبي حازم، لكنهم ذكروا أنه كان يقدم عثمان على علي رضي الله عنه.
(4) في (ب): كعادتهم.
(5) روى الحديث عنه إسماعيل بن أبي خالد الثقة، وقد كان يقول عنه: حدثنا قيس بن أبي حازم هذه الأسطوانة على جهة المبالغة في تثبيته وتوثيقه.
(6) في (ب): ويروى.
(7) ساقطة من (ب).
(8) في (ب): فلا يحتج.
(9) انظر لزاماً ترجمة قيس بن أبي حازم في " سير أعلام النبلاء " 4/ 198 - 202، و" تهذيب التهذيب" 8/ 386.(5/234)
يكون خبراً من أخبار الآحاد، وخبر الواحد لا يقتضي العلم، ومسألتنا طريقها القطع والثبات، وإذا صحت هذه الجملة، بطل ما يتعلقون به.
ثم إن هذا الخبر مُعَارَضٌ بأخبارٍ رُوِيَت، منها ما روى أبو قِلابة، عن أبي ذرِّ قال: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -: هل رأيت ربك؟ فقال: " نورٌ هو؟ أنَّى أراه " (1)، أي: أنورٌ هو؟ كيف أراه، فحذف همزة الاستفهام جرياً على طريقتهم في الاختصار، وعلى هذا قول الشاعر:
فوالله ما أدري وإن كنتُ دارِياً ... بسبعٍ رَمَيْنَ الجمر أمْ بِثَمانِ (2)
وعن جابر بن عبد الله، عن رسول الله أنه قال: " لن يرى الله أحدٌ، لا في الدنيا ولا في الآخرة " (3).
وقد قيل لعليٍّ عليه السلام: هل رأيت ربك؟ فقال: ما كنت لأعبدَ شيئاً لم أره، فقيل: كيف رأيت؟ فقال: لم تره الأبصار بمشاهدة العيان، لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، موصوفٌ بالآيات، معروفٌ بالدلالات هو الله الذي لا إله إلاَّ هو الحي القيوم.
ثم نتأوله على وجهٍ يُوافقُ دلالة العقل، فنقول: المرادُ به: سترون ربكم يوم القيامة، أي: ستعلمون ربكم يوم القيامة كما تعلمون القمر ليلة البدر، وعلى هذا قال: " لا تضامون في رؤيته ": أي: لا تشكون فعقَّبه بالشكِّ. ولو كان
__________
(1) أخرجه مسلم (178)، وأحمد 5/ 157 و171 و175، والترمذي (3282) وابن منده في " الإيمان " (770) و (771)، والطيالسي (474).
وأخرجه ابن منده (772) و (773) بلفظ: رأيت نوراً.
(2) البيت من قصيدة لعمرو بن أبي ربيعة قالها في عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وهو في " ديوانه " ص 264، وأنشده سيبويه في " الكتاب " 3/ 175، والعيني في " شرح الشواهد " 4/ 142، والبغدادي في " خزانة الأدب " 11/ 122.
(3) لا يصح هذا عن جابر، ولم نجده في شيء من كتب السنة.(5/235)
بمعنى رؤية البصر، لم يَجُزْ ذلك، والرؤية بمعنى العلم مما نطق به القرآن، وورد به الشعر (1). قال تعالى: {ألمْ تَرَ إلى ربِّك كيفَ مَدَّ الظِّلّ} [الفرقان: 45]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] وفي الشِّعر:
رأيتُ الله إذ سمَّى نِزَارَا ... وأسْكَنَكُمْ بِمَكَّةَ قَاطِنينَا
أي: علمت. وقال حاتم طيىء:
أماويُّ إن يُصبِحْ صَدَايَ بقَفرَةٍ (2) ... مِنَ الأرضِ لا ماءٌ لَدَيَّ ولا خَمْرُ
تري أن ما أنفقتُ لم يكُ ضَرَّني ... وأنَّ يَدِي مما بَخِلْتُ به صِفْرُ
أمَاوِيُّ ما يُغْنِي الثراءُ عن الفَتَى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً، وضَاقَ بها الصَّدرُ (3)
[فإن] قالوا: النبي - صلى الله عليه وسلم - أورد هذا الخبر مَوْرِدَ البشارة لأصحابه، وأيُّ بشارة في أن يعلموا الله تعالى في دار الآخرة؟ ومعلومٌ أنهم يعلمونه في دار الدنيا.
قلنا: إنما بشَّرنا بالعلم الضروري. والعلم الضروري لا يثبت إلاَّ في دار الآخرة.
فإن قال: أيُّ بشارة في أن يعلم الله تعالى ضرورة.
قلنا: لئلا يلزم مؤنة (4) النظر، وتعب الفكر.
فإن قال: فيجوز (5) على هذا أن يكون (6) المنافقون والمؤمنون سواء، لأنهم
__________
(1) بياض في (ب).
(2) تحرفت في (أ) إلى: بفقرة.
(3) " ديوان حاتم " ص 43. وانظر " الكامل " للمبرد 1/ 484 طبع مؤسسة الرسالة، و" خزانة الأدب " 4/ 212 - 213.
والصدى: ما يبقى من الميت في قبره. والحشرجة: هي الغرغرة عند الموت وتردد النفس.
(4) في (د): منه.
(5) في (أ): فيحمل.
(6) قوله: " على هذا أن يكون " ساقط من (ج).(5/236)
يعرفون الله تعالى ضرورةً كالمؤمنين.
قلنا: إن المنافقين والكفار إذا علموا الله تعالى ضرورةً، فلا يكون حالهم وحال المؤمنين سواءً، لأن المؤمنين إذا عرفوا الله تعالى ضرورة، وعلموا دوام ثوابهم، ازدادوا سروراً وفرحاً، ويكون عيشهم أهنأ وأرغد، وليس كذلك حال المنافقين، لأنهم إذا عرفوا الله تعالى ضرورة، وعلموا دوام عقابهم، ازدادوا غَمَّاً وحسرةً، وكانوا في عُقوبةٍ وعذابٍ.
[فإن] قالوا: الرؤية إذا كانت بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين، نحو: رأيتُ فلاناً فاضلاً، ولا يجوز الاقتصار على أحد مفعوليه إلاَّ إذا كانت بمعنى المشاهدة.
قلنا: لا يمتنع أن يكون الأصل ما ذكرتموه، ثم نقتصر على أحد مفعوليه توسُّعاً ومجازاً، كما أن همزة التعدية إدا دخلت على (1) الفعل الذي يتعدى إلى مفعولين يقتضي تعدِّيه إلى ثلاثة مفعولين، ثم قد يدخل على الفعل الذي هذه حاله، ويقتصر على مفعولين، ولهذا قال الله تعالى: {أرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128]، فأدخل الهمزة على الرؤية، واقتصر على مفعولين، على أن حال الرؤية إذا كان بمعنى العلم ليس بأكثر من حال العلم، ومعلوم أنهم يقتصرون في العلم على أحد مفعوليه، فيقولون ما أعلم ما (2) في نفسك، ولهذا قال الله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116].
فإن قال: إن العلم هناك بمعنى المعرفة، فلهذا جاز أن يقتصر على أحد مفعولَيْهِ.
قلنا: فَارْضَ مِنَّا بمثل هذا الجواب. فنقول: إنَّ الرؤية بمعنى المعرفة في
__________
(1) في (ب) و (د): في.
(2) ساقطة من (أ).(5/237)
الخبر، لأن المراد بقوله " سترون ربكم يوم القيامة "، أي ستعرفون ربكم يوم القيامة كما تعرفون القمر ليلة البدر، فلا يجبُ أن يتعدى إلى مفعولين (1).
انتهى كلام المعتزلة، فمن أراد معرفة الحق في هذه المسألة، وكان من أهل الذكاء والفهم للأدلة الدقيقة المتعارضة نظر في كلام المعتزلة (2) هذا وفي كلام أهل السنة السابق قبله، وجعل الفريقين كالخصمين، وكان كالحاكم بينهم بعد الجمع بين أطراف كلامهم والإنصاف في الحكم بينهم، ومن لم يكن كذلك، ولا كان أهلاً لذلك، فالإيمان بمراد الله تعالى على الجُملة يجزيه ويكفيه، والتَّعرُّض لما لا يُحسنُه يُطغيه ويُغويه، والله الهادي، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الوهم السابع عشر: قال أيده الله: وأما الإجبار، فهو ظاهرٌ من مذاهبهم (3) هذا محمد بن إسماعيل البخاري قال في " صحيحه " في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ما لفظه: ما خلقت أهل السعادة إلاَّ ليُوحِّدوني، وليس فيه حجة لأهل القدر (4). انتهى.
__________
(1) من بداية إيراد المصنف لآراء المعتزلة حول مسألة الرؤية إلى هنا حذف عمداً من (ش)، وتقدمت الإشارة إلى ذلك ص 474.
(2) قوله: " كلام المعتزلة " ساقط من (أ).
(3) في (ش): مذهبهم.
(4) نص كلام البخاري في " صحيحه " 8/ 598 بشرح " الفتح ": (إلا ليعبدون): ما خلقت أهل السعادة من أهل الفريقين إلاَّ ليوحدوني، وقال بعضهم: خلقهما ليفعلوا، ففعل بعض، وترك بعض، وليس فيه حجة لأهل القدر. قال الحافظ في " الفتح " 8/ 600 تعليقاً على قوله: " ما خلقت أهل السعادة إلاَّ ليوحدوني ": هو قول الفراء، ونصره ابن قتيبة في " مشكل القرآن " له، وسبب الحمل على التخصيص وجود من لا يعبده، فلو حمل على ظاهره لوقع التنافي ببن العلة والمعلول، وقال في التفسير الثاني: هو كلام الفراء أيضاً، وحاصل التأويلين أن الأول محمول على أن اللفظ العام مراد به الخصوص، وأن المراد أهل السعاده من الجن والإنس، والثاني باق على عمومه، لكن بمعنى الاستعداد، أي خلقهم معدين لذلك لكن منهم من أطاع، ومنهم من عصى.(5/238)
أقول: توهم (1) السيد أنه يمكنه الاحتجاج على أن البخاري جبريٌّ مما في " صحيحه "، وهذا لا يمكن السيد، لأنه قد سدَّ الطريق إلى صحة ما في " صحيح البخاري " عن البخاري، وذلك في أحاديث الفروع التي يكفي الظن في قبولها (2)، فكيف بصحة ما (3) في " البخاري " عنه في محل التكفير والتفسيق الذي يجب فيه التواتر عند السيد (4)، فليرجع عن أحد المذهبين، فما يصح له الجمع بينهما.
الوهم الثامن عشر: وَهِمَ السيد أن كلام البخاري هذا يدلُّ على الجبر، والجبر يستلزم الكفر، وهذا يستلزم أمرين:
أحدهما (5): القدح في الحديث بكون البخاري من رواته، وهذا كما تقدم في الوهم الخامس عشر في قدحه في الحديث برواية الإمام أحمد. وقد تقدم الجواب هناك، فراجعه. وخلاصته أنه من جهل الضروريات (6) الذي لا دواء له إلاَّ سؤال أهل العلم وترك العناد، ونذكر هنا (7) سيرة البخاري، وكلام العلماء فيه، أو يؤمر طالب الهداية (8) بمطالعة ذلك، ومن مظانِّه كتاب " النبلاء " (9).
الأمر الثاني: رميُ المحدثين بالجبر، وهذا إغرابٌ عظيمٌ من مذهبهم، أو تحاملٌ شديدٌ عليهم، فإن أهل الحديث فرقةٌ غير الأشعرية، والأشعرية أربع فرقٍ، الجبرية منهم فرقةٌ واحدةٌ، والجبرية منهم أيضاً يقولون: بأن الاختيار إلى العبد أيضاً كما سيأتي بيانه في الوهم السابع والعشرين. وهذه الفرق الخمس
__________
(1) في (ب): وهم.
(2) ساقطة من (ج)، وفي (ب) و (ش): " ثبوتها "، وفي (د): " صحتها " وكتب فوقها: " ثبوتها ".
(3) في (ب): يصح بما، وفي (د): يتمسك بما.
(4) قوله: " عند السيد " ساقط من (ش).
(5) ساقطة من (ب).
(6) في (ش): الضرورات.
(7) ساقطة من (ب).
(8) في (ش): طالب العلم والهداية.
(9) 12/ 391 - 471.(5/239)
مُجمعون على القول بصحة القدر، مع نفي أكثرهم للجبر، وتفسير أهل الجبر له بما يبقى معه الاختيار، فدل هذا على الفرق بين القدر والجبر عندهم وعند غيرهم. والفرقُ بينهما في غاية الوضوح لأهل العلم، وممن نصَّ على إثبات القَدَرِ ونفي الجبر: الخطَّابي في " معالم السنن " والنواوي في " شرح مسلم "، وأبو السَّعادات ابن الأثير في " جامع الأصول " وغيرهم. هذا في الكتب الموجودة في ديار الزيدية. وسيأتي في الوهم التاسع والعشرين ذكر أدلتهم على إبطال الجبر، بل ذكر دعواهم الضرورة في بُطلانه، بل تكفير جماعة منهم للقائل به.
وبيان الوهم في كلام السيد أنه إمَّا أن يأخذ الجبر من قول (1) البخاري، " وليس فيه حجة لأهل القدر " أو من تأويل الآية، إن كان الأول، فهو لا يدلُّ على ما ذكره، وذلك لأن القدرية الخُلَّصَ عند المحدثين هم (2) الذين يقولون: إن الله تعالي لا يعلمُ الغيب على ما ذكره النواوي في " شرح مسلم " والخطابي وغيرهما، لأنهم فسروا القدر بعلم الله السابق من غير إجبارٍ، وفسَّروا القدرية بمنكري ذلك (3)، فصرَّحوا بذلك كلِّه. فالبخاري ردَّ على هؤلاء الذين يقولون: إن الله لا يعلم الغيب، وسمَّاهم أهل القدر (4)، لأن الآية من أعظم شُبَهِهِم، لأنهم يقولون: لا يصحُّ من القديم (5) إرادة ما يعلم أنه لا يحصل. والآية عندهم تدل على أن الله أراد العبادة من الكُفَّار، والضرورة تدل على أن العبادة ما حصلت (6) منهم، فدلَّتِ الآية عندهم على أن الله ما علم أن الكفار يُصرُّون على الكفر، ويموتون عليه. ولما كانت طوائف الأشعرية الأربع، وأهل الحديث يُوافقون القدريَّة على أن الله لا يصحُّ أن يُريد ما يعلم أنه لا يقع، احتاجوا إلى تأويل الآية على معنى لا يلزم معه (7) ما توهمَّت القدرية، فمنهم من قال
__________
(1) في (د): كلام.
(2) ساقطة من (ش).
(3) من قوله: " والخطابي " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) من قوله: " الذين يقولون " إلى هنا ساقط من (د).
(5) قوله: " من القديم " ساقط من (ب).
(6) في (ش): لم تحصل.
(7) في (ش): منه.(5/240)
بتخصيص الآية، ورجَّحوا التخصيص، لأنه لازمٌ على جميع المذاهب كما سيأتي بيانه، وهو الذي اختاره البخاريُّ. ومعنى التخصيص عند هذه الطائفة أن معنى الآية: ما خلقت أهل الإيمان من الجن والإنس إلاَّ لذلك، كما في قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] أي: يشرب بها المقرَّبون من عباد الله، وكما تخصُّ المعتزلة والقدرية من ذلك الأطفال والمجانين من الأعيان، وأحوال النوم، والنسيان، وما بعد الموت من الأزمان، فعلى هذا التأويل يقول البخاري: ليس لمن قال: إن الله لا يعلم الغيب حجة في نفس الآية الذي (1) لا يحتمل (2) التأويل، ويُنسب منكره إلى تكذيب السمع، والكفر بما قال، بل هي عمومٌ يجوزُ تخصيصه بالأدلة المنفصلة عنه من العقل والسمع، والقدرية ممن تُخصِّصُه (3) كما تقدم، فليس فيه حجة لهم على من وافقهم من أهل السنة على أن الله لا يريد ما يعلم أنه لا يقع.
ومن أهل السنة من اختار أن الآية على عمومها، ولكن التقدير فيها لطلب أن " يعبدون ". فإن الله طلب العبادة من الكفار، وأمرهم بها إجماعاً، وليس التقدير لإرادة أن " يعبدون ". ورجحوا هذا بوجهين:
الأول: أنه لا يخرج الآية إلى التجويز (4) بخلاف التخصيص، فإن إطلاق العامِّ على الخاصِّ مجازٌ.
الثاني: أن حمل الآية على أمرٍ معلومٍ من الذين مُجْمَعٌ عليه عند فرق المسلمين (5) أولى من أمرٍ على خلاف ذلك، وليس في هذا إلاَّ استعمال (6) لام " كي " في موضع الطلب، وهو صحيحٌ لا مانع منه، لأنه يُستعمل في موضع الإرادة، والإرادة (7) تُستعمل في الأمر عند شيوخ المعتزلة البغدادية، كما سيأتي
__________
(1) في (د): التي.
(2) في (ب) و (د): تحتمل.
(3) من قوله: " بالأدلة المنفصلة " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) في (ش) و (د): التجّوز.
(5) في (ب): المؤمنين.
(6) في (أ): " وليس في هذا الاستعمال لام " وفي (ب) و (ش): " .. استعمال .. ".
(7) ساقطة من (أ).(5/241)
تحقيقُه في مسألة الإرادة.
وأما إن كان السيد إنما فَهِمَ الجبر من البخاريِّ من مجرد تأويله للآية، فهذه غفلةٌ عظيمةٌ، فإن تأويل الآية لازمٌ عند جميع الفرق، بل تأويلها يلزم على أصول المعتزلة في مواضع أكثر مما يلزم على أصول أهل السنة:
الموضع الأول: التخصيص. كما تقدم بالنظر إلى الأطفال، والمجانين، والتقييد بالنظر إلى ما بعد الموت، وأوقات النوم والنسيان، بل المخصوص عند بعض المعتزلة لا يحتج به، لأنه قد علم أن ظاهره غير مرادٍ، فالتبس المراد منه.
الموضوع الثاني: إن المعتزلة لا يجيزون (1) خلق الخلق لأجل العبادة، إذ العبادة ليست الغاية المقصودة (2) التي ليس وراءها غايةٌ، بل العبادة من جملة الوسائل المقصود بها غيرها، قال الله تعالى: {لِمِثْلِ هذا فَليَعْمَلِ العَامِلُونَ} [الصافات: 61]، وإنما الغاية المقصودة: الثواب العظيم، والنعيم المقيم في دار البقاء، ومنزل أهل التُّقى (3). ودخولُ لام الغاية على العبادة التي هي وسيلة محضةٌ غيرُ مرادةٍ لنفسها مجازٌ، وهو من إقامة الشيء مقام ما يؤول إليه، مثل تسمية أموال اليتامى ناراً في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10].
الموضع الثالث: مما يوجب تأويل الآية عند المعتزلة. أنها تقتضي حصر وسائل السعادة، وقصرها على العبادة بمجردها، وهي غير منحصرةٍ في ذلك، فإن معرفة الرب جل جلاله ومعرفة صفاته وكماله، واستقرار ذلك في القلب بالبراهين واليقين التَّام أعظم وسائل السعادة الدائمة، وقد ورد التعليل بذلك في كتاب الله تعالى قال: سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
__________
(1) في (د) يجوزون.
(2) في (د) و (ش): القصوى.
(3) تحرفت في (أ) إلى: البقاء.(5/242)
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]. وخلقُ الجماد لأجل العلم يستلزم بالضرورة خلق العقلاء لأجل ذلك، فثبت أن الله خلقهم لأجل ذلك، فهذا في حقِّ المؤمنين، وفي خلق جميع المكلفين قوله تعالى في هود: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، وكذلك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] وتال: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2].
وكذلك رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: إن المعنى: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعرفون، وجعل المعرفة رأس العبادة ومعظمها (1).
وسيأتي تحقيق ذلك وما تحتمله الآية من الوجوه المتفق عليها والمختلف فيها في تفسير هذه الآية في مسألة الإرادة إن شاء الله تعالى.
وأما متكلِّمو الأشعرية، فتُصادِمُ الآية مذهبهم بقوة مفهومها لا نصِّها، فإنهم إن حاولوا تأويلها بلام العاقبة، كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، وكقول القائل:
لِدُوا للموت وابنُوا للخرابِ (2)
__________
(1) الثابت عن ابن عباس خلاف هذا، فقد روى الطبري 27/ 12 عنه في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}: إلاَّ ليقروا بالعبودية طوعاً وكرهاً. وكره السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 624 وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، أما التفسير الذي نقله المصنف هنا فقد نسبه البغوي في " تفسيره " 4/ 235، وابن كثير 7/ 401 إلى مجاهد.
(2) صدره:
له مَلَكٌ ينادي كل يوم
وهو منسوب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب في " خزانة البغدادي " 9/ 530.(5/243)
لم يأخذ حظَّه من القوة والبلاغة لأنا متى مَحَوْنَا من الآية أثر التعليل، وأردنا بيان مجرد عاقبة الخلق أجمعين، لم تكن هي (1) العبادة لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل عاقبة الخلق هي دار الآخرة التي هي دارُ القرار.
وأما الدنيا (2) التي شبَّهها الله تعالى بعشيَّةٍ أو ضحاها، وسمَّاها لَعِبَاً ولهواً، فليست وما كان فيها عاقبة الخلق حقيقةً (3) ولا مجازاً، أما الحقيقة، فظاهر، وأما المجاز، فلأن العبادة التي كانت فيها من أهل السعادة والكفر من أهل الشقاوة ليسا عند الأشعرية سبب الثواب والعقاب في دار الآخرة، فلا يصحُّ إقامة الأعمال مقام جزائها، ودخول لام العاقبة عليها على أصلهم، وذلك لأن مذهبهم أن أفعال الله كلها (4) غيرُ معلَّلة بعلَّةٍ، ولا واقعة لغرضٍ، ولا لها سببٌ ولا داعٍ، ولا عليها حاملٌ ولا باعثٌ. وسوف يأتي بيان ركاكة هذا في العقل والسمع في الوهم الثامن والعشرين إن شاء الله تعالى.
الوهم التاسع عشر: قال: وأما الإرجاء، فهو أنواعٌ: منه ما يقتضي الكفر.
إن كان السيد قصد بها حكاية المذهب، فقد وَهِمَ في ذلك (5)، والذي في كتب الزيدية غير ما ذكر.
ففي " التذكرة " (6) للقاضي شرف الدين حسن بن محمد النَّحوي التي هي
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): هذه.
(3) في (د): لا حقيقة.
(4) ساقطة من (د).
(5) قوله: " في ذلك " ساقط من (ش).
(6) هي " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة ". قال إبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله في " طبقات الزيدية " في ترجمة مؤلفه: له تصانيف أجلها كتاب " التذكرة " ألفها في سنة بضع وتسعين وسبع مئة من كتب عديدة، وكانت عمدته كتاب " اللمع "، فلهذا قال بعض أئمتنا في ذكر " الأزهار ": أمُّه " التذكرة "، وجدته " اللمع "، وكانت " التذكرة " العمدة في التدريس حتى ظهر " الأزهار "، ومن الكتاب عدة نسخ في مكتبة " الجامع الكبير " بصنعاء. انظر " فهرس المخطوطات " ص 240 - 241. وانظر أيضاً في ترجمة النحوي " مطلع البدور " 409/ 2.(5/244)
مَدْرَسُ الزيدية الآن: إن الاختلاف في الإرجاء لا يقتضي كفراً ولا فسقاً ولا جرحاً، وجعله كالاختلاف في الأعواض، وكذلك قال (1) القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدوَّاري في كتاب " الدِّيباج النضير " (2) وهما أرسخُ قدماً في معرفة المذهب منه أيده الله، فإن كان يتحقَّقُ غَلَطُهُمَا فيما نقلاه (3) فليبيِّن وجه ذلك بذكر إسناده في نقله، وترجيحه على إسنادهما بطرق الترجيح المعروفة، ووجه القطع ببطلان نقلهما (4). وإن كان السيد يريد أن ذلك مذهبٌ له اختاره، فقد وَهِمَ أن في إيراده بغير حُجَّةٍ فائدة في هذا الموضع، وليس له فيه فائدة ألبته، لأن أقصى ما في الباب أن نكون مقلِّدين للسيد، لكن هذه المسألة ليست من مسائل التقليد، فإن التكفير عند السيد يحتاج إلى دليلٍ قاطع، ولا يحلُّ العمل بالظَّنِّ فيه لمتبوع ولا تابع، فما باله يدُلُّ (5) بالدعوى من غير دليلٍ ويُعَوِّلُ في دفع الخصم على ما ليس عليه تعويل.
الوهم الموفي عشرين: حُكِيَ عن الرازي أنه قال: فإن قلت: فما تقول فيمن عَرَفَ الله بقلبه فقط، وما قال: لا إله إلاَّ الله أبداً لغيرِ عُذرٍ، ولا (6) فعل شيئاً من الواجبات، ولا ترك شيئاً من المحظورات إلاَّ ارتكبه؟ قلت: أجيب بما أجاب به الغزاليُّ أنه مؤمنٌ، ويُدْخِلهُ الله الجنة إن شاء الله. انتهى بلفظه أو ما يقرب من لفظه إلى آخر كلام السيد.
قال: وعلى أصلهم: إيمانُ هذا كإيمان أفضل المسلمين، وتجويزُ دخوله الجنة كتجويز دخول أفضل الصَّالحين.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) هو" الديباج النضير على لمع الأمير "، وهو شرح وتعليق على كتاب " اللمع " لعلي بن الحسين، وصل فيه إلى كتاب الرضاع. انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء " ص 256.
(3) في (د): ادعياه.
(4) من قوله: " فليبين وجه ذلك " إلى هنا ساقط من (ج).
(5) في (ش): بدأ.
(6) في (د): وما.(5/245)
أقول: ما مرادُك بالإيمان الذي يُسوُّون فيه بين المؤمنين؟ هل التصديق والاعتقاد الذي في القلب من جنس العلم الاستدلالي؟ فإذا إجماعٌ، فإن اعتقاد الفاسق أن الله ربه مثل اعتقاد الصالح عند النظر في الأدلة، وإنما الخلاف في تسمية اعتقاد الفاسق إيماناً مع الكبائر على تسميته إيماناً (1) مع الصلاح والاستقامة، قال الله تعالى: {إلاَّ من أُكْرِهَ وقلبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمانِ} [النحل: 106].
أو تريد أن من مذهبهم أنَّ من آمن بقلبه، وعصى بجوارحه، فمنزلته عند الله مثل منزلة من آمن بقلبه وأطاع بجوارحه، فهذا وهمٌ فاحشٌ، فإنهم لا يسوُّون بين المؤمنين في الإيمان. وقد بوَّب البخاريُّ باباً في " صحيحه " على زيادة الإيمان ونقصانه، واحتجَّ على ذلك بحُججٍ كثيرةٍ من القرآن (2) والسنة (3).
وليس الفاسق يسمَّى عند أهل السنة مؤمناً على الإطلاق، وإنما يُسمّى مؤمناً بقلبه.
قال ابن بطَّال (4) في " شرح البخاري " ما لفظه: وكذلك لو أقرَّ بالله ورسوله، ولم يعمل الفرائض، لا يُسمى مؤمناً بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب قد يجوزُ أن يُسمى مؤمناً بالتصديق، فغير مستحقٍّ لذلك في حكم الله تعالى لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، فأخبر تعالى أن المومنين -على الحقيقة- من كانت هذه صفته، دون من قال ولم يعمل، وضيَّع ما أمر به (5) وفرط. انتهى.
__________
(1) قوله: " على تسميته إيماناً " ساقط من (ب).
(2) في (ب) و (د) و (ش): الكتاب.
(3) انظر " صحيح البخاري " كتاب الإيمان رقم الباب (33).
(4) تقدمت ترجمته 3/ 272.
(5) في (ب): أمر الله به.(5/246)
وذكر القاضي: أبو بكر بن العربي المالكي (1) في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " اختلاف الناس في المسلم والمؤمن، وفي اشتقاق اسميهما، واختار أن المسلم من أسلم نفسه من عذاب الله، والمؤمن من أمَّنَ نفسه منه.
وهذا يدلُّ على أن الفاسق لا يُسمَّى مؤمناً على الإطلاق عندهما، سلمنا أنه يسمى بهذا الاسم مؤمناً عندهم مطلقاً أو عند بعضهم، فإن من تُسمِّيه بذلك لا يعني أنه صالحٌ عَدْلٌ، ولا نُسَوِّي (2) بينه وبين أهل العدالة والصِّيانة، ومن المعلوم بالضرورة أنهم يجرِّحُون الفاسق المصرِّح في الشهادة والرواية، وأنهم يفضِّلُون بعض المؤمنين على بعضٍ (3) مثل تفضيلهم للخلفاء الراشدين على مَنْ بعدَهم.
وبالجملة (4): فلا حاجة إلى التطويل بذكر ما يدلُّ على مذهبهم في ذلك.
فهو معلومٌ بالضرورة والتواتر، ومُنكرهُ لا يزيد على النداء الصريح على نفسه بأنه من جملة الخرَّاصين، وأفحش الكذابين، لأن أهل الكذب خَذَلهُمُ الله تعالى إنما يكذبون في المواضع الخفية التي تمضي فيها أقوالهم الفريَّة.
وقد تقدَّم الجواب على مثل هذا في مسألة المتأوِّلين مستوفى، فخذه من هناك، فإني لم أقتصر على هذا القدر إلاَّ لأنِّي استوفيتُ الجواب هناك.
الوهم الحادي والعشرون: قال: ومن سوَّى بين هذا الكافر وبين أفاضل المسلمين، أو قال: بأنه يدخل الجنة، فقد ردَّ ما هو معلومٌ ضروةً من الدين.
أقول: أما التسوية بينهما، فالقوم قد صرحوا بأنهم ما سوَّوا بينهما، وذلك
__________
(1) هو الإمام العلامة الحافظ القاضي صاحب التصانيف أبو بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي كان ثاقب الذهن، عذب المنطق، كريم الشمائل، ولي قضاء إشبيلية، فحُمدت سياسته. ارتحل إلى مصر ودمشق وبيت المقدس وبغداد. وتوفي سنة 543 هـ. انظر ترجمته في " السير " 20/ 197.
(2) في (ب): سواء.
(3) في (ش): بعضهم.
(4) ساقطة من (ب).(5/247)
واضحٌ عنهم (1)، ولكنَّا نُورد نصَّ الغزالي الذي روى المعترض عنه من كتابٍ (2) هو نسخةٌ للمعترض حتى يشهد بكذب النفس (3) عليه شاهد حاضر لديه، فنقول: قال الغزالي في كتابه المعروف " بالتفرقة " في أواخره ما لفظه:
واعلم أن أهل البصائر قد انكشف لهم سبقُ الرحمة وشمولها بأسبابٍ ومكاشفاتٍ سوى ما سمعوه من الأخبار والآثار، ولكن ذِكْرُ ذلك يطول، فأبشر برحمة الله تعالى، وبالنجاة المطلقة إن جَمَعْتَ بين الإيمان وبين العمل الصالح، وبالهلاك المطلق إن خلوتَ عنهما جميعاً، وإن كنتَ صاحب يقينٍ في أصل التصديق، وصاحب خطأ في بعض التأويلات، أو صاحب شكٍّ فيها، أو صاحب خَلْطٍ في الأعمال، فلا تطمع في النجاة المطلقة، واعلم أنك بين أن تُعذَّبَ مرة ثم تُخلَّى، وبين أن يشفع فيك من تيقَّنت صدقه في جميع ما جاء به أو غيره. انتهى كلام الغزالي في كتاب " التفرقة بين أهل الإسلام والزندقة " (4).
واعلم أنهم يقطعون بدخول المطيع الجنة وسلامته من العذاب.
ومستندهم في القطع ثلاث حُججٍ:
الأولى: وعدُ الله تعالى الصادق، فالكذب عليه -سبحانه- عندهم لا يجوز.
وثانيها (5): علمه سبحانه السابق بأنهم من أهل الجنة، فالتغيير عندهم في معلومه لا يقع.
وثالثها: إرادتُه سبحانه لهم ذلك وخلقُهم له، فمرادُه سبحانه عندهم لا يتخلَّف.
__________
(1) في (د): عندهم.
(2) في (ش): كتابه.
(3) في (د): " يشهد بكذبه "، وفي (س): بكذبه النقل.
(4) من قوله: مرة ثم تخلى إلى هنا بياض في الأصول، ومثبت في (ش) بخط مغاير، وكتب فوقه بنفس خط الأصل، بياض في " الأم ".
(5) في (ب) و (د): وثانيهما.(5/248)
وأما الفاسق، فيجوِّزون فيه الأمرين، ويكِلُون علمَه إلى عالم الغيب، لأنه سبحانه أجمل ذلك في قوله عز وجل: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
ثم إنهم لا يُسَوُّون بين أهل الجنة في مراتبهم، ولا بين أهل النار في دركاتهم، وكذلك جميع أهل الملة الإسلامية بل جميع الملل الإسلامية (1) والكفريَّه لا يساوون بين أهل الفضائل، ولا يُماثِلُون بهم أهل الرَّذائل، وما أحسن قول القائل:
وَلَمْ أرَ أمثال الرِّجال تفاوُتاً ... لدى المَجْدِ حتَّى عُدَّ ألفٌ بواحدِ (2)
وقال ابن دريد:
والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ ... وواحدٌ كالألفِ إنْ أمرٌ عنى (3)
وأما القول بأنَّ من آمن بقلبه، وعصى بجوارحه، فهو من أهل النار ضرورة من الدين، فهذا يقتضي أنه كافرٌ ضرورة من الدِّين، لكن لا دليل على ذلك، ولعل الصواب أن كفره معلومٌ بالضرورة من مذهب بعض أهل الكلام. ومن بنى (4) التكفير على غير قاعدةٍ قطعيةٍ ولو كان كفره معلوماً بالضرورة، لاشترك (5) العلماء في ذلك، ولوجب أن تكون طريقة معرفته النقل لا العقل، والطريق النقلية المفيدة للضرورة لها شروطٌ:
أحدها: أن يُنقل نصٌّ جليٌّ لله تعالى، أو لرسوله - صلى الله عليه وسلم - غير محتملٍ للتأويل في هذا المعنى مثل قوله: من آمن بقلبه ولم يُطِع، فهو كافرٌ، حكمةُ حكم
__________
(1) قوله: " بل جميع الملل الإسلامية " ساقط من (ب).
(2) هو للزمخشري. وقد تقدم 1/ 245.
(3) تقدم 1/ 245.
(4) بياض في (ب)، وساقطة من (ش)، وفي (د): يبني.
(5) في (أ) و (ب): لاشتراك.(5/249)
المشركين بالله، وإيمانُه باطلٌ، فإن كان هذا لا يحتمل التأويل كفي، وإلاَّ وجب أن ينضمَّ إليه من القرائن ما يُوجب إرادة الظاهر، ويمنع التأويل قطعاً.
الشرط الثاني: أن يُنقل هذا اللفظ أو ما (1) يقوم مقامه نقلاً متواتراً في الوسط والطرفين.
الشرط الثالث: العلم القطعيُّ بعدم المعارضة وعدم النسخ.
فإذا عرفت هذا، فمن المعلوم أنه ما حصل واحدٌ من الشروط، بل ما نُقِلَ في هذا لفظ صريحٌ ظنِّيٌّ آحادي. وأما القرآن فهو برىءٌ من النصِّ في هذه المسألة، ولهذا قال علماء الوعيدية: إن المخالف فيها لا يُكفر ولا يُفسق.
الوهم الثاني والعشرون: قال: وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أُمِرْتُ أن أقاتلَ الناس حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، فإذا قالوها، عَصَمُوا منِّي دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها " (2)، فإن كان هذا الذي ذكراه مؤمناً، فكيف يُقاتله الرسول على الإيمان؟
أقول: غفلة السيد في هذا الكتاب ما وقفت على حدِّ، وكلامه في هذا
__________
(1) في (و): وما.
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (1399) و (1457) و (6924) و (7284)، ومسلم (20) و (21)، وأحمد 2/ 345 و377 و423 و475 و502 و527 و528، والترمذي (2606) و (2607)، والنسائي 7/ 79، وأبو داود (2640)، والحاكم 1/ 287.
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 199 و224 - 225 والبخاري (392)، والترمذي (2608)، وأبو داود (2641)، والنسائي 7/ 75 - 76 و8/ 109، والحاكم 1/ 386 - 387.
وأخرجه من حديث ابن عمر: البخاري (25)، ومسلم (22)، والترمذي عقب حديث أبي هريرة.
وأخرجه من حديث أوس بن حذيفة: أحمد 4/ 8 - 9، والنسائي 7/ 80 - 81.
وأخرجه من حديث جابر: أحمد 3/ 300 و332 و339، والحاكم 2/ 522.(5/250)
الموضع مما كنت أظنه أرفع مكاناً من (1) أن يخفى عليه مثله هو ما عرف أن الرجلين لم يقولا: إن الإيمان هو ترك الشهادتين، حتى إذا قاتل النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك كان قد قاتل على الإيمان، إنما قالا: الإيمان هو التصديق بالقلب، وعلى المؤمن بقلبه واجباتٌ أُخَرُ يستحق تاركها القتال بتركها، وإن كان مؤمناً، وهو النطق بالشهادتين وسائر أركان الإسلام الأربعة، وغيرها (2) مما ورد الشرع بقتال تاركه، أو قتال مرتكبه، وليس يخالف في هذه الجملة أحد من أهل الإسلام، فكيف غفل السيد عن هذا؟ وكيف ظن أن الغزالي والرازي -مع تبحُّرهما في العلوم، وتوغُّلهما في الدقائق- يذهبان إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقاتل من آمن بقلبه، ولم يَنْطِقْ بالإيمان على ما أضمر في قلبه من الإيمان بالله سبحانه، هو ما درى أن النطق بالشهادتين (3) عندهما واجبٌ كالصلاة، والزكاة، والحج، وصوم شهر رمضان، هو ما عرف أنه يجوزُ عند جميع أهل الإسلام للرسول بل للإمام أن يقاتل من ترك أحد أركان الإسلام، وإن لم يكفر التارك لأحدها، أليس قد صرح الرازي في كلامه الذي حكى عنه السيد أن للدين واجباتٍ، وفيه محرمات، حتى تكلم في من آمن بقلبه، وترك جميع الواجبات، وارتكب جميع المحرمات؟ فهو يقول: النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل تارك الشهادتين على ترك واجب من واجبات الإسلام التي، يكفر تاركها، لا على أنه آمن بقلبه، وكيف يكون القتال على ذلك؟ وهل يمكن أن يكون المطلوب بالقتال على الإيمان بالقلب إلاَّ اعتقاد الكفر بالقلب؟ وكيف ظن بهما هذا؟ وأي كلام لهما يقتضي هذا، والرسول (4) - صلى الله عليه وسلم - لم يُقاتل على ما في القلوب من الكفر، بل وَكَلَ الناس إلى ظواهرهم؟ فكيف يقاتل على ما في القلوب من الإيمان؟
الوهم الثالث والعشرون: ظن السيد أن الاحتجاج بالحديث يصح في آخر كتابه، ويمتنع في أوله، فإنه منع في أوله (5) من الاحتجاج بالحديث النبوي لعدم
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): وغيرهما.
(3) في (ش): أن الشهادتين.
(4) في (د): والنبي.
(5) قوله: " فإنه منع في أوله " ساقط من (ب).(5/251)
صحته في إسناده، وعدم معرفة معناه لغةً، وعدم العلم بفقد المعارض والناسخ والمخصَّص، وشدّد في ذلك، وشرع في آخر كتابه يحتجُّ بالأحاديث، فإما أن يكون ظن أن بين أول كتابه وآخره فرقاً واضحاً، أو ظن أنه صالحٌ لذلك، وليس غيره صالحاً، أو حَسِبَ أن خصمه لا يجمع بين أطراف كلامه، ولا يدري بمناقضاته وأوهامه، أو (1) السيد لا يدري ما يخرج من رأسه، ولا يفرِّق بين أقواله وأنفاسه.
ومَنْ جَهِلَتْ نفسُهُ قَدْرَه ... رأى غيرُه منه ما لا يَرَى (2)
الوهم الرابع والعشرون: قال: وأيضاً قوله: " فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم ". يقتضي (3) أنها لا تكون معصومةً حتى يقولوها.
أقول: قد توهَّم (4) أن مذهبهما أن من آمن بقلبه، فقد عصم دمه وماله، ولم يقولا بما يقتضي ذلك بمنطوقٍ، ولا مفهومٍ، ولا قال بذلك أحدٌ، وإنما قال: إن هذه الأفعال الخمسة من أفعال الجوارح، والإيمان من أفعال القلوب، لقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان} [النحل: 106] وقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقوله عليه السلام في الحديث الصحيح وقد سئل عن الإسلام، فذكر الشهادتين وسائر الأركان الخمسة، وسئل عن الإيمان فقال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ".
خرجه مسلم من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه (5) - ونظير ذلك من
__________
(1) في (ب): و.
(2) البيت من قصيدة للمتنبي يصف فيها خروجه من مصر، ويهجو كافوراً الإخشيدي. انظر " الديوان " 1/ 44.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): توهم السيد.
(5) برقم (8). وأخرجه أبو داود (4695)، واين ماجه (63)، والنسائي 8/ 97 و101، والطيالسي ص 5، وأبو يعلى (242)، وأحمد 1/ 28 و51 و52، وابن حبان (168)، والترمذي (2610)، والبغوي (2)، والآجري في " الشريعة " ص 188 - 189، وابن منده =(5/252)
عمومات السمع كثير (1)، وهو يوجد حتَّى في كلام الوعيدية.
قال الحاكم المُحسِّن بن كرَّامة المعتزلي في تفسيره " التهذيب " في قوله تعالى: {وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27] من المصدقين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودينه.
وأما الدم والمال، فإنما (2) يعصِمان بإقامة أركان الإسلام الظاهرة، وعليها يقعُ القتال دون ما حجبته الضمائر. ولهذا فإن المنافق الذي لم يؤمن بقلبه يعصم دمه وماله متى قام بأركان الإسلام الظاهرة، فهو كافرٌ في علم الله، وهو معصوم الدم والمال، وكذلك العكس، فقد يكون مؤمناً بقلبه في علم الله، وهو مباحُ الدم والمال، مستحق للعذاب بما ترك من الواجبات الظاهرة، وارتكب من المحرمات المعلومة.
الوهم الخامس والعشرون: وهم السيد أن قولهما هذا من الإرجاء، بل قالي: هو من الإرجاء وأشنعه، وليس كما وَهِمَ، فإن الإرجاء يخالف مذهبهما من وجهين:
أحدهما: أن المرجئة يقولون: الإرجاء قولٌ بلا عمل، ومنهم من يقول: ولا اعتقاد، وهما قالا: إنه اعتقادٌ من غير قولٍ ولا عملٍ، فأخرج (3) القول من الإيمان الذي أجمعت المرجئة على (4) أنه أساس الإيمان، ولهم (5) على ذلك أدلَّةٌ كان يلزم المعترض ذكرها. والجواب عنها، أو (6) الصَّمت عن ذلك كله.
منها: أن الله تعالى وصف مؤمن آل فرعون بأنه يكتم إيمانه، ولم يبطل إيمانه بذلك، فيجب بيان دليلٍ قاطعٍ على أن شرط الإيمان المكتوم أن يكون منطوقاً.
__________
= في " الأيمان " (1) و (2) و (3) و (4) و (5) و (6) و (7) و (8) و (9) و (10) و (11) و (12) و (13) و (14).
(1) في (ب). الكثير.
(2) في (د) و (ش): فإنهما.
(3) في (ب) و (ج) و (د): فأخرجا.
(4) ساقط من (ب).
(5) في (ب) و (ج) و (د): ولهما.
(6) في (أ): و.(5/253)
ومنها حديث عثمان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلاَّ الله دخل الجنة ". رواه مسلم والنسائي (1)، وفي " تلخيص " (2) ابن حجر أنه من " المستدرك " رواه البخاري ومسلم.
وفي " مسند " أحمد (3) من حديثٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - " الإسلامُ علانيةٌ، والإيمان في القلب ".
ومثله حديث عمر الذي في " صحيح " مسلم في تفسير الإسلام والإيمان والإحسان (4)، فيجب ذكر ما يُعَارِضُ هذه، وبيان مناقضة ذلك المعارض، والقطع بتعذر الجمع بدليلٍ قاطع.
وثانيهما: أن المرجئة يقولون: إن المؤمن العاصي لا يُعذَّب قطعاً، وهما يُجوِّزان أن يعذَّب، وأن يُعفى عنه، ورواية السيد عنهما تقتضي (5) ذلك، وقد روى " الرَّصاص " (6) في " خلاصته " -وهي (7) مَدْرَسُكُم- حديثاً نصّاً أن الإرجاء هو القول بأن الإيمان قولٌ بلا عملٍ، وكذا نصَّ على ذلك محمد بن نشوان،
__________
(1) أخرجه مسلم (26)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (1114) و (1115) وابن حبان في " صحيحه " بتحقيقنا (202)، وابن منده (33)، والحاكم 1/ 72.
(2) 2/ 103 وقد نسبه الحاكم في " المستدرك " 1/ 72 إلى البخاري ومسلم، وقد غلط في ذلك، فإن البخاري لم يخرجه.
(3) 3/ 134 - 135 من حديث أنس. وأخرجه البزار (20)، وأبو يعلى (2923). وإسناده ضعيف لضعف علي بن مسعدة أحد رواته.
(4) تقدم تخريجه قريباً.
(5) في (ب): والسيد روى عنهما ما يقتضي.
(6) هو أحمد بن محمد الرصاص، تقدمت ترجمته 1/ 287، وكتابه الذي يشير إليه المصنف هو " الخلاصة النافعة بالأدلة القاطعة في فوائد التابعة " رتبه على أربعة أبواب: الأول في وجوب النظر وما يتعلق به، والثاني في التوحيد وقسمه، ومسائله، والثالث في العدل، والرابع في الوعد والوعيد وما يتبعهما. انظر " فهرس مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء " ص 158 و159.
(7) في (ب): في.(5/254)
وأبوه نشوان بن سعيد، ذكره في " الضياء "، وهما من المعتمدين في الُّلغة، وكأن السيد ما فرق بين الرَّجاء والإرجاء، والفرق بينهما معلوم عند أهل اللغة.
قال الجوهري في " صحاحه " (1): أرجيت الأمر: أخَّرته. يُهمز ولا يُهمز، وقرىء: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ} (2) [التوبة: 106] و {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} (3) [الأعراف: 11]، فإذا وصفت الرجل به، قلت: رجلٌ مُرْجٍ، وقوم مُرجية، والرجاء: الأمل، يقال: رجوت فلاناً رجواً ورجاءً ورَجَاوَةً،: يقال ما أتيتك إلا رَجَاوَةَ الخير، قال بشر يخاطب ابنته:
فَرَجّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القَارِظُ العَنَزِيُّ آبا (4)
انتهى (5).
وقد ورد في الحديث الحثُّ على الرجاء، والنهي عن الإرجاء، ففي
__________
(1) 6/ 2352.
(2) هي قراءة نافع وحمزة والكسائي وحفص، وقرأ الباقون بالهمز. انظر " حجة القراءات " ص 323.
(3) هذه قراءة عاصم وحمزة، وقرأ ابن كثير وهشام عن ابن عامر " أرْجئهْ " بهمزة وواو بعد الهاء في اللفظ، وقرأ أبو عمرو بضم الهاء من غير إشباع، وقرأ نافع والكسائي: " أرجهي " بإشباع الياء، وفي قراءة الحلواني عن نافع: " أرجهِ " بكسر الهاء من غير إشباع، وقرأ ابن عامر: " أرجئْهِ " بهمزة وكسر الهاء. انظر " حجة القراءات " ص 289 - 291.
(4) البيت في " الصحاح " و" اللسان " و" طبقات ابن سلام " 1/ 180 و185، و" مختارات الشجري " 2/ 32 من قصيدة جيدة قالها بشر بن أبي حازم، وهو يجود بنفسه.
وقوله: " إذا ما القارظ العنزي آبا " هو من أمثال العرب في الغائب لا يُرجى إيابه، والقارظ: هو الذي يجتني القَرَظَ، وهو ورق السَّلَم يُدْبغ به. وقد خرج هذا العنزي ليجتنيه، فَفُقد وصار مثلاً للمفقود الذي يُؤْيس منه. وانظر " فصل المقال " ص 473، و " مجمع الأمثال " 2/ 212، و" المستقصى " 1/ 127 - 128.
(5) ساقطة من (أ).(5/255)
الصحيح يقول الله تعالى: " أنا عند (1) ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء " (2).
وفي الترمذي " -وليس إسناده بذاك-: " صِنْفَانِ من أُمتي ليس لهما في الإسلام نصيبٌ: المرجِئَة والقدرية " (3). وأحاديث الشفاعة الصِّحاح المتواترة المعنى قاضيةٌ بردِّ (4) مذهب المرجئة، فإنهم يذهبون إلى أن أهل الإسلام لا (5) يُعذبون.
وفي أحاديث الشفاعة خروجُهم بها من النار، وليس هذا موضع بسط هذه المسألة، وإنما القصد بيان الفرق بين الرَّجاء والإرجاء، وقد فَهِمَ أهل الحديث هذا، وردُّوا على المرجئة في كتبهم.
قال أبو داود في " السنن " باب ردِّ الإرجاء (6). وروى في ردِّه، وفي زيادة الإيمان ونُقصانه أربعة عشر حديثاً، عن: أبي هريرة (7) وجابر (8) وابن عمر (9) وابن عباس (10) وسعد بن أبي وقَّاص (11) وأبي أُمامة (12) والزهري، موقوفاً (13).
وكذلك سائرُ أهل الصحاح والسنن قد أفرد كل منهم باباً في رد الإرجاء وزيادة الإيمان ونقصانه.
الوهم السادس والعشرون: وهم أنهم كفار تصريحٍ، وأنهم يعلمون كفر
__________
(1) في الأصول: " حيث "، والمثبت من (ب).
(2) أخرجه بهذا اللفظ أحمد في " المسند " 3/ 491 و4/ 106 من حديث واثلة بن الأسقع.
وصححه ابن حبان (633) و (634) و (635) بتحقيقي.
(3) رقم (2149) في كتاب القدر: باب ما جاء في القدرية. وأخرجه ابن ماجه (73)، والطبراني (11682)، والبخاري في " التاريخ الكبير " 4/ 133، وإسناده ضعيف.
(4) في الأصول: ترد، والمثبت من (د).
(5) ساقطة من (أ).
(6) 5/ 55.
(7) رقم (4676) و (4682) و (4683) و (4689).
(8) رقم (4678).
(9) رقم (4679) و (4688).
(10) رقم (4677) و (4680).
(11) رقم (4683) و (4684).
(12) رقم (4681).
(13) رقم (4684).(5/256)
أنفسهم، وإنما قصدُهُم إضلال العباد عن الدين، وتحريف شريعة ربِّ العالمين، وهذا عدوان على المسلمين ومخالف (1) لمذاهب المعتزلة والمتشيِّعين. وقد نصَّ في " اللُّمع " -التي هي مدرس الزيدية- على أن الجبر والتشبيه عندنا من جهة التأويل والتدين. وقد تقدم الجواب على هذا في مسألة المتأولين من وجوهٍ ثلاثة، فخذه من هنالك. فلولا خوف الإطالة لأعدته.
الوهم السابع والعشرون: وهم أنهم أنكروا القدر الضروري في شكر المنعم، لأنهم قالوا: شُكْرُ المنعم لا يجب عقلاً، وإنما يجبُ سمعاً، وليس كما وهم، فإنهم في تلك المسألة المرسومة في الأصول إنما نازعوا في معرفة العقل لوجوب شكر المنعم الذي هو الله جل جلاله، لأنه غنيٌّ عنه، لا يمكن أن ينتفع به، ولا يتضرر بتركه، مع أن الشكر قد يكون فيه مضرَّة على العبد ومشقَّةٌ، قالوا: فلو خُلينا وقضية العقل، لم نعلم بها وجوب ما هذه صفته.
قال الجُويني في " البرهان " (2) ما لفظه: والبرهان القاطع في بطلان ما صاروا إليه أن الشكر نعتٌ (3) للشاكر بأجرٍ، ولا يُفيدُ المشكور شيئاً، فكيف يقضي العقل بوجوبه؟ وقد ردت عليهم ذلك الشيعة والمعتزلة بأن الوجه فيه: أن العبد يخاف مضرة العقاب من سيده على ترك الشكر، وليس هذا في محل الضرورة، ولا ادعت المعتزلة فيه الضرورة.
ومن العجب أن الأشعرية عرفوا مذهب المعتزلة في ذلك، وما عرفه السيد، فإن المعتزلة لم تدَّع أن وجوب الشكر في حق الله تعالى ضروري.
قال الجويني في هذه المسألة: وليس ذلك عند المخالفين واقعاً في قسم الضروريات، وإنما هو مُدرَكٌ بالنظر عقلاً، ومنوطٌ بمسلكٍ يوضحه.
__________
(1) في (ش) و (د): ومخالفة.
(2) 1/ 94.
(3) تصحفت في (أ) إلى: تعب.(5/257)
ثم قال في بيان هذا المسلك ما لفظه: وللخصوم مسلكان: أحدهما: التَّعلُّق بتغافل العُقلاء شاهداً، ويزعمون (1) أن الشكر واجبٌ شاهداً، ثمَّ يقضون بذلك على الغائب. انتهى (2).
فإن قلت: فقد خالفت الأشعرية في وجوب الشكر في الشاهد، وهو ضرويٌّ؟
قلت: لم يُخالفوا في القدر الضروري منه، وإن القدر الضروري منه ما نجده في نفوسنا من استحسان فعله، وقُبحِ تركه، وهم ما نازعوا في وجدان ذلك في النفوس، واستحكامه في الطِّباع، وإنما خالفوا في سببه وعلته، وقالوا: إنه يحتمل (3) وجوهاً ثلاثة:
أحدها: أن يكون المرجع به إلى الشهوة والنُّفرة، فإن المُحسن في الشاهد لما كان يلتذُّ بالشكر، ويتألَّم بتركه، وقد جُبِلَت النفوس على حبِّ المحسن، وجب في الطبع شهوة ما يلتذُّ به والنفرة عما يتألَّم به، وهم لم ينازعوا في التحسين بالنظر إلى الشهوة، والتقبيح بالنظر إلى النُّفرَة.
الوجه الثاني: أن يكون هذا مستنداً في العادة، مثل استقباح كشف العورة، ونكاح الأمَّهات قبل ورود الشرع وبعد ثبوت العادة، فإن الكفار يستقبحون كثيراً من القبائح الشرعية لأجل العادة.
الوجه الثالث: أن يكون الشكر صفة كمالٍ كالعلم، وتركه صفة نقص كالجهل.
وقد نص الرازي وغيره على أنهم لا يُخالفون في هذه الوجوه الثلاثة، قال:
__________
(1) في (د) و (ش) و" البرهان ": فيزعمون.
(2) " البرهان " 1/ 95 - 96.
(3) في (1): يحمل.(5/258)
وإنما خلافنا في أن فاعل القبيح هل يستحقُّ لمجرَّد (1) العقل من غير شرع الذم عاجلاً والعقاب آجلاً؟ وهكذا في جميع ما يتعلَّقُ بالتحسين والتقبيح من المسائل، فإنهم لا يخالفون في هذه الأمور الثلاثة. وقد قال الرازي: إن أهم ما في هذه المسألة معرفة موضع الخلاف بين الفريقين، وقد صرح الرازي على أنهم لا يُجيزون على الله تعالى صِفَةَ نقصٍ من كذبٍ ونحوه.
وكذلك قال قطب الدين الشيرازي (2) في " شرح مختصر منتهى السُّول " في تقرير سؤال المعتزلة. وجوابه ما لفظه (3): واعلم أن المشهور في تقرير المُلازمة هو أن الحسن لو كان شرعيّاً لَحَسُنَ مِنَ الله كلُّ شيءٍ، ولو حَسُنَ منه كل شيء، لجاز منه إظهارُ المعجزة على (4) الكاذب.
والجواب: منع الصُّغرى إن أُريد بقولهم: لحسُنَ (5) منه كل شيءٍ، أن صدور كلِّ شيءٍ منه يحسن، ومنع الكبرى إن أريد به أن كلُّ شيء (6) يصدر منه فهو حسن. انتهى كلامه، وفيه النصُّ أنهم لا يقضُون بحُسن جميع القبائح، حاشى الجلال المقدس من تقدير إضافتها إليه، ولكن خالفوا في مَدْرَكِ القبح، ومعناه كما قال قبل هذا الكلام، فإنه ذكر قبله أنهم لا يُخالفون في قُبح إظهار المعجزة على الكاذب عقلاً، ولكنهم يفسِّرون ذلك الاستقباح بالمُنافرة، وبكونه
__________
(1) في (ج) و (د) و (ش): بمجرد.
(2) هو محمود بن مسعود بن مصلح الفارسي، قطب الدين الشيرازي الشافعي، كان ذا مروءة وأخلاق حسان وذكاء، وكان كثير المخالطة للملوك، ويكثر الشفاعات عندهم، له مؤلفات في الفقة والأصول والطب والفلك والرياضيات. توفي سنة 710 هـ. انظر ترجمته في " الدرر الكامنة " 4/ 339 - 341، و" بغية الوعاة " 2/ 282، و" البدر الطالع " 2/ 299 - 300.
(3) قوله: " سؤال المعتزلة وجوابه ما لفظه " ساقط من (ب) و (ش).
(4) في (أ): عن.
(5) في (د): يحسن.
(6) من قوله: " أن صدور " إلى هنا ساقط من (ب).(5/259)
صفة نُقصانٍ - يعني والذي خالفوا فيه تفسير الاستقباح باستحقاق الذمِّ عاجلاً والعقاب آجلاً على فعل ما هو صفة نقصٍ بمجرد العقل، فتحقيق مذهبهم: أنه لا فرق بينهم وبين المعتزلة في القطع بامتناع صفة النقص -كالكذب وتصديق الكاذب-، لكن اختلفوا في العلة، فعند المعتزلة: أن العلة استحقاق الذمِّ به عقلاً في حق الله تعالى لو قُدِّرَ صدوره عنه، وعند الأشعرية: العلة كونه صفة نقصٍ عقلاً، وصفة النقص مُحالة عليه، فلو فعله لم يستحق الذمَّ عقلاً عند الأشعرية، لكن فعله عليه محالٌ. ومستند الأشعرية في الوجوب وجوب كمال واجب الوجود، وكمال غناه لقدمه، وصفات (1) النقص إنما تكون بداعية الحاجة والافتقار، وهو محالٌ في حقِّ من سبق وجوده الموجودات غنياً عنها، وإذا قد ثبت باتفاق الفريقين أن وجود الرب متقدم تقدم وجوب على جميع الموجودات، وأنه في حال تقدُّمه هذا غنيٌّ عنها، فلا يصحُّ أن يكون وجودها بعد غناه عنها فيما لا نهاية له من القِدَمِ مُوجباً لحاجته إليها، لأن وجود الحوادث لا يُغيِّرُ القديم في ذاته ولا صفاته الواجبة، وإذا لم تُغَيِّر لم يغيِّر غناه عنها. ولعل هذا هو المدرك الآخرُ الذي أشار إليه ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ".
وقد نقل الزركشي في " شرحه لجمع الجوامع " للسُّبكي عن قوم أنهم توسَّطوا. فقالوا: قبحُ القبائح ثابتٌ بالعقل، وكذلك الذمُّ عليها، وأما العقاب، فبالشرع. قال: وهو الذي ذكره سعد (2) بن علي الزَّنْجَاني من الشافعية، وأبو الخطاب (3) من الحنابلة، وذكرَتْهُ الحنفية، وحكوه عن أبي حنيفة، قال: وهو
__________
(1) في (ش): وصفة.
(2) في الأصول: " أسعد "، وهو أبو القاسم الزنجاني سعد بن علي الحافظ الثقة المتقن القدوة الزاهد، نزيل الحرم، وجار بيت الله، المتوفى سنة 471 هـ. مترجم في " العبر " 3/ 276، و" طبقات الشافعية " للسبكي 4/ 383، و" العقد الثمين " 4/ 535، و" البداية والنهاية " 12/ 127، و" شذرات الذهب " 3/ 339.
(3) هو الشيخ الإمام العلامة الورع شيخ الحنابلة محفوظ بن أحمد بن حسن الكلواذاني، درس الفقه على أبي يعلى الفرَّاء، وصار إمام وقته وشيخ عصره، وصنَّف في المذهب، =(5/260)
المنصور (1) لقوَّته من حيث الفطرة، وآيات القرآن المجيد، وسلامته من الوهن والتناقُض. وسيأتي تمام القول في هذه المسألة في الوهم الثاني والثلاثين، آخر المجلد الثالث إن شاء الله تعالى (2).
ومن أهل النظر من أهل السنة من احتج على أنَّ الله تعالى غنيٌّ عن الكذب بقدرته على كلِّ شيءٍ، لأن الكذب ليس بمشتهى لذاته بالضرورة، وإنما يتوصَّل إليه العاجز عند الاحتيال إلى دَرْكِ ما عَجَزَ عنه مع الصدق، وقد ثبت بالأدلة العقلية، واتفاق الفريقين أنه عزَّ وجلَّ على كل شيء قدير، فيثبت (3) غناه عن الكذب، فوجبَ صدقه عقلاً. وقد أخبرنا الصادق أنه غنيٌّ عن كل شيء، فصحَّ الاحتجاج بالسمع على مطلق الغنى بعد الاحتجاج بالعقل على الغنى الخاص عن الكذب وحده. وهذه طريقة صحيحة عند الفريقين من الأشعرية والمعتزلة، وعند فريق أهل السنة لجلائها وتنبيه السمع عليها، حيث نبَّه على امتناع ما لا داعي إليه بقوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَق} [المائدة: 18] وأمثالهما.
وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في مسألة الدواعي. وقد مرَّ في الاحتجاج بالقرآن على أصول الدين شيءٌ منه، وهذا الذي خالفوا فيه مَدْرَكٌ خفيٌّ غير ضروري، سواءٌ كان الحق قولهم أو قول المعتزلة، فلا يقطع على المخالف فيه بالعناد وتعمُّد (4) الباطل والفساد، كما توهَّم السيد (5).
__________
= والأصول، والخلاف، والشعر الجيد، توفي سنة 510 هـ. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 9/ 348.
(1) في (ش): المتصور.
(2) انظر 8/ 3.
(3) في (د): فثبت.
(4) في (ب): وتوهم.
(5) وقع هنا في نسخة (ج) ترجمة مطولة لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولم ترد في سائر النسخ، فرأيت أن أثبتها في الهامش بنصها، مع أنه قد وقع في سطورها نقص ينقطع الكلام =(5/261)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= بسببه، وقد أشرت إليه بإثبات النقط، وإنما أثبتها هنا، لأن المجلد الذي فيه هذه الترجمة من " سير أعلام النبلاء " -وهو الأخير- لم يطبع، لأننا لم نجد نسخة منه صالحة للنشر.
ونصها:
وهذه ترجمة الإمام العلامة ابن تيمية من " النبلاء " للذهبي، نقلتها إلى هنا، لأني قد أكثرت عنه النقل في هذا الكتاب خاصة في هذا المجلد. قال أبو عبد الله الذهبي فيه:
... الشيخ الإمام، العالم، المفسر، الفقيه، المجتهد، الحافظ، المحدث، شيخ الإسلام، نادرة العصر، ذو التصانيف الباهرة، والذكاء المفرط، تقي الدين أبو العباس أحمد بن العالم المفتي شهاب الدين عبد الحليم بن الإمام شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام مؤلف " الأحكام " (يعني كتاب المنتقى) ابن عبد الله بن أبي القاسم الحراني .. إلى قوله: سمع من فلان وفلان وخلق كثير، وأكثر وبالغ وقرأ بنفسه على جماعة، ونسخ عدة أجزاء و" سنن أبي داود "، ونظر في الرجال والعلل، وصار من أئمة النقد، ومن علماء الأثر مع التدين، والتألُّه، والذكر، والصيانة، ثم أقبل على الفقه ودقائقه وقواعده، وحججه، والإجماع، والاختلاف، حتى كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف، ثم يستدل، ويرجح، ويجتهد، وحُق له ذلك، فإن شروط الاجتهاد كانت قد اجتمعت فيه، فإنني ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث ... صحيح أو إلى المسند .. كأن الكتاب والسنن نصب عينه، وعلى طرف لسانه بعباره رشيقة ... آيات الله في التفسير والتوسع فيه لعله .. الديانة ومعرفتها ومعرفة أحوال الخوارج والروافض والمعتزلة ... المبتدعة، فكان لا يسبق فيه غباره، ولا يلحق شأوه هذا ... من الكرم الذي لم يشاهد مثله، والشجاعة المفرطة التي يضرب بها المثل، والفراغ عن ميلان النفس من اللباس الجميل، والمأكل الطيب، والراحة الدنيوية، ولقد سارت بتصانيفه في فنون من العلم وألوان بعد تواليفه وفتاويه (كذا) في الأصول، والفروع، والزهد، واليقين، والتوكل، والإخلاص، وغير ذلك تبلغ ثلاث مئة مجلد، لا بل أكثر، كان قوَّالاً بالحق نهَّاءً عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ذا سطوة وإقدام، وعدم مداراة للأغيار، ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير في وصفه، ومن نابذه وخالفه ينسبنى إلى التغالي ... مع أني لا أعتقد فيه العصمة، كلا، فإنه مع سعة علمه وفرط شجاعته وسيلان ذهنه وتعظيمه لحرمات الدين، بشر من البشر تعتريه حدة في البحث، وغضب ... يزرع له عداوة في النفوس ونفوراً عنه، وإلا والله فلو لاطف الخصوم، ورفق بهم، ولزم =(5/262)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= المجاملة، وحسَّن المكالمة، لكان كلمة إجماع، فإن كبارهم وأئمتهم ... خاضعون بعلومه وفقهه، معترفون بشنوفه، وكأنهم مقرون بندور خطئه. لستُ أعني بعض العلماء الذين شعارهم وهجِّيراهم الاستخفاف به، والازدراء بفضله، والمقتُ له، حتى استجهلوه وكفروه ونالوا منه من غير أن ينظروا في تصانيفه، ولا فهموا كلامه، ولا لهم حظ تام من التوسع في المعارف، والعالم منهم قد يُنصفه ... بعلم، وطريق العقل السكوت عما شجر بين الأقران، رحم الله الجميع. وأنا أقل من ينبه على قدره كلمي، أو أن يوضح بناءه قلمي، وأصحابه وأعداؤه خاضعون بعلمه، مقرون بسرعة فهمه، وأنه بحر لا ساحل له، وكنز لا نظير له، وأن جوده حاتمي، وشجاعته خالدية، ولكن قد ينقمون عليه أخلاقاً وأفعالاً منصفهم فيها مأجور، ومقتصدهم فيها معذور، وظالمهم فيها مأزور، وغالبهم مغرور، وإلى الله ترجع الأمور، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، والكمال للرسل، والحجة في الإجماع، فرحم الله أمرأً تكلم في العلماء بعلم، وأمعن في مضايق أقاويلهم بتؤدة وفهم، ثم استغفر لهم، ووسع نطاق المعذرة، وإلا فهو ممن لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، وإن أنت عذرت كبار الأئمة في معضلاتهم، ولم تعذر ابن تيمية في مفرداته، فقد أقررت على نفسك بالهوى وعدم الإنصاف، وإن قلت: لا أعذره لأنه كافر، عدو لله ورسوله، قال لك خلق من أهل العلم والدين: ما علمناه والله إلاَّ مؤمناً، محافظاً على الصلاة والوضوء وصوم رمضان، معظماً للشريعة ظاهراً وباطناً، لا يؤتى من سوء فهم، بل له الذكاء المفرط، ولا من قلة علم فإنه بحر زخَّار، بصير بالكتاب والسنة، عديم النظير في ذلك، ولا هو بمتلاعب بالدين، فلو كان كذلك لكان أسرع شيء إلى مداهنة خصومه وموافقتهم ومناقضتهم، ولا هو يتفرد بمسائل بالتشهي، ولا يفتي بما اتفق، بل مسائله المفردة يحتج لها بالقرآن أو بالحديث وبالقياس، ويبرهنها ويناظر عليها، وينقل فيها الخلاف، ويطيل البحث أسوة من تقدمه من الأئمة، فإن كان قد أخطأ فيها فله أجر المجتهد من العلماء، وإن كان قد أصاب فله أجران، وإنما الذم والمقت لأحد رجلين: رجل أفتى في مسألة بالهوى ولم يُبْدِ حجةً، ورجل تكلم في مسألة بلا خميرة من علم، ولا توسُّع في نقل، فنعوذ بالله من الهوى والجهل، ولا ريب أنه لا اعتبار بذم أعداء العلم، فإن الهوى والغضب يحملهم على عدم الإنصاف، والقيام عليه، ولا اعتبار بمدح خواصه والغلاة فيه، فإن الحب يحملهم على تغطية هناته، بل قد يعدونها له محاسن، وإنما العبرة لأهل الورع والتقوى من الطرفين الذين يتكلمون بالقسط ويقومون لله، ولو على أنفسهم، وآبائهم، فهذا الرجل لا أرجو على ما قلته فيه دنيا ولا مالاً ولا جاهاً بوجه أصلاً، =(5/263)
الوهم الثامن والعشرون: وَهِمَ وفَّقه الله أن أئمة السنة الأثبات يُنكرون أن لنا أفعالاً وتصرفاتٍ، واستخرج من ذلك أنهم كفار تصريحٍ لإنكارهم -في زعمه- العلوم الضروريات، وفَرَّعَ على ذلك تحريم ما استند إليهم من الروايات في علوم الديانات إلى سائر ما ذكره من الإلزامات.
وهذا وهم شنيعٌ، وغلطٌ فاحشٌ فظيع، ولم يختصُّ به المعترض، بل قد شاركه فيه كثيرٌ من المعتزلة مع اعترافهم في بعض مصنفاتهم بخلاف ذلك في بعض المواضيع وقد تقدم ما يلزم المعترض بجرحه لأئمة الحديث والمتأوِّلين من
__________
= مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوباً له مغفورة في سعة كرم الله، وصفحة مغموره في بحر علمه وجوده، فالله يغفر له ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، مع أني مخالف له في مسائل أصلية وفرعية، فقد أبديت آنفاً أن خطأه فيها مغفور، بل يثيبه الله فيها على حُسن قصده وبذل وسعه، والله الموعد، مع أني قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه ... فحسبي الله.
... وكان الشيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت، فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حدة، ثم يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة والسماحة وقوة الذكاء، ولم أر مثله في ابتهاله واستعانته بالله، وكثرة توجهه.
وقد تعبت بين الفريقين، فأنا عند محبه مقصر، وعند عدوه مسرف مكثر، كلا والله.
توفي إلى رحمة الله معتقلاً بقلعة دمشق بقاعة بها بعد مرض جدّ أياماً في ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة سنة ثمانٍ وعشرين وسبع مئة، وصُلي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة حتى خرج الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقل ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفاً، وقيل أكثر من ذلك، وحمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودُفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين رحمهما الله تعالى وإيانا.
وقد صنف جماعة من الفضلاء له تراجم مطولة، ورُثي بقصائد كثيرة، انتهى.
وللذهبي له ترجمة مختصره مجودة في " تذكرة الحفاظ " 4/ 1496، والحمد لله وحده.(5/264)
الإلزامات الشنيعة، والجهالات الفظيعة، والإشكالات الوسيعة التي زادت على مئتي إشكالٍ مع ما تقدَّم له من التفريع على وصمِهم بالبَلَه، والكشف لهذا الخيال، ولم يبق هنا إلاَّ الذبُّ عنهم فيما نَسَبَ إليهم من الكفر الصريح، والجبر، وادَّعى عليهم من التصريح وعدم التأويل فيهما معاً.
والجواب: أن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينةٍ، بل جحدٌ للمعلوم بالضرورة عند العارفين من نصوصهم البينة، والسبب في ذلك جهل العامة، وتجاهل بعض الخاصة لمراد أهل السنة في قولهم: إن أفعال العباد مخلوقة، ونحن نُبين إن شاء الله تعالى مرادهم، فإنهم مع إطلاق ذلك مجمعون على إثبات الاختيار، ونفي الإجبار، وإن مذهب قدماء أهل البيت والزيدية في خلق الأفعال ونفي الجبر هو مذهبُ أهل السنة، ولنا في بيان ما ادعيناه طريقان.
الطريق الأولى: طريق النقل لذلك عن المعتزلة والشيعة، فإن ذلك يوجد في كلامهم عند حاجتهم إليه في إلزام الأشعرية لبعض المناقضات، مثل ما رواه عنهم السيد المتكلم أحمد بن أبي هاشم المعتزلي، الشيعي، مصنف (1) " شرح الأصول الخمسة " لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد المعتزلي، وهذا الشرح عمدة الشيعة في بلاد الزيدية في اليمن، ولذلك اخترتُ النقل منه لعلم
__________
(1) أي: علقه عن مؤلفه قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفى سنة 415 هـ، كما جاء في عنوان النسخة الخطية الموجودة في مكتبة أحمد الثالث في استنبول المنسوخة سنة 756 هـ.
وقد طبع هذا الشرح بتحقيق الدكتور عبد الكريم عثمان رحمه الله سنة 1965 هـ.
وأحمد بن أبي هاشم هذا: هو أحمد بن الحسين بن أبي هاشم الحسيني الإمام المستظهر بالله، ويعرف بما نكديم، ومعناه: وجه القمر لحسن وجهه، من ذرية عمر الأشرف، لا من ذرية زيد بن علي كما زعمه غالط، وهو إمام المتكلمين ورئيس المخلصين وعدتهم، عده في الأئمة المهدي، وأهمله آخرون. أخذ على المؤيد بالله، وكان من أصحابه، وهو الذي صلى على المؤيد يوم مات توفي بالري سنة نيف وعشرين وأربع مئة. " تراجم الرجال " للجنداري ص 3.(5/265)
الخصم بما فيه.
قال فيه مصنفه المذكور في أوائل الفصل الثاني في العدل: وقد احتج على ثبوت التحسين والتقبيح في العقل بأن أحدنا إذا خُيِّرَ بين الصدق والكذب، ولم يكن له داعٍ خاصٌّ إلى أحدهما اختار الصدق لا محالة.
ثم قال بعد هذا المعنى ما لفظه: فإن قالوا هذا بناء على أن الواحد منا مخيرٌ في تصرفاته، ونحن لا نُسلِّمُ ذلك، فإن مذهبنا أنه مُجبرٌ عليه في هذه الأفعال، وأنها مخلوقة، ثم أجاب بأربعة أجوبة.
قال في الثالث منها ما لفظه: وبعد، فلا خلاف بيننا وبينكم في أن هذه التصرفات محتاجةٌ إلينا، ومتعلِّقةٌ بنا، وأنا مختارون فيها، وإنما الخلاف في جهة التعلق أكسبٌ أم حدوثٌ، فعندنا أن جهة التعلُّق إنما هو الحدوث، وعندكم أن جهة التعلق إنما هو الكسب. انتهى لفظه.
وهو رد صريح (1) لقول من يقول: إنهم ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفاتٍ، وقد توهَّم بعضُ مَنْ لا يعرفُ مذهبهم أن ظاهر كلام صاحب الشرح لا يصح، فتأوله بأن معنى قوله: إنه لا خلاف أنا مختارون في أفعالنا، أي لا خلاف في أنا مُريدون لها، وهذا التأويل باطلٌ لوجوه:
الأول: أنه لا موجبَ له، وتجويز التأويل من غير موجب يفتح باب الجهالات، ويُبْطِلُ الانتفاع بنقل أهل المقالات.
فإن قيل: الموجبُ له اختلاف النقل عنهم:
فالجواب: أنه ليس بأولى من تأويل نقلِ من نقل نفي الاختيار عنهم، ثم إن الفِرَق فيهم كثيرة، وأهل السنة منهم أربعُ فِرَقٍ ليس منهم من ينفي الاختيار ألبتة (2) كما يأتي بيان ذلك.
__________
(1) في (ش) وهذا صريح الرد.
(2) من قولهم: " عنهم " إلى هنا ساقط من (ش).(5/266)
وقد نقل الشيخ مختارٌ المعتزلي مذهبهم على الصواب في كتابه " المجتبى " لما كان تام المعرفة بمذهبهم، فقال ما لفظه: وذكر شيخنا صاحبُ " المعتمد " (1) أن جهمَ بن صَفْوان ذهب إلى أن الله خالقٌ لأفعال العبيد فيهم وهم ليسوا بمحدثين ولا مكتسبين لها، وذهب النجارُ و (2) الأشعري إلى أن الله خالقٌ لأفعال العبيد، وهم يكتسبونها. قال: وهذا هو المشهور من مذهبهم، وبه قال أكثر أهل السنة، فنُفْرِد لكل واحدٍ من الجبرية الخالقية والكَسْبية مسألة على حدة.
قال: والحاصل أن المخالفين بأسرهم قالوا بقدرة العبد، لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة هي علة (3) الفعل مع الداعي.
والإسفرايينيُّ (4) زعم (5) أنها جزءُ علة الفعل لوجوده بالقدرتين.
والباقلاني زعم أنَّها عِلَّةُ الكسب.
والجهم زعم أنها معنى لا تأثير له في الفعل أصلاً لكنه يُوجدُ متعلقاً (3) به.
انتهى بحروفه.
وسيأتي بيان تفاصيل هذا النقل، وتفاوت مراتب المبتدعة، وأن الخصم نسب قول الجهم إلى جميع أهل الكلام من الأشعرية: الإسفراييني والبَاقِلاَّني والجُويني وغيرهم، بل إلى أهل السنن والآثار المنكرين لعلم الكلام (6). ولا شكَّ أن نسبة ذلك إليهم باطلةٌ بالضرورة بشهادة جميع أهل العلم بمقالات المختلفين.
__________
(1) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المتوفى ببغداد سنة 436 هـ.
(2) الواو ساقطة من (ش). والنجار: هو الحسين بن محمد بن عبد الله النجار الرازي، رأس الفرقة النجارية من المعتزلة. انظر " مقالات الإسلاميين " ص 566، و" الفهرست " لابن النديم ص 229، و" اللباب " لابن الأثير 3/ 298، و" الملل والنحل " 1/ 88 - 90.
(3) تحرفت في (ش) إلى: والأشعريين.
(4) ساقطة من (ش).
(5) تحرفت في (ش) إلى: مطلقا.
(6) في (ش) زيادة: على أهله.(5/267)
والنقل للجبر المحض صحيحٌ، ولكن عمن ليس له سلفٌ ولا خَلَفٌ، وأهل السنة أشدُّ نكيراً عليه من المعتزلة، وليس ينبغي أن يُطْرَحَ على السواد الأعظم من المسلمين قول من شذَّ عنهم، كما لا يُطرَحُ على المعتزلة قول من يقول: إن الله تعالى لا يعلم الغيب من نُفاة القدر، ولا يُطرَحُ على الزيدية قول (1) الحسينية: إن الحسين بن القاسم أفضل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنه حيٌّ (2) لم يمت، ولا قولُ المطرفية في تأثير (3) الطبائع وغير ذلك، ولا يطرح على الشيعة القول بالرفض، ولا على الروافض مذاهب الباطنية الملاحدة، ولا قول الإسحاقية بربوبية علي بن أبي طالب عليه السلام.
وما أحسن قول الذهبي في " ميزانه " (4) في ترجمة إمام هذه الطائفة (5) المخذولة وهو إسحاق بن محمد النخعي الأحمر - قال الذهبي: كان يقول: إن علياً هو الله، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً، وإليه تنسب الإسحاقية بالمدائن.
قال ابن الجوزي: كان من الغلاة في الرفض (6).
قال الذهبي: حاشا غُلاة الرفض أن يقولوا في علي هو الله، فمن وصل إلى هذا، فهو كافرٌ لعين من إخوان النصارى. انتهى كلام الذهبي.
فما أحسن بالعلم أن لا يطرح على من يُبغِضُه ما لم يقله، ولا يتساهل في عباره تُوهِمُ ذلك.
__________
(1) في (ش): بقول.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): في نفي تأثير.
(4) 1/ 196 - 198.
(5) في (ش): الفرقة.
(6) في (ش): الغلاة الروافض.(5/268)
وقد ميَّزَ (1) القاضي أبو بكر بن العربي الفقيه المالكي بين الفِرقِ المجتمعة في الاسم، المفترقة في المعنى، وبيَّنها على التفصيل في كتاب " المشكلين "، وعلى التجميل في " عارضة الأحوذي في شرح (2) الترمذي " (3) فقال: إن الروافض عشرون فرقةً من النيف والسبعين، منهم فرقةٌ واحدةٌ ليست من فرق الإسلام، والقدرية عشرون فرقة، منهم فرقتان ليستا (4) من فرق الإسلام.
فثبت أنه لا موجب لتأويل كلام صاحب الشرح فيما (5) نقل عن الأشعرية أنهم يُثبتون الاختيار للعباد، وهم أقرب فرق أهل السنة إلى الجبر كما يأتي، فكيف (6) بغيرهم من أهل الحديث والآثار!
الوجه الثاني: أن هذا التأويل الركيك يُبْطِل كون ما ذكره صاحب الشرح جواباً ثالثاً على الأشعرية غير الجوابين الأولين عليهم، فإنه أراد بهدا الجواب نقض قولهم: إنهم مُجْبَرُون لا فِعْلَ لهم، وردَّ دعواهم أن هذا مذهبهم إن فرضنا أنهم ادعوا ذلك، فلو كان غرضه أنا مريدون غير مختارين، لم يكن نقضاً لدعواهم المقدرة في أن مذهبهم الجبر، وهذا قاطعٌ جليٌّ لا يمكن المتأول دفعه، فإن إرادتنا من غير اختيارٍ لا تغني عنا شيئاً، فالمريض قد يريد العافية، ولا يقدر على تحصيلها باختياره، والهارب من السبع عند الاضطرار يريد الهرب ولا يقدر على تركه باختياره عند الجميع.
الوجه الثالث: أن الاختيار والإرادة لفظان مختلفان، وقد ثبت أحدهما (7) مع انتفاء الآخر كما ذكرنا في المُضْطَرِّ إلى الهرب من السبع، وسيأتي بيان ذلك على مذهب المعتزلة والأشعرية في المرتبة الخامسة في الفرقة الأولى.
__________
(1) في (ش): عبَّر.
(2) تحرف في (ش) إلى: شيوخ.
(3) 10/ 109 - 110.
(4) في (ش): ليست.
(5) في (ش): حيث.
(6) ساقطة من (ش).
(7) في (ش): وقد ثبت أن أحدهما.(5/269)
الطريقة الثانية: النقل عن أهل السنة ومتكلميهم، وذكر نصوصهم المتواترة الصريحة من كتبهم الشهيرة.
واعلم أن القدر المجمع عليه بينهم هو أن العبد غير فاعلٍ على سبيل الاستقلال والاستغناء عن ربه عزَّ وجلَّ، بل يقولون: إن الخلق (1) مُستمدٌّ والحق مستبدٌّ، ثم أطلقوا الخلق على أفعال العباد وعَنَوْا (2) به أمرين:
أحدهما: تقديرها في سابق علم الله وقضائه وقدره، وسيأتي تفسيرهما، وهو يُسمى خلقاً باتفاق أهل (3) اللغة، وهذا هو القدرُ الذي أجمعوا عليه (4).
وثانيهما: قول كثير منهم، وهو إيجاد ذواتها التي تعتقد المعتزلة أنها ثابتة في الأزل، وأنها غير مقدرة (5) لله تعالي، ولم يَعْنُوا خلق القدر المقابل بالجزاء من أفعال العباد على تفصيلٍ يأتي بيانه في ذلك في المرتبة الخامسة إن شاء الله تعالى.
وفي غلاة المتكلمين من الأشعرية القليل (6) يُطلقون الجبر في أفعال العباد، ويُفسِّرونه بوجوب وقوع الراجح مع بقاء الاختيار، كما تقولُه المعتزلة في وجوب اختيار الرب عزَّ وجلَّ لفعل الواجب وترك القبيح، بل في وجوب اختيار جميع الخلق للصدق على الكذب عقلاً عند استواء الدواعي الزائدة على الداعي إلى الصدق والصارف عن الكذب كما يأتي في مسألة التحسين العقلي وغيرها إن شاء الله تعالى.
وقد قبَّح أهلُ السنة عليهم تسمية ذلك جبراً، بل فيهم من يُطلِقُ الجبر ويُفسِّرُه بمعنىً مُتَّفَقٍ عليه، وهو الجبر الأول على أسباب التكليف وشروطه عند المعتزلة ..
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): وأرادوا.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (أ): " اجتمعوا " ودون " عليه ".
(5) في (ش): مقدورة.
(6) ساقطة من (أ).(5/270)
ونحن نتكلم على جميع مقاصدهم في ذلك، ونبدأ بما هو كالأساس للكلام في خلق الأفعال عندهم، وينحصر ذلك إن شاء الله تعالى في خمس مراتب:
الأولى: تكليف المكلَّفين من غير اختيارهم للتكليف.
الثانية: نفوذ (1) مشيئة الله تعالى في الكائنات.
الثالثة: الكلام على الدواعي (2) والصوارف.
الرابعة: الكلام على القضاء والقدر والحكمة في ذلك.
الخامسة منها: الكلام في مسألة الأفعال نفسها.
المرتبة الأولى: المعنى الصحيح بالاتفاق، وإن اختلفت العبارة عنه، وذلك إقدار المكلفين وخلقهم مُمْتَحَنين عُقلاء مختارين. وقد صرَّح الشهرستاني في " نهاية الإقدام " بالجبر، وفسره بهذا المعنى (3) كما سيأتي عند ذكر مذهب الجويني، وإنه إنما حمله عليه الفرار من ركاكة الجبر، وذلك في الكلام على الفرقة الرابعة في المرتبة الخامسة، وهذا معنى صحيح لكن فيه إيهام (4) الجبر في الأفعال الاختيارية، فتسمية (5) ذلك جبراً قبيحٌ، وإن كان قد اعترف الزمخشري (6) وهو من رؤوس المعتزلة بصحة هذه العبارة، فقال في تفسير سورة (7) الحشر في تفسير اسمه الجبّار جلَّ وعزّ أنه الذي جبر الخلق على ما أراد، ووافقه الخطابي على هذا التفسير، رواه البيهقي عن الخطابي في " الأسماء والصفات " (1) وأنه على وجه لا يُوهم الجبر في التكاليف الاختيارية، والخلق بهذا المعنى مجبورون مقهورون مربوبون مقسورون.
__________
(1) في (ش): تفرد.
(2) في (ش): المرتبة الثالثة في الدواعي.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (أ): " لكن إبهام "، وهو خطأ.
(5) في (أ): " بتسمية "، وهو خطأ.
(6) 4/ 85.
(7) ساقطة من (أ).
(1) ص 31.(5/271)
ولا يرد عليه قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] فإن أقصى ما تدل عليه من هذا المعنى أنه خُيِّر في بعض صور التكليف كتحمُّل الأمانة بعد أن خُلِق مُكَلَّفاً مختاراً، فاختياره الأول الذي اختار به التكليف الخاصَّ جَبْرٌ لم يثبت باختياره، وإن سلمنا أن الآية تقتضي أنه خُيِّر في مطلق التكليف، فغير واردٍ لوجوه.
الأول: أنه لا يصح منه اختيار التكليف حتى يخلق عاقلاً مختاراً من غير اختياره، وهذا هو الجبرُ الأول المتفق عليه.
الثاني: أنها خاصةٌ بآدم عليه السلام، لأن المعلوم ضرورةً أن غيره غير مُخَيَّرٍ فيه.
الوجه الثالث: أنه لا يحسُنُ من الرب عزَّ وجلَّ عند المعتزلة التخيير في الدخول في التكليف، بل الرب عزَّ وجلَّ عن قولهم غير مختار في إيجاب الواجبات وتحريم المحرمات عندهم على ما يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.
فالآية عندهم متأولة، وتفسير الجبر بهذا المعنى أجنبيٌّ مما نحن فيه لولا إرادة التقصِّي لمعانيه في إطلاقاتهم وخشية أن يستدركه علي مستدركٌ ما ذكرته، وقد جعلته أوّل المراتب لوضوحه والاتفاق على معناه، وقلة الكلام فيه.
المرتبة الثانية: إطلاقهم وجوب الأفعال بالنظر إلى نفوذ مشيئة الله تعالى مع بقاء الاختيار بالنظر إلي القدرة والمقدور، والأصل في ذلك أنها تواترت النصوص في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعموم قدرة الله تعالى على كل شيء، وبنُفوذ إرادة الله ومشيئته في جميع الكائنات من غير موجب للتأويل ولا قرينةٍ ظنية، بل تَطَابَقَ العقل والنقل على صحة ذلك، وسيأتي (1) بيانه إن شاء الله تعالى مع ورود النصوص أيضاً بأن الله تعالى لا يحب الفساد، ولا يرضى (2)
__________
(1) في (ش): كما سيأتي.
(2) من قوله. " أيضاً " إلى هنا بياض في (أ).(5/272)
لعباده الكفر، وأنه (1) يرضى الشكر، وقال تعالى بعد ذكر (2) كثيرٍ من القبائح {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] وقد أجمعت (3) الأمة على أن المعاصي تُسمى مكروهةً ومسخوطةً، ثم لم يرد شيء من الكتاب والسنة معارض لهذه الآيات في (4) الجانبين مُعارضةً صريحةً (5) تقتضي أن الله تعالى يريد ما يعلم أنه لا يكون، أو تقتضي أنه يحب شيئاً من القبائح، أو يكره شيئاً من الحسنات، فالمُتَّجه (6) في الجمع بينهما أن ما أحبه الله عزَّ وجلَّ من الأعمال، فإنما الواجب أن يقع منه ما أراد وقوعه عند أهل السنة كمن (7) أحب من العاملين، وما كَرِهَ من الأعمال، فالواجب أن لا يقع منه ما أراد عدم وقوعه دون ما لم يُرِدِ العصمة عنه لحكمة، كمن سَخِطَ من العاملين، فإنه يلزم من إرادته وجودهم لحكمة أن يحبهم وأن لا يسخطهم، وسيأتي زيادة بيانٍ لذلك.
فلذلك فرّق أهل الحديث والأثر وأتباع السنن بين الإرادة والمشيئة، وبين المحبة والرضا، وقرَّروا النصوص في عموم نفوذ المشيئة والإرادة، وخصوص تعلُّق المحبة والرضا وهو الصواب كما يتضحُ إن شاء الله تعالى، ويتضح أن هذا كلمة إجماع بين أهل البيت عليهم السلام في القرون الثلاثة التي هي خيرُ القرون مع إجماع أهل السنة عليه من أهل البيت وغيرهم إلى الآن، ولا يزالون على ذلك إلى يوم القيامة، كما ورد في البُشرى (8) النبوية الصادقة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
__________
(1) في (أ) " فإنه.
(2) مكان قوله: " وقال تعالى بعد ذكر " بياض في (أ).
(3) في (ش): واتفقت.
(4) في (ش): من.
(5) في (أ): صحيحة.
(6) في (ش): فالمتخير.
(7) في هامش (ش): ممن.
(8) يشير إلى الحديث: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " لفظ مسلم (1920) من حديث ثوبان.(5/273)
وهذه جملةٌ صالحةٌ من النصوص المشار إليها، قال الله تعالى في نفوذ إرادته في هداية العُصاة وغيرها: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 28، 29].
وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41].
وقال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون} [التوبة: 55].
وقال: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56]
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].
وقال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].
وقال تعالى: {ولو شاءَ الله لجمعَهُمْ على الهُدى} [الأنعام: 35].
وقال تعالى: {ولوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كُلُّهم جميعاً} [يونس: 99].
وقال تعالى: {ولو شاء ربُّك لجعل الناسَ أمَّةً واحدةً} [هود: 118].
وقال تعالى: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149].
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].
وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم}(5/274)
[الأنعام: 39].
وقال تعالى: {إنَّك لا تهدي من أحبتْتَ ولكِنَّ الله يهدي من يشاء} [القصص: 56].
وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِير} [الشورى: 8].
وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31].
وقال تعالى حاكياً عن موسى: {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاء} [الأعراف: 155].
وقال تعالى: {تُؤتي المُلكَ من تشاء} [آل عمران: 26].
وقال تعالى: {يُؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269].
وقال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: {إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100].
وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (1) [الأنعام: 125].
وقال تعالى: {إن ربَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ} [هود: 107].
وقاله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41].
وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَة} [آل عمران: 176].
__________
(1) من قوله: " وقال تعالى حاكياً عن يوسف " إلى هنا ساقط من (ش).(5/275)
وقال تعالى: {إنْ كان اللهُ يُرِيدُ أن يُغوِيكُم} [هود: 34].
وقال تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].
وقال تعالى: {وما أصَابَكُم يوم التقى الجَمْعَانِ فبإذنِ الله} [آل عمران: 66].
وقال تعالى: {ومَا كان لِنَفْسٍ أن تُؤمِنَ إلاَّ بإذنِ اللهِ} [يونس: 100].
وجاء مثل هذه النصوص في نسبة الهدى والضلال إلى الله تعالى، وأنَّه لا يهدي من يُضِلُّ، وبَيَّن الله سبحانه ما أجمله من ذلك كقوله: {وما يُضِلُّ به إلا الفَاسِقينَ} [البقرة: 26]، وبقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10].
وجاءت السنة النبوية المتواترة بنحو هذه الآيات ولا سبيل إلى استقصاء ما ورد من السنة في ذلك، ولا حاجة إلى ذكره مع هذه الآيات الكريمة، فدلَّ جميع ذلك مع الدلائل العقلية على قدرة الله تعالى على هداية الخلق أجمعين، وأنه سبحانه إنما لم يَهْدِ الأشقياء لحكمةٍ بالغةٍ وإن لم تدركها العقول.
وسيأتي ذكر بعض الحكم التي دلَّّ عليها السمع في ذلك في المرتبة الثالثة في الدواعي، وفي المرتبة الرابعة في وجه تقدير الشرور، ويأتي في هذه المرتبة أيضاً شيء من ذلك. وخالفت المعتزلة في معنى الآيات، وزعمت إلاَّ القليل منهم أنه ليس في معلوم الله تعالى، ولا في مقدوره هداية عاصٍ في ذنب واحد على جهة الاختيار، وقالوا: إن المراد بالآيات أنه سبحانه لا يُكْرِهُ الخلق على الإيمان إكراهاً يبطُلُ معه التكليف، والذمُّ، والمدح، والأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، والابتلاء، وجعلوا هذا تفسير الهداية التي تمدح الله عز وجل بقدرته عليها، ورَكِبُوا كُلَّ صعبٍ وذَلُول في تأويل القرآن، وتعسَّفوا في وجوهٍ التأويل تعسُّفاً يرُدُّه البرهان كما نُبين ذلك إن شاء الله تعالى أوضح بيان، ولا بُدَّ من إيراد(5/276)
أدلة (1) الطائفتين.
فأمَّا أهل السنة، فأدلتهم على ذلك كثيرةٌ، والذي حَضَرني منها ثلاثة:
الدليل الأول: أنه (2) لا بد لله تعالى من حكمةٍ في خلق من عَلِمَ أنه من أهل النار عند الجميع كما يأتي إن شاء الله تعالى، والذي عيَّنته المعتزلة وجهاً للحكمة في ذلك هو إرادة الحكيم إلى تحصيل ما علم أنه لا يكون، وذلك يستلزِمُ توجيه إرادة الحكيم إلى تحصيل ما يمنع علمه الحق بالغيوب من إرادة حصوله، وذلك خلاف المعقول والمنقول كما سنوضِّح ذلك إن شاء الله تعالى، ونوضِّح ما اعتذر به بعضهم من توجيه إرادته تعالى إلى مجرد التعريض إلى تحصيل ما عَلِمَ أنه لا يحصُلُ، ويأتي بُطلان هذا العذر، فلا بد من الرجوع إلى الإيمان (3) بأن لله تعالى حكمةً في ذلك، وإن لم تُدركها العقول، كما صرح بذلك حُذَّاقُهُم، منهم الزمخشري في " الكشاف " (4) في تفسير قوله تعالى: {إنِّي أعلَمُ ما لا تعلمُون} [البقرة: 30] فإنه قال ما لفظه: فإن قلت: هلاَّ بيَّن لهُم تلك المصالح؟ قلت: كفي العباد أن يعلموا أن أفعال الله كلها حسنة وحكمةٌ (5)، وإن خَفِيَ عليهم وجهُ الحُسْنِ والحكمة.
وأوضحُ من هذا وأصرحُ: ما ذكره الزمخشري (6) في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِن} [التغابن: 2] فإنه قال فيه ما لفظه: فإن قلت: نعم إن العباد هم الفاعلون للكُفْرِ، ولكن قد سَبَقَ في علم الحكيم أنه إذا خلقهم لم يفعلوا إلاَّ الكفر، ولم يختاروا (7) غيره، فماذا دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم، وهل خلقُ القبيح وخَلْقُ فاعل القبيح إلاَّ واحدٌ؟! وهل مثله إلاَّ مثل منْ وَهَبَ سيفاً باتراً لمن شُهِرَ بقطع السُّبل وقتل النفس
__________
(1) في (ش): نص.
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (أ): " الإتيان " وهو خطأ.
(4) 1/ 62.
(5) ساقطة من (ش).
(6) 4/ 103 - 104.
(7) في (ش): " ولم يجاوزوا " وهو خطأ.(5/277)
المُحرَّمة، فقتل به مؤمناً، أما يُطْبِقُ العقلاء على ذم الواهب وتعنيفه والدَّقِّ في فَرْوَتِه كما يذُمُّون القاتل، بل إنحاؤهم باللوائم على الواهب أشد.
قلت: قد علمنا أن الله حكيمٌ عالمٌ بقُبح القبيح، عالمٌ بغناه عنه، فقد علمنا أن أفعاله كُلَّها حسنةٌ، وخلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسناً، وأن يكون له وجه حسن، وعَدَمُ عِلْمِنِا لا يقدح في حُسِنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلُنا بداعي الحكمة إلى (1) خلقها. انتهى بحروفه (2).
وفي قوله: ما دعا الحكيم (3) إلى خلقهم مع علمه بما (4) يكون منهم، إشارةٌ إلى قول أهل السنة: إن الإرادة لا يَصِحُّ توجُّهُها إلى تحصيل ما منع منه علم الغيب من حصوله.
فإن ادَّعت المعتزلة أن وجه الحكمة في خلق من سبق العلم بأنهم من أهل
__________
(1) في (أ): " وخلقها "، وهو خطأ.
(2) قال الإمام ناصر الدين أحمد بن المنير في " الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال " 4/ 113 معقباً عليه: لقد ركب عمياء، وخبط خبط عشواء، واقتحم وعراً، السالك فيه هالك، والعابرُ فيه عاثر، وإنما ينصب إلى مهاوي الأراك، ويحوم حول مراتع الأشراك، ويبحث، ولكن على حتفه بظلفه، ويتحذق وما هو إلاَّ يتشدَّق، ويتحقق وما هو إلا يتفسق، وهب أنه أعرض عن الأدلة العقلية والنصوص النقلية المتضافرة على أن الله تعالى خالق كل شيء، واطرد له في الشاهد ما ادعاه، ومن مذهبه قياس الغائب على الشاهد، قد التجأ إلى الاعتراف بأن الله خالق العبد الفاعل للقبيح، وأن خلق العبد الفاعل للقبيح بمثابة إعطاء السيف الباتر للرجل الفاجر، وأن هذا قبيح شاهداً، ولا يلزم أن يكون مثله قبيحاً في خلق الله تعالى، أفلا يجوز أن يكون منطوياً على حكمة استأثر الله تعالى بعلمها، فما يؤمنه من دعوى أن أفعال العبد وإن استقبحها العقلاء مخلوقة لله تعالى، وفي خلقها حكمة استأثر الله بعلمها، وهل الفرق إذا إلاَّ عين التحكم ونفس اتباع الهوى هذا ودون تمكنه من اتباع هده القواعد أن يمكن من القتاد اختراط، ومن الجمل أن يلج في سم الخياط.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): ما.(5/278)
الكُفر جليٌّ، ظهر عنادهم.
وإن تطلَّبوا له وجهاً خفياً لطيفاً كما يأتي أمكن مثلُه في الإرادة من غير تأويلٍ كما يأتي أيضاً. وإن خصُّوا ظواهر آيات المشيئة بالتقبيح مع تجويزهم مثل ما دلَّت عليه مما لا تقبله العقولُ من خلق من المعلوم من حال (1) أنه من أهل الكفر والفساد في الأرض، ومن أهل النار في الآخرة، وتمكينه من الكفر والفساد ليكون من أهل الصلاح عاجلاً، ومن أهل الجنة آجلاً (2) مع العلم عند قصد الإحسان إليهم بذلك أنه لا يحصُلُ منهم إلاَّ نقيضه، ولا يَقَعُون إلاَّ في ضِدِّه، ثم قبَّحنا (3) العفو عنهم مع قطعنا بأن الإحسان إليهم هو القصد الأول، وأن علم الغيب بما يقعُون (4) فيه من المضَارِّ بسبب هذا (5) والقصد (6) سابقٌ له ومقارن، كنا قد وقعنا من مخالفة قضايا العقول في مثل ما مَنَعْنَاه من ظواهر آيات المشيئة كما يأتي مقرراً أوضح من هذا وأبسط.
هذا الذي يؤمن به أهل السنة (7) في الابتداء والانتهاء، ويمتنع (8) منه أهل البدعة في الابتداء، ثم يرجعون إليه في الانتهاء، ولكن المبتدع لا يرجِعُ إلى الإيمان الجملي إلاَّ بعد الحكم بتقبيح أكثر الظواهر من الآيات والأخبار، والخبط في التأويل المتعسِّف بغير علم ولا موجبٍ صحيح، ثم يقعُ في مثل ما مَنَعَ، ويلتزم أرك مما أنكر في زعمه وأشنع، ويجعل (9) إيمانه الجملي فيما انتهى إليه رأيه، وحار فيه عقله، ووقفته عليه شيوخه.
والسُّنيُّ يؤمِنُ بآيات الله تعالى، وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الأمر، ولا
__________
(1) " من حال " ساقطة من (أ).
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (ب): مع تقبيحنا.
(4) في (ش): يفعلون.
(5) في (أ) مكان " هذا " بياض.
(6) في (ش): " القصد " دون واو.
(7) من قوله: " كما يأتي " إلى هنا ساقط من (ش).
(8) في (ش): ويمنع.
(9) في (ش): ويحصل.(5/279)
يقفُو ما ليس لَهُ به علمٌ من التأويل، ويجعلُ إيمانه الجملي في مواقع (1) النصوص الشرعية، وموافقة الآيات القرآنية.
والسني (2) آمن بكلام الله وإن أنكر العقل ظاهره لعلمه بثبوت حكمة الله تعالى في تأويله الباطن، ونعني بالتأويل ها هنا الحكمة في الشيء مع بقائه على ظاهره كتأويل استخلاف آدم وذريته في الأرض، وتأويل ما أنكره موسى من الخَضِرِ عليهما السلام، ولم يَزَلْ ذلك سُنَّة المؤمنين، بل سنة المرسلين كما خرَّجه مسلمٌ في " الصحيح "، وأحمد في " المسند "، والترمذي من حديث ابن عبَّاس في تفسير قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} (3) [البقرة: 284].
وسببُ نزول آخر السورة خرجه أحمد من حديث عبد الرزاق، عن معمرٍ، عن حميد بن قيس الأعرج، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس (4) وهذا إسنادٌ على شرط الجماعة، وفي حُميدٍ الأعرج خلافٌ لا يضُرُّ (5) خصوصاً، وقد خرَّج مسلمٌ وأحمد من حديث العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة (6)
__________
(1) في (ش): مواضع.
(2) في (ش): فالسني.
(3) أخرجه أحمد 1/ 233، ومسلم (126)، والترمذي (2992)، والنسائي في التفسير كما في " التحفة " 4/ 391، والطبري (6457) و (6537)، وابن حبان (5069)، والواحدي في " أسباب النزول " ص 60، والحاكم 2/ 286، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 210 - 211 من طرق عن وكيع، عن سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وسيذكر المؤلف نصه.
(4) أخرجه أحمد 1/ 332. وأخرجه الطبري (6461) من طريق عبد الرزاق عن جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، بهذا الإسناد.
(5) في (ش): قريب.
(6) أخرجه أحمد 2/ 412، ومسلم (125)، وأبو عوانة 1/ 76 و77، والطبري (6456) و (6538)، وابن حبان (139) من طرق عن العلاء، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 127، وزاد نسبته إلى ابن أبي داود في " ناسخه "، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.(5/280)
نحو حديث ابن عباس.
ولفظ ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّه} [البقرة: 284] دخل في قلوبهم منها شيءٌ لم يدخل في قلوبهم من شيء، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قولوا سمعنا وأطعنا وسَلَّمنا " (1) قال: وألقى الله (2) الإيمان في قلوبهم (3)، فأنزل الله عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، فقال: قد فعلتُ {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا} قال: قد فعلتُ.
أخرجه مسلم (4).
ولفظ حديث أبي هريرة: أنها لما نزلت أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ بَرَكُوا على الرُّكَبِ، وقالوا: كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق ... وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نُطيقُها، قال: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير " فلما اقترأها القوم وذلَّت بها ألسنتهم، أنزل الله في إثرها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك، نسخها الله، فأنزل عز وجل: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم (5) {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين} قال: نعم.
__________
(1) من قوله: " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) زيادة من مصادر التخريج.
(3) مكان قوله: " وألقى ... " بياض في (أ).
(4) رقم (126).
(5) قوله: " قال: نعم " ساقط من (ش).(5/281)
وخرَّج الترمذي (1) بعضه مختصراً من حديث علي عليه السلام.
وخرجه البخاري (2) كذلك مختصراً من حديث بعض (3) أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والعَجَبُ من المعتزلة أن الذي حملهم على تأويل آيات المشيئة الفرار من الإيمان بالمتشابه في العقل إلى (4) المحكم فيه، ثم زعموا أن الله تعالى ما خلق أهل النار إلاَّ للأصلح لهم في الأخرة، وليُحسن إليهم بالخلود في الجنة على أبلغِ الوجوهِ أو للتعريض لذلك، والتمكين منه.
فالتعريض عندهم هو الغَرَضُ، والأصلح الذي هو ثمرته غرض الغرض كما سيأتي.
لكن لم يكن في مقدوره تبليغهم ذلك على تلك الصفة البليغة مع اعترافهم أنه قادر على إدخالهم الجنة على حالٍ دون تلك الحال البليغة بأن يلْطُف بهم لُطفاً يختارون معه فعل الخير على حدِّ اختيار الربِّ عز وجل، وذلك بأن يُعرِّفَهم قُبحَ القبائح، ولا يجعل لهم إليها داعياً، وأنه لو فعل هذا، لاستحق الثناء العظيم استحقاقاً واجباً على أبلغ الوجوه كما يستحقُّه الرب تعالى، ولَسَلِمُوا من استحقاق الذمِّ والعقاب، ولَصَلَحوا مع ذلك للتفضُّل عليهم بالخلود في الجنة، وما فاتهم إلاَّ كونُ هذا الخلود غيرَ مستَحَقٍّ لهم بأعمالهم على جهة الوجوب على الله تعالى.
__________
(1) برقم (2990).
(2) برقم (4545) و (4546) من طريق شعبة، عن خالد الحذاء، عن مروان الأصفر، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أحسبه ابن عمر (وفي الرواية الأخرى: وهو ابن عمر): (إن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه) قال: نسختها الآية التي بعدها.
(3) من قوله: " علي " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ش). ورده إلى.(5/282)
وزعمت المعتزلة أن الأصلح لأهل النار من هذا كُلِّه خلقُ دواعٍ إلى القبائح بعلم الله تعالى علماً لا يقع خلافه ألبتة أنه (1) سبحانه متى (2) خلقها لهم وقعت القبائح دون الطاعات، واستحقَّ فاعلوها العقاب الشديد الدائم والذم وأعظم المضار، ووفعوا في ذلك، وخُلِّدُوا فيه أبداً، وأن الله تعالى إنما فعل دواعي الشر هذه مع علمه الغيب بما يكون من عاقبة أهلها في العذاب الدائم إرادةً منه سبحانه لدخول أهل النار الجنة، وقصداً لما هو الأصلحُ في آخرتهم.
بل قالت المعتزلة: إن الله تعالى قادرٌ على أن يبني الكفار والشياطين مثل بنية الملائكة والأنبياء، ولو فعل ذلك لآمنوا (3) كما يأتي، ويأتي (4) الدليل على صحته. ومع هذا قطعوا أن الله أراد بخلقهم على بِنيةٍ علم أن من خُلِقَ عليها يختارُ الكفر، ولا يقبل اللُّطف ألبتة أن يُؤمنوا ويَسْعَدُوا في الآخرة، ويكون ثوابهم في أعظم المراتب، أو لتعرضهم إلى ذلك بالتمكين (5) كما سيأتي أنه يؤول إلى معنى واحدٍ.
فيا عجباه إن أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين أراد عندهم الإحسان إلى أهل النار بالجنة، أو ما يُصَيِّرُهم إليها على أتم الوجوه، فلم يَقْدِرْ على ذلك عندهم، ولا وَسِعَتْ قدرتُه وألطافُه أن تبلُغَ ذلك.
ثم يا عجباه أحين عُلِمَ أن ذلك لا يدخُلُ تحت مقدوره عند المعتزلة مع أنه غاية مقصوده الذي خلق العوالم كلَّها له، كيف لم يعدل عن تحصيله على أتم الوجوه إلى تحصيله على أنقص من الأتَمِّ، فيدخلهم الجنة على أحد صور.
إما بأن يخلقُهَم على بِنْيَةٍ مثل بنية المعصومين على قول من يقول منهم: إن الله قادر على ذلك، بل هو قولهم الجميع كما سيأتي.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): حين.
(3) في (ش): لاستووا.
(4) ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (أ).(5/283)
أو بأن لا يخلق لهم الدواعي إلى القبيح على ما تقدم. أو بمجرد (1) عفوه عن ظلمهم أنفسهم، فإنهم ما ظلموه عزَّ وجلَّ ولكن ظلموا أنفسهم (2) كما قال سبحانه، وقد علَّق الوعيد بشرط المشيئة في غير آية، وذلك يُخرجه عن الخُلْفِ والكذب.
ولو قدرنا أن (3) الوعيد قد ورد على صورةٍ يقبُحُ العفوُ منها (4). فعلم الغيب السابق أن وعيد العُصاة يكون سبباً لقُبح العفو عنهم كان يقتضي عدم الوعيد على هذه الصورة المانعة من العفو، فإن من له إرادةٌ في الإحسان إلى غيره بأمر من الأمور، إن علم أنه لا يتمكن من ذلك الأمر (5) على أبلغ الوجوه عَدَلَ إلى تحصيله بدون ذلك، وترك كُلَّ ما يعلم أنه سيكون سبباً في بطلان ما أراده، كما قيل:
إن الكريم على الإحسان يحتالُ
وكان ذلك (6) أولى من فوات جميع مقصوده بالضرورة وفي الأمثال: إن للشرِّ خياراً (7).
وقالوا:
حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ (8)
__________
(1) في (ش): لمجرد.
(2) من قوله: " فإنهم " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) في (ش): ولو قدر بأن.
(4) ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (ش).
(6) ساقطة من (ش).
(7) يضرب عند تفاوت ما بين الشرين حتى يكون الأدنى خيراً بالقياس إلى الأعلى. انظر " فصل المقال " للبكري ص 244، و" زهر الأكم في الأمثال والحكم " للحسن اليوسي 1/ 138.
(8) عجز بيت لطرفة، صدره:
أبا مُنْذِرٍ أفنَيْتَ فاستَبْقِ بعضَنا
أنظر " ديوانه " ص 48، و" الكتاب " لسيبويه 1/ 348، و" المقتضب " للمبرد =(5/284)
فأمَّا أنه أولى من حصول ضدِّ غاية مقصوده، ونقيض منتهى مراده فمما لا يختلف فيه، أفما كان علمه الغيب بما يصيرون إليه من عظيم المضارِّ الدائمة مع قصده زيادة الإحسان إليهم بخلق دواعي الشرور يكفيه صارفاً يقاوم داعي الإحسان إليهم بمجرد التعريض، ويعارضه حتى يَرُوحوا كَفَافاً لا لهم ولا عليهم. وما فائدة علم الغيب السابق إذا كان صاحبه يَقَعُ في نقيض مقصوده؟ تعالى الله عن ذلك.
وقد قال تعالى حاكياً (1) عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوء} [الأعراف: 188]، وقال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44] فاحتجَّ على انتفاء العجز بمجموع صفتي العلم والقدرة، لأن القادر متى كان جاهلاً، فقد يفوته مراده بسبب جهله، والعالم متى كان عاجزاً، فاته مراده بسبب عجزه، ومن جمع تمام العلم وتمام القدرة، استحال أن يفوته مراده قطعاً عقلاً وسمعاً.
فدلَّ القرآن والبرهان على أن عالم الغيب كما لا يَمَسُّه السوء، كذلك لا يمسُّ من أراد نجاته من السوء، وكيف لا ينجو من السُّوء (2) من أراد له عالم الغيب بلوغ أبلغ مراتب الفوز بالرضوان، والدوام في الجنان.
ويرد على اعتذارهم عن ذلك بوجوب العذاب لوجوب الصدق في الوعيد مع ما تقدم في ذلك من وجهٍ آخر جيدٍ جداً، وذلك أن الوعيد (3) لم يَصدُر حتى
__________
= 3/ 224، و" معجم مقاييس اللغة " لابن فارس 2/ 25، و" دلائل الإعجاز " للجرجاني ص، و" اللسان " (حنن)، وابن يعيش 1/ 118، و" التصريح على التوضيح " 2/ 37، و" الهمع " 1/ 190، و" المستقصى في أمثال العرب " للزمخشري 2/ 10، و" زهر الأكم " 1/ 197.
(1) ساقطة من (أ).
(2) في (أ): أسوأ السوء.
(3) من قوله: " مع ما تقدم " إلى هنا ساقط من (ش).(5/285)
أراد الله عذاب العصاة، وأراد عدم العفو عنهم قبل الوعيد، وإرادته هذه على تقدير أنه مريدٌ بالتكليف لهم الإحسان إليهم يناقض ذلك، فإن العفو عنهم من غير تقدُّم إرادة الإحسان إليهم أفضل وأرجح، فكيف مع إرادة (1) الإحسان وإرادة المرجوح مرجوحة، والمرجوح وإرادته لا يصح أن يقعا من الحكيم العالم بأنه مرجوحٌ، الغني عنه لولا أن لله تعالى حكمة (2) بالغة غير ما ذكروه، فتعيينهم لها في ذلك الوجه الضعيف جنايةٌ منهم على حكمة الله تعالى البالغة، وحجته الدامغة، وعلمه الغيوب، وحكمه الذي لا مُعَقِّب له سبحانه وتعالى، وأعظم من هذا (3) اعتقادُ المعتزلة لوجوب دوام تعذيب العباد على الرب الذي أوجبوا عليه في الابتداء إرادة الأصلح لهم في آخرتهم، فما أبعد ما أوجبوه في الابتداء من مناسبة ما أوجبوه في الانتهاء حتى قطعوا بتقبيح العفو من الرب الغنيِّ الحميد، وقَضَوْا باستحقاقه لو عفا عنهم - الذم واللائمة العظيمة.
ولقد عظُمت غفلتُهم حين أوجبوا في الابتداء ما (4) هو غيرُ مقصود لنفسه من التكليف بعد خلق العقول، بل مقصودٌ لتمام النعيم في الانتهاء، ثم أوجبوا بطلان المقصود لنفسه في الانتهاء، وهو تمام النعيم، بل أوجبوا ضده وهو العذاب الدائم.
وأبعد من هذا وأفسد قول البغدادية من المعتزلة بوجوب دوام العذاب مُعلِّلين لذلك بأنه الأصلحُ للعباد، وعدم وجوب شيء من الثواب مع أنه أصلح لأهل الجنة.
فإذا ضممت هذه الأقوال إلى ما عُلِمَ بالضرورة من العقلاء من أن المقصود في الأمور هو عواقبها لا سيما العواقب الدائمة، وأن الوسائل والمبادىء
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (أ): أن الله وهو خطأ.
(3) من قوله: " وعلمه " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ش): بما، وهو خطأ.(5/286)
والمقدمات غيرُ مقصودة في أنفسها، وأن من علم عدم تمام أمرٍ لم يشرع في (1) مقدماته، ولا يشتغل بمبادئه وإن فعل ذلك مع علمه ببطلانِ مقصوده في العاقبة عُدَّ عابثاً، بل وجوب ذلك ممتنع عقلاً وشرعاً وإجماعاً عند (2) العقلاء كما يأتي في مسألة الدواعي بيانه، فكيف بمَنْ علم أن مقصوده في العاقبة منعكس عليه.
ويكفيك وضوحاً في بطلان قول المعتزلة في هذه المسألة أنه يستلزم أن الله تعالى عَمِلَ بغير علمه، بل عمل على ما يُضادُّ العمل بعلمه.
وقد أجمع أهل العلم والعقل على ذم العمل بغير العلم، وعلى أن ثمرة العلم وسبب شَرَفِه وفضله هو العمل به، ولا سيما العلمُ بالعواقب، وما يتمُّ من المراد منها، وما لا يتم.
وقد عبَّر الحكماء عن ذلك بقولهم: إن أول الفكرة آخرُ العمل، وبقولهم: إنَّ الخير هو المقصود الأول في فعل كل حكيم. وهذا هو المراد لنفسه، والشر لا يكون في فعل الحكيم إلاَّ وسيلةً إلى غيره كالحجامة وسيلة إلى العافية، والعافية هي المقصود الأول المراد لذاته، والحجامة وهي الشرُّ هي المقصود الثاني المراد لغيره، أي للخير، ولا يدخُلُ الشرُّ المحضُ في فعل الحكيم، ولا يريده لنفسه ألبتة.
فوضَحَ بهذا أن المعتزلة حافظوا على رعايةِ التحسين العقلي حين أخلُّوا بصفة القدرة الربانية، وتأوَّلوا آيات المشيئة القرآنية، وانعكس عليهم مقصودهم في رعاية التحسين العقلي بالكلية مع سوء ما ارتكبوا في التوصل إليه من توهين (3) القدرة والمشيئة.
فما أقبح ما توصَّلوا به، وما أفسد ما انتهوا إليه، وأقبح من هذا قول من نفي
__________
(1) من قوله: " والمقدمات " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): من.
(3) تحرفت في (ش) إلى: تهوين.(5/287)
حكمة الله تعالى ظاهراً وباطناً كما سيأتي بيانه مطوَّلاً مستقصىً.
وإنما حكمة الله تعالى في الدنيا ما نصَّ عليه تعالى في كتابه من إقامة حجته وعدله عند العقاب، وظهور رحمته وفضله قبل ذلك، وغير ذلك من تمييز الخبيث من الطيب، وبلوى خلقه أيُّهم أحسن عملاً، ونصر المؤمنين، والانتقام للمظلومين، وما (1) لا يعلمه إلا هو كما يأتي قريباً إن شاء الله تعالى.
وقد عَلَّلَ الربُّ تعالى تركه بسط الرزق لكونه مفسدة لجميع المخلوقين عُموماً، فثبت أنه تعالى لا يفعل مفسدةً لهم، وأن أفعاله معلَّلَةٌ بالمصالح وإن خَفِيَتْ علينا كما سيأتي مبسوطاً.
وربما استقبحوا هذه العبارة، فقالوا: إنما خلقهم ليعرضهم لذلك لا سوى، لا ليدخلوا الجنة، فيلزمُهم مذهبُ أهل السنة في امتناع تعلُّق الإرادة بما (2) علم الله أنه لا يقع، إذ لا قُبْحَ في إرادة الإحسان إليهم بدخول الجنة، وإثابتهم بها عند استحقاقهم ذلك، واستجماع شرائط حسنةٍ كما يحسُنُ منه ذلك في خلق من عَلِمَ أنه يؤمن ويدخُلُها، ولا قُبْحَ في إرادة ذلك.
وإنما يمتنع ذلك (3) حيث يصادم العلم الإرادة، وقد غَلِطَ من ظَن (4) تقدُّم الإرادة لذلك من قبيل تعظيم من لا يستحق التعظيم، لأن إرادة المقدمات فرع إرادة ما هي وسيلة إليه.
ولذلك قيل: أول الفكرة آخر العمل، على أن التعريض لو سُلِّم أنه المراد، لما كان مُراداً لنفسه كما زعم المعتذر (5) بذلك منهم، وإلا لما وَجَبَ اللطفُ، ولا قَبُحَتِ المفسدة، ولا حَسُنَ العقاب خصوصاً حيث لا ثمرة له تعودُ عليهم بالصلاح، كعقاب الآخرة الدائم، إنَّ التعريض قد حَصَلَ، ولا يستحقُّ العقابُ عقلاً بتركه.
__________
(1) في الأصلين: ولما.
(2) في (ش): لما.
(3) في (ش): من ذلك.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): " المعتزل "، وهو خطأ.(5/288)
ولو سلمنا أن الانتفاع به حسنٌ لنفسه فذلك بشرط أن لا يعاقبه الله تعالى على عدم الانتفاع به، وأن لا يعلم فاعل التعريض وهو الله سبحانه أنه يكون سبباً في العذاب الأكبر.
فمتى عَلِمَ ذلك، كان تركه أرجح بالنسبة إلى النظر لمن قصد (1) الإحسان إليه بذلك التعريض.
وقد أحتجت المعتزلة على وجوب اللُّطف بأن تركه يدلُّ على مناقضة قصد تاركه لما دعاه إليه الداعي من الإحسان إلى الملطوف به، وكذلك يناقضه علمه بالعواقب المضادة لمراده.
وقد ضَعَّفَ الشيخ مختار في كتابه " المجتبى " كلام أصحابه المعتزلة في الاعتذار بالتعريض، وقال ما لفظه: قوله: لا نُسَلِّمُ بأن غرضه استحقاق الجنة.
قلنا: إنه غرضه أو غرض غرضه لأن الغرض من التمكين إنما هو الاستحقاق.
انتهى بحروفه من المسألة التاسعة عشرة في زيادة شهوةٍ تلازمها المعصية (2) في خاتمة أبواب العدل.
ويدلُّ على ذلك من السمع قوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون} [الأنفال: 23] وهي حجة واضحة على أن مجرد التعريض الذي سبق في العلم أنه لا يُقبل مما لا يُتشاغل به.
وكذلك يدلُّ على حسن الإعراض عن طلب حصول ما سبق في العلم أنه لا يحصُلُ.
وأما قوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] فليس فيه أن المقصود من إنذار من كان مُسْرِفاً هو التعريض، بل
__________
(1) في (ش): قصده.
(2) في (ش): العصمة.(5/289)
الواجب (1) حملُه على ما صرَّح القرآن به من إقامة الحجة كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] فتأمَّل ذلك.
وأيضاً فقد سَمَّى الله الرسل مُبَشِّرين ومنذرين، بل قَصَرَهُم على ذلك، ولم يُسَمِّهِم مُعَرِّضين، وذكر الابتلاء والإنذار والعُذْرَ، وعلَّل بها ولم يذكر التعريض ولا علَّل به، وهكذا المبتدعة يتركون المنصوص ويأتون بما يخالف العقل والسمع.
ويعضُدُ ذلك من السمع مثل قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: 10 - 11] الآية، وقوله: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُون} [يونس: 101] وما في هذا المعنى، وهو كثير، وهو واضحٌ في أن المراد إقامة الحجة عليهم لا وقوع المطلوب منهم، المعلوم أنه لا يَقَعُ.
ويُشبه ذلك منعهم من الإضلال، تأويلُه بالخِذْلان ولا فرق في المعنى.
وقد أخطأتِ المعتزلة في هذه المسألة وأمثالها في وجهين:
الأول: القطع بتقبيح ظواهر القرآن والسنة من غير موجِبٍ، وترجيحُ ما لا يَحْتَمِلُ التأويل على ما يحتملُه.
بيانه أنه دار الأمر بين عدم قدرة الرب -سبحانه وتعالى عن ذلك- على هداية العُصاة، وبين إضلالهم، لكن أهل السنة رَأوْا قُبْحَ الإضلال يحتمل التأويل لخفاء وجه الحكمة، وكونه مُحتملاً عقلاً كما خَفِي على موسى تأويل الخَضِرِ، وهذا مجال مُتَّسِعٌ لأربابِ (2) النظر، كيف لعلام الغيوب الذي تَقِلُّ البحار أن تكون مِداداً لكلماته؟!
__________
(1) " بل الواجب " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): لأهل.(5/290)
وأما نفي القدرة فإنه (1) صفة نقص لذاته، وليس يَحتمل أن يكون الله غير قادر لوجه حسن مثل ما يحتمل أن يكون (2) مضلاًّ لوجهٍ حسن كما نبَّه عليه القرآن في قوله تعالى: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها.
وقد أجمعُوا على جواز المتشابه الذي يدخله التأويل دون صفات النقص المَحضَةِ التي لا يُمكنَ مثل ذلك فيها، على أنه سوف يقوم الدليل على قدرة الله تعالى على هداية العُصاة اختياراً على قواعد المعتزلة من جهة تغيير البِنْية وترك الأسباب المضلةِ الزائدة على أصل التكليف، وغير ذلك كما يأتي بيانه بعون الله.
وثانيهما: تكلُّف تعيين ما أراده الله من ذلك بغير حجةٍ وذلك خطأ عقلاً وسمعاً.
أما العقل، فلأن المتأوِّل إما أن يقطع على أن تأويله هو مراد الله (3)، وأنه لا يَصِحُّ تأويل سواه، فهذا خطأ، لأنه لا دليل على نفي ما عداه من التأويل.
وأقصى ما في الباب أنه طلب سواه فلم يَجِدْ، لكنَّ عدمَ وجدان الطالب لا يستلزم عدم المطلوب في نفس الأمر عند الله، وكم من طالبٍ لأمرٍ لا يجدُه المدة الطويلة، ثم يجدُه هو أو غيره، وإن لم يقطع على أن تأويله هو مراد الله، ولا على انتفاء غيره من التأويلات، فمجرد الاحتمال ليس بتفسير ولا معنى للظن في مسائل الاعتقاد الجازم لا سيما مع الموانع السمعية منه إلاَّ ما خصَّه الإجماع وغيره من العمل بالظن في غير مواضع القطع، ولأنهم تأوَّلوا آيات الإضلال والمشيئة بالتعجيز، وهو خطأ لوجهين:
أحدهما: أن التعجيز شرٌّ منه كما مضى تقريره.
وثانيهما: أنه لا يزول معه التقبيحُ العقلي، لأن العقل يستقبح طلب حصول ما
__________
(1) في (ش): فهو.
(2) من قوله: " الله غير قادر " إلى هنا ساقط من (أ).
(3) في (ش): المراد لله.(5/291)
المعلوم أنه لا يحصُلُ، وإن كان مقدوراً ويمنع من إمكان إرادته، فوَجَبَ الإيمان بحكمةٍ مجهولةٍ إلاَّ أن يدُلَّ السمعُ عليها.
وأما السمع فقوله تعالى: {ابتغاءَ الفِتنَةِ وابتغاءَ تأويلهِ} إلى قوله: {وما يعلَمُ تأويلَه إلاَّ الله} [آل عمران: 7] ويأتي تقريرها إن شاء الله تعالى.
وقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وفي ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من قال في القرآن بغيرِ علمٍ، فليتبوَّأ مقعَدَهُ من النَّار ".
وفي رواية: " من قال في القرآن برأيه، فليتبوَّأ مقعده من النار ". أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسنٌ، والنسائي (1).
قال المِزِّيُّ في " أطرافه " (2). رواه الترمذي في التفسير عن محمود بن غَيْلانَ، عن بِشْر بن السري، عن سفيان عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس (3).
__________
(1) إسناده ضعيف. أخرجه الترمذي (2950) و (2951)، والنسائي في " فضائل القرآن " (109) و (110). وهو في " سنن أبي داود " برواية أبي الحسن العبدي كما في " تحفة الأشراف " 4/ 23، وليس هو في رواية اللؤلؤي المطبوعة المتداولة.
وأخرجه أحمد 1/ 233 و269 و327، والطبري في " جامع البيان " (73) و (74) و (75). ومداره عند الجميع على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي، وقد ضعفه أحمد وأبو زرعة وابن سعد، والدارقطني، وقال ابن عدي: يحدث بأشياء لا يتابع عليها، وقال النسائي. ليس بالقوي، ويكتب حديثه، ومع ذلك فقد حسن الترمذي حديثه هذا، كما نقله المؤلف عنه.
(2) 4/ 423.
(3) من قوله: " عن عبد الأعلى " إلى هنا ساقط من (أ).(5/292)
وعن سفيان بن وكيع، عن سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة.
ورواه أبو داود في كتاب العلم عن مسددٍ عن (1) أبي عوانة (2)، عن عبد الأعلى به.
ورواه النسائي في " فضائل القرآن " عن عبد الحميد بن محمد، عن مخلد ابن يزيد.
وعن أحمد بن سليمان، عن أبي نعيم ومحمد بن بِشْر.
وعن بُندار، عن يحيى بن سعيد أربعتهم عن سفيان مثل الأول.
وعبد الأعلى ضعيفٌ، ولكن يتقوى بحديث جُندب، وعموم القرآن والنظر، وشرط الترمذي فيما قال (3): حسن، أن يأتيَ من غير وجهٍ (4).
وعن جندب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من قال في كتاب (5) الله برأيه فأصاب فقد أخطأ " أخرجه أبو داود والترمذي وقال: غريبٌ، والنسائي (6).
__________
(1) في (أ): " و"، وهو خطأ.
(2) من قوله: " عن أبي عوانة " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) في (ش): قاله.
(4) نص كلامه في كتاب " العلل ": وما ذكرنا في هذا الكتاب: " حديث حسن " فإنما أردنا به حسن إسناده، عندنا كل حديث يُرى لا يكون في إسناده مُتَّهم بالكذب، ولا يكون حديثاً شاذاً ويُروى من غير وجه نحو ذلك، فهو عندنا حديث حسن.
(5) في (أ): القرآن.
(6) أبو داود (3652)، والترمذي (2952)، والنسائي (111).
وأخرجه الطبري (80). وفي سنده عندهم سهيل بن أبي حزم -واسمه مهران، ويقال: عبد الله- القطعي البصري. قال البخاري: لا يتابع في حديثه، يتكلمون فيه، وقال مرة: ليس بالقوي عندهم، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال أحمد: روى أحاديث منكرة، وقال النسائي: ليس بالقوي.(5/293)
قال المزي (1): رواه أبو داود في العلم عن عبد الله بن محمد بن يحيى، عن يعقوب بن إسحاق الحَضْرمي (2) المقرىء، عن سُهيل بن مِهْران -وهو ابن أبي حَزْم القُطَعي- عن عبد الملك بن حَبيب أبي (3) عمران الجَوْني البصري، عن جُندب.
ورواه الترمذي في التفسير عن عبد بن حُميد، عن حَبَّان بن هلال، عن سُهيل به، وقال: غريبٌ. وقد تكلم بعض أهل العلم في سُهيل.
والنسائيُّ في فضائل القرآن عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، عن يعقوب به. انتهى.
قال ابن مَعينٍ في سُهيل: إنه صالح (4)، وصحح له الحاكم أبو عبد الله في " المستدرك ".
وأما قول أبي بكر رضي الله عنه في " الكلالة ": أقولُ فيها برأيي (5)، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه قال فيها بمقتضى لُغتهم في " الكلالة " كما قد صحَّ ذلك الذي قاله في النقل عن أهل اللغة، وليس ذلك هو المفهوم من الرأي في الأعصار الأخيرة، وإنما سماه رأياً على عادتهم في الورع من تفسير القرآن بغير النصوص النبوية لما يدخُلُ التفسير باللغة من احتمال الاشتراك والتخصيص
__________
(1) " تحفة الأشراف " 2/ 444.
(2) تحرفت في (ش) إلى: الحضري.
(3) في (ش): " ابن "، وهو خطأ.
(4) قال هذا في رواية إسحاق بن منصور، وقال في رواية أحمد بن زهير: ضعيف. وقد تقدم تضعيفه عن غير واحد من الأئمة.
(5) تقدم تخريجه في 3/ 352.(5/294)
والمجاز ونحو ذلك. ولذلك كَرِهَ عمر رضي الله عنه السؤال (1) عن الأب (2) مع أنه بحثٌ لغويٌّ مَحْضٌ.
وكذلك تحرَّوْا في بعض الأخبار الآحاد، وطلبوا التوابع والشواهد حتى كاد عمر يستريبُ في حديث عمار في التيمُّم (3)، كل ذلك طلباً للظنِّ الأقوى، أو العلم اليقين إن أمكن.
وثانيهما: أن ذلك في العمليات، ولا نزاع فيها لمكان الضرورة.
قال بعضهم: تجويز إرادة القبيح لحكمةٍ لا يعلمها إلاَّ الله يستلزم تجويز الكذب، وبعثه الكذابين بالمعجزات لحكمةٍ لا يعلمها إلاَّ الله سبحانه، فيجب تعيينها.
قلنا: هذا ممنوعٌ من وجوهٍ:
أولها: أن تجويز إرادة القبيح ممنوعٌ عند أهل السنة والأشعرية، وقد نصَّ الشهرستاني على ذلك في " نهاية الإقدام " واحتجَّ عليه وجوَّد الكلام كما يأتي قريباً، وما يوجد من خلاف ذلك في كلامهم، فإنه مجازٌ، حقيقته إرادة أفعال الله الحسنة المتعلقة بأفعال العباد القبيحة، بل منعوا من تعلُّق إرادته تعالى
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) أخرجه ابن سعد 3/ 327، والطبري 30/ 59، والحاكم 2/ 514 من طرق عن أنس، ولفظه: قرأ عمر: (عبس وتولى) حتى أتى على هذه الآية: {وفاكهةً وأبّاً} قال: قد علمنا ما الفاكهة، فما الأب؟ ثم قال: إن هذا لهو التكلف. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 421 و422 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردوية، والبيهقي في " شعب الإيمان " والخطيب، وابن الأنباري في " المصاحف ".
(3) تقدم تخريجه 1/ 450.(5/295)
بطاعات العباد إلاَّ على تلك الصفة كما يأتي نصُّهم على ذلك وحجتهم فيه.
وثانيها: أن ذلك إنما يجوز فيما تقبيحُ العقل له (1) ظاهرٌ ظنيٌّ، أو وهمٌ غَلَطي.
وأما ما عُلِمَ قُبْحُه بضرورة العقل، فلا يجوز ذلك فيه، ولا شكَّ أن اختيار الكذب وبعثة الكذابين بالمعجزات على الصدق، وبعثة الصادقين مرجوحٌ قبيح على كُلِّ تقدير.
أما إن لم يُجوَّزْ في ذلك خير ولا حكمة، فظاهر.
وأما إن يُجَّوز (2) فيه شيء من الخير النادر، فلا شك أن الصدق وبعثة الصادقين أكثر دفعاً للفساد والمفاسد وجلباً للصلاح والمصالح، وتجويز خلاف ذلك يؤدي إلى أن لا يوثَقَ لله تعالى بكلامٍ، ولا لأحدٍ من رسله الكرام لا في دينٍ، ولا في دنيا، ولا جِدٍّ، ولا هَزْلٍ، ولا وعدٍ، ولا وعيدٍ، ولا حلالٍ، ولا حرامٍ، ولا عهدٍ، ولا عَقْدٍ، ولا [يوجد] أعظم فساداً مما يؤدي إليه هذا بالضرورة.
ونحن لم نقل بتجويز جهل العقل والعقلاء لمثل هذه الأمور الضروريات الجليات، وإنما جوَّزنا جهله للحِكم الخفيات، ولا شك أن المملكة لا يصلُحُ أهلها مع كثرتهم، واختلاف طبائعهم إلاَّ بأن يكون الملك عزيزاً مهيباً كريماً حليماً تُخافُ وقائعُه، وتُرجى (3) صنائعه، له السطواتُ والبأسُ الشديد، والجُودُ العام لجميع الرعايا والعبيد، فهو مرجوٌّ مخوفٌ ودودٌ رؤوفٌ، فكيف يُنْكَرُ أن يكون لمالك الملوك والممالك، ورب العوالم من هذا الكمال أعظمه، ولن يكون كذلك إلا بالوعد والوعيد، والترغيب والتهديد، وجهل العبيد لخواتمهم، وتواضعهم لمكان علمهم بجهلهم وعجزهم.
__________
(1) في (ش): فيه.
(2) في (ش): جوز.
(3) في (ش): كما ترجى.(5/296)
وكيف يُجعَلُ وجود الشر والأشرار مع ذلك خليّاً عن الحكمة الخفية، والغايات الحميدة؟!
أو كيف يُنظم مثل ذلك في سلك (1) القبائح الضرورية، والمفاسد الجلية، وكم بين الحق والباطل، والظلمات والنور.
وإنما لو عَلِمَ الخلق بالحكمة في خلق الأشقياء على التفصيل، لفسدوا، كما أنه لو بسط الرزق، لفسدوا، أو رفعه هلكوا، ولو قنطُوا، أو قَطَعُوا بالأمان لفسدوا {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].
وقد تشوَّفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رؤية جبريل على خِلْقَتِه، فرآه كذلك فخرَّ مغشيّاً عليه (2)، بل قال الله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18].
وصحَّ في الحديث " أن الكافر لو يعلم بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار " (3).
وقد اعترفت المعتزلة بأن التقبيح العقلي ينقسم إلى ضروري عقلي كتقبيح الكذب الضار، واستدلاليٍّ كتقبيح الكذب النافع، فهذا الاستدلاليُّ يقع فيه
__________
(1) في (ش): تلك.
(2) أخرجه ابن المبارك في " الزهد " (221) عن الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل جبرئيل أن يتراءى له في صورته، فقال جبرئيل: إنك لن تطيق ذلك، فقال: " إني أحب أن تفعل "، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرئيل في صورته، فغشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رآه ... وهذا مرسل عن ابن شهاب الزهري، ومرسلاته عند يحيى بن سعيد القطان شبه الريح.
(3) أخرجه أحمد 2/ 334 و397 و484، والبخاري (6469)، ومسلم (2755)، والترمذي (3542)، وابن حبان (345) و (656)، والبغوي في " شرح السنة " (4180) من طريقين عن أبي هريرة.(5/297)
الوهم والخطأ، والصحيح والسقيم، والخلاف بين العقلاء (1) كسائر الاستدلاليات، ولا شكَّ بأن المنفعة التي تُحسنُه عند بعض العقلاء هي المنفعة الراجحة الخالية عن المعارض الراجح.
وأما لو نَزُرَتِ المنفعة وعَظُمت المفسدة، كان من القسم الأول القبيح بالضرورة، مثالة: من يعرفُ أنه إذا كذب حصل له درهمٌ، وضُرِبَتْ عُنُقُهُ، أو (2) هُتِكَتْ حُرْمتُه.
وثالثهما: أن قُبْحَ ذلك ضروري إن لم يُتَوَسَّل به إلى غرضٍ راجح على ما فيه من المفاسد غير مقدور عليه إلاَّ بواسطة الكذب، وبعثة الكذابين.
وقد ثبت أن الله على كل شيء قدير عقلاً وسمعاً وإجماعاً، فكيف يجوز عليه أن يتوسَّل إلى مرادٍ له بما لم تُجَوِّز المعتزلة على أحد من العقلاء؟! فإنهم قطعوا على كل عاقل أنه يختار الصدق ويُرجحه إذا قيل له: إن صدقت فلك درهم، وإن كذبتَ فلك درهم، بل عَقَلَتِ العربُ ذلك في جاهليتها (3) وأنشد علماء المعاني فيما يدل على ذلك:
والعيشُ خيرٌ في ظِلا ... لِ الجهلِ ممَّن عاشَ كَدّا
أي: مع العقل ليقع التعارض الخفي الذي يحسن الخير عنده (4) والاختبار، فأما تفضيل (5) العيش والعقل مجتمعين على الجهل والكَدِّ مجتمعين فلا يحسن الخبر به والاختبار، لأنه بمنزلة الخبر بأن الكل أكثر من البعض.
فاعرف ذلك.
ولا شكَّ (6) أن المُهَوِّنَ لقبح القبائح هو العجز وتحقق الضرورة أو مقارنتها،
__________
(1) في (ش): العقلي.
(2) في (ش): و.
(3) في (ش): بل عقله العرب في جاهليتها.
(4) ساقطة من (أ).
(5) في (أ): تفضل.
(6) في (أ) مكانها بياض.(5/298)
ولهذا (1) كان أبغض الناس إلى الله ثلاثة:
أحدهم: الملك الكذَّاب كما ورد ذلك في الحديث الصحيح (2)، وذلك لاستغنائه بالقدرة عن الحيلة بالكذب، فكيف يجوز ذلك على ملك الملوك، ورب الأرباب الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كن فيكون.
وخرج الطبراني في " أوسط معاجمه " من حديث الفضل بن عيسى الرَّقاشي، عن الحسن البصري، قال: خطبنا أبو هريرة على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليَعذِرَنَّ الله إلى آدم يوم القيامة ثلاث معاذير، يقول: يا آدم لولا أني لعنتُ الكذابين، وأبغضتُ الكذب والحَلِفَ وأوعدتُ عليه لرَحِمْتُ اليوم ولدك أجمعين " (3).
ورابعها: أن العلم بقصد تصديق (4) الرسول عَقِبَ (5) المعجز ضروري عند الأشعرية كما هو مقرَّرٌ في كتبهم، بل المعارف كلُّها ضرورية عند جماعة من شيوخ الاعتزال، وكثير من أهل السنة كما مرَّ تقرير ذلك، وذكر الأدلة عليه في الوهم الخامس عشر من هذا الكتاب.
__________
(1) في (ش): " فلذا إن "، وهو خطأ.
(2) قطعة من حديث، ولفظه: " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذَّاب، وعائل مستكبر ". أخرجه مسلم (107)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 10/ 84، والبيهقي 8/ 161، والبغوي (3591) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه بلفظ: " الإمام الكذاب ": أحمد 2/ 433، والنسائي 5/ 86، وابن حبان (4413).
(3) ضعيف. آفته الفضل بن عيسى الرقاشي، وقد اتفقوا على ضعفه.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 347 - 348 بأطوال مما هنا، ونسبه إلى الطبراني في " الأوسط "، وأعله بالفضل بن عيسى الرقاشي، فقال: هو كذاب. قلت: لم أجد أحداً اتهمه بالكذب.
(4) في (ش): بفضل الرسول.
(5) في (أ) عقيب.(5/299)
وخامسها: أنه يلزَمُهم استحالة أن يكون الربُّ أعلم بالحكم، والمصالح، والمُرَجِّحات الخفية، وقد علم تفاضل علماء النظر في ذلك إلى شأوٍ بعيدٍ، فكيف بالملك الحميد المجيد؟! بل العالم يعلم اختلاف أحوال نفسه في ذلك، ومَنْ فوقه ومَنْ دونه.
وسادسها: أن قصة الخَضِرِ وموسى مانعةٌ ما (1) ذكروه منعاً قاطعاً، لأن موسى عليه السلام لم يعلم وجهاً مُحسناً لما فعله الخضِرُ لا جُملةً ولا تفصيلاً، ولذلك سماه أمراً نُكراً، وقد علم الله من وجوه الحكمة في ذلك ما لم يعلمه موسى عليه السلام، بل علم الخضر فيه (2) ما لم يعلم موسى عليهما السلام، بل قال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلاَّ كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر (3). بل قال الله تعالى: {فلا تَضْرِبُوا لله الأمثالَ إنَّ الله يعلمُ وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] وهي من أنفع آية في هذا المعنى.
وسابعها: قصة الملائكة حيث قالوا: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فهذا قاطع بأنهم ما عرفوا وجه الحكمة في ذلك على التفصيل، بل ولا أعلمهم الله في جوابه عليهم بالكلية حيث قال: {إنِّي أعلمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
فيا عجباً للمعتزلي كيف لم يقنع بما قنعتْ به الأنبياء والملائكة، ومن لم يقنع بما قنعوا كيف يقنع بكلام أئمة السنة، ويُنَاظِرُ مناظرة السلف الصالح، وهو جديرٌ بأن يلحق بالذين قالوا لجوارحهم يوم القيامة: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
وثامنها: أنهم لم يجدوا وجهاً تفصيلياً (4) صحيحاً مُرضياً في هذه المسألة كما مر بيانه.
__________
(1) في (ش): مما.
(2) ساقطة من (ش).
(3) قصة الخضر مع موسى أخرجها بطولها البخاري (4725).
(4) في (أ): تفصيلاً.(5/300)
وقد صرح الزمخشري في " كشافه " بصحة العلم الجملي في هذا الباب، واضطر إلى ذلك، وهو من أئمة الاعتزال، ولم ينقِم ذلك عليه أحدٌ مع كثرة رجوعهم إلى تفسيره، وتعظيمهم له.
وكذلك الشيخ مختار المعتزلي العلامة اختار ذلك في " المجتبى " وأورد السؤال المقدم بتحريرٍ آخر، وجوّد الجواب عنه، فقال في السؤال:
فإن قيل على الوجه الإجمالي: لو كان هذا التكليف حكمة، فإما أن تكون (1) موافقةً للعقل، أو مخالفة للعقل.
فإن كانت مخالفة للعقل لا تكون حكمة، وتكون واجبة الرد.
ولو كانت موافقة للعقل، لعقلناه عند التأمل والتفكر كسائر العلوم العقلية.
وقال في الجواب بعد منع الحصر: لا نُسلِّمُ أنها إذا كانت موافقة للعقل عقلناها، وكم من أشياء توافق العقل ولا يعقلها العقلاء إلاَّ بعد التعريف، ألا ترى أن خرق الخضر السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار كانت موافقة للعقل، ولم يعقلها موسى عليه السلام إلاَّ بعد التعريف.
وكذا خلق الخليفة في الأرض كان مُوافقاً للعقل، ولم تعقله الملائكة عليهم السلام.
وكذا الأعمال الهندسية والحسابية، ودقائق أكثر الحِرَفِ، والصناعات وأفاعيل الأغذية والأدوية.
وكذلك خلقُ مَنِ المعلوم منه أنه يكفُرُ أو يفسق يشتمل على حكمةٍ توافق العقل لو علمها العقلاء بدلالة صدوره من الحكيم.
ثم أورد الشُّبه التي في الباب والجواب عنها، ثم عقَّب ذلك بقوله: ثم
__________
(1) في الأصلين: كانت.(5/301)
اعلموا أن هنا أصلاً جليلاً لو تحققه العاقل سَهُلَ عليه حل أمثال هذه الشبه، وهو أن من الأفعال والأحكام ما يَنْفِرُ (1) عنه الطبع وينكره العقل أشدَّ الإنكار في الظاهر، فإذا ظَفِرَ بالحكمة ووجه المصلحة، عاد إنكاره استحباباً، واستقباحه استحساناً.
ألا ترى أن كليم الله موسى مع كمال فطنته، ووفور علمه أنكر خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار أشد الإنكار، فلما علم الحكمة الخفية فيها استحسنها ... إلى قوله: - فإذا جاز أمثال هذا في من استُهدِفَ للخطأ والنسيان ألا يجوز في أفعال أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين حِكَمٌ كامنة، ومصالح باطنة، وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] جواباً لقول الملائكة: {أتجعلُ فيها من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ} ... إلى قوله: - وايمُ الله إن هذه الشُّبَه كانت تُقلِقُني في شبابي، فلما تحقَّقتُ هذا الأصل الجليل، اطمأن قلبي، وأضحى في مواطن (2) الحكم ومجازاتها مكيناً رصيناً حتى لو كُشِفَ الغطاء ما ازددت يقيناً. انتهى بحروفه.
فدل على أنهم يعترفون بمذهب أهل السنة عند حاجتهم إليه.
وكذلك قال ابن الملاحمي في كتابه " الفائق ": إن الله خلق الكفار على بِنْيَةٍ يعلم أنه لا لُطف لمن خُلِقَ عليها، مع قدرته على أن يخلقهم على بِنيةٍ قابلةٍ للُّطفِ، بل على مثل بِنية الأنبياء والأولياء لحكمةٍ لا يعلمها إلا هو، وهو من كبار شيوخ الاعتزال. وقد تقدم كلام الزمخشري منقولاً بلفظه، وسيأتي كلام ابن الملاحمي.
الدليل الثاني: وهو المعتمد أن كثرة هذه النصوص، وتَرْداد تلاوتها بين السلف (3)
__________
(1) في (ش): ينبو.
(2) في (ش): " مواقف ".
(3) في (ش): بين السلف والخلف.(5/302)
من غير سماع تأويلٍ لها، ولا تحذير جاهلٍ عن اعتقاد ظاهرها، ولا تنبيهٍ على ذلك حتى انقضى عصر النبوة والصحابة، يقضي بالضرورة العادية أنها غير متأولة، وإلى هذا الوجه أشار قوله تعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الأحقاف: 4] ويا لها من حجة قاطعة للمبتدعة لمن تأملها في هذا الموضع، وفي الكلام في الصفات وفي أمثال ذلك، لأنه لا يجوز في العادة أن يمضي الدهر الطويل على إظهار ما يقتضي بظاهره نسبة القبيح إلى الله وسبَّه ونفي حكمته على زعم المعتزلة، وله تأويلٌ حسن، فلا يذكر تأويله ألبتة، وسواءٌ كان ذكره واجباً أو مباحاً، بل العادة تقتضي أنه لو كان حراماً (1) وإليه داعٍ لفعله بعض الناس كما يُعلم ضرورة أنه لا يكون في المستقبل عصرٌ لا يوجد فيه عاصٍ في دار التكليف والابتلاء ما دامت أحوال المكلفين على ما هي عليه، ولا سيما إذا كان الأمر المسكوت عن تأويله من المحارات مثل هذه المشكلة عند المخالف، فإنه يلزمه أن العادة تقضي بالخوض فيها ضرورة، ولذلك كثُر خوضهم في مسألة الأقدار التي مسألة المشيئة إحدى أركانها، وتواتر كثرة سؤالهم عن ذلك لعظم إشكاله، وتواتر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألزمهم العمل والإيمان بالقدر.
وقد ذكرت في هذا فيما يأتي أكثر من مئتي حديث مع ما ذكرت فيه من الآيات الكريمة، وفي جميع تلك الأحاديث لم يُذكر في ذلك تأويل ألبتة.
وقد ذكر الرازي بحثاً طويلاً في اللغات من كتاب " المحصول " (2) في المنع من إفادة السمع القطع بسبب ما يَعْرضُ في (3) الألفاظ المفردة ثم في تراكيبها من الاحتمالات التي وردت بها اللغة مثل الاشتراك والمجاز والحذف ونحوها، وذكر أنه لا دليل على عدمها إلاَّ عدم الوِجدان بعد الطلب وأنه دليل ظني، وذكر
__________
(1) في (ش): جواباً.
(2) 1/ 1/363 و366 و547 و573 و575 - 576. وانظر بحثي الاشتراك والمجاز ص 359 فما بعدها.
(3) في (ش): من.(5/303)
كثرة الاختلاف في المحذوف من (1) " بسم الله الرحمن الرحيم "، ثم أجاب بما محصوله أن المعَوَّل عليه في مواضع (2) القطع في الكتاب والسنة هو القرائن التي يضطر إلى قصد المتكلم مع تواتر معاني الألفاظ في المواضع القطعية.
وكلامه هذا يدلُّ على مثل (3) ما ذكرت في معنى آيات المشيئة، ولولا ذلك لتمكنت الملاحدة، وأعداء الإسلام من التشويش على المسلمين أجمعين في كثير من عقائدهم السمعية القطعية.
ويؤيد هذا قول بعض المعتزلة (4) المحققين: إن كل قطعي سمعي ضروري (5)، وله وجهٌ جيد، ليس هذا موضع ذكره.
وقول المعتزلة: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ عظيمةٌ على كتاب الله تعالى، فإنه لا يشكُّ منصفٌ أنه جاء في كتاب الله تعالى على جهة التمدح من الله تعالى بكمال قُدرته، ونفوذ مشيئته، فجاءت المعتزلة بالداهية العُظمى، فجعلوا ما تمدح الرب به سبحانه يقتضي بظاهره غاية الذم والسب، ونفي الحكمة، فتعالى الله عن ذلك عُلُوَّاً كبيراً.
وليس يرضى بمثل هذا عاقل أن يكثر التمدح مما ظاهره النقصُ لنفسه، والقدح في عرضه، كيف الملك الحميد الذي صح عن أعلم الخلق به أنه لا أحد أحب إليه المدح منه (6) سبحانه؟ من أجل ذلك مدح نفسه.
فكيف يكون أظهر المعاني من كلامه، وكلام رسله (7) الذي المقصود منه هو التمدُّح يقتضي نقيض المقصود مع أنه أبلغ الكلام، والبلاغة تقتضي بلوغ المتكلم لمراده (8) على أبلغ الوجوه؟!
__________
(1) في (ش): في.
(2) في (أ): المواضع.
(3) في (ش): معنى.
(4) ليست في (أ).
(5) في (ش): فهو ضروري.
(6) تقدم تخريجه في ص 58.
(7) في (ش): رسوله.
(8) في (ش): المراد.(5/304)
فكيف يستكثرُ من لا أحد أحبُّ إليه المدح منه مما ظاهره الذم ويكون ما ذلك (1) ظاهره متلوّاً في الصلوات الخمس (2) ومحافل الجماعات؟!
وقولهم: إن الداعي إلى ذلك ما زعموه من تعريض المكلفين إلى درك الثواب العظيم بالنظر في تأويله، مردودٌ بوجوهٍ:
أولها: ما تقدم من أن ذلك لو كان هو المقصود لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعوهم بإحسان هم السابقين إلى تأويله كما سبقوا إلى كل خير، وسكوتهم جميعاً عن (3) التأويل في المُدَدِ (4) الطويلة يقضي عادة باعتقاد الظواهر.
وثانيها: أن هذا الداعي الذي زعموه لا يصح تقريره فيما مورده إظهار المحامد، وبيان الممادح، لأنه يُغيِّر وجوه محاسنها، ويُكَدِّر ورود مشارعها، وإنما يكون مثل ذلك في موضع الابتلاء مثل: آيات الأوامر والتكاليف، كأمر بني إسرائيل بذبح بقرة حين سألوا (5) عن تعيين قاتل صاحبهم، ونحو ذلك.
وثالثها: أنه لو كان المقصود ما ذكروه، لورد السمع بما ظهره القبح الضروري المجمع عليه من نسبة الظلم، والولد، والشريك وسائر النقائص في الظاهر، ولها معانٍ حسنة يُثاب أهل النظر بتأملها، فإنه يُمكن تكلف التجوز والعلائق المجازية في هذه الأشياء مثل ما تكلفوه في تلك كما زعم الزمخشري (6) أن ظاهر قوله تعالى: {أمرنا مُترَفِيهَا فَفَسَقُوا فيها} [الإسراء: 16] الأمر بالفسق، وجَعَلَهُ من المجاز، وغَلِطَ في ذلك كما سيأتي.
فإن قيل: وجود المعارض يغني عن الخوض في التأويل، وهو موجود كما يأتي في شبه المعتزلة، فالجواب من وجهين:
__________
(1) من قوله: " مما " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) ليست في (أ).
(3) في الأصلين: من.
(4) في (ش): المدة.
(5) في (ش): سألوه.
(6) 2/ 442.(5/305)
أحدهما: أنه غير موجود كما يأتي في الجواب عن شبههم.
وثانيهما: أن وجوده لو سُلِّم، لا يغني عن الخوض في ذلك خاصة من عامتهم بل يزيد الدواعي قوةً إلى البحث، والخوض الكثير كما هو معلومٌ بالضرورة من عادات العقلاء، فعدم خوضهم في ذلك أدلُّ على عدم التعارض عندهم، وعند من بعدهم إلى أوان البدع، ولو سلَّم الجميع، فلا معارض بالضرورة في عموم قدرة الله وأنه على كل شيءٍ قدير. ومذهبُ المعتزلة يستلزم أن لذلك معارضاً ويقتضي أنه تعالى غير قادر على هداية العصاة تعالى عن ذلك، وسيأتي تقرير ذلك، ونقض شُبَهِهِم فيه.
فإن قيل: فهل القرآن كله محكمه ومتشابهه عندكم على ظاهره ما لم يُنقَل تأويله بنصٍّ صحيح أو إجماع.
قلنا: إن عنيتم بظاهره ما فَهِمَ السلف وأهل السنة من تنزيل ذلك على ما يقتضي المدح والثناء والكمال، وعلى قوله: {ليس كمثله شيءٌ} [الشورى: 11] فهو كله على ظاهره إلاَّ ما خصَّه نصٌّ صحيحٌ أو إجماع.
وإن عنيتم بظاهره ما ظننتم من أن ظاهره قبيحٌ، وسبٌّ لله تعالى وكفر به، فليس على ظاهره، لكنا نمنع من كون ذلك ظاهره، وقد مر ذلك مُحقَّقاً في الصفات ولله الحمد.
فإن قيل: فما الفرق بين المحكم والمتشابه؟
قلنا: إن المحكم ما لا تأويل له محجوبٌ عن العقول، والمتشابه ما له تأويل لا يعلمه إلا الله، وإنما نقول ما حكاه الله عن الراسخين: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب} [آل عمران: 7 - 8].
فهذه قرائن نضطر إلى أن المراد منها ما ظهر وفَهِمَه السلف والخلف، ومن لم يُغَيِّر فطرته التي فطره الله عليها.(5/306)
ولذلك كان اعتقاد جميع المسلمين حتَّى المعتزلة والشيعة إلاَّ مَنْ تَلَقَّن الكلام، ومَرِضَ قلبه بدائه أن مشيئة الله نافذة، وأنه سبحانه لا يشاء أمراً من هداية عاص أو غيرها إلاَّ وقع مراده على ما أراده، ومن شك في هذا فليختبر، وليُجَرِّب، وليسأل كل مسلم لم يعرف علم الكلام عن ذلك، وهذا دليل بثبوت ذلك متواتراً ينقله (1) الخلف عن السلف، وفي كلام أهل البيت عليهم السلام لتقرير ذلك نصوصٌ خاصة لا يمكن تأويلها وعمومات ظاهرة.
أما النصوص، ففي موضعين: الموضع الأول في تراجم قدمائهم في كتب الرجال، والثاني: في تصانيف سائر علمائهم المخالفين لأهل الاعتزال.
أما الموضع الأول فكثير ممن روى ذلك عنهم الإمام العلامة جمال الدين المِزِّي في كتاب " تهذيب الكمال في معرفة الرجال " (2)، ولو تتبع ذلك لطال، ولنقتصر مما في كتب الرجال على المنقول عن الإمام المقَلَّد المقتدى به منهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فقد روى عنه المزي المذكور، والذهبي في " تذهيب التهذيب " (3) كلاهما من طريق مُطَّلِب بن زياد الكوفي، وقد وثَّقه أحمد بن حنبل، وأبو داود (4)، وابن معين، قال: جاء رجلٌ إلى زيد بن علي، فقال له: أنت الذي تزعم أن الله تعالى أراد أن يُعْصَى؟ فقال زيد بن علي: أفَيُعْصى عُنْوةً؟!
__________
(1) في (ش): ثبوت ذلك متواتر بجملة.
(2) وهو من منشورات مؤسسة الرسالة، وقد تم طبع ما يقرب من ثلثيه في عشرين مجلداً، والباقي قيد الطبع.
(3) لم يرد هذا النص عند المزي في " تهذيب الكمال " كما توهم المؤلف، وإنما هو مما زاده الإمام الذهبي في " تذهيب التهذيب ". انظر المجلد الأول الورقة 254/ب منه.
(4) في " تهذيب التهذيب " وغيره: قال أبو داود: هو عندي صالح، ووثقه أيضاً العجلي وعثمان بن أبي شيبة، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وكذا ابن شاهين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وعن أبي داود قال: رأيت عيسى بن شاذان يضعفه، وقال: عنده مناكير، وضعفه ابن سعد جداً، وقال ابن عدي له أحاديث حسان وغرائب، ولم أر له منكراً، وأرجو أنه لا بأس به.(5/307)
فهذا صريح مذهب (1) أهل السنة، وكلامه هذا وإن كانت المعتزلة والزيدية المتأخرون (2) يتأولونه، ولا يمكنهم تأويله، فإنه لا تُساعدهم قرينة الحال، فإنه أورده جواباً على من أنكر صريح مذهب أهل السنة.
وليس يستطيع من يدعي أنه على مذهبه من متأخري الزيدية أن ينقل عنه ما يعارض هذا النقل، بل منتهى حاصلهم الاشتغال بتكذيب النقل الثابت من غير موجبٍ، بل ولا مسوِّغٍ. فقد صحَّ النهي عن تكذيب اليهود فيما نقلوه من المحتملات أو التأويل لذلك من غير موجب أيضاً (3)، فإنه إن كان صواباً فتأويله حرام وِفاقاً، وإن كان خطأ، فهو كذلك على الصحيح، إذ لو جاز تأويل كلام من أخطأ من المختلفين لم يصح نقل المقالات عن أهلها، ولم تكن الزيدية بتأويل نصوص أئمة أهل البيت عليهم السلام على ما يوافقهم أولى من غيرهم.
فتأمل ذلك.
وأما ما نقله محمد بن عبد الكريم بن أبي بكر المعروف بالشهرستاني في كتابه " الملل والنحل " (4) من كون زيد بن علي عليه السلام قلَّد واصل بن عطاء،
__________
(1) في (ش): كلام.
(2) في الأصل: " المتأخرين "، وهو خطأ.
(3) أخرجه من حديث أبي نملة الأنصاري: عبد الرزاق (20059)، وأحمد 4/ 136، وأبو داود (3644)، وابن حبان (6257)، والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1/ 380، والطبراني 22/ (874) و (875) و (876) و (877) و (878) و (879)، والبيهقي 2/ 10، وابن الأثير في " أسد الغابة " 6/ 315 والمزي في " تهذيب الكمال " في ترجمة أبي نملة، ولفظه أنه بينا هو جالس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجل من اليهود ومُر بجنازة، فقال: يا محمد، هل تكلم هذه الجنازة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الله أعلم "، فقال اليهودي: إنها تكلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله ... وكتبه ورسله فإن كان باطلاً لم تُصَدِّقوه، وإن كان حقاً لم تكذبوه ".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (4485) و (7362) و (7542).
(4) 1/ 155.(5/308)
وأخذ عنه مذهب الاعتزال تقليداً، وكانت بينه وبين أخيه الباقر عليهما السلام مناظراتٌ في ذلك، فهذا من الأباطيل بغير شكٍّ، ولعله من أكاذيب (1) الروافض، ولم يورد له الشهرستاني سنداً ولا شاهداً من رواية الزيدية القدماء، ولا من رواية علماء التاريخ، ولا الشهرستاني ممن يُوثَقُ به في النقل، وكم قد روى في كتابه هذا من الأباطيل المعلوم بطلانها عند أئمة هذا الشأن؟ وكيف يُقَلِّده زيد مع أن زيداً أكبر منه قدراً وسناً، فإن واصلاً وُلِدَ سنة ثمانين، وزيد عليه السلام تُوفي سنة مئة؟! ولو كان الشهرستاني كامل الصرفة والإنصاف لذكر مع ما ذكره ما هو أشهر منه في كتب الرجال، وتواريخ العلماء، وأئمة السنة، وفي " الجامع الكافي " ثم ذكر الراجح من النقلين، وقواه بوجوه الترجيح.
والظاهر أنه اقتصر على نقل كلام بعض الروافض ولم يشعر بغيره. والله أعلم.
ومما يدل على عدم تحقيقه في معرفة الرجال أنه عدَّ زيد بن علي من أتباع المعتزلة، ثم ذكر بعد ذكر الإمامية جماعةً جِلَّة من أئمة السنة ورواة الصحاح (2)، وعدَّهم من أتباع زيد بن علي، وسمَّاهم زيدية، بل عدَّهم من مصنفي كتب الزيدية منهم: شعبة (3)، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومنصور بن الأسود، وهارون بن سعد (4) العِجْلي، وعُبيد الله (5) بن موسى، والفضل بن دُكَين، وعلي بن صالح، ويزيد (6) بن هارون، والعلاء بن راشد، وهُشَيْمُ بن بَشير (7)، والعَوَّام بن حَوْشَب، ومُسْتَلِم بن سعيد، وجعلهم كلهم مثل أبي خالد الواسطي في الدعاء إلى مذهب الزيدية، والتأليف فيه (8).
__________
(1) في (ش): أباطيل أكاذيب.
(2) في (ش): الصحيح.
(3) ليس في المطبوع من " الملل والنحل ".
(4) في الأصلين: " إسماعيل "، وهو خطأ، والتصويب من " الملل ".
(5) تحرفت في الأصلين إلى: " عبد الله "، والتصويب من " الملل ".
(6) تحرفت في (ش) إلى: وزيد.
(7) تحرفت في الأصلين إلى: " سكين "، والتصويب من " الملل ". وزيد بعده في الأصلين: " وهارون بن إسماعيل "، وهو خطأ، وقد تقدم على الصواب.
(8) انظر " الملل والنحل " 1/ 190.(5/309)
فكيف يصح مع هذا أن يكون مذهب زيد والزيدية هو مذهب المعتزلة، وفي هؤلاء رؤوس خصوم المعتزلة لولا عدم معرفته وتحقيقه في أحوال الرجال؟
وقد شرط الذهبي على نفسه (1) أن يذكر في " الميزان " من قُدِحَ عليه (2) بحقٍّ أو باطل، فذكر واصل بن عطاء، ولم يذكر فيه زيد بن علي عليه السلام لبراءة ساحته من ذلك (3).
ويدل على ما ذكرتُه من بطلان ذلك أنه ذكره الشهرستاني على وجهٍ يستلزم الانتقاص لزيد عليه السلام حتى جعله مُقَلِّداً لواصل، لا مُوافِقاً بالنظر والاستدلال، وحتى أشار إلى أن الذي حمله على ذلك إرادة الصلاحية للخلافة وحبُّ الرئاسة، وحتى عاب عليه تقليد واصل مع قدحِ واصل في جدِّه علي بن أبي طالب عليه السلام.
وأما الموضع الثاني: فكثيرٌ أيضاً، وفي كلام القاسم عليه السلام في الجواب على الملحد ما يدل على اعتقاده لنفوذ مشيئة الله تعالى ولله الحمد.
وقد ذكر السيد الشريف الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني العلوي في كتابه " الجامع الكافي " (4) في مذهب الزيدية عن قُدماء أهل البيت عليهم السلام ما يدل على إجماع قدماء أهل البيت عليهم السلام في المئة الأولى والثانية وأكثر الثالثة، وهي القرن الثالث على صريح مذهب أهل السنة والحمد لله على وجود ذلك في كتب الزيدية، وخزائن أئمتهم، ورواية ثقاتهم.
وقد نقلت ذلك من نسخة الإمامين اللذَيْن عاصرتهما: الناصر محمد بن علي، والمنصور علي بن محمد عليهما السلام، وهي النسخة التي أخرجها السيد الشريف العالم أحمد بن أمير الجيلاني إلى اليمن، وعليها خطه
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) ليست في (ش).
(3) في (ش): جميع القوادح.
(4) تقدم ذكره 2/ 106.(5/310)
المعروف وقفها (1) للهِ تعالى، وعليها صفات السماع، والتصحيح الكثير على عادة حفاظ الحديث المتقنين، والإجازات من كثير من أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، وهي في الخزانة الإمامية إلى (2) الآن، حرسها الله تعالى.
وقد ذكر الإمام المؤيد بالله عليه السلام هذا الكتاب المسمى " بالجامع " باسمه، ذكره في كتابه " الإفادة " في أواخره، فلله الحمد والمنة، في ذكر: حي على خير العمل، فإنه روى الحديث في ذلك، وقال: رواه محمد بن منصور الكوفي في كتاب " الجامع " بسنده، وقد عدت تصانيف محمد بن منصور ثلاثين مصنفاً في أول هذا الكتاب، وليس فيها ما يسمى الجامع فيشتبه بهذا والله أعلم.
قال مصنفه رحمه الله في المجلد السادس منه في كتاب " الزيادات " (3) باب القدر والمشيئة والإرادة، قال محمد، يعني ابن منصور في كتاب أحمد: قلت لأبي عبد الله أحمد بن عيسى (4): هل (5) المعاصي بقضاء وقدر، قال: نعم، حكم الله أن سيكون ما سبق في علمه من أفعال العباد، وكان أحمد يثبت القدر خيره وشره، ويقول: الإيمان من منة الله تعالى على أوليائه وتوفيق وعصمة لتصديق علمه السابق الذي لا يبطل بعد الحجة بصحة العقل، وبما مثله تفهم المخاطبة، فإن لم يفهم، فهو مقطوع العذر لكمال خلقته وسلامتها من الآفات المانعة.
قال محمد: قلت لأحمد بن عيسى: إن قوماً يزعمون أن علم الله لا يضر ولا ينفع، فقال: بلى والله، إن علم الله السابق ليضر وينفع، وذكر فيه كلاماً، وشرحاً لم أحفظه، وذكر فيه آيات من القرآن {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - واختيار الله إياه.
__________
(1) في (ش): وقفه.
(2) ساقطة من (ش).
(3) تقدم التعريف به 1/ 211.
(4) تقدمت ترجمته 3/ 458.
(5) في (ش): فعل.(5/311)
وقال أحمد فيما حدثنا علي، عن أبي هارون، عن سعدان، عن محمد، قال: سألت أحمد بن عيسى عن القدر الذي نُهِيَ عنه ما هو؟ فقال: من زعم أن المشيئةَ إليه.
وقد سُئِلَ علي عن ذلك، فقال: من زعم أن الله شاء (1) لعباده الطاعة فلم تنفذ مشيئة الله، وشاء لهم إبليس المعصية فنفذت مشيئةُ إبليس، فقد وهَّنَ الله في مُلكه، وجوَّره في حكمه، وبَرِئْنا إلى الله منه يوم القيامة.
وقرأت في كتاب إبراهيم ومحمد ابني فرات وسماعهما من محمد بن منصور، قال: كان أحمد بن عيسى يُثْبت القدر خيره وشرَّه، ويقول: لا يقال: شاء للعباد فيكون شِبْهَ اختيار، ولكن شاء أن يَعْصُوه.
وقال الحسن بن يحيى: أجمع آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أحسن، فلله عليه المِنَّة، ومن أساء، فلله عليه الحجة في إساءته، وغير معذور في معصيته، ولن يخرج الخلق من قدرة الله وتدبيره وملكه.
وقال الحسن ومحمد: إن الله سبحانه خلق العباد، وعَلِمَ ما هم عاملون قبل أن يعملوا، وعرَّفهم طاعته، وأمرهم بها، وأعانهم عليها، وعرَّفهم معصيته، ونهاهم عنها، وأغناهم عنها.
قال الحسن: فليس أحدٌ يصير إلى طاعة الله إلاَّ بنعمة الله وفضله ورحمته، وليس أحدٌ يصير إلى المعصية إلاَّ بنعمة الله، والحجة لله على المطيع وعلى العاصي.
وقال محمد في موضعٍ آخر: إن الله خلق العباد جميعاً لعبادته، وأمرهم بطاعته، وأعانهم عليها، ومدحهم عليها، ونهاهم عن معصيته، وأغناهم عنها، وذمَّهم على فعلها، وجعل لهم السمع، والأبصار، والأفئدة، والجوارح السليمة
__________
(1) في (ش): يشاء.(5/312)
من الآفات، وأقام عليهم الحجة، وندبهم إلى المَحَجَّة بما أنزل في القرآن، وجعل فيه من البيان، وركَّب فيهم من الجوارح التي بها يعملون، وبها يحاسبون ويُسألون، ثم أخذ بجميع نواصي العباد فلم يدع شيئاً من مشيئتهم وإرادتهم إلا بمشيئته وإرادته استدلالاً على الربوبية، وتعبُّداً للخلائق بالقدرة، فإذا نوى عبد من عبيده خيراً اختار عليه في نيته، فإن شاء أمضاه له بعدله وتوفيقه، وإن شاء حال بينه وبينه ببعض بلائه، وما دعا الله إليه، فقد جعل له سبيلاً، وما نهى عنه، فقد جَعَلَ منه بُدَّاً، فمن تم منه الإقرار، وأحسن في الأعمال كان في أهل الجنة، ومن تم منه الإقرار، وأساء في الأعمال، حَكَمَ عليه الدَّيَّان في أفعاله، إن غفر له فبفضله، وإن عذبه فبذنبه، وما الله بظلاَّمٍ للعبيد.
قال محمد: فمن عَلِمَ الله منه الطاعة، وقبول أمره، والإنابة إليه، فله من الله الهداية والمنُّ والتوفيق.
وقال محمد في موضعٍ آخر: فمن قبل أمر الله، وآثر طاعته، وعَلِمَ اللهُ منه صدق النية في ذلك كله، كان له من الله العون، والمنُّ الزائد، والتوفيق الزائد، وبذلك سعد، ومن علم الله منه المعصية، وركوب ما نهاه عنه، وإيثار هواه على طاعة الله، استوجب من الله الخذلان والترك، وبذلك شَقِيَ، ولم يكن له على الله هدايةٌ ولا منٌّ ولا توفيق.
قال: ولله أن يَمُنَّ على من يشاء من عباده، ويتفضل عليه بتوفيقه ويهديه، قال الله عز وجل: {ولو عَلِمَ الله فيهم خيراً لأسمَعَهُمْ} [الأنفال: 23]، وقال: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، وقال: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاء} [آل عمران: 74]، وقال: {ولولا فَضْلُ الله عليكم ورحمتُه لكنتم من الخاسرين} [البقره 640]، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاء} [النور: 21]، وقال الله عز وجل: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7 - 8]،(5/313)
وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} [الإسراء: 21]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم} [الأنعام: 165]، وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فأخبر لا شريك له أنه خلق العباد جميعاً لعبادته، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وقد تقدم الكلام في مثل هذا.
قال الحسن ومحمد في كتاب " الجملة ": فليس أحد ينال طاعة الله إلا يبدي امتنانه وفضله ورحمته، وليس أحدٌ أعلى عند الله منزلةً من نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ لا أملِكُ لنفسي نَفْعاً ولا ضَرَّاً إلاَّ ما شَاءَ الله} [الأعراف: 188]، وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23 - 24]، وقال شُعيبٌ: {وما توفيقي إلاَّ بالله} [هود: 88]، وقال نوحٌ: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقال يوسف: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53]، وقال مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44]، وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30]، وقال أهل الجنة: {وما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هَدَانا الله} [الأعراف: 43].
قال الحسن بن يحيى: وقال أهل النار: {ربَّنا غَلَبتْ علينا شِقْوَتُنا} [المؤمنون: 106]، وقالوا: {لو هدانا الله لَهَدَيْنَاكُم} [إبراهيم: 21]، وقال إبليس: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِين} [الحجر: 39، 40]، وقال الله تعالى لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان} [الحجر: 42].
وقال محمد: وقد نَسَبَ الله الأعمال إلى العباد، فقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقد أقدرهم عليها بالآلة والأداة، وتسليم الجوارح.(5/314)
وقال الحسن ومحمد: وللعباد أفعالٌ وإرادات نسبها الله إليهم، وعِلْمُ الله وإرادته ومشيئته محيطٌ بإرادتهم، ومشيئتهم، فلا يكون منهم إلاَّ ما أراد وعلم أنه كائنٌ منهم، وقد أراد خلقهم، وخَلَقَهم بعد علمه بما هو كائنٌ منهم، وأنه لا يكون منهم إلاَّ الذي كان، وقد سبق في علمه أنه يكون منهم مؤمن وكافر، ومُطيع وعاصٍ، وشقيٌّ وسعيد، وفريق في الجنة، وفريق في السعير، وقد أراد أن يتم كون ما علم أنه كائن، وقد أراد تبارك وتعالى أن تكون الدنيا دار بلوى واختبار.
قال محمد: وقد شاء الله أن يَسْعَدَ أهلُ طاعته، ويشقى أهلُ معصيته، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] وليس ما سبق في علم الله بعذرٍ لأحد في ترك ما أمر به، وركوب ما نهى عنه.
قال الحسن ومحمد: فمِنَ العباد من أوجب الله له الجنة والنار بسبب البلوى والاختبار، ومنهم من أراد أن يدخله الجنة بسابق علمه فيهم بلا بلوى ولا اختبار كمَنْ لم يلزمه من الله حجة نحو المعاتيه والبُلْهِ والأطفال.
قال الحسن: وكذلك حورُ العين منّاً منه وفضلاً ورحمة، فمن منَّ الله عليه بالعقل، والسمع، والبصر، والسلامة، والفهم، لما جاءت به الرسل، فقد وَجَبَت عليه الحجة، واتباع ما جاءت به الرسل.
قال محمد: ومن ألزمه الله عزَّ وجلَّ بالعقل، والفهم والسمع، والبصر، والقوة، والسلامة من الآفات المانعة لقبول ما جاءت به الرسل، فذلك المحجوب لا عُذْرَ له في إضاعة شيءٍ مما كَلَّفه الله، قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم} إلى قوله: {مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وقال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهم (1)
__________
(1) بالألف وكسر التاء على الجمع، وهي قراءة نافع وابن عامر وأبي عمرو، وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي: " ذُرِّيَّتَهُم " على التوحيد " حجة القراءات " ص 301 - 302،
و" زاد المسير " لابن الجوزي 3/ 284.(5/315)
وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} إلى قوله: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف: 172]، وقال: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُون} [القصص: 68].
وقال الحسن: وقد أدخل الله النار ولدان المشركين الذين سبق في علمه أنهم لا يؤمنون (1)، فقال لنوحٍ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَن} [هود:
__________
(1) المذهب الصحيح المختار عند المحققين من أهل العلم أن أطفال المشركين الذين يموتون قبل الحنث هم من أهل الجنة.
وقد استدلوا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فإذا كان لا يُعذب العاقل بكونه لم تبلغه الدعوة، فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى.
وبما أخرجه البخاري في " صحيحه " (7047) من حديث سمرة، وفيه: " وأما الرجل الطويلُ الذي في الروضة، فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطره، قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله: وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وأولاد المشركين ".
وبما أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة رفعه: " كل مولود يولد على الفطرة (والفطرة هنا الإسلام) فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ".
وفي مستخرجات البرقاني على البخاري من حديث عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل مولود يولد على الفطرة " فقال الناسُ: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ قال: " وأولاد المشركين ".
وأخرج ابن أبي حاتم فيما نقله عنه الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 8/ 357، عن أبي عبد الله الطهراني -وهو محمد بن حماد- حدثنا حفص بن عمر العدني، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: أطفال المشركين في الجنة، فمن زعم أنهم في النار ففد كذب، يقول الله عز وجل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَت} قال: هي المدفونة.
وأخرج أحمد 5/ 58 من طريق حسناء بنت معاوية بن صريم، عن عمها قال: قلت: يا رسول الله؟ مَنْ في الجنة؟ قال: " النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة، والمؤودة في الجنة ". وحسن الحافظ إسناده في " الفتح " 3/ 246. =(5/316)
36]، فقال نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26 - 27].
وأهلك الولدان في زمان عاد بالصيحة، ولا ذنب لهم ولم يبلُغوا الحُلُم والاختيار.
وقتل الخَضِرُ الغلام ولم يبلُغُ الحُلُم، فبلغنا في الحديث أنه وُجِدَ في كَتِفِه: كافرٌ خِلْقَةٌ (1)، ولله أن يُضِلَّ من شاء من عباده، ولا يظلمهم لأنهم عبيده، وملكه، يفعل فيهم ما يشاء بسبب البلوى والاختبار، وبغير سبب البلوى والاختبار كما يشاء، ثم لا يكون ذلك ظلماً منه لعبده، بل له أن يفعل ما يشاء، وليس لأحدٍ أن يدخل على الله في علمه، ولا يسأله عما يفعل وهم يُسألون.
وقال محمد في كتابه " الجملة ": والعباد عباد الله جميعاً في مَلَكَتِه ومشيئته وقدرته وسلطانه يُفضل بعضهم على بعض كما يشاء، وكيف يشاء {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقال لا شريك له: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} [الزخرف: 32]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]، وقالت الرسل: {إنْ نحنُ إلاَّ بَشَرٌ مثلكُم ولكنَّ الله
__________
= وأخرج ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في " تفسيره " عن أبيه، عن مسلم بن إبراهيم، عن قرة قال: سمعت الحسن يقول: قيل: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: الموؤدة في الجنة " قال ابن كثير: هذا حديث مرسل من مراسيل الحسن، ومنهم من قبله. وانظر " طريق الهجرتين وباب السعادتين " ص 512 - 516، وانظر أيضاً الجزء السادس من هذا الكتاب.
(1) لم أجده بهذا اللفظ، وإنما أخرج مسلم (2380) (172) و (2661)، وأبو داود (4705) و (4706)، والترمذي (3150)، وأحمد 5/ 119 و121، والطبري 16/ 3، وصححه ابن حبان (6221) من حديث أُبي بن كعب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الغلام الذى قتله الخضر طُبع كافراً ولو عاش لأرهق أبويه طغياناً وكفراً ".(5/317)
يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون} [إبراهيم: 11]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125] أي: يجعل فيه نوراً يقبل به الإسلام، ويُحَبِّبُه إليه {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء} [الأنعام: 125]، فمن لم يكن له من الله نورٌ فما له من نورٍ، وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 110] يقال في التفسير: نقلِّبُ أفئدتهم وأبصارهم على الكفر عقوبة كما لم يؤمنوا به أوَّل مرة.
وقال محمد في المسائل: إن الله خلق الخلق بقدرته، وجعل بينهم التفاضل بعلمه، وجعل منهم عباداً اختارهم لنفسه ليحتجَّ بهم على خلقه، قال الله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال: {ولقدِ اختَرنَاهُم على عِلْمٍ على العَالَمِينَ} [الدخان: 32] وقال: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وقال {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَم} [الأحزاب: 7] وكان فضل الله عليهم ورحمته قبل طاعتِهم إيَّاه.
وقال الحسن ومحمد في وقتٍ آخر: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، فيُحَبِّب إليه الإيمان، ويجعل في قلبه نوراً يقبل به الإسلام، ويُخْطِرْ على قلبه الخير، ويُزَيِّن في قلبه التقوى مَنَّاً منه على عباده ورحمةً وفضلاً، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصَّعَّد في السماء فمن لم يكن له من الله نورٌ فما له من نُور، قال الله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام: 110].
قال الحسن: وقال سبحانه: {ولو أنَّنا نَزَّلنا إليهم الملائكةَ وكلَّمهم الموتى(5/318)
وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُون} [الأنعام: 111].
وقال الحسن في موضعٍ آخر: فإذا أراد الله بعبدٍ إرادةً في الامتنان والتوفيق، ألهمه التقوى، وحبَّب إليه الإيمان، وزيَّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ووفَّقَه للعمل الصالح منَّاً من الله ورحمة يختص بها من يشاء من عباده، ويُفَضِّلُ بعضهم على بعض كيف يشاء من غير استحقاق، وأعطى الأنبياء من خزائن رحمته وتفضُّله ومَنِّه وتوفيقه، وخصَّهم برسالته، ورفعهم على خلقه منَّاً منه ورحمةً وفضلاً، ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون، ولله ملك السماوت والأرض وما فيهما، فهم في ملكَتِه، والقدرة محيطة بهم، يفعل في عبيده ما يشاء، ويملك حياتهم، وموتهم، وأرزاقهم، وحركتهم، ومنطقهم، وشهوتهم، وقلوبهم، وأسماعهم، وأبصارهم، فليس يتحرك متحركٌ، ولا يطرِفُ طارفٌ ولا ينطِقُ ناطقٌ إلاَّ وهو في ملكته والقدرة محيطة بهم، وعلم الله وتقديره ومشيئته سابقة فيهم قبل خلقهم، قال الله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] فالحجة من الله على المطيع والعاصي، وما يتفَضَّل به على العباد من العفو أكثرُ من العقوبة، قال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّة} [فاطر: 45]، وقال: {ويَعْفُو عن كثيرٍ} [الشورى: 34].
وليس للعباد على الله سبحانه أن يخلقهم، ولا لهم عليه أن يَهْدِيَهم، فكُلُّ خيرٍ ناله العباد من الله، فإنما هو بمنِّ الله وفضله، وإنما خلق الله العباد عبيداً مماليك يملِكُهم، ويملِكُ جميع ما حولهم، وبالخلق إلى الله الحاجة في كل وقت، والله الغني عنهم وهم الفقراء إليه، وقال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75]، وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّه} [الكهف: 23 - 24] وقال: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون} [الأنبياء: 23].(5/319)
وسُئل الحسنُ عن السعيد والشقي متى يكون سعيداً وشقياً؟ فقال: السعيد في علم الغيب عند الله سعيد قبل أن يُخلق، ولا يكون من فعل العبد، وما يُختم له به إلاَّ بعمل السعادة حتى يجعله الله سعيداً بعمله برحمةِ الله له، ويكون فعله موافقاً لما سبق في علم الغيب فيه.
والشقيُّ في علم الله شقيٌّ قبل أن يُخلق، ولا يكون من فعله وخاتمة عمله إلا عمل الأشقياء حتى يكون عمله وما يختم له به موافقاً لما سبق في علم الله أنه شقي. نسأل الله أن يَمُنَّ علينا بالسعادة ولا يجعلنا من الأشقياء برحمته، فإنه ولي ذلك، والقادر عليه، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين} [يونس: 99]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُم} [هود: 118 - 119] أي: للرحمة، وقال: {ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْس} [الأعراف: 179]، وقال: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وقال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8]، وقال: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 83]، وقال: {وما كُنَّا مُعَذِّبين حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] فأخبر الله سبحانه أنه لم يُعَذِّبْ من عصاه إلاَّ بعد البيان والحجة، والإعذار إليهم، فكان عذابه لهم عقوبةً إذْ عصوه.
وقال محمد في المسائل: وسألتَ عمَّن يقول: إن الله لم يخلق شقيّاً ولا سعيداً. فإنا نقول: قد خلق الله الشقيَّ والسعيد، فلن يزول عن الشقي أن يكون شقيّاً، ولا عن السعيد أن يكون سعيداً، وهو الذي سبق في علم الله أن يُسْعِدَ(5/320)
أولياءه، ويُشقي أعداءه. قال الله عز وجل: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 105 - 108].
قال الحسن فيما رواه ابن صباح عنه، وهو قول محمد في المسائل وسُئلا عن القدر، ومن قال: وإن الله خلق شقياً وسعيداً، وإن القضاء قد سبق؟ فإنا نقول في ذلك بجمل من الكتاب، وآثارٍ بَلَغَتْنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نتجاوزُ ذلك إلى غيره: إن الله خلق العباد وعلم أعمالهم قبل أن يعملوها، وعلم ما هم صائرون إليه، وقد عرَّفهم الطاعة وأمرهم بها، وعرَّفهم المعصية ونهاهم عنها بعد علمه بما يعملون من ذلك ويختارون، فما كان للعباد من طاعة فلله فيها المِنَّة، وما كان منهم من معصيةٍ، فلله فيها الحجة، فهذا ما أجمع عليه المختلفون من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو مؤدٍّ إلى الله عز وجل.
وقد أمر الله بالألفة والاجتماع، ومدح أهلها عليها، ونهى عن الفُرقة والاختلاف وذم أهلها عليها، قال الله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].
وقال الحسن ومحمد: ومن قال: إن الله لم يُقَدِّر في خيرٍ ولا شرٍّ فإن قوله هذا جُرأة على الله وبدعة وجهل ومن قال بالإجبار وحمل ذنوبه على الله وما تنزَّه الله عنه، وذمه في الكتاب، فإنه جريء جاهل، ولا يقول بواحدة من المقالتين، يعني: الجبر ونفي القدر.
قال محمد: ومن قال: إن الله لم يُقَدِّر في خير ولا شر فإنا ننسبه إلى الغلو في القدر الذي نهى عنه، ونقول: إن الله قد قدَّر الخير والشر على ما أراد، فجعل الخير خيراً، وجعل الشرَّ شراً، ومشيئة الله محيطة بمشيئة العباد.
قال الحسن ومحمد في كتاب " الجملة ": وبلغنا عن علي صلى الله عليه،(5/321)
أن رجلاً سأله عن القدر؟ فقال: طريقٌ مظلم فلا تسلُكْه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: بحرٌ عميق فلا تَلِجْهُ، قال: فسكت الرجل ساعة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: سِرُّ الله فلا تُفْشِه.
قال الحسن بن يحيى: ثم إن أمير المؤمنين صلى الله عليه قام فأحدث طهوراً، ثم قال: أين السائل عن القدر؟ فقال الرجل: أنا يا أمير المؤمنين، فقال أمير المؤمنين: أخبرني عنك، أخلقك الله كما شاء أن يخلقك أو كما شئت؟ قال: كما شاء، قال: فأخبرني عما تأتي به يوم القيامة من عملٍ بما شاء الله أو بما شئت؟ قال: بما شاء الله، قال: فأخبرني عما تصير إليه يوم القيامة إلى ما شاء الله أو إلى ما شئت؟ قال: إلى ما شاء، قال: فهل ترى لأحدٍ شيئاً من المشيئة؟!
وروى محمد بإسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أعمال العباد كلُّها على مشيئة الله وإرادته " (1).
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبته: " إنَّ الله حَدَّ حُدوداً فلا تعتدُوها، وفرض أشياء، فلا تُضيعوها، وحرَّم محارم فلا تَنْتَهِكُوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نِسياناً، فلا تكلفُوها رحمةً من الله فاقبلُوا " (2).
__________
(1) لم أجده بهذا اللفظ، ولكن ورد من حديث عمران بن حصين قال: قيل: يا رسول الله، أعُلِمَ أهلُ الجنة من أهل النار؟ قال: " نعم "، قيل: فما يعمل العاملون؟ قال: " كلٌّ مُيَسَّر لما خُلِقَ له ". أخرجه أحمد 4/ 431، والبخاري (6596) و (7551)، وفي " خلق أفعال العباد " ص 53، ومسلم (2649)، وأبو داود (4709)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (691)، والآجري ص 174، والطبراني 18/ (266) و (267) و (268) و (269) و (270) و (272) و (273) و (274)، وابن حبان (333)، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 94 و95.
وفي الباب عن علي، وجابر، وعبد الرحمن بن قتادة السلمي. انظر تخريجها في " صحيح ابن حبان " (334) و (335) و (336) و (337) و (338) بتحقيقنا.
(2) حديث حسن قد تقدم تخريجه 1/ 453 - 454 و2/ 143 - 144.(5/322)
قال الحسن ومحمد: " ومن كان له جارٌ قدريٌّ، أومن ينادي بذلك ويمتحن عليه الناس، ويُعادى على ذلك فلا حقَّ له كحرمة المسلم، وإن كان إنما يومىءُ إليه بذلك ولا ينادي به، فله ما للمسلمين في الجملة.
قال محمد: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (1)، قال: حدثنا عمر أبو حفص القَزَّاز، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن أبائه عليهم السلام، عن عليٍّ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2): " سبق العلم، وجفَّ القلم، ومضى القضاء وتم القدر بتحقيق الكتاب وتصديق الرسل، وما العباد عاملون، وبالسعادة من الله لمن آمن واتقى، وبالشقاء من الله لمن كذَّب وكَفَر، وبالولاية من الله للمؤمنين، وبالبراءة من المشركين ". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أروي حديثي عن الله سبحانه، قال الله تبارك وتعالى: و (3) بمشيئتي كنتَ أنتَ (3) الذي تشاء لنفسك ما تشاء (4) وبإرادتي كنتَ أنت الذي تُريدُ لنفسك ما تريد، وبفضل نعمتي قَوِيتَ على معصيتي، وبعصمتي وبعافيتي وبقوتي أدَّيْتَ إليّ فرائضي، أنا أولى بإحسانك منك، وأنت أولى بذنبك مني، لأن الخير بما أوليتُك مني بدّاً (5)، والشرَّ مني بما جَنَيْتَ حدّاً، وبكثير من تسليطي انطويت على طاعتي، وبسوء ظنِّك بي قنطْتَ من رحمتي، لي الحمد والحجة عليك بالبيان، ولي السبيل عليك بالعصيان، ولك الجزاء الحسن عندي بالإحسان، يا ابن آدم لم أدَعْ تحذيرك، ولم آخُذْك عند غِرَّتِك، ولم أُكَلِّفْكَ فوق طاقتك، ولم أُحَمِّلْكَ من
__________
(1) ذكره الحافظ ابن حجر في " اللسان " 2/ 218 - 219 وقال: يروى عن وكيع وأبي نعيم، وعنه الحسن بن سفيان. قال ابن حبان في " الثقات ": مستقيم الحديث إذا لم يكن في إسناد خبره ضعيف. قلت: وقال أبو زرعة: صدوق.
(2) من قوله: " وجوره في حكمه وبرئنا إلى الله منه يوم القيامة " ص 53 إلى هنا ساقط من (ش).
(3) ساقطة من (ش).
(4) " ما تشاء " ليست في (أ).
(5) في (ش): أبداً.(5/323)
الأمانة إلاَّ ما أقررتَ على نفسك، ورضايَ لنفسي منك ما رضيتَ لنفسك مني" (1).
وروى الحسن بن يحيى بعض هذا الحديث بلا إسنادٍ، وقال: قال أميرُ المؤمنين: ألا إن أبغض خلق الله إلى الله عبدٌ وَكَلَهُ الله إلى نفسه (2).
وروى محمد، عن علي بن الحسين أنه لما حضرته الوفاة بكى، فقال له ابنه أبو جعفر عليهم السلام: يا أبتاه تبكي وقد طلبت الله طلباً (3) ما طلبه أحد؟ قال: يا بُني إنه ليس أحدٌ يشهَدُ القيامة إلاَّ وله زَلَّةٌ لله فيه المشيئة إن شاء رَحِمَه، وإنْ شاء عَذَّبَه.
وسُئل محمد عمن يقول: كل شيءٍ بمشيئة الله، فلولا مشيئة الله ما قَدِرَ أحدٌ أن يفعل شيئاً؟ يقول: (4) بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله سبحانه: " يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء " وذكر الحديث.
مسألة: قال محمد في المسائل: سألت القاسم بن إبراهيم (5) يعني. عمَّنْ يقول: من قُتِلَ مات بلا أجلٍ ولو لم يُقتل ما مات، وذكرتُ له قول من يقول: إنه لما قتله، قَطَعَ أجله؟ فعاب القاسم هذا القول، وأقدم على من يقول به المكروه (6).
وسألته عمن يقول به؟ فقال: هالكٌ.
__________
(1) هذا خبر لا يصح، وليس هو في شيء من دواوين السنة المعتبرة. وعمر أبو حفص القزاز لم أجد له ترجمة، وإذا كان المراد من قوله في السند: عن آبائه علي بن الحسين، فإنه لم يسمع من جده علي، فهو منقطع.
(2) من قوله: " قال أمير المؤمنين " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) ساقطة من (أ).
(4) من قوله: " كل شيء " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (ش): " أبا القاسم " وهو خطأ.
(6) في (ش): بالمكروه.(5/324)
وقال الحسن: وأما ما سألت عنه من قولهم: إنَّ من قتل إنساناً فلا يكون ملكُ (1) الموت قابضاً لروحه، فقد ردُّوا قول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَلَكُ الموتِ الذي وُكِّلَ بكم} [السجدة: 11]، {كُلُّ نَفْسٍ ذائقةُ الموتِ} [آل عمران: 185]، وقال: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْت} [الزمر: 42].
فقد أخبرنا الله أنه يتوفي الأنفس حين موتها، وأن ملك الموت يتوفَّى عن أمره، وقال: قال الله عز وجل: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وقد قال في يحيى بن زكريا: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 15] وإنما قُتل يحيى بن زكريا قتلاً.
وقال: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143] وإنما كان الموت بالقتل.
وسألت عمَّن يقول: إن الذئب إذا وثَبَ على الشاة فأخذها إنه هو الذي رزق نفسه، وليس خالقه الذي رزقه؟ فهذا القول ردّ حكم [آيات] الكتاب البينة المنصوصة، قال الله: {وما مِنْ دابةٍ في الأرضِ إلاَّ على اللهِ رِزْقُها} [هود: 6] وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40]، وقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [العنكبوت: 60]، وقال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} [فاطر: 3]، وقال: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات} [الزخرف: 32] فجعل بعضهم أقوى من بعض، وبعضهم يُحسن صناعة لا يُحسنها غيره، حتى
__________
(1) ساقطة من (ش).(5/325)
إن الكنَّاس -وهو أدناهم منزلةً في الدنيا- ليأخُذُ رزقه من أعلاهم منزلةً في الدنيا، لأن الله سبحانه جعل ذلك سبباً من أسباب أرزاقهم لا يمتنعون منه، ولو كان اكتسابُ الرزق إلى العباد، لكان الشديدُ البطش، الكاملُ العقل، البارعُ البيان والحجة أكثرَ رزقاً من الأحمق الضعيف، ولكن الله سبحانه احتج على عباده أنه المُنَزِّلُ لأرزاقهم، المالك لخلقهم وأمورهم، فقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِين} [الأعراف: 54].
وقال محمد في المسائل: وسألت عمن يقول: من قُتِلَ مات بلا أجلٍ، ولو لم يُقتل ما مات؟
وهذا قول سوءٍ سيِّءٌ رديءٌ، ولكنه وافق أجله وقت القتل، ولو لم يقتله مات في ذلك الوقت (1) وقد سُئل الحسن البصري عن ذلك، فقال: يا لُكَع (2) فمن يأكُلُ رِزْقَه!
وسألت عمن يقول: لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يؤمن بالخير والشر، فمعناه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكُن لِيُخطِئَه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وسألت عمن يقول: إن الله قد خلق الأشياء، وفرغ من جميع خلقه وأحكمه؟
فإن كان يريد بقوله: إن الله خلق الأشياء، وأحكم خلقها، يريد علمها، وأتقن علمها (3)، فهو كما قال.
وأما قوله: " خلق " فإن الله قد خلق ما أراد خلقه، وهو خالقٌ ما يريد خلقه.
__________
(1) قوله: " في ذلك الوقت " ساقط من (ش).
(2) قال ابن الأثير: يريد يا صغيراً في العلم، وقال الأصمعي: هو العَيِيُّ الذي لا يتجه لمنطق ولا غيره.
(3) " واتقن علمها " ساقطة من (ش).(5/326)
وسألت عمن يقول: إن الله شاء لخلقه (1) أن يكونوا عالمين بأمر الله، ولكن تركوا ذلك بقول: لو شاء الله أن يجعلهم مجبولين على ذلك لفعل، ولم يخرجوا عن (2) ذلك، ولكن شاء جلّ وعزَّ أن يأمرَهُم بعد البيان، واتخاذ الحجة أن يكونوا عالمين عاملين بأمر الله، والمنُّ والتوفيق من الله لمن قَبِلَ أمره، قال الله عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].
وقال لا شريك له: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] فقد شاء أن يكونوا قوَّامين بالقسط شهداء (3).
قلت: يعني: بمشيئة الأمر كما يدل عليه أول كلماته (4) وآخرها، وكما مرَّ في قوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56].
وقال عليه السلام: وقد قال سبحانه: {ولو شِئنا لآتينا كُلَّ نَفْسٍ هُداها} [السجدة: 13]، وقال سبحانه: {لو يشاءُ الله لهَدَى الناسَ جميعاً} [الرعد: 31]، وقال: {وَلَوْ شاء ربُّك لآمَنَ مَنْ في الأرضِ كلُّهم جميعاً} [يونس: 99]، وقال: {ولَوْ شاءَ الله لَجَمَعَهُم على الهُدى} [الأنعام: 35] وهو كما قال عز وجل، ولكن الله شاء أن يأمُرَهُم وينهاهم بعد البيان ليتخذ عليهم الحجة.
وقال: {وما كُنَّا مُعذِّبينَ حتَّى نبعثَ رسولاً} [الإسراء: 15] شاء الله أن يُكرم أهلَ طاعته، ويُهينَ أهلَ معصيته.
وسُئل عن قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِه} [فاطر: 2]، فقال: ذلك المطر يُغاثُ به العباد، فهو من رحمة الله تعالى لا مُرْسِلَ له غيره، وإن يُمْسِك، فلا مرسل له غيره. وكذلك كل ما أنعم الله به على خلقه، فعلى هذا السبيل.
__________
(1) في (ش): إن يشأ لخلقه.
(2) في (أ): من.
(3) ساقطة من (أ).
(4) في (أ): كلاماته.(5/327)
وسُئل عن قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِه} [يونس: 107]، فقال: هو حسب (1) ما أجبت به في المسألة التي قبلها.
وسُئل عن قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179] يعني يقول: خلقنا لها كثيراً من الجن والإنس، وهم أهل الكفر (2) والضلال.
وسألت عن قوله تعالى: {وما تَشاؤون إلاَّ أنْ يشاءَ الله} [التكوير: 29] بلغنا أنها (3) لما نزلت {إنَّ هذه تذكرةٌ فمنْ شاءَ اتَّخَذَ إلى ربِّه سبيلاً} [الإنسان: 29]، قال أبو جهل: قد جعل الله المشيئة إلينا، فنزلت {وما تشاؤون إلاَّ أنْ يشاءَ الله} [الإنسان: 30].
وسُئِلَ عن قوله تعالى: {وإذا أرادَ اللهُ بقَوْمٍ سُوءاً} [الرعد: 11] في الدنيا مِن نكالٍ أو قتلٍ أو عقوبات، فلا رادَّ لأمر الله، وكذلك في الآخرة إذا أراد الله بأعدائه العذاب والعقاب فلا رادَّ لأمر الله.
وسألت عن قوله: {وتُعِزُّ مَنْ تشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ} [آل عمران: 26] شاء الله أن يُعِزَّ أهل طاعته، ويُذِلَّ أهل معصيته.
وسألت عن قوله: {تُؤتي المُلكَ مَنْ تَشاءُ} [آل عمران: 26] هذا كما قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْك} [البقرة: 258] هذا على الإقدار والتمكين.
قال محمد: وسُئِلَ عن حَدِّ الخير والشرِّ؟ فقال: حدُّ الخير: كلُّ ما قرَّبَ إلى الله، وحدُّ الشر: كل ما باعد من الله، والحق: كل ما أمر الله به ونَدَبَ إليه، والباطل: كل ما نهى عنه وذم عليه. انتهى ما نقلته بحروفه من " الجامع الكافي "
__________
(1) في (ش): هو على حسب.
(2) في (أ): " الجن "، وهو خطأ.
(3) في (ش): أنه.(5/328)
في هذه المسألة العظمى، وقد مَرَّ في مسألة القرآن في آخر الكلام في الصفات في الوهم الخامس عشر مثلُ هذا في موافقة السلف وأهل علم الأثر، والحث على الجمل، والنهي عن الخوض في علم الكلام (1).
وصنَّف محمد بن منصور رحمه الله في ذلك كتاب " الجملة والأُلفة " وسيأتي في مسألة الأفعال في المرتبة الخامسة من جواب هذا الوهم طرفٌ منه، وكذلك في مسألة الأطفال.
وذكر السيد المرتضى (2) في كتابه " الغُرَر " مثل كلام هؤلاء الأئمة في تقرير المشيئة والقدر على ما وَرَدَ به السمع عن أبي القاسم البَلْخي، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وسيأتي ذكره بلفظه في القدر.
وخالف المعتزلة في أيجاب كل لطفٍ عَلِمَه الله غير من ذكرنا من أهل البيت، ودانوا بقدرته سبحانه على هداية من يشاء اختياراً منهم: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة (3)، ذكره في " التمهيد " في أوائل الباب السابع في النبوات،
__________
(1) انظر 3/ 332 فما بعد.
(2) هو أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل، الإمام الكبير المصنف في جميع العلوم، وُلد في ذِمار سنة 775، قرأ في علم العربية والكلام والفقه وغيرها، وصنف التصانيف، ولما اشتهرت فضائله، وكثرت مناقبه، بايعه الناس بالإمامة بعد موت الناصر سنة 793، ولقب المهدي لدين الله، وبويع في اليوم نفسه للمنصور علي بن صلاح الدين، فنشبت فتنة انتهت بأسر المهدي وحبسه في قصر صنعاء، ثم خرج منه خلسة، فعكف على التصنيف حتى توفاه الله سنة 840 بالطاعون الكبير الذي مات منه أكثر الأعيان.
ومؤلفه هذا اسمه: " غرر الفوائد شرح نكت الفرائد في علم الملك المبدىء العائد " وعند الشوكاني: " .. في معرفة الملك الواحد " منه نسختان في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء برقم (علم الكلام 71 و72). انظر " الفهرس " ص 196، و" البدر الطالع " 1/ 122 - 126.
(3) تقدم التعريف به في 1/ 287 و4/ 119.(5/329)
واحتبئ عليه وأطال وأجاد، وسيأتي كلامه بحروفه.
ومنهم: الإمام الناصر (1) عليه السلام ذكر ما يدل عليه في كتابه الذي جمعه في شرح التوابع، وموضعه منه شرح قول الزمخشري: لم يبق في الناس وَدَكٌ شرٌّ من الضحاك ووَدَك (2).
__________
(1) قلت: هو الإمام الناصر محمد بن علي بن محمد بن علي المشهور بصلاح الدين، ولد سنة 739، واشتغل بالعلم حتى تأهل للإمامة وبرز في فنون، وقيل: بلغ فوق رتبة الاجتهاد. بايع له علماء الزيدية بعد موت أبيه، وملك غالب اليمن، وعظمت دولته. توفي سنة 793 في قصر صنعاء. انظر " البدر الطالع " 2/ 225 - 226.
(2) قال الطبري في " تاريخه " وهو يؤرخ للفرس 1/ 194: ذكر بيو راسب وهو الأزدهاق: والعرب تسميه الضحاك، فتجعل الحرف الذي بين السين والزاي في الفارسية ضاداً، والهاء حاء، والقاف كافاً، وإياه عنى حبيب بن أوس بقوله:
ما نالَ ما قَدْ نالَ فرعونٌ ولا ... هامانُ في الدنيا ولا قارونُ
بل كان كالضَّحَّاكِ في سَطَواتِه ... بالعالمين وأنت أفْريدُونُ
وهو الذي افتخر بادعائه أنه منهم الحسن بن هانىء في قوله:
وكان مِنَّا الضحاك يعبدُه الـ ... ـخابلُ والجن في مَسَارِبها
قال: واليمن تدَّعيه.
حدثت عن هشام بن محمد بن السائب -فيما ذكر من أمر الضحاك هذا- قال: والعجم تدَّعي الضحاك، وتزعم أن جما كان زوَّج أخته من بعض أشراف أهل بيته، وملَّكه على اليمن، فولدت له الضحاك.
قال: واليمن تدَّعيه وتزعم أنه من أنفسها، وأنه الضحاك بن علوان بن عبيد بن عويج، وأنه ملَّك على مصر أخاه سنان بن علوان بن عبيد بن عويج، وهو أول الفراعنة، وأنه كان ملك مصر حين قدمها إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
أما الفرس فإنها تنسب الأزدهاق هذا غير النسبة التي ذكر هشام عن أهل اليمن، وتذكر أنه بيوارسب بن أرونداسب بن زينكاو بن ويرَوْشك بن تاز بن فرواك بن سيامك بن مشا ابن جيومَرْت.
ومنهم من ينسبه هذه النسبة غير أنه يخالف النطق بأسماء آبائه، فيقول: هو الضحاك =(5/330)
ومنهم: الإمام المنصور بالله (1) عليه السلام سمعتُه منه غير مرةٍ، فهذا ما عرفته مع قلة معرفتي من نصوص أئمة أهل البيت الخاصة.
وأما ما يوجدُ من كلام أهل البيت عليهم السلام من العمومات الدالة بظواهرها على موافقة ظواهر القرآن والسنة، ومذهب السلف وأهل الأثر، وربما كانت قاطعة بتعليلها وقرينة الحال فيها، فذلك مثل ما أجمعوا عليه من الاحتجاج على فضلهم بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] لولا نفوذ إرادته قطعاً لم يكن ذلك حجة، فعند المعتزلة أن الله إنما يريد مثل ذلك من جميع العصاة، لكن العُصاة امتنعوا من فعل ما أراد الله سبحانه.
فإن قيل: إنما صح الاحتجاج بها، لأن إخباره بذلك يدل على أنه عَلِمَ أنهم يقبلون هدايته لهم، ولطفه بهم في الهداية.
قلنا: لا يصح ذلك لوجهين.
أحدهما: أنه لا ملازمة بين خبر الله عن مراده، وبين علمه بوقوع مراده على أصولهم، ولا بين الإخبار بإرادته والإخبار بعلمه على أصول الجميع، لأن خبره
__________
= بن أندرماسب بن زنجدار بن وندريسج بن تاج بن فرياك بن ساهمك بن تاذي بن جيومرت.
والمجوس تزعم أن تاج هذا هو أبو العرب، ويزعمون أن أم الضحاك كانت ودك بنت ويونجهان، وأنه قتل أباه تقرُّباً بقتله إلى الشياطين، وأنه كان كثير المقام ببابل، وكان له ابنان يقال لأحدهما: سرهوار، وللآخر: نفوار. وانظر بقية خبره في " تاريخ الطبري ".
(1) هو الإمام المنصور علي بن محمد الناصر صلاح الدين بن علي المهدي (775 - 840) صاحب صنعاء، دفع أهل الظلم، وأحسن إلى العلماء، وقمع رؤوس البغي، واشتغل بالمعارف العلمية في خلافته حتى فاق في كثير منها. ولقد أثنى عليه المؤلف (ابن الوزير) ثناءً طائلاً في مصنف سماه " الحسام المشهور في الذب عن دولة الإمام المنصور ". انظر " البدر الطالع " 1/ 487.(5/331)
عن إرادته لذلك لا يستلزم وقوعه عند المعتزلة، كما في قوله تعالى: {وما خلقتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبُدونِ} [الذاريات: 56]. فإنها عندهم مثلها، ولا يستلزم وقوع ذلك عندهم، فحجَّتُهُم على التأويل هي غير مذهبهم المدعى، وتأويلهم يحاول صرف الآية عن معناها، وذلك أنها واردةٌ في تخصيصهم بالإرادة المتعلقة بتطهيرهم (1) المنسوب إلى الله عز وجل، وهم يريدون أن يكون معناها الخبر عن علم الغيب بما يكون منهم في المستقبل منسوباً إليهم.
وهذان أمران متباعدان يزيده بياناً أنهم إما أن يلتزموا أن الإرادة من الله تعالى لا (2) تَعَلَّقُ بخلاف معلومه أو لا؟
الأول: هو مذهب أهل السنة الذي فرُّوا منه، وهو الذى يتمشى عليه تأويلُهم على رِكَّتِه على كل مذهب.
والثاني: يرفع السؤال.
وثانيهما: أنه يؤدي إلى أنه لا أثَرَ لإرادة الله تعالى في تطهيرهم، ولو كان كذلك لم يكن لتعليق إرادة الله بتطهيرهم (3) معنىً، لأنَّ الإرادة لا تَعَلَّقُ إلا (4) بفعل المريد، كما يأتي بيانه بخلاف المحبة.
ولو كانوا كما قالوا لنُسِب التطهير إليهم لا إليه، ولما كان لهم مَزيَّةٌ على سائر المتقين، والقطع بقبح ظاهر هذه الآية، وتعيين مراد الله في الخبر (5) عما عَلِمَ أنه يكون منهم، والقطع على أهل البيت أنهم أرادوا ذلك بالاحتجاج بها قَطْعٌ بغير تقدير، وجنايةٌ على الكتاب المنير، على أنه لا عُذرَ لهم على أصولهم في تأويل احتجاج آحاد الأئمة، فإن أصولهم تقضي بتحريم تأويل كلام الآحاد من الأئمة، لا سيما والقرينةُ قائمةٌ على ذلك.
__________
(1) في (ش): بتطهير.
(2) ليست في (ش).
(3) في (ش): في تطهيرهم.
(4) ساقطة من (ش).
(5) تصحفت في (ش) إلى: الخير.(5/332)
فإن الأئمة عليهم السلام لو استشعروا أن الآية بظاهرها تخالف مذهبهم في أُصول الدين، وأن احتجاجهم بها يلزمهم في الظاهر نقضُ أصولهم، لأشاروا إلى ذلك ولم تَقْصُرْ عنه أفهامهم ولا عباراتهم، ولكنَّ المتأخرين من كل فرقة يُغلُون غُلُوَّاً لا يناسب مقالاتِ أوائلهم كما ذكره الخطابي عن المعتزلة، وكما يعلمُه من قرأ كتب أئمة أهل البيت عليهم السلام القدماء مثل: " علوم آل محمد - صلى الله عليه وسلم - " المعروف بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وهو تأليف محمد بن منصور الكوفي المُرادي الشيعي.
وأبسط منه وأجمع وأنفع منه وأمتع كتاب " الجامع الكافي على مذهب الزيدية " (1) تأليف السيد العلامة أبي عبد الله الحسني رحمه الله.
وبهذا يُعرف أنه قد كَثُرَ من المبتدعة محاولة جَحْدِ المعلومات، ورفع الضرورات والمتواترات عن سلف الأمة عموماً، وعن (2) أسلافهم خصوصاً.
وهذه المسألة، وهي نفوذ مراد الله تعالى من أشهر أصول دين الإسلام، بل هي مما اتَّفق عليه جميع الأديان.
قال الحافظ البيهقي في كتابه في " الأسماء والصفات (3) ": حدثنا أبو طاهر الفقيه، حدثنا أبو حامد بن بلال، حدثنا محمد بن يزيد (4) السلمي، حدثنا المُؤمَّل (5) بن إسماعيل البصري، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو سنان، سمعت وهب بن مُنبه يقول: كنت أقول بالقدر (6)، حتى قرأت بضعاً وسبعين من
__________
(1) هنا في (ش) زيادة " الأوائل ".
(2) في (ش): على.
(3) ص 172.
(4) تحرفت في الأصلين إلى: " زيد "، والمثبت من " الأسماء والصفات ".
(5) تحرفت في الأصلين إلى: المعتمر، والمثبت من " الأسماء ".
(6) تحرفت في (ش): بالقدرة.(5/333)
كُتُبِ الأنبياء في كلِّها: من جعل شيئاً من المشيئة إلى نفسه، فقد كفر، فتركتُ قولي.
وأخبرنا أبو محمد (1) بن يوسف الأصبهاني، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى الزهري القاضي، حدثنا أبو يحيى بن أبي مَيْسرة، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم الصَّنْعاني، حدثنا عبد الصَّمد بن مَعْقِلٍ، قال: سمعت وهب بن مُنَبِّه يقول: قرأت لله تعالى سبعين كتاباً، كلها نزل (2) من السماء، في كل كتاب منها: من أضاف إلى نفسه شيئاً من المشيئة، كفر.
وعن ابن عباس قال: لما بُعِثَ موسى عليه السلام وكلَّمه ربُّه، قال: اللهم إنك ربٌّ عظيم لو شئتَ أن تُطاع لأُطِعْتَ، ولو شئتَ أن لا تُعْصى ما عُصيتَ، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تُعصى، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه: {لا يُسألُ عمَّا يَفْعَلُ وهُم يُسْألُونَ} فانتهى موسى. رواه البيهقي والطبراني (3)
__________
(1) في الأصلين: " أبو حامد محمد " وهو تحريف. وهو عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بامويه، الإمام المحدث الصالح أبو محمد الأردستاني المشهور بالأصبهاني نزيل نيسابور أكثر عنه البيهقي، وحدث عنه خلق. توفي سنة 409 هـ عن أربع وتسعين سنة. مترجم في " السير " 17/ 239.
(2) في (أ): نزلت.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (10606)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 171 عن أبي مسلم الكشي، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا مصعب بن سوار عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس.
وهذا سند ضعيف، مصعب بن سوار: لا يُعرف، وأبو يحيى القتات مختلف في اسمه، ضعفه أحمد وابن معين في رواية، والنسائي، وابن سعد، وقال البزار، ويعقوب بن سفيان: لا بأس به، وقال ابن معين في رواية الدارمي: ثقة، وقال ابن حبان: فحش خطؤه وكثر وهمه حتى سلك غير مسلك العدول في الروايات، وقال الحافظ في " التقريب ": لين الحديث.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 199 - 200 وقال: رواه الطبراني وفيه أبو يحيى =(5/334)
وزاد فيه زيادةً يأتي ذكرها عند ذكر أسانيده قريباً بهذه المسألة (1).
الدليل الثالث: ما يأتي من تعذُّر (2) تأويل كثير من آيات المشيئة مع مراعاة قرائن (3) القوانين العربية والنظرية حين نذكُرُ الدليل على قدرة الرب عز وجل على هداية من شاء من الخلق أجميعن إن شاء الله تعالى، على أن التأويل الممكن في هذه المسألة، وترك الظواهر حرامٌ قطعاً، إذ لا موجب له من السمع ولا مِنَ العقل، لأن العقل يمنع من تعلُّق الإرادة بخلاف المعلوم كما مرَّ وكما يأتي.
واعلم أنه لا شك في حُسن القول بنفوذ مشيئة الله تعالى بالنظر إلى التمدح لكمال القدرة وتمام العزة، وإنما حمل المعتزلة على المخالفة (4) في ذلك ظنهم أن ذلك يُناقضُ ما تقرر في العقل والسمع من قُبح إرادة الشر لنفسه، أي لكونه شرّاً لا حكمة (5) فيه.
قالوا: وكونُ العذاب هو مراد الله الأول بأهله يستلزم إرادة الشر لنفسه، وهذا ينفي قواعد معلومةً من ضرورة العقل والدين، أو من مجموعهما.
منها: كون الله (6) عزَّ وجلَّ أرحم الرحمين.
ومنها: كونه تعالى أحكم الحاكمين.
ومنها: كونه سبحانه أكرم الأكرمين.
__________
= القتات، وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في غيرها ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. وسيرد عند المؤلف بإسناده 351.
(1) من قوله: " عند ذكر " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) ساقطة من (أ).
(3) ساقطة من (أ).
(4) ساقطة من (أ).
(5) في (ش): لا لحكمة.
(6) في (ش): الرب.(5/335)
وقد عظَّم حقَّ المساكين في كتابه الكريم، وقرَنَه بالإيمان به، فقال: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين} [الحاقة: 33 - 34] ومَدَح على إطعام الأسير وهو كافرٌ، وأمثال ذلك مما لا يُحصى.
ولقد تنزَّه الربُّ سبحانه غاية التنزه من العَبَث، ونصَّ على نزاهته منه في كتابه العزيز، والعبثُ: اسم لما لا نفع فيه ولا ضرر، بل قال تعالى فيمن جوَّز ذلك عليه: {ذلك ظَنُّ الذين كَفَروا} [ص: 27] فكيف بإرادة تعذيب أكثر الخلائق أبدَ الأبدين من غير حاجةٍ ولا حكمةٍِ فيه.
والجواب عليهم أن ما ذكروه من سَعَةِ رحمة الله، وبالغ حكمته، ونزاهته عن العبث وكل نقصٍ في الصفات والأسماء والأفعال حقٌّ لا ريب فيه ولا شكَّ، ولكنهم وهموا في أمرين جليَّين:
أحدهما: وهموا أن مذهبهم سالمٌ من المناقضة في ذلك.
وثانيهما: وهموا أن مذهب أهل السنة يستلزم نفي ذلك، وليس كما وهموا في الجانبين جميعاً (1)، ووهمُهم في ذلك يتبينُ بذكر أربعة وجوهٍ تشتمل على معارضةٍ جدلية، وموعظةٍ خطابية، وحجةٍ جُملية بُرهانية إجماعية، ونافلةٍ تفصيلية خلافية.
أما الوجه الأول. وهو المعارضة الجدلية فبأمرين:
أحدهما: أنهم لم ينفصلوا من الاعتراض الذي حسبُوه لازماً لأهل السنة إلا بالتزام (2) أشدَّ منه في البطلان كما مر تقريره.
وذلك أنهم زعموا أن المراد تحصيل ما عَلِمَ الله أنه لا يحصل، أو التعريض لذلك، وهذا لا يَصِحُّ عقلاً وسمعاً كما مرَّ بعضُه ويأتي بقيته، وإن
__________
(1) في (ش): معاً.
(2) " إلاَّ بالتزام " ساقطة من (أ).(5/336)
صح، فلا يفيد شيئاً قطعاً، فالتشاغُل به هو من العبث الذى لا يجوز على الله تعالى، خصوصاً متى كان القصد بذلك هو الإحسان في العاقبة الدائمة إلى من علم أنه يخلُدُ في العذاب الدائم بسبب تعريضه (1) لذلك الإحسان، والقاطع بالعلم (2) بقبح هذا عقلاً أنه يعلم بالضرورة من كل عاقلٍ أنه لا يختار بنفسه، ولا لمن يُحبُّه، ولا لمن (3) يحب الإحسان إليه والرفق به.
وثانيهما: أن مذهبهم أن عذاب الآخرة من الله تعالى بمنزلة المباح منَّا، الذي ليس فعلُه أرجح من تركه، وهذا هو العبث الذي لا يجوز على الله تعالى، بل قال الفقيه حميد (4)، من متأخري متكلمي الزيدية: إنه من الله بمنزلة المكروه، لأن العفو أفضل، وهذا كله خطأ وقبيحٌ ممَّن قاله كما سيأتي وجهه (5) عند إبطال قول من ذهب إليه من غُلاة الأشعرية في الوهم الثلاثين، وقد مرَّ قريباً شيءٌ من بيان مناقضاتهم في ذلك.
الوجه الثاني: الموعظة الخطابية، وذلك أن منشأ هذه الإشكالات (6) هو مجموعٌ جهالاتٍ وضلالاتٍ.
منها: عُجْبُ أهل الكلام بعلومهم، وعقولهم، وآرائهم (7)، ولو أنصفوا، أو نظروا في نسبة ما علموا إلى ما جَهِلُوا لانحسمَتْ هذه المادة بالكلية، ولو أن
__________
(1) في (ش): تعرضه.
(2) في (ش): في العلم.
(3) في (أ): من.
(4) هو حميد بن أحمد بن محمد المحلي الهمداني الصنعاني الفقيه العلامة الشهيد، أنفق عمره في العلم والعمل، والرد، على المخالفين لأهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله المصنفات الفائقة، والمعلقات الرائقة، والرسائل التي هي بالحق ناطقة، منها " الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية ". توفي سنة 652 هـ. انظر " طبقات علماء الزيدية " ورقة 45 - 46 لإبراهيم بن القاسم بن المؤيد بالله. و" فهرس المكتبة الغربية بجامع صنعاء " ص 661.
(5) تحرفت في (ش) إلى: وجهد.
(6) في (ش): المشكلات.
(7) في (ش): ورأيهم.(5/337)
العبد علم نصف معلومات الله، لجُوز أن يكون حكمة الله في هذه الأشياء في النصف الأخير، كيف والله يقول: {وَمَا أُوتيتُم مِنَ العلم إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85]، والملائكة تقول: {لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32].
وقد صح أن علم موسى والخضر عليهما السلام، وعلم جميع الخلائق في علم الله كما أخذه طائرٌ بمنقاره (1).
وما أحسن أدبَ البُوني حيث يقول: إن نسبة عِلمنا إلى علم الله كنسبة لا شيءَ إلى ما لا نهاية له.
ومنها: الشَّرَهُ في العلم، ومع أهل كُلِّ فنٍّ منه طَرَفٌ، ومعظمه وأضرُّه مع عُلماء الكلام، وذلك أن مِنْ طبع البشر حب العلم، وحب الممنوع، ولذلك يختلفون في دقائق صفات الرب سبحانه وغير ذلك اختلاف من لا يعلم، ويحتجُّ كل منهم بما لا يفيد العلم، ويقدح كلٌُّ منهم بما يُبطِلُ قول خصمه، ويُطَوِّلون في ذلك حيث لا حاجة إليه كتطويلهم في الروح ونحوه.
وقد نقل الرازي عن الفلاسفة الاعتراف بأن كلامهم في الإلهيات مُجرَّد ظنٍّ، لأنهم لم يروا الربَّ جلّ جلاله ولم يروا شبيهاً له، فيحكموا عليه بالقياس.
وإذا نظرت في كلِّ الفنون وجدت في كل منها علوماً جَلِيَّاتٍ (2) صحاحاً، ودعاوى خفيَّات ضِعافاً.
وأمارةُ ما ذكرته أن الجليات مواضعُ الإجماع، والخفيات مواضع الخلاف، وهذا موجودٌ حتى في كتب الحديث إذا لم يجدوا في الباب حديثاً في أرفع مراتب الصحة المُتَّفق عليها رووا فيه الموجود، وإنْ نَزَلَ عن شرطهم.
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 119 - 121، والبخاري (3401) و (4726) و (4727) من حديث أُبي بن كعب الطويل في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام.
(2) من قوله: " ولم يروا " إلى هنا ساقط من (ش).(5/338)
وقد يُصَرِّحُ بعضهم بذلك حتى يتفاحش ضَعْفُ ما رَوَوْه، لكنهم أحسن الناس حالاً في ذلك لأنهم يُبينون (1) تلك الطريق الضعيفة، ولا يخفى ضعفها على صاحب البصيرة، ويفعلون ذلك للاحتياط في العمل الذي يُحتَاجُ إليه، لورود التكليف به، ولذلك كان السلف أقل الناس خوضاً في المشكلات لِكمالِ علمهم، لا لنقصانه كما ظنه بعض المتأخرين.
وما أحسن قول العلامة ابن عبد السلام في كتابه " القواعد ": إن العالم هو من يَعْرِفُ البَيِّنَ والشُّبْهَة، وليس في مقدوره أن يجعل الشُبْهَة من البينات، والبينات من المتشابهات.
ولا شكَّ أن تَطَلُّب علم ما لا يُعْلَمُ، والشَّرَهَ في ذلك وتحكيم بادىء الرأي فيه، وتقديمه على النصوص هو أساس كلِّ فسادٍ، ولذلك نسبه الله في القرآن إلى السُّفهاء، فقال تعالى: {سيقولُ السفهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُم عَنْ قِبلتِهمُ الَّتي كانُوا عَليْها} إلى قوله: {وإنْ كانتْ لكبيرةً إلاَّ على الذينَ هَدى الله} [البقرة: 142 - 143]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِين} [المائدة: 101 - 102] ونحوها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31].
__________
(1) تصحفت في (ش) إلى: يثبتون.(5/339)
وفي " الصحيحين " من طرقٍ كثيرة عن أنس (1) وأبي موسى (2) أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحْفَوْهُ، فصَعِدَ المِنْبَرَ، فقال: " لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ بَيَّنْتُه لكم " فلما سمعوا ذلك أرمُّوا ورَهِبُوا أن يكون ذلك بين يدي أمرٍ قد حَضرَ. قال أنس: فجعلتُ أنظر، فإذا كلُّ رجلٍ لافٌّ رأسه في ثوبه يبكي.
وفي لفظ: فلما أكثروا عليه غَضِبَ، ثم قال: " سلوني عمَّا شِئْتُم ".
فثبت أن السؤال عن كثيرٍ من الأمور من بواعث غضب الله ورسوله، وموجبات العقوبة أو التشديد، ومن ثَمَّ قال الله: {لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] فلو كان بيان الجميع محتاجاً إليه ما أخَّر البيان عن وقت الحاجة، فذلك لا يجوز إجماعاً، فثبت أن المبتدعة يتعلمون ما يضرُّهم ولا ينفعُهم، ويتطلَّبُون ذلك أجارنا الله منه.
وعن ابن عباس مما خرجه الحاكم في " المستدرك " (3) في سبب نزول قوله
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (20796)، وأحمد 3/ 107 و162، والبخاري (93) و (540) و (6362) و (7089) و (7090) و (7091) و (7294)، ومسلم (2359)، وأبو يعلى (3134) و (3135) و (3601)، وابن حبان (106) و (6429)، والبغوي في " شرح السنة " (3720).
وقوله: " أحفوه " أي: أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه، يقال: أحفى وألحف وألحَّ، بمعنى.
وقوله: " أرمُّوا " أي: سكتوا، وأصله من المَرَمَّة، وهي الشفة، أي: ضمُّوا شفاههم بعضها على بعض فلم يتكلموا، ومنه: رمت الشاةُ الحشيش: ضمته بشفتيها.
(2) أخرجه البخاري (92) و (7291)، ومسلم (2360).
(3) 4/ 141 - 142. وأخرجه النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 440 وابن جرير الطبري في " جامع البيان " (12522)، والطبراني في " الكبير " (12459) والبيهقي 8/ 285 - 286 من طرق عن حجاج بن منهال، عن ربيعة بن كلثوم بن جبر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 158 - 159، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه. =(5/340)
تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] قال ابن عباس: قال ناسٌ من المُتَكَلِّفين: هي رِجْسٌ، وهي في بطن فلانٍ قُتِلَ يوم بدر، وفلان قُتِلَ يوم أحد.
وخرَّج الحاكم (1) أيضاً عن ابن مسعود، أن الذين قالوا ذلك اليهود، وقال: صحيح الإسناد.
وفي هذا بيان المذمومين بابتغاء تأويل المتشابه الذي نص الله على ذمهم بذلك (2) بعينه في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
فجعل ابتغاء تأويل المتشابه على العقول كابتغاء الفتنة، وسَمَّى الذي يُنقِّرون عنه سُفهاء. وفيه بيان أن الراسخين في العلم هم أهل الجُملِ الذين علموا مقادير عقولهم كما وصفهم بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كما تقدم في الصفات.
__________
= وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 18 وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
(1) 4/ 143 - 144. وأخرجه الطبراني في " الكبير " (10011). وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 172 - 173 وزاد نسبته إلى ابن مردويه. ولفظه: لما نزل تحريم الخمر قالت اليهود: أليس إخوانكم الذين ماتوا كانوا يشربونها؟ فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فقيل لي إنك منهم ".
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 18 وقال: قلت: في الصحيح بعضه، رواه الطبراني ورجاله ثقات.
وأخرجه مسلم (2459)، والترمذي (3053)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 7/ 102، والطبري (12531) وذكره السيوطي في " الدر " 3/ 174 وزاد نسبته إلى ابن مردويه وابن أبي حاتم وأبي الشيخ. ولفظه: لما نزلت هذه الآية ... قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قيل لي: أنت منهم.
(2) في (ش): فذلك.(5/341)
ولذلك قرأ ابن عباس: {ويقولُ الرَّاسِخُون في العلمِ آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا} رواه الحاكم وصححه (1).
ورواه الزمخشري (2) عن أُبَيِّ بن كعبٍ سيد (3) القراء.
وروى الزمخشري (4) عن ابن مسعود نحو ذلك بغير لفظه، ولم يُضعِّفهما، بل رواهُما معاً بصيغة الجزم قراءتين لا من جهة التأويل.
وقد أوضحتُ الحجة في أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه في غير هذا الموضع، وكفي في ذلك حجة بأن موسى الكليم الوجيه المقرَّب عليه السلام ما علم تأويل المتشابه في علم الخضر، وكان سبب إنكاره لأفعال الخضر زيادة علم الخضر على علمه، فكيف بعلم الله وكلماته التي نصَّ على أن البِحار تَقِلُّ أن تكون مِداداً لها؟!
ويوضح ذلك ما عُلِمَ بالضرورة من أن الكفَّ عن الخوض في هذا هو حال خيار المؤمنين كما تقدم في تفسير {آمن الرسولُ بما أُنزِلَ إليه من ربِّهِ والمُؤمنونَ} [البقرة: 285] وما ورد في سبب نزولها.
بل هذا هو حالُ الأنبياء كما ذكرتُه في قصة موسى والخضر، وحال الملائكة كما حكى الله عنهم في سؤالهم عن الحكمة في خلق آدم وذريته.
__________
(1) أخرجه الطبري في " جامع البيان " (6627)، والحاكم 1/ 112 من طريقين عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 150 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن الأنباري في كتاب " الأضداد ".
(2) في " الكشاف " 1/ 413. وانظر " تفسير الطبري " 6/ 204.
(3) تصحفت في (أ) إلى: بسند.
(4) في " الكشاف " 1/ 413. وانظر " المصاحف " لابن أبي داود ص 69 والطبرى 6/ 204 ولفظ قراءته: " وإن حقيقة تأويله إلاَّ عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ".(5/342)
وفي " الصحيحين " من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اتركُوني ما تركتُكُم، فإنما أهلَكَ من كان قبلكم كثرةُ مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " (1).
وفيهما من حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا رأيتم الذين يَتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذرُوهم " (2).
وقد بَسَطْتُ الأدلة على أن الراسخين لا يعلمون تأويل المتشابه في كتاب " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان " وجوَّدتُ القول بحمد الله، فليراجع من موضعه (3).
ومنها: الإعراض عن تدبُّر كتاب الله، والرجوع إليه، والاكتفاء بمجرد الخيالات الكلية، والتعادي والتكاذب، وقد نقم الله ذلك على من كان قبلنا في كتابنا فلم تعتبر به (4) المبتدعة، قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113] فنبَّه بقوله: {وهُم يتْلُونَ الكتابَ} على ذمِّهم حيث لم يرجعوا إليه، وخوَّفهم حين تركوا ذلك بما وعد به من الحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.
وقد تقدم في الصفات كيفيةُ جدال الأنبياء، ورجوعهم (5) إلى ما أنزل إليهم من ربهم عز وجل، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وما اختلفَ الَّذين أُوتوا
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 219. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (18) و (19) و (20) و (21).
(2) أخرجه الطيالسي (1432)، وأحمد 6/ 48 و256، والدارمي 1/ 55، والبخاري (4547)، ومسلم (2665)، وأبو داود (4598)، والترمذي (2993) و (2994)، وابن ماجه (47)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 3/ 207 و208، وابن حبان (73) و (76)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 545.
(3) ص 121 فما بعدها.
(4) ساقطة من (أ).
(5) في (ش): برجوعهم.(5/343)
الكتابَ إلاَّ مِنْ بعدِ ما جاءَهُم العلمُ بغْياً بيْنَهُم} [آل عمران: 19] وأراد بالعلم ما بيَّنه (1) لهم في الكتاب، ولذلك وصفَه بالمجيء.
ألا تراه قال بعد ذلك: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَاب} إلى قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19 - 20].
وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات} [آل عمران: 105] ولذلك خصَّ الله الذين أُوتوا الكتاب بالاختلاف بعد العلم بأنهم اختلفوا بغياً بينهم بخلاف من لم يعرف كتاباً، فإن اختلافهم قبل العلم، وقبل البَيِّنات، يوضحه قوله تعالى: {وما كُنَّا مُعَذِّبينَ حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: 15]، وقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165] وأمثال ذلك.
الوجه الثالث: الحجة الجملية البرهانية، وذلك أنه لم يَرِدْ في كتاب الله، ولا سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا إجماع أهل السنة أنَّ عذاب أهل النار هو مراد الله الأول، ولا أنه مرادٌ لنفسه، وإنما الذي ورد في هذه الأصول أن العذاب مراد لله (2) متوقِّفٌ على مشيئته، وأنه تعالى غير مغلوبٍ عليه، ولا على أسبابه، وأن له فيه الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، وأنه تعالى يعلم ما لا يعلم، وأنه لا يُطلعُنا على الغيب، ومن اعترف بحكمة الله تعالى في الجملة، كيف يلزمه نفيها إذا أقرَّ بقُصور علمه عن معرفة تعيُّنِها كما أقرَّت بذلك الملائكة حيث قالت: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا}.
بل قال الله تعالى في المتشابه: {وما يَعْلَمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ} فبطل وهم المعتزلة أن مذهب أهل السنة يؤدي إلى أن الله تعالى يريد الشر لنفسه، فلا مانع عندهم من أن العذاب مرادٌ لحكمةٍ بالغة خفيَّة هي تأويل المتشابه المحجوب عن الخلق، لا لكونه شرّاً، وتلك الحكمة هي المسماة بالمراد الأول
__________
(1) في (ش): يبينه.
(2) في (ش): الله.(5/344)
عند أهل العقليات، والعذاب وسيلة إليها، فالعذاب مراد الله لأجل الحكمة، لا لكونه شراً محضاً، وهذه الأولية في الرتبة (1) دون الزمان على قول من يعتقد بِقِدَمِ الإرادة الإلهية.
وأما من يُجيز حدوثها فإنه يجيز أن تكون الأولية هنا في الزمان، ومعنى الأولية في الرتبة دون الزمان (2) مثل سبق الذات للصفات في الرتبة مع عدم حدوث الجميع، ومثل سبق حركة الأصبع لحركة الخاتم في الحوادث.
ولقد رَجَعَتِ المعتزلة إلى مثل هذا الإيمان الجملي بحكمة الله تعالى بعد الخبط في التأويل، وإنكار الآثار، ومخالفة السلف كما تقدم بيانه بياناً شافياً.
وتلخيص الجواب في هذا الوجه: أن الله خلق الكفار لحكمٍ كثيرة شاهدة له سبحانه بالنزاهة من الظلم والعَبَثِ، بل شاهدة له سبحانه بالحكمة البالغة، والنعمة السابغة، والحجة الدامغة، فمن قال: إن الله خلق (3) الكُفَّار للعذاب دون غيره أو كانت عبارتُه تُوهِمُ ذلك، فما أصاب الحق، ومن أراد إصابة الحق على التفصيل تتبَّع متفرقات الحكم والنصوص وجمعها، والذي حضرني منها سبعة أمور خلق الله الكفار لها، منها: لفظية منصوصة، ومنها: معنوية معقولة، وإن رجَعَ المجموع إلى أقل من ذلك، فتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وواضحات (4) أدلة العقول التي لم تعارضها النصوص السمعية.
فأقول وبالله التوفيق: إن الله سبحانه خلق الكفار لعبادته بالنظر إلى أمره ومحبته كما أوضحتُه في الكتاب في تفسير قوله: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ ليَعْبُدونِ} [الذاريات: 56]، والابتلاء بالنظر إلى عدله وحجته كما أوضحتُه
__________
(1) في (ش): هما الأولية في المرتبة.
(2) من قوله: " فإنه يجيز " إلى هنا ساقط.
(3) في (ش): " ما خلق " وهو خطأ.
(4) تصحفت في (ش) إلى: وأصحابه.(5/345)
أيضاً في (1) تفسير قوله تعالى: {ليبلُوَكُمْ أيُّكُم أحْسَنُ عملاً} [تبارك: 2]، ولما يوجب عليهم شكره على سابق (2) مواهبه بالنظر إلى تكليفهم بشكر نعمته، وللعذاب على كفر نعمته، وجحد حُجته بالنظر إلى علمه، وجبره، وقدره (3)، وكتابته، وللحكمة المرجِّحة فيهم لعقابه التي هي تأويل المتشابه بالنظر إلى حكمته ومشيئته وإرادته، ولما شاء مطلقاً بالنظر إلى ملكه وقدرته، ولما لا يحيط بجميعه إلاَّ هو سبحانه بالنظر إلى سعة علمه ورحمته.
فصل: وقد قيل على هذا الجواب الجملي: إنه يمكن أنَّ الله تعالى علم أن في تعذيب أهل النار مصالح، وغاياتٍ حميدةً إمكاناً لا يقطع به، ولا يقبح العذاب دونه كما سيأتي ذكره، وكما وَقَعَ في تأويل الخضر للشرور التي أنكر موسى عليه السلام ظاهرها الذي هو شرٌّ، ولم يعلم تأويلها الذي هو خيرٌ، حتى لو وقع أهلُ النار في تلك الآلام التي فيها بغير ذنوبٍ ألبتة، لكان ذلك حَسَناً، كما أجمع المسلمون على تحسين ذلك في آلام الأطفال والبهائم، ومَنْ يُبتلى من الأنبياء والأولياء من غير عقوبة.
كما صح مثله في البرزخ كضَمَّة اللحد الذي لا ينجو منها أحدٌ، فقد ضُمَّ سعد بن مُعاذ الذي صحَّ وتواتر أن العرش اهتزَّ لموته (4)، وصح أن الله أهبطَ
__________
(1) من قوله: " وما خلقت " إلى هنا ساقط.
(2) في (ش): سوابق.
(3) في (ش): وقدرته.
(4) أخرجه عبد الرزاق (6747)، وابن أبي شيبة 12/ 142، وسعيد بن منصور (2963)، وأحمد 3/ 296 و316 و349، والبخاري (3803)، ومسلم (2466)، والترمذي (3848)، وابن ماجه (158)، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/ 376، وابن سعد 3/ 433 - 434، وابن حبان (7029) و (7031)، والطبراني (5335) و (5336) و (5337) و (5338) و (5339)، والبغوي (3980) من حديث جابر.
وأخرجه أحمد 3/ 234، ومسلم (2467) من حديث أنس.
وأخرجه أحمد 3/ 24، وابن سعد 3/ 434، والنسائي في " فضائل الصحابة " =(5/346)
لموته سبعين ألفاً من الملائكة (1)، وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو نجا أحدٌ من ضَمَّةِ القبر لنجا منها هذا العبدُ الصالح " (2).
وسيأتي في مسألة الأطفال، وعذاب الميت ببكاء أهله عليه (3) ما ورد في الحديث من ذلك، وذكر إجماع أهل السنة أنه يجوز وقوع الامتحان في البرزخ كما يقع في الدنيا.
وقد جاء في الحديث: " أن رجلاً عبدَ الله في جزيرةٍ في البحر خمس مئة سنة، فإذا كان يومُ القيامة، قال الله تعالى: أدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقولُ العبد: بل بِعَمَلي، فيقول الله: حاسِبُوا بيني وبينَ عبدي فلا تَفِي عبادتُه بنعمة البَصَرِ، ويبقى (4) عليه شكرُ بقيةِ نعمه، فيقول الله تعالى: اذهَبُوا بعبدي إلى النار حتى يقول العبد: يا ربِّ أدْخِلْني الجنة برحمتك، فيقول الله تعالى: أدخلوه الجنة برحمتي، فنعم العبدُ كان ". أو كما ورد.
__________
= (121)، والحاكم 3/ 206 من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه ابن سعد 3/ 433، والحاكم 3/ 206 من حديث ابن عمر.
وأخرجه أحمد 4/ 352، وابن أبي شيبة 12/ 142، وابن سعد 3/ 434، والطبراني (553) و (5332)، وابن حبان (7030) من حديث أسيد بن حضير.
(1) أخرجه النسائي 4/ 100 - 101، وابن سعد 3/ 430، والطبراني (5333)، والبيهقي في " الدلائل " 4/ 28، وفي " إثبات عذاب القبر " (109) من طريق عبد الله بن إدريس، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: " هذا الذي تحرك له العرش -يعني سعد بن معاذ- وفُتحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لقد ضُم ضمة، ثم فُرِّجَ عنه ". وهذا إسناد صحيح. وسقط من المطبوع من " إثبات عذاب القبر " في الإسناد: " عُبيد الله بن عمر، عن نافع ".
(2) حديث صحيح. أخرجه أحمد 6/ 55 و98، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (273) و (274) و (275) من حديث عائشة. وذكره الذهبي في " السير " 1/ 291 وقال: إسناده قوي. وانظر الاختلاف في إسناده في " شرح مشكل الآثار " 1/ 248 - 249.
وشاهده حديث ابن عمر السالف، وانظر أيضاً " صحيح ابن حبان " (7034).
(3) صحيح وقد تقدم تخريجه في 1/ 428.
(4) في (ش): وبقي.(5/347)
وهذا مختصر من قصته وحديثه، وهو أطول من هذا، خرجه الحاكم في " المستدرك " (1) وصححه.
وهو يشهد لجواز ما ذكرته، إذ لم يذكر في الأمر بتعذيبه أنه على ذنبٍ غير التقصير في الشكر إلاَّ أن يكون ذنبه هو قوله: " بعملي يا رب "، وإلا فقد صحَّ أن كل أحد يَرِدُ القيامة وله ذنبٌ إن شاء الله عذَّبه عليه كما تقدم من غير وجه، وما شَهِدَ له من القرآن، والله سبحانه أعلم.
وبالجملة فالمسلمون مجمعون (2) على حسن ذلك من الرب بغير ذنب لحكمةٍ وإن خفيَتْ في كل ألمٍ منقطع في دار الإمتحان، بل العقلاء من المسلمين وغيرهم مُجمعون على حُسن تحمُّل كثير من الشرور لدفع أعظم منها، بل لجلب منافع في فواتها شرورٌ أعظم مما تحمَّلُوه، وما أعلم أن أحداً من العقلاء قبَّح النكاح عقلاً لما يؤول إليه من ألم الولادة وسوابقها وتوابعها لا في حق النساء لِعِظَم مضرَّتهن بذلك، ولا في حق الرجال لكونهم الوسيلة إليه، فيمكن في آلام أهل النار وعذابهم مثل ذلك.
ولكن الله عزَّ وجلَّ علم أن وقوع تلك الآلام على جهة العقوبة المستحقة بالمعاصي الاختيارية أكثر صلاحاً، فقدَّر مقادير تقع (3) معها تلك الاختيارات على وجهٍ يستحقُّ معه العقاب، وتقومُ معه الحجة، وينقطع معه عذر العبد
__________
(1) 4/ 250 وفي سنده سليمان بن هَرِم، قال الأزدي: لا يصح حديثه وقال العقيلي: مجهول، وحديثه غير محفوظ. وقال الإمام الذهبي في " تلخيص المستدرك " متعقباً قول الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد: لا والله، وسليمان غير معتمد، وقال في " ميزان الاعتدال " 2/ 228 بعد أن أورده بطوله في ترجمة سليمان بن هرم: لم يصح هذا والله تعالى يقول: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ولكن لا ينجي أحداً عملُه من عذاب الله كما صح، بلى أعمالنا الصالحة هي من فضل الله ومن نعمه لا بحول منا ولا بقوة، فله الحمد على الحمد له.
(2) في (ش): مجتمعون.
(3) في (ش): ترتفع.(5/348)
العاصي، فلذلك سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنزال الكتاب، وإرسال الرسل عُذْراً إلى الخلق، حيث قال في الحديث الصحيح: " لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ من الله، من أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل ". رواه مسلم من حديث ابن مسعود وأصله في " الصحيحين " معاً (1).
ولهما من حديث المُغيرة نحوه، ولفظه: " من أجل ذلك بعث الله المنذرين والمبشرين " (1).
وقال الله تعالى في مثل ذلك: {فالمُلْقِياتِ ذِكْراً عُذْراً أو نُذْراً} [المرسلات: 5 - 6]، وقال: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} [الكهف: 76].
وحكى الله عن صالحي بني إسرائيل أنَّهم سَمَّوْا نهيهم لمن لا ينتهي معذرةً إلى ربِّهم، ألا تراهم ما سموها معذرةً إلاَّ حيث كانت غير نافعةٍ لهم، وذلك في نحو قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُون} [يس: 10] وإنما أُنْذِرُوا عذراً إليهم وحجة عليهم، ولذلك قال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} [يس: 11] أي: الإنذار النافع المراد به النفع (2) لمن بلغه.
ومثل ذلك في المعنى وإن لم يَرِدْ بلفظ العذر قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} [البقرة: 150] وذلك أن اليهود كانوا فرحوا بكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقبل بيت المقدس في أول الأمر (3)، وهو قبلتهم
__________
(1) تقدم تخريجهما في ص 58 من هذا الجزء.
(2) تحرفت في (ش): ليقع.
(3) أخرجه الطبري في " تفسيره " (1833) و (6160) و (2236)، والبيهقي 2/ 12 - 13 من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: كان أول ما نُسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عزَّ وجلَّ أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر شهراً، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب قبلة إبراهيم =(5/349)
واحتجُّوا عليه بذلك، ومَوَّهوا به على جهلة المشركين، فجعل الله تعالى في نسخ ذلك باستقبال الكعبة قطع حجتهم مع ما كان فيه من امتحان الناس، وظهور نفاق المنافقين، فسمَّى ذلك حجة لكون اليهود احتجوا به، وليس بحجةٍ على الحقيقة.
فكذلك ما قطع الله يوم القيامة من حُجَج المُبطلين إنما هي أعذار منهم كما قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَه} [القيامة: 14 - 15]، وقال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الروم: 57].
وفي حديث الحسن عن أبي هريرة وأبي موسى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يُعرضُ الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فأمَّا عرْضتان فجِدالٌ ومعاذيرُ " (1) رواه
__________
= عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى: {قد نرى تقلب وجهك في السماء} إلى قوله: {فولوا وجوهكم شطره} فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: {ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}، فأنزل الله عز وجل: {قل لله المشرق والمغرب}، وقال: {أينما تولوا فثم وجه الله}. علي بن أبي طلحة أرسل عن ابن عباس ولم يره.
لكن له طريق أخرى يتقوى بها عند أبي عبيد في " الناسخ والمنسوخ " فيما ذكر ابن كثير في تفسيره 1/ 162، والحاكم 2/ 267 - 268، والبيهقي 2/ 12 من طريق حجاج بن محمد، عن ابن جريج وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس مختصراً.
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وأخرج الطبري (2234) عن القاسم، عن الحسين، عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا ... فذكر نحوه.
(1) تمامه: " وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ". أخرجه أحمد 4/ 414، وابن ماجه (4277) من طريق الحسن، عن أبي موسى، وأخرجه الترمذي (2425) من طريق الحسن، عن أبي هريرة. قال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قِبَلِ أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وأبي موسى.(5/350)
الترمذي (1).
وقال أحمد في " المسند " حدثنا ابن نُميرٍ، قال حدثنا عبيد الله، عن عبد الله بن عبد الله (2) بن معمر الأنصاري، عن نَهارٍ، عن أبي سعيدٍ الخُدْري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أحدَكم ليُسْألُ يوم القيامة حتى يكون فيما يُسألُ عنه أن يقال: ما مَنَعَكَ أن تُنْكِرَ المُنْكَرَ إذْ رأيتَه قال: فمن كفاه الله عزَّ وجلَّ حُجَّته، قال: ربِّ رَجَوْتُك وخِفْتُ الناس " (3).
ورواه العلامة القرطبي في " تذكرته "، وهو الحديث الثالث عشر من مسند أبي سعيد الخدري من " جامع المسانيد " لابن الجوزي، وفي " طبقات الذهبي " (4): نهار العبدي، عن أبي سعيد الخدري: ثقة، وفي " الميزان " (5): تابعي مدني صدوق، ولم أجد عبد الله بن عبد الله بن معمر الأنصاري (6) في " الميزان " ولا في رجال الكتب الستة، وخلوُّ الميزان منه أمارةُ صلاحه.
__________
(1) تحرفت في (أ) إلى: النهدي.
(2) كذا في (أ)، وهي ساقطة من (ش)، والصواب: " عبد الرحمن "، وهذا الخطأ وقع للمصنف، وليس هو من النساخ بدليل ما سيذكره بأنه بحث عن عبد الله بن عبد الله في " الميزان " وفي تراجم الكتب الستة فلم يظفر به.
(3) حديث صحيح. ابن نمير: هو عبد الله، وعبيد الله: هو ابن عمر بن حفص العمري، ونهار: هو العبدي.
وأخرجه الحميدي (739)، وأحمد 3/ 27 و29 و77، وابن ماجه (4017). وأبو يعلى (1089) و (1344)، وابن حبان (7368)، والبيهقي 10/ 90. وصحح إسناده البوصيري في " مصباح الرجاجة " 3/ 344.
(4) يعني " الكاشف " 3/ 185.
(5) 4/ 274.
(6) ذكرت قبل قليل أن المصنف رحمه الله أخطأ في اسم أبيه، فقال: عبد الله، وأن الصواب: ابن عبد الرحمن، وعبد الله بن عبد الرحمن هذا مترجم في " التهذيب " وهو ثقة، روى له أصحاب الكتب الستة.(5/351)
وروى الطبراني من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي في " أوسط معاجمه " (1) عن الحسن أيضاً قال: خطبنا أبو هريرة على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لَيَعْذِرَنَّ الله تعالى يوم القيامة إلى آدم ثلاث معاذير، يقول الله تعالى: يا آدم لولا أني لعنت الكاذبين، وأبغضت الكذب والخُلْف، وأوعدتُ عليه لرحِمْتُ اليوم ولدَكَ أجمعين من شِدَّة ما أعددت (2) لهم من العذاب، ولكن حق القول مني لِئِنْ كُذِّبَتْ رُسُلي، وعُصِيَ أمري لأملانَّ جهنم من الجنة والناس أجمعين، ويقول الله عز وجل: يا آدم، لا أُدخِلُ النار أحداً، ولا أعَذِّب منهم أحداً إلاَّ من (3) علمت بعلمي أني لو رددته إلى الدنيا، لعاد إلى أشرِّ ما كان فيه، لم يرجع ولم يَعْتَبْ، ويقول الله تعالى عز وجل: يا آدم قد جعلتك حكماً بيني وبين ذُريتك، قُم عند الميزان فانظر ما يُرفعُ إليك من أعمالهم، فمن رَجَحَ منهم خيره شره مثقال ذرَّةٍ، فله الجنة حتى تعلم أني لا أُدخلُ النار منهم إلاَّ ظالماً ".
ويأتي حديث أنس وأبي هريرة في هذا المعنى، وكلاهما في الصحيح، فقد أعدَّ الله تعالى بعد علمه الحق بحكمته الراجحة في العذاب لهذه المعاذير الباطلة ما يُقابِلُها من أعذار الحق والحُجج الصحيحة، وذلك لحكمته البالغة، وكمال عَدْله في الباطن والظاهر، فالباطق بعلمه الحق، والظاهر بقدره الحق.
فقد ذَكَرَ أهل اللغة أن المُعتَذِرَ يكون مُحقاً وغير مُحقٍّ، ممن ذكره ابن الأثير في " نهايته " (4) فعلى هذا كل عذر من الله فهو حق، وكل عذر من الخلق، فقد يكون حَقّاً، وقد يكون باطلاً، فتلخَّص أن يكون لله تعالى في عذاب المستحقين حجتان، ويحتمل أن كُلَّ واحدةٍ (5) منهما محسنة للعذاب، ولكن الجمع بينهما أقوى في التحسين وأولى.
__________
(1) ذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 347 - 348 وقال: وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي، وهو كذاب.
(2) في (ش): ما أعتدت.
(3) في (أ): لمن.
(4) 3/ 197.
(5) في الأصلين: " واحد "، والجادة ما أثبت.(5/352)
إحداهما: ما يناسب عقول البشر وعاداتهم من أعذار الحقِّ التي يعتقدون براءة المُعتذر بها من الملامة، وصحتها واضحة على أصول الجميع.
أما أهل السنة، فلورود السمع بذلك.
وأما المعتزلة فلوجوب إزاحة الأعذار عقلاً (1) عندُهم مع ورود السمع بذلك، ولا شكَّ أن ما لا يتمُّ الأمر (2) والمقصود إلاَّ به يكون له حكمُه في اللزوم، وهذه الحجة المجمع عليها لا تتمُّ إلاَّ بتقدير اختيار العباد لأعمالهم، وتقدير أسباب الاختيارات فلذلك كان القول بسبق القدر مقتضى العقل والسمع عند التحقيق، وهذه الحجةُ وقاعدتها هي ما قدره الله تعالى من اختيار العباد لأعمالهم التي مكنهم منها بإقداره لهم عليها غير مجبورين مع كثرة الأعذار، وتطاوُل الإمهال، والزيادة في البيان. وفي الحديث: " لقد أعذَرَ الله إلى من بلغ به في العمر ستين سنة " ذكره ابن الأثير في " نهايته " (3)، وقد أخرجه البخاري في " الصحيح " من حديث أبي هريرة مرفوعاً " أعذَرَ الله إلى رجلٍ أخَّرَ أجله حتى بلغ ستين سنة " (4).
وقال ابن الأثير: لم يُبْقِ له موضعاً للإعذار (5). وهذه (6) أعذارُ حَق وإن جاز أن يكون للهِ حكمةٌ باطنة أحقُّ منها.
__________
(1) من قوله: " أما أهل السنة " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) 3/ 196.
(4) أخرجه أحمد 2/ 275 و320 و405، والبخاري (6419)، وابن حبان (2979)، والرامهرمزي في " الأمثال " ص 64، والقضاعي في " مسند الشهاب " (424)، والحاكم 2/ 427 - 428، والبيهقي 3/ 370، والخطيب في " تاريخه " 1/ 290، والبغوي (4032).
(5) في النهاية: " للاعتذار " وقال الحافظ في " الفتح " 11/ 244: الإعذار إزالة العذر، والمعنى أنه لم يبق له اعتذار، كأن يقول: لو مد لي في الأجل، لفعلت ما أمرت به، يقال: أعذر إليه: إذا بلغه أقصى الغاية في العذر، ومكنه منه.
(6) في (ش): وهذا.(5/353)
مثال ذلك ما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث فضيل، عن الشعبي، عن أنس، قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك، فقال: " هل تدرون مما أضحك "؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: " من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا ربِّ ألم تُجرني من الظلم؟ يقول: بلى، فيقولُ: إني لا أُجيزُ اليوم على نفسي شاهداً إلاَّ مني، فيقول: كفي بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالملائكة الكرام عليك شهوداً، فيُختم على فيه، ويُقالُ لأركانه: انطقى، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعداً لَكنَّ وسُحقاً فعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ " (1).
فهذا عذرٌ حَقُّ من الله عزَّ وجلَّ يقابل العذر الباطل من العبد، وإلا فعلم العبد الضروري بأنه كاذبٌ أقوى حجة في باطن الأمر، وعلم الرب عز وجل أقوى من علم العبد الضروري.
وهذا الحديث وإن كان حديثاً واحداً، فالقرآن يشهد له حيث قال حاكياً عنهم: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21] مع أن الحديث الظني في هذا المقام من أرفع ما يحتج به، لأن القصد في هذا المقام بيان مجرد احتمال الحكمة، وقطع قول من أحالها فيه، أو عيَّنها في وجهٍ باطل.
وقد وَرَدَ من الحديث الصحيح نحو هذا، وصُرِّح فيه بلفظ العذر عن أبي هريرة في بعض رواياته في حديث الرؤية، قال: " فيلقى العبد فيقول: أيْ فُلْ: ألم أُكرمك وأسوِّدْك؟ فيقول: بلى، فيقول: أظننتَ أنك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول: إني أنساك كما نسيتني ... إلى قوله في المنافق: "فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرُسُلِك، وصُمْتُ، وتَصَدَّقتُ، ويُثني بخيرٍ ما استطاع، فيقول: ها هنا إذاً، قال: فيقال: الآن نبعثُ شاهداً عليك، ويتفكر في نفسه من الذي يشهدُ عليَّ، فيُختَمُ على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فتنطق فخذُه ولحمه
__________
(1) أخرجه مسلم (2969)، وأبو يعلى (3975) و (3977)، وابن حبان (7358)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 217 - 218.(5/354)
وعظامُه، وذلك ليُعْذِرَ من نفسه، وذلك المنافق الذي يسخط الله عليه" لفظ مسلم عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة (1).
وثانيهما: ما يختص الرب سبحانه بعلمه في ثلاثة أشياء:
أولها: داعي الحكمة الأول الداعي إلى تقدير خلق الأشقياء وإقامة الحجة عليهم، وقطع أعذارهم.
وثانيها: الداعي إلى تكليف السعداء، والمن عليهم بالهداية والمغفرة، وبيان المِنَّة لهم باختصاصهم بذلك، وتقرير السنة عليهم بالعفو بعد الحساب على الصغيرة والكبير، وترجيح ذلك على الإحسان إليهم بذلك ابتداءً، وتعريفهم بالمنة من غير هذه الوسائط. وسيأتي في مرتبة الدواعي الإشارة إلى ما تفهمه العقول، وما أشارت إليه الآيات والأخبار في هذين الأمرين، ويأتي طرفٌ منه في ذكر الحكمة في تقدير الشرور في مرتبة (2) الأقدار.
وثالثها: تأويل ما اشتبه على العقول من تفاصيل الحكمة في ترجيح العقوبة على العفو في بعض الذنوب، والأشخاص، والأزمان دون بعض، ومن تأويل الاستثناء من دوام العذاب، فربما كان إعلامهم بذلك مفسدةً لهم أو لبعضهم، أو لم يكونوا يحتملونه أو بعضهم.
__________
(1) أخرجه الحميدي (1178)، ومسلم (2968)، وأبو داود (4730)، وابن أبي عاصم في " السنة " (445)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 152 - 153 و154 و155 و156، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (228) و (229) و (231)، والآجري في " التصديق بالنظر " (27)، وابن منده في " الإيمان " (809)، واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " (823). وانظر " صحيح ابن حبان " (7445).
وقوله: " ليعذر " أي: ليُزيل الله عذره من قِبَل نفسه بكثرة ذنوبه وشهادة أعضائه عليه، بحيث لم يبق له عذر يتمسك به.
(2) ساقطة من (ش).(5/355)
وقد قال تعالى في تكثير القليل: {تَرَوْنَهُم (1) مِثْلَيْهم رأيَ العينِ} [آل عمران: 13] الخطاب فيهما لليهود. رواه أبو داود عن ابن عباس (2).
وقال تعالى في تقليل الكثير: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44] فترك الله تعالى إراءَتَهم كثرة عدوِّهم (3) وكتَمَ ذلك عنهم (3)، وهو حقٌّ لما عَلِمَ فيه من المفسدة، وشبَّههم لهم قلةً، كما شبَّه لقتلة عيسى في زعمهم شِبْه عيسى حتى قتلوه، وكل ذلك في اليقظة كما نصَّ عليه القرآن، وسيأتي وجهه وبيانه في القدر، وبين قوله (4): {يتعلمون ما يضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهم} [البقرة: 102]، أن من العلوم ما
__________
(1) (ترونهم) بالتاء، وهي قراءة نافع. وقرأ الباقون: " يرونهم " بالياء، قال الفراء في " معاني القرآن " 1/ 195: ومن قرأ: " ترونهم " ذهب إلى اليهود، لأنه خاطبهم، ومن قال: (يَرَوْنَهُمْ) فعلى ذلك، كما قال: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وإن شئت جعلت (يَرَوْنَهُمْ) للمسلمين دون اليهود.
وقال الطبري في " جامع البيان " 6/ 232: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته قرأة أهل المدينة: (ترونهم) بالتاء بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آية في فئتين التقتا: فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرة، ترون المشركين مِثْلي المسلمين رأي العين، يريد بذلك عِظتهم، يقول: إن لكم عبرة أيُّها اليهود فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم بهؤلاء مع كثرة عددهم.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين {يرونهم مثليهم} بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعة الكافرة مثلي المسلمين في القدْر، فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم يا معشر اليهود عبرة ومتفكر في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرة يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
(2) أخرجه ابن إسحاق في " السيرة " 3/ 50 - 51، ومن طريقه أبو داود (3001)، والطبري في " تفسيره " (6666)، والبيهقي في " الدلائل " 3/ 173 - 174 عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس. ومحمد بن أبي محمد هذا مجهول.
(3) ساقطة من (أ).
(4) في (ش): بقوله.(5/356)
يضر البشر ولا ينفعهم.
ويوضح ذلك قوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ} [طه: 134] ولم يقل: لظلمناهم.
ويوضح ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] فقد تقدمت إرادته هلاكهم المستحق بعلمِه الحق قبل بعث الرسل المعبَّر عنه بقوله: {أمَرْنا مُتْرَفيها}، وتقدَّمت فسقهم الواقع بعد الأمر المُوَجَّه عذابهم إليه دون الموجب للإرادة السابق لها في الحكم، سواء سبق في الزمان، كقول المعتزلة، أو لم يسبق فيه، كقول الأشعرية، فلا شكَّ في أنه سابق في الرتبة والحكم، كسبق حركة الأصبع لحركة الخاتم.
وأما ما تقدم الأمر من كفرهم، فالعقوبة غير مُوجَهَّة إليه لقوله تعالى في أول هذه الآية: {وما كُنَّا مُعَذِّبين حتَّى نَبْعَثَ رسولاً} [الإسراء: 15] فلو كان سبب الإرادة سابقاً لها على زعمِ المعتزلة، لكانت العقوبة قد وَقَعَتْ عليه قبل بعثة الرسل.
وقد ثبت أنهم غير معاقبين في تلك الحال لكمال فضل الله وعدله في الظاهر والباطن، ويشهدُ لذلك حديث أنس المُخرَّج في " صحيح مسلم " وفيه: " ألمْ تُجِرُني يا ربِّ من الظُّلْم " كما تقدم قريباً، فسمَّاه ظُلماً وأقر على ذلك، وأُقيمت عليه الحجة بشهادة أركانه عليه، وهذا شاهدٌ حسنٌ لهذا الوجه، ولله الحمد.
وأما قوله تعالى: {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الشعراء: 209]، فليس فيه أن الظلم بترك الذكرى بالنصوصية (1)، ونظيرُها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُم
__________
(1) في (ش): النصوصية.(5/357)
وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [الروم: 9]، ولو سُلِّم، فالظلم غير متعيَّن في هذا المعنى الاصطلاحي، قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33].
وفي " ضياء الحلوم " (1) أن أصله وضع الشيء في غير موضعه، يقال: أخذوا في الطريق، فما ظلموه يميناً ولا شمالاً، أي: لم يعدلوا عنه.
ويقال: من أشبه أباهُ فما ظلم.
ويقال: ظَلَمَ الوادي إذا بلغ سيلُه موضعاً لم يكن بلغه من قبلُ.
وظلم القوم إذا سقاهم اللبن قبل أن يروبَ.
وظلم الرجل سقاءه إذا سقى منه قبل أن يروبَ.
وقال:
وصاحب صدقٍ لم تَنْلني شكاتُه ... ظلمتُ ولي في ظلْمِه عامداً أجرُ (2)
يريد سقاء سَقَى أصحابه منه قبل أن يَرُوب.
والأرض المظلومة التي لم تكُنْ حُفرتْ قطُّ فحُفرتْ.
وظلم البعير إذا نَحَرَه من غير داءٍ.
قال:
أبو الظلامة ظلاَّمون للجُزُرِ (3)
__________
(1) تقدم التعريف به في 2/ 166.
(2) في " اللسان " (ظلم): أنشد ثعلب:
وصاحب صدقٍ لم تَرِبني شكاتُه ... ظلمتُ وفي ظلْمِه عامداً أجرُ
(3) عجز بيت في " مقاييس اللغة " (ظلم)، و" اللسان " (هرت) و (درر) و (شقق) و (ظلم)، ونسبه صاحب " اللسان " إلى ابن مقبل، وروايته عندهما: =(5/358)
انتهى بحروفه من " الضياء " وهو من كتب الخصوم في علم اللغة، وهذا معنى مشهور.
وقد ذكر ابن الأثير في " النهاية " (1) ما ورد فيه من الحديث والآثار. وليس الظلم بهذا المعنى من صفات النقص القبيحة عقلاً وشرعاً كالكذب، فيجوز أن تعذيب (2) من لا ذنبَ له لحكمةٍ خَفِيَتْ عليه مما يُسميه الجاهل بالحكمة ظُلماً، وتنزَّه الرب عزَّ وجلَّ عن ذلك، وإن لم يكن قبيحاً عقلاً كما يتزَّه من خلف الوعيد من غير تأويل لِشَبهِه بخُلف الوعد مع أنه في الوعيد يُسمَّى حسناً عقلاً، وانعقد الإجماع على استحبابه شرعاً فيمن حلف على (3) يمين، فرأي غيرها خيراً منها، وقد قرَّرت ذلك في غير هذا الموضع.
ولو سلم، فمفهوم (4) ممكن حمله على عوائدهم وتسميتهم ذلك ظلماً في أفعال أمثالهم ممن لم يتميَّز بعلم غيبٍ ولا زيادة حكمة، ألا تراه عزّ وجلّ لا يُسَمَّى ظالماً بإيلام من لا ذنب له من الصغار والبهائم، وله المثل الأعلى.
ويوضحه قوله: {وما كُنَّا مُهلِكي القُرى إلاَّ وأهْلُها ظالمون} [القصص: 59] وهذا في هلاكها في الدنيا والذي (5) يحسن من الله تعالى بغير ذنب بالإجماع.
فدلَّ على أن الله عز وجل يحبُّ زيادة الحجة والعذر في الأمر الحسن ليزيده حُسْناً في عُرف الخلق، ويقطع به أعذار الجاهلين.
وأوضح منها في هذا المعنى وأصرح قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْض
__________
= عادَ الأذِلَّةُ في دارٍ وكان بها ... هُرْتُ الشَّقاشقِ ظَلاَّمونَ للجُزرُ
ودار: اسم موضع.
(1) 3/ 161 - 162.
(2) في (ش): يعذب.
(3) في (4): عن.
(4) في (أ): " فمفهوم "، وهو خطأ.
(5) في (أ): الذي.(5/359)
وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون} [العنكبوت: 40].
ألا ترى أن الصيحة تحسن من الله بغير ذنب عند الخصوم كالنفخ في الصور المُفزع، بل المهلك لأهل السماوات والأرض إلاَّ من شاء لله.
وكذلك الغَرَقُ في الماء قد (1) يقع فيه من لا ذنب له من الطير والبهائم، ومن هو مرضيٌّ عنه من عباد الله، ويمكن أنما سمَّاه ظلماً كما سمَّى استقبال بيت المقدس حجة في قوله تعالى: {لِئَلاَّ يكُونَ للنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150]. كما مر تقريره والله أعلم.
ومثلها: {لئلاَّ يكون للناس على الله حجةٌ بعد الرسل} [النساء: 165] يمكن أن المراد معاذير يجادلون بها جمعاً بين الأدلة والله أعلم.
ويوضح ما ذكرناه ما سيأتي في مسألة الأطفال من أنهم يُكَلَّفون يوم القيامة ويمتحنون بما يقطع به عذرهم (2) كما فعل الله مع البالغين في الدنيا.
وقد رد الله تعالى على المشركين قولهم: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُون} [السجدة: 12]، بحجتيه (3) معاً وبدأ بالحجة السابقة المشتملة على الحكمة الباطنة وهي قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} [السجدة: 13] ثم أردفها بالحجة الثانية (4) الظاهرة المناسبة لعقولهم، فقال: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون} [السجدة: 14].
وإنما بدأ بالحجة السابقة والحكمة الباطنة لما في عباراتهم من الإشعار باعتراض الحجة الظاهرة حيث ظنوا أن المراد بخلقهم هدايتهم إلى العمل
__________
(1) ليست في (ش).
(2) في (ش): أعذارهم.
(3) في (ش): بحجتين.
(4) ساقطة من (ش).(5/360)
الصالح، وهذا غرضٌ مستدرك، فأخبرهم عزَّ وجلَّ بما معناه أنه لم يَعْجَزْ عن هذا في الابتداء حتى يستدركه في الانتهاء، ولكنه حق منه القول في الابتداء بدخولهم النار لحكمةٍ راجحةٍ، ثم ضمَّ إليها الحجة بالعمل زيادة في العذر والعدل، كما كتب الأعمال، وأشهد الملائكة، ونصب الموازين، وعلمه الحق ثم علمهم مغنٍّ عن جميع ذلك.
وقد كرر الله حجته الباطنة، وأكدها في الابتداء كثيراً، وفي الانتهاء بنحو {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، وكذلك ما تقدم من الآيات التي في سورة الإسراء إذا تأمَّلتها من أولها وجدتها جامعةً للحجتين، حيث قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] أي: ما عَمِلَ من خيرٍ أو شرٍّ، وقيل: حظه المقضي له من خير أو شر، وهذا هو القدر، وهو الحجة الأولى السابقة، ووجه الاحتجاج به أنه فعل حُكمه (1)، ثم أتبعه بالحجة الظاهرة، فقال: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} إلى قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 13 - 15] ثم بين الحكمة في الرسل في حق من علم هلاكه، فعقَّب ذلك بقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16].
ثم بيَّن بعد هذا (2) أن علمه بذنوب عباده أبلغ كافٍ لكنه زاد ذلك لقطع العُذر وزيادة الحجة، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17].
والجمع بين الحجتين كثيرٌ في كتاب الله تعالى لمن تأمله فلله الحمد والمشيئة والحكمة والحجة.
وقد كنت أظن أنه لم يسبقني أحدٌ إلى ذكر (3) هاتين الحجتين، لأني لم أزلْ
__________
(1) في (أ): فعل حكيم.
(2) في (ش): بعدها.
(3) ليست في (أ).(5/361)
أطلب ذلك في مقدار أربعين سنة، فما وقفتُ عليه مع طولِ الطلبِ حتى جاوزت الستين سنة، وراجعتُ شابّاً لم تَنْبُتْ لحيتُه من أهل حضرمَوْت في مسألة الأفعال، وجعلت أفهمه مذهب الأشعرية، والفرق بينه وبين مذهب الجبرية خوفاً عليه من اعتقاد الجبرية، وأنا أظنُّ فيه بُعد الفَهم، فجاءني بهذه اللطيفة، وقال: إنهم يذكرون أن لله تعالى حُجتين: حجة باطنة، وحجة ظاهرة، فالباطنة في الأقدار، والظاهرة في الأعمال. فعجبت من ذلك كثيراً وعَلِمتُ (1) أن الفضل بيد الله يُؤتيه من يشاء.
ومما يوضح ذلك ما ثبت من تقديره تعالى لمقادير وقع معها (2) خروج آدم من الجنة على جهة العقوبة بذنبه (3) الذي اختاره، ولا عُذْر له فيه، وإنما خرج لما (4) لله تعالى في خروجه بذنبه من الحِكمة، وإلا فذنوب الأنبياء صغائر مغفورة، وقد تاب آدم، وتاب الله عليه مع كون ذنبه صغيراً قبل التوبة مع أن الله تعالى قد كان قدَّر أن آدم خليفة في الأرض، وخلقه لذلك، كما أخبر به الملائكة في نص القرآن.
يوضحه أن الذنوب لا تصلُحُ على انفرادها في العقل [أن تكون] موجبة للعذاب في حق الرب سبحانه، وإن كان يصلح لذلك في حق غيره، كما هو مذهب البغدادية من المعتزلة، لأن حسن العذاب عليها من قبيل (5) الإباحة المستوية الطرفين، بل المرجوحة إذا خَلَتْ عن الحكمة، لأن العفو أفضل بضرورتي المعقول والمنقول، فلولا أن فيه حكمةً بالغة سابقة لتقدير الذنوب ما فعله أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين بمجرد كونه مستحقاً مُباحاً مع تطابق شرائعه وأوامره على ترجيح العفو والصبر، وكظم الغيظ، وتلك الحكمة هي التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ الله.
__________
(1) ليست في (ش).
(2) في (ش): " بعضها "، وهو خطأ.
(3) في (ش): على الذنب.
(4) في (ش): بما.
(5) في (ش): قبل.(5/362)
وأما غضبُه تعالى على الكافرين وعداوته لهم، فذلك أبعد من قواعد المعتزلة، ولا بُدَّ من تأويله عندهم، وفي الإجادة في ذلك ما ليس في غيرها، ومما في ذلك (1).
وجمهورهُم قد أوَّلُوه لأنه ... أذىً مُؤلِمٌ والربُّ ليس بآلمِ
ولستُ أرى التأويل فيه بقائمٍ ... ولا ألمَ المعبود فيه بلازمِ
ولكن له منه الكمالُ بلا أذى ... وليس لأوصافِ الوَرَى بملائِمِ
كذا كُلُّ الأسماء نصُّها وخفيُّها ... كمُحكمِها حتى قديرٍ وعالمِ
وهذا الجواب الحقُّ عن كلِّ محكمٍ ... ومشتبهٍ في الله ربِّ العوالمِ
فمن قال فيه: مستوٍ كاستوائنا ... كمَنْ قال فيه: عالمٌ مثل عالمِ
كذلك أفعالُ الإله نُصِحُّها ... بلا حركاتٍ في الجهات لوازمِ
لذلك نزَّهناه في الذات ثم في ... الصفات (2) وفي الأفعال ربِّ العوالمِ
ولم نجعل الفَعَّال في حقِّ ربنا ... مجازاً كذا في سُخْطِهِ والمراحمِ
ومحتملٌ تقديرُ موجب سُخْطِه ... ليحلمَ حُبّاً لاجتلاب المكارم
وتعجيزه عن أن يُقَدر موجباً ... لذلك للتعظيم غيرُ ملائمٍ
ومن ثمرات السُّخط خوفُ جَلالِه ... ونَعْتُ الجلال من أجل اللوازمِ
فسبحان من حاز الكمال ولم يُحِطْ ... به حائزٌ في نعتِه المتقادمِ
وذكر ابن قيم الجوزية أن للناس في غضب الله قولين:
أحدهما: أنه فعلٌ له قائم به كسائر أفعاله.
وثانيهما: أنه مفعولٌ منفصل عنه، وفي هذا إشارةٌ إلى الإجماع على تأويله، وأنه ليس بصفةٍ له كالرحمة، والذي يدلُّ على ذلك أن ما كان صفة له كان ذاتياً دائما سابقاً قديماً، ولا قائل بقدم غضبه. والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في (ش): ومما فيها في ذلك.
(2) في (أ) في الذات والصفات.(5/363)
ولما ضعف ذلك المعنى في حق المؤمنين لاعترافهم بفضل الله وعدله وحكمتِه، صرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حقِّ جزاء أعمالهم، وأخبرهم أنهم لا يدخلون الجنة إلاَّ برحمة الله، وهي الحكمة السابقة، وقطع بنفي تأثير أعمالهم في ذلك في حقيقة الأمر، كما اتفق أهل علم الحديث على صحته، وشهد له من القرآن آياتٌ كثيرة، كما يأتي في آخر هذه المباحث في الوهم الثلاثين.
وبالغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى حتى صرح أنه عليه الصلاة والسلام لا يدخل الجنة بعمله إلاَّ أن يتغمَّدَه الله برحمته (1).
ومن ثم (2) جاءت أحاديث (3) كثيرة مصرحة بأن كل أحد يأتي يوم القيامة وله ذَنْبٌ، إن شاء الله عذبه، وإن شاء عَفي عنه. سيأتي ذكرها وطرقها قريباً.
ويشهد له ما في حديث الشفاعة في " الصحيحين " من غير وجهٍ أن كل نبي غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتذر بذنبه، ويخاف على نفسه، ويقول: نفسي نفسي إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَا ثبت من الغُفران المطلق له فيما تقدَّم وتأخر (4).
ويشهد لذلك حديث عائشة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " من حُوسِبَ عُذِّبَ " أخرجاه (5).
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 256 بلفظ: " قاربوا وسددوا .. ".
(2) في (ش): ثمت.
(3) في (ش): الأحاديث.
(4) أخرجه من حديث أنس: البخاري (4476) و (6565) و (7410) و (7510) و (7516)، ومسلم (193).
وأخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (3340) و (3361) و (4712) ومسلم (194).
وجاء أيضاً من حديث أبي بكر، وحذيفة، وابن مسعود. وانظر للتوسع في تخريجها " صحيح ابن حبان " (6464) و (6465) و (6476).
(5) أخرجه أحمد 6/ 47 و48 و108 و127 و206، والبخاري (103) و (4939) و (6536) و (6537)، ومسلم (2876)، وأبو داود (3093)، والترمذي (7326) و (7370) و (7371) و (7372)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (338)، والحاكم 1/ 57 و255 و4/ 249، والبغوي في " شرح السنة " (4319)، وفي " تفسيره " 4/ 464.(5/364)
وكذلك ظاهر قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [فاطر: 45]، وقال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون} [النحل: 61].
وكذا قوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَه} [عبس: 23].
وكذلك حكايته لذنوب أشرف الأنبياء في القرآن، وإن خصَّتهم (1) فإنها تدل على موم البلوى بالذنوب عقلاً.
وفي هذا المقام سؤالٌ دقيقٌ مفيد، وسيأتي إن شاء الله تعالى مبسوطاً في مرتبة الدواعي في مسألة الأطفال، وهذه هي سر العمل مع القدر (2) كما ستأتي الإشارة إليه في فائدة مستقلة في القدر.
وقد جوَّد الغزالي الكلام في هذا المعنى، وقطع على أن الله تعالى لا يريد أن يريد الشر لنفسه، أي لكونه شراً فحسب، وعلى أنه لا يجوز أن يكون الشر هو مراد الله الأول، لأنه يستلزم أن يريد الشر لنفسه، واحتج بالحديث المتفق على صحته في سبق رحمة الله عز وجل لغضبه، خرجه البخاري ومسلم وغيرهما (3)، وبما ثبت في القرآن الكريم من كون الرب سبحانه أرحم
__________
(1) في (ش): بما خصهم.
(2) من قوله: " وسيأتي " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة: همام في " صحيفته " (14)، وأحمد 2/ 242 و259 - 260 و313 و381 و397 و432 و466، والبخاري (3194) و (7404) و (7412) و (7453) و (7553) و (7554)، ومسلم (2751)، والترمذي (3543)، وابن ماجه (4295)، والطبري في " تفسيره " (13096)، وابن حبان (6143) و (6144) و (6145)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 395 - 396 و416، والبغوي في " شرح السنة " (4177)، وفي " معالم التنزيل " 2/ 87.(5/365)
الراحمين، ذكر معنى ذلك في شرح (الرحمن الرحيم) من كتاب " المقصد الأسْنى في شرح الأسماء الحسنى " (1) وذكر بعد ذلك أن تحته سراً لم يأذن الشرع بإفشائه. قلت: وفي كلامه هذا البحث نظر لم أذكره لعدم الحاجة إلى ذكره (2).
الوجه الرابع: وهو النافلة التفصيلية الخلافية بعد أنواع الأجوبة الثلاثة المعروفة عند أهل هذا الشأن، وذلك أن كثيراً من علماء الإسلام قد خاضوا هذه الغمرة، وذكروا في تفصيل الحكمة في العذاب ما هو داخلٌ في الإمكان على قدر عقول البشر وقُواهم، وتقريب ذلك لبيان (3) بطلان ظن من حسب أن وجود الحكمة في عذاب الآخرة في العقول من قبيل المحالات لا من قبيل المحارات (4).
وسيأتي ذكر ذلك مجملاً مختصراً، ومفصلاً ومطولاً في مجلد مفرد موضعه من هذا الكتاب في الفائدة الخامسة في آخر المرتبة الرابعة التي في ذكر القضاء والقدر، وبيانه ما ورد في السمع من حكمة الله تعالى في تقدير الشرور، ولا ينبغي إيراد القليل (5) من ذلك هنا لأجل الحاجة إليه، إنه لا يكفي، ولا يفي بالمقصود، ولا يشفي، فتأخيره إلى موضع البسط أولى، والله الموفق.
فتلخَّص أن المعتزلة فرُّوا في نفوذ (6) مشيئة الله تعالى مما ظاهره القُبح العقلي، وليس كذلك، وباطنه الحق الذي تأويله حسنٌ عقلاً على سبيل الإجمال على الصحيح، وشرعاً على سبيل التفصيل عند الله عزَّ وجلَّ فوقعُوا فيما ظاهره وباطنُه القبح عَقْلاً وشرعاً وهو أمران:
أحدهما: تعجيز الربِّ عن هداية عاصٍ واحد من جميع خلقه، والعجز صفة
__________
(1) ص 62 - 63، نشر مكتبة القرآن بالقاهرة بتحقيق محمد عثمان الخُشْت.
(2) في (ش): إليه.
(3) في (ش): بيان.
(4) قوله: " لا من قبيل المحارات " ساقط من (ش).
(5) من قوله: " وبيانه " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) في (ش): تفرد.(5/366)
نقصٍ لذاته، ولا يُمكنُ أن يحسُنَ العجز لوجه حكمةٍ خفي، وهذه رتبة يرتفع عنها أكثر الوُعَّاظ من العباد العجزة، كيف القادر على كل شيء الذي إذا أراد إيجاد أعظم المخلوقات، فإنما يقول له: كن فيكون، فكيف يعجز عن تقليب قلوب عباده؟! وقد صح أنه يقلِّبُها كيف شاء، حتى استعاذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تقليب قلبه الكريم، وكان يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " (1).
فيا عجباه كيف أمكن تقليب خير القلوب إلى الشر الذي هو ضِدُّ الفطرة التي فُطِرَ الناس عليها، ولا يمكن تقليبها إلى الفطرة، وأيُّ عقل أو سمع دل على هذا دلالة قاطعة، أو أشار إليها إشارةً خفية، فالله المستعان.
وما أشبه اعتذار المعتزلة للرب بتعجيزه تعالى عن ذلك باعتذار القدرية للرب بتجهيله عز وجل عما يقولون عُلُوَّاً كبيراً، وكان يلزم المعتزلة مثل مقال القدرية، نعوذ بالله من الخذلان.
وثانيهما: إيجاب إرادة حصول ما علم الله أنه لا يحصُلُ علماً قاطعاً، ومن جَوَّز هذا على الرب الحكيم لزمه أن يجوز عليه الأماني التي أجمع المسلمون على أنها لا تجوز على الله تعالى لأنها عبارةٌ عن إرادة ما يعلم أنه لا يكون. وقد أجمع العقلاء على ذمِّ التشاغُلِ بها، وسمَّوها بضائع الحمقى.
وقال الحكيم:
مَنْ كان مَرْعَى عَزْمِه وهُمُومِه ... رَوْضَ الأماني لم يَزَلْ مَهْزُولا (2)
بل هذا أقبحُ من الأماني، لأن المتمني قد عصمه عقله من الطمع في حصول مُناه، فكيف إذا تضرَّر بسببه سواه؟! وحصل بسببه نقيض رجواه؟! وكان ذلك كله معلوماً له سبحانه وتعالى فأصبحوا كما قيل:
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 271 - 272.
(2) هو لأبي تمام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي. وهو في " ديوانه " و" زهر الأكم " لليوسي 3/ 193.(5/367)
كالمستجير من الرَّمضاء بالنار (1).
لا بل كالمستبدل الظلماتِ بالنور، والمشتري الضلالةَ بالهُدى.
وتلَخص أيضاً أنهم حافظوا على تعيين وجه الحكمة في المتشابه، ولم يرد الشرعُ بالأمر بذلك، بل لم يأذن فيه، بل ذم متبعيه كما يأتي في آخر الأقدار.
وأهل السنة حافظوا على أمرٍ ورد الشرع بتعظيم المحافظة (2) عليه، وهو
__________
(1) عجز بيت صدره:
المستجير بعمرو عند كربته
قال البكري في " فصل المقال " ص 377: أصل هذا المثل، وأول من نطق به التِّكلام الضبعي، وذلك أن جساس بن مرة لما طعن كليباً -وهو كليب بن وائل- استسقى عمرو بن الحارث ماء، فلم يسقه، وأجهز عليه، فقال التِّكلام في ذلك.
المستغيثُ بعمرٍو عند كربته ... كالمستغيث من الرمضاء بالنار
وربما أنشدوه:
كالمستغيث من الدعصار بالنار
والدعصار: الأرض السهلة المستوية تصيبها الشمس فتحمى، فتكون رمضاؤها أشد حرّاً من غيرها.
قال الرمخشري في " المستقصى " 2/ 19 في شرح المثل: " تجاوزت الأحصّ وشبيثاً ": هما ماءان، وأصله أن جساس بن مرة لما ركب ليحق كليباً، أردف خلفه عمرو بن الحارث بن ذهل بن شيبان، فلما طعنه وبه رمق، قال له:
أغِثْني يا جساسُ منك بشربةٍ ... تعود بها فضلاً عليَّ وأنعمِ
فقال له جساس: " تجاوزت الأحص وشبيثاً " أراد: إنك تباعدت عن موضع سقياك، ثم نزل عمرو، فحسب أنه يسقيه، فلما علم أن نزوله للإجهاز عليه، قال:
المستجير بعمرٍو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار
قلت: يضرب هذا المثل لمن فر من خَلَّةٍ مكروهة، فوقع في أشد منها، ومثله قولهم: فر من المطر، فوقع تحت الميزاب.
(2) في (ش): بالمحافظة.(5/368)
الإيمان بعموم قدرة الرب عز وجل، ولا أعظم في الدلالة على ذلك من قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وكذلك قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون} إلى قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 2 - 4].
كل هذه الآيات استدلالٌ على عظيم قدرته وعمومها ليدخُلَ في ذلك ما شك فيه المشركون من قدرته على الإعادة، كما احتجَّ بهذه الأشياء في آخر سورة يس على ذلك، فأمَّا حكمة الله في الجملة، فلم تَخْتَص المعتزلة بالمحافظة عليها.
فصل: ولما تواترت هذه النصوص الشرعية كما مر، وكما يأتي في مسألة الأقدار، افترق أهل الملة ثلاث فِرَقٍ.
الفرقة الأولى: الذين أقروا بالآيات والأخبار على ما وردت، ولم يتأوَّلُوا ما وصف الله به نفسه من المحبة والرضا، ولا من نفوذ الإرادة والمشيئة، وقضوا بأنه سبحانه يحب الطاعات كلها، محبة حكمةٍ لا شهوة، ولذلك لا يقع منها إلا ما دعتِ الحكمة إلى وقوعه، وأنه تعالى يكره المعاصي كلها كراهة حكمة بالنظر إلى الوجه الذي قَبُحتْ من جهته، لا كراهة عجزٍ بالنظر إلى الوجه الذي لو شاء لمنعها، ولطف بأهلها من جهته، ولذلك لم (1) يقع منها ما لم يُرِدْ سبحانه هداية فاعله الخاصة لما سيأتي ذكره من حكمه التي بين منها كثيراً، واختص منها (2) بعلم ما شاء.
__________
(1) " لم " ساقطة من (أ).
(2) من قوله: " سبحانه " إلى هنا ساقط من (ش)، وفيه: ما لم يرد وقوعه.(5/369)
وقد تستعمل الإرادة في موضع المحبة والعكس، وقد يصح ذلك مجازاً فيحتاج إلى القرينة، أو حقيقة عرفية فلا يحتاج إلى القرينة، وقد لا يصح ذلك بحسب المتعلقات وسياق الكلام، بل قد تُعَلق المحبة والكراهة بالشيء الواحد فيكون محبوباً مكروهاً باعتبار الجهتين، كما أجمع الكل عليه في اليمين الغموس الكاذبة حين تَجِبُ على المنكر شرعاً، فيحسُنُ من صاحب الحق والقاضي إرادتها من حيث أنها حق للمدعي على المنكر، ويجب على المدعي من حيث يعلم أنها زور كراهتها من حيث هي معصية مع إرادته لها من حيث هي واجبة. وسيأتي ذلك مع نظائره.
وفي هذا المقام الدقيق تختلف عبارات أهل السنة وربما لزم من ظاهر بعضها ما لم يقصده قائله (1)، كما يكون ذلك في كلام كل فرقة.
فقد رأينا العلماء والبُلغاء متى أرادوا تحقيق أمرٍ واحد (2) وتمييزه عن غيره قَلَّ من يُصيب المقصود من ذلك على ما ينبغي، وكثُرتِ الإشكالات على مَنِ ادَّعى تجويد الحدِّ، وتحقيق التمييز.
هذا مع استشعارهم للحذر مِنَ (3) الغلط في ذلك، وبذل الجهد في ترك فَضَلاتِ الكلام، والتجوُّز في العبارات، لأن ذلك كله معيبٌ في الحدود.
ولقد اشتد خلاف الأذكياء في حدِّ العلم.
فقال بعضهم: لا يُحَدُّ لجلائه (4).
وقال بعضهم. لا يُحَدُّ لعسره.
وقالت طائفة: لا بد من تحديده. ثم اختلفوا في حدِّه أشد الاختلاف، فهذا مع أن العلم هو الذي تُعْرَفُ به الدقائق والجليات، وهو مُدْرَكٌ بالفطرة،
__________
(1) في (ش): ما لم يقصدوا تأويله.
(2) في (أ): وحده.
(3) " للحذر من " ساقط من (ش).
(4) في (ش): " بجلاله "، وهو خطأ.(5/370)
إذ هو من الأمور الوجدانيات كالألم والجوع والغضب والرضا، فكيف بالتعبير في محارات العقول في (1) مسألتي المشيئة والأقدار متى وقع ممَّن لم (2) يتدرب في الحدود والجَدَل، ولا أشعر نفسه الحزم من النقاد والحَذَرَ مما لا يكاد يُصيب شاكلة الرمي ويطبقُ مَفْصِلَ الإجادة إلاَّ من (3) مَلَّكَه الله أزمة الإصابة والسعادة.
وحاصل مذهب أهل السنة على التقريب، وإن أخطأته عبارة بعضهم هو ما ذكرته من تعميم نفوذ (4) مشيئة الله تعالى بما تعلقت به تعظيماً لقدرته جل جلاله من القصور عن كل مقصود (5) ومقدور مع اختصاص محبته بالطاعات، وكراهته بالمعاصي المُقَبِّحات.
وفي مقام التعبير عن الكتاب والسنة والآثار تَزِلُّ الأقدام، وتفاوت الأفهام، ويتصعَّب المرام، وقلَّ من ينجو بسلام، والذي أحبُّه وأرتضيه للسني ترك العبارات المولدة والتكلُّفات (6) الحادثة، وإن نطق بها بعض أهل السنة ظنّاً منه بأنه يترجم (7) بها عن القرآن والحديث، ولو تَفَطَّن لم يُجاوِزْ عبارات القرآن والحديث، فإنها أفصحُ الكلام، وأصحُّه وأبينه، وأوضحه ولم يرد إلاَّ بما يقتضي كمال قدرة الله تعالى، وهو التمدح بنفوذ (8) مشيئة الله في كل شيءٍ.
وهذا وصفٌ جليل جميل يختصُّ به الرب سبحانه، ويليق بجلاله، ويعجز عنه كل قادرٍ سواه بخلاف مجرد إرادة القبيح الذي ظن بعض أهل السنة أنها مرادفة لذلك الوصف الجليل الجميل، وكيف يُرادِفُه وهو من خصائص ربِّ العزة جلَّ جلالُه؟
وإرادة القبيح مجرّدةً عن ذلك صفةٌ عريَّةٌ عن الثناء بالمرة يقع من
__________
(1) في (ش): ومسألتي.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): ممن.
(4) في (ش): تفرد.
(5) في (ش): لقدرته جل جلاله عن المقصود.
(6) في (ش): والتكليفات.
(7) في (أ): مترجم.
(8) في (ش): بتفرد.(5/371)
الضعيف، والعاجز، والخبيث، والأحمق، وسائر الشياطين وأعداء ربِّ العالمين.
ومتى تعلَّقتْ بالقبيح لأجل الوجه الذي قُبِّحَ منه، وجب تنزيه الربِّ سبحانه منها بالمرة كما يتنزَّه عن كل عيب وذم، كما قال تعالى: {وما اللهُ يُريدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ} [غافر: 31]، وفي آيةٍ {للعالمين} [آل عمران: 108] كما سيأتي بيانه واختصت بشرار خلقه، {ولله الأسماءُ الحُسنى فادعُوهُ بِها} [الأعراف: 180].
وما أحسن عبارة موسى كليم الله سبحانه، حيث قال: " اللهم إنك ربٌّ عظيم لو شئت أن تُطاع لأُطِعْتَ، ولو شئت أن لا تُعصى ما عُصيتَ، وأنت تحب أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى فكيف هذا يا رب ".
وسيأتي تحقيق الفرق بين العبارات الربانية والنبوية، وبين العبارت المحدثة المبتدعة في الدعوى الثانية وقبلها، ثم في الجواب عن أدلة المعتزلة.
وقد شَغَبَ أهل الكلام على أهل الأثر في تجويز المحبة والغضب على الله بأمورٍ سهلة تقدم بيانها في الصفات.
الفرقة الثانية: المعتزلة وغالب مذهبهم مشهورٌ لم يغلط عليهم فيه، وسيأتي ذكر أدلتهم والجواب عنها في الفرقة الثالثة.
وفيهم طائفة يَنفُون إرادة الله تعالى، ولا يُثبتون معنىً زائداً على كونه عالماً، ويتأولون كونه مُريداً بكونه فاعلاً، وهو عالم غير ساهٍ ولا مُكْرَهٍ، ومعنى إرادته لأفعال غيره عندهم أمره بها، حكاه الزمخشري (1) في تفسير: {ماذَا أرادَ اللهُ بهذا مثلاً} [البقرة: 26] وأهل المقالات يروُون ذلك عن البغدادية منهم.
الفرقة الثالثة: الأشعرية، ولم تُحَرِّر المعتزلة نقل مذهبهما على الصواب،
__________
(1) 1/ 266.(5/372)
فرأيت نقله من كُتُبِهم محققاً، ويدخل في ضمن كلامهم تحقيق مذهب المعتزلة.
قال الشهرستاني في كتابه " نهاية الأقدار ": قالت المعتزلة: كلُّ آمر بالشيء، فهو مريدٌ له، والباري آمرٌ عباده بالطاعة، فهو مريدٌ لها، إذ من المستحيل أن يأمُرَ عباده بها، ثم لا يريدها، والجمع بين اقتضاء الطاعة وطلبها بالأمر بها، وبين كراهة وقوعها جمعٌ بين (1) نقيضين، وذلك بمثابة الأمر بالشيء والنهي عنه في حالة واحدة، إذ لا فرق بين قول القائل: آمرُك (2) بكذا وكرهُ منك فعله، وبين قوله: آمرُك بكذا، وأنْهاك عن فعله، وإذا كان الآمرُ بالشيء مريداً له، كان الناهي عنه كارهاً له.
والذي يحقِّقُ ذلك أن الأمر يقتضي من المأمور حصول الفعل، والإرادة تقتضي تخصيص المأمور به بالوجود، ومن المُحال اقتضاء الحصول لشيء، (3) واقتضاء ضد ذلك منه.
ويخرج على هذه القاعدة أستر وأحكم إلى العلم، فإنه يجوز أن يأمر بخلاف المعلوم، لأن العلم ليس فيه اقتضاء وطلب، وإنما يتعلق بالمعلوم على ما هو به بخلاف الإرادة، فإنها مقتضية، فيرد الأمر على خلاف العلم، ولا يَرِدُ على خلاف الإرادة.
قالت الأشعرية: لسنا نُسَلِّم أن كُلَّ آمر بالشيء مريدٌ لحصوله، بل نقول: كل آمر بالشيء عالمٌ بحصوله، أو مجوِّز، فهو مريدٌ له حصولاً، وكل آمر بشيء يعلم حصول ضده لا يكون مريداً لحصوله، فإن الإرادة على خلاف العلم تعطيل لحكم الإرادة، وتغيير لأخصِّ وصفها، وقد بينا أن أخص وصفها التخصيص، وحكمُها أنها إنما تتعلق بالمتجدد من المقدورات أو من المتخصص منها.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): أمرتك.
(3) في (ش): للشيء.(5/373)
فإذا عَلِمَ الآمرُ بأن المأمور به لا يحصلُ قطعاً، ولا يتجدَّدُ ولا يتخصص، فيستحيل أن يُريده، فإنها تُوجد حينئذٍ ولا متعلق بالممكن (1) لها، وتتعلق ولا أثر لتعلقها، وذلك مُحالٌ، ولو كانت الإرادة من خاصيتها أن تتعلق بالممكن فقط كالقدرة، لكان جائزاً أن تتعلق بخلاف المعلوم.
ومن العجب أنَّ متعلق القدرة أعمُّ من متعلق الإرادة، فإن الممكن الجائز هو (2) جائز متعلق بالقدرة، والمتجدد من جملة الممكنات متعلق الإرادة، والمتجددُ أخصُّ من الممكن.
قلت: بيان ذلك أن الأصل أن يكون الأمر غير مخالف للعلم ولا للإرادة، لكن قد ورد بخلاف العلم إجماعاً، وهو خلاف الأصل.
فإن قيل: فما الوجه في وروده على خلافِ الأصل حيث يكون على خلاف العلم والإرادة؟
قلت: الوجه أن الأمر في الغالب يكون طلباً لحصول المأمور به كأمر من عَلِمَ الله تعالى أنه يمتثل فيجب أن يكون على وَفْقِ العلم والإرادة، وقد يكون الأمرُ (3) على جهة الابتلاء وإقامةِ الحجة، وهو نوعان:
أحدهما: وهو الأقل أمر من علم الله أنه يُطيعُ ليبتلى بالعزم على ذلك لا (4) ليفعله، مثل أمر الخليل عليه السلام بذبح ولده عليه السلام على أصحِّ القولين، وهو مقرَّرٌ في الأصول.
وقد قيل: إن منه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الإسراء (5) بخمسين صلاة، ونُسخَ ذلك عنه قبل التمكُّن من فعله.
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) في (أ): ممن هو.
(3) في (أ): العلم.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): ليلة أسرى به.(5/374)
ومنه أمر من علم موته قبل التمكن من امتثاله، أو نسخُ المأمور به قبل ذلك، كقوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] فإنه روي أنها نُسخت قبل أن يعمل بها أحد إلاَّ علياً عليه السلام (1).
فإن قيل: فلماذا قال في الأمر بذبحِ إسماعيل: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وفي حديث: فرض خمسين صلاة هي خمس وهي خمسون لا يُبَدَّلُ القولُ لَدَيَّ (2) فإنه مشكلٌ على كلا المذهبين؟
__________
(1) أخرجه الطبري 28/ 20، وابن الجوري في " نواسخ القرآن " ص 479 من طرق عن ليث، عن مجاهد، عن علي. وليث: -وهو ابن أبي سليم- فيه ضعف، لكنه توبع، فقد أخرجه الحاكم 2/ 482 من طريق منصور، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن علي بن أبي طالب. وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 8/ 84 وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن راهويه، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
وأخرجه ابن أبي شيبة 12/ 81 - 82، وعبد بن حميد في " المنتخب " (90)، والترمذي (3300)، وأبو يعلى (400)، وابن جرير الطبري 28/ 21، وابن حبان (6941) و (6942)، وابن عدي في " الكامل " 5/ 1847 - 1848، والعقيلي في " الضعفاء " 3/ 243، والنسائي في " خصائص علي " (152)، وابن الجوزي في " نواسخ القرآن " ص 478، والنحاس في " الناسخ والمنسوخ " ص 270 من طريق سفيان الثوري، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن علي بن علقمة الأنماري، عن علي. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. ولفظه: " لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما ترى ديناراً؟ قال: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، قال: فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} الآية. قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
(2) أخرجه من حديث الإسراء الطويل عن أبي ذر، وابن عباس، وأبي حبَّة الأنصاري: البخاري (349) و (1636) و (3432)، ومسلم (163)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 156، وأبو عوانة في " مسنده " 1/ 133 - 135، والدارمي في "الرد على =(5/375)
قلت: لا يبعُدُ أنه (1) في مرتبة اختيار الأحسن على الحسن لأن الله تعالى لا يفعلُ المرجوح وإن كان حَسَناً مع وجود الأحسن الراجح (2)، وذلك أن الأمر يُشبه الخبر بالوجوب، كما قد أتى بلفظ الخبر {ولله على الناسِ حِجُّ البيتِ} [آل عمران: 97] ونحوها، فبَعُدَ بالتأويل عن شبه الخُلف (3) والبداء كما تنزَّه عن خُلْفِ الوعيد كذلك مع حسنه عقلاً وسمعاً.
وثانيهما: وهو الأكثر أمر من علم الله سبحانه أنه لا يُطيع لإقامة الحجة، كما أذكره في الحكمة في الأمر مع القدر في آخر الكلام في الأقدار، وما فيه من الآيات الصريحة بأن العلة في أمره إقامة الحجة عليه، وإليه الإشارة بقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم} [يونس: 25]، فَعَمَّ بالدعوة حجة على من علم أنه لا يجيبُ، وخص بالهدى منه على من عَلِمَ أنه يُنيبُ.
ثم إن الحجة تارة تكون مع إرادة المغفرة كما يأتي في أحاديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم "، ومنه قوله تعالى: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّة} إلى قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} [البقرة: 35 - 36] ولم يكن الرب عز وجل مُريداً لسكون آدم وزوجته في الجنة دائماً بدليل قوله قبل عصيانهما: {إني جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30]، وبدليل أنه لو أراد ذلك غفر ذنبهما ولم يُخرجهما به من الجنة، أو أخَّر عقوبتهما إلى (4) الآخرة كما يقتضيه مذهبُ المعتزلة، فإنه لا يجوز عندهم تقديم (5) العقوبة في دار التكليف، بل ذنوب الأنبياء صغائر عند المعتزلة والجمهور، والصغائرُ مغفورةٌ لا يعاقب الله عز وجل
__________
= الجهمية" ص 34، وابن حبان (7406)، والآجري في " الشريعة " ص 481 - 482، وابن منده في " الإيمان " (714)، والبغوي (3754).
(1) في (أ): أن.
(2) ساقطة من (ش).
(3) تصحفت في (ش) إلى: الخلق.
(4) في (ش): في.
(5) في (ش): تقدم.(5/376)
عليها، وظاهرُ أمره بسكناهما الجنة الدوام بدليل قوله في الشيطان: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيه} [البقرة: 36] فنسب الإخراج إليه لما كان سبباً فيه، ولم يكن السببُ الظاهر انتهاء مدة الإرادة لإقامتهما في الجنة.
وتارةً من غير إرادةٍ للمغفرة، كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134].
ونحوها {لِئَلاَّ يكونَ للناس على الله حُجَّةٌ بعد الرُّسُل} [النساء: 165].
وأخصُّ من هذه الآيات، وأنسبُ بمسألتنا قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16] أي أمرناهم أن يطيعوا، كما تقول: أمرته فعصاني، أي: أن يُطيعني، والقرينة في مثله مُغنيةٌ عن تقدير المحذوف من جنس المذكور كما زعم الزمخشري (1)، فالآية بينةٌ في أن الأمر لهم لم يكونوا (2) ليطيعوا، لأنه كان بعد إرادة عذابهم بما قد علم الله فيه من الحكمة، وإنما كان أمرهم قطعاً لعُذْرِهم، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْر} [يس: 11] يعني الإنذار النافع.
وأما ما تقدم الأمر من كفرهم، فلا يجوز تعليق الإراده لعذابهم به، لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ونحوها {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُون} [النمل: 81]، وقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} [يس: 10].
ولذلك قد يخصُّون بالأمر في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] وهو كثير، بل قد يستثنى الكافر من المؤمن المأمور حيث يراد بالأمر وقوع (3) المأمور به، ونجاة الممتثل له، كقوله
__________
(1) 2/ 422.
(2) في (ش): يكن.
(3) ساقطة من (ش).(5/377)
تعالى: {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُم} [هود: 81].
وقد يريد الله تعالى بالأمر الوجهين معاً بدليل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْه} [البقرة: 143]، وقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وقوله تعالى: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
فهذه الآيات وأمثالُها مما يكثر إيراده شاهدةٌ على أن أمر من عَلِمَ الآمر أنه يُعصى غير ملازم لإرادة امتثاله (1) مع ما يدركُه العقل من ذلك، وهذان النوعان واردان في الشرع وروداً كثيراً، ولا يمنع العقل من ورودهما، ولكنهما نادران في عاداتِ الناس، إذْ كانت العادات جارية بأن الأمر قرينة تدل على حاجة الآمر إلى مطلوبه، وذلك دليل على إرادتِه ما أمر، ولما قَلَّ في العادة الأمر من غير إرادة غفل عنه المعتزلي وظنه محالاً، وليس بمحال، وإنما المحال ما جوَّزه المعتزلي من إرادة حصول ما جَزَم الآمر، وعلم أنه لا يحصُلُ أبداً، ولذلك جاء على أبلغ صيغ الإنكار في قوله عز وجل: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 88]. فلم ينكر هذه الإرادة لِقُبح ما تعلَّقت به وهو الهُدى، لأنه حسن قطعاً، وإنما أنكرها لتعلُّقها بما علم أنه لا يقع، ولذلك خصَّ ذوي الألباب بإرادة التذكر في قوله: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَاب} [إبراهيم: 52].
وأمثالها كثيرة كقوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون} [النحل: 64].
وقوله عز وجل: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين} [النحل: 89].
__________
(1) تحرفت في (أ) إلى أمثاله.(5/378)
وقوله سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 102].
ولو كان ذلك الذي زعموه ممكناً، لأمكن من أحدنا أن يريد من الله تعالى أن يفعل له ما يعلم أنه لا يفعله من أن يرفعه إلى السماء، أو يُحيي له من مات من أهله، أو يرُدَّ له أيام الشباب بعد الهرم. فذلك ممكنٌ مقدور لله تعالى، وإنما استحالتْ إرادة ذلك من العقلاء لعلمهم أنه لا يقع، ولأمكنت إرادة القبيح والمضارِّ التي لا داعي إليها، كنكاح الأمهات وقتلها.
ولما قَبُحَ عند الخصوم إعلام المُكَلف بأنه من أهل النار، وقد قبَّحوا ذلك، بل قَبَّحوا الإعلام بصغار (1) الذنوب مع بقاء الداعي إلى تركها، وهو استحقاق الثواب عليه، والصارِف (2) عن فعلها، وهو فواتُ الثواب بسببه.
وأما ما نجدُ من شهوةِ ما لا يكون وتمنيه (3)، فليس من الإرادة في شيء، وقد يُعَبِّرُ عن تلك الشهوة بالإرادة، كقوله تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا} [السجدة: 20] وليس من قبيل الإرادة الاختيارية، لأنهم غير قادرين على إرادة البقاء في النار، على أن علمهم حين (4) أرادوا ذلك بعدم (5) وقوعه ممنوعٌ بدليل سؤالهم ذلك في قولهم: {ربَّنا أخْرِجْنا مِنْها} [المؤمنون: 107] وقولهم: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّك} [الزخرف: 77] وذلك واضح.
وذكر بعض أهل السنة أشياء في الاستدلال على أن الأمر قد يفارق الإرادة وهذا الذي ذكرته أصحُّ، ولا يخلو ما ذكروه من نظر من ذلك الدعاء في صلاة الاستسقاء حيث لا يُسقَون، وشفاء المرضى حيث لا يُشْفَون، وببقاءِ الأنبياء والأولياء، وطلب طول أعمارهم.
__________
(1) في (ش): بصغائر.
(2) في (ش): فالصارف.
(3) في (ش): وتمكينه.
(4) في (ش): حيث.
(5) في (ش): لعدم.(5/379)
ويشبهه من وجه الأمر بقتل كثير من الحيوان الذي أراد الله حياته (1) كالفواسق الخمس والوَزَغ، بل كالكفار، والأمر بقتلها وطلبها (2) في جميع الأوقات، وذلك عند المعتزلة يستلزم أن الله تعالى مريدٌ لِقتلها، ومريدُ قتلِ الحي لا يريد حياته، وإنما يَصِحُّ ذلك باعتبار الجهات المختلفة عندهم.
وكذلك يقول أهل السنة في مسألة الإرادة، وفي متعلقاتها، فيلزمها الموافقة في أحد الموضعين.
ومنه إرادة التعجيز كقوله: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء: 50].
ومنه ما رُوي عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مَنْ تحلَّم بحُلمٍ لم يَرَهُ كُلِّفَ أن يعقِدَ بينَ شعيرتين ولن يَفْعَلَ " (3) خرجه البخاري.
وخرج الترمذي (4) من حديث علي رضي الله عنه نحوَه.
وفي أحاديث المُصَوِّرين أنه يُقالُ لهم يوم القيامة: " أحْيُوا ما خَلَقْتُم " (5) وهي
__________
(1) قوله: " الذي أراد الله حياته " ساقط من (أ).
(2) في (أ): وطلبه.
(3) أخرجه أحمد 1/ 216 و246 و359، والبخاري (7042)، والترمذي (2283)، وأبو داود (5024)، وابن ماجه (3916).
(4) برقم (2281) و (2282).
(5) أخرجه من حديث عائشة: مالك في " الموطأ " 2/ 966، والطيالسي (1425)، وأحمد 6/ 70 و80 و223 و246، والبخاري (2105) و (3224) و (5181) و (5957) و (5961) و (7557)، ومسلم (2107)، والنسائي 8/ 215 - 216، وابن ماجه (2151)، والطحاوي 4/ 282 - 283 و284، وابن حبان (5845)، والبيهقي 7/ 266 - 267 و267 و270.
وأخرجه من حديث ابن عمر: أحمد 2/ 4 و20 و26 و55 و101 و125 - 126 و139 و141، والبخاري (5951) و (7558)، ومسلم (2108)، والنسائي 8/ 215. =(5/380)
شهيرةٌ صِحاحٌ، ويأتي ذكرُها في الكلام على تنزيه أهل السنة من القول بتكليف ما لا يُطاق.
قال الشهرستاني: ثم يقولُ مَنْ رأي أن الآمر بالشيء لا يكون مُريداً له من حيث إنه مأمور به فقط، سواء كان المأمور به طاعة وقد عَلِمَ الآمر حصولها، أو كان الأمر بخلاف ذلك، فإن جهة المأمور به هو كسبُ المأمور، وسيأتي أن ذلك أخص أوصاف الفعل، سُمِّي به العبد عابداً، ومُصلياً، وصائماً وأمثال ذلك.
والفعل من هذا الوجه لا يُنسبُ إلى الباري تعالى، فلا يكون مُريداً له من هذا الوجه، بل يُنسب إليه من حيثُ التجدد والتخصيص، وما لم يكن الفعلُ فعلاً (1) للمريد لا يكونُ مراداً، فما كان من جهة العبد الذي سمَّيناه كسباً وقع على وفق العلم، والأمر كان مُراداً مرضياً، أعني مراداً بالتجدد والتخصص (2) الذي هو أثرُ قدرة الله تعالى مرضيّاً بالثناء والثواب والجزاء.
وما وقع على وَفْقِ العلم وخلاف الأمر كان مُراداً غير مرضي، أعني مُراداً بالتجدد، وغير مرضي بالذمِّ والعقاب، وهذا هو سر هذه المسألة، ومن اطَّلَع عليه، استهان بتهويلات القدرية، وتمويهاتِ الجبرية.
قلت: هذا كلامٌ صحيح المعاني، قويُّ المباني، وإنما يتجلَّى بمعرفة مذهبهم في خلق الأفعال، وتمييز ما هو أثر قدرة الرب عما هو أثر قدرة العبد، فمن أراد تحقيق هذا، جمع إلى النظر فيه أمرين:
أحدهما: النظر في مسألة الأفعال كما يأتي في المرتبة الخامسة.
وثانيهما: النظر في امتناع تعلق الإرادة بفعل غير المريد، وهو صحيح،
__________
= وأخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 380.
(1) من قوله: " فلا يكون " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): التخصيص.(5/381)
ولا بمشيئة، لأن المحبة تعلَّق بفعل الغير، ويلتبس الفرق بين المحبة والإرادة على من لم يتأمل، وكثيراً ما يُسَمَّى أحدهما باسم الآخر مجازاً.
ومن الدليل على أن الإرادة لا تعلق بفعل الغير أن العزم والنية لا يتعلقان به مع أنهما من أنواع الإرادة، وفي هذا بيان غلطِ من صَحَّح إطلاق محبة الله تعالى ورضاه (1) على المعاصي المراد وقوعها مجازاً واهماً أنه لا فرق بين المحبة والإرادة كما نقله الجُويني (2) عن بعض مُتكلمي الأشعرية وقوَّاه هو، نقله عنه النواوي وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ومن الفروق: بين المحبة والإرادة غير (3) ما مضى أن المحبة غير اختيارية، والإرادة اختيارية، وأن المحبة لا تعلق بالمكروه في الطبيعة كشرب الأدوية الكريهة، وقطع العضو الفاسد، والقَوَدِ في توبة القاتل بخلاف الإرادة، وأن المحبة قد تعلق بما لا يتمكن وما يعلم أنه مُحالٌ كعود أيام الشباب، وإنما ما كان لم يكن بخلاف الإرادة.
وبعدُ فإن ذلك مجمعٌ عليه ضروري في الشاهد، وإنما وقع الاختلاف في حقِّ الله تعالى كما تقدم في الصفات، فخُذْه من هناك.
قال الشهرستاني: فعلى هذه القاعدة لم يكن الباري تعالى مُريداً للمعاصي والقبائح والشرور من حيث إنها معاصي وقبائح وشرور، ولا مريداً للخيرات والطاعات والمحاسن من حيث إنها كذلك، بل هو مريدٌ لكل ما تجدَّدَ وحدث في العالم من حيث إنها متخصصة بالوجود دون العدم، ومتقدرة بأقدارٍ دون أقدار، ومتوقتة بأوقات دون أوقات، ثم إن ذلك الموجود قد يقع منتسباً إلى استطاعة العبد كسباً على وفق الأمر فيُسمى طاعة مرضية، أي: مقبولة بالثناء
__________
(1) من قوله: " والنية " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في " الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد " ص 238 فما بعدها.
(3) ساقطة من (أ).(5/382)
ناجزاً، والثوابِ آجلا، وقد يقع على خلاف الأمر، فيسمى معصية، غير مرضية، أي مردودة بالذم ناجزاً والعقاب آجلاً. فالأفعال كلها من حيث تخصصها وتجدُّدها مُرادة لله تعالى كلها، وهي متوجهة إلى نظام في الوجود، وصلاح (1) للعالم وذلك هو الخير المحض.
قلت: ويحسنُ أن يحتج هؤلاء على مذهبهم هذا بما خرجه مسلم في " الصحيح " من حديث علي رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في التوجه في الصلاة: " الخير في يديك، والشرُّ ليس إليك " (2). فيزول الإشكال عن معنى الحديث.
وفي قوله: وهي متوجهةٌ إلى نظام في الوجود، وصلاحٍ للعالم، وذلك هو الخير المحض إشارة إلى مثل كلام الغزالي، وابن تيمية ومن تابعهما في أن الشر لا يراد لنفسه، وإن كان الشهرستاني مُظهراً لموافقة الأشعرية في نفي الحكم، فهذه الإشارة تُنافي ذلك، ولعلَّها معتقده والله أعلم.
ويحتمل أن مراده ما سيأتي من أن فعل الله خيرٌ، لكنه لم يفعله لأنه خير، وسيأتي تعليله لذلك والرد.
__________
(1) في (ش): وإصلاح.
(2) أخرجه الطيالسي (152)، والشافعي في " المسند " 1/ 74 و77، وعبد الرزاق (2567) و (5903)، وأحمد 1/ 94 و102 و103، وابن أبي شيبة 1/ 232، ومسلم (771)، وأبو داود (760) و (761)، والترمذي (266) و (3421) و (3422) و (3423)، والنسائي 2/ 129 و130، والدارمي 2/ 282، وابن الجارود (179)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/ 199 و239، وفي " شرح مشكل الآثار " 1/ 488، وابن خزيمة في " صحيحه " (462) و (463) و (464) و (743)، وأبو عوانة 1/ 100 و101 و 102، وابن حبان (1771) و (1772) و (1773) و (1774)، والدارقطني 1/ 296 و 297 - 298، والبيهقي 2/ 32 و33 و74، والبغوي (572).
وانظر لزاماً الباب الحادي والعشرين في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر، من كتاب " شفاء العليل " للعلامة ابن قيم الجوزية ص 178 - 185.(5/383)
قال: وكلُّ ما ورد في القرآن من إرادة الخير المتعلِّق بأفعال العباد، فهو محمولٌ على أحد معنيين: إما ثناءٌ ومدحٌ في الحال، وإما ثوابٌ ونعمة في المآل، وإلا فالإرادة الأزلية لا تتعلَّقُ إلاَّ بما هو متجدِّدٌ من حيثُ هو كذلك، ولا متجدِّد إلاَّ وهو فعلُ الله تعالى من حيث هو كذلك، وذلك لا يُنْسَبُ إلى العبد كما بينا في (1) خلق الأفعال.
واختصت الإرادة بأفعال الله تعالى على الحقيقة دون الوجوه التي لا تُنْسَبُ إلى الحق سبحانه، فلم يجب تلازم الأمر والإرادة إلى قوله: وأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27] ونحوها محمولٌ على كلمةٍ ذكرها الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنه، فقال: إن الله تعالى إذا أراد بنا، وأراد منا، فما أراد بنا، أظهره لنا، وما أراده منا طواه عنا، فما لنا لا نشتغل بما أراده منا عما أراده بنا.
ومعنى ذلك أنه أراد بنا ما أمرنا به، وأرادَ منا ما عَلِمَه، فكانت الإرادة واحدة، يختلف حكمها باختلاف وجه تعلقها بالمراد، وهي إذا تعلقت بثوابٍ سُميت رضا ومحبةً، وإدا تعلقت بعقاب سُميت سُخْطاً وغضباً.
كذلك إذا تعلقت بالمراد على وجه تعلُّق العلم، قيل: أراد منا ما عَلِمَ، وإذا تعلقت بالمراد على وجهِ تعلق الأمر، قيل: أراد به ما أمر، وإذا تعلقت بالصنع مُطلقاً بتخصيص وتعيين من غير التفات إلى كسب العبد حتى يكون أراد منه، أو أراد به، قيل: أراد الكائنات بأسرها، ولم يقل: أراد منها ولا بها، بل أرادها على ما هي عليه من التخصيص بالوجود دون العدم.
فإذاً فأفعال العباد من حيث إنها أفعالهم إما أن يقال: تعلق الإرادة بها على الوجه الذي انتسب إلى العباد، بل على الوجه الذي انتسب إلى الخالق إيجاداً
__________
(1) (فراش): سيأتي.
(2) ساقطة من (ش).(5/384)
أو (1) تخصيصاً.
وإما أن يقال: تعلقت الإرادة بها على الوجهين المذكورين بأنه أراد بنا أو أراد منا، أراد بنا ما أمرنا به ديناً وشرعاً واعتقاداً ومذهباً، وأراد منا ما علم سابقة، وعاقبة وفاتحة وخاتمة. انتهى.
فصل: وأقول: إن السابق إلى الأفهام غير ما ذكره، وهو أن يكون قوله: " أراد منه " يطلق على ما وافق الأمر من الإرادة.
وقولُنا: " أراد به " لما وافق العلم، ويدل عليه أن الإرادة قسمان: قسم بمعنى الطلب من الغير، وقسم ليس بمعنى الطلب.
والقسم الأول نوعان:
الأول: معنوية حقيقية، وهي التي يكون معها الرضا والطلب، وهي إرادةُ الطاعة ممن علم الله تعالى امتثاله للأمر (2)، وهذه تُسمى إرادةً في الحقائق الثلاث: اللغوية والعرفية والشرعية. قال الزمخشري في أوائل " الكشاف " (3) في الإرادة اللغوية: هي مصدر أردتُ الشيء إذا طلبته نفسك، ومال إليه قلبك، وفي حدود المتكلمين معنى يوجب (4) للحي حالاً لأجلها وقع منه الفعل على وجهٍ دون وجه.
والنوع الثاني: الإرادة اللفظية، وهي إرادة ما يطلبه الله بالأمر ويرضاه ويحبه ممن علم أنه لا يمتثل الأمر (5) فهذه يطلق عليها اسم الإرادة لفظاً، وليست إرادة في الحقيقية، لكن محبة المطلوب والحكمة فيه الحاملة على الطلب تسمى إرادة ومشيئة.
__________
(1) في (أ): و.
(2) ليست في (ش).
(3) 1/ 266.
(4) في (ش): يورث.
(5) ساقطة من (ش).(5/385)
وهذه التسمية إما حقيقةٌ عُرفية أو مجاز شائع كثير سبق بأدنى قرينةٍ إلى الفهم، وأول كل حقيقة عرفية (1) مجاز كذلك، وهو كثير، ومنه قول الشاعر، وهو قيسُ بن الخطيم الأوسي، والبيت في الحماسة في أبيات له:
يريدُ المرءُ أن يُعْطَى مُناه ... ويَأْبَى الله إلاَّ ما يشاء (2)
فالإرادة في هذا البيت بمعنى المحبة من غير شكٍّ، لأنها تعلَّقت بما ليس من فعله، ولا يقدر عليه، ولأنها لم تُعَلَّقْ بتخصيص الحادث المتجدد بوقتٍ دون وقتٍ، ولا قدرٍ دون قدر، ولا وجهٍ دون وجه، وذلك لازمٌ للإرادة الحقيقية في اللغة.
وهذان القسمان من الإرادة مُلازمان للطلب والمحبة، وقد يعبر عنهما معاً، وعن المحبة وحدها بالإرادة حقيقةً عُرفية أو مجازاً.
فمن هنا كانت الإرادة والمحبة تُعديان هنا بحرف " من " دون " الباء " وذلك لأن الطلب يعدى بمن التي لابتداء الغاية، تقول: طلبتُ من الله تعالى، كما تقولُ: سألت منه، وأردتُ منه، قال الله تعالى: {ما أُريدُ منهم مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57] فعداها بمن لأنها بمعنى ما أطلب منهم.
والعجب ممن يقول: إن الله تعالى يريد المعاصي من العصاة، ثم يقول:
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) هو في " ديوانه " ص 96، و" الحماسة " بشرح المرزوقي 1187، و" خزانة الأدب " 7/ 36، و" زهر الأكم في الأمثال والحكم " 1/ 159.
وقيس بن الخطيم: هو ابن عدي بن عمرو الأوسي أبو يزيد، شاعر الأوس، وأحد صناديدها في الجاهلية، عرض عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام وهو في مكة، فاستنظره قيس حثى يَقْدَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ولنكايته في الخزرج في حربها مع الأوس تواعدوا على قتله بعد أن هدأت الحرب، فقتل على كفره قبل قدوم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة. انظر " الأغاني " 3/ 1 - 26، و" الخزانة " 7/ 37.(5/386)
إن معاصي العصاة من الله، ويعترفُ ببطلان الجبر مع ذلك، وهذه مناقضات واضحة، وخطأ في العبارة ممن ينفي الجبر.
وإنما يقال: إن المعاصي من العبد صادرة باختياره مع تقديرٍ من الله سابقٍ، وتمكينٍ للعبد لاحقٍ كما سيأتي بيانه في آخر مسألة الأفعال، ونقلُ نصوص الكتاب والسنة والصحابة والسلف على ذلك.
القسم الثاني: ما لم يكن يعني (1) الطلب من الغير، ولا يحسُنُ تقدير الطلب في هذا القسم مع الإرادة، ولا يعبر بأحدهما عن الآخر حقيقة ولا مجازاً، وذلك حيث يكون أحد مفعولي الإرادة كالعلة في مفعولها الآخر تتعدى (2) بالباء وباللام على حسب المواقع اللائقة بذلك في اللغة.
كقوله تعالى: {ماذا أرادَ الله بهذا مثلاً} [البقرة: 26] وقوله تعالى: {وإذا أرادَ الله بقومٍ سُوءاً فلا مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ يُرِدِ الله به خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّين " (3). حديث صحيح شهير من غير طريق.
وروى الطبراني من حديث أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنَّ هذه الأخلاق من الله، فمن أراد الله به خيراً مَنَحَه خُلُقاً حَسَناً، ومن أراد الله به سوءاً منحَه خُلُقاً سيئاً ". أخرجه الهيثمي في باب حسن الخلق من " مجمع الزوائد " (4) وفي سنده مسلمة بن علي.
__________
(1) في (ش): بمعنى.
(2) في (ش): فيعدى.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 313 - 314.
(4) 8/ 20 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه مسلمة بن علي، وهو ضعيف. قلت: قال أبو حاتم: لا يشتغل به، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة.
وفي الباب عن عائشة أورده السيوطي في " الجامع الكبير " 1/ 282، ونسبه إلى العسكري في " الأمثال ".(5/387)
فمفعولُ الإرادة الأوَّل في الآية هو " ماذا " على أنها اسمٌ واحدٌ، ومفعولها الثاني المشار إليه بلفظ " هذا " في الآية، وتفسير " ماذا " هو العلة والحكمة في إنزاله، وذلك هو ما بينه الله تعالى جواباً عليهم بقوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِين} [البقرة: 26]، ومفعولها الأول في الحديث هو الخيرُ المسبَّب عن التفقيه، ومفعولُها الثاني هو الفقهُ في الدين.
وتلخيصُ ذلك أن الإرادة تُعَدَّى إلى مفعولٍ واحد بنفسها من غير حرف، وهو المتجددُ المتخصص الذي يجبُ أن يكون (1) فعلاً للمريد، وقد يُعَدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ، فلا يجب أن يكون فعلاً للمريد، وإن جاز أن يكون فعلاً له في بعض الصور. وهذا القسم ينقسم:
فحين يكون المفعول الأول مطلوباً بالأمر من الثاني تعدى الإرادة إلى الثاني بمن كما يتعدى الطلب بها كما مرَّ مثاله.
وحين يكون المفعول الثاني هو العلة في إرادة المفعول الأول يكون الثاني كالمفعول لأجله، وتعدَّى الإرادة إليه (2) تارة بالباء الموحدة، كقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من يُرد الله به خيراً يفقهه في الدين ". ومرةً باللام كقولك: أردت الخير لزيدٍ، ولذلك قال أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: لا يقال شاء للعباد، فيكون شبه اختيار، ولكن يُقال (3) شاء أن يَعْصوه. وقد تقدَّم سنده عنه عليه السلام.
فعلى هذا لا تُعَلَّق إرادة الله بفعل العبد حَسَناً كان أو قبيحاً حيث يقول: أراد به أو له (4) ثواباً أو عقاباً، لأن مفعولها الأول هو الثواب أو العقاب على جهة الجزاء، وهو فعل الله تعالى ومفعولها الثاني هو العبد المستحق لذلك، والعلة في ذلك هي الحكمة، إما الاستحقاق وحده أو مع غيره.
__________
(1) هنا في (ش) زيادة: " فيه ".
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (أ).
(4) ساقطة من (ش).(5/388)
وعلى هذا التفصيل يجوز أن يُحمل قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على المعنى الذي تُعدَّى فيه الإرادة بحرف " من " لأنه لا يتعلَّقُ بأفعال العباد من أقسامها غيره.
وهو حيث يكون بمعنى الطلب بالأمر فيكون المعنى لإرادة أن يعبدوني، لأن الإرادة هنا بمعنى المحبة والرضا المصاحبين للأمر، ويكون تسمية المحبة إرادةً حقيقة عرفية أو لغوية كما تقرَّر ذلك من تفسير الزمخشري لها، ودلالة بيت قيس بن الخَطِيم عليه، وهو عربي حُجَّة. وقد تقدم، أو مجازاً كثيراً قريباً يحسن مع أدنى قرينة.
وقد بيَّنَّا أن المحبة عند أهل السنة تلازم الأمر، وتسمى إرادةً، ولا يجب أن تقع من متعلقها ما لم يُرِدِ الله وقوعه لبعض الحِكَمِ التي يستأثر الله بعلمها، ويأتي بيان بعضها.
فجاز على أصول أهل السنة، وصحَّ أن يكون التقدير ما خلقتهم إلاَّ لإرادة أن يعبدوني، أي: محبته لهم، لأنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر، ولا يحبه مطلقاً كما تقدم، ولا يُريده لهم ديناً وشرعاً يتقرَّبون به إليه عز وجل.
والعجب من المعتزلة أنهم يُنكرون على أهل السنة تأويلهم هذه الآية على إرادةِ الأمر، ولا يُنكرون على نُفاة الإرادة منهم تأويلها بالأمر، بل كل إرادة من الله تعالى تُعَلَّقُ (1) بأفعال العباد عند البغدادية منهم، فإن معناها الأمر من غيرِ إرادةٍ ألبتة لا للآمرِ، ولا للمأمور به.
وأما من لا يُجيز المحبة على الله من الأشعرية، فإنَّه يتأوَّل الإرادة في هذه الآية بالأمر مثل ما تأولها بذلك بعض المعتزلة مطلقاً، فيكون المعنى عندهم: ما خلقت الجن والإنس إلاَّ لطلب أن يعبُدوني، لأنَّ " لام كي " تُستعمل للطلب كما تستعمل للغرض.
__________
(1) ساقطة من (أ).(5/389)
وكذلك تقدير الطلب والمحبة والرضا يُمكنُ مع كُلِّ ما تُقدِّرُ المعتزلة فيه الإرادة، أو تستدلُّ به عليها مثل " لعل " في قوله تعالى في حق فرعون: {لَعَلَّه يتذكَّر أو يَخْشى} [طه: 44] وغير ذلك.
فهذا من أنْفَسِ ما يعرفه السنيُّ مع أنه يُمْكِنُ أن يكون قد حصل لفرعون ما يُطلق عليه اسم التذكُّر أو الخشية، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113] فإنه جعل حدوث الذكر من غير تقوى مقصوداً مستقلاً.
وقيل: إنّ " لعلَّ " هنا للتقريب أيضاً، وإنه أحدُ معانيها اللغوية، ويجوز أن تكون الآية الشريفة - وهي قوله تعالى. {إلاَّ لِيَعْبُدونِ} محمولةً على الإرادة الحقيقية العُرفية على مذاهب أهل السنة على أحد وجوه.
الوجه الأول: أن يكون خلق الجميع ليعبده العابدون منهم، وليس في هذا إلا تخصيصُ الضمير الذي في " يعبدون " والموجب لتخصيصه أنواع:
منها: ما يأتي من آيات المشيئة نحو: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أنْ يَستقيمَ} [التكوير: 28]، {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاء الله} [الإنسان: 30].
ومنها: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عملاً} [الملك: 2].
ومنها: {وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ لِيُطاعَ بإذن الله} [النساء: 64].
ومنها: المفعول لامتناع إرادة وقوع ما عَلِمَ المريد أنه لا يقع، وسيأتي تقرير ذلك كله على التفصيل إن شاء الله تعالى.
ولا بد من تخصيص الضمير على مذهب المعتزلة خصوصاً في الأعيان والأزمان.
أما الأعيان: فلخروج الصِّبيان والمجانين.(5/390)
وأما الأزمان: فلخروج أكثرها وهو ما بعد الموت.
وهذا الوجه أيضاً هو قول البغدادية منهم، وتلخيصه: أن الله تعالى خلق الكافر لما عَلِمَ في خلقه من حصول عبادة المؤمن، واللُّطفِ له، لأنهم لو عَلِمُوا أنه لا يخلق إلاَّ أهل الجنة، كان مفسدةً بينةً كما يأتي بيانه مُفصَّلاً في الدواعي.
فكأنه قال: ما خلقت الجميع إلاَّ لما في خلقِهم من حصول عبادتي من أهلها على أحسنِ الوجوه التي من أعظمها وأحبِّها إلى الله تعالى الجهاد، لأنه أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى. ولذلك خلق الأضداد: كالقلوب والنفوس، والعقول والشهوات، والملائكة والشياطين، والمسلمين والكافرين.
وأيضاً فإنه سبحانه في الجهاد يَمِيزُ الخبيث من الطيب كما صرح بذلك، ويُمَحِّصُ المؤمنين، ويتخذ منهم شهداء، وقد أنكر خلاف هذا على من طَمِعَ فيه، حيث قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وأشار إليه في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] على ما يأتي تقريره في مسألة الدواعي من أن المقصود ظهور الأحسن لا الأقبح، وإن وقع الأقبح، فليس هو المقصود الأول المعبَّر عنه بالمراد لذاته ولنفسه، وإنما هو المراد لغيره، وذلك الغير هو الأحسن كما أشارت إليه الآية الكريمة، ويأتي في ذلك حديث كُرْزِ بن علقمة (1) في منتهى الإسلام، وأن
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (20747)، والحميدي (574)، وأحمد 3/ 477، والبزار (3353) و (3354) و (3355)، والطبراني 19/ (442) و (443) و (444) و (445) و (446) من طرق عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن كرز بن علقمة الخزاعي قال: قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال: " أيُّما أهل بيتٍ -وقال في موضع آخر: قال: نعم، أيما أهل بيت- من العرب أو العجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام " قال: ثم مه؟ قال: ثم تقع الفتن كأنها الظُّلَلُ " قال: كلا والله إن شاء الله، قال: " بلى والذي نفسي بيده ثم تعودون فيها أساود صُبّاً يضرب بعضكم رقاب بعض ".
وقوله: " أساود صباً " قال ابن الأثير: والأسود أخبث الحيات وأعظمها وهو من الصفة =(5/391)
مُنتهاه الفتن تقع كأنها الظُّلَل مع محبة الله تعالى لأولئك المفتونين، وإرادته لهم الخير.
الوجه الثاني: أن يكون المراد وجود نوعٍ من العبادة إذ لم يقُم أحدٌ من المسلمين، ولا من الصالحين بجميع حقوقها على ما يجبُ وينبغي على الدوام، وقد ثبت أن قول: لا إله إلاَّ الله أفضلُ العملِ كما في " الصحيح " (1).
__________
= الغالبة حتى استعمل استعمال الأسماء. وجُمع جمعها.
والصُّب: جمع صبوب على أن أصله صُبُب، كرسول ورُسُل، ثم خفف كرُسْل، فأدغم وهو غريب من حيث الإدغام. قال النضر: إن الأسود إذا أراد أن ينهش ارتفع، ثم انصب على الملدوغ.
وأخرجه أحمد 3/ 477، وابن الأثير في " أسد الغابة " 4/ 469 من طريقين عن الأوزاعي، حدثنا عبد الواحد بن قيس، حدثنا عروة، حدثنا كرز بن علقمة الخزاعي قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - أعرابي، فقال: يا رسول الله، هل لهذا الأمر من منتهى؟ قال: نعم، فمن أراد الله به خيراً من عرب، أو عجم أدخله عليه، ثم تقع فتن كالظلل يضرب بعضكم رقاب بعض، فأفضل الناس يومئذٍ معتزل في شعب من الشعاب، يتقي ربه، ويدع الناس من شره.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 305 وفال: رواه أحمد والبزار والطبراني بأسانيد، وأحدها رجاله رجال الصحيح.
(1) أخرج الترمذي (3383). والنسائي في " اليوم والليلة " (831)، وابن ماجه (3800)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 105، وفي " شعب الأيمان " 2/ 1/128، والبغوي (1269)، والخرائطي في " فضيلة الشكر " ص 35 من حديث جابر رفعه: " أفضل الذكر لا إله إلاَّ الله، وأفضل الدعاء الحمد لله "، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (846)، والحاكم 1/ 498 و503.
وأخرج مالك 1/ 422 عن طلحة بن عُبيد الله بن كريز أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي، لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له " وسنده صحيح، لكنه مرسل.
ويتأيد بما أخرجه الترمذي (3585) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره ... وسنده حسن في الشواهد. =(5/392)
وقد ثبت أن الجميع قالوها يوم أخرجهم الرب تعالى على صور الذَّرِّ من صلب آدمَ في النشأة الأولى، كما ذكره ابن عبد البر في تفسير قوله تعالى: {ولَهُ أسلَمَ مَنْ في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً} [آل عمران: 83] كما يأتي ذكره في مسألة الأطفال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتِهُمْ (1) وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
وستأتي طرق ذلك في مسألة الأطفال، وجوابُ ما يَرِدُ عليه من الأسئلة، وهذا الوجه مأثورٌ كما يأتي، ويتقوَّى على مذهب ابن تيمية خصوصاً، ومن له من سلف وخلف كما هو مقرَّرٌ في موضعه.
الوجه الثالث: ما رُوي عن ابن عباس أن معنى الآية: ما خلقتُ الجن والإنسَ إلاَّ لِيَعْرِفُوني (2)، ويعضُده قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
__________
= وفي الباب عن أبي هريرة في " الموطأ " 1/ 209، والبخاري (6403)، ومسلم (2691) رفعه بلفظ: من قال: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مئة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مئة حسنة، ومحيت عنه مئة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه.
(1) هي قراءة نافع وابن عمر وأبي عمرو، وقرأ الباقون: " ذريتهم " انظر " حجة القراءات " ص 301 - 302.
(2) هذا التفسير نسبه البغوي في " معالم التنزيل " 4/ 235 إلى مجاهد، ونسبه ابن كثير في " تفسيره " 4/ 255 إلى ابن جريح، ولم يذكره أحد فيما وقفت عليه عن ابن عباس.(5/393)
وقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِين} [النحل: 39].
ولا شك أن هذا المقصود حاصلٌ للجميع ولو في الآخرة، وليس في هذا إلا تسمية المعرفة عبادة وهو قريب، ولو مجازاً، لأن العبادة مشتقةٌ من التعبيد الذي هو التذليل. ذكره في " الضياء "، يقال: عبَّدَه، أي: ذلَّلَه، وطريق معبَّد، أي: مذلَّل.
وقال الجوهري (1): التعبيد: التذليل، وأصل العبودية الخضوع والذل.
وقال البغوي (2): العبادة: الطاعة مع التذلل والخضوع.
ولا شك أن المعرفة لله تعالى سبب للذل له، ولذلك قال: {إنما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِه العُلماءُ} [فاطر: 28].
وفي حديث المعراج: " لمَّا انتهينا إلى السماء، رأيتُ جبريل عليه السلام كالحِلْسِ البالي، فعرفت فضلَ علمِه بالله على علمي " أو كما وَرَدَ (3).
__________
(1) في " الصحاح " 2/ 503.
(2) في " معالم التنزيل " 4/ 235.
(3) أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 78 من حديث جابر بلفظ " مررت ليلة أسريَ بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله "، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.
وفي الباب عن أنس عند المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (883)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/ 368 - 369، وفي سنده الحارث بن عبيد الإيادى، وهو ضعيف، يكتب حديثه للمتابعة، وهذا منها.
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (621) من طريق عروة بن مروان، حدثنا عُبيد الله بن عمرو، وموسى بن أيمن، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن جابر. وعروة بن مروان: روى عنه جمع، وقال الدارقطني: كان أمياً ليس بقوي الحديث، وأورده ابن أبي حاتم 6/ 398، فلم يذر فيه جرحاً ولا تعديلاً، ومن فوقه ثقات.(5/394)
ولأن السمع ورد بتعليل الأعمال بالإيمان، كما قال بعد آية الظِّهار: {ذلك لِتُؤمِنُوا بالله ورسوله} [المجادلة: 4]، وقال بعد ذكر الحجِّ أو بعض مناسكه نحو ذلك.
قالت المعتزلة: لا فرق بين الرضا والمحبة، والإرادة والمشيئة في حق الله تعالى، فيلزم من تجويز إرادته تعالى لوقوع المعاصي تجويزُ محبته لها، ورضاه بها، والنصوص تأباه وتمنعه، والعقل كذلك، وهذا أكثر ما حمل المعتزلة على تأويل آيات المشيئة.
والجواب: أن هذا غير لازمٍ على جميع المذاهب.
أما الأشعرية: فقد تقدم أنهم قد منعوا من تعلُّق إرادته تعالى بأفعال العباد خيرها وشرِّها، وقالوا: إنَّ محبته ورضاه لا تُعَلَّقُ إلاَّ بالطاعات، وإن معناهما هو الإرادة لا سوى، ومتعلقها فعله سبحانه الذي هو الثناء والثوابُ والأمر والوعد، وكراهته وغضبه وسخطه لا تعلق إلاَّ بالمعاصي، وهي ترجع إلى الإرادة أيضاً، ومتعلقها فعله سبحانه الذي هو الذم والعقاب والنهي والوعيد كما مر تقريره.
وقد يجيب من يجهل هذا التحقيق بأجوبة أخر، كما يأتي في كلام الجُويني (1)، والتعرض لذكرها يُطيلُ اللجاج، ويُوَسِّعُ دائرة الحجاج، وهذا أنفعُ الأجوبة وأقطعها، وأوجعها للخصوم وأنجعُها.
وقد مرَّت الحجة على امتناع تعلق الإراده بفعل الغير، وأن التي تُعَلَّقُ بذلك هي المحبة لا الإرادةُ.
والحجة على ذلك عقليةٌ جليةٌ، وليس في السمع ما يُعارضُها لأن مفعول المشيئة في الآيات محذوف، وتقديره. غير متعين، مثاله: قوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فيمكن
__________
(1) انظر " الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد " ص 237 فما بعدها.(5/395)
أن مفعولَ مشيئة الله تعالى هو ما فعل الله تعالى بالإجماع من أسباب مشيئتهم للاستقامة التي أقامها مقام مشيئة الاستقامة.
وتلك الأسباب هي المعبر عنها في العقليات بالدواعي الراجحة، وفي السمعيات تارةً بالقدر والقضاء والكتابة، ومرة بالتيسير وشرح الصدر والهداية، ومرة بالمشيئة والقصد والإرادة على تقدير حذف المضاف، وهو سبب مشيئة العباد.
فإن قيل: ولِمَ تعلَّقَتْ إرادة الله تعالى بأسباب المعاصي، وقد عَلِمَ أن المعاصي تقع عندها.
فالجواب: من وجهين:
أحدهما: أن هذا مشترك الإلزام (1)، لأن إرادة أسبابها كلمة إجماع من المسلمين، ولا يجب عند المحققين من جميع فرق المسلمين معرفة العباد لذلك على التفصيل، ويكفينا التصديق بأنه سبحانه حكيم عَدْلٌ، وكل ما يفعله أو يتركه على العموم، والإيمان في هذه المسألة خصوصاً بنحو قوله تعالى: {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْم} [الجاثية: 23] أي: باستحقاقه للإضلال.
وقد اختار الزمخشري (2) هذا الجواب على غُلُوِّه في الاعتزال في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
الوجه الثاني: من الجواب أنه يصح ويحسن في العقل والسمع أن يكون للشيء جهتان يحب بالنظر إلى أحدهما، ويُكرَهُ بالنظر إلى الآخر (3)، كما ذكرناه في اليمين الغموس.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في " الكشاف " 4/ 113.
(3) في (أ): الأخرى.(5/396)
وكما قاله العلماءُ في الصلاة في الدار المغصوبة، وهي من دقائق المسائل، وقد طَوَّلها الأصوليون وحقَّقُوها في كُتُبهم، فلا حاجة إلى التطويل بذكرها.
على أنا نجدُ الجزم بمحبة قتل كثير من كُبراء المشركين، وإن كان قاتلُه قَتَله سُمعةً ورياءً، وإن كُنَّا نكرهُ الرياء والسمعة.
ولا يختلف العلماء في صحة ذلك في المحبة والكراهةِ لعدم اتحاد متعلقهما، وإن اختلفوا في الصلاه في الدار المغصوبة، فإنما هو لاتحاد محلِّها ومحل المعصية عند من يقولُ بفسادها.
ألا ترى أن من يقول بذلك يُجيز محبة العاصي لخَصْلةِ خير مع حُسن كراهته عندهم، وعلى ذلك قال الله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46] وذلك لعارض، وإلا فإنه تعالى يحب الانبعاث مع رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك أمر به، ولكن على غير الوجه الذى اقترن به بانبعاث المنافقين.
وكذلك ما حكاه الله عزَّ وجل عن كليمه عليه السلام من قوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} [يونس: 88] مع أنه عليه السلام كان شديد الحرص على إيمانهم حتى استحَقُّوا عظيم العقوبة، فكره وقوع الإيمان منهم لما يستحقونه من العقوبة، لا لكون الإيمان حَسَناً في نفسه، مطلوباً لله تعالى.
ومن ذلك قوله: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيم} [الشعراء: 57 - 58] مع أن هذا الخروج كان من أقبحِ الذنوب المسخوطة، لأنه كان لأجل محاربة موسى وأصحابه، وبنيَّة قتلهم واستئصالهم، لكنه لما كان الله تعالى قدَّره في سابق علمه لإغراق فرعون وقومه نَسَبَه إلى نفسه الكريمة من هذه الجهة كما ينْسِبُ الأفعال المحبوبة إليه سبحانه وتعالى مع أنه منسوبٌ(5/397)
إلى فرعون وقومه من جهة نيتهم فيه واختيارهم له بذلك (1) السبب نسبة القبائح، كما قال تعالى: {فأتْبَعُوهُم مُشْرِقينَ} [الشعراء: 60].
ومنْ ذلك حديث الذي أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهلِ النار، وكان قد أبلى في الجهاد بلاءً حسناً فيما يرون، فارتاب بعض المسلمين، فقتل الرجلُ نفسه جزعاً من جراحٍ اشتدَّ به، فاشتدَّ بعض الصحابة، فبُشِّرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكبَّر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " أشهد أني رسول الله " (2) أو كما ورد.
وللحديث طرقٌ كثيرة وألفاظه مختلفة، وسيأتي في أحاديث القدر، فقد سُرَّ المسلمون ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله نفسه لما تضمنه من صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كراهتهم لذلك لكونه معصيةً.
فإن قلت: وما تلك الوجوه التي يجوز في العقل أن (3) يريدها الله تعالى بوقوع المعاصي؟
قلت: هذه العبارة في السؤال قبيحةٌ وغيرُ صحيحة كما مر تقريره، وسيأتي
__________
(1) في (ش): فتنهم واختيارهم بذلك.
(2) أخرجه البخاري (4203)، ومسلم (111) والبيهقي 8/ 97، والبغوي (2526) من حديث أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُنَيْناً فقال لرجل ممن يدعي بالإسلام: " هذا من أهل النار " فلما حضرنا القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحة، فقيل: يا رسول الله، الرجل الذي قلت له آنفاً: " إنه من أهل النار " فإنه قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إلى النار "، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هم على ذلك إذ قيل: إنه لم يمت، ولكن به جراحاً شديداً، فلما كان من الليل لم يصبرْ على الجراح فقتل نفسه، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: " الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسولُه " ثم أمر بلالاً فنادى في الناس، " إنه لا يدخل الجنة إلاَّ نفسٌ مسلمة، وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وأخرجه البخاري (4202)، ومسلم (112) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
(3) قوله: " ويجوز في العقل أن " ساقطة من (ش).(5/398)
بيانُ كثيرٍ من حكم الله في التخلية وعدم العصمة في المرتبة الثالثة في الدواعي مع ما استأثر الله تعالى بعلمه من التأويل الذي لا يعلمه إلاَّ هو ولا يحيطون بشيءٍ من علمه إلا بما شاء.
فإذا تقرَّر ذلك فينبغي أن يعلم عذر من جوَّز هذه العبارة، وتأمَّل ما عوَّلوا عليه من الفرق بين المعاصي أنفسها، وبين وقوعها على بعض الوجوه.
فأمَّا المعاصي فإن الله تعالى يكرهها بالنصِّ القرآني، ولا تُعَلَّقُ بها محبته ولا رضاه بوجهٍ من الوجوه كما لا يتعلق بها أمره ولا ثوابه، وسيأتي ذلك مبيناً.
وأما وقوعها على بعض الوجوه فيجوز أن تُعَلَّقَ بها كراهة الله تعالى وإرادته معاً باعتبار الجهتين، كما مر تقريره في اليمين الواجبة شرعاً على المُنكرِ لما هو حق عليه في معلوم الله تعالى، ويمينه على جحده قبيحة كبيرة، ومع ذلك يحسُنُ إرادتها لغير الوجه الذي قبحت لأجله وهي من أوضح أمثلة ذلك كما تقدم، وكما يأتي.
أما كراهته لذلك، فلقُبحه، وذلك واضح.
وأما إرادته، فلوجهٍ حسنٍ مثل ما تقدم في اليمين، ومثل عقوبة من اشتد غضبُ الله عليه، كما تقدم عن موسى عليه السلام، ومن أوضح الأمثلةِ في ذلك (1) يعرفها المُحَدِّث، ومن لا يُمارس الكلام أمران:
أحدهما: الفرق بين الحكاية والمحكي مثل قول النصارى: {إنَّ الله ثالثُ ثَلاثةٍ} [المائدة: 73] ونحو ذلك، فإن المحكي كفر (2) صريح بخلاف الحكاية، ولو كانت كفراً مثل المحكي لكَفَرَ كلُّ حاكٍ لذلك وأمثاله.
وثانيهما: التلاوة والمَتْلُو، فإنَّ تلاوة الجُنب للقرآن قبيحة والقرآنُ غير قبيح، فمن هنا فرَّق البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين بين التلاوة والمتلوِّ في
__________
(1) زاد في (ش) بعد " ذلك ": " التي ".(5/399)
الخَلْقِ والحدوث، وصنَّف البخاري في ذلك كتاب " أفعال العباد ".
وذكر البيهقي أن المخالف لهم في ذلك محمول على أنه لم يفهم مرادهم، لأن صحة مقصدهم بعد فهمه ضرورية والله أعلم.
ومنه قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأئمة العدل بالظاهر وإن خالفَ حكم الله الباطن لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعة من نار " متفق على صحته.
وهو يدلُّ على التفرقة بين القضاء الذي يجب الرضا به، والمقضى به الذي لا يحل بالقضاء.
وأما كراهة انبعاث المنافقين، فيحتمل أنه لأجل المفسدة ويحتمل أنه لأجل العقوبة، وقد يريد الله تعالى وقوع الذنب ليغفره كما صرَّحت به النصوص النبوية الصحيحة الشهيرة، وستأتي مبسوطة، وقد يريد الله لما يستأثر بعلمه من وجوه الحكمة.
فإذا تقرَّر هذا جاز أن الله تعالى أراد وقوع أسباب المعاصي لا أنه (1) تعالى أراد وقوع المعاصي لوجوهٍ حسنة، وليس في هذه أنه لا يكره وقوعَ المعاصي لوجوه قبيحة، بل هي مكروهة من كل وجه.
وأما وقوعها، فمكروه وجوباً من وجهٍ لا بُدَّ من كراهته من أجله، ويجوز من غير وجوب إرادته لوجه حسن، أو وجوه حسنة، فحيث طَبَّقَ أهل السنة إرادته من أجل ذلك ظن خصومُهم أن الوقوع غير مكروه من غير وجه، وأنه محبوبٌ من كل وجه، بل ظنوا أنه يلزمهم محبةً الواقع نفسه، والله لا يحبُّ الفساد، ولا يريد لماً للعباد كما قال سبحانه وتعالى.
واعلم أن هذا التحقيق لا يقف على أن الوجود هو الموجود، لأن المحبة
__________
(1) في (أ): " لأنه "، والمثبت من (ب) وهامش (أ).(5/400)
والكراهة يجوز خلقهما (1) بالأوصاف الإضافية غير الحقيقية، فإن الجميع من المتكلمين لم يقل أحدٌ منهم: إن وجوه الحسن والقبح التي هي متعلقاتُ هذه الأشياء صفاتٌ حقيقيةٌ، ولذلك تُعَلَّق المحبة والإرادة بعدم المضار، وبالتروك، وبنية الصوم وبنحو ذلك مما في بعضه خلاف دون بعض.
وهذا الجواب إنما هو على أصول أهل السنة، وأمَّا غلاة الأشعرية، فإنهم يُجيبون بجوابهم المعروف في نفي الحكم عن أفعال الله تعالى مُطلقاً، ونفي التحسين فيها عقلاً.
واعلم أن المعتزلة تُشَنِّع على أهل السنة بمخالفة السمع من نحو قوله تعالى: {والله لا يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] ومن العجب أنه لا يقرر هذه الآية وأمثالها على الظاهر من غير تأويل إلاَّ أهل السنة، ولا بُدَّ للمعتزلة وغيرهم من المبتدعة من تأويلها على بعض الوجوه.
بيانه أنا قدمنا أن أهل السنة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه من محبة الطاعات وأهلها دون سائر الفرق لما مر تقريره في الصفات.
فقوله تعالى: إنه لا يحب الفساد، لا يلائم مذهب المعتزلة إن مفهومه أن صفة المحبة جائزةٌ على الله تعالى، وإنَّما لم يُعَلَّق بالفساد لقبحه، ومفهومه أنه تعالى يُحب الصلاح والصالحين كما صرح به القرآن، لكن المعتزلة لا تجيز صفة المحبة على الله تعالى، ويقولون: إنها صفة نقصٍ، وإنه يجب تأويلها بالإرادة.
وكذلك قوله تعالى: {ولا يَرْضَى لِعبادِه الكُفْرَ} [الزمر: 7] متى كان الرضا بمعنى المحبة.
وأما قوله: {كُلُّ ذلك كان سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مكروهاً} [الإسراء: 38] فإن المعتزلة وافقت أهل السنة على تقرير الكراهة على ظاهرها، وهذا يُلزمهم
__________
(1) في (ش): تعلقهما.(5/401)
الموافقة على تقرير المحبة من غير تأويل.
وهم ظنوا أن المحبة تستلزم الشهوة، وأن الكراهة لا تستلزم النفرة، وهذا كلُّه تحكم، فإنهم إن رجعوا إلى قياس الخالق على المخلوقين، لَزِمَهم منعُ الكراهة لأنها في المخلوقين تستلزم النفرة بل منع الإرادة قول البغدادي منهم، لأنها في المخلوقين (1) تستلزم الحاجة وتلازمها، إذ لا يريد الملخوق شيئاً إلا لحاجته إليه في العاجل أو الآجل، بل منع صفات الكمال كلها من كونه تعالى عالماً قادراً حياً سميعاً بصيراً، لأنه لا يكون كذلك في الشاهد إلاَّ من كان جسماً مركباً من البنية المخصوصة، لا سيما صفة الحي عند المعتزلة، فإن شرط صحتها عندهم في الشاهد البنية المخصوصة.
وإن تركنا هذا القياس الفاسد على الشاهد، والخيال الناشىء عن العوائد، ورجعنا إلى ما نطق به الكتاب، ودلت عليه الألباب من مزية ربِّ الأرباب عن مشابهة من خلقه من التراب، وأقذار نُطَفِ الأرحام والأصلاب، سلَّمنا (2) لعلام الغيوب جل وعز ما وصف به نفسه الكريمة، وذاته القديمة، وعلمنا أنَّ محبته وإرادته وكراهته وسائر صفاته المنصوصة في أشرف كتبه وعلى ألسنة رسله عليهم الكلام ليست مثل صفاتنا، مثل ما أن ذاته تقدست أسماؤه ليست مثل ذواتنا، وقد تقدم تقريرُ ذلك في الصفات فلا نُطوِّل بإعادة الأدلة عليه.
وأما ما نقله النواوي في الوريقات التي سمَّاها كتاب " القواعد " عن الجويني (3) فإنه مع كونه خلافاً لفظياً كما سيأتي مخالف لمذهب أهل السنة قاطبة، ولمذهب المحققين من الأشعرية، وذلك أنه قال ما لفظه: مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته، وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله وقدره وهو مريدٌ لها، ويكرَهُ المعاصي مع أنه مريدٌ لها لحكمةٍ يعلمها سبحانه وتعالى.
__________
(1) من قوله: " تستلزم " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) في الأصلين: وسلمنا.
(3) في " الأرشاد " ص 237.(5/402)
وهل يقال: يرضى المعاصي ويُحبها؟
فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمامُ الحرمين وغيره.
قال إمام الحرمين في " الإرشاد " (1) مما اختلف أهل الحق في إطلاقه المحبة والرضا، وقال بعض أئمتنا: لا يطلق القول بأنَّ الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى: {ولا يَرْضى لعباده الكفر} [الزمر: 7].
قال: ومن حقَّق ما قال أئمتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل الله تعالى يريد الكفر ويُحبه ويرضاه، والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد، وقوله تعالى: {ولا يرضى لعباده الكفر} المراد العباد الموفقون للإيمان وأُضيفوا إلى الله تشريفاً لهم، كقوله تعالى: {عَيْناً يَشْربُ بها عبادُ الله} [الإنسان: 6] أي خواصهم لا كلهم. انتهى بحروفه.
وهو كلامٌ نازل جداً، بل باطلٌ قطعاً، وإنَّما وقع فيه الإمام الجويني مع جلالته في العلم لأمرين:
أحدهما: ما ذكره من أن معنى المحبة والإرادة والرضا عنده واحدٌ، وتعلقه إنما هو بأفعال الله تعالى كما مر تحقيقه، وأفعاله تعالى مرضية محبوبة مجازاً عنده، لأنه لا يُجيزهما على الله تعالى حقيقة.
وثانيهما: ما تقدم من تجويز تعلُّق محبة الله تعالى ورضاه بالوقوع دون الواقع، والوجود دون الموجود حقيقة عند أهل السنة ومجازاً عند الإمام الجويني كوجود الكافر، فإنه تعالى يحب وجوده وليس ذلك يستلزم أنه يحب وجود الذنب منه، ولا يستلزم ذلك محبة الذنب نفسه، ولا أنهما سواء.
وهذا بناء على تلازم الإرادة والمحبة، وهو بحثٌ نظري لم يرد به نص شرعي (2)، فينبغي من السني الأثري ترك هذه العبارات الكلامية، وعدمُ
__________
(1) ص 238 - 239 و250.
(2) في (ش): سمعي.(5/403)
اعتقادها، وإنما هي من محارات الأشعرية للمعتزلة.
والغرض بذكرها وأمثالها هنا بيان الوجه في ترك تكفير الخائضين في ذلك، وقبول الرواية من ثقاتهم، وإنما قطعنا ببطلان كلام الجويني، لأن الكفر هو متعلِّق الكراهة والسخط والغضب، فلا يصح أن يكون هو متعلق الرضا والمحبة، لأن هذه الألفاظ إما أن تكون حقيقةً أو مجازية، إن كانت حقيقية كما هو مذهب أهل الحديث والأثر، استحال اتحادُ متعلقها ضرورة، وإن كانت مجازية (1) استحال اتحادُ لوازمها وعلائقها.
أما لوازمها فإن الذم والعقاب يلازم الكراهة والسخط والغضب، والثناء والثواب يلازم المحبة والرضا كما حققه الشهرستاني أولاً، بل كما يشهد به المنقول والمعقول، ويستحيل تخلُّف الملزوم عن لازمه فيؤدى إلى اجتماع الذم والثناء، والثواب والعقاب من كل وجه.
وأما علائقها فإن علماء اللسان أجمعوا أنه لا يصح المجاز إلاَّ بعلاقة ظاهرة، فلا يصح تسمية الجبان أسداً بغير علاقة، ولا تسمية الأبخر أسداً بالعلاقة الخفية، لأن كل شيئين مشتركين في أمرٍ، وفي الشيئية لا يجوز أن يُسَمَّى أحدهما باسم الآخر لمثل هذا إجماعاًً.
فتسمية الطاعة المرادة مرضية محبوبة إنما صحَّ مجازاً، لأنها اشبهت الأمورَ المرضية المحبوبة في الثناء والثواب، وهذا الشبهُ الذي صح معه التجوز هنا لم يحصُل في المعصية، وإن قدرنا أنها مرادة فلا تسمى مرضية محبوبة.
وأما اشتراكهُما في أن كل واحد منهما يُسمى إرادة فلا يكفي في استعارة اسم كل منهما للأخرى، كما لا يكفي اشتراكُ العلم والإرادة في أنهما عرضان، يوضح ذلك أن اشتراكهما في اسم الإرادة لو كان يُصحح التجوز بكل منهما عن الآخر، لوجب أن يصح تسمية الطاعة مكروهة مسخوطة مجازاً
__________
(1) في (ش): وإن كان مجازياً.(5/404)
وحقيقة، ذلك أنها مرادةٌ لا سوى، فكما أن هذا يمتنع لفقد قرينة التجوُّز وهي النهي، وفقد ملزوم هذه الألفاظ وهو الذم والعقاب، فكذلك العكس.
وأوضح من هذا أنه يصح عند الأشعرية تسمية المؤمن محبوباً مجازاً يرجع في الحقيقة عندهم إلى الإرادة، ولا يصح أن يسمى مسخوطاً مجازاً، وعكسه الكافر يسمى مسخوطاً مجازاً، ولا يسمى محبوباً مجازاً مع أن هذه الألفاط كلها راجعة إلى الإرادة، ولكن تختلف أسماؤها لاختلاف معانيها ومتعلقاتها.
ولو صح تسمية الكفر محبوباً لله مرضيّاً مجازاً، لصحَّ تسمية الكفار أولياء الله وأحباءه مجازاً، لأنه أراد وجودهم لحكمة كما أراد وجود أسباب معاصيهم لحكمة.
وقد صح بالنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، وأنه أشدُّ فرحاً بها من العبد إذا وجد راحلته عليها متاعهُ وسِقاؤه بعد أن أضلَّها في أرض فلاةٍ، وأيس من وجدانها، وألقى نفسه ليموت، فبينا هو كذلك إذا أقبلت راحلته عليها متاعه وسقاؤه، فالله أشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك براحلته (1).
وبالإجماع يمتنع التجوز بمثل هذا في فرحه بمعصيته، وفرح الرب عز وجل هذا لا يدل على تقدم عجزٍ عن هداية العبد كما ظنته المعتزلة، ولا بد للمعتزلة من تأويله كما يتأولون الغضب والمحبة، وأهل السنة يثبتونه كما ورد من غير تشبيه، والعبد العاجز يفرح بحسنته، ولا يلزم من فرحه تقدم عجزه، فكيف يلزم ذلك من فرح القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري (6309)، ومسلم 27471) من حديث أنس بن مالك.
وأخرجه البخاري (6308)، ومسلم (2744)، والترمذي (2497) و (2498) من حديث ابن مسعود.
وأخرجه مسلم (2746) من حديث البراء بن عازب.(5/405)
وكما أن هذا يُفْحِمُ من ذهب إليه من الأشعرية، فإنه أيضاً يفحم المبتدعة من المعتزلة، فإنهم ذهبوا إلى تلازم الإرادة والمحبة، وإرادة الله تعالى متعلقة بالكفار وجوداً دون محبته، مع أن محبته عند المعتزلة ترجع إلى الإرادة أيضاً، ولكن مُتعلَّقها لا يصح إتحاده عندهم كما هو الصحيح عند الأشعرية.
فإيَّاك أيها السُّني والاغترار بكلام الجويني هذا، فإنه خلاف الكتاب والسنة والفطرة، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلاَّ من عصمه الله من الأنبياء والمرسلين.
على أن الإمام الجويني من أقرب الأشعرية إلى المعتزلة حتى عَدُّوه من الغُلاة في أثر قدرة العبد، فإنه جوَّز تأثيرها في إيجادِ الذوات، وزاد في ذلك على المعتزلة كما يأتي بيانه.
وما أحسن قول معاذ في سياق أثر عنه طويل: واتقِ زيغة الحكيم، قال الراوي: فقلت له: يرحمك الله وما زيغةُ الحكيم (1)؟ قال: هي التي يقال ما هذه ما هذه. خرجه أبو داود في آواخر كتاب السنن (2).؟
فإن قلت: هلا جوزت تسمية القبيح المقدر محبوباً من الوجه الذي قُدِّرَ لأجله، فإنه قدر لمصلحة راجحة ولم يكن تقديره عبثاً ولا سُدى، ولا يمنع من ذلك كونه مكروهاً لوجه قبحه لاختلاف الجهتين كما ذكرته في الوقوع، فلم منعته في الواقع ولو مجازاً مع ظهور العلاقة، وهي تقدير الحكيم له.
__________
(1) في (أ): وما حسن قول زيغة الحكيم.
(2) (4611) في السنة: باب لزوم السنة. وإسناده صحيح. ولفظه: ... فإياكم وما ابتدع، فإن ما ابتدع ضلالة، وأحذركم زيغة الحكيم، فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق. قال: قلت لمعاذ: ما يدريني -رحمك الله- أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة، وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال: بلى، اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات التي يقال لها: ما هذه ..(5/406)
قلت: لأن كلامنا إنما هو في تسميته محبوباً من فِعْلِ العبد وكسبه، وليس له من هذه الجهة وجهٌ يُرضى ويُحبُّ، لأنه قُدِّرَ مكروهاً.
وأما وجه حسن تقديره، فهو راجع إلى فعل الله، وفعله سبحانه محبوب مرضي حقيقة عند أهل السنة، ويستحيل تعلُّق الغضب به من حيث هو فعله.
وهذا هو الجواب على من قال: كيف قبحُ الذنب من المعاصي مع حسن تقديره من الله لحكمةٍ راجحة؟
ومن هذا الوجه يجب الرضا بالقضاء بالشرور، والقبائح مع كراهتها كما قاله الغزالي وغيره، وذلك مثل الرضا بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون المقضي به، حيث قال: " إن أحدكُم يكون ألحن بحجته فأقضي له، فمن قضيتُ له بمال أخيه، فإنما أقطع له قطعةً من النار " (1) أو كما ورد، وهو متفق على صحته.
والتمثيل به تقريبٌ لفهم البليد، وإلا فالبَوْنَ بين القضاءين بعيدٌ، فإن أراد ذلك الإمام الجويني فصحيح، ولا ينبغي أن يختلف فيه أهل الحق، لكن يختلفون في جواز إطلاقه لأنه يُوهم الخطأ، وهو كون المعاصي مرضية من جهة كسب العبد. فافهم ذلك.
فإن قلت: قد صدَّرت الجواب على المعتزلة بأن ما (2) ألزموه أهل السنة من كون المعاصي محبوبةً غير لازم على جميع أقوالهم، ثم حكيت عنهم الاختلاف في ذلك، ونسبته إلى إمامهم الجويني، وهذا تناقض!
قلت: لم يختلفوا في أنها محبوبة قطعاً، إنما اختلفوا في صحة إطلاق هذه العبارة مجازاً، وذلك يقتضي منع حقيقتها، فتأمل ذلك.
وقد أوضحت المنع من إطلاق ذلك مجازاً عند أهل السنة وجماهير أهل الكلام، ولله الحمد.
__________
(1) تقدم تخريجه في 2/ 291.
(2) ساقطة من (ش).(5/407)
قالت المعتزلة: إرادة القبيح قبيحة على كل وجهٍ، والله تعالى عندكم مريد للقبيح.
قلت: الدعوتان ممنوعتان معاً.
أما الدعوى الأولى: وهو أن إرادة القبيح قبيحة على كل وجهٍ فممنوعة.
بيانه: أنها ليست بقبيحة لذاتها، ولا لذات القبيح عند المعتزلة، لأنها لو قبحت لذاتها (1)، قبحت كل إرادة، وقبحت إرادة الحسن، ولو قبحت لذات القبيح، كان القبيح قبيحاً لذاته، ولو كان قبيحاً لذاته، قبح الحسنُ أيضاً، لأن ذات القبيح والحسن واحدة، وهي الحركة والسكون، بل المرجعُ بهما عند المعتزلة والأشعرية إلى مُجَرَّد لبث الجسم في الجهة، كما هو مقرَّرٌ في الكلام، وقد مر في ذمِّ الكلام.
فثبت أن قبح إرادة القبيح عند الخصوم أمرٌ عارض يجوز خلوها عنه، ويبدلها بعارض آخر يحسن معه.
ونظيره إرادة الحسن، فإنها حسنة لتعلُّقها بوجه حُسنه، ومتى عَرَضَ لها عارض يقتضي القبح، قبحت.
ولذلك أمثلة كثيرة، منها متفق عليه، ومنها مختلفٌ فيه، ومن أحسنها إرادة اليمين الواجبة شرعاً، وكراهتُها تجب من الوجه الذي قبحت منه عقلاً وشرعاً.
ولا يقال: إن هذه الصورة غير ما نحن فيه، لأن اليمين في هذه الصورة قد ورد الأمرُ بها، والمحبة بخلاف المعاصي، لأنا نقول: إذا جاز تعلق الأمر والنهي والمحبة والكراهة بأمرٍ واحد لاختلاف وجوهه وعوارضه ولوازمه، جاز تعلق الإرادة والكراهة بذلك وبأمثاله أولى وأحرى.
وكذلك الأمرُ باللعان.
__________
(1) في (ش): بذاتها.(5/408)
وكذلك قول موسى عليه السلام للسحرة: {ألْقُوا ما أنْتُم مُلْْقُونَ} [يونس: 80].
وكذلك ما ثبت في " الصحيح " من استحباب سؤال القتل في سبيل الله، وأن من سأل ذلك صادقاً، أُعطي فضل الشهادة (1).
وكذلك ثبت في " الصحيحين " من حديث عائشة (2)، وعُبادة (3) وأبي هريرة (4)، وأبي موسى (5) عنه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ كَرِهَ لقاء الله كَرِهَ الله لقاءه ".
وتفسير ذلك أن الكافر لا يموت حتى يعلم أنه من أهل النار، فيكره لقاء الله، فيكره الله لقاءه، والمؤمن لا يموت حتى يُبَشَّر بالجنة، فيحب الموت، فيحب الله لقاءه.
وفي ذلك أن الله تعالى قد يريد وقوع ما يكره لحكمة مثل لقاء الكافر، والنكتة العقلية في ذلك أن الله لما كان لا يريد الشر، فإن قدره، فلحكمةٍ هي خير، وهي المراد به كما قَدَّر القِصاص للحياة، واليمين الغموس لاستيفاء الحقوق.
فكان التحقيق أن المراد هو ذلك الخير، ولذلك لم يأتِ نصٌّ بأن شيئاً من
__________
(1) أخرجه مسلم (1908) من حديث أنس. ولفظه: " من طلب الشهادة صادقاً أُعطيها وإن لم تُصِبْه ".
(2) أخرجه مسلم (2684) و (2685)، والترمذي (1067)، والنسائي 4/ 10، وابن ماجه (4264)، وأحمد 6/ 44 و55 و207 و218 و236.
(3) أخرجه البخاري (6507)، ومسلم (2683)، والترمذي (1066)، والنسائي 4/ 10، والدارمي 2/ 312، وأحمد 5/ 316 و321.
(4) أخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 240، والبخاري (7504)، ومسلم (2685)، والنسائي 4/ 10، وأحمد 2/ 420.
(5) أخرجه البخاري (6508)، ومسلم (2685).(5/409)
الشرور مرادٌ لله، لأن المراد به غيره، ولأنه يوهم أنها إرادة طلب ورضا، وأنه مرادٌ لذاته.
ومن أهل السنة من تجاسر على تسميته مُراداً، وإن كان قبيحاً، وإن كان مُراداً لغيره، والأولى تركُ ذلك لإيهامه، ولعدم النصِّ فيه.
ومن أمثلته المجمع عليها عند الخصوم، جواز كراهة المعاقب لعقاب نفسه المستحق، لكونه مَضَرَّة لنفسه، لا لكونه حسناً مع إرادة الله له وحسنها وحسنه.
ومن أمثلته عند أبي الحسين من المعتزلة: أن المكروه يجوز أن يسمى بذلك، لأن الله يكرهه من جهة نقصه لا من جهة حُسنه. ذكره في " المعتمد ".
ويعبر أهل علم المعقولات عن ذلك بإرادة الشر لأجل الخير كالحجامة، فالخيرُ هو المقصود الأول، وهو الذي يُراد لذاته، والشر هو المقصود الثاني، وهو الذي يُرادُ لغيره، كالحجامة ترادُ وسيلة للعافية، ولا يريد الحكيم الشر بمجرد كونه شراً قطعاً.
ومن أمثلة ذلك ما جرى من الخَضِرِ عليه السلام مما ينكره العقل والشرع في بادىء الرأي قبلَ كشفِ أسرار الأقدار.
وكذلك جميع المقدورات المقبَّحة في العقل والشرع، بل من ذلك إرادة موت الأنبياء عليهم السلام والصالحين، فإنها تحسنُ من الله تعالى عند المعتزلة، لأنها متعلقة بداعي حكمة، مع أنها تقبُحُ من الشياطين وأعداءِ الإسلام حيث يُريدون ذلك لأغراض قبيحة.
وكذلك تمكين الكُفار من حرب الأنبياء وقتلهم يحسُنُ عند المعتزلة من الله تعالي، ولا يحسن من غيره لاختلاف الوجوه، وإلى ذلك أشار القرآن الكريم حيث قال في الخمر والميسر: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219].(5/410)
وروى الزمخشري (1) في تفسيرها: أنها لم تدلُّ على التحريم، وأنها لما نزلت شَرِبَ الخمر ناسٌ، وتركها آخرون.
وروى الحاكم (2) عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مُضَرِّبٍ أن عمر رضي الله عنه قال: " اللهُمَّ بيِّن لنا في الخمر، فنزلت: {لا تَقْرَبُوا الصلاةَ وأنْتُم سُكارى} [النساء: 43]، فقال: اللهُمَّ بيِّنْ لنا في الخمر، فنزلت: {فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس} فكأنها لم تواقق من عمر الذي أراد، فنزل {إنَّما الخمر والمَيْسِرُ} إلى {فهل أنتم مُنتهُون} [المائدة: 90] ققال عمر: انتهينا يا رب. قال الحاكم: صحيح.
قلت: وخرَّجه النسائي (3) من غير طريق الحاكم إلى أبي إسحاق، عن أبي ميسرةَ، عن عمر بنحوه.
ورواه أبو داود، والترمذي (4) عن عمر، وقال الترمذي: حديث صحيح.
وخرج أبو داود (5) عن ابن عباس أن آية المائدة نسخت {لا تقربُوا الصلاةَ وأنْتُم سُكارى} [النساء: 43]، {قُلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس} [البقرة: 219].
__________
(1) في " الكشاف " 1/ 358.
(2) في " المستدرك " 4/ 143.
(3) 8/ 286 - 287.
(4) أبو داود (3670)، والترمذي (3049) من طريق أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، عن عمر بن الخطاب.
وأخرجه أحمد 1/ 53، والطبري (12512)، والبيهقي 8/ 285.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 605 وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس في " ناسخه " وأبي الشيخ، وابن مردويه، والضياء المقدسي في " المختارة ".
(5) رقم (3672) وإسناده حسن.(5/411)
ويوضحه أن الخمر لم تحرَّم إلاَّ مرة واحدة، وأن تحريمها كان بآية المائدة، فقد صحَّ معنى ذلك، وفيه أوضح دليلٍ على جواز تعلُّق الإرادة والكراهة بأمر واحد لاختلاف الوجوه والاعتبارات.
والتحقيق أنه لما كان قبح القبيح غير ذاتي، وإنما نشأ من تعلُّق إرادة فاعله بإيقاعه على وجهٍ مخصوص، كان الوجه في قبح إرادته هو تعلقها بذلك الوجه المخصوص، لأن قبحها تبعٌ لقبح القبيح، فكان منشأ قبحها من جهة واحدة، وتلك الجهة عند الأشعرية هي مخالفة الأمر، وعند المعتزلة وكثير من أهل السنة هي الوجه المخصوص الذي وقع الفعل عليه، وكان علةً في التحريم الشرعي، وليست الإرادة تؤثر في قُبح القبيح عند المعتزلة كما يأتي في مسألة الأفعال.
فثبت أن هذه العوارض التي قُبح الفعل وإرادته لأجلها منفصلة عن إرادة الله تعالى لو قدرنا ما ليس بصحيح من خلق إرادة الله بعين ما هو فعل العبد.
بيانه: أن فعل العبد يقعُ منه تارة أمتثالاً لله تعالى، وإرادة لطاعته عز وجل بداعي الرغبة أو الرهبة أو المحبة، فيوصف بأنه طاعة وعبادة، وتتعلق به حينئذ محبة الله ورضاه، وأمره ووعيده، وثناؤه وثوابه حقيقة، وإرادته ومشيئته مجازاً.
وتارة مخالفة للأمر ضعفاً وعجزاً، أو شهوةً أو نفرة، فيوصف بأنه معصية وسيئة.
وتارة مخالفة للأمر استهانة وجحداً، فيوصف بأنه كفر.
ولا يصح أن يريد الله تعالى وقوعه ممن لم يستحق العقوبة على وجه من هذه الوجوه على جهة الإضلال ابتداء لقوله: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26].
وإنما يجوز عقلاً أن يريد وقوعه ابتداء قبل استحقاق العبد لعقوبته ابتلاء، ولا يُسمى إضلالاً لما لا يُحيط بعلم جميعه إلاَّ هو سبحانه و {لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا} [البقرة: 32] كما قالت الملائكة، {ولا يُحيطونَ بشَيْءٍ من عِلمِه إلاَّ(5/412)
بما شاء} [البقرة: 255] كما قال في أفضل آية في أشرف كتبه الكريمة.
وفائدة هذا التجويز العقلي هو الإيمان بما وردت به النصوص من ذلك إن وردت بشيءٍ منه، لأنا ندعي أنها قد وردت بذلك، إنما ورد ما يدلُّ عليه بلفظ آخر، فنؤمن بذلك اللفظ، ولا نبدله بلفظ منا، لأن لفظ الشرع إن كان جليّاً فيما فهمنا، فهو أبركُ وأقطع للنزاع، وإن كان خفياً، لم نأمَنِ الخطأ في تبديله، ولم يُعنَّف من خالفنا في تأويله.
والفرق بين هذا وبين قول المعتزلة أنهم يقطعون بنفي قدرة الله على اللطف بالعصاة، ونحن نقطع على قدرته على ذلك.
وإنما وقفنا في متعلق إرادته هل هو أفعاله سبحانه التي علم أن (1) أفعال العباد تقع عندها، كما هو قول الأشعرية المحققة، أو هو الواقع، والوقوع من الطاعات دون الواقع من غيرها؟
فهذا موضعٌ مُشكِلٌ دقيق، وحظُّنا فيه ومنتهانا الإيمان بالنصوص على ما أراد الله، وعدم تبديلها بعبارةٍ أُخرى، والراجح عقلاً أن إرادته تعالى لا تُعَلَّق (2) إلا بأفعاله، والله سبحانه أعلم، فينظر في السمع وما فهَّمناه سبحانه من ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - محبة (3) ظهور حلمه وعفوه ونعمه في الدنيا على جميع خلقه من أهل السعادة والشقاوة، وفي الآخرة خالصاً لأهل السعادة، وزيادة الحجة على الأشقياء في الدارين، وذلك بمجموع أدلة:
منها: ما روى مسلم في " الصحيح " عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لو لم تُذْنِبُوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله، فيغفر لهم ".
وفي رواية: " يُذنبُون كي يغفر لهم " وهو حديث صحيح مشهور.
__________
(1) من قوله: " ومن أحسنها " ص 159 إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): تتعلق.
(3) في (ش): إرادة.(5/413)
خرجه مسلم في كتاب التوبة، وأحمد بن حنبل في " المسند " من حديث جماعة من الصحابة.
ورواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1) من حديث أنس، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي أيوب الأنصاري.
وهذه طرق مسلم: حدثني محمد بن رافع (2)، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن جعفر الجزري -هو (3) ابن برقان- عن يزيد بن الأصمِّ، عن أبي هُريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيغفرُ لهم " (4).
قال المزي في " الأطراف " (5): زاد أبو مسعود (6) وحده: أن عبد بن حميد تابع محمد بن رافع، عن عبد الرزاق.
ورواه أحمد (7) من حديث زهير بن محمد التميمي (8)، عن سعدٍ أبي مجاهد الطائي، عن أبي مُدِلَّة مولى عائشة، عن أبي هريرة مرفوعاً به.
__________
(1) 10/ 215.
(2) تحرفت في (أ) إلى: نافع.
(3) في (أ): (عن)، والتصويب من (ش).
(4) رقم (2749)، وأخرجه البغوي في " شرح السنة " (1294) و (1295).
(5) 10/ 419.
(6) في (ش): " سعيد "، وهو خطأ.
(7) في " المسند " 2/ 304 - 305 و306. وأخرجه الطيالسي (2583)، وابن حبان (7387) من طريق زهير، به.
وأخرجه الترمذي (2526) من طريق حمزة الزيات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة.
وأخرجه ابن المبارك في " الزهد " (1075) من طريق حمزة إلاَّ أنه قال: عن رجل عن أبي هريرة.
(8) كذا الأصلان، وهو خطأ، صوابه زهير بن معاوية بن حُديج أبو خيثمة الجعفي.(5/414)
وخَرجه الحاكم في التوبة من " المستدرك " (1) من طريقٍ أُخرى عن الربيع ابن سليمان، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن درَّاجٍ، عن ابن حُجيرة (2)، عن أبي هريرة، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
فهذه ثلاث طرق عن أبي هريرة وحده.
قال مسلم (3): حدثنا قتيبة بن سعيدٍ، حدثنا ليثٌ، عن محمد بن قيس قاصِّ عمر بن عبد العزيز، عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب، أنه قال حين حضرته الوفاة، قال: كنت كتمتُ عنكم شيئاً سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لولا أنَّكم تذنبون لخلق الله خلقاً يذنبون فَيغْفِرُ لهم ".
حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، حدثنا ابن وهب، هو عبد الله، حدثني عياضٌ، وهو ابن عبد الله الفهري، قال: حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة، عن محمد بن كعب القُرظي، عن أبي صِرْمة، عن أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لو أنكم لم يكن لكم ذنوبٌ يغفرها الله لجاء الله بقوم لهم ذنوبٌ يغفرها لهم ".
وخرجه الترمذي (4) في الدعوات عن قتيبة بإسناده المتقدم وقال: حسن غريب.
قال المِزِّي (5): رواه عبد الرحمن بن أبي الرِّجال، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، كلاهما عن عمر مولى غُفرة، عن محمد بن كعبٍ، عن أبي أيوب (6).
__________
(1) 4/ 246.
(2) في (أ): " أبي حجير "، وفي (ش) و" المستدرك ": ابن حجير "، وكلاهما خطأ، وهو عبد الرحمن بن حجيرة.
(3) رقم (2748).
(4) رقم (3539).
(5) في " تحفة الأشراف " 3/ 102 و108.
(6) أخرجه من طريق عبد الرحمن بن أبي الرجال: الترمذي (3539).(5/415)
ورواه عبد الله بن صالح، عن الليث، عن محمد بن قيس، عن محمد بن كعب، عن أبي صرمة، عن أبي أيوب.
قال المزي: وهو أشبهُ بالصواب ممن أسقط منه محمد بن كعب.
قلت: ولهذا قال الترمذي: إنه حديثٌ حسن غريب، يعني: بإسقاط محمد بن كعب، وإلا فهو حديثٌ صحيح شهير.
وحديث أبي أيوب متفقٌ على صحة قواعده بالإسناد الأول، لم يختلف في توثيق رجاله ليس فيهم إلاَّ عِياضٌ، وقد وُثِّق، وهو حسن الحديث، وإبراهيم بن عبيدة: وثَّقه أبو زرعة ولم يُعارض بتضعيفٍ، وهارون بن سعيد: فقيه ثقة لم يختلف فيه، فثبت الحديث في الكتب الستة أربع طرق طريقان على شرط الصحاح المتفق عليها، وطريقان على شرط الحسان مع ما له من الشواهد في سائر المسانيد عن الصحابة الذين ذكرناهم أولاً (1).
فقد رُوي من غير وجهٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
منها: عن أنس، رواه أحمد (2) وأبو يعلى، وقال الهيثمي (3): رجالُه ثقات.
ومنها: عن ابن عباس (4) رواه أحمد، والطبراني في المعجمين " الكبير " و " الأوسط "، ورواه البزار وفي إسناده يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري وهو ضعيف وقد وثق، وبقيتهم ثقات.
ومنها: عن عبد الله بن عمرو بن العاص (5)، رواه الطبراني في معجمه " الكبير " و" الأوسط "، والبزار، ورجالُه ثقاتٌ، وفي بعضهم خلافٌ.
__________
(1) تحرف في الأصل إلى: وإلاَّ.
(2) 3/ 238.
(3) في " المجمع " 10/ 215.
(4) أخرجه أحمد 1/ 289، والطبراني في " الكبير " (12794)، والبزار (3250).
(5) أخرجه البزار (3247) و (3248)، وأبو نعيم في " الحلية " 7/ 204، والحاكم 4/ 246.(5/416)
ورواه الحاكم في التوبة شاهداً لحديث أبي هريرة المتقدم من طريق أبي بلجٍ يحيى بن سليم، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عمر.
ومنها: عن أبي سعيد رواه البزار (1)، وفيه يحيى بن كثير (2) صاحب البصري ضعيف.
وفي هذه الأحاديث الشريفة تنبيهٌ على حكمة واحدة من حِكَمِ الله تعالى في تقدير المعاصي، وهو ظهورُ كثير من آثار أسمائه الحسنى من فضله وعفوه ولطفه وحلمه، ونحو ذلك بسبب تخليته سبحانه بين العبد والذنب.
فأيُّ قُبح في محبة الرب جل جلاله لظهور آثار أشرف محامده، وهي الإحسان بعد الإساءة، والحلم بعد العلم بالعظائم، بل بعد طلب أهلها لتعجيل العذاب تكذيباً لمن توعدهم به، كما حكى الله سبحانه عنهم في قوله تعالى: {ويَستعْجِلونَك بالعذاب} [الحج: 47]، [العنكبوت: 53].
ولهذا قيل في محامد الرب سبحانه: الحمد لله على حلمه بعد علمه، وعلى إحسانه بعد إساءتنا.
ولذلك عدَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك أفضل البر، بل جعل الإحسان قبل الإساءة كلا إحسان بالنظر إليه بعدها.
ففي " صحيح البخاري " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص " ليس الواصِلُ بالمكافيء، الواصل من إذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَها ".
وخرجه أبو داود والترمذي، ولفظ أبي داود " انقطعت رحمُه " (3).
__________
(1) رقم (3251).
(2) في (أ): " سعد "، وفي (ش): " سعيد "، وكلاهما خطأ، والمثبت من " كشف الأستار " و" مجمع الزوائد ".
(3) البخاري (5991)، وأبو داود (1697)، والترمذي (1908).(5/417)
وفي الباب عن أبي هُريرة خرَّجه مسلم (1)، وطرق ذلك في الكتب الستة معروفةٌ وشواهدها كثيرة شهيرة.
وعن علي رضوان الله عليه، قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أدُلُّك على أكرم أخلاق الدنيا والآخرة: أن تصل من قطعك، وتُعطي من حرمك، وأن تعفو عمَّن ظلمك ". رواه الطبراني " في " المعجم الأوسط " من طريق الحارث بن عبد الله الهمداني (2).
وعن عقبة بن عامر: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذت بيده، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: " صِلْ من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرِضْ عمن ظلمك ".
وفي رواية: " واعفُ عمَّن ظلمك " رواه أحمد والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات (3).
وعن كعب بن غُجرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. " ألا أدُلُّكُم على خير أخلاق الدنيا والآخرة: من وصل من قطعه، وعفا عمن ظلمه، وأعطى من حرمه " رواه الطبراني مسنداً ومرسلاً. وفي المسند: محمد بن جابر السُّحيمي مقارب الحديث (4).
__________
(1) رقم (2558) ولفظه: أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُم المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دُمتَ على ذلك ".
(2) ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 188 - 189، وقال: وفيه الحارث، وهو ضعيف.
(3) أخرجه أحمد 4/ 148 و158، والطبراني 17/ (739) و (740). ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 188.
(4) أخرجه الطبراني في " الكبير " 19/ (343) من طريق محمد بن جابر، عن أبي إسحاق، عن أبي الحسين، عن كعب بن عجرة. وقال عقبه: وروى أبو الأحوص عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن أبي الحسين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... ولم يذكر كعب بن عجرة. =(5/418)
وعن مُعاذ بن أنس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الفضائل أن تَصِلَ من قطعك، وتُعطي من حرمك، وتصفح عمَّن شتَمك " رواه الطبراني، وإسناده حسن (1).
وعن عبادة بن الصامت مرفوعاً نحو ذلك (2).
وعن أُبي بن كعب مرفوعاً نحو ذلك (3).
ويشهدُ لمعناه من كتاب الله مثل قوله: {ويَدْرَؤونَ بالحسنةِ السيئةَ} [الرعد: 22]. {وما يُلقَّاها إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
وفي " جامع الأصول " (4)، و" البخاري " في تفسير قوله تعالى في حم السجدة: {ادفَعْ بالتي هِيَ أحسَنُ} [فصلت: 34] عن ابن عباس قال: الصبر عند الغضب، والعفو عند الإساءة، فإذا فَعَلُوه عصمهم الله، وخضع لهم عدوهم. ذكره البخاري بغير إسناد (5)، ولم يُسنده ابن حجر، لكنه بصيغة
__________
= وذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 189 فقال: رواه الطبراني وفيه محمد بن جابر السحيمي، وهو متروك. ورواه مرسلاً وفيه من لم أعرفه.
(1) أخرجه أحمد 3/ 438، والطبراني 20/ (413) و (414) من طريق زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه مرفوعاً. وزبان بن فائد: ضعيف، كما ذكر الهيثمي في " المجمع " 8/ 189.
(2) أخرجه البزار (1947) وقال الهيثمي في " المجمع ": وفيه يوسف بن خالد السمتي، وهو كذاب.
وذكره الهيثمي من طريق أخرى، وقال: رواه الطبراني، وفيه أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (534)، وقال الهيثمي: رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وفيه أبو أمية بن يعلى، وهو ضعيف.
(4) 2/ 345.
(5) علقه البخاري 8/ 556 في تفسير سورة حم السجدة (فصلت)، عن ابن عباس، ووصله الطبري في " تفسيره " 24/ 119، والبيهقي في " السنن " 7/ 45، وابن حجر في "تغليق =(5/419)
الجزم. ويشهدُ له: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35].
فإذا تقرَّر هذا، فإن الرب سبحانه وتعالى يحب من كل خير، وفضل، وبِرٍّ، ومعروف، وإحسان، وعفو، وتكرُّم أعظمه، وأكمله، وأتمه، وأفضله، وأحسنه، وأجمله، قال الله تعالى في نحو ذلك بعد ذكر من لا يُهدى أبداً: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ} [الكهف: 58] فسمى الله تأخير العذاب مغفرة ورحمة، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون} [الجاثية: 14]، وقال تعالى: {فاعفُوا واصفحوا} [البقرة: 109].
وفي هذه الآيات والآثار دلالةٌ على أن المغفرة في الدنيا بعد الذنوب مما أراده الله سبحانه، وتمدَّح به، وأمر به المؤمنين، وندبهم إليه، ثم إذا لم يلتطِفْ عبد السوء بالرحمة والعطف، ولم ينتفع بالرفق واللطف، أذاقه الله تعالى من العذاب الأدنى تارة على جهة التكفير، كما جاء فيم حدود المسلمين وآلامهم، وتارة على جهة التذكير، كما قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] ثم بعد ذلك يعاودُ الإمهال، وإقامة الحجة بكثرة النعم، ثم بعد ذلك ينتقم منهم للمؤمنين، ويجعلهم موعظة للمتقين كما وردت به النصوص إلى غير ذلك من الحكم والغايات الحميدة، قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الأنعام: 43 - 45].
__________
= التعليق" 4/ 303 من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. قلت: علي بن أبي طلحة روايته عن ابن عباس مرسلة، فإنه لم يره.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 327 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.(5/420)
فأشار بقوله: {والحمدُ للهِ ربِّ العالمين} إلى استحقاقه الحمد على ذلك، لما يصحبهُ من الحجة الدامغة، والحكمة البالغة في نصر المؤمنين، والانتصاف للمظلومين، وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75].
بيان ذلك أنه لما كان موجب كمال صفات الله تعالى وملكه الحق يقتضي أن يكون ملكاً عزيزاً مخوفاً مَهيباً يُخاف ويُهاب، ويُخشى ويُتَّقى مثلما يُسترحمُ ويُستعطف، ويُسأل ويُرتجى كما سيأتي في آخر مسألة الأفعال في ذكر اسمه الضار النافع، وبيان أن ضره عدلٌ ونفعٌ وحكمة، كان من موجب كماله في الملك والربوبية، وموجب صفاته التي يستحيل تعطيله عنها، ويستحيل تخلُّف آثارها عنها، وسلبُ أحكامها منه، أن عبد السوء متى أصرَّ على عصيانه، وتعدى حدوده وتجبَّر على أوليائه، ولم يشكر النعمة في إمهاله، وإقاله عثرته، ولا قبل ما عَرضَه له من غُفرانه، وعلم الله سبحانه إصراره على مثل ذلك لو عاد له بالإمهال، جاز أن يُبَدِّلَ تلك الرحمة بالسخط والرفق بالعُنف، والنعمة بالعقوبة، والتيسير لليسرى بالتيسير للعسرى لما يأتي من وجوه الحكمة في تقدير الشرور والعقوبات، وله في ذلك الحكمة البالغة، والحجة النيرة.
قال الله سبحانه: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 211].
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10].
وقال تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَة} [آل عمران: 176].
وقال سبحانه: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].(5/421)
وقال عز وجل: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49].
وقال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].
وقال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوه} [التوبة: 77] الآية.
وحكى الله تعالى عن كليمه عليه السلام قوله تعالى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم} [يونس: 88].
وحكى عن خير ابني آدم أنه قال لأخيه: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَك} إلى قوله: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} [المائدة: 28 - 29].
وتقدم في آيات المشيئة من هذا طرف وهو قرآنيٌّ معلوم، وتأويله ممنوعٌ، لمثل ما تقدم من المنع من تأويل آيات المشيئة، حتى جاء في كتاب الله تعالى استنكارُ خلافه في قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [آل عمران: 68 - 89].
وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23].
فقوله: {على عِلمٍ} إشارة إلى ما علم الله من استحقاقه الإضلال عقوبة(5/422)
والله أعلم.
ثم أن العقوباتِ لا تخلو من الحكم والغايات المرجِّحة الحميدة، المرجحة لها على العفو كالانتقام لأولياء الله تعالى مرةً، والموعظة لهم أخرى، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]، وقال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم} [التوبة: 14 - 15]، وآخرها مثل قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 26 - 27].
وهذا تخصيصٌ لعموم مفهوم {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِم} كما خصه الله في آخرها بقوله: {إلاَّ الَّذين تابُوا}، وفي قوله: {والله عليمٌ حكيم} تعليل التخصيص بالحكمة والعلم لا بمجرد الاتفاق كما ذلك يعلل به في آخر آية المُرْجَين لأمر الله في سورة التوبة [106].
وقال: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِين} [البقرة: 66] وهذا يعمُّ عقوباتهم كلها سواء كانت بالحرب في الدنيا، أو بالأمراض، أو بعذاب الآخرة، أو بالإضلال المُؤدي إلى ذلك، وهو مشهورٌ في كلام علماء الإسلام حتى في كلام أئمه الزيدية، ففي كلام المنصور بالله عليه السلام مع شدته في الرد على الجبرية ما لفظه في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، والعقوبة يجوز إنزالها بالمستحقين ويجوز تقديم شيءٍ منها في الدنيا كما فعل بالمستهزئين (1).
وكذلك قوله (2) تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] قال: فالمراد بذلك تنزيهُها (3)
__________
(1) في (أ): بالمنتقمين.
(2) في (ش): وكذلك قال في قوله.
(3) في (أ): بتنزيهها.(5/423)
من خوف العذاب وغمِّ الآلام لمجاهدتهم له بالمعاصي، وذلك جائزٌ واللاَّئمة عليهم دونه تعالى. ذكر ذلك في " الأجوبة الشافية عن الأسئلة (1) الشافية " في " المجموع المنصوري ".
وقال فيه في " رسالة الإيضاح لمعجمة الإفصاح ": الكلام على ذلك أن الله تعالى إذا أراد خذلان عبده وكَلَه إلى نفسه، وسلبه توفيقه عقوبة له على فعله.
وقال في الجزء الثالث في جواب كتاب من القاضي علي بن نشوان (2) وقد ذكر سبهم له: وهذا خذلانٌ نعوذُ بالله منه، لأن الله تعالى إذا أراد خذلان عبده وكله إلى نفسه، وسلبه توفيقه ... إلى قوله: ولكن هذه سنة الله في مُعَارِضِ الحق عمداً أن يسلُبَه الله التوفيق والصواب فيما هو فيه. انتهى بحروفه.
وتقدم عن قدماء أهل البيت عليهم السلام النصُّ على مثل قول أهل السنة في المشيئة والقدر، والتصريح به كما ذكره في " الجامع الكافي "، وفي الرسالة المنسوبة إلى الحسن البصري تصريح بمثل كلام المنصور بالله عليه السلام، واحتجاج بقوله: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها.
فتلخص أن كراهة الله تعالى تُعَلَّقُ (3) بالوجوه التي قَبُحت القبائح لأجل قُبحها (4) مجرداً عن النظر إلى تلك الوجوه، وإرادته تُعَلَّق بما هو فعله سبحانه، وليس من أفعال العباد، ولكنه يلابس أفعال العباد ملابسة لا تُمَيَّزُ لكثير من
__________
(1) في (ش): المسائل.
(2) هو علي بن نشوان بن سعيد الحميري، شاعر مؤرخ يماني تولى أعمالاً كبيرة، وجمع " سيرة الإمام المنصور بالله " وله شعر في أجزاء، وصنف لكثير من مشاهد المنصور وحروبه، ومنه ما حض به قبائل همدان على الجهاد مع المنصور، توفي بجهة خولان. " الأعلام " 5/ 29.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): التي قبحت لأجلها القبائح لا لأجل قبحها.(5/424)
الناس، إما ذواتها على قول أو أسبابها ومقاديرها على قول (1).
وإن كان متعلق الإرادة والكراهة لفظاً إضافيّاًَ عدمياً، فإنه يَصِحُّ إرادة ذلك، كما يصحُّ إرادة التروك ونية الصوم، وإرادة عدم المضارِّ.
ويُشبه هذا تعلق كراهته تعالى وعداوته بالكفار مع تعلق (2) إرادته ومشيئته بهم، لكن المتعلق مختلف، فإن متعلق كراهته صفات أفعالهم التي قبحت لأجلها، ومتعلق بُغضه، وغضبه وسخطه وعداوته عند المتكلمين ذمهم وعقابهم، ومتعلق إرادته ومشيئته وجودهم وبقاؤهم، وقد توصف الذوات بالحسن والقُبح عُرفاً، وتتعلق بها الإرادة والكراهة في ظاهر اللفظ توسُّعاً شائعاً (3) حتى صار حقيقة عرفية مفهومة من غير قرينة ولا مشاحة في العبارات مع إرشاد القرائن إلى المقصود، فكيف مع نصوص أهل السنة على مقاصدهم؟ فوضح منع الدعوى الأولى، وهي (4) قبحُ (5) إرادة القبيح على جميع الوجوه مُطلقاً من غير تقييد.
وأما الدعوى الثانية: وهي أن أهل السنة يعتقدون أنه تعالى مريدٌ لقبائح أفعال العباد لأجل قبحها ووقوعها على الوجوه التي قَبُحت لأجلها، فدعوى باطلةٌ ممنوعة أيضاً، لأنا قد بَيَّنَّا أنهم ما عَنَوْا أنه يحبها ولا يرضاها ولا يريدها منهم إرادة الطلب التي تلازم الأمر، ويعدى بحرف " من " كما مضى مقرراً في تفسير كلام جعفر الصادق عليه السلام الذي رواه عنه الشهرستاني، وكلام أحمد بن عيسى بن زيد الذي رواه صاحب " الجامع الكافي ". وبيَّنَّا هناك أن الإرادة تختلف معانيها بحسب تعديها بنفسها (6) إلى مفعولها الأول، وتعديها بحرف جرٍ إلى مفعولها الثاني، وأن ذلك الحرف إن كان " من " دلَّ على ملازمة الإرادة للطلب والأمر كقوله تعالى: {ما أُريدُ منهم من رزقٍ} [الذاريات:
__________
(1) " على قول " ليس في (أ).
(2) ساقطة من (أ).
(3) من قوله: " وتتعلق " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (أ): هو.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): بلفظها.(5/425)
57]. وعلى هذا لا يجوزُ أن يقال: إن الله تعالى أراد المعاصي من العباد، لأنه يستلزِمُ أنه طلبها منهم، وعليه يُحملُ قوله تعالى: {ما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنس إلا لِيَعْبُدون} [الذاريات: 56] أي: لطلب ذلك منهم، وأمرهم به، ومحبة شرع ذلك لهم ديناً يتقربون به، وقد يُسمى هذا الطلب والمحبة إرادة كما مضى.
وإن كان الحرف (1) هو الباء الموحدة أو اللام كانت الإرادة ملازمة للعلم، وكان المفعول الثاني (2) كالعلة في الأول غالباً، ودلَّ تخلُّفه على عدم قُدرةِ من أراده.
وعلى هذا قال أهل السنة: إن الله تعالى ما أراد بالكفار الطاعة والجنة، ولا أراد ذلك لهم، لأنه لو أراد ذلك بهم ولهم، كان كما أراد، ولو لم يكن كما أراد استلزم عقلاً وسمعاً ما لا يجوزُ على الله تعالى من العجز، لأن معنى أرادها بهم ولهم: أراد أن يَهديَهم لها، ولذلك قالت المعتزلة: إنه لا يَقْدِرُ على هدايتهم عز وجل عن ذكر ذلك، وجمع ذلك، فإن الله تعالى يكره المعاصي ولا يحبها، ولا تناقض بين ذلك لاختلاف الجهات التي تعلقت بها إرادته وكراهته.
وسيأتي جواز تعلق المحبة والكراهة بالشيء الواحد باعتبار جهتين، وقد مرَّ أيضاً وما أحسب فيه خلافاً.
وهذا التفصيل والتلخيص قلَّ من يعرفه، بل ما تلخصَ لي إلاَّ بلُطفِ الله بعد تكرار النظر مدة طويلة، فالحمد لله.
وقد يخالفهُ عبارة بعض أهل السنة، فيقولون: إن الله تعالى أراد المعاصي من العباد، ولا يعنُون إرادة الطلب قطعاً، بل يعنون: أرادها لهم وبهم لما يأتي من وجوه الحكمة، لا لأجل قبحها، فإنه يجب القطعُ بأنه لا يريدها من حيث قبحت كما قال: {وما الله يُريدُ ظُلْماً للعبادِ} [غافر: 31]، وفي آيةٍ
__________
(1) في (ش): الجواب.
(2) في (ش): الثاني المفعول.(5/426)
{للعالمين} كما سيأتي بيانه في رد أدلة المعتزلة، وبيان مقاصد أهل السنة.
وإنما أخطؤوا في العبارة وحَسِبُوها تدل على عدم الطلب كما صرح الشهرستاني بذلك كما مضى تقريره في كلام جعفر الصادق، والأولى تجنبُ هذه العبارة، لأنها توهم أنه يأمُرُ بالمعاصي ويُحبها من حيث هي معاصٍ، وليس كذلك قطعاً كما يأتي.
بل الذي أُحبُّه وأرتضيه للسني أن لا يتجاوز ألفاظ القرآن والسنة، فإنها لم تَرِدْ إلاَّ بما يقتضي به كمال قدرة الله تعالى من التمدح بنفوذ المشيئة في كل شيء، وهذا وصف عظيم يختص به الرب، ويعجز عنه كل قادر سواه بخلاف مجرد إرادة القبيح، فإنه قد يَقَعُ من الضعيف والعاجز، ومتى تعلقت إرادة القبيح بالوجه الذي قبح لأجله تنزه الرب تعالى عنها بالمرَّة كما يتنزه عن كل عيب وذمٍّ كما قال تعالى: {وَمَا الله يُريدُ ظُلماً للعِبادِ} [غافر: 31]، وإن كان سياقها يقتضي أن المراد: وما الله يريد أن يظلِمَ العباد كما سيأتي، فإن العلة قبح إرادة القبيح بغير شك، واختصت بشرار خلقه، ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها.
وما أحسن عبارة موسى كليم الله عليه السلام حيث قال: اللهم إنك رب عظيم لو شِئْتَ أن تطاعَ، لأُطِعْتَ، ولو شئتَ أن لا تُعصى، ما عُصيت، وأنت تُحبُّ أن تطاع، وأنت في ذلك تُعصى فكيف هذا يا رب؟ وسيأتي إسناده (1).
وفيه إشارةٌ إلى ما استنكرته المعتزلة من تعلُّق محبته بالطاعات، وعدم إرادته لوقوعها باعتبار الجهتين (2)، ولولا ذلك ما قال موسى عليه السلام: فكيف هذا يا رب؟
فكذلك فلتكن عبارة السُّنِّي، فإن احتاج إلى ذكر إراده الله تعالى للمعاصي في تعليمٍ أو جدال بالتي هي أحسنُ توسُّعاً في العبارة وتمسُّكاً بالإباحة حيث
__________
(1) سيأتي ص 186.
(2) في (ش): الوجهين.(5/427)
لم يرِدْ نصٌّ بتحريم ذلك، لم يوردها موهمةً لقبيح، وبَيَّن أن الله تعالى يكره المعاصي، ولا يريدها إرادة الأمير والطلب والمحبة، وإنما يُريدُ تقديرها لحكمةٍ بالغة استأثر بها، فهو يريدُها من ذلك الوجه الحسن فقط، ويكرهها من الوجه الآخر الذي قَبُحت منه، كما يُريدُ اليمين الواجبة شرعاً وإن كان الحالف فاجراً فيها مع قُبحها، بل مع كونها من أكبر الكبائر، لكن إرادتها من الوجه الذي وَجَبَتْ وشُرعت له، لا من الوجه الذي قَبُحت له، وكذلك كل قبيح مقدر كما مر تقريره.
والسر في ذلك أن المرادات كلها قسمان: خيرٌ وشر، فالخير مُرادٌ لنفسه، والشر مُرادٌ لغيره، والخير المراد لنفسه هو الأصل في المرادات كلها، ولذلك لم يصح أن يكون الشر مراداً حتى ترجع إرادته إلى إرادة الخير، فكان الشر غير مرادٍ كألم الحجامة يُراُد من أجل العافية.
ولذلك كان الخير والطاعات هي الغالبة، وكانت الشرورُ والمعاصي هي النادرة، وذلك أنا ننظر إلى جميع المخلوقات من الملائكة، والروح، وجميع أجناس الحيوانات والناميات، ويخلق ما لا تعلمون، ولا عبرة بكثرة العصاة في الجن والإنس لأنهم أقل المخلوقات كما بينتُه في " الإجادة " وغيرها.
وإذا تقرَّر ذلك لم يحسن أن تُطلق العبارة بأن الله سبحانه أرادَ المعاصي، لأنه يوهم أنه تعالى أرادها لكونها معاصي إرادة محبةٍ ورضا وأمر، وإنما يقول: لو شاء لم تكن المعاصي لما له في تقديرها من الحكمة، وما أحسن البيت:
فالخيرُ بالذات مَقْصُودٌ وشرهُمُ ... قضى ولكن لا مِنْ غيرهم شَرٌّ (1)
بل قد مرَّ تصريح أئمة الأشعرية بأن إرادة الله تعالى لأفعال العباد حيث يطلق مجازٌ، وأن ظاهرها خطأ، وتأويلها إرادة أفعاله تعالى التي تعلق بأفعال
__________
(1) ورد البيت في (أ) و (ف):
فالذات مقصود وشرهم قضى ... ولكن لأمرٍ غير شرهم ..(5/428)
العباد من الثواب والعقاب والأمر والنهي ونحو ذلك.
ولا يقال: إنه لا معنى لهذا الحديث (1) لعدم تنصيص الأئمة عليه، لأن أئمة الكلام نصوا عليه أو على نحوه كما مرَّ، وأئمة الحديث لم ينصوا على خلافه، بل نصوا (2) على صحة قواعده، فإنهم كرهوا الرواية بالمعنى في الحديث المتعلق بالعمليات، وحرَّمه كثير منهم، وهو الأولى إلاَّ لضرورة العمل في نحو ترجمة الشريعة للعَجَم، ولولا هذه الضرورة ما جوَّزه أحد فيما أحسِبُ لما يؤدي إليه من المفسدة، فإن من جوَّزه شرط أن يكون من عبَّر بالمعنى عالماً بما يُحيل المعاني، وكل أحدٍ حَسَنُ الظن بنفسه، وكم من قاطعٍ بصحة أمر ينكشف خلافه، وهذا في العمليات الظنيات.
وأما الصفات الربانيات فالخطر فيها عظيم، وقد بالغ صاحب " الوظائف " (3) على مذهب السلف وأهل السنة، ومنع من أن يقال: إن الله تعالى مُستو على العرش أو يستوى عليه، قال: وإنَّما يقال: ثم استوى كما قال، وقد مر ذلك في الصفات.
ولا شكَّ أن متكلمي أهل السنة، والأشعرية، والشيعة، والمعتزلة، جميع أهل العقليات قد أجمعوا على أن قولنا: أراد الله المعاصي متأولة، وأنها على غير ظاهرها، ومع ذلك لم يرد بها نصٌّ سمعي، فيجب تجنبها حيث توهم الخطأ، وينبغي التبدل بها حيث لا توهم بألفاظ كتاب الله تعالى ورسله المعصومين عليهم السلام.
وكذلك كل كلمةٍ تقترن بها مفسدة، فقد قال الله تعالى في نحو ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، وعُدَّ من حُسنِ
__________
(1) ساقط من (أ).
(2) قوله: " على خلافه بل نصوا " ساقط من (أ).
(3) انظر 3/ 333 من هذا الكتاب.(5/429)
أدب خليل الله عليه السلام، وحُسنِ خطابه قوله: {وإذا مَرِضْتُ فهو يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] فأضاف المرض إلى نفسه، والشفاء إلى ربه مع أن الكل من الله.
ومنع العلماء من أن يقال: يا رب الكلاب والخنازير، وإن كان هو ربَّها، فإنه (1) إنما يُخصُّ بالمعظمات كربِّ العرش العظيم، وإلا وجب التعميم كرب كل شيء، ومن أحسن ما يدل على ذلك ما تكرر بمدح الرب عزَّ وجلَّ به من أنه تعالى بيده الخير، وهو على كُلِّ شيءٍ قدير، ولم يرد في كتاب الله تعالى التصريحُ بعكس ذلك، وهو مدحُهُ بأن بيده الشر وهو على كل شيء قدير، كراهة لإضافة الشر خصوصاً (2) إليه إلاَّ داخلاً في عموم كل شيء، لأنه حينئذ يفيد صفة الربوبية لكلِّ شيء.
والوجه في ذلك أن كل شر واقع من الله تعالى فإنه وسيلة إلى الخير، وليس بشرٍّ بالنظر إلى حكمته، كما ذكره النواوي في أحد الوجوه في تفسير قوله - صلى الله عليه وسلم - (3): " والشر ليس إليك " ذكره في شرح مسلم (4) وغيره.
وما زال أهل القرب والرسوخ في العلم على مذهب أهل السنة في نفوذ إرادة الله ومشيئته، وعدم التعرض لما في ذلك من خَفِيِّ (5) حكمته، ولم تختلف في ذلك النبوَّات والكتب السماويات.
وقد قال الإمام البيهقي رحمه الله في " الأسماء والصفات " (6): أخبرنا أبو
__________
(1) في (ش): لأنه.
(2) في (ش): بخصوصه.
(3) في (ش) زيادة: الخير بيديك.
(4) 6/ 59 ولفظه: والشر ليس شراً بالنسبة إليك، فإنك خلقته بحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى المخلوقين. والحديث تقدم تخريجه ص 131.
(5) في (ش): نفي.
(6) ص 171 من طريق مصعب بن سوار، عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس.(5/430)
عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا أبو مسلم، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا مُصْعَبُ بن سوَّار، عن أبي يحيى القتات، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس لما بعث الله موسى وكلَّمه، قال: " اللهم أنت ربٌّ عظيم ولو شئت أن تُطَاعَ لأُطِعْتَ، ولو شِئْتَ أن لا تُعصى ما عُصٍيتَ، وأنت تحب أن تُطاع وأنت تُعصى، فكيف هذا يا رب؟! " فأوحى الله تعالى إليه: " إني لا أُسألُ عما أفعل وهم يُسألون، فانتهى موسى ".
رواه الهيثمي في " مجمع الزوائد " (1) وعزاه إلى الطبراني، وزاد فيه: " فلما بعث الله تعالى عُزَيراً، وأنزل عليه التوراة بعد ما كان رفعها على بني إسرائيل، حتى قال: من قال: إنه ابن الله، قال: إنك ربٌّ عظيم " وساق مثل كلام موسى، ومثل جواب الرب عزَّ وجلَّ عليه ثلاث مرار، فقال الله تعالى له: " أتستطيعُ أن تصُرَّ صُرَّةً من الشمس؟ قال: لا، قال: أفتستطيع أن تأتي بمكيالٍ من الريح؟ قال: لا، قال: أفتستطيعُ أن تجيء بمثقال أو قيراطٍ من نورٍ؟ قال: لا، [قال:] فهكذا لا تقدر على ما سألت عنه، أما إني لا أجعل (2) عقوبتك إلا أن أمحو اسمك من الأنبياء فلا تُذْكَر فيهم، فمَحى اسمه من الأنبياء، فليس يُذكر فيهم وهو نبي، فلما بعث الله عيسى ورأي منزلته من ربه، وعَلَّمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، سأل مثل سؤال موسى، فأجيب مثل جوابه، وقال الله تعالى له: لئن لم تنته لأفعَلَنَّ بك كما فعلت بصاحبك بين يديك، فجمع عيسى من معه فقال: القدر سرُّ الله فلا تَكَلَّفُوه ".
رواه الطبراني (3) من حديث أبي يحيى القتَّات، واسمه زاذان فيما قال ابن
__________
(1) 7/ 199 - 200 وقال: رواه الطبراني وفيه أبو يحيى الفتات، وهو ضعيف عند الجمهور، وقد وثقه ابن معين في رواية، وضعفه في غيرها. ومصعب بن سوار لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) في (ش): أهل.
(3) في " الكبير " (10606).(5/431)
عدي (1)، وقال العقيلي (2): اسمه عبد الرحمن بن دينار، وقيل غير ذلك، وهو لا يُعرف إلاَّ بكنيته وهو من رجال أبي داود، والترمذي، وابن ماجة مختلف فيه لكن وثَّقه ابن معين (3)، ولحديثه شواهد.
قال البيهقي (4): أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحرفي (5)، حدثنا أحمد بن سلمان، حدثنا جعفر بن محمد الخُراساني، حدثنا قتيبة، حدثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عِمران الجَوْني، عن نوف (6)، قال: قال عزيز فيما يُناجي ربه " يا ربِّ تخلق خلقاً فتُضِلُّ من تشاء، وتهدي من تشاء " قيل له: " يا عزير أعْرِضْ عن هذا " فعاد، فقيل (7) له: " يا عزير أعرض عن هذا وكان الإنسان أكثر شيءٍ جدلاً " قال: فعاد، فقال: " يا عزير لتُعْرِضَنَّ عن هذا أو لأمحونك من النبوة، إني لا أُسأل عما أفعل وهم يُسألون " (8).
هذا شاهد لما قبله، وليس على شرط الصحيح.
__________
(1) في " الكامل في الضعفاء " 3/ 1092.
(2) في " الضعفاء الكبير " 2/ 329.
(3) قلت: وضعفه في رواية كالجمهور.
(4) في " الأسماء والصفات " ص 171.
(5) هو بضم الحاء وسكون الراء وكسر الفاء، هذه النسبة كانت تطلق ببغداد على البقال ومن يبيع الأشياء التي تتعلق بالبذور والبقالين. وفي " الأسماء والصفات " المطبوع: الحربي، وهو صحيح أيضاً، فإنه نسبة إلى الحربية التي هو من أهلها، وهي محلة كانت في شمال غربي بغداد. وعبد الرحمن هذا مترجم في " السير " 17/ 411.
(6) تحرف في (ش) إلى: عوف.
(7) في (ش): فقال.
(8) إسناده ضعيف. عبد الرحمن بن عبيد الله: صدوق، إلاَّ أن سماعه في بعض ما رواه عن أحمد بن سلمان -وهو أبو بكر النجاد- كان مضطرباً. وجعفر بن محمد الخراساني: قال الدارقطني والخطيب: مجهول، ونوف -وهو ابن فضالة الحميرى البكالي- ربيب كعب الأحبار، يكثر من الإسرائيليات.(5/432)
ويشهد لذلك ما حكاه الله تعالى في كتابه الكريم عن الملائكة عليهم السلام حيث قالوا: {أتَجعَلُ فيها من يُفْسِدُ فيها ويَسْفِكُ الدماء ونحنُ نُسَبِّحُ بحمدِك ونُقَدِّسُ لك قال إنِّي أعلَمُ ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
ووجهُ المشابهة بينهما أن الكل سؤال عن وجه الحكمة، وفيما تحيَّرت فيه العقول من ذلك، وأن الله أجاب على من سأل عن تعيين الحكمة فيه (1) بردِّه إلى علمه، وهذا شأن المتشابه كلِّه الذي أخبر الله تعالى أنه لا يعلم تأويله إلاَّ هو.
فالعجب ممن يدعي معرفة الراسخين له، وهم فيه أكثر الناس وقفاً وحَيْرةً كما روى الطبراني عن وهبٍ، عن ابن عباس أنه سُئِلَ عن القدر؟ فقال: وجدت أصول الناس فيه حديثاً أجهلهم (2) به، وأضعفهم فيه حديثاً أعلمهم به، ووجدت الناظر فيه كالناظر في شُعاعٍ، كلما ازداد فيه نظراً ازداد فيه تحيُّراً. انتهى.
فلو عَلِمَه الراسخون، لعلَّمُوه المسلمين، إذ لا يصحُّ أن يستحيل على المسلمين تعلُّم ما عند الراسخين.
تم بعونه تعالى الجزء الخامس من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء السادس وأوله
قالت المعتزلة: القول بأن أهل النار ........
__________
(1) في (ش): في ذلك.
(2) تحرفت في (ش) إلى: أجملهم.(5/433)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء السادس
مؤسسة الرسالة(6/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
6(6/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(6/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(6/4)
قالت المعتزلة: القول بأن أهل النار خُلِقُوا لها يستلزم أن لا يجب عليهم شكر نعمة الله وحمده عليها سيما إذا لم يتأول قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ (1) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] وتأويل الآية صعبٌ لأنها من النصوص المصادمة للتأويل، وهو مشترك الإلزام في الشكر على العقوبة، أما الحمدُ، فلازم على كل حال كما ورد به الأثر، وكما يقتضيه النظر، ولكل طائفة جواب من جهة الشكر خصوصاً، ومن جهة الحمد عموماً.
وجواب أهل الحقِّ في ذلك من وجهين:
أحدهما: ما تقدم في مسألة المشيئة في آخر الدليل الثالث مبسوطاً، وتحقيقه المنع من كون الله ما خلق الكفار إلا للعذاب، بل خلقهم سبحانه لحكم كثيرة غير لا منحصرة وردت النصوص بذكر كثيرٍ منها مما يشهدُ له سبحانه بالنعم السابغة، والحكم البالغة، والبراهين الدامغة.
منها: الإحسان إليهم قبل كفرهم، واستحقاقهم العقوبة بما يوجب عليهم
__________
(1) في (أ): " تحسبن " بالتاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي قراءة حمزة، وموضع " الذين " نصب المفعول الأوَّل من " تحسبن " وكفروا صلتُه، و " أن " وما اتَّصل في موضع المفعول الثاني، وقرأ عامة القراء: {ولا يحسبن} إخبار عن الذين كفروا، فموضع " الذين " رفع بفعلهم، و " أن " وما بعدها سدَّت مسدَّ مفعولي " يحسبن ". " انظر: " حجة القراءات " ص 182، و " الدر المصون " 3/ 496 - 498.(6/5)
شكره، ثم العفو عن تعجيل العقوبة بعد استحقاقها كما مرَّ في حديث " لو لم تُذنبوا " (1)، وذلك قبل الإملاء لهم، لِيزدادو إثماً، وقد ذكرت من ذلك سبعة أمور، أولها هذا.
وثانيها: خلقهم لعبادته بالنظر إلى أمره (2) ومحبته.
وثالثها: الابتلاءُ بالنظر إلى عدله وحجته.
ورابعها: ظهورُ عدله في تعذيبهم على كفر نعمه، وجحد حجته بالنظر إلى خبره وعلمه وقدره وكتابته.
وخامسها: الحكمةُ الأولةُ المرجِّحة لذلك على عفوه عنهم، التي هي تأويل المتشابه بالنظر إلى حكمته وإرادته ومشيئته، وعلى هذا مدارها.
وسادسها: ما لا يُحيط بجميعه إلاَّ هو بالنظر إلى سعة علمه ورحمته.
وسابعها: ما للمؤمنين في خلقهم من اللطف والنفع في دنياهم ودينهم وأُخراهم، وهو (3) يستحق من الجميع على حكمته، كما يستحق الشكر من أهل النعم على نعمته، كما تقدم مبسوطاً في موضعه.
الوجه الثاني: القطع بأن مراد الله بالشر خير، لأن الحكيم لا يريدُ الشر لنفسه، وإنما يريده لغيره، لحديث " سبقت رحمتي غضبي " (4)، وحديث " والشر ليس إليك " (5) كما تقدم تقريرُه، وكما أوضحه الغزالي في " المقصد الأسنى " (6) في شرح " الرحمن الرحيم ".
فكل شر أراده الله، فهو لحكمة هي خيرٌ محضٌ، وإن لم يحط بها أحد،
__________
(1) تقدم تخريجه في 4/ 161.
(2) في (ش): مراده.
(3) في (ش): وهذا.
(4) تقدم تخريجه في 5/ 110.
(5) تقدم تخريجه في 5/ 131.
(6) ص 63.(6/6)
وهي تأويلُ المتشابه، كما دلَّت عليه قصة الخَضِر مع موسى عليهما السلام، وكما دلَّ عليه قوله: {وما يَعْلَمُ تأوِيلَه إلاَّ الله} [آل عمران: 7]، فلو أُريد الشر لكونه شراً لم يُحتج إلى تأويل: لا يعلمه إلاَّ الله، وقد أشار الله إلى هذا في جوابه على الملائكة حيث قال: {إنِّي أعلَمُ ما لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 30].
ففي كل عقوبةٍ ظاهرة نعمة باطنة، ولذلك اختصَّ الله بوجوب شكره على ما ساء وسر، ونفع وضر، وقد صح النصُّ بذلك في الحدود، فإنها كفارةٌ مع كونها عقاباً ونَكالاً، ولا إشكال في شيءٍ من ذلك الشر إلاَّ (1) دوام العقاب، وسيأتي الاختلاف فيه، والمختار من ذلك.
وهذه القاعده توجب على أهل النار أن يحمدوا ربَّهم عليها لما لهم فيها من العدل والحكمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75]، وإلى ذلك أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار " رواه ابن ماجه (2)، وفيه إشارةٌ إلى استحقاقه عزَّ وجلَّ الحمد لله على المعذَّبين بالنار،
__________
(1) في (ش): " من ذلك إلاَّ " بحذف كلمة " الشر ".
(2) رقم (3804) من طريق موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة مرفوعاً. وقال البوصيرى في " مصباح الزجاجة " 3/ 192: هذا إسناد فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وشيخه مجهول.
وروى أبو نعيم في " الحلية " 3/ 157 من طريق الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمدان يُعرفان: إذا جاءه ما يكره قال: الحمد لله على كل حال "، وإذا جاءه ما يسُرُّه قال: " الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم بنعمته تَتِمُّ الصالحات " وقال: غريب من حديث محمد والفضل الرقاشي لم نكتبه إلاَّ من هذا الوجه.
قلت: والفضل - وهو ابن عيسى الرقاشي: ضعيف.
وروى ابن ماجه (3803)، وابن السني (380)، والحاكم 1/ 499 من طريق هشام بن خالد الأزرق أبي مروان، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زهير بن محمد، عن منصور بن عبد =(6/7)
ولكن السنة سؤال العافية.
ومما قلت في هذا المعنى من جملة أبيات:
أنت الحكيم بكل ما قدَّرْتَهُ ... وعلى العَبيد بكُلِّه كل الثنا
ونعوذ بالله الرؤوف وفضله ... من حال أهل النار خلداً أو فَنا
ضعفاً وعجزاً لا اعتراضاً للقضا ... مِنَّا ولا سُخطاً لحكمة ربنا
فكيف لا يجب عليهم الشكر لما لا يُحصى من نعمه المتقدمة، وقد مرَّ طرفٌ من هذا في الدعوى الأولى عند الكلام على حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون كي يَغْفِرَ لَهُم ".
قالت المعتزلة إلاَّ القليل منهم: يجب تأويل آيات المشيئة على أنه لو شاء أن يُكرِهَ العُصاة على الطاعة لفعل، لأنه لو كان يعلم لهم لُطفاً إذا فعله لهم أطاعوه، لزم (1) عليه فعلُ ذلك، وهو سبحانه لا يُخِلُّ بواجبٍ.
وخالفهم في هذا جميع فرق أهلِ السنة، وجميعُ متقدمي أهل البيت كما تقدم من طريق أهل البيت وغيرهم.
وخالفهم جماعةٌ جِلَّةٌ من متأخري أهل البيت عليهم السلام، مثل السيد الإمام أبي عبد الله مصنف " الجامع الكافي "، والإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، والإمام الناصر، والإمام المنصور.
__________
= الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتاه الأمر يسره قال: " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال: " الحمد لله على كل حال ".
والوليد بن مسلم: موصوف بتدليس التسوية، ولم يصرح هنا بالتحديث في بقية إسناده، ورواية أهل الشام عن زهير بن محمد غيرُ مستقيمة، وهذا منها.
(1) في (ش): لوجب.(6/8)
وخالف المعتزلة في ذلك من شيوخهم بِشْرُ بن المعتمر، وجعفر بن حرب على تفصيلٍ له في ذلك، حكاه عنهما الإمام يحيى بن حمزة في كتابه " النهاية " (1).
وحُكي عن أبي الحسين أنه حكى رجوع ابن المعتمر كذا بصيغة الجزم.
قال الإمام: وقال -يعني قاضي القضاة-: ومنهم من فصل -يعني جعفر بن حرب- فقال: إن كان ما يفعله المكلف من أسباب عدم اللطف أشق وأعظم ثواباً لم يجب اللطف، وإلا وَجَبَ. قال: وحُكِيَ عنه الرجوع عن هذا، كذا قال. " حُكي " بصيغة ما لم يُسَم فاعله، وهي المعروفة بصيغة التمريض.
وفي كتاب " الملل والنحل " (2) عن بِشر بن المعتمر أن في مقدور الله لُطفاً لو أتى به، لآمن من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه، وليس على الله أن يفعل ذلك لعباده ولا يجب عليه رعايةُ الأصلح، لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح، فما من أصلح (3) إلا وفوقه أصلح. انتهى.
وهي حجةٌ حسنةٌ في نفي وجوب الأصلح، وجمهور المعتزلة على إيجاب اللطف، وقد ألزمهم علماء الإسلام تعجيز الرب سبحانه عن هداية عاصٍ واحدٍ على سبيل الاختيار، وهم يلتزمونه في المعنى، فإنه صريح مذهبهم إلاَّ أنهم يقولون: إنه لا يستلزم العجز، لأن اللطف بهم مُحالٌ، والمحالُ ليس بشيء، والقادر لا يُوصف بالقدرة على لا شيء.
قلنا: الإحالة ممنوعةٌ، وعلى تقدير تسليمها، فيلزم المعتزلة قبح التكليف، لأن إزاحة أعذار المكلفين عندهم واجبةٌ، ولذلك أوجبوا اللطف على الله
__________
(1) اسمه الكامل: " نهاية الوصول إلى علم الأصول ". كما في " البدر الطالع " 2/ 331.
(2) 1/ 65.
(3) في (أ): صلاح.(6/9)
تعالى، لأن ترك اللطف يُناقِضُ ما أراده الله تعالى على زعمِهم مِنْ دخول الكفار الجنة على أبلغ الوجوه.
فنقول: لو كان واجباً مُعَلَّلاً بما ذكرتم لَقَبُحَ على أصولكم تكليف من علم الله سبحانه أنه لا لطف له ألبتة، وأنه لا يدخل الجنة قطعاً، بل من علم أن تكليفه يكون سبباً لخلوده في النار، لأن ذلك أعظم مناقضةً لمراد الله سبحانه لو كان مراده هو ما ذكرتم من دخول الكفار الجنة (1) على أبلغ الوجوه.
فإن قيل: إلزامُكم لهم (2) تعجيزه سبحانه، وتعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً، ومنعكم لما اعتذروا به من الإحالة مبنيٌّ على أن الله تعالى يعلم لهم لُطفاً، لكن المعتزلة منعت أن يكون في معلوم الله تعالى للعُصاة لطفٌ، وإذا لم يكن في معلوم الله لطفٌ بهم (3)، لم يكن في مقدوره، إذ يستحيل أن يقدر على ما لا يعلم، والجواب من وجوه.
الوجه الأول: أنهم أرادوا الاعتذار عن التعجيز بنفي العلم، فزادوا تجهيل الرب تعالى مع تعجيزه تعالى عن ذلك لأنهم فرُّوا من قولهم: إن ذلك عجز، إلى قولهم: ليس بمعلوم، فليس بمقدورٍ فزادوا على نفي القدرة الاستدلال على صحة نفيها بنفي العلم فراراً من لفظ التعجيز إلى نفي القدرة والعلم.
فلا وجه لعدول من عدل منهم عن أن يقول بالتعجيز إلاَّ التستر (4)، وإلا فالمعنى واحد، لأن أهل الإسلام يجزمون بتضليل من جحد قدرة الله تعالى على هداية عاصٍ واحد من خلقه، كما يجزمون على تضليل من عجَّزَهُ عن ذلك، ولا يفرقون بين العبارتين قبل هذا العرف المبتدع، فاحتالوا على تحسين
__________
(1) من قوله: " يكون سبباً " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) " بهم " لم ترد في (ش)، وفي (ف) لهم.
(4) في (أ): اليسير، وهو خطأ.(6/10)
هذه الشناعة بذلك التوجيه، فأضافوا إلى تلك الشناعة مثلها، وهي قولهم: إن الرب اللطيف لما يشاء سبحانه وتعالى لا يعلم لُطفاً لمن شاء هدايته من جميع العصاة، وكلا هاتين الشناعتين مما يأباه من بقي على الفطرة من جميع المسلمين.
ولا يحتاج من يُقرُّ بالنبوات إلى مناظرة في ذلك، فإن المعلوم ضرورة من النبوات يدفَعُه، وقواعدهم تصحح هذا الإلزام (1) الشنيع، وهم لا يبعدون من التزامه في المعنى، ولذلك صرَّح من أجمعوا على تعظيمه بنفي قدرة الله على القبيح كالنظام (2) والأسْوَاري (3) وجعلوا هذه المسألة من مسائل الخلاف بين شيوخهم، وهي (4) صريح التعجيز بإثباتهم (5) معها حكم العقل بالحسن
__________
(1) في (ش): الالتزام.
(2) هو شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف، أبو إسحاق إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عبَّاد الضبعي البصري المتكلم، تكلم في القدر، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ. مات في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومئتين.
انظر " سير أعلام النبلاء " 10/ 541 - 542.
(3) هو علي الأسواري المتوفَّى سنة 240 هـ، وإليه تُنسب الأسوارية، وهم طائفة من المعتزلة.
قال عبد القاهر البغدادي في " الفرق بين الفرق " ص 151: وهم أتباع علي الأسواري، وكان من أتباع أبي الهذيل، ثم انتقل إلى مذهب النظام، وزاد عليه في الضلالة بأن قال: إن ما علم الله ألا يكون لم يكن مقدوراً لله تعالى.
وفي " مقالات الإسلاميين " ص 555: وقال النظام وأصحابه وعلي الأسواري والجاحظ وغيرهم: لا يوصف الله سبحانه بالقدرة على الظلم والكذب، وعلى ترك الأصلح من الأفعال إلى ما ليس بأصلح، وقد يقدر على ترك ذلك إلى أمثال لهُ لا نهاية لها مما يقوم مقامه، وأحالوا أن يوصف البارىء بالقدرة على عذاب المؤمنين والأطفال وإلقائهم في جهنم.
وانظر " الأنساب " للسمعاني 1/ 257 - 259.
(4) تحرفت في (ش) إلى: ونفي.
(5) في (ش): لإثباتهم.(6/11)
والقُبح (1) في الأفعال، ولو قُدرتْ من الله بخلاف من علَّل ذلك بأنه لا يقبح (2) منه عزَّ وجلَّ قبيحٌ، ويلزمهم عدم اختيار الرب عزَّ وجلَّ في ترك الواجب عليه عندهم، وذلك صريح القول بأن الله عزَّ وجلَّ غير مختار.
فالعجب منهم لا يكفرون من قال ذلك من أكابر شيوخهم ويكفرون من قال: أفعال العباد مخلوقة، وبيَّن أن مراده بذلك ذواتها، لا كونها معاصي كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأكثر هذه البدع باطلٌ بالضرورة، وما أحسن قول بعضهم: إن النبوات في جانب، وما جاء به المتكلمون من (3) البدع في جانب، وممن أشار إلى هذا الفخر الرازي كما تقدم في الصفات، ولذلك ترى علماء الكلام أعداء لحملة العلم النبوي إلاَّ من عصم الله، وإنما نتكلم في الرد عليهم نافلةً وتبرُّعاً وتعرُّضاً لثواب الله تعالى في نصر (4) السنة وذلك على القول المختار عندنا من حسن المناظرة لمنكري الضرورات متى كانت من الدعاء إلى الله بالتي هي أحسن، ولم تكن من (5) المراء المقصور على إثارة الشرور، وإيحاش الصدور (6)، ولذلك لم يشتمل هذا الوجه على حجة زائدة على بيان مقصدهم (7) بياناً لا يستتر معه قبح مذهبهم، فإنه متى وَضَحَ وبان لم تقبله قلوب أهل الإيمان، ولم يُحْتَجْ في رده إلى برهانٍ.
الوجه الثاني: أن كل مُبطلٍ أراد تعجيز الله تعالى عن أمرٍ، فإنه لا يعجز عن مثل هذه الحيلة، وقد ألزمهم أهل السنة تجويز أن لا يقدر الله تعالى على هداية العُصاة كُرْهاً، كما لا يقدر على هدايتهم اختياراً، ثم لا يكون ذلك عجزاً
__________
(1) في (ش): والقبيح.
(2) في (ش): لا يصح.
(3) في (أ): في.
(4) في (ش): نصرة.
(5) في (أ): في.
(6) في (أ): الصدر.
(7) في (ش): مقاصدهم.(6/12)
أيضاً ما لم (1) يعلم الله سبحانه ما يُلجىء المكلف إلى الطاعة، وهذا يبطل تأويلهم آيات المشيئة على الإكراه، ولا يبعد أنهم يلتزمون هذا عقلاً، ولكنهم يُقرون بأن السمع دلَّ على قدرة الله تعالى على هداية العصاة كرهاً.
والجواب عليهم منعُ ما ذكروه من قصر دلالة السمع على ذلك، فإن دِلالة السمع وردت بكمال قدرته على ما يشاء عموماً، ثم على هداية الخلق أجمعين خصوصاً.
وعلى الجملة، فإن أحسن ما يُدفعون به تذكيرهم أن هذا معلوم بالضرورة من الدين، ومعارضة قولهم بما يُشبهه من أقوال المبطلين بإجماع المسلمين، فما أجابوا به فهو جوابنا.
مثالُ ذلك: أن يقال لهم: ما الفرق بين قولكم وبين قول جماعة من الفلاسفةٍ: إنه ليس في مقدور الله تعالى أحسن من هذا العالم، لأن الكريم يبادرُ بأحسن ما في مقدوره من الخير، وليس في هذا تعجيزٌ لله تعالى، لأنه ليس في (2) معلومه تعالى أحسن منه، وما ليس في معلومه، لم تصح القدرة عليه.
فهذه الحيلة على تعجيز الربِّ عن خلق أحسن من هذا العالم مثل حيلة المعتزلة على تعجيزه سبحانه عن اللُّطف بالعصاة، بل هي هي، وقد قاربت المعتزلة مقالة الفلاسفة هذه.
وأما البغدادية من المعتزلة، فإذا تأمَّلْت مذهبهم لم تجدْهُ يخالف قول هذه الطائفة من الفلاسفة إلاَّ في العبارة، أو فيما يلزمهم الموافقه فيه مع اشتغالهم بتأويل السمع على وَفْقِ قولهم، وذلك أن مذهبهم أن الأصلح للخلق في دينهم ودنياهم وآخرتهم واجبٌ على الله تعالى، وكل ما لم يفعله الله تعالى من مصالح الخلق في الدنيا والآخرة، فليس في معلومه سبحانه ما هو أصلح منه لهم، حتى
__________
(1) في (ش): متى لم.
(2) في (أ): ما في.(6/13)
قطعوا أن خلود أهل النار فيها إلى غير غايةٍ أصلح ما في معلوم الله تعالى لهم ومقدوره، وهذا خروجٌ عن المعقول والمنقول، فنسأل الله العافية عن مثل هذه البدع التي تبلغ بأهلها في الجهالات إلى هذه الغاية، هذا مع اعتقادهم أنهم أئمة المعارف والدِّراية.
وأما البصرية من المعتزلة، وهم الجُبَّائية والبَهْشمية (1) نسبةً إلى أبي علي الجُبَّائي وابنه أبي هاشم (2)، فإنهم يقولون: ذوات كل الأشياء ثابتة فيما لم يزل مع قِدَم (3) الرب جل جلاله، وما كان من هذه الثوابت في الأزل من أفعال العباد فليس بمقدورٍ لله تعالى (4) إلى أمور كثيرة يخرجونها من القدرة بهذه الحيلة.
فيقال (5) لهم: من (6) قال: الفلسفي والباطني إنه لم يخالف في قدرة الله تعالى على الممكنات، ولكنه يعتقد أن حياة الموتى محال لشبهه بالمحالات العادية، كما هو اعتقاد المعتزلة في إحالة إحياء الجماد من غير بيِّنةٍ مخصوصة، ولا مستند لهم إلاَّ شبه ذلك بالمحالات العادية، وقطعهم أنه منه، فإن كَفَّروا الباطنيَّ بمصادمة النصوص المعلومة بالضرورة من الدين لما جاء به من التأويلات، كان له أن يُعارِضَهم بمثل ما عارضوا به أهل السنة، ولأهل السنة أن يجيبوا عليهم بمثل ما أجابوا به على الباطني، وإن كَفَّروا الفلسفي بذلك، كان لأهل السنة أن يعارضوهم بمثله.
فإن قيل: وأي فرق بين الضرورة العادية وما يشبهها.
قلنا: وجهان:
أحدهما: فقد العلم عند الإصغاء إلى جانب الشك، وهذا هو المعتمد.
__________
(1) في (ش): والبهاشمة.
(2) تقدمت ترجمتهما في 2/ 318.
(3) تحرفت في (ش) إلى: قدر.
(4) انظر " الفرق بين الفرق " ص 197.
(5) في (أ): فقال.
(6) في (ش): متى.(6/14)
وثانيهما: أن العلوم العاديَّات مسلمةٌ بالنظر إلى عادتنا وقدرتنا، فإحياء الجماد، وإحياء الموتى في المعاد محال في العقل كما قالوا، ولكن بالنظر إلى قدرتتا وعادتنا، وكذلك عامة (1) ما يفارق الرب به تعالى عبيده من إيجاد المعدوم من غير شيءٍ، ولذلك أنكرته المعتزلة، وقالت: إن تذويت الذوات مُحال، وكذلك الفعل من غير آلة أنكرته الفلاسفة وبعض القدرية (2).
وإنما غَلِطُوا في ذلك، لأنهم نقلوا العلم الضروري الحق المتعلق بعجزنا عن هذه الأشياء إلى الربِّ تعالى، ووجه غَلَطهم أنهم حَسِبُوا أن ذلك محالٌ لنفسه لا لعجزنا خصوصاً عنه. فافهم هذا واعتبره، فإنه نافع جداً، وقد كفر لأجله خلائق من المشركين، وضل لأجله خلائق من المسلمين.
الوجه الثالث: أن البرهان القاطع دل على نقيض مذهبهم، وهو أنا نعلم يقيناً لُطفاً معلوماً مقدوراً لله تعالى لو فعله، لآمن الناس أجمعون اختياراً من غير إكراهٍ، ولنذكر على ذلك أدلةً.
الأول: أن الله سبحانه قادر على أن يخلق العصاة على بِنيةٍ قابلة للألطاف مثل بنية الملائكة والأنبياء، سواء قلنا: إن بنيتهم التي خُلِقُوا عليها قابلة للألطاف، كقول أهل السنة، أو غير قابلة كقول المعتزلة.
ذكر هذا الوجه ابن الملاحمي (3) في كتابه " الفائق " وهو أحد أئمة المعتزلة، على رأي أبي الحسين، وهو وجهٌ صحيح معلومٌ من الدين، قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60]، ولا
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) في (ش): ولذلك أنكرته المشبهة وكذا علم الغيب من غير سبب، وكذلك أنكرته بعض القدرية.
(3) وقال: ذكره أحمد بن يحيى المرتضى في " المنية والأمل " ص 71 في تلامذة أبي الحسين البصري، فقال: الشيخ النحرير محمود بن الملاحمي.(6/15)
شك أن بنية الملائكة تخالِفُ بنية الإنس (1)، فإنهم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يفتُرُون من العبادة، فمن قدر على تحويل بنية البشر إلى بنية الملائكة، فهو على تحويل بنية بشر إلى بنية بشرٍ مثله أقدرُ، بل في كتاب الله تعالى ما يدُلُّ على قدرة الله سبحانه على ذلك دِلالةً خاصة مع بقاء بنيتهم، وإلا فهو معلومٌ ضرورة من الدين، وذلك مثل قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [الممتحنة: 7]، وإليه إلإشارة بقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} وقد اعترف الخصم بهذا المعنى في تفسيره، فقال: ومعنى {والله قديرٌ} على تقليب القلوب، وذلك هو المراد.
وقد قال الله تعالى في خطاب من شك في قدرته على أبعدَ من ذلك في العقل وأصعب: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50 - 51]، وما أدلَّ (2) قوله: {أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} على تعميم قدرته تعالى على تغيير كل بنية إلى ما يخالفها. وقد صح في الحديث " أن الله يقلب القلوب كيف شاء "، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يا مقلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك " (3) وقد تقدم الكلام عليه وقد حكى الله عن الراسخين قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
وجاء هذا في كلام الله تعالى بعباراتٍ مختلفة:
منها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8].
__________
(1) في (ش): البشر.
(2) في (ش): " دل "، وهو خطأ.
(3) تقدم تخريجه في 2/ 271 - 272.(6/16)
منها: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
ومنها: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
ومنها: {وَجَعَلْنا قُلوبَهُم قاسيةً} [المائده: 13]، وأمثال ذلك كثير لا يكاد يحصى.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين} [المعارج: 40 - 41]، ووجهُ الحجة من الآية أنها تدل على أن لله تعالى حكمة وإرادة في وجود العصاة مع كراهة المعاصي، لأنه تمدَّح بالقدرة على إيجاد خلق غير عصاة في هذه الآية، وفي غيرها كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
فتأمل ذلك مع مثل قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم} [هود: 119]، وفي آية: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13]، كما تقدم في أن عذاب الله في الدار الآخرة راجحٌ مشتمل على الحكم الخفية والمصالح، وأنه ليس بمُباحٍ خالٍ من الحكمة والصلاح.
وقد صَحَّ وثبت من غير وجهٍ أنه شُقَّ قلبُ النبي - صلى الله عليه وسلم - وغُسِلَ ومُلِىءَ حكمةً وإيماناً (1)، وذلك ظاهر في أنه سبب العصمة، ومثله مقدورٌ لله تعالي في كل بشر، وليس هذا من القياس في شيءٍ، وإنما هو من قبيل احتجاج الرب سبحانه على قدرته على الإعادة: بقدرته على النشأة الأولى، وكما احتج المسلمون على قدرة الرب سبحانه على كل شيءٍ بذلك وبالمعجزات، ووجهُه
__________
(1) تقدم تخريجه في 3/ 372.(6/17)
أنه يحصل بعد النظر في ذلك علمان ضروريَّانِ عقلي وسمعي.
أما العقليُّ: فمثاله: عِلْمُنا أن الزجاج ينكسر بالحديد، ولعل الواحد منا ما كسر زجاجة واحدة، وكذلك جميع العاديات، لأنا نعلم أنه لا تأثير في ذلك لاختلاف الأزمان والبلدان والقادرين منا، ومن ثم قال الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه: {أعلمُ أنَّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرٌ} [البقرة: 259].
وأما السمعي: فقد اتفق العقلاء على أنه يُفهم من مقصود المتكلم ما لم ينطق، كما يفهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم أذاهما وانتهارهما، والذي يَحْسِمُ مادة النزاع في هذا بين المسلمين أن إجماعهم منعقد، والعلم الضروري من دينهم أنه يجب الجزم بقدرة الرب تعالى على كل شيء على العموم، ولا يقال: يخرج من ذلك المحال، لأنه ليس بشيء، فلم يدخل في العموم حتى يخرُجَ منه، وأن الاحتجاج بهذا العموم على الجزئيات التي لا نصَّ فيها على قدرة الله تعالى عليها بأعيانها احتجاجٌ صحيح، والدليل القاطع على هذا من العقل أن البنية التي تقبل اللطف، والبنية التي لا تقبل عارضتان غير ذاتيتين (1) عقلا وسمعاً وإجماعاً، ولا نزاع في قدرة الله تعالى على تغيير ما هو خلقه من الأمور العارضة الممكنة.
والعجب من المعتزلة أنهم بالغوا في الاعتذار للرب عزَّ وجلَّ حتى أقاموا العذر للعبد، فإن الله تعالى متى خلق العبد على بنية يعجز الرب عن هدايته معها، فإن العبد يكون أعجز عن هداية نفسه مع ذلك بالنظر إلى الدواعي، وهذا يناقض أصل مذهبهم في إزاحة الأعذار، وتقبيح خلق المفاسد، فلا أعظم مفسدةً من إيجاد بنية لا تدخل في مقدور الربِّ، ولا في معلوم اللطف لها على زعمهم (2)، وإن كان (3) الحق بطلان زعمهم لقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
__________
(1) في الأصلين: ذاتيين.
(2) في (ش): لها فإنها.
(3) ساقطة من (ش).(6/18)
وثبت في "الصحيح" " أن كل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، وأنما أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمجِّسانه " (1)، فكيف يقال فيما خلق على الفطرة: إنه قد يُبنى بِنيةً لا تقبل اللطف ألبتة؟ ولك (2) أن تقول في تحرير الدليل العقلي أيضاً: فالأجسام عندهم متماثلة في ذواتها، وإنما اختلفت بما أكسبها الله تعالى من الأمور الزائدة على الذوات من أعراضٍ وصفات وأحكام وأحوال، وتغيير كل شيء منها مقدور لله تعالى، ولا فرق عندهم بين المَلَكِ والبشر، والمؤمن والكافر إلاَّ فيها، فثبت أن تغييرها عندهم مقدورٌ لله تعالى.
إذا تقرر هذا، فقد قال ابن الملاحمي بعد ذكر موافقة المعتزلة لأهل السنة على هذا ما معناه: فإن قيل: فما الوجه عندكم في خلق العصاة على البنية التي لا تقبل اللطف مع قدرة الرب تعالى على خلقهم على البنية التي تقبلُ اللطف، بل تقبل العصمة؟
قال ما معناه: إنا نعلم أن لله تعالى في ذلك حكمة على سبيل الإجمال، وإن لم نعلم تعيينها، فرجعت المعتزلة بعد القطع بقبح ظواهر القرآن والسنن وآثار السلف، وركوب كلِّ صعبٍ وذلول في تأويل ذلك إلى مثل ما بدأ به أهل السنة.
وليت شعري ما الفرق بين تجويز المعتزلي في هذا لحكمة لا يعلمها، وبين تجويز إراده الله تعالى لأسباب وقوع معاصي العصاة وترك هدايتهم مع القدرة عليها لوجه حكمةٍ لا نعلمه، لا لأجل الوجه القبيح التي قبحت وكرهت لأجله، وإن خالف بعض المعتزلة في ذلك رضينا منه أن ينزل أهل السنة منزلة من جوَّز ذلك من المعتزلة (3)، وهو أبو الحسين وأصحابه.
__________
(1) تقدم تخريجه في 3/ 387.
(2) في (ش): وذلك.
(3) من قوله: " في ذلك " إلى هنا ساقط من (ش).(6/19)
الدليل الثاني: أنَّ أبا هاشم وأصحابه وجمهور المعتزلة جوزوا أن يَخْلُقَ الله تعالى أسباباً يعلم أن المعاصي تقع بسببها زائدة على أصل التكليف، مثل خلق الشياطين والشهوات الزائدة (1)، ويكون ذلك تعريضاً للثواب العظيم، كما جاز منه ذلك في أصل التكليف، ولم يخالف في ذلك إلاَّ أبو علي (2)، حكى ذلك السيد صاحب الابتداء المجاب عليه " بالعواصم " في آخر تفسيره " تجريد الكَشَّاف المزيد فيه النكت اللطاف " وقوَّى ذلك وصححه، واحتج عليه بآيات من القرآن كقوله تعالى في الشيطان: {فدَلاَّهُما بِغُرورٍ} [الأعراف: 22]، وقوله: {كما أَخْرَجَ أبَوَيكُم مِنَ الجَنّةِ} [الأعراف: 27] وغير ذلك.
وعلى هذا يجبُ تجويز أن في العصاة من عصى بسببٍ من هذه الأسباب، الزائدة، ويجب القطع بقُدرة الله تعالى على هداية من عصى بتلك الأسباب، لأن الله تعالى قادر على هدايته بترك تلك الأسباب، وهذا يناقض القطع بنفي قدرته على هداية العصاة.
الدليل الثالث: أن المعتزلة اعترفت أنه لا يقع القبيح من فاعله إلا لداعٍ إليه، ولذلل أمكنهم القطع بأن الله تعالى لا يفعل القبيح مع قدرته عليه، لأنه لا داعي إليه.
إذا تقرر هذا، فلا خلاف بين الجميع أنَّ الرب سبحانه قادرٌ على أن يُعلِّم العاصي قُبح القبيح، وعلى أن لا يجعل له إليه داعياً ألبتة، وعلى أنه متى فعل ذلك، لم يقع القبيح، سواء قلنا: إن وقوعه ممكنٌ أو ممتنع، ولكن المعتزلة اعتذرت عن هذا بشُبَهٍ:
الشبهة الأولى: قالوا: لو لم يجعل الله تعالى للعاصي داعياً إلى
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) هو شيخ المعتزلة أبو علي محمد بن عبد الوهاب البصري الجبائي المتوفى سنة (303 هـ). انظر " السير " 14/ 183 - 185.(6/20)
المعصية، لم يصح وقوعها منه، فيكون كالمُلْجَأ بالصوارف إلى الترك، والمُلجأ لا يستحق الثناء والثواب، وأجيب عليهم بوجوه:
أحدها: أنه يناقض قولهم في أنه لا أثر للداعي، ثم إن قولهم: إنه كالمُلجأ، والملجأ لا يستحق الثناء والثواب مغالطةٌ ظاهرة، لأن كاف التشبيه والتجوُّز في العبارات لا يصح في البراهين، لأنه لا يصير مُلجأ محققاً بكونه كالملجأ، بل (1) ولا يصح كونه كالملجأ، لمجرد عدم الداعي إلى القبح، لأنه لا داعي لله تعالى إلى القبيح، فلا يصح وصفه بأنه كالملجأ (2)، وإذا لم يكن العبد ملجأً، لم يكن له حكمُ الملجأ الذي هو عدم استحقاق الثناء والثواب، ونحن لم نقل: بأن الله تعالى قادر على أن يُلجئه إلى الطاعة، بل قلنا: هو قادر على أن يجعله مختاراً، يوضِّحُهُ.
الوجه الثاني: وهو أن الله تعالى مستحقٌّ لأعظم الثناء على ترك القبائح مع أنه لا يصحُّ وقوعها منه عند الجميع، ولا ولا داعي له إليها، ولا مشقة عليه في تركها، وكذلك يستحق أعظم المحامد على ما يفعله من الجود والإحسان وإن لم يكن عليه في ذلك مشقة ألبتة.
الوجه الثالث: أنه يلزم بطلان الثناء والثواب عقلاً مطلقاً على جميع أفعال المختارين لما سيأتي في مسألة إيجاب الداعي، فإنه قد تقرَّر هناك أنه لا يصح من كل مختار حين اختياره أن يقع منه ضد اختياره بدلاً من اختياره من غير مُرَجِّح، ولا يمكن دخول هذه الصورة في الوجود، وكل مختار عند اختياره كالملجأ على زعمهم، ولو رام المعتزلي أن ينازع في ذلك بَطَلَ عليه أساس العدل، ولَزِمَهُ تجويز ذلك في حق الرب تعالى.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) من قوله: " لمجرد " إلى هنا ساقط من (أ).(6/21)
فإن قالوا: إنما لم يفعله الله تعالى طلباً منه لمصلحة المكلَّفِ في الفعلِ مع المشقة، لأنه حينئذ يستحق الثناء والثواب.
قلنا: إن أردتم المشقة مع زوال، الاختيار فباطل، لموافقتكم على بطلانه، ولما تقرَّر عندكم في أن المستحق على الآلام هو العوض دون الثناء والثواب مع ما فيها من المشقة، وإن أردتم المشقة مع الاختيار، فلا برهان بأيديكم على أنها هي المؤثرة في استحقاق الثناء والثواب (1)، لأنهما ثبتا بثبوته، وانتفيا بانتفائه، ولأن التعليل في ذلك وافق المعلوم من أن الله على كل شيءٍ قدير عموماً، وعلى هداية العصاة خصوصاً، فهو الأصل، ومن ادعى خلافه، فعليه الدليل القاطع.
الوجه الرابع: أنه يلزمهم أن يكون الله عز وجل، كالملجأ إلى الخيرات كلها، فلا يستحقُّ الثناء، وهم لا يقولون بذلك.
الشبهة الثانية: قالوا: سلمنا أنه يستحق الثناء بمجرد الاختيار من غير مشقةٍ بدليل استحقاق الربِّ جل وعلا لذلك بمجرد اختياره، لكن لا نُسَلِّمُ استحقاق الثواب إلاَّ مع المشقة، وما ذكرتموه من عدم اعتبار المشقة معارضٌ بدليل أنه يبطُلُ اسم التكليف ببطلان المشقة، لأنه مشتق من الكُلْفَة في اللغة، ولا يسمى ترك الشائع الراوي للمستقذرات تكليفاً، والجواب من وجوهٍ:
الأول: مطالبتهم بالدليل القاطع على ذلك، وقد وصَّى بعض العلماء أن يطالب المبتدع بالدليل ولا يُحْتَجَّ عليه، فإن القدح في شبهته ولو بمجرد المنع من صحته حتى يستبين أسهل وأوضح من رد تشكيكه في دليل أهل الحق، وذلك لأن الخراب أسهل من العمارة، ولأن من وصايا المبطلين التمسك بالجحد الصِّرْف في خصومات الدين، كما ذلك دأبُهم في خصومات الدنيا،
__________
(1) في (ش): وإن أردتم استحقاق [الثناء] والثواب، لأنها قد وجدت غير مؤثرة فيهما، وذلك في الآلام، ومثل ذلك يقدح في قياس الفروع الظنية، فكيف الأدلة القطعية والظاهرة مع أهل السنة في أن المختار هو عليه الثناء والثواب.(6/22)
والجحد للحق ينتهي إلى جَحْد الضرورة، وحينئذٍ ينقطع المُحِقُّ من الكلام، وينتقل إلى مرتبة الجهاد بالسيف أو الصبر إلى يوم الفصل، وإذا كان مفزَعُهم إلى جحد الحق كان المُحِقُّ أولى أن يفزَعَ إلى جحد الباطل، ويرد عليهم مكرَهُم، ويُوقِعَهم في كيدهم.
فإن قالوا: ليس على النافي دليل.
قلنا: من ادعى نفي العلم وكان حاصل دعواه أنه جاهل، فلا دليل عليه، ولكن أن نفى الضرورة، قطعنا بتكذيبه وإلاَّ وقفنا في ذلك (1). وأما من ادَّعى العلم بالنفي، فعليه الدليل، ولذلك احتجنا إلى الاستدلال على نفي الثاني.
الوجه الثاني: أنه لا مانع من بُطلان هذا الاسم أو بطلان معناه مع بقاء اسم (2) الطاعة والعبادة، وكذلك اسم المعصية والمخالفة، ولم تَرِدِ الأوامرُ الشرعية على الخلق بأن يتكلَّفُوا ما شَقَّ بل وردت بأن يطيعوا ولا يعصوا، ويعبدوا ولا يكفروا، فحيث شق ذلك، أمرنا بالصبر، وحيثُ لم يشُقَّ، لم نُحْرَمِ الأجر، بل قد جاء نفي الحرج والعسر في نصوص كتاب الله تعالى وقال: {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2]، وقال في صفته - صلى الله عليه وسلم -: {وما أنا من المُتَكَلِّفين} [ص: 86]، وسمى دينه الذي ارتضاه لعباده اليُسرى، وسمَّى خلاف ذلك العسرى. وقد بينت (3) في مقدمات هذا الكتاب أن العُسرى أمرٌ نِسبيٌّ إضافي، وأكثر ما يكون على حَسَبِ الدواعي والصوارف، ولذلك كانت الصلاةُ كبيرة إلا على الخاشعين مع مساواة غيرهم لهم في القوة والصحة أو زيادة غيرهم عليهم في ذلك، ولا معنى لاشتراط (4) بقاء اسم التكليف (5)، ولولا ذلك كذلك (6) لم
__________
(1) من قوله: " ولكن " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): ثبت، وهو تصحيف.
(4) في (أ): " لاشتراك "، والمثبت كتب فوقها في إحدى النسخ.
(5) من قولهم: " غيرهم لهم " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) ساقط من (أ).(6/23)
تصح الصلاة من غير مشقَّةٍ، ولكانت المشقة أحد شروط صحتها في كتب الفقه، بل كان يلزم بطلان صلاة الخاشعين، بل بطلان إسلام كثير من المسلمين.
فهذه الأسماء التي هي العبادة والطاعة والمعصية (1) والمخالفة باقية مع مجرد الاختيار، سواء بقي اسم التكليف ومعناه أو لا، وذلك مثلما بقي في حق الرب (2) عز وجل اسم الجواد الكريم الوهاب الحميد، الفعَّال لما يريد مع انتفاء المشاق.
وقد ورد ما يدل على عدم اعتبار المشقة، بل على مضاعفة الثواب مع عدمها، وذلك كقوله تعالي: {وإنَّها لكبيرةٌ إلاَّ على الخاشعين} [البقرة: 45]، ولا شك أن ثواب الخاشعين أعظم من ثواب غيرهم، ولا شك أن الصلاة أسهل وأخفُّ عليهم من غيرهم، بل قد جاء " جُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة " (3)، و" أرحنا بالصلاة يا بلال " (4).
__________
(1) ساقط من (أ).
(2) في (أ): في حق اسم الرب.
(3) حديث صحيح، أخرجه أحمد 3/ 128 و199 و285، وأبو يعلى (3482) و (3530)، والنسائي في " السنن " 7/ 61 و61 - 62 وفي " عشرة النساء " (1) و (2)، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي " ص 229 و230، والحاكم 2/ 160، والبيهقي 7/ 78 من طريق ثابت البناني، والطبراني في " المعجم الصغير " 1/ 262 من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، كلاهما عن أنس بن مالك، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه أحمد 5/ 371، وأبو داود (4986) من طريق إسرائيل عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: انطلقتُ أنا وأبي إلى صهرٍ لنا من الأنصار نعودُه فحضرت الصلاة، فقال لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح، قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قم يا بلال فأرحنا بالصلاة " وإسناده صحيح. =(6/24)
وسواء حصل وصف الخاشعين برياضة فيها مشقة، أو برياضةٍ لا مشقة فيها أو موهبة من الله تعالى من غير رياضةٍ، لأن الثواب الحاصل على صلاة الخاشع غير الثواب الحاصل على الرياضة. وقد أثنى الله على يحيى بن زكريا بكونه سيداً وحصوراً، وذلك منصوصٌ في كتاب الله تعالى من أن عفة الحَصُور عن النساء موهبة من الله تعالى.
وعن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " كُلُّ بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب، يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاَّ يحيى بن زكريا، فإنه كان سيداً وحصوراً "، وأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قذاةٍ من الأرض فأخذها، وقال: " ذكره مثل هذه القذاة " (1). رواه الطبراني في " الأوسط " من معاجمه من حديث حجاج بن سليمان الرُّعيني، وهو مختلفٌ فيه، ووثَّقه ابن حبان وغيره، ومَشَّاه ابن عدِيٌّ، ولكن شواهده في الثناء على يحيى بن زكريا عليهما السلام قرآنية ضرورية (2)، ونبوية شهيرة.
__________
= وأخرجه أحمد 5/ 364، وأبو داود (4785) من طريق مسعر بن كدام، عن عمرو بن مُرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل -قال مسعر: أراه من خزاعة- وفي رواية أحمد: رجل من أسلم- قال: ليتني صليتُ فاسترحت، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا بلال أقم الصلاه أرحنا بها ".
(1) أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2/ 651، وابن أبي حاتم في تفسيره فيما نقله عنه ابن كثير في " تفسيره " 1/ 369 من طريق أبي الأزهر حجاج بن سليمان الرعيني عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 209 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه حجاج بن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات.
قلت: وقال ابن عدي: وإذا روى حجاج هذا عن غير ابن لهيعة، فهو مستقيم إن شاء الله.
(2) في (ش): ضرورة.(6/25)
ففي الباب عن ابن عباس (1) بإسناد رجاله ثقات.
وعنه أيضاً بإسناد آخر رجاله رجال الصحيح، وخرجه الحاكمُ عنه، وقال: على شرط مسلم (2).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (3) بإسناد رجاله ثقات كلها مرفوعة. ذكرها
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 254 و292 و295 و301 و320، وأبو يعلى (2544)، والبزار (2358)، والطبراني (12933)، والحاكم 2/ 591 من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 209 وقال: وفيه علي بن زيد، ضعفه الجمهور، وقد وثق، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن حجر في " تلخيص الحبير ": وهو من رواية علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران وهما ضعيفان.
وأخرجه البزار (2359) عن سهل، حدثنا محمد بن سليمان، حدثنا إسماعيل بن زكريا مولى بني أسد، عن محمد بن عون الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقال ابن حجر في " التلخيص " تعليقاً على هذه الطريق: ومحمد بن عون الخراساني ضعيف.
(2) أخرجه الحكم 2/ 591 وليس فيه ما نقله عنه المؤلف.
(3) أخرجه البزار (2360) من طريق سفيان، وابن المنذر فيما ذكره ابن كثير في " تفسيره " 1/ 369 من طريق علي بن مُسْهِرٍ، كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو وقال الهيثمي في " المجمع " 8/ 209: رواه البزار ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني (6981)، والحاكم 2/ 373 من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني عمرو بن العاص مرفوعاً، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير 1/ 369 من طريق عباد بن العوام، والطبري (6983) من طريق شعبة، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله وإما أبوه فرفعه ابن أبي حاتم، ووقفه الطبري. =(6/26)
الهيثمي في " مجمع الزوائد ".
وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الشهادات من " تلخيصه " (1) رواه أحمد والحاكم وأبو يعلى من حديث ابن عباس.
وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح إلى الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (2).
وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب مرسلاً أيضاً (3)، وذكر له طرقاً أُخر.
ويشهد له حديث " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، لكن برحمة الله " (4) وفيه
__________
= وأخرجه ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه سمع سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً. وقال ابن كثير: فهذا موقوفٌ أصحُّ إسناداً من المرفوع.
(1) 4/ 199.
(2) وأخرجه الحاكم 2/ 591، والبيهقي 10/ 186 من طرق عن الحسن مرسلاً.
(3) وأخرجه الطبري (6982) عن يونس، عن أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قوله. ورجاله ثقات.
(4) أخرجه البخاري (5673) و (6463)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة، وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (348) و (350).
وأخرجه البخاري (6464) و (6467)، ومسلم (2818) من حديث عائشة.
وأخرجه مسلم (2817) من حديث جابر. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (350).
وأخرجه أحمد 3/ 52 من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري. وحسن إسناده الهيثمي في " المجمع " 10/ 356!
وأخرجه البزار (3447) من حديث أبي موسى الأشعري.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 356 - 357 وقال: رواه البزار والطبراني في " الأوسط " و " الكبير "، وفي أسانيدهم أشعث بن سوار، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهم ثقات. =(6/27)
ثلاثة عشر حديثاً مما اتَّفق عليه البخاري ومسلم منها على اثنين، وانفرد مسلم بحديث، وبقيتها في " مجمع الزوائد "، وُثِّقَ منها رجال أربعةٍ، وبقيتها على شرط التواتر.
ويشهد له مثل قول آدم: {وإنْ لم تَغفِرْ لنا وترحَمْنا لنكونَنَّ من الخاسرين} [الأعراف: 23]، وقوله تعالى: {وإلاَّ تَغفِرْ لي وترحمني أكُنْ من الخاسرين} [هود: 47]، إلى أمثالٍ لذلك كثيرة ذكرتها في آخر هذا المجلد، وأوضحت أن الباء في قوله تعالى: {ادخُلُوا الجَنَّةَ بما كُنْتُم تعملون} [النحل: 32] باء السبب لا باء الثمن والقيمة، وإنما هي كقولك أغناني الأمير بأبياتٍ قلتها أو بتقبيلي قدمه.
ويشهد لطرف الحديث الآخر، وهو عموم البلوى بالذنوب قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وفى آية: {على ظهرها} [فاطر: 45]، وقوله تعالى: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23].
__________
= وأخرجه " البزار " (3446) والطبراني (7318) و (7219) و (7220) و (7221) من حديث شريك بن طارق. وذكره الهيثمي في " المجمع " من حديث شريك بن طريف -وهو خطأ، والصواب ما أثبت- وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.
وأخرجه الطبراني 1/ (493) من حديث أسامة بن شريك.
وقال الهيثمي في " المجمع ": وفيه المفضل بن صالح الأسدى. وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني 1/ (1001) من حديث أسد بن كرز: وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناده في " الإصابة " 1/ 49.
وفي " مجمع " الزوائد " في هذا المعنى حديثان لأبي هريرة بزيادة ليست في الصحيح، وحديث أنس بن مالك وابن عمر وواثلة بن الأسقع، وبذلك يتم العدد ثلاثة عشر حديثاً كما ذكر المؤلف.(6/28)
وذكر في " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية أن زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام بكى عند موته، فقال له ولده الباقر: لِمَ تبكي؟ فوالله ما علمتُ أحداً طلب الله ما طلبته، فقال له أبوه: اسكت يا ولدي، فإنه ليس أحد يأتي يوم القيامة إلاَّ وله زلَّة، إن شاء الله عاقبه عليها، وإن شاء عفا عنه.
ويعضده حديث عائشة وأبي هريرة " لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا أنا ".
وفي " مسلم " عن جابر مثله.
ومنه قول الخليل: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. وفي " مجمع الزوائد " عشرة أحاديث مثل ذلك. وفي قول آدم ونوحٍ في كتاب الله.
والعجب من المعتزلة أنهم يُفضلون الملائكة على الأنبياء والصالحين مع قوله في الملائكة: {لا يفتُرُون} [الأنبياء: 20]، وفي آية: {وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أي: يَعْيَوْنَ، ومع ما عُلِمَ من عصمة الملائكة من شهوة النساء والطعام والشراب، ثم يُعَوِّلُون بعد هذا على أن الثواب علي قَدَرِ المشقة.
ومن أعظم ما يُحتج به على ذلك ما قطع به الجماهير وجوَّزه الجميع من تفضيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نوحٍ عليه السلام، وأمثاله ممن كانت شِرعته أشق وعمره أطول، ومشقته أكثر، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بقي عاملاً بشريعته قدر عشرين عاماً مع ما عُلِمَ من سهولتها بالنسبة إلى ما قبلها من الشرائع، وإلى ذلك الإشارة بنحو قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
ولذلك ورد في الصحيح أنهم تقالُّوا عبادته، وقال بعضهم: إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فغضب، وقال: "إني(6/29)
لأعلمُكم بالله وأخشاكم له، ولكنَّها سُنَّتي" (1) الحديث أو كما ورد.
ووصف شريعته - صلى الله عليه وسلم - بأنها الحنيفية السمحة (2)، ونهى عن الرهبانية (3)
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 241 و259 و285، والبخاري (5063)، ومسلم (1401)، والنسائي 6/ 60، وابن حبان (14) و (317)، والبيهقي 7/ 77، والبغوي في " شرح السنة " (96) من حديث أنس. وتمام لفظه من البخاري: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
(2) تقدم تخريجه في 1/ 175.
(3) أخرج أحمد 6/ 226، والبزار (1458) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون أحسب اسمها خولة بنت حكيم على عائشة وهي باذّة الهيئة، فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان، فقال: " يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيَّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده ". لفظ أحمد، ورجال إسناده ثقات.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 4/ 302 من حديث أبي أمامة، ونسبه إلى الطبراني وقال: وفيه عُفير بن معدان وهو ضعيف، ولفظه: " إني إنما بعثث بالحنيفية السمحة، ولم أبعث بالرهبانية البدعة، وإن أقواماً ابتدعوا الرهبانية فكُتِبَتْ عليهم، فما رَعَوْها حق رعايتها، ألا فكلوا اللحم، وائتوا النساء، وصوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فإني بذلك أُمرت ".
وأخرج الدارمي 2/ 133 عن محمد بن يزيد الحزامي، حدثنا يونس بن بكير، حدثني ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان ممن ترك النساء، بعث إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية، أرغبت عن سنتي؟ " قال: لا يا رسول الله، قال: " إن من سنتي أن أصلي وأنام، وأصوم وأطعم، وأنكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني ... ".(6/30)
والتشديد (1)، وقد أفردت هذا المعنى في جزءٍ مفرد ولله الحمد، وأوضحت فيه أنه لا رابطة عقلية ولا شرعية بين الحقِّ والعسر، ولا بين الباطل والسهولة لما صح من ضلال كثير من أهل الأعمال الشاقة من رهبان النصارى وخوارج هذه الأمة ومبتدعتها، وعكس ذلك والحمد لله رب العالمين.
ولذلك صح بلوغ صلاة الجماعة والصلاة في الحرم، وفي ليلة القدر، وعلى هذه الأحوال كلها تلك المبالغ العظيمة (2)، ومن ثم (3) صح تفضيل سورةٍ على سورة، وآيةٍ على آية، وكانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن (4)، ومن ثم كان الحليم أفضل من المتحلِّم ونحو ذلك، ومجموع
__________
(1) يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذا الدين يُسرٌ، ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلاَّ غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرواح وشيء من الدُّلْجة ". أخرجه البخاري (39)، والنسائي 8/ 121 - 122، وابن حبان (351)، والبيهقي في " السنن " 3/ 18 من حديث أبي هريرة.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): العطفة.
(4) أخرج مالك 1/ 208، ومن طريقه البخاري (5013) و (6643) و (7374)، وأبو داود (1461)، والنسائي في " السنن " 1/ 171 وفي " عمل اليوم والليلة " (698) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح غدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده إنها لتَعْدِلُ ثلث القرآن ".
وأخرجه من طريق أخرى عنه: البخاري (5015) بلفظ: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ " فشق ذلك عليهم وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: " الله الواحد الصمد ثلث القرآن ".
وأخرجه من حديث أبي الدرداء: مسلم (811)، والدارمي 2/ 460، وأحمد 6/ 442 و447، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (701).
وأخرجه من حديث أبي هريرة: مسلم (812)، والترمذي (2900).(6/31)
ذلك يوجب التواتر، ومنع التأويل بما ذكرنا غير مرة من أن العادة تقضي بالظاهر فيما شاع من عصر النبوة والصحابة، ولم يذكر تأويله ويحذر من ظاهره.
وقد ردَّ الإمام المتوكل أحمد بن سليمان (1) عليه السلام على نشوان بن سعيد قوله بنفي التفضيل، لأنه أراد نفي (2) تفضيل أهل البيت بنسبهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبالغ في أن الله لا يفضل أحداً إلاَّ بالعمل، فبالغ الإمام في رد ذلك، واحتج بالنصوص مثل قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وذكر ما تقدم من تفضيل محمد - صلى الله عليه وسلم - مع قصر عمره وسهولة شريعته، وذكر أن الله فاضل (3) بين المواضع، وفضل بعضها على بعض كالكعبة، وبين الأزمان كرمضان، وبين الليالي كليلة القدر، فجعلها خيراً من ألف شهر، وبين الأيام كيوم الجمعة، وطوَّل عليه السلام في ذلك، وجوّد في الرد على شُبَهِ (4) نشوان في نفي ذلك.
وتلخيصُ هذا الجواب أن المشقة في التكليف صارفٌ عن الخير، وداعٍ
__________
= وأخرجه من حديث أبي أيوب الأنصاري: الترمذي (2896)، والنسائي في " المجتبى " 2/ 172، وفي " عمل اليوم والليلة " (679) و (680) و (681) و (682) و (683).
وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري: النسائي في " عمل اليوم والليلة " (693)، وابن ماجه (3789).
وأخرجه من حديث ابن مسعود: النسائي في " عمل اليوم والليلة " (675)، وابن حبان (2576)، والبزار (2298)، والطبراني (10485).
(1) تقدمت ترجمته 2/ 332.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (أ): فضل.
(4) في (ش): شبهة.(6/32)
إلى الشرِّ، لا معنى لها غير ذلك، فإمَّا أن يشترطوا في التكليف أن تكون تلك المشقة اللازمة (1) له راجحةً على الدواعي إلى الخير والصوارف عن الشر أو لا، والأول ممنوع لوجوه:
أولها: الاتفاق على ذلك، فإن المعتزلة لا توجب ذلك (2) التكليف.
وثانيها: لزوم أن لا تقع الطاعة من مكلَّفٍ أبداً، لأن المرجوح لا يقع قطعاً، وإلاَّ لزم تجويز وقوعه من الله تعالى.
وثالثها: وقوع جميع أنواع المعاصي من كل أحدٍ (3) من المكلفين.
ورابعها: أن ذلك يناقض إيجاب المعتزلة اللطف على الله تعالى.
وخامسها: أنه يوجب جواز أن يفعل الله المفسدة في التكليف، وهو عندهم ممنوعٌ، فإنهم منعوا أن يفعل الله الدواعي الزائدة التي يعلم الله تعالى أن العبد (4) يعصي عندها، ويصح تكليفه بدونها، وهذا يلزمهم قبح جميع الدواعي إلى القبيح (5) الأصلية التي وقع القبيح عندها، لأن العلة وقوعه (6) عندها، سواء كانت أصليةً أو زائدة، وفرقهم بينها بأن الأصلية شرطٌ في صحة التكليف ممنوع بما ذكرنا في هذا البحث، ولأنه يؤدي إلى أن يكون الشرط في صحة التكليف فعل ما هو مفسدةٌ فيه، وهذا متناقض.
وسادسها: أن الله تعالى أخبر أنه لا يفعل مثل ذلك، فقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، وقال: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
__________
(1) في (ش): الملازمة.
(2) في (ش): ذلك في التكليف.
(3) في (ش): واحد.
(4) في (ش): المكلف.
(5) في (ش): القبيحة.
(6) في (ش): الوقوع.(6/33)
وسابعها: أنه لا يلزم عدم التكليف بترك ما لا يشق، أو عدم الثواب بترك كثيرٍ من المحرمات من نكاح الأمهات والبنات وسائر المحارم، وكثير من أنواع الكفر، والسُّخْف، والخِسَّة، والكذب الضار، وهذه الأمور هي أعظم المحرمات وأغلظها.
وكذلك قضاء الجواد المُمَدَّح واسع الغنى لدانقٍ من الدين لا يسمى تكليفاً مشتقاً من الكُلفة مع كونه واجباً مأموراً به مُثاباً عليه، وكذلك قول الملائكة والصالحين: سبحان الله، مما لا يصح بقاء الكلفة فيه على الإطلاق في الحقيقة العرفية خصوصاً.
وكذلك اعتقاد بطلان ربوبية الحجارة ونحوها، وكذلك ترك الشيعة للنصب والسنية للرفض.
والثاني: -وهو أن تكون المشقة اللازمة للتكليف مرجوحة- مسلَّمٌ، ولا يضر تسليمه، لأن اللطف حينئذ حاصل بتكثير الدواعي إلى الخير وتقويتها، وذلك مقدورٌ لله تعالى بالإجماع كالمعصوم من الملائكة والأنبياء مع بقاء اسم الاختيار، واسم الطاعة والمعصية، وإن بطل المعنى المناسب لاسم التكليف في اشتقاقه. وقد صحح هذا الإمام يحيى بن حمزة في بعض مصنفاته، وابن عبد السلام في " قواعده "، وجوَّد ذلك فثبت أن اسم الطاعة والعبادة، واسم الحرام والمعصية لا يلازم اسم التكليف ومعناه ملازمة الصفات الذاتيات، ولا الشروط الواجبات، وإنما تكون المشقة في التكليف من العوارض الزائلات.
فإن قيل: إنا مُكَلَّفون فيما لا مشقة فيه بالأسباب الشاقة أجبنا بوجوه:
الأول: أن هذا السؤال لا يرد إلاَّ على السؤال السابع.
الثاني: أن فيه ما لا مشقة في سببه، مثل ترك عبادة الأصنام، وأن بطلان ربوبيتها معلومٌ بالضرورة، وكذا قبح عبادتها الصارف عنها، ولا داعي لنا إلى عبادتها ألبتة.(6/34)
وكذلك نكاح الأمهات، النُّفرة فيها طبيعية لا كُلفة في تركه، ولا تتوقف النفرة عنه على معرفة صحة الشرائع.
الثالث: أنا نعلم ضرورة أن التكليف تعلق بترك ما لا مشقة فيه بنفسه من غير نظرٍ إلى مقدمات الترك، على أن تلك المقدمات الشافة إنما وجب لأجله، فلو كان شرط التكليف المشقة (1)، ولا مشقة في المقصود، لزم أن لا يصح التكليف به، فلا يجب التوصل إليه بما فيه مشقة على أن (2) تسمية ما لا يتم الواجب إلاَّ به واجباً متنازعٌ فيه، والصحيح أنه ليس بواجب، ولكن لا بد منه، ويظهر ذلك بعدم وجوب نيته، ولا تجب نية (3) صوم جزء من الليل، ولا غسل جزء من الرأس، ولا تتعلق به العقوبة.
الوجه الثالث من أصل الجواب: أن قولهم: إن اختيار (4) الحسن مع المشقة يوجب الثناء والثواب، ومع غير المشقة يوجب الثناء دون الثواب، يقتضي أن اختيار العبد الذي تصحبه المشقة أرفع مرتبة في استحقاق الحمد والثناء (5) من اختيار الرب عز وجل، لأن نزول اختيار الرب عن استحقاق درجة الثواب على هذا الوجه إنما كان بسبب قصوره عن مرتبة داعي العبد الذي قوي على دفع الصوارف، والصبر على المكالف، ولم يشعر المعتزلي أن هذه صفة نقصٍ للعبد تدل على عجزه لا سوى، إذ لا أثر لصارف المشقة مع رجحان داعي الرغبة، حيث إن الفعل يقع عند رجحانه سواءٌ شق أو لم يشق، ولا يقع مع عدم رجحانه شق أو لم يشق، فإنما المشقة من لوازم ضعف العبد، وقلة قدرته لا من لوازم زيادة الثناء والثواب.
__________
(1) في (ش): فلو كان الشرط التكليف به المشقة.
(2) في (ش): لأن.
(3) ساقطة من (ش).
(4) تحرفت في (ش) إلى: حساب.
(5) في (ش): والثواب.(6/35)
ولذلك ورد في الحديث " أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف " (1)، وما ورد في الشريعة المطهرة في بعض الصور من زيادة الأجر (2) عند المشقة فسببه رحمة الرب الكريم سبحانه للعبد، وليست المشقة تقتضي بنفسها وجوب ذلك بدليل ما قدمنا من تواتر المضاعفة من غير مشقة.
وكذلك ما ورد من تضعيف العقاب عند ضعف الداعي إلى المعصية، وعدم المشقة في تركها، سببه أنه ضعَّف داعي الرحمة المقتضي لتخفيف كثير من العقاب المستحق فبقي موجب العقاب بلا معارض، لا أن عدم المشقة أو ضعفها انتهض سبباً لتضعيف العقوبة، ويقوِّيه مثل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} الآية [النور: 61]، فإنه لم ينف الحرج عنهم، لأنهم أفضل من الأصحَّاء (3)، بل لأنهم أضعف، وقد كان أفاضل الصحابة أصح وأقوى وأقل مشقة واتقى.
ويحتمل جواباً آخر في الوجهين، وهو أن يكون الأجر على المشقة من قبيل الأجر على الآلام، وهي ضرورية لا اختيار للعبد فيها، ويوضحه أن المشقة تزيد وتنقص بغير اختيار، بل توجد وتُعْدَمُ بغير اختيار، فيكون ذلك الأجر زيادة في بعض الصور ومُقَلِّلاً للعقاب في بعضها، وذلك من العوارض التي لا يجب استمرارها، فقد تكون المصلحة والحكمة في تضعيف ثواب ما لم تصحبه تلك
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 366 و370، ومسلم (2664)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (623)، و (624)، وابن ماجه (79) و (4168)، وابن أبي عاصم في " السنة " (356)، والطحاوي في " مشكل الآثار " (259) و (260) و (261) و (262)، وابن حبان (5721) و (5722)، وأبو نعيم في " الحلية " 10/ 296، والخطيب في " تاريخه " 12/ 223، والبيهقي في " السنن " 10/ 89، وفي " الأسماء والصفات " 1/ 263، والمزي في " تهذيب الكمال " 9/ 135 من حديث أبي هريرة.
(2) في (ش): من زيادات الأحسن.
(3) في (أ) و (ش): الأصحاب، وهو خطأ.(6/36)
المشقة أعظم من ثواب ما صحبته.
فهذا الجواب قوي جداً وبتحقيقه يتضح ما تقدم أن ما يلحق العبد من المشقة عند أفعاله الاختيارية من جملة صفات النقص التي تنزه عنها الرب عز وجل، وأن أكمل الاختيار، وأكمل القدرة، وأتَمَّ التمكن ما لم تعلق به المشقة والعجز والكسل والتردد في العزم.
الوجه الرابع: أنه لو كان مجرد الاختيار من غير مشقة لا يكفي في استحقاق الثواب، لما كان اختياره تعالى للإحسان إلى العباد يكفي في استحقاق الشكر عقلاً على أصول المعتزلة، لأن الشكر جزاء النعمة، والجزاء في معنى الثواب، لكنه يختص في العُرف بما كان من المرتبة العليا إلى السفلى، فصار الشكر والثواب كالأمر والدعاء صورتهما واحدة، واسمهما ومعناهما يختلف باختلاف عُلُوِّ المرتبة وانحطاطها.
فصورة " افعل " منا إلى الله تعالى دعاء، ومن الله إلينا أمرٌ، ولا ينعكس، والجزاء منا لله تعالى شكرٌ، ولا يكون ثواباً، والجزاء من الله تعالى لنا ثواب، وقد يسمى شكراً إما مجازاً أو عرفاً، ولا يجوز تسمية شكر الله تعالى ثواباً لا حقيقة ولا مجازاً.
فإذا كان الله سبحانه قد أوجب شكره على ما لا يُشَقُّ عليه، والشكر له عز وجل عندهم كالجزاء على إحسانه مع أنه سبحانه هو الغني الحميد، فكيف لا يكون كذلك في حكمته في ثواب العبد؟.
الوجه الخامس: أنه إنما يلزم ما ذكروه بناء على أن الثواب واجب على الله تعالى في العقل، وإن لم يَعِدْ به، ولم يجمعوا على هذا، فإن البغدادية منهم لا يوجبون الثواب، وكذلك طوائف أهل السنة، ولكن الله سبحانه وتعالى يفعله قطعاً لوعده الصادق بذلك، وهم مطالبون بدليل قاطع على إيجاب الثواب عقلاً، وأدلتهم هنا ضعيفة، والطعن ممكن فيها، وبذلك يبطل قولهم: إنه ليس(6/37)
في مقدور الله تعالى ولا في معلومه لُطْفٌ للعصاة، وإيجاب الثواب ينبني على قولهم: إن الواجبات كلها وَجَبَتْ لوجوهٍ ثابتة في نفس الأمر، لا بإيجاب الله تعالى، والله عندهم غير مختارٍ في الأحكام الشرعية.
وقد اكتفى بعض أهل السنة في رد مذهبهم باعتقاده أنه باطلٌ بالضرورة الشرعية وظنه (1) أنهم لا يتجاسرون على دفع (2) ذلك، ولم يشعر أنه صريح مذهبهم (2)، وهو يكفي السني (3) في معرفة بطلان قولهم، فإنه يستلزم أنه لا فرق بين الرب عزَّ وجلَّ وبين المفتي بالصواب في الأمور المعلومات، ويلزمهم مثل (4) ذلك في المظنونات، لأنهم يقطعون بتصويب كُلِّ مجتهد فيها، فيكون الصواب معلوماً للمفتي.
ومن تعاليلهم الركيكة في ذلك أن الصلاة وسائر الواجبات الشرعية إنما وجبت، لأنها لطفٌ في الواجبات العقلية على معنى أن الله تعالى علم أن من فعل واجباً شرعياً فَعَلَ واجباً عقلياً، والمحرمات الشرعية مفاسد في العقلية على معنى أن من فعل محرماً شرعياً فعل محرماً عقلياً.
وقد ألزموا أن من سَكِرَ من الخمر، قبح موته حتى يصحو، فمن واصل السكر كان في أمانٍ من الموت حتى يصحو، وحتى يرتكب قبيحاً عقلياً (5) بعد صحوه. وكذلك من فعل واجباً شرعياً، كان في أمان من الموت حتى يفعل واجباً عقلياً.
__________
(1) في (ش): " وظنهم " وهو خطأ.
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (ش): السنة.
(4) من قوله: " أنه لا فرق " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) ساقطة من (أ).(6/38)
وقد ألزموا مع توسعة الوقت في الواجب (1) أن تكون المصلحة المفعولة بعده واقعةً بعد خروج وقته الموسَّع، إذ لو جاز وقوعها قبله قبُحت التوسعة، ومنع (2) ذلك، فيلزم الأمان من الموت في أول وقت الصلاة إلى آخره في حقِّ من صلَّى أو عزم على الصلاة، والمعلوم بالحسِّ خلاف ذلك كله.
وأيضاً فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم بنصِّ كتاب الله، ولا موجب لتأويله بقثل بعضهم بعضاً، وعلى تسليمه، فصبر المقتول للقتل واجبٌ عليه شرعي، كصبر المقتول في حدِّ الزنى وفي القصاص.
ولا بُدَّ على أصولهم من كونه لطفاً في واجب عقلي يقوم به المقتول، ومتى يكون ذلك، ولا يصح التكليف عندهم في البرزخ ألبتة، ولا يكفي المقتول كون ذلك لطفاً للقاتل كما اعتذروا بذلك، لأنهما واجبان شرعيان على مكلفين مختلفين، فوجب أن يكون كل منهما لطفاً فيما يخصُّهُ.
بل الصبر في الجهاد الواجب المفضي إلى الشهادة واجبٌ شرعي، وقد يتصل به القتل فوراً قبل أداء واجب عقلي، مثل المقتول فوراً بسهم، أو المضروب عنقه (3) بغتةً أو نحو ذلك.
وعلى تسليم ما ذكروه فلا دلالة في العقل على وجوب الجزاء على السيد للعبد إذا فعل ما يجب عليه، خصوصاً على قول المعتزلة هذا المقدم، وهو أن الواجب يجب لنفسه، وأن الله لم يوجب شيئاً من الواجبات، ويتأوَّلون إيجابه تعالى بإخباره بالوجوب، والمختار أنه لا يجب البحث عن وجه وجوب الشرعيات لو لم يرد بيانه، لكنه قد ورد بيانه في أمرين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) " في الواجب " ساقطة من (أ).
(2) في (ش): مع.
(3) في (ش): بعنقه.(6/39)
الأول: كونها شكراً لله عز وجل، وذكر في " شمس الشريعة " عن أبي مُضَرَ أنه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهو مذهب يحيى بن الحسين الهادي سمعته من العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير، ثم وجدته منصوصاً في كتاب " البالغ المدرك " وشرحه السيد أبو طالب ولم يتأوله، ونصَّ عليه عبد الله بن زيد في كتابه " المحجة البيضاء "، وهو قول البغدادية من المعتزلة (1)، وهو الذي تقتضيه قواعد أهل السنة أجمعين، قال الله سبحانه: {اعمَلُوا آلَ داودَ شُكْراً} [سبأ: 13]. قال الزمخشري (2) على اعتزاله: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه، وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدَّى على طريق الشكر.
وقال في تفسير {وقليلٌ من عباديَ الشَكورُ} [سبأ: 13]: إنه المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكَدْحاً. انتهى.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: " أفلا أكون عبداً شكوراً " (3).
__________
(1) " من المعتزلة " ساقطة من (ش).
(2) 3/ 283.
(3) أخرجه عبد الرزاق (4746)، والحميدي (759)، وأحمد 4/ 251 و255، والبخاري (1130) و (4836) و (6471)، ومسلم (2819)، والترمذي (412)، وفي " الشمائل " (258)، والنسائي 3/ 219، وابن ماجه (1419)، وابن خزيمة (1182) و (1183)، وابن حبان (311)، والبيهقي 3/ 16 و7/ 39، والبغوي (931) من حديث المغيرة بن شعبة.
وأخرجه أحمد 6/ 115، والبخاري (4837)، ومسلم (2820)، والبيهقي 7/ 39، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 289 من حديث عائشة.
وأخرجه ابن خزيمة (1184)، وأبو نعيم في " الحلية " 7/ 205 من حديث أبي هريرة.(6/40)
ولا شك أن امتثال أوامر المحسن لأجل إحسانه يُسمى شكراً، إما في الحقيقة الوضعية، أو في الحقيقة العرفية، أو فيهما معاً، وأما الكلام في كل فرد من أفراد التكليف وما الوجه في تسميته شكراً، فلا داعي إلى التطويل بذكره هنا، لأن هذا عارض، ولا حاجة إلى تكلُّفه هنا مع الاعتراف بحكمة الله تعالى، وأنه يعلم ما لا نعلم، ومن أدقِّه الكلام في أفعال الحج (1)، وقد تكلم فيه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح " العمدة "، وقد أفردت الكلام على هذه المسألة، وفيها مباحث سهلة.
الثاني: إنها من أسباب معرفة الله والإيمان به، لقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وقوله تعالى بعد ذكر حكم الظهار في المجادلة: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4].
ويُؤيِّدُ هذا من العمومات مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] ونحوها {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ففي ظاهرها (2) ما يدل على أن العلم بالحق هو المقصود الأكبر بجميع ما اشتمل عليه الكتاب من الأوامر والنواهي وغيرهما كما دلَّ على ذلك ما تقدم بالنصوصية الخاصة.
ويؤيد هذا أن الله تعالى قد علَّل وجود العالم في الابتداء والبعث في الانتهاء بكونه وسيلةً إلى العلم به سبحانه، أما في الابتداء فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
__________
(1) في (ش): أنواع.
(2) في (ش): ظاهرها.(6/41)
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 38 - 39]، وقال تعالى بعد ذكر الشيطان: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] فدل على أن المقصود الأعظم بجميع المخلوقات، وشرع الشرائع هو هذان الأمران.
وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وهذه معارفٌ شرعية، وليس للعقول فيها حكم قاطع كما ذكرته المعتزلة، وربَّما تعلقت بهذا مباحث ليس هذا موضع شرحها، فثبت أن الثواب غير ثابت عقلاً للمطيعين، وبطل مع هذا قول المعتزلة: إن المشقة إنما كانت شرطاً في حسن التكليف ليجب الثواب عقلاً، وثبت أن الله تعالى لو هدى العصاة بإزالة المشقة في فعل الخير وترك الشر كان ذلك على الله يسيراً، وكان حسناً جميلاً، ولم يكن مُحالاً ولا قبيحاً.
الوجه السادس: أن السمع قد دل على قدرة الله تعالى على هداية الخلق أجمعين دلالة ضرورية أو قطعية يتعذر تأويلها (1) لوجهين:
أحدهما: ما تقدم من المنع من تأويل آيات المشيئة وأمثالها مما شاع مع الخاصة والعامة في عصر النبوة والصحابة وانقضاء ذلك العصر الذي هو عصر الهدى المجمع عليه والبيان لِمُهمات الدين، ولم يذكر لذلك الظاهر تأويل ألبتة، ولا حذر من اعتقاد ظاهره، فإن العادة تقضي بذلك وإن لم يكن واجباً كما مرَّ تقريره.
وثانيهما: أنه يُعْلَمُ من سياقها أن المراد بها التمدُّحُ بالقدرة على الهداية
__________
(1) ساقطة من (أ).(6/42)
التي يستحق بها الثناء والثواب، ويلزم من لم يقبلها حصول الذم والعقاب، وهي الهداية التي تكرَّر وصف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحرص عليها، والعجز عنها، والرغبة إلى الله تعالى فيها، والمبالغة في طلبها بعبارات متنوعة وصيغ مختلفة كقوله عز وجل: {إنَّك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص: 56]، وقوله تعالى: {لعلَّكَ باخِعٌ نفسَك أن لا يكونُوا مؤمنين} [الشعراء: 3]، وقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99 - 100].
وأمثال هذه السياقات مما يدلُّ على أن الله عزَّ وجلَّ لو شاء لحصل منهم المطلوب، ولكنه لم يشأ ذلك لبالغ حكمته التي عجز عن دركها أذكياء النُّظار، وعَشِيَتْ عن أنوارها المضيئة منهم الأبصار، وفيها قال الله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وفي جواب: {أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها}، قال: {إنِّي أعلَمُ ما لا تَعْلَمون} [البقرة: 30].
ومن ذلك ما حكاه الله عن المشركين من قولهم: {لو شاءَ الله ما أشْرَكْنا} [الأنعام: 148] مع قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} (1) [الأنعام: 107]، وقوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] المعلوم (2) أن هذه الهداية هي التي ينتفعون بها لا الإكراه الذي يمنع نسبة الفعل إلى المكره، ولا يُغني عنه شيئاً.
وكذلك قوله عز وجل: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] أي:
__________
(1) من قوله: " مع قوله " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): فمعلوم.(6/43)
لكانوا مؤمنين ينفعُهم إيمانُهم، ويُنجيهم من عذاب الله، كقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] أي: لصرفنا عن الشرك بمشيئته، فهدانا بالإيمان الذي به سَعِدَ (1) المؤمنون.
وإذا تتبعت آيات المشيئة، اضطرَّك مجموعها إلى القطع بما ذكرناه، وأفادك رِكَّةَ تأويلات المعتزلة، بل بطلانها، فمن ذلك قوله تعالى: {ولو شِئْنا لرَفَعْناه بها} بعد قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]، فإن الآية الأولى دلَّت على أنه لما انسلخ من آيات الله باطراحها، والعمل بخلافها وقع في مَهْواةٍ من الهلكة، استولى عليه فيها الشيطان، ثم جاءت الآية الثانية مبينة أن الله عزَّ وجلَّ لو شاء، لعصمه عصمة أوليائه الصالحين، فقال عز وجل: {ولو شئنا} أي: أن نرفعه ونُنجيَه من الهلكة، ونَعْصِمَهُ من الوقوع في المعصية، لرفعناه بها، أي: بالآيات التي أوتيها، وهذه المشيئة التي دلَّت " لو " على انتفائها ليست هي مشيئة الإكراه، لأن تلك لا ترفعه ولا تنفعه، وعلَّلَ سبحانه عدم المشيئة بقوله: {ولكنَّه أخْلَدَ إلى الأرضِ واتَّبَعَ هَواهُ} [الأعراف: 176] أي: بسبب ركونه إلى الأرض، ونسيانه الآخرة، واتباع هواه، استحقَّ انتفاء مشيئة نجاته وعصمته، فجعل الامتناع من رفعه عقوبته على اتباع هواه وإخلاده، لا عدم انتفاعه بإكراهه، ولا عدم القدرة على إرشاده، وفيه تنبيهٌ على أنه عُوقِبَ على اتباع هواه بترك هدايته النافعة، وأما ترك إكراهه، فليس بعقوبةٍ كما أن إكراهه ليس بنعمةٍ ولا مثوبةٍ.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] فلو كانت هذه المشيئة المذكورة (2) هي مشيئة الإكراه، لكان المعنى على زعمهم أنه لا
__________
(1) في (ش): يسعد.
(2) في (ش) زيادة: في الآية.(6/44)
يصح منهم الإيمان اختياراً، وإنما يصحُّ منهم مكرهين، وهذا غيرُ مُرادٍ بالاتفاق بينهم وبين أهل السنة.
والمعلوم أن الآية مسوقةٌ لنفي تأثير كل من يعتقد أنه يُؤَثِّر في الإيمان من دون مشيئة الله، وسواءٌ ذُكِرَ (1) ذلك المؤثِّر في هذه الآية أو لم يذكر، فليس لقائلٍ أن يقول: إنهم لو سمعوا النفخ في الصُّور، ورأَوُا السماوات تمور، وشاهدوا بعثرة القبور، آمنوا، وإن شاء الله أن لا يؤمنوا، وذلك لأن هذه الأمور المسكوت عنها في الآية هي في حكم الأمور المذكورة في الآية. وإنما نظير هذه الآية في استواء المنطوق والمفهوم {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] في إفادة تحريم جميع أنواع الأذى، وإن لم يكن تأفيفاً ولا نهراً.
وقد ألطف الزمخشري (2) العبارة، وأغرب (3) الحيلة في تأويلها، فحاول أن يجعل هذه الآيات في (4) الآيات التي اقترحها المشركون، فتأوَّل قوله فيها: {وحَشَرْنا عليهم كُلَّ شَيءٍ قُبُلاً} بقولهم: {أوْ تَأْتيَ بالله والملائكةِ قَبيلاً} [الإسراء: 92].
وكيف يصح له هذا وتنزيل الملائكة هو الذي صدر الله عزَّ وجلَّ به الآية، وخصَّصهم بذكر الإنزال، لكونهم في السماء، ثم عطف عليهم غيرهم بلفظ الحشر الذي هو بهم أليقُ من الإنزال، ثم جاء فيما عطفه عليهم بأدلِّ (5) الأشياء على المغايرة، وهو كل شيء الذي لا يصلح (6) أسماء للملائكة على جهة الحقيقة مطلقاً، ولا على جهة المجاز في هذا الموضع، والمجاز يحتاج إلى مساعدة القرينة، ولا نصَّ مع عدمها، فكيف مع دِلالة (7) القرينة على بُطلانه؟
__________
(1) في (ش): ذكروا، وليس بشيء.
(2) 2/ 45.
(3) في (ش): فأغرب.
(4) في (ش): هي.
(5) تحرفت في (ش) إلى: بأول.
(6) في (ش): يصح.
(7) من قوله: " الموضع " إلى هنا ساقط من (ش).(6/45)
وبالجملة: فلو سُلِّمَ للزمخشري ما حاوله من تنزيل الآية على ما اقترحوه من الآيات، لم يسلم لهم أن ما اقترحوه من الآيات غير مسقطٍ للاختيار في العادة لولا مشيئة الله تعالى، ولا له على ذلك دليلٌ، ولا يمنع من (1) ذلك مع بقاء مفهوم الآية في تعظيم تأثير إرادة الله تعالى، فإنها أعظم أثراً من قيام الساعة، فإن قيام الساعة لو أراد الله ما أثَّرَ في إيمان أحد.
بل قد ورد النصُّ الذي لا يمكن تأويله بذلك حيث قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] وحيث قالوا لأعضائهم حين أنطقها الله بالشهادة عليهم فيما جحدوا من الحق يومئذٍ: {لِمَ شَهِدْتُم علينا} [فصلت: 21] وتأويل هذه النصوص ممن تأوَّلها من أعظم الجنايات على الكتاب العزيز.
وقد صح الامتحان بنوع من التكليف يوم القيامة كما يأتي في مسألة الأطفال، ووقعت المخالفة من بعض المكلفين (2) يومئذ، وأجمع أهل السنة على صحة ذلك كما يأتي مقرَّراً إن شاء الله تعالى.
وليت شعري ما المانع أن يقترح الكفار ما يسقط معه الاختيار في العادة، بل لم يزل دأبُهم اقتراح مثل ذلك، وقد نص الله سبحانه على ذلك في قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 21 - 22].
فهذه آية واحدة مما ذكر الله سبحانه من تلك الآيات صارت ملجئة لهم إلى الإيمان بحيث لا ينفعهم عندها الإيمان، ولكنها لا تلجئهم إليه إلاَّ بإرادة الله سبحانه.
__________
(1) في (ش): مع.
(2) تحرف في (ش) إلى: المتكلفين.(6/46)
وأوضح منها قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] أي: لم تكن كسبته من قبل كقوله:
لَلْبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عَيْني (1)
أي: وقرارها، وهذا ليس من مقصودنا، ولكنه قيدتُه هنا خوف ضياعه.
وبالجملة إما أن يُسَلِّمَ الزمخشري أن الآيات لا تؤثِّر في الاضطرار إلاَّ مع إرادة الله عزَّ وجلَّ للاضطرار أو لا، إن سلَّم ذلك، لزمه مذهب أهل السنة: أن التأثير لإرادة الله تعالى، فلو شاء ما آمن أحد ولو يوم القيامة، ولو شاء لآمن كل أحد اختياراً ولو بأدنى الآيات أو بغير آية، وإن لم يسلم ذلك، قام عليه الدليل من العقل والسمع.
__________
(1) صدر بيت، عجزه: أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشفوف.
وهو لميسون بنت بحدل زوج معاوية بن أبي سفيان. قال اللخمي: هي أم ابنه يزيد، وكانت بدوية فضاقت لما تسرَّى عليها، فعذلها على ذلك وقال لها: أنتِ في مُلكٍ عظيم وما تدرين قدره، وكنت قبل اليوم في العباءة، فقالت هذه الأبيات، فلما سمعها قال لها: ما رضيتِ يا ابنة بحْدل حتى جعلتِني علجاً عنيفاً، فالحقي بأهلك؟ فطلَّقها وألحقها بأهلها، وقال لها: كنتِ فبنتِ، فقالت: لا والله ما سُرِرنا إذ كُنَّا، ولا أسفنا إذْ بِنا، ويقال إنها كانت حاملاً بيزيد، فوضعته في البرية، فمن ثم كان فصيحاً. والبيت في " الكتاب " لسيبويه 1/ 426، و" المقتضب " 2/ 27، و" الجُمل " للزجاجي ص 199، و" المحتسب " 1/ 326، و" سر صناعة الإعراب " 1/ 275، و" درة الغواص " ص 24، و" أمالي ابن الشجري " 1/ 251، و" حماسة ابن الشجري " ص 166، و" الجنى الداني " ص 157، و" شرح الأشموني " 3/ 313، " ابن عقيل " 2/ 280، و" أوضح المسالك " 3/ 181، و" شذور الذهب " ص 314، و" التصريح " 2/ 244، و" شرح ابن يعيش " 7/ 25، و" شرح شواهد شروح الألفية " 4/ 397، و" همع الهوامع " 2/ 17، و" الأشباه والنظائر " 4/ 277، و" مغني اللبيب " 1/ 267، و" شرح المغني " للبغدادي 5/ 64، و" خزانة الأدب " 8/ 503.(6/47)
أما العقل، فلأن وقوع الاضطرار إنما هو فعل الله تعالى في العبد، ولذلك كان اضطراراً، ولو كان فعل العبد، كان اختيارياً، فإذا كان فعل الله، توقف على مشيئته.
بيانه: أنه راجع إلى قوة الرعب، وهو من مقدورات الله وحده، قال الله تعالى: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نُصِرْتُ بالرُّعب " (1).
يُوَضِّحه: أن قوة القلب وشجاعته ورقته وجبنه من فعل الله تعالى إجماعاً، وكل ذلك ما لا يقف على حد، فلو شاء الله، لزاد في قوة بعض القلوب حتى لا تخضع لآية، ولو شاء لأضعفه حتى ينفلق لأدنى خيالٍ لا حقيقة له.
ومن الدليل على أن مذهب أهل السنة هو الفطرةُ التي فطر الناس عليها، أن (2) المخالفين يرجعون عند تحقق الحقائق إليها، وقد ختم الزمخشري كتابه " الكشاف " (3) بدعاء طويل جعل خلاصته أن يهب الله سبحانه له خاتمة الخير، بهذا اللفظ، فلو أنه حافظ على مذهبه في وجوب اللطف على الله، لكان ذلك التضرُّع الطويل لَعِباً وعبثاً لا فائدة فيه، لأن الله تعالى على زعمهم إن كان في علمه وقدرته لطفٌ لأحدٍ من جميع خلقه وجب عليه أن يفعله وجوباً يقبح منه تركه، ولا يُسَمَّى واهباً من قضى واجباً، وإن لم يكن ذلك في علم الله، فليس من مقدوراته حقٌّ يَهَبُه.
ولهذه النكتة احتج الإمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام على قدرة الله تعالى على هداية جميع المكلفين بإجماع المسلمين على سؤال الهداية واللطف، وهم لا يسألون الله تعالى ما لا يقدر عليه، وهذا واضح ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في الأصول: " لأن "، والجادة ما أثبت.
(2) 4/ 303.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 174.(6/48)
وأما الدليل على ذلك سمعاً، فقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] مع قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15].
فانظر كيف نصَّ سبحانه على خضوعهم لآية واحدة، وذلك لا يكون إلا مع مشيئته سبحانه أن يخضعوا، ونص على عدم خضوعهم بفتح باب من السماء وعروجهم فيه، وهي من أعظم الآيات لما لم يُرِدِ الله خضوعهم لذلك، ولو أراد الله سبحانه أن يخضعوا لذلك أو لدونه، لطارت أفئدتهم، ولانت شدتهم لأقل من ذلك، ولكن حكمة الله جارية بوقوع الأشياء بأسبابها مع قدرة الله تعالى على وقوعها من غير أسبابها (1)، ولذلك قال في إنزال الملائكة يوم بدر: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126].
وما أعظم اغترار الجُهَّال بالأسباب، ونسبة التأثير إليها دون ربِّ الأرباب، فهي على الحقيقة للغافلين أعظم حجاب، ومن أبياتٍ كنت قلتها في ذلك:
حَجَبْتَ مَنْ شئت بالأسباب عنك فما ... يراكَ إلاَّ بصيرُ القلب ذو حَالِ
وأوضح من ذلك كله قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] فسبحان من هو بكل شيء بصيرٌ، وعلى كل شيءٍ قدير، وما كفرت الفلاسفة إلا لظنهم أن الأسباب مؤثرة لما رأوا من ملازمتها المسببات، كقولهم: إن إحياء الموتى من المحالات، وأمثال ذلك.
__________
(1) من قوله: مع قدرة الله إلى هنا لم يرد في (أ) و (ف).(6/49)
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. والدليلُ على أن الهداية في هذه الآية مما لا يصح تأويله بالإكراه أنها هداية مانعة من دخولهم النار، بدليل قوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فلو كانت هداية إكراه، لصحَّ أن يهديهم بها، ثم ملأ بهم جهنم، ولما كان لهذا (1) الاستدراك (2) معنى، وسياق الكلام من أول الآية يؤيد هذا ويدل عليه.
وذلك أن الكفار حين تحققوا صحة المعاد قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وهذا الكلام إنما يليق لو كان الله -تعالى عن ذلك- لم يقدر على هدايتهم فيما تقدم من حياتهم الأولى، ولم يدعها عمداً لحكمة راجحة استأثر بعلمها، فلذلك رد الله عليهم بما يدل على سَبْقِ قدرته على ذلك، وإنه لو أراد ذلك لم يعجز عنه في حياتهم الأولى حتى يستدركه بعد البعث، والله سبحانه أعلم.
ويوضحه قوله: {ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] ومن هنا قالت المعتزلة: إن الله بناهم على بنيةٍ لا تقبل اللطف، وقد بيَّنَّا أول مسألة الإرادة أن تغيير تلك البنية مقدور لله عزَّ وجلَّ عقلاً وسمعاً، وكفى دليلاً على ذلك قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} الآية [الإسراء: 50 - 51]، وقد تقدم الكلام عليها. بل هو سبحانه قادر على هدايتهم من غير تغيير بنيتهم، وكفى في بيان ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] وقد تقدم الكلام عليها قريباً.
فإن قيل: إنما أتى (3) الاستدراك مع الإكراه للتنبيه على أن الإكراه مانعٌ أن
__________
(1) في (أ): هذا، والمثبت من (ش) وهامش (أ).
(2) في (أ): الاستدلال.
(3) في (ش) زيادة: في.(6/50)
يملأ بهم جهنم، لأنهم لا يتمكنون معه من الكفر الموقع في ذلك.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الإكراه وإن منعهم فعل القبيح، وما يترتب عليه من العذاب، فإنه لا يمنعهم استحقاق العذاب على ترك الواجب الذي منه التوحيد وشكر المنعم، لأن الإكراه على فعل الواجب لا يسقط وجوبه ممن لم يكن فاعلاً له لولا أُكْرِهَ عليه.
وإنما قلنا هذا، لأن الآيات نزلت في حق المكلفين الذين ثبت وجوب الواجبات عليهم، وأما إكراه من ليس بمكلَّفٍ، فلا يُسمى إكراهاً، وإنما يقال: إنهم لم يكلَّفُوا ألبتة.
ثانيهما: أن هذا إنما يتمشى لو سلم على مذهب أهل السنة، لا على طريقة المعتزلة، وذلك أنهم يقولون كلهم بوجوب الأصلح في الدين، فهذا التأويل يُبْطِلُ قولَهم، فإنَّ الأصلح في هذه الصورة أن يُكْرَهوا على الهدى ليَنْجُوا من العذاب، فإن (1) لم يُثابُوا، وقد دلت الآية على أنه ممكنٌ مقدور عليه، فتخلُّفه يرُدُّ عليهم قاعدتهم ردّاً صريحاً، وإن أحالوا حسن هذه الصورة على حكمةٍ لا نعلمها (2) فهذا بعينه عمدة أهل السنة في تقرير السمع على ما هو عليه.
وأي فرقٍ بين الصورتين مع السلامة من ارتكاب وجوهٍ من التأويل يغلب على الظن أو يتحقق بطلانها.
فإذا ثبت سقوط هذا التأويل، فإنه يقتضي نفي المشيئة في شمول الهدى لجميع الناس هدىً ينتفعون به، ويسمون به مهتدين، ويستحقون به النعيم
__________
(1) في (ش): وإن.
(2) في (ش): لا يعلمها إلاَّ الله تعالى.(6/51)
الأبدي، ويقتضي أن هذا الهدى أُوتيه بعضٌ ومُنِعَهُ بعضٌ بمفهوم هذه الآية وبمنطوق كثير من الآيات كقوله: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] وأمثال ذلك مما يكثر تعداده كقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، ومنه {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فإنها لو كانت بمعنى الإكراه، لكان المعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلاَّ أن يُكْرِهَكُم الله عليها، وهذا نقيض مذهب المعتزلة، بل مذهب الجميع أن الاستقامة لا تصح مع الإكراه.
وإن قالوا: هذه المشيئة المنسوبة إلى الله عزَّ وجلَّ هي مشيئة الطاعة التي تلازم الأمر عندهم، وقد شاءها الله تعالى فيما مضى، فالجواب من وجهين:
الأول: أن تلك عندهم غير مؤثرة في وقوع الاستقامة، وهذه مرتبٌ (1) حصول الاستقامة عليها، فافترقا.
الثاني: أن تلك حاصلة من قبل الأمر المقتضي للتكليف في الاستقامة أو معه، فلا يصح ترتيب حصول الاستقامة عليها، كما لا يصح ترتيبه على الأمر لأنهما عند المعتزلة في اللزوم سواءٌ، ولا يصح عندهم أن يقول الله تعالى: وما تشاؤون إلاَّ أن يأمركم الله، ولا جاء مثل هذا في آيةٍ ولا حديثٍ.
فكذلك لا يصح مثله في إرادة الطلب اللازمة للأمر، لأن التكليف بالاستقامة مشروطٌ بحصول المشيئة المقارنة للأمر عندهم، فأيُّ فائدة في أن يقال: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] وقد شاء أن (2) تستقيموا كلُّكم، فاستقام الأقل منكم، ولم يستقم الأكثر، فلم تُغْنِ مشيئته عن الأكثرين شيئاً، ولا أثَّرت في استقامة الأقلين، وهذا يناقض مقتضى الشرط في حق الكافرين، وهو باطل، أو عدم تأثيره فيه في حق
__________
(1) في (ش): مترتب.
(2) ساقطة من (أ).(6/52)
المستقيمين (1)، وهو لغوٌ لا يصدر من الحكيم سبحانه، والمحتملات العقلية في الآية لا يتأتى على كل منها مصححٌ للتأويل في مذهب المعتزلة، لأن قوله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إما أن يكون مُطلقاً أو مقيداً بالاستقامة. وعلى كلا (2) التقديرين، فإما أن يكون الاستثناء مُتَّصلاً أو منقطعاً.
الوجه الأول: وهو أن يكون مطلقاً غير مقيد بالاستقامة، فهو يقتضي نفي المشيئة إلاَّ لحصول مشيئة الله عز وجل، وهذا بعينه هو قول أهل السنة هذا إن كان الاستثناء متصلاً، وهو الأمر الذي لا شك فيه، وإن قدَّرناه مُنقطعاً، لم يصح لا على مذهب المعتزلة ولا على مذهب أهل السنة، لاقتضائه نفي المشيئة عنهم مطلقاً غير مُخْرَجٍ منه شيءٌ ولا قائلٌ بذلك، ثم يكون الاستثناء على تقدير انقطاعه جارياً مجرى الاستدراك، فيكون المعنى: لكن مشيئة الله هي الثابتة الحاصلة، وهي أشد بعداً من مذهب المعتزلة، ولا يوافق مذاهب أهل السنة، لأنهم لا ينفون المشيئة المضافة إلى العباد، بل يثبتونها.
وإن ادعى مُدَّع أن مفعول المشيئة المذكورة بعد إلاَّ على تقديرها (3) منقطعة هو الإكراهُ لم يصح ما ادَّعاه، إذ لا مُشْعِرَ بهذا المفعول، ولا مُرَجِّحَ له على تقدير الاختيار، ثم هو باطل، لأنه يكون تقديره: ولكن مشيئة الله إكراهكم (4).
وحينئذٍ فإما أن يقدر الثبوت تماماً للكلام أو لا، فإن قُدِّرَ، فهو باطلٌ باتفاق الجميع، لأنه يقتضي أن مشيئة الإكراه واقعة، وإن لم يُقَدَّر، فهو باطلٌ لعدم (5) تمام الكلام بعد " إلا " المنقطعة لا لفظاً ولا تقديراً، فإن الصحيح أن " إلا "
__________
(1) في (أ) المستحقين، والمثبت من (ش) و (ف).
(2) ساقطة من (أ).
(3) " على تقديرها " ساقطة من (أ).
(4) في (ش): إكراههم.
(5) في (أ): بعدم.(6/53)
المنقطعة بمعنى " لكن "، ولا بُدَّ لها من خبرٍ ظاهر أو مقدر، فالظاهر كقوله عز وجل: {إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: 98]، والمقدر كقولك: ما في الدار أحد إلاَّ حماراً، أي لكنَّ حماراً في الدار. ذكره نجم الدين (1).
وقول سيبويه (2): إلاَّ المنقطعة بمثابة " لكن " العاطفة، والمذكور بعدها مفرد، لا ينافي ما قلناه من لزوم تقدير الثبوت، لأنه الذي به حسن إيرادُها، لأنها تقتضي المخالفة اقتضاء " لكن " العاطفة.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون مقيداً بالاستقامة، فإما أن يكون عامَّاً لكل أحد أو خاصاً بالمؤمنين، أو خاصاً بالكافرين، فأما الاحتمال الأول، فهو الأظهر، لأنه خطابٌ للمكلفين عموماً، وهو الذي تمسك به أهل السنة، فالمعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلاَّ أن يشاء الله (3) التي تنجيكم من العذاب يقتضي الاختيار من المستقيم.
فدعوى المعتزلي أن التقدير: وما تشاؤون الاستقامة إلاَّ أن يشاء الله أن تستقيموا كرهاً، باطلٌ عند الجميع، لأن المؤمنين قد شاؤوا الاستقامة غير مُكْرَهين.
ومن أجل ذلك جاء الزمخشري بحيلةٍ لطيفةٍ في تنزيل هذه الآية على
__________
(1) هو نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الحنبلي، المتوفى سنة (710) كان فقيهاً شاعراً أديباً فاضلاً قيماً بالنحو واللغة والتاريخ، مشاركاً في الأصول وغيره.
له من التصانيف " شرح مختصر الروضة " وعنه نقل المصنف هذا النص، وهو من منشورات " مؤسسة الرسالة " بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي. انظر ترجمته في " ذيل طبقات الحنابلة " لابن رجب 2/ 366 - 370 و" بغية الوعاة " 1/ 599 - 560.
(2) انظر " حاشية الصبان على الأشموني " 2/ 146.
(3) قوله: " إلاَّ أن يشاء الله " ليس في (ش).(6/54)
مذهب المعتزلة، فقسَّم المخاطبين طائفتين، ووصف كُلَّ طائفةٍ بوصفٍ ينافي أختها، ثم قسم الاستثناء بينهم، فجعله (1) في حق قومٍ متصلاً وفي حق آخرين منفصلاً، ثم قيَّد المشيئة بعد " إلا " بقيدين مختلفين في حق الطائفتين، فقال: وما تشاؤون الاستقامة يا من يشاؤها إلاَّ أن يشاء الله أن تستقيموا بلطفه بكم، وما تشاؤون الاستقامة يا من لا يشاؤها إلاَّ أن يشاء الله أن يُكرهَكم عليها (2).
والدليل على فساد ما ذكره من وجوه:
أحدها: أن هذا التقدير الذي قدَّره، والتفريق الذي أبداه لا قرينة تُشْعِرُ به، وما كان كذلك، فهو باطل، ولو صَحَّ مثل ذلك، لكان لكل أحدٍ أن يقدر في مطلقات كتاب الله تعالى ما يطابق هواه مما لم يقم عليه دليلٌ، ولا أشْعَرَتْ به قرينة.
والعجبُ كل العجب من إنكاره تقدير مفعول أمرنا مُتْرَفيها بالطاعة، لعدم القرينة الدالة عليه عنده، وارتكابه أن التقدير فيها: أمرنا مترفيها بالفِسق، ففسقوا على معنى إسباغ النعم عليهم التي تقتضي غفلتهم (3) عن ذكر ربهم، وتماديهم في طُغيانهم، فأطلق على هذا الأمر بالفسق مجازاً، هذا على أنه لم يُجَوِّدِ (4) الاختيار في هذا الموضع، بل اختار خلاف المختار، وركب التعاسيف المؤدية إلى العثار، فإن السيد المرتضى الإمامي الحسيني (5) ذكر في كتابه " الغُرر " (6) أن
__________
(1) في (أ) و (ش): فجعل، والمثبت من (ف).
(2) " الكشاف 4/ 226.
(3) في (ش) غفولهم.
(4) في (ش): لم يجوز، وليس بشيء.
(5) في (ش) الحسني، وهو خطأ، وهو العلامة الشريف المرتضى نقيب العلوية أبو طالب علي بن حسين بن موسى القرشي العلوي الحسيني الموسوي البغدادي، من ولد موسى الكاظم، المتوفى سنة 430 هـ ترجم له الذهبي في " السير " 17/ 579.
(6) 1/ 1 - 5، واسمه بتمامه " غرر الفوائد ودرر القلائد " طبع في مصر في مجلدين، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.(6/55)
التقدير في هذه الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، وحذف المفعول اتِّكالاً على ما يقتضيه الأمر من الطاعة، وعلى مناقضة الفسوق للأمر، كما تقول: أمرتُه فعصاني، فإنه يعلم أن المراد: أمرته أن يطيعني فعصاني، وكلام المرتضى في هذا الموضع قويٌّ جداً، كما أن كلام الزمخشري فيه ساقطٌ جدّاً، فيقضي العجب من نسيان الزمخشري في آية المشيئة لفساد تقدير لم يقم عليه من الكلام قرينةٌ ولا دلَّ عليه دليل.
وثانيها: أن الآية تقتضي ترتُّبَ مشيئة المكلفين على مشيئة الله تعالى ترتُّبَ المشروط على الشرط، والمسبَّب على السبب ولا يستقيم ذلك على تقدير الزمخشري.
أما في حق من يشاء الاستقامة، فلأن اللطف لا يلزم من تخلفه عنده تخلُّف مشيئة الاستقامة ممن يشاؤوها، ولا يلزم أيضاً من وجوب وجوده وجودها منهم، ومثل هذا لا يصلح أن يرتَّب على حصوله (1) مشيئتهم.
وأما في حق من لا يشاء الاستقامة، فلأنَّ الإكراه نسبة مشيئة الاستقامة إليهم، لأنه يسلُبُهم صفة المدح بها والوصف بالاستقامة التي أمر بها في قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كما أُمِرْتَ} [هود: 112] والتي مدح الله بها ورتب الجزاء عليها في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فلا يصح نسبتها إلى المكره لا حقيقة ولا مجازاً.
أما الحقيقة: فظاهر.
وأما المجاز: فلعدم العلاقة الظاهرة ها هنا المقتضية لتشابه المجبور على الاستقامة والمختار لذلك، فإن هذه الأسماء التي في الاستقامة في هذا الموضع، والهدى والرِّفعة في غير هذا الموضع معدومةٌ عند القهر والعدم منقطعة التشبيه، ولو جاز وصف المجبورين بذلك لجاز وصف الممسوخين قردةً وخنازير
__________
(1) في ش: حصول.(6/56)
بطاعة الله، والاستقامة على امتثال أوامره، لأنهم كانوا قردة حين قال لهم: {كُونُوا قِرَدَةً خاسئينَ} [البقرة: 65] وهذا لا يجوز حقيقة (1) ولا مجازاً، فكيف يصح أن يُحمل عليه كلام الله تعالى الذي هو أبلغ الكلام وأفصحه وأفضله.
وثالثها: أن تقدير " إلا " في هذه الآية دليلاً على الاستثناء وعلى انقطاعه معاً يقتضي إطلاق المشترك على معنييه معاً، أو إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه، وهو باطلٌ، فهذا باطل (2).
بيان ذلك أن المشترك هو اللفظ المتناول لمعنيين فأكثر بوضعين مختلفين، فإطلاقه على معنييه معاً خلاف وضعه، حتى قال أبو هاشم: إنه محالٌ أن يُراد به معنياه معاً، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه مشهورة، وإنما أردنا الإشارة إليها.
وأما الاحتمال الثاني، وهو اختصاصه لمن شاء الاستقامة، وهم المؤمنون، فلا يصح أيضاً، لأنهم إما أن يفسروا المشيئة باللطف أو يحملوها على ظاهرها.
وعلى الثاني فإما أن تكون المشيئة هي المقارنة للأمر المقتضي للطاعة، أو تكون مشيئةً خاصة بالمؤمنين، والثاني هو مذهب أهل السنة، -وهو أن يراد بها المقارنة للأمر- باطلٌ لما تقدم من ترتب الاستقامة عليها، وجعلها مؤثرة فيها، والمشيئة المقارنة للأمر غير مُؤثِّرةٍ في حصول الاستقامة.
وأما تفسيرُ المشيئة باللطف، فممنوع بعدم النقل الصحيح من اللغة في ذلك، ولا مُلجىء إلى التأويل كما تقدم. وعلى تقدير صحة المُلجىء للقاطع إلى ذلك، وصحة المطابقة لغةً ولو مجازاً، فذلك ركيكٌ جداً نازلٌ منزلة تحصيل الحاصل، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن اللطف بالكافر والمسلم معاً واجب عندهم على الله عز
__________
(1) في (ش): لا حقيقة.
(2) " فهذا باطل " ساقط من (ش).(6/57)
وجل، وهو لا يُخِلُّ بالواجب، فهو عندهم بمنزلة خلق القدرة، وما لا بد منه في التكليف لا يصلح إيراده على هذه الصفة، كما لا يصلُحُ أن يقال: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلاَّ أن يخلقكم الله أو يقدركم عليها (1)، فهذا ما لا ثمرة في ذكره، لأنه معلوم، ومعلومٌ أنه معلوم، ولا يصح الإخبار بمثل هذا عند أهل العربية، ولا دخوله في كلام سائر العقلاء، فكيف بكلام أحكم الحاكمين؟! فإنه يُنَزَّلُ منزلة قول القائل: إن المعدوم أو الجماد: لا يستقيم حتى تخلق فيه القدرة.
الوجه الثاني: أن لطف الله تعالى عندهم غير موجبٍ للطاعة، ولا مانع للمعصية، لأنه من قبيل الدواعي، ولا تأثير لها عندكم في الأفعال، وكذلك مشيئته، فدلَّ على أنها عندهم لم تُؤَثِّر أثراً في طاعة المطيع، وإنما هما إزاحة (2) عذر لا غير. فعلى هذا كيف يصح اشتراط حصولهما في حصول أفعال المختارين الذين لا تقف أفعالهم عليها، بل الذي نفع (3) السعداء اختيارهم ومشيئتهم، وليس لله تعالى في عملهم إلاَّ مثل ماله في عمل الكفار من خلق القدرة والتمكين مع الامتحان بشدة الرغبة في القبيح.
فدلَّ على أنه لا بد من تأثير مشيئة الله تعالى، وإلا لكان الاستثناء لغواً، ولا تأثير لها عندهم في أفعال العباد الاختيارية، فتعين على هذا الاحتمال مذهب أهل السنة.
الاحتمال الثالث: وهو اختصاصه بمن (4) لا يشاء الاستقامة -وهم الكافرون- فإما أن يُجرى على ظاهره، فيكون المعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن تستقيموا، فتستقيمون، فهذا هو اختيار أهل السنة، وهو
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) في (ش): وإنما إزاحة.
(3) في (ش): ينفع.
(4) في (ش): لمن.(6/58)
الحق، وأما أن تُحمل المشيئة المستثناة على مشيئة القَسْرِ والإلجاء، فهو باطلٌ بما تقدم.
ونزيد هنا وجهاً آخر وهو أنه يقتضي أن الله عزَّ وجلَّ أخبر المخاطبين من الكافرين أنهم لا يؤمنون خبراً مقطوعاً عن الاستثناء، وخبره سبحانه واجب الصدق، فلو آمنوا بعد ذلك، كان إيمانهم تكذيباً لخبره سبحانه، فيستحيل -والحال هذه- منهم الإيمان بصدق الله ورسوله، ويكون في تصديقه تكذيبه -تعالى عن ذلك- وهذا باطل، وما أدَّى إليه، فهو باطلٌ، فيلزم من ذلك بطلان التكليف أو تكليف ما لا يطاق، وليس هذا مثل قوله تعالى لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] لأنه خطابٌ لنوح، لا للمشركين، فكأنه بمنزلة علم السابق المحجوب عن المكلَّفين، والفرق بينهما واضح، فإنه يبقى الابتلاء مع جَهْلِهم بذلك، ولا يبقى مع علمهم به، وقد أشار إليه ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ".
وأما قوله في أبي لهبٍ: {سَيَصْلَى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] فجعله ابن الحاجب مثل خبر نوح، كأنه التزم عدم بلوغه أبا لهب، وهو ممكنٌ، وفيه بعد، ويمكن عندي في ذلك أنه خرج مخرج الوعيد لا مخرج الخبر المحض عن الكائن في الاستقبال، وكل ما خرج مخرج الوعيد، فإنه مشروط بعدم التوبة كوعيد جميع العصاة، فيبقى معه الابتلاء صحيحاً، ولو لم يكن ذلك ظاهراً، فلا أقل من الاحتمال، ومعه يزول الإشكال.
على أنه وإن قال قائل من أهل السنة بجواز انقطاع الابتلاء من بعض العُصاة قبل الموت والاضطرار إلى الإيمان، فإنه يَصِحُّ على قواعد أهل السنة من [أن] الله تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما علمنا وجهلنا.
وأقوى ما ورد في ذلك قوله تعالى للشيطان: {لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ(6/59)
تَبِعَكَ} [ص: 85] فقوله: " منك " نص فيه، والخبر فيه خاصة أظهر من الوعيد بقرينة إجماع المسلمين على أنه لا تُرجى له توبة.
فأمَّا مذهب المعتزلة، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك فيه، ولا يلزم منه تكليف ما لا يُطاق، لأنه إنما يلزم على تقدير أن يؤمن من أخبر الله أنه لا يؤمن، وذلك غيرُ واقعٍ قطعاً، ولا فرق بين التزام ذلك للمُحال، والتزام مخالفه علم الله تعالى لذلك، فكما أن علم الله لم يستلزم انقلاب الممكن لذاته مُحالاً، فكذلك خبره.
وهذه المسألة هي المعروفة بالممتنع لغيره، ولا خلاف بين الأشعرية والمعتزلة في جواز ورود التكليف، وإنما اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع لذاته، كما سيأتي بيانه ولا حجة بالممتنع لغيره على الممتنع لذاته (1)، لأنه لو خرج بذلك عن كونه مقدوراً أوجب خروج الرب سبحانه عن صفة القدرة لِسَبْقِ علمه تعالى بما هو خالقٌ وبما ليس هو خالقاً (2)، وقد قال تعالى: {كَانَ عَلَى ربِّك حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم: 71] ولم يخرُج عن القدرة على خلاف ذلك. وهذا عارض، ولنرجع إلى المسألة المقصودة.
فعلى هذا يمتنع في مذهبهم إخبار الله للمكلفين بذلك لعدم الابتلاء، ولأنه عندهم مفسدة، والمفسدة قبيحةٌ، ولأنه يؤدي إلى إفحام الرسل بالإيمان لاستلزامه (3) حينئذٍ تكذيبهم، ويستلزم بطلان الترهيب والترغيب ومحو آثار الحكمة فيهما.
فإن قالوا: إنه عمومٌ يجوزُ تخصيصه فيبقى الابتلاء.
__________
(1) قوله: " على الممتنع لذاته " ساقط من (أ).
(2) في (أ) و (ش): " خالق "، وهو خطأ.
(3) تحرفت في (ش) إلى: لا يستلزمه.(6/60)
فالجواب: أن المعتزلة لا تجيز تخصيص العموم فيما يفيد الاعتقاد فقط بمخصصٍ غير مقارن للعموم، لأن ذلك عندهم يؤدي إلى اعتقاد الجهل في صحة العموم أول ما يسمع، أو التوقف في المراد إن لم يقطع بصحة العموم، ولا يجوز الخطاب عندهم بما لا يفهم المكلف المراد منه على التفصيل ولو قبل وقت الحاجة.
فإن قيل: هذا الذي قدمتم من تأدية ذلك إلى ما لا يجوز دليل عقلي إجمالي يدلُّ على أن العموم غير مراد، لأن إرادته تستلزم تلك المفاسد.
فالجواب: أن الدليل الإجمالي لا يصح عندهم إلاَّ عند أبي الحسين، وذلك لأنه عندهم (1) يؤدي إلى خطاب المكلفين بما لا يفهمون، وهو عندهم قبيحٌ، وليس الفهم الجملي عندهم كافياً، وإلا جاز خطاب العجمي بالعربية، لأنه يفهم أن له معنى في الجملة، والرد عليهم في هذه المذاهب مُبَيَّنٌ في كتب أصولِ الفقه، وإنما الغرض بيان بطلان تأويلهم في هذه الآية على قواعدهم.
فإن قيل: قوله تعالى: {وما تشاؤون إلاَّ أن يشاءَ الله} [التكوير: 29] على ظاهره يناقض قوله في الآية: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُم أن يَستَقِيمَ} [التكوير: 28] لأن أولها يدل على التمكين، وآخرها يناقضه.
قلت: أما أنَّ أولها يدل على التمكين، فصحيحٌ، وأما أن آخرها يناقضه، فممنوع، بل هو يدُلُّ على أن عبد السوء إذا لم يُعْطَ من الهدى (2) إلاَّ ما تقوم به الحجة، ويصح معه الفعل والأمر والنهي والثواب والعقاب، لم يفعل إلاَّ ما وافق هواه حتى يتفضَّل الله عليه بالهدى الزائد على القدر الذي يصح معه الفعل، وتقوم به الحجة، كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور: 21] وفي مثله يقول سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَنْ يَشاءُ} [البقرة: 105].
__________
(1) ساقطة من (أ) و (ش).
(2) " من الهدى " ساقط من (أ).(6/61)
وسيأتي تعليل التخصيص بالعلم والحكمة، لقوله: {وأضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وقوله في إبراهيم عليه السلام: {وكُنَّا به عالمين} [الأنبياء: 51].
ومنه قوله عز وجل: {ولو شاءَ الله لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى} [الأنعام: 35] لا يَصِحُّ تأويله بالإكراه، لأنه يؤدِّي إلى محو اسم الهدى عندهم، لأنه صفة مدح، وهو الاهتداء الذي من فِعْلِ العبد يمدُح عليه (1) ويُثاب، وهو الذي لا يذكر مفعولُهُ في آيات كثيرة، أعني مفعوله الثاني المذكور في قوله تعالى: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقيم}.
ومثال الآيات التي لا يذكر فيها المفعول الثاني قوله عز وجل: {إنك لا تَهْدِي من أحببتَ ولكنَّ الله يَهْدي من يشاءُ} [القصص: 56]. وكقوله: {يهدي به من يشاءُ من عباده} [الأنعام: 88]، وقوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي من يشاءُ} [النمل: 93]، وقوله: {من يَهْدِ الله فهو المُهْتَدي} [الأعراف: 178]، وقوله: {مَنْ يَهْدِ الله فما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37]، وقوله: {فلو شاءَ لَهَدَاكُم أجْمعينَ} [الأنعام: 149].
وحاصلُ الأمر: أن الهدى في كتاب الله على ثلاثة أقسامٍ، ثالثُها مجاز.
القسم الأول: هدىً هو فعل الله عزَّ وجلَّ لجميعِ المكلَّفين وهو نوعان:
النوع الأول: وهو نصبُه الدلالة والتعريف لا اختيار للعبد فيه، وهو من قبيل العلوم الضرورية كالعقل، والعلم الضروري يُسميان هدى، بل هما أساس الهدى، ومن ذلك قوله عز وجل: {وأمَّا ثمودُ فَهَدَينَاهُم} [فصلت: 17]، وقوله تعالى: {الذي قدَّر فَهَدَى} [الأعلى: 3]، وإنما حُذِفَ مفعول " قدَّر "، ومفعول " هدى " للتعميم بدليل سائر الآيات، وقوله عز وجل: {وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ}
__________
(1) في (ش): به.(6/62)
[البلد: 10] أي: طريق الخير والشر، فسمى مطلق التعريف الذي لا يستحق عليه ثوابٌ هداية. وقوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقوله: {إنَّ علينا لَلْهُدَى} [الليل: 12]، وقوله: {فألهَمَهَا فُجورها وتقواها} [الشمس: 8] وقوله تعالى: {بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبْتَ بها} [الزمر: 59]، جواباً على من قال: لو أن الله هداني، ولذلك ذكر الجواب عليهم بالهدى العام الذي هو بعثة الرسل، وإقامة الحجة، وهو قوله تعالى: {وإذ أخذ ربُّك من بني آدم} إلى قوله: {أنْ تقولوا يومَ القيامة إنَّا كُنَّا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله: {لِئَلاَّ يكون للناسِ على الله حجةٌ بعد الرُّسُل} [النساء: 165].
النوع الثاني من القسم الأول الهدى الخاص، وهو اللطف والتثبيت (1)، والعصمة والتأييد وما في معناها، وهو يختص بمن اقتضت حكمة الله تخصيصه به.
القسم الثاني: هدىً هو فعل العبد، وهو المتوقف على اختياره، وهو العمل بمقتضى الهدى، وهو المعبر عنه بالاهتداء في قوله عز وجل: {مَنْ يَهْدِ الله فهو المهتدي} [الأعراف: 178]، وقوله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المُهْتَدينَ} [التوبة: 18]، وقوله: {وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157]، وقوله: {فتاب عليه وهدى} [طه: 122]، وقوله عز وجل: {والذين اهتدوا زادهم هُدىً} [محمد: 17].
ففعل العبد هو (2) قبول الهدى كما ذكرنا، ثم إني وقفت على نحو هذا مما حكاه النواوي عن العلماء كافة، فقال في كتاب الجمعة من " شرح مسلم " (3) ما لفظه: قال العلماء: لفظ الهُدى له معنيان:
أحدهما: الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد،
__________
(1) في (ف): والتسييب.
(2) ساقطة من (أ).
(3) 6/ 154.(6/63)
قال الله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ} [الشورى: 52]، و {إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقومُ} [الإسراء: 9]، و {هُدىً للمتقين} [البقرة: 2]، ومنه قوله تعالى: {وأما ثمودُ فهديناهم} [فصلت: 17] أي: بينا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3]، {وهديناه النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
والثاني بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله تعالى به، ومنه قوله تعالى: {إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56].
الثالث: الهدى المجازي، ولا بد فيه من ظهور القرينة كقوله عز وجل: {فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23]، وقوله: {فأنه يُضِلُّهُ ويَهْديه إلى عذابِ السعير} [الحج: 4] ولا بُدَّ فيه من ذكر المفعول الثاني، لأنه قرينته الدالة على المراد منه.
إذا ثبت ذلك، فآيات الهدى المعلق على ثبوت المشيئة هنا لا يصلح جعلها من القسم الثالث لفقد القرينة، ولا من القسم الأول، وهو نصب الدلالة مطلقاً لثبوته للجميع في غير آيةٍ كما قدمناه، وهذه الآيات التي فيها المشيئة تقتضي أنه لم يكن، وكذلك الآيات المطلقة في قوله: {يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام} [المائدة: 16]، وقوله: {سَيَهْديهم ويُصْلحُ بالَهُم} [محمد: 5] يدلُّ على أنه هدىً خاص يستحق به العبد الثواب والثناء لا الهدى الذي لا اختيار معه.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8].
وقوله: {ولو شاءَ الله لجمعهم على الهُدَى} [الأنعام: 35].(6/64)
وقوله: {ولَوْ شاءَ ربُّك لجَعَلَ الناس أُمَّةً واحدةً} [هود: 118].
وقوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [النحل: 9].
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].
فهذه الآيات لا يصح تأويلها بمشيئة الإكراه في الكافرين ومشيئة الاختيار في المؤمنين، لأنهم حينئذٍ يكونون (1) أمتين مختلفتين لا أمةً واحدة كما تقدم في تقريره في قوله تعالى: {لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 28].
وهو قد تمدح سبحانه وتعالى بأنه لو شاء، لجعلهم أمة واحدة، ولا بد لتأكيد الأمة بواحدةٍ من فائدة، وما هي إلاَّ عدم افتراقها وتشعبها، ولا يمكن تأويل ذلك بجمعهم على الكفر فقط، لقوله: {ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35] ونحوها.
وأصرح من هذه الآيات، وأبعد من التأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 176]، فهذه مصادمة لمذهب المعتزلة مُصادمة النصوص.
وكذلك قوله: {ولا تقولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غداً إلاَّ أن يشاء الله} [الكهف: 24] لا (2) يصح حمله على مشيئة الإكراه، لأنها تناقض معنى الفاعلية، كما لا يصح الاحتجاج على الخبر، ونفي الاختيار بها لمثل ذلك، ومنه قوله: {إنَّ رَبِّي لطيفٌ لِما يشاءُ} [يوسف: 100]، فلا يصح تأويله بمشيئة الإكراه، لأنها تناقض معنى (3) اللطفِ.
__________
(1) في (أ): " يكونوا "، وهو خطأ.
(2) في (ش): ليس.
(3) من قوله " الفاعلية " إلى هنا ساقط من (أ).(6/65)
وكذلك قوله: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ من يَشاءُ} [البقرة: 269] لأن المقهور غير حكيم.
و {مَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] لأن المقهور غير مفتون إلاَّ إذا كانت بمعنى العذاب.
وكذا قوله: {إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] لأنه لا يصح أن يكون المعنى: لا تُكْرِهُ على الهدى من أحببت، ويلزم أن تكون الثانية مثلها، وإلا لم يحسن الاستدراك، وكان بمنزلة أن تقول: ولكن الله يرزق من يشاء.
ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 87 - 88]، وبيانه: أن ذلك في قوله تعالى: {ذلك هدى} إشارة إلى ما تقدم من هداية أنبيائه وأوليائه والضمير في قوله: {يهدي}، راجعٌ إلى ذلك الهدى الذي هدى به أنبياءه وأولياءه (1)، هو الهدى الذي يهدي به من يشاء من عباده، والمعلوم أن هدى من تقدم ذكره ما كان إلاَّ اختياراً لا قسراً.
وإذا ثبت أن هدى من تقدم ما كان إلاَّ اختياراً وجب أن يكون هدى من شاء من عباده مثله، لأنه هو.
وأما الدليل على أن الضمير في " يشاء " راجع إلى الله تعالى لا إلى " من " فوجوه (2):
أحدها: أنه جاء كذلك في آيات كثيرة مصرحاً به، ولم يأتِ على العكس، والقرآن يُفَسِّرُ بعضه بعضاً، ولو سلمنا إجمال هذا كان في ذلك التصريح كفاية.
__________
(1) من قوله: " والضمير في قوله يهدي " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) في (ش): بوجوه.(6/66)
وثانيها: أن الهدى في أول الآية مضافٌ إلى الله تعالى كذلك آخرها.
وثالثها: أن هذا مجرد دعوى من غير دليلٍ، وتجويز هذا حرامٌ وِفاقاً خصوصاً في تفسير كتاب الله.
ورابعها: أنه يفسد مرادُهم على تسليم صحة تأويلهم، فإنه حينئذ يدُلُّ على قدرة الله على هداية الجميع، إذ لو كان لا يَقْدِرُ إلاَّ على هداية البعض لم يحسن منه التمدح بهداية من يشاء الهداية من جميع العباد، وتكرير التمدح بذلك من غير إشعار بتخصيص، وما يدعونه من المخصصات العقلية ممنوعٌ، بل معكوسٌ كما أوضحناه في هذا الكتاب.
وذكر الرازي أنه لا يحبُّ الجهل أحد، فإن الله قادر على تعريف جُهَّال الكفرة بما جَهِلُوه من علوم الإسلام، ونفيه لمحبة الجهل صحيحٌ على جميع القواعد كما سيأتي بيانه في مسألة الدواعي.
وخامسها: -وهو المعتمد- ما تقدم من أن نفوذ مشيئة الله معلوم من ضرورة الدين لمن لم يعتقد أنه من جملة المحالات، وقد تقدم بيانه.
وسادسها: أنه يلزم الاحتمال في قولنا: زيدٌ يكرم من يشاء، أو رجحان رجوع الضمير إلى " من " أو إلى " زيد "، وكلاهما عنادٌ واضح.
فإن سلموا رجحان رجوع الضمير إلى زيدٍ في هذه الصورة لزمهم رجوع الضمير إلى مثله وإلى مثله في أمثالها، وإن (1) خصُّوا بقلب المعنى كلام الله لأجل الدلالة العقلية، فقد سلَّموا أن ما قلناه هو ظاهرُ كتاب الله، وقد تقدم أن تأويل هذا المعنى بدعةٌ حادثة، وأن العقل موافقٌ للسمع في ذلك.
ومن ذلك تمدُّحه تعالى بأنه فعَّالٌ لما يريد، وأنه يفعل ما يريد، لأنه لا يجوز
__________
(1) في (أ) و (ش): " وإنما "، والمثبث من هامش (أ).(6/67)
أن يكون معناه بعض ما يريد، لأن جميع عباده الضعفاء كذلك يفعلون بعض ما يريدون ويفوتهم بعضه، فوجب أن يكون الربُّ هو المختص بفعل جميع ما يُريد لا يتعذَّر عليه شيءٌ، فوجب متى أراد أن يلطف بعبد أن يقدر على ذلك وإن كان العبد أكفر الكافرين، وأفجر الفاجرين.
وهذا كله زيادة بيان على جهة التفصيل، والعمدة ما قدمته من الوجه القطعي الجُملي من أن آيات المشيئة لو كان ظاهرها قبيحاً باطلاً، لقضت العادة بالتعريف بذلك في عصر النبوة والصحابة والتابعين، فثبت بمجموع هذه الآيات وأمثالها وما عضدها من الأحاديث الصِّحاح وآثار الصحابة والتابعين (1) مع الأدلة العقلية القاطعة أن إرادة الله سبحانه نافذةٌ، ومراداته كلها واقعة.
والعجب من مخالفي أهل السنة في تأويل جميع ذلك، واعتقاد أنه من المتشابه كما صنعوا مثل ذلك في آيات الصفات، وليس يصح أن يكون في القرآن متشابه إلاَّ وفيه محكمٌ يُرَدُّ إليه ذلك المتشابه كما قال تعالى، ولم يرد في آيةٍ واحدة، ولا في حديثٍ واحد من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في أثرٍ واحد من آثار الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى يريد ما لا يكون، بل ما يعلم أنه لا يكون أبداً، كما لم يَرِدْ في شيء من ذلك أن الله تعالى لا يهدي من يشاء، ولا يقدر على اللطف بمن يشاء كما هو الحق الواضح، والمحكم البين عند المعتزلة.
وما أفحشَ ما ادَّعوا أنه الحق، وأخبثه في الأسماع وأوحشه في الإسلام، وجميع آيات المشيئة تقتضي تنزُّه (2) الرب جل جلاله، وترفعه عن هذه النقيصة التي لا تليق بكمال ربوبيته وجبروته وقدرته وقوته وعِزَّتِه، وما قنعت المعتزلة بإنكار هذه الصفة الشريفة حتى كفَّرت من آمن بما ورد في كتاب الله تعالى من
__________
(1) من قوله: " فثبت " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) في (ش): تنزيه.(6/68)
ذلك، فزادت على الخوارج فإنهم كفَّروا المسلمين بأصغر الذنوب، وهؤلاء كفروهم بأعظم الحسنات، وهو الإيمان بكتاب الله تعالى.
ولنذكر الآن شبهة المعتزلة في إيجاب اللطف على الله تعالى حتى يظهر ضعف ما عارضوا به هذه الأدلة الباهرة المتظاهرة، فنورد كلام الإمام يحيى بن حمزة في كتاب " التمهيد " لأنه من المُبالغين في النظر في علومهم، والناصرين لكثيرٍ من مذاهبهم، وإنما يخالفهم فيما اتَّضحت ركَّتهُ، وظهر ضعفه مثل هذه المسألة.
فنقول (1): قال في " التمهيد " في أوائل الباب الأول في النبوات ما لفظه:
فلِمَ قلتم: إن اللطف واجبٌ؟
قالوا: لأمرين: أمَّا أولاً، فلأنَّ اللطف جارٍ مجرى التمكين.
قلنا: لا نُسَلِّمُ.
قالوا: إن من قدم الطعام إلى إنسان (2)، وأراد من ذلك الإنسان أن يتناول (2) من ذلك الطعام، فإنه لا يتناول منه (2) إلاَّ إذا تواضع له، فإنَّ تركه للتواضع يقدح في كونه مريداً من ذلك الإنسان أن يتناول طعامه.
قلنا: لا نُسَلِّمُ أن تركه للتواضع، والحال هذه مقدرة (3) يقدح في كونه مُريداً على الإطلاق.
وبيانه: أن الإرادات مختلفة بحسب العادة والأخلاق، فقد يكون الإنسان مُريداً من غيره أن يتناول طعامه إرادة بالغة في العادة مبلغاً عظيماً، حتى إنه يقدر
__________
(1) ساقطة من (أ) و (ش).
(2) قوله: " إلى إنسان " و" أن يتناول " و" فإنه لا يتناول منه " ساقط من (أ).
(3) ساقطة من (أ).(6/69)
في نفسه أن يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف يتناول طعامه عند فعله، وقد يكون مُريداً من غيره أن يتناول طعامه، ولكن لا إلى هذا الحد.
فإذا عرفت هذا التفصيل، فنقول: الإرادة إذا كانت واقعة على الوجه الأول كان ترك التواضع قادحاً فيها، فأمَّا إذا كانت واقعة على الوجه الثاني، فلا نُسَلِّمُ أن ترك التواضع يقدح فيها، والعلم بذلك بعد الاختيار ضروري.
إذا ثبت ذلك قلنا: لِمَ قلتم: إن الله تعالى أراد من المكلفين فعل الطاعات والاجتناب عن المعاصي على الوجه الأول حتى يلزمه فعل اللطف.
بيانه: أن التكليف إنما هو تفضُّلُ وإحسانٌ، والمتفضِّلُ لا يجب عليه أن يأتي بأقصى مراتب الفضل.
فإذا كان الأمر كما ذكرنا حَسُنَ من الله تعالى أن يريد من المكلف فعل الطاعة، وترك المعصية على الوجه الثاني، وعلى هذا التقدير لا يلزم من ترك اللطف القدح في الإرادة.
وأما قولهم ثانياً: إن ترك اللطف كفعل المفسدة.
فنقول: ما عنيتم بقولكم: كفعل المفسدة، بمعنى أن حقيقة أحدهما كحقيقة الآخر، فهو باطلٌ قطعاً، لأن عَدَمَ فعلٍ لا يكون مثلاً لفعل آخر.
وإن عنيتم أن ترك اللطف يماثل فعل المفسدة في القبح، فهذا خطأ أيضاً، لأن (1) ترك اللطف إنما يماثل فعل المفسدة في القبح لو كان فعل اللطف واجباً، وهذا هو أول المسألة.
لا يقال: إنا نعني بهما تماثلهما في كونهما ضرراً بالغير، وذلك علة القبح، ويلزم من الاشتراك في العلة الاشتراك في الحكم، لأنا نقول: الفرق بينهما
__________
(1) في (أ): إن.(6/70)
ظاهر، لأنه لا معنى (1) لكون ترك اللطف لم يكن (2) ضرراً إلاَّ أنه ترك الانتفاع، ولا يلزم من قبح فعل الإضرار قبح ترك الانتفاع، ألا ترى أنه يقبح منا أن نَضُرَّ بالفقير، ولا يقبح منا أن لا ننفعه، فحصل الفرق. انتهى بحروفه.
وهو يقتضي بطلان قول المعتزلة: إنه ليس في معلوم الله ولا مقدوره لطفٌ لأحد من العصاة، والحمد لله على موافقة هذا الإمام في هذه المسألة الجليلة، فإنه من عيون أهل البيت عليهم السلام، وإن كان المختار في الاستدلال هو ما أشرت إليه من الوجوه العقلية والنقلية.
والذي ذكره الإمام زيادةٌ وإفادة، وقد أحال الإمام في " النهاية " و" الشامل " إلى كلامه في " التمهيد "، فدلَّ على بقائه عليه، وذكر الإمام يحيى بن حمزة في كتابه " النهاية " لمن لم يوجب اللطف من المعتزلة ثلاث حُجَجٍ.
الحجة الأولى: أنه لو وجب ذلك، لفعله الله، ولو فعله لم يوجد في العالم كافرٌ.
الحجة الثانية: حسن سؤال العافية من الألم، وعلى كلام المعتزلة لا يحسن ذلك لتجويز أنه لُطْفٌ واجب.
الحجة الثالثة: يلزم لو كان مكلَّفٌ يختار الإيمان عند فعل، ومكلَّفٌ آخر يختار الكفر عنده أن يكون واجباً قبيحاً بالنظر إلى الجهتين (3).
وأشار في الفصل الثاني من الأصل الخامس إلى حجةٍ أخرى، وهي الاجتماع (4) على حُسْنِ الرغبة من كل مكلَّفٍ إلى الله تعالى أن يلطف به، وذلك يدلُّ على قُدرته على ذلك وأنه غيرُ مُحال.
__________
(1) قوله: " لأنه لا معنى " ساقط من (أ).
(2) " لم يكن " ساقط من (ش).
(3) في (ش): الوجهين.
(4) في (ش): الإجماع.(6/71)
وحكى في الفصل الثاني هذا عن قاضي القُضاة أنه حكى عن قومٍ أنهم منعوا من تكليف من لا لطف له، وأما من علم الله أن اللطف له في فعلٍ قبيحٍ من الله، فأربعة أقوال:
الأول: لأبي هاشمٍ، أنه يحسن تكليفه، ويكون بمنزلة من لا لطف له.
الثاني: لأبي عبد الله البصري، أنه لا يحسن.
الثالث: أنه لا يسمى لُطفاً لقبحه، فيجوز التكليف بدونه، وهو قول الشيوخ.
الرابع: لقاضي القضاة، أنه لا يحسن، لأنه غير مُزاحِ العلة.
وإنما ذكرت أقوالهم هذه ليعتبر السُّني من فضول الكلام إلى ما لا (1) ينتهي بأهله من الحكم (2) على الله تعالى، وتنزيل حكمته على قدر أفهامهم القاصرة في المواضع الخفية التي تختلف فيها أفهام العقلاء، وخوضهم (3) في ذلك مع عدم الضرورة إليه، وتكفيرهم لأهل السنة مع عفو بعضهم عن بعض.
ألا ترى أنه يلزم قاضي القضاة تكفير سائر الشيوخ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى جواز تكليف من لا يجوز تكليفُه، وذلك قبيح، ومن جوَّز القبيح على الله، فهو كافرٌ لكن بشرط (4) أن يكون من أهل السنة.
وكذلك اختلافهم في الأعراض يوجب التكفير عندهم ولا يكفر بعضهم بعضاً، وسيأتي ذلك.
وقد تمَّ الكلام في نفوذ مشيئة الله تعالى وإرادته (5)، وهذه المسألة هي رأس
__________
(1) " لا " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): التحكم.
(3) في (ش): وخرصهم.
(4) في (ش): يشترط.
(5) ساقطة من (أ).(6/72)
الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، ولم يتحقق من اختلافهم في سائر المراتب الثلاث الماضية ولا فيما يأتي الآن في المرتبة الخامسة ما يوجب التنافي الكثير، فإن المعتزلة تُقِرُّ بأن الله خيَّرَ (1) الخلق على التكليف الاختياري، وهي المرتبة الأولى.
وتُقِرُّ بالقضاء والقدر بمعنى العلم والكتابة، وأن ما علمه الله لم يقع سواه قطعاً، وهذه المرتبة الرابعة.
وتقر بأن ما دعا إليه الداعي الراجح، وقع قطعاً، وهذه المرتبة الثالثة.
ويأتي في المرتبة الخامسة إقرار أهل السنة أجمعين أن العبد مختارٌ في فعله حتى في قول غُلاتِهم في الجَبْرِ.
فوضح لك أن حقيقة اختلافهم إنما هو في مسألة الإرادة، وإنما بَيَّنْتُ لك هذا لِتَخُصَّها بفضل التأمل التام، والنظر الصحيح، وتضرع إلى الله أن يَهْدِيَك إلى المنهج القويم والصراط المستقيم، فإنه سبحانه كما قال في كتابه: {لَطيفٌ لِما يَشاءُ} [يوسف: 100]، و {يُؤْتي الحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ} [المدثر: 31]، و {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} [فاطر: 8]، و {بيدِهِ الملكُ وهو على كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ} [الملك: 1]، و {بِكُلِّ شَيْءٍ بَصيرٌ} [الملك: 19].
وأما شُبَهُ المعتزلة السمعية في هذه المسألة، فهي ضعيفة جداً، وجوابُها يظهر بأدنى تأمُّلٍ بحمد الله تعالى، وهي أنواعٌ.
النوع الأول منها وهو أهمُّها: ما حكاه الله تعالى عن المشركين من تعرُّضِهم لإفحام الرسل كما تعرَّضت المعتزلة لإلزام أهل السنة ذلك بقولهم: إن مشيئة الله نافذةٌ، وقد سبقهم المشركون إلى الاحتجاج بذلك على الله
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: أجبر.(6/73)
تعالى، ثم على رُسُلِه الكرام عليهم السلام، وجاء سؤالهم وجوابه في كتاب الله تعالى، وأفحم الله تعالى المشركين وأسكتهم، فما فَهِمَتِ المعتزلة.
فالعجب منهم مع دعواهم للنظر الدقيق كيف حسبوا أن الله كرَّر شُبَهَ المشركين وقرَّرها وأجابها عليهم بجوابٍ غير مقنع، ولنذكر الآيات الواردة في ذلك، وهي ثلاثٌ.
الأولى: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [النحل: 35 - 37].
وهذه أبين الآيات وأبعدها من الاشتباه، وقد بيَّن الله سبحانه أن شُبَهَهُم (1) هذه من قبيل قول الخوارج: لا حكم إلاَّ لله، وجوابهم من قبيل قول علي عليه السلام: إن هذه كلمة حقٍّ يُراد بها باطل (2).
__________
(1) في (ش): شبهتهم.
(2) أخرج مسلم (1066) (157)، والنسائي في " الخصائص " (177)، والفسوي 3/ 391 - 392، وابن حبان (6939)، والبيهقي 8/ 171 من طرق عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن بُسر بن سعيد، عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي، فقالوا: لا حكم إلاَّ لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أُريد بها باطل، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف أناساً إني لأعرف وصفهم في هؤلاء، " يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم -وأشار إلى حَلْقه- من أبغض خلق الله إليه، فيهم أسود إحدى يديه حلمة ثدي " فلما قتلهم علي رضي الله عنه قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا، فقال: ارجعوا، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، مرتين أو ثلاثاً، ثم وجدوه في خَرِبة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم.(6/74)
وذلك أنه سبحانه أجاب عليهم بقوله: {فَهَلْ على الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبينُ}، وصدَّر الجواب بالمبالغة في الاستنكار حيث استعار للاستنكار حرف الاستفهام، فإن الاستنكار لا يورد على صيغة الاستفهام إلاَّ في المعلومات التي لا يتجاسَرُ الخصم على العناد في إنكارها كما يعرف ذلك أدنى من له ذوقٌ.
ولذلك نظائرُ، منها: قوله تعالى: {هَلْ جزاءُ الإحسانِ إلاَّ الإحسانُ} [الرحمن: 60]، وقوله: {وَهَلْ يُجازَى (1) إلاَّ الكَفورُ} [سبأ: 17].
وتقول لمن أساء إليك وأحسنت إليه: هل قدمت إليك ما يوجب الإساءة؟
وبيان ذلك من العقل: أن الله تعالى لمَّا نصَّ في كتبه الكرام، وعلى ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام أنه أراد ابتلاء الخلق وتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطيب بأنه حفَّ الجنة بالمكاره، وحفَّ النار بالشهوات (2)، حتى ابتلى خليله عليه السلام بالأمر (3) بذبح ولده، وقال: {إنَّ هذا لَهُوَ البَلاَءُ المُبينُ} [الصافات: 106]، وحتى أنكر ورود التكليف بغير هذه الصفة بعبارات كثيرة (4) مختلفة متنوعة، يطولُ ذكرُها، وسيأتي منها طرفٌ صالح عند ذكر الكلام في المرتبة الثالثة في الدواعي قريباً.
__________
(1) بضم الياء وفتح الزاي، ورفع الكفور على أنه نائب فاعل، وهي قراءة عامة القراء غير حمزة والكسائي، وحفص، فإنهم قرؤوا: {وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} بالنون، والكفور بالنصب على أنه مفعول به. انظر " حجة القراءات " ص 587.
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 260 و380، والبخاري (6487)، ومسلم (2823)، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي 7/ 3، وابن حبان (719)، والقضاعي (567)، والبغوي في " شرح السنة " (4115).
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 153 و254 و284، والدارمي 2/ 339، ومسلم (2822)، والترمذي (2559)، وا بن حبان (716) و (718)، والقضاعي (568)، والبغوي (4114).
(3) ساقطة من (أ).
(4) ساقطة من (أ).(6/75)
ثم عند ذكر حكمة الله تعالى في التكليف، وفي المتشابه، وفي تقدير الشرور في مسألة الأقدار من ذلك قولُه تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، كان من رعونة المشركين، وقلة تمييزهم المجادلة بما علموا أن الأنبياء جاؤوا به، وجَهِلَتْه (1) المعتزلة من نفوذ مشيئة الله من غير مَثْنَوِيَّةٍ (2)، ولولا علموا ذلك ضرورة من دين الأنبياء ما احتجوا به، ولو جوَّز المشركون أنه يوجد من يقول: إن الله لا يقدر على هداية عاصٍ، لعدلوا عن هذه الشبهة إلى قولهم: لو شاء الله ما خلقنا أو ما كَلَّفنا، فإنهم قوم خَصِمُون كما وصفهم الله تعالى، وهم أحذق من أن يحتجوا على الأنبياء بما لا يلتزمونه، وهم أهل اللسان العربي والفهم لدقائقه، والقرآن الكريم نزل على لُغتهم، و" لو" في لغتهم موضوعة لامتناع الشيء لامتناع غيره، فمعنى كلامهم أن إيمانهم امتنع لامتناع مشيئة الله، فلو كانت مشيئة (3) حاصلة من الله عند الأنبياء ما نَطَقَ بها (4) فرسان البلاغة، كما لا يحسن أن يقولوا: لو أمرنا الله ما أشركنا، ولا: لو أرسل الله إلينا ما أشركنا، وإنما يوردون ما هو ممتنع، مثل ما أوردوا مثل ذلك في إنزال الملائكة، قال الله تعالى: {إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14].
وأما قول من قال منهم: إن الله أمرهم بالفحشاء، فإنهم لم يريدوا أمر بها على يدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم غير مصدقين له فيما جاء به، وإنما ادَّعَوْا ذلك فيما
__________
(1) في (ش): وجهلة.
(2) أي: من غير استثناء، يقال: حلف فلان يميناً ليس فيها ثُنْيا ولا ثَنْوَى، ولا ثَنِيَّة ولا مثنوِيَّة ولا استثناء، كُلُّه واحد، وأصل هذا كله من الثني والكفِّ والرد، لأن الحالف إذا قال: والله لا أفعل كذا وكذا إلاَّ أن يشاء الله غيره، فقد ردَّ ما قاله بمشيئة الله غيره.
(3) مشيئته.
(4) في (أ) بهذا.(6/76)
توارثوه عن آبائهم عن الشرائعِ المتقدمة التي يمكن الكاذبُ الكذب عليها.
والعجبُ أنهم مع طول مخالطتهم للأنبياء ومجادلتهم، لم يعرفوا ما عرفته المعتزلة من أن عقيدة الأنبياء أن الله أراد ما علم أنه لا يكون، ولا فهموا ما فهمته المعتزلة من لغتهم أن الأمر لازمٌ للإرادة، فلو كان لغتهم تقتضي (1) ذلك، لم يُطيلوا اللجاج بمثل هذا الإلزام الذي يعلمون ظهور فساده.
وأعجب من هذا أن هذا السؤال تكرَّر منهم، وذكره الله في كتابه الكريم مكرراً، فما أجاب عليهم في آيةٍ واحدة بالجواب الحقِّ على قول المعتزلة، فيقول مثلاً: وقد شاء الله أن يؤمنوا، وأراد ذلك كما أجاب على من افترى، وقد زعم أن الله أمر بالفحشاء، فقال تعالى: {إنَّ الله لا يأمُرُ بالفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، بل عَدَلَ عن هذا بالمرة، وأعاد شبهتهم بنفسها مقرِّراً لكونهم نطقوا (2) بالحق متوصِّلين به إلى الباطل على نحو قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وذلك ظاهر في الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {سَيَقُولُ الذين أشركُوا لو شاءَ اللهُ ما أَشْركنا ولا آباؤُنا} إلى قوله: {كَذلك كَذَّبَ الَّذين مِنْ قَبْلِهِمْ ... قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] بمنزلة قوله {والله يعلمُ إنك لرسولُه}، إذ كل منهما تقريرٌ لصحة ما نطق به الخصم، وقوله: {قُلْ فَلله الحُجَّةُ البالغة} [الأنعام: 149] كقوله: {والله يَشْهَدُ إنَّ المُنافقينَ لكاذِبونَ} [المنافقون: 1]، إذ كل منهما مُناقضةٌ لمقصود الخصم، ودلالة على أن ما نطق به من الحق غير مستلزم ما قصد من الباطل والتمويه، بل ظاهر آية المنافقين بين الحاجة (3) إلى التأويل
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) تحرفت في الأصل إلى: يطلقوا.
(3) في (ش): الحجة.(6/77)
لتكذيبه لهم فيما قالوه من الحق، ولذلك تمَسَّك به الجاحظ في أن المطابقة لا تكفي في الصدق إلاَّ مع اعتقاد المتكلم لصحتها، وأما آيات المشركين فإنها مُصَرِّحةٌ بتقرير مذهب أهل السنة لنصوصه (1) عليه دون غيره.
والعجب أن المعتزلة احتجوا بها وهي بريئة من ذكر مذهبهم، وأرادوا إبطال مذهب أهل السنة إلى غيرها، ولو لم يرد في كتاب الله سواها، لما احتاج أهل السنة إلى (2) غيرها في تثبيت مذهبهم، ألا تراهُ يقولُ في هذه الآية: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]، وقال في الآية الأولى: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وقال فيها: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] ولم يقل كما قالت المعتزلة: فمنهم من اهتدى ومنهم من لم يقدر الله على هدايته، وهذا موضع الحاجة إلى بيان الحقِّ ومحو (3) تمويه المشركين، فكيف يُقَرّرُ في نفس الجواب ما يقتضي عند المعتزلة إفحام الرسل؟ وهل يصح مثل هذا من حكيم؟
ولو قدرنا حسن ورود المتشابه، فليس في مثل هذا المقام، فهذا مقام الحجاج والبيان، وإيراد المتشابه هنا يوهم صحة الإشكال، والعجز عن الجواب، ويُغري بالقبيح ويحطُّ رتبة المجيب، فإلى متى يُؤَخَّرُ المحكم، ويأتي بيان الحق، ولا مخبأ بعد بؤسٍ، ولا عطر بعد عروسٍ (4).
__________
(1) في (ش) لنصوصها.
(2) من قوله: " إلى غيرها " إلى هنا ساقط من (أ).
(3) في (ش): ومحق.
(4) كذا جاء المثل في (ش)، وهو ساقط من (أ)، ونصه في كتب الأمثال " لا مخبأ لِعِطْرٍ بعد عروس "، ويروى: " لا عِطْر بعد عروس ".
وأصله أن رجلاً أهديت إليه امرأة، فوجدها تَفِلَة، فقال لها: أين الطيبُ؟ فقالت: خَبَأته، فقال: " لا مخبأ لعطر بعد عروس " يضرب لمن لا يؤخَّر عنه نفيس. وقال الزمخشري: يُضرب في ذم ادِّخار الشيء وقت الحاجة إليه. وقيل: عروس اسم رجل مات، فحملت امرأتُه أواني =(6/78)
وهذه نكتةٌ نفيسةٌ فتأملها.
ويزيدها وضوحاً أن الحاكم على تَشَيُّعه روى في " المستدرك " (1) أن ابن عباس احتج بهذه الأولى على ثبوت القدر وصحته كما وفقنا الله لفهمه، وفهمه حجة، لأنه من أهل اللسان والفطرة الصحيحة.
__________
= العطر، فكسرتها على قبره، وصبَّت العطر على قبره، فوبخها بعضُ معارفها، فقالت ذلك.
ويضرب في الاستغناء عن ادِّخار الشيء لعدم من يدَّخر له.
وقيل: أول من قال ذلك امرأة من عُذرة يقال لها: أسماء بنت عبد الله، وكان لها زوج من بني عمها يقال له: عروس، فمات عنها، فتزوجها رجل من غير قومها يقال له: نوفل، وكان أعسر أبخر بخيلاً دميماً، فلما أراد أن يَظْعَنَ بها، قالت له: لو أذنت لي، فرثيتُ ابن عمي وبكيتُ عند رَمْسه، فقال: افعلي، فقالت: أبكيك يا عروس الأعراس، يا ثعلباً في أهله وأسداً عند البأس، مع أشياء ليس يعلمها الناس. قال: وما تلك الأشياء؟ قالت: كان عن الهمة غير نعَّاس، ويعمل السيف صبيحات البأس. ثم قالت: يا عروس الأغرّ الأزهر، الطيب الخِيم، الكريم المخْبَر، مع أشياء لا تذكر. فقال: وما تلك الأشياء؟ قالت: كان عيوفاً للخنى والمنكر، طيب النكهة غير أبخر، أيسر غير أعسر، فعرف الزوج أنها تُعَرِّضُ به، فلما رحل بها قال: ضُمِّي إليك عِطْرَكِ، وقد نظر إلى قَشْوَة عطرها مطروحة، فقالت: " لا عِطرَ بعد عروس " فذهبت مثلاً.
انظر " فصل المقال " ص 426 - 427، و" المستقصى " 2/ 263 - 264، و" مجمع الأمثال " 2/ 211 - 212، و" لسان العرب " و" القاموس المحيط " (عرس).
(1) 2/ 317 من طريق عبد الرزاق (20073) عن معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول: الشَّرُّ ليس بقدر، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: بيننا وبين أهل القدر {سَيَقولُ الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} حنى بلغ {فلو شاء لَهَداكُم أجمعين} قال ابن عباس: والعجز والكيس من القدر. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وأخرجه البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 174 - 175 من طريق الحاكم.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 380 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.(6/79)
ومن العجب قول المعتزلة: إن هذا متشابهٌ، فأين المحكم؟ وأيُّ آيةٍ في كتاب الله جاءت على وفق مذهب المعتزلة في أن الله يشاء ما لا يكون، ويريد ما يعلم أنه لا يكون حتى يُرَدَّ المتشابه إليها، فإن الله لم يصف القرآن بأنه متشابه كله، وقد تقدم تقرير هذا، وهو نفيسٌ جداً لمن تأمله، وليس في هاتين الآيتين ما يحتاج أهل السنة إلى تأويله ألبتة.
أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ كذَّب} [الأنعام: 148] فإن القراء السبعة اتفقوا على أن القراءة (كذَّبَ) (1) بتشديد الذال، يعني: كذبوا الأنبياء والحق الذي جاءهم، وهي كقوله تعالى في الآية الأخرى: {كَذلِكَ فَعَلَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهم} [النحل: 33] والقرآن يُفَسِّرُ بعضه بعضاً، وليس يحتاج إلى التأويل.
وأما من قرأ: {كَذَلِكَ كَذَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} على تقدير صحة القراءة بتخفيف الذال (2) من (كذب) فهو كقوله تعالى في هذه الآية {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وذلك كله راجع إلى ما سبقت الآيات لإبطاله من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى آخر قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وهي قدر سِتَّ عشرة آية مشتملة على تكذيبهم، وتجهيلهم في تحريم بعض الأنعام، واستحلال قتل أولادهم، يعني: وَأْدَ البنات.
وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه، لأنه يدلُّ على تجزئهم على الله، وعدمِ تأويلهم، وعدم نظرهم في الجليَّات، لأن كل عاقل يعلم مع أدنى تأمل أنه لا يدلُّ على ما افتروه في هذه الأشياء شبهةٌ عقلية، ولا أثارةُ علمٍ شرعية، ولذلك قال: {هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فتُخرجوه لَنا} [الأنعام: 148] ثم بيَّنه بقوله: {قُلْ
__________
(1) من قوله: " فإن القراء " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) هي قراءة شاذة لا تَثْبُتُ، ولا يُعْرَفُ من قرأ بها، فقد ذكرها أبو حيان في " البحر المحيط " 4/ 247 دون نسبة إلى معين، وإنما قال: بعض الشواذ.(6/80)
هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150].
وليس هذا الجواب من التأويل المخالف للظاهر، بل فيه بيان ما رجع إليه اسم الإشارة بالحجة كفعل الخصم بغير حجة.
وغاية الأمر أن هذه الآية الكريمة كآية المنافقين سواء، حيث احتجوا بالحق على الباطل، وسيأتي تمام الكلام على هذا مستوفى في جواب الآية الثالثة، فتأمَّلْهُ هنالك، فإنه مفيدٌ جداً، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وليس مع المعتزلة شُبهةٌ إلاَّ كون المشركين احتجوا بذلك، وليس يلزم في كل ما نطق به المشركون أنه باطل، وإن ظنوا أنه حجةٌ لهم، فما زالوا يحتجون بالحق على الباطل، وذلك كثيرٌ في كتاب الله ولا فرق بين قولهم: {لو شاءَ الله ما أَشْركْنا} [الأنعام: 148] وبين قولهم: {لو شَاءَ رَبُّنا لأنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14]، وقولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ الله أطْعَمَه} [يس: 47] من قبيل قول الخوارج (1): لا حكم إلاَّ لله، والجواب عليهم من قبيل قول علي رضي الله عنه: كلمة حق يراد بها باطل.
وقد جمع الله سبحانه تمسُّكهم بهذه الشبهة وتمسكهم بنظيرها من مقدورات الله الممتنعة بالحكمة في آيةٍ واحدة يساوي فيها بين الشبهتين، ولله الحمد، وذلك قوله تعالى في الزمر: {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 57 - 58].
ألا تراه قد أجاب عن كل واحدة من هاتين الشبهتين في كتابه الكريم، فقال في جواب الأولى: {قُلْ فلِلهِ الحُجَّةُ البالغةُ فلَوْ شاءَ لَهَدَاكُم أجْمَعينَ}
__________
(1) في (ش): في أن الجميع قول الخوارج.(6/81)
[الأنعام: 149]، وقال في جواب الثانية: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، وساوى في آية (الزمر) في الجواب بينهما، فجاء بأمرٍ يَعُمُّهُما لما كان معناهما الأخص مفترقاً، فقال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59].
وهذا مثل قوله: {فَهَلْ على الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبينُ} [النحل: 35]، وبلاغ الرسل ومجيءُ الكتب مع خلق العقول والقدرة هو المُعَبَّرُ عنه بالهدى في قوله: {وأمَّا ثَمودُ فهَدَيناهُم} [فصلت: 17] وهو الهدى العام، وفيه إبلاغ العذر كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ مِنَ الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب " (1)، وما زاد على ذلك من الهدى، فإنه فضلُ الله يؤتيه من يشاء بمنةٍ وفضلٍ، ويصرِفُه عمن يشاء بحكمةٍ وعدلٍ (2).
ألا ترى إلى قوله تعالى في آخر هذه السورة: {وقال لَهُمْ خَزَنَتُها} [الزمر: 71] الآية. وأما كذبهم على الله، فسوف يأتي بيانه قريباً في الآية الثالثة.
فبان بهذا أن الله عزَّ وجلَّ ما ذمَّهم على الإقرار بما لم يزل يتمدح به من نفوذ (3) مشيئته، وكمال قدرته، وعظيم عِزَّتِه، وإنما ذمهم على ظنهم ما ظنت المعتزلة من لزوم بطلان حجة الله على عباده بذلك، ومن استنتاجِ الباطل من الحق، والكذب من الصدق.
وقد تقدم في مسألة الإرادة أن نفوذ مشيئة الله من ضرورة الدين، فكيف يكذب به لاحتجاج المشركين به؟ ولو كان أهل الباطل كلما احتجو بحقٍّ كذَّبناه لتَيَسَّرَ لأعداء الإسلام تَعفية رسومِه بأيسرِ شُبهةٍ، وبلغوا أقصى مرامهم فيه من غير كُلفةٍ.
__________
(1) تقدم تخريجه في 5/ 58 من حديث المغيرة بن شعبة وبعض روايات عبد الله بن مسعود.
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (ش): تفرد.(6/82)
وقد جمع الله تعالى مذهب أهل السنة في بعض الآيات الكريمة، كقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 29 - 31].
فقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} يقتضي تمكينهم بالنظر إلى القدرة والبيان وكمال الحجة.
وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إثباتٌ لتوقف مشيئة العباد على سبق مشيئة الله تعالى، وهذا لا تناقض فيه، كما أن المعتزلة توقف أفعال العباد على ما سبق في (1) علم الله، ولا يلزم الجبر من شيءٍ من ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} إثباتٌ لتعليل أفعال الله تعالى بالحكم والغايات الحميدة وإن لم تدرك العقول شيئاً من ذلك ألبتة، كيف، وقد بيَّن الله تعالى منه الكثير الطيب كما نذكره في مسألة الأقدار.
وقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} إشارة إلى تعيين بعض ما منَّ علينا بتعريفه من حكمته في ذلك، فله الحمد حمداً كثيراً، وذلك أنه إنما عامل عباده في الهداية والإضلال على حسب علمه بما يستحقونه من ذلك من غير عجز منه عزَّ وجلَّ عن هداية ضال ولا إضلال (2) مهتدٍ، وهي كقوله سبحانه وتعالى في إبراهيم عليه السلام: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وفي ضدِّه من أعدائه: {وأضَلَّه الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، ويجمع معناهما مثل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقوله في
__________
(1) من قوله: " مشيئة الله تعالى " إلى هنا ساقط من (أ)، و (ف).
(2) قوله: " ولا إضلال " ساقط من (ش).(6/83)
الحكاية عن موسى عليه السلام: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52].
وقد ظهر بهذا أن المعتزلة أرادت أن تحتجَّ بهاتين الآيتين على أهل السنة، فانقلبت الحجة عليهم، وظهر أنه ليس فيهما ما يُتأول عند أهل السنة، وإنما (1) يجب على أصول المعتزلة تأويل كل واحدة منهما، لأن في إحداهما {فلَوْ شَاءَ لَهَداكُم أجْمَعينَ} [الأنعام: 149] وفي الأخرى: {فإنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37].
وأما الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 15 - 20].
فهذه الآية الكريمة مثل الآيتين المتقدمتين. والجواب فيهما واحد وإنما سُقْتُ الآيات من أولها ليتدبرها المحب للحق الطالب للبصيرة، فإن المعتزلة تورد آخرها مقطوعاً من أولها لما في ذلك من تعمية الجواب عليهم، فإنهم احتجوا بقوله تعالى في هذه الآية. {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}، وأوهموا أنه يرجع إلى قولهم: {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وحَسِبوا أن هذا يمضي على أهل السنة، وكيف يمضي عليهم وهم أحفط الناس لكتاب الله وأعرفهم به؟ وهل يلزم رجوع التكذيب إلى ما ذكروه من نفوذ مشيئة الله الذي لم يزل سبحانه يتمدح به، والذي عُلِمَ صحته ضرورةً (2) من الدين؟
__________
(1) في (ش): فإنه.
(2) في (ش): ضرورة صحته.(6/84)
فهل يجب صرف التكذيب إلى ذلك، ويحرم صرفه إلى ما سيقت الآيات من أولها في رده على المشركين من جعلهم الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوّاً كبيراً.
وأيُّ منصفٍ يمنع رد التكذيب إلى ذلك، ويقطع على أن الله ما أراده، وهو الأولى برد التكذيب إليه لوجوه:
منها: أن كونه كذباً وكفراً وجهلاً فاحشاً معلومٌ بالضرورة من الدين، وبالضرورة من العقل، وبالضرورة من إجماع المسلمين.
ومنها: أن سياق الآيات من أولها يقتضي شدة العناية في تضليلهم في ذلك، وتبكيتهم والتنويه (1) بتجهيلهم وتقريعهم حيث جعلوا لله ولداً، وهو يَعِزُّ ويَجِلُّ عن ذلك، وقد عظَّم ذلك في غير آية كقوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93].
ثم ما قنعوا أن يجعلوه ولداً حتى جعلوهم أولاداً كثيرين غير مُنْحَصرين، ثم ما قنعوا حتى جعلوهُنَّ إناثاً، وهُنَّ أبغض الأولاد وأجهلهم وأضعفهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]، وقوله: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154].
ثم ما قنعوا بذلك حتى آثروا عبادتهن على عبادةِ الله تعالى، فكيف يمنع ويحرم رجوع تكذيبهم إلى هذا الكفر، والكذب الفاحش، ويوجب رجوع تكذيبهم إلى القول بنفوذ مشيئة الله وإرادته الذي هو ترجمة عن كمال قدرته
__________
(1) في (ش): وثبوته، وهو خطأ.(6/85)
وعزته وربوبيته، وهل بَقِيَ في من فعل مثل ذلك حياءٌ، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به أهل الزَّيْغ والبدع، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ومنها: أنه قد أتى تكذيبهم في مثل ذلك صريحاً في نحو هذه الآية الكريمة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27 - 28].
وقال الله عز وجل: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 149 - 157].
فمن كابر عقله بعد هذا أو اعتقد أنه يجبُ صرفُ تكذيبهم إلى ما قالوه من نفوذ (1) مشيئة الله، لزمه أن يحتج على بطلان نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله عز وجل: {واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنافقين لكاذبون} بعد قولهم: {نَشْهَدُ إنَّك لَرسولُ الله} [المنافقون: 1] وكما أن المراد هناك معلومٌ بالضرورة فكذلك ها هنا، والحمد لله رب العالمين.
وقد بيَّن الله الكاذبين في غير هذه الآية من كتابه، فما أمكن أهل الزيغ أن يردُّوا مجمل كتاب الله إلى شيء من بَيِّنِهِ ونظائره.
فمن ذلك قوله في سورة هود: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 - 19].
__________
(1) في (ش): تفرد.(6/86)
فبيَّن في هذه الآية الشريفة أنهم الجاحدون للمعاد الذين كذبوا الله ورسله في هذا الوعد الحق الذي تطابقت به الكتب والرسل، فنزَّلَت المبتدعة تفسيرهم بذلك كأنه مُحالٌ، وجعلوهم الذين آمنوا بالله ورسله واليوم الآخر بسبب إيمانهم بكمال قدرته، ونفوذ مشيئته تعظيماً لربوبيته وعزته، وتصديقاً لنصوص آياته، وحرَّموا تفسير كتاب الله ومراده بذلك زَارِين على من خالفهم، فنعوذ بالله من الخِذلان، وهو حسبنا وكفى، ونعم المستعان.
النوع الثاني من شُبَهِهم السمعية: قوله تعالى: {وَمَا الله يُريدُ ظُلْماً للعِبادِ} [غافر: 31] وفي آية: {للعالمين} [آل عمران: 108] والجواب عليهم من وجهين:
الوجه الأول: أن أهل السنة أحق منهم بظاهرها وتصديقها، وكذلك في كل ما جاء عن الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله تعالى لا يريد الظلم إرادة فعلٍ، ولا إرادة محبةٍ، ورضاً، بل يقولون: إن إرادته سبحانه لا تعلق بأفعال العباد مطلقاً، فكيف بالقبيح منها؟
ويقولون: إنه سبحانه على أكمل ما يمكن أن يتمدح الرب عزَّ وجلَّ به، فقالوا: إنه يكرهه كراهة حكمةٍ بالنظر إلى الوجه الذي قَبُحَ لأجله، لا كراهة عجزٍ بالنظر إلى الوجه الذي لو شاء لمَنَعَه أو أصلحه منه، ولذلك يقع من ذلك ما لم يُرِدِ الله المنع منه، ولا (1) صلاح فاعله بالتوفيق والهداية عقوبةً له على عظيم ذنوبه كما سيأتي.
وأرادتِ المعتزلة أن تحمل الآيات على أن الله تعالى كَرِهَ ذلك من جميع الوجوه التي تستلزم عدم قدرته عزَّ وجلَّ على إصلاحه باللطف والهداية والتوفيق.
وأهل السنة آمنوا بالآية على وجهٍ يستلزم الإيمان بسائر الآيات، ويستلزم
__________
(1) " لا " لم ترد في (ش).(6/87)
غاية التعظيم لجلال الربوبية، والمعتزلة آمنوا به على وجه يستلزم ما ذم الله به أهل الكتاب من الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعض، وأروا أهل السنة أن الآية حجة لهم، فأمَّا منطوق الآية ومفهومها السابق إلى الأفهام، فقد آمن به أهل السنة، وأما استنباط عدم قدرة الرب منها، فأبَوْا ذلك إباء المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
وقد قدَّمنا في مسألة الإرادة أن الإرادة تنقسم إلى أقسام، وأنها (1) لا تعلق حين تكون حقيقةً (2) إلاَّ بفعل الله تعالى، وأنها حين تعدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ تُعَدَّى بحروف الجر، وتختلف حينئذ معانيها، وأنها حين تُعلق بفعل الغير تكون بمعنى المحبة والرضا، وتُعَدَّى حينئذ كثيراً باللام مثل هذه الآية، كما تقول: أُحبُّ لزيد كذا، ولا أرضاه له، وذكرنا أن المحبة تلازم الأمر والطلب والثناء والثواب وأنها لا تعلق بقبيح، وأن الإرادة قد ترد بمعناها، فيكون حكمها واحداً.
فينبغي للسُّني معرفة هذا ومراعاته، ولا يمكن أهل البدع من التشويش والتشنيع بما لا يحتاجه، ولا ورد به سمعٌ من العبارات المبتدعة التي لَهِجَ بها كثير من المتكلمين والمتكلفين، فإن الآية نصٌّ على مذهب أهل السنة في أن إرادة الله لا تعلق بأفعال المكلفين، لا خيرها ولا شرها، بل تعلق بأفعاله سبحانه، ولكنه سبحانه -لبالغ حكمته- قد يريد عقوبة الظالمين بتسليط بعضهم على بعض، أو عقوبة بعض العصاة من المسلمين بتسليط بعض الكافرين، ولو شاء لأصلح بينهم وكانوا بنعمته إخواناً.
والمعتزلة ظنت أن الإيمان بالآية يستلزم عدم قدرة الرب تعالى عن هذا، والنصوص كافيةٌ في الرد عليهم، قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167].
__________
(1) في (أ): فإنها.
(2) في (ش): حين حقيقة.(6/88)
فبيَّن الإذن وذكر الحكمة فيه بعلم تأويل الإذن بالعلم، لأن العلم لا يُعَلَّل، ولأن الإذن حين يكون بمعنى العلم يكون مفتوح الذال، ذكره في " الضياء " (1)، وهي عادتهم في التفريق بين المصادر دلالة على اختلاف المعاني.
وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 4 - 5] فالآية ظاهرة في إرادة الله تعالى لتسليط الكفار على بني إسرائيل في تفاسير المسلمين، ويؤيد ذلك قوله عز وجل: {ولو شاء الله لَسَلَّطَهُم عليكم} [النساء: 90] فكيف تُمَوِّهُ المعتزلة بأن من آمن بهذا فقد نسب إلى الله محبة الظلم والرضا به. وقد يكون لله تعالى في ذلك حكمٌ كثيرة غير ذلك.
من ذلك ما صح وتواتر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأل الله تعالى أن يرفع الاختلاف والسيف عن أُمته فمنعه ذلك (2).
__________
(1) ذكره نشوان بن سعيد الحميري في " شمس العلوم " 1/ 74، و" الضياء المذكور " هو " ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم " لولده محمد.
(2) أخرج ابن أبي شيبة 10/ 320، وأحمد 1/ 175، و181 - 182، ومسلم (2890)، والدورقي في " مسند سعد بن أبي وقاص " (39)، وعمر بن شبة في " تاريخ المدينة " 1/ 68، وأبو يعلى (734)، وابن حبان (7237)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 526، والبغوي (4014) من طرق عن عثمان بن حكيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه. وفيه: " سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ".
وأخرجه من حديث خباب بن الأرت: أحمد 5/ 108 - 109 و109، والترمذي (2175)، والنسائي 3/ 216 - 217، وفي " الكبرى " كما في " التحفة " 3/ 115 - 116، وابن حبان (7236)، والطبراني (3621) و (3623) و (3624) و (3625) و (3626)، والمزي في =(6/89)
وجاءت أحاديث قوية في بيان وجه الحكمة في ذلك، وهو أنها أمة مرحومة (1)، عذابها
__________
= ترجمة عبد الله بن خباب من " تهذيب الكمال " 14/ 447 - 448، وفيه: " وسألته أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها ".
وأخرجه باللفظ السابق من حديث أنس: الحاكم 1/ 314 وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 326.
وأخرجه من حديث ثوبان: أحمد 5/ 278 و384، ومسلم (2889)، وأبو داود (4252)، والترمذي (2176)، وابن ماجه (3952)، وابن حبان (6714) و (7238)، والبيهقي في " الدلائل " 6/ 526 - 527 وفي " السنن " 9/ 181، والبغوي (4015). وفيه: " فإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيك لأمتك أن لا أهلكلهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضُهم يهلك بعضاً، ويَسبي بعضُهم بعضاً " قال: وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة ... ".
وأخرجه من حديث شداد بن أوس: أحمد 4/ 123، والبزار (3291) مثل حديث ثوبان.
وأخرجه من حديث معاذ بن جبل: ابن ماجه (3951)، وأحمد 5/ 240، وابن خزيمة (1218)، وفيه: " وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردّها علي ".
وأخرجه من حديث جابر بن عتيك: أحمد 5/ 445.
(1) أخرجه أحمد 4/ 410 و418، وأبو داود (4278)، والحاكم 4/ 444 من طريق المسعودي عن سعيد بن أبي بردة، وأحمد 4/ 408 من طريق معاوية بن إسحاق، والطبراني في " المعجم الصغير " ص 10 من طريق سالم بن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وفي " المعجم الأوسط " (1) من طريق عبد الملك بن عمير وأبو حنيفة في " مسنده " ص 280 ستتهم عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعرى، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
ولفظ سعيد بن أبي بردة: "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذابٌ في الآخرة عذابُها =(6/90)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= في الدنيا الفتن والزلازل والقتل".
ولفظ أبي حنيفة: " إن أمتي أمة مرحومة وإنما عذابها بأيديها في الدنيا ". ولفظ الآخرين: " إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عزَّ وجلَّ عذابها بينها، فإذا كان يوم القيامة، دفع إلى كل امرىء منهم رجلٌ من أهل الأديان، فقال: هذا يكونُ فدِاءَك من النار ".
وأخرجه مسلم (2767) (51) دون قوله: " إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عز وجل عذابها بينها " من طريق غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه. ولفظه: " يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى ".
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 37 - 39 من طريق محمد، ويحيى بن زياد، وقتادة، وعمارة القرشي، وعمرو بن قيس السكوني، وعبد الملك بن عمير، وطلحة بن يحيى، والوليد بن عيسى، وليث، ومعاوية بن إسحاق، جميعهم عن أبي بردة، عن أبيه.
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 38 - 39، والطحاوي (268)، والحاكم 1/ 49 - 50 و4/ 254، والقضاعي (1000)، والخطيب في " تاريخه " 4/ 205، من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين، عن أبي بردة قال: كنت جالساً عند أمير قد سماه (هو عبيد الله بن زياد)، فجعل يتردَّد عليه برؤوس الخوارج، قال: فجعلت كلما رأيت رأساً منها، قلت: إلى النار، فقال عبد الله بن يزيد: يا بن أخي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يكون عذاب هذه الأمة في دنياها ". لفظ الطحاوي. وفي " التهذيب " 6/ 79: قال الأثرم قيل: لأبي عبد الله: لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة، فقال: أما صحيحة فلا، ثم قال: شيء يرويه أبو بكر بن عياش عن أبي حصين، عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وما أرى ذاك بشيء. وصححه الحاكم وقال: ولا علة له، وله شاهد صحيح!! أخرجه 1/ 50 من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سويد النخعي -وكان ثقة- عن الحسن بن الحكم النخعي، عن أبي بردة قال: سمعت عبد الله بن يزيد ... فذكره.
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 39، والحاكم 4/ 253 - 254 من طريق محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا صدقة بن المثنى، حدثنا رياح بن الحارث النخعي، عن أبي بردة قال: بينا أنا واقف في السوق في إمارة زياد إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى =(6/91)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= تعجباً، فقال رجل من الأنصار قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مم تتعجب يا أبا بردة؟ قلت: أعجب من قومٍ دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضهم قتل بعض، قال: فلا تعجب، فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة حسابٌ ولا عذاب، إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن ". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي!! مع أن فيه الرجل الأنصاري الذي لم يُسمَّ.
وأخرجه البخاري في " تاريخه " 1/ 39 عن سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا بريد، عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه مرفوعاً.
وأخرجه 1/ 39 - 40 عن علي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا مسعر، حدثني علي بن مدرك، عن أبي بردة، حدثني رجل من الأنصار، عن بعض أهله يرفعه: " هذه أمة مرحومة ... ".
قال البخاري بعد أن ذكر طرق الحديث السالفة: ألفاظهم مختلفة إلاَّ أن المعنى قريب، والخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة وأن قوماً يعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر.
قلت: وهذا التعليل من الإمام البخاري رحمه الله دال على نكارة متنه لمخالفته للأحاديث الصحيحة الكثيرة التي مفادها أن عدداً غيرُ قليل من هذه الأمة يدخل النار يوم القيامة، ويعذب فيها، ثم يخرجون منها بالشفاعة.
فمن التهور البالغ أن تجد بعض من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا يُصحح مثل هذا المتن الظاهر النكارة بالاعتماد على طرقٍ مضطربة في " صحيحته " (959) غير مبال بما يستلزم ذلك من رد أحاديث كثيرة في " الصحيحين " وغيرهما شبه متواترة وكان الأولى به -وهو الذي يُصِرُّ على أن يُؤْخَذَ كل علم عن أهله- أن يأخذ بقول الإمام البخاري المُسَلَّم له في هذه الصنعة، ولا أريد أن أصفه بما يصف به غيره ... ، فإن البواعث والنيات لا يطلع عليها إلا رب العالمين العالم بالخفيات، ولكن أحب أن أنصح طلبة العلم بأن يتوقفوا في الأخذ بما ينفرد بتصحيحه أو تضعيفه من الأحاديث، وأن يدرسوها دراسة وافية متأنية، ويستعينوا بمقالات أهل العلم قديماً وحديثاً، فإنهم سينتهون حتماً إلى مخالفته في كثير مما قاله، وعند ذلك سيعلمون حق العلم موقعَهُ من هذا الفن، وأن تلك الألقاب التي خلعها عليه بعضُ =(6/92)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= المنقادين له انقياداً أعمى ممن لا معرفة لهم بهذا العلم الشريف لا تنطبق عليه.
وأخرج الطبراني في " الأوسط " (2278) عن أحمد بن يزيد السجستاني، حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن جعفر بن الحارث، عن عروة بن عبد الله بن قُشير عن أبي موسى مرفوعاً: " أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل ... ". وهذا إسناد ضعيف، فجعفر بن الحارث -وهو الواسطي- كثير الخطأ، وإسماعيل بن عياش -وهو الحمصي- روايته عن غير أهل بلده فيها ضعف.
وفي الباب عند ابن ماجه (4292) عن جُبارة بن المُغَلِّس، حدثنا كثير بن سُليم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذه الأمة مرحومة، عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجلٍ من المسلمين رجلٌ من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النار ".
وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 3/ 318: هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة، وقد أعله البخاري.
وعند الطبراني في " الأوسط " (1900) عن أحمد بن طاهر بن حرملة، حدثنا جدي حرملة بن يحيى، حدثنا حماد بن زياد، حدثنا حميد الطويل وكان جاراً لنا قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أمتي أمة مرحومة، متابٌ عليها تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تُمحَّص عنها ذنوبها باستغفار المؤمنين لها ".
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 69 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " عن شيخه أحمد بن طاهر بن حرملة، وهو كذاب. وقال المناوي في " فيض القدير " 2/ 185: قال ابن الجوزي: قال النسائي: هذا حديث منكر.
وفي الباب أيضاً عن ابن عباس عند الخطيب في " المتفق والمفترق " وابن النجار -كما في " الجامع الكبير " للسيوطي ص 151 - بلفظ: " أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجلٍ من أمتي رجلاً من أهل الأديان فكان فداءة من النار ". وقال السيوطي: وفيه عبد الله بن ضرار عن أبيه ". قال ابن معين: لا يكتب حديثه.
وعن أبي هريرة عند الطبراني في " الأوسط " -كما في " مجمع الزوائد 7/ 224 - بلفظ: " أمتي أمة مرحومة قد رفع عنهم العذاب إلاَّ عذابهم أنفسهم بأيديهم، قال الهيثمي: وفيه =(6/93)
بالسيف (1)، وعند المعتزلي أن القادر على ما يشاء، اللطيف لما يشاء ما قَدَرَ أن يُصلِحَ بين اثنين، ويُؤَلِّف بين قلوبهما من جميع المختلفين، وأن هذا هو القول العدل، وأن أهل السنة كفروا لعدم مشاركتهم في هذه الضلالة، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن معنى الآيتين: أن الله تعالى لا يريد لهم ظلماً منه -عز وجل عن ذلك- لوجهين.
أحدهما: أنه عدى الظلم باللام إلى جميع العباد، ونفي إرادة إيقاعه على هذه الصفة لا يصح إلاَّ من الله ليميز الفاعل من المفعول، ولو أراد ما فهمت المعتزلة لقال: إن الله لا يريد الظلم فقط، سلمنا أنه يصح تعدية الإرادة إلى مفعول ثانٍ، لكن بغير اللام، فكان يقول: لا يريد ظلماً بين العباد أو منهم.
الثاني: أن هذه الجملة معطوفة بالواو، وذلك يوجب التناسب، والمتقدمُ في الآيتين معاً ذكر عقاب الله لعباده، وذلك ما يناسبه التنزُّه عن ظلمه لهم، ولم يتقدم ما يناسب ما ذكروه، وقد اعترف الخصم في تفسيره بأن هذا المعنى محتمل في الآية، فثبت أنه ليس في الآية ما ظاهره مذهب المعتزلة ولا ما يجب
__________
= سعيد بن مسلمة الأموي وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان وقال: يخطىء، وبقية رجاله ثقات.
(1) أخرج الخطيب في " تاريخه " 1/ 317 من طريق محمد بن أحمد بن عيسى بن عبدك، أنبانا محمد بن أيوب -وهو ابن الضريس الرازي- عن محمود بن غيلان، حدثنا المؤمل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، عن نصر بن عاصم، عن عقبة بن مالك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عقوبة هذه الأمة بالسيف ". والمؤمل -وهو ابن إسماعيل البصري- سيىء الحفظ. وباقي رجاله ثقات.
وأخرج الطبراني في " الكبير " -كما في " مجمع الزوائد "- من طريق أبي بردة قال: خرجت من عند عُبيد الله بن زياد، فرأيته يُعاقب عقوبة شديدة، فجلست إلى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " عقوبة هذه الأمة بالسيف ". وقال الهيثمي 7/ 224 - 225: ورجاله رجال الصحيح!(6/94)
تأويله عند أهل السنة.
النوع الثالث من شُبَهِهم: دخولُ " لعل " على كل ما طلبه الله تعالى بالأمر مما يحبه ويرضاه كقوله: {لَعَلَّهُم يَذَّكَّرونَ} [الأعراف: 130] والجواب من وجهين:
الأول: أنه لا بد من تأويل الظاهر منها على مذهب المعتزلة، فلم يكن لهم فيها إلاَّ مثل ما لأهل السنة على الجهد.
بيانه: أن " لعلَّ " في أصل وضعها (1) للترجي، وهو معنىً يُنافي علم الغيب، فالمعتزلة تقدِّر معها إرادة ما لا يقع، وهي أيضاً تُنافي علم الغيب كما مر تقريره، وأهل السنة يقدِّرون معها الطلب بالأمر، ولهم أن يُقَدِّروا المحبة والرضا، بل لهم أن يُقَدِّروا الإرادة التي بمعنى أحد هذه الأمور، أعني: الطلب، أو المحبة، أو الرضا، أو مجموعها، ويكون إطلاق الإرادة على ذلك حقيقة عرفية أو مجازاً قريباً، وتأويلهم أولى، لأنه لا ينافي علم الغيب.
وقد تَرِدُ " لَعَلَّ " لغير الترجِّي كما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] فيجوز حمل ذلك على مثل هذا.
ومن هذا النوع دخول لام " كي " كذلك.
والجواب أن أهل السنة يقدرون معه ما لا ينافي علم الغيب من الطلب والمحبة والرضا والإرادة التي تَعَلَّقُ (2) بمعنى هذه المعاني كما تقدم دون إرادة الوقوع التي تختصُّ بفعل المريد، ولا تتعلق إلاَّ بالمتجدد الواقع من الممكنات، فتخصِّصه بوجهٍ دون وجهٍ، ووقتٍ دون وقت، وقدرٍ دون قدر كما قدمناه.
__________
(1) من قوله: " فلم يكن " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) ساقطة من (أ).(6/95)
ومذهب المعتزلة غير منصوص، ولا هو الظاهر في جميع ما يتعلقون به في هذه المسألة من الشُّبَه السمعية، ومتى قدرنا أنه يُقَدَّرعلى أهل السنة تأويل شيء من ذلك بما ذكرناه، فلهم أن يَعْدِلُوا إلى تأويل الآيات بأنها وإن وردت عامة، فإنها في المعنى خاصة بأهل الإيمان، وتخصيص العموم كثيرٌ قريب غير متعسّف، ويجور بالدليل الظني من الحديث إجماعاً، وأجازته الأئمة الأربعة، والجماهير بالقياس الظني في العمليات، والتخصيص لكتاب الله بخبرٍ واحد كلمة إجماع بين المسلمين، فكيف بالأمور العقلية الجلية، والنصوص الصحاح، والأخبار المتواترة " أن كُلاًّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له " (1)، وأن إرادة الله تعالى
__________
(1) أخرجه من حديث عمران بن حصين: الطيالسي (742)، وأحمد 4/ 431، والبخاري في " صحيحه " (6596) و (7551) وفي " خلق أفعال العباد " ص 53، ومسلم (2649) وأبو داود (4709)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (691)، وابن حبان (333)، والآجري في " الشريعة " ص 174، والطبراني 18/ (266) و (267) و (269) و (270) و (272) و (273) و (274)، وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 294، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 94 و95. ولفظه: قيل: يا رسول الله، أَعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: " نعم ". قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له ".
وأخرجه من حديث علي: البخاري (1362) و (4945) و (4946) و (4947) و (4948) و (4949) و (6217) و (6605) و (7552)، ومسلم (2647) (7)، وأبو داود (4694)، والترمذي (2136) و (3344)، وابن ماجه (78)، والنسائي في " التفسير " من " الكبري " كما في " التحفة " 7/ 399، وأحمد 1/ 82 و129 و132 و140 وعبد الرزاق في " المصنف " (20074)، والآجري في " الشريعة " ص 171 - 172، وابن حبان (34) و (35)، وأبو يعلى (375) و (582)، والطبري 30/ 223 والبغوي في " شرح السنة " (72). ولفظه عند مسلم: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جالساً وفي يده عودٌ يَنْكُتُ به، فرفع رأسه، فقال: ما منكم من نفسٍ إلاَّ وقد عُلِمَ منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله فَلِمَ نعمل؟ أفلا نتَّكِلُ؟ قال: " لا، اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لما خلق له "، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ... } إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}. =(6/96)
نافذةٌ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن {وما تَشاؤُون إلاَّ أنْ يَشاءَ الله} [الإنسان: 30].
النوع الرابع: من شُبههم ما يوردونه على جهة التشنيع من أنه يلزم أن توافق (1) إرادة الله وإرادة الشيطان، وتختلف إرادته تعالى وإرادةُ الأنبياء والأولياء، فيكون الشيطان مختصاً دونهم بموافقة الله تعالى في مراده.
والجواب: أن هذا تمويهٌ لا يمضي لوجوه:
__________
= وأخرجه من حديث جابر: الطيالسيُّ (1737)، وأحمد 3/ 292 و293 و304، ومسلم (2648)، وابنُ حبان (336) و (337)، والآجري في " الشريعة " 174، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (690)، والطبراني (6562) و (6565) و (6566) و (6567) و (6568)، والبغوي (74).
وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي: أحمد 4/ 186، والحاكم 1/ 31، وابن حبان (338): وفيه: " قال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر ".
وأخرجه من حديث عمر: مالك 2/ 898، وأحمد 1/ 44 - 45، وأبو داود (4703)، والترمذي (3077)، والآجري ص 170، وفيه: " إن الله إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنة فيُدخِلَه به الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ".
وأخرجه البزار ص 171 ولفظه: " فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة ... ".
وأخرجه من حديث هشام بن حكيم بن حزام: البزار (2140)، والآجري ص 172 وفيه: " فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار ".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: البزار (2137)، والآجري ص 170.
وأخرجه من حديث أبي بكر: البزار (2136)، ومن حديث أبي الدرداء (2138)، ومن حديث ابن عباس: البزار (2139)، والطبراني (10899).
(1) في (ش): توافقت.(6/97)
الأول: أن الموافقة اليسيرة في بعض الألفاظ مع المخالفة والمباينة الكثيرة في المعاني مما لا يلتفت إليها إلاَّ أهل التعطيل، وبمثل هذه الحيلة عَطَّلوا الربَّ عز وجل، فنُفاة الإرادة بالجملة من المعتزلة -وهم البغدادية- لهم أن يقولوا لسائر المعتزلة: لا يجوز وصف الله بالإرادة، لأنه يوصف بها أهل الحاجة من المخلوقين، فإنها في الشاهد لا تعلق إلاَّ بما يحتاج إليه المريد، بل نفاةُ الصفات كلها قد عطَّلُوا بمثل هذه الشبهة، فقالت الإسماعيليةُ: لا يقال: إن الله حيٌّ، وهذه الصفة تطلق على الكلاب والخنازير، بل لا يقال: إنه موجود ولا شيء، لأنها صفة تطلق على كثير من المستقذرات، وأمثال ذلك مما يصح ذكره، وقد مرَّ تحقيقه في الصفات، وأنَّ مَنْ فرَّ من ذلك وصفه تعالى بصفاتِ المعدومات والمُحالات.
ونحو هذه الموافقة موافقة اليهود بعد بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - لموسى عليه السلام في ظاهر شريعته، فإنها موافقةٌ من بعض الوجوه لكنها مُخالفةٌ في المعنى، لأن موسى بشَّر بمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأمر باتِّباعه، وكذلك نكاح التسع، مع موافقة النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، وكذا موافقة النساء له في أحكام الرجال، وأمثال هذا لا يحوج إلى ذكره مميز.
الوجه الثاني: -وهو التحقيق- أنا قد بيَّنا أن الله تعالى يكرهُ القبائح لقُبْحِها، ولا يُريدها إرادة محبَّةٍ، ولا رضا، ولا إرادة طلب وأمر، وإنما يريد عقوبة بعض أعدائه بتيسيره للعسرى كما يُريد عقوبته بالنار الكبرى كما صَدَعَتْ بذلك النصوص، وجاء به العموم والخصوص، فأين هذا من موافقة الشيطان اللعين الذي يريد وقوع (2) القبائح، لأن قُبْحَ وجوهها من معصية الله عز وجل، ومحبة الفساد والرضا بالفواحش والخبائث بحيث إن الله تعالى يكره القبائح من
__________
(1) من قوله: " وأمر باتباعه " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) سقط من (أ).(6/98)
الوجه الذي أحبَّها منه الشيطان، ونهى عنها من حيث أمر بها الشيطان، وأحبَّ العقوبة بها على الوجه الذي يكرهه الشيطان من الانتقام للمؤمنين، والنصر للمظلومين، والاعتبار للمتقين، والتمحيص للصالحين، والرضا لربِّ العالمين. فأين الاتفاق؟ وهل بعد هذا تضادٌّ أكبرُ منه.
وأما أنبياء الله تعالى وأولياؤه وأحبَّاؤُه، فلا يخفى على من له أدنى مُسْكةٍ من عقل رضاهم بما رضي الله، وتسليمهم لأمر الله، والرضا بالقضاء في غير المعاصي من كل وجه، وفيها من الوجه الذي قُدِّرَتْ لأجله، لا من الوجه الذي قبحت لأجله.
مثال ذلك: اليمين الواجبة شرعاً مع فجور الحالف فيها، فإنها إحدى الكبائر إجماعاً، وقد حَسُنَت، بل وجبت ورضيت شرعاً، لكن وجه القُبح فيها مكروهٌ حرام منفصل من وجه الحسن المرضي.
وكذلك سائر القبائح المقدرة، وعلى قدر تفاوتهم في الرضا بالقضاء تفاوت مراتِبُهُم في القرب منه، ولذلك اتخذ الله إبراهيم خليلاً حين عزم على ذبح ولده وقُرَّة عينه إيثاراً لرضا ربه، وألقي في النار راضياً بحيث إن جبريل قال له وهو في الهواء يَخْوِي إليها: ألك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا (1).
أفمثل هؤلاء يقال لهم: إنهم يخالفون الله في مراده، ولا يدخل في ذلك ما خرج عن القدرة مما يُبتلى به الصالحون من محبة العافية لعظم ألمٍ مع منعهم لأنفسهم مما يقدرون عليه من ذلك وإن عظُمَت المشقة كالصبر في الحرب،
__________
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " 17/ 45 من طريق معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه من قوله.
والثابت في هذا ما أخرجه البخاري (4563) و (4564) عن ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.(6/99)
وعدم الفرار، وما لا يحصى، مع أنه يلزم المعتزلة مثل ذلك فيما لا يخالفون فيه، فإن إرادة الشيطان قد توافق إرادة الله في اللفظ دون المعاني في مواضع كثيرةٍ.
فإن الشيطان يريد كثيراً من أفعال الله تعالى من موتِ الأنبياء صلوات الله عليهم، أو إنزالَ المتشابه، وابتلاء المؤمنين بالمصائب والفقر، وعقابِ عُصاة بني آدم، وعدم العفو عنهم، ولكن الله تعالى أراد ذلك على أحسن الوجوه، وأبلغها حكمةً، وأحمدها عاقبة، وأبعدها من المذمَّة، والشيطان على العكس في جميع ذلك.
ولو كان الشيطانُ وافق الرب عزَّ وجلَّ الموافقة المرضية لوافقه في إرادة الخيرات والطاعات، وكراهة المعاصي.
وقد بيَّنَّا في غير هذا الكتاب، وسيأتي مبسوطاً في مرتبة الدواعي أن الخيراتِ والطاعات هي الغالبة في جميع المخلوقات غير الجن والإنس لما ثبت من كثرة الملائكة، ومن طاعة جميع الحيوانات وغيرها، فكيف سُمي الشيطان موافقاً لله وقد خالفه في أكثر الأشياء من كل وجه، ولم يُوافقه في المعاصي النادرة التي قَذِرَها منه، بل كرهها من ذلك الوجه الحسن (1)، وأحبها من الوجه المسخوط الذي كرهها الله تعالى منه؟
والعجبُ من المعتزلة في التشنيع على أهل السنة في هذا الموضع، ونسيان ما يلزمهم فيه من الشناعة، وفي المثل: " رَمَتْني بدائِها وانْسَلَّتْ "، فإن المعتزلة هم الذين ردُّوا ملك الملك العزيز الجبار الذي هو على كل شيءٍ قدير إلى أدنى من مرتبة شيخ قرية عاجز ضعيف، فإن أدنى مشايخ القرى لا يرضون أن يُوصفوا بالعجز عن إصلاح قُراهم، وأن ما يُنفذ في قُراهم من مراد أعدائهم أكثرُ من مراداتهم.
__________
(1) ساقطة من (أ).(6/100)
وعند المعتزلة أنَّ النافذ في مملكة الله في الثقلين في الدنيا والآخرة هو مراد الشيطان دون مُراد الله إلاَّ ما لا خطر له.
بيانه: أن مراد الله بالجنة والناس في الدنيا أن يُطيعوه، وفي الآخرة أن يدخلوا الجنة، لكن الذي وافق مراد الله هم أهل الطاعة، وفي الآخرة هم أهل الجنة، وقد جاء في الحديث الصحيح " أنهم واحدٌ من الألف " (1) وهذا كلا شيء إلى الألف.
وقد تقدم تحقيق التشنيع على المعتزلة في هذا في أوائل مسألة الإرادة حيث ظنوا أنه انعكس على الله مراده في خلقه، وبيَّنَّا هناك العلم الضروري عقلاً وسمعاً أن علم الغيب يمنع من مثل ذلك مع عدم القدرة، كيف مع أتم القُدرة! وذكرنا هناك الاحتجاج بقول الله سبحانه: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، وأنها تستلزم أيضاً أن من أراد به عالم الغيب الخير لم يقع في (2) السوء قطعاً، ومن تشنيعاتهم هنا
__________
(1) أخرجه البخاري (3348) و (4741) و (6530) و (7483)، ومسلم (222)، وأحمد 3/ 32 - 33، وابن جرير الطبري 17/ 112، والبيهقي " الأسماء والصفات " ص 219 من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري ولفظه: " يقول الله عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخيرُ في يديك، قال: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعين ... ".
وأخرجه أحمد 4/ 432، والترمذي (3168) و (3169)، والطبري 17/ 111، والحاكم 4/ 567 من حديث عِمران بن حصين، وفيه: " تسع مئة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة ".
وأخرجه أبو يعلى (3122)، وابن حبان (7354)، والطبري 17/ 112، وابن أبي حاتم في " تفسيره " فيما ذكر الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 3/ 214، والحاكم 1/ 29 و4/ 566 - 567 من حديث أنس.
(2) ساقطة من (أ).(6/101)
على أهلِ السنة أنه يلزمهم أن يتركوا الاستعاذة من الشيطان، ويتعوذوا من الله حيث كان يجوز عليه الإضلال.
وقد تقدم الفرقُ في ذلك وأزيد هنا ذكر أبيات أجبت بها في هذا المعنى، وهي:
إن تستعذْ منه به وبفضله ... . . . إذْ ما له مِن ثاني
فهو المجيرُ ولا يُجارُ عليه في الـ ... ـأخُبار والقرآن والبرهان
فإن استعاذ المُستعيذُ بغيره ... منه فذلك أكفرُ الكفران
والإستعاذة منه تعظيم وخو ... فُ العدل إن جازى على العصيان
ومن اللعين مخافةً من خُبْثِه ... في أمره بالكفر والطغيان
شتَّان ما بين الإله الحقِّ في ... خِذْلانِه الفُسَّاق والشيطان
أوَ لَمْ يَقُلْ فيهم وليس يُضِلُّ إلـ ... ـا الفاسقين بمُحْكَم القرآن
ومن اللعين تمرُّدٌ مستقبحٌ ... لذوي التُّقى والخير والإيمان
يا جامعاً للنور والظلمات في الـ ... ـأحكام لم تُلبِسْ على الأعيان
لم نلقَ فيما جاء منك إفادةً ... إلاَّ بأنك أبلهُ العُميان (1)
لم تَدْرِ ما معنى التعوُّذ أوَّلاً ... فيما فَرِحَتْ به من الهَذَيَانِ
وحَسِبْتَه لما جَهِلْتَ لذاته ... مُستقبحاً (2) من غيرِ أمرٍ ثاني
يا قاطعين بعجزه سبحانه ... عن لطفه طوعاً بذي العصيان
خلُّوا تعوُّذَكُم به وتعوَّذُوا ... بنفوسِكْم من فتنة الشيطان
هذا هو الفاروق فيما بيننا ... والجَبْرُ والتعجيز مُنتفيانِ
فدع التخبُّطَ في الضلالِ ورميَ أهْـ ... ـلِ الحَقِّ في الأخبار بالبُهْتانِ
وتمام الكلام في هذا المعنى مستوفىً أول هذا الوهم فخذه من موضعه،
__________
(1) في (ش): العصيان.
(2) في (ش): " مستقبح " وهو خطأ.(6/102)
ورُدَّ الشناعة على المعتزلة، وما يجب التشنيع، ولكن المبتدع يُغَيِّرُ الخُلُقَ المعتدل، وقد قال الخليل لقومه: {أفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدونَ} [الأنبياء: 67] وهو الذي وصفه الله بأنه حليمٌ أوَّاهٌ مُنيبٌ، وقال موسى عليه السلام لصاحبه: {إنَّك لَغَويٌّ مُبينٌ} [القصص: 18]، وقال يوسف لإخوته: {أنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} [يوسف: 77] وهو الكريمُ ابنُ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريم (1) كما صح في الحديث (2).
وقد قدمت في أول هذا الكتاب ما يجري من نحو هذا من الأنبياء وأهل المراتب العَلِيَّة، وقد يُحمد حيث يحتاج إليه ويكون فيه إيقاظٌ للعاقل وتنبيهٌ للغافل.
وقد تم الكلام بعون الله في الإرادة وطال، ومضمونه أن الخلاف فيها في مواضع، فتأملها، فإن الخلاف في بعضها أفحش من بعض.
الأول: القول بأن الله غير قادر على هداية العصاة مطلقاً، ولا بأن يُغيِّر بِنْيَتَهم وخِلْقَتَهم، وهذا خلاف في قدرة الله تعالى على هداية العصاة بأن
__________
(1) " ابن الكريم " ساقط من (ش).
(2) أخرجه أحمد 2/ 332 و416، والبخاري في " الأدب المفرد " (605)، والترمذي (3116)، وابن حبان (5776)، والحاكم 2/ 346 - 347 و570 - 571 من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 2/ 431، والبخاري (3353) و (3374) و (3383) و (3490) و (4689)، ومسلم (2378) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه (وبعضها ليس فيه " عن أبيه ")، عن أبي هريرة قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الناس أكرم؟ قال: " أكرمهم عند الله أتقاهم " قالوا: ليس عن هذا نسألُك، قال: " فأكرم الناس يوسُف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ".
وأخرجه أحمد 2/ 96، والبخاري (3390) و (4688)، والخطيب في " تاريخه " 3/ 426، والبغوي (3547).(6/103)
يخلُقَهم على غير البنية التي بناهم عليها، مثل أن يخلقهم على بنية الملائكة، والمعصومين والمؤمنين، وقد صرَّح أبو الحسين (1) وأصحابه من المعتزلة على قدرة الله تعالى على هداية العصاة بهذا المعنى، وقد قاربوا أهل السنة في هذا المعنى.
فالعجب منهم ما ألجاهم إلى تأويل آيات المشيئة بالإكراه، وأعجب من هذا أن الظاهر إجماع المعتزلة عليه، فإن إمكانه بَيِّنٌ، وقدرة الله متعلقة بجميع الممكنات عند المعتزلة.
وإنما ذكرت الخلاف فيه، لأن بعض أهل العصر من (2) المشتغلين بمذاهبهم زعم أن قواعدهم تقتضي خلاف ذلك، وهو بعيد جداً، ومن منعه منهم قهره الدليل البين، ومن جوَّزه منهم حرُم عليه تأويل آيات المشيئة بالإكراه، ووافق أهل السنة في المعنى بغير شك، وهذا كله بناء على قول المعتزلة: إن الله بنى من لا يلتطف على بِنيةٍ لا تقبل اللطف زيادة في الابتلاء، وكان قياس مذهبهم منع هذا، لأنه يكون مفسدةً، ومن أوجب اللطف كيف يحسن فعل المفسدة، ومن منعه منهم، فقد وافق أهل السنة بذلك أيضاً على قدرة الله على اللطف بالعُصاة، فتأمل ذلك.
الخلاف الثاني: نفي كثير منهم لقدرة الله على هداية العصاة باللطف مع بقائهم على البِنية التي خلقهم عليها من القساوة والعتاوة والشهوة ونحو ذلك.
وهو قول أبي الحسين وأصحابه كما بيناه في الخلاف الأول وهذا دون الذي قبله، وهو أفحش مما بعده، ولذلك خالفهم فيه أبو الحسين كما تقدم، وخالفهم فيه جميع قدماء أهل البيت كما مرَّ. ونص الإمام يحيى بن حمزة من متأخري
__________
(1) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري صاحب " المعتمد " في أصول الفقه.
(2) " العصر من " ساقط من (أ).(6/104)
أهل البيت على خلافهم كما تقدم، ولم أعلم لأكابر العترة المتأخرين موافقةً في ذلك بالنصوص.
الخلاف الثالث: خلاف من يمنعُ عقوبة العاصي بالخِذلان، وخلاصته: هل يحسن إرادة وقوع الذنب عقوبةً مع كراهة الذنب في نفسه فرقاً بين الوقوع والواقع، وكما يحسن إرادة اليمين الفاجرة من القاضي وصاحب الحق لاستيفاء الحق من الجاحد مع كراهة اليمين الفاجرة وقبحها.
وتلخيصه: حسن الشيء وقبحه باعتبار الجهتين، والحجة على من خالف فيه فِطَرُ العقول، ونصوص المنقول، كقول موسى عليه السلام: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] وكذلك ورد ذلك كثيراً في كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام وغيره، وقد تقدم مستوفى في الإرادة.
الخلاف الرابع: خلاف من يخالف في تجويز وقوع (1) إرادة الذنب من جهة محبة غُفرانه مع كراهة الواقع الذي هو الذنب لقبحه، وهو كالأول في اعتبار الجهتين بالفرق بين الواقع والوقوع على ما تقدم تمثيله باليمين الغموس، والحجة على ذلك ما تقدم بيانه من الآيات القرآنية، والنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة، والمعقول وقد مرَّ تقريره في الإرادة والذي يرُدُّه لا يتمسَّك بقاطعٍ، فالحجة مُنتهضةٌ لمعارضيه ولو بتلك الأحاديث وحدها.
الخلاف الخامس: خلاف من يخالف في تجويز إرادة وقوع الذنب على جهة الابتلاء بالتكليف من غير تقدُّم ذنب، ومعنى ذلك: هل يحسن إرادة الله بتقدير وقوع الذنب من العبد ليبلوه كيف عمله (2) في حسن رجوعه إليه وإنابته وذلته وخُضوعه أو عكس ذلك من إصراره وعتوه.
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) تحرفت في (ش) إلى: علمه.(6/105)
والمعنى: ليظهر من العبد ما علمه الله، فيحسن مجازاته عليه، وهو تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فهل يمكن مجرد إمكان -ولو في غاية البعد- تجويز ذلك حتى يمكن تصديق السمع إن ورد بذلك؟ فالمعتزلة تمنع إرادة ذلك ووقوعه تعريضاً للثواب، ولهم هنا مُتَمسَّكٌ من السمع خاص، وهو (1) قوله تعالى: {وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: 5]، وقوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ونحو ذلك.
وبنحو الحديث الصحيح المتفق على صحته من حديث أبي هريرة " وإنما أبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانها " (2) وأمثالها، بخلاف ما تقدم فإنه ليس لهم فيه مُتَمسَّكٌ من السمع خاصٌّ، وإنما يتمسكون فيه بالعمومات، وبدعوى قطع العقول بالقبح.
ألا ترى أن الإزاغة من الله لو تقدمت الزيغ، كان يجب أن يقال فيها: فلما أزاغ الله قلوبهم، زاغوا، وذلك نقيض القرآن، ونقيضه باطلٌ وفاقاً، لكن يلزمهم خصومهم المناقضة في قولهم بخلق الخلق على الفطرة مع قولهم: بأن الله تعالى بنى العصاة على بِنيةٍ لا تقبل اللطف حتى لم يبق في علم الله وقدرته لهم لطفٌ البتة، هذه بِنيةٌ غير بِنية الأنبياء والأولياء، فكيف يقولون: قد استووا في خلقهم على الفطرة؟
وأما أهل السنة، فلا يلزمهم هذا، لأنهم لا يقولون: بُني العصاة على هذه البنية أصلاً، بل يُقِرُّون بالآية والحديث، ولا تمنع أصولهم منهما، فإن قواعدهم إنما تقتضي نفوذ مراد الله، والمنع من تعجيزه عن هداية العصاة، فيمنعون أن
__________
(1) في (ش): وهم. وهو خطأ.
(2) تقدم تخريجه في 3/ 387.(6/106)
يكون خلقُ الله للأشقياء على الفطرة خلقاً مانعاً من وقوع ما سبق في علمه الحق من شقاوتهم، بل يكون على قواعدهم خلقهم على الفطرة خلقاً مؤكداً للحجة عليهم حيث جحدوا ما فُطِرُوا عليه من معرفة معبودهم وسيدهم بعد أن خلقوا حنفاء (1) لم يَبْنَوْا على بِنيةٍ تمنع قدرة الله على اللطف بهم كما زعمت المعتزلة، فما زالوا على الفطرة التي فطرهم الله عليها حتى غيَّروها حين كَمُلَت الحجة عليهم، وخلى الله بحكمته بين من سَبَقَ في علمه شقاوته، وبين اختبارهم (2) حتى غيَّروا الفطرة كما قال الله تعالى: {فلَمَّا زاغُوا أزَاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: 5]، وكما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، قال الله تعالى: {وأمَّا ثَمودُ فهديناهُم} [فصلت: 17] الآية فهي كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " وحينئذٍ استحقَّا العقوبة بالإضلال والإزاغة.
وأما الذين سبقت لهم من الله الحسنى، فلم يُخَلِّ بينهم وبين أنفسهم، بل أمدَّهم بألطافِه فَضْلاً منه ورحمةً {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105].
ولهذا انتهت المعتزلة في اختصاص الله تعالى من يشاءُ بالبنية المخصوصة، وبالمُعافاة من الزيادة في الشَّهوات التي يعلمُ وقوع المعاصي عندها، وقد نصَّ أصحاب أبي الحسين على الأول، وأبو هاشم وجمهور المعتزلة على الثاني، ثم ينازِعُهم أهل السنة في دعوى قطع العقول هناك، وقد وافقوا في المعنى حيث جوَّزوا أن الله يبتلي المكلَّف بزيادة في الشهوة يعلم الله أنه يعصي بسببها، وإنما خالفوا في تسميته إضلالاً -وهو الصواب كما يأتي بيانه- وفي إرادة وقوع الذنب لحكمةٍ مع كراهته لقُبحه، بل زعموا أن الله تعالى إنما زاد في شهوةٍ المكَلَّفِ تلك الزيادة المُضِلَّة له في علم الله تعريضاً للثواب
__________
(1) في (ش): خلقاً.
(2) في (ش): اختيارهم.(6/107)
العظيم، وهذا بناءً منهم على جواز تعارض العلم والإرادة، وقد تقدم منعه وضعف كلامهم فيه عقلاً وسمعاً، ولكنا لا نختار إطلاق إرادة الله لذلك، لعدم ورود النص المعلوم به (1)، بل نجوِّزه عقلاً ولا نجوِّزُهُ عقلاً (2)، ولا نرُدُّ ما ورد به من نصوص الآحاد، ونقتصر على أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً.
على أنه قد تقدم أن الأشعريَّة تمنع من تعلق إرادة الله بأفعال العباد كلها إلا بنوع تأويلٍ كما يأتي الآن، ثم تُعارِضُ عمومات المعتزلة هنا بمثلها، وبما هو أخصُّ منها.
وجواب أهل السنة في هذا عن الآيات أنها وردت في الإضلال لا في الابتلاء والامتحان، وبينهما فرقٌ واضح، لأنه قال: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] ولم يقل: إنه لا يبتلي إلاَّ الفاسقين، فإن الإضلال والإزاغة والمكر لا يُسمى بذلك حتى يكون عقوبةً مستحقَّةً، والابتلاء والامتحان يحسُنان من غير تقدُّم ذنب.
وأما قوله تعالى: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} [الروم: 30] وحديث أبي هريرة " كل مولودٍ يولد على الفطرة " فالحق أنهما على ظاهرهما، وأن ذلك صحيح على قواعد أهل السنة كما صرَّح به ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في الكلام على دوام النار في " حادي الأرواح " (3).
وتقرير ذلك: أن قواعد أهل السنة -كما صرح به ابن تيمية (4) - إنما تقتضي وقوع مراد الله كما أراد، وعدم تعجيزه عن شيءٍ من الأشياء كما أوضحته، وإنما أوهم المخالفة قول بعض أهل السنة: إن حديث أبي هريرة ظاهر في أحكام
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) " ولا يجوز عقلاً " لم ترد في (ش).
(3) ص 258 - 259.
(4) قوله: " كما صرح به ابن تيمية " ساقط من (أ).(6/108)
الدنيا (1) لأن الأبوين لا يؤثِّران في أحكام أولادهما إلاَّ فيها. وقد دل الدليل القاطع عندهم على تجويز الابتلاء واللطف الذي أوجبته المعتزلة مع كثرة الظواهر المتناولة لذلك، وتحريم تأويلها لإمكان بقائها (2) من غير تأويل، بل لقيام القاطع على عدم تأويلها، أما القاطع الأول، فهو عقلي، وأما امتناع أن يكون الله تعالى خلق من عَلِمَ أنه يعصي عبثاً وليس فيه إرادةٌ لله تعالى، وهذا إجماع.
وإذا ثبت أن له فيه إرادةً، استحال عندهم عقلاً أن تكون تلك الإرادة متعلقةً بتحصيل ما ثبت في العلم أنه لا يحصل، فثبت أنها متعلقةٌ بما يوافق العلم من أفعال الله تعالى، وبعدم المنع باللطف (3) من المعاصي التي تعلق العلم بوقوعها، وهو التخلية في عبارة المعتزلة، وهذه أصح العبارات كما سيظهر بحمد الله تعالى، ومع ذلك فلا يثبُتُ تعلُّقُها بالذنب نفسه لما تقرَّر أن مذهب أهل السنة أنه يستحيل تعلُّقُ الإرادة بفعل الغير، وإنما تُعلَّق بأفعال تكون سبباً
لفعل، وأما ما يتعلق بفعل الغير (4)، فلا يكون إلاَّ المحبة للطاعات والكراهة للمعاصي، لكن المحبة تُسمى إرادةً مجازاً كما تقدم تقريره.
وأما الظواهر الواردة في ذلك، فمثل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وأمثال ذلك مما يطول ذكره، وقد تقدم أو أكثره.
وبعض أهل السنة يورد فيه قوله تعالى: {وما تشاؤُون إلاَّ أنْ يَشاءَ الله}
__________
(1) في (ش): الدين.
(2) في (ش): بقائهما، وهو خطأ.
(3) ساقطة من (أ).
(4) من قوله: " وإنما تعلق " إلى هنا ساقط من (أ) و (ف).(6/109)
[التكوير: 29] وليست منه، لأنَّ أوَّلها {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَستقيم} [التكوير: 28] فهي في الإرادة المتعلقة بالطاعات، وهذه وأمثالها لا حجة فيها لما ذكرته، ولأن النصوص فيها وفي أمثالها أنه تعالى لم يُرِدْ هدايتهم، لا أنه أراد ضلالهم، ولا أراد ابتلاءهم بالمعاصي، وبينهما فرق بيِّنٌ، وهذا لطيفٌ قَلَّ من يَتنبَّهُ له، ولكن سيأتي الآن أن هذه حال التخلية بين العبد وبين نفسه، وأنها تَؤُول بالعبد إلى الضلال، والحجة لهم فيها ما تقدم من دليل العقل القاطع عندهم ومن الظواهر.
وأما القطع بتحريم تأويلها، بل بأنها على ظاهرها، فذلك لتواتر اشتهارها في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والعلم بتقريرهم لها على ظاهرها، والعادة الضرورية تمنع من عدم ذكر التأويل الحق من جميعهم في جميع تلك الأعصار لو كان هناك تأويلٌ كما مرَّ بيانه.
ثم يتقوَّى أهل السنة بعد ذلك كله بالأحاديث الواردة في ذلك لأهل البحث، وذلك في مرتبة الكلام في القدر، لكنها عامةٌ لا نصوص، لكن عمومها يَعتضِدُ بعدم تأويله كما قلنا في الظواهر سواء.
ويمكنُ توجيهُ ذلك على نظر أهل المعقول بأنه كخلق الخلق على الفطرة أولاً نعمةً (1) ورحمةً لأوليائه، ونعمةً وحُجة على من غيَّرها من أعدائه كما خلقهم لذلك في الخلق الأول في عالم الذَّرِّ كما يأتي في الوهم الثلاثين في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ثم قدَّر الذنب في الابتداء ليغفر، ولو بتأخير العقوبة فيما لا يغفرُ، وللمِنَّة في إمهال راكبه، ثم لإقامة الحجة عليه، وعلى حلم الله وصفحه عنه حتى يستحق العقوبة بالإصرار، ثم يُقَدِّر الذنب بعد ذلك عقوبةً، ثم يُسَمَّى (2) إضلالاً ومكراً وإزاغةً لأقلِّ ذلك.
__________
(1) في (ش): بأنه خلق الخلق على الفطرة ونعمة.
(2) " ثم يسمى " ساقط من (ش).(6/110)
وقد دلَّ القرآن على أن الله تعالى يبدأ باللطف، ثم بالخِذْلان، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95] وربما عبَّر عن عدم اللطف بالعبد حيث لا يعاقب بالإضلال، وحيث لا يستحق ثواباً على شيءٍ من طاعاته بالتخلية بين العبد وبين نفسه، كما رواه الحاكم في سبب ذنب داود عليه السلام وصحَّحه من حديث كُرَيْبٍ، عن ابن عباس -في تفسير سورة ص- (1) [قال: ما أصاب داود ما أصابه بعد القدر إلاَّ من عُجْب عجب به من نفسه، وذلك] (2) أنه قال: يا رب ما من ساعةٍ من ليلٍ ولا نهارٍ إلاَّ وعابدٌ من آل داود يعبدك، ويُصلِّي لك، أو يُسَبِّحُ أو يُكبِّرُ، فكره الله ذلك، فقال له: يا داودُ إن ذلك لم يكن إلاَّ بي، ولولا عَوْني لك ما قَوِيتَ عليه، وعِزَّتي وجلالي، لأكِلنَّك إلى نفسك يوماً، قال: فأخبرني [به] يا رب، فأصابته السيئة ذلك اليوم (3).
وكذا رُوِيَ نحو ذلك في سبب ذنب آدم عليه السلام (4).
__________
(1) في (أ) و (ش) زيادة: " عن ابن عباس "، وليس لها موضع.
(2) زيادة من " المستدرك " لا بد منها.
(3) أخرجه الحاكم 2/ 433 عن إسماعيل بن محمد الفقيه بالريّ، حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس، أنبأنا سليمان بن داود الهاشمي البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن كُريب، عن ابن عباس موقوفاً، وصححه ووافقه الذهبي مع أن رواية البغداديين عن عبد الرحمن بن أبي الزناد فيها ضعف.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 156 وزاد نسبته إلى البيهقي في " الشعب ".
(4) أخرج الترمذي (3368)، وابن حبان (6167)، وابن سعد في " الطبقات " 1/ 27 - 28، والحاكم 1/ 64 و2/ 585 - 586 من حديث أبي هريرة، ولفظه: " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح، عطس، فقال: الحمد لله، فحَمِدَ الله بإذن الله، فقال له ربُّه: يرحمك(6/111)
وروى أحمدُ والحاكم أيضاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديث زيد بن ثابت (1) أنه قال: " وإن تَكِلْني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضَيْعَةٍ وضعفٍ وذنبٍ وخَطيئةٍ " وصححه الحاكم (2).
__________
= ربُّك يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة -إلى ملإ منهم جلوس- فسلم عليهم، ققال: السلام عليكم، فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، وقال الله جل وعلا -ويداه مقبوضتان- اختر أيهما شئت، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطهما، فإذا فيهما آدم وذريته، فقال: أي ربِّي، ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل انسان منهم، مكتوب عمره بين عينيه فإذا فيهم رجل أضْوَؤُهم -أو من أضوئهم- لم يكتب له إلاَّ أربعين سنة، قال: يا رب ما هذا؟ قال: هذا ابنك داود، وقد كتب الله عمره أربعين سنة، قال: أي ربِّ، زِدْه في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له. قال: فإني قد جعلتُ له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك. اسكن الجنة فسكن الجنة ما شاء الله، ثم أَهْبِطَ منها، وكان آدم يعُدَّ لنفسه، فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عَجِلْت، قد كُتب لي ألف سنة. قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنة فجحد، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، فيومئذ أمر بالكتاب والشهود ".
(1) تحرف في (أ) و (ش) إلى: ابن أرقم.
(2) أخرجه أحمد 5/ 191، والطبراني (4803)، والحاكم 1/ 516 - 517 من طريقين عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الدعاء، وأمره أن يتعلمه ويتعاهد به أهله في كل يوم يقول حين يصبح: لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك ... فذكروه مطولاً وفي آخره هذه القطعة.
وتصحيح الحاكم له مردود، لأن فيه أبا بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني (4932) عن بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عبد الله بن صالح -وهو كاتب الليث- حدثني معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن زيد بن ثابت.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 113 وقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثقوا وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
وفي الباب عند أحمد 1/ 412 عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح =(6/112)
ويعضُدُ هذه الأحاديث قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقوله تعالى: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقوله: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وقال يوسف عليه السلام -مع عصمة النبوة- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] وأمثالها.
فثبت أن ابتداء التكليف في الأشقياء هو حال الفطرة، ثُمَّ التخلية بينه وبين نفسه بعد التمكين وإقامة الحجة ببلوغ الدعوة النبوية، وظهور المعجز مع الفطرة التي خُلِقَ عليها، وهذا القَدْرُ وحده هو الذي سمَّاه الله هُدىً في قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وهو الذي سماه الله حجة في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
ولكن دلَّ ما قدمنا الآن على أن الله إذا وَكَلَ العبد إلى نفسه حينئذٍ لم يكن منه إلاَّ اختيار الضلال ما لم يتفضل الرب بما لا يجب في حكمة الله المساواة فيه بين جميع خلقه من الألطاف الزائدة على التمكين، وعلى الفطرة، وإقامة الحجة، وسبق الإرادة عند أهل السنة غير مانع من الاختيار، مثل سبق العلم عند الجميع، بل مثل سبق العلم والإرادة معاً عند الجميع في أفعال الله تعالى.
__________
= وعبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عون بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قال: اللهم فاطر السماوات والأرض ... فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ... " قال سهيل: فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عوناً أخبر بكذا وكذا، قال: ما في أهلنا جارية إلاَّ وهي تقول هذا في خدرها.
وذكره الهيثمي في " المجمع 10/ 174 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلاَّ أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود.(6/113)
فإن قيل: فلِمَ خصَّ الله تعالى بعض عباده في أول أحوال التكليف بالتخلية مع التمكين مع علمه أن ذلك وسيلة إلى الهلاك دون من لطف به؟
قلنا: لا يجب العلم بتفصيل (1) حكمة الله في ذلك على جميع المذاهب.
وقد جوَّز أبو هاشم وجمهور المعتزلة الزيادة في الامتحان للمُكَلَّفين، مثل الزيادة في شهوات المكلف بحيث يُوقِعُهُ في المحظور، ومثلُ خلق الشيطان مع العلم بأنه يُغْوي به من ثم يكن يَغْوِي لو لم يُخْلقْ، واحتجوا بنحو قوله: {فأخْرَجَهُما مِمَّا كانا فيه} [البقرة: 36] وظواهر كثيرة نحوها، ولم يخالف منهم في ذلك إلاَّ أبو علي، وألزموه أن لا يُكلِّف الله من عَلِمَ أنه يعصي لأنهما سواء.
فقول أبي هاشم والجمهور منهم، كقولِ أهل السنة في تجويز الإضلال لحكمةٍ سواء، لم يختلفوا إلاَّ في العبارة عند التحقيق.
ومن العجب أن السيد المجاب عليه اختار ذلك وصحَّحه، ونسبه إلى الجمهور، وختم بذلك تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النكت اللطاف " فهي آخرُ مسألةٍ فيه.
وأما قول المعتزلة بخلق العُصاة على بِنيةٍ لا تقبل اللطف في قدرة الله وعلمه لحكمة لا نعلمها فغُلُوٌّ في الإضلال، وتجويزه على حدٍّ لا يُجَوِّزُ عليه أحد من أهل السنة مع تشنيعهم على من جوَّز عقوبة العصاة بالإضلال الواردِ سمعاً الجائز عقلاً، فالله المستعان.
ثم يطلبون في تفسير الإضلال التأويلاتِ البعيدة كالإضلال عن طريق الجنة في الآخرة، وتأويله بهذا الذي ذهبوا إليه أوضحُ فافْهَمْ ذلك، ولكن عند المعتزلة خلق الشياطين، وزيادة الشهوات، والدواعي الموقعة في العذاب الدائم من قبيل الإحسان بالتعريض للأجر من الله تعالى لمن عَلِمَ أنَّ ذلك
__________
(1) في (ش): بتفضيل، وهو تصحيف.(6/114)
يكونُ سبب هلاكه من قبيل إرادة هلاكهم عقوبةً لهم على عُتُوهِّم وإصرارهم. وقد تلخص أن هذا موضع الخلاف فانظر بإنصاف، ولو كان ذلك من الزيادة في الإحسان بالتعريض للأجر، لوجب أن يرغب كل عاقل إلى الله أن يجعله من أهله، فلمَّا علمنا ضرورةً من جميع العقلاء أنهم يستعيذون بالله من ذلك، علمنا أنه من قبيل العقوبة المستحقة بعظيم الذنوب، نعوذ بالله منها.
وقد تقدم هذا المعنى مبسوطاً غير أنه يختص ها هنا أنه سبب الخلاف، ولا شكَّ أن صيانة المكلَّف منه لينجو من العذاب إحسانٌ يوجب الشكر، وأن قصد الإحسان به مع العلم كالعمل بغير العلم، بل هو على خلاف المعقول بغير شكٍّ.
وقد انتهت المعتزلة هنا إلى أن الله خصَّ بعض المكلفين بأن خلقه على بِنيةٍ تقبل اللطف، ولم يزِدْ في شهوتِه زيادةً توقعه في المحظور، وهذا هو التيسيرُ لليُسرى، أو هو منه، وبعضهم بأن خلقه على بِنيةٍ لا تقبله، وبعضهم بأن خلق له شهوةً زائدة تُوقعه في المحظور زيادةً في الابتلاء، وهو التيسير للعسرى في كتاب الله، أو هو منه، وكل ذلك لحكمةٍ جلية أو خفيةٍ استأثر الله بعلمها. ذكر بعض ذلك السيد في آخر تفسيره المذكور، وبعضه ابن الملاحمي في " الفائق " كما تقدم.
فرجعوا بعد السفر الطويل، والتعسُّف الكثير في التأويل إلى ما بدأ به أهلُ السنة من تقرير النصوص على أن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهو الحكيم العليم، بل إلى أبعد (1) من قول أهل السنة عن مقاصد أهل السنة، فإنهم قصدوا في الابتداء المبالغة في تمكين العبد، وإزاحة أعذاره، ثم رجعوا إلى أن الله تعالى قد بنى العصاة على بِنيةٍ قاسية يمتنع قبولهم منها لجميع ألطاف الله تعالى مع أنه اللطيف لما يشاء.
__________
(1) في (ش): بل بدا، وهو خطأ.(6/115)
ولا شك أن هذا عذرٌ للعبد، وأن بِنيته عليه تنافي قولهم بوجوب إزاحة الأعذار، وتُنافي قولهم: إنهم خُلِقُوا على الفطرة.
وأما أهل السنة، فإن الله بناهم على بِنيةٍ تقبل اللطف، بل بناهم على الفِطرة، ولكنه ترك هداية من أراد لما له في الابتلاء بذلك من الحكمة. وقد بَسَطْتُ القول (1) في هذا الوجه في مرتبة الدواعي، وهي المرتبة الثالثة في الوجه الثالث من الجواب، فانظره هناك.
فهذا ما حضرني في هذا الوجه الخامس من أدلة الجميع على الإنصاف، فمن وضح له فيه بُرهان صحيح، فذاك، ومن لم يتَّضِحْ له فيه البرهان، وكل العلم فيه إلى الله سبحانه مع القطع، وعدم الشك في القواعد الثلاث:
أحدها: القطع بعموم قدرة الله تعالى.
وثانيها: القطعُ بنفوذ مشيئة الله سبحانه.
وثالثها: القطع بتمام حجة الله على عباده بالتمكين، ونفي الجَبْرِ، والله سبحانه أعلم.
المرتبة الثالثة: إطلاقهم الوجوب مع بقاء الاختيار بالنظر إلى شرط تأثير القدرة، وهو الداعي، وهو المُسمَّى بالتيسير في كتاب الله، وفي أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يأتي عند أحاديث القدر في المرتبة الرابعة في قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُه لِلعُسْرَى} [الليل 7]، وقوله: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لهُ " (2)، وهو المعبر عنه بالهُدى والإضلال في قوله تعالى: {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهدي مَنْ يشاء} في أكثر آيات كتاب الله تعالى، وليس الإضلال يقتضي نفي أفعال العباد، ولا نفي اختيارهم فيها، كما أنَّ الهُدى لا يقتضي ذلك عند المعتزلة.
__________
(1) في (ش): الكلام.
(2) تقدم تخريجه ص 281.(6/116)
ومن أدلةِ أهل السنة في هذا بعد تواتر نصوص السمع فيه أن من المعلوم لكل عاقل أن مجرد القدرة لا تُؤَثِّر في الفعل من غير أمرٍ ينضم إليها، فإنا قادرون على كثير من المضارِّ (1) العظيمة لأنفسنا وأولادنا من القتل وغيره، وأنواع القبائح التي لا داعي إليها مثل المشي عُراة في المجامع، وسائر أفعال المجانين وما شاكَلَها، ولا نفعل شيئاً من ذلك بمجرد قدرتنا عليه، وما ذلك إلاَّ لعدم الداعي.
ومن المعلوم ضرورة أن أهل الجنة لا يطرحون أنفسهم في النار، ولا يضرون أنفسهم بشيءٍ من المضار، وإن لم يُسلبوا التمكن والاقتدار.
وسيأتي في المرتبة الخامسة في الفرقة الرابعة الكلام على أنه في جُملته دون تفاصيله قرآني بُرهاني، وأن المعتزلة توافِق عليه، وننقلُ هناك إجماع المعتزلة على ذلك في أربع مسائل، وبإحكام النظر في هذه المسألة يتبينُ في العقل ما ورد في السمع من قدرة الله تعالى على هداية من يشاء من جميع عباده اختياراً بالدواعي والصوارف.
وبيان ذلك: أن المرجع في الترجيح الذي هو ضميمة القدرة، وشرط تأثيرها إلى الدواعي والصوارف، ولا شكَّ أن موادَّها من فعلِ الله سبحانه إجماعاً، بل الدواعي والصوارف أنفسها كلها من فعل الله سبحانه على الصحيح كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.
والدليلُ على ذلك أن المرجع بها إلى الشهوة والنُّفرة والمحبة والكراهة، والعلم بالمنافع والمضارِّ والظن بها، والخوف والرجاء المتعلقين بها، وإنما ذكرتُ المحبة والكراهة مع الشهوة والنفرة للاختلاف في أنها مُترادفة أو لا كما مرَّ في الكلام على الصفات.
__________
(1) في (ش): المصائب.(6/117)
ولا خفاء في أن كل هذه الأمور ضرورية لا اختيار للعبد فيها إلاَّ ما يخالف فيه بعض المعتزلة في العلوم النظرية، وفي الظنون، فأمَّا العلوم (1) النظرية، فإنها متولِّدة عن العلوم الضرورية بالإجماع، لكن من النُّظار من يقول: إن النظريات عند استحضار مقدماتها ضروريات، وهو الصحيح، لأنه لا يمكن الناظر اختيار الجهل حينئذٍ، فدلَّ على أن اختياره إنما هو في النظر.
والتحقيق أن المخالف إنما يُسمِّيها اختيارية لتوقفها على الاختيار في النظر، ولا مُشاحَّة في العبارة، فالظاهر أن الخلاف لفظي، وأما الظن، فالصحيح أنه ضروريٌّ من فعل الله تعالى، أما الظن القبيح عقلاً وشرعاً الذي ليس براجح، ولا يُسمى ظنّاً إلاَّ مجازاً باشتراك، فإنه من فعل العبد، وفيه يقول الله تعالى (2): {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ} وذلك في صورتين.
أحدهما: ما خالف الأدلة القاطعة كظن المشركين ربوبية غير الله.
وثانيهما: ما خالف القرائن الصحيحة، أو كان عن قرينة باطلة، كظنِّ الفُجَّار في الأبرار أنهم مثلهم في الاجتراء في (3) الفواحش والخبائث.
وأما سائر الظنون الراجحة الصادرة عن القرائن الصحيحة الضرورية، فإنها فعل الله كما هو اختيار شيخ الاعتزال أبي الحسين البصري وأصحابه.
والدليل على ذلك، عدم القدرة على دفعه، وهي الحجة في كل ما تنسِبُه إلى الله تعالى، وخصوصاً حين تكون القرينة ضروريةً كمشاهدة الغَيْمِ الرَّطْبِ الثقيل والبرق فجأةً، وسماع دَوِيِّ الرَّعْدِ والرياح التي يُرْسِلُها الله بُشرى بين يدي رحمته في أوقات المطر.
__________
(1) قوله: " الضرورية وفي الظنون فأما العلوم " ساقط من (أ).
(2) من قوله: " فإنه " إلى هنا ساقط من (أ) و (ف).
(3) في (أ): عن.(6/118)
وإنما خالف بعض المعتزلة في ذلك، لكونه قد يكون غير مُطابِقٍ، ويلزمهم في المطابقة تجويز أنه من الله، وسيأتي في مسألة الأقدار إنه قد يجوز أن يريد الله تعالى وقوع مثل ذلك لمصلحةٍ غير مستلزمةٍ لقبيح، كما جاء في قوله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44].
ومثلُ ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43].
ومثلُ تخويفه لأوليائه من سخطه وعذابه، وأيضاً فالبلادة والغَباوة والنِّسيان بعد العلم، والجهل والجنون المبتدأ، وضعف الحواس المتولِّد عنها الغلط في الإدراك خصوصاً ضعف البصر والحول، وظنُّ النائم واعتقادُه، كلها فعل الله بالإجماع، والظن الذي لم يطابق أهون من ذلك، بل هو بعض ما يتولد عنها مع ما لا يخُصُّه من الاعتقادات الباطلة المتولدة، وعندهم فاعل السبب والمُسَبِّب واحدٌ غالباً، ولا قُبحَ فيه عقلاً لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان قبيحاً، لقَبُحَ من المكلف، وهو خلاف الإجماع، وكيف يقال: إنه قبيح؟! وهو مراد الله تعالى من كل مكلَّفٍ (1)، والثواب مترتب عليه عند الخصوم.
وثانيهما: أن القبح إن كان في العمل، فليس (2) بقبيح إجماعاً، وإن كان في عدم مطابقته، فلم يدل على المظنون على جهة القطع، فيقبح بانكشاف المخالفة، بل عدم المطابقة مطابقٌ لِجَنَبَةِ (3) التجوبز التي هي من لوازم الظن،
__________
(1) في (ش): مجتهد.
(2) من قوله: " عند الخصوم " إلى هنا ساقط من (أ).
(3) في " اللسان ": الجانب: الناحية، وكذلك الجنبة.(6/119)
وإنما دلَّت القرينة على أن أحد الجائزين (1) أقرب بالنظر إلى القرينة وحدها ما لم يعارضها ما هو أرجحُ منها، وبالنظر إلى الشخص والوقت، وما لم ينكشف خلاف ما دلَّت عليه، فمتعلّقُه الرجحان المقيَّد بهذه القيود كقول الخصم في ظن المجتهد إذا تغير، ولا بُدَّ من مراعاتها.
بل لقائلٍ أن يقول: وإن سلَّمنا أنه خطأ، فإنه من الخطأ الذي هو نقيض الإصابة، كخطأ المجاهد في الرمي، والمريض في ظنه أن الماء مُرٌّ لنفسه، لا من الخطأ الذي هو نقيض الصواب، ولا يُنسبٌ الخطأ إلى الله اسماً كسائر النقائص المخلوقة، لأنه لم يُنْسَبْ إلى العبد إلاَّ بالنسبة إلى انكشاف خلاف ما ظنه.
فثبت أن القدرة والداعي فعل الله عز وجل، ولكن حصول الفعل بهما اختياريٌّ بالضرورة، كما قال أبو الحسين وكثيرٌ من الأشعرية: إنا نُفَرِّقُ بالضرورة بين حركة المختار، وحركة المَسْحُوبِ والمَفْلُوج، ونعلم بالضرورتين العقلية والسمعية حسن الأمر والنهي، والمدح والذم فيما يتعلَّق بأفعالنا دون صُوَرِنا وألواننا، وذلك يأتي متكرراً بزيادات لا تخلو من فائدة إن شاء الله تعالى، وخلاف المعتزلة في ذلك لفظيٌّ لما يأتي في المرتبة الخامسة في الفرقة (2) الرابعة.
فإن قيل: أليس قد نصَّ الله في كتابه على أن له الحجة البالغة، وصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب " (3)، وتصديق ذلك في كتاب الله في قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقوله تعالى: {أنْ تَقُولوا يومَ القيامة إنَّا
__________
(1) في (ش): أحد المجوزين الجائزين.
(2) في (أ): المرتبة.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 170.(6/120)
كُنَّا عَنْ هذا غافلينَ} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله: {بَلَى قَدْ جاءَتْكَ آياتي فكَذَّبْتَ بها} [الزمر: 59] جواباً على من قال: {لَوْ أنَّ الله هداني} [الزمر: 57] وأمثال ذلك كثير جداً.
ولا شكَّ أن المعلوم من السمع قرآناً وسُنةً أن مراد الله تعالى بهذا وأمثاله قَطْعُ أعذار المُكلَّفين، فإذا كانت الدواعي إلى المعاصي من فعله، والمعاصي عند حصول الدواعي واجبة الوقوع بالنظر إلى الواقع، وإن كانت ممكنة بالنظر إلى القدرة والمقدور، كان ذلك عُذراً للعبد غير مقطوع بشيءٍ، مع أنَّ الشرع ورد بقطع الأعذار التي هي دُون هذا، والجواب من وجوه:
الأول: أن من يقول بإيجاب الداعي، وتوقُّف الفعل عليه يقول: إن الشرع إنما ورد بقطع ما يُمْكِنُ في عقول العباد وعوائدهم قطعه من الأعذار دون ما يستحيل في عقولهم وعوائدهم، وهذا مما يستحيل عندهم لما سيأتي عند الكلام على تحقيق مذاهبهم من استحالة نفس الاختيار بغير ذلك فإنهم قالوا: القادر: هو الذي يتمكن من الفعل أو الترك (1) مع المرجِّح، ويستحيل وجودُ قادر يتمكن من الإتيان بكل واحد منهما بدلاً عن الآخر من غير مرجِّح، ولا يمكن دخول هذه الحقيقة في الوجود عندهم، وهو قول حُذَّاق أهل الكلام من جميع الطوائف كما يأتي تقريره.
وحاصلُ الأمر أن نذكر أمرين: جُملي وتفصيلي.
أما الجملي: فهو أن العقل إنما يوجب قطع أعذار الخلق في إنكار
__________
(1) في (ش): والترك.(6/121)
الربوبية، وتقديسها عن كل عيبٍ ونقص وظُلم، فمن أنكر أحدها، قامت عليه البراهينُ، ومن اعترف بهما، فقد اعترف بأن الله حكيم نافذ المشيئة، غنيٌّ كريم لا يجوز عليه الظلم ولا العبث، فلا يصح منه أن يُنازع ربه سبحانه وتعالى في حكمةٍ خفية لوجهين:
أحدهما: أن علمه الجُملي بحكمته كافٍ.
وثانيهما: أن علمه بكمالِ ربه سبحانه في أسمائه الحسنى ها هنا ونقص العبد في كل معنى، وكثرة جهالاته، وخُبثِ كثيرٍ من طبائعه، وغَلَبَتِها عليه يكفيه وازعاً عن سنة الشيطان -لعنَه الله- حين نازع ربه سبحانه في سجوده لآدم، وهي سنة السفهاء الذين قالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142].
ولو كان العقل والشرع يوجبان إزاحة كُلِّ عذرٍ باطلٍ، لوجب إزاحة كل عذر لهم من قولهم: {أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارجِعْنا نعملْ صالحاً} [السجدة: 12]، واقتراحهم على الرسول أن يكون ملكاً، وأن يفجر الأنهار (1) لهم تفجيراً، وأن يأتيهم بآبائهم بعد موتهم، واعتذارهم بعدم رؤيتهم لربِّهم عزَّ وجلَّ وغير ذلك.
وإذ قد قامت الحجة على ثبوت الرب وعدله، وحكمته فلا يجب إزاحة شيءٍ بعد ذلك من لَجاجِهم بالأعذار الباطلة، وما أزاحه الله من سائر الأمور فعلى سبيل التفضل كشهادة الجوارح يوم القيامة، ولا تدل على وجوب إزاحة سائرِ الأعذار الباطلة، والله سبحانه أعلم.
وأما التفصيلي: فنقول: إما أن يُريد السائل أن يَسْلُبَ الله المكلفين الدواعي والصوارف كلها، سواءٌ كانت إلى الخير أو إلى الشر، ولا يزيد على تمكينهم بالقدرة، أو يريد أن يخلق دواعي الخير وحدها لجميع الخلق من غير
__________
(1) في (ش): الأرض.(6/122)
معارضةٍ لها بشيءٍ من دواعي الشر.
أما الأول: فظاهر السقوط، لأنه يؤدي إلى ألاَّ يقع منهم فعلٌ ألبتة، لا خير ولا شر، ولأنهم يعتذرون في عدم وقوع الخير بعدم الداعي إليه مع أن القصد بهذا قطع عذرهم هذا خُلْفٌ، ولأن سلب الدواعي يستلزم سلبَ العلوم والظنون، وذلك يستلزم سلب العقول، وحصول الجنون، وذلك أعظم الأعذار، والقصد قطعها، هذا خُلف أيضاً.
وأما الثاني: وهو خلق دواعي الخير محضةً من غير معارضة، فالكلام فيه في وجوه:
أحدها: أنه مقدورٌ لله تعالى، وهذا إجماع المسلمين.
وثانيها: أن المكلفين معه يبقون مختارين مستحقين للثناء، وهذا كذلك.
وثالثها: أنه يحسُنُ إثابتُهم مع ذلك لبقاء الاختيار، كما يحسن الثناء عليهم لذلك، وهذا مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وقد مرَّ تقريره في الإرادة.
ورابعها: -وهو المقصود هنا- أن الله تعالى إنما ترك ذلك لِحِكَمٍ لا يعلم جميعها وتفاصيلها إلاَّ هو، وهو تأويل المتشابه، وسرُّ القدر.
وقد تقدم كلام الزمخشري في ذلك في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُم فمِنْكُم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، وفي قوله تعالى للملائكة: {إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 30]، وسيأتي أن جهل موسى عليه السلام بتأويل فعل الخَضِر يدل على جهل الراسخين بتأويل فعل الله تعالى. وتقدم قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة: إن الله قادرٌ على خلق الكفار على بِنْيِة المعصومين، وإنما لم يخلقهم كذلك لحكمة استأثر بعلمها، فرجع أهل البدعة إلى ما بدأ به أهل السنة بعد السفر البعيد كما قال شيخُ الاعتزال ابن أبي الحديد:(6/123)
فيك يا أُغلوطة الفِكَرِ ... تاه عَقْلي وانْقَضَى عُمُري
سافَرَتْ فيك العُقُولُ فما ... رَبِحْتَ إلاَّ عَنَا السَّفَرِ (1)
وقد أشار الله سبحانه إلى الجمع بين صحة الأوامر والحكمة فيها مع العلم بنفوذ القدر فيما حكاه من قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحدٍ} [يوسف: 67] إلى آخر الآية، وسيأتي شرح ذلك في الفائدة الرابعة في وجوب العمل مع القدر، والفائدة فيه في الحكمة.
وأما التفصيل، فلا سبيل إليه، ولا مُوجب لمعرفته، ولكن في كتاب الله إشارة إلى بعض حكم الله تعالى في ذلك، وهو فيما ذكر الله من محبته الابتلاء، وتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطيب حيث ورد على أعظم صيغ المبالغة، والإقناط من الطمع في خلافه، حيث قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
وخرج الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " (2) حديث كُرْز بن علقمة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِل: هل للإسلام من منتهى؟ فقال: " نعم، أيُّما أهل بيت من العرب والعجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام، ثم تقع بهم الفتن كأنها الظُّلَلُ ". وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، وهو كما
__________
(1) ذكرهما في " شرح النهج " 13/ 51 في أبيات خمسة صدَّرها بقوله: ولي في هذا المعنى، ثم أنشدها، وهي:
فيك يا أُغلُوطة الفِكَرِ ... تاه عقلي وانقضى عمري
سافرتْ فيك العقول فما ... ربحت إلاَّ أذى السفرِ
رَجَعَتْ حَسرَى وما وَقَفَتْ ... لا على عينٍ ولا أثرِ
فلحى الله الألى زعموا ... أنك المعلوم بالنظرِ
كَذَبُوا إن الذي طلبوا ... خارج عن قُوَّة البشرِ
(2) 1/ 34 وقد تقدم تخريجه في 5/ 306.(6/124)
قال، فإنه رواه جماعة قالوا -واللفظ للحميدي-: حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، حدثني عروة بن الزبير، قال: سمعت: كرز بن علقمة. وتابع سفيان معمر بن راشد (1)، ويونس بن يزيد عن الزهري، وساق حديث معمر بمتنه وحروفه سواء، ثم قال: صحيح، وليس له علةٌ، ولم يخرجاه لتفرُّد عروة بالرواية عن كُرْز، وهو صحابي خُرِّجَ حديثه في مسانيد الأئمة.
قال الحاكم: سمعتُ الحافظ علي بن عمر -يعني الدارقطني- يقول: ما يُلْزِمُ البخاريَّ ومسلماً إخراج حديث كرز " هل للاسلام من منتهى " فقد رواه عروة بن الزبير، ورواه الزهري وعبد الواحد بن قيس كلاهما عنه (2). قال الحاكم: والدليل الواضح على ما ذكره أبو الحسن أنهما جميعاً اتفقا على حديث عتْبان بن مالك، وليس له راوٍ غيرُ محمود بن الربيع.
قلت: ومن أحسن الشواهد لمعناه قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] فالفتنة في هذه الآية خاصة بأهل الاستقامة، وهي لهم خيرٌ، لقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17].
ومن أحسن الأدلة على إرادة الابتلاء قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، والحجة بيِّنةٌ في قوله: {أَكَادُ أُخْفِيهَا}.
وقال ابن الأثير في " نهايته " (3): " ذكر فتناً كأنها الظُّلَلُ ": هي السحابُ أو الجبال. قلت: السحاب أنسبُ لتطبيقها.
__________
(1) في (أ) " سفيان بن معمر "، وفي (ش): " سفيان يعمر "، وفي " المستدرك ": " تابعه محمد بن راشد "، وكله خطأ، والصواب ما أثبت.
(2) " الإلزامات والتتبع " ص 123 للدارقطني.
(3) 3/ 160.(6/125)
وفي " الصحيح في ذكر مواقع الفتن كأنها مواقع القَطْرِ " (1).
وفي حرف الفاء من " النهاية " (2): المؤمن خُلق مُفَتَّناً (3)، أي: مُمْتَحناً بالذنب. وفي " المسانيد " لهذا المعنى شواهدُ كثيرة.
ولا شك أن الله تعالى لو لم يخلق دواعي الشر، بَطَلَ الابتلاء المعلوم أنه مقصود.
وفي " نوابغ الزمخشري " (4): العزيز يبتلى من الخطوب بالأعز حتى كأن العُزَّى أخت الأعزِّ، ألا ترى كيف يبتلي الله أحبَّ خلقه إليه بأعظم البلاء، كما ابتلى خليله بالأمر بذبح ولده عليهما السلام، وقال سبحانه: {إنَّ هذا لهو البلاءُ المُبينُ} [الصافات: 106].
وقد قيل في وجه ذلك: إنه أراد ظهور ما عَلِمَ في الغيب من صحة محبة إبراهيم لربه واستحقاقه مرتبة الخُلَّة حيثُ آثر رضاه في هذا المقام العزيز.
ولذلك ثبت في " صحيح مسلم " و" الترمذي " عن ابن مسعود عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لو كنتُ مُتَّخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، لكنَّ صاحبكم خليل الله ". وزاد
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 200، والبخاري (1878) و (2467) و (3597) و (7060)، ومسلم (2885) من حديث أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشرف على أطُمٍ من آطامِ المدينة، ثم قال: " هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ".
(2) 4/ 410.
(3) أخرج أبو يعلى (483)، وعبد الله بن أحمد في زوائد " المسند " 1/ 80 و103 من طريق أبي عبد الله مسلمة الرازي، عن أبي عمرو البجلي، عن عبد الملك بن سفيان الثقفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب العبد المؤمن المُفَتَّنَ التوَّاب ". وإسناده ضعيف جداً، وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 200 وقال: رواه عبد الله وأبو يعلى وفيه من لم أعرفه، ونقل الدولابي في " الأسماء والكنى " 2/ 62 عن أحمد أنه قال: هذا حديث منكر.
(4) ص 112.(6/126)
بعضُهم في أوله: " ألا إنِّي أبرأ إلى كُلِّ خليلٍ من خُلَّتِه " (1).
وروي عن جندب بن عبد الله أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت بخمس: " ألا إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ " الحديث (2).
وهو دليل عزة مقام القرب والحب عن الشرك فيه بخلاف مقام العفو كما يأتي في شرح العزيز الغفور.
والصوفية في هذا المقام أربابُ الذوق والأحوال الرفيعة، لهم فيه كل معنى مليح، من ذلك ما أنشده الشيخ أبو بكر بن محمد (3) الشهير بداية في كتاب " المنارات ":
ولما ادَّعيتُ الحبَّ قالت كَذَبْتَني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسِيا
فما الحُبُّ حتى يَلْصَقَ البطنُ بالحَشَا ... وتذبُلَ حتى لا تُجيب المناديا
وتنحُلَ حتى ليس (4) يُبقي لك الهوى ... سِوى مُقْلَةٍ تبكي بها وتُناجيا
ومنه دُوبَيْت (5)
__________
(1) تقدم تخريجه في 1/ 176.
(2) أخرجه مسلم (532)، والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 2/ 442 - 443، وأبو عوانة 1/ 401، والطبراني (1686).
(3) هو نجم الدين أبو بكر عبد الله بن محمد بن شاهاور الرازي المتوفى سنة 654 هـ كان حافظاً فاضلاً، غزير العلم، صاحب مقامات وكرامات وآثار. وكتابه اسمه " منارات السائرين ومقامات الطائرين ". وقد صنف قبله بنيف وثلاثين سنة مثله بالعجمية سماه " مرصاد العباد ". انظر: " الوافي بالوفيات " 17/ 579، و" شذرات الذهب " 5/ 265، و" كشف الظنون " 1/ 1823.
(4) في الأصلين: " لا "، والمثبت من هامش (أ).
(5) دو بيت: كلمة مركبة من كلمتين، معنى الأولى منهما: اثنان، والثانية هي بمعناها العربي، وهو فن من فنون الشعر المعربة الخارجة عن وزن البحور الستة عشر المعروفة، =(6/127)
قدْ مِلْتُ إليهم (1) ومِنِّي مالُوا ... قلبي نهبوا ومِنْ حياتي نالوا
إذ قلت بما أعيشُ قولوا قالوا ... بالحبِّ فعِشْ وحُبُّهُم قتالُ
ومن أحسن ما قيل في هذا قصيدة المرتضى الشهرزوري ذكرها ابن خَلِّكان بطولها في ترجمته من " تاريخه " (2) لحسنها، ومن أولها:
لَمَعَتْ نارُهم وقد عَسْعَسَ اللَّيـ ... ـلُ وملَّ الحادي وحار الدليلُ
فتأملتُها وقلبي (3) من البَيْـ ... ـن عليلٌ ولَحْظُ عيني كليلُ
وفؤادي ذاك الفؤاد المُعَنَّى ... وغرامي ذاك الغرامُ الدخيلُ
ومن آخرها:
نارُنا هذه تُضيء لِمَن يَسْرِ ... ي بليلٍ لكنها لا تُنيلُ
مُنتهى الحظِّ ما تزوَّدَ مِنها اللحـ ... ـظُ والمدركونَ ذاك قليلُ
جاءها من عرفت يبغي اقتباساً ... وله البَسْطُ والمُنى والسُّولُ
فتعالت عن المنال وعزَّتْ ... عن دُنُوٍّ إليه وهو رسولُ
فبقينا كما عَهِدْتَ حَيارَى ... كُلُّ حدٍّ من دونها مغلولُ (4)
نقطع (5) الوقت بالرَّجاء وناهيـ ... ـك بقلبٍ غِذاؤُه التعليلُ
كلما ذَاقَ كَأسَ يأسٍ مَريرٍ ... جاء كأسٌ من الرجا مَعسُولُ
هذه حالُنا وما بلغ (6) العِلْـ ... ـمُ إليه وكلُّ حالٍ يحولُ
__________
= ويُشترط في الدوبيت أن لا يقال منه إلاَّ بيتان بيتان في أي معنى يريده الناظم، ولا يجوز فيه اللحن.
(1) في (أ) و (ف): منهم.
(2) 3/ 49
(3) في " وفيات الأعيان " وفكري.
(4) في " الوفيات ": كل عزم من دونها مخذول.
(5) في " الوفيات ": ندفع.
(6) في " الوفيات ": وصل.(6/128)
وإلى هذا المعنى أشار الله عزَّ وجلَّ حيث قال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، وقال عز وجل: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ومما يُلوِّحون به إلى هذا المعنى:
وبَدا له من بَعْدِ ما اندمل الهوى ... برقٌ تألَّق مَوْهِناً لَمَعَانُهُ
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذَّرَى مُتمنِّعٌ أركانهُ
فمضى لينظر كيف لاح فلم يُطِقْ ... نظراً إليه وصده سجَّانهُ
فالنارُ ما اشتملت عليه ضُلُوعُه ... والماءُ ما سَمَحَتْ به أجفانُهُ (1)
وأنشد في " العوارف " (2) كانياً عن النفس والشيطان:
أيا جَبلي نَعْمَان بالله خلِّيا ... رياح الصَّبا يَسْرِي إلي نسيمها
أجد بردها أو تشفِ مني حرارةً ... على كَبِدٍ لم يبق إلاَّ صميمها
فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسَّمَتْ ... على نفس محزونٍ تجلَّت همومُها
ورقائق ابن الفارض في هذا المعنى في السماء علوّاً، ولو أوردتها لطالت، ولا حاجة إلى التكثير بذكرها، لأنها معروفةٌ في ديوانه.
فإن قيل: هذا صحيح، ولكن الابتلاء في نفسه من المتشابه، فهل أشارَ
__________
(1) أورد هذه الأبيات الأربعة صاحب الأغاني 16/ 283 للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، ولها حكاية مستطرفة ذكرها الحميدي في " جذوة المقتبس " ص 71 - 73، فانظرها فيه.
(2) ص 112 وهي منسوبة مع بيتين آخرين لمجنون ليلى قيس بن الملوح العامري عند ابن الشجري في " حماسته " 2/ 579، وكذا في " الأغاني " 2/ 24 وأنشدها القالي في أواخر أماليه 2/ 177 لامرأة من أهل نجد.(6/129)
الله عز وجل في كتابه إلى شيء من الحكم المطوية في ذلك؟
قلنا: نعم، أشار إلى ذلك بإشاراتٍ متنوعة، وأعطى كل أحدٍ من الفهم في ذلك ما شاء، ولا يحيطون بشيء من علمه إلاَّ بما شاء، فمن ذلك قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ونحوها في هود [7] وفي الكهف [7] فإن البلاء مضمَّنٌ معنى العلم، وهو يتعدى إلى مفعولين كما ذكره الزمخشري (1) في تفسيرها، والله لم يذكر مفعول الابتلاء الثاني في كثير من آيات الابتلاء، وذكره في هذه الآية الكريمة، فكان زيادة بيانٍ يقضي على الآيات التي لم يبين ذلك فيها. وفي معنى هذه الآيات {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] وأمثالها كثير.
وذلك يدل على أن المقصود بالابتلاء وجودُ أحسنِ العمل وأفضله، وأحسن الجزاء وأكمله، وإن وُجِد القبيح بسبب الابتلاء وتوابعه، فهو غيرُ مقصود لنفسه قصد الغايات، وإنما هو مقصودٌ لغيره قصد الوسائل والمقدمات، وذلك لما ثبت من القطع على أن الحكيم لا يريد الشر لنفسه، وهو من القواعد الفطرية القطعية. ألا ترى أن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الإيمان بالله تعالى هو الجهاد، كما ثبت في " الصحيح " (2) ولذلك خلق الله الأضداد، والملائكة،
__________
(1) 4/ 134.
(2) أخرج أحمد 5/ 150 و163، والبخاري (2518)، ومسلم (84)، والنسائي 6/ 19، وابن حبان (4596)، والبيهقي 6/ 81 و283 و9/ 272 و10/ 273، والبغوي (2418) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهادٌ في سبيله ...
وأخرجه من حديث أبي هريرة: الطيالسي (2518)، وأحمد 2/ 258 و264 و268 و287 و442 و521، والبخاري (26) و (1519)، ومسلم (83)، والترمذي (1658)، والنسائي 5/ 113 و6/ 19، و8/ 93، والبيهقي 5/ 262 و9/ 157، والبغوي (1840)، وابن حبان (4597) و (4598). =(6/130)
والشياطين، والمسلمين، والكافرين، والعقول، والأهواء، والقلوب، والنفوس ليقوم سوق الجهاد، وإليه الإشارة بقوله: {والذين جَاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69].
وروي في الحديث " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " (1) وهو معنى صحيح، والمراد من الجهاد ما يحصل به من تمحيص المؤمنين وخلوصهم، واتخاذ الشهداء منهم، ونصرهم، وشفاء صدورهم، وتمييزهم ممن يدعي مرتبتهم الشريفة ممن ليس منهم، وكل هذا منصوص، فلا نُطَوِّلُ بذكر الآيات فيه. وإنما الذي وهب الله سبحانه لي من الفهم هنا أمران:
أحدهما: أن مقام القرب والحبِّ والخُلَّة محفوفٌ بأعظم ما حُفَّت به الجنة
__________
= وأخرجه من حديث عبد الله بن سلام: سعيد بن منصور في " سننه " (2338)، وأحمد 5/ 451، وابن حبان (4595).
وأخرجه من حديث عبد الله بن حُبشي: أحمد 3/ 411 - 412، والنسائي 5/ 58، 8/ 94، والدارمي 2/ 331.
وأخرجه من حديث ماعز التميمي: أحمد 4/ 322، والطبراني في " الكبير " 20/ (809) و (810) و (811).
وأخرجه من حديث الشفاء بنت عبد الله: الطبراني 24/ (791).
(1) أخرجه البيهقي - صلى الله عليه وسلم - في " الزهد "، والخطيب في " تاريخه " 13/ 493 من حديث جابر قال: قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوم غزاة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: " مجاهده العبد هواه ". وضعَّف البيهقي إسناده.
قال النسائي فيما ذكره الحافظ المزِّي في " تهذيب الكمال " 2/ 144.
أخبرني صفوان بن عمرو قال: حدثنا محمد بن زياد أبو مسعود من أهل بيت المقدس، قال: سمعت إبراهيم بن أبي عبلة وهو يقول لمن جاء من الغزو: قدمتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: يا أبا إسماعيل، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب.(6/131)
من المكاره، لأن وصف العزة يستحيلُ أن تتخلفَ عنه آثاره، وفيه أن مقام الحب غير مبتذلٍ ولا رخيص، وقد تقدم ما وقع لأهله، مثل عزم الخليل على ذبح ولده، وبراءة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى كل خليل من خُلَّتِه. وفي البخاري من حديث أبي هريرة: " ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُهُ، كنت سمعه الذي يسمع به، ويصره الذي يبصر به " الحديث (1).
وقد آنس الله وحشة القاصرين حيثُ قَرَنَ العزيز بالغفور، والغفار بالرحيم، والوهاب في آيات كثيرة، وهذه نكتة نفيسة جداً.
وثانيهما: أن المقصود الأول من تمييز الخبيث من الطيب في تمحيص المؤمنين هو الخيرُ الحاصل للطيب لا الشر الحاصل للخبيث لقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُمْ أحسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] ولم يقل: أيكم أقبح (2) عملاً.
ومن أحسن ما يحتج به على هذا بعد ما ذكرناه من كتاب الله تعالى قولُه في سورة النحل: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] إلى آخر الآيات في الوعد والوعيد والمشيئة.
وأصرح من ذلك كلِّه قصة الخَضِر وموسى لتأويل الشرِّ فيها بأنه المقصود به الخير نصاً صريحاً، وبيان أن ذلك هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلاَّ الله.
ومن أحسن ما يُستدلُّ (3) به على ذلك قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33].
__________
(1) أخرجه البخاري (6502)، وأبو نعيم 1/ 4، والبيهقي في " الزهد الكبير " (690)، والبغوي (1248).
(2) في (أ): " أحسن "، وكتب فوقها: " أخبث ".
(3) في (ش): احتج.(6/132)
قال الزمخشري (1): ولا يأتونك بمثالٍ (2) عجيبٍ من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثلٌ في البطلان إلاَّ أتيناك نحن (3) بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، وبما هو أحسن معنىً ومُؤَدَّى من سؤالاتهم (4).
ويُوضِّح ذلك ما اتفقوا على صحته من حديث " سبقت رحمتي غضبي "، وأن الله تعالى كتب هذا في كتابٍ ووضعه على العرش (5).
ويعضده ما انفرد به مسلم، وهو على شرط الجماعة كلهم من حديثِ علي عليه السلام، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث التوجُّه في الصلاه المعروف، وفيه " الخيرُ في يديك، والشر ليس إليك " (6).
ذكر النواوي في شرح " مسلم " (7) أن معناه ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه، وهذا هو الذي أُريده، ولله الحمدُ والمنة.
وإنما قلت: إنه على شرط الجماعة لأنه من حديث عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي، عن علي عليه السلام، ولم يتخلف أحدٌ من أهل دواوين الإسلام عن تخريج حديثهما، ولا ذكر أحدٌ فيهما شيئاً مما يقع فيه كثيرٌ من الثقات من غلطٍ ولا تدليس، فلعلهم ما تركوا تخريجه إلا لظنِّهم أن هذه اللفظة تخالف القواعد، وليس كذلك، فلله الحمد.
وقد خرَّج الحاكم في تفسير سورة بني إسرائيل من " المستدرك " من حديث
__________
(1) 3/ 91.
(2) في (ش): " بمثل "، وفي " تفسير الزمخشري ": بسؤال.
(3) في (أ) و (ش): بحق وهو تحريف.
(4) في (أ): سؤالهم.
(5) تقدم تخريجه في 5/ 275.
(6) تقدم تخريجه في 5/ 296.
(7) 6/ 59.(6/133)
صِلَةَ بن زُفَرَ، عن حذيفة بن اليمان أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يُجمع الناس في صعيدٍ واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حُفاةً عُراةً كما خُلقوا سكوتاً، لا تكلم نفس إلاَّ بإذنه، فيُنادى: محمد، فيقول: لبَّيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك " (1) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (2).
قلت: وفيه شهادةٌ على صحة ما خرجه مسلم في " الصحيح "، وفي اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك في خطاب الرب في الصلاة في المقام المحمود ما يدل على أنه من أنفس المحامد الربانية، والحمد لله الذي هدانا لمعناه وما كنا لِنَهْتدي لولا أن هدانا الله.
ولا شك أن اسمه العزيز أحد الأسماء الحسنى يقتضي في أحد معنييه عن مرتبة القرب من الله تعالى والحبِّ له والأنس به يختص بذلك من يشاء، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253].
وفي الإجادة في هذا المعنى:
وبعض معاني العِزِّ تقضي بذاك إنْ ... تُساعِدْ عليه واسِعَاتُ المراحم
ففي عزة الخيرات رفعٌ لِقَدْرِها ... فعَزَّ مقامُ العِزِّ عن كُلِّ لائمِ
__________
(1) في (أ): بيديك.
(2) أخرجه النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 3/ 43، وابن جرير الطبري 15/ 144، والبزار (3462) من طريق شعبة، والطبري 15/ 144 و145 من طريق معمر والثوري، والحاكم 2/ 363 من طريق إسرائيل، أربعتهم عن أبي إسحاق السبيعي، عن صلة بن زفر، عن حذيفة، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.(6/134)
لذلك ما نال الوسيلة والثَّنا ... بخير مقامٍ غير سَبْطِ (1) البراجمِ
كذلك عزَّ القُطْبُ فينا ودون عِز ... زه عِزَّة الأبدال ثم الأكارمِ
وفي الشُّعرا (2) تكريرُ خير إشارة ... بذلك في وَصفَيْ عزيزٍ وراحمِ
كذلك في صادٍ (3) تمدَّح ربُّنا ... بِعِزَّةِ وهَّابٍ وسيع المَراحمِ
عزيزٌ على الأعدا رحيمٌ بغيرهم ... كما جاء وصفُ المؤمنين الأكارمِ (4)
وعلى معنى قوله تعالى في تبارك [2]: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عَمَلاً} وفي الكهف [7]: {لِنَبْلُوهُم أيُّهم أحسَنُ عَمَلاً} وفي الأنفال [17]: {ولِيُبْلِيَ المؤمنين منه بلاءً حسناً}.
يدل ظاهر لفظه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على ما قدمته على أحد الوجوه الذي تحتملها الآية على قول أهل السنة، وذلك أنه يحتمل أن المعنى أنه سبحانه خلق الجميع من الكُفار والمسلمين لحصول عبادة العابدين، ووقوعها على أكمل الوجوه وأتمِّها وأفضلها وأحبها إلى الله تعالى وأجملها، وأن الكفار لو لم يخلقوا وعلم العابدون أن الله تعالى لم (5) يخلُقْ من يبغضه (6) ويعذبه، بطل الخوف والرجاء اللذان هما جناحا عملِ العاملين، وخير ما شَرُفَتْ به قلوبُ المخلصين.
وقد سبق في حكمة الله تعالى أن وقوع الأعمال على هذه الصفة وهذه
__________
(1) في (أ): بسط.
(2) سورة الشعراء: آية (9) و (68) و (104) و (122) و (159) و (175) و (191): {وإنَّ رَبَّكَ لَهُو العَزيرُ الرَّحيمُ} و (217): {وتَوكَّلْ على العزيز الرَّحيمِ}.
(3) سورة ص: آية (9).
(4) سورة المائدة: آية (54)، وسورة الفتح: آية (29).
(5) في (ش): لا.
(6) في (ش): يعصيه.(6/135)
الأسباب أولى، وإن كان قادراً على هداية الخلق بغير سبب من هذه الأسباب، ومن غير خلق هذه الشرور.
ويوضِّح ذلك أن الشرور مقتضياتٌ لخيرات، مثل حديث الحسن بن علي عليهما السلام المشهور في القُنوت، وفيه: " وقِني شر ما قضيت " (1)، فإنه يدل على أن القضاء ليس هو الشر بنفسه، وأنَّ الشر هو المقضي، وأنه يصح القضاء بالشر مع وقاية الشر.
ويعضده حديث " إنَّ الدُّعاء يرُدُّ القضاء، وإنهما يتعالجان إلى يوم القيامة " (2)، أي: يرد المقضي كما يُرَدُّ السهم بالترس، وأما القضاء نفسه، فإنه
__________
(1) تقدم تخريجه في 5/ 78.
(2) حديث حسن. أخرجه ابن عدي 3/ 1068، والحاكم 1/ 492، والخطيب في " تاريخه " 8/ 453، والبزار (2165)، والطبراني في " الأوسط " (2519) من طريق زكريا بن منظور شيخ من الأنصار، عن عطاف بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يغني حذر من قدرٍ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء، فيعتلجانِ إلى يوم القيامة ". ولفظ البزار: " ... والدعاء ينفع ما لم ينزل القدر وإن الدعاء ليلقى البلاء ... " وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: زكريا مجمع على ضعفه.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 209 و10/ 146 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، والبزار، وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعَّفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات.
وأخرج البزار (2164) من طريق إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة مرفوعاً، وإبراهيم بن خثيم هذا قال الجوزجاني: اختُلِطَ بِأخَرَة، وقال النسائي: متروك.
وأخرج ابن ماجه (90) و (4022) والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 2/ 133، وابن أبي شيبة 10/ 441 - 442 وأحمد 5/ 277 و280 و282 والطحاوي في " المشكل " 4/ 169، والطبراني في " الكبير " (1442)، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 2/ 60، =(6/136)
قديم سابق للدعاء.
وقد ذكرت في " الإجادة " وفي هذا الكتاب طرفاً صالحاً في الحكمة في خلق الشرور وتقديرها على قَدْرِ ما تحتمله عقول البشر من ذلك (1)، بل على قدر ما يحتمله عقلي وحدي، وأنا من أجهل البشر.
من ذلك: أن المحاسن لا تُعرف إلاَّ بأضدادها، فلا يعرف قدر العافية إلا بالألم، ولا قدر الراحة إلاَّ بالنصب، ولا قدر الغنى إلاَّ بالفقر، ولا قدرُ الآخرة إلاَّ بما تقدمها من الدنيا والبرزخ والموقف، ولا قدر نعمة الهداية إلاَّ بوجود أهل الضلالة، حتى قال بعض المعتزلة: إن حقيقة اللذة هي الخروج من مؤلمٍ،
__________
= والقضاعي في " مسند الشهاب " (831)، والبغوي (3418)، وابن حبان (872)، والحاكم 1/ 493 من طرق عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يرد القدر إلاَّ الدعاء، ولا يزيد في العمر إلاَّ البِرُّ، وإن الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ".
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 1/ 61: سألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن.
وأخرجه الترمذي (3548) والحاكم 1/ 493 من طريق يزيد بن هارون عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث عبد الرحمن وهو ضعيف في الحديث ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
وقال الذهبي: وعبد الرحمن واهٍ، وهو كما قال.
وأخرجه أحمد 5/ 234، والطبراني 20/ (201) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبيد الله بن عبيد الرحمن بن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ. قال الهيثمي في " المجمع " 10/ 146: رواه أحمد والطبراني وشهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل عن أهل الحجاز ضعيفة. وسيأتي من حديث علي وسلمان الفارسي ص 402.
(1) " من ذلك " ساقط من (أ).(6/137)
ولذلك استحالت اللذة على الرب سبحانه، وإلى ذلك الإشارة بنحو قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
ومن هنا كان الرب سبحانه وتعالى غياث المستغيثين، وقد ورد نحو هذا المعنى في الحديث حيث ورد أن الله تعالى لما أخرج ذريه آدم على صورة الذر وأراهم آدم رأى فيهم المُعافى والمبتلى، فقال: يا ربِّ لو سَوَّيْتَ (1) بين ذريتي، فقال تعالى: إني أردت أن تُشكَرَ (2) نعمتي (3).
__________
(1) في (ش): لم لا سويت.
(2) في (ش): أردت شكر نعمتي.
(3) أخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " فيما نقل عنه ابن كثير في " تفسيره " 2/ 274 وفي " البداية والنهاية " 1/ 81 من طريق عبد الرحمن بن زيد أسلم، عن أبيه أنه حدث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، فخرَّت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ونزع ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء، ثم أخذ عليهم العهد: (ألست بربكم، قالوا: بلى) ثم اختلس كل نسمة من بني آدم بنوره في وجهه، وجعل فيه البلوى الذي كتب أنه يبتليه بها في الدنيا من الأسقام، ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم: يا رب لم فعلت هذا بذريتى؟ قال: كي تشكر نعمتي ... ".
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 601 وزاد نسبته إلى ابن منده وأبي الشيخ في العظمة، وابن عساكر.
وأخرجه الطبري (15363)، وعبد الله بن أحمد في زوائد " المسند " 5/ 135 واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (991)، والحاكم 2/ 323 - 324 وصححه! من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي بن كعب من قوله. وفيه: " ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: ربِّ لولا سوَّيت بينهم؟ قال: فإني أحب أن أُشكَر ... ". =(6/138)
وقالوا في هذا المعنى:
ولولا البُعْدُ ما حُمِدَ التَّلاقي ... ولولا الهَجْرُ ما طَابَ الوِصَالُ
وقد رأينا جميع العُقلاء في الدنيا يسعون في تكميل الملاذِّ في الدنيا وتمامها بشرورٍ عظيمة على غيرهم بغير ذنبٍ من ذبح الحيوانات في الأفراح وركوبها، واستعمالها (1) في حرثِ الأرض، وحرب العدو، ونزع الماء من الآبار، وحمل الأثقال، ومنعها من شهواتها المُخِلَّة بمنافعهم مثل منع ذكور الخيل من غشيان الإناث مع الشَّبق الشديد، بل منعِ الإماء من ذلك والعبيد، وشغلهم عِوَضاً عن ذلك بالاستخدام والكدِّ.
وقد ذكر ابن عبد السلام في " قواعده " (2) الردَّ على من استقبح ذلك عقلاً من البراهمة، بأنهم غَفَلُوا عن أن بعض الحيوانات أشرف من بعض، وأن العقل يقضي بحسن انتفاع الأشرف بهلاك الأدنى أو كما قال.
ويشهد لما ذكره أن أهل الفِطَر السليمة من العرب حكموا بأن أنصف بيتٍ
__________
= وذكره السيوطي في " الدر " 3/ 60 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن منده في " الرد على الجهمية " واللالكائي، وابن مردويه وابن عساكر في " تاريخه ".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في " الشكر " (165) عن خلف بن هشام، حدثنا الحكم بن سنان، عن حوشب، عن الحسن من قوله. والحكم بن سنان ضعيف.
وذكره السيوطي وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، والبيهقي في " الشعب ".
وأخرجه أحمد في " الزهد " ص 47 من قول بكر بن عبد الله المزني.
وذكره السيوطي عن قتادة والحسن، ونسبة إلى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي في " الشعب ".
(1) في (أ): وركوبه واستعماله.
(2) انظر: " قواعد الأحكام " له ص 5 (فصل فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتها).(6/139)
قالته العرب قول حسان (1):
أتَهْجُوهُ ولَسْتَ لهُ بكُفْءٍ ... فشَرُّكُما لٍخَيْرِكُما الفِداءُ
ومن ذلك فداء الذبيح عليه السلام بالكبش، وفداء عبد الله بن عبد المطلب بمئةٍ من الإبل، واستحسانُ أهل الفطر السليمة لذلك غير مستند إلى ورود الشرائع وإجماع العقلاء على استحسان ذلك قبل نُبوغ البراهمة وبعض المعتزلة.
ويلزمهم قبح التداوي لإخراجِ دود البطن لما فيه من دفع ضررٍ خفيف بقتل أُلوفٍ من الحيوانات التي لم يصدر من أحد منها قبيح ألبتة، فموتُ المتداوي المذنب على قولهم أهون من قتل واحدٍ من الدود.
ويلزمهم أن يقبُحُ سقي الزرع والحرث ونحو ذلك إذا أدى إلى موت ذرةٍ بسبب الماء والحرث.
ويلزمهم قبح شرب الماء من المناهل إذا كان يؤدي إلى فراغه، وفراغه يؤدي إلى موت كثيرٍ من حيواناته.
__________
(1) ديوانه ص 64 من قصيدة يهجو بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه، والاستفهام في قوله: أتهجوه: استفهام إنكاري: يقول: ما كان ينبغي أن تهجوه ولست من أكفائه ونظرائه، وقوله: فشركما لخيركما الفداء جار كذلك على أسلوب الكلام المنصف، قال الزمخشري في " الكشاف " 3/ 289 في تفسير قوله تعالى: {وإنَّا أَوْ إيَّاكُم لَعَلى هُدىً} الآية: وهذا من الكلام المنصف الذي كُلُّ من سمعه من موالٍ أو مناف قال لمن خُوطِبَ به: قد أنصفك صاحبك. وفي درجة بعد تقدمه ما قدم من التقرير البليغ دلالة غيرُ خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين. ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة مع قِلَّةِ شَغَبِ الخصم، وفلَّ شوكته بالهوينى، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ثم استشهد ببيتِ حسان هذا.(6/140)
وكذلك يلزمهم قبح إخراج الذِّبَّانِ من المنازل ونحو ذلك مما لو فعله أحد عُدَّ من المجانين بإجماع العقلاء.
وشبهة المُقبِّحين لذلك النظرُ إلى مَضَرَّة الحيوان فقط، من غير موازنةٍ بينها وبين ما يحصل بترك ذلك من مضارِّ أشرف الحيوان وتضررهم بفوات لذاتهم، بل قد اشتهر بين أهل المكارم ذمُّ من أشفق على ما يملكه من الأنعام ولم يُهِنْها في نيل محامد الكرام، كقول القائل في الحث على السفر لطلب الفضائل:
أثِرْها تطلُبِ القُصْوى ودَعْها ... سُدىً يَرْمي الغروبُ بها الشُّروقا
فلم يُشفِقْ على حَسَبٍ غلامٌ ... يكونُ على ركائبه شفيقا
ومن ذلك قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم} [البقرة: 216]، وقول بعض الصحابة: جاء الشرع بالكُره والرضا، فوجدنا خير الخير في الكُره أو كما قال، وسيأتي من ذلك طرفٌ صالح في مرتبة القضاء والقدر.
قال أبو حيَّان (1):
عُداتي لهم فضلٌ عليّ ومِنَّةٌ ... فلا أذهَبَ الرحمنُ عَنِّي الأعاديا
هُمُ بحثوا عن زَلَّتي فاجتَنَبتُها ... وهُمْ نافَسوني فاجتَنيتُ (2) المعاليا
وفي هذا ظهور اشتمال الشر على الخيرات، وشُهِرَ ذلك بين العقلاء، وأجمع العقلاء من المسلمين والفلاسفة أن الموجود في الدنيا، إما خيرٌ مَحْضٌ كالملائكة والأفلاك، أو الخير فيه غالبٌ كالنار فيها خير كثير، والمقتضى بالذات خير، والشر واقع بالتَّبَع، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرٌّ كثير،
__________
(1) هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي الإمام الحافظ، شيخُ النحاة وإمامهم صاحب " البحر المحيط " في التفسير المتوفى سنة 745 هـ بالقاهرة، والبيتان في " الوافي " 5/ 274، و" نفح الطيب " 2/ 536، و" فوات الوفيات " 4/ 74.
(2) في (ش): فاجتلبت، وفي " الوافي "، و" النفخ " و" الفوات ": فاكتسبت.(6/141)
وجاءت النصوص بأن الآخرة هي دار الحمد والخلود، فكيف يُظنُّ في أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين أنه يريد الشرور فيها لأنفسها بمجرد صدورها عنه، وتقديره لها؟ أو كيف يُظن أن هذه عقيدة سوء في الكريمِ الرحيم، وفي فضله العظيم العميم؟!
ألا ترى أن الله تعالى إنما ذم من كذَّب بيوم القيامة، وما يكونُ فيه من الفضل، والعدل، والانتصاف، والانتقام، وذلك ما لا يحصى.
وكذلك ذمَّ مُنْكِرَ مطلق عذاب الكفار الواقع قطعاً، لأنه يستلزم إنكار يوم الدين، كقوله حكايةً عن الكفار: {وما نَحْنُ بمعذَّبين} [الشعراء: 138] وإن لم يكن نصاً صريحاً في ذلك، لجواز تعلق قبحه بالتكذيب وعدم التقييد لذلك بمشيئة الله تعالى، أو كذَّب بالحسنى لقوله تعالى: {وأمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بالحُسنى} [الليل: 8 - 10] وأظهر تأويلاتها أنها المثوبة بالحسنى من الله تعالى، وهي الجنة والرحمة الدائمة في الدار الآخرة كقوله: {لِلَّذين أحْسَنُوا الحُسْنى وزيادةٌ} [يونس: 26]، وقوله: {وكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى} [النساء: 95] مع القرينة الدالة على ذلك، وهي ما ظَهَرَ نزاعهم فيه من الحياة بعد الموت، وتكرَّر الردُّ عليهم فيه.
ولذلك كان وصف الرب تعالى بنقيض أسمائه الحسنى كفراً بالإجماع، وإليه الإشارة بقول بعضهم في أنها المحكمة التي لا تأويل لها.
لِمَ لا يكونُ الجودُ والعَفْوُ مُحكماً ... ونعتُ الكَمال مستحيلٌ بَدِيلُه
وقد قطع الغزالي وابنُ تيمية وأصحابهما من أهل السنة بهذا، وهو قول البغدادية من المعتزلة، وإنما يُنسب إليهم البدعة بنفي قدرة الله تعالى على غير هذا، ويُخالفون ابن تيمية (1) وأصحابه في القطع بدوام النار والعذاب الذي لم
__________
(1) انظر لزاماً في الرد على من يقول بفناء النار: " الاعتبار ببقاء الجنة والنار " لتقي الدين =(6/142)
يَرِدْ نَصٌّ يكفر مُنكِرَ دوامِه كما وردت النصوص بكفر منكر القيامة والجنة.
وأما مسألة دوام العذاب -نعوذ بالله ورحمته السابقة الواسعة الغالبة منه- فليس مما أجمع عليه أهلُ الإسلام، ولا عُلِمَ بالضرورة من الدين لما يأتي من اختلاف المسلمين فيه لورود الاستثناء من الخلود في غير آيةٍ من كتاب الله تعالى، ولما في ذلك من الآثار عن جماعه جِلَّةٍ من الصحابة ومُفَسِّري كتاب الله تعالى من أئمة الأثر وحُفَّاظ السنن.
ومما يدلُّ على أن المراد الأول هو الخير، وأن جميع ما يوجد من الشرور غير مقصودة لكونها شُروراً، وجوهٌ غير ما تقدم.
منها: الأحاديثُ الصحيحة الشهيرة التي فيها " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيُغفرُ لهم " لفظ حديث أبي هريرة.
ولفظ حديث أبي أيوب الأنصاري " لو أنكم لم يكن لكم ذنوبٌ يغفرُها الله، لجاء بقومٍ لهم ذنوب يَغْفِرُها لهم " خرَّجهما مسلمٌ وغيره. ولهما طرقٌ وشواهد تقدم ذكرها مجوّداً في الإرادة (1).
ومنها: ما ورد في كتاب الله تعالى من ترك أمور نافعة لكونها مفاسدَ مثل بسط الرزق، قال الله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لعبادِه لَبَغَوْا في الأرض} [الشورى: 27]، وقال سبحانه: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} الآية [الزخرف: 33].
وعكس ذلك نص القرآن الكريم على الأمرِ بأمور ضارة لكونها منافع، مثل
__________
= السبكي المتوفى سنة (756) هـ، و" رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " لمحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (1182) هـ وكلاهما مطبوع.
(1) تقدم تخريجه في 4/ 161.(6/143)
أمر الخَضِرِ بقتل الغلام لمصلحة أبويه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80].
ومن الأول -وهو منع بعض الخيرات لكونها مفاسد- قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
قال الزمخشري (1): المراد بالآيات التي اقترحتها قريش [من قلب الصفا ذهباً، ومن إحياء الموتى وغير ذلك] (2) وعادةُ الله في الأمم (3) أنَّ من اقترح منهم آية، فأُجيب ثم لم يؤمن أن يُعَاجَلَ بعذاب الاستئصال. والمعنى أنها لو أُرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك. واستوجبوا العذاب المستأصل، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. انتهى بحروفه.
وهو تفسيرٌ صحيح مأثور، خرج الهيثمي في معناه ثلاثة أحاديث:
أحدها: عن جابر في تفسير سورة هود (4).
__________
(1) 2/ 454.
(2) ما بين حاصرتين زيادة من " الكشاف ".
(3) في (أ) و (ش): " أمم "، والمثبت من " الكشاف ".
(4) أخرجه أحمد 3/ 296، والبزار (1844)، والحاكم 2/ 320 و340 - 341، والطبري في " جامع البيان " (14817)، وابن حبان (6197) من طريقين عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجر قال: " لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة تَرِدُ عليهم من هذا الفجِّ، وتصدر من هذا الفجِّ، فيشربون من لبنها يوم ورودها مثل ما غبَّهم من مائهم فعقروها، فوُعدوا ثلاثة أيام، وكان وعد الله غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة، فلم يبق تحت أديم السماء رجلٌ إلاَّ أهلكته، إلاَّ رجلٌ في الحرم منعه الحرم من عذاب الله " قالوا: يا رسول الله من هو؟ قال: " أبو رغال " أبو ثقيف. لفظ ابن حبان. وأبو الزبير لم يصرح بالتحديث.(6/144)
والثاني: عن ابن عباس، ذكره في تفسير سورة الإسراء (1)
الثالث: عن الزبير (2)، ذكره في تفسير سورة الشعراء (3).
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 258 وابنه عبد الله في زوائده 1/ 258، والطبري 15/ 108، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 402، والبزار (2225)، والحكم 2/ 362، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 271 - 272 من طرق عن جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس. وقال البزار: لا نعلمه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه صحيح إلاَّ من هذا الوجه. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
وأخرجه البزار (2226)، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 272 من طريقين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه أحمد 1/ 242، والبزار (2224)، والحاكم 2/ 314، والبيهقي 2/ 272 - 273 من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران -وفي بعضها: ابن الحكم- عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 50 وقال بعد أن أورد روايتي ابن عباس: ورجال الروايتين رجال الصحيح إلاَّ أنه وقع في أحد طرقه عمران بن الحكم وهو وهم، وفي بعضها عمران أبو الحكم وهو ابن الحارث، وهو الصحيح. ورواه البزار بنحوه.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 307 وزاد نسبته إلى ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والضياء في " المختارة ".
(2) في (أ) و (ش): " ابن الزبير " وهو خطأ.
(3) أخرجه أبو يعلى (679) عن محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري، حدثنا خلف بن تميم المصيصي، عن عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير بن العوام يقول: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صاح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي قُبيس: " يا آل عبد مناف، إني نذير ". فجاءته قريش فحذَّرهم وأنذرهم. فقالوا: تزعُمُ أنَّك نبيٌّ يوحى إليك، وأن سُليمان سُخِّر له الريح والجبال، وأن موسى سُخِّر له البحر، وأن عيسى كان يُحيي الموتى؟ فادعُ الله =(6/145)
وينبغي أن نذكر أحدها، وهو حديثُ ابن عباس، قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهباً، ويُنَحِّيَ الجبال عنهم، فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا، أُهلِكُوا كما أهلكتُ مَنْ قبلهم، قال: " بل أستاني بهم "، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية.
وفي رواية: فدعا فأتاه جبريل، فقال: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك عذَّبته عذاباً لا أُعذِّبه أحداً من العالمين، وإن شئت، فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة، قال: " بل (1) باب (2) التوبة والرحمة ". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
قلت: ويشهدُ لصحة معناه أنه تعالى قال للحواريين لما اقترحوا نزولَ
__________
= أن يُسَيِّرَ عنا هذه الجبال، ويفجِّر لنا الأرض أنهاراً فنتخذها محارثَ فنزرعَ ونأكلَ، وإلاَّ فادعُ الله أن يُحيي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يُصَيِّر هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها ويغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم! فبينما نحن حوله إذ نزل عليه الوحي، فلما سُرِّي عنه قال: " والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا من باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكِلَكُم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة، ولا يؤمن مؤمنكم، فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني إن أعطاكم ذلك، ثم كفرتم أنه معذبُكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين " فنزلت: {وما مَنَعَنا أن نُرسِلَ بالآياتِ إلاَّ أنْ كَذَّب بها الأوَّلون} [الإسراء: 59] حتى قرأ ثلاث آيات، ونزلت: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الآية [الرعد: 31].
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 85 وقال: رواه أبو يعلى من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم وكلاهما وثق وقد ضعفهما الجمهور.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 652 وزاد نسبته إلى أبي نعيم في " دلائل النبوة " وابن مردويه.
(1) ساقطة من (أ).
(2) ساقطة من (ش).(6/146)
المائدة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].
وقد ذكرت في الأقدار في الحكمة في الشرور أنَّ هذه الآية من أبين الدِّلالات على أن كثيراً مما نحسبه خيراً شر عظيم، ألا ترى أن كل أحد يجتهد في وضوح معرفة الآيات الدالة على الله، ويَوَدُّ أن يكاشف بالخوارق ليطمئن قلبه كما سأل ذلك الخليل الذي علم الله سبحانه أنه يستحقه وينتفع به ولا يتضرر كما قال فيه {وكُنَّا به عالمينَ} [الأنبياء: 51]، وأحدنا لو أُعطيَ ذلك مع ما علم الله من ركوبه الذنوب بعد ذلك كان وسيلةً إلى التنكيل به لما علم الله في عقوبات عبيد السوء من المصالح والغايات الحميدة.
ومنه: حديثُ عُبادة بن الصامت: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يريد أن يُخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رَجُلان، فقال: " خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلةِ القدر فتلاحى رجلان، فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم " رواه البخاري في " الصحيح "، ورواه أحمد من طريق محمد بن أبي عدي، عن حُميد، عن أنس، عن عُبادة، وهو سندٌ صحيح على شرط الجماعة (1).
ومما يعضد ذلك مع ما تقدم حديث جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لما عُرِجَ بإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يفجُرُ بامرأة، فدعا عليه، فأُهِلك، ثم رأى رجلاً على معصيةٍ، فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إنه عبدي، وإنَّ قَصْرَهُ مني
__________
(1) أخرجه الطيالسي (576)، وأحمد 5/ 313 و319 و324، وأبن أبي شيبة 3/ 73، والدارمي 2/ 27 - 28، والبخاري (49) و (2023) و (6049)، وابن خزيمة (2198)، وابن حبان (3679)، والبيهقي 4/ 311، والبغوي (1821).
وأخرجه مالك 1/ 320 عن حميد، عن أنس. لم يذكر فيه عبادة.
قال الحافظ في " الفتح " 4/ 268: وقال ابن عبد البر: والصواب: إثبات عبادة وأن الحديث من مسنده.(6/147)
ثلاث: إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يستغفرني فأغفر له، وإما أن أُخْرِجَ من صلبه من يعبدني، يا إبراهيم أما علمتَ أن من أسمائي أنِّي أنا الصبور" رواه الطبراني (1)، وسيأتي.
وقد أذكرني هذا قول يحيى بن معاذ رضي الله عنه في قوله تعالى: {فقُولا له قَوْلاً ليناً} [طه: 44]: هذا لطفك بمن قال: أنا الله، فكيف لطفك بمن قال: أنت الله؟ (2).
وفي " الصحيح " أن الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحْسِنُوا القِتْلَة " (3)، وهذا في قتل الكافر المعاقب بالقتل.
وخرج أحمد (4) من حديث عُبادة بن الصامت أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال:
__________
(1) ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 201 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه علي بن أبي علي اللهبي، وهو متروك.
(2) ذكره ابن الجوزي في " زاد المسير " 5/ 288.
وأخرج ابن أبي حاتم فيما ذكر السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 580 عن الفضل بن عيسى الرقاشي أنه تلا هذه الآية: {فقُولا له قَولاً لَيِّناً} فقال: يا من يتحبب إلى من يُعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه.
(3) أخرجه من حديث شداد بن أوس: أحمد 4/ 123 و124 و125، وعبد الرزاق (8603) و (8604)، والطيالسي (1119)، والدارمي 2/ 82، ومسلم (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي 7/ 227، وابن ماجه (3170)، وابن الجارود (899)، وابن حبان (5883) و (5884)، والطبراني (7114) - (7123)، والبيهقي 8/ 60 و9/ 68 و280، والبغوي في " شرح السنة " (2783).
(4) أخرجه أحمد 5/ 318 - 319 عن حسن، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت. وابن لهيعة ضعيف.
وفي الباب عن عمرو بن العاص عند أحمد 4/ 204، وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 59 - 60 وقال: وفي إسناده رشدين وهو ضعيف. =(6/148)
يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله "، قال: أريد أهون من ذلك، قال: " السماحة والصبر " قال: أريدُ أهون من ذلك، قال: " أن لا تَتَّهِم الله تبارك وتعالى في شيءٍ قَضَى لك ". وله شاهدٌ وطُرُقٌ في " مجمع الزوائد ".
ويأتي في أحاديث الأقدار والرِّضا بها ما يُقوي هذا خصوصاً فيما قضاه الله تعالى للمؤمن، وأنه خيرٌ له، كما شهد لذلك قوله تعالى: {وَعَسى أنْ تَكرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية.
فبمجموع هذه الأمور مع صحة قبح إرادة الشر لكونه شَراً يقتضي قيام الحجة على حكمة الله تعالى في كل ما قدَّره، وأنه تعالى مُنَزَّهٌ عن الظلم، بل عن العَبَثِ واللعب الذي لا يضُرُّ أحداً.
فيجب القطع بأنَّ جميع ما تكرَهُ العقول من أفعاله وأقداره غيرُ خالٍ عن الحِكَمِ، والمصالح، والغايات والحميدة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى للملائكة: {إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُون} [البقرة: 30] فلو لم تكن المصالحُ مراعاة في أفعاله ما سألت عن ذلك الملائكة، ولا كان الجواب عليهم بسعة العلم.
__________
= وعن عمرو بن عَبَسَةَ عند أحمد 4/ 385 ولفظه: قلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد "، قلت: ما الإسلام؟ قال: " طيب الكلام، وإطعامُ الطعام " قلت: ما الإيمان؟ قال: " الصبر والسماحة " قال: قلت: أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده "، قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: " خلق حسن " .... وفي إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وبعضهم يحسن حديثه.
وقد تقدم تخريج قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أُرسلت بالحنيفية السمحة " في 1/ 175، وقوله في بداية الحديث: " أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله " له شواهد كثيرة صحيحة منها حديث أبي ذر وأبي هريرة، وهما عند ابن حبان (152) و (153).(6/149)
وقصةُ موسى والخضر صريحةً في ذلك كافية لمن كان له أدنى حظ من عقل أو إيمان، ولا يقال: هلاَّ ترك الله خلق الغلام الذي أمر الخَضِر بقتله، لأنه سبحانه لو ترك ذلك وأمثاله لم يكن شيءٌ من الشرور والابتلاء، وإنما كلامنا في أن الحكمة الخفية اقتضت ذلك لما يُعلَمُ ولما لا يُعْلَمُ.
ألا ترى أن الله تعالى لو لم يخلُقِ الغلام، ويأمر الخضر بقتله، لم تكن قصة الخضر وموسى، ولا علمنا هذا الدليل القاطع على أن أفعال الله المتشابهة لها تأويلاتٌ حسنة في العقول، فإنا لم نَجِدْ في السمع دليلاً على ذلك أوضح من قصتهما، فقد حصل بوقوع هذا الشر، وظهوره حجةٌ قاطعة على أن الله لا يريد الشر لنفسه، وإلا لما احتاج الخَضِر إلى تأويل ذلك لموسى، ونحو ذلك من الحكم.
وأما قولهم: إن طلب الإيمان من المؤمن مع رُجحانه نظيرُ طلب تحصيل الحاصل، وطلبه من الكافر مع مرجوحيته مثل طلب تحصيل الممتنع، فمردود.
أما الأول: فلأنَّ الطلب من المؤمن هو الداعي الحامل على الإيمان، فلم يكن طلباً لتحصيل الحاصل، وكيف يقال ذلك ولولا توجُّهُ الطلب إليه لم يُفْعَلْ، ولا كان المطلوب طاعةً، ولا كان مؤمناً أصلاً؟!
وأما الثاني: فقد تقدم في الإرادة أنه يستحيل تعلقها بما عَلِمَ المريد أنه لا يكون، فكيف يتوجه حقيقة الطلب الذي تصحبه الإرادة إلى ما عَلِمَ أنه ليس بحاصل؟ وإنما يتوجه إلى الكفار لفظُ الأمر لقيام الحجة، وغير ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، لا ما توهمه السائل من إرادته سبحانه أن يبطلوا أقداره الماضية ويعارضوا مشيئته النافذة، وعلمه الحق، والمعتزلي يَفِرُّ من سبق الإرادة، ولا فرق بين سبقها وسبق العلم في وجوب الكائنات مع بقاء الاختيار باعتبار الجهتين.
ولنختم ذلك بنكتة نفيسة، هي سر هذا الكلام كله ولبابه، وذلك أن التعذيب بمجرد الاستحقاق بمنزلة المباح، وهو حقيقة العبث في حقه تعالى،(6/150)
لأنه لا يترجَّح إلاَّ بالشهوات والأهواء، ويستحيل وقوعه من الله من غير مرجِّحٍ بالنظر إلى الحكمة، فوجب القول بأن عذاب الكفار المقطوع بوقوعه راجحٌ لحكمةٍ غير الذنوب، وهو قول البغدادية كالمرجِّح لآلام الأطفال والبهائم سواء، لكن الرب سبحانه وتعالى أحبَّ أن يضُمَّ إلى تلك الحكمة وقوع العذاب الراجح في نفسه قبل الذنوب بسبب الذنوب على جهة العقوبة عليها، لما في ذلك من صلاح المؤمنين، ومن الغايات الحميدة المجهولة مع ما ذكرته أو علم أن ذلك لا يحسن أو لا يكون أحسن إلاَّ بذلك.
ونظير ذلك إخراجُ آدم من الجنة، فإنه راجحٌ من غير ذنب، لأنه خلق في علم الله خليفةً في الأرض كما نصَّ عليه القرآن، ثم جعل الله ذلك الخروج من الجنة مقدَّراً بسبب الذنب، وعقوبةً عليه لمصالح استأثر الله بعلمها، منها (1): المنُّ على آدم بالتوية وجعله أُسوةً لأولاده، وغير ذلك من امتحان الملائكة وسؤالهم وجوابهم وحكايته في الكتاب، وانتفاع أهل الإيمان بذلك.
ولهذا جاء الحديث الصحيح بأن الرسل والكتب قطعُ عُذْرٍ لا قطع حجة (2)، والله سبحانه أعلم.
وقد تقدم في الإرادة مجوّداً مبسوطاً فليراجع، وفي الكلام على الأطفال، وإقامة الحجة عليهم ما يُقوِّي ذلك كما سيأتي.
فإن قيل: لو كان الخير هو مقصود الرب الأول مع أنه تعالى على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، وجب أن يكون هو الغالب، ويكون الشرُّ هو النادر، وقد قال الله تعالى: {وقليلٌ مِنْ عِباديَ الشكورُ} [سبأ: 13]، وجاء في الحديث: " أن السَّالِمَ يوم القيامة واحدٌ من ألفٍ " (3).
__________
(1) في (ش): مثل.
(2) تقدم تخريجه من حديث المغيرة بن شعبة وعبد الله بن مسعود في 5/ 58.
(3) تقدم تخريجه.(6/151)
فالجواب: أن السائل غفل عن النظر إلى جميع المخلوقات، ولم يذكر الا الجن والإنس، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، بل قال تعالى في الحجارة: {وإنَّ مِنْها لما يَهْبِطُ من خَشيةِ الله} [البقرة: 74]، ودخول حرف التأكيد، وتخصيص بعضها ينافي التأويل مع بطلان موجبه كما هو مقرَّرٌ في موضعه.
وإنما تأوَّلوا ذلك بأنه مجاز بمعناه (1) الحقيقي أن الله تعالى يُهْبِطُها بقدرته، ويُصَرِّفُها بمشيئته، وذلك يستلزم أنها تهبِطُ من خشية الحَجَّارين، بل من خشية المعاول والفُؤوس مجازاً، وهذا يُبطل ما سِيقَتْ له الآية من كون هذه الحجارة المخصوصة أرقَّ من قلوب أولئك، لأن قلوبهم مثل هذه الحجارة في هذا المعنى المجازي، فإخبار أحكم الحاكمين بما يرجع حاصله إلى مثل هذا المعنى المعلوم قبل الخبر بذلك بعيدٌ.
وقد صحَّ حنين الجذع لفقد الذكر، وضمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له حتى سكن، وتعليل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالضَّمِّ دليل وَجْده حقيقةً (2).
__________
(1) في (ش): فمعناه.
(2) أخرجه الشافعي 1/ 142 - 143، وعبد الرزاق (5254)، وابن أبي شيبة 11/ 485 - 486، وأحمد 3/ 293 و295 و300 و306 و324، والدارمي 1/ 16 - 17 و17 و366، والبخاري (918) و (3584) و (3585)، والنسائي 3/ 120، وابن ماجه (1417)، وابن حبان (6508)، وأبو نعيم في " دلائل النبوة " (303)، والبيهقي في " السنن " 3/ 195، وفي " الدلائل " 2/ 556 و560 و561 و562 و563، والبغوي (3724) من طرق عن جابر.
وأخرجه الدارمي 1/ 15، والبخاري (3583)، والترمذي (505)، وابن حبان (6506)، والبيهقي في " السنن " 3/ 196، وفي " الدلائل " 2/ 556 و557 و557 - 558 من حديث ابن عمر.
وأخرجه أحمد 3/ 226، والدارمي 1/ 19 و367، وابن ماجه (1415)، والترمذي =(6/152)
وكذا صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في أحد: " إنه جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحِبُّه " (1).
وقال موسى عليه السلام: " ثوبي حَجَرُ، ثوبي حجر، ثوبي حجر "، وضرب الحجر حين فرَّ ثوبه (2).
__________
= (3631)، وأبو يعلى (2756) و (3384)، وابن خزيمة (1776)، وابن حبان (6507)، وأبو القاسم البغوي في " الجعديات " (3341)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/ 559 من حديث أنس.
وأخرجه الدارمي 1/ 17، وابن ماجه (1414) من حديث أُبي بن كعب.
وأخرجه الدارمي 1/ 18، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 558 من حديث ابن عباس.
وأخرجه ابن سعد 2/ 10، والبيهقي 2/ 559 - 560 من حديث سهل بن سعد.
(1) أخرجه مالك 2/ 889، وعبد الرزاق (17170)، وأحمد 3/ 140 و149 و240 و242 - 243، وابن شبة في " تاريخ المدينة " 1/ 81، والبخاري (2889) و (2893) و (3367) و (4083) و (4084) و (5425) و (6363) و (7333)، ومسلم (1393)، والترمذي (3922)، وابن ماجه (3115)، وأبو يعلى (3139)، وابن حبان (3725) من حديث أنس.
وأخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392)، وابن شبة 1/ 82 من حديث أبي حميد الساعدي.
وأخرجه أحمد 2/ 337، وابن شبة 1/ 82 من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 3/ 443 من حديث عقبة بن سويد الأنصاري.
(2) أخرجه همام بن منبه في " صحيفته " (61)، وأحمد 2/ 315 و515، والبخاري (278) و (3404)، ومسلم (339) و (1841)، والترمذي (3221)، وأبو عوانة 1/ 281، والطبري في " جامع البيان " 22/ 52، وابن حبان (6211)، والبغوي في " معالم التنزيل " 3/ 545 من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عُراةً، ينظر بعضهم إلى سَوأةِ بعضٍ وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنَعُ موسى أن يغتسل معنا إلاَّ أنه آدَرُ، قال: فذهب مرةً يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففَرَّ الحجر بثوبه، قال: فجَمَحَ موسى بإثره يقول: ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى =(6/153)
وسبَّحت الجبال مع داود بالنص (1).
وقال الله تعالى في الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5] وجوَّد الرازي تفسيرها في " مفاتح الغيب " (2)، ورد على المبتدعة تأويلها. وقد بسطت هذا في " الإجادة " (3).
ومنه: {قالَتا أَتَيْنا طائِعينَ} [فصلت: 11]، وأبعد من ذلك كله عن التأويل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] وفي " النهج " (4) تقريرها عن علي عليه السلام.
ففي هذه الآية تفضيل هذه المخلوقات في اختيارها على الإنسانِ، وتأويلُها
__________
= سوأةِ موسى، قالوا: والله ما بموسى من بأسٍ، فقام الحجرُ حتى نظر إليه، قال: فأخذ ثوبه، فطَفِقَ بالحجر ضرباً ". قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر نَدَبٌ ستة أو سبعة، ضَرْبُ موسى بالحجر.
(1) في قوله تعالى: {وسَخَّرنا مع داودَ الجبالَ يُسَبِّحْنَ والطيرَ} [الأنبياء: 79]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]، وقوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18 - 19].
(2) 32/ 59 - 60.
(3) قلت: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في هذا الباب، وهي مدرجة في مجموعة الرسائل التي صدرت بتحقيق الدكتور رشاد سالم رحمه الله.
(4) ص 458، ونصه: ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرِضت على السماوات المبْنِيَّة، والأرَضين المدحوة، والجبال ذاتِ الطُّول المنصوبة، فلا أطول، ولا أعرض، ولا أعلى، ولا أعظم منها، ولو امتنع شيءٌ بطولٍ أو عَرْضٍ أو قوَّةٍ أو عِزٍّ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعَقَلْنَ ما جَهِلَ من هو أضعفُ منهن، وهو الإنسان {إنَّه كانَ ظلوماً جهولاً}.(6/154)
بمجرد التخيل، والجزم بذلك ينافي بلاغة الكتاب العزيز، وجزالته، وبُعده عن الهزل، ورفعته، والذي جرَّأ من تأوَّل هذه الأشياء ظَنُّ العلم ودعواه {وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85] وقد بسطتُ الكلام في هذه المسألة في غير هذا الموضع، ولله الحمد.
وقال تعالى: {ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، والأحاديثُ طافحة في ذلك، وقصة (1) النملة وكلامها مع سليمان عليه السلام، وقصةُ الهُدهُد تُغني عن التطويل بذكر الأخبار في ذلك.
وقد جاء في كثرة الملائكة من الآثار ما لا يتَّسِعُ له هذا الموضع، ممن ذكره ابن كثير في أول " البداية والنهاية " (2).
قال ابنُ قيم الجوزية في " الجواب الكافي " (3): ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما من حركات (4) الأفلاك، والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنباتِ، وحركات الأجنَّة في بُطون أمهاتها، فإنها بواسطة الملائكة المدبِّرات أمراً، والمُقَسِّمات أمراً، كما دلَّ على ذلك نصوص القرآن والسنة في غير موضعٍ، والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة (5)، فإن الله وَكَّلَ بالرحم ملائكةً، وبالقَطْر ملائكةً، وبالنَّبات ملائكة، وبالروح والأفلاك والشمس والقمر والنجوم، ووكَّل بكل عبدٍ أربعةً: كاتِبَيْنِ عن يمينه وشماله، وحافِظَيْنِ من بين يديه ومن خلفه، وملائكةً تَوَلَّى قبض روحه وتجهيزها إلى مُستقرِّها من جنةٍ أو نار، وملائكةً موكَّلةً بمساءلته وامتحانه في قبره وعذابه أو
__________
(1) في (أ) و (ش): وفي قصة.
(2) 1/ 35 - 49.
(3) ص 239.
(4) في (أ): حركة.
(5) من قوله: " والمدبرات أمراً " إلى هنا ساقط من (ش).(6/155)
نعيمه، ووكَّل بالجبال ملائكة، وبالسحاب ملائكة، ووكَّل بغرس الجنة ملائكة إلى آخر ما ذكره في ذلك، وأحال به إلى كتابه الذي صنفه في أقسامِ القرآن العظيم (1).
وخرَّج الهيثمي (2) من حديث أبي أُمامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وُكِّلَ بالمؤمن تسعون ومئة مَلَكٍ يَذُبُّون عنه ما لم يُقَدَّرْ عليه، [من ذلك: البصر تسعة أملاك] يذُبُّون عنه كما تذُبُّون عن قصعة العسل الذباب في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل جبلٍ وسهلٍ، كلُّهم باسط يديه فاغِرٌ فاه، وما لو وُكِلَ العبد إلى نفسه طَرْفَةَ عينٍ خَطِفَتْهُ الشياطين " انتهى من حديث عُفير بن معدان.
وفي الحديث: " أنه يدخل البيت المعمور في السماء من الملائكة كل يوم سبعون ألف ملكٍ لا يعودون إليه أبداً " (3).
__________
(1) المسمى " التبيان في أقسام القرآن " ص 174 - 176.
(2) 7/ 209، ونسبه إلى الطبراني، وهو في " معجمه الكبير " (7704) من طريق عفير بن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة وهذا سند ضعيف جداً عفير بن معدان -وهو الحمصي المؤذن- قال أبو داود: شيخ صالح ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: يكثر عن سليم، عن أبي أمامة بما لا أصل له، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة، وقال أحمد: منكر الحديث ضعيف.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 615، و" الجامع الكبير " 1/ 871 بلفظ: " وكل بالمؤمن ستون وثلاث مئة ملك يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك، للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب قصعة العسل ... " وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في " مكايد الشيطان "، والصابوني في " المئتين "، وابن قانع.
(3) أخرجه البخاري (3207)، وأبو عوانة 1/ 122، وابن حبان (48)، وابن منده (717) من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 4/ 207، والبخاري (3207)، ومسلم (164)، والطبري 27/ 16، =(6/156)
وفيه: " أنه ليس في السماء موضع أربع أصابع إلاَّ عليه ملكٌ ساجدٌ " رواه الترمذي وأحمد (1).
فالسائل غَفل عنهم، وعن سائر المخلوقات الكثيرة المعلومة كالجراد والحِيتان والذَّرِّ وما لا يُحصى والمجهولة المشار إليها بقوله: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
وقد نسب الله تعالى السجود إلى الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابِّ، وهو السجود الحقيقي كما يذهب إليه أهل السنة بدليل عطفه عليه كثيراً من الناس، ولو أراد المجازي لعطف الناس جميعاً.
__________
= وابن منده (716) من طريق قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة. وأخرجه مسلم (162)، والطبري 27/ 17 و18، والحاكم (3753)، والبغوي (3753) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.
(1) أخرجه أحمد 5/ 173، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، والطحاوي في " مشكل الآثار " (1135)، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (251)، والحاكم 2/ 510 - 511 و4/ 544 و579، والبغوي (4172) من طريق إسرائيل بن يونس، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن مُورِّق العجلي، عن أبي ذر. وإبراهيم بن مهاجر فيه ضعف. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي!
ويشهد له حديث حكيم بن حزام عند الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " (1134)، والطبراني (3122)، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (250) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن حكيم. وإسناده قوي على شرط مسلم. ولفظه: " وما فيها قدمٌ إلاَّ وعليه مَلَكٌ إما ساجد وإمَّا قائم ".
وحديث أنس بن مالك عند أبي نعيم في " الحلية " 6/ 269. بإسناد ضعيف.
وحديث عائشة عند الطبري 23/ 111 و112، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (253) وفيه الفضل بن خالد النحوي، ترجمه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.(6/157)
فإذا نظرتَ إلى ذلك عرفت أنَّ الشر الذي هو معصية الله بالنظر إلى طاعته كالقَطْرةِ من البحر، وأن الخير في مملكة الرب تعالى هو المقصودُ بأنه قد وقع كما أراد العزيز القدير الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كُنْ فيكونُ، هذا مع ما في نجاة الواحدِ من ألفٍ من عظيم المَسَرَّة عنده، والنعمة عليه في ذلك والسرور به معلومة، وكَمْ بين ذلك وبين فرحته بالسلامة، ولا هالك ألبتة، بل لعله لا يجد للسلامة موقعاً خصوصاً.
وقد جاء في الحديث المُتَّفق على صحته " أن الهلاك من يأجوجَ ومأجوج، ومن لا حَظَّ له في الإسلام " (1) فلا يُنكر تمام نعيم الأولياء وتكميله بعذابٍ عدد التراب من أعدائهم المستحقِّين للانتقام منهم بما ظلموا المؤمنين، وكفروا بربِّ العالمين.
ولا فرق بين نفع ألف ولي بعذاب عدوٍّ لهم ظالم متعدٍّ عليهم مستحقٍّ
__________
(1) أخرجه أبو يعلى (3122)، والطبري في " جامع البيان " 17/ 112، وابن حبان (7354)، والحاكم 1/ 29 و566 - 567، وابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في " تفسيره " 3/ 214 من طرق عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك. وإسناده صحيح. ولفظه: " يقول الله جل وعلا لآدم: يا آدم قُم فابعث بعث النار من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون، فكَبُرَ ذلك على المسلمين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلاَّ كالشامة في جنب البعير، أو كالرِّقمة في ذراع الدابة، وإن معكم لخليقتين ما كانتا مع شيء قط إلاَّ كثَّرتاه يأجوح ومأجوج، ومن هلك من كفرة الجن ".
وأخرجه من حديث عمران بن حصين: الترمذي (3169)، والطبري في " جامع البيان " 17/ 111، والحاكم 4/ 567. ولفظه: " ... فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلاَّ كثرتاه يأجوج ومأجوج، ومن مات من بني إبليس ".
وأخرجه البخاري (3348) و (4741) و (6530) و (7483)، ومسلم (222)، وأحمد 3/ 32 - 33، والطبري 17/ 112، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 219 من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه: " أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل ".(6/158)
للعذاب، وبين نفع وليٍّ واحد بعذاب ألف ظالم من أعدائه المستحقين عظيمَ الانتقام منهم، بل تظاهُرُ الكثير من المُبطلين على الأقلين من المُحقين أدْعَى إلى التنكيل بهم، وأشفى لقلب المؤمن المتألم منهم، حيث لم يشكروا نعمة القوة والكثرة والتمكين، وبدَّلوا ما يجب من شكرها بنصر المظلوم بِشَرٍّ بَدَلٍ من انتهاك (1) حُرمةِ المستضعفين من أولياء رب العالمين.
وقد نصَّ الله تعالى على أنه يُريد بعذابهم في الدنيا بالعذاب الأدنى، وهو الحربُ والقتل نصر المؤمنين وإذهاب غيظهم، وشفاء صدورهم، وربُّ الدارين واحد، وحكمته فيهما واحدة بل قد نصَّ على ذلك حيث قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وسيأتي ما ورد في كتاب الله تعالى من ذلك حيث ذكرنا الوجه في ترجيح عذاب الكفار على العفو عنهم مع أن العفو أحبُّ إلى الله تعالى في كتبه وشرائعه، وأنه عزَّ وجلَّ لا يتركُ العفو حيث يكون راجحاً، إلاَّ أن يكون في الانتقام مصلحةٌ راجحة من إنصاف مظلوم، أو سرور محبوب، أو نحو ذلك.
قالت البصريةُ من المعتزلة: إرادةُ الإضرار بهم لمصلحة غيرهم ظلمٌ قبيح.
قلنا: ممنوعٌ لصدوره من المالك العدل الحكيم، فيجبُ الجزمُ بالحسن، وإن خَفِيَ وجهُه على أنه غيرُ خافٍ.
فقد قدمنا إطباق العقلاء على فعله واستحسانه في التلذُّذ بما ليس له ذنب من الحيوان لخساسته بالنظر إلى المنتفع به، فكيف تلذُّذ المؤمن أو كمال لذته بعذابٍ مُستحَقٍّ على عدوِّه مع مصالح في ذلك، وغاياتٍ حميدة لا يعلمها إلا الله تعالى.
والمعترض قد أجاز الإضرار بالعذاب الدائم بمجرد إباحته من غير نظرٍ إلى
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: انتهاء.(6/159)
مصلحة، فأجاز العبث واللَّعِب، ومَنَعَ الراجح الواجب، وقد قال الله تعالى: {لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66].
ففي هذه الآية إشارةٌ إلى أنه لا يجوزُ العفوُ عن جميعهم مع جواز العفو عن بعضهم مع أن ذنبَهُم واحدٌ، وذلك مشعِرٌ بأنه سبحانه علم أن [في] تعذيب بعضهم بذنبه صلاحاً، وفي العفو عن جميعهم فساداً، وهو العليمُ الحكيمُ سبحانه وتعالى.
ومع معرفة السر في عذاب الكافرين يعُظُم الرجاء للمسلمين حيث لم يكن في عذابهم نصرٌ للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل هم شفعاؤهم وأحبَّاؤهم، ولذلك يقول الله تعالى: " شَفَعَتِ الملائكةُ، وشفع النبيُّون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلاَّ أرحم الراحمين، فيخرجُ من النار مَنْ ليس في قلبه خيرٌ قَطٌّ ممن قال: لا إله إلاَّ الله " (1) كما ثبت في " الصحيح ".
وكذلك ورد في "صحيح مسلم" " أن الله يُعطي كُلَّ مسلمٍ يهودياً أو نصرانياً، فيقول هذا فداؤُك من النار " (2)، وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَفَدَيْناهُ
__________
(1) تقدم تخريجه بطوله من حديث أبي سعيد الخدري. وانظره في " صحيح ابن حبان " (7377).
(2) أخرجه مسلم (2767)، وأحمد 4/ 398 و402 و407 و408 و409 - 410 من حديث أبي موسى الأشعري.
ولفظ مسلم: " إذا كان يوم القيامة، دفع الله عزَّ وجلَّ إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فِكاكُكَ من النار ".
وفي رواية: " لا يموتُ رجل مسلم إلاَّ أدخل الله مكانه النارَ يهودياً أو نصرانياً ".
وفي رواية: " يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوبٍ أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى ".(6/160)
بِذِبْحٍ عَظيمٍ} [الصافات: 107] في الخروج بذلك من الخُلْفِ في الوعيد مع أن الخلف في الوعيد يسمى عفواً لا خُلْفاً، ويحسُنُ عقلاً وسمعاً كما ورد الأمرُ به في اليمين على ما غيره خيرٌ منه، وأجمعت الأمة على استحباب الحِنْثِ فيه، وإنما ينقُصُ صاحبه متى عجز عن تنفيذ الوعيد. ومع حُسنِه عقلاً لا سمعاً (1)، فإنَّ الله تعالى لا يفعله إلاَّ بتأويلٍ، كما ورد في الفِداء بالكافر، لأنه تعالى يفعلُ من كُلِّ حَسَنٍ أحسنه.
وهذا وجهٌ منصوص في الحكمة في خلق الكفار ليكونوا فِداءً لعُصاة المسلمين من النار، وهو حديثٌ صحيح على شرط الجماعة، فإنه خرجه مسلم من طرقٍ عن قتادة أنه قال: إن عوناً -يعني: ابن أبي جحيفة- وسعيد بن أبي بُردَةَ كلاهما حدَّثاه: أنهما شَهِدَا أبا بُردةَ يُحَدِّثُ عمر بن عبد العزيز، عن أبيه أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
وكل رجاله مُجمعٌ عليهم في كتب الجماعة، وقتادة صرَّح بالسماع، فلا يُخاف من تدليسه.
على أن أحمد بن حنبل رواه (2) في " المسند " من غير هذه (3) الطريق. قال أحمد: حدثنا أبو المُغيرة النضر بن إسماعيل القاصُّ، حدثنا بُرَيدُ بن عبد الله بن أبي بُردة، عن جدِّه أبي بردة به.
وخرجه أحمدُ أيضاً من طريقٍ ثالثةٍ عن محمد بن سابق، عن الربيع النصري، عن مُعاوية بن إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه.
وخرجه أيضاً من طريق مسلم لكن: عن المَسْعودي، عن سعيد بن أبي بردة.
وخرجه الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " بلفظ مُفَسَّرٍ أحسن من
__________
(1) في (ش): وسمعاً.
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (أ): هذا.(6/161)
لفظ مسلم -وفي بعض إسنادٍ آخر يُقوي إسناد (1) مسلم (ح) -: وأخبرني أبو بكرٍ الفقية، هو ابن إسحاق، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا عُبيد (2) الله بن عمر القواريري، حدثنا حَرَمي (3) بن عمارة، حدثنا شدَّاد بنُ سعيد أبو طلحة.
فقال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عثمان (4) الآدمي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا حَجَّاج بن نصير، حدثنا شدَّاد (5) بن سعيد أبو طلحة الراسبي (6) عن غَيْلان بن جَريرٍ، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: قال (7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تُحْشَرُ هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنفٍ يدخُلُون الجنة بغير حسابٍ، وصنفٍ يُحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصنف يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات (8) ذُنوباً، [فيسأل الله عنهم -وهو أعلم بهم- فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك] فيقول الله: [حطوها عنهم و] (9) اجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي ".
__________
(1) في (أ): إسناده.
(2) تحرفت في " المستدرك " إلى: عبد الله.
(3) تحرفت في (أ) إلى " جد "، وفي (ش): حدير.
(4) تحرف في الأصلين إلى: " عمر "، والتصويب من " المستدرك "، وهو مترجم في " تاريخ بغداد " 4/ 299.
(5) في الأصلين: " حدثنا حجاج بن نصير، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا حجاج "، والتصويب من " المستدرك ".
(6) تحرفت في (أ) إلى: " الرائسي "، وسقطت من (ش).
(7) سقطت من (أ).
(8) ساقطة من (أ).
(9) ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدرك من " المستدرك ".(6/162)
قال الحاكم: صحيحٌ من حديث حرمي (1) على شرطهما (2)، فأمَّا حجَّاج، فإني قَرَنْتُه إلى حرمي (3) لأني عَلَوْتُ فيه (4). انتهى.
وشواهده في تقسيم أهل الجنة إلى ثلاثة أقسام كثيرةٌ في القرآن والتفسير والحديث، وهذا موضع ذكرها، فصحَّ الحديث صِحَّةً لا ريب فيها.
ويدل على صحة هذا الاعتبار ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] قال: أي لا يُؤْخَذُ منها فِديةٌ، لأنها معادلة للمفدى، ومنه الحديث: " لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ " (5) أي: توبة ولا فِدية. انتهى كلامه.
والمقصود منه الحجة على أن الفدية في اللغة تقومُ مقام المَفْدي، وقد قدمنا إطباق العقلاء عليه بالفطرة، وهذه الآية عند أهل السنة في الكفار بالأدلة الواضحة، والنصوص البيِّنة، ولله الحمد والمنة.
ومن ذلك ما ورد من أن الله تعالى لا يُبالي بالكافرين في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، وكذا جاء في الحديث " ذكر حُثالة لا يَعْبَأُ الله بهم " (6)، وكذا قوله: " إلى النارِ ولا أُبالي " كما سيأتي بطرقه
__________
(1) تحرفت في الأصول إلى: " جرء ".
(2) كذا قال مع أن شداد بن سعيد خرج له مسلم متابعة فقط، وهو صدوق حسن الحديث.
(3) ساقطة من (أ).
(4) " المستدرك " 1/ 58. وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 343 وقال: رواه الطبراني، وفيه عثمان بن مطر، وهو مجمع على ضعفه.
(5) تقدم تخريجه في 3/ 380.
(6) أخرجه أحمد 4/ 193، والبخاري (6434)، وابن حبان (6852)، والطبراني 20/ (709) و (710)، والبيهقي 10/ 122، والبغوي (4197) من حديث مرداس الأسلمي =(6/163)
ومعناه في أحاديث الأقدار.
وقد ذكر ابن تيمية وأصحابه أن الانتصار للمؤمنين بعذاب الكافرين لا ينافي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وستأتي الإشارة إلى كلامهم في ذكر الحكمة في تقدير الشرور.
والذي نراه التسليم لقوله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] مع الطمأنينة والجزم بحكمته عزَّ وجلَّ في جميع أفعاله، ورجحان جميع ما فعله، ووجوب الحمد والثناء على كل ما فعله، والجزم بأنه لا يصح منه تعالى وقوع العبث، ولا اللعب، ولا المباح، لأنه منه عز وجل بمنزلة العبث منا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الوجه الثاني: من الجواب على أصل السؤال: أن الداعي إما أن يكون غيرَ موجب، كما يقوله بعض المعتزلة فلم (1) يرد السؤال، وإن كان موجباً على معنى وجوب الاستمرار مع بقاء الاختيار، فإمَّا أن يدلُّ الدليل على أن ذلك مسقط للتحسين والتقبيح كان أولى من كان حجة له هو سبحانه الذي لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، والذي لا تطرَّق إليه التُّهم بفعل القبيح لغناه عنه، وعلمه الذاتي بكلِّ شيءٍ، فإنه سبحانه هو الذي لا تهتدي العقول إلى التحسين في حقه لعلمه ما لا نعلم من وجوه (2) الحكمة.
فإذا دلَّ العقل على سقوط التقبيح والتحسين في حقِّنا لأجل أمرٍ هو بعينه قائمٌ في حقه تعالى، كان على سقوط ذلك في حقه عزَّ وجلَّ أدل، وذلك لأنه
__________
= مرفوعاً: " يُقبضُ الصالحون أسلافاً، ويَفنى الصالحون الأولُ فالأولُ حتى لا يَبْقى إلاَّ مِثْلُ حُثالةِ التمر والشعير لا يبالي الله بهم ". لفظ ابن حبان.
وأخرجه عن مرداس موقوفاً: أحمد 4/ 193، والبخاري (4156).
(1) في (أ): لم.
(2) في (أ): وجود.(6/164)
سبحانه لا يفعل إلاَّ بالداعي الراجح قطعاً كما يأتي في مسألة الأطفال.
وإن كان الداعي الموجب غير مُسقطٍ للتحسين والتقبيح واللوم، لم يَرِدِ السؤال، وهذه قسمةٌ دائرة معلومة الصحة، وهو جوابٌ صحيح.
الثاني: وعوَّل الفخر الرازي في وجوب أفعال الله سبحانه مع بقاء الاختيار، ذكره في مسألة الإرادة، وجعل وجوبها بالإرادة لا بالدواعي، لأنه لا يقول بها في حق الله تعالى، ولا محيص له عنها.
الوجه الثالث: أن السمع قد دلَّ دلالةً قاطعة، بل ضرورية على أن الله تعالى أقام الحجة على خلقه، ورجَّح لهم الطاعة على العصيان، وأيُّ ترجيحٍ أبلغ مما وعد به على طاعته من عظيم ثوابه، وتوعَّد به على عصيانه من أليم عقابه، والعلم بصحة السمع لا يتوقَّف على كون الداعي مُسقطاً للذَّمِّ والعقاب، مُبطلاً للتحسين والتقبيح، فيصح الاحتجاج بالسمع على أنه غير مبطلٍ لذلك، والعلم الضروري بورود السمع بذلك حاصلٌ جُملةً وتفصيلاً.
أما الجملة: فوروده بالذم والمدح، والأمر بالنهي، وكفى في هذا المقام بقوله عز وجل: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15].
وأما التفصيلُ، فدلالتُه على أنه كُلِّف باليسير، وأُمِرَ بالتيسير، والعلم الضروري حاصلٌ بذلك أيضاً، ولكن نتبركُ بذكر شيءٍ من النصوص على ذلك.
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].
وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي آية {إلاَّ ما آتاها} [الطلاق: 7].(6/165)
وقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم: 46] وكرَّرها في غير سورةٍ بالتأكيد لهذا المعنى.
بل صرَّح القرآن الكريم بأنه سبحانه سمح من الممكنات ما يشُقُّ كقوله: {ما جَعَلَ عليكُم في الدِّين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُريدُ الله بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله: {الله لَطيفٌ بعبادِه} [الشورى: 19].
وقد ذكرت جملةً شافيةً مما ورد في هذا المعنى من السنة النبوية والآثارِ الصحابية في تأليفٍ مفردٍ، ولله الحمد.
وسمع تلك الأخبار والآثار جميعُ العقلاء والنُّظَّار من المسلمين والكفار في خير الأعصار، فلم يعترضوها، ولا اعترضوا ما وافقها من السنن المستفيضة، مثل حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع في خلق الخلق على الفطرة حُنفاء، " وأنَّ كل مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرةِ، وإنما أبواه يُهوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه " (1).
بل القرآن الكريم ناطقٌ بذلك، قال تعالى: {فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30].
وسمع العقلاء هذه الآية الكريمة فما أنكرتها عقولهم، ولا ادَّعوا فيها أنها من المتشابه. ثمَّ ما جاء من وصف هذه الشريعة بأنها الحنيفية السهلة السمحة (2)، ومطابقة هذه النصوص لِفِطَر العقول كلها غير من مَرِضَ قلبه بداء الكلام، وخاض فيما يستحيل دَرْكُه بالأفهام، وعارض الفِطَرَ العقلية والنصوص الشرعية الجليَّة الضرورية بمجرد الافتراء على المعقول أنه يجزم (3) حيث تساوي
__________
(1) تقدم تخريجه في 3/ 387.
(2) تقدم تخريجه في 1/ 175.
(3) في (ش): أنها تجزم.(6/166)
الدواعي على استحالة ترجيح القادر لأحد مقدوريه بالاختيار، وهذه الدقيقة هي التي أعيت أذكياء النُّظار، كما يأتي في كلام الفرقة الرابعة من أهل المرتبة الخامسة.
وما أحسن قول الرازي في وصيته (1) في مثل ذلك: وأما ما انتهى الأمر فيه (2) إلى الدقة والغموض، فعلى ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها، إلى آخر ما ذكره.
وذكر ابن عبد السلام في " قواعده ": إن البصيرة مثل البصر وإن ما خَفِيَ فيها لم يَزِدِ النظرُ فيه إلاَّ حيرةً، كما أن ما خَفِيَ على البصر لم يزد التحديقُ إليه إلا كلالاً، على أن أدنى تأمُّل يَهْجُمُ باليقين في ذلك على المنصف، فإن الداعي إلى طاعة الله أرجح في العقل الذي إليه الترجيح عند التعارض من الدواعي إلى العصيان، وكذلك الصوارف.
فلا أعظم داعياً إلى الطاعة من طيب العَيْشِ في الدَّارَيْن، وقرة العين بالرضا بالقضاء، والخلود في الجنة، وحلول رضوان الله، والإيمانِ من سخط الله ومن جميع المكاره، وقد رأينا حرص الحيوان على هذه الحياة العاجلة المكدرة كما قيل:
فما رَضِيَتْ بالموتِ كُدُرٌ مَسِيرُها ... إلى الماء خمسٌ ثم يَشْرَبْنَ مِنْ أجْنِ (3)
__________
(1) تقدمت في 4/ 131.
(2) في (ش): إليه.
(3) البيت لأبي العلاء المعري من قصيدة في " سقط الزند " ص 13 - 18 يرثي بها أباه، مطلعها:
نقمت الرضا حتى على ضاحِكِ المُزْنِ ... فلا جادني إلاَّ عبوسٌ من الدجنِ
وقبل البيت المستشهد به:
وجدنا أذى الدُّنيا لذيذاً كأنَّما ... جَنى النَّحل أصنافُ الشقاء الذي نجني =(6/167)
فكيفَ بالنعيمِ المُقيم في جوار الرحمن الرحيم، العليِّ العظيم، الجواد الكريم، مع النبيين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقاً.
ولا أعظم صارفاً من المعصية من غضب الله وعذابه، وخوف حلول جميع أنواع البلاء عاجلاً وآجلاً إلى ما لا يمكن تقصِّي القول فيه.
فمن أراد التنبيه على شيءٍ من ذلك فعليه بتأمُّل كتاب الله، وصحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن أحسن مَنْ جَمَعَ في ذلك ابن قيم الجوزية تلميذُ شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنه استمدَّ، وذلك في كتاب له سماه " الجواب الكافي " فرحمه الله، لقد جوّد في الزجر عن المعاصي، وأجاد وأبدع، وأفاد وأمتع، وجاء بما لم يُسبق إلى مثله.
وبالجملة، فلا خلاف بين العُقلاء من المسلمين وغيرهم في هوان قدر الدنيا وشهواتها، وعظم مقدار الآخرة عند المسلمين، وهذا مما لا نِزاع فيه بالنسبة إلى الحقيقة والأمر الخارج.
وأما خطورُ هذه الأشياء بالبال، واستحضارها في الخاطر، وما يترتب على ذلك من آثارها على اختيار العبد خصوصاً في أول أحوال التكليف، ولا يلزم من هذا أن لا يسبق ذلك المشيئة والقَدَرُ عند أهل السنة كما لا يلزم أن يسبق ذلك العلم عند الجميع.
وكذلك لا يلزم من سبق هذه الأمور نفي الاختيار في أفعال العباد عند أهل السنة، كما لا يلزم من سبقها نفي اختيار الرب تعالى مع تعلق العلم والإرادة والقدر بأفعال الله تعالى إجماعاً، والاختيار وسبق القدر مثل البناء والأساس،
__________
= وبعده:
يُصادِفْنَ صقراً كلَّ يومٍ وليلةٍ ... ويَلقَيْنَ شَرّاً من مخالبه الحُجْنِ
والكُدر: القطا، والأجن: الماء المتغير.(6/168)
لا بد من إثباتهما معاً كما قال الخطابي، وكما يأتي واضحاً في مسألة الأقدار قريباً إن شاء تعالى.
فإن فكر العبد، وتذكر، واستعان بربه سبحانه، واختار طاعته، اهتدى وزاده هدى، كما قال تعالى: {والذين اهتَدَوْا زَادَهُم هُدىً وآتاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، وقال: {والذين جاهَدُوا فِينا لَنَهدِينَّهمْ سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]، وهذه الآيات الكريمة تفرق بين الهُدى الاختياري وهو الأول، وبين الهدى الاضطراري وهو الثاني الذي وقع جزاءً على الأول.
وإن ترك العبد الفكر والنظر في ترجيح دواعي الطاعة واستحضارها، وترك الاستعانة بربه سبحانه لم يُعَجِّل عليه سبحانه وتعالى في أول ذنب بالعُقوبة إن شاء الله تعالى حتى يظهر فيه آثار أسمائه الحسنى، لما ورد في القرآن والسنن الصحاح المستفيضة من إرادته السابقة سُبحانه في المذنبين أن يغفر لهم، ويُقيم حجته عليهم كما مر تقريره في مسألة الإرادة.
فإن شكر العبدُ نعمة ربه في عفوه عنه بإمهاله بعد ذنبه حتى مكَّنه من التوبة، وذكَّره ذلك، قَبِلَه ربه عز وجل، وإن تمادى في عصيانه ولم يشكر نعمة ربه في إمهاله وغفرانه، فإن (1) وَكَلَه إلى نفسه وعامله بعدله، وعاقبه على سوء اختياره، خَذَلَه، وسَلَبَه ألطافه كما قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقال: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها.
وإن أراد أن يمُنَّ عليه ويرحمه، عطف عليه باللطف والهدى من بعد كما بدأه بذلك من قبل، وكما في حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون، فيغفرُ لهم " (2)، واختص من شاء بعطفه كما اختص بالخلق من يشاء،
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) تقدم تخريجه في 4/ 161.(6/169)
وبالتكليف من يشاء، وبالملك من يشاء، وبالعلم من يشاء، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، قال الله تعالى في عطفه بعد أعظم العصيان، وأفحش الكفران: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 51 - 52]، وقال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقال تعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:26 - 27]، وقال: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]، وقال: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106]، وقال: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
ثم إن الله تعالى بعد ترجيح العاصي للعصيان باختياره الموافق لعلم الله وقدره ومشيئته لا يزال سبحانه يفعل من مُرَجِّحات الطاعة والموقظات عن الغفلة ما يُؤكِّد الحجة البالغة، ويُجَدِّدها تفضُّلاً منه سبحانه تارةً بما يفعله من الأمراض كما قال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]، وتارة بما يُريهم من مصارع آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وجيرانهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
وتارة بما يقرع أسماعهم من مواعظ الله وحججه على ألسنة أنبيائه وأوليائه، فلا يزال سبحانه وتعالى يقابل الدواعي إلى معصيته بالدواعي إلى طاعته، والعاصي لا يزداد إلاَّ تمادياً على سوء اختياره، وطول غفلته كما شكاه نوحٌ عليه السلام من قوله، ولذلك عظَّم الله شأن التذكر والموجب (1) للترجيح، وقال في
__________
(1) في (ش): الذكر الموجب.(6/170)
غير آية: {لَعَلَّهُم يذَّكَّرون} أي: لمحبته ذلك لهم، وطلبه منهم عند أهل السنة كما مضى.
وقال في الغافلين: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]، وتأمَّل قوله تعالى: {بَلْ هُمْ أضَلُّ} فإنه يدلُّ على أن الله تعالى مكَّنهم من اختيار الصواب بخلاف الأنعام.
وسيأتي ذكر إجماع أهل السنة على أن الله سبحانه ... (1) إلى العبد رحمةً من الله وعدلاً، وحكمةً بالغة لا عجزاً عن هداية من ضل كما يُلْزِمُ أكثر المبتدعة، ومع ذلك، فإن اختيار العبد لا يقع إلاَّ مُوافقاً لعلم الله وقدره ومشيئته، كما أن اختيار الرب لا يقع إلاَّ كذلك ولم يقتضِ ذلك نفي اختياره عز وجل.
وكما أن سبق العلم عند المعتزلة وسائر العُقلاء لا يستلزم نفي الاختيار، فكذلك سبق المشيئة والقضاء والقدر عند أهل السنة، وقد مضى في مسألة الإرادة بيان ما تحتمله العقول من معرفة وجوه الحكمة في ذلك، وما الصحيح فيه أنه من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلاَّ الله تعالى.
ويأتي في الكلام على الحكم في تقدير الشر، وطرفٍ صالح من ذلك في مسألة الأقدار إن شاء الله تعالى.
المرتبة الرابعة: وجوب الأفعال مع بقاء الاختيار بالنظر إلى تقدُّم القضاء والقدر والعلم والكتابة والقول ونحو ذلك، والمقصود بهذه المرتبة يَتِمُّ إن شاء الله تعالى بذكر خمس فوائد.
الفائدة الأولى: فيما وَرَدَ من النهي عن الخوض في القَدَرِ وبيان مرتبة ذلك من الصحة في بيان معناه. والوارد في ذلك عموم وخصوص، أمَّا العموم، فكل
__________
(1) بياض في الأصول قدر كلمة.(6/171)
ما يمنع من الخوض فيما لا يُعلم من نحو قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك به عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، ويأتي الكلام على حكمة الله تعالى في تقدير الشرور، وفيه ذكر حكمته في ذلك، وأما الخوض فجملة ما عرفته في ذلك عشرة أحاديث.
الحديث الأول: ما خرجه الترمذي (1) من حديث أبي هريرة أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ونحن نتنازع في القدر، فقال: " أبهذا أُمِرْتُم أم بهذا أُرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر، عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه ".
قال الترمذي: هذا حديثٌ غريب لا نعرفه إلاَّ من هذا الوجه من حديث صالح المُرِّيِّ، وله غرائب ينفرد بها، ولا يُتابَعُ عليها، وفي الباب عن عمر (2) وعائشة (3) وأنسٍ (4).
__________
(1) رقم (2133).
(2) بلفظ: " لا تجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم " أخرجه أحمد 1/ 30، وأبو داود (4710) و (4720)، واللالكائي (1124)، والحاكم 1/ 85. وفي سنده حكيم بن شريك الهذلي، وهو مجهول.
(3) أخرجه ابن ماجه (84) وأبو الحسن القطان في زياداته على ابن ماجه، والآجري في " الشريعة " ص 235 من طريق يحيى بن عثمان مولى أبي بكر، عن يحيى بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه أنه دخل على عائشة، فذكر لها شيئاً من القدر، فقالت: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من تكلَّم في شيء من القَدَر، سُئِلَ عنه يوم القيامة، ومن لم يتكلم فيه، لم يُسأل عنه ".
وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 1/ 58: هذا إسناد ضعيف لاتفاقهم على ضعف يحيى بن عثمان، قال ابن معين، والبخاري، وابن حبان: منكر الحديث. زاد ابنُ حبان: لا يجوز الاحتجاج به، ويحيى بن عبد الله بن أبي مليكة. قال ابنُ حبان: يعتبر حديثه إذا روى عنه غير يحيى بن عثمان.
(4) هو الحديث السابع.(6/172)
الحديث الثاني: عن عبد الله بن عمرو بن العاص، خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ والناس يتكلمون في القدر، فكأنما تَفَقَّأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب، فقال لهم: " ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض، بهذا هلك من كان قبلكم ".
خرَّجه أحمد بن حنبل في " المسند " من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده (1).
وفي هذا الطريق خلافٌ بين الحُفَّاظ كثيرٌ شهيرٌ.
الحديث الثالث: عن ثوبان مرفوعاً (2). رواه الطبراني، وفيه يزيد بن ربيعة الرحبي، قال ابن عَدِي: لا بأس به، ولكن قال الهيثمي والنسائي: إنه متروكٌ (3).
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (20367)، وأحمد 2/ 181 و185 و195 و196، والبخاري في " خلق أفعال العباد " (218)، وابن ماجه (85)، والآجري في " الشريعة " ص 68، واللالكائي (1118) و (1119)، والبغوي في " شرح السنة " (121) من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وهذا إسناد حسن.
وأخرجه مسلم (2666) مختصراً من طريق أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح الأنصاري، عن ابن عمرو.
(2) ولفظه: اجتمع أربعون رجلاً من الصحابة ينظرون في القدر والجبر فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فنزل الروح الأمين جبريل - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد، اخرج على أمتك، فقد أحدثوا، فخرج عليهم في ساعة لم يكن يخرج عليهم فيها، فأنكروا ذلك منه، وخرج عليهم ملتمعاً لونه، متورِّدة وجنتاه، كأنما تفقأ بحبِّ الرُّمان الحامض، فنهضوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاسرين أذرعهم، ترعُدُ أكفُّهم وأذرعهم، فقالوا: تُبْنا إلى الله ورسوله، فقال: " أولى لكم إن كِدْتُم لتوجبون، أتاني الروح الأمين فقال: اخرج على أمتك يا محمدُ فقد أحدثت ". أخرجه الطبراني في " الكبير " (1423).
(3) " مجمع الزوائد " 7/ 201، وقال البخاري: أحاديثه مناكير، وقال أبو حاتم وغيره: ضعيف.(6/173)
الحديث الرابع: عن أبي الدرداء مرفوعاً (1)، رواه الطبراني، وفيه عبد الله بن يزيد بن آدم، قال أحمد: أحاديثُه موضوعة (2).
الحديث الخامس: عن ثوبان أيضاً (3). خرَّجه الطبراني بإسنادِ حديثِ ثوبان السابق، وجعلهما حديثين، وفي هذا زيادة الأمر بالإمساك عند ذكر الصحابة.
الحديث السادس: عن ابن مسعود مرفوعاً " إذا ذُكِرَ أصحابي فأمْسِكُوا، وإذا ذُكِرَ القَدَرُ فأمْسِكُوا ". رواه الطبراني (4)، وفيه مُسْهِرُ بن عبد الملك، وثَّقه ابن حبان وغيره وفيه خلاف، وبقيتهم رجال الصحيح! قاله الهيثمي (5).
الحديث السابع: عن أنس مرفوعاً (6)، رواه أبو يعلى، وفيه يوسفُ بن
__________
(1) أخرجه الطبراني 8/ (7660) و22/ (198) من طريق عبد الله بن يزيد بن آدم الدمشقي، عن أبي الدرداء، وواثلة بن الأسقع، وأبي أُمامة، وأنس بن مالك قالوا: كنا في مجلس أناسٍ من اليهود ونحن نتذاكر القدر، فخرج إلينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مغضباً، فعبس، وانتهر، وقطب، ثم قال: " مه اتقوا الله يا أمة محمد، واديان عميقان قعران مظلمانِ، لا تهيجوا عليكم وهج النار " ثم أمر اليهود أن يقوموا، ثم قام وبسط يمينه، وبسط أصبعه الشمال، ثم قال: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من الله الرحمن الرحيم بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وأمهاتهم وعشائرهم، فرغ ربكم، فرغ ربكم، فرغ ربكم، أعذرت أنذرت، اللهم إني قد أبلغت ".
(2) " المجمع " 7/ 201 - 202.
(3) أخرجه الطبراني (1427) بلفظ: إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكِرَت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا ". وفيه يزيد بن ربيعة: قال الهيثمي 7/ 202: وهو ضعيف.
(4) أخرجه الطبراني (10448)، وأبو نعيم في " الحلية " 4/ 108.
(5) 7/ 202.
(6) ولفظه قريب من لفظ حديث عبد الله بن عمرو. انظر " المجمع " 7/ 202.(6/174)
عطيَّة، وهو متروك.
الحديث الثامن: عن أبي هريرة مرفوعاً، " أُخِّرَ الكلامُ في القدر لشرار هذه الأمة ". رواه البزار (1)، والطبراني في " الأوسط " وقال: " أشرارُ أمتي في آخر الزمان ". قال الهيثمي: ورجالُ البزار في أحد الإسنادين رجال الصحيح غير عمر بن أبي خليفة، وهو ثقة.
الحديث التاسع: عن ابن عباس مرفوعاً، " اتقوا القدر فإنه شُعبة من النصرانية " (2)، رواه الطبراني، وفيه نزار بن حيَّان، وهو ضعيف، وهو يفيد النهي عن القدر نفسه لا عن الكلام فيه.
الحديث العاشر: عن أبي رجاء العُطاردي قال: سمعت ابن عباس يقول وهو على المنبر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال أمر هذه الأمة قِوَاماً أو مقارباً ما لم يتكلموا في الوِلْدانِ والقدر " (3).
رواه البزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح، أخرجه الذهبي في " تذكرته " (4) في ترجمة محمد بن حبان صاحب " الصحيح " عنه، قال: أخبرنا الحسن بن سفيان، أخبرنا يزيدُ بن صالح اليشكري ومحمد بن أبان الواسطي قالا: أخبرنا جريرُ بن حازم، قال: سمعت أبا رجاء العطاردي، وساق الحديث.
__________
(1) (2178) و (2179).
(2) أخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (332)، والطبراني (11680)، وابن عدي في " الكامل " 5/ 1839 من طريق نزار بن حيَّان، عن عكرمة، عن ابن عباس.
(3) أخرجه البزار (2180)، والطبراني (12764)، وابن حبان (6724)، والحاكم 1/ 33 من طرق عن جرير بن حازم، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس مرفوعاً. وهذا إسناد صحيح.
(4) 3/ 923.(6/175)
قال الذَّهبي: هذا حديث صالح الإسناد غريب لم أجده في الكتب الستة.
قلتُ: رواه الحاكم في " المُستدرك " من طريق سليمان بن حرب، وشيبان بن أبي شيبة، ويزيد بن صالح، ومحمد بن أبان أربعتهم عن جرير بن حازم، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، وقال: على شرطهما، ولا نَعْلَمُ له علةً.
وقد رواه السبكي موقوفاً على ابن عباس (1)، ولم يذكر رفعه، فإذا سَلِمَ من الإعلال برُجحان الوقف كان أصلحها إسناداً.
ومعنى هذه الأحاديث إن شاء الله تعالى: التحذيرُ من مجاراة المبتدعة في القَدَرِ، والجدل بغير علم، وبغير حقٍّ المؤدي إلى الباطل، وإثارة الشر كما هو الظاهرُ من حديث أبي هريرة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أُخِّرَ الكلام في القدر لشرارِ أُمتي في آخر الزمان " فهذا الذي أُخر هو الخوض فيه على أحد هذه الوجوه (2) الفاسدة.
فأمَّا الخوض فيه على جهة التعرف والتعلم لما جاءت به الشريعة، ثم الإيمان به على الوجه المشروع، فإنه لم يؤخر هذا لشرار الأمة، بل قد تواتر أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوا عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخاضوا في معرفته، وفي وجوب الإيمان به كما يأتي ذلك في الفائدة الثالثة، فلم يزجُرْهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك القَدْرِ من الخوض فيه لما كان وسيلةً إلى الإيمان به، ولم يكن فيه شيءٌ من شعار المبتدعة، وكذلك لم يترك الجواب (3) عليهم بالقدر الواجب بيانُه في ذلك.
وقد احتجَّ الإمام العلامة أبو عمر بن عبد البر على ذلك في كتابه " التمهيد " بحديث محاجَّة موسى وآدم في القدر، وهو من أصح الأحاديث كما يأتي بيانه.
__________
(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة " (703)، واللالكائي في " السنة " (1127) من طريق أبي عاصم، عن جرير، عن أبي رجاء، عن ابن عباس موقوفاً.
(2) في (ش): الأمور.
(3) في (ش): وكذلك تم الجواب.(6/176)
تواتر عن أبي هُريرة رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، ورواه مع أبي هُريرة غيرُ واحد (2)، فلله الحمدُ والمنة.
وكذلك ورد في " الصحيحين " من حديث ابنِ عباس مراجعةُ عمر بن الخطاب، وأبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنهما في أمر القَدَرِ في أمر الطاعون حين عَزَمَ عمر على الرجوع بالمسلمين خوفاً عليهم منه، فقال أبو عبيدة: أفِراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، وكان يكره خلافه، نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيت لو كانت لك إبلٌ، فهبطتَ بها وادياً له عُدْوَتَانِ إحداهما مُجدِبَةٌ، والأخرى: مُخْصِبَة، لكنت إن رعيتها في المُخصِبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيتها في المُجْدِبة رعيتها بقدر الله (3)، ثم جاء عبد الرحمن بنُ عوف، فروى لهم الحديث في ذلك، فلم يَعِبْ هذه المراجعة عليهما أحدٌ من المسلمين، وكانوا في أعظمِ جمعٍ من جموعهم.
__________
(1) تقدم تخريجه في 1/ 218.
(2) أخرجه أبو داود (4702)، وابن منده في " الرد على الجهمية " (38)، من طريق ابن وهب عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب. وإسناده حسن.
وأخرجه الهروي في " الأربعين في دلائل التوحيد " (22) من طريق مطر الوراق، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر وحميد بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمر، عن أبيه عمر.
وأخرجه الهروي (22) من طريق شريك، عن عمارة بن جُوين العبدي البصري، عن أبي سعيد الخدري. وإسناده ضعيف جداً.
(3) أخرجه مالك 2/ 894 - 896، وأحمد 1/ 192 و194، والبخاري (5729)، ومسلم (2219)، وأبو داود (3103)، وابن حبان (2953)، والبيهقي 7/ 217 - 218، وأبو يعلى (837)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 7/ 211.
وفي رواية مختصرة عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه =(6/177)
فدل على أن المحرَّم بالنصوص ما يدلُّ العقل على المنع منه، وهو الخوضُ فيما لا يعلم من سِرِّ الله تعالى فيه، وعلى وجه المِراء وطرائق المبتدعة في تحكيم الرأي، وتقديمه على الآثار، وعلى كل وجهٍ يُؤدي إلى المفسدة.
وذلك مثل ما (1) خرَّجه أحمد في " المسند " عن عُقبة بن عامر أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " هلاك أُمَّتي في الكتاب " قالوا: يا رسولَ الله، ما الكتابُ؟ قال: " يتعلمون القرآن فيتأوَّلُونه على غير ما أنزله الله عزَّ وجلَّ " (2).
وفي إسناد أحمد عبدُ الله بن لهيعة، عن أبي قبيل عن عُقبة، وهو ضعيف عند الأكثر، وقد أثنى عليه أحمد وغيره (3)، ولكن الحاكم قد خرَّج الحديث من
__________
= خرج يريد الشام، فلما دنا بلغه أن بها الطاعون فحدثه عبد الرحمن بن عوف ... فذكر الحديث. أخرجها مالك 2/ 896 - 897، وأحمد 1/ 193 و194، والبخاري (5730).
و (6973)، ومسلم (2219)، والبيهقي 3/ 376.
وأخرجه مختصراً أحمد 1/ 194، وأبو يعلى (848) من طريقين عن عبد الرحمن بن عوف.
(1) " مثل ما " ساقطة من (ش).
(2) أخرجه أحمد 4/ 155 ومن طريقه أبو يعلى (1746)، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرىء، عن ابن لهيعة، عن أبي قبيل حُيي بن هانىء، عن عقبة بن عامر وزاد أحمد. قال ابن لهيعة: وحدثنيه يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر الجهني. وهذا إسناد حسن، فعبد الله بن يزيد روى عن ابن لهيعة قبل احتراق كتبه.
وأخرجه الطبراني 17/ (816) من طريق سعيد بن أبي مريم، عن ابن لهيعة بالإسناد السابق.
(3) عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان القاضي الإمام محدث الديار المصرية مع الليث، وُلِدَ سنة خمس أو ست وتسعين، وطلب العلم في صباه، لقي اثنين وسبعين تابعياً.
صدوق في نفسه، احترقت كتبه سنة تسع وستين فساء حفظه. قال الذهبي في " السير ": الظاهر أنه لم يحترق إلاَّ بعض أصوله. =(6/178)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أعرض أصحاب الصحاح عن رواياته، وأخرج له مسلم مقروناً وأبو داود والترمذي وابن ماجه. وما رواه القدماء عنه فهو أجود.
وقد اختلف الأئمة في أمره:
فمنهم من قال: حديثه كله واحد، وهو ضعيف، وهو المشهور عن يحيى بن معين، وقال به الجوزجاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والدارقطني، وقال: ويعتبر بما يروي عنه العبادلة، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال ابن خراش: لا يُكتب حديثه.
قال أبو زرعة: سماع الأوائل والأواخر منه سواء إلاَّ أن ابن وهب وابن المبارك كانا يتبعان أصوله، وليس ممن يحتج به.
وقال ابن مهدي: ما أعتدُّ بشيء سمعته من حديث ابن لهيعة إلاَّ سماع ابن المبارك ونحوه.
وقال الترمذي في " الجامع " 1/ 16: ابن لهيعة ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد القطان وغيره من قبل حفظه.
ومنهم من وثقه في نفسه وصحح رواية من روى عنه قبل احتراق كتبه وعليه العمل: قال أحمد: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طَلاَّباً للعلم. وقال سفيان الثوري: عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع. وقال أبو الطاهر بن السرح: سمعت ابن وهب يقول: حدثني -والله- الصادق البار عبد الله بن لهيعة، قال أبو الطاهر: فما سمعته يحلف بهذا قط.
وقال ابن عدي: أحاديته أحاديث حسان مع ما قد ضعفوه فيكتب حديثه وقد حدث عنه مالك، وشعبة، والليث.
وقال الفسوي: سمعت أحمد بن صالح يقول: ابن لهيعة صحيح الكتاب كان أخرج كتبه، فأملى على الناس حتى كتبوا حديثه إملاءً، فمن ضبط كان حديثه حسناً صحيحاً، إلا أنه كان يحضر من يضبط، ويُحسن قوم يكتبون ولا يضبطون ولا يصححون، وآخرون نظارة، وآخرون سمعوا مع آخرين، ثم لم يخرج ابن لهيعة بعد ذلك كتاباً ولم يُرَ له كتاب، وكان من أراد السماع منه ذهب فاستنسخ ممن كتب عنه وجاءه فقرأه عليه، فمن وقع على نسخة صحيحة فحديثه صحيح، ومن كتب من نسخة لم تُضبط جاء فيه خَلَلٌ كثير. =(6/179)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= وقال ابن حبان. قد سبرتُ أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه، فرأيتُ التخليط في رواية المتأخرين عنه موجوداً وما لا أصل له في رواية المتقدمين كثيراً، فرجعتُ إلى الاعتبار، فرأيته كان يدلِّسُ عن أقوام ضَعْفى، عن أقوام رآهم هو ثقات، فألزق تلك الموضوعات به.
وذكره ابن شاهين في " الثقات " وقال: قال أحمد بن صالح: ابن لهيعة ثقة، وفيما رُوي عنه من الأحاديث ووقع فيها تخليط يُطرح ذلك التخليط.
وقال الذهبي في " السير ": لا ريب أن ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية هو والليث معاً، ولكن ابن لهيعة تهاون بالإتقان، وروى مناكير، فانحط عن رتبة الاحتجاج به عندهم.
وبعض الحُفَّاظ يروي حديثه، ويذكره في الشواهد، والاعتبارات والزهد والملاحم، لا في الأصول. وبعضهم يبالغ في وهنه، ولا ينبغي إهداره وتتجنب تلك المناكير، فإنه عدل في نفسه.
قلت: وقد صحح رواية العبادلة عنه (عبد الله بن وهب، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن يزيد المقرىء) أحمد، وأبو حفص الفلاس، وعبد الغني بن سعيد الأزدي وغيرهم، لأن روايتهم قبل احتراق كتب ابن لهيعة.
وزاد ابن حبان في العبادلة: عبد الله بن مسلمة القعبني.
ونص الطبراني في " المعجم الصغير " 1/ 231 أن الوليد بن مزيد ممن سمع ابن لهيعة قبل احتراق كتبه.
وسمع منه أيضاً سفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، وعمرو بن الحارث المصري، وكلهم ماتوا قبل احتراق كتبه.
ورواية قتيبة بن سعيد بمنزلة هؤلاء، فقد روى الآجري عن أبي داود قوله: سمعت قتيبة يقول: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كتب ابن أخيه أو كتب ابن وهب إلا ما كان من حديث الأعرج.
وقال جعفر الفريابي: سمعتُ بعض أصحابنا يذكر أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح؟ قال: قلت: لأنا كنا نكتب من كتاب عبد الله بن وهب، ثم نسمعه من ابن لهيعة. وانظر " السير " 8/ 10 - 28، و" تهذيب الكمال " =(6/180)
طريقٍ صحيحة غير طريق ابن لهيعة، وهو يشهدُ لصدق ابنِ لهيعة وحفظه في هذا، خرَّجها الحاكم (1) في تفسير سورة مريم من حديث ابن وهب عن (2) مالك بن خير (3) الزَّبَادي، عن أبي قَبيل، عن عُقبة ... الحديث. وقال: صحيحٌ على شرط مسلم. وما ينزِلُ عن مرتبة هذه الأحاديث المقدمة في القدر، ومتنُ حديثه يصلُحُ مثالاً.
فالهلاكُ بالقدر كالهلاك بالكتاب يجبُ تأويله في كل منهما على الهلاك بسببِ التكذيب بهما، إذ التأويلُ الباطلُ لهما أو تكلُّف علم ما لا طريق إليه فيهما كما ذلك كلُّه شعار المبتدعة، وقرينة التجوز واضحة، وهي أن الإيمان بهما واجبٌ، والهلاك المعلق بالواجب لا يكون إلاَّ من بعض الوجوه قطعاً.
وقد تواترت الأحاديث في وجوب الإيمان بالقدر، ونص كتاب الله على صحته كما يأتي ذلك كله.
ثم إن الله تعالى قد ذكر القدر في غير آيةٍ، وقد أمر الله تعالى بتدبُّر كتابه بقوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقوله: {لِيَدَّبَّرُوا آياتِه} [ص: 29]، فوجب بذل الجهد في تدبر كل ما في كتاب الله من الألفاط المفردة، والمعاني المتركبة منها إلاَّ ما لم نستطع معرفته مما لم يُرِدِ الله سبحانه خطابنا به من المتشابه، وإنما أنزله علينا لنؤمن بمعناه جملة، ونتبرك بتلاوته (4)، وربما خصَّ بمعناه بعض أنبيائه وملائكته.
__________
= 15/ 487 - 503، و" تهذيب التهذيب " 5/ 327 - 331، و" الميزان " 2/ 475 - 483، و" شرح علل الترمذي " 1/ 136 - 139.
(1) 2/ 374.
(2) تحرفت في الأصلين إلى: " بن "، والتصويب من الحاكم.
(3) تحرفت في الأصلين إلى: " بحير "، والتصويب من الحاكم ومصادر الترجمة.
(4) في (أ): بتأويله.(6/181)
فهذا ما حضرني في هذه الفائدة، ولا خفاء على العاقل أن الخوض في هذه اللُّجَّة التي هابها فضلاءُ العقلاء لا يكون إلاَّ مصحوباً بحُسْنِ النية وشدة الرغبة إلى الله في الهداية، والتوقُّف على القول بغير درايةٍ، والفكرِ الطويل، وتحرِّي الإنصاف، والجمع بين أطراف الكلام التي يظهر تنافيها، وتطلُّبِ المحامل الحسنة، وعدم المؤاخذة بظاهر العبارة متى دلَّت القرينة على صحة المراد فيها، فإنها مسألة صعبة تقصُرُ فيها العبارات الطويلة، فكيف بالإشارات الخفيَّة.
وقد روى ابن الأثير في " جامع الأصول " (1) عن مالكٍ الإمام أنه قيل لإياس: ما رأيك في القدر؟ قال: رأيُ ابنتي، يريد لا يعلم سِرَّهُ إلاَّ الله تعالى، وبه كان يُضْرَبُ المثل في الفهم.
وقد حُكي أن يحيى بن آدم ذكر أثر عبد الله بن عباس المقدم الموقوف لعبد الله بن المبارك، فقال ابن المبارك: فيسكت الإنسان على الجهل وهو إشارةٌ من ابن المبارك إلى ما ورد من الحثِّ على العلم، وما فيه من الخير، والتحذير من الجهل، وما فيه من الشرِّ، وأن هذه القاعدة المعلومة لا تُترك إلا بتحريمٍ متَّفَقٍ على صحته.
وأقول: إن الإنسان بالضرورة يسكت على الجهل حيث لا طريقَ إلى العلم، وأقصى مَرامِ الخائضين في القدر أمور:
أحدها: العلمُ بالعجز عن درك السرِّ فيه، وفائدة العلم بذلك سكون النفس عن المطالبة بالمعرفة والذوق لا بمجرد التقليد.
وثانيها: معرفة ما يمكنُ معرفته من الوارد في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والجُمَلِ العقلية، وحكم أئمة الإسلام والأولياء.
__________
(1) 10/ 134.(6/182)
وثالثها: التحذيرُ من طرائق المبتدعة، وتقديمهم الرأي على الآثار في هذه القاعدة العظمى.
الفائدة الثانية: في ذكر ما قاله العلماء وأهل اللغة في تفسير القدر والقضاء على اختلاف مذاهبهم وأدلتهم وأفهامهم.
قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " (1) ما لفظه: لم يَتَّفِقْ لي وجدان البيان للقدر (2) على التحقيق، فتكلفتُه حتى دفع الله تعالى بفضله عني كُلفتَه، وحقيقته وجودٌ في وقتٍ واحد، وعلى حالٍ يُوافق العلم والإرادة والقول عن القدرة، فصارت القاف والدال والراء تدل بوضعها على القُدرة والمقدور الكائن بالعلم، ويتضمَّن الإرادة عقلاً والقول نقلاً.
قلت: وكلامه هذا لا يخلو من تساهُلٍ في العبارة، فإنه جعل القدر مشروطاً بموافقة مجموع العلم والإرادة والقول، ولم يدل على ذلك دليلٌ، وموافقةُ أحدها يكفي في تسمية الموجود المتأخر مقدَّراً مقدوراً، وتسمية السابق لها قدراً أيضاً، فإنه لا معنى لكون الحادث مقدَّراً بقَدَرٍ سابقٍ إلاَّ مطابقته في الوجود، وصفاته سابقةٌ له متعلقة (3) به تعلُّقاً صحيحاً يستلزم فرض بطلانه المحال.
وسواءٌ كان ذلك السابق علم الله وحده، أو قوله أو كتابته، أو إرادته أو غير ذلك، لأنه ترك ذكره للكتابة والتيسير، وقد ورد ما يقتضي تسميتها قَدَراً، كالقولِ -كما يأتي- في أحاديث الأقدار، بل في القرآن الكريم.
وأيضاً فإنه جعل الوجود هو القدر، وهو المُقَدَّر، وإنما القدر السابق هو
__________
(1) 8/ 294 - 295.
(2) في الأصلين: " وجدان القدر " والمثبت من شرح ابن العربي.
(3) في الأصلين: " سابق له متعلق به " والجادة ما أثبت.(6/183)
التعليقُ، ثم جعل دِلالة القدر على الإرادة، والقول دلالة تضمُّنٍ دون العلم والقدرة والمقدور، وجعل دلالته على هذه الثلاثة مطابقةً، وفيه نَظَرٌ، لأن دلالة المطابقة هي الوضعية اللغوية كدلالة الإنسان على الحيوان الناطق دلالة التضمُّن، كدلالة الإنسان على النطق وحده، ودلالة الالتزام (1) على ما يستلزمه، مثل حاجته إلى الأكل والشرب.
وأقول والله الموفق: إن القدر تعلُّق أمر متقدم من صفات الله تعالى كعلمه، أو من فعلِه ككتابته بأمرٍ متأخِّرٍ صادر عن فاعله بسبب اختياره وتمكينه، وصدور اختيار أسبابه عن الحكيم القادر المُقَدِّر.
وسواءٌ كانت تلك الأسباب أسباب القدر المؤثرة فيه كالقدرة أو غير المؤثرة كالدواعي تعلُّقاً يَرْبِطُ الممكن بالواجب ربطاً يستلزم فرض بُطلانه المحال مع بقاء إمكانه باعتبار الجهتين.
وهذا على جهة التقريب الرسمي دون التحديد الحقيقي كما يعرف ذلك أهل هذا الشأن، ولذلك لم ألتزم فيه شروطهم.
وقولنا: " من صفات الله كعلمه أو من فعله كالكتابة والتيسير "، وإنما قيل: " من فاعله " ليدخل الرب تعالى، وإنما قيل: " بسبب صدور أسبابه عن القادر الحكيم المقدِّر سبحانه " ليخرج على المخلوقين، فإنه واجب المطابقة، ولا يسمى قدراً في اللغة لعدم خلقهم لأسباب المقدر، وإلا لزم أن يكون علمهم بالفقه قدراً.
وإنما قيل: " الحكيمُ " احترازاً من قول من يقول: بنفي الحكمة في سبق الأقدار، فإنها لم تكن سدىً، بل لا بُدَّ أن تكون مشتملةً على الغايات الحميدة.
__________
(1) في (أ) زيادة: " دلالته ".(6/184)
وإنما قيل: " يستلزم فرض بطلانه المحال " لأنه الدليل على وجوب وقوع المقدَّر بالعلم، أو القول، أو الكتابة، أو الإرادة ووقوع المُيَسَّر بالدواعي كما يأتي بيانه.
ألا ترى أن فرض وقوع المرجوح من الله عند المعتزلة يؤدي إلى المحال، وليس فيه إلاَّ مخالفة الدواعي الراجحة مع صفة الله تعالى بالقدرة والاختيار.
وقوله: " باعتبار الجهتين " إشارة إلى أن القدر لا يُحيل الذوات عن صفاتها، ولذلك كان الله تعالى مختاراً عند الجميع مع تعلُّق القدر بأفعاله سبحانه {كانَ على رَبِّك حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم: 71].
وقيل: تعلُّق أمرٍ بأمرٍ ليَعُمَّ الشيء الحقيقي والإضافي.
وقال الخَطَّابي: قد يَحسِبُ كثير من الناس أن معنى القَدَر من الله، والقضاء معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه وقدَّره وليس كذلك، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله بما يكون من أفعال العباد وصدورها عن قدرٍ منه خيرها وشرها.
والقدر: اسمٌ لما صدر مقدَّراً على فعل القادر، كالهدم، والنشر، والقبض، اسم لما يصدر عن فعل الهادم، والناشر، والقابض، يقال: قَدَرتُ الشيء، وقدَّرت، خفيفةً وثقيلة، والقضاء في هذا معناه: الخلق كقوله تعالى: {فقضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ في يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12].
فإذا كان كذلك، فقد بقي عليهم من وراء علم الله فيهم أفعالهم وأكسابهم ومباشرتهم تلك الأمور وملابستهم إياها عن قصدٍ وتعمُّدٍ وتقدير إرادة اختيار، والحجة إنما تلزمهم بها، واللائمة تلزمهم عليها.
وجماعُ القول في هذا أنهما (1) أمران لا ينفكُّ أحدهما عن الآخر، لأن
__________
(1) كتب فوقها في (أ): أي الاختيار وسبق القدر.(6/185)
أحدهما بمنزلة الأساس، والآخر بمنزلة البناء، فمن رام الفصل بينهما، فقد رام هَدْمَ البناء ونقضه. انتهى كلامه.
وتلخيصه: أن العلم سبق باختيار العباد لأفعالهم، وقدَّر الله وقضى أن يكونوا مختارين، وأراد بذلك ويَسَّرَه لهم، فلو أبطلنا اختيارهم، أبطلنا العلم والقدر والقضاء، وجعلناها غير مطابقة، وهي الأساس، ولو أبطلناها أبطلنا صفات الربوبية الواجبة، فيلزم إثبات الأمرين. والله أعلم.
وفي " الصحيحين "، و" موطأ مالك "، و" سنن أبي داود "، و" سنن النسائي " من حديث ابن عباس، وذكر الطاعون أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام حتي إذا كان بسَرْغَ (1) لقيَهُ أُمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام .. ، وساق الحديث إلى قوله: فنادى عمرُ في الناس: إني مُصبحٌ (2) على ظَهْرٍ (3)، فأصْبِحُوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفِراراً من قَدَرِ الله؟ فقال عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة -وكان يكرهُ خلافه- نعم نَفِرُّ من قَدَرِ الله إلى قَدَرِ الله، أرأيت لو كانت لك إبلٌ فهبطت بها وادياً له عُدوتان، إحداهما خَصِبَةٌ (4)، والأخرى جَدِبَةٌ، أليس إن رعيت الخَصِبَة (5) رعيتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدبة رعيتها بقدر الله. انتهى (6).
وفيه إجماعهم على صحة القدر، وعلى أنه لا يستلزم الجبر، لأنه لم ينكر ذلك مُنكرٌ، وهم في أكثر ما كانوا جمعاً.
وقال ابن الأثير في " النهاية " (7): هو عبارة عما قضاه الله وحكم به من
__________
(1) هي قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز.
(2) تحرفت في الأصلين إلى: " أن يصبح "، والتصويب من مصادر التخريج.
(3) أي: إني مسافر في الصباح راكباً على ظهر الراحلة راجعاً إلى المدينة.
(4) في (ش): مُخصبة.
(5) في (ش): المخصبة.
(6) تقدم تخريجه ص 356.
(7) 4/ 22.(6/186)
الأمور، وهو مصدر: قَدَرَ يَقْدِرُ [قَدَراً]، وقد تُسَكَّن دالهُ، ومنه حديث الاستخارة " فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْه " (1) أي: اقضِ لي به وهيِّئْهُ.
وقال الزمخشري (2) في تفسير قوله تعالى: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]: القَدَرُ والقَدْرُ: التقدير، وقُرىء بهما (3) [أي:] إنا خلقنا كل شيءٍ مقدراً محكماً مرتباً على حسب ما اقتضته الحكمة، أو مقدراً مكتوباً في اللوح معلوماً قبل كونه، وقد علمنا حاله وزمانه.
وقال الزمخشري (4) أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وإنَّه لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]: يعني: علمه أن الحذر لا يُغني عن القدر (5).
وقال أبو نصر إسماعيل بن حمَّاد الجوهري في " صحاحه " (6): القدر والقدر ما يُقَدِّره الله من القضاء.
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 344، والبخاري (1162) و (6382) و (7390)، وفي " الأدب المفرد " (293)، والترمذي (480)، وأبو داود (1538)، والنسائي 6/ 80، وفي " عمل اليوم والليلة " (498)، وابن ماجه (1383)، وابن حبان (887)، والبيهقي في " السنن " 3/ 52، وفي " الأسماء والصفات " ص 124 - 125 من حديث جابر.
وأخرجه ابن حبان (885)، وأبو يعلى (1342)، والبزار (3185) من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه ابن حبان (886) من حديث أبي هريرة، والحاكم 1/ 314 من حديث أبي أيوب.
وأخرجه الطبراني في " الكبير " (10012) و (10052)، وفي " الأوسط " ص 97، و" الصغير " 1/ 190، والبزار (3181) و (3182) و (3183) و (3184) من حديث ابن مسعود.
(2) 4/ 41.
(3) وانظر " البحر المحيط " 8/ 183.
(4) 2/ 333.
(5) قوله: " أن الحذر لا يغني عن القدر " حديث تقدم تخريجه ص 321 من حديث عائشة وأبي هريرة ومعاذ بن جبل.
(6) 2/ 786.(6/187)
وأنشدَ الأخفش:
ألا يا لَقَوْمي لِلنَّوائِب والقَدر ... وللأمْرِ يأتي المَرْءَ من حيث لا يدري (1)
والمَقْدِرَةُ: من القدرة، بالحركات الثلاث، وهي القضاء والقدر بالفتح لا غير.
قال الهُذلي:
وما يَبْقَى على الأيَّام شيءٌ ... فيا عَجَباً لمَقْدرة الكتاب (2)
وقَدَرْتُ الشيء: أقْدُرُهُ وأقْدِرُه قدراً من التقدير.
__________
(1) البيت من قصيدة لهُدبة بن خشرم قالها عند معاوية، وذلك أن هدبة قتل ابنَ عمه زيادة بن زيد، فرفعه أخوه عبد الرحمن بن زيد إلى سعيد بن العاص وكان أمير المدينة، فكره سعيدٌ الحكم بينهما، فأرسلهما إلى معاوية بالشام، فلما صارا بين يديه، قال عبد الرحمن: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وقتل أخي، فقال معاوية لهدبة: ما تقول؟ قال هدبة: أتحب أن يكون الجواب شعراً أم نثراً؟ قال: بل شعراً، فإنه أنفع، فقال هدبة:
ألا يا لقومي للنوائب والدهر ... وللمرء يُردي نفسه وهو لا يدري
وللأرض كم من صالحٍ قد تأكَّمت ... عليه فوارَتْه بلمَّاعةٍ قَفْرِ
فلا تتَّقي ذا هَيبةٍ لِجلاله ... ولا ذا ضياعٍ هُنَّ يتركن للفَقْرِ
إلى أن قال:
رُمينا فرامَيْنا فصادف رَمْيُنا ... منايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْرِ
وأنت أمير المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً ولا عنك من قصرِ
فإن تَكُ في أموالنا لم نَضِقْ بها ... ذراعاً وإن صَبْرٌ فنصبرُ للصَّبْرِ
وانظر تمام الخبر في " الأغاني " 21/ 264، و" خزانة الأدب " 9/ 237.
(2) من قوله: " والمقدرة " إلى هنا ليس في المطبوع من " الصحاح "، والبيت في " اللسان " 5/ 76.(6/188)
قال الشاعر (1):
كِلا ثَقَلَيْنا طامع (2) بِغَنيمةٍ ... وَقَدْ قَدَرَ الرحمن ما هو قادر
انتهى كلام الجوهري.
وفي كتب الكلام أن القدر يكون بمعنى الكتابة، وأنشدوا فيه:
واعلم بأنَّ ذا الجلال قد قَدَرْ ... في الصُّحفِ الأولى التي كان سَطَرْ
أمرَكَ هذا فاجْتَنِبْ منه النَّتَرْ (3)
وهذا معنىً صحيحٌ تشهد له الأحاديث الصحاح كما يأتي.
وأما القضاء فقال الجوهري (4): هو الحكم، وقضى: حكم، ومنه قولُه تعالى: {وَقَضَى ربُّك ألاَّ تَعْبُدوا إلاَّ إيَّاهُ} [الإسراء: 23].
وقد يكونُ بمعنى الفراغ، تقول: قضيتُ حاجتي، وقد يكونُ بمعنى الأداء والإنهاء، تقول: قضيتُ دَيْني، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنا إلى بَني إسرائيل في الكِتاب} [الإسراء: 4]، وقوله: {وَقَضَيْنا إليه ذلك الأمرَ} [الحجر: 66] أي: أدَّيناه إليه وأبلغناه ذلك.
وقد يكون بمعنى الصنع والتقدير، وقال أبو ذُؤَيب:
__________
(1) هو إياس بن مالك بن عبد الله المُعَنَّى كما في " اللسان ".
(2) في الأصلين: " طالع "، والمثبت من الصحاح.
(3) الرجز غير منسوب في " الصحاح " 2/ 822، وهو للعجاج في " اللسان " و" تاج العروس " (نتر).
و" النَّتْر ": هو الضعف في الأمر والوَهْن.
(4) 6/ 2463.(6/189)
وعَلَيْهما مَسْرُودَتانِ قَضَاهُما ... داود أو صنع السَّوابِغ تُبَّعُ (1)
ويقال: قضاه أي: صنعه وقدره، ومنه قوله يعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماواتٍ} [فصلت: 12].
ومنه القضاء والقدر ... إلى قوله: وقَضَّوا بينهم منايا بالتشديد، أي: أنفذوها (2).
وقال القاضي عياض في " المشارق " (3): قضى صلاته، أي: فرغ منها، ومنه: فلما قضينا مناسكنا، وقضى الله حَجَّنا ... ، إلى قوله: قال الأزهريُّ (4) قضى في اللغة يرجِعُ إلى انقطاع الشيء وتمامه والانفصال منه، يقال: قضى بمعنى حتم، ومنه: قضى أجلاً، أي: أتَمَّه وحَتَمه، ومنه: " فإن الله قضى على نفسه سمع الله لمن حمده "، أي: حتم ذلك وحكم بسابق قضائه بإجابة قائله.
ويأتي بمعنى الأمر: {وقَضَيْنا إليهِ ذلك الأمْرَ} [الحجر: 66].
وبمعنى الفصل في الحكم، ومنه: {يَقْضِي بينهم} [في آيات منها: يونس: 93] ومنه: قضى الحاكم، وقضى دينه، وكلُّ ما أُحْكِمَ عمله، فقد
__________
(1) هو من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي، مطلعها:
أمِنَ المنون ورَيبها تتوجَّعُ ... والدهرُ ليسَ بمُعتبٍ من يجزعُ
والبيت في " جمهرة أشعار العرب " ص 26، و" ديوان الهذليين " 1/ 19، والمفصل " ص 117، و" المخصص " 13/ 34، و" إصلاح المنطق " ص 508، و" المفضليات " ص 428، و" معاني الشعر " ص 114، و" نظام الغريب " ص 98، و" اللسان " (قضى)، و" معجم مقاييس اللغة " 5/ 99، و" تهذيب اللغة " 2/ 38 و8/ 251 و9/ 212 - 213.
(2) في الأصلين: " أبعدوها "، والتصوبب من " الصحاح " و" اللسان ".
(3) ص 189 - 190.
(4) في " تهذيب اللغة " 9/ 211.(6/190)
قُضِي، ومنه: إذا قضى أمراً، أي: أحكمه، {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماواتٍ} [فصلت: 12]، ومنه: فلمَّا قضى قراءته أي: فرغ، وقُضِيَ الشيء: تمَّ.
وبمعنى أنفَذَ وأمضى، ومنه: {فَاقْضِ ما أَنْتَ قَاضٍ} [طه: 72].
وبمعنى الانفصال والخروج عن الشيء، ومنه: قضى دينه.
وقال الزمخشري (1): في تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ} [الإسراء: 4]: أوحينا إليهم وحياً مَقْضِيّاً، أي: مقطوعاً مبتوتاً بأنهم مفسدون لا محالة (2).
وقال الزمخشري (3) في تفسير قوله تعالى: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41]: قُطِعَ وتمَّ ما تستفتيان فيه من أمركما وشأنكما.
فقد حصل مِنْ مجموع كلام العلماء ونَقَلَةِ اللغة، وأدلة المعقول والمنقول على ما مَضَى منه اليسير، ويأتي منه الكثير ما يدلُّ على أن القدر واجبٌ، والمُقَدَّر ممكن، وهذا هو الوجه في دقة الكلام فيه، فإن اجتماع الوجوب والإمكان مُحالٌ، فمن ثمَّ تباينت فيه أقوال أهل الكلام والجدل في الظاهر مع اتفاقها في المعنى.
فمن نظر إلى وجوب القدر، قال: لا حيلة في مخالفته، ومن نظر إلى إمكان المقدر في ذاته، قال: لا يخرُجُ الممكن عن صفته الذاتية بسبب تعلُّقِ ما ليس من الموثِّرات.
وكلُّ واحدٍ من الخصمين يُورِدُ على الآخر ما يُفحمُه ويُلْقِمُه الحجر.
__________
(1) 2/ 438.
(2) من قوله: " وقال الزمخشري " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) 2/ 321.(6/191)
وسببه أن اجتماع الوجوب والإمكان في القدر لا يمكن جَحْدُه، ومن جحده، عطَّل (1) العقل والنقل، وبقي أن يُقال: فكيف ثبت اجتماع الوجوب والإمكان بالضرورة، وهل هذا إلاَّ بمنزلة ثبوت المحال بالضرورة.
والجواب: أن ذلك لا يكون (2) مُحالاً باعتبار الجهتين، ولو كان مُحالاً، ما جمعه الله تعالى، وقد جمعه سبحانه كثيراً، فما استنكر ذلك أحدٌ لا من المؤمنين ولا من غيرهم، قال الله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 29 - 30]، {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29].
وقد تقدَّم بطلان تأويلها بالإكراه في آخر مسألة الإرادة وهو كقولِ المعتزلة: إن صدور القبيح مُمتنعٌ من الله تعالى، مؤدٍ إلى المُحال، مقطوعٌ بامتناعه وجوباً مع بقاء الاختيار والإمكان بالنظر إلى القدرة والمقدور.
والتحقيقُ في ذلك كله: أن الإحالة إنما تكون في صدق النقيضين معاً، وذلك لا يلزم إلاَّ حيث يتَّحِدُ المَنْفي والمُثبت من جميع الوجوه، فتكون الذات المسند إليها ثبوت الوجوب اللازم لنفي الإمكان، وثبوتُ الإمكان اللازم لنفي الوجوب واحدةً، والجهة التي أُسند (3) إليها الوجوب والإمكان واحدة.
وكذلك الزمان والمكان، والحقيقة والإضافة، والبعض والكل، والقوة، والفعل، والشرط، والعموم والخصوص، فإذا قلت: زيدٌ كاتب، زيدٌ ليس بكاتب، لم يصح القطع بكذب أحدهما متى جاز أن يختلفا بالذات، فيكون زيدٌ الموصوف بأنه كاتب غير زيدٍ الموصوف بأنه غير كاتب، أو يختلفا في جهة الوصف بالكُلية (4)، وإن كان زيد واحداً فيكون كاتباً بالقوة، كما يقال: الخمر
__________
(1) في (ش): لزمه تعطيل.
(2) في (ش): لم يكن.
(3) في (ش): استند.
(4) في (ش): بالكناية.(6/192)
مسكر قبل شُربه بالقوة، غير كاتبٍ بالفعل، كما يقال: الخمر غير مُسكرٍ قبل شربه بالفعل.
وكذلك قولنا: زيدٌ أبٌ غير أب قد يصدُقُ كله، أي: أبٌ بالإضافة إلى أولاده، غير أبٍ بالإضافة إلى غير أولاده.
وكذلك الزِّنجي أسود بالإضافة إلى أكثره، غير أسود بالإضافة إلى جميعه، ففيه أسنانه بيض.
وكذلك زيدٌ عالم بالنظر إلى علوم العقل الضرورية، ومن هنا خُوطب الكفار بنحو قوله: {لعلَّكم تعقِلون}، {وأنتم تعلمون} ليس بعالم بالنظر إلى خصوص كثيرٍ من العلوم، ولذلك خُوطِبَ الخلق كلهم بنحو قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 216]. وتبين تخصيص هذا العموم بنحو قوله عز وجل: {وَمَا أُوتيتم من العِلْمِ إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85]، وقوله تعالى: {لا عِلْمَ لَنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنا} [البقرة: 32].
وبالجملة فالجمع بين النقائض شهيرٌ بين العامة والخاصة على هذا الاعتبار، ولذلك لم يلتبس عليهم ما جاء من ذلك في القرآن الكريم من نحو قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
وقد جاء ذلك مُستفيضاً في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن فيه إلاَّ ما في الأسماء الحسنى من نحو: المُعِزِّ المُذِلِّ، الضارِّ النافع، المقدِّم المؤخِّر، المُحْيي المُميت، المبدي المُعيد، الباسط القابض.
فإذا عرفت هذا، فاعلم أن الإمكان والوجوب في أفعال العباد مختلفان في الذات والجهة معاً.
أمَّا الوجوب، فإنه من صفات القدر السابق، والإمكان من صفات المقدور الحادث المتأخِّر الممكن في ذاته.(6/193)
وأما الجهة، فإن الحادث بنفسه إن وصفناه بالوجوب والإمكان لم نجعل جهتهما واحدة في ذلك، بل نصفه بالإمكان بالنظر إلى ذاته واختيار فاعله، وبالوجوب بالنظر إلى تعلق الواجب به تعلُّقاً غير مؤثِّر في وجوده.
وقد أجمعت المعتزلة مع الأمة على جواز التكليف بالممتنع لغيره كطلب الإيمان ممن عَلِمَ الله أنه لا يُؤْمِنُ.
وكذلك صحَّ الأمر والنهي، والمدح والذم على ذلك، وهو بينَ العقلاء شائعٌ مستحسنٌ ضروري، من أنكره لم يُراجع إلاَّ بالفعل، فيضرب ضرباً شديداً، فإن أحسَّ في نفسه وِجْدان اللوم للضارب، فقد اعترف، وهذا كما قال تعالى: {أفَسِحْرٌ هذا} [الطور: 15]، وقال تعالى: {هذه النارُ الَّتي كُنتُم بها تُكَذِّبونَ} [الطور: 14].
فإن قيل: إن الوجوب المختصَّ بجهة، وجوبٌ خاص، والخاص يستلزم العام، فإن وجود الإنسان يستلزم وجود الحيوان بخلاف العكس، فالجواب من وجهين.
الأول: أن هذا خيالٌ باطل، ضلَّ بسبب الغلط فيه خلقٌ كثير، وبَنَوْا عليه من البِدَعِ ما لا يُحصى.
وبيانه: أن الجنس العام مجرَّد لفظٍ لا وجود له في حال عمومه ألبتة، ووجوده عاماً مع عدم جميع أنواعه مُحالٌ، وأهل المنطق يُسمُّونه العرض العام، والوصف العرضي، والاشتراك فيه اشتراكٌ في مجرد عبارة لا سوى، ولذلك قال المحققون: إن ذوات المخلوقات لم تُشارك ذات الرب في شيءٍ حقيقي، ثم تميزت ذات الرب بعد المشاركة.
وقالت المعتزلة: إن العباد قد شاركوا الربَّ عزَّ وجلَّ في الذاتية، أي: في كونهم أشياء، وهو سبحانه شيءٌ، ومن ها هنا عَطَّل المُعَطِّلَةُ.(6/194)
وقالت الباطنية والإسماعيلية: لا يوصف سبحانه بصفةٍ قط، فيكون مثل من وُصِفَ بها مِنَّا، فلا يوصف بأنه شيءٌ، ولا موجود ولا عالم ولا قادر.
وقد رد الجويني (1) بهذا على من زعم من الكُلاَّبية أن القرآن الكريم كان كلاماً في القِدَمِ غير أمرٍ ولا نهي ولا خبر ولا خطاب.
الوجه الثاني: أنه لو استلزم الوجوب الخاصُّ الإمكان العام المطلق، كان ذلك (2) يستلزِمُ نفي الاختيار، وليس للمعتزلي أن يحتج بهذا الإمكان الخاص على نفي ذلك الوجوب الخاص.
ولا للجَبْري أن يحتجَّ بذلك الوجوب الخاص على نفي ذلك الإمكان الخاص، لأنا إن جعلنا لكلِّ واحدٍ منهما أن يحتج بذلك على الآخر أدى إلى صحة النقيضين وهو محالٌ.
وإن جعلنا الحجة لأحدهما دون الآخر، أدَّى إلى تناقض المثلين، وهو مُحالٌ.
ومن جَهِلَ هذا التحقيق، نسب إلى أهل السنة ما لا يليق، وتوهَّم من بعض عباراتهم نفي الاختيار، وإثبات الإجبار والاضطرار، ومن عدم النظر إليه حارَتِ الأفكار، وعَثَرَ فرسانُ النُّظَّار في مسائل الأقدار.
الفائدة الثالثة: التنبيه على الجمل، وبعض التفاصيل مما حَضَرني مما يدلُّ على القَدَر من كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
أمَّا كتاب الله تعالى، فهو محفوظٌ معلومٌ، لكن نتبرَّك بإحضارِ بعض آياته المباركة للواقف على هذا الكتاب (3).
__________
(1) في " الإرشاد " ص 119 وما بعدها.
(2) في (أ): وذلك.
(3) في (ش): على مثل هذا الكتاب.(6/195)
واعلم أن الوارد فيه أنواع كثيرة، وبالجملة فكُلُّ آيةٍ فيها دِلالةٌ على أن للرب (1) سبحانه أثراً ما في فعلٍ من الأفعال، فهو مما يصلُحُ إيراده هنا من سؤاله عز وجل الهداية والإعانة كما في فاتحة الكتاب التي يقرأُ بها كلُّ مُصَلٍّ من المسلمين.
وكذلك المِنَّةُ بنعمة الإيمان كما في الفاتحة أيضاً في قوله: {صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عليهِمْ} [الفاتحة: 7] فإن نعمة الإيمان مرادةٌ هنا بالإجماع، فهذه ثلاث حُجَجٍ من فاتحة الكتاب وحدها.
وكذلك الاستعاذة من الشيطان التي يبدأ بها كل قارىء.
وكذلك الاستعاذة بالله من الضلالة، يدلُّ على ذلك مثل ما حكى الله تعالى عن الراسخين في قولهم: {رَبَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتنا} [آل عمران: 8].
وكذلك كل آية فيها نسبة الهدى والضلال إلى الله سبحانه وتعالى.
وكذلك ما هو في معنى ذلك من التيسير لليُسرى والعُسرى وجميع ما تقدم من آيات المشيئة. وما لو أفردناه لطال، وفي الإشارة إليه كفايةٌ، فهذه جملة نبَّهتُ طالب الحق عليها.
وأما التفاصيل: فمنها قوله تعالى: {إلاَّ امرأَتَه قَدَّرْناها مِنَ الغَابرينَ} [النمل: 57]، وفي آية: {قَدَّرْنا إنَّها لَمِنَ الغَابرينَ} [الحجر: 60]، وقوله تعالى: {وأهلَكَ إلاَّ مَنِ سَبَقَ عليه القولُ} [هود: 40]، وقال: {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى: {الَّذي قَدَّرَ فَهَدى} [الأعلى: 3]، فحذف مفعول قدَّر وهدى لعمومها: قدَّر كل شيءٍ، {إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بقَدَرٍ} [القمر: 49]، وهدى كُلَّ أحد {إنَّا هَدَيْناهُ السبيلَ إمَّا شاكراً وإمَّا كَفوراً} [الإنسان: 3]، وقال: {وكُلُّ شَيْءٍ عندَهُ بمِقْدارٍ} [الرعد: 8]، وقال: {ما
__________
(1) في (أ): " الرب " وهو خطأ.(6/196)
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23].
وأكثرُ المصائب من أفعال العباد في تعادي بعضهم بعضاً وتظالمهم وتحاسُدِهم وجناياتهم، وقد تكونُ معصيةً، فتكون مكروهة من حيث قَبُحَتْ لا من حيث قُدِّرَتْ، كيمين الزور الغموس التي يحكم بسببها بحقِّ الغير، وقد لا تكون معصيةً ألبتة كفعل الخَضِر عليه السلام في قتل الغُلام، وقال: {قُلْ لَنْ يُصيبنا إلاَّ ما كَتَبَ الله لنا} [التوبة: 51].
وقال في تقدير أفعال العباد خُصوصاً: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154]، وقال: {هُوَ الَّذي يُسَيِّرُكم في البَرِّ والبَحْرِ} [يونس: 22]، وقال: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] كما تقدم مع آيات المشيئة المتقدمة جميعها.
وقال: {كذلك كِدْنا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]، وقال: {أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى} [الإسراء: 69]، وقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} [الأحقاف: 29]، وقوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وليس هو (1) إلزام الأمر لعمومه، وخصوص هذا بالمؤمنين.
ومنه قراءة أُبي: {وأتبعناهُم ذُرِّيَّاتِهم بإيمانٍ} (2).
ومنه التيسير لليُسرى والعسرى وما فيهما من آياتِ الهدى والضلال مثوبةً وعقوبةً كما مضى.
__________
(1) في (ش): هذا.
(2) وهي قراءة أبي عمرو. انظر " زاد المسير " 8/ 50.(6/197)
ومثل قوله: {وفي ذلكم بلاءٌ مِنْ رَبِّكُم عَظيمٌ} [البقرة: 49] بعد قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49].
وقال: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15].
وقال في تقدير المعاصي خُصوصاً: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].
وقال في هود وفي السجدة: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]، [السجدة: 13].
وقال على جهة التعيين لواحد مخصوص: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85]، وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} إلى {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 7 - 12].
وقال في تقدير أفعال العباد: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف: 41].
وقال حكاية عن نبيه يعقوب عليه السلام. {يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} (1) [يوسف: 67 - 68].
وقال في يحيى بن زكريا: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم: 15] وعيسى
__________
(1) قوله: " إن الحكم إلاَّ لله ... من شيء " ليس في الأصول.(6/198)
كذلك، وهو في يحيى أوضح، لأنه لم يقل أحد: إنه كان كامل العقل يومئذ، وذلك دليل على سبق القدر للعمل.
وقال: {كَتَبَ الله لأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلي} [المجادلة: 21]، وقال: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] فعلَّلَ نجاتهم من العذاب بسبق الكتاب، وهو عين ما يمنع منه الخصوم.
وعن سعد بن أبي وقَّاص: أرجو أن تكون رحمةٌ من الله سبقت لنا. رواه الحاكم (1) وقال: على شرط الشيخين.
وقال: {إنَّ الذينَ سَبَقَتْ لَهُم مِنَّا الحُسْنَى} [الأنبياء: 101].
وجاء بتعليل أفعال الله، وهي اختياريةٌ بكلماته الواجبة كقوله تعالى: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19].
وكذلك تعليلُ أفعال العباد الاختيارية، كقوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33] هذا مع قوله تعالى: {لا تبديلَ لِكلماتِ الله} [يونس: 64] وليس المراد به إلاَّ هذه.
أما كلمات كتبه الشرعية، فقد نصَّ على تبديلها، قال تعالى: {وإذا بَدَّلْنا آيةً مَكانَ آيةٍ} [النحل: 101]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 96 - 97]، وفي معناها قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس: 13]، وقال: {والله
__________
(1) 2/ 329 من طريق زكريا بن عدي، عن عبيد الله بن عمرو الرقي، عن زيد بن أبي أنيسة، عن عمرو بن مرة، عن خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة، عن سعد.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 110، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر.(6/199)
يحكمُ لا مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ} [الرعد: 41].
وقال في تأثير أفعال العباد الاختيارية: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ}، [الفتح: 24]، وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، وقال: {إنَّا فَتَحْنَا لك فَتْحَاً مُبيناً} إلى {ويُعَذِّبَ المنافقين} [الفتح: 1 - 6] الآية.
وفي معناها: {إنَّا عَرَضْنا الأمانة} إلى آخر السورة: [الأحزاب: 72 - 73]، وقال: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 1 - 2] وقال: {إنَّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج: 19] الآية، وقال: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا} [المعارج: 38 - 39]، وقال: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، وقال: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} إلى قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 36 - 37]، وقال: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] وفيه جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وقال: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94 - 95]، وقال: {وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} [الإسراء: 58].
وقال في يحيى بن زكريا: {وسلامٌ عليهِ يومَ وُلِدَ} [مريم: 15]، وفي عيسى بن مريم مثل ذلك.(6/200)
وذلك مثلُ حديث " السعيد من سَعِدَ في بطن أمِّه " (1) على أنه مُفسَّرٌ بحديث ابن مسعود المتفق على صحته كما يأتي في الأخبار، وليس كما تظُنُّه الجبرية.
وقال: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء: 78 - 79].
وقوله في آخر هذه: {فمِنْ نَفْسِكَ} محمولٌ على السبب الذي سبق من الربِّ تقديره بدليل قوله: {ما أصابَكَ} ولو كان معصية لقال: ما أصَبْتَ كما ذلك معروف، فهو كقوله تعالى: {ما أصابَ من مُصيبةٍ إلاَّ بإذنِ اللهِ} [الحديد: 22].
وقوله تعالى: {وفي ذلِكُمْ بَلاءٌ من ربِّكم عظيمٌ} بعد قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49].
وقوله: {وليس بِضارِّهم شيئاً إلاَّ بإذنِ الله} [المجادلة: 10] وإنما نسبه إلى العبد، لأنه حدث من العبد فعل سببه واختياره.
ونظيره قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 165 - 167].
فجمعت هذه الآية مذاهب أهل السنة في تقدير أفعال العباد الاختيارية بقوله: {مِنْ عندِ أنفُسِكم} وسبق تقديرها من الله تعالى بقوله: {فبإذن الله}.
__________
(1) سيأتي تخريجه ص 417. وحديث ابن مسعود سيأتي ص 394.(6/201)
وبيانُ تعليل القدر بالحكمة في قوله: {ولِيَعْلَمَ} يدل على أن الإذن هنا الإرادة بدليل هذا التعليل، فإن الإذن لا يُعَلَّلُ، فدلَّ على أن الإذن ليس بمعنى العلم.
وقد بيَّنه الله عز وجل في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكم عنهم لِيبتلِيَكُم} [آل عمران: 152]، ومثلها: {هُوَ الَّذي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عنكُم وأيديَكُم عنهم} [الفتح: 24].
وفي " الضياء " ما يدلُّ على أن الإذن إذا كان من العلم كان بفتح الهمزة، وفتح الذال المعجمة (1)، ويُقَوِّيه: أن عادتهم التفريق بين المصادر التي أفعالها متماثلة مشتبهة.
وقوله: {وجعلناهُم أئمةً يَدْعُونَ إلى النَّار} [القصص: 41] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام: 123]، وقوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6]، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ} [الأنعام: 34]، وقال: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى} [الأنعام: 60]، وقال تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 85]، وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء: 200 - 201]، وقال: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161 - 163]، وقال: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 3] إلى آخر
__________
(1) ذكره نشوان بن سعيد الحميري في " شمس العلوم " 1/ 74، و" الضياء " المذكور هو " ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم " لولده محمد.(6/202)
السُّورة، وقال: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} إلى قوله: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 1 - 6]، وقال: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 52 - 53]، وقال: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} [الحشر: 3]، وقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8]، ونوره هنا يتعلق بأفعال المؤمنين من الهدى، وذلك يتوقف على اختيارهم مع أن تمامه منسوب إلى الله تعالى على جهة القطع.
ومثله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]، وقال: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 44]، وقال: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 42]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج: 4]، وقال: {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]، وهي من أوضح الأدلة على مذهب أهل السنة في صحة الجمع بين نفوذ القضاء ونفي الجبر، لأنه لا يصح الجبر في حق الرب سبحانه إجماعاً.
وقال: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ (1) رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6]، وقال: {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} [طه: 129]، وقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ
__________
(1) بالألف على الجمع، وهي قراءة نافع وابن عامر، وقرأ الباقون (كلمة). " حجة القراءات " ص 627.(6/203)
مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 - 119].
ومثل آخرها: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} الآية [السجدة: 13] والإشارة بذلك إلى الاختلاف بدليل أول الآية وآخرها وسائر نصوص كتاب (1) الله البينة.
وقال الله تعالى: {ولَوْ شَاءَ الله لَجَمَعَهُم على الهُدى} [الأنعام: 35]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99]، وقوله: {ولا يزالُونَ مُختلفين} [هود: 118]، ولأن وقوعه هو المعلوم ضرورةً.
وقد ثبت أن ما أراده الله وقع، وقد جوَّزه الإمام المنصور بالله عليه السلام في " المجموع المنصوري "، وذكر فيه وجهاً لطيفاً، وهو أن يكون المراد: خلق أولياءه لمخالفة أعدائه، وشرط في صحة هذا أن تكون " إلاَّ " بمعنى (2) الواو.
ويُقوِّي الوجه اللطيف الذي ذكره ما ذكرتُه في هذا الكتاب في مرتبة الدواعي في تفسير قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكم أحسنُ عملاً} [الملك: 2]، وكذا ذكر الزمخشري في " كشَّافه " (3): إشارة إلى ما دل عليه السلام الأول وتضمنه، يعني: ولذلك التمكين والاختيار الذي كان فيه الاختلاف خلقهم ليُثيب مختار الحق بحُسْنِ اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. انتهى.
وقد ألمَّ هذا الموضع بمذهب الأشعرية في صرف إرادة الله المتعلقة بأفعال العباد إلى (4) تعليقها بأفعال الله تعالى على ما مر تقريره في مسألة الإرادة.
وفي قوله تعالى: {وتمَّتْ كلمةُ ربِّكَ لأَمْلأنَّ} [هود: 119] لقوله في غيرها: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13] دليلٌ واضح
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) في (أ): معنى.
(3) 2/ 298 - 299.
(4) في (أ): التي.(6/204)
على أن هذا مراد لله (1) تعالى أصيلٌ اقتضته حكمةٌ بالغة حتى حقَّ به قوله الحق، وتمت (2) به كلمته الصدق، ولا تبديل لقوله، ولا مُعَقِّب لحكمه.
ولو كان أمراً مضادّاً لمراده تعالى، ما حَسُنَ في لغة العرب وروده بهذه الصيغ، ولكن نعلم قطعاً أنه لا يريد الشر لكونه شراً، بل يُريده لخيرٍ وحكمةٍ، وذلك هو تأويله الذي لا يعلمه إلاَّ هو سبحانه، أو من شاء أن يخُصَّه من خلقه سبحانه وتعالى.
ويدل على القول الأول ما ذكره الله من جعله لكل نبي عدوّاً شياطين الإنس والجن، وسائر ما تقدم من أنه لو شاء، لهدى الناس جميعاًً، ومِنْ جعلِهم أمة واحدة ونحو ذلك.
ويدل عليه قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 213].
فقوله: {بإذنه} يتعلق بـ " اختلفوا "، والضمير فيه يرجع إلى غير المؤمنين، والقرائن واضحةٌ في ذلك، وهذا الحق هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]، ولقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
فدلَّ ذلك، على أن الحق التوحيد وعبادة الله وحده، والإشاره بالاختلاف إلى من خالف في شيءٍ من ذلك.
__________
(1) في (أ): مراد الله.
(2) في (ش): ومضت.(6/205)
ونحو (1) ما تقدم قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي} [آل عمران: 79] الآيات.
وعن ابن عباس: كانوا على الإيمان (2). قال الهيثمي في " مجمع الزوائد ": رواه أبو يَعْلى والطبراني ورجال أبي يعلى رجال الصحيح. انتهى.
وجعله الزمخشري (3) المختار من الوجهين.
والوجه الثاني: أن المراد كانوا على الكُفْرِ (4).
__________
(1) في (أ): ونحو ذلك.
(2) أخرج أبو يعلى (2606)، والطبراني (11830) من طريق شيبان بن فروخ، حدثنا همام، حدثنا قتاده، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله عز وجل: {كان الناسُ أمةً واحدةً} قال: على الإسلام كُلّهُم.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 6/ 318 وقال: ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 582 وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأخرج الطبري في " تفسيره " (4048)، والحاكم 2/ 546 من طريق محمد بن بشار، عن أبي داود، عن همام، عن قتادة (وفي الطبري: " عن همام بن منبه " وهو خطأ)، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله: " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا ". وصححه الحاكم على شرط البخاري ووافقه الذهبي، وليس كما قالا، فأبو داود -وهو سليمان بن داود الطيالسي- من رجال مسلم ولم يرو له البخاري إلا تعليقاً.
وزاد السيوطي نسبته إلى البزار -وذكره الهيثمي 6/ 318 - 319 - وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3) 1/ 355.
(4) رُوي عن ابن عباس من طريق عطية العوفي، وهو ضعيف. انظر " زاد المسير " 1/ 229، و" الدر المنثور " 1/ 583.(6/206)
قلت: والذي يوضح الأول قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] بعد قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وفي اختلاف بني إسرائيل آيةٌ أصرح منها.
وأيضاً فلن يجتمع الناس مع بقاء كثرتهم واختلاف فِطَنِهم وطبائعهم وإسلامهم على كُفرٍ ولا إسلام.
وقد حكى الله اختلاف الملائكة في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69].
وجاء في الحديث الصحيح: اختلافهم في الذي قتل مئة نفسٍ ثم تاب (1).
واختلف الخَضِرُ وموسى (2)، وسليمان وداود (3)، وآدم وموسى (4)، بل قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وأمثالها.
فدلَّ على أن الاختلاف من لوازم الاختيار فيما يوجب الاجتماع عادةً، ولا يقع غير ذلك عادةً، كما لا يجتمعون على مأكولٍ واحد دون سائر الأطعمة، ولا على اختيار بلد ولا صناعة إلاَّ أن يشاء الله، لكن قد أخبر الله أنه لا يُريدُ جمعهم على الكُفْر، وذلك بَيِّنٌ في قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33]. الآية.
__________
(1) تقدم تخريجه في 1/ 219.
(2) تقدم تخريجه في 1/ 218.
(3) يشير إلى قوله تعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
(4) تقدم تخريجه في 1/ 218.(6/207)
وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27].
وكيف يُخلي الله الخلق من عباده الصالحين، وهم ثمرة خلق العالمين، ولذلك تقوم القيامة عند فقدهم كلهم كما ورد مرفوعاً، ولولاهم ما خلق الخلق بدليل قوله للملائكة بعد ظهور صلاح آدم لهم: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 33] فإنه نقض عليهم بذلك ما ظنُّوا من فساد جميع الآدميين الذي هو شرٌّ محض لا خير فيه، وهو القبيح عقلاً، أما وجود شر لخير فيه ذلك (1) الخير هو المقصود من ذلك الشر، فلا قُبْحَ فيه على ما أوضحته في تفسير قوله تعالى: {وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدون} [الذاريات: 56]، كما تقدم بيان مذهب الأشعرية في المشيئة.
وأيضاً فلم يجتمع الخلق على الكفر قطُّ لوجود الأنبياء في المتقدمين وكثرتهم، فقد جاء في الحديث " أنهم مئة وعشرون ألف نبيٍّ " صلوات الله عليهم وسلامه (2).
__________
(1) في (أ): لا لخير خير فيه ذلك.
(2) أخرجه ابن حبان في صحيحه (361) وفي " المجروحين " 3/ 130، وأبو نعيم في " الحلية " 1/ 166 - 168 من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى بن يحيى الغساني، عن أبيه، عن جده، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر مطولاً. وإسناده ضعيف جداً، فإبراهيم بن هشام كذّبه أبو حاتم وأبو زرعة، وقال الذهبي: متروك.
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " 7/ 2699، وابن حبان في " المجروحين " 3/ 129، والحاكم 2/ 597، والبيهقي 9/ 4، وأبو نعيم في " الحلية " 1/ 168 - 169 من طرق عن يحيى بن سعيد السعدي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذر بلفظ: " مئة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي "، ويحيى بن سعيد هذا قال ابن حبان في " المجروحين " 3/ 129: شيخ يروي عن ابن جريج المقلوبات، وعن غيره من الثقات الملزقات، لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد. وقال ابن عدي: ويحيى بن سعيد يعرف بهذا =(6/208)
ويشهد بذلك قوله في الآية: {وما اختلَفَ فيه إلاَّ الذينَ أُوتوه} [البقرة: 213] والضمير في قوله: {فيه} راجعٌ إلى الحق.
__________
= الحديث، وهذا حديث منكر من هذا الطريق عن ابن جريج. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وليس بمشهور بالنقل.
وأخرج أحمد 5/ 265 - 266، والطبراني (7871) من طريق معان بن رفاعة عن علي بن يزيد، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أمامة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالساً وكانوا يظنون الوحي ينزل عليه فأقصروا عنه حتى جاء أبو ذر، فاقتحم، فأتاه فجلس إليه فأقبل عليه فقال: يا أبا ذر ... وذكر حديث أبي ذر الطويل، وفيه عدة الأنبياء: " مئة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ". قال ابن كثير في " تفسيره " 1/ 600 بعد أن نقله بإسناده عن ابن أبي حاتم: معان بن رفاعة السلامي ضعيف، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضاً.
وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 159: ومداره على علي بن يزيد وهو ضعيف.
وأخرج أبو يعلى (4092) و (4132)، والحاكم 2/ 597 و598، وأبو نعيم 3/ 53 من طرق عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بعث الله ثمانية آلاف نبي: أربعة آلاف إلى بني إسرائيل، وأربعة آلاف إلى سائر الناس "، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي وغيره. وانظر " مجمع الزوائد " 8/ 210 و211.
وأخرجه ابن كثير في " تفسيره " 1/ 599 - 600 من طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا أحمد بن طارق، حدثنا مسلم بن خالد، حدثنا زياد بن سعد، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سليم، عن أنس. وقال: وهذا كرب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به رجاله كلهم معروفون إلاَّ أحمد بن طارق هذا، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح. قلت: قد تابعه زكريا بن عدي عند أبي نعيم 3/ 162.
وأخرج الحاكم 2/ 597 من طريق مجالد، عن أبي الوداك، عن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني خاتم ألف نبي أو أكثر ".
قال الذهبي في " ملخصه ": مجالد ضعيف.
وأخرج البزار (3380) من طريق مجالد، عن الشعبي، عن جابر نحوه.
قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 347: فيه مجالد بن سعيد وقد ضعفه الجمهور وفيه توثيق.(6/209)
وقد قُصِرَ الاختلاف فيه على الذين أوتوا الكتاب فدلَّ بمفهومه على نفي الاختلاف في الحق عمَّن قبلهم، وكذا مفهومُ قوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19].
ولعل ذلك الاجتماع إنما كان بسبب الابتلاء، فلما نزل الكتاب بالابتلاء، وقع الاختلاف بسبب الابتلاء (1)، لا بسبب نزول الكتاب، ألا ترى أن الملائكة غيرُ مختلفين بسبب عدم الابتلاء بدليل قصة هاروت وماروت.
ولو سلمنا أن الإشارة في قوله: {ولذلك خَلَقَهم} [هود: 119] إلى الرحمة لَزِمَ منه أن الضمير في خلقهم راجع إلى من رَحِمَ لا إلى المختلفين ولا إلى الجميع.
كما أنه إذا صح أن الإشارة فيه إلى الاختلاف كان الضمير راجعاً إلى المختلفين، لا إلى المرحومين الذين استثناهم الله تعالى.
وبالجملة فالضمير لا يرجع إلى جميع المذكورين قبل الاستثناء وبعده، لأن حكمهم مختلف، فالضمير ليس من ألفاظ العموم، والأمور المقدرة يجب الاقتصار فيها على الضرورة، ولا يُضْمَرُ أكثر من الحاجة، فتأمل ذلك، فإنه مفيدٌ ولله الحمد.
وعلى هذا التقدير يزولُ الإشكالُ على كل تقديرٍ، ولا يلزم أن الله تعالى أراد خلاف ما علم، لأنه إذا عاد الضمير إلى المرحومين، ووقعت الإشارةُ إليهم، فقد علم الله أنهم من أهل الرحمة وخلقهم لذلك، ولا بُدَّ (2) من حكمة الله تعالى في الجميع، في خلق السعداء للرحمة جليةً، وفي خلق الكفار للاختلاف خفيَّةً، وما أحسن كلام المنصور بالله عليه السلام المقدم في ذلك، ويمكن أن
__________
(1) من قوله: " فلما " إلى هنا ساقط من (أ).
(2) تحرفت في (ش): إلى: ولأنه.(6/210)
تكون الإشارةُ إلى الجميع، أعني: الرحمة والاختلاف، والضمير للجميع أي: خلق المرحومين للرحمة وغيرهم للاختلاف.
ومما يُصادِمُ مذهب المعتزلة مصادمة النصوص الصريحة قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178].
والمعتزلة تأوَّلوا جميع هذا تارة بأن الإضلال بمعنى العقاب وتارة بمعنى الحكم، وتارةً بما فيه تعسُّفٌ.
والجواب من وجوه:
الأول: النزاع في المُوجِبِ للتأويل من الأصل.
والثاني: دعوى العلم الضروري لمن بحث عن أحوال السلف أنهم كانوا لا يتأولون شيئاً من ذلك، وبيان هذا يحصُلُ بتأويل ما يأتي من الأخبار المتواترة الآن.
الثالث: أن تأويلاتهم وإن تَمَشَّتْ في بعض المواضع فإنها لا تمشي في كثيرٍ منها إلاَّ بتعسُّفٍ معلوم البطلان، كما تقدم بيانه في مرتبة الإرادة، وكذلك تقدم إيضاح الوجه الأول والثاني فيها ولله الحمد.
أما الأحاديث وآثار الصحابة والسلف في الإيمان بالقدر، فلا سبيل إلى استقصائها، وهي على كثرتها تنحصِرُ في قسمين:
أحدهما: ما يدلُّ على ثبوت القدر وصحته.
وثانيها: ما يدلُّ على وجوب الإيمان به، وذمِّ من كذَّب به، وأنا أُورد في كل قسمٍ ما تيسَّر لي وقت تعليق هذا الجواب من غير إسهاب ولا استيعاب، وأتركُ الكلام على أسانيد ما نقلته من الكتب الستة لشهرتها، وأُنَبِّهُ على ما في(6/211)
إسناد الحديث الذي من غيرها ليتمكَّن من البحث عنه في كتب الرجال من كان أهلاً لذلك.
وجملة ما تيسَّر لي تعليقه في هذا مئتا حديثٍ، بل أكثر من مئتين كما تراه، فمنها في القسم الأول مئة ونَيِّفٌ وخمسون وفي القسم الثاني سبعون، وهذا زائدٌ على التواتر، فللهِ الحمد والمنة.
القسم الأول: ما يدلُّ على صحته على جهة الاستظهار وإلا فقد تقدم من قواطع القرآن والبرهان ما يُغني عن الزيادة في البيان.
الحديث الأول: عن عليِّ بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: كنا في جنارةٍ في بقيع الغَرْقَد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرَةٌ فنكَّس وجعل يَنْكُتُ بمِخصرتِه، ثم قال: " ما منكم من أحدٍ إلاَّ وقد كُتِب مقعدُه من النار، ومقعده من الجنة " فقالوا: يا رسول الله، أفلا نَتَّكِلُ على كتابنا؟ فقال: " اعملوا فكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له، أمَّا من كان من أهل السعادة فسيصير لعمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء، فسيصير لعمل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] (1).
رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما "، والأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة الحديث، والمعنى متقاربٌ، ورواه النسائي.
ذكرها المزي في " أطرافه " (2)، ولم يذكرها أبو القاسم بن عساكر.
__________
(1) تقدم تخريجه في ص 281.
وقوله: " مخصرة ": هو ما أخذه الإنسان بيده واختصره من عصا لطيفة، وعكاز لطيف، و" نكس " -بتخفيف الكاف وتشديدها- أي: خفض رأسه وطأطأه إلى الأرض على هيئة المهموم، و" ينكت " أى: يخط بها خطاً يسيراً مرة بعد مرة وهذا فعل المفكر المهموم.
(2) 7/ 398 - 399.(6/212)
ولعليٍّ عليه السلام ستة أحاديث في إثبات القدر على مذهب السلف وأهل السنة تأتي متفرقة، وإنما نَبَّهْتُ على ذلك لدعوى المعتزلة أنهم على مذهبه عليه السلام، وسيأتي تطابق الروايات عند تبيين ذلك من طريق أهل البيت وطريق أهل الحديث كما مر مثل ذلك في المشيئة، فقد تواتر عنهم براءته من رأيهم ولله الحمد والمنة.
الحديث الثاني: عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، قال: جاء سراقة بن مالك، فقال: يا رسول الله بيِّنْ لنا ديننا كأنَّا خلقنا الآن، فِيمَ العمل اليوم؟ قال: " بما جَفَّتْ به الأقلام وجرت به المقادير " قال: ففيم العمل؟ قال: " اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وكل عاملٍ بعمله " أخرجه مسلم في " الصحيح " (1).
الثالث: عن عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قال رجلٌ: يا رسول الله، أعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال: " نعم "، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: " كل ميسر لما خلق له ". أخرجه مسلم وأبو داود.
وفي رواية البخاري نحوه، وزاد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] (2).
الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال عمر يا رسول الله، أرأيت ما نعمل، فيه أمرٌ مُبتدأ، أو فيما قد فُرِغَ منه؟ فقال: "فيما قد فُرِغ يا ابن الخطاب، وكل مُيَسَّرٌ، أما من كان من أهل السعادة فإنه يعمل للسعادة، وأما من كان من
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 292 و293 و304 وابنه عبد الله في " السنة " (857)، والطيالسي (1737)، ومسلم (2648)، وابن حبان (337)، والآجري في " الشريعة " ص 174، والبغوى (74)، وسيأتي برقم (89) بزيادة.
(2) تقدم تخريجه ص 281.(6/213)
أهل الشقاوة فإنه يعمل للشقاوة" (1).
وفي رواية قال: لما نزلت {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: فعلام نعمل؟ وساق نحو الأولى (2). خرجه الترمذي، وقال: حسن صحيح. قال: وفي الباب عن علي، وحذيفة بن أسيد، وعمران بن حصين، وأنس رضي الله عنهم.
وخرج أبو داود معنى الأول من حديث ابن عمر، عن أبيه عمر رضي الله عنهما في حديث جبريل عليه السلام في الإيمان بالقدر خيره وشره (3).
الخامس: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه مَلَكاً بأربع كلمات، بِكَتْبِ رزقه وأجله وعمله، وشقي أو سعيد، ثم يُنفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينها وبينه إلاَّ ذراعٌ، فيَسْبِق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلاَّ ذراعٌ، فيسبق
__________
(1) أخرجه الترمذي (2135) وسيأتي تخريجه برقم (84).
(2) أخرجه الترمذي (3111)، والطبري (18571)، وابن أبي عاصم في " السنة " (170) و (181).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. قلت: فيه سليمان بن سفيان وهو ضعيف.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 475 وزاد نسبته إلى أبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(3) أخرجه أحمد 1/ 27، وأبو داود (4696)، ومسلم (8) (3). ولم يذكر نصه مسلم، وإنما عزاه إلى الحديث الطويل وقال: وفيه شيء من زيادة.(6/214)
عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها"، أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود (1).
ويقارب معناه من كتاب الله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ} [النبأ: 29] كما في التفسير في قوله تعالى في لقمان: {وما تَدْري نَفْسٌ ماذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] وأما آيات الأقدار فقد مضت والله سبحانه أعلم.
السادس: عن عامر بن واثلة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. خرجه مسلم (2).
السابع: عن عمر رضي الله عنه بحديث نحو هذا في تفسير قوله تعالى: {وإذْ أخَذَ ربُّك مِنْ بَني آدمَ} الآية [الأعراف: 172] رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم. وابن حبان في " صحيحه " عن مالك، عن زيد بن أبي أُنيسة، أن [عبد الحميد بن] الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسارٍ الجهني، أن عمر سأل عن هذه الآية {وإذْ أخَذَ ربُّك} [الأعراف: 172] الحديث بطوله كما يأتي في مسألة الأطفال.
وفيه مرفوعاً: " إذا خلق الله العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنة يُدخله به، وإذا خلقه للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل النار، فيدخله به النار " (3).
__________
(1) تقدم تخريجه في 2/ 388، وانظر تخريجه أيضاً في " صحيح ابن حبان " (6174).
(2) الحديث حديث حذيفة بن أسيد الغفاري، رواه عنه عامر بن واثلة.
وسيأتي تخريجه ص 394.
(3) أخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 898 - 899 ومن طريقه أحمد 1/ 44 - 45، وأبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 1148، والطبري في " جامع البيان " (15357)، وفي " التاريخ " 1/ 135، واللالكائي (990)، والآجري =(6/215)
هكذا هو في " الموطأ "، وقال الترمذي: حديثٌ حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وكذا قال أبو حاتم وأبو زرعة، زاد أبو حاتم: وبينهما نُعيم بن ربيعة (1). وكذلك رواه أبو داود من طريق عمر بن خَثْعم، فأدخل بينهما نعيم بن ربيعة (2).
قال الدارقطني وتابع عمر بن خثعم على ذلك أبو فروة يزيد بن سنان الرهاوي، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك (3).
__________
= ص 170، وابن أبي حاتم كما في " تفسير ابن كثير " 2/ 273، وابن حبان (6166)، والحاكم 1/ 27 و2/ 324 - 325 و544 - 545، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 325، والبغوي في " شرح السنة " (77)، وفي " معالم التنزيل " 2/ 211 و544. وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي في الموضع الأول منه بقوله: فيه إرسال، ووافقه في الموضعين الآخرين مع أن فيه مسلم بن يسار الجهني راويه عن عمر لم يرو عنه غير واحد، ولم يوثقه غير ابن حبان والعجلي، وهو من رجال أبي داود والترمذي والنسائي، وأخطأ الألباني في تحقيق " المشكاة " (95). فعدَّه من رجال الشيخين، ثم هو لم يسمع من عمر فيما قاله غير واحد من الأئمة.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلاًَ.
(1) انظر " تفسير ابن كثير " 3/ 503.
(2) أخرجه أبو داود (4704)، والطبري (15358) من طريق عمر بن جُعْثُم، وابن عبد البر في " التمهيد " 6/ 4 و4 - 5 من طريق أبي عبد الرحيم الحراني، كلاهما عن زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، قال: كنت عند عمر بن الخطاب وقد سئل عن هذه الآية ...
(3) نص كلام الدارقطني في " العلل " 2/ 222 لما سئل عن الحديث: يرويه زيد بن أبي أنيسة، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، عن مسلم بن يسار، عن نعيم بن ربيعة، عن عمر. حدث عنه كذلك يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي. وجود إسناده ووصله. قلت: ورواية يزيد هذه أخرجها محمد بن نصر في كتاب " الرد على محمد بن الحنفية " كما في " النكت الظراف " 8/ 113. وذكرها البخاري في " التاريخ الكبير " 8/ 97. =(6/216)
الثامن: عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وكَّل الله بالرَّحم مَلَكاً يقول: أي ربِّ نُطفةٌ، أي ربِّ عَلَقةٌ، أي ربِّ مُضْغَةٌ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها، قال: يا ربِّ أذكرٌ أم أُنثى؟ أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ وكتب ذلك في بطن أمه ". أخرجه البخاري ومسلم (1).
التاسع: عن طاووسٍ قال: أدركت ناساً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: كل شيءٍ بقَدَرٍ، وسمعتُ ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل شيء بقدر حتى العجز والكَيْسُ " (2). خرجه مالك ومسلم في " الصحيح " (3).
__________
= قال الدارقطني: وخالفه مالك بن أنس، فرواه عن زيد بن أبي أنيسة، ولم يذكر في الإسناد نعيم بن ربيعة، وأرسله عن مسلم بن يسار، عن عمر. وحديث يزيد بن سنان متصل، وهو أولى بالصواب والله أعلم. قلت: يزيد بن سنان ضعيف.
وقال الحافظ ابن كثير: الظاهر أن الإمام مالكاً إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمداً لما جهل حال نعيم ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلاَّ في هذا، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيراً من المرفوعات، ويقطع كثيراً من الموصولات، والله أعلم.
وقال ابن عبد البر في " التمهيد " 6/ 3 تعليقاً على حديث مالك: هذا الحديث منقطع بهذا الإسناد، لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب، وزيادة من زاد فيه نعيم بن ربيعة ليست حجة، لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقن، وجملة القول في هذا الحديث أنه حديث ليس إسناده بالقائم، لأن مسلم بن يسار ونعيم بن ربيعة جميعاً غير معروفين بحمل العلم، ولكن معنى هذا الحديث قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها.
قلت: قد تقدم بعض شواهده.
(1) أخرجه أحمد 3/ 148، والبخاري (318) و (3333) و (6595)، ومسلم (2646)، والآجري ص 184.
(2) في (ش): " والكبر "، وهو خطأ.
(3) أخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 899، ومن طريقه أحمد 2/ 110، وابنه عبد الله في =(6/217)
العاشر: عن عامر بن واثلة أنه سمع ابن مسعودٍ يقول: الشقيُّ من شقي في بَطْنِ أُمِّه، والسعيد من وُعِظَ بغيره، وسمع من حُذيفة بن أسيدٍ الغِفاري نحو ذلك (1). أخرجه مسلم في أول الحديث (2)، وقد أشرت إليه بعد حديث ابن مسعود.
الحادي عشر: عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله " فقال: كيف يستعمله؟ قال: " يُوَفِّقُه لعملٍ صالحٍ قبل الموت ".
أخرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح (3).
الثاني عشر: عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الرجل ليعمل الزمن
__________
= " السنة " (748) و (749)، والبخاري في " خلق أفعال العباد " (121)، ومسلم (2655)، وابن حبان (6149)، والآجري ص 213، والبيهقي في " السنن " 10/ 205، وفي " الاعتقاد " ص 135 - 136، والبغوى في " شرح السنة " (73).
وقوله: " العجز " يحتمل أن يكون على ظاهره وهو عدم القدرة، وقيل: هو ترك ما يجب فعله والتسويف به، وتأخيره عن وقته، ويحتمل العجز عن الطاعات، ويحتمل العموم في أمور الدنيا والآخرة. و" الكيس " ضد العجز، وهو النشاط والحذق بالأمور ومعناه: أن العاجز قد قُدِّر عجزه، والكيس قد قُدِّر كيسه.
(1) أخرجه الحميدي (826)، وأحمد 4/ 6 - 7، ومسلم (2644) و (2645)، وابن حبان (6177)، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (1045) و (1046) و (1047)، والآجري ص 182 - 184، والطبراني (3036) ... (3045)، وابن أبي عاصم في " السنة " (177) و (179) و (180).
(2) في الأصلين " حديث ". ومراد المصنف أن مسلماً أخرج قول ابن مسعود في أول حديث عامر بن واثلة.
(3) أخرجه أحمد 3/ 106 و120 و230، والترمذي (2142)، وابن حبان (341)، والآجري ص 185، والحاكم 4/ 339 - 340، والبغوي (4098) من طرق عن حميد، عن أنس. وصححه الحكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو كما قالا.(6/218)
الطويلَ بعمل أهل الجنة، ثم يُخْتَمُ له عمله بعمل أهل النار، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، ثم يُختم له عمله بعمل أهل الجنة ". أخرجه مسلم (1).
الثالث عشر: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله خلق خلقه في ظُلمةٍ، فألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضَلَّ، فلذلك أقول: جَفَّ القلم على علم الله ". أخرجه الترمذي، وأحمد، والبيهقي، والبزار، والطبراني (2).
وقال الهيثمي (3): أحد إسنادي أحمد رجاله ثقات.
الرابع عشر: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن القوي خيرٌ من المؤمن الضعيف وأحب إلى الله، وفي كُلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن (4) بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ لكان كذا، ولكن قل: قَدَرُ الله وما شاء (5) فعل، فإن " لو" تفتح عمل الشيطان ". أخرجه مسلم (6).
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 484 - 485، ومسلم (2651)، وابن أبي عاصم (218)، وابن حبان (6176).
(2) حديث صحيح. أخرجه أحمد 2/ 176 و197، والترمذي (2642)، وابن أبي عاصم (241) و (242)، وابن حبان (6169) و (6170)، والبزار (2145)، والآجري ص 175، واللالكائي (1077) و (1078) و (1079)، والحاكم 1/ 30. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(3) في " مجمع الزوائد " 7/ 193 - 194.
(4) في (أ): واستغن.
(5) في (أ): وما شاء الله.
(6) أخرجه أحمد 2/ 366 و370، ومسلم (2664)، وابن ماجه (79) و (4168)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (623) و (624)، وابن أبي عاصم في " السنة " (356)، =(6/219)
الخامس عشر: عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من سعادة المرء رضاه بما قضى الله، ومن شقاوته سَخَطُه بما قضى ". أخرجه الترمذي، وقال: غريب (1).
السادس عشر: عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " حاجَّ آدمُ موسى، قال: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك، فقال آدم لموسى: أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمرٍ كتبه الله علي قبل أن يخلقني، أو قدَّره علي قبل أن يخلقني "، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فحجَّ آدمُ موسى " (2).
أخرجه البخاري، ومسلم، ومالك في " الموطأ "، والترمذي، وقال: حسن غريب من حديث سليمان التيمي، عن الأعمش، وفي الباب عن عمر وجندب،
__________
= والطحاوي في " مشكل الآثار " (259) و (260) و (261) و (262)، وابن حبان (5721) و (5722)، وأبو نعيم في " الحلية " 10/ 296، والخطيب في " تاريخه " 12/ 223، والبيهقي في " السنن " 10/ 89، وفي " الأسماء والصفات " 1/ 263، والمزي في " تهذيب الكمال " 9/ 135.
(1) أخرجه الترمذي (2151)، وأحمد 1/ 168، والحاكم 1/ 518 من طريقين عن محمد بن أبي حميد، عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، عن جده.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث محمد بن أبي حميد، ويقال له أيضاً: حماد بن أبي حميد، وهو أبو إبراهيم المدني، وليس بالقوي عند أهل الحديث!
قلت: ومع ذلك فقد أورده الحافظ في " الفتح " 11/ 187، ونسبه إلى أحمد وحسن إسناده، وقد وجدتُ له طريقاً آخر ربما ينتهض به، فقد أخرجه أبو يعلى (701) من طريق عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله، عن إسماعيل بن محمد، عن أبيه، عن جده سعد رفعه " إن من سعادة المرء استخارته لربه ورضاه بما قضى، وإن شقاوة العبد تركه الاستخارة، وسخطه بما قضى "، وعبد الرحمن بن أبي بكر وإن كان ضعيفاً، قال ابن عدي: هو في جملة من يكتب حديثه.
(2) تقدم تخريجه في 1/ 218.(6/220)
وقد روى بعضُ أصحاب الأعمش هذا عنه، عن أبي صالحٍ عن أبي سعيد، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقد روي هذا الحديث من غير وجهٍ عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - (2). وبوَّب (3) عليه باب حجاج آدم وموسى.
فقوله: وفي الباب عن عمر وجُندب يدل على عدم تفرُّد أبي هريرة بهذا الحديث.
وذكر ابن كثير في الأول من " البداية والنهاية " (4): أنه متواتر عن أبي هريرة، وذكر من طرقه الجمة ما يُصدِّقُ ذلك، ثم ذكر له شواهد عن غير أبي هريرة.
ولا حجة لنفاة القدر في مَلام موسى لآدم، لأنه كان في ذلك كالناسي الغافل عن تذكُّر القدر، لا أنه جاحدٌ له، ولذلك لما ذكَّرَه آدم لم ينكره.
وقد تقدم أن وجهه أنه لامه على خروجه من الجنة وإخراج ذريته، وكل ذلك من فعل الله تعالى لا ذنب فيه له، لأنه عقوبة ذنبه، ولو شاء الله ما عاقبه لا سيما وذنوب الأنبياء صغائر، ولا حجة للعصاة في القدر إجماعاًً والله أعلم.
السابع عشر: ذكر الهيثمي من شواهد حديث أبي هريرة حديث جندب مرفوعاً بنحوه. قال: رواه أبو يعلى وأحمد بنحوه، والطبراني ورجاله رجال الصحيح (5).
__________
(1) وسيأتي تخريجه في الصفحة الآتية.
(2) انظر " صحيح " ابن حبان (6179) و (6180) و (6210) بتحقيقنا.
(3) أي: الترمذي.
(4) 1/ 75 - 79.
(5) أخرجه أحمد 2/ 464، وأبو يعلى (1521) و (1528)، والطبراني في " الكبير " (1663)، وابن أبي عاصم في " السنة " (143) من طريق حماد بن سلمة، عن حميد، عن =(6/221)
الثامن عشر: عن أبي سعيدٍ مرفوعاً نحوه، رواه أبو يعلى والبزار، ورجاله رجال الصحيح (1).
التاسع عشر: عن عمر بن الخطاب نحوه، كما أشار إليه الترمذي (2).
العشرون: عن أبي هريرة: شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر، فقال لرجل ممن معه يدَّعي الإسلام: " هذا من أهل النار " فلما حضر القتال، قاتل الرجل من أشد القتال، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: " أما إنه من أهل النار " فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فبينما هو كذلك وجد الرجل ألم الجِراح، فأهوى بيده إلى كِنانته، فانتزع منها سهماً فانتحر به، فأُخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لبلال: " قم فأذِّن لا يدخل الجنة إلاَّ مؤمنٌ، وإن الله ليُؤَيِّدُ هذا الدين بالرجل الفاجر ".
وفي رواية قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبد ليعمل عمل أهل النار وهو من أهل
__________
= الحسن البصري، عن جندب وغيره، ورجاله ثقات، إلاَّ أن فيه عنعنة الحسن.
وقد انفرد عبد الله بن سوار بزيادة في الإسناد عند الخطيب 4/ 349، فرواه عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن، عن أنس، عن جندب أو غيره.
(1) أخرجه البزار (2147) من طريق الفضل بن موسى، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد مرفوعاً.
وأخرجه (2148) من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أو أبي سعيد الخدري.
وأخرجه أبو يعلى (1204) من طريق وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد موقوفاً.
قلت: وأسانيد هذه الطرق صحاح.
(2) وأخرجه أبو داود (4702)، وأبو يعلى (243) من طريقين عن ابن وهب، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب. وهذا إسناد حسن.
وأخرجه أبو يعلى (244)، والبزار (2146)، والهروي في " الأربعين " (22) من طريقين عن يحيى بن يعمر، عن ابن عمر، عن عمر.(6/222)
الجنة، ويعملُ عمل أهل الجنة وهو من أهل النار، فإنما الأعمال بالخواتيم".
خرجه البخاري في باب القدر (1).
الحادي والعشرون: عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يأتي ابن آدم النَّذْرُ بشيء لم يكن قد قدَّرته، ولكن يلقيه القدر وقد قدرته له، أستخرج به من البخيل "، أخرجه البخاري في القدر (2).
الثاني والعشرون: عن أبي سعيد عنه - صلى الله عليه وسلم -: " المعصوم من عصم الله ".
خرجه البخاري فيه (3).
الثالث والعشرون: عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العين النظر، وزنى اللسان النُّطق، والنفس تَمَنَّى وتشتهي، والفرج يُصَدِّق ذلك ويُكَذِّبُه "، خرجه البخاري (4).
__________
(1) تقدم تخريجه في 5/ 311 من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي.
(2) أخرجه الحميدي (1112)، وأحمد 2/ 242، و373 و412 و463، والبخاري (6609) و (6694)، ومسلم (1640)، والترمذي (1538)، وأبو داود (3288)، والنسائي 7/ 16 و16 - 17، وابن ماجه (2123)، وابن أبي عاصم في " السنة " (312) و (313)، والطحاوى في " مشكل الآثار " 1/ 364، وابن الجارود (932)، وابن حبان (4376)، والحاكم 4/ 304، والبيهقي 10/ 77.
(3) وهو بتمامه: " ما استُخلف خليفةٌ إلاَّ له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشرِّ وتحضُّه عليه، والمعصوم من عصم الله ".
أخرجه أحمد 3/ 39، والبخاري (6611) و (7198)، والنسائي 7/ 158 وفي " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 3/ 494، وأبو يعلى (1228)، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " 3/ 22، وابن حبان (6192)، والبيهقي 10/ 111.
(4) أخرجه أحمد 2/ 276 و317 و344 و372 و379 و431 و528 و535 و536، والبخاري (6243) و (6612)، ومسلم (2657)، وأبو داود (2153) و (2154)، والطحاوي في " شرح مشكل الآثار " 3/ 298، وابن حبان (4420) و (4421) و (4423)، والبيهقي =(6/223)
الرابع والعشرون: حديث المغيرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا مَعطِيَ لما منعتَ ". خرجه البخاري (1).
الخامس والعشرون: حديث ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يَحْلِفُ: لا ومُقَلِّبَ القلوب ". خرَّجه البخاري (2)، وترجم الباب بقوله تعالى: {يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
السادس والعشرون: حديث ابن عمر، أن عمر قال: ائذنْ لي، فأضْرِبَ عُنُقَه، يعني: ابن صَيَّاد، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يكن هو -يعني: الدجَّال- فلا تُطيقُه ". خرجه البخاري (3).
__________
= 7/ 89 و10/ 185 - 186.
(1) أخرجه عبد الرزاق (4224)، والحميدي (762)، وابن أبي شيبة 10/ 231، وأحمد 4/ 250 و251 و254، والدارمي 1/ 311، والبخاري (844) و (1477) و (2408) و (5975) و (6330) و (6473) و (6615) و (7292)، ومسلم (593)، والنسائي 3/ 70 و71، وفي " عمل اليوم والليلة " (129) و (130)، وأبو داود (1505)، وابن خزيمة (742)، وأبو عوانة 2/ 243 و244، والطبراني 20/ (896) و (897) و (898) و (899) و (906) و (907) و (908) و (909) و (910) و (911) و (912) و (914) و (915) و (916) و (917) و (918) و (919) و (920) و (924) و (925) و (926) و (927) و (928) و (929) و (931) و (932) و (933) و (934) و (935) و (936) و (937) و (938)، وفي " الدعاء " (683) - (704)، وعبد بن حميد (390) و (391)، وابن حبان (2005) و (2006) و (2007)، والبيهقي 2/ 185، والبغوى في " شرح السنة " (715).
(2) أخرجه أحمد 2/ 25 - 26 و67 و68 و127، والدارمي 2/ 187، والبخاري (6617) و (6628) و (7391)، والترمذي (1540)، والنسائي 7/ 2 و2 - 3، وابن ماجه (2093)، وابن حبان (4332)، والطبراني (13163) و (13164) و (13165) و (13166)، والبيهقي 10/ 27.
(3) أخرجه أحمد 2/ 148 و149، والبخاري (1354) و (3055) و (6173) و (6618)، ومسلم (2930)، وأبو داود (4329)، والترمذي (2250)، وابن منده في =(6/224)
السابع والعشرون: حديث عائشة أنها سألت رسول - صلى الله عليه وسلم - عن الطاعون؟ فقال: " كان عذاباً يَبْعَثُه الله على من يشاء من عباده، فجعله الله رحمةً للمؤمنين، ما مِنْ مُؤمنٍ يكون في بلدٍ يكون فيه، فيمكُثُ فيه صابراً مُحْتَسٍباً، يعلم أنه لا يُصيبه إلاَّ ما كتب الله له إلاَّ كان له مثل أجر شهيدٍ ". خرجه البخاري (1).
الثامن والعشرون: حديث البراء بن عازب، قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقُلُ التراب معنا، وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تَصَدَّقْنا ولا صَلَّيْنَا
فأَنْزِلَنْ سكينةً علينا ... وثَبِّت الأقدام إنْ لاقَيْنا
والمشركون قدْ بَغَوْا علينا ... إذا أرادُوا فِتنةً أبَيْنا
أخرجه البخاري (2).
التاسع والعشرون: حديث أنسٍ أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ أن يقول: " يا مُقَلِّبَ القلوب ثبتْ قلبي على دينك " (3). خرجه الترمذي من رواية أبي سفيان، اختلف عليه، قيل: عن أنس، وقيل: عن جابر. قال الترمذي: وحديثه عن أنس أصحُّ (4).
الثلاثون: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج علينا رسولُ الله
__________
= " الإيمان " (1040)، وابن حبان (6785).
(1) أخرجه أحمد 6/ 64 و154 و252، والبخاري (3474) و (5734) و (6619).
(2) أخرجه الطيالسي (712)، وأحمد 4/ 285، والدارمي 2/ 221، والبخاري (2836) و (2837) و (3034) و (4104) و (4106) و (6620) و (7236)، ومسلم (1803)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 2/ 54، وأبو يعلى (1716)، وابن حبان (4535)، والبيهقي 7/ 43، والبغوي (3792).
(3) تقدم تخريجه في 2/ 272.
(4) تحرفت في (أ) و (ف) إلى: واضح.(6/225)
- صلى الله عليه وسلم -، وفي يده كتابان فقال: " أتدرون ما هذان الكتابان؟ " فقلنا: لا يا رسول الله، إلا أن تخبرنا، فقال للذي في يده اليمنى: " هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة، وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أُجْمِل على آخرهم لا يُزاد فيهم، ولا ينقُصُ منهم أبداً " ثم قال للذي في شِماله: " هذا كتابٌ من رب العالمين فيه أسماءُ أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أُجمل على آخرهم لا يزيد فيهم ولا ينقص منهم أبداً " فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان قد فُرِغَ منه؟ فقال: " سدِّدوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عَمِلَ أيَّ عملٍ، وإن صاحب النار يُختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أيَّ عملٍ " ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيديه فنبذهما، ثم قال: " قد فرغ ربكم من العباد فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير ".
خرجه الترمذي (1)، قال: وفي الباب عن [ابن] عمر، وهذا حديث حسن
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 167، والترمذي (2141)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة "، والآجري في " الشريعة " ص 173 - 174، وعثمان بن سعيد الدارمي في " الرد على الجهمية " ص 79 - 80، وابن أبي عاصم (348)، وأبو نعيم في " الحلية " 5/ 168 - 169 من طرق عن أبي قبيل حُيي بن هانىء، عن شُفي بن ماتع عن عبد الله بن عمرو.
قلت: وأبو قبيل: وثقه غير واحد، وقال ابن معين في رواية عثمان بن سعيد الدارمي: ثقة، وضعفه في رواية الساجي، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: كان يخطىء، وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق يهم، وقال في " تعجيل المنفعة " ص 277: ضعيف لأنه كان يكثر النقل عن الكتب القديمة.
قلت: هو حسن الحديث، إلاَّ أن في حديثه هذا نكارة، فقد قال الذهبي في " الميزان " 2/ 684 فيه وقد رواه من حديث عبد الله بن عمر بنحوه .. وسيرد عند المؤلف ص 429 - 430: هو حديث منكر جداً، ويقضي أن يكون له زنة الكتابين عدة قناطير.
وقال العلامة علي القاري في " شرح المشكاة " 1/ 142 تعليقاً على قوله: " ما هذان الكتابان ": الظاهر من الإشارة أنهما حسيان، وقيل: تمثيل واستحضار للمعنى الدقيق الخفي في مشاهدة السامع حتى كأنه ينظر إليه رأي العين، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لما كُوشف له بحقيقة هذا =(6/226)
صحيح (1).
الحادي والثلاثون: حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب. ذكره الهيثمي (2) مرفوعاً بنحو الأول، وقال: رواه الطبراني من حديث ابن مجاهد عن أبيه (3).
الثاني والثلاثون: ذكره الهيثمي عن البراء بن عازب مرفوعاً، رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق الهُذيل بن بلال " (4).
الثالث والثلاثون: عن عبد الله بن بُسر (5): خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبسط يمينه، ثم قبضها، ثم قال: " أهل الجنة بأسمائهم " إلى آخره، لم يصرح بذكر الكتاب. رواه الطبراني من طريق عبد الرحمن بن أيوب السَّكوني وبَقِيَّة (6).
__________
= الأمر، وأطلعه الله عليه إطلاعاً لم يبق معه خفاء، صوَّر الشيء الحاصل في يده، وأشار إليه إشارة إلى المحسوس.
وقوله: " ثم أجمل على آخرهم " قال ابن الأثير: بالجيم والميم واللام، وبالبناء لما لم يسم فاعله، وهو من قولهم: أجملت الحساب، إذا جمعت آحاده، وكملت أفراده، أي: أُحصوا وجمعوا، فلا يزاد فيهم ولا ينقص. وانظر حديث عبد الله بن عمر الآتي ص 429 - 430.
(1) في النسخ المطبوعة من " سنن الترمذي " وفي " تحفة الأشراف " 6/ 343: وهذا حديث حسن صحيح غريب.
(2) في " المجمع " 7/ 187 وقال: ولم أعرف ابن مجاهد، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قلت: وهو في " معجم الطبراني الكبير " برقم (13568).
(3) تحرفت في (ش) إلى: أمه.
(4) أخرجه الطبراني في " الأوسط " (1470) من طريق محمد بن جهضم، عن الهذيل بن بلال، عن أبي الأصبغ، عن زاذان، عن البراء. والهذيل بن بلال: ضعيف كما ذكر الهيثمي في " المجمع " 7/ 188.
(5) في (أ) و (ش): عبد الله بن قيس، والمثبت من " مجمع الزوائد ".
(6) ذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 187 وقال: رواه الطبراني، وفيه عبد الرحمن بن أيوب السكوني روى حديثاً غير هذا، فقال العقيلي فيه: لا يتابع عليه، فضعفه الذهبي من =(6/227)
الرابع والثلاثون: حديث أبي عزَّة يسار بن عبدٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قضى الله لعبدٍ أن يموت بأرضٍ جعل له إليها -أو قال: بها- حاجةً ".
خرجه الترمذي، وقال: حديث صحيح (1).
الخامس والثلاثون: مثل الأول، أخرجه الترمذي من طريق مَطَر بن عُكَامِسٍ الصحابي، وقال: حسن غريب (2).
السادس والثلاثون: حديث الزهري، عن أبي خِزامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن رجلاً قال له: يا رسول الله، أرأيت رُقىً نَسْتَرْقي بها (3)، ودواءً نتداوى به، وتُقاةً نتقيها يرد ذلك من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله " (4).
__________
= عند نفسه، لكن في إسناده بقية، وهو متكلم فيه بغير هذا الحديث أيضاً.
(1) أخرجه أحمد 3/ 429، والترمذي (2147)، والبخاري في " الأدب المفرد " (1282)، وأبو يعلى (927)، والبزار (2154)، وابن حبان (6151)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1392) و (1393) و (1394)، والطبراني في " الكبير " 22/ (706) و (707) و (708)، وابن عدي في " الكامل "، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 374، والحاكم 1/ 42، وابن الأثير في " أسد الغابة " 6/ 213 من طريق أبي المليح بن أسامة، عن أبي عزة، وقال بعضهم: عن رجل من قومه وكانت له صحبة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، ورواته عن آخرهم ثقات.
(2) أخرجه أحمد 5/ 227، والترمذي (2146)، والطبراني في " الأوسط " (2617)، والحاكم 1/ 42 من طرق عن سفيان الثوري، والحكم 1/ 42 من طريق أبي حمزة، كلاهما عن أبي إسحاق، عن مطر بن عكامس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، فقد اتفقا جميعاً على إخراج جماعة من الصحابة ليس لكل واحد منهم إلاَّ راوٍ واحد.
(3) في (أ): " يسترقيها " وكتب فوقها: يسترقي بها.
(4) ضعيف. أخرجه الترمذي (2065)، وابن ماجه (3437) من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه مرفوعاً. =(6/228)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= أخرجه الترمذي أيضاً (2065) عن ابن أبي عمر، عن سفيان، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه مرفوعاً.
قال الترمذي: هذا حديث حسن! وقد رُوي عن ابن عيينة كلتا الروايتين، فقال بعضهم: عن أبي خزامة، عن أبيه، وقال بعضهم: عن ابن أبي خزامة، عن أبيه، وقد روى غير ابن عيينة هذا الحديث عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه، وهذا أصح، ولا نعرف لأبي خزامة غير هذا الحديث.
قلت: في " التقريب ": ابن أبي خزامة عن أبيه، وقيل: عن أبي خزامة عن أبيه -وهو الصحيح- مجهول.
وفي " التهذيب ": أبو خزامة السعدي أحد بني سعد بن الحارث بن هذيم، روى حديثه الزهري عن ابن أبي خزامة، عن أبيه ... وقيل: عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه.
قلت (القائل ابن حجر): صوابه أحد بني الحارث بن سعد بن هذيم، كذا جاء مصرحاً به في رواية الحاكم في " المستدرك " 4/ 199 لهذا الحديث من طريق الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه، وهو الصواب. (قلت: وقد تحرف في المطبوع من " المستدرك ": " أحد بني " إلى: حدثني). وقال مسلم في الطبقة الأولى من أهل المدينة في التابعين: أبو خزامة بن يعمر، وقال ابن عبد البر: أبو خزامة ذكره بعضهم في الصحابة لحديث أخطأ فيه راويه عن الزهري، وهو تابعي، وحديثه مضطرب.
ورواه الطبراني (5468) من طريق الزهري في " المجمع " 5/ 85: والحارث لم أعرفه! وبقية رجاله رجال الصحيح غير أبي خزامة.
قلت: في رواية الطبراني تحريف في قوله: " عن الحارث " والصواب عن أبي خزامة أحد بني الحارث. قال ابن الأثير في " أسد الغابة " 2/ 379، والحافظ في " الإصابة " 2/ 122: وقد رواه على الصواب: الليث بن سعد، وابن المبارك، وسليمان بن بلال، عن يونس، عن الزهري، عن أبي خزامة أحد بني الحارث بن سعد، عن أبيه. قال الحافظ: والمراد بقوله: " أحد بني الحارث بن سعد " أنه من ذريته، لا أنه ولده لصلبه.
وقد تنبه لهذا التحريف ابن عبد البر في " التمهيد "، فأخرجه من طريق ابن عيينة، عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه، ثم نقل عن إسماعيل القاضي أنه اختلف فيه على يونس، فقال سليمان بن بلال: عنه، عن الزهري، عن أبي خزامة أحد بني الحارث بن سعد، عن =(6/229)
السابع والثلاثون: عن عليٍّ رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الدعاء يرُدُّ القضاء " (1). خرجه السيد أبو طالب في " الأمالي " وقال: تأويله أن يكون القضاء مشروطاً بترك الدعاء، وهذا الذي ذكره هو الذي أراده أهل السنة.
الثامن والثلاثون: نحو الأول عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يرد القضاء إلاَّ الدعاء ". خرجه الترمذي (2)، وقال: وفي الباب عن أسيد، وقال: حديث حسن غريب.
التاسع والثلاثون: عن أبي هريرة، قال: جاء مشركو قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخاصمون في القدر، فنزلت هذه الآية: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]. رواه
__________
= أبيه أنه سأل، وقال عثمان بن عمر، عن أبي خزامة أن الحارث بن سعد أخبره به قال إسماعيل: والصواب قول سليمان.
وأخرجه الحاكم 1/ 32 و4/ 199، والطبراني (3090) من طريق صالح بن أبي الأخضر -وهو ضعيف- عن الزهري، عن عروة، عن حكيم بن حزام.
وأخرجه الحاكم 1/ 32 من طريق مسدَّد، عن يزيد بن زريع، عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن حكيم بن حزام، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ثم لم يخرجاه، وقال مسلم في تصنيفه فيما أخطأ معمر بالبصرة: إن معمراً حدَّث به مرتين، فقال مرة: عن الزهري، عن ابن أبي خزامة، عن أبيه.
قلت: وأخرجه عبد الرزاق (19776) عن معمر، عن الزهري قال: قال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1) تقدم تخريجه من حديث عائشة، وأبي هريرة، وثوبان، وابن عمر، ومعاذ ص 321.
(2) رقم (2139). وأخرجه الطحاوي في " المشكل " 4/ 169، والقضاعي في " مسند الشهاب " (832) و (833) وفي سنده أبو مودود -واسمه فِضَّة- ضعيف، لكن الحديث يتقوى بشواهده التي تقدم تخريجها ص 321.(6/230)
الترمذي (1)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قال ابن العربي في " شرح الترمذي ": صحيح صحيح (2).
الأربعون: حديثُ الاستخارة، وفيه " فاقدُرْهُ لي ويَسِّرْهُ لي ". خرجه البخاري (3).
الحادي والأربعون: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ". خرجه مسلم، والترمذي، وفي الترمذي: " قدَّر الله المقادير " (4).
الثاني والأربعون: عن أبي عثمان (5) مولى أبي هاشم، قال: سألت أبا هريرة عن القدر، فقال: اكتفِ منه بآخِرِ سورة الفتح: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
__________
(1) رقم (3290). وأخرجه أحمد 2/ 444 و476، ومسلم (2656)، وابن ماجه (83)، والطبري في " تفسيره " 27/ 110، والبغوي (81).
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 682 - 683 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه.
(2) 8/ 296.
(3) تقدم تخريجه. وانظر " صحيح ابن حبان " (887).
(4) أخرجه مسلم (2653)، والترمذي (2156). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (6138).
(5) كذا في (أ) و (ش): " أبو عثمان "، وهو كذلك في " جامع الأصول " 10/ 133 والصواب أبو عمرو أو أبو عمر، واسمه عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم المكي، احتج به مسلم، ووثقه أحمد وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: مات في ولاية خالد بن عبد الله القسري.(6/231)
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] فنعتهم قبل أن يخلقهم بما عَلِمَ أنهم يكونون عليه إذا خلقهم، وقال تعالى فيهم: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} [الفتح: 29]. رواه النسائي (1).
الثالث والأربعون: عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها في أصلاب آبائهم ". أخرجه أبو داود، ومسلم، والنسائي (2).
الرابع والأربعون: عن ابن عباس، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن أولاد المشركين، فقال: " الله إذ خلقهم، أعلم بما كانوا عاملين ". خرجه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي (3).
الخامس والأربعون: عن أبي هريرة مرفوعاً مثله.
خرجه البخاري، ومسلم، والنسائي (4).
__________
(1) كذا في الأصلين رواه النسائي، وهو خطأ، فليس هو في النسائي، لا في " الصغرى " ولا في " الكبرى "، ولم يرد له ذكر في " تحفة الأشراف "، وقد أورده ابن الأثير في " جامع الأصول " 10/ 133 - والمصنف ينقل عنه- فقال بإثره: " أخرجه "، ولما يزد على ذلك، ويغلب على ظني أنه من زيادات رزين العبدري. وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 543 ونسبه إلى أبي عبيد، وأبي نعيم في " الحلية "، وابن المنذر.
(2) أخرجه مسلم (2662)، وأبو داود (4713)، والنسائي 4/ 57، وابن ماجه (82)، والطيالسي (1574)، وأحمد 6/ 41 و208، وابن حبان (138) و (6173)، والآجري ص 195 - 196.
(3) أخرجه البخاري (1383) و (6517)، ومسلم (2660)، وأبو داود (4711)، والنسائي 4/ 59.
(4) أخرجه عبد الرزاق (20077)، وأحمد 2/ 259 و268 و471، والبخاري (1384) و (6600)، ومسلم (2659)، والنسائي 4/ 58، وابن حبان (131)، والآجري ص 194.(6/232)
ووجه إدخال هذه الأحاديث في القدر ما فيها من ذكر علم الله بأعمال الأطفال، والاحتجاج بذلك على أنهم كما علم الله سبحانه، وأما معانيها، فسيأتي الكلام عليها (1) في الوهم التاسع والعشرين.
السادس والأربعون: عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه هذا الدعاء: " اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولَّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذِلُّ من واليت، ولا يَعِزُّ من عاديت، تباركت وتعاليت ".
رواه أهل السنن الأربعة، والحاكم في " المستدرك " (2)، ورواه الإمام الهادي في " الأحكام "، والسيد أبو طالب في " الأمالي ".
السابع والأربعون: عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: " واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيءٍ، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك، لم يضروك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام، وجفَّت الصُّحُف ".
رواه النواوي في " الأربعين " (3).
__________
(1) في (أ): " عليهم "، وهو خطأ.
(2) أخرجه أبو داود (1425)، والترمذي (464)، والنسائي 3/ 248، وابن ماجه (1178)، والحاكم 3/ 172. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (945).
(3) وهو الحديث التاسع عشر منه. وأخرجه أحمد 1/ 293 و303 و307، والترمذي (2516) من طرق عن قيس بن الحجاج، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الحافظ ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " 1/ 460 - 461 بتحقيقنا: وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة ... وأصح الطرق كلها حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قاله ابن منده وغيره.(6/233)
الثامن والأربعون: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: من زعم أن الله يشاء لعباده الطاعة، فلم تنفذ مشيئة الله، وشاء لهم إبليس المعصية، فنفذت مشيئة إبليس، فقد وَهَّن الله في ملكه، وجوَّرَه في حُكمه.
رواه الإمام أحمد (1) بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وكان أحمد بن عيسى من قدماء أئمة أهل البيت، وذكر محمد بن منصور: أنه ممن أُجْمِعَ على فضله، وكان يُسمَّى فقيه آل محمد - صلى الله عليه وسلم -.
التاسع والأربعون: عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن رجلاً سأله عن القدر؟ فقال: طريقٌ وَعْرٌ فلا تسلُكْهُ، فقال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ فقال: بحرٌ عميقٌ فلا تَلِجْهُ، قال: فسكت الرجل ساعة، ثم قال: يا أمير المؤمنين، ما تقول في القدر؟ قال: سِرُّ الله فلا تُفْشِهِ (2).
رواه الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان ممن أجمع على فضله وعلمه، ذكره محمد بن منصور.
ورواه مُحِبُّ أهل البيت محمد بن منصور الكوفي في كتابه " كتاب الجُملة والأُلفة ".
الخمسون: ما رواه محمد بن منصور رحمه الله أيضاً، فقال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا أبو حفص عمر القزاز، عن جعفرٍ، يعني: الصادق، عن أبيه، يعني: الباقر عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول: "سبق العلم، وجفَّ القلم، ومضى القضاء وتم القدرُ بتحقيق
__________
(1) تقدمت ترجمته في 3/ 458.
(2) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 202، واللالكائي 4/ 629.(6/234)
الكتاب، وتصديق الرسل، وما العباد عاملون، وبالسعادة من الله، لمن آمن واتقى، وبالشقاء من الله لمن كذَّب وكَفَرَ، وبالولاية من الله للمؤمنين، وبالبراءة من المشركين ... إلى آخر الحديث.
وقد تقدم بيانه في مسألة المشيئة.
الحادي والخمسون: ما رواه محمد بن منصور أيضاً بإسناده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أعمال العباد كلها على مشيئة الله وإرادته ".
الثاني والخمسون: عن محمد بن منصور رحمه الله أنه قال: بلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسِك ما تشاء، ويإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد " إلى آخر الحديث بطوله.
وروى الإمام الحسن بن يحيى عليه السلام بعضه بلا إسناد، وقال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: ألا إن أبغض خلق الله إلى الله تعالى عبدٌ وَكَلَهُ الله إلى نفسه.
خرَّج هذه الأحاديث الخمسة السيد الشريف الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الرحمن الحسني العلوي في كتابه " كتاب الجامع الكافي " في مذهب أحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، والقاسم بن إبراهيم من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومذهب محبهم محمد بن منصور رحمه الله، وهو في الغالب من أنفس كتب أهل البيت عليهم السلام.
وروى ابن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " بسنده أن رجلاً قال: يا أمير المؤمنين أتيتك من بلدةٍ ما رأيت لك بها مُحبّاً، يعنى: البصرة، فقال عليه السلام: لو يستطيعون أن يُحبوني لأحَبُّوني، إني وشيعتي في ميثاق الله لا يُزاد فينا ولا يُنْقَصُ إلى يوم القيامة.(6/235)
رواه في شرح قوله عليه السلام: أما إنه سيظهر عليكم رجلٌ رحب البلعوم ... إلى آخره، وفي ذكر المنحرفين عنه عليه السلام.
الثالث والخمسون: عن عِمران بن حُصين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، ثم كتب جل ثناؤه في الذكر كل شيءٍ، ثم خلق السماوات والأرض ". رواه البخاري (1).
الرابع والخمسون: عن ابن عباس: " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتُبْ، فقال: يا ربِّ وما أكتب؟ قال: اكتب القدر ما هو كائنٌ من ذلك إلى قيامِ الساعة ". رواه البيهقي في " الأسماء والصفات "، وله طرق تأتي، فهو حديث قوي (2).
__________
(1) أخرجه البخاري (3191) و (7418). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (6140) و (6142) وقد أخطأ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فهم هذا الحديث، وفسره تفسيراً يوافق ما انفرد به من القول بالقدم النوعي، وعدَّ ذلك العلماء من مستشنع المسائل المنسوبة إليه. انظر " فتح الباري " 13/ 410.
(2) أخرجه الآجري ص 85، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 378، والطبري في " جامع البيان " 29/ 14 من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس.
وأخرجه الطبري 29/ 15، والطبراني (12227)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (871) و (894)، والآجري ص 84 من طريق جرير ومحمد بن فضيل وحماد بن زيد، عن عطاء، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس.
وأخرجه الآجري ص 85، والحاكم 1/ 453 - 454 من طريق عطاء بن السائب عن مقسم، عن ابن عباس بنحوه.
وأخرجه الطبري 29/ 15 من طريق ثابت البناني، عن ابن عباس. كلهم رووه عنه موقوفاً إلا في رواية حماد بن زيد، فقال الطبراني: لم يرفعه عن حماد بن زيد إلاَّ مؤمل بن إسماعيل. قلت: وهو سيىء الحفظ.
وأخرجه أبو يعلى (2329)، والطبري 29/ 16، وعبد الله بن أحمد في " السنة " =(6/236)
الخامس والخمسون: من " مجمع الزوائد " للهيثمي عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كَتِفَه اليُمنى، فأخرج ذُرِّيَّة بيضاء كأنهم الدُّرُّ، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء، كأنهم الحُمَم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أُبالي، وقال للذي في اليسرى: إلى النار ولا أبالي ". رواه أحمد، والبزار، والطبراني ورجاله ثقات (1).
والسادس والخمسون: عن أبي نضرة، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (2).
والسابع والخمسون: عن عبد الرحمن بن قتادة السُّلمي عنه - صلى الله عليه وسلم -، زاد: فقال رجل: فعلى ماذا نعمل يا رسول الله؟ قال: " على مواقع القدر " (3) رواه
__________
= (854)، والطبراني (12500)، والبيهقي في " السنن " 9/ 3، وفي " الأسماء والصفات " ص 378 من طرق عن عبد الله بن المبارك، عن رباح بن زيد، عن عمر بن حبيب، عن القاسم بن أبي بَزَّة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعاً. وقال ابن كثير في " تفسيره " 4/ 429: غريب من هذا الوجه ولم يخرجوه. وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 190، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات، وهو كما قال.
(1) أخرجه أحمد 6/ 441، وابنه في " زوائده "، والبزار (2144) من طريق الهيثم بن خارجة، عن سليمان بن عُتبة، عن يونس بن ميسرة، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء. وقال البزار: وإسناده حسن. وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/ 185 وقال: ورجاله رجال الصحيح. قلت: كذا قال مع أن سليمان بن عتبة لم يخرجا له ولا أحدهما، وإنما هو من رجال ابن ماجه، وهو صدوق له غرائب، ويونس بن ميسرة روى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وهو ثقة.
(2) أخرجه أحمد 4/ 176 - 177 و5/ 68 من طريقين عن حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة. وإسناده صحيح، حماد بن سلمة سمع من الجريري قبل الاختلاط.
(3) أخرجه أحمد 4/ 186، وابن سعد 1/ 30 و7/ 417، والحاكم 1/ 31، وابن الأثير في " أسد الغابة " 3/ 489 من طريق معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن عبد =(6/237)
أحمد، ورجاله ثقات، وخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال فيه: على موافقة القدر، وقال: صحيح اتفقا على رواته إلاَّ الصحابي.
والثامن والخمسون: عن أنسٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه أبو يعلى من طريق الحكم بن سنان الباهلي (1).
__________
= الرحمن بن قتادة. وقول الحكم: صحيح قد اتفقا على الاحتجاج برواته عن آخرهم إلا الصحابي فيه نظر، فإن معاوية بن صالح لم يرو له البخاري، وإنما هو من رجال مسلم، وشيخه راشد بن سعد لم يخرجا له ولا أحدهما، وهو من رجال أصحاب السنن، وهو ثقة.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 186 ونسبه إلى أحمد وقال: ورجاله ثقات. وقال الحافظ في " الإصابة " 2/ 411: عبد الرحمن بن قتادة السلمي: قال ابن منده: يعد في الحمصيين، ذكره البغوي، وابن قانع، وابن شاهين، وابن حبان، وغيرهم من الصحابة، وأخرج حديثه أحمد، وابن منيع، والطبراني في مسانيدهم، كلهم من طريق الليث عن معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الله خلق آدم ثم أخذ ذريته من ظهره فقال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي " فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: " على مواقع القدر " أخرجه ابن شاهين من رواية معن بن عيسى، عن معاوية بن صالح، عن راشد، عن عبد الرحمن بن قتادة وكان من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكره، وكذا قال ابن سعد عن حماد بن خالد عن معاوية، عن راشد، حدثني عبد الرحمن وكان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأعل البخاري الحديث بأن عبد الرحمن إنما رواه عن هشام بن حكيم، هكذا رواه معاوية بن صالح وغيره عن راشد، وقال معاوية مرة: إن عبد الرحمن قال. سمعت وهو خطأ. ورواه الزبيدي عن راشد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن أبيه وهشام بن حكيم. وقيل: عن الزبيدي وعبد الرحمن، عن أبيه، عن هشام. وقال ابن السكن: الحديث مضطرب. قلت (القائل ابن حجر): ويكفي في إثبات صحبته الرواية التي شهد له فيها التابعي بأنه من الصحابة، فلا يضر بعد ذلك إن كان سمع الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بينهما فيه واسطة!
(1) ضعيف. أخرجه أبو يعلى (3422) و (3453) من طريق الحكم بن سنان العبدي، عن ثابت، عن أنس. =(6/238)
والتاسع والخمسون: عن أبي موسى عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه البزار، والطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق روح بن المسيب (1).
والستون: عن أبي سعيد الخدري عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه البزار (2)، ورجاله رجال الصحيح غير (3) نمر بن هلال، وقد وثَّقه أبو حاتم (4).
والحادي والستون: عن ابن عمر عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وزاد فيه: " فتفرق الناس وهم لا يختلفون في القدر ". رواه البزار، والطبراني في " الصغير "، ورجال البزار
__________
= وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 186 وقال: رواه أبو يعلى، وفيه الحكم بن سنان الباهلي، قال أبو حاتم: عنده وهم كثير، وليس بالقوي، ومحله الصدق، يكتب حديثه وضعفه الجمهور، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(1) ضعيف. أخرجه البزار (2143)، والآجري ص 173 من طريقين عن روح بن المسيب، عن يزيد بن أبان الرقاشي، عن غنيم بن قيس، عن أبي موسى، ولفظه: " إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم قبض طينته قبضتين: قبضة بيمينه، وقبضة بيده الأخرى، فقال للذي بيمينه: هؤلاء للجنة ولا أبالي، وقال للذي في يده الأخرى: هؤلاء للنار ولا أبالي، ثم ردَّهم في صلب آدم، فهم يتناسلون على ذلك إلى الآن " وقال البزار: لا نعلم أحداً رواه بهذا اللفظ إلاَّ أبو موسى.
وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 186: رواه البزار والطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وفيه روح بن المسيب، قال ابن معين: صويلح وضعفه غيره. قلت: ويزيد الرقاشي ضعيف.
(2) رقم (2142) عن محمد بن المثنى، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا النمر بن هلال، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري. وقال: لا نعلمه يروى عن أبي سعيد إلا من هذا الوجه، والنمر بصري ليس به بأس، ومسلم لم يتابع على هذا. قلت: والجريري اختلط بأخرة.
(3) تحرف في (أ) و (ش) إلى: " عن " والتصويب من " المجمع " 7/ 186.
(4) كذا نقل الهيثمي عنه، وقال ابنه في " الجرح والتعديل " 8/ 511، وسألته عنه، فقال: شيخ.(6/239)
رجال الصحيح (1).
والثاني والستون: عن هشام بن حكيم بن حزام عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وزاد ذكر تيسير كل للعمل الذي سبق. رواه البزار والطبراني من طريق بقية بن الوليد (2).
والثالث والستون: عن مُعاذٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - نحوه. رواه الطبراني من طريق البراء بن عبد الله الغَنَوي (3).
__________
(1) أخرجه البزار (2141)، والطبراني في " المعجم الصغير " (362) من طريق إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أبي أحمد الزبيري، عن الثوري، عن أيوب وإسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر. وهذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين غير إبراهيم بن سعيد الجوهري، فمن رجال مسلم، إلاَّ أنهم قالوا في أبي أحمد الزبيري -واسمه محمد بن عبد الله بن الزبير- قد يخطىء في حديث الثوري.
(2) أخرجه البزار (2140)، والطبري في " تفسيره " (15377) و (15378)، والبخاري في " التاريخ الكبير " 8/ 191 - 192 من طريق بقية بن الوليد، والطبري (15379) من طريق عبد الله بن سالم، كلاهما عن الزبيدي، عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة النصري، عن أبيه، عن هشام بن حكيم.
وأخرجه الآجري ص 172 من طريق بقية، حدثنا الزبيدي، والطبري (15380) من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح، كلاهما عن راشد بن سعد، عن عبد الرحمن بن قتادة، عن هشام بن حكيم.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 186 - 187 وقال: رواه البزار والطبراني وفيه بقية بن الوليد، وهو ضعيف، ويحسن حديثه بكثره الشواهد، وإسناد الطبراني حسن.
قلت: وفي هذا الحديث اضطراب من جهة إسناده، وفي نسبة بعض رجاله وفي لفظه، وقد فصل القول فيه الشيخ محمود شاكر في تعليقه على " تفسير الطبري "، فارجع إليه.
(3) أخرجه الطبراني 20/ (365) من طريق البراء بن عبد الله الغنوي قال: سمعت الحسن يحدث عن معاذ بن جبل قال: لما أن حضره الموت بكى، فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أبكي جزعاً من الموت، ولا على دنيا أخلفها بعدي، ولكني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - =(6/240)
والرابع والستون: عن الحسن أن الله أخرج أهل الجنة من صفحة (1) آدم اليمنى، وأهل النار من اليُسرى. خرَّجه ابن أبي الدنيا (2) عن خلف بن هشام بلفظ: " حدثنا "، قال: حدثنا الحكم، عن حوشب، عن (3) الحسن.
وروى عبد الرزاق عن مَعْمرٍ، عن قتادة، عن الحسن نحوه (4).
قلت: فهذه عشرة أحاديث تواردت على معنى واحدٍ فلا شكٍّ في صحته، وقوله فيها: " ولا أُبالي " ليس فيه التعذيب بغير ذنبٍ ولا حجة، ولهذا ذكر العمل في موافقته للقدر، وإنما هو مثل قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ ربِّي لَوْلا دُعَاؤُكُم} [الفرقان: 77] فأثبت عدم المبالاة على حال. ومثل قوله: {فَرِيقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير} [الشورى: 7] ولم يستلزم إهمال الأعمال، وإنما خرجت هذه الأشياء مخرج التمدح بالقدرة التامة، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفتح: 14].
__________
= يقول: " إنما هما قبضتان، فقبضة في النار، وقبضة في الجنة "، فلا أدري من أي القبضتين أكون.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 187: رواه الطبراني وفيه البراء بن عبد الله الغنوي وهو ضعيف، والحسن لم يدرك معاذاً.
(1) في (أ): " صحفة "، وكتب فوقها: صفحة.
(2) في كتاب " الشكر لله عزَّ وجلَّ " (165)، وقد تقدم 322.
والحكم هو ابن سنان ضعيف، ورواه أحمد في " الزهد " ص 47 من قول بكر بن عبد الله المزني.
(3) تحرفت في الأصول إلى: " ابن "، والتصويب من " الشكر ".
(4) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (20086) عن معمر، عن غير واحد، عن الحسن أنه كان يقول: الآجال، والأرزاق، والبلاءُ، والمصائب، والحسنات بقدر من الله، والسيئات من أنفسنا ومن الشيطان.(6/241)
وقوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 129].
وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 40].
وقوله تعالى: {فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17].
وقوله: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24].
وليس في شيء من ذلك أنه يفعل شيئاً من ذلك بالمشيئة من غير حكمة باطنةٍ، ولا حجة ظاهرة.
ألا تراه مع ذلك يقول عز وجل: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ويقول: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147]، ونحوه: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26].
وكذلك: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1].
وكذلك قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118].
وعلى هذا يتخرج معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الخير بيديك والشر ليس إليك " (1).
والجمع بين هذه الآيات وآيات الحكمة توجب القطع بنفي العبث واللعب بالخلق عن أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين كما يأتي مطولاً مقرراً في آخر هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الخامس.(6/242)
وأما حديث أبي هريرة المرفوع في إخراج ذرية آدم، فلم يذكر فيه قَسْمَ الذُّرِّيَّة قسمين: قسماً إلى الجنة، وقسماً إلى النار، وإنما ذكر " خَطِىءَ آدم، فخَطِئَتْ ذُرِّيَّتُه، ونَسِيَ فنسيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ".
فكذلك رواه عنه المَقْبُري، وأبو صالح، وعطاء بن يسار، خرج حديث المَقْبُري البزار، وأبو يعلى، والترمذي، وقال: حديث غريب (1)، والنسائي من طريق أخرى، وخرج حديث أبي صالحٍ الترمذي، وقال: حسن صحيح (2)، ورُوي من غير وجهٍ من أبي هريرة، ولم يُذكر " خَطِىء فخَطِئَت ذُرِّيته، ونسي فَنَسِيَتْ ذريته ".
خرَّج حديث ابن عمر، عن أبي هريرة البزار بإسنادٍ لا بأس به.
الخامس والستون: عن ابن مسعودٍ عنه - صلى الله عليه وسلم - نحو الحديث الخامس المتفق عليه، وقد تقدم (3)، وفي هذا زيادة: فقال رجل: ففيم العمل؟ فقال: " اعملوا فكُلٌّ سيُوجَّه لِما خُلِقَ له ". قال الهيثمي: رواه أحمد (4) من طريق علي بن زيد، عن أبي عُبيدة، عن أبيه، وهو ابن مسعود.
السادس والستون: عن ابن مسعودٍ عنه - صلى الله عليه وسلم -: "فُرِغَ إلى آدم من أربعٍ: من
__________
(1) حديث صحيح أخرجه الترمذي (3368)، وابن أبي عاصم في " السنة " (206)، والطبري في " تاريخه " 1/ 96، وابن حبان (6167)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 67، والحاكم 1/ 64 و4/ 263، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 324 - 325.
(2) أخرجه الترمذي (3076)، وابن سعد في " الطبقات " 1/ 27 - 28، والطبري 1/ 96، والحاكم 2/ 585 - 586 وصححه.
(3) ص 391.
(4) 1/ 374 - 375 وإسناده ضعيف. قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 193: هو في الصحيح باختصار عن هذا، رواه أحمد، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وعلي بن زيد سيىء الحفظ.(6/243)
الخَلْق، والخُلُق، والرِّزق، والأجل". رواه الطبراني في " الأوسط "، وذكره الهيثمي في باب ما فُرِغ منه من " مجمع الزوائد " (1).
السابع والستون: عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله خلق الجنة، وخلق لها أهلاً بعشائرهم وقبائلهم لا يُزاد فيهم ولا يُنقص منهم " ثم ذكر مثل ذلك (2) في أهل النار، إلى قوله في جواب السائل: " كل ميسر لما خلق له ". رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق بكار بن محمد السِّيريني (3).
والثامن والستون: عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال هذا الحيُّ من قريش آمنين حتى يرُدُّوهم عن دينهم كُفَّاراً حما (4)، فقام إليه رجلٌ، فقال يا رسول الله: أفي الجنة أنا أم في النار؟ قال: " في الجنة " ثم قام إليه آخر فقال: أفي الجنة أنا أم في النار؟ فقال: " في النار " ثم قال: " اسكُتوا عنِّي ما سَكَتُّ عنكم، فلولا أن لا تَدَافَنُوا لأخبرتُكُم بملَئِكم في النار حتَّى تعرفوهم عند
__________
(1) 7/ 195 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عيسى بن المسيب البجلي، وهو ضعيف عند الجمهور، ووثقه الحاكم والدارقطني في " سننه "، وضعفه في غيرها. وسيأتي الحديث موقوفاً في الحديث الثاني والتسعين.
(2) في (ف): هذا.
(3) أخرجه الطبراني في " المعجم الصغير " (719) عن عباد بن علي السيريني من ولد محمد بن سيرين ببغداد، حدثنا بكار بن محمد بن عبد الله بن محمد بن سيرين، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 188 وقال: رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط "، وفيه بكار بن محمد السيريني وثقه ابن معين وضعفه الجمهور، وعباد بن علي السيريني ضعفه الأزدي.
(4) في (أ) و (ف): " حا " والمثبت من هامش مسند أبي يعلى ورقة: 266/ 2، و" مجمع الزوائد " و" المطالب العالية " ولم ترد في (ش) وهي في أصل مسند أبي يعلى " كفاء رحمنا ".(6/244)
الموت، ولو أُمِرْتُ أن أفعل، لفعلتُ. رواه أبو يعلى من طريق ليث بن أبي سليم (1).
والتاسع والستون: عن أنسٍ قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبان، فخطب الناس، فقال: " لا تسألوني عن شيءٍ إلاَّ أخبرتكم به " ونحن نرى أن جبريل معه. قال الهيثمي: فذكر الحديث إلى أن قال: فقال عمر: يا رسول الله، إنا كنا حديثي (2) عهدٍ بجاهلية، فلا تُبْدِ علينا سوأتنا اعف، عفا الله عنك.
رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح (3).
وذكر الهيثمي أخذ الميثاق في النشأة الأولى، وذكر فيه حديث ابن عباس، وأبي أُمامة. وسيأتي (4) ذكر ذلك في الكلام في الأطفال.
والسبعون: حديث أبي أُمامة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " فأهل الجنة أهلها، وأهل النار أهلها " فقال رجل: ففيم العمل؟ فقال: " يعمل كل قومٍ لما خُلِقُوا له "، فقال عمر: أرأيت يا رسول الله أعمالنا هذه أشيءٌ نبتدِعُهُ أو شيءٌ قد فُرِغَ منه؟ قال: " على شيءٍ قد فُرِغَ منه "، قال: الآن نجتهد في العبادة. رواه الطبراني في
__________
(1) أخرجه أبو يعلى (5702)، وليث بن أبي سليم ضعيف. وضعفه ابن حجر في " المطالب العالية " (2929)، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 188: وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. قلت: وصف الهيثمي ليث بن أبي سُليم بالتدليس قد انفرد به، وإنما ضعفوه لسوء حفظه واختلاطه بأخرة.
(2) في الأصول: " حديث " والمثبت من " مسند أبي يعلى ".
(3) هو في " مسند أبي يعلى " (3689) و (3690) و (3134) و (3135) و (3601).
وذكره الهيثمي 7/ 188.
وأخرجه عبد الرزاق (20796)، وأحمد 3/ 162، والبخاري (93) و (540) و (749) و (6362) و (6468) و (7089) و (7294)، ومسلم (2359)، وابن حبان (106)، والبغوي (3720).
(4) في الجزء السابع.(6/245)
" الأوسط " و" الكبير " باختصارٍ من طريق سلم بن سالم، وإسنادُ " الكبير " من طريق جعفر بن الزبير (1).
والحادي والسبعون: عن ابن عباس: " إن أول شيءٍ خلقه الله القلم، وأمره أن يكتُبَ كُلَّ شيءٍ ". رواه أبو يعلى ورجاله ثِقاتٌ (2).
والثاني والسبعون: عنه [عن النبي]- صلى الله عليه وسلم - قال: " لما خلق الله القلم، قال له: اكتُبْ، فجرى بما هو كائِنٌ إلى قيام الساعة ". رواه الطبراني (3) ورجاله ثقات، قال (4): وقد تقدم حديثٌ في تفسير سورة (ن) (5).
قلت: هو ابن عباس (6)، قال: إن أول شيء خلقه الله القلمُ والحوتُ، قال: ما أكتب؟ قال: " كلُّ شيء كان إلى يوم القيامة " الحديث. رواه الطبراني، وقال: لم يرفعه عن حماد بن زيد إلاَّ مؤمَّل بن إسماعيل (7). قال: ويأتي حديث في البر والصلة (8)، يعني: نحو هذا.
__________
(1) أخرجه الطبراني في " الكبير " (7940) و (7943) وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 189: رواه الطبراني في " الأوسط " و" الكبير " باختصار وفيه سالم بن سالم وهو ضعيف، وفي إسناد الكبير جعفر بن الزبير وهو ضعيف.
(2) أخرجه أبو يعلى (2329) مرفوعاً لا موقوفاً وقد تقدم تخريجه من الوجهين ص 408.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 190، ووقع في المطبوع منه: رواه البزار ورجاله ثقات، وهو خطأ.
(3) رقم (12500) وهو الحديث السالف بإسناده، وقد تقدم تخريجه ص 408.
(4) أي: الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/ 190.
(5) من " مجمع الزوائد " 7/ 128.
(6) مرفوعاً كما في الطبراني و" المجمع ".
(7) وقال الهيثمي بإثره: ومؤمّلٌ ثقةٌ كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله ثقات.
(8) لعله يعني حديث ابن عباس مرفوعاً: "إن الله عزَّ وجلَّ قال: أنا خلقت الخير والشر، =(6/246)
والثالث والسبعون: عن حيَّان بن عبيد الله بن زهير البصري عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس نحوه بزياداتٍ كثيرة تَعَلَّقُ بتفسير قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية [الحديد: 22]، وقوله (1) تعالى: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29]، وبقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. رواه الطبراني من طريق الضحاك بن مزاحم (2).
وقد تقدم حديث ابن عباس، وأهل الحديث يعدُّونها أحاديث لتعدد الطرق.
والرابع والسبعون: عن مِرثدٍ -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- قال: خطَّ الله خَطَّيْن في كتابه، ثم رفع القلم، فكتب في أحدهما الخلق، وكتب في الآخر ما الخلق عاملون. رواه الطبراني (3) من طريق الحسن بن يحيى الخُشَني.
__________
= فطوبى لمن قدرت على يده الخير، وويل لمن قدرت على يده الشر". فقد ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 192 في البر والصلة، باب فضل قضاء الحوائج، وقال: رواه الطبراني (12797) وفيه مالك بن يحيى النكري، وهو ضعيف. قلت: وكذا أبوه يحيى بن عمرو النكري.
(1) في الأصول: " فيقول الله "، والجادة ما أثبت.
(2) هو في " المعجم الكبير " (10595) بطوله موقوفاً، وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 190 وقال: رواه الطبراني، وفيه الضحاك ضعفه جماعة، ووثقه ابن حبان، وقال: لم يسمع من ابن عباس، وبقية رجاله وثقوا. قلت: وحيان بن عبيد الله ذكره ابن عدي في " الضعفاء " وقال: عامة حديثه أفراد انفرد بها، وقال البيهقي: تكلموا فيه.
وأخرج نحوه مقطعاً ابن جرير الطبري 25/ 156 و27/ 111 و233 و234، وابن مردويه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، كما في " الدر المنثور " 7/ 429 - 431 و683 و8/ 62.
(3) 20/ (778) وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 191 وقال: رواه الطبراني وفيه الحسن بن يحيى الخشني، وثقه دحيم وغيره، وضعفه الجمهور. قلت: وفيه أيضاً هشام بن =(6/247)
والخامس والسبعون: عن الحسنِ بن علي رضي الله عنه قال: رُفِعَ الكِتاب، وجَفَّ القلم، وأمورٌ تُقضى في كتابٍ قد خلا. رواه الطبراني من طريق ليث بن أبي سُليم (1).
والسادس والسبعون: عن عبد الله بن عمرو بن العاص في تنازُع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في القدر، وأنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بينهما بما حكم به إسرافيل بين جبريل وميكائيل وذكر في المرفوع: " لو أراد الله أن لا يُعصى، ما خلق إبليس ".
رواه الطبراني في " الأوسط "، واللفظ له من طريق عُمر بن الصُّبح، والبزار بنحوه (2). قال: وتأتي أحاديث في موضعها من هذا النحو.
__________
= عمار، قال الحافظ في " التقريب ": كبر فصار يتلقن، فحديثه القديم أصح.
(1) كذا قال الهيثمي في " المجمع، 7/ 191 مع أنه ليس في الطبراني الذي نسبه إليه ليث بن أبي سُليم، فقد أخرجد (2684) عن علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن محمد بن جحادة، عن قتادة، عن أبي السوار العدوي، عن الحسن.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة " (875) من طريق سفيان، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (1234) من طريق محمد بن طلحة، كلاهما عن محمد بن جحادة، بهذا الإسناد.
وأخرجه عبد الله (881) من طريق حماد، والآجري ص 248 من طريق المعتمر بن سليمان، كلاهما عن حميد، عن ثابت، عن الحسن.
(2) أخرجه البزار (2153) من طريق إسماعيل بن حماد، والطبراني في " الأوسط " (2669) من طريق عمر بن الصُّبح، كلاهما عن مقاتل بن حيَّان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو. وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 192 وقال: وفي إسناد الطبراني عمر بن الصبح، وهو ضعيف جداً، وشيخ البزار السكن بن سعيد ولم أعرفه، وبقية رجال البزار ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضر.
وأخرجه مختصراً البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 157 من طريق مقاتل بن حيان، واللالكائي (1101) من طريق إسماعيل بن عبد السلام، كلاهما عن عمرو بن شعيب، به.(6/248)
والسابع والسبعون: عن جابرٍ عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إذا استقرَّت النطفة في الرحم أربعين يوماً أو ليلةً، بعث الله إليها مَلَكاً فيقول: يا رب، ما أجلُهُ؟ ذكرٌ أم أنثى؟ شقيٌّ أم سعيد؟. رواه أحمد (1) من طريق خُصَيف.
والثامن والسبعون: عن ابن عمر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله أن يخلق نَسَمَةً، قال ملك الأرحامِ: أيْ ربِّ أذكرٌ أم أنثى؟ شقي (2) أم سعيد؟ فيقضي الله أمره، ثم يكتب بين عينيه ما هو لاقٍ حتى النكبة يُنكَبُها ". رواه أبو يعلى والبزار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح (3).
والتاسع والسبعون: عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " الشقي من شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد من سَعِدَ في بطنها ". رواه البزار والطبراني، ورجال البزار رجال الصحيح (4).
__________
(1) في " المسند " 3/ 397 من طريق خُصيف، عن أبي الزبير، عن جابر. وهذا إسناد ضعيف، خُصيف: سيىء الحفظ، وأبو الزبير: لم يصرح بالتحديث.
(2) في (ف): أشقي.
(3) أخرجه أبو يعلى (5775)، واللالكائي (1050) و (1051)، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 80 من طريق يونس، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن هنيدة، عن ابن عمر. وهذا إسناد صحيح. وقول الهيثمي 7/ 193 الذي نقله عنه المؤلف: ورجاله رجال الصحيح سبق قلم، فإن عبد الرحمن بن هنيدة لم يخرج له صاحبا الصحيح ولا أحدهما، وحديثه عند أبي داود في " القدر "، وهو ثقة.
وأخرجه البزار (2149) عن محمد بن معمر، حدثنا وهب بن جرير، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه ابن عمر. وصالح وإن كان ضعيفاً يصلح حديثه للمتابعة.
(4) أخرجه البزار (2150)، والطبراني في " الصغير " (773)، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 139 من طريق عبد الرحمن بن المبارك، عن حماد بن زيد، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة. وهذا إسناد صحيح رجاله رجال الشيخين غير عبد =(6/249)
والموفي ثمانين: عن عائشة مرفوعاً نحو حديث ابن عمر المتقدم، وفيه زيادات. فيه مرفوعاً: " فما من شيء إلاَّ وهو يُخلق معه في الرَّحم ". رواه البزار ورجاله ثقات (1).
والحادي والثمانون: عن ابن مسعودٍ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله جل ذكره خلق يحيى بن زكريا في بطن أُمِّه مؤمناً، وخلق فرعون في بطن أمه كافراً ". رواه الطبراني، وإسناده جيد (2).
روى هذه الأحاديث الخمسة الهيثمي في باب ما يكتب على العبد في بطن أمه (3).
الثاني والثمانون: عن ابن مسعودٍ حديث زيد الخيل، وتسمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد الخير، وقوله: أسألُك عن علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد، إني أُحبُّ الخير وأهله، ومن يعمل به، وإن عَمِلْتُ به ابتغيت (4) ثوابه، فإن فاتني منه شيءٌ، حَنَنْتُ إليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هي علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد، لو أرادك في الأخرى (5) هيَّأك لها، ثم لا يُبالي في أيِّ وادٍ
__________
= الرحمن بن المبارك فمن رجال البخاري.
وأخرجه اللالكائي (1054) و (1055) و (1056) من طرق، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة.
(1) أخرجه البزار (2151)، واللالكائي (1052) و (1053) من طريق أبي عامر عن الزبير بن عبد الله، عن جعفر بن مصعب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. والزبير بن عبد الله قال ابن عدى: أحاديثه منكرة المتن والإسناد، وجعفر بن مصعب لم يوثقه غير ابن حبان.
(2) هو في " المعجم الكبير " (10543) وفيه أبو هلال الراسبي وفيه ضعف، لا سيما في روايته عن قتادة كما في هذا الحديث.
(3) " مجمع الزوائد " 7/ 192 - 193.
(4) عند الطبراني: أيقنت.
(5) عند الطبراني: الآخرة.(6/250)
سلكتَ". رواه الطبرانى من طريق عون بن عُمارة (1).
الثالث والثمانون: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قلتُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله، نعمل على ما فُرِغَ منه أو على أمرٍ مُؤْتَنَف؟ قال: " على أمرٍ قد فُرِغَ منه "، قال: ففيم العمل يا رسول الله؟ قال: " كل ميسر لما خلق له ". رواه أحمد والبزار والطبراني من طريق عطاف بن خالد (2).
الرابع والثمانون: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت ما نعمل فيه أقد فُرِغَ منه، أو في شيء مبتدأ، أو أمرٍ مُبتدع؟ قال: " فيما قد فرغ منه "، فقال عمر: ألا نتكل؟ فقال: "اعمل يا ابنَ الخطاب، فكل مُيَسَّر، أما من كان من أهل السعادة، فيعمل للسعادة، وأما أهلُ الشقاء (3)، فيعملُ للشقاء" (3). رواه أحمد من طريق عاصم بن عُبيد الله (4).
__________
(1) هو في " المعجم الكبير " (10464)، وعون بن عمارة: ضعيف.
(2) أخرجه البزار (2136)، والطبراني (47) من طريق أبي اليمان، وأحمد 1/ 5 - 6 من طريق علي بن عياش، كلاهما عن العطاف بن خالد -وزاد في طريق علي بن عياش: حدثني رجل من أهل البصرة- عن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، عن أبيه. قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 194: وعطاف وثقه ابن معين وجماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات إلاَّ أن في رجال أحمد رجلاً مبهماً لم يُسَمَّ.
(3) في (ش): الشقاوة.
(4) أخرجه أحمد 1/ 29 و2/ 52 و77، وابنه عبد الله في " السنة " (855)، والطيالسي ص 4، وابن أبي عاصم في " السنة " (163) و (164)، والترمذي (2135)، وأبو يعلى (5571)، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص81 - 82، والآجري ص 171 من طريق شعبة، عن عاصم بن عبيد الله، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر -وفي بعضها: أن عمر-. وعاصم بن عبيد الله ضعيف.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 194 وقد سقط من المطبوع منه التعليق على هذا الحديث، والحديث الآتي، فيستدرك من هنا.(6/251)
الخامس والثمانون: عن أبي الدرداء، قال: قالوا: يا رسول الله نعمل في أمرٍ مُستأنفٍ، أو في أمرٍ قد فُرِغ منه بالعمل أو شيءٍ نستأنفه؟ قال: " بل في أمر قد فُرِغ منه "، قال: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال: كل امرىءٍ مُهَيَّأ لما خُلِقَ له ". رواه أحمد، والبزار وحسن إسناده، والطبراني من طريق سُليمان بن عُتبة (1).
السادس والثمانون: عن ذِي اللحية الكلابيِّ أنه قال: يا رسول الله، نعمل في أمرٍ مُستأنفٍ أو في أمر قد فُرِغ منه؟ فقال: " لا بل في أمرٍ قد فُرِغ منه " قال: ففيم العمل إذاً؟ قال: " فكل ميسر لما خلق له ". رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات (2).
السابع والثمانون: عن أبي هريرة أن عمر بن الخطاب قال: يا رسول الله: أرأيت ما نعمل، أشيءٌ قد فُرِغ منه، أو شيءٌ يُستأنف؟ قال: " بل شيء قد فُرِغ منه "، قال: ففيم العمل؟ قال: " كل ميسر لما خلق له ". رواه البزار ورجاله رجال الصحيح (3).
الثامن والثمانون: عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله أنعملُ فيما جرت به المقادير، وجفَّ به القلم، أو شيءٌ نأتَنِفُهُ؟ قال: " لِما جرت به المقادير، وجفَّ به القلم " قال: ففيم العمل؟ قال: " اعمل فكل ميسر لما خلق له ". رواه
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 441، والبزار (2138). وقال الهيثمي في " المجمع " 4/ 194: وفيه سليمان بن عتبة، وثقه أبو حاتم وجماعة، وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات.
(2) أخرجه أحمد 4/ 67، والطبراني (4235) و (4236) من طريقين عن يزيد بن أبي منصور، عن ذي اللحية الكلابي.
(3) أخرجه ابن أبي عاصم (165)، والبزار (2137)، وابن حبان (108)، والآجري ص 170 من طريق أنس بن عياض، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وهذا إسناد على شرط الشيخين.(6/252)
الطبراني والبزارُ بنحوه إلاَّ أنه قال في آخره: فقال القوم بعضهم لبعض: فالجد إذاً. ورجال الطبراني ثقات (1).
التاسعُ والثمانون: عن جابر بن عبد الله قال: قام سراقة بن مالك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أرأيت أعمالنا التي نعمل أمأخوذون (2) بها عند الخالق خيرٌ فخير، وشرٌّ فشر، أو شيء قد سبقت به المقادير، وجفت به الأقلام؟ قال: " يا سراقة قد سبقت به المقادير وجفت به الأقلام " قال: فعلام نعمل يا رسول الله؟ قال: " اعمل يا سراقة، فكل ميسر لما خلق له " قال سراقة: الآن نجتهد. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق عبد الكريم بن أمية (3).
الموفي تسعين: عن سراقة بن مالك بن جُعْشُم المُدْلِجي أنه قال مثل الأول، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل ميسر له عمله "، فقال: يا رسول الله، الآن الجِدُّ، الآن الجِدُّ، قال الهيثمي روى ابن ماجه بعضه (4). رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5).
ذكر الهيثمي هذه الأحاديث الثمانية في باب كل ميسر لما خلق له (6).
الحادي والتسعون: عن أبي الدرداء قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " فرغ الله إلى كل عبدٍ من خمس: من أجله ورزقه، ومضجعه، وشقي أو سعيدٍ ".
__________
(1) أخرجه البزار (2139)، والطبراني (10899) من طريقين عن ابن عباس.
(2) في " المجمع ": أمؤاخذون.
(3) ذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 195 وقال: عبد الكريم أبو أمية ضعيف. وقد تقدم تخريجه برقم (2).
(4) رقم (91) عن هشام بن عمار، عن عطاء بن مسلم الخفاف، عن الأعمش، عن مجاهد، عن سراقة. هشام بن عمار كبر فصار يتلقن، وعطاء بن مسلم كثير الخطأ، ومجاهد لم يسمع من سراقة.
(5) في " المعجم الكبير " (6593).
(6) في " المجمع " 7/ 194 - 195.(6/253)
وفي رواية: " وعمله ". رواه أحمد والبزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وأحد إسنادي أحمد ثقات (1).
الثاني والتسعون: عن ابن مسعودٍ قال: أرْبَعٌ قد فُرِغَ منهن: الخَلْقُ، والخُلُقُ، والرزق، والأجل، ليس أحدٌ بأكسب من أحدٍ وقال (2): الصدقة جائزة قُبِضَتْ أو لم تُقْبَضْ. رواه الطبراني من طريق عيسى بن المسيب (3).
الثالث والتسعون: عن أبي الدرداء قال: ذكرنا زيادة العمر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " لا يُؤَخِّرُ الله نفساً إذا جاء أجلها " فذكر الحديث. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق سليمان بن عطاء (4).
ذكر هذه الثلاثة الأحاديث الهيثميُّ في باب ما فُرغ منه (5)، وحديثاً رابعاً قد
__________
(1) حديث صحيح أخرجه أحمد 5/ 197، وابن أبي عاصم في " السنة " (303) و (304) و (305) و (306) و (307) و (308)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (859)، والبزار (2152)، واللالكائي (1059)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (602)، وابن حبان (6150).
(2) تحرف في الأصول إلى: " وقد "، والتصويب من الطبراني.
(3) أخرجه الطبراني (8953)، وعيسى بن المسيب ضعيف.
وأخرجه (8952) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن المسعودي، عن القاسم عن جده عبد الله بن مسعود. والمسعودي قد اختلط، والقاسم لم يسمع من جده.
(4) أخرجه الطبراني في " الأوسط " (34) بلفظ: ذكروا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأرحام، فقلنا: من وصل رَحِمَه أُنسىء في أجله، فقال: " إنه ليس يُزاد في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}، ولكنه الرجل تكون له الذرية الصالحة، فيدعون له من بعده، فيبلُغُه ذلك، فذاك الذي يُنسأُ في أجله ". وفي سنده سليمان بن عطاء، وهو منكر الحديث، وذكره الهيثمي 8/ 153 وقال: رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " وليس في إسناده متروك، ولكنهم ضُعفوا.
(5) " المجمع " 7/ 195 - 196.(6/254)
تقدم في " مجمع الزوائد " في باب فرغ إلى كل عبد من خلقه (1).
الرابع والتسعون: عن أبي الدرداء قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا سمعتم بجبلٍ زال عن مكانه، فصدِّقوا، وإذا سمعتم برجلٍ زال عن مكانه، فلا تُصدِّقوا، فإنه يصير إلى ما جُبِلَ عليه ". رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح إلاَّ أن الزُّهري لم يُدرك (2) أبا (3) الدرداء (4).
الخامس والتسعون: عن عبد الله بن ربيعة قال: كنا عند عبد الله، يعني: ابن مسعود، فذكر القوم رجلاً فذكروا من خُلُقه، فقال عبد الله: أرأيتم لو قصصتم رأسه أكنتم تستطيعون أن تُعيدوه؟ قالوا: لا، قال: فَيَدَهُ؟ قالوا: لا، قال: فرِجْلَه؟ قالوا: لا، قال: فلن تستطيعوا أن تُغَيِّرُوا خُلُقَه حتى تُغيِّروا خَلْقَهُ.
فذكر الحديث. رواه الطبراني ورجاله ثقات (5).
السادس والتسعون: عن ابن مسعودٍ قال: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يُعطي الدنيا من يُحِبُّ ومن لا يحب، ولا يعطي الآخرة (6) إلاَّ من يحب (7). رواه الحاكم، وقال: صحيح تفرَّد به أحمد بن جناب
__________
(1) " المجمع " 7/ 196.
(2) تحرف في الأصول إلى: " يذكر "، والمثبت من " المجمع ".
(3) في الأصول: " أبي "، والتصويب من " المجمع ".
(4) أخرجه أحمد 6/ 443 وفيه انقطاع كما قال الهيثمي.
(5) أخرجه الطبراني (8884) و (8885) من طريقين عن عبد الله بن ربيعة.
(6) في مصادر التخريج: الإيمان.
(7) أخرجه الحاكم 1/ 33 من طرق عن أحمد بن جناب المصيصي، حدثنا عيسى بن يونس -وهو ابن أبي إسحاق السبيعي- عن سفيان الثوري، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله بن مسعود. وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه 1/ 34 من طريق سفيان بن عقبة أخي قبيصة، عن حمزة الزيات، وسفيان الثوري، به. =(6/255)
المصيصي وهو ثقة، عن عيسى بن يونس، قال: ومن شرطنا في هذا الكتاب أنا نخرج أفراد الثقات إذا لم نجد لها علَّة، وقد وجدنا لعيسى بن يونس فيه شاهدين (1)، أحدهما: على شرط هذا الكتاب.
وفي " مجمع الزوائد " (2) للهيثمي في باب: لا يموت عبدٌ حتى يبلغ أقصى أثره.
السابع والتسعون: عن أسامة بن زيدٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما جُعِلَتْ مِيتَةُ عبدٍ بأرضٍ إلاَّ جُعلت له فيها حاجةٌ ". رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (3).
وعن أبي عزة نحوه، وفيه زيادة. رواه البزار. ورواه الترمذي باختصار وصححه، وقد تقدم من طريق محمد بن موسى الحرشي (4).
__________
= وأخرجه أحمد 1/ 387، والحاكم 2/ 447 و4/ 165، وأبو نعيم 4/ 166 من طريق الصباح بن محمد البجلي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود مرفوعاً. والصباح بن محمد ضعيفه.
وأخرجه أبو نعيم 4/ 166 من طريق عبد الرحمن بن زبيد، عن أبيه، عن مرة، عن ابن مسعود مرفوعاً، ومرة وقفه.
وأخرجه الطبراني (8990) من طريق حجاج بن المنهال، عن محمد بن طلحة، عن زبيد، به موقوفاً. وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 90 وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(1) في " المستدرك ": متابعين.
(2) 7/ 196.
(3) أخرجه الطبراني (461) من طريق عبد الرزاق -وهو في " مصنفه " (20996) - عن معمر، عن أيوب، عن أبي المليح، عن أسامة بن زيد. وهذا إسناد صحيح. ولفظ الطبراني: " ما جعل الله منية عبد ... ".
(4) أخرجه البزار (2154) وقال الهيثمي: وفيه محمد بن موسى الحرشي، وهو ثقة وفيه خلاف. وقد تقدم تخريجه برقم (34).(6/256)
وفي باب خلق الله كل صانع وصنعته (1).
الثامن والتسعون: عن حُذيفة، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " خلق الله كُلَّ صانع وصنعته ".
رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح غير أحمد بن عبد الله بن (2) الحسين بن الكردي (3)، وهو ثقة. ورواه الحاكم في " المستدرك " والبيهقي (4) ويأتي الكلام عليه في آخر مسألة الأفعال، وفي باب الإيمان بالقدر.
التاسع والتسعون: عن أبي الدرداء، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لكل شيءٍ حقيقةٌ وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ". رواه أحمد، والطبراني، ورجاله ثقات (5).
والموفي مئة: عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يؤمن المرء حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه أحمد ورجاله ثقات، ورواه الطبراني في " الأوسط " (6).
__________
(1) " المجمع " 7/ 197.
(2) تحرفت في (أ) إلى: أبي.
(3) تحرفت في (ش) إلى: الكروجي.
(4) أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " (117)، وابن أبي عاصم (357)، والبزار (2160)، والحاكم 1/ 31 - 32، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 260 و388، وفي " الاعتقاد " ص 144، والخطيب في " تاريخه " 2/ 31 من طريقين عن أبي مالك الأشجعي، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة. وهذا إسناد صحيح.
(5) أخرجه أحمد 6/ 441. وانظر " المجمع " 7/ 197.
(6) أخرجه أحمد 2/ 181 و212، وابنه عبد الله في " السنة " (916)، وابن أبي عاصم (134)، والطبراني في " الأوسط " (1976)، واللالكائي (1108) و (1387) والآجري ص 188 من طرق عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده. وهذا إسناد حسن. وسقط هذا الحديث من المطبوع من " مجمع الزوائد " 7/ 197 مع شيء من التعليق عليه، فيستدرك من هنا.(6/257)
والواحد والمئة: عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الأُمورُ كُلُّها خيرها وشرها من الله " وقال: " القَدَرُ نظام التوحيد، فمن (1) وحَّد الله، وآمن بالقدر فقد استمسك بالعُروة الوُثقى ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق هانىء بن المتوكل (2).
والثاني والمئة: عن معاوية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَعْجَلْ على شيءٍ تَظُنُّ أنك إذا استعجلت إليه أنك تُدرِكُهُ، وإن كان الله لم يُقدرْ ذلك، ولا تستأخر عن شيءٍ تظن أنك إن استأخرت عنه أنه مدفوعٌ (3) عنك، وإن كان الله قدَّره عليك ". رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق عبد الوهاب بن مجاهد (4).
ثم ذكر الهيثمي أحاديث متفرقة المعاني في أبوابٍ شتى، منها.
الثالث والمئة: عن ابن مسعود موقوفاً: لأن يَقْبِضَ أحَدُكُم على جمرةٍ حتى تبرُد خيرٌ له من أن يقول لأمر قضاه الله: لَيْتَهُ لم يكن. رواه الطبراني من طريق المسعودي (5).
والرابع والمئة: عن أنسٍ مرفوعاً: " كل شيءٍ بقضاءٍ وقَدَرٍ، ولو هذه "، وضرب بأصبعه السبابة على ذراعه. رواه الطبراني في " الأوسط " (6).
والخامس والمئة: عن الضَّحَّاك بن مُزاحِمٍ، قال: اجتمعت أنا وطاووسٌ
__________
(1) في (أ) و (ف): ومن.
(2) ذكره الهيثمي 7/ 197 وقال: وفيه هانىء بن المتوكل، وهو ضعيف.
(3) في (ش): مرفوع.
(4) ذكره الهيثمي 7/ 199 وقال: وفيه عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف.
(5) أخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " (9171) وقال الهيثمي في " مجمع الزوائد " 7/ 207: فيه المسعوي وقد اختلط.
(6) قال الهيثمي 7/ 208: رواه الطبراني في " الأوسط " وفي جماعة لم أعرفهم.(6/258)
اليماني، وعمرو بن دينار، ومكحولٌ الشامي، والحسن البصري في مسجد الجَنَدِ، فتذاكرنا القدر حتى ارتفعت أصواتنا، فقام طاووسٌ، فقال: أنْصِتُوا أُخبِرْكُم بما سمعت أبا الدرداء يُخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله افترض (1) عليكم فرائض، فلا تضيعوها، وحدَّ حُدُوداً، فلا تَعْتَدوها، ونهاكم عن أشياء، فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان، فلا تكلَّفُوها، رحمة من ربكم فاقبلوها، الأُمور كُلُّها بيد الله، من عند الله مصدرها، وإليه مرجعها، ليس للعباد فيها تفويضٌ ولا مشيئةٌ ". فقام القوم جميعاً وهم راضون بما قال طاووس.
رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق نهشل (2) بن سعيد (3) الترمذي (4)، ورواه مصنف " أخبار صنعاء " وِجَادَةً، قال: وجدت بخط سليمان بن محمد عن الضحاك بن مزاحم وساق (5) مثله سواء.
ويأتي في آخر مسألة الأفعال تحقيق معنى قوله: " مصدرها من عند الله " إن صح على التفصيل والتحقيق (6).
وفي الجملة: إن المراد بذلك أوائلها ومُقدِّماتُها وأسبابُها، وتقدير اختيار العباد لأفعالهم ليبلوهم أيُّهُمْ أحسن عملاً، ولما شاء الله تعالى من الحِكَمِ البالِغة، وتقدير صدور المعاصي من أهلها باختيارهم على وجهٍ تقوم به الحُجَّة عليهم، ويستحق الرب بجزائهم اسم الغفار، أو العدل الحكيم.
ولا يصح أن يكون غفاراً لنفسه (7)، ولا عدلاً عليها، وإنما يصح ذلك متى
__________
(1) في (ش): فرض.
(2) في الأصول الثلاثة: " سهل "، وهو تحريف.
(3) تحرف في (أ) إلى: سعد.
(4) أخرجه الطبراني في " الأوسط "، والدارقطنى 4/ 297 - 298. ونهشل بن سعيد: متروك.
(5) في (ف): وساقه.
(6) في (ش): وفي التحقيق.
(7) في (ش): بنفسه.(6/259)
كان للعباد أفعالٌ اختياريةٌ قطعاً عقلاً وسمعاً، لقوله تعالى في نحو ذلك: {قُلْ هو مِنْ عِنْدِ أنفَسِكُم} [آل عمران: 165]، وقوله: {وَيَقُولونَ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 78].
وسيأتي من ذلك الكثير الطَّيِّب، وإنما المراد على نحو قول الخليل: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 78 - 82]، ونحو قوله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقوله: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسِقينَ} [البقرة: 26]، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[فيما يرويه عن ربه]: " إنما هي أعمالُكُم أُحْصِيهَا لكم، ثم أُوفِّيكُم إياها، فمن وجد خيراً، فليحمد الله، ومن وجد شراً فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسه ". خرجه مسلم في " صحيحه " (1) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه، وسيأتي ذلك مبسوطاً في خاتمة مسألة الأفعال، وبيان نصوص الأئمة فيه.
والسادس والمئة: عن عائشة مرفوعاً: " الطَّيْرُ تَجْري بقَدَرٍ ". رواه البزار، وقال: لا يُرى إلاَّ بهذا الإسناد، ورجاله رجال الصحيح غير يوسف بن أبي بردة وثقه ابن حبان (2).
السابع والمئة: عن أبي أُمامة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وُكِّلَ بالمؤمن تسعون ومئة مَلَكٍ، يَذُبُّون عنه ما لم يُقَدَّرْ عليه، [من ذلك البصر: تسعة أملاك] يذبُّون [عنه] كما تَذُبُّون عن قصعة العَسَل الذُّبَاب في اليوم الصَّائِف، وما لو بدا لكم
__________
(1) رقم (2577) وقد تقدم.
(2) وأخرج حديثه هذا في " صحيحه " (5824) ووثقه العجلي، وقال الذهبي في " الكاشف ": ثقة.
وأخرجه أحمد 6/ 129، والبزار (2161)، وابن أبي عاصم في " السنة " (254) وصححه الحاكم 1/ 32.(6/260)
لرأيتموه على كُلِّ جَبَلٍ وسَهْلٍ، كلُّهم باسطٌ يديه، فاغِرٌ فاه، وما لو وُكِلَ العبد إلى نفسه طرفة عين خَطِفَتْهُ الشياطين". [رواه الطبراني] من طريق عُفير بن معدان (1).
والثامن والمئة: عن أبي هريرة مرفوعاً: " لا ينفعُ حَذَرٌ من قَدَرٍ ". رواه البزار (2) من طريق إبراهيم بن خثيم.
والتاسع والمئة: عن عائشة مرفوعاً بمثله. رواه البزار (3) أيضاً من طريق زكريا بن منظور.
وخرَّج الحاكم في " المستدرك " (4) حديث: " إذا نزل القدر، عَمِيَ البصر " ذكره في قصة الهُدهد. ويشهد له من كتاب الله تعالى: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44].
__________
(1) الحديث في الطبراني (7704)، و" مجمع الزوائد " 7/ 209 وما بين حاصرتين منهما. وقد تقدم تخريجه ص 236 من هذا الجزء.
(2) رقم (2164) قال الهيثمي 7/ 209: فيه إبراهيم بن خثيم، وهو متروك. قلت: له شاهد من حديث عائشة، وهو الحديث الآتي، وآخر من حديث ابن عباس رواه الحاكم 2/ 349 - 350 وصححه ووافقه الذهبي.
(3) رقم (2165) قال الهيثمي 7/ 209: فيه زكريا بن منظور، وثقه أحمد بن صالح المصري وضعفه الجمهور.
(4) 2/ 405 و405 - 406 من قول ابن عباس.
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (239) عن ابن مصفى، حدثنا بقية، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " قد ينفع الحذر ما لم يبلغ القدر، فإذا جاء القدر حال دود النظر ". وهذا سند ضعيف جداً، بقية مدلس، وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف، وعلي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس.(6/261)
والعاشر والمئة: عن أنس مرفوعاً: " عَجِبْتُ للمؤمن إن الله لا يقضي له قضاءً إلاَّ كان خيراً له ". رواه أحمد وأبو يعلى بمثله، ورجال أحمد ثقات، وأحد أسانيد أبي يعلى رجاله رجال الصحيح غير أبي بحر (1) ثعلبة وهو ثقة (2).
والحادي عشر والمئة: حديث: " إن القلب بين أُصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبُه ". عن عثمان. رواه الطبراني في " الأوسط " من حديث محمد بن عيسى (3) الطرسوسي (4).
والثاني عشر والمئة: عن عائشة نحو حديث عثمان.
رواه أحمد من طريق مسلم بن محمد بن زائدة، قال بعضهم: صوابه صالح بن محمد بن زائدة (5).
والثالث عشر والمئة: عن عائشة أيضاً نحوه أيضاً رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق المُعَلَّى بن الفضل (6).
__________
(1) تحرف في الأصول إلى: بحير.
(2) حديث صحيح. أخرجه أحمد 3/ 117 و184 و5/ 24، وأبو يعلى (4217) و (4218). وصححه ابن حبان (728) بتحقيقنا. وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) في الأصول: " يحيى "، والمثبت من " مجمع الزوائد ".
(4) ذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 210 بلفظ: " إذا أراد الله أن يزيغ قلب عبد أعمى عليه الحيل ". واللفظ الذي أورده المصنف رواه الطبراني في " الأوسط " أيضاً، لكن في سنده -كما قال الهيثمي- عبد الله بن صالح، وثقه عبد الملك بن شعيب وضعفه غيره.
(5) وتمام كلام الهيثمي في " المجمع " 7/ 210: وقد وثقه أحمد، وضعفه أكثر الناس، وبقية رجاله رجال الصحيح.
قلت: أخرجه أحمد 2/ 418 في مسند أبي هريرة.
(6) وتمام كلام الهيثمي 7/ 210: قال ابن عدي: في بعض ما يرويه نكرة، وبقية رجاله وثقوا، وفيهم خلاف. =(6/262)
والرابع عشر والمئة: عن أم سلمة نحوه. رواه الترمذي، ورواه أحمد من طريق شهر بن حوشب (1).
والخامس عشر والمئة: عن أبي هريرة نحوه أيضاً، رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق عبد الله بن صالح (2).
والسادس عشر والمئة: عن نعيم بن همار نحوه، وزاد: " وكل يوم الميزان بيد الله يرفع أقواماً ويضع آخرين إلى يوم القيامة ". رواه الطبراني ورجاله ثقات (3).
__________
= قلت: وأخرجه أحمد 6/ 250 - 251، وابن أبي عاصم في " السنة " (224) و (233)، والآجري في " الشريعة " ص 317، وفيه علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف.
وأخرجه أحمد 6/ 91 من طريق الحسن البصري أن عائشة قالت ... وذكر نحوه.
(1) أخرجه أحمد 6/ 294 و301 - 302 و315، وابنه عبد الله في " السنة " (866)، والترمذي (3522). وابن أبي عاصم في " السنة " (223) و (232)، والآجري في " الشريعة " ص 316 كلهم من طريق شهر بن حوشب، عن ابن سلمة. وشهر: فيه كلام.
(2) قال الهيثمي 7/ 211: وثقه عبد الملك بن شعيب، وضعفه غيره. وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في " السنة " (229) من طريقه.
(3) " مجمع الزوائد " 7/ 211. وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (221) و (553)، والبزار (40)، وابن الأثير في " أسد الغابة " 5/ 351 من طريق الوليد بن سليمان، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن نعيم بن همار.
وأخرجه بنحوه أحمد 4/ 182، وابنه عبد الله في " السنة " (1224)، والآجري ص 317 و386، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 9/ 61، وابن ماجه (199)، والبغوي (199)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 341، وصححه ابن حبان (943)، والحاكم 1/ 525 من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن النواس بن سمعان. قال ابن الأثير: وهو الصواب. أي: عن النواس بن سمعان.(6/263)
والسابع عشر والمئة: عن سبرة بن فاتكٍ في ذكر الأصابع والميزان. رواه الطبراني ورجاله ثقات (1).
والثامن عشر والمئة: عن المقداد، ولفظه: " لَقَلْبُ ابن آدم أسرع تقلُّباً من القِدْرِ إذا استجمعت غَلْيَاً ". رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات (2).
قلت: أحاديث الباب مرفوعة، وأورد في باب الأعمال بالخواتيم اثني عشر حديثاً، وفي باب علامة خاتمة الخير سبعة أحاديث، صارت تسعة عشر حديثاً.
والتاسع عشر والمئة: عن أنسٍ مرفوعاً، وفي متنه: " وإذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله قبل موته " قالوا: يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال: " يُوَفِّقُهُ لعملٍ صالحٍ ثم يقْبِضُه عليه ". رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في " الأوسط " ورجال أحمد رجال الصحيح (3).
والعشرون والمئة: عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه لمكتوبٌ في الكتاب من أهل النار، فإذا كان قبل موته تحوَّل فعمل بعمل أهل النار، فمات ". الحديث. رواه أحمد وأبو يعلى
__________
(1) أخرجه الطبراني في " الكبير " (6557)، وأخرجه أيضاً الآجري في " الشريعة " ص 386، وابن أبي عاصم في " السنة " (220) و (550) و (551) وعنده تحرف " فاتك " إلى " فاكه ". وفي سنده هشام بن عمار وقد ضعفوه بأنه كبر فصار يتلقن.
(2) أخرجه الطبراني في " الكبير " 20/ (598) و (599) و (603). وأخرجه أيضاً أحمد 6/ 4، وابن أبي عاصم في " السنة " (226)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1331) و (1232)، وأبو نعيم في " الحلية " 1/ 175 وصححه الحاكم 2/ 289.
(3) حديث صحيح. أخرجه أحمد 3/ 120 و223، وأبو يعلى (3756) و (3821) و (3829) و (3840)، والبزار (2157). وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في " السنة " (393) (399)، والآجري في " الشريعة " ص 185، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (1087)، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 157. وقد تقدم بنحوه عن أنس أيضاً ص 394.(6/264)
بأسانيد، وبعض (1) أسانيدهما رجالُ الصحيح (2).
والحادي والعشرون والمئة: عن ابن عمر، قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابضاً على شيءٍ في يده، ففتح يده اليمنى فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من الرحمن الرحيم فيه أهل (3) الجنة بأعدادهم وأسمائهم وأحسابهم مُجْمَلَ عليهم إلى يوم القيامة، لا يُنْقَصُ منهم أحدٌ، ولا يُزادُ فيهم أحد، وقد يُسْلَكُ بالسعيد طريق الشقاء حتَّى يقال: ما أشبهه بهم، ثم يُزال إلى سعادته قبل موته، ولو بِفَواق ناقة "، وفتح يده اليسرى فقال: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من الرحمن الرحيم فيه أهل النار بأعدادهم وأسمائهم وأحسابهم مُجْمَل عليهم إلى يوم القيامة لا يُنقصُ منهم، ولا يُزاد فيهم أحدٌ، وقد يُسلك بالأشقياء طريق أهل السعادة حتى يقال: هو منهم وما أشبهه بهم، ثم يُدركُ أحدُهم شقاوةً قبل موته، ولو بفواق ناقةٍ "، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " العمل بخواتيمه ". ثلاثاً. رواه البزار من طريق عبد الله بن ميمون القداح (4).
__________
(1) في (أ) و (ش): وفي بعض.
(2) أخرجه أحمد 6/ 107 و108، وأبو يعلى (4668)، وهو حديث صحيح.
(3) في (أ) و (ف): فيه أعداد أهل الجنة.
(4) أخرجه البزار (2156)، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (1088) من طريق عبد الله بن ميمون القداح، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وعبد الله بن ميمون قال البخاري. ذاهب الحديث، وقال الترمذي وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد، وقال الحاكم: روى عن عبيد الله بن عمر أحاديث موضوعة.
وأخرجه ابن عدي 5/ 1932 - 1933 من طريق عبد الوهاب بن همام الصنعاني (وقد وصفه ابن معين بالغفلة) عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وأورده الذهبي في " الميزان " 2/ 684 في ترجمة عبد الوهاب بن همام، وقال: هو حديث منكر جداً ويقضي أن يكون زنة الكتابين عدة قناطير. وانظر التعليق على حديث عبد الله بن عمرو في ص 400.
وقوله: " مجمل عليهم " من أجملت الحساب إذا جمعت آحاده وكملت أفراده أي: أحصوا وجمعوا فلا يزاد فيهم ولا ينقص. " النهاية ".(6/265)
والثاني والعشرون والمئة: عن أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة ثم يُختم له بعمل أهل الجنة ويعمل العامل سبعين سنة بعمل أهل الجنة ثم يُختم له بعمل أهل النار ". رواه البزار والطبراني في " الأوسط " ورجال الطبراني رجال الصحيح (1).
والثالث والعشرون والمئة: عن العُرس بن عميرة سمعه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن العبد يعمل البُرهة بعمل أهل النار، ثم تَعْرِضُ له الجادة من جَوَادِّ الجنة، فيعمل بها حتى يموت عليها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة بُرهةً من دهره، ثم تَعْرِضُ له الجادة من جوادِّ النار، فيعمل بها حتى يموت عليها، وذلك لما كتب له ". رواه البرازُ والطبراني في " الصغير " و" الكبير " ورجالهم ثقات (2).
والرابع والعشرون والمئة: عن ابن مسعود، قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد يُولد مؤمناً ويموت مؤمناً، وإن العبد يولد كافراً ويموت كافراً، والعبد يعمل بُرهةً من دهره بالسعادة، فيُدرِكُهُ ما كُتِبَ له، فيموت كافراً، والعبد يعمل بُرهةً من دهره بالشقاء، ثم يُدرِكُه ما كُتِبَ له فيموت سعيداً ". رواه الطبراني في " الأوسط "
و" الكبير " باختصار من طريق عمر بن إبراهيم العبدي (3).
والخامس والعشرون والمئة: عن عبد الله بن عمرو عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن العبد ليكتب مؤمناً أحقاباً، ثم يموت والله عليه ساخِطٌ، وإن العبد ليكتب كافراً
__________
(1) حديث صحيح. أخرجه البزار (2158)، والطبراني في " الأوسط " (2469).
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (217)، وأخرجه ابن حبان (6176) من وجه آخر عن أبي هريرة. وانظر تمام تخريجه عنده.
(2) أخرجه البزار (2159)، والطبراني في " الكبير " 17/ (340)، وفي " الصغير " (512). وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم في " السنة " (119) وهو حديث صحيح.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (10542). وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (249). وقال الهيثمي 7/ 213: فيه عمر بن إبراهيم العبدي، وقد وثقه غير واحد، وقال ابن عدي: حديثه عن قتادة مضطرب. قلت (القائل الهيثمي): وهذا منها.(6/266)
أحقاباً، ثم يموتُ والله عنه راضٍ، ومن مات همَّازاً لمَّازاً مُلقّباً للناس، كان علامته يوم القيامة أن يَسِمَه على الخُرطوم من كلا الشفتين ". رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق عبد الله بن صالح (1).
والسادس والعشرون والمئة: عن عليٍّ رضوان الله عليه، قال: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر، فحَمِدَ الله وأثنى عليه وقال: " كتابٌ كتبه [الله] فيه أهل الجنة بأسمائهم وأنسابهم مجمل عليهم، لا يُزاد فيهم ولا يُنْقَصُ منهم إلى يوم القيامة، صاحب الجنة مختوم بعمل أهل الجنة، وصاحب النار مختوم بعمل أهل النار وإن عَمِلَ أيَّ عملٍ، وقد يُسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاء حتى يقال: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، فتدركهم السعادة فتستنقذهم منهم (2)، وقد يُسلك بأهل الشقاء طريق أهل السعادة حتى يقال: ما أشْبَهَهَهُ بهم، بل هو منهم، فيدركهم الشقاء، من كتبه الله سعيداً في أمِّ الكتاب، لم يُخرجه من الدنيا حتى يستعمِلَه بعملٍ يُسعِدُه قبل موته، ولو بِفَواق ناقةٍ "، ثم قال: " الأعمال بخواتيمها ثلاثاً ". قال الهيثمي: لعلي عليه السلام حديثٌ في " الصحيح " في القدر غير هذا. رواه في " الأوسط " من حديث حماد بن واقد الصفار (3).
قلت: وله حديث في وجوب الإيمان بالقدر يأتي في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
قلت: وله حديث في وجوب الإيمان بالقدر يأتي في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
والسابع والعشرون والمئة: عن أبي أُمامة مرفوعاً: "لا تَعْجَبوا بعملِ عاملٍ
__________
(1) وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم (136) من طريق عبد الله بن صالح (تحرف عنده إلى: عبيد بن صالح) وهو ضعيف. وانظر " المجمع " 7/ 213.
(2) " منهم " لم ترد في " المجمع ".
(3) وتمام كلامه 7/ 213: وهو ضعيف.(6/267)
حتى تنظروا بِمَ يُختم له". رواه الطبراني (1) من طريق فضَّال بن جُبيرٍ (1).
والثامن والعشرون والمئة: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أخبره بعض من شهد - صلى الله عليه وسلم - فقال لرجل ممن معه: إن هذا لَمِنْ أهل النار، فلما حضر القتال، قاتل الرجل أشد القتال، حتَّى كثرت به الجراح، فأتاه رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله أرأيت الرجل الذي ذكرت أنه من أهل النار، فقد قاتل والله أشد القتال في سبيل الله، وكثرت به الجراح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أما إنه من أهل النار "، فكاد بعض الناس أن يرتاب، فبينا هم على ذلك وجد الرجل ألم الجراح، فأهوى بيده إلى كِنانته، فانتزع منها سهماً، فانتحر به، فاشتد رجل من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قد صدَّق الله قولك. رواه أحمد (2) ورجاله رجال الصحيح.
والتاسع والعشرون والمئة: عن كعب بن مالك نحوه.
رواه الطبراني (3) من طريق محمد بن خالد الواسطي وجماعة لم أعرفهم.
والثلاثون والمئة: عن أكثم بن أبي الجَوْن القصة نحوه وزيادة في المرفوع: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، تُدرِكُهُ الشقوة أو السعادة عند خروج
__________
(1) في " الكبير " (8025) وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 214: فيه فضال بن جبير، وهو ضعيف. قلت: وقال ابن عدي في " الكامل " 6/ 2047: لفضال بن جبير عن أبي أمامة قدر عشرة أحاديث كلها غير محفوظة.
(2) 4/ 135، وعلقه البخاري في " التاريخ الكبير " 5/ 307. وقد تقدم بنحوه 5/ 311 من حديث أبي هريرة وسهل بن سعد. وانظر الرواية الآتية.
(3) في " الكبير " 19/ (170) و (171). وقال الهيثمي 7/ 213: وفيه محمد بن خالد الواسطي، ذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: يخطىء ويخالف، وقال ابن معين: رجل سوء كذاب، ورواه بإسناد آخر، وفيه جماعة لم أعرفهم.(6/268)
نفسه يُختم له ثلاثاً". رواه الطبراني (1) وإسناده حسن.
والحادي والثلاثون والمئة: عن عمرو بن الحَمِقِ الخزاعي أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله قبل موته "، قيل: وما استعمله؟ قال: " يفتح له باب عملٍ صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله ".
رواه أحمد والبزار والطبراني في " الأوسط " و" الكبير "، ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح (2).
والثاني والثلاثون والمئة: عن جُبير بن نُفير أن عمر الجُمَعي حدثه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، استعمله قبل موته " فسأله رجل من القوم: ما استعمله؟ قال: " يهديه الله تبارك وتعالى إلى العمل الصالح قبل موته ثم يقبضه عليه ". رواه أحمد (3) من طريق بقية، وقد صرح بالسماع.
قلت: هكذا رواه الهيثمي عن الجُمَعيِّ، بضم الجيم وفتح الميم. قال الذهبي في كتابه " المشتبه " (4): كذا صحفه بعضهم، وإنما ذا عمرو بن الحَمِق.
فهو الحديث الأول على الصحيح.
__________
(1) في " الكبير (872)، وعنه أبو نعيم في " الصحابة " (1042). وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " 1/ 133 - 134، وابن حجر في " الإصابة " 1/ 75، وعزاه لابن منده، وحسن إسناده.
(2) أخرجه أحمد 5/ 224، والبزار (2155)، وأخرجه أيضاً ابن قتيبة في " غريب الحديث " 1/ 301 - 302، والطحاوي في " مشكل الآثار " 3/ 261، والبيهقي في " الزهد " (814)، وفي " الأسماء والصفات " ص 153، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1390)، وصححه ابن حبان (342) و (343)، والحاكم 1/ 340.
(3) 4/ 135.
(4) 1/ 174 وقال الحافظ في " الإصابة " 2/ 514: عمر الجمعي ذكره أحمد في " المسند " وتبعه جماعة، وذكره ابن ماكولا في " الإكمال "، وجزم بأن له صحبة، ومدار حديثه =(6/269)
والثالث والثلاثون والمئة: عن أبي عِنَبَة - قال سريج بن النعمان (1): -وله صحبة-: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله بعبد خيراً عسَّله " قيل: وما عسَّلهُ؟ قال: " يفتح له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه ". رواه أحمد والطبراني وفيه بقية، وقد صرح بالسماع في " المسند "، وبقية رجاله ثقات (2).
والرابع والثلاثون والمئة: عن أبي أُمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
" إذا أراد الله بعبدٍ خيراً، طهَّره قبل موته " قالوا: يا رسول الله، وما طهور العبد؟ قال: " عَمَلٌ صالحٌ يُلهِمُه إياه حتى يقبضه عليه ". رواه الطبراني (3) من طرق، وفي بعضها " عسَّله " بدل " طهره " وفي إحدى طرقه بقية بن الوليد، وقد صرح بالسماع، وبقية رجاله ثقات.
والخامس والثلاثون والمئة: عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أراد
__________
= عند أحمد، ومطين، وابن أبي عاصم، والبغوي، وابن السكن، والطبراني على بقية عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن جبير بن نفير أن عمر الجمعي حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله قبل موته " الحديث قال ابن السكن: يقال: اسمه عمرو بن الحمق، وقال البغوي: يقال: إنه وهم من بقية، وبذلك جزم أبو زرعة الدمشقي، وقد رواه ابن حبان في " صحيحه " من طريق عبد الرحمن بن بجير بن بقية، عن أبيه، فقال: عن عمرو الحمق، وكذلك رواه الطبراني من طريق زيد بن واقد عن جبير بن نفير، وإنما لم أجزم بأنه غلط لمقام الاحتمال.
(1) قلت: سريج بن النعمان: هو أحد رواة السند، وهو سريج بن النعمان بن مروان الجوهرى أبو الحسن البغدادي، روى هذا الحديث عن بقية.
(2) هو في " المسند " 4/ 200، ومن طريقه أخرجه ابن الأثير في " أسد الغابة " 6/ 334.
وأخرجه أيضاً الدولابي في " الكنى " 2/ 10، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1389)، وابن أبي عاصم في " السنة " (400).
(3) في " الكبير " (7522) و (7725) و (7900). وأخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (1388).(6/270)
الله بعبدٍ خيراً عسَّله". قلت: يا رسول الله، وكيف يُعسِّلُه؟ قال: " يُوفِّقُه لعمل صالح قبل موته فيقبضه عليه ". رواه الطبراني في " الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح غير يونس بن عثمان وهو ثقة (1).
والسادس والثلاثون والمئة: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أراد الله بعبدٍ خيراً استعمله " ثم صَمَتَ، فقالوا: يا رسول الله، في ماذا يستعمله؟ قال: " يستعمله عملاً صالحاً قبل أن يموت ". رواه الطبراني في " الأوسط " عن شيخه أحمد بن محمد بن نافع (2).
والسابع والثلاثون والمئة: عن حُذيفة قال: أسندتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى صدري، فقال: " من قال لا إله إلاَّ الله ابتغاء وجه الله، ختم الله له بها دخل الجنة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله، ختم الله له به دخل الجنة، ومن تصدَّق بصدقةٍ ابتغاء وجه الله، ختم الله له بها دخل الجنة ". رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير عثمان بن مسلم البتي، وهو ثقة (3).
والثامن والثلاثون والمئة: عن ابن عباس، عنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله عز وجل قال: أنا خلقتُ الخير والشر، فطُوبى لمن قدَّرْتُ على يده الخير، وويْلٌ لمن قدَّرت على يده الشر ". رواه الطبراني (4)، وخرجه الهيثمي في باب فضل قضاء الحوائج، وقال: فيه مالك بن يحيى النكري (5).
وذكر في باب حُسْنِ الخُلُق عن أبي هريرة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذه الأخلاق
__________
(1) انظر " مجمع الزوائد " 7/ 215.
(2) رقم (1962)، وأحمد بن محمد بن نافع: قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 215: لم أعرفه. قلت: تقدم الحديث من وجه آخر عن أنس ص 394 و429 من هذا الجزء.
(3) 5/ 391، وأخرجه أيضاً البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 303.
(4) في " الكبير " (12797).
(5) وتمام كلامه 8/ 192: وهو ضعيف.(6/271)
مِن الله، فمن أراد الله به خيراً منحهُ خُلُقاً حسناً، ومن أراد الله به سوءاً، منحه خُلُقاً سيئاً". رواه الطبراني في " الأوسط " (1) من طريق مسلمة بن علي (2).
وعنه مرفوعاً: " أوحى الله إلى إبراهيم: إن كلمتي سبقت لمن حَسُنَ خُلُقه أن أُظِلَّه تحت عرشي " الحديث. رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق مؤمَّل بن عبد الرحمن الثقفي (3).
قلت: وفي " صحيح مسلم " (4) من حديث علي مرفوعاً: " اللهم اهدني لأحسن الأخلاق، فإنه لا يهدي لأحسنها إلاَّ أنت، واصرف عني سيئها، فإنه لا يصرف عني سيئها إلاَّ أنت " الحديث.
التاسع والثلاثون والمئة: عن ابن مسعود، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما قال عبدٌ قطُّ إذا أصابه همٌّ أو حُزْنٌ: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمك، عَدْلٌ فيَّ قضاوك " الحديث. خرجه الحاكم وابن حبان في " صحيحيهما " والسيد أبو طالب في " أماليه " (5).
__________
(1) في الأصول: " في الأوسط والكبير "، وهو سبق قلم من المصنف رحمه الله.
(2) تقدم تخريجه 5/ 301. ومسلمة بن علي ضعيف كما قال الهيثمي 8/ 20، لكن يشهد له ما رواه ابن أبي الدنيا في " مكارم الأخلاق " (31) عن الحسن بن الصباح، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي المنهال (هو عبد الرحمن بن مطعم) بنحو حديث أبي هريرة. وهذا مرسل صحيح. وروى مثل حديث أبي هريرة (32) عن ابن طاووس، عن أبيه قوله.
(3) ذكره الهيثمي في " المجمع " وقال: مؤمل بن عبد الرحمن ضعيف، وأشار إليه الحافظ في " الفتح " 2/ 144 وضعف إسناده.
(4) برقم (771) وقد تقدم تخريجه 5/ 296.
(5) حديث صحيح. أخرجه ابن حبان (972) بتحقيقنا، والحاكم 1/ 509.
وأخرجه أحمد 1/ 391 و452، والطبراني في " الكبير " (10352)، وأبو يعلى 249/ 2. =(6/272)
وفي قوله: " ماض في حكمك، عدل في قضاوك " ترجمة عن مذهب أهل السنة بأن لله تعالى كمال القدرة والقدر والمشيئة في العباد مع كمال العدل في ذلك القدر والقضاء.
وروى الحاكم في " مستدركه " (1) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] قال: قال آدم: يا رب ألم تخلُقْني بيدك؟ قيل له: بلى، ونفختَ فيَّ من روحك؟ قيل له: بلى، وعطستُ فقلت: يرحمك الله، وسبقت رحمتُك غضبك؟ قيل: بلى، وكتبت عليَّ أن أعمل هذا؟ قيل له: بلى، قال: أفرأيت إن تبتُ، هل راجعي إلى الجنة؟ قال: نعم. ثم قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وذكر ابن كثير في آخر ما ورد في خلق آدم من المجلد الأول من " البداية والنهاية " (2)، وذكر في الأحاديث الواردة في خلق آدم عليه السلام: إن الله خلقه من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنوه على قدر الأرض، فجاء فيهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وبين ذلك ". رواه أحمد عن يحيى، ومحمد بن جعفر، وهوذة، ثلاثتهم عن عوف، عن قَسَامَة بن زهير، عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً. وكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في " صحيحه " من حديث عوف بن أبي جميلة الأعرابي بنحوه. وقال الترمذي: حسن صحيح (3).
__________
= ووصف المصنف لمستدرك الحاكم بالصحيح فيه تسامح، فإن فيه أحاديث كثيرة ضعيفة، وأحاديث غير قليلة موضوعة.
(1) 2/ 545. وأخرجه أيضاً الطبري في " جامع البيان " (775) موقوفاً على ابن عباس، وإسناده حسن. وأورده السيوطي في " الدر المنثور 1/ 142 - 143، وزاد نسبته إلى الفريابي، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2) 1/ 89.
(3) حديث صحيح. وأخرجه أحمد 4/ 400 و406، وأبو داود (4693)، والترمذي =(6/273)
وقد ذكر السُّدي عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة عن ابن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث خلق آدم وفيه: " وأخذ من وجه الأرض ولم يُؤخذ من مكانٍ واحدٍ، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين " (1).
الأربعون والمئة: عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله، إني رجلٌ شابٌّ أخافُ على نفسي العَنَتَ، ولا أجِدُّ ما أتزوج به أفلا أختصي؟ فسكت عني فقلتُ له مثل ذلك، فقال: " يا أبا هريرة، جف القلم بما أنت لاقٍ فاخْتَصِ على ذلك أو ذَرْ ". أخرجه البخاري والنسائي (2).
الحادي والأربعون والمئة: عن ابن عباس أنه قال في الغلام الذي قتله الخَضِرُ: إنه طبع كافراً. رواه البخاري ومسلم موقوفاً (3)، ورواه مسلم وحده عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرفوعاً (4).
__________
= (2955) وصححه ابن حبان (6160) و (6181). وانظر تمام تخريجه فيه.
(1) أخرجه الطبري في " جامع البيان " (607) و (644)، وفي " التاريخ " 1/ 90، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 362 من طريق عمرو بن حماد، عن أسباط بن نصر، عن السدي. وذكره ابن كثير في " تفسيره " 1/ 79 - 80 ثم قال: فهذا الإسناد إلى هؤلاء الصحابة مشهور في تفسير السدي ويقع فيه إسرائيليات كثيرة، فلعل بعضها مدرج ليس من كلام الصحابة، أو أنهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة، والله أعلم.
(2) أخرجه البخاري (5076) معلقاً، ووصله الجوزقي في " الجمع بين الصحيحين " والفريابي في كتاب " القدر "، والإسماعيلي كما في " الفتح " 9/ 119، و" تغليق التعليق " 4/ 396. وأخرجه النسائي 6/ 59 - 60، وابن أبي عاصم في " السنة " (109) (110)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (603) و (604).
(3) البخاري (3401) و (4725) و (4727)، ومسلم (2380). وانظر " صحيح ابن حبان " (6222) بتحقيقنا.
(4) هو من حديث ابن عباس عن أُبي بن كعب، وهو في " صحيح مسلم " (2380) =(6/274)
وخرج الحاكمُ عن ابن عباس موقوفاً: أنه سُئِل عن الولدان في الجنة؟ فقال: " حَسْبُكَ ما اختصم فيه موسى والخضر ". وقال: صحيح الإسناد (1).
وفي حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما: " والله لقد لعنك (2) الله وأنت في صَلبِ أبيك ". رواه الطبراني من حديث عطاء بن السائب (3). وخرجه الهيثمي في باب من ذم من القبائل وأهل البدع (4)، وله شواهد ذكرت في هذا الكتاب.
ومن المناقب.
الثاني والأربعون والمئة: عن عبد الله بن سَبُعٍ قال: سمعتُ علياً رضي الله عنه يقول: لتُخْضَبَنَّ هذه من هذه، فما ينتظِرُ بي الأشقى، قالوا: يا أمير المؤمنين، أخبرنا به فنُبِيرُ عِترته! فقال: إذاً والله تقتلون بي غير قاتلي، قالوا: فاستخلِفْ علينا قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فماذا تقول لربك؟ قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتَهُم.
رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن سَبُعٍ، وهو ثقة (5).
__________
= (172) و (2661). وقد تقدم 5/ 224. وانظر " ابن حبان " (6221).
(1) " المستدرك " 2/ 369 - 370. وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 426 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
(2) تحرفت في الأصول إلى: " بعثك "، والتصويب من مصادر التخريج.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (2740)، وأبو يعلى 311/ 1 من طريق حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبي يحيى الأعرج، عن الحسن.
(4) أي: مما ذكره الهيثمي في كتاب المناقب من " مجمع الزوائد ".
(5) أخرجه أحمد 1/ 130، وأبو يعلى (590)، والنسائي في " مسند علي "، والمزي =(6/275)
ومن التفسير:
الثالث والأربعون والمئة: عن أبي ذرٍّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الكنزُ الذي ذكره في كتابه لَوْحٌ من ذهب مُضَمَّنٌ: عَجِبْتُ لمن أيْقَنَ بالقدر ثم نَصِبَ، وعَجِبتُ لمن ذكر النار ثم ضَحِكَ، وعجبتُ لمن ذكر الموت ثم غفل " رواه البزار (1) من طريق بشر بن المنذر، عن الحارث بن عبد الله اليحصبي.
والرابع والأربعون والمئة: عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَمِنهُم شَقِي وسَعِيدٌ} [هود: 105] ونحو هذا من القرآن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلاَّ من سبق له من الله السعادة، ولا يَضِلُّ إلاَّ من سبق له من الله الشقاء، ثم قال لنبيه: {لَعَلَّك باخِعٌ نفسَكَ أن لا يَكُونوا مُؤْمِنينَ} [الشعراء: 3] رواه الطبراني (2) ورجاله وُثِّقوا.
والخامس والأربعون والمئة: عن ابن عُمَرَ في قوله: {يَمْحُو الله ما يَشاءُ ويُثْبِتُ} [الرعد: 39] أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يمحو الله ما يشاء إلاَّ الشقاوة والسعادة، والحياة والموت ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق محمد بن جابر اليمامي (3).
__________
= في " تهذيب الكمال " 15/ 5 - 6 من طريق عبد الله بن سبع، عن علي. وعبد الله بن سبع: لم يرو عنه غير سالم بن أبي الجعد، ولم يوثقه غير ابن حبان.
وأخرجه البزار (2572) من وجه آخر عن علي، وحسَّن الهيثمي إسناده في " المجمع " 9/ 137.
(1) رقم (2229). قال الهيثمي 7/ 53: رواه البزار من طريق بشر بن المنذر، عن الحارث بن عبد الله اليحصبي ولم أعرفهما.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور 5/ 421 وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2) أخرجه في " المعجم الكبير (13025) من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ولم يسمع علي بن أبي طلحة منه.
(3) وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 660 وزاد نسبته لابن مردويه وضعف إسناده، =(6/276)
وأما حديث أمِّ حبيبة الذي خرجه مسلم (1) في الأمر بسؤال الجنة، والاستعاذة من النار دون الدعاء بالعُمُر والرزق وتعليل ذلك بسبق القدر في العمر والرزق فوجهه -والله أعلم- أن الدعاء فيما كلفنا باكتساب أسبابه عبادةٌ مطلوبة منه كالعمل، لأنه من جملة الأسباب المطلوبة، وأما فيما لم نُكلَّف، كالدعاء بالرزق والعمر، فإنه مباحٌ لنا، غير مطلوبٍ منا، وثمرة طلب المقدورات يذكر في المرتبة الرابعة.
والسادس والأربعون والمئة: عن جابرٍ في قوله تعالى: {وكُلَّ إنْسَانٍ ألزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِه} [الإسراء: 13]، وسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " طير كل عبد في عنقه "، رواه أحمد (2) من طريق ابن لهيعة. وفائدة ذكره مع الآية معرفة عدم
__________
= وهو كما قال، فإن محمد بن جابر اليمامي ضعيف الحديث.
وله شاهد من حديث ابن عباس موقوفاً أخرجه الطبري في " جامع البيان " (20461) - (20466) وذكره السيوطي 4/ 659 وزاد نسبته إلى عبد الرزاق، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في " الشعب ".
(1) برقم (2663) من حديث ابن مسعود. وأخرجه أيضاً أحمد 1/ 390 و413 و433 و466، والبغوي (1362)، وصححه ابن حبان (2969)، ولفظه: أن أم حبيبة قالت: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبأبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجِّل شيئاً قبل حلِّه، أو يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب النار، أو من عذاب القبر، كان خيراً وأفضل ".
(2) 3/ 342. وأخرجه عبد بن حميد في " مسنده " كما في " تفسير ابن كثير " 3/ 30 قالا: حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر فذكره. وهذا سند ضعيف لضعف ابن لهيعة، ثم إن أبا الزبير مدلس وقد عنعن.
وأخرجه الطبري في " جامع البيان " 15/ 50 - 51 من طريق هشام الدستوائي عن قتادة، عن جابر مرفوعاً. وزاد في أوله: " لا عدوى ولا طيرة ". وهذا سند منقطع، فإن قتادة لم يسمع من جابر شيئاً.(6/277)
تأويلها (1).
ومن كتاب الفتن في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام: 65] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني سألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يُهْلِك أمتي بسنة عامة، ولا يُسَلِّطَ عليهم عدواً فيَهْلِكَهم عامة، وأن لا يلبِسَهُم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعضٍ، فقال: يا محمد، إني قضيت قضاءً لا يُرَدُّ، وإني قدرت أني لا أُهلِكُهم بسنة عامةٍ، وأن لا أُسلِّط عليهم عدوّاً بعامة، فيهلكوهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ".
رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح (2).
والسابع والأربعون والمئة: عن جابر بن عَتيكٍ أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - دعا بأن لا يُظهِر عليهم عدواً من غيرهم، وأن لا يهلكهم بالسنين، فأُعطِيَها، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم، فمُنِعها، فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة. رواه أحمد (3) لرجاله ثقات.
__________
= وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 49 وقال: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 249 من رواية أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وحسَّن إسناده!
(1) في (أ): " وفائدة ذكره مع عدم تأويلها "، وفي (ف): " وفائدة ذكره مع معرفة عدم تأويلها " وكلاهما خطأ، والمثبت من (ش).
(2) أخرجه أحمد 4/ 123، والبزار (3291) من حديث شداد بن أوس وقال البزار: رواه حماد بن زيد، وعباد عن أيوب، عن أبي أسماء، عن ثوبان، وهو الصواب، وكذلك رواه قتادة. قلت: حديث ثوبان مخرج في " صحيح ابن حبان " (7238).
(3) 5/ 445، وصححه الحاكم 4/ 517 على شرط الشيخين. وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 286، ونسبه لأحمد والحاكم. وأورده أيضاً ابن كثير في " تفسيره " 2/ 145 من رواية أحمد، وقال: إسناده جيد قوي.(6/278)
والثامن والأربعون والمئة: عن أبي هريرة نحوه، وفيه: " سألت ربي فمنعنيها " رواه الطبراني في " الأوسط " (1)، ورجاله ثقات.
ورواه البزار عن أبي بصرة الغفاري، وابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وأنس، وابن عباس، ونافع بن خالد الخزاعي عن أبيه، وجابر (2) بن عتيك أيضاً غير حديثه الأول. وكلها عند الطبراني (3) والحديث في الكتب الستة بطرق معروفة.
__________
(1) رقم (1883)، وفيه: " سألت ربي لأمتي أربع خلال، فأعطاني ثلاثاً، ومنعني واحدة، سألته أن لا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها ... " وفيه أسباط بن نصر، وهو كثير الخطأ.
وأخرجه البزار (3290)، والحاكم 4/ 516 - 517 من وجهين آخرين عن أبي هريرة، ولفظه: " سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة ... " وصححه الحكم.
(2) كذا قال المصنف، والصواب: " جبر بن عتيك "، وهو أخو جابر بن عتيك.
(3) أما حديث أبي بصرة الغفاري، فأخرجه أحمد 6/ 396، والطبراني في " الكبير " (2171)، وفيه رجل لم يسم.
وحديث ابن عمر لم أجده ولم يذكره الهيثمي في " المجمع ".
وحديث علي بن أبي طالب أخرجه الطبراني في " الكبير " (179)، وقال الهيثمي 7/ 222: فيه أبو حذيفة الثعلبي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
وأما حديث أنس، فأخرجه الطبراني في " الصغير (1)، وقال الهيثمي 7/ 222: فيه جنادة بن مروان الأزدي، وهو ضعيف. قلت: وفيه أيضاً المبارك بن فضالة والحسن البصري، وهما مدلسان وقد عنعنا، لكن أخرجه أحمد 3/ 146 و156، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 326، والحاكم 1/ 314، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 1/ 242 من طريق عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن الضحاك بن عبد الله القرشي، عن أنس. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأورده الهيثمي في " المجمع " 2/ 236 وقال: رجاله ثقات. قلت: الضحاك بن عبد الله القرشي لم يوثقه غير ابن حبان.
وحديث ابن عباس أخرجه الطبراني في " الكبير " (12274). قال الهيثمي 7/ 222: فيه =(6/279)
وخرج الحاكم في " المستدرك " عائشة مرفوعاً: " الطير تجري بقدر " (1).
وخرَّج حديث حكيم بن حزام مرفوعاً في الرقى هل ترُدُّ من قدر الله؟ قال: " هي من قدر الله ". وقال فيه: صحيح على شرطهما (2).
وخرج الحاكم من ذلك شيئاً كثيراً، ومنه عن كريب، عن ابن عباس (3).
التاسع والأربعون والمئة، والخمسون والمئة، والحادي والخمسون
__________
= محمد بن أبي ليلى، وهو سيىء الحفظ.
وحديث خالد الخزاعي أخرجه الطبراني في " الكبير (4112) و (4114)، والبزار (3289). وقال الهيثمي 7/ 223: رواه الطبراني بأسانيد ورجال بعضها رجال الصحيح غير نافع بن خالد، وقد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يجرحه أحد، ورواه البزار أيضاً.
وحديث جبر بن عتيك أخرجه الطبراني في " الكبير " (1781) وقال الهيثمي 7/ 222: فيه جابر الجعفي، وهو ضعيف.
(1) حديث حسن. وقد تقدم تخريجه ص 226 من هذا الجزء، وهو الحديث السادس بعد المئة.
(2) أخرجه الحكم 1/ 32 و4/ 402 من طريق إبراهيم بن حميد الطويل، حدثنا صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن عروة، عن حكيم بن حزام. ومن هذه الطريق أخرجه الطبراني في " الكبير " (3090).
وأورده الهيثمي في " المجمع " 4/ 85 وقال: فيه صالح بن أبي الأخضر، وهو ضعيف يعتبر بحديثه.
وأخرجه الحاكم أيضاً 1/ 32 من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، عن حكيم بن حزام. وقال: قال مسلم في تصنيفه فيما أخطأ معمر بالبصرة: إن معمراً حدث به مرتين، فقال مرة: عن الزهري، عن أبي خزامة، عن أبيه. قال الحاكم: وعندي أن هذا لا يُعلِّلُه، فقد تابع صالح بن أبي الأخضر معمر بن راشد في حديثه عن الزهري، عن عروة. وصالح -وإن كان في الطبقة الثالثة من أصحاب الزهري- فقد يستشهد بمثله.
قلت: وحديث أبي خزامة تقدم تخريجه ص 401.
(3) أخرجه الحكم 2/ 433 وتقدم تخريجه في ص 297 (1).(6/280)
والمئة، والثاني والخمسون والمئة: ذكر الهيثمي في مناقب أشج عبد القيس مرفوعاً: " إن فيك خُلُقَين يحبهما الله ورسوله " قال: الله جَبَلَني عليهما أمْ أنا أتَخَلَّق بهما؟ قال: " بل جبلك الله عليهما " قال: الحمد لله الذي جبلني (1) سلى خُلُقين يُحبُّهما الله ورسوله. رواه أحمد (2) والطبراني وأبو يعلى، أما أحمد، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة برجال الصحيح، وأما الطبراني وأبو يعلى، فعن مزيدة جد هود (3) العبدي ورجالهما ثقات، وفي بعضهم خلاف (4)، وله طرق وشواهد.
منها: عن الزارع، رواه البزار من طريق أم أبان بنت الزارع (5).
ومنها: عن نافع العبدي، رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط " من طريق سليمان بن نافع العبدي (6).
الحديث الثالث والخمسون والمئة: ما رواه أبو داود في كتاب
__________
(1) في (ش): خلقني.
(2) 4/ 205 - 206.
(3) تحرف في (ش): إلى جهوذ.
(4) أخرجه الطبراني 20/ (812)، وأبو يعلى 316/ 2، والبيهقي في " الدلائل " 5/ 327، وابن الأثير في " أسد الغابة " 5/ 151، وسنده حسن في الشواهد.
(5) أخرجه البزار (2746)، والطبراني (312)، والبيهقي في " السنن " 7/ 102، وفي " الدلائل " 5/ 327 - 328.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 9/ 388 - 390 وقال: رواه البزار، وفيه أم أبان بنت الزارع، روى لها أبو داود، وسكت على حديثها!، فهو حسن، وبقية رجاله ثقات.
(6) وأخرجه إسحاق بن راهويه في " مسنده " كما في " أسد الغابة " 5/ 302 - 303، و" الإصابة " 3/ 515 عن سليمان بن نافع، وفي حديثه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك للمنذر بن ساوى لا لأشج عبد القيس، واسمه المنذر بن عائذ.
ولهذه الأحاديث شواهد انظرها في " صحيح ابن حبان " (7203) و (7204).(6/281)
" المراسيل " (1) من حديث محمد بن مسلمة، عن ابن وهب، [عن يونس]، عن ابن شهابٍ، قال: بُلِّغْتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول إذا خطب: " كل ما هو آتٍ قريبٌ، [لا بُعْدَ لما هو آتٍ]، لا يُعَجِّل الله لِعجلةِ أحدٍ، ولا يَخِفُّ لأمر الناس، ما شاء الله لا ما شاء الناس، يريد الناس أمراً، ويريد الله أمراً، وما شاء الله كان، ولو كره الناس، ولا مُبَعِّدَ لما قرَّب الله، ولا مُقَرِّب لما بَعَّدَ الله، ولا يكون شيءٌ إلاَّ بإذن الله ".
الحديث الرابع والخمسون والمئة: عن أبي هريرة رضي الله عنه (2) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تسألُ المرأة طلاق أُخْتِها لِتكفأَ ما في إنائها، فإنه ليس لها إلا ما قُدِّر لها ". رواه البخاري ومسلم (3).
وقال ابن عبد البر في " التمهيد " (4): إنه أصح حديث روي في الباب، يعني: باب القدر.
الحديث الخامس والخمسون والمئة: عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرقه وفاطمة، فقال: " ألا تُصلِّيان؟ " فقال علي: إنما أنفُسنا بيد الله، إن شاء يبعثنا بعثنا، فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرجع إليَّ شيئاً،
__________
(1) رقم (58) بتحقيقنا، وهو على إرساله رجاله ثقات رجال الصحيح. ورواه البيهقي 3/ 215 من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب، بهذا الإسناد.
(2) في الأصول الثلاثة: عن عائشة رضي الله عنها، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، فالحديث حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) البخاري (5152) و (6601)، وانظر أيضاً (2140) و (2723)، وأخرجه مسلم (1408) (38) و (39) و (51) و (52)، ومالك في " الموطأ " 2/ 900، وأحمد 2/ 238 و394 و410 و487 و489 و508 و516، وأبو داود (2176)، والترمذي (1190)، والنسائي 6/ 71 - 72 و7/ 258، وابن حبان (4069) كلهم من حديث أبي هريرة.
(4) 18/ 165، ونص كلامه فيه: وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم والسنة، وفيه أن المرء لا يناله إلاَّ ما قُدر له.(6/282)
ثم سمعته وهو منصرفٌ يضرب فخذه ويقول: {وكانَ الإنسان أكثَرَ شيءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] أخرجه البخاري ومسلم والنسائي (1).
وفي رواية النسائي: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة، فأيقظنا للصلاة، ثم رجع إلى بيته فصلى هَوِيّاً من الليل، فلم يسمع لنا حسّاً، فرجع إلينا، فأيقظنا فقال: " قوما فصَلِّيَا " قال: فجلست أعْرُكُ عينى وأقول: أما والله ما نُصَلِّي إلاَّ ما كتب الله لنا، إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا بعثنا. الحديث (2).
وقد ختمت هذا القسم بحديث علي كما افتتحه بحديثه عليه السلام، ثم وسطتُ بينها من حسان آثاره روايات أهل بيته ما يشهد بغلط المعتزلة عليهم، وسيأتي في القسم الثاني شيء من ذلك، ولله الحمد والمنة.
وتقدمت أحاديث لم يذكر عددها سهواً، وهي اثنان وعشرون حديثاً، منها: ثلاثة بعد الثانية والثلاثين.
ومنها: خمسة بعد التسعة والثلاثين.
ومنها: ثلاثة بعد الحادي والأربعين والمئة.
ومنها: حديث بعد الستة والأربعين والمئة.
ومنها: عشرة (3) بعد الثمانية والأربعين والمئة، صارت مئة وخمسة وسبعين حديثاً.
__________
(1) البخاري (1127) و (4724) و (7347) و (7465)، ومسلم (775)، والنسائي 3/ 205، وصححه ابن حبان (2566)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) النسائي 3/ 206.
(3) في (أ): عشر.(6/283)
ويلحق بهذا ما خرَّج أبو داود في باب لزوم السنة (1) أن رجلاً كتب إلى عُمَرَ بن عبد العزيز يسأله عن القدر؟ فكتب إليه أما بعد: فإني أُوصيك بتقوى الله، والاقتصاد في أمره، واتباع سُنَّة رسوله، وترك ما أحدث المُحْدِثون بعد ما جرت به سُنَّتُه، وكُفُوا مُؤْنَتَه، ثم اعلم أنه لم تُبتدع بِدعة إلاَّ قد مضى قبلها ما هو دليلٌ عليها وعِبْرةٌ فيها، فإن السنة إنما سنَّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمْقِ والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على (2) علم وقفوا، وبِبَصرٍ كَفُّوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبفضل ما كانوا فيه أحرى، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: إنما حدث بعدهم ما أحدثه إلاَّ من اتبع غير سبيلهم، ورَغِبَ عنهم، فإنهم هم السابقون، فقد تكلَّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه (3) ما يشفي (4)، وقد قصَّر قومٌ دونهم فَجَفَوا، وطمح عنهم أقوام فغَلَوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم، كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر، فعلى الخبير بإذن الله وقعت، ما أعلم أحدث الناس من مُحدَثَةٍ هي أبين أثراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذِكره في الجاهلية الجهلاء في كلامهم وشعرهم يُعَزُّون به أنفسهم على ما فاتهم، ولم يزده الإسلام إلاَّ شدة، ولقد ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث، قد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيءٌ لم يُحِطْ به علمه، ولم يُحصه كتابه، ولم يمض فيه قدره، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه، ومنه تعلموه، ولئن قلتم: لم أنزل الله آية كذا. لقد قرؤوا منه ما قرأتم وعلموا من تأويله ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك: كله بكتابٍ وقَدَرٍ وكتبت الشقاوة، وما يُقَدَّرْ يَكُنْ، وما شاء الله كان،
__________
(1) رقم (4612).
(2) في (أ) و (ف): عن.
(3) في (أ) و (ف): ووضعوا فيه.
(4) في أبي داود هنا زيادة هي " فما دونهم من مقصر، وما فوقهم من محسر ".(6/284)
وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضراً، ثم رَغِبُوا بعد ذلك ورَهِبُوا.
القسم الثاني: ما يدل على وجوب الإيمان بالقدر وذمِّ منكره.
الحديث الأول: عن يحيى بن يَعْمَرَ، قال: كان أول من قال بالقدر بالبصرة: معبدٌ الجُهَني، فانطلقت أنا وعُبيد بن عبد الرحمن الحِميري حاجَّيْن أو ومُعتَمِرَيْن، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، فاكتنفتُه أنا وصاحبي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناسٌ يقرؤون القرآن ويتقفَّرون العلم، وذكر من شأنهم، وأنهم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أُنُفٌ، فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني منهم بريءٌ، وأنهم بُرَآءُ مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً، فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر، قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحنُ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحدٌ حتى جلس إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ قال: " أن تشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحُجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً " قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويُصدِّقُه، قال: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: " أن تؤمن بالله وملائكته وكُتُبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره " الحديث.
أخرجه مسلم في " الصحيح " وهذا لفظه، والترمذي، وأبو داود، والنسائي (1).
__________
(1) مسلم (8)، والترمذي (2610)، وأبو داود (4695)، والنسائي 8/ 97، وصححه ابن حبان (168) وانظر تمام تخريجه فيه.(6/285)
الثاني: عن أبي هريرة مرفوعاً بنحوه. خرجه مسلم ولفظه: " وتؤمن بالقدر كله " (1).
وذكر الحافظُ محمد بن موسى المراكشي أن البخاري إنما لم يخرج حديثَ ابن عمر لاضطرابٍ وقع في إسناده، فإن من الرواة من جعله عن عمر، ومنهم من جعله عن ابنه عبد الله بن عمر (2).
قلت: وهذا لا يضر لأنهما ثقتان.
الثالث: عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بأربعٍ "، وذكر فيها: " ويؤمن بالقدر ". رواه الترمذي، وابن ماجه، والحاكم في " المستدرك " وقال: صحيح على شرط الشيخين (3)، قال: وقد قصّر بروايته بعض أصحاب الثوري، وهو عندنا مما لا يُعبأ به، يعني أنه اختلف فيه على سفيان، فرواه عنه أبو عاصم ومحمدُ بن كثير، فقالا: عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن علي به، ورواه أبو حذيفة، عن سفيان، عن منصور، عن ربعي، عن رجل، عن علي (4).
__________
(1) مسلم (10)، وانظر " صحيح ابن حبان " (159).
(2) وانظر " فتح البارى " 1/ 115 - 116.
(3) الترمذي (2145)، وابن ماجه (81)، والحاكم 1/ 32 - 33 و33، وصححه ابن حبان (178) وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) أخرجه من طريق أبي حذيفة -وهو موسى بن مسعود النهدي- بهذا الإسناد الحاكم 1/ 33، وقد تابعه عليه عن سفيان أبو نعيم الفضل بن دكين عند البغوي في " شرح السنة " (66).
وأخرجه أيضاً الطيالسي (106) عن ورقاء، والترمذي (2145) من طريق شعبة، كلاهما عن منصور، عن ربعي، عن رجل، عن علي. قلت: وقد صحح الترمذي الرواية الأولى وهي " منصور، عن ربعي بن حراش، عن علي ".(6/286)
قال: وأبو حذيفة موسى بن مسعود النهدي كثير الوهم، وإن كان البخاري يحتج به لا يُحكم له على أبي عاصم النبيل ومحمد بن كثير وأقرانهم، بل يلزم الخطأ إذا خالفهم، ويدلُّ على ما ذكرته متابعة جرير بن عبد الحميد للثوري في روايته عن منصور، عن ربعي، عن علي، ثم ساقها وقال فيها: " ويؤمن بالقدر كله ".
قلت: وكذلك اختلف على شعبة، فرواه عنه أبو داود عن منصورٍ، عن ربعي، عن علي.
ورواه النضر بن شميل، عن شعبة، عن منصور، عن ربعي، عن رجل، عن علي.
ورواه ابن ماجه من طريق شريك، عن منصور، عن ربعي، عن علي.
ذكره المزي في " أطرافه " (1).
قلت: ويمكن أن ربعياً سمع الحديث عن رجل، عن علي، ثم سأل علياً عنه، فرواه بالوجهين معاً. والله أعلم.
الرابع: عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن عبدٌ حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ". خرجه الترمذي (2) من طريق عبد الله بن ميمون، قال: وفي الباب عن عُبَادة وجابر، وعبد الله بن عمرو.
__________
(1) 7/ 371 - 372.
(2) رقم (2144) عن أبي الخطاب زياد بن يحيى البصري، عن عبد الله بن ميمون، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر ... فذكره. ثم قال: وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن ميمون، وعبد الله بن ميمون منكر الحديث.
قلت: لكن الحديث صحيح بشواهده، وحديث عبد الله بن عمرو الذي أشار إليه الترمذي تقدم تخريجه ص 423، وحديث عبادة هو الآتي عند المؤلف.(6/287)
الخامس: عن عُبادة بن الصامت قال لابنه عند الموت: يا بني إنك لن تَطْعَمَ طَعْمَ حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " إن أول ما خلق الله القلمُ، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ فقال: اكتبْ مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ". يا بني: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من مات على غير هذا فليس مني ". خرجه أبو داود واللفظ له، وللترمذي نحوه، وقال: حسن غريب من هذا الوجه (1).
وأخرج الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي في كتابه " مجمع الزوائد " (2) على الكتب الستة شواهد كثيرة لحديث عمر بن الخطاب في الإيمان بالقدر خيره وشره.
فمنها:
السادس: عن ابن عباس، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل حديث عمر وأتم منه، وفيه: " وتؤمن بالقدر كله خيره وشره ". وقال: رواه أحمد والبزارُ بنحوه، وفي إسناد أحمد شهر بن حوشب (3).
قلت: هذا يدل على أن إسناد البزار غير (4) إسناد أحمد.
ومنها السابعُ والثامن: عن علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُنِيَ الإسلامُ على ثلاثة: أهلُ لا إله إلاَّ الله، فلا تُكَفِّروهُمْ
__________
(1) أبو داود (4700)، والترمذي (2155) و (3319).
(2) 1/ 38 - 41.
(3) أحمد 1/ 319، والبزار (24). وأورده الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 6/ 356 - 357 سورة لقمان من طريق " المسند " وقال: حديث غريب ولم يخرجوه. قلت: وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في " الفتح " 1/ 116.
(4) في الأصول: عن، وهو خطأ، فإن سند البزار ليس فيه شهر بن حوشب.(6/288)
بذنبٍ، ولا تشهدوا عليهم بِشِركٍ، ومعرفةُ المقادير خيرها وشرها من الله، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة لا ينقُضُ ذلك جَوْرُ جَائِرٍ". رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه إسماعيل بن يحيى التيمي من ذرية أبي بكر رضي الله عنه (1).
ومنها التاسع: عن ابن عامرٍ، أو أبي عامر، أو أبي مالكٍ عنه صلى الله عليه وآله وسلم بالحديث بطوله، وفيه: " وأن تؤمن بالقدر كله خيره وشره ". رواه أحمد من طريق شهر أيضاً (2).
العاشر: وهو الشاهدُ الرابع عن أنس عنه - صلى الله عليه وسلم - بالحديث ولفظه: " ويؤمن بالقدر كله " رواه البزار (3) من طريق الضحاك بن نبراس (4).
__________
(1) إسماعيل بن يحيى التيمي: هو إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، قال صالح جزرة: كان يضع الحديث، وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تَحِلُّ الرواية عنه، وقال ابن عدي: عامَّة ما يرويه بواطيل، وقال أبو علي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: كذاب، وقال الذهبي في " الميزان " 1/ 253: مُجمعٌ على تركه.
(2) " المسند " 4/ 129 و164. وفيه: عن عامر أو أبي عامر أو أبي مالك. وإسناده إلى شهر بن حوشب صحيح على شرط الشيخين، وفي شهر بن حوشب خلاف. وحسن إسناده ابن حجر في " الفتح " 1/ 116.
(3) في الأصول: الحكم، وما أثبته من " مجمع الزوائد " فالمؤلف ينقل هذه الأحاديث من هناك.
(4) البزار (22)، وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 40 بعد أن نسبه إلى البزار: وفيه الضحاك بن نبراس قال البزار: ليس به بأس، وضعفه الجمهور.
قلت: وأخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " (191) من طريق الضحاك بن نبراس، عن ثابت، عن أنس. وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/ 116 بعد أن نسبه إلى البخاري والبزار: إسناده حسن! كذا قال مع أنه قال في " التقريب " في ترجمة الضحاك بن نبراس: لين الحديث.(6/289)
ومنها الحادي عشر: عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير ذكر عمر بالحديث، وفيه: " ويؤمن بالقدر خيره وشره وحُلوه ومُرِّه من الله ". خرجه الطبراني في " الكبير " (1) ورجاله موثقون.
ومنها الثاني عشر: عن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتيته لأبايعه، فدعاني إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنه رسول الله، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: ثم ألقى عليَّ كساءه، ثم أقبل على أصحابه، فقال: " إذا جاءكم كريمُ قومٍ فأكرموه ". رواه الطبراني في " الكبير " (2) من طريق حُصين بن عمر.
ومنها الثالث عشر: عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ". رواه البزار وقال: إسناده حسن (3).
انتهى ما ذكره الهيثمي في باب الإيمان دون ما ذكره في باب القدر.
الرابع عشر: وخرج حديث عدي بن حاتم في باب القدر. رواه الطبراني من طريق عبد الأعلى (4) بن أبي المساور (5).
__________
(1) رقم (13581)، والهيثمي في " المجمع " 1/ 40 - 41.
وأخرجه كذلك من حديث ابن عمر ولم يرفعه إلى أبيه: أحمد 1/ 52 - 53 و53 و2/ 107.
(2) رقم (2266)، وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 42: وفي إسناده حصين بن عمر مجمع على ضعفه وكذبه.
(3) البزار (33). وأخرجه كذلك أحمد 6/ 441 - 442.
(4) في الأصول: أبي الأعلى، وهو تحريف، وكنية عبد الأعلى: أبو مسعود.
(5) الطبراني 17/ (138) وموضع الشاهد منه أن عدي بن حاتم قال: يا رسول الله، ما الإسلام؟ قال: " تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره ".
قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 403: وفيه عبد الأعلى بن أبي المساور، وهو متروك. وسيرد عند المؤلف بلفظ آخر، انظر ص 471 من هذا الجزء.(6/290)
الخامس عشر، والسادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر: قال أبو داود في باب القدر من " السنن " (1): حدثنا محمد بن كثير، حدثنا سفيان، عن أبي سِنان، عن وهب بن خالد الحمصي، عن ابن (2) الديلمي قال: أتيتُ أُبي بن كعبٍ، فقلت له: قد وقع في نفسي شيءٌ من القدر، فحدثني لعلَّ الله أن يُذهبه من قلبي، فقال له: لو أنفقت مثل أُحُدٍ ذهباً في سبيل الله ما قَبِلَهُ الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليُخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا، لدخلت النار.
قال: ثم أتيت عبد الله بن مسعود، فقال مثل ذلك.
قال: ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك.
ثم أتيت زيد بن ثابت، فحدثني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك. وإسناده صالح.
التاسع عشر: خرَّج أيضاً (3) حديث حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لكل أُمَّةٍ مجوسٌ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، فمن مات منهم، فلا تشهدوا جنازته، ومن مَرِضَ منهم، فلا تعودوهم، وهم شِيعة الدجال، وحقٌّ على الله أن يُلحِقَهُم بالدَّجَّال ".
__________
(1) رقم (4699)، وإسناده صحيح. وأخرجه أيضاً ابن ماجه (77) عن علي بن محمد، عن إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان، بهذا الإسناد. أبو سنان: هو سعيد بن سنان البرجمي الشيباني، وابن الديلمي: هو عبد الله بن فيروز.
(2) في الأصل: أبي، وهو خطأ.
(3) برقم (4692) من طريق عمر بن عبد الله مولى غفرة، عن رجل من الأنصار، عن حذيفة رفعه. وهذا إسناد ضعيف، عمر مولى غفرة ضعيف ولا يحتج بحديثه، والرجل من الأنصار مجهول. قلت: وأخرجه أيضاً أحمد 5/ 406 - 407 من طريق عمر مولى غفرة، به.
وأخرجه أحمد 2/ 86 بنحوه من حديث عبد الله بن عمر، وفيه أيضاً عمر مولى غفرة وهو ضعيف كما سبق.(6/291)
من طريق عمر بن عبد الله مولى عفرة، عن رجل من الأنصار.
العشرون: قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بنُ أبي حازمٍ (1) عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " القَدَريَّة مَجوس هذه الأمة، إن مَرِضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا، فلا تشهدوهم " (2).
رجاله ثقات، إلاَّ أنه منقطع أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج أحدُ الثقات بلا مدافعة، لكنه لم يدرك عبد الله بن عمر، ولا عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد روى عنهما. قاله الذهبي (3).
الحادي والعشرون: عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تُجالِسُوا أهل القدر ولا تُفاتِحُوهم ". رواه أبو داود أيضاً (4).
الثاني والعشرون: عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " صِنفان من أُمتي ليس لهما في الإسلام نصيبٌ: المُرجئة والقدرية ". رواه الترمذي (5) قال:
__________
(1) في (ش): حاتم، وهو تحريف.
(2) أبو داود (4691)، وأخرجه الحكم 1/ 85 من طريقه، وإسناده ضعيف لانقطاعه، أبو حازم -وهو سلمة بن دينار- لم يدرك ابن عمر كما سيشير إليه المصنف، ولم يسمع من الصحابة غير سهل بن سعد وهو راويته.
(3) في " سير أعلام النبلاء " 6/ 97.
(4) رقم (4710) و (4720)، وإسناده ضعيف فيه حكيم بن شريك الهذلي، وهو مجهول لم يرو عنه غير عطاء بن دينار، وذكره ابن حبان في " ثقاته " 6/ 215، وأخرج حديثه هذا في " صحيحه " (79)، وانظر تمام تخريجه فيه.
(5) رقم (2149). وأخرجه أيضاً ابن ماجه (73)، وفي إسناده عندهما نزار بن حيان، وهو ضعيف.
وأخرجه بنحوه الطبراني (11682)، وفي إسناده وأحد إسنادى الترمذي سلاّم بن أبي عمرة وهو ضعيف أيضاً.(6/292)
هذا حديث غريب، وفي نسخة: حسن غريب، وروى أيضاً نحوه عن ابن عباس بطريق أخرى.
الثالث والعشرون: عن نافع أن ابن عمر جاءه رجل فقال: إنَّ فلاناً يقرأ عليك السلام، فقال: إنه بلغني أنه أحدث، فإن كان قد أَحْدَثَ، فلا تُقْرِهِ مني السلام فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يكون في هذه الأمة أو في أمتي خسفٌ ومسخٌ أو قذفٌ في أهل القدر ". رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح (1).
الرابع والعشرون: عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يكون في أمتي خسفٌ ومسخٌ، وذلك في المكذبين بالقدر ". رواه الترمذي (2).
وروى الهيثمي في " مجمع الزوائد " (3) في المجلد الخامس في باب ما جاء فيمن يكذب بالقدر أحاديث كثيرة.
منها الخامسُ والعشرون: عن أبي الدرداء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة عاقٌّ، ولا مُكَذِّبٌ بالقدر ". رواه أحمد والبزار والطبراني من طريق
__________
(1) الترمذي (2152). وأخرجه أيضاً ابن ماجه (4061). قلت: وفي إسناده عندهما أبو صخر حميد بن زياد -وهو وإن كان من رجال مسلم- مختلف فيه، ضعفه ابن معين في روايتين عنه، وكذا النسائي، وهذا الحديث أحد الأحاديث التي أنكرت عليه فيما قاله ابن عدي في " الكامل "، ومما يؤيد ذلك أنه قد رُوِي هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة دون قوله " في أهل القدر " أو" في المكذبين بالقدر ".
(2) في الأصل: أبو داود، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، فالنص الذي أورده عن ابن عمر في " سنن الترمذي " (2153)، وحديث ابن عمر عند أبي داود (4613) بلفظ: " إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر ". وفي إسنادهما أبو صخر حميد بن زياد، وقد تقدم الكلام عليه في التعليق السالف.
(3) 7/ 202 - 207.(6/293)
سليمان بن عُتبة الدمشقي (1).
والسادس والعشرون: عن ابن عمر سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيكون في هذه الأمة مسخٌ ألا وذلك في المكذبين بالقدر ". رواه أحمد من طريق رشدين بن سعد (2).
والسابع والعشرون: عن ابن عمر، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول مثله.
ورجاله رجال الصحيح (3).
والثامن والعشرون: عن سهل بن سعدٍ (4) قال: ما كان زندقة إلاَّ بين يديها التكذيب بالقدر. رواه الطبراني من طريق إبراهيم بن أعين، وذكره ابن العربي في " عارضة الأحوذي " (5) وعزاه إلى " مسند " أبي أسامة وهو الحارث بن
__________
(1) أحمد 6/ 441، والبزار (2182) وحسَّن إسناده. وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 202 بعد أن نسبه إلى أحمد والبزار والطبراني: فيه سليمان بن عتبة الدمشقي وثّقه أبو حاتم وغيره، وضعفه ابن معين وغيره.
(2) أحمد 2/ 108، وإسناده ضعيف لضعف رشدين بن سعد، وفيه أيضاً أبو صخر حميد بن زياد وقد سبق الكلام فيه قبل قليل. وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 203 بعد أن نسبه إلى أحمد: فيه رشدين بن سعد، والغالب عليه الضعف.
(3) هو في " المسند " 2/ 136 - 137. وفي إسناده أبو صخر حميد بن زياد تقدم الكلام عليه.
(4) كذا هو هنا موقوف نقلاً عن " مجمع الزوائد " 7/ 203، وهو في المطبوع من الطبراني (5944) مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال الهيثمي في " المجمع " بعد أن نسبه إلى الطبراني: فيه إبراهيم بن أعين وهو ضعيف.
(5) 8/ 296. وهو في " مسند " الحارث بن أبي أسامة من حديث أبي هريرة مرفوعاً، ذكره ابن حجر في " المطالب العالية " (2930)، وضعف البوصيري إسناده في " إتحاف المهرة ". وأخرجه بنحوه الآجري في " الشريعة " ص 193 من طريق بقية بن الوليد، عن يحيى بن مسلم، عن بحر السقَّاء، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رفعه بلفظ: "ما كانت زندقه(6/294)
محمد بن أبي أسامة أحد الأئمة.
والتاسع والعشرون: عن جابر بن سمرة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ثلاثٌ أخاف على أمتي: الاستسقاء بالأنواء، وحَيْفُ السلطان (1)، والتكذيب بالقدر ".
رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني، والثلاثة من طريق محمد بن القاسم الأسدي (2).
والثلاثون: عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أخاف على أمتي خمساً: تكذيبٌ بالقدر، وتصديقٌ بالنجوم ". رواه أبو يعلى مقتصراً على اثنتين من الخمس من طريق يزيد الرقاشي (3).
والحادي والثلاثون: عن أبي أُمامة قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخوف ما أخاف على أمتي في آخر زمانها النجوم، وتكذيبٌ بالقدر، وحَيْفُ السلطان ". رواه الطبراني من طريق ليث بن أبي سُليم (4).
والثاني والثلاثون: عن ابن عباس، قال - صلى الله عليه وسلم -: "هلاك أمتي في ثلاث:
__________
= إلا إذا كان أصلها التكذيب بالقدر". وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء، بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن، وشيخه يحيى بن مسلم مجهول، وبحر السقاء ضعيف.
(1) تحرف في " المجمع " إلى: الشيطان.
(2) أحمد 5/ 89 - 90، وأبو يعلى ورقة 349/ 1، والبزار (2181)، والطبراني في " الكبير " (1853) و" الأوسط " (1873) و" الصغير " (12 1)، وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم (324)، وفي سنده عندهم كلهم محمد بن القاسم الأسدي، قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 203: وثقه ابن معين وكذبه أحمد، وضعفه بقية الأئمة. وقال البزار: لين الحديث.
(3) " مسند أبي يعلى " (4135)، وإسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي، وقال الهيثمي 7/ 203 بعد أن نسبه إلى أبي يعلى: فيه يزيد الرقاشي وهو ضعيف، ووثقه ابن عدي!
(4) قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 203: رواه الطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم وهو لين، وبقية رجاله وثقوا.(6/295)
العصبية والقدرية والرواية من غير ثبت". رواه الطبراني من طريق هارون بن هارون (1).
والثالث والثلاثون: عن أبي الدرداء، قال - صلى الله عليه وسلم -: " أخاف على أمتي ثلاثاً: زَلَّة عالمٍ، وجدال منافقٍ بالقرآن، والتكذيب بالقدر ". رواه الطبراني من طريق معاوية بن يحيى الصدفي (2).
والرابع والثلاثون: عن أبي موسى عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إن أمتي لا تزال مستمسِكةً بدينها ما لم يُكذِّبُوا بالقدر، فإذا كذبوا بالقدر، فعند ذلك هلاكهم ". رواه الطبراني، وأبو البركات تابعي لم أعرفه، وبقيتهم ثقات (3).
الخامس والثلاثون: عن أبي أُمامة، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لم يكن شركٌ منذ أهبط الله آدم إلاَّ بَدْؤُه بالتكذيب بالقدر، وما أشركت أمة إلاَّ بتكذيب القدر، وإنكم ستُكذِّبون به أيتها الأمة، فإذا لقيتموهم، فكونوا أنتم سائلين، ولا تُمكِّنوهم من المسألة، فيدخلوا الشبهات ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق سلم بن سالم (4).
والسادس والثلاثون: عن عبد الله بن عمرو، قال - صلى الله عليه وسلم -: "ما هلكتْ أمةٌ إلا
__________
(1) الطبراني (11142)، وأخرجه أيضاً البزار (191). وفي سنده عندهما هارون بن هارون، قال الهيثمي في " المجمع " 1/ 141 و7/ 203 بعد أن عزاه إليهما: وفيه هارون بن هارون وهو ضعيف. وقال البزار بعد إخراجه للحديث: لا نعلمه يروى بهذا اللفظ من وجه صحيح، وإنما ذكرناه إذ لا يحفظ من وجه أحسن من هذا، وهارون ليس بالمعروف بالنقل.
(2) قال الهيثمي 7/ 203 بعد أن نسبه إلى الطبراني: وفيه معاوية بن يحيى الصدفي وهو ضعيف.
(3) قاله الهيثمي في " المجمع " 7/ 203 - 204.
(4) قال الهيثمي 7/ 204 بعد أن نسبه إلى الطبراني في " الأوسط ": وفيه سلم بن سالم ضعفه جمهور الأئمة: أحمد وابن المبارك ومن بعدهم، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به!(6/296)
بالأنواء، وما كان بدءُ إشراكها إلاَّ التكذيب بالقدر". رواه الطبراني في " الكبير " و" الصغير " إلاَّ أنه قال: " ما هلكت أمةٌ قطُّ حتى تُشْرِكَ بالله، ولا أشركت أمة بالله حتى يكون أول إشراكها التكذيب بالقدر " من طريق عمر بن يزيد النصري من بني نصر (1).
والسابع والثلاثون: عن معاذ، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما بعث الله نبياً قط إلاَّ وفي أمته قَدَرِيَّة ومرجئة (2) يُشوِّشُون عليه أمر أمته، ألا وإن الله قد لعن القدرية والمرجئة على لِسان سبعين نبياً ". رواه الطبراني وفيه بقية، ويزيد بن حصين ولم أعرفه (3).
__________
(1) هو في " الصغير " للطبراني (1059)، و" السنة " للالكائي (1114) من طريق العباس بن الوليد بن مريد البيروتي، وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (322) عن دُحيم عبد الرحمن بن إبراهيم، كلاهما عن محمد بن شعيب بن شابور، عن عمر بن يزيد النصري، عن عمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز، عن يحيى بن القاسم بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو رفعه. وأورده البخاري في " التاريخ الكبير " 8/ 300 عن دحيم، به.
قلت: وهذا إسناد ضعيف، عمر بن يزيد النصري روى عنه اثنان وأورده البخاري في " تاريخه " 6/ 205، وابن أبي حاتم 6/ 142 ولم يأثرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وقال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 89: كان ممن يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل، لا يجوز الاحتجاج به على الإطلاق، وإن اعتُبر بما يوافق الثقات فلا ضير، ثم أعاد ذكره في " الثقات " 7/ 179 إلا أنه قال: في روايته أشياء، وأورد الذهبي هذا الحديث في ترجمته من " الميزان " 3/ 232.
ويحيى بن القاسم وأبوه مجهولان: يحيى بن القاسم لم يرو عنه غير عمر بن عبد العزيز، وأورده البخاري 8/ 300، وابن أبي حاتم 9/ 182 ولم يأثرا فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في " الثقات " 7/ 607، وأبوه القاسم بن عبد الله لم يرو عنه غير ابنه يحيى ذكره ابن أبي حاتم 7/ 111 ولم يأثر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في " الثقات " 5/ 303.
(2) في (أ) و (ف): جبرية، وهو خطأ.
(3) الطبراني في " الكبير " 20/ (232)، وأخرجه أيضاً ابن أبي عاصم (325)، =(6/297)
والثامن والثلاثون: عن محمد بن عبيد، عن ابن عباس، أنه قيل له: إن رجلاً قد قَدِمَ علينا يُكَذِّبُ بالقدر، قال: والذي نفسي بيده لئن استمكنت منه، لأعضَّنَّ أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت عُنُقُه في يدي لأدُقَّنَّها، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " كأنني بنساء بني فِهْرٍ يَطُفْنَ بالخزرج تصطفِقُ ألياتُهُنَّ مشركاتٍ، هذا أول شرك هذه الأمة، والذى نفسي بيده لينتَهِينَّ بهم سْوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يكون قد قدَّر خيراً كما أخرجوه من أن يكون قد قدَّر شرّاً ".
رواه أحمد (1) من طريقين، وفيهما محمد بن عبيد المكي وفي إحداهما رجل لم يسم، وسماه في الأخرى العلاء بن الحجاج، وقال في " المسند ": إن محمد بن عبيد سمع ابن عباس (2).
والتاسع والثلاثون: عن ابن عباس قال: ما بعث الله نبياً إلاَّ كان بعدهُ وقفة تملأ بهم جهنم. رواه الطبراني (3) من طريق أبي داود الأعمى.
والأربعون: عن سعيد بن جبير قال: كنت في حلقة فيها ابن عباس، فذكرنا القَدَرَ، فغضب ابن عباس غضباً شديداً، وقال: لو أعلم أن في القوم أحداً
__________
= والخطيب البغدادي في " موضح أوهام الجمع والتفريق " 2/ 8، من طريق بقية بن الوليد، عن أبي العلاء الدمشقي -وهو برد بن سنان- عن محمد بن جحادة، عن يزيد بن حصين، عن معاذ بن جبل.
وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 204 بعد أن نسبه إلى الطبراني: فيه بقية بن الوليد وهو لين، ويزيد بن حصين لم أعرفه.
(1) 1/ 330، وأخرجه اللالكائي (1116) من طريق بقية بن الوليد، عن الأوزاعي، عن العلاء بن الحجاج، عن محمد بن عبيد المكي، عن ابن عباس. والعلاء بن الحجاج مجهول، ومحمد بن عبيد المكي ضعفه أبو حاتم.
(2) " مجمع الزوائد " 7/ 204.
(3) رقم (12742)، وأبو داود الأعمى -اسمه نفيع بن الحارث- ضعيف جداً. قاله الهيثمي في " المجمع " 7/ 205.(6/298)
منهم، لأخذته، إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
قلت: وساق حديثاً أظنه في معنى الأول لم يتحرر لي لسقوط شيء فيه.
رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح غير صدقة بن سابق وهو ثقة. ورواه البزار وزاد: وهم القدرية (2).
والحادي والأربعون: عن ابن عباس قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعلك أن تبقى حتَّى تُدرِكَ قوماً يُكذِّبون بقَدْرِ الله الذنوب على عباده استَقَوْا كلامهم ذلك من النصرانية، فإذا كان كذلك فابرأ إلى الله منهم ". رواه الطبراني (3) من طريق عبد الله بن سمعان.
__________
(1) تمام نصه في " المجمع " 7/ 204: يقول: " ما بعث الله نبياً قط ثم قبضه إلا جعل بعده فترة، وملأ من تلك الفترة جهنم ".
وهو في الطبراني (12514)، والبزار (2184) عن محمد بن عبد الرحيم أبو يحيى، حدثنا صدقة بن سابق، حدثنا سليمان بن قَرْم، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف، سليمان بن قَرْم ضعيف سيء الحفظ، وصدقة بن سابق روى عنه غير واحد وأورده ابن أبي حاتم 4/ 434 ولم يأثر فيه جرحاً ولا تعديلاً، وذكره ابن حبان في " ثقاته " 8/ 320.
وأخرجه الطبراني أيضاً (12515) عن الحسين بن إسحاق، حدثنا داود بن رُشيد، حدثنا بقية بن الوليد، عن الجراح بن المنهال، عن أبي الزبير، به. وهذا إسناد ضعيف كذلك، الجراح بن المنهال ضعفه يحيى بن معين، وقال ابن أبي حاتم 2/ 523: سمعت أبي يقول: هو متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يكتب حديثه.
(2) البزار (2183) من طريق عمرو بن صالح قاضي رامهُرمز، عن يحيى بن أبي أنيسة، عن أبي الزبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف جداً، يحيى بن أبي أنيسة ضعيف متروك الحديث، واتهمه أخوه الثقة زيد بن أبي أنيسة بالكذب.
(3) في " الكبير " رقم (11179)، قال الهيثمي 7/ 205 بعد أن نسبه إلى الطبراني: وفيه عبد الله بن زياد بن سمعان وهو متروك.(6/299)
والثاني والأربعون: عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القدرية والمرجئة مجوس هذه الأمة، فإن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا، فلا تشهدوهم ". رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة (1)!
والثالث والأربعون: عن ابن عمر، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " القَدَريَّة مجوس هذه الأمة، إن مرضوا، فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ". رواه الطبراني في " الأوسط " (2) من طريق زكريا بن منظور.
والرابع والأربعون: عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن الله أهل القدر: الذين يُكذِّبون بقدر، ويُصدِّقون بقدر " (3). رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق ابن لهيعة.
الخامس والأربعون: عن ابن عمر، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كذَّب
__________
(1) قاله الهيثمي في " المجمع " 7/ 205.
(2) رقم (2515)، وأخرجه أيضاً اللالكائي في " شرح السنة " (1150)، والآجري في " الشريعة " ص 190 من طريق زكريا بن منظور، عن أبي حازم -وهو سلمة بن دينار- عن نافع، عن ابن عمر. وهذا إسناد ضعيف لضعف زكريا بن منظور، وقال الدارقطني: متروك.
وأخرجه أيضاً أبو داود (4691)، والحاكم 1/ 85 من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن ابن عمر. وهذا إسناد ضعيف أيضاً لانقطاعه، أبو حازم لم يدرك ابن عمر. وقد تقدم من حديث أبي داود في هذا الجزء ص 454.
(3) وأخرجه أيضاً الآجرى في " الشريعة " ص 193 من طريق بشر بن عمر الزهراني، حدثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة. وهذا إسناد ضعيف، ابن لهيعة سيء الحفظ، وموسى بن وردان اشتهر بالقصص وهو مختلف فيه، وقال ابن حبان: كثر خطؤه حتى كان يروي المناكير عن المشاهير، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 205 بعد أن نسبه إلى الطبراني في " الأوسط ": فيه ابن لهيعة وهو لين الحديث.(6/300)
بالقدر، كذَّب بما أُنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -". رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه محمد بن الحسين القصاص ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات (1).
السادس والأربعون: عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عمر: لُعِنَتِ القدرية على لسان سبعين نبياً، آخرهم نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإذا كان يوم القيامة، وجمع الناس في صعيدٍ واحد، نادى منادٍ يُسمع الأولين والآخرين: أين خصماءُ الله؟ فتقوم القدرية. رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه محمد بن الفضل بن عطية، ورواه أبو يعلى في " الكبير " باختصار من رواية بقية بن الوليد، عن حبيب بن عمر (2).
والسابع والأربعون: عن عمر بن الخطاب [قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: " إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: ألا لِيَقُمْ خصماء الله وهم القدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق بقية وحبيب بن عمر أيضاً (3).
__________
(1) وأخرجه أيضاً بنحوه اللالكائي في " شرح السنة " (1111) من طريق محمد بن حمير السليحي، عن بشر بن جبلة، عن كليب بن وائل، عن ابن عمر. وإسناده ضعيف، بشر بن جبلة مجهول ضعيف الحديث. ونسبه ابن حجر في " المطالب العالية " (2922) إلى أبي يعلى، وسكت عليه البوصيري في " إتحاف المهرة ".
(2) وأخرجه اللالكائي (1132) و (1158) و (1159) من طريق حسان بن إبراهيم، عن محمد بن الفضل بن عطية، عن كرز بن وبرة الحارثي، عن محمد بن كعب القرظي، به.
قال الهيثمي 7/ 206 بعد أن نسبه إلى الطبراني في " الأوسط ": وفيه محمد بن الفضل بن عطية، وهو متروك، قلت: وكرز بن وبرة لا يعرف بجرح ولا تعديل، وقال الهيثمي في رواية أبي يعلى: بقية مدلس، وحبيب مجهول. قلت: وقول الهيثمي: ورواه أبو يعلى في " الكبير " يعني به مسنده الكبير رواية الأصبهانيين، والمطبوع مختصر منه وهو برواية ابن حمدان، وهذه الرواية المختصرة اعتمدها الهيثمي في " المجمع " وجرد زيادتها، وربما أدرج فيه بعض الأحاديث من المسند الكبير، ولكنه ينبه على ذلك كما فعل هنا.
(3) وأخرجه ابن أبي عاصم (336) من طريق بقية بن الوليد، حدثنا حبيب بن عمر =(6/301)
والثامن والأربعون: عن أبي سعيد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " في آخر الزمان تأتي المرأة، فتجد زوجها قد مُسِخَ قرداً، لأنه لا يؤمن بالقدر ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق بشار بن قيراط (1).
والتاسع والأربعون: عن أبي هريرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فأنا منه بريءٌ ". رواه أبو يعلى من طريق صالح بن سرج (2).
والخمسون: عن سهل بن سعدٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر ". رواه الطبراني (3) من طريق إسماعيل بن أبي الحكم.
والحادي والخمسون: عن أبي أمامة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: عاقٌّ، ومَنَّانٌ، ومدمن خمر، ومُكَذِّبٌ بقدر الله ".
وفي رواية: " ثلاثة لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً " فذكر نحوه رواه الطبراني بإسنادين أحدهما من طريق بشر بن نُمير، والآخر من طريق عمر بن يزيد (4).
__________
= عن أبيه، عن ابن عمر، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكره. إسناده ضعيف، حبيب
وأبوه مجهولان. ونسبه ابن حجر في " المطالب العالية " (2960) إلى أبي يعلى.
(1) قلت: بشار بن قيراط كذبه أبو زرعة، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال ابن عدي: روى أحاديث غير محفوظة وهو إلى الضعف أقرب. انظر " الميزان " 1/ 310.
(2) صالح بن سرج لم يرو عنه غير عمرو بن العلاء اليشكري، ولم يوثقه غير ابن حبان 6/ 460، وكان من الخوارج.
(3) في " الكبير " (5900) عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن إسماعيل بن أبي الحكم الثقفي، عن عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عن سهل بن سعد. وهذا إسناد حسن، محمد بن عثمان لا بأس به له ترجمة في " الميزان " 3/ 642 - 643، و" التذكرة " ص 661، و" اللسان " 5/ 280، وشيخه إسماعيل بن أبي الحكم قال ابن أبي حاتم 2/ 165. روى عنه أبو زرعة، سئل أبي عنه فقال: شيخ، وباقي السند ثقات.
(4) اللفظ الأول في الطبراني (7938)، وأخرجه أيضاً ابن عدي في " الكامل " 2/ 440 =(6/302)
والثاني والخمسون: عن واثلة بن الأسقع، قال رسول الله: " صِنفان من [هذه] الأمة لا تنالُهُما شفاعتي: المُرجئة والقدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " (1) من طريق محمد بن مِحْصَن.
والثالث والخمسون: عن جابر، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " صِنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي: المرجئة والقدرية ".
رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق بحر بن كَنِيزٍ السَّقَّاء (2).
والرابع والخمسون: عن جابر، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق قرين بن سهلٍ (3).
__________
= كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن بشر بن نمير، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة. قال الهيثمي 7/ 206: وفيه بشر بن نمير وهو متروك.
واللفظ الثاني عنده (7547) من طريق محمد بن شعيب بن شابور، عن عمر بن يزيد -وهو النصري- عن أبي سلام الأسود، عن أبي أمامة. قال الهيثمي: فيه عمر بن يزيد وهو ضعيف.
(1) رقم (1648)، وهو موضوع، في سنده محمد بن محصن -وهو محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن محمد بن عكاشة بن محصن- قال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: كذاب، وقال الدارقطني: يضع الحديث، انظر " الميزان " 3/ 476، وقال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 277: شيخ يضع الحديث على الثقات، لا يحل ذكره في الكتب إلا على سبيل القدح فيه، وقال الهيثمي 7/ 206: متروك.
(2) قال الهيثمي 7/ 206: وهو متروك.
(3) وأخرجه ابن عدي في " الكامل " 3/ 1280 من طريق قرين بن سهل بن قرين، عن أبيه، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر. وهذا إسناد موضوع، قرين بن سهل وأبوه كذابان.
وأخرجه بنحوه ابن ماجه (73)، وابن أبي عاصم (948) من طريق نزار بن حيان، عن =(6/303)
الخامس والخمسون: عن أبي سعيد، قال - صلى الله عليه وسلم - مثله. رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه عمرو بن القاسم بن حبيب التمار وعطية العَوْفي (1).
والسادس والخمسون: عن أنس، قال - صلى الله عليه وسلم -: " صِنفان من أمتي لا يَرِدان عليَّ الحوض ولا يدخلان الجنة: القدرية والمُرجئة ". رواه الطبراني في " الأوسط " ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفَرْوِي، وهو ثقة (2).
قلت: تقدم بزيادة.
والسابع والخمسون: عن سهل بن سعد الساعدي قال - صلى الله عليه وسلم -: " لكل أمةٍ مجوسٌ، ولكل أمةٍ نصارى، ولكل أمةٍ يهود، وإن مجوس أمتي القدرية ونصاراهم الخَشَبيّة (3)، ويهودهم المرجئة ". رواه الطبراني في " الأوسط " من طريق يحيى بن سابق (4).
__________
= عكرمة، عن ابن عباس وعن جابر ... مرفوعاً، إلاَّ أن في آخره " أهل الإرجاء وأهل القدر ".
وهذا إسناد واه منكر نزار بن حيان: قال ابن حبان في " الضعفاء ": يأتي عن عكرمة بما ليس من حديثه، حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لذلك، لا يجوز الاحتجاج به، وقال ابن عدي: هذا الحديث أحد ما أُنكر على نزار بن حيان.
(1) قال الهيثمي 7/ 207: وفيه عمرو بن القاسم بن حبيب التمار وهو ضعيف، وكذلك عطية العوفي.
(2) كذا قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 207، وليس الآن إسناده بين يدي، وإن كان يغلب على ظني أن في سنده ما يمنع من القول بصحته وهو مع ذلك منكر المتن.
(3) في (ش): " الحسينية " وهو تحريف، والخشبية كما في " مشتبه النسبة " 1/ 217: صنف من الرافضة قاتلوا مرة بالخشب فعرفوا بذلك.
وذكر ابن حزم في " الفصل " 5/ 45: إن بعض الشيعة كانوا لا يستحلون حمل السلاح حتى يخرج الذى ينتظرونه، فهم يقتلون الناس بالخنق والحجارة، والخشبية بالخشب فقط.
(4) يحيى بن سابق ذكره ابن أبي حاتم 9/ 153 ونقل عن أبيه قوله قيه: ليس بقوي في الحديث، وعن أبي زرعة: لين، وقال ابن حبان في " المجروحين " 3/ 114 - 115: كان ممن =(6/304)
والثامن والخمسون: عن أنس، قال - صلى الله عليه وسلم -: " من لم يرض بقضاء الله، ويؤمن بقدره، فليلتمس إلهاً غير الله ". رواه الطبراني في " الصغير " و" الأوسط " من طريق سُهيل بن أبي حَزْم (1).
والتاسع والخمسون: عن أبي هند الدَّارِي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قال الله تعالى: من لم يرض بقضائي، ويصبر على بلائي، فليلتمس ربَّاً سِواي ". رواه الطبراني من طريق سعيد بن زَيَّاد، وهو ابن فائد بن زَيَّاد بن أبي هند (2).
__________
= يروي الموضوعات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به في الديانة ولا الرواية عنه بحيلة. قلت: وحديثه هذا معدود في منكراته عند الإمام الذهبي في " الميزان " 4/ 377.
(1) هو في " الصغير " للطبراني (902)، ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في " أخبار أصبهان " 2/ 228، والخطيب في " تاريخه " 2/ 227 عن محمد بن حسين الأبهري الأصبهاني، عن محمد بن موسى الحَرَشي، عن سهيل بن عبد الله -وهو سهيل بن أبي حزم القُطَعي- عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك. وهذا إسناد ضعيف لضعف سهيل بن أبي حزم.
(2) هو في " الكبير " للطبراني 22/ (807) عن يحيى بن عبد الباقي المصيصي، عن سعيد بن زَيَّاد، عن أبي زَيَّاد بن فائد، عن أبيه فائد بن زياد، عن جده زياد بن أبي هند، عن أبي هند الداري. وهذا إسناد ضعيف جداً، قال الهيثمي 7/ 207: فيه سعيد بن زياد بن أبي هند وهو متروك، وقال ابن حجر في " الإصابة " 4/ 209: وفائد هو وولده ضعيفان.
وأخرجه ابن حبان في " المجروحين " 1/ 327، والخطيب في " تلخيص المتشابه " 1/ 81 من طريق سعيد بن زياد -زاد الخطيب: وإبراهيم بن زياد- عن زياد بن فائد، بهذا الإسناد. قال ابن حبان بعد أن أورد الحديث: في نسخة كتبناها عنه بهذا الإسناد تفرد بها سعيد هذا، فلا أدري البلية فيها منه أو من أبيه أو من جده؟ لأن أباه وجده لا يعرف لهما رواية إلا من حديث سعيد، والشيخ إذا لم يرو عنه ثقة فهو مجهول لا يجوز الاحتجاج به، لأن رواية الضعيف لا تُخرِج مَن ليس بعدل عن حد المجهولين إلى جملة أهل العدالة، كأن ما روى الضعيف وما لم يَرْوِ في الحكم سيّان.(6/305)
والستون: ذكر الهيثمي في تفسير سورة " اقتربت " عن عبد الله بن عمرو: ما أُنزلت هذه الآية {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49] إلاَّ في [أهل] القدر. رواه البزار (1) من طريق يونس بن الحارث.
الحادي والستون: وعن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في القدرية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49]. رواه الطبراني (2) من طريق عبد الوهاب بن مجاهد.
الثاني والستون: وعن زُرارة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} قال: " نزلت في أُناسٍ من أمتي في آخِر الزمان يُكَذِّبون بقدر الله عز وجل " (3).
__________
(1) رقم (2265) من طريق الضحاك بن مخلد، وأخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " (136) عن محمد بن يوسف -وهو الفريابي- كلاهما عن يونس بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو. وهذا إسناد ضعيف، فيه يونس بن الحارث والجمهور على تضعيفه.
(2) في " الكبير " (11163) من طريق عثمان بن الهيثم المؤذن، عن عبد الوهاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس. قال الهيثمي 7/ 117: وفيه عبد الوهاب بن مجاهد، وهو ضعيف.
وأخرجه بنحوه ابن أبي حاتم في " تفسيره " -كما في تفسير ابن كثير 7/ 458 - واللالكائي في " شرح أصول الاعتقاد " (948) و (1162) و (1388)، والبيهقي 10/ 205 من طريق الحسن بن عرفة، عن مروان بن شجاع الجزري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس. مروان بن شجاع الجزري وثقه غير واحد، لكن قال أبو حاتم: صالح ليس بذاك القوي، في بعض ما يرويه مناكير يكتب حديثه، وذكره ابن حبان في " الثقات "، ثم ذكره أيضاً في " الضعفاء " فقال: يروي المقلوبات عن الثقات لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " (5316) عن عبدان بن أحمد، عن إبراهيم بن =(6/306)
قلت: كذا في كتاب الهيثمي في نسخة منه، ولم يُبين من أخرجه، ولا حال رواته، وأظنُّ ذلك سقط من النسخة.
ومن غير كتابه:
الثالث والستون: عن أبي أُمامة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}: " إنما أُنزلت في القدرية ". وفي إسناده عُفير بن معدان (1)، وقد تقدم ما يشهد لصحته.
وقد خرجه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة، قال الترمذي: حديث حسن صحيح (2).
__________
= المستمر العروقي، عن قرة بن حبيب، عن جرير بن حازم، عن سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي، عن ابن زرارة، عن أبيه. قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 117 بعد أن نسبه إلى الطبراني: وفيه من لم أعرفه.
وأخرجه ابن أبي حاتم -كما في " تفسير ابن كثير " 7/ 458 - عن أبيه، عن سهل بن صالح الأنطاكي، عن قرة بن حبيب، عن كنانة (!)، عن جرير بن حازم، به.
وأخرجه أيضاً الواحدي في " أسباب النزول " ص 269 من طريق خالد بن سلمة القرشي، عن سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي، به.
(1) أخرجه ابن عدي في " الكامل " 5/ 2017، والواحدي في " أسباب النزول " ص 269 من طريق عفير بن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي. وهذا إسناد ضعيف لضعف عُفير بن معدان، وكذا ضعفه السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 683.
(2) مسلم (2656)، والترمذي (2157) و (3290) ولفظه عن أبي هريرة قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49].
وأخرجه كذلك أحمد 2/ 444 و476، والبخاري في " أفعال العباد " (134) و (135)، وابن ماجه (83)، وابن أبي عاصم (349)، وابن جرير الطبرى 27/ 110، والفسوي في =(6/307)
وقال ابن العربي في " شرح الترمذي " (1): صحيح صحيح.
وتقدم في مسألة الإرادة أثر وهب بن مُنبِّهٍ: كنت أقول بالقدر حتى قرأتُ بضعاً وسبعين كتاباً من كتب الأنبياء في كلها: من جعل شيئاً من المشيئة إلى نفسه، فقد كفر، فتركت قولي، وتقدم الكلام على إسناده.
الرابع والستون: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ستة لَعَنتُهم ولَعَنهُمُ الله -وكُلُّ نبي مُجابٌ-: الزائد في كتاب الله، والمكذِّب بقدر الله، والمُتسلِّط بالجبروت ليُعِزَّ من أذل الله، ويذل من أعز الله، والمُستَحِلُّ لِحُرَمِ الله، والمُستَحِلُّ من عِترتي ما حرَّم الله، والتارك لسنتي ". رواه الحاكم في " المستدرك " (2) في تفسير سورة الليل، فقال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن دُرستويه (3) الفارسي، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا إسحاق بن محمد الفَرْوي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال (4)، عن عُبيد الله بن مَوْهب، عن عمرة، عن عائشة بالحديث.
ثم قال: قد احتج الإمام البخاري بإسحاق بن محمد الفروي (5)، وعبد
__________
= " المعرفة والتاريخ " 3/ 236، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 135، والبغوي في " شرح السنة " (81)، وفي " تفسيره " 4/ 265.
(1) 8/ 296.
(2) 2/ 525، وإسناده ضعيف، عبيد الله بن موهب مختلف فيه، ورواه عنه غير واحد مرسلاً، وإسحاق بن محمد الفروي يأتي بطامَّات فيما قاله الذهبي، وانظر تخريج الحديث والكلام عليه في " صحيح ابن حبان " (5749) بتحقيقنا.
(3) في (أ) و (ف): دارستويه.
(4) هذا خطأ صوابه: عبد الرحمن بن أبي الموالي، فإنه هو الذي أخرجه له البخاري في " الجامع الصحيح "، وجاء على الصواب عند الحاكم في موضعين آخرين 1/ 36 و4/ 90.
(5) قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 389: إسحاق بن محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن أبي فروة الفروي، قال أبو حاتم: كان صدوقاً، ولكن ذهب بصره، فربما لُقِّنَ، =(6/308)
الرحمن بن أبي الرجال (1) في " الجامع الصحيح " وهو أولى بالصواب من الإسناد الأول.
قلت: وهذا الإسناد الأول: قال الحاكم (2): حدثنا أبو علي الحسين بن علي الحافظ، أخبرنا عبد الله بن محمد بن وهب الحافظ، حدثنا عبد الله بن محمد بن يوسف الفريابي، حدثني أبي، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب، قال: سمعت عليَّ بن الحسين يُحدِّث عن أبيه، عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ستةٌ لعنتهم ولعنهم الله -وكل نبي مُجابٌ-: الزائد في كتاب الله، والمُكَذِّبُ بقدر الله، والمُتسلِّطُ بالجبروت لِيُذِلَّ من أعز الله، ويعز من أذلَّ الله، والتارك لِسُنتي، والمُستَحِلُّ من عِترتي ما حرَّم الله، والمُستحِلُّ لِحُرَمِ الله ".
قال الترمذي (3): هكذا روى عبد الرحمن بن أبي الموالي، عن عُبيد الله بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة به.
وروى سفيان الثوري وحفص بن غياث وغير واحد عن عبيد الله بن عبد الرحمن، عن علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً (4).
__________
= وكتبه صحيحة، ووهَّاه أبو داود والنسائي، والمعتمد فيه ما قاله أبو حاتم، وقال الدارقطني والحاكم: عيب على البخاري إخراج حديثه. قلت: روى عنه البخاري في كتاب الجهاد حديثاً وفي فرض الخمس آخر، كلاهما عن مالك، وأخرج له في الصلح حديثاً آخر مقروناً بالأويسي وكأنها مما أخذه عنه من كتابه قبل ذهاب بصره.
(1) الصواب: بن أبي الموالي كما تقدم.
(2) 2/ 525، وإسناده ضعيف كسابقه.
(3) عقب الحديث (2154) في كتاب القدر الذي رواه عن قتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي الموالي.
(4) في " السنن " زيادة: وهذا أصح. قلت: ونقل ابن أبي حاتم في " العلل " 2/ 91 عن أبي زرعة في هذا الحديث قوله: حديث ابن أبي الموالي خطأ، والصحيح حديث عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن علي بن الحسين، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل.(6/309)
قلت: عبد الرحمن بن أبي الموالي ثقة حجة، وهو أحد شيوخ البخاري، خرج عنه البخاري في " الصحيح " حديث الاستخارة في أحاديث القدر، وهو من مشاهير الشيعة أصحاب محمد بن عبد الله بن الحسن.
قال الذهبي في " الميزان " (1): وهو ثقة مشهور.
وقد روى هذا الحديث السيد أبو طالب في " الأمالي " والهيثمي في " مجمعه " (2)، كما خرجه الترمذي (3)، والحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " أيضاً (4)، وقال بعد روايته: وهذا صحيح، ولا أعلم له عِلة، وقد احتج البخاري بعبد الرحمن بن أبي الموالي.
قلت: خرجه الحاكم عنه، عن عبيد الله بن مَوْهَبٍ، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة، عن عائشة.
وهذه طريقٌ فيها زيادة أبي بكر، عن عمرة وهي خالته، وأما عُبيد الله بن موهب: فهو ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن موهب، وقع منسوباً إلى جده. والله أعلم.
ومن " مجمع الزوائد " للهيثمي:
الخامس والستون: عن عمرو بن شعيب، قال: كنت عند سعيد بن المسيب، فسمع قوماً يقولون: قدَّر الله كل شيءٍ إلاَّ الأعمال، فوالله ما رأيتُ سعيد بن المسيب غَضِبَ غضباً شديداً أشدَّ منه. ثم ساق الحديث.
وفيه: عن رافع بن خديج، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يكون قومٌ من أمتي يكفرون بالله وبالقرآن وهم لا يشعرون كما كفرت اليهود والنصارى، يُقِرُّون
__________
(1) 2/ 592.
(2) 1/ 176 و7/ 205.
(3) رقم (2154).
(4) 1/ 36.(6/310)
ببعض القدر، يكفرون ببعضه، يقولون: الخير من الله والشر من الشيطان، فما تلقى أمتي منهم من البغضاء والجدال أولئك زنادقة هذه الأمة، يمسخ الله عامَّتهم قردة وخنازير، ثم يخرج الدجال على أثر ذلك".
وفيه: " أن عامة من هلك من بني إسرائيل بالتكذيب بالقدر ".
وفيه: فقلت: جُعِلْتُ فداك يا رسول الله، فكيف الإيمان بالقدر؟ قال: " تؤمن بالله وحده، وأنه لا يملك معه ضراً ولا نفعاً -إلى قوله:- ثم خلق خلقه، فجعل من شاء منهم للجنة، ومن شاء منهم للنار عدلاً ذلك منه، وكل يعمل لما فُرِغَ له منه، وصائرٌ إلى ما فُرِغَ له منه ". رواه الطبراني من طرق أحسنها طريق ابن لهيعة (1).
__________
(1) خبر باطل موضوع، أخرجه العقيلي في " الضعفاء " 3/ 357 و358، والطبراني في " الكبير " (4270)، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (1099)، والآجري في " الشريعة " ص 193 من طريق عطية بن عطية، عن عطاء بن أبي رباح، عن عمرو بن شعيب، به. وهذا إسناد واه، عطية بن عطية قال العقيلي: مجهول بالنقل وفي حديثه اضطراب ولا يتابع عليه، وقال الذهبي في " الميزان " 3/ 80: لا يعرف، وأتى بخبر موضوع طويل -قلت: وهذا هو، فليس له غير هذا الخبر- وقد ساقه ابن حجر في ترجمته من " لسان الميزان " 4/ 175 - 176.
وأخرجه العقيلي 3/ 358 من طريق أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي، عن أبي داود سليمان بن فروخ اليمامي، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن عمرو بن شعيب، به. وهذا إسناد واه بمرة، أحمد بن محمد بن عمر اليمامي كذاب، وقال ابن عدي: حدَّث بنسخ وعجائب. " تاريخ بغداد " 5/ 65، وأبو داود سليمان اليمامي لم أتبينه، وإبراهيم بن إسماعيل ضعيف.
وأخرجه العقيلي 3/ 358، والطبراني (4271) و (4272)، واللالكائي (1100)، والآجري ص 192 و193 من طريق أبي عبد الرحمن المقرىء، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب، به. قال ابن أبي حاتم في " العلل " 2/ 433: سألت أبي عن حديث رواه عبد الله بن يريد المقرىء -وهو أبو عبد الرحمن- عن ابن لهيعة ... فساق الخبر من هذا الطريق، =(6/311)
والمرادُ بالشر هنا -إن صح الحديث- الأمراض وسائر البلاوي، فإنها من الله، وإن كانت أسبابها من العباد على ما سيأتي بيان النصوص على ذلك في آخر الكلام على أفعال العباد.
ألا تراه يقول في آخره: " وكُلٌّ يعمل " ففرَّق بين العمل والقدر، فأضاف كلاًّ إلى من هو منه، ولو قدرنا فيه شبهة، وجب تقديمُ القواطع عقلاً وسمعاً، كقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أنفُسِكُم} [آل عمران: 165]، {ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله} [آل عمران: 78]، وقول الكليم عليه السلام: إنه من عمل الشيطان (1). وما لا يحصى من ذلك كما سيأتي مبسوطاً شافياً في خاتمة مسألة الأفعال.
السادس والستون: عن الوليد بن عبادة، أن عبادة لما حُضِرَ (2) قال له ابنه عبد الرحمن: أوصني، قال له: يا بني اتق الله، ولن تتقي الله حتى تؤمن بالله، ولن تؤمن بالله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليُصيبك، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " القدر على هذا، من مات على غيره، دخل النار ".
وفي رواية: لم يطعم طَعْمَ الإيمان، وإنك لم تبلغ حقيقة العلم بالله حتى تؤمن بالقدر.
رواه الترمذي (3) موقوفاً باختصار، ورواه الطبراني في " الكبير " بأسانيد، وفي
__________
= فقال: هذا حديث عندي موضوع. وقال العقيلي: لم يأت به عن ابن لهيعة غير المقرىء، ولعل ابن لهيعة أخذه عن بعض هؤلاء عن عمرو بن شعيب.
(1) أشار بهذا إلى قوله تعالى في سورة القصص آية رقم 15 في قصة الفرعوني الذي وكزه موسى فقضى عليه {قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}.
(2) يقال: حُضِرَ المريض واحتُضِرَ: إذا نزل به الموت.
(3) رقم (2155) وليس فيه قوله " القدر على هذا ... "، وفي إسناده عبد الواحد بن =(6/312)
" الأوسط " أحدها من طريق عثمان بن أبي العاتكة، وبقيتهم ثقات، وفي بعضهم كلام (1).
والسابع والستون: عن الحارث، قال: رأيتُ ابن مسعودٍ يَبُلُّ أصبعه في فيه، ثم يقول: والله لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر، ويعلم أنه ميت ثم مبعوثٌ بعد الموت. رواه الطبراني (2).
والثامن والستون: عن أبي الحجاج الأزدي، قال: سمعتُ سلمان بأصبهان يقول: لا يؤمن عبدٌ حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. رواه الطبراني (3).
__________
= سليم وقد ضعفه الجمهور، وقال الإمام أحمد: حديثه منكر، أحاديثه موضوعة. ومثل حديث الترمذي أخرجه أبو داود الطيالسي (577)، واللالكلائي في " أصول الاعتقاد " (357) و (1097)، وفيه كذلك عبد الواحد بن سليم.
(1) " مجمع الزوائد " 7/ 198، وقد حذف المؤلف من كلامه قوله في عثمان بن أبي العاتكة: وهو ضعيف. وانظر " المسند " 5/ 317، والشريعة " للآجري ص 83 و177 - 178 و186، وسنن أبي داود (4700) واللالكائي (1233).
(2) رقم (8788) و (8789)، وهو في " مصنف عبد الرزاق (20081) من طريق الحارث -وهو ابن عبد الله الهمداني الأعور صاحب علي- أيضاً. قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 199: والحارث ضعيف، وقد وثقه ابن معين وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح.
(3) رقم (6060)، وأخرجه كذلك الطحاوي في " شرح مشكل الآثار " 1/ 241 بتحقيقنا، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/ 155 و2/ 365 من طريق أبي إسحاق، عن أبي الحجاج الأزدي، به. قال الهيثمي في " المجمع " 7/ 199 بعد أن نسبه إلى الطبراني: أبو الحجاج لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. قلت: أبو الحجاج أورده ابن سعد في " الطبقات " 6/ 216 في تابعي الكوفيين، ولقي سلمان بأصبهان فيما ذكره أبو الشيخ في " طبقات المحدثين " 1/ 228 و229، وقال أبو نعيم: كوفي قدم أصبهان، قلت: وذكر ابن حبان في " ثقات التابعين " 5/ 580 أبا الحجاج غير منسوب وقال: يروي عن أبي موسى الأشعري، روى عنه قتادة، فلعله هو هذا.(6/313)
والتاسع والستون: عن عمرو بن العاص مرفوعاً: " لن يؤمن أحدٌ حتَّى يؤمن بالقدر خيره وشره ". رواه الطبراني وأبو يعلى ورجاله ثقات (1).
والسبعون: عن الشعبي، عن عدي بن حاتم أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام؟ فقال: " تشهد أن لا إله إلاَّ الله وأني رسول الله، وتؤمن بالأقدار خيرها وشرها، حلوها ومرها ". رواه الطبراني من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور (2).
والحادي والسبعون: عن أنس بن مالك (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثٌ من أصل الإيمان: الكفُّ عمن قال: لا إله إلاَّ الله، لا نُكفِّرُه بذنبٍ ولا نخرجه من الإسلام بعملٍ، والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن تقاتل آخرُ أمتي الدجال، لا يُبطِلُه جَوْرُ جائِرٍ، [ولا عدل عادلٍ] والإيمان بالأقدار ". رواه أبو داود (4)، وحكاه أحمد بن حنبل في رواية ابنه عبد الله.
الحديث الثاني والسبعون: عن أبي الأسود الدؤلي أنه سأل عمران بن
__________
(1) هو في " مسند أبي يعلى ورقة 343 من طريق هشام بن سعد، عن عمرو بن شعيب، عن أليه، عن عمرو بن العاص. وهذا سند فيه انقطاع بين شعيب -وهو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص- وبين عمرو بن العاص.
وأخرجه الطبراني في " الأوسط " (1976) من طريق عبد الله بن جعفر المدني، عن منصور بن زياد مولى عثمان بن عفان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وعبد الله بن جعفر المدني متروك الحديث، ومنصور بن زياد لم أعرفه.
(2) الطبراني في " الكبير " 17/ (182). وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 199 بعد أن نسبه إليه: وفيه عبد الأعلى بن أبي المساور، وهو متروك.
وأخرجه كذلك ابن ماجه (87) من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور.
قلت: وقد روي بلفظ آخر من طريق عبد الأعلى أيضاً، انظر ص 452 من هذا الجزء.
(3) في الأصول: عن أبي هريرة، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله تعالى.
(4) (2532)، ومن طريقه أخرجه البيهقي 9/ 156 من طريق جعفر بن برقان، عن يزيد بن أبي نبيشة، عن أنس. وهذا إسناد ضعيف لجهالة يزيد بن أبي نبيشة.(6/314)
حُصين، وابن مسعود، وأُبيَّ بن كعبٍ، عن القدر، فقالوا: لو أن الله عز وجل عذَّب أهل السماء والأرض، عذَّبهم وهو غيرُ ظالم، ولو أدخلهم في رحمته، لكانت رحمته أوسع من ذنوبهم، ولكنه كلما قضى يعذب من يشاء، ويرحم من يشاء، فمن عذَّبه، فهو الحق، ومن رحمه، فهو الحق، ولو كان لك مثلُ أحد ذهباً تُنفِقُهُ في سبيل الله ما قُبِلَ منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره. رواه الطبراني (1) بإسنادين، ورجال هذه الطريق ثقات.
وقد انتهى ما تيسَّر لي تعليقه من أحاديث القدر من غير استقصاء، فلقد وقفتُ بعد الفراغ منها على كلام ابن عبد البر في أحاديث القدر في " التمهيد " (2) فذكر فيها حديثاً مرفوعاً من حديث أبي هريرة (3) رضي الله عنه لم أكتبه فيما جمعته، وذكر أنه أصح حديث في الباب، فعَجِبْتُ من تتبع أحاديث هذا الباب فاتني أصحُّها وأشهرها بعد هذا الجمع الكثير، وهو الحديث الذي أوله: لا تسأل المرأة طلاق أُختها، فإنه ليس لها إلاَّ ما قُدِّر لها ".
ورواه (4) في القدر من حديث أبي هريرة، وأبو داود في الطلاق، والنسائي في عشرة النساء كلهم عنه.
__________
(1) في " الكبير " 18/ (556)، وإسناده حسن، وقال الهيثمي 7/ 198 - 199: رجاله ثقات.
وهو بنحوه عنده أيضاً (10564)، وفيه عمر بن عبد الله مولى غُفْرة وهو ضعيف.
(2) 18/ 165، ولفظه: قال أبو عمر: وهذا الحديث من أحسن أحاديث القدر عند أهل العلم والسنة، وفيه أن المرء لا يناله إلاَّ ما قُدِّر له.
وقد تقدم تخريج حديث أبي هريرة هذا في الصفحة 444 من هذا الجزء.
(3) في الأصل: من حديث عائشة، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله.
(4) أي الإمام مالك، وهو في " موطئه " 2/ 900 في كتاب القدر: باب جامع ما جاء في أهل القدر، وكذلك رواه البخاري في " صحيحه " (6601) في القدر: باب وكان أمر الله قدراً مقدوراً.(6/315)
وقد تجنَّبتُ سياقة كثيرٍ من المتون بألفاظها، وذكر الأسانيد، وتقصِّي الكلام على الرجال والعلل لوجهين:
أحدهما: خوف الإملال.
وثانيهما: الاستغناء بالتواتر، فإن الكلام على الأسانيد تصحيحاً وتضعيفاً وتعليلاً لا يحتاج إليه مع التواتر ولذلك جمعت فيما نقلت أحاديث الثقات والمجاريح كما هو عادة الحفَّاظ إذا نقلوا المتواترات، وإنما نبهت على الثقة من غيره بذكر من في كل سند ممن فيه كلام أو خلاف أو جهالة أو جرح مبهم أو مبين أو غير ذلك، وإن كان لا يُحتاج إلى ذلك في المتواترات اقتداءً بأئمة السنة في الإنصاف، وترك العصبية، والمبالغة في تعليم التحري في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتنبيهاً على هذه الفضيلة التي اختصَّ بها أئمة السنة، وهي بيان ضعف الضعيف وإن وافق ما هو الصحيح عندهم، وهذه الأحاديث تدل على أحكام:
الحكم الأول: أن القدر حقٌّ في نفسه، ودلالتها على هذا القدر ضرورية مع ما تقدمها من الآيات القرآنية والبراهين العقلية.
وقد تقدم في الفائدة الثانية أن القول بالقدر لا يوجب نفي الاختيار في أفعالنا، كما لا يوجب ذلك في أفعال الله تعالى.
الحكم الثاني: أن الإيمان بالقدر واجب، ولا شك أن الوجوب مَدْرَكٌ سمعي، وأن الحديث الواحد الصحيح، أو الحسن ينتهض دليلاً على الوجوب، فكيف بما تقدم؟ فإنه يفيد العلم بوجوبه، فقد مر في القسم الثاني سبعون حديثاً كلها تدل على وجوب الإيمان به مع ما انضم إليها من إجماع السلف الصالح على تلقيها بالقبول، وتقدم الإنكارُ على أحدٍ من رواتها ثقاتهم وضعفائهم، ومثل هذا لو حصل في خبرٍ واحد لوجب أن يكون حجةً بالإجماع، وإنما اختلفوا(6/316)
هل يخرج بذلك عن كونه مظنوناً أولا؟ مع اتفاقهم على وجوب العمل به وصحة الاحتجاج به.
الحكم الثالث: ما أفادته من ذمِّ القدرية، ولا شك أن ما وجب الإيمانُ به، فتاركه مذمومٌ، وقد انعقد الإجماع على أن القدرية فرقة مذمومةٌ، وأما تكفيرهم، فقد مر في كلام القاضي أبي بكر بن العربي المالكي، أنهم عشرون فرقة: فرقتان منهم لا يُعَدَّانِ في فِرَق الإسلام.
قلت: والضابط في التكفير أن من ردَّ ما يُعلَمُ ضرورةً من الدين، فهو كافر، وفي هذا بعض إجمال.
والتحقيق أن من علمنا ضرورة أنه رد ما يعلم من ضرورة الدين، وعلمنا بالضرورة أنه يعلمه هو ضرورةً مثل ما نعلمه ضرورةً، فلا شكَّ في كفره.
وأما من جوَّزنا أن يجهل من الدين ما نعلمه نحن ضرورة، فهذا موضع يكثر فيه الاختلاف، والأولى عدم التكفير لعدم الدليل عليه.
وقد مر تحقيقُ ذلك في آخر مسألة الصفات.
والقدر الذي يدل على كفر القدرية كلهم من النصوص غير متواتر كما يعرف ذلك ممن ميز ما يدل على الكفر من سواه، وإنما المتواتر والمجمع عليه ذمهم.
أمَّا حديث " القدرية مجوس هذه الأمة " فقد ذكر الحافظ زين الدين أبو حفص عمر بن بدرٍ الموصلي في كتابه " المغني عن الحفظ من الكتاب بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب " (1): إن ما جاء في المرجئة، والجهمية،
__________
(1) ص 29، وقد حاول المعلق عليه أن يقوي ما ورد في هذا الباب بكثرة الشواهد مقلداً بذلك بعض من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا ممن ليس له خبرة بنقد المتون، وعامةُ الشواهد التي ساقها من طرقٍ شديدة الضعف، تنطوي على متون ظاهرة النكارة، واضحة =(6/317)
والقدرية، والأشعرية لا يصح في هذا الباب شيء. نقل ذلك ابن النحوي في تلخيصه لهذا الكتاب المذكور وكذلك الموصلي المذكور مختصراً من كتاب ابنِ الجوزي (1)، فقد تطابق هؤلاء الأئمة الثلاثة على نقل هذا عن المحدثين.
واعلم أنهم يُطلقون مثل هذه العبارة على ما يقوى بكثرة طرقه وشواهده، وربما صح كما ذلك مقرر في علوم الحديث، ولكن هذا مقام صعب، وما زال أهل التحري من علماء الإسلام يتورَّعون في مقام التكفير، فإن إخراج رجلٍ مسلم من مِلَّةِ الإسلام عظيم، وقد صحَّت الأحاديث في تعظيم ذلك، وفي الحديث الصحيح " إذا قال الرجل لأخيه يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (2).
الحكم الرابع: اختلف الناس في القدرية، وهي لفظةٌ ليست لغوية، فيرجع فيها إلى أئمة اللغة، ولذلك أعرض الجوهري عن تفسيرها، وكذلك نشوان بن سعيد في " شمس العلوم "، وولده محمد في " ضياء الحلوم "، وأما مجد الدين، فقال في " القاموس " (3): القدرية: جاحدوا القدر، وقال في تفسيره: القدر محرك هو القضاء، والحكم، ومبلغ الشيء، والجمع أقدار. ولم يوجد في أشعار العرب وديوانها، ولم يتحقق صحة الحديث الوارد في تفسيرها، فالمتحقق الآن أنها مُولَّدة اصطلاحية، ولم يبق إلاَّ النزاع في من تُطلق عليه.
وقد قدمنا ثبوت الأحاديث (4) وبالإجماع على أنها تطلق على فرقةٍ مذمومةٍ،
__________
= التوليد، وقد قال أئمة هذا الفن: ليس كل ما صح سنده صح متنه، وقال العلامة الخطيب البغدادي في " الكفاية " ص 432: ولا يُقبل خبر الواحد في منافاة حكم العقل، وحكم القرآن الثابث المحكم، والسنة المعلومة، والفعل الجاري مجرى السنة، وكل دليل مقطوع به.
(1) انظر " الموضوعات " 1/ 272 - 278، و" العلل المتناهية " 1/ 147 - 163.
(2) تقدم تخريجه في الجزء الأول من هذا الكتاب ص 438 - 439.
(3) ص 591 " قدر ". طبع مؤسسة الرسالة.
(4) الأحاديث التي فيها ذم القدرية والمرجئة والجهمية، ليس شيء منها بثابت كما تقدم بيانه.(6/318)
وهذا يدل على أنهم نُفاة القدر عن الله تعالى، وسيأتي قول القاضي عياض عن النواوي أنهم نفاة علم الغيب، لأن الأدلة: عقلاً ونقلاً، قرآناً وسنة دلَّت على ثبوت القدر، ودلت النصوص الصحاح على وجوب الإيمان به، فامتنع أن يكون الإجماع قد انعقد على ذمِّ من آمن بما يجب الإيمان به، وأثبت ما دلت الأدلة على ثبوته، وليس في هذا من الإشكال إلاَّ أمران:
أحدهما: أن يتوهم أن القدر هو الجبر ونفي الاختيار وهذا باطل قطعاً باتفاق المعتزلة، وأهل السنة، والأشعرية بل بالأدلة القاطعة الواضحة لمن قال به من المعقول والمنقول من القرآن أو السنة وتواتراً ضرورياً كما مرَّ بعض ذلك، ويأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
وثانيهما: أن يقال: كيف يصح ذلك باشتقاقِ النسب وأسماء الفاعلين أنها تكونُ من الإثبات ومن النفي كالموحد والمشبه ونحو ذلك.
والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا بحثٌ لغوي، والمرجع فيه إلى أئمة العربية، ولم ينُصُّوا على أن النسبة لا تصح إلى النفي لو قدرنا ما لم يعلم من نصِّ بعضهم على ذلك فلا تقوم حجةٌ إلاَّ بإجماعهم، أو نص من يُوثَقُ به منهم من غير معارضة ممن هو مثله أو أرجح منه، وكِلا الأمرين غير واقع، وإنما المشهور بينهم في شرط النسبة وقوع الملابسة بين المنسوب والمنسوب إليه كما هو شرط الإضافة.
قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {فَأَنساهُ الشَّيطَانُ ذِكرَ رَبِّهِ} [يوسف: 42]: إن الإضافة تكون بأدنى ملابسة (1). انتهى.
__________
(1) " تفسير الزمخشري " 2/ 258.(6/319)
وذكر الطبراني أن حبيب الروم الصحابي رضي الله عنه أنه إنما سُمِّيَ حبيب الروم لكثرة غزوه لهم وحبِّه (1) لجهادهم (2). ذكره الهيثمي في المناقب في كتاب " مجمع الزوائد " (3).
وقد أجمعوا على أن في باب النسبة ما هو وارد على خلاف القياس، فالرازي نسبة إلى الري ولا زاي فيه، والصنعاني نسبة إلى صنعاء ولا نون فيه، والمروزي نسبة إلى مرو ولا زاي فيه، بل السِّجزي بكسر المهملة وسكون الجيم والزاي نسبة إلى سجستان، والقَرَوي نسبة إلى قيروان، والبساسيري نسبة إلى بَسا بزيادة سِيري، ويُنسب إليها فسوي أيضاً، ذكره ابن خلكان (4). وقيل في وجهه: إن العَجَمَ تُبْدِلُ الفاء من الباء كقولهم: أصفهان وأصبهان، ولذا ذكر أن البندهي نسبة إلى بنج ديه، ويقال فيه أيضاً: الفنجديهي بالفاء، والبوصيري إلى بوصير قوريدس، ويقال فيه أيضاً: كوصير كوريدس بنقصان ستة أحرف، وهي أربعة مواضع كلها في صعيد مصر، والحصني والحَصْكفي، كلاهما نسبة إلى حِصن كيفا (5) وأمثال ذلك كثيرة.
__________
(1) " وحبه " سقطت من (أ) و (ف).
(2) " المعجم الكبير " للطبراني 4/ 21. ويقال له أيضاً: حبيب الدروب، واسمه: حبيب بن مسلمة بن مالك القرشي الفهري، ويكنى أبا عبد الرحمن، توفي سنة 42 هـ، ولم يبلغ خمسين سنة.
(3) 10/ 3.
(4) قال ابن خلكان في " وفيات الأعيان " 1/ 192: البساسيري -بفتح الباء الموحدة والسين المهملة وبعد الألف سين مهملة مكسورة، ثم ياء ساكنة مثناة من تحتها وبعدها راء- هذه النسبة إلى بلدةٍ بفارس يقال لها: بَسا، وبالعربية فسا، والنسبة إليها بالعربي: فَسَويٌّ، وأهل فارس يقولون في النسبة إليها: البساسيري، وهي نسبة شاذة على خلاف الأصل.
(5) حصن كيفا: بلدة وقلعة عظيمة تقع على ضفة الفرات الجنوبية بين آمد وجزيرة ابن عمر شمال الشام، وهي اليوم تابعة لولاية ماردين من المدن التركية.(6/320)
الوجه الثاني: المنازعةُ في كون هذه اللفظة مخالفةً لقياس النسبة، وذلك أن أئمة العربية على أن النسبة إذا كانت إلى كلمتين على جهة الإضافة، وكان المضاف إليه متناولاً لمسمى بحياله باقياً على دلالته حُذِفَ المضاف، ونسب إلى المضاف إليه مثل الإضافة إلى ذي يَزَن، وذي جَدَن، وذي رُعَيْنٍ، وعبد مناف، وأبي بكرٍ، وابن عباس، وابن القاسم، وقوم لوط.
ممن ذكر ذلك الزمخشري في " المفصل " (1)، وذكر نحو ذلك الجوهري في " صحاحه " في مادة: شَمَسَ (2) الأولى معجمة.
فعلى هذا إذا (3) أردنا النسبة إلى نفي القدر حذفنا " نفي " لخفاء النسبة إليه، وجعلناها إلى " القدر " لشهرته كما ذكروه في الأزلي نسبة إلى نفي الزوال بلم يزل كما سيأتي، ولا مانع من هذا إلاَّ كونه يُوهِمُ الخطأ، والقرينة تمنع ذلك كما تمنعه في سائر النسب المخالفة للقياس، وهي ذم القدرية ووجوب إثبات القدر.
ولو امتنع مثل هذا، لامتنع ورود المجاز، لأنهما كلاهما لا يُفهمان إلا بالقرينة، فما خصَّ باب النسبة بالامتناع من ذلك؟ وهو الباب الذي شهد أئمة النقل بأن فيه ما هو وارد على خلاف القياس.
الوجه الثالث: أن الأحاديث المتقدمة في تفسير القدرية لمن قال: لا قدر، وإن لم يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد اشتهرت بين أهل اللسان وأهل المعرفة به من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة العلم، ولم يُنْقَلْ إن أحداً منهم قدح فيها بأنها لا تصح في اللغة. وقد تقدم قول وهب بن مُنبِّه في ذلك.
وحكى السيد المرتضى في " الغرر " (4) أن أبا القاسم البلخي حكى عن
__________
(1) ص 210 - 211.
(2) 3/ 940 - 941.
(3) في (ش): متى.
(4) 1/ 169، وهو بتمامه: وحكى أبو القاسم البلخي أن عبد الله قال لابنه محمد: كل =(6/321)
عبد الله بن الحسن بن الحسن أنه قال لولده محمد: إني لا أعِيبُ عليك شيئاً إلا قولك بالقدر، فقال: هل تلومني على ما لا أقدر عليه أو على ما أقدر عليه؟ فقال: والله ما أعاتبك (1) عليه أبداً.
ففي هذا معا أنهما فَهِمَا من القدر نفيه، ولم يختلفا في ذلك، وأمثال ذلك كثيرة.
وتقدم مثل ذلك في الكلام على المشيئة عن أحمد بن عيسى بن زيد وغيره من قدماء أئمة أهل البيت عليهم السلام، وعن المعرِّي وأبي نُواس مثل ذلك في شعرهما، وهما من أهل اللغة والبلاغة.
ففي شعر المعري:
لا تكن مُجبراً ولا قَدَرِياً ... واتَّخِذْ مَذْهَباً يكن بَينَ بَينا (2)
وفي شعر أبي نُواس:
ما صحَّ لا قَدَرٌ ولا جَبْرُ ... ما صَحَّ إلاَّ الموتُ والقَبْرُ (3)
__________
= خصالك محمودة يا بني إلاَّ قولك بالقدر، قال: يا أبَهْ، أفَشَيءٌ أقدِرُ على تركه أو لا أقدر على تركه؟ فورد الكلام على رجل عاقل، فقال: لا عاتبتك عليه أبداً. قال أبو القاسم: يقول: إن كنت أقدر على تركه فهو قولي، وإن كنت لا أقدر، فلِمَ تعاتبني على شيء لا أقدر عليه.
(1) في (ف): لا أعيبك.
(2) هو في " اللزوميات " 2/ 535 وروايته فيها:
لا تعش مجبراً ولا قدرياً ... واجتهد في توسُّط بين بينا
(3) إن صح عنه هذا فقد قاله في سكره ومجونه وهذيانه، فقد ذكر الخطيب في " تاريخه " 7/ 441 بإسناده عن الحسن بن أبي المنذر قال: كان أبو نواس يشرب عند ابن أبي المنذر، فبات ليلة، ثم قال: قوموا، فقمنا ودخلنا حانة خمار قد كان يعرفه، ومعه غلام قد كان أفسده على أبويه وغيبه عنهما زماناً، ونحن في أطيب موضع، فذكرنا الجنة وطيبها، والمعاصي وما =(6/322)
فجعلا القدر مقابلاً للجبر وضده، وذلك في كلام السلف كثير إذا تُتُبِّعَ، واللغة تَثْبُتُ بأقلَّ من ذلك.
وأما الجوابُ عما أورده المرتضى في حكايته، فهو ما تقدم في الفائدة الثانية من أن إثبات القدر لا يستلزم نفي القدرة، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] وقد مرَّ تقريره في ردِّ شبه المعتزلة في آخر مسألة الإرادة.
ومن أخصر ما يعارضون به أنهم يَصِفون الرب سبحانه بالقدرة على الكذب وجميع القبائح، ويمنعون من تجويز وقوع ذلك منه، ويوجبون استحقاقه المدح على تركها، فدل على صحة القدرة على الممتنع وصحة الثناء والذم عليها.
وإنما معنى القدر القطع بوقوع أحد المقدورين بدليل أنه جارٍ في أفعاله تعالى لقوله: {كانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَقضياً} [مريم: 71]، بل شرط القدر أن يكون في المقدورات دون المحالات، فلا يقال: إن الله قد قدر على الجماد المعدوم ترك المعاصي.
__________
= يحول عنه منهما، وهو ساكت، فقال:
يا ناظراً في الدين ما الأمر ... لا قَدَرٌ صحَّ ولا جَبرُ
ما صحَّ عندي من جميع الذي ... تذكره إلاَّ الموت والقبرُ
فامتعضنا من قوله، وأطلنا توبيخه، وأعلمناه أنا نتخوف صحبته، فقال: ويلكم والله إني لأعلم بما تقولون، ولكن المجون يفرط علي، وأرجو أن أتوب ويرحمني الله، ثم قال:
أية نارٍ قَدَحَ القادحُ ... وأيَّ جِدٍّ بَلَغ المازحُ
لله درُّ الشيب من واعظٍ ... وناصحٍ لو حَذِرَ الناصحُ
يأبى الفتى إلاَّ اتباع الهوى ... ومنهجُ الحق له واضحُ
فاعمد بعينيك إلى نسوةٍ ... مهورُهن العملُ الصالح
لا يجتلي العذراء من خِدرها ... إلاَّ امرؤٌ ميزانُه راجحُ
مَنِ اتَّقى الله فذاك الذي ... سِيقَ إليه المتجر الرابحُ
فاغد فما في الدين أغلوطة ... ورح بما أنت له رائحُ(6/323)
الوجه الرابع: أنها قد جاءت ألفاظٌ صحيحة شهيرةٌ على خلاف هذه القاعدة التي في اشتراط الإثبات في المشتقات، وقد حضرني منها اثنتان وعشرون لفظةً منها: التَّحنُّث والتحنُّف والتحرُّج والتَّأثُّم والتَّحوُّب والتهجد والتنجُّس، وهو فعل ما يُخرِجُ عن الحِنث، والحَنَف والحرج والإثم والحَوْب والهُجُود. ذكر ذلك كله الثعالبي في " فقه اللغة " (1) وغيره من أئمة اللغة.
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة " وحُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء، فيتحنَّث فيه الليالي ذوات العدد " (2).
قال الجوهرى في " الصحاح " (3): تحنَّث: تعبَّد واعتزل الأصنام، مثل تحنَّف، وفلان يتحنَّث من كذا: أي يتأثم منه.
قال (4): والحنيف: المسلم، والحَنَف: الاعوجاج، وقد يُسمى المستقيم بذلك كما سُمِّي (5) الغراب أعور، وأنشد الجوهري قول جِرَان العَوْد (6):
ولما رأينَ الصُّبْحَ بادَرْنَ ضوءَهُ ... رَسِيمَ قَطَا البَطْحاء أو هُنَّ أقطَفُ
وأَدرَكْنَ أعجازاً من الليل بعدما ... أقام الصلاةَ العابِدُ المُتَحنِّفُ
وقوله: سُمِّي (5) الغراب أعور، إشارة إلى ما ثبت أنهم يقولون له ذلك لحدة
__________
(1) انظر ص 331 منه وفيه: فلان يتنجس: إذا فعل فعلاً يخرجه من النجاسة.
(2) البخاري (3)، ومسلم (160). وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (33).
(3) 1/ 280 (حنث).
(4) 4/ 1347 (حنف).
(5) في (ف): يسمى.
(6) قال صاحب " خزانة الأدب " 10/ 18: وجران العود لقب شاعر من بني ضِنَّة بن نمير بن عامر بن صعصعة. والجِران -بكسر الجيم- والعَود -بفتح العين المهملة وسكون الواو وآخره دال مهملة-: هو المسنُّ من الإبل. =(6/324)
بصره على الشؤم. نص عليه الجوهري (1).
ومن ذلك القَذُور من النساء التي تتجنَّب الأقذار، وقال أبو عبيدة: ناقة قَذُورٌ تبرُكُ ناحيةً من الإبل وتستبعِدُ. قال الكِلابي: رجُلٌ قُذَرةٌ مثل هُمَزَةٌ: يتنزه عن المَلائِم، ورجل قاذورة، وذو قاذورة: لا يخالط الناس لسوء خلقه ولا يُنازِلُهم (2).
__________
= وكتب ياقوت بن عبد الله الحموي في " حاشية مختصر جمهرة ابن الكلبي ": ومن بني ضِنَّة بن نمير: جران العَوْد الشاعر، واسمه عامر بن الحارث بن كُلْفة، وقيل: كَلَدة، وإنما سُمِّي جران العود لقوله يخاطب امرأتيه:
عَمَدتُ لعودٍ فالتحيتُ جرانه ... ولَلْكَيْسُ أمضى في الأمور وأنجحُ
خُذا حذراً يا ضرَّتيَّ فإنني ... رأيتُ جِران العَودِ قد كان يصلحُ
والجِران: باطن العنق الذي يضعه البعير على الأرض إذا مدَّ عنقه لينام، وكان يُعمل منه الأسواط، فهو يهدِّدهما. انتهى.
وكتب أيضاً في الهامش الداخل: ومن بني ضِنَّة بن نمير جران العَوْد، صاحب الضَّرَّتين اللتين ضربتاه، وخنقتاه، فعمد إلى جَمَلٍ فنحره وسلخ جرانه، وهو جلد ما بين اللبة إلى اللحيين، ثم مرَنه وجعل منه سوطاً وهو يقول:
عَمَدتُ لعود فالتحيتُ جرانه ... البيتين.
فسمِّي جران العود، وذهب اسمه فلا يُعرف.
قلت: وله ترجمة في " الشعر والشعراء " 2/ 718 - 722، وذكر له مما يتمثل من شعر قوله:
فلا تأمنوا مكر النساء وأمسكوا ... عُرى المال عن أبنائهن الأصاغر
فإنك لم يُنذِرْك أمراً تخافه ... إذا كنتَ منه جاهلاً مثلُ خابر
والبيتان من قصيدة في " الديوان " 13/ 24. والرسيم: من سير الإبل، وأقطف، أي: أبطأ.
(1) " الصحاح " 2/ 761، ونص كلامه: ويقال للغراب: أعور، سمي بذلك لحدة بصره، على التشاؤم.
(2) تحرفت في الأصول الثلاثة إلى: ولا لهم.(6/325)
قال مُتمم بن نويرة يرثي أخاه:
فإنْ تَلقَه في الشرب لا تَلْقَ فاحِشاً ... على الكَأْسِ ذا قاذُورةٍ متربِّعا (1)
ذكر ذلك كله الجوهري (2)
وقال النعمان بن بشيرٍ الأنصاري:
ولكنَّها نَفْسٌ عليَّ كَريمةٌ ... عَيوفٌ لأصهارِ اللِّئامِ قَذورُ
رواه الطبراني من طريق أبان بن بشير بن النعمان في مكاتبة جرت بين (3) النعمان ومروان (4).
ومن ذلك الرَّيِّض، قال الجوهري (5): هي الناقة أول ما رِيضَتْ، وهي صعبةٌ بَعْدُ.
وقال الثعالبي (6): هي الدابة لم تُرَضْ.
ومن ذلك تشميت العاطس بالمعجمة، فإنه إنما يسمى بذلك، لأنه يُزيل الشماتة بالعاطس، وينفيها عنه.
__________
(1) البيت في " المفضليات " 1/ 265 - 270 من قصيدة طويلة مطلعها:
لعَمْري وما دهري بتأبين هالكٍ ... ولا جَزَع ممَّا أصاب فأوجعا
والشرب: هم القوم يشربون، والمتزبِّع: هو المعربد، سيء الخلق.
(2) انظر " الصحاح " 2/ 788.
(3) في الأصول: في مكاتبة حرب بن النعمان، وهو تحريف.
(4) قال الهيثمي في " المجمع " 10/ 35: وفيه أبان بن بشير بن النعمان ولم أعرفه، رجاله ثقات.
(5) في " الصحاح " 3/ 1081 " روض ".
(6) في " فقه اللغة " ص 332.(6/326)
ومن ذلك ما خرَّجه مسلم في " الصحيح " والنسائي وابن ماجه من حديث خبَّاب بن الأرت شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّ الرَّمْضاء فلم يُشْكِنا (1).
زاد البيهقي (2): في وجوهنا وأكُفِّنا.
ذكر الزمخشري في " الفائق " (3) أنه يحتمِلُ أن المراد أنه رخَّص لهم ولم يُزِلْ لهم الشكاية بالنهي.
قلت: ويعضُدُه صحة الأمر بالإبراد بالصلاة عن أول وقتها في الحرِّ، كما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة (4).
وحديث ابن عباس (5): أُمِرَ - صلى الله عليه وسلم - أن يَسجُدَ على سبعة أعظُمٍ لا يكفُّ شعراً ولا ثوباً. خرجاه (6).
ولمسلم (7): " أُمرتُ أن أسجُدَ " فذكره.
__________
(1) مسلم (619)، والنسائي 1/ 247، وابن ماجه (675)، وصححه ابن حبان (1480) وانظر تمام تخريجه فيه. تنبيه: لقد فاتنا في " صحيح ابن حبان " أن نعزو الحديث إلى ابن ماجه من طريق أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن خباب، فيستدرك من هنا.
(2) في " سننه " 2/ 105.
(3) 2/ 86 ونص كلامه فيه: " فلم يشكنا " يحتمل أن يكون من الإشكاء الذي هو إزالة الشِّكاية، فيُحمل على أنهم أرادوا أن يرخِّص لهم في الصلاة في الرحال، فلم يجبهم إلى ذلك، ويحتمل أن يكون من الإشكاء الذي هو الحمل على الشكاية، فيُحمل على أنهم سألوه الإبراد بها، فأجابهم ولم يتركهم دون شكاية.
(4) البخاري (536)، ومسلم (615)، وأخرجه ابن حبان (1506) وانظر تمام تخريجه فيه.
(5) في الأصول: وحديث أبي هريرة، وهو سبق قلم من المؤلف، فالحديث حديث ابن عباس لا حديث أبي هريرة.
(6) البخاري (809)، ومسلم (490) (227).
(7) (490)، وهي للبخاري أيضاً (812)، والحديث في " صحيح ابن حبان " (1923) =(6/327)
وقال ابن الأثير في " النهاية " (1): إنه لم يُجبهم إلى ذلك ولم يُزِلْ شكواهم، يقال: أشكيت الرجل: إذا أزلت شكواه، وإذا حملته على الشكوى.
والمقصود من إيراد هذا الحديث بيان نقل ابن الأثير عن أهل اللغة، وعمل كثير من الفقهاء بمقتضى ما نقله.
ومن ذلك: " المُقسِط "، قال ابن الأثير في " النهاية " (2): في أسماء الله المُقسِطُ وهو العادل، يقال: أقسط يُقسِطُ، فهو مُقسِطٌ، وقَسَطَ يقسط، فهو قاسِط: إذا جار، فكأنَّ الهمزة في " أقسط " للسَّلْبِ، كما يقال في أشكى.
ومن ذلك التجزيع: بمعنى نفي الجزع، وذلك في قول ابن عباس لعمر عند موته يُجَزِّعُه، أي: يُزيل جزعَهُ (3).
ومن ذلك التفزيع: إزالة الفزع، ذكره ابن الأثير في " جامع الأصول " (4) في تفسير قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ} [سبأ: 23].
ومن ذلك المحكِّمة، قال الجوهري (5): الخوارج يُسَمَّوْنَ المُحَكِّمة لإنكارهم أمر الحَكَمين وقولهم (6): لا حُكْمَ إلاَّ لله.
ومن ذلك: الأزلي نسبة إلى لم يزل، ثم حذف حرف النفي، ثم أبدلت الياء ألفاً، لأنها أخفُّ، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن: أزَني (7).
__________
= و (1924) و (1925) وانظر تمام تخريجه فيه.
(1) 2/ 497.
(2) 4/ 60، لكن فيه آخره: كما يقال: شكا إليه فأشكاه.
(3) هو في " صحيح البخاري " (3692)، وانظر " النهاية " 1/ 269.
(4) 5/ 61، وانظر " النهاية " له 3/ 444.
(5) في " الصحاح " 5/ 1902 " حكم ".
(6) في (أ) و (ف): في قولهم.
(7) انظر " الصحاح " 4/ 1622 " أزل ".(6/328)
ومن ذلك: تسمية الأعمى بصيراً، وقد روي في ذلك حديث مرفوعٌ رواه الطبراني والبزار من حديث جُبير بن مُطعِم (1). أورده الهيثمي (1) في باب الزيارة وإكرام الزائر في كتاب البر والصلة، وقال: رجال البزار رجال الصحيح غير إبراهيم بن المستمر وهو ثقة.
ومن ذلك: الخيار في البيع، قد جاء في " الصحيح " بمعنى نفي الخيار، وذلك في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، إلاَّ بَيْعَ الخِيار " (2).
قال النواوي في شرح " مسلم " (3): إلاَّ بيعاً نُفِي فيه الخيار، فإنه لا يثبت فيه خيار المجلس.
وحكى ابن كثير هذا عن الإمام الشافعي رضي الله عنه، وأمثال ذلك كثير لمن تتبَّعَه في كتب اللغة.
وقد ذكر الثعالبي في أواخر " فقه اللغة وسِرِّ العربية " (4) باباً فيما يخالف لفظه معناه من هذه الأمور، وكان من أئمة اللغة.
وكذلك الزمخشري ذكر في " المفصل " (5) في قسم الأفعال أن همزة أفعل قد تكون للسلب نحو: أشكيته، وأعجمت الكتاب إذا أزلت الشكاية والعجمة، ثم ذكر أن فعَّل مضاعف العين يؤاخيه في ذلك نحو: فزَّعته، وقذَّيتُ عينه، وجَلَّدت البعيرَ وقرَّدته، أي: أزلت الفَزَع والقذى والجلد والقُراد. انتهى.
__________
(1) في " المجمع " 2/ 174 ولفظه: وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انطلقوا بنا إلى بني واقف نزور البصير رجل كان مكفوف البصر. قلت: هو في " مسند البزار " (1920)، و" معجم الطبراني " (1533) و (1534).
(2) البخاري (2111)، ومسلم (1531) من حديث ابن عمر. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (4912) و (4913) و (4914) و (4915) و (4916).
(3) 10/ 174.
(4) ص 331.
(5) ص 280 - 281.(6/329)
فدلَّ هذا على شُهرة هذا المعنى.
الوجه الخامس: أنه قد ثَبَتَ بناء اسم الفاعل لما هو في الحقيقة مفعولٌ، كقوله تعالى: {والنَّهارَ مُبْصِراً} [يونس: 67]، وقوله تعالى: {في عِيشةٍ رَاضيةٍ} [الحاقة: 21] ومنه قولهم: سَيْلٌ مُفْعَمٌ على اسم المفعول، وشعرٌ شاعرٌ، ونهاره صائمٌ أي: مصومٌ فيه، ونهرٌ جارٍ [أي] مجري فيه، لأن النهر اسمٌ لساقيه الماء (1). وسيأتي ذلك.
ونصَّ علماء المعاني على أن المجوِّز لذلك هو الملابسة، فإن النسبة أولى بمخالفة بعضه القياس، ومما يُشبه هذا قولهم: القَمران والعُمران.
وقد ذكر ابن قتيبة في " مُشكل القرآن " (2) باباً في المقلوب ومنه قولهم: للدَّيِغ: سليم، وللعطشان: ناهِلٌ، وللفَلاة: مفازَةٌ، وللشمس: جَوْنة، وللغراب: أعور، وللحبشي: أبو البيضاء، وللأبيض: أبو الجَوْن.
قال: ومنه قول قوم شعيب: {إنَّكَ لأنْتَ الحَليمُ الرَّشيدُ} [هود: 87]، [كما] تقول للرجل تستجهلُه: يا عاقل، وتستخفُّه: يا حليم، وأنشدوا قول الشاعر:
فقلتُ لِسيِّدِنا يا حليـ ... ـمُ إنَّك لم تأسُ أسْوَاً رفيقاً (3)
__________
(1) انظر " الصاحبي " لأحمد بن فارس ص 366 - 368.
(2) ص 185 فما بعدها. وانظر " الأضداد " لابن الأنباري ص 258.
(3) هو لشُتيم بن خويلد أحد بني غراب بن فزارة وهو شاعر جاهلي. أنشده الجاحظ في " الحيوان " 3/ 82 وفي " البيان والتبيين " 1/ 181 - 182، وابن الأنباري في " الأضداد " ص 258، وأورده صاحب " اللسان " (خفق)، وفيه " حكيم " بدل " حليم ". وبعده
أعَنْتَ عدِيّاً على شَأْوِها ... تُعادي فريقاً وتنفي فريقا
أطعتَ اليمينَ عِنادَ الشَّمالِ ... تُنحّي بحَدِّ المواسي الحُلُوقا
زَحَرْتَ بها ليلةً كُلَّها ... فجئتَ بها مُؤيداً خَنْفَقِيقا =(6/330)
إلى قوله: ومن ذلك أن يُسمَّى المتضادَّان باسمٍ واحد، كما يقال للصُّبْحِ: صَرِيمٌ ولليل صريم، إلى آخر ما ذكره.
وذكر ابن خلكان من هذا قولهم للأسود: كافورٌ، وللشاعر المشهور: الأبله، قال: وإنما سُمِّي بذلك، لكثرة ذكائه على قول، ووجَّهه أنه من أسماء الأضداد.
ذكره ابن خلكان في ترجمة الأبله من حرف الميم (1)، وابن خلكان من الأدباء، فدل على شهرة هذا عندهم، فكيف يُقطع ببطلان أحاديث وردت في تفسير القدرية بمن يقول: لا قدر.
الوجه السادس: أنها نسبةٌ إلى الإثبات لا إلى النفي.
بيانه: أن المتبدعة أثبتوا القدر لأنفسهم، ونَفَوْه عن ربهم عز وجل، فنسبوا إليه لإثباته عن أنفسهم لا لنفيه عن الله تعالى، ومدعي الشيء لنفسه أولى أن يُنسبَ إليه مِمَّن يدَّعيه لغيره. ذكر هذا الوجه ابن قتيبة وإمام الحرمين كما سيأتي.
الوجه السابع: أنه قد ثبت أنها لفظةٌ مستعملةٌ في الاصطلاح الأخير، ولم يثبت أنها (2) لُغويةٌ ولا شرعية، وإن كانت تحتمل ذلك، فلا يمتنع أن تكون مخالفةً لوضع اللغة وقانون العرب إذا (3) لم تكن من لغتهم، ولأهل الاصطلاحات أن يصطلحوا على ذلك.
__________
= وذكر هذه الأبيات الثلاثة المرزباني في " معجم الشعراء " ص 392.
قال في " اللسان ": وقوله: " يا حكيم " هُزْءٌ منه، أي: أنت الذي تزعم أنك حكيم وتخطىء هذا الخطأ، وقوله: " أطعت اليمين عناد الشمال " مثل ضربه، يريد: فعلت فِعْلاً أمكلنت به أعداءنا منا كما أعلمتك أن العرب تأتي أعداءها من ميامنهم، يقول: فجئتنا بداهيةٍ من الأمر وجئت به مُؤيَداً خَنفقيقاً، أي: ناقصاً مقصِّراً.
(1) " وفيات الأعيان " 4/ 465.
(2) في الأصول: " أنه "، والجادة ما أثبتت.
(3) في (أ): إذ.(6/331)
وبعد، فقد وقع ذلك، والوقوع فرع الصحة، فإن طائفة أهل السنة بغير شكٍّ على تسمية نافي القدر قدريّاً، والإجماع غير مُشتَرَطٍ في صحة الاصطلاح.
وأما ذمُّ نافي القدر المسمى بالقدري، فلم يأخذه أهل السنة من الاصطلاح، بل من أدلة العقول والقرآن والأحاديث الصِّحاح، وقد ظهر بهذه الوجوه السبعة أن المعتمد في هذه النسبة هو الاستنباط من مجموع أمرين:
أحدهما: الإجماع على أنها كلمةُ ذمٍّ.
وثانيهما: الدليلُ القاطع على ثُبوت القدر وصحته، ووجوب الإيمان به، وهما يستلزمان أن المذموم به من نفى القدر، أو نفى وجوب الإيمان به.
وأما ما يتعلق (1) به الفريقان من الاحتجاج في هذه المسألة بما استنبطوه من حديث " القدرية مجوسُ هذه الأمة " (2) فبناءٌ على صحته -ولستُ أرى صحته- فأُعَوِّلُ على ذلك، وإن كان المنصور بالله ذكر في أول " الشافي " (3) أنه مجمعٌ على صحته، فليس كذلك، وقد خالفه المؤيد بالله وسبقه بعدم تصحيحه، ذكره في " الزيادات ". وكذلك أئمةُ الحديث نصُّوا على عدم صحته كما تقدم، وإنما قال الحاكم: إنه صحيحٌ على شرطهما، إن صح سماعُ أبي حازم عن ابن عمر (4)، وهذا سوءةٌ في التصحيح، لأنه لم يصح سماع أبي حازم عن ابن عمر، وما لم يصح بمثل هذه الطريق ممكن.
__________
(1) في (ش): تعلق.
(2) تقدم تخريجه ص 460.
(3) وهو كتاب في الرد على " الرسالة الخارقة " لمؤلفها عبد الرحمن بن منصور بن أبي القبائل، ويقع في أربعة أجزاء مخطوطة في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء رقم 77 - 87. انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية " ص 173 - 176.
(4) " المستدرك " 1/ 85. وأبو حازم هو سلمة بن دينار.(6/332)
وإنما مُستندُ المنصور ما رآه من اشتغال الطائفتين من المتكلمين بتأويله دونَ تضعيفه، فجعله من قبيل المُتَلقَّى بالقبولِ، وهذا لا يدل على الصِّحة لأمرين:
أحدهما: أن المتكلمين من الطائفتين وإن كانوا أئمة الجدال، فلكلِّ علمٍ رجالٌ.
وثانيهما: أن الصحيح عند المحققين أن التلقي بالقبول لا يدل على القطع بالصحة، كما ذلك مُقَرَّرٌ في الأصول، وعلوم الحديث، وهذا هو مذهبُ الأكثرين والمحققين كما ذكره النواوي. وإنما قال به من أئمة الحديث ابنُ الصلاح (1)، وابن طاهر، وأبو نصر (2)، وتضعيف المُحَدِّثين أخصُّ من وهم التلقي بالقبول، والقدح البَيِّنُ مُقََدَّمٌ على التصحيح عند أهل الحديث، وأهل الأصول.
وأما قول الخطابي وغيره من أهل السنة: إنه مُشتقٌّ من إثبات القدري قدرةً لنفسه حتى قال ابن العربي في " عارضة الأحوذي " (3): إن القاف والدال والراء تدل على القدرة والمقدور، فمخالفٌ للحديث الوارد في تفسير القدرية بأنهم الذين يقولون: لا قَدَرَ (4).
وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الإيمان أن تؤمن بالقدر خيره وشره " (5) يدل على ذلك، ولأن ذلك مخالف لقياس النسبة إلى القدرة، فإن قياسه بضم القاف وسكون
__________
(1) ساقط من (أ) و (ف).
(2) انظر " تدريب الراوي " 1/ 131 - 133.
(3) 8/ 295.
(4) تقدم تخريجه ص 447 - 448.
(5) تقدم تخريجه ص 447 و448.(6/333)
الدال، ولا يُقال: إن النسبة مخالفةٌ للقياس، لأنا نقول: إن مخالفة القياس فيها لا يُقضى بها إلاَّ لِتعذُّر القياس، ولذلك لم يُفَسَّر القدرية بنفاة القدر إلاَّ لمنع الأدلة من ذمِّ من أثبته.
ومع هذا فالذي ذكر ابن العربي مُشْكِلٌ جداً، فإن معاني هذه المادة تباينُ تبايُناً كثيراً عند اختلاف تركيبها كسائر تراكيب الكلام ومواده، إلاَّ ترى أن القاف من هذه المادة متى كُسِرَت وسُكَّنَت الدال دلَّت على الوعاء الذي يُطبخ نيه، وذلك غير معنى القضاء والتقدير، وكذلك القدرة بضم القاف غير القضاء والقدر.
وأما قولهم: إن القدريَّ هو الذي يُثْبِتُ (1) لنفسه قُدرةً، فإن عَنَوْا أنه الذي يُثبتُ لنفسه قدرةً خلقها الله تعالى، فهذا إجماع المسلمين، وإن عَنَوا قُدرةً لم يخلُقها الله تعالى له، فلم يَقُل بذلك أحدٌ من مبتدعة المسلمين، وإنما حملهم على ذلك الفِرارُ من النسبة إلى النفي.
وقد تقدم من الأدلة ما يَقْضي بصحته وشُهرته، وأنه على تقدير عدم الصحة اصطلاحٌ مُوَلَّدٌ لم يُبْنَ عليه تكفيرٌ ولا تفسيقٌ ولا حُكْمٌ شرعي، وإنما تثبتُ الأحكام على الأدلة الصحيحة عقلاً وسمعاً سواءٌ صَحَّت هذه التسمية أو لم تصح، فلا حاجة إلى تَكلُّفِ أمرٍ غير واضح.
فإذا تقرَّر أن القدرية هم نُفاة القدر، وقد ثبت أن عِلْمَ الله تعالى السابق وكتابته مقادير الخلائق هما أساس القدر وعموده على ما نطقَتْ به النصوصُ السابقة فلا تكون القدرية على التحقيق إلاَّ نفاة علم الله السابق وكتابته، وبهذا فسَّرهم النواوي في أول " شرح مسلم " (2)، وعزاه إلى القاضي عياض ونَقَلَةِ المقالات من المتكلمين المتقدمين، وذكر أنهم قد انقرضوا، وحكى عياضٌ بعد قليلٍ أنه قول الفلاسفة.
__________
(1) في (ش): " لم يثبت " وهو خطأ.
(2) 1/ 154.(6/334)
قال النواوي ما لفظه: قال أصحاب المقالات من المتكلمين المتقدمين:
وانقرضت القَدَريَّة القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبقَ أحدٌ من أهلِ القبلة عليه. وحكى بعد هذا بقليل عن القاضي عياض في براءة ابن عمر من القدرية أنه قال: هذا في القدرية الأول الذين نَفَوا علم الله تعالى بالكائنات، والقائل بهذا الأمر [كافر] بلا خلافٍ، وهؤلاء الذين يُنكرون القَدَرَ، وهم الفلاسفة في الحقيقة.
وقال غيره: يجوز أنه لم يُرِدْ بهذا الكلام التكفير المُخرج من الملة، فيكون من قبيل كُفران النِّعَمِ، إلاَّ أن قوله ما قَبِلَ الله منه ظاهر في التكفير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر إلاَّ أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل الله عمله لِمعصيتِه وإن كان صحيحاً.
وفسَّر النواوي الصحة بعدم وجوب القَضاء، وعدم القَبول بعدم الثواب.
قال: وقد حكى ابن قتيبة في كتابه " غريب الحديث " (1) وإمام الحرمين في كتابه " الإرشاد " (2): أن بعض القدرية قالوا (3): لسنا بقدرية، بل أنتم القدرية -إلى قوله- وهذا تمويهٌ من هؤلاء الجهلة ومباهتة ونزاعٌ (4)، فإن أهل الحق يفوِّضون أمورهم إلى الله تعالى، ويضيفون القدر إلى الله تعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومدَّعي الشيء لنفسه، ومضيفه إليها أولى أن يُنسَبَ (5) إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه. انتهى.
وكذلك ذكر ابن بطال أن مذهب أهل السنة أن القدر هو علم الله وغيبه
__________
(1) 1/ 255.
(2) ص 256.
(3) في (ف): قال.
(4) في " شرح مسلم " و" الإرشاد ": وتواقح.
(5) في (ش): يثبت.(6/335)
الذي استأثر به. ذكره في شرح الباب الثالث من أبواب القدر من " صحيح البخاري ".
وقد كثر إطلاق بعض أهل الحديث والأشعرية القدري على المعتزلي مع أن المعتزلة تُثبت علم الله السابق وكتابته حتى توهم ابن السيد البَطَلْيَوْسي في " شرح سقط الزّند " من شعر المعري ينكر كون الله تعالى يعلم الغيب. وسببُ وهمه في ذلك ما رآه من تسميتهم قدرية مع اعتقاده أن القدرية تنكر علم الغيب.
وسبب تجاسرهم على تسميه المعتزلي بذلك خلاف المعتزلة في مسألتين:
إحداهما: مسألة الإرادة، فإنهم يقولون: إن الله تعالى يريد وقوع الطاعات من جميع العُصاة، ويجب عليهم اللطف بهم، ولكن ليس في معلومه تعالى ولا في مقدوره لهم، ولو كان في معلومه، لكان في مقدوره، ولو كان في مقدوره ولم يفعله، كان مُخِلاًّ بما يجب عليه، وقد تقدم الرد عليهم في ذلك في الكلام على الإرادة.
المسألة الثانية: الإضلال، وهو إضلالٌ وسلبُ اختيار، فإنهم يمنعون جوازه من الله تعالى ويقبحونه، والسمع ورد بجوازه عقوبةً على العاصي، كقوله تعالى: {وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26]، وقوله: {فَسَنُيسِّرُه للعُسْرَى} [الليل: 10]، وقوله: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] إلى ما لا يُحصى كثرة.
وبيان عدم الموجب لتاويله والقاطع لِلَّجَاج أنا إن فسرنا القدر بالعلم ولوازمه فالقدرية المذمومة من نفاه وإن فسر القدر بالجبر (1)، فالقدري المذموم من أثبته، لكن التفسير الأول هو المعروف بدليل قوله تعالى: {كان على ربِّكَ حَتْماً مَقْضِياً} [مريم: 71] وقد تقدم بيانه.
__________
(1) من قوله: " فالقدرية المذمومة " إلى هنا ساقط من (أ) و (ف).(6/336)
الفائدة الرابعة: فيما بَيَّنَهُ الله تعالى من حِكَمِهِ التي لا تُحصى في تقدير الشرور، والاقتصار على ما جاء من ذلك عن الله تعالى، وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون التعدي إلى ما وراءه لقوله تعالى: {وما كان الله لِيُطلِعَكُم على الغَيْبِ} [آل عمران: 179]، وقوله تعالى: {فلا تَضرِبُوا لله الأمثالَ إنَّ الله يعلمُ وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] وما أنفعها لمن عقلها {وما يَعْقِلُها إلاَّ العَالِمون} [العنكبوت: 43] ولقوله تعالى: {ولا يُحِيطون بشيءٍ من عِلمِهِ إلا بما شاء} [البقرة: 255] مع قوله: {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلاَّ الله} [آل عمران: 7].
وقد ذمَّ مبتغي تأويله في أُمِّ الآيات المحكمات حيث قال سبحانه: {ابتِغَاء الفِتنةِ وابْتِغاءَ تأويلِه} [آل عمران: 7] قالوا: المتشابه خطابٌ لنا من حكيم فيجب أن نفهمه.
قلت: المقدمة الأولى -وهي الصغرى- ممنوعة (1)، لأن كونه خطاباً لنا لا يُدْرَكُ بالعقل، ولا يثبُتُ بالنص، وأولى من ذلك أن نقول: المتشابه لا طريق لنا إلى فهمه كالفواتح، فوجب أن لا يكون خطاباً لنا من الحكيم، والصغرى ضروريةٌ وجدانية مع اعتبار الأدلة الصحيحة على دعوى التفسير، والكبرى اتفاقيةٌ بيننا وبين الخصوم، فوضح الحق ولله الحمد على أن ذم الله تعالى لمبتغي (2) التأويل يكفي حجةً.
وكذلك قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] فرأسُ العلم والرسوخ فيه معرفة العجز عن تعدِّي ما بيَّنه الله تعالى في مثل هذه المتشابهات، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة الراسخين: هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السُّدَد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا
__________
(1) تحرفت في (أ) و (ف) إلى: مصنوعة.
(2) في (أ): لمتبعي، وفي (ف): لمتتبعي.(6/337)
تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: {آمَنَّا به كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنا} [آل عمران: 7].
فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل (1) ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمُّق فيما لم يُكلِّفهم منه رسوخاً، وتقدم إسناده.
اعلم: أنه قد اشتد حِرص الخلق على ذلك وخوضهم فيه، وذلك لدقته وغموضه كما قيل:
أحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعَا (2).
واعلم أن الله سبحانه لو أراد إطلاعهم عليه، لنصَّ على ذلك، أو ساق أفهامهم إليه من غير نصَّ إليه على أسهل أمرٍ كما قيل:
إذا الله سَنَّى حَلَّ عَقْدٍ تَيَسَّرا (3)
__________
(1) في (أ) و (ف): تناول.
(2) هو للأحوص، وصدره:
وزادَهُ كَلَفاً في الحُبِّ أنْ مَنَعَتْ
ويُروى في عجزه: " وحبَّ شيئاً "، و" حبُّ شيءٍ ". فالأولى أصلها: " حَبُبَ " بضم الباء فأسكنت وأدغمت في الثانية، وقوله: " ما مُنع " في موضع رفع، ارتفع بحب، يقال: حبَّ زيدٌ إلينا، وحبَّ بزيدٍ إلينا. والأخرى أوردها النحويون شاهداً على أن " حب " أفعل تفضيل، حذفت همزته مثل خير وشر، إلاَّ أن الحذف فيهما هو الكثير، والحذف في " أحب " قليل.
انظر " ديوان الأحوص " ص 153، و" نوادر أبي زيد " ص 198، و" الأغاني " 4/ 299 و12/ 125، و" الزهرة " 1/ 236، و" التمثيل والمحاضرة " ص 209، و" عيون الأخبار " 2/ 3، و" العقد الفريد " 3/ 228، و" جمهرة الأمثال " 1/ 257، و" نهاية الأرب " 2/ 147، و" الأمثال والحكم " ص 129، و، اللسان " (حبب)، و" همع الهوامع " 2/ 166، و" الدرر اللوامع " 2/ 224، و" زهر الآداب " 2/ 57.
(3) عجز بيت صدره: =(6/338)
وإذا أراد الله تعالى منع أسهل الأمور، تعذَّر على جميع القادرين كما صرف اليهود عن معارضة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمنّي الموت بعد قوله تعالى: {ولَنْ يَتَمَّنَوهُ أبداً} [البقرة: 95] وكما صرف الله المنافقين عن معارضته عليه الصلاة والسلام بالمتابعة بعد قوله: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعونَا كَذلِكُم قال الله مِنْ قَبلُ} [الفتح: 15].
ولله تعالى حكمةٌ بالغةٌ في منع كثيرٍ من المعارف كما نصَّ على ذلك في منع معرفة الخلق لوقت يوم القيامة حتى قال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15].
وكما حجب الغيوب عن الخلق، قال سبحانه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
وفي قوله تعالى للحواريِّين: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] إشارةٌ إلى أن زيادة البيان قد تكون سبباً في زيادة العذاب، فيكون مصلحة في طيِّ كثير من العلوم وإليه الإشارة بقوله عز وجل: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
وفي سبب نزولها في ذلك حديثان عن جابر وابن عباس، وإسناد كل منهما رجاله رجال الصحيح. ذكرهما الهيثمي في تفسير هود والإسراء (1).
__________
= واعلم علماً ليس بالظن أنه
وهو غير منسوب في " عيون الأخبار " 1/ 102، و" التمثيل والمحاضرة " ص 9، و" أساس البلاغة " ص 311، و" الأمثال والحكم " ص 113، و" اللسان " (سنا).
وقوله: " سَنَّى " أي: فتح وسَهَّلَ.
(1) تقدم تخريجهما ص 327.(6/339)
ويُشْبِهُ هذا الباب من بعض الوجوه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102].
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9].
وأوضح من هذا المعنى قوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].
وقد بيَّن الله تعالى حُكْمَ من منعه من الإيمان بالحكمة جهلُه الذي توهمه علماً بعدم الحكمة، فقال سبحانه: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 83 - 85].
بل أخبر الله تعالى بامتناع موافقة الحق لأهوائهم حيث قال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
وفي " الصحيحين " من طريق ابن عباس: "أن الخَضِرَ قال لموسى عليهما السلام: يا موسى إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلَمَهُ، وإن (1) لك علماً لا ينبغي
__________
(1) ساقطة من (أ) و (ف).(6/340)
أن أعْلَمَه" (1). وهي دليلٌ أن جهل بعض العلوم أنفعُ.
وقد خرج البخاري حديث عُبادة في ليلة القدر، وفيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنِّي أردتُ أن أخبركم بها، فتلاحى رجلان، فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم " (2).
وأصرحُ من هذا قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].
وبيانُ ما ذكره سبحانه في الآية الأولى ضروري، وذلك أن خلقه مختلفون أشدَّ الاختلاف في الاستحسان والاستقباح كما قال بعضهم:
والذي أنت له مُستَحْسِنٌ ... ما على استقباحه عندي مَزيدُ
حتى قَضَتْ معتزلة بغداد بوجوب الأصلح على الله لأهل النار، وقضوا بوجوب تخليد العصاة في النار، وهم من المعجبين برأيهم، فكيف يمكن هذا مع موافقة الحق للخلق.
فثبت أن الحِكمة كما تقتضي بيان بعض العلوم، فقد تقتضي لَبْسَ بعضها، فكيف يطمع الذي لا يَمْلِكُ من العلم إلاَّ ما وهبه الله تعالى له في معرفة ما أراد الله تعالى لَبْسَه عليه، ولا سيما في معرفة تأويل المتشابه الذي ذمَّ الله تعالى من ابتغاه، وجعل طلبه من علامات الذين في قلوبهم زَيغٌ، وقرنه بابتغاء الفتنة، وقَصَرَ معرفته على الله تعالى، ولو كان الراسخون يعلمون، ما ذُمَّ من ابتغاهُ منهم، ولكان ذلك من جُملة طلب العلم، ووردت (3) النصوص بالحث عليه.
__________
(1) أخرجه البخاري (4726) و (4727)، ومسلم (2380)، وابن حبان (102) و (6220). وانظر تمام تخريجه فيه.
(2) أخرجه البخاري (2023)، وابن حبان (3671). وانظر تمام تخريجه فيه.
(3) في (ش): الذي وردت.(6/341)
وإنما ذمَّ من ابتغى تأويل المتشابه لِتعاطيه علم ما لم يُعْلَم، وما أنصف من تأوَّل هذه الآية، وجعلها من المتشابهات وهي أُمُّ المحكمات، وخالف قول أمير المؤمنين، وإمام الراسخين فهذه سنة الله عزَّ وجلَّ في لَبْسِ بعض العلوم على خلقه لحكمةٍ بالغة، فاصبر لها {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] كما قال عز وجل.
ومما قلتُ في ذلك:
وسارَ كليمُ الله والخضر والرِّضا ... يُبَيِّنُ أن المُحْكَمات السرائرُ
وأن جميع الراسخين مُقَصِّرٌ ... عن السِّرِّ حَدُّ الراسخين الظواهِرُ
ومن قولي في ذلك أيضاً:
وسار ابن عمرانٍ مع الخَضْر إذْ جَنى ... له مَنْعُهُ عِلمَ الغرائب جُوعُ
دليلٌ لِصَون السِّرِّ عن مِثلِهِ فما ... عليه لعلم الراسخين وقوعُ
ومَنْ مِثلُه فَليَخْسَأِ الحكماء عن ... حِمَىً هو عن مثل الكليم مَنيعُ
ومن قولي فيه أيضاً في آخر الإجادة (1) في الإرادة:
وذا كُلُّه عِلم الظواهر غير ما ... طَوَى سِرَّ غيب الحكمة المتكاتِم
فذلك مِنْ سِرِّ الإله وسِرُّهُ ... تَرَفَّعَ قَدْراً عن وِصالِ المكالِمِ
فَعَزَّ جميع الراسخين عن الشّفا ... عزاء جميلاً للنفوس الهوائم
فهذا مرامٌ شطَّ مَرْمَى العقول في ... مَداهُ فما في سُبْلِه غيرُ نادِمِ
ومن قولي في ذلك أيضاً:
رجائي له أضعافُ خَوْفي لأنَّهُ ... يُبَيِّنُ لي والحق حقٌّ دليله
يبين (2) لي أحكامه وخصوصهُ ... ولم يشتبه معقوله ومقوله
__________
(1) في (ش): الوجادة.
(2) في (أ) و (ف): فبين.(6/342)
ولولا يكون العفو والجود محكماً ... ونعتُ الكمال مستحيلٌ بديله
ودلَّ عليه نعتُه (1) وصفاتُه ... وأسماؤه الحسنى ودلَّتْ عدوله
ودلَّ (2) عليه حكمة وتواترت ... شرائعه فينا به ونُقُولُه
وهذا إلى ما ليس يُحصى إشارةً ... يُبَيِّنُها تفصيله وفصوله
ولكنَّ منه ما أُسِرَّ حديثهُ ... فَدَقَّ على من لم يسر جليله
وألطف منهم ما طوى الغيب علمهُ ... فعزَّ على أهل الخُصوص حُصُولُه
وفي كَتْمِهِ تأويله من كليمه ... دواءٌ لمن أعْيَى الأُساة سبيله
فبُشراي بعد اليأس وهو حظيةٌ ... بوجدان ما كان العَذُول يُحيله
وهذه مقدمةٌ تخضع لها النفوس المدعية للذكاء إن بقي فيها (3) التفاتٌ إلى شيء من الأدب والحياء، وبعدها نسرد ما بيَّنه الله تعالى من ذلك، وأنزله سبحانه على قدر علمنا لا على قدر علمه الذي لا يمكن تصوُّر البشر له إلاَّ بالإيمان بمثل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].
وقد أجاد البوني حيث قال: إن نسبة علم الخلق إلى علم الحق مثل نسبة لا شيء إلى ما لا نهاية له.
واعلم أن القدر السابق أقسام:
فمنه: ما لا يصح أن يُعَلَّل، وهو علم الله السابق، لأنه من صفات الله الواجبة، وعَدَمُهُ محالٌ على الله تعالى، فلا يقال: لِمَ سبق في علمه.
ومنه: ما هو تَبَعٌ للعلم، ولا أثر لمجرده في العمل كالكتابة والإعلام
__________
(1) في (ش): فعله.
(2) في (ش): ودلَّت.
(3) في الأصول: " فيه "، والجادة ما أثبت.(6/343)
بذلك، وإيجاب الإيمان به، والحثِّ على استحضاره في القلب، وقد نص الله على الحكمة في ذلك في أمورٍ نذكرها ولا نحتم حكمة الله فيها ونقصرها، لجواز تعدُّد الحكم، وورود السمع بتعدده في غير آيةٍ، كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
فأولها التَّسَلِّي بذلك في المصائب، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23].
وردَّ الله على المنافقين في قولهم في إخوانهم: {لَوْ كانُوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا} [آل عمران: 156] بقوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].
وقال تعالى في ذم من لم يؤمن بذلك: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168].
وقال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].
فدلت الآيات على تعليل هذا التقدير بتسلي المؤمنين بتسليم الأمر لله.(6/344)
وخرَّج أحمد حديث عبادة " أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله " قال: أريد أهون من ذلك، قال: " السماحة والصبر " قال: أريد أهون من ذلك، قال: " لا تَتَّهِم الله تبارك وتعالى في شيءٍ قضى لك " (1).
وتقدم له شواهد في مرتبة الدواعي، ومرتبة الأقدار وأحاديث الرضا بالقضاء، خصوصاً بما قضاه الله تعالى للمؤمن.
وثانيها: التوكل على الله تعالى، والاستعانة به كما علمنا سبحانه أن يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقال: {وإليهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] وقال: {إنَّ الأمْرَ كُلَّه لله} [آل عمران: 154].
ولا شك أن التوكل على الله مع اعتقاد نفوذ الأقدار وجُفوف الأقلام إنما (2) يكون أقوى، ولذلك نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول: " لو" وقال: " إنها تفتح عمل الشيطان " وأمر أن يقال: " قدر الله وما شاء الله فعل " (3).
ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - تقدير ثبوته وصحته واعتقاده مُصاحباً للوصية بالتوكُّل كقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلاَّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيء لم يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّتِ الصحف " (4).
وثالثها: عدم العجب بالعمل لجهل الخواتم، وذلك هو السِّرُّ في حديث
__________
(1) تقدم تخريجه ص 330.
(2) في (أ) و (ف): بما.
(3) تقدم تخريجه ص 211.
(4) تقدم تخريجه ص 404.(6/345)
ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق وقد تقدم (1). وليس السر فيه التزهيد في العمل كما يظنه المُخَذلون (2) أمر الله بالعمل مع القدر كما تقدم في الفائدة في العدل.
وأما سر التزهيد في الثقة بالعمل، والعجب به، والتيه على الخلق ونحو ذلك من المفاسد، وما طواه الله عنا أكثر، ولذلك أطلق التجهيل لنا في كثير من الآيات من غير استثناء، كقوله تعالى: {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
واستثنى القليل في بعضها، فقال: {وما أُوتيتُم من العِلمِ إلاَّ قليلاً} [الإسراء: 85].
وقد تقدم في المرتبة الثالثة في ذكر الدواعي كلامٌ نفيسٌ جداً في بعض ما أشار الله تعالى إليه من الحِكَم والمصالح في خلق العُصاة، وأسباب المعاصي، وكذلك في مسألة الإرادة، فخُذْهُ من هنالك.
ومن ذلك تقديرُ الأمراض والهموم وسائر الشرور المنقطعة، والأحاديث طافحةٌ بتعليل ذلك وذكر ما فيه من الأعواض والخيرات والاعتبار والتذكير، وقد نبَّه الله سبحانه على ذلك بقوله: {وعَسَى أن تَكرَهوا شيئاً وهو خَيرٌ لكم} [البقرة: 216].
وفي الآية إشارةٌ إلى قول أهل العقليات: إنه ليس في مخلوقات الله تعالى ما هو شر من كل وجه، وبالنسبة إلى كل أمر، وما من شر من وجه أو وجوه الا وهو خيرٌ من وجهٍ أو وجوه وإن جَهِلَها الخلق، وهو معنى قوله: إن الحكيم لا يريد الشر للشر، وإنما يريده لخيرٍ هو تأويله كما دلَّ ذلك تأويل الخَضِر لما فعله.
__________
(1) ص 391.
(2) في (ف): المخذولون.(6/346)
ولذلك سوَّى الله تعالى بين الشرِّ والخير في قوله سبحانه: {ونَبلُوكُم بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتنةً وإلينا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وقوله تعالى: {وبَلَونَاهُم بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ لَعلَّهُم يَرجِعُون} [الأعراف: 168].
واعتقادُ هذا يكفي المسلم، وقد تعرَّض أهل الكلام لتبيين وجه الحكمة في كل ذلك، وتلخيص وجه التحسين على حسب اختلاف فِطَنِهِمْ وعقولهم، وضربوا فيه أمثالاً مختلفةً، ونقض بعضهم على بعض، ولا حاجة إلى ذكر ذلك لما فيه من مخالفة (1) ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والسلف الصالح، وقال الله تعالى: {فلا تَضْربوا لله الأمثال إن الله يَعْلَمُ وأنتُم لا تعلمون} [النحل: 74] وإنما نتكلَّم بجليات المعقول، وصحيحات المنقول دون المواقف والمحارات.
ومما ورد التعليل به في الأمراض ونحوها الابتلاء مثل ما تقدم من قوله تعالى: {ونَبْلُوكُم بالشَّرِّ والخَيرِ فِتنةً} [الأنبياء: 35]، وقوله تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].
والأحاديث متواترةٌ وثبوت الأجر بالآلام، وفي تكفير الذنوب بها أيضاً، والقرآن مصرِّحٌ بتعليلها للاعتبار، وقد جاء في ذلك الحديث المشهور في خلق ذُرِّيَّةِ آدم إخراجهم من ظهره، وفيه أن آدم لما رأى فيهم الغني والفقير، والصحيح والأليم، قال: يا ربّ هلاَّ (2) سوَّيْتَ بين ذُريتي، قال تعالى: " فعلتُ ذلك لتشكر نعمتي " أو كما قال (3).
ذكره ابن كثير من طُرُقٍ في خلق آدم، أول الجزء الأول من " البداية والنهاية " (4).
__________
(1) في (أ) و (ف): ذلك إلى مخالفة.
(2) في (أ): ما.
(3) تقدم تخريجه ص 322.
(4) 1/ 81.(6/347)
وذكر صاحب " شرح جمع الجوامع " للسبكي، عن الجنيد أنه قال: كلمت يوماً رجلاً من القدرية، فلما كان الليل رأيت في النوم كأن قائلاً يقول: ما ينكر هؤلاء القوم أن يكون الله قبل خلقه للخلق، علم أنه لو خلق الخلق، ثم مَكَّنَهم من أمورهم، ثم رد الاختيار إليهم، للَزِمَ كل امرىءٍ منهم بعد أن خلقهم ما عَلِمَ أنهم له مُختارون (1).
وأما قول بعض المتكلمين: إن الجزاء لا يُسمَّى ثواباً، ولا يُكَفِّر ذنباً، فخلافٌ للسمع من غير قاطع عقلي، وليس هذا موضع التطويل ببَسْطِ ذلك.
قالوا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
قلنا: عمومٌ مخصوصٌ بالنصوص وبنحو {وأثقالاً مَعَ أثقالِهم} [العنكبوت: 13]، والوجه أن سياق العموم لنفي الظلم، وسياق الخصوص لذلك بعينه، فكان له عاضداً لا ناقضاً، وكان كالحكم في الدنيا بحقن الدماء وتحريم الأموال إلاَّ بحقها.
قالوا: {وأنْ لَيْس لِلإنسانِ إلاَّ ما سَعى} [النجم: 39].
قلنا: عمومٌ مخصوص بالأجر على الألم المتفق عليه عند الخصوم، ووجهه أنه المراد ليس له ما تمنى وتحكم إلاَّ ما استحق إلاَّ ما شاء الله أن يتفضل عليه به لقوله تعالى: {ويَزيدُهُم مِنْ فَضلِهِ} [النساء: 173].
قالوا: لا يصح استحقاق تعظيم الغير.
قلنا: هو كالصفة للمنافع ولا يستحق منفرداً، سلمنا ولا مانع من استحقاق المنافع دون هذه الصفة، وتسميتها ثواباً، لأنها جزاء، والتعظيم جزاءٌ، وكُلُّ واحد منهما ثواب.
__________
(1) في (ش): أنهم لا يختارون غيره.(6/348)
قالوا: الثواب دائم.
قلنا: الدوام صفةٌ كالتعظيم، فإذا استحقَّت المنافع، بطل دوامها كالثواب المحبط، ويستحيل بقاء الصفة مع بطلان الموصوف، ويجوز أن يتفضل الرب بدوام العوض، ألا ترى أن المجاهد إذا استحق شيئاً من الغنائم على جهة التعظيم مجازاة، ووجب أن يقضي منه ديونه.
وأيضاً: فكل أمرهم مبنيٌّ على وجوب الثواب عقلاً، وقد مر إبطاله، ولكنه يجب في حكمة الله لوجوب (1) صدقه، وما يتعلق بغير المكلفين يكون القِصاص فيه بالأعواض أو بما يُهيئه لشكره (2) وجب الحق عليه.
ويلزم المعتزلة الأمان من العذاب بسبب ظلم العباد، وقتلهم، لأنهم أوجبوا على الله أن لا يُميت الظالم إلاَّ بعد أن يكون له من الأجر ما يوفي جميع المظلومين، وهذا خلاف المعلوم.
ومن ذلك قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21].
وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
وقوله سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
__________
(1) في (ش): بوجوب.
(2) في " (أ) و (ف): سكن!.(6/349)
فهذا تعليلٌ انتظم حكمتين: العقوبة والتذكير، كما صح في الحدود أنها تنتظم حكمتين: العقوبة والتكفير (1)، فقد سمَّاها الله عذاباً ونَكالاً، وصح أنها مكفراتٌ، وذلك من فضل الله تعالى.
ومن ذلك ما يكون عقوبة نص على انتظام التذكير والتكفير إليه بالنظر إلى فاعله إن كان في عقوبته تذكيرٌ لغيره، كقوله: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].
وكقوله تعالى: {وَوَقَع القولُ عليهم بما ظلموا} [النمل: 85].
وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10].
وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
وقال: {وَلَوْلَا دِفاعُ (2) اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165].
وقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
__________
(1) قوله: " العقوبة والتكفير " ساقط من (ش).
(2) هي قراءة نافع ويعقوب وأبان، وقرأ عامة القُراء {ولولا دفعُ} قال أبو علي: المعنيان متقاربان، قال أبو ذؤيب الهذلي:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... فإذا المنية أقبلت لا تُدفع
انظر " زاد المسير " 1/ 300، و" حجة القراءات " ص 140.(6/350)
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142].
ومن ذلك: الحكمة في المتشابه، وقال الله سبحانه في جواب من سأل عنها: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
ونحوها قوله تعالى: {وما جَعَلْنا أصحابَ النَّارِ إلاَّ ملائكَةً} الآية [المدثر: 31].
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].
وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 52 - 54].
وقال في بعض حكمته في التكليف: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73].
وقد دل السمع على أن إرادة الله وقوع بعض الاعتقادات غير المطابقة لحكمة ومصلحة، كقوله تعالى: {إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44].(6/351)
وقال تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43].
فيجوزُ في بعض المتشابه مثله، وقد يرد بما ظاهره في أفهام الجاهلين باطلٌ، والدليل على تأويله عند العلماء قائمٌ، ومتى ورد عليهم لم يشُكُّوا فيه، وذلك، كقوله لعيسى عليه السلام: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فإنه لما ورد على عالم أن الله يعلم الغيب {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] وهذا شرط حسن للمجاز عند علماء البيان أن يرد على عالمٍ بامتناعِ ظاهره كما مرَّ في موضعه.
ومن ذلك خلقٌ من المعلوم إنه يعصي، فيُعفى عنه بتوبةٍ أو شفاعةٍ أو رحمةٍ، وإن ناله بعض ما يستحقه من العقوبة، ففي " صحيح مسلم " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو لم تُذْنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيَغْفِرُ لهُم ".
وفي حديثٍ فيه أيضاً: "يُذنِبُون كَيْ يَغفِرَ لَهُمْ".
وفي " مسند أحمد ": "يذنبون فيَغفرُ لهم".
رواه مسلم في " الصحيح " من حديث أبي هُريرة، وأبي أيوب.
وفي الباب عن أنسٍ، وابن عباس، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو بن العاص (1)، ولذلك طُرقٌ كثيرة، وشواهد قويةٌ، تقدم ما عرفت منها في مسألة المشيئة.
__________
(1) تقدم تخريجه 4/ 161.(6/352)
وعن جابرٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لَمَّا عُرِجَ بإبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -، رأى رَجُلاً يَفْجُرُ بامرأةٍ فدعا عليه، فأُهْلِكَ، ثم رأى رَجُلاً على معصيةٍ، فدعا عليه، فأوحى الله إليه: إنه عبدي وإنَّ قَصْرَه مني، إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يستغفرني فأغفر له، وإما أن يخرُجَ من صُلبِهِ من يعبُدُني، يا إبراهيم أما علمت أن من أسمائي أني أنا الصبور ". رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عليٌّ بن أبي علي اللَّهَبي، قال أحمد: له مناكير (1)، قلت: لكنه صحيح المعنى بشواهده.
وقال شيخ الإسلام في كتابه " منازل السائرين " (2): إنما يُخَلِّي الله تعالى بين العبد وبين الذنب لأمرين:
أحدهما: أن يعرف عزَّته في قضائه، وبرَّه في ستره عليه، وحلمه في إمهال راكبه وفضله في مغفرته له، وكرمه في قبول العذر عنه.
وثانيهما: ليِعلَمَ طالبُ البصيرة الصادقة أن سيئته لم تُبْقِ له حسنةً بحالٍ، فيصير بين مشاهدة الحكم والمِنَّة، فيُقيم عليه حجة عدله، ويعاقبه بذنبه.
وإنما ذكرت كلام شيخ الإسلام هنا، وليس من شرط ما أنا فيه أن أُورد إلا ما هو حُجةٌ من كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه رحمه الله أحسن العبارة والترجمة عن كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبعد ما فيها.
ومن ذلك خلقٌ من المعلوم أنه يصير إلى النار من الكفار، وقد تباينت (3) مذاهب المتكلمين في ذلك، وفي ذكر مقالاتهم وحججهم ومناقضاتهم شناعاتٌ يفرح بذكرها أعداء الإسلام، فلنتقصر على ذكر ما يناسب السمع قرآناً وسنة.
ولا شك أن هذه المسألة أمُّ (4) المتشابهات، وأنه لا يعلم تأويل المتشابه
__________
(1) تقدم ص 329.
(2) في " مدارج السالكين " 1/ 204.
(3) في (أ): تقابلت.
(4) في (ش): من.(6/353)
إلا الله تعالى، وهذا يستلزمُ بالقطع امتناع الخوض في ذلك حتى يعلم التأويل، وهذا أصح ما يجاب به في هذه المسألة العظمى ولله الحمدُ.
وقد نص الله سبحانه على أنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه سواه، فقال سبحانه للملائكة حين قالوا: {أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ} [البقرة: 30]: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
وهذا كافٍ لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيدٌ، فلا أعلم من الملائكة ولا أقرب إلى الله سبحانه.
على أنه سبحانه قد ذكر في كتابه الكريم بعض حكمته في ذلك.
فمن ذلك: التعليل بالابتلاء، لقوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} إلى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:47 - 48].
وقال تعالى: {لِيَبلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَملاً} [الملك: 2].
ومعنى الابتلاء: هو فعل سببٍ لظهور المعلوم عند الله لتعلق الأحكام بظهوره، لا فعل سببٍ ليحصل معه العلم به.
فإن قيل: هذا واضح، ولكن الابتلاء من المتشابه المحتاج إلى التعليل أيضاً.
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى -وإن حذف المفعول الثاني من مفعولي الابتلاء المضمَّن معنى العلم- فإنه لم يبينه في قوله تعالى: {لِيَبلُوكُم أيُّكُم أحْسَنُ(6/354)
عملاً} [الملك: 2] وذلك يقتضي أن المقصود الأول من خلق جميع المكلفين العصاة والمطيعين لو علموا أنه لا يخلق من يستحق العقاب كانت مفسدةً عظيمةً لبطلان الخوف والرجاء كما أن الله لو بسط الرزق لكانت مفسدة، ولو جعل الأنبياء ملائكة، لكانت مفسدةً. وقد مر تحقيق ذلك في الدواعي، وبعضه في الإرادة في أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وهو مذهب البغدادية.
ويعضده الوجه الآخر الذي مر في تفسيره أيضاً، وهو إنه يوجد من مكلَّفٍ حتى الكفار نوعٌ من العبادة ولو كَرْهاً في النشأة الأولى والمعرفة لله ولو في الآخرة على ما جاء في تفسير قوله تعالى: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
ولذلك فسَّر ابن عباسٍ {إلاَّ لِيَعْبُدونِ}: ليعرفوني (1).
وروي عن داود أنه قال: يا رب لِمَ خلقت الخلق؟ " قال: " كنتُ كنزاً مخفيّاً فخَلَقْتُ الخلقَ لأُعرَفَ " (2).
__________
(1) في (أ) و (ف): " يعرفون ". وقد تقدم ص ...
(2) ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في " أحاديث القصاص " ص 69 - 70، وقال: ليس هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف، وقال السخاوي في " المقاصد " ص 327: وتبعه الزركشي وشيخُنا، يعني ابن حجر، وقال السيوطي في " الدرر المنتثرة " ص 147: لا أصل له.
وقال الآلوسي في " روح المعاني " 27/ 21 - 22: ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في " منتهى المدارك "، وذكره غيره كالشيخ الأكبر في الباب المئة والثمانية والتسعين من " الفتوحات ". بلفظ آخر، وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية ... ومن يرويه من الصوفية معترف =(6/355)
وثانيهما: أن ذلك لم يصح، فقد بينا أن المختار أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلاَّ الله، وإنما شرطنا أن نذكر العلل المنصوصة سمعاً، والجلية عقلاً.
فصل:
ومن ذلك تقديرُ الشر الدائم الذي لا ينقطع مثل عذاب النار والخلود فيها -نعوذ بالله ورحمته التي وَسِعَتْ كل شيء من ذلك- وها هنا اشتد الاضطراب، وتفاقم الخَطْبُ على النُّظَّار، وتَبَلَّدَ الأذكياء منهم، وتفرقوا أيادي سَبَا (1)، ونقضوا قواعدهم، وخالفوا معارفهم، وكاد كثيرٌ منهم يلحق بأهل التجاهل إلاَّ من عصمه الله تعالى بحسن الإسلام، وقوة اليقين، وعدم التهمة لأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين.
فأما كلام الفلاسفة والزنادقة في ذلك، فهم فيه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
__________
= بعدم ثبوته نقلاً، لكن يقول: إنه ثابت كشفاً، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم.
(1) هو مثلٌ يقال للقوم إذا تفرقوا في جهات مختلفة، أى: فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب شتى.
وسبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: اسم بلدة كانت تسكنها بلقيس.
قال في " تاج العروس " يكتب بالألف، لأن أصله الهمز، قاله أبو علي القالي في " الممدود والمقصور "، وقال الأزهري: العرب لا تهمز " سبأ " في هذا الموضع، لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزاً. ضرب المثل بهم، لأنه لما أشرف مكانهم على الغرق، وقرب ذهاب جناتهم قبل أن يدهمهم السيل، تبددوا في البلاد فلحق الأزد بعمان، وخزاعة ببطن مرّ، وهو مر الظهران المسمى الآن بوادي فاطمة قرب مكة، والأوس والخزرج بيثرب، وآل جفنة بأرض الشام، وآل جذيمة الأبرش بالعراق، وقوله: أيدي سبأ، أي: متفرقين، واليد: الطريق. وانظر " المستقصى " 1/ 88 - 90 و" مجمع الأمثال " 1/ 275 - 277، و" زهر الأكم " 3/ 16 - 18.(6/356)
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج: 8 - 10].
وإنما نورد هنا كلام من أقر بالتوحيد، وسعى في التصديق بكلام الحميد المجيد.
واعلم أن اضطرابهم في ذلك مبني على الغفلة عن قاعدتين عظيمتين.
إحداهما: أن الله تعالى يعلم من كل نوع من أنواع المعلومات ما لا نعلمه، ومن أعظم تلك الأنواع وأجلِّها قدراً، وأدقِّها سراً، وألطفها نوع المعلومات من الحكم والمصالح والغايات الحميدة، بل متى فتح الله على بعض عباده من ذلك مثل سمِّ الخياط، أو وهب له منه قطرةً من بحار لم يستطع أحدٌ من الخلق الاطلاع على مكنون حكمته، ولا وسعت الطباع البشرية الصبر على التسليم لفضل معرفته، وكفى في ذلك عبرةً بقصة الخَضِر والكليم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، فإنها تكُفُّ كفَّ الاعتراض على الأعلم في باب المصالح والحكم. ومن لم يُسَلِّمْ هذه القاعدة، يلزمه مساواة الخالق والمخلوق في معرفة المصالح وجميع دقائق الحكمة، وكيف يستوي ربُّ الأرباب والمخلوق من التراب.
وما أحسن ما قاله الفخر الرازي:
العلمُ للرحمن جلَّ جلاله ... وسِواه في جَهَلاتهِ يَتَغمْغَمُ
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يَسْعَى لِيَعْلَمَ أنَّه لا يعلمُ
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى ... وسافَرْتُ واستبقيتُهم في المفاوزِ
وخُضْتُ بِحاراً ليس يُدْرَكُ قَعْرُها ... وسيَّرْتُ نفسي في فَسيح المَفاوِزِ(6/357)
ولَجَّجْتُ في الأفكار ثم تراجع اخـ ... ـتياري إلى استحسان دين العجائزِ (1)
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي (2):
طلبتك جاهداً خمسين عاماً ... فلم أحصل على برد اليقينِ
نوى قَذَفٍ وكمْ قد مات قَبْلِي ... بِحَسْرَتِهِ عليك من القرونِ
فهل بعد المماتِ بك اتِّصالٌ ... فأعلَمَ غامِضَ السِّرِّ المَصونِ
وأنشد الشهرستاني:
وقد طُفْتُ في تِلك المعاهد كُلِّها ... وسَيَّرْتُ طَرْفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلاَّ واضِعاً كفَّ حائِرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادِمِ (3)
وكل هؤلاء من أمراء المعقول وفرسان المشكلات (4)، وقبلهم سألت عن ذلك ملائكة السماوات، كما جاء ذلك في محكم الآيات، وذلك من أعظم الحجج البينات.
ومما قلت في ذلك:
أقِلُّوا (5) الجدال فما عندكم ... جميعاً من العلم إلاَّ القليلْ
وفي قصة الخَضِر المُرتَضى ... وموسى اعتبارٌ عَرِيضٌ طويلْ
وفيها لأهل النُّهى والرُّسوخ ... من العارفين عَزاءٌ جَميلْ
__________
(1) الأبيات في " الوافي بالوفيات " 4/ 208.
(2) في " شرح نهح البلاغة " 13/ 51 - 52.
(3) وقد رد عليه ببيتين محمد بن إسماعيل الأمير:
لعَلَّك أهملت الطواف بمعهد الـ ... ـرسول ومن لاقاه من كل عالم
فما حارَ مَنْ يُهدى بهدي محمد ... ولستَ تراه قارعاً سن نادمِ
(4) في (ش): المعقولات.
(5) في (ش): فكفوا.(6/358)
وإنَّ سؤال الخليل العِيانْ ... لِكَيْ يَطمَئِنَّ على ذا دَليلْ
فمن يعلم السِّرَّ بعد الكَليم ... ومَنْ لا يُوسوِسُ بعد الخليلْ
وقد أورد بعضُ المتأخرين من أتباع المعتزلة هنا إشكالاً وتقدم في الدليل الأول في المرتبة الثانية في مسألة المشيئة، وتقدم جوابه من ثمانية أوجه، فليُطالَعْ مِنْ هُنالك.
القاعدة الثانية: وهي المعتمدة أن هذه المسألة من المتشابه الذي أخبر الله جَلَّ جلاله أنه لا يعلم تأويله إلاَّ هو، وذم المبتغين لتأويله وقرنهم بمبتغي (1) الفتنة كما تقدم تقريره، وأنه قول علي بن أبي طالبٍ رضوان الله عليه.
وقد أوردت الكلام على تفسير هذه الآية بالأدلة في مؤلَّفٍ لطيف مُجَوَّدٍ، فليطالَع، والحمد لله.
وهذه المسألة هي أمُّ المتشابهات، وأغمض الخفيات، ومحارة علماء المعقولات والمنقولات، فكيف يتعرض جميع المكلفين والمتكلفين لمعرفة سِرِّه المكنون في تأويلها، وغيبه المحجوب في تفاصيلها، فلا يتعرض لمعرفتها حكيمٌ بعد قوله تعالى: {ولا تُسأَلُ عَنْ أصحابِ الجَحيمِ} [البقرة: 119].
وما هو إلاَّ كما قال ابن الجوزي (2) رحمه الله: بحر لا يتمكن منه غائص، ليل لا يَبِصُّ للعين فيه كوكبٌ.
مَرَامٌ شَطَّ مَرْمَى العقل فيه ... فدُونَ مَداهُ بِيدٌ لا تَبِيدُ
خَرِسَتْ في حظيرة القدس مَقولة لِم، وعَشِيَتْ لجلال العِزِّ عين الفكر، فأقدام الطلب واقفةٌ على جمر التسليم.
__________
(1) في (ش): وقرينة يبتغي.
(2) في " المدهش " و" اللطف ". وقد تقدم هذا النص بتمامه في 3/ 322 - 324.(6/359)
وقد تقدم القولُ في أن كل ما أراد الله طيَّه من الحكم والأسرار لم يتم لأحد الاطلاع عليه، وكان الجهل به من جملة قيد الله السابق، وأمره النافذ على رغم الخلائق، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ومن الناس من يسعى فيما لا ينفعه، بل فيما يضره من العلوم والأعمال كما قال تعالى: {ويتعلمون ما يَضُرُّهم ولا يَنفَعُهُم} [البقرة: 102].
وهذه المسألة هي التي ألجأت غلاة الأشعرية إلى القول بنفي الحكمة، وسيأتي في الكلام على مسألة الأطفال إيضاح بطلان قولهم بالضرورتين العقلية والشرعية، والمبالغة في إبطال قوله، وهي التي ألجأت ابن تيمية وأسلافه وأتباعه إلى القول بفناء النار (1) والتأليف في ذلك. وأشار الغزالي إلى نُصرة قولهم في " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى " في شرح الرحمن الرحيم، وجوّد الاحتجاج لهم في ذلك، وفي بعض مباحثه في ذلك نظر ليس هذا موضع ذكره.
والأولى بالسني الوقوف على ما وقف الله عليه ملائكته الكرام حيث أجاب علبهم أنه يعلم ما لا يعلمون، وترك التكلف فيما لم يؤمر به، والتأدب بمثل قوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ} [الإسراء: 36]، والحذر من الشذوذ عن الجماعة، والنفرة من كل بدعة وشناعة، فإن نازعته النفس، فليتنبه على
__________
(1) وهذا مما عُدَّ في جملة اجتهاداته التي أخطأ فيها خطأ مبيناً، وتابعه عليها تلميذه ابن القيم -رحمهما الله- وقد تولَّى الرد عليهما غير واحد من الأئمة، منهم العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة (756 هـ) في رسالته " الاعتبار ببقاء الجنة والنار "، وعلامة اليمن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة (1182) هـ في كتابه " رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " وكلاهما مطبوع، فارجع إليهما، فإنهما غاية في النفاسة، وسيرد عند المؤلف التنبيه بأن الإمام الذهبي له رد على شيخ الإسلام في هذه المسألة، ولكنني لم أقف عليه إلى الآن، وهو -رحمه الله وإن كان يُحب ابن تيمية ويظهر محاسنه، وينشر فضائله، ويُشنع على خصومه، ويدافع عنه- مخالف له في مسائل أصلية وفرعية كما صرح بذلك في ترجمته في " السير ".(6/360)
فائدة عظمى تُشَدُّ إلى معرفتها الرِّحَال ولا يعرف قدرها إلاَّ أذكياء الرجال من فُرسان هذا المجال، وهي أن من طبع النفس إنكار ما لا تعرفه، والنُّبوَّ عما لا تألفه، ولا يَفطِمُها عن هذه الضرورية الطبيعية إلاَّ معارضتها بمثلها في الضرورة، لأن القوي لا يُعارَضُ بما هو دونه في القوة فلذلك لا يُعارَضُ الضروري بالاستدلالي القطعي، والقطعي بالظني، فمن أراد كسر قوة هذه الطبيعة، فذلك بالإكثار من أمرين:
أحدهما: أن يستحضر على الإنصاف الفكر إنه قد وقع ما لا تَعْرِفُه نفسه، ولا تألَفُهُ بالضرورة العقلية، والوقوع فرع الصحة، فكيف تشُكُّ لأجل ذلك فيما جاء به الشرع مما لا تعرفه ولا تألفه، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {أم خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أمْ هُمُ الخالقونَ} [الطور: 35] وأمثالها في كتاب الله تعالى.
ومن ذلك: إثبات القِدَم، ولا بُدَّ منه، فمن لم يثبت القِدَمَ للرب سبحانه من الفلاسفة أثبت القِدَم للعالم، ولو قدرنا وجود من ينفي القدم، ويساعد النفس إلى استنكاره أمران:
أحدهما: القول بثبوت معنى القدم وما لا نهاية له للأمور المعقولة مما لا وجود له مثل الجهات الست، فإنه لا نهاية له ضرورة، لأن تصور طرف لا جهة بعده ولا فراغ محال.
وكذلك يلزم ثبوت صفة (1) القدم للعدم لا يقال: يصح ذلك، لأنها أمورٌ غيرُ حقيقية، لأن العقل إنما امتنع من تصور قِدَمِ الأمر الحقيقي، لكون القدمِ لا نهاية له، لا لكونه صفة أمر حقيقي.
وثانيهما: القول بحدوث هذا العالم، وخروجه من العدم لغير موجب، وهذا محالٌ في ضرورة العقل، فثبت أنه يلزم ما هو محالٌ أو محارة، فالمحال
__________
(1) في (أ): " وصفه "، وفي (ش): " وصفية ".(6/361)
لازم من تقدير الكفر، والمحارة لازمةٌ لبعض من قصَّر علمه من أهل الإسلام، فمن لم يقل بالإسلام لوقوعه منه في محارةٍ، قال بالمحال لا محالة، ومن قال بالإسلام، صَحَتْ نفسُهُ من الوقوع في المحارة، فإن المحارة: عبارةٌ عما لا يمكن العقل تصوُّرَه مع تجويزه بالنظر إليه في نفس الأمر، وإنما هو ممتنعٌ بالنظر إلى تصوُّر العقل له، والمُحال ممتنع بالنظر إلى تصور العقل وإلى نفس الأمر، فإنما مع الإصغاء إلى التشكيك غاية الإصغاء يَجِدُ العقل يجزم حينئذٍ بإمكان المحارة، وامتناع المحال.
ومن لم يميز بينهما، كابن عربيٍّ الصُّوفي، جوَّز المُحالاتِ كلها، وإلى ذلك أشار بقوله (1):
صورة الكونِ مُحالٌ ... وهي حَقٌّ في الحقيقةِ
وهي سَفسَطَةٌ محضةٌ ومعها لا يصح له قوله: وهي حق في الحقيقة، فتأمل.
ولا يندفع مثل هذا إلاَّ بوجدان بطلانه بالضرورة التي لا اختيار في كسبها، فالمريب في الإسلام وما جاء به بسبب ذلك كالمستجير من الرَّمضاء بالنار، لا بل كالمستبدل الظُّلَمَات بالنور، وبالظِّلِّ الحرور.
وإذا كان لا بد من وقوع الكفار في المُحالات، وبعض المسلمين في المحارات في باب مدارك العقول التي لا خلاف أن العقول تعرفها، فكيف باب التحسين والتقبيح الذي يَقِفُ على الوجوه والاعتبارات والأمور الإضافيات، ويتقدم الجزم فيه بالنفي والإثبات على الإحاطة بمعرفة جميع الحِكَمِ والغايات والتأويلات، وخوض العقل في هذا الباب قد أنكره جماعة جِلَّةٌ من أهل
__________
(1) في " فصوص الحكم " ص 159 وبعده:
والذي يفهم هذا ... حاز أسرار الطريقة(6/362)
المعارف والعقليات، والخوض في اللطائف الخفيات، فهو أولى بتجويز المحارات العقلية، والتسليم للنصوص الشرعيات.
وثانيهما: تخويف النفس بالوقوع في المَخُوفات الهائلة، بل عذاب الآخرة، نعوذ بالله منه، ولو أمكن إيقاعها في المخوف، كان أنفع لها، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] ولكن تخويفها يكفي عند عدم التمكن من أكثر منه، فإنها لا تؤمن بالغيب والمحارات والمستبعدات، فإنها لا تأمَنُ منها، لأنها كفارةٌ مطبوعةٌ على عدم الإيمان بشيءٍ من ذلك نفياً وإثباتاً.
وهذا أوضح دليلٍ على أنها لم تستند في نفي ما لا تعرفه من المحارات إلى علم يقين، لأنه لو كان كذلك لما وجدت الخوف والتخويف، فإن المتيقن لانتفاء العذاب لا يَجِدُ عند التخويف خوفاً ولا يتشكك بالتشكيك (1)، فإنه لو قال لنا قائلٌ: إن العشرة أقل من الخمسة، والبعض أكثر من الكل، وشَكَّك علينا في ذلك، لم نَشُكَّ أبداً. فوجدان الشك والخوف عند التخويف مستلزمٌ للجهل ضرورةً، وإلى هذا الوجه الإشارة بقوله تعالى: {قُلْ أرأيتُم إنْ كان مِنْ عِندِ الله وكَفَرتُم بِه} إلى قوله: {إنَّ الله لا يَهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وقوله: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47].
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 83 - 84].
وأمرٌ ثالث يلحق بهذين الأمرين مما يُعلَمُ به ظلم ابن آدم وكَذِبُه في دعاويه
__________
(1) " بالتشكيك " سقطت من (أ) و (ش).(6/363)
أنه يُؤثِرُ هواه على ما يعلم أنه حق، كما يُؤثِرُ الإقبال على دار الفناء مع العلم الضروري الذي لا ينجي منه عملٌ، ولا تُرجى فيه شفاعةٌ، ولا تشكك فيه شبهةٌ، وما أحسن قول بعضهم:
حسبي من الجهل علمي أن آخرتي ... هي المعاد (1) وأنِّي لا أُراعيها
وأن دُنياي دارٌ لا قَرارَ بها ... ولا أزَالُ مُعَنَّى في مساعيها
وهكذا النفس ما زالتْ مُعَلَّلةً ... بباطلِ العَيْشِ حتى قام ناعيها
وكم من أمرٍ راجحٍ بالضرورة لا تساعد إلى المسارعة (2) إليه، فقِسْ على ذلك اعتذارها بالشكِّ في الاستدلاليات، فما هو إلاَّ من الخُبثِ والخداع والمَكْرِ والفساد، فنسأل الله العظيم الإعانة على هذه النفس الأمَّارة بالسُّوء إلا ما رحم الله.
فهذه مذاهب السنة، وهي سبيل السلامة، وقد كنت دوَّنْتُ هنا أقاويل المتكلمين من المبتدعة وأهل السُّنَّة، وكلام ابن تيمية وأصحابه في المنع من دوام العذاب وادعاءهم أن السمع ما ورد بذلك قطعاً وأن العقل يمنع منه، وما رووا في ذلك من اختلاف السلف، وسيأتي تلويح الغزالي إلى هذا في " المقصد الأسنى " (3) في شرح " الرحمن الرحيم " من الأسماء الحسنى، وإنشاده ذلك:
لَقَدْ أسْمَعْتَ لو (4) نَاديتَ حَيَّاً ... ولكن لا حَياةَ لِمن تُنادي
ولكنه سمَّاه سراً، وادَّعى منع الشرع من إفشائه، وأنه يَفسُدُ بسببه كثيرٌ من الناس، وذكر ذلك في مقدمات كتابه " إحياء علوم الدين "، وفي بعض كلامه استدراكٌ عليه قد ذكرته فيما تقدم.
__________
(1) في الأصول: " الممات " وكتب فوقها في (أ) و (ف): " المعاد "، وهو الصواب.
(2) في (ش): المساعدة.
(3) ص 63.
(4) في (ش): إذ.(6/364)
ومنتهى إقدام الخائضين في هذه الغمرة، وأقوى ما تمسَّكوا به هو نقل كلام بعض الصحابة والتابعين وأئمة السنة في تفسير قوله عز وجل: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، وفي آيةٍ أخرى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ونحوهما. بل خصَّ بهذا الحديث جميع عموم القرآن كما يخصُّ بآيات التوبة جميع عمومات الوعيد، وكما هو القاعدة في تخصيص العُمومات، وإن كَثُرَتْ بالخصوص على جهة القطع دون التوقف، أو يجعل هذا من المتشابه، ويجب الوقف، ويرد تأويله إلى الله تعالى.
فهذه ثلاثة أقوالٍ، والتقصي لتفاصيل أدلتهم ومعارضتهم تخرج عن المقصود، وتحتاج إلى تأليفٍ مستقلِّ، وذِكرُ طرفٍ منه يُثير الشكَّ، ويُمْرِضُ القلب.
والحق أنه إن حصل في هذه المشكلة علمٌ ضروريٌّ من الدِّين أو إجماع المسلمين، انقطع الاضطراب، وحمل عليه مختلف السنة والكتاب، وإلا وُكلَ تفسير المتشابه إلى رب الأرباب من غير شك ولا ارتياب، والله أعلم بالصواب.
وقد صنَّف ابن تيمية في نصرة مذهبه، وصنف الذهبي في الرد عليه، ولي في ذلك مباحثٌ وزياداتٌ، وانتقاد على كل منهما، ولي في ذلك قصيدةٌ مُطوَّلةٌ سميتها " الإجادة في الإرادة " وهي أكثر من ألف بيتٍ " من أولها:
تَحَيَّرَ أربابُ النُّهى مالمُرادُ بالـ ... ـعُصاة من الجن وأولاد آدمِ
أخيراً أراد الله بالخلق أوَّلاً ... أم الشَّرُّ مقصودٌ لأحكم حاكِمِ؟
فإن كان خيراً هل يجوز فواته (1) ... على قادِرٍ للذات بالغيب عالمِ
وإن كان شراً هل أُريد لنفسه ... أم الخير مقصودٌ به في اللوازمِ
__________
(1) في (أ) و (ف): فوته.(6/365)
وهل سبقُ قصد الخير بالشر يقتضي الـ ... ـتطابق بين الابتدا والخواتمِ
وهل جائِزٌ كِتمانُ بعض المُراد إذْ ... تساوى الورى والربُّ ليس بلازمِ
أو الرب مُبدٍ للبَواطِن كُلِّها ... مُبينٌ لإخفا سِرّه غير كاتِمِ
وأكثر أصحاب الكلام تكلَّفُوا ... وجَاؤوا بآراءٍ ضِعاف الدَّعائمِ
فلا وقفوا في المشكلات ولا أتَوا ... لديها بآراءٍ صِلاب المعاجمِ
فَمِنْ قاصِدٍ تنزيهه لو رَعَى له ... مِن الجَبَروت الحَقِّ غير التَّعاظُمِ
ومن قاصدٍ تعظيمه لو رعى له ... مَحامِد ممدوحٍ بأحكم حاكمِ
وحافظَ كُل العارفين عليهما ... وهذا الصراط المستقيم لقائم
ولعلها من أحسن ما قيل في هذا المعنى لا سيما إن يسَّر الله لها شرحاً شافياً.
وقد تكلَّم ابن قيم الجوزية في ذلك في كتابه " حادي الأرواح إلى دار الأفراح " (1) وجوَّد، ولكنه مائلٌ إلى نُصرة شيخه ابن تيمية بالكُلِّيَّة، غيرُ (2) متعرض لنصرة غيره، والله سبحانه عند لسان كل قائلٍ وقلبه ونيته.
ولما كانت أحوال الخاصة تخالف أحوال العامة في التَّطلُّع إلى معرفة الأدلة والانتقاد، خصوصاً في مسائل الاعتقاد، وأحوال العامة لا تصلح بالخوض في الدقائق والتولج في المضايق، جعلت بسط الكلام في هذه المسألة الكبرى فُسحةً (3) في هذا الموضع من " العواصم "، من شاء من الخاصة أثبتها لانتفاعه بذلك، ومن شاء من العامة تركها لعدم صلاحيته لسلوك (4) هذه المسالك، والحمد لله الذي وفق لذلك. ومن أثبتها، فليجعلها مُؤَخَّرَةً من هذا الموضع إلى
__________
(1) ص 249 - 254.
(2) " غير " ساقطة من ش.
(3) في (ف): فسيحة.
(4) في (ش): لشكوك.(6/366)
عقيب الفائدة الرابعة في العمل مع القدرة (1)، وذلك لطول الكلام فيها، فتوسُّطُه مع طوله يقطع تمام الكلام في القدر، ويفرِّق اجتماع فوائده، والله أعلم.
الفائدة الرابعة: بيان أن خلاف العلم والقدر ممكنٌ مقدورٌ غيرُ محالٍ في النظر إلى ذاته، وإن كان غير واقع قطعاً لعارضٍ آخر، وهو المسمى في الأصول: الممتنع لغيره، والذي يدل على ذلك وجوهٌ، ذكر الرازي كثيراً منها، وذكر أكثرها مختارٌ في " المجتبى " في الرد على الرازي بالمعنى.
الأول: لو كان ذلك محالاً، لانتقض بجميع أفعال الله تعالى، أو لزم تعجيزه سبحانه، لأن ما فعله، عَلِمَ فِعْلَه، وكان قادراً على تركه، وما تركه، علم عدمه، وكان قادراً على إيجاده، بل هو أولى في حقه، لأنه قد سبق علمه بأفعاله، وهو يعلم ما سبق في علمه مع قدرته على خلافه، بخلاف العبد، فإنه لا يعلم ما عَلِمَ الله في المستقبل، لكن المسلِمَ بعد الشيء (2) بعلم أن الله قد علمه، وأما الكافر، فلا يعلم ذلك أصلاً (3).
ولذلك كانت الحجة على العبد باقيةً، والابتلاء له صحيحاً، حيث لم يكن له أن يقول: إنما عصى الله، لأن الله علم ذلك، فإنَّ علم ذلك محجوبٌ عن العبد، فدلَّ على كذبه باعتذاره (4) بذلك إن اعتذر به.
على أنه لو صح أن يحتج العبد بذلك، لكان الله تعالى أولى من العبد بذلك في الاحتجاج على حسن تعذيبه بمجرد سبق العلم بذلك كما مضى تقريره.
__________
(1) في (ف): القدر.
(2) في (ف): بعد فعله الشيء.
(3) في (أ) و (ف): " أهلاً " وكتب فوقها: " أصلاً ".
(4) في (ش): باعتقاده.(6/367)
الثاني: أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع القدرة على الإيمان بالإجماع، أما عند المعتزلة، فظاهرٌ، وأمَّا عند أهل السنة، فلأنَّ الله تعالى يَقْدِرُ على فعل الإيمان فيمن عَلِمَ أنه لا يؤمنُ. وقد ذكر السهرستاني في " نهايته " إجماع الفريقين على أن العلم لا يُؤثِّر في المعلوم، وهو يعني بأمر الإيجاد، لا بأمر الدواعي في الترجيح، فثبوته إجماعٌ أيضاً.
الثالث: لو كان العلم يُؤثِّرُ في المعلوم، لما تعلَّق علم الحادث المخلوق بالخالق القديم، وبالإجماع أن علمنا بالله تعالى ربنا (1)، وبالإجماع أنا غيرُ مؤثِّرين فيه، وهذا الوجه ذكره إمام الحرمين الجوينيُّ في مقدمات " برهانه " (2).
الرابع: أجمع العقلاء على أن الأشياء ثلاثة أقسامٍ: واجبٌ، وممتنعٌ، وممكنٌ، ولو كان بين العلم والقدرة على خلافه تنافٍ، لامتنع قسمُ الممكنات بأسرها، لأن الممكن هو ما يصح وجوده وعدمُهُ على البدل.
وهذه الممكنات إما موجودةٌ، أو معدومةٌ، وما هو موجودٌ منها علم الله وجوده، فيلزم أن لا يكون عدمه ممكناً في ذاته، وما هو معدومٌ منها، علم الله عدمه، فيستحيل وجوده، وحينئذٍ لا يبقى في الخارج ممكنٌ.
الخامس: لو كان بينهما تنافٍ، لما حَسُنَ المدح والذم، والترغيبُ
__________
(1) جاء في (ش) فوق كلمة " ربنا ": " حادث " على أنها خبر " أن "، أي: أن علمنا ... حادث.
(2) 1/ 105 ونصه: فإن قيل: ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر على وفق علمه بأنه لا يكون، فلا يكون، والتكليف بخلاف المعلوم جائز. قلنا: إنما يسوغ ذلك، لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه، وليس امتناعه للعلم بأنه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه، فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، وتعلُّق العلم بالمعلوم لا يُغيره ولا يوجبه، بل يتبعُه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم سبحانه وتعالى.(6/368)
والترهيب، والثواب والعقاب، فوجوب الفعل وامتناعه حينئذٍ، ولا مدح ولا ذم في الواجب، ولا في الممتنع.
السادس: وهو أدقها وألطفها، الطعن في قولهم: إن إيمان الكافر على خلاف المعلوم محالٌ فنقول (1): خلاف المعلوم مع ذلك المعلوم محالٌ أم بدلٌ عن (2) ذلك المعلوم؟ الأول مسلّم، والثاني ممتنعٌ (3) ولا يمكن دعواه، لأن الترك في الممكنات بدل عن وجودها، والإيجاد بدل عن الترك، صحيح، وإلاَّ فلا، لا نقلب الممكن ممتنعاً وإنه محالٌ، وإذا كان خلاف المعلوم بدلاً عن ذلك المعلوم ممكناً (4)، دخل في مقدور القادرين عليه.
فإن قيل: لو قدر عليه، لزم من فرض وقوع الإيمان محال، وهو تغير علم الله تعالى.
قلنا: لا نُسَلِّمُ ذلك، لا سمعاً ولا عقلاً.
أما السمع: فلقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلاَّ الله لَفَسَدتا}
[الأنبياء: 22]، وعلى كلام الخصم، لاستحال أن يَفْسُدَ، لأن الله قد عَلِمَ عدم فسادهما.
وأما العقل: فلأنَّا إذا فرضنا وقوعه، يلزم أن يكون الله علم وقوعه، كما يلزم أنه لو كان فيهما آلهةٌ إلاَّ الله عَلِمَ فسادهما، وليس هذا بتغيير العلم، بل هذا وقوع علمٍ مكان علمٍ بسبب اختلاف التقدير، والسمع الحق قد دل على تجويز تقدير الممتنعات لبيان امتناعها، وأنه يُبنى على التقدير ما يُبنى على التحقيق
__________
(1) في (أ) و (ف): فقول.
(2) في (أ) و (ف): على.
(3) في (أ) و (ف): ممنوع.
(4) في (أ) و (ف): ممكن.(6/369)
كما في هذه الآية، وأنه (1) معلومٌ أن معناها: لو كان فيهما آلهةٌ إلاَّ الله، لفسدتا، ولو كان ذلك كله لعلمه الله تعالى، لكنه لم يكن شيءٌ من ذلك، فلم يعلم الله وقوعه، ولذلك يقول الجميع في العلم: إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يلزم من ذلك التقدير تجهيل الله ولا محذور.
وأما التكليف بخلاف المعلوم (2)، وهو الممكن في ذاته الممتنع لغيره، فهو جائزٌ بإجماع المسلمين إذا لم يعلم الكافر بعلم الله في عاقبته.
وأما الفائدة فيه، فهي مذكورةٌ في الفائدة الخامسة المذكورة بعد هذه، وهذه الأجوبة مبنيَّةٌ على أن الله تعالى عالمٌ بأفعاله سبحانه كأفعال عباده، ومُقدِّرٌ لها كتقديره لأفعال عباده، فأمَّا علمه بأفعاله سبحانه، فواضحٌ، وأما تقديره لها، فلقوله تعالى: {كان على ربِّك حتماً مَقضيّاً} [مريم: 71] إلى سائر ما سبق في باب الأقدار وأحاديثها من عموم الأقدار لجميع الكائنات، والله أعلم.
الفائدة الخامسة من الكلام على القضاء والقدر: بيان وجوب العمل مع القدر، وفائدته، وذلك أن يُقال: لا فائدة في العمل، فإن المطلوب به إن كان قد قُدِّرَ، حصل، عمل العبد أو لم يعمل، فإن (3) لم يكن قد قدر، لم يحصل، عمل العبد أو لم يعمل.
والجواب من وجوه:
الأول: ذكره الله تعالى في كتابه الكريم في غير آية مثل قوله سبحانه: {لِيَبلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عَملاً} [الملك: 2] وقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]،
__________
(1) في (ش): " فإنه ".
(2) في (ش): " وأما التكليف إذا لم يعلم بخلاف المعلوم ... ".
(3) في (ف): " وإن ".(6/370)
وقوله تعالى: {أنْ تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى: {لِئلاَّ يكون لِلناسِ على الله حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] أي: أمرناهم بالطاعة كما تقول: أمرته فعصاني، أي: أمرتُه أن يُطيعني.
فهذا وأمثاله مما ورد تعليل التكليف، وبعث الرسل به كثيراً في كتاب الله تعالى بأساليب متنوعةٍ، ومعناها ما علم بالضرورة من الدِّين من إقامة الحُجَّة، وقطع الأعذار، كما صرح به أعلم الخلق بالله عزَّ وجلَّ أنه قال: " لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله عز وجل، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب "، وهذا الوجه قرآني ضروريٌّ سمعاً وعقلاً، وقد تقدم بيانه بياناً شافياً في أوائل مسألة المشيئة حيث أوضحتُ الفرق بين حِكمة الله الراجعة إلى علمه الحق، وهي تأويل المتشابه، وبين حجة الله الظاهرة المطابقة لِعُرف الخلق وعقولهم، وهو ما قدَّرَه من الأعمال أو الكسب (1)، والموازين، والشهود، وشهادات الأعضاء ونحو ذلك. وقد تقدم واضحاً مبسوطاً، ولا حاجة إلى التطويل بذكره هنا، فراجعه من موضعه.
ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 67 - 68].
فهذه الآية الشريفة صريحة في أنه لا يلزم من الأوامر بطلان الأقدار، ولا
__________
(1) في (ف): " والكتب ".(6/371)
يلزم من تمام الأقدار بطلان الأوامر (1) كما ظنت المعتزلة، ولا بطلان الفوائد (2) كما ظن بعض الأشعرية.
وقد اعترف الزمخشري (3) -على اعتزاله- أن علم يعقوب في هذه الآية هو عِلمُهُ أن الحذر لا يُغني من القدر. وهذا (4) يُصادِمُ قول القدرية، ومن ينفي الحكمة والتعليل والأعراض والأسباب والبواعث والدواعي كلها عن جميع (5) أفعال الله عزَّ وجلَّ مع ما يلزمهم مِن تسميتها كُلِّهَا عبثاً كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وقد أحب جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم أن يعرفوا غير هذا الوجه القرآنيِّ من وجوه الحكمة التي لا سبيل إلى القطع بحصرها كما مضى، فأجابهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يأتي في الوجه الثاني، وهو زيادةٌ، ولا معارضة بينهما، ويجوز أن ينفي من وجوه الحكمة ما لم يظهره الله تعالى لنا كما مضى تقريره.
الوجه الثاني: الجواب النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، فإن هذا السؤال قد وقع في زمانه عليه السلام، وتولَّى جوابه كما ثبت (6) في أحاديث القدر، وطرقها كثيرةٌ صحيحةٌ، وألفاظُها متنوعة، ومعناها متقارب.
وفي بعضها: أن الأعمال من قدر الله تعالى (7).
وفي بعضها: " أنه قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ
__________
(1) من قوله: " ولا يلزم " إلى هنا، سقط من (ش).
(2) في (ف): " العوائد ".
(3) في " الكشاف " 2/ 333.
(4) في (ف): " وهو أحد ما يصادم ... ".
(5) " جميع " ساقطة من (ف).
(6) في (ش): " سبق "، وفي (ف): " وقع ".
(7) انظر ص 418 و419 من هذا الجزء.(6/372)
لليُسرَى} [الليل: 5 - 7] الآية (1).
وفي بعضها: أنه قرأ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (2) [الشمس: 8].
وفي حديث أبي خُزَامة، عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت رُقى نسترقي بها ودواءً نتداوى به، وتُقى نتَّقِيَها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال: " هي من قدر الله ". رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عنه به (3).
وقال المِزيُّ (4): وكذلك رواه مالكٌ ويونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي عن الزهري.
ومعنى هذه الأحاديث وإن تنوعت ألفاظها واحدٌ، متواترٌ نقلاً، معلومٌ عقلاً.
ومنه: لباسهم الدروع في الحرب، وركوبهم الخيول، وحملُهم السلاح كما أُمِرُوا بحمله في صلاة الخوف، وجميع أعمال الدنيا والآخرة، وفيه كمال الجواب من جهة البرهان العقلي، ومن جهة الأسلوب الجدلي.
أما البرهان العقلي: فقوله حين سألوا عن (5) ذلك: " اعملوا " فأمرهم بالعمل حين أظهروا الجهل بفائدته، وهو تنبيهٌ لهم على ما غفلوا عنه مما يقضي به العقل السليم من وجوب امتثال العبد الجاهل من ربه العليم الحكيم مع جهل (6) العبد الفوائد في ما أُمِر به شاهداً وغائباً، فإن أمر الرب العليم الحكيم (7)
__________
(1) انظر ص 389 ت (1)، وهو صحيح.
(2) حديث صحيح، تقدم تخريجه ص 390.
(3) تقدم تخريجه ص/401.
(4) في " تحفة الأشراف " 9/ 152 - 153.
(5) " عن " ساقطة من (ف).
(6) في (ف): " الجهل ".
(7) من قوله: " العبد الفوائد " إلى هنا ساقط من (ف).(6/373)
الغني الحميد يكفي داعياً إلى الفعل، وباعثاً عليه، ومصحِّحاً لوقوعه بالنظر إلى القدرة كما مضى في اعتبار الجهتين في تفسير القدر، فخذه من هنالك.
ولم تَجْرِ عاداتُ الساداتِ في الدنيا بإعلام عبيدهم بفوائد أوامرهم ومشاركتهم لهم في تفاصيل أسرارهم، وغايات مقاصدهم، ولا نُسِبَ من طوى ذلك عن عبيده إلى العبث واللعب في أوامره، فكيف يطرق ذلك عبيد السوء إلى ملك الملوك وأحكم الحاكمين، وعلام الغيوب، بسبب عدم مشاركته لهم (1) في سِرِّه المكنون في إبرازه، وغاياته الحميدة في أفعاله وأحكامه، وإلى هذا الإشارة بقوله (2) تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقوله: {ولا يُحِيطونَ بشيءٍ من عِلمِه إلاَّ بما شاء} [البقرة: 255]، وقوله: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، وقوله: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وأمثالها.
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " اعملوا " مع هذا الوجه فائدةٌ لطيفة، وهو أنه لم يأمر بالعمل، وصدر جوابه عليهم (3) بأن " كلاًّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له " لم يبعد أن يتوهَّم بعضهم سقوط الوجوب الشرعي، وبطلان الأوامر التى هي حجة الله على خلقه وثمرة إرساله رسله صلوات الله عليهم، كما تقدم في الآيات المذكورة في الوجه الأول.
وأمَّا الأسلوب الجدلي: فهو أن العمل مطلوبٌ مقدَّرٌ، كما أن المطلوب به -وهو الجزاء- مرادٌ مقدَّرٌ، والمقدَّرات كلها مقطوعٌ بوقوعها على وجوهها التي يقع عليها على التفصيل، سواء أكانت المقدرات مطلوبةً في البداية من العبيد بالأمر، كأفعالهم الاختيارية في الدنيا، أو مرادةً في النهاية للرب سبحانه جزاء
__________
(1) في (ف): " مشاركتهم له ".
(2) في (ف): " بنحو قوله ".
(3) " عليهم " ساقطة من (ف).(6/374)
لهم متوقفة على أفعال الرب الاختيارية في الآخرة، فكما قدر فعل الله في جزائهم، وفعله سبحانه اختياري لا ضرورة فيه ولا جبر، ولم يستلزم وقوع القضاء والقدر فيه نفي (1) الاختيار والفوائد، وأنه ينبغي أنه سبحانه لا يفعله لعدم الفائدة فيه (2)، أو لعدم القدرة عليه، فكذلك ما قدر من أفعال العباد الاختيارية المطلوبة بالأمر لا يلزم من سبق تقديرها عدم القدرة عليها، ولا عدم الفوائد بها.
ولذلك (3) ثبت في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49] إنما أنزلت في القدرية. ورواه الترمذي أيضاً، وقال: حديث حسن صحيح (4).
وروي نحوه من طريق ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وزرارة، وأبي أُمامة، كلهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم (5).
والظاهر أن معناه أنهم احتجوا على حُسْنِ معاصيهم بسبق القدر، فاحتج الله على حسن عذابهم بذلك بعينه (6) وهذا في غاية العدل والإفحام، كما ثبت في " الصحيح " أنه سبحانه يقول: " أليس عدلاً مني أن أُوَلِّي كُلاًّ ما تَولَّى " الحديث (7).
__________
(1) " نفي " ساقطة من (ف).
(2) " فيه " سقطت من (ف).
(3) في (ف): والذي.
(4) تقدم تخريجه ص 402.
(5) انظر ص 465.
(6) " بعينه " ساقطة من (ف).
(7) هذا وهم من المؤلف -رحمه الله- فالحديث ليس في أحد الصحيحين، وربما قصد بهذا اللفظ أنه في " المستدرك " للحاكم، فإنه فيه 4/ 589 - 592 مطولاً من حديث ابن مسعود، وهو يطلق الصحة عليه في غير موضع من كتابه هذا، وهو تساهل غير مرضي عند =(6/375)
فمن احتج بسبق علم الله بذنبه، احتج الله عليه بسبق علمه بعذابه، ونحو ذلك.
وسِرُّ المسألة أن الكُلَّ مقدورٌ، والمقدور واجب الوقوع عقلاً وسمعاً، ولا يُسأل عن واجب الوقوع: لم وقع، ولا ما الفائدة في فعله، وإنما محارات العقول، بل المحال فيها عدم وقوعه لو صح فرض ذلك وتقديره.
يُوضِّحُه أنا لو فرضنا وقوع الأمور على خلاف علم الرب عز وجل، وخلاف قدره السابق، وقضائه الماضي، لكان هذا محالاً فيه باعتبار إبطال المعلوم، فيجب أن لا يكون نقيضه محارةً ولا مُحالاً، ولا موضع دِقَّة وغموض، وإشكال وحَيرة، إذ يمتنع أن يتصف النقيضان معاً بذلك.
وتحقيق الجواب النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أن الأفعال إن كانت فيها فائدة، بطل السؤال، وإن لم يكن فيها فائدةٌ، تعيَّن وقوعها بالقدر (1)، فإن جميع المسلمين يعلمون أن عِلْمَ الله تعالى قد سبق، وتعلَّق بجميع الكائنات مما كلفهم ومما لم يُكلِّفْهُم، وعلموا أنه يستحيل تغيُّر علم الله تعالى، ثم هم لا ينفكُّون عن العمل في أمور دنياهم ودينهم، فكما أنهم يأكلون ويشربون ويزرعون ويَسعَوْنَ في طلب المنافع ودفع المضارِّ مع علمهم بسبق العلم بذلك وأنه لا يتغيَّر، فكذلك مع علمهم بذلك (2) يسعون في أعمال الآخرة على حسب المقادير، فلذلك ترى كثيراً ممن يؤمن بالقدر أحسن عملاً من كثيرٍ ممن ينفي القدر وعكس ذلك.
وخلاصة الجواب أن العمل مُقَدَّرٌ، فكيف يستأذنون في تركه، ولا سبيل
__________
= أهل العلم بالحديث، ففيه عدد غير قليل من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. والحديث بطوله تقدم عند المؤلف 5/ 91 - 94 من رواية الطبراني، وهو مخرج هناك.
(1) في (ش): " بالقدرة ".
(2) من قوله: " وأنه لا يتغير " إلى هنا سقط من (ف).(6/376)
إلى ترك ما قُدِّر فعله منه، ولا إلى فعل ما قدر تركه منه، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله (1): {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].
قال الزمخشري على اعتزاله: هو علمه أن الحذر لا يُغني عن القدر (2).
فإن قيل: إنه يلزم من تفسير الجواب النبوي بهذا بطلان الاختيار، وبطلان الجزاء.
قلنا: هو ممنوعٌ بالضرورة شرعاً، فإن الله تعالى مختارٌ في أفعاله مع سبق القدر بها، وممنوعٌ بضرورة العقل بما (3) علم ضرورة من استحسان العقلاء (4) للأمر والنهي، والمدح والذم، والعمل مع القدر، والفرق الضروري بين حركة المختار وحركة المسحوب والمفلوج.
وتلخيص الكلام في ذلك قد مر في تفسير القدر، وأن وجوب الأقدار، وإمكان الأفعال غير متَّحِد المتعلق، بل هو مفترق باعتبار الجهتين، والله أعلم.
الوجه الثالث: أن وقوع الفعل تبعٌ للقدرة والداعي، سواء حَكَمَ العقل بأنه مُفيدٌ أو ضارٌّ، كوقوع المعصية من المسلم المعترف بأنها ضارة، فإذاً لا معنى للسؤال عن الفوائد، وإنما يسأل عنها من لا يعمل إلاَّ بما (5) هو مفيدٌ في معقوله، وأما من يرتكب ما يعلم أنه يضُرُّ، ويستيقن أنه يُوبِقُه في الدنيا والآخرة، تارةً
__________
(1) في (ف): " في قوله تعالى ".
(2) " الكشاف " 2/ 333، والعبارة فيه: هو علمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر.
(3) في (ف): " لما ".
(4) في (ف): " العقل ".
(5) " بما " ساقطة من (ف).(6/377)
لشهوته، وتارة لغضبه (1)، ولا يتوقف على حكمة حكيمٍ (2)، فما اعتذاره عن العمل بعدم معرفة فائدته إلاَّ من جملة جدله وعناده ومكره وفساده {وكَانَ الإنسانُ أكثَرَ شيءٍ جَدلاً} [الكهف: 54]، {ويَمكُرُون ويَمكُرُ الله والله خَيرُ الماكرين} [الأنفال: 30]، {ولا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّء إلاَّ بأهلِه} [فاطر: 43].
الوجه الرابع: ذكره ابن العربي الفقيه المالكي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي " (3)، فقال ما لفظه: قلنا: لا تطلب الفوائد في أمر الله وحكمه على مقتضى أغراض البشر، وإنما فوائد أمر الله وجودها على مقتضى المشيئة، ولم يطلعنا على ما يناسب (4) مفهومنا في أنفسنا، لأنه ليس كمثله شيءٌ في ذاتٍ ولا صفاتٍ ولا فعلٍ.
الوجه الخامس: أشار إليه الفخر الرازي وغيره، فقال: إن الفائدة فيها تعجيل بشرى المؤمن وإنذار الكافر. قلت: لقوله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الكهف: 56] ونحو ذلك.
وكذلك ظهور الأمارات على المقدَّر من الخير والشر، وما يتبع تلك الأمارات (5) من معرفة أولياء الله تعالى وموالاتهم وإكرامهم ونصرهم في الدنيا، ومعرفة أعداء الله تعالى وعداوتهم ونصر المؤمنين عليهم (6)، وسائر الأحكام الشرعية المرتبة على الأعمال. قال الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
__________
(1) في (ش): " لمعصيته ".
(2) " حكيم " ساقطة من (ش).
(3) 8/ 300.
(4) في (ف): " يناسبه ".
(5) من قوله: " على المقدر " إلى هنا سقط من (ف).
(6) قوله: " ونصر المؤمنين عليهم " سقط من (ف).(6/378)
وذِكْرُ الرازي لهذا الوجه غفلةٌ منه عن مذهبه في نفي تعليل أفعال الرب عز وجل، وفي ذلك دليلٌ على الفطرة على خلاف مذهبه، فإذا غفل عنه، تكلم بالفطرة، فلله الحمد.
الوجه السادس: ما ذكره ابن قيم الجوزية في " الجواب الشافي " (1) وهو ما لفظه: والصواب (2) أن ها هنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدر قُدّرَ بأسبابٍ، ولم يُقَدَّرْ مجرداً عن سببه، ولكن قُدِّرَ سببه، فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المُقدَّر، ومتى لم يأت بالسبب، انتفى المقدَّر، وهذا كما قُدِّرَ الشِّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الولد بالوطء، وقُدِّرَ حصول الزرع بالبذر، وقُدِّرَ خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِّرَ دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.
وهذا القسم هو الحق، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يُوفَّقْ له.
إلى أن قال (3): وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونِحَلِها أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته (4) والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أعظم الأسباب الجالبة لكل شرٍّ، فما استُجلِبَتْ نِعَمُ الله واستُدفِعَتْ نِقَمُهُ بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه.
وقد رتَّب الله حصول الخيرات في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العِلَّة، والمسبب على السبب، وهذا
__________
(1) ص 15.
(2) قوله: " والصواب " ساقط من (ف).
(3) ص 16 - 17.
(4) في (أ) و (ش): " رضاه ".(6/379)
في القرآن يزيد على ألفِ موضع، فتارةً ترتب الحكم (1) الخبري الكوني، والأمر (2) الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله تعالى: {فَلمَّا آسَفُونَا انْتَقَمنا مِنهُم} [الزخرف: 55]، وقوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارقَةُ فاقطَعُوا أيديَهما} [المائدة: 38]، وقوله: {إنَّ المُسلمين والمُسلِماتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وهذا كثير جداً.
قلت: وفيه أوضح دليلٍ على بطلان قول من قال: إن أفعال الله تعالى كلها لا يجوز أن يكون شيءٌ منها معلَّلاً بالحكم والمصالح. وكذلك أكثر ما يورده الشيخ في هذا الجواب، وسيأتي ذكر ذلك مع أضعافه في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ (3) وتارةً يُرتِّبه عليه بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] ونظائره ..
وتارةً يأتي بآلة التعليل (4)، كقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] (5).
وتارةً يأتي بباء السببية، كقوله: {ذلِكَ بما قَدَّمت أيدِيكم} [آل عمران:
__________
(1) في (ف): " الأمر ".
(2) في (أ) و (ش): والأمري.
(3) ص 17 - 19.
(4) في " الجواب الكافي ": " وتارة يأتي بأداة "كي" التي للتعليل ".
(5) من قوله: " وتارة يأتي بألة " إلى هنا ساقط من (ف).(6/380)
182]، وقوله: {بما كنتم تعملون} [المائدة: 105]، و {بما كُنتُم تَكسِبونَ} [الأعراف: 39]، وقوله: {أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 136].
وتارةً يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً (1)، كقوله تعالى: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وقوله تعالى: {أنْ تقولُوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله: {أنْ تقولوا إنما أُنزِلَ الكتابُ على طائفتَينِ مِنْ قَبْلِنا} [الأنعام: 156] أي: كراهة أن تقولوا.
وتارة يأتي بفاء السببية، كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، وقوله تعالى: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، وقوله: {فكذَّبُوهُما فكانوا مِنَ المُهلَكِينَ} [المؤمنون: 48] ونظائره.
وتارةً يأتي بأداة " لما " الدالة على الجزاء، كقوله تعالى: {فلمَّا آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] ونظائره.
وتارة يأتي بإنَّ وما عملت (2) فيه، كقوله: {إنَّهُم كانوا يُسارِعُون في الخيرات} [الأنبياء: 90]، وقوله في ضد هؤلاء: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77].
وتارة يأتي بأداة " لولا " الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144].
__________
(1) في (أ) و (ش): " ومحذوفاً ".
(2) في (أ): " علمت "، وهو تحريف.(6/381)
وتارة يأتي "بلو" الدالة على الشرط، كقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66].
وبالجملة: فالقرآن من أوله إلى آخره صريحٌ (1) في ترتب (2) الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.
ومن فَقِهَ (3) هذه (4) المسألة وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكِل على القدر جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعةً، فيكون توكُّله عجزاً، وعجزه توكلاً، بل الفقيه، كل الفقيه الذي يَرُدُّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويُعارضُ القدر بالقدر، بل لا يمكن لإنسان أن يعيش إلاَّ بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر.
وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده، يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة.
فهذا وِزان (5) القدر المخوف في الدنيا وما يُضاده سواء، فَرَبُّ الدارين واحدٌ، وحكمته واحدةٌ، لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يُبطِلُ بعضها بعضاً.
فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان. انتهى بحروفه.
وللغزالي في " الإحياء " (6) معنى هذا بأخصر منه، وهو كلام مشهورٌ ذكره في فائدة الدعاء مع القدر، فقال ما لفظه: فإن قلت: فما فائدة الدعاء والقضاء لا
__________
(1) في (أ) و (ش). " مصرح ".
(2) في (أ) و (ش): " ترتيب ".
(3) في " الجواب الكافي ": " تفقه ".
(4) في (ف): " في هذه ".
(5) في (ش): دون، وهو خطأ.
(6) 1/ 328 - 329.(6/382)
مردَّ له؟ فاعلم أن من القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، والدعاء سببٌ لردِّ البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سببٌ لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم، فيتدافعان، وكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله عزَّ وجلَّ أن لا يُحمل السلاح، وقد قال الله عز وجل: {خُذُوا حِذْرَكُم} [النساء: 71]، وأن لا تُسقى الأرض بعد بثِّ البذر، فيقال: إن سَبَقَ القضاء بالنبات، نبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، وترتيب تفصيل المسبِّبات على تفصيل (1) الأسباب على التدريج، والتقدير هو القدر، والذي قدَّر الخير قدَّره بسببٍ، وكذلك الشر (2) قدر لدفعه (3) سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته انتهى.
وقد ألم بهذا المعنى الإمام العلامة شرف الدين إسماعيل بن المقرىء الشافعي الزبيدي (4)، فقال وأجاد:
__________
(1) في (ف): " بتفاصيل "، وفي " الإحياء ": " على تفاصيل ".
(2) في " الإحياء ": " والذي قدر الشر ".
(3) في (أ) و (ش): " لرفعه ".
(4) هو إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله شرف الدين المقرىء الزبيدي، عالم البلاد اليمنية، وكان غاية في الذكاء، مهر في الفقه والعربية والأدب، وولي إمرة بعض البلاد في دولة الأشرف، له كتاب مختصر " الروضة " للنووي سماه " الروض "، و" مختصر الحاوي الصغير " سماه " الإرشاد "، وكتاب " عنوان الشرف " في الفقه، ويشتمل على أربعة فنون غيره هي: النحو والتاريخ والعروض والقوافي. توفي سنة 837 هـ.
مترجم في " طبقات الشافعية " لابن قاضي شهبة 4/ 109 - 110، و" إنباء الغمر " 8/ 309، و" الضوء اللامع " 2/ 292 - 295، و" بغية الوعاة " 1/ 444، و" شذرات الذهب " 7/ 220 - 221، و" البدر الطالع " 1/ 142.(6/383)
تقول مع العِصيانِ: ربِّي غَافِرٌ ... صَدَقْتَ ولكِنْ غَافِرٌ بالمشيئةِ
وربُّك رزَّاقٌ كما هو غافرٌ ... فَلِمْ لَمْ (1) تُصدِّقْ فيهما بالسَّويَّةِ
فإنك ترجو العفو من غير توبةٍ ... ولستَ بِراجي الرِّزقِ إلاَّ بِحيلةِ
على أنه بالرزق كَفَّل نفسُهُ ... لِكُلٍّ ولم يَكْفَلْ لكل بِجَنَّةِ
فأما ما يُجيب (2) به بعض غلاة متكلمي الأشعرية من نفي رعاية الحِكَمِ والمصالح والأسباب والأغراض والدواعي والبواعث والغايات الحميدة عن جميع أفعال الله سبحانه وتعالى قاصدين بذلك الفرار من بدعة الاعتزال، فمن أبطل المُحال، وأشنع الضلال، وهو يستلزم نسبة العبث إلى الله تعالى، ويعارض ما عُلِمَ من ضرورة الدين من تعليل عذاب أعداء الله تعالى بذنوبهم، كقوله تعالى: {ذلكَ بما قدَّمَتْ أيدِيكُم} [آل عمران: 182]، وقوله: {بِما كُنتُم تَعْمَلون} [المائدة: 105]، وقوله: {بِما كُنتُم تَكسِبُونَ} [الأعراف: 39] كما تقدم مختصراً في كلام الشيخ ابن قيم الجوزية، وكما يأتي مستوفى إن شاء الله تعالى في الكلام على مسألة الأطفال.
وبتمام هذا يتم الكلام على المرتبة الرابعة، وهي إطلاق أهل السنة للوجوب، بمعنى القضاء والقدر، دون نفي الاختيار في أفعال العباد.
تم بعونه تعالى الجزء السادس
من العواصم والقواصم ويليه
الجزء السابع وأوله المرتبة الخامسة الكلام في أفعال العباد
__________
(1) في (ف): " لا ".
(2) في (ف): " يجسر".(6/384)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء السابع
مؤسسة الرسالة(7/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
7(7/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(7/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(7/4)
المرتبة الخامسة: الكلامُ في أفعال العباد.
وإنما قدمت (1) الكلام في المراتب الأربع، لأنها أساس الكلام فيها (2)، وهي من فضلات المسائل وفروعها، والأصل المُعتَمَد في الباب مسألة الإرادة، ولذلك أهمل الغزالي مسألة الأفعال والخوض فيها في كتابه " الاقتصاد " فأصاب.
ومن اعتقد نفوذ مشيئة الله تعالى، وأن العبد فختار، وأنه غير مُستَقِلٍّ بنفسه، فقد استغنى عن الخوض فيه، عدا ذلك.
وإنما تكلمتُ على مسألة الأفعال لِغَلَطِ المعتزلة على أهل السنة فيها، وجهل كثيرٍ من أهل السنة بمذهب (3) أئمتهم فيها، فيجب الإمساك عن الخوض فيها، والتحقيق (4) في البحث عنها، وأكثر الناس لا يصبر عن الخوض فيما لا يعنيه، ولا يتكلم بتحقيق ما يخوض فيه، وهذا هو الذي أفسد الدِّين والدنيا، فرحم الله من تكلَّم بعلم، أو سكت بحِلْمٍ.
واعلم أنه لا خلاف بين المسلمين أن للعباد أفعالاً مضافةً إليهم يسمون بها مطيعين وعصاة، ويثابون على حَسَنِها، ويستحقون العقاب على قبيحها (5)، وأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، وله الحجة البالغة لا عليه، وأن عقابه لمن
__________
(1) في (ش): قدمنا.
(2) في (ش): فيهما، وهو خطأ.
(3) في (أ): لمذاهب، والمثبت من (ش).
(4) في (أ): أو التحقيق، والمثبت من (ش).
(5) في (ش): قبحها.(7/5)
عاقبه (1) منهم عدل منه لا جَوْرَ فيه ولا ظلم. وعلم جميع (2) هذا ضرورة من الدين (3).
وأجمعوا على أن أفعال العباد اختيارية غير اضطرارية، وأن الفرق بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب ضروري، إلاَّ من لا يُعْتَدُّ به في الإجماع مِنْ سَقَطِ المتاع الذين لم يرجعوا (4) إلى تحقيق في النظر، ولا إلى حسن في الاتباع، ولا لهم في ذلك سَلَفٌ ماضٍ، ولا خَلَفٌ باقٍ، وهؤلاء هم الجَبْرِيَّة.
فالجبرية الخالصة، منهم الذين لا يثبتون للعبد قدرة أصلاً، والجبرية المتوسطة، منهم من يثبت للعبد قدرة، ولكن غير مؤثرة أصلاً. ذكرهما الشهرستاني في " الملل والنِّحَل " (5).
قال: فأما من أثبت (6) للقدرة الحادثة أثراً ما في الفعل (7)، وسمى ذلك كسباً، فليس بجبري.
ثم اختلف القائلون بالاختيار وتأثير قدرة العبد في العبارات اختلافاً متباعداً في المعنى.
والأصل في ذلك أن من ترجم عن أصول الأشياء ورجوعها إلى الله تعالى في الابتداء والانتهاء، وكونها بتقديره وتدبيره، أوجبت (8) عبارته نفي الاختيار.
ومن ترجم عن كمال حجة الله على عباده وتمكينهم وبيانه لهم، أوهمت عبارته استقلالهم بأنفسهم، واستبدادهم بحولهم وقوتهم.
__________
(1) قوله: " لمن عاقبه " سقط من (ش).
(2) لفظة: " جميع " لم ترد في (ش).
(3) تحرف في (ش) إلى: البين.
(4) في (ش): لا يرجعون.
(5) 1/ 85.
(6) في (أ) و (ف): يثبت، والمثبت من (ش).
(7) قوله: " في الفعل " لم يرد في الأصول، وأثبته من كتاب " الملل والنحل ".
(8) في (أ) و (ف): أوجب، والمثبت من (ش).(7/6)
ومن (1) قصد من الطائفتين شيئاً من ذلك، فقد ضلَّ وابتدع، وخالف دليل العقل والسمع وإجماع السلف.
والذي أجمعت عليه فِرَق أهل السنة أن العبد غير مستقل بنفسه، وذلك لما يجده العاقل من الضرورة والفطرة العقلية من شدة الحاجة إلى إعانة ربه عز وجل ومالكه له في كل أمر مع علمه الضروري بالتمكين وطلب الاستعانة من ربه فيه، وعدم الهم والعزم فيما لم يُقدره الله عليه (2)، وعدم الطلب للاستعانة (3) عليه.
ومن هنا قال الله تعالى في فاتحة الكتاب التي يقرأ بها كل مصلٍّ في فرائضه سبع عشرة مرة في كل يومٍ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5 - 6] فطلب الإعانة والهداية أوضح دليلٍ على عدم الاستقلال والكفاية، وعلى أن للعبد فعلاً يستعين بالله عليه، ويحتاج في تمامه إليه، ولا يمنع من ذلك ورود الأمر به في قوله تعالى: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
فقد قال تعالى: {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلاَّ بالله} [النحل: 127] فأمر سبحانه بالصبر، ومنع استقلال أكمل عباده به.
وعلى ذلك نبَّه القرآن الكريم في قراءة " المخلَصين " بفتح اللام وكسرها في السبع المتواترة في غير آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ وأمثال ذلك كما مضى في مرتبة الأقدار (4).
واعلم أن مراد أهل السنة بخَلْقِ الأفعال المبالغة في تنزيه الرب سبحانه من الشرك في الخلق لقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] وليس غرضهم نفي حجة الله.
__________
(1) في (أ) و (ف): إن، والمثبت من (ش).
(2) في (ش): فيما لم يقدر عليه.
(3) في (ش): طلب الاستعانة.
(4) في (ش): الأفعال.(7/7)
وكذلك تُثبِتُ كل طائفة منهم أمراً يستحق عليه العبد الجزاء كما سيأتي.
وهذه نكتة نفيسة جداً، فهذا القدر هو الذي أجمع أهل السنة عليه في الجملة، ثم اقتصر أهل الحديث عليه، ومَنْ تجاوزه، فقد دخل في علم الكلام على قدر مجاوزته.
واختلف أهل الكلام منهم في تفصيل (1) هذه الجملة وتعيين أثر قدرة الرب عز وجل، وأثر قدرة العبد، وتمييز أحد الأثَرَيْنِ على الآخر، وانتهى الأمر في ذلك إلى الدِّفَّة والغموض على كل مذهب، حتى قالت المعتزلة: إن الذوات ثابتةٌ في الأزل (2)، وهي غير مقدورةٍ لله عز وجل، والوجود حال غير مقدور له سبحانه ولا لخلقه.
وقالت الأشعريةُ لهم: إذا كان كذلك، كان التكليف بالإيجاد تكليفاً بالمحال، لأن الوجود والموجود عند المعتزلة غير مقدورين.
فأجابت المعتزله بأن المقدور الذات على صفة الوجود، لا كل واحد منهما منفرداً.
قالت الأشعرية: هذه عبارة لا طائل تحتها، لأن المراد بذلك إما الذات (3) وحدها، أو الوجود وحده، أو مجموعهما، وليس في العقل قسمةٌ وراء ذلك، وعندكم الأقسام الثلاثة غير مقدورة، فيكون التكليف بتصوُّر القسم الرابع محالاً فضلاً عن التكليف بتحصيله.
ومن المعتزلة من ألجأه هذا الالتزام (4) بأن المقدور هو الوجود لا الموجود، ويحتاج إلى إقامة برهان قاطع على تغايرهما، وبين أذكياء العقلاء في هذا نزاعٌ كثير، ومباحث غامضة.
__________
(1) لفظة: " تفصيل " لم ترد في (ش).
(2) في (ش): العدم.
(3) في (ش): الذوات.
(4) في (ش): الإلزام.(7/8)
واعلم أن الذي ألجأ المعتزلة إلى إثبات الذوات في العدم استبعاد أن يتعلق العلم بغير شيءٍ حقيقي في الأزل، وقد اضطرهم ذلك إلى أبعد منه وهو تعليقهم القدرة بغير شيء حقيقي فيما لم يزل (1)، لأن الأشياء الحقيقية تثبت عندهم في الأزل لتعلق العلم بها، فلَيتَهم قَنِعوا في متعلق العلم بنحو ما قَنِعوا به في متعلق القدرة، وعكسوا مذهبهم في المسألتين كما فعل أهل السنة، بل كما فعل أصحابهم أصحاب أبي الحسين (2) الذين سَلِموا من هاتين الشَّناعَتَيْن.
وفي هذا من الرِّكَّة والدقة ما ترى، وإنما قدمته لك قبل مذاهب الأشعرية حتى لا تستنكر ما ترى في بعضها من الدقة أو الركة، فإن أركها لا يزيد في الضعف على هذا، ولا يلزم منه أفحش مما يلزم من هذا.
فطوبى لأهل الحديث والأثر، وهنيئاً لهم السلامة ولذة الخشوع والتلاوة والمناجاة، واتباع الرسل (3) عليهم الصلاة والسلام، ولولا محبتهم ومحبة الذَّبِّ عنهم (4)، وعن علمهم الذي ورَّثَه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما رَضِيتُ أن أرسم من هذا لفظة، ولا أُفرِّط لأجله في لحظة، ولولا مشاركة الأشعرية لهم (5) في رواية الحديث والتفسير، وقدح المعترض في السنة النبوية بروايتها عمن يخالف المعتزلة، وتعرُّضُه (6) لتكفير الرواة وتحريم الرواية عنهم، ما احتجت إلى تحقيق مذاهبهم، وتلخيص مقاصدهم.
وإنما قصدتُ إيضاحها ليظهر عدم ما ادَّعاه من أنهم تعمدوا جحد المعلوم
__________
(1) من قوله: " وقد اضطرهم " إلى هنا، سقط من (ش).
(2) هو محمد بن علي البصري المعتزلي، المتوفى سنة (436 هـ)، صاحب كتاب " المعتمد " في الأصول.
(3) في (أ) و (ف): الرسول، والمثبت من (ش) وهو الصواب.
(4) في (ش): عليهم، وهو خطأ.
(5) في (أ) و (ش) و (ف): ولولا شاركهم الأشعرية في ...
(6) في (أ) و (ش) و (ف): تعرض.(7/9)
ضرورةً من الدِّين، وربما حصل للسني (1) برؤية الأمور الاعتبارية، والاغتباط بعلمه، فإن من لم يعرف علم الكلام ربما جوَّز أنهم على حقائق قد فازوا بمعرفتها دون الخلق، فلا بأس عندي بالنظر فيه لذلك ممن هو كامل الإيمان من غير تحكيمٍ للرأي على السنة والقرآن، ولا يوجد في النصوص الصحيحة ما يُحرِّم هذا القَدْرَ (2)، والله أعلم.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الأشعرية والمعتزلة قد افترقوا في ذلك عشر فِرَقٍ أو أكثر من ذلك.
الفرقة الأولى من المعتزلة: ذهبت إلى أن فعل العبد جعل الذات الثابتة عندهم في العدم على صفة الوجود، فإن تلك الذات غير مقدورةٍ ولا الوجود ولا مجموعهما كما مر ذكره.
الفرقة الثانية منهم: جعلوا الوجود هو مقدور العبد وأثر قدرته، وهو عندهم صفة أو حال وليس بشيءٍ حقيقيٍّ، ذكرهما عنهم ابن المُطَهِّر الحِلِّي في شرح " منتهى السُّول " (3) في الكلام على الاشتقاق لاسم الفاعل.
الفرقة الثالثة منهم: قالت: لا فعل للعبد إلاَّ الإرادة، منهم: الجاحظ وثُمامة (4)، وسيأتي أنه مثل قول بعض الأشعرية: إنه لا فعل له إلاَّ الاختيار.
__________
(1) في (أ): للشيء، وهو خطأ، والمثبت من (ش).
(2) لفظة: " القدر " لم ترد في (ش).
(3) ابن المطهر الحلِّي مر التنبيه على ترجمته في الجزء الثاني ص 123 من هذا الكتاب، وشرحه لكتاب " منتهى السول " سماه " غاية الوضوح وإيضاح السبل في شرح منتهى السول والأمل " قال ابن كثير عنه في " البداية والنهاية " 14/ 125: رأيت له مجلدين في أصول الفقه على طريقة " المحصول " و" الإحكام "، فلا بأس به، فإنه مشتمل على نقل كثير، وتوجيه جيد.
(4) هو ثُمامة بن أشرس أبو معن النُّميري البصري المتكلم، من رؤوس المعتزلة شيخ الجاحظ، توفي سنة 213 هـ. انظر ترجمته في " سير أعلام النبلاء " 10/ 203 - 206.(7/10)
الفرقة الرابعة منهم: ذهبت إلى أن أفعال العباد حوادث لا مُحدِثَ لها.
وهذان المذهبان معروفان في كتب المعتزلة ونقلهم، وسيأتي بيانهما في ضِمْن بيان مذهب الأشعرية.
الفرقة الخامسة: ذَكَرَتْ أن أفعال العباد لا تَعَدَّى محل القُدرة، وما تعدَّاه فعل الله، وأنها حركاتٌ كلها، والسكون حركة اعتمادٍ، والعلوم والإرادات حركات النفس. حكاه الشهرستاني عن النظام قال: ولم يُرِد بالحركة النقلة، وإنما الحركة عنده مبدأ تغيُّرٍ ما، كما قالت الفلاسفة. ذكره في كتاب " الملل والنحل " (1).
الفرقة السادسة: قالت إن تأثير قدرة العبد في الحركة والسكون، وإنهما صفةٌ إضافية لا ذاتٌ حقيقيةٌ.
وهو قول الشيخ أبي الحسين وأصحابه وأتباعهم، ويَنَوْه على أن المعدوم ليس بشيء (2).
وإلى نحو مذهبهم ذهب الجويني من الأشعرية، إلاَّ أنه يقول: إن الأكوان ذواتٌ، كما سيأتي تحقيق مذهبه.
الطائفة السابعة: يقولون: إن المتولَّدات أفعالٌ لا فاعل لها.
الطائفة الثامنة: يقولون: إن ما عدا الإرادة من أفعال العباد أحداثٌ لا مُحدِثَ لها، وحكاهما الشهرستاني (3) عن ثُمامَة، وربما يُوجَدُ في كتب المقالات غير هذه الأقوال عن المعتزلة وحدهم.
وأما الأشعرية فافترقوا في ذلك أربع فرقٍ:
__________
(1) 1/ 55.
(2) في (أ): لشيء، والمثبت من (ش).
(3) في " الملل والنحل " 1/ 71.(7/11)
الفرقة الأولى: قالوا (1): إن فعل العبد بنفسه الذي أثَّرت فيه قدرته هو بعينه مخلوقٌ لله تعالى على الحقيقة، وإن الشيء الذي خلقه الله تعالى، والشيء الذي فعله العبد من ذلك، هو شيء واحد مقدورٌ بين قادرين.
وقد روى هذا الإمام أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، حكاه عنه صاحب " الجامع الكافي في مذهب الزيدية " كما يأتي نصُّه، وكما تقدم معناه، وأنه قول أهل ذلك العصر الأول من أهل البيت وشيعتهم، كما تقدم في مسألة المشيئة مبسوطاً.
ويأتي النص على هذا المعنى عن محمد بن منصور، عن أحمد بن عيسى عليه السلام مذهباً له، وروايةً عن علي عليه السلام آخر هذه المسألة.
وهذا هو ظاهر عبارات من لم يَخُض في دقيق الكلام من أهل الحديث والأثر، وهو ظاهر اختيار أبي نصر بن السُّبْكيِّ في كتابه " جَمْع الجوامع ".
وهو ظاهر عباره الغزالي في " الإحياء " فإنه نص على خلق الله للاختيار، وعلى بطلان الجبر، وادعى الضرورة في بطلانه. ذكره في " الإحياء " (2) في الرسالة القُدْسِيَّة منه.
ويشبه أن يكون هذا قول أبي إسحاق الإسفراييني (3)، كذا وجدته بخطي فيما علَّقْتُه من كتب الرازي، وأظنه قاله في كتاب " الأربعين "، وأما في " نهاية العقول "، فجعل قول أبي إسحاق كقول الجُوَيني كما يأتي.
__________
(1) لفظة: " قالوا " سقطت من (أ)، وأثبتها من (ش).
(2) 1/ 111، والرسالة القدسية، سميت كذلك لأنه كتبها في القدس، وقد تقدمت الإشارة إليها في الجزء الثالث من هذا الكتاب، ص 438.
(3) هو الإمام العلامة الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإسفراييني الأصولي الشافعي، الملقب ركن الدين، أحد المجتهدين في عصره، وصاحب التصانيف الباهرة. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 17/ 353 - 356.(7/12)
قال الشهرستاني في " نهايته " عن الأستاذ أنه قال: كل ما وقع على التعاون، فهو كسب للمستعين، وحقيقة الخلق هو وقوع الفعل بقدرته مع صحة انفراده به.
قال: وهذا أيضاً شرحٌ لما قاله الأستاذ أبو بكر: إن الكسب هو تعلق القدره به على وجهٍ ما، وإن لم يتعلق به من جميع الوجوه، والخلق إنشاءُ العين وإيجادها من العدم.
ولا فرق بين قوليهما وبين قول القاضي -يعني الباقِلاَّني- إلاَّ أن ما سمياه (1) وجهاً واعتباراً سمَّاه القاضي صِفةً وحالاً.
انتهى بحروفه من كلام الشهرستاني، وهو نقلٌ مُفِيدٌ لتضمنه نسبة وقوع الفعل على الوجوه التي يقبُحُ لوقوعه عليها إلى قدرة العبد على إنفرادها كما يأتي واضحاً في كلام الباقلاني.
وتحقيق مذهب هذه الفرقة الأولى يضاد معنى الجبر ويُنافيه، وذلك أن الذي ألجأهم إلى هذا اعتقادهم إن العبد بانفراده لا يقدر على شيء ألبتة إلاَّ بإعانة ربِّه ومالكه.
وعندهم أن الله قد خلق لعبده قدرة تؤثر في حدوث أفعاله، ولكن بشرط إعانة الله، كالعاجز الذي يحاول حَمْلَ الثقيل ويستعين عليه، فصارت إعانة الله عندهم هي شرطٌ في تمكين العبد واختياره، لا رافعة لذلك.
كما لو قال الله تعالى لعبدٍ ضعيف: احمل هذا الجبل العظيم، فقال:
إني لا أقدِرُ، فكيف تأمُرُني يا رب بما لا أقدر عليه؟ فقال الله تعالى: احمل وأنا أُعينُك، فإنه إن لم يحمل كان عاصياً، وإن حمل، كان مُطيعاً، ولم يكن حملُ الجبل فِعلَه وحدَه إلا مع حَمْلِ الله له معه.
__________
(1) في (ش): سميناه، وهو خطأ.(7/13)
ويشهد لهذا قوله تعالى: {واصبِرْ ومَا صَبْرُك إلاَّ بالله} [النحل: 127]، وقوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} [الأعراف: 2]، وقوله: {ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65] مع قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
ومن ذلك قوله: {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 56 - 57].
وما علمنا من دعائه بقولنا: وقنا عذاب النار {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} [الفرقان: 65]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] مع قوله: {قُوا أنْفُسَكُم وأهْلِيكُم ناراً} [التحريم: 6].
وكذلك أجمع المسلمون على حمد الله تعالى على النِّعَم التي على أيدي عباده، وعلى حمدِ الله بعدَ حمدِ الله.
وستأتي أيضاً النصوص القرآنية الجَمَّة على حمد الله على الإيمان وسائر أفعال الخير، وعلى التَّسَلِّي بقضاء الله في القتل وسائر المظالم مع تنزيهه عن الجَبْر عليها وجميع ما يُوجِبُ الملامة، ومنه الآية والحديث.
أما الآية: فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23].
وأما الحديث: حديث خبر (1) آدم وموسى في آخر المجلد الرابع من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (2).
__________
(1) لفظة: " خبر " لم ترد في (ش).
(2) وقد تقدم تخريجه في هذا الكتاب 1/ 218.(7/14)
ومن ذلك قوله تعالى: {فَإنْ قَاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] أمر بالقتل، وهو غير مقدورٍ للعبد بغير إعانةٍ من الله، وإنما يَقْدِرُ على الجرح دون إخراج الروح من البدن، وأمثال ذلك كثيرٌ جداً.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] لما خفَّف الله تعالى عنهم من العدد نقص من الصبر. رواه البخاري (1).
وفيه أنهم لو صبروا على ما أُمِرُوا به من قتال الواحد عَشَرة لطوِّقُوا ذلك، وصبروا عليه.
وهو من أحسن الأمثلة الواقعة لمذهب هذه الطائفة، فإن الواحد من المسلمين -ولو من أقواهم- لا يقدر على عشرةٍ من المشركين -ولو من أضعفهم- إلاَّ بإعانة الله تعالى مع ورود الأمر بذلك إجماعاًً ونصّاً.
بل الواحد لا يقدر على الاثنين إلاَّ بإعانة الله كما قال: {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66]، لا يقال: ليس المراد الأمر بمغالبتهم (2).
قلنا: إن أردتم في (3) المطابقة فمُسَلَّمٌ، وإن أردتم في (3) الالتزام، فممنوعٌ، وإلا كان يستلزم الأمر بإلقاء النفس إلى التهلكة، لأن إلقاء النفس من الشواهق لا يزيد على بروز رجل ضعيفٍ لعشرةٍ من أقوياء أعدائه، وتجويز السلامة في الموضعين حاصلٌ، والله سبحانه أعلم.
__________
(1) في " صحيحه " (4653)، وتكملة الحديث بعد قوله " من الصبر ": بقدر ما خُفِّف عنهم. وأخرجه أبو داود (2646)، والطبري في " جامع البيان " (16280)، والنحاس في " ناسخه " ص 189، والبيهقي 9/ 76.
(2) في (ش): بمغالبتكم، وهو خطأ.
(3) لفظة: (في) لم ترد في (ش) في الموضعين.(7/15)
ويُشَيِّدُ (1) ذلك ما خرجه الحاكم في تفسير سورة الحح عن ابن عباس: أن الله أمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج، قال: ربِّ وما يبلُغُ صوتي؟ قال: أذِّنْ وعليَّ البلاغ (2)، قل: يا أيها الناس كُتِبَ عليكم حجَّ البيت بيت الله العتيق. فسمعه مَنْ بين السماء والأرض، وقال: صحيح الإسناد (3).
وخرَّج في المغازي من حديث الخليل، عن عمروٍ، عن (4) جابرٍ، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَمَنَّوْا لقاء العَدُوِّ، وسَلُوا الله العافية، فإنكم (5) لا تدرون ما تُبتَلُون منهم (6)، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك (7)، وإنما تقتلهم أنت، ثم الزموا الأرض " الحديث (8).
__________
(1) في (ش): وسنده ما أخرجه.
(2) في (أ): التبليغ، والمثبت من (ش) و" المستدرك ".
(3) المستدرك 2/ 388 - 389، ووافقه الذهبي على تصحيحه. ولفظه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: ربِّ قد فرغت، فقال: أذن في الناس بالحج، قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذِّن وعلي البلاغ، قال: رب كيف أقول؟ قال: قل: يا أيها الناس، كُتب عليكم الحج، حج البيت العتيق، فسمعه من بين السماء والأرض، ألا ترى أنهم يجيئون من أقصى الأرض يُلَبُّون؟
وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة 11/ 518، وابن جرير الطبري 17/ 144، والبيهقي 5/ 176، وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 32 وزاد نسبته إلى ابن منيع، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وهو حديث موقوف حسن.
(4) في (أ) و (ف): وعن، وهو خطأ.
(5) قوله: " وسلوا الله العافية فإنكم " لم يرد في (أ) و (ش)، وأثبته من " المستدرك ".
(6) في " المستدرك ": معهم.
(7) قوله: " ونواصينا ونواصيهم بيدك " من " المستدرك ".
(8) هو في " المستدرك " 3/ 38، وسنده ضعيف، فيه الخليل -وهو ابن مرة- والجمهور على تضعيفه. عمرو: هو ابن دينار.
وأخرجه أيضاً الطبراني في " الصغير " (790) من طريق الخليل بن مرة، به. قال الهيثمي في " المجمع " 6/ 152 بعد أن نسبه إلى الطبراني: وفيه الخليل بن مرة قال أبو زرعة: شيخ =(7/16)
وفيه قصةُ علي عليه السلام في خيبر وحديثُ الراية (1).
وعن ابن عباس في قصة موسى أنه إنما وجد النصب بعد مجاوزته الموضع الذي أمر الله تعالى به (2).
فكل فعلٍ عندهم من غير إعانة الله مثل حمل الجبل على الضعيف، وقتال الواحد الضعيف لعشرة أقوياء، فإعانة الله تعالى للمؤمن واضحة، ويسمى عند هؤلاء خلقاً وتمكيناً ومشاركة في الفعل وإعانةً عليه.
وأما العاصي، فلا يُسمى الله تعالى بذلك القدر مُعِيناً له، إنما يسمى عندهم خالقاً ومُمَكِّناً ومُبْتَلِياً وممتَحناً.
ونحو ذلك قوله تعالى فيما فعله آل فرعون: {وفي ذلِكُم بَلاءٌ مِن ربِّكم عَظِيمٌ} [البقرة: 49].
ومنه: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152].
__________
= صالح، وضعفه جماعة.
قلت: لكن في الباب ما يشُدُّهُ عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تمنَّوا لقاء العدو، فإذا لقيتموهم فاصبروا ". أخرجه أحمد 2/ 523، ومسلم (1741)، والنسائي في السير من " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 10/ 201، والبيهقي 9/ 152، وعلقه البخاري (3026).
ورواه أحمد 2/ 400 من طريق آخر عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون ما يكون في ذلك ".
وعن عبد الله بن أبي أوفى عند أحمد 4/ 353، والبخاري (3025)، ومسلم (1742) (20)، وأبي داود (2631)، والبيهقي 9/ 152.
(1) انظر قصة خيبر وحديث الراية في " صحيح ابن حبان " بتحقيقنا (6932) وما بعده، عن عدة من الصحابة.
(2) هذا قطعة من حديث ابن عباس الطويل في قصة موسى والخَضِر عليهما السلام، وانظر تخريجها في " صحيح ابن حبان " (6220).(7/17)
ولأن الإعانة في العُرْفِ إنما تكون على محبوب المعين دون المسخوط، والمعاصي مسخوطةٌ غير محبوبةٍ لله تعالى، كما مر تحقيقه في مسألة الإرادة.
أو لأنَّ الإعانة عبارةٌ مُوهِمةٌ للرضا والمحبة، ولم يَرِدْ بها إذنٌ شرعي، وخَلْقُ الله لمعصية العباد عند هؤلاء مثل خلق القدرة على المعصية عند المعتزلة، لأن شرط التكليف التمكين، والتمكين عند هذه الفرقة من الأشعرية لا يصح مع استقلال العبد حتى يشاركه الله في فعله، فيكون فعلاً لفاعلين، لكنه يُسَمَّى بالنظر إلى قدرة الله تعالى مخلوقاً ومفعولاً، وبالنظر إلى قدرة العبد مفعولاً ومكسوباً، كما ذكرناه في أول المسألة بالتمثيل بحمل الجبل.
وقريبٌ منه بالنظر إلى ما يُسَمَّى إعانة من المحبوبات لله سبحانه، وما لا يُسمَى إعانةً من المكروهات له سبحانه ما فعله لعيسى صلوت الله عليه من إحياء الموتى وإبراء الأكْمَه والأبْرَص، وساغ نسبته إلى عيسى عليه السلام حيث قال: إني أخلُقُ وأُبرِىء، مع قوله: بإذن الله، فيُسَمَّى الله في مثل هذا مُعِيناً عليه، ومُحِبّاً له، وراضياً به.
وقد تُنسَبُ الطاعة والخير كله إلى الله تعالى وحده مبالغةً في تعظيمه وحمده عليه، وتضعيف العبد وتقليل أثره كقوله تعالى: {لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21] وقوله سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وأمثال ذلك، وذلك الذي ينبغي من العبد كقوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17].
ولما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال [فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:] " فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نفسه ".(7/18)
رواه مسلم في " الصحيح " (1) من حديث أبي ذرٍّ رضي الله عنه.
وعن أبي الدراء رضي الله عنه، عن (2) زيد بن ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه علمه دعاء وأمره أن يتعاهد (3) به أهله كل يوم، وذكره، وفيه: " وأشهد أنك إن تكلني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضيعةٍ وعورةٍ وذنبٍ وخطيئةٍ، وأنِّي لا أثِقُ إلاَّ برحمتك ". رواه أحمد والحاكم في " صحيحه " (4).
بخلاف ما تُفَرِّقُ به السحرة بين المرء وزوجه، وإن كان بإذن الله كما نصَّ عليه بقوله: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] (5)، فالتأثير في الفرقة على الحقيقة من خلق النُّفرة الضرورية هو فعلُ الله بالإجماع.
وهذا التفريق قد أضافه الله تعالى إلى السحرة وذمَّهم به لما كان مسبَّباً عن اختيارهم كما أن الموت فعل الله، ويُذَمُّ به القاتل لما كان سبباً فيه.
وهذا قول أبي هاشمٍ والأشعري والجُوَيْني وسائر أهل السنة في المسببات، كما يأتي في مسألة تكليف ما لا يُطاقُ.
__________
(1) (2577) في البر والصلة والآداب: باب تحريم الظلم. وانظر تخريجه في " صحيح ابن حبان " (619) بتحقيقنا.
(2) في (أ): وعن، وهو خطأ، والتصويب من (ش) ومن مصادر الحديث.
(3) في (أ) و (ش) و (ف): يعاهد، والمثبت من مصادر الحديث.
(4) " مسند أحمد " 5/ 191، والحاكم في " المستدرك " 1/ 516 - 517، لكن الحاكم لم يذكر في سنده أبا الدرداء، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر (وهو ابن أبي مريم أحد رواة الحديث) ضعيف، فأين الصحة؟
وأخرجه أيضاً الطبراني في " الكبير " (4803) و (4932)، ولم يذكر في الموضع الثاني منه أبا الدرداء، وقال الهيثمي في " المجمع " 10/ 113: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وُثِّقوا (قلت: أشار إلى الموضع الثاني، على أن فيه عبد الله بن صالح، كاتب الليث، وهو سيىء الحفظ)، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف.
(5) من قوله: " كما نص عليه " إلى هنا، سقط من (ش).(7/19)
وكذلك من ألقَاهُ العباد في الماء والنار عُدواناً، فإن إثمه عليهم لكونهم سبب موته، وموته فعل الله، ولو شاء لأنجاه، ففِعْلُ الله عندهم في هذا الجنس يسمى ابتلاءً وامتحاناً، ولا يُسمَّى إعانةً ولا محبةً ولا رضاً.
ويجب أن يضاف القدر المتعلِّق بقدرة العبد من هذه القبائح إلى العبد وحده، تحقيقاً لتنزيه الله تعالى وكمال تقديسه عن القبائح، وكمال عدله وحكمته فيما ابتلى به من تقدير وقوعها وأسبابها.
ومن ذلك قوله تعالى: {إنَّما النَّجْوَى من الشَّيطان} [المجادلة: 10]، وقوله: {إنَّما ذلِكُمُ الشيطانُ يُخَوِّفُ أولياءَهُ} [آل عمران: 175]، وقوله: {ومَا يَجْحَدُ بآياتنا إلاَّ الكَافِرونَ} [العنكبوت: 47]، وفي آيةٍ: {إلاَّ الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49]، وفي آية: {إلاَّ كلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، وقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105].
ومنه: قول الكليم عليه أفضلُ الصلاة والتسليم: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص: 15] وقول يوسف: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100]، وقول أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] وسيأتي ذلك مبسوطاً مُطَوَّلاً في آخر هذه المسألة، وما ورد فيه من إجماع السلف والخلف.
وكذلك قد تجتمع كلمة المسلمين على نسبة الأمر إلى الله تعالى من جهة، وإلى العبد من جهةٍ كما يقولون في كثير من الأرزاق، وهي التي توقف على أفعال العباد واختيارهم كالصدقات وقضاء الديون، وما يُثَابُ عليه العبد كأنها من جهة اختيار العبد فيها وثوابُه عليها منسوبة إليه.
وليست المعتزلة تقول: إنها منسوبةٌ إليه من كل وجهٍ بحيث لا يُشْكَرُ الله عليها، بل هي مع ذلك رِزْقٌ من الله حلالٌ، منسوبةٌ إلى الله من سائر الجهات.
وكذلك يقول خُصُومُ المعتزلة في جميع الأفعال.(7/20)
فتأمل في ذلك النظائر والأمثال، فانظر الآن بعين التحقيق" هل حَمْلُ الله تعالى للجبل مع الضعيف إن أمره بحمله مُبْطِلاً لتكليفه وتمكينه واختياره، أو مُصَحِّحاً له؟
ولو كان قولهم: إن فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى يبطل كونه فعلاً للعبد، ويوجب الجبر كما زعمت المعتزلة، لم يكن أولى من العكس: وهو أن فعل العبد لما هو خلقٌ لله يبطل كونه خلقاً لله، وينفي عنهم الجبر.
ولكن المعتزلة يُستخرَجُ من كلامهم ما هو عليهم، ولا يُستخرج عنه ما هو لهم، كما قال الشاعر:
وعَينُ الرِّضا عن كلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... ولكنَّ عين السُّخْطِ تُبدِي المساوِيَا (1)
__________
(1) البيت من قصيدة لعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أوردها المبرد في " الكامل " 1/ 276 - 277، والحصري في " زهر الآداب " 1/ 93 - 94، وابن الشجري في " حماسته " 1/ 252 قالها في الفضيل بن السائب بن الأقرع الثقفي، حين لم ينهض بحاجته، وهي:
رأيتُ فُضيلاً كان شيئاً مُلَفَّفاً ... فكشفه التمحيصُ حتى بدا لِيا
أأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن عَرَضَتْ أيْقَنْتُ أنْ لا أخا لِيا
فلا زادَ ما بيني وبينَكَ بعدَما ... بلَوْتُك في الحاجاتِ إلاَّ تَمادِيا
فلستَ براءٍ عيبَ ذي الوُدِّ كلَّه ... ولا بعض ما فيه إذا كنت راضِيا
فعينُ الرِّضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكنَّ عينَ السُّخْطِ تُبدي المساويا
كِلانا غنيٌّ عن أخيه حياته ... ونحن إذا مُتْنا أشدُّ تغانِيا
وذكر صاحب " الأغاني " 12/ 214 و233 أنه لعبد الله بن معاوية يقوله للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فيما نقله عن مصعب الزبيري، ونقل عن مُؤَرِّج -وقال: وهو الصحيح- أنه في صديق له يقال له: قُصي بن ذكوان.
وقال الذهبي في " تاريخ الإسلام " 5/ 97: كان عبد الله جواداً ممدَّحاً شاعراً من رجال العلم وأبناء الدنيا، خرج بالكوفة وجمع خلقاً، ونزع الطاعة، وجرت له أمور يطول شرحها، =(7/21)
فإن جَحَدتَ هذا المعنى، وأنكرت تصوره في العقول، جحدتَ الضرورة، وإن أقررت به ولكن قلت: ما الذي ألجأهم إلى هذا؟ وقلت: مقدورٌ بين قادِرَيْنِ غير صحيح في العقل.
فالجواب: أن هاتين مسألتان غير الجبر، فأما الجبر، فقد تخلصوا منه، ومن جميع ما يترتب عليه من الشَّناعَات، وسوف يظهر ذلك بذكر ما يَرِدُ عليه، ويُجيبون به.
وأما هاتان المسألتان، فهما من دقيق المسائل التي لم تُعْلَمْ من ضرورة العقل، ولا من ضرورة الدين، فإن أصابوا فيهما، أجادوا، وإن أخطؤوا فيهما، فقد أخطأ في مثلهما وفي أجْلَى منهما أئمة العلوم المعقولة والمنقولة لأسبابٍ لا يعرفها إلاَّ من خاض الغَمَرات التي خاضوها، أو راض نفسه مع معاناة الدقائق كما راضوها.
وكفى لهم أسوةً في هذه المسألة شيخ الاعتزال، وعنترة فوارس الجدال إذا دُعِيَ في محافِلِه نزال، الشيخ أبو علي الجُبَّائي المتكلم الشهير، فإنه التجأ في مسألة القرآن إلى القول بأن تلاوة التالي المسموعة كلامان اثنان حقيقيان:
أحدهما: كلام الله تعالى، تكلم به في لسان التالي عند تلاوته.
وثانيهما: كلام التالي، تكلم به مع كلام الله تعالى، فالسامع له سامعٌ لله وسامعٌ من الله على الحقيقة، وعلى الحدِّ الذي سمع منه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام.
وكذلك قال: إن كلام الله باقٍ، وإنه يَحُلُّ في الخط المكتوب، ويظهر مع الصوت وهو غير الصوت.
__________
= ثم لَحِق بأصبهان، وغلب على تلك الديار، ثم ظفر به أبو مسلم الخراساني فقتله، وقيل: بل سجنه إلى أن مات في حدود الثلاثين.(7/22)
حكى هذا عنه ابن مَتَّوَيه في " تذكرته " وهو من أئمة الاعتزال تلميذٌ لقاضي القضاة عبد الجبَّار، وحكاه عنه الشهرستاني في " نهايته ".
فالذي ألجأ أبا عليٍّ الجُبَّائيَّ إلى ذلك مع غوصه على دقائق الكلام الحذر من مخالفة إجماع المسلمين على أن القرآن المتلُوَّ بالألسنة، المكتوب في المصاحف كلام الله تعالى، فحمله خوفه مخالفة السمع الدالِّ على أن الإجماع حُجَّة على هذا القول المعلوم بطلانه عقلاً وسمعاً، كما يَعرِف ذلك أدنى المميِّزين مع جلالة أبي علي في علم النظر، ما ذلك إلاَّ لخوف الابتداع وخوف مخالفة الإجماع، فلم تنتقصه المعتزلة، ولا ذمَّته بسقوط المنزلة.
وكذلك أئمة الحديث والأثر، وكثيرٌ من أهل الكلام والنظر، لما سمعوا ظواهر القرآن والسنن تقضي بأن الله تعالى خالق كل شيءٍ، وأن إرادته ومشيئته أساس كل شيء، حتى قال لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، وذمَّ الذين أقسموا لَيَصْرِمُنَّ جنتهم (1) مصبحين ولا يَستثنون، وأمر أكمل عباده بالاعتراف بذلك في قوله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا} [الأعراف: 188]، مع ما قرروه في كتبهم الكلامية من الأنظار العقلية، قضوا بذلك.
على أن هذه الفرقة التي جعلوا فعل العبد وخلق الرب شيئاً واحداً، ولم يفرقوا بينهما، هم أقل فِرَق أهل النظر من أهل السنة، كما أَوضحه إن شاء الله تعالى.
بل لا يكاد يتحقَّقُ القائل به من أئمة النظر منهم، ولكنه أكثر ما يلزم من إطلاق عباراتهم، وقد يقول به ولا يبحث عن دقائق الكلام لجلائه، فإن صحة المقدور بين قادرين مما يعقله الكافَّة، ولا يعجز عن فهمه أحدٌ من العامة (2).
__________
(1) في (ش): ليصرمنّها.
(2) قوله: " أحد من العامة " سقط من (أ).(7/23)
فإن قيل: فإذا لم يفعل المكلَّف الواجب، لزم أن لا تقوم عليه الحجة، لأنه لم يُعِنْه (1) الله تعالى حين لم يخلقه، ولو خلقه، ما قَدَرَ العبد على تركه، وهذا حقيقة الجبر ونفي الاختيار.
قلنا: لم يختلفوا في أن الاختيار إلى العبد، وأن الله تعالى (2) يخلق عند اختياره ما اختاره العبد، حتى صرَّح بذلك الأشعري والرازي اللذان نُسِبَ إليهما أفحشُ الجَبْرِ الصريح، وتكليف ما لا يطاق كما يأتي.
وإنما خلاف هذه الفِرقة الأولى لسائر فِرَق الأشعرية أثبتوا تأثير قدرة العبد في عين ما أثَّرَتْ فيه قدرة الرب عزَّ وجلَّ من وجود الذات وإخراجها من العدم بمعونة الله تعالى، كما هو قول بعض الفرقة الرابعة وهو الإمام الجويني كما يأتي، ويأتي الفرق بينهم، وأما أكثر الأشعرية، فإنهم منعوا تأثير قدرة العبد في إخراج الذات من العدم إلى الوجود.
وأما الاختيار، فلم تختلف فرقهم الأربع في إثباته للعبد، وصلاحية قدرته فيه، سواء تعلَّقَ بالترك أو بالفعل، كما يأتي تحقيقه، ولكنه لا يكون اختياره إلا تابعاً وموافقاً لما سبق من مشيئة الله تعالى أن يفعل العبد مختاراً، كما لم يختلفوا هم والمعتزلة في أن الاختيار وضع الأمر لما سبق به علم الله تعالى وكتابه، كما تقدم تحقيق ذلك في الكلام على الأقدار، وبيان عدم التناقض في الجمع بين القول بنفوذ القدر والمشيئة والاختيار، بل الاختيار عند هذه الفرقة مقدور بين قادِرَيْنِ.
وقد حاوَلَتِ المعتزلة الرد على هؤلاء والتكفير لهم.
فأمَّا الرد عليهم، فلست أتعرَّض لنَقْضِه، بل هو عندي حقٌّ وصواب، ولكن ما هو من مقصود كتابي هذا، فإن سائر طوائفِ أهل السنة الثلاث الآتية ترُدُّ على
__________
(1) في (ش): يعبد، وهو تحريف.
(2) من قوله: " ما قدر العبد " إلى هنا سقط من (ش).(7/24)
هذه الطائفة الأولى كما ترد عليهم المعتزلة، وكما يرد بعض المعتزلة على بعضٍ في تفاصيل مذاهبهم.
والمختار عندي من مذاهب أهل السنة ما درج عليه السلف، ولزمه أهل الحديث والأثر من اتباع السنن، ولُزُومُ مناهج الأنبياء والأولياء، وترك رد الشرائع المعلومة عن المعصومين إلى ما يلائم خيالات الأذكياء المتكاذبين، وظنون العقلاء المتخالفين.
وكيف يرد الأقوى إلى الأضعف، ومن لم يعترف بعلو مرتبة الأنبياء على الأذكياء، فما أنصف، وكفى فارقاً بينهم بعد ما خصَّهم الله تعالى به من المعجزات شدة الاختلاف بين الأذكياء التي تستلزم بالضرورة جهل بعضهم، كما يمنع بالضرورة علم جميعهم، فما اختلف في القطعيات عالمان قط، ولا يصح الاختلاف إلاَّ بين جاهلين، أو بين عالمٍ وجاهل إلاَّ ما كان مراداً لله تعالى مثل اختلاف سليمان وداود عليهما السلام، وسائر المجتهدين في الفروع، والله أعلم.
وقد عصم الله رسله الكرام عن هذه النقيصة، فما زالت كلمتهم واحدة، الأول يُبَشِّرُ بالآخر، والآخر يوجب الإيمان بالأول، وسيأتي طَرَفٌ من حجة هذه الفرقة عند ذكر ما يروى منه، وبيان القدر القوي الجَلِيِّ من مذهبهم.
وأما تكفير المعتزلة لهم، فإن رده هو مقصود كتابي هذا، وقد احتج من زعمه بأمورٍ مدارها على أنهم قد نسبوا القبائح إلى الله تعالى لقولهم بمشاركته سبحانه لعباده في فعلها، وما قبح من العباد من العقليات قَبُحَ من الله تعالى عند المعتزلة.
والجواب عليهم من وجوهٍ:
الوجه الأول: أن نقول: ما مُرادُكم بأن نسبة القبيح إليه تعالى كفرٌ؟ هل نِسبَتُه ممن يعتقد قُبحه أو لا؟ الأول: مُسَلَّم ولا يَضُرُّ تسليمه، لأنهم يعتقدون(7/25)
حُسْنَ ذلك من الله تعالى، ويمنعون قُبحَه من الله تعالى.
والثاني: ممنوعٌ لأمورٍ:
أولها: أن من نسب إلى الله تعالى الحُسْنَ، وهو يعتقد أنه قبيح، كفر إجماعاً، لأنه قصد انتقاص الرب تعالى، فدل على أن الحكم للاعتقاد لا لمطابقته المعتقد، فيلزم في من اعتقد في أمرٍ قبيح أنه حَسَنٌ، ثم نسبه إلى الله تعالى، أنه لا يكفر، لأنه قصد مدح الرب عزَّ وجلَّ بكمال القدرة ونفوذ المشيئة، مع تصريحه بأن لله الحجة البالغة، عرفها أو لم يعرفها.
وكم يقع للمعتزلة مثل هذا كثيراً، فإنهم اختلفوا في آلام الأطفال والبهائم ومن لا ذنب له.
فمنهم من قال: يحسن مع العِوَضِ وحده.
ومنهم من قال: مع الاعتبار وحده.
ومنهم من قال: هي مع العوض وحده عَبَثٌ، لإمكان التفضل (1) بالعوض من دون ألمٍ، ومع الاعتبار وحده ظلم في حق الصغير والعَجْماوات، لأن المعتبر غير الأليم.
وهذا (2) هو المختار عندهم، فيجب في الألم أن يكون جامعاً بين العوض والاعتبار، ومع هذا فلم يُكَفِّروا من جوَّزه بأحدهما، ويجعلوه بمنزلة من أجاز العبث أو الظلم على الله تعالى.
وكذا تقدم أن قاضي القضاة منع من تكليف من عَلِمَ أن لُطْفَه في فعلٍ قبيحٌ، وقال: إنه غير مُزَاحِ العلة، ولم يُكَفِّرِ الشيوخ لتجويزهم على الله تعالى تكليف من هو كذلك، وأمثال هذا بينهم كثيرة، مثل قول أبي القاسم البَلْخِي والبغدادية: إن تكليف الكافر لمصلحة المؤمن تجوز على الله تعالى، وهذا ظلمٌ عند سائر المعتزلة.
__________
(1) في (ش): الفضل.
(2) في (ش): فهذا.(7/26)
وكذلك اختلافهم في بعض صفات الله تعالى، ثم لا يُكَفِّرُ بعضهم بعضاً بذلك، وإذا خالفهم السني في شيءٍ منها، تَمَحَّلوا تكفيره بأنه قد عبد غير الله.
والقصد بهذا تنبيه الغافل على ما بين الفِرَقِ من العصبية لعله يتقي الله تعالى في التقليد في التكفير والتفسيق، ويرجع إلى النظر الصحيح والتحقيق.
الوجه الثاني: -وهو المعتمد- أن التكفير سَمْعِيٌّ قطعي عند المعتزلة، والصحيح أن كل قطعي من الشرع فهو ضروري، والمعلوم ضرورةً أو قطعاً من السمع إنما كفر من اعتقد في أمرٍ أنه قبيح ثم نسبه إلى الله تعالى، ومن ادَّعى كُفْرَ من أخطأ في استحسان قبيحٍ وتجويزه على الله تعالى لحسنه عنده من الله تعالى، احتاج إلى دليلٍ قاطعٍ، بل ضروي من السمع، وهذا غير موجودٍ قطعاً.
الوجه الثالث: أن قدرة الله تعالى عند هؤلاء إنما أثَّرَتْ في مجرد الذات الحقيقية، وهي: الحركة والسكون، بل (1) المرجع بهما عند المعتزلة والأشعرية إلى مجرد اللبث في الجهة مع شروط عدميةٍ وإضافيةٍ مثل شرط النُّقلة في (2) الحركة، وشرط البقاء في السكون.
ولا شك أن لبث الجسم في حَيِّزٍ إما فعل الله، لأن العبد لا يقدر على الانفكاك من ذلك القدر الذي هو حقيقة الذات في الأفعال عندهم، وإنما يكون اختيار العبد في صفات ذلك اللبث وأحواله التي يقبح بسببها ولم تُعَلَّقْ قدرة الرب بها.
وأما الذات التي تعلقت قدرة الرب بها، فإنها لا تُوصَفُ بقُبْحٍ باتفاق الفريقين من المعتزلة والأشعرية، وإنما تَقْبُحُ عند الجميع لوقوعها على بعض
__________
(1) في نسخة (ش) ضرب على لفظة " بل "، وكتب بدلاً منها بخط مغاير " اللذين " وأشير عليها برمز " صح ".
(2) في (أ) و (ف): والحركة، وكتب فوق الواو (ظ: في)، وهي كذلك في (ش).(7/27)
الوجوه والاعتبارات الإضافية، وهي لا تقع على تلك الوجوه بقدرة الرب عند الفريقين أيضاً، لأن تلك الوجوه ليست بأشياء حقيقيةٍ عند الجميع، والمضاف إلى قدرة الله تعالى في أفعال العباد إنما هو إخراج ذوات الأفعال التي هي أشياء حقيقيةٌ من العدم إلى الوجود، وقدرة العبد تؤثر في وقوع ذوات الأفعال على تلك الوجوه المختلفة، ولأجل وقوعها بقدرة العبد وحده على تلك الوجوه استحقت أسماءً لا يصح إطلاقها على الله تعالى مثل: العبادة والطاعة والمعصية، فلو وقعت تلك الوجوه بقدرة الله سبحانه لزم أن يُسَمَّى مطيعاً وعابداً وعاصياً ومُصَلِّياً وصائماً، ونحو ذلك.
فلما كانت هذه الأسماء لا تطلق عليه، إنما يطلق عليه أنه الخالق الموجد المبدع، دلَّ على أن متعلق قدرته سبحانه هو ما اشتق له منه الأسماء الحسنى، وأن الاشتقاق من الفعل الواحد يختلف بحسب اختلاف وجوهه.
كما أن إيلام اليتيم ذاتٌ واحدة، وأسماؤه وصفاته تختلف، فحين يكون تأديباً له ممن له ذلك يُسَمَّى تأديباً وإحساناً وإصلاحاً وقربةً وطاعةً، وحين يكون على ضد ذلك يُسمى معصيةً وظلماً وعدواناً، وحين يكون من الله تعالى يستحيل فيه اسم المعصية والطاعة والظلم والقبح، ويبقى اسم الإحسان والإصلاح والتأديب.
فهذا شيء واحد اختلفت أسماؤه لوقوعه على الوجوه المختلفة، فكذلك سائر الذوات الموصوفة بالقبح، متى استحقت اسم القبح لوجهٍ وقعت عليه بقدرة العبد لا يستحقه لعدم ذلك الوجه حين تقع تلك الذات منسوبةً إلى قدرة الرب.
وبالجملة فإن المعتزلة والأشعرية اتفقوا على أن المعاصي والطاعات كلها ليست هي الذوات المُخْرَجة بالقدرة من العدم إلى الوجود، وإنما هي وجوهٌ تقع الذوات عليها، وجهاتٌ لاستحقاق الذمِّ والعقاب، والثناء والثواب، وتلك الوجوه لا نحتاج إلى قدرة الله لتُؤَثِّرَ فيها على انفرادها، لأنها ليست بأشياء.(7/28)
مثالٌ لبعض (1) ذلك: التروك، فإنها توصف بالتحريم متى كانت تُروكاً للواجبات ويستحق عليها الذم والعقاب، وتوصف بالوجوب متى كانت تُروكاً للمحرمات ويستحق عليها الثناء والثواب، مع أن التروك عند جماهير المعتزلة عدمٌ محضٌ، وإنما هي جهةٌ لاستحقاق الذم والعقاب، أو الثناء (2) والثواب.
ومن قال منهم: إنها كفُّ النفس، وأن الكفَّ أمرٌ ثبوتي كالبَلْخِي والجُبَّائي، قال: إن الحُسْنَ والقبح الذي في التروك عَدَمِيٌّ إضافي، لأن الترك الواحد قد يكون كفّاً عن الواجب والحرام معاً، مثل من ترك الصلاة والظلم واشتغل بالمباح، فإن المباح عند هؤلاء واجب بالنظر إلى كفه عن الحرام، وحرام بالنظر إلى كفه عن الواجب.
فلو كان الوجوب والتحريم حقيقِيَّيْنِ كالسواد والبياض لم يجتمعا، فدل على أن الحسن والقبح ليسا بشيء حقيقي، وأن جميع الطاعات والمعاصي ليست بذواتٍ وأشياء تحتاج إلى قدرة الرب تعالى عند الجميع.
وقد يظن أن الجويني وأبا الحسين يخالفان في هذا، وليس كذلك، كما سيأتي مُحَقَّقاً إن شاء الله تعالى.
ومن أدَقِّ ذلك الكلام في الكذب، فإنه لا يجوز أن يضاف الكذب إلى الله تعالى عند أهل السنة، لأنه لم يكن كذباً لذاته التي أثَّرت فيها قدرة الله تعالى، بل الصحيح عند المعتزلة أيضاً أنه لا يكون كَذِباً إلاَّ كذلك بحيث إنه عندهم إذا جُرِّدَ عن نسبة بعضه إلى بعض بالقصد لم يُوصَفْ عندهم بانه صدق ولا كذب.
فإن قلت: وما ذاتُه الموجودة بقدره الله تعالى عند أهل السنة؟
قلت: أحد أمرين: إما مجرَّد الصوت، لأنه من المُتَولَّدات عن الاعتماد، والمتولدات عندهم كلها فعل الله لعدم اختيار العبد فيها بعد وجود سببها كسواد
__________
(1) في (ش): بعض.
(2) في (ش): والثناء.(7/29)
المِدَاد بعد خلط العَفْصِ (1) وماء الزاج (2) ونحو ذلك.
وإما الحروف مع الصوت (3) إن كانت أشياء زائدةً عليه، والموجود (4) منها بقدرة الله تعالى ليس إلاَّ حرفٌ واحد، وهو لا يوصف بالكذب ولا بالصدق قطعاً، فدل على أن الموصوف بالكذب جملة الحروف المعدوم منها والموجود (5)، وهو حرف واحد، وذلك أوضح دليلٍ على أن وصفها بالكذب وصفٌ عدمي إضافي، ونسبة مثل هذا الوصف العدمي إلى قدرة العبد وحدها من غير مشاركة الرب صحيحٌ عند جميع فرق أهل السنة، كما سيأتي بيانه عند الكلام على مذهبهم في الكسب وتحقيقه، إن شاء الله تعالى (6).
وقد تقدم أن هذه الوجوه والاعتبارات غير محتاجةٍ إلى قدره الرب، وإنما هي جهاتٌ لاستحقاق الذم والعقاب.
وقد قال الشيخ مختارٌ المعتزلي في كتابه " المُجْتَبى " في المسألة الحادية عشرة في كُفْرِ المُجْبِرَة ما لفظه: ولم يكفِّرْهُم صاحب " المعتمد "، وبه قال الرازي لِمَا مرَّ، يعني من تصديقهم جميع الأنبياء والكتب والقيام بأركان الإسلام المنصوصة.
قال: وأما نسبتهم القبائح إلى الله تعالى فيقولون: إنه لا يَكذِبُ في الشهادة
__________
(1) العَفْص: هو من جنس الشجر العِظام ومن أنواع البلُّوط، له ثمر في قدر الجوز أو أقل. انظر " حديقة الأزهار " ص 210 لأبي القاسم الغساني، و" شرح القاموس " (عفص) للزبيدي.
(2) الزَّاج: ملح، وقال الليث: يقال له: الشب اليماني، وهو من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر. " شرح القاموس " 2/ 55 (زوج).
(3) في (ش): ووضع الصوت.
(4) في (أ) و (ف) فوق الواو: فا.
(5) في هامش (ف): لأن المعدوم لا يصح وصفه بصفة حقيقية.
(6) عبارة: " إن شاء الله تعالى " لما ترد في (أ).(7/30)
على الأنبياء، فتقبُحُ طريق معرفة النبي لهم، نعم إنهم جاؤوا خطأً فاحشاً، وتخبَّطُوا تخبُّطاً عظيماً، لكن لما أقروا بذات الله وصفاته الذاتية، فيجوز أن لا يبلغ عقابهم عقاب الكفرة.
فإن قيل: إنهم كعبدة الأصنام، لأنهم يعبدون إلهاً فاعلاً للمعاصي والمنكرات، مُرِيداً للقبائح والسيئات، ومثله غير الله، وعبادة (1) غير الله كفرٌ.
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنهم اعتقدوا صانِعاً للعالم غير جسمٍ واجب الوجود لذاته، قادراً عالماً حيّاً، لم يزل ولا يزال سميعاً بصيراً، وأقرُّوا به، فجاز أن يَنقُصَ عقابهم عن عقاب الكَفَرة.
والثاني: أن هذه الاختلافات ثابتةٌ في صفاته وصفات أفعاله بين أئمة العدل والتوحيد، وبين السنية وبين الأشعرية، وبين المرجئة وبين الخوارج وبين الشيعة، وكل واحدٍ من أرباب هذه المذاهب يعتقد أن ما يعتقده مخالفه غير الله تعالى.
فلو لزم من هذا تكفيرهم لزم تكفير هذه الطوائف الإسلامية بأسرها، وأنه شنيع وممتنع عقلاً وسمعاً وإجماعاً.
ألا ترى إمام المعتزلة أبا عليٍّ ينفي الأحوال، وابنه أبو هاشم يُثْبِتُها، والبغدادية ينفون الصفات والأحوال وقالوا بالأحكام، وكل واحدٍ يعتقد أن ما يعتقده مخالفه غير الله، أيحسُنُ تكفير أولئك الأئمة أو واحدٌ منهم.
فثبت أنه لا يجوز تكفير أحد (2) من أهل القبلة إلاَّ من ثبت (3) بالتواتر والإجماع كفره والله أعلم. انتهى ذلك (4) بحروفه.
__________
(1) في (أ): عباد، وهو خطأ، والمثبت من (ش) وهامش (أ).
(2) في (ش): واحد.
(3) في (ش): يثبت.
(4) " ذلك " لم ترد في (ش).(7/31)
وقد مرَّ للمؤيد بالله عليه السلام نحو ذلك في " الزيادات "، وللإمام يحيى بن حمزة عليه السلام نحوه في كتبه منها " التمهيد " ومنها " التحقيق " وغيرهما.
فهذه الفرقة الأولى، وقد شاركها أهل الكسب في تأثير قدرة العبد في وجوه القبح والحسن، فلو لم تؤثر قدرة العبد في ذلك عندهم، بطل التكليف قطعاً، بل هي مؤثرة فيها عند الجميع، ولكن زاد هؤلاء على أهل الكسب أمرين:
أحدهما: جواز (1) تأثير قدرة العبد في وجود الذات مع الله تعالى لا على جهة الاستقلال.
وثانيهما: تسمية ما أثَّرت فيه قدرة العبد مخلوقاً، وهو بعينه من غير تأويلٍ بخلاف أهل الكسب، فإن المخلوق متميز (2) عندهم عن فعل العبد عند التحقيق كما (3) يأتي.
وقد صرح الشهرستاني بما ذكرته من اتفاقهم على تأثير قدرة العبد في وجوه القبح والحسن، كما تقدم ذكره من نصِّه، على أن المرجع بقول الأستاذ أبي بكر وأبي إسحاق إلى قول القاضي أبي بكر الباقِلاَّني بعينه، إلاَّ أن ما سمياه (4) وجهاً واعتباراً أسماه القاضي صفةً وحالاً. ولا شك أن الأستاذ وأبا إسحاق هما صاحِبَا هذه المقالة، وإماماً أهلها.
فإن قلت: فهلاَّ كان تأثير قدرة العبد في وجوه الحسن والقبح مشروطاً بمشاركة قدرة الله تعالى في ذلك كالذوات، فإنه يلزم من استقلال العبد بالتأثير في ذلك أن يستقل دون الله تعالى بشيء من الأشياء، وهذا لا يجوز بإجماع أهل السنة.
فالجواب: أن وجوه الحسن والقبح عندهم ليست بشيء البتَّة، حتى يكون
__________
(1) " جواز " ليست في (ش).
(2) في (ش): مميز.
(3) في (أ): وكما.
(4) في (أ) و (ش): سميناه.(7/32)
العبد متى استقل بها، كان مستقلاًّ (1) بشيء، وإنما هي جهاتٌ للاستحقاق مثل تروك الواجبات، وتروك المحرمات عند المعتزلة، وما لم يكن شيئاً لم يحتج إلى ذلك.
فإن قيل: وهل يصح التكليف وتوابعه بغير شيء؟
قلنا: إن أردت بغير شيء لُغَويٍّ، أو بغير شيء شرعي، أو بغير شيء معقولٍ أنه يُطلب ويُستحق عليه الجزاء فلا يصح التكليف بغير شيء.
وإن أردت بغير شيء اصطلاحي، وهو الذات الذي يصح تصورها، ويعلق العلم بها منفردةً، فلا يصح بإجماع المعتزلة أيضاً.
فإن قلت: فإن الاختيار شيء، وقدرة العبد لا تؤثر فيه إلاَّ مع قدرة الرب.
قلت: السؤال مردود، فإن الاختيار ليس بشيء حقيقي، وإلا لزم المعتزلة ثبوته في العدم وهو محال، بل هو عدميٌّ إضافي.
ولا يُعلَمُ أحدٌ (2) من المعتزلة -دع عنك أهل السنة- نص على أنه شيءٌ وجودي نصّاً، بل عند المعتزلة بأسرهم إلاَّ أبا الحسين أن الأشياء كلها ثابتة في الأزل، وأنه يستحيل تأثير قدرة الله تعالى فيها كيف إلاَّ قدرة العبد.
وإنما تؤثر عندهم قدرة الله وقدرة العبد في الأحوال التي ليست بأشياء، فكيف ينكرون على أهل السنة قولهم: إن الذي أثرت فيه قدرة العبد وحدها هو الاختيار وحده، وليس بشيء.
وقد احتج الرازي في " النهاية " -على أن الاختيار ليس بشيء حقيقي- أنه لو كان كذلك، لكان من جملة أفعال العبد المحتاجة في ثبوتها إلى الاختيار، فيحتاج كلُّ اختيارٍ يفعله العبد إلى اختيار آخر يختاره به، ويتسلسل إلى ما لا
__________
(1) من قوله " فالجواب " إلى هنا، سقط من (ش).
(2) في (أ): ولا نعلم أحداً.(7/33)
نهاية له، وذلك محال، وكذلك ما أدى إليه وهو القول بأن الاختيار شيء ثُبوتيٌّ.
ثم ذكر الرازي أن العبد يفعل الاختيار عند الداعي الراجح من غير جبرٍ كما يفعل الله تعالى الواجب في حكمته عند المعتزلة وجوباً من غير جبرٍ.
قال: ولا يصح للمعتزلة أن تلزم الجبر بذلك لوجهين:
أحدهما: أن الداعي عند المعتزلة غير موجب.
قلت: بل هو كذلك عند الجميع، فهذا الرازي من الغُلاة فيه قد نص في " النهاية " على بقاء الاختيار مع الداعي الموجب كما يأتي.
قال الرازي: وثانيهما: أنهم يقولون بمثل ذلك في حق الله تعالى، ولم يقتض أنه عندهم غير مختار.
وبهذا يعرف خطأُ الغزالي على أهل السنة حيث نسب خلق الاختيار إلى من يقول بالكسب، وينفي الجبر في الرسالة القدسية في أوائل كتاب " إحياء علوم الدين " (1)، إلاَّ أن يكون أراد بالاختيار التمكن، كما قال الجويني في مقدمات " البرهان " (2): لا يُكلف إلاَّ المتمكِّن، ولا يصح التكليف إلاَّ بالممكن. فلا شكَّ أنا خُلِقنا متمكِّنين مختارين بغير اختيارنا، كما تقدم في المرتبة الأولى من هذه المسألة.
فهذا الرازي والبيضاوي والشهرستاني المقدمون في هذا الفن، المعوِّلون عليه في جميع أعمارهم لم يَنْسِبوا إلى أحدٍ من فرق السنة شيئاً من ذلك، وقرروا القول بأن الاختبار أثرُ قدرة العبد لا أثر قدرة الله تعالى.
وحقق ذلك الرازي بأنه ليس بشيء حقيقي، واحتج على ذلك موضحاً أن
__________
(1) 1/ 111.
(2) 1/ 105 بتحقيق الدكتور عبد العظيم الديب.(7/34)
ما كان شيئاً حقيقياً، فهو الذي يختص بقدرة الله تعالى وحدها على قولٍ، أو بالإعانة منه تعالى على القول الآخر.
وأما قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص: 68] فذكر الواحدي في " أسباب النزول " (1) أنها نزلت جواباً للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أخبر تعالى أنه لا يبعث الرسل على اختيارهم، رواه الواحدي في " أسباب النزول " ونسبه إلى أهل التفسير ولم يَسْتَثْنِ منهم أحداً، فصار هذا راجحاً، ولو لم يكن إلاَّ مُحتملاً مرجوحاً، لكان القاطع مقدماً عليه كيف الضروري. وكذا قال البغوي (2)، وقال: هو كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ تَكونَ (3) لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [الأحزاب: 36]. انتهى.
وقد ظهر أن هذا من الاختيار الذي هو الاصطفاء والاجتباء والانتقاء، لا من (4) الاختيار الذي هو نقيض الاضطرار وليس فيه تأويل، بل هو من المشترك،
__________
(1) ص 229، والواحدي: هو العلامة الأستاذ أبو الحسن، علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي النيسابوري الشافعي، إمام علماء التأويل، توفي سنة (468 هـ). مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/ 339 - 342.
(2) هو في تفسيره المسمى " معالم التنزيل " 3/ 452 - 453، والبغوي: هو الشيخ الإمام العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي المفسِّر، صاحب كتاب " شرح السنة "، المطبوع بتحقيقي في خمسة عشر مجلداً، توفي سنة (516 هـ). مترجم في " سير أعلام النبلاء " 19/ 439 - 443.
(3) هكذا قرأ هذا الحرف غيرُ الكوفيين: بالتاء المثناة من فوق لتأنيث " الخيرة "، وأما الكوفيون فقد قرؤوها بالياء، لأن تأنيث " الخيرة " غير حقيقي وهي معنى الخيار، وحجتهم إجماع الجميع على قوله (ما كان لهم الخِيَرة) ولم يثبتوا علامة التأنيث في " كان ". انظر " حجة القراءات " ص 578، و" النشر في القراءات العشر " 2/ 348.
(4) في (ش): لأثر، وهو تحريف.(7/35)
ومادة هذا من علم الغيوب، لقوله تعالى: {وكُنَّا به عالِمينَ} [الأنبياء: 51]، {وأضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، " وأستخيرك بعلمك " رواه البخاري (1)، ومادة الثاني من القدرة.
فإن قيل: قد أجمعوا على أن الإراده أمر ثُبوتي وجودي، والاختيار هو الإرادة.
قلنا: هذا ممنوع باتفاقهم، أما الأشعرية فظاهرٌ كما نص عليه الرازي، واحتج عليه في " نهاية العقول " كما ذكرته أول هذا الكلام.
وأما المعتزلة فقد ذكر ابن متَّوَيه في " تذكرته ": قد ثبتت حيث ينتفي الاختيار، والاختيار قد يثبت حيث تنتفي الإرادة.
مثال الأول: إرادة المُلْجَأِ إلى فعل ما يدعوه الداعي إليه كالهارب من السبع، فإنه يضطر إلى الهرب ويريده ولفعله وليس بمختارٍ فيه.
ومثال الثاني: أنه متى حصلت القدرة والداعي وقع الفعل بهما وإن منع الله تعالى الإرادة، بل وإن خلق الكراهة. انتهى كلامه.
وذكر في موضعٍ آخر منها، وذلك في أواخر فصول الإرادة: أن الإرادة إذا قارنت الفعل ووقع بها على وجهٍ سُمِّيَتْ نِيَّةً، ودلَّت على ما في الضمير، وذلك لا يوصف بها الله تعالى. وأما ما يتعلق منها بالحدوث فلا يُسمى نية، قال: وكذا ما يتعلق منها بالكلام يُسَمَّى قصداً، حتى قال: ويشبه بالقصد قولنا: إيثارٌ واختيارٌ.
فدل على أن هذه الأسماء قد تُطلق على الإرادة عند تعلُّقاتٍ مخصوصةٍ، ووجوهٍ مختلفةٍ، تقع عليها الإرادة فتميز تلك الوجوه بعضها من بعض باختلاف
__________
(1) هو قطعة من حديث الاستخارة، وقد تقدم تخريجه، وانظر " البخاري " (1166)، و" صحيح ابن حبان " (886) و (887).(7/36)
هذه الأسماء، فخالفوا بين هذه العبارات لتدل على تلك المعاني المختلفات.
فدلَّ على أن الاختيار غير الإرادة، وعلى أن الاختيار قد يُطلق عليها (1) عند وقوعها على وجهٍ مخصوص، فهو في بعض اعتباراته وصفٌ من أوصافها، أو حالٌ من أحوالها.
فالإرادة بنفسها من غير نظرٍ إلى تعلقها بشيء، هي ذاتٌ حقيقية، ووجودها غير متعلقةٍ صحيحٌ عند المعتزلة، والعبد مكلف بتعليقها بوجوه الحسن دون القبح، وتخصيص الفعل بوقتٍ دون وقت، وقدرٍ دون قدر، وهذا التعليق والتخصيص هو بالاختيار لا بالإرادة، بل الإرادة فعلٌ للعبد يقع بالاختيار (2) فَافْتَرقا.
ولا يُنْقَضُ هذا بقول البيهقي في " الأسماء والصفات " (3): وأما الاختيار، فقد قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] وهو عند الأشعري يرجع إلى إرادته إكرام من يشاء [من عبيده بما يشاءُ من لطائِفِه]، وهو عند غيره من صفات الفعل، فلا يكون معناه راجعاً إلى الإرادة بمعنى، بل يكونُ راجعاً إلى فعل الإكرام. انتهى بحروفه.
والجواب: أنه لا يُنَاقِضُ ذكرنا عن الأشعرية، فإن الاختيار غير الإرادة على الحقيقة، ولكن الأشعري تأول الاختيار في حق الله تعالى بالإرادة على سبيل المجاز، كما تأول الغضب والسُّخط في حقه تعالى بإرادته الذم والعقاب، وتأول المحبة والرضا بإرادة الثناء والثواب، وهذا عنده في حق الله تعالى.
وأما في حق المخلوقين فلا يجب تأويل شيء من ذلك، بل تُستَعْمَلُ الإرادة، والاختيار، والغضب، والبُغْضُ، والمقت، والسخط، والمحبة،
__________
(1) " عليها " لم ترد في (ش).
(2) في (ش): بالإحسان، وهو تحريف.
(3) ص 504.(7/37)
والرضا (1)، كل واحدٍ في مدلوله الحقيقي اللغوي، لأنه لا مانِعَ عنده من استعمالها في حقائقها في المخلوقين.
وهذا التأويل الذي ذكره البيهقي عن الأشعري هو مذهب المعتزلة أجمعين في حق الله تعالى.
واعلم أنه لا يُفَرِّقُ بين هذه الأمور ويميزها (2) إلاَّ من عرف علم اللطيف، وهو فنٌّ مستَقِلٌّ من فنون الكلام، وللمعتزلة فيه " تذكرة " ابن متويه، وللأشعرية فيه " الملخص " للرازي.
وقد ذكر الغزالي في " المنقذ من الضلال " (3) تقصير المتكلمين فيه، لأنه ليس من مقصودهم الأول، وإنما عنى أن مقصودهم الذب عن الإسلام، ثم اضطروا إلى الكلام في بعضه، وإنما هو من مقصود علوم (4) الفلاسفة. فإذا كان المتكلمون قد قصروا فيه، فما ظنُّك بمن ليس من النظر في شيء إذا تعرض للخوض فيه، وإنما حملني على التنبيه على هذه الجمل (5) اليسيرة قَرْعُ أسماع الغافلين الخائضين في التضليل والتكفير بغير هُدَىً ولا كِتابٍ مُنِيرٍ.
فيا عَجَبَاهُ ممن يُكفر طوائف من المسلمين ولم يعرف ما قالوا، ولا هو أهلٌ لفهم ما قصدوا، ولا فهم ما خافوا وحَذِرُوا
ومن البَلِيَّةِ عَذْلُ من لا يَرْعَوِي ... عَن غَيِّهِ وخِطابُ مَنْ لا يَفْهَمُ (6)
__________
(1) من قوله " الإرادة والاختيار " إلى هنا، سقط من (ش).
(2) في (ش): وغيرها.
(3) انظر ص 92 - 93 منه.
(4) في (ش): علم.
(5) في (ش): الجملة.
(6) البيت للمتنبي وهو من قصيدة يهجو بها إسحاق بن إبراهيم الأعور ابن كيغَلَغ، وهي في " ديوانه " 4/ 121 - 132 بشرح أبي البقاء العكبري، ومطلعها:
لِهَوى النفوس سريرةٌ لا تُعْلَمُ ... عَرَضاً نَظَرتُ وخِلتُ أني أسلمُ
قال الصفدي في " الوافي بالوفيات " 8/ 401: وكان إسحاق هذا قد ولاّه المقتدر ساحل الشام، وكان جواداً ممدَّحاً شاعراً محسناً، توفي في حدود العشرين وثلاث مئة.(7/38)
فإن قيل: فكيف يصح من العبد أن يختار أمراً وذلك الأمر مخلوقٌ لله عز وجل، والمخلوق لله تعالى كائن قطعاً.
والجواب من وجهين: معارضة وتحقيق (1):
الوجه الأول: وهو المعارضة بالعلم الذي تُقِرُّ به المعتزلة، فإنه يقال لهم: كيف يصح اختيار العبد في معلوم الله تعالى؟ فما أجابوا به، فهو جواب أهل السنة.
الوجه الثاني: وهو التحقيقُ أن اختيار العبد سابقٌ لخلق الرب سبحانه سَبْقَ الشرط للعلة المؤثِّرَة كما سيأتي.
وهذا السؤال قد تكرَّر وتكرَّر جوابه، فلا يُضْجَرُ منه، فإنه لا يخلو من فائدة أو زيادة وضوحٍ وبيان، وذلك وإن تكرر وطال خيرٌ من الجهل بمذاهب الرجال.
وقد ذكر الرازي هنا معارضاتٍ للمعتزلة، قصد بها بيان أن مذهب المعتزلة ليس بأوضح من مذهبهم لاستلزام كل مذهبٍ في هذه المسألة للجبر ونفي الاختيار، لولا انفصال كل فِرقةٍ عن ذلك بالأنظار الدقيقة والاعتبارات اللطيفة، وقد مضى شيءٌ من ذلك عند ذكر مذهب المعتزلة أول المسألة.
فإن قيل: إن المؤثِّر في قبح القبائح هو الإرادة، يوضحه الحديث المتفق عليه وعلى حُكْمِه " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىءٍ ما نوى " (2) والنية:
__________
(1) عبارة " معارضة وتحقيق " سقطت من (ش).
(2) أخرجه البخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689) و (6953)، ومسلم (1907)، وأخرجه أيضاً مالك في " الموطأ " ص 401 برواية محمد بن الحسن، والطيالسي في " مسنده " ص 9، وأحمد 1/ 25 و43، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)، والنسائي 1/ 58 - 60 و6/ 158 - 159 و7/ 13، وابن ماجه (2427)، وابن منده في " الإيمان " (17) و (201)، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 42، وفي " أخبار أصبهان " 2/ 115 و222، والبغوي في " شرح السنة " (1).(7/39)
هي الإرادة بعينها، وإذا كانت الإرادة (1) هي المؤثِّرة، لزم (2) نسبة القبيح إلى الله لأنها أثَرُ قدرته.
فالجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنه لا يصح عند الجميع تأثير الإرادة في ذلك، بل ولا الاختيار، لأنهما يوصفان بالقبح، فلو كان القبح يستلزم ذلك احتاج قبح الإرادة وقبح الاختيار إلى إرادةٍ واختيارٍ سابقين، ويتسلسل إلى ما لا نهاية له.
ذكر ذلك ابن متَّويه في " تذكرته " في " الإرادة " دون الاختيار، وذكر وُجُوهاً أُخَر في الإرادة غير مؤثرة في ذلك.
منها: أن المُرِيد لو مُنِعَ من القصد، وهو عالمٌ بقبح القبيح يتمكن من التحرُّز منه، لكان إذا فعله يقبُحُ ذلك منه، ويستحق به الذم ولا إرادة هناك.
فإن قلت: فما المؤثِّر في ذلك، فإنه لا بد من مؤثرٍ معقول (3)؟ قلت: هذه غفلةٌ عظيمة، فإنا قد (4) قررنا أن الحسن والقبح ليسا بشيء البتَّة، فكيف يحتاج ما ليس بشيء حقيقي إلى مؤثِّرٍ حقيقي، وقد بينا أنهما يتعلقان بالتروك العدمية المحضة، والعدم يستحيل التأثير فيه، وإنما سُمِّيَ الوجه الذي نشأ منه الحسن والقبح مؤثِّراً فيهما على سبيل المجاز، وذلك الوجه هو الحال الذي وقع الفعل عليه فاستحق به اسم الحسن والقبح ولوازمهما، وهو أمرٌ دقيق.
وقد اشتد اختلاف المتكلمين في الأحوال: منهم من أثبتها كأبي عليٍّ الجُبَّائي من المعتزلة، والباقِلاَّني من الأشعرية.
ومنهم من نفاها. وقد طوَّل الشهرستاني في ذلك، وأَفْرَدَ الكلام فيه في
__________
(1) لفظ " الإرادة " سقط من (ش).
(2) " لزم " سقطت من (ش).
(3) " معقول " سقطت من (ش).
(4) " قد " لم ترد في (أ).(7/40)
مسألةٍ مستقلةٍ جعلها من مهمات كتابه، ويأتي في بيان الكسب إشارة يسيرة إلى معناها.
ومنهم من نفاها وجعلها مجرد عبارة، فإن صح ثبوت الأحوال وأنها أمور معقولة، فهو منشأ الحسن والقبح في الأفعال، وهي تُسمى موثرة فيهما مجازاً، وإن لم يصح ذلك كان الحسن والقبح معلومين بالإجماع، بل من ضرورة الدين وضرورة العقل عند المعتزلة وبعض أهل السنة، ولم يكونا مُعَلَّلَيْنِ، فليس كل معلوم معلَّلاً بمؤثرٍ متصورٍ في الذهن بالاتفاق كالتُّروك.
وقد دقَّ الأمر في هذا على المعتزلة كما دق على الأشعرية، ونُسِبَ إلى بعض أوائل المعتزلة أن القبيح قبيحٌ لذاته (1) والحسن كذلك، وهو قولٌ مرذولٌ عند المعتزلة، وللأشعرية عليه ردود ضرورية ذكروها في الكلام على التحسين والتقبيح العقليين.
ولذلك عوَّلت الأشعرية في هذه المسألة على السمع دون العقل، إلاَّ في صفة النقص كالجهل والكذب، وصفة الكمال كالعلم والصدق، واعترفوا بدَرْكِ العقل لها من دون أن يُدْرِك استحقاق الذم والعقاب على صفة النقص، ولا الثناء والثواب على صفة الكمال، فلا يعرف ذلك إلاَّ بالسمع عندهم، خلافاً للمعتزلة فإنهم جعلوا ذلك من المدارك العقلية، وليس اختلافهم إلاَّ في هذه النكتة على ما حققه الرازي.
الوجه الثاني: أن ابن متويه ذكر في " تذكرته " أن الإرادة إذا قارنت الفعل، ووقع الفعل بها على وجهٍ سُمِّيت نية، فأما تعلق الإرادة بمجرد (2) الحدوث فلا يسمى نية، لأن النية مفيدةٌ للضمير، فلهذا لا يصح استعمال هذه اللفظة في الله تعالى.
__________
(1) كتبت في (أ): لذلك، وفوقها: لذاته، وهي كذلك في (ش): لذاته، وهو الصواب.
(2) في (ش): فأما ما تعلق بمجرد.(7/41)
قال: وأما القصدُ، فيجب أن يكون مقارِناً للمراد، وأن يكونا معاً من فعل فاعلٍ واحدٍ، فلا يقع من أحدنا قصدٌ إلى فعل الغير، ولهذه (1) الطريقة تُسَمَّى الإرادة التي يقع بها الكلام خبراً قصداً، ولا يُسَمَّى ما يؤثر في كونه أمراً لمن هو أمر له مُسَمَّاه بأنها قصد هذا (2) التفصيل، ويشبه القصد من هذا الوجه قولنا: إيثارٌ واختيارٌ، لأن حكمهما حكمه (3) سواء. انتهى بحروفه.
واشتراطه في القصد (4) أن يكون فاعله فاعل المقصود، إن أردنا بالقصد الإرادة نفسها، فهي مسألة خلافٍ بين المعتزلة يأتي بيانها في الوجه الثالث إن شاء الله تعالى.
فإن أراد بالقصد وجهاً من وجوه تعلق الإرادة، فمُسَلَّمٌ وهو ظاهر مراده، وهذا الكلام يدل على أن للإرادة (5) تعلُّقاتٍ مختلفةً، بعضها: يتعلق بالحدوث، يتخصص الحدوث لأجله بوقتٍ دون وقت، وقَدْرٍ دون قدرٍ، فيسمى إرادةً ولا يُسمى نيةً، وبعضها: يتخصَّص بالوجوه المختلفة المُقتضية للحسن أو القبح، فتميز من بين سائر أقسام الإرادة بهذا المعنى، ويختص لأجل تميزه بهذا باسمٍ مُفرَدٍ: وهو النية التي توثر (6) في الأعمال، وهذا مطابِقٌ لما ورد به النص المتفق على صحته نقلاً ومعنىً وعملاً.
وهذا التعلق المخصوص الذي ميز هذا النوع من الإرادات هو أثر قدرة العبد وحدها، فلذلك نُسَمِّيه ناوياً وليس بمتعلِّقٍ بقدرة الله تعالى، ولذلك لم يصح إطلاق الناوي على الله تعالى، كما اعترف بذلك ابن متويه، وكما سيأتي تقريره في كلام الباقِلاَّني في تعريف معنى الأحوال.
وفي هذا جواب قول السائل: إن النية هي الإرادة، وبيانُ غَلَطِه في ذلك بإجماع المعتزلة والأشعرية بسبب افتراق العبد والرب في وجوه تعلق الإرادة.
__________
(1) في (ش): وبهذه.
(2) في (ش): ففيه هذا.
(3) " حكمه " لم ترد في (ش).
(4) في (أ): القصر، وهو تحريف.
(5) في (أ): الإرادة.
(6) في (ش): لا تؤثر، وهو خطأ.(7/42)