الحال بين الفطرة وضدها مع وجوب الخاطر عند اعتقاد الباطل دون الحق.
جواب آخر: وهو أن الخلاف قد ثبت في العلوم الضرورية، وللمخالفين (1) في ذلك سُنة معروفة، يصعب جوابها على العامة ضرورة، وأما (2) الخاصة، فإنما يسلكون في ردها مسلك السنة وأهلها في الرد على المبطلين، وذلك لأن ردها بالاستدلال محال، فإنها تشكك (3) في مقدماته الضرورية التي نشأ عليها، فثبت أن أهل الكلام رجعوا إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله " (4) الحديث.
فإن قيل: قد شكيت الوسوسة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تنافي الجزم، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن النظر في الأدلة لا يقطع الوسوسة، وقد قال الخليل عليه السلام: {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260}، وهذا مشترك الإلزام، فما أجابوا به فهو جوابنا.
__________
(1) في (ش): فللمخالفين.
(2) في (ش): فأما.
(3) في (ش): تشكيك.
(4) أخرجه من حديث أنس بن مالك: البخاري (7296)، ومسلم (136). ولفظه: " قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (3276)، ومسلم (135)، وأبو داوود (4721). ولفظه: " لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله ".(3/392)
والثاني: أنها لا تناقض (1) الجزم؛ لأن متعلقها مختلفٌ غيرُ متَّحدٍ، والجزم من فعل الله تعالى إن كان ضرورياً، ومن فعل العبد أو آثار فعله إن لم يكن ضرورياً، والوسوسة ليست من فعل العبد قطعاً؛ لأنَّها ضرورية، غير واقفةٍ على اختياره، وهي من فعل الشيطان، لما (2) ورد من النصوص الصحاح في الأمر بالتَّعوُّذ (3) منه عند ذلك، ولما يشهد بذلك من القرآن الكريم من نسبة جميع ما يعارض الحق والنبوات إلى الشيطان، وهذا (4) في حق من لا ذنب له، والسمعُ دلَّ (5) على أن من هذا حالُه، فإنَّ الله يهديه، ويشرح صدره للإسلام، ويمنع (6) رجحان ظن الباطل. والعقلُ عند المعتزلة يوجبُ ذلك مع السمع في حقِّ المطيع والعاصي، فلا يخاف من هذا على قواعدهم مطلقاً.
وأما من يستحق العقوبة بسلب اللُّطف عند أهل السنة، فقد يُعَاقَبُ من جهة الله تعالى بذلك (7)، وبأكثر منه (8)، كما لم يُؤمنوا به أوَّل مرَّة كما قال تعالى، وكما خالفوا الفطرة التي فطرهم عليها وغيَّرُوها، وكما حكى سبحانه من التيسير للعسرى، وكما سيأتي (9) مشروحاً واضحاً في مسألة الأفعال، ومسألتي الأقدار والمشيئة، وبيان ذلك وقوع الوسوسة في الضروريات مع الموسوسين.
__________
(1) في (ج): أنه لا يناقض.
(2) في (ش): كما.
(3) في (ش): من التعوذ، وهو تحريف.
(4) في (ش): وهي.
(5) في (ش): دال.
(6) في (ش): ويمتنع.
(7) في (ش): عند ذلك.
(8) ساقطة من (ش).
(9) في (ج): يأتي.(3/393)
وأما الطمأنينة التي تنتفي معها الوسوسة، فإنها موهبة من الله تعالى بالاتفاق، لأنها ضرورية غير واقفة على اختيار العبد، وقد يكون سببها مشاهدة الخوارق كما في قصة الخليل عليه الكلام، وقد يكون سببها كثرة اليقين والتصديق بوقوع الخوارق حتى يكون (1) السامع للأخبار كالمعاين.
وأساس هذا كثرة المعرفة لكتب معجزات الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم، ومن أنفس ما صُنِّفَ في ذلك: كتاب " الشفاء " (2) للقاضي عياض، وأنفس منه أوائل " البداية والنهاية " (3) لابن كثير.
وقد يكون سببها كثرة الصلاح.
وأبعد أسبابها النظر على طريقة المتكلمين، بل هو منافر لها، لأنه عند أهله مبني على الشك، إذ لا يصح النظر عندهم في المقطوع بصحته.
والجواب عليهم (4): أن معرفة الله جلية في الفطرة، سابقةٌ للشك كما قال تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [إبراهيم: 10]، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث، والشك لا يحل إلا أن يقع بغير اختيار، فيعفى عنه لقول الخليل: {ولكن ليطمئن قلبي}، وللنصوص الصحاح.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) انظر الجزء الأول منه ص 246 - 368.
(3) في (أ): الهداية، وهو تحريف. وانظر المعجزات فيه من الصفحة 67 إلى الصفحة 304 من الجزء السادس منه.
(4) ساقطة من (ش).(3/394)
وهنا (1) جواب آخر على أصل السؤال وهو قولهم: بم يُميِّزُ المقلِّد المسلم نفسه عن اليهودي المقلِّد، وذلك أن نقول (2): هذا السُّؤال مبنيٌّ على التسوية بين الظنون والقرائن، وذلك غير مسلم، والتفرقة بين ذلك جلية فطرية، لأن الله تعالى خلق الخلق على فطرة الإسلام كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
واتفق الجميع على صحة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كل مولود يولد على الفطرة (3)، وإنَّما أبواه يهودانه وينصِّرانه "، وهذه الفطرة عند أهل المعارف علمٌ ضروريٌّ، وعند غيرهم ما يقاربه ويُسمى باسمه، ولا يكاد يتميز عنه من اليقين (4) المستند إلى مجموع قرائن لا يمكن التعبير عنها، فكيف لا يتميز الفرق بين ذلك وبين ما يُعارضه من وسواس الشياطين، وكيف لا نُدركُ الفرق بين ذلك بضرورة الفطرة المخلوقة بعدل الله تعالى، وفضله، وحكمته، وكمالِ حجته.
والتحقيق على أصل الجميع أن ظن الباطل لا يكون راجحاً في الابتداء، ولا يترجح إلا بالعقوبة المستحقة، وما لا يكون راجحاً، لا يكون في مخالفته مضرَّة (5) مظنونةٌ، ولا يجبٌ الاحتراز منه، وظن الحق
__________
(1) في (ج): وهذا.
(2) في (ج): يقال.
(3) في (أ): فطرة الإسلام.
(4) في (أ) زيادة، وعبارته: " ولا يكاد يتميز عنه من الشياطين وكيف لا ندرك الفرق اليقين ... ".
(5) في (أ): ضرورة، وهو تحريف.(3/395)
راجحٌ بالفطرة الأولة (1)، وفي مخالفته مضرة مظنونة، ودفع المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، وقد أخبر الله تعالى أنه كفَّر سيئات الذين آمنوا بما نُزِّل على محمّد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الحق من ربهم تعالى، وأصلح بالهم (2)، وعلل ذلك بأنهم اتبعوا الحق من ربهم، بخلاف الذين كفروا واتبعوا الباطل (3)، والذين (4) اهتدوا زادهم هُدى وآتاهم تقواهم (5).
والعاميُّ يدرك ذلك، فإن العامي إذا أخبره كثير ممَّن يثق به غاية الثقة بأمرٍ موافقٍ للفطرة والشُّهرة، ثم عارضه من يستند إلى معرفة العامي أنه كذابٌ، أو يكون عند العامي مجهول الحال، فإن العامي يدرك التفرقة بين ظنَّه المستند إلى خبر الثقة المخبور المأمون، الموافق للفطرة والشهرة، وبين ظنِّ مخالفة المستند إلى قول الكذَّاب، أو المجهول، بل لا يُسمِّيه ظناً حتى يحتاج إلى فارقٍ، بل يقطع أنَّه باطل، وهذا مثالٌ نقيس عليه سائر القرائن (6)، فإنَّ التفرقة بين الظُّنون والقرائن ضروريةٌ غير مفتقرةٍ إلى الطلب، وقد دلَّ على ذلك السمع، حيث قال الله تعالى: {إن بعض الظن إثمٌ} [الحجرات: 12] فلو لم يكن بين الظن الصحيح والظن الباطل فرق، لكان الظن كله حراماً أو حلالاً، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الظن المحرم هو الذي لا (7) يستند إلى قرينةٍ صحيحةٍ،
__________
(1) في (ج): الأولية.
(2) في (ش): وأكد بأعمالهم، وهو تحريف.
(3) في (ب): الشياطين.
(4) في (ج): وقال: والذين ...
(5) انظر الآيات (2 و3 و17) من سورة محمد.
(6) في (أ): القرآن، وهو تحريف.
(7) في (أ) و (ب): لم.(3/396)
والظنُّ الجائز مخالفة منهم (1)، فقد تطابق العقل، والسمع (2)، والخاصة، والعامة على التفرقة بين الظنون والقرائن، وكيف لا يكون ذلك، وجميع أفعال العقلاء مبنيَّةٌ على الظنون والترجيح بين المتعارض (3) منها، فعمَّال الآخرة يعملون على ظن الإصابة، والقبول، وحسن الخاتمة، وعمال الدنيا كذلك، فالزراع يزرع على ظن التمام، والتاجر يسافر على ظن الفائدة، والملوك يحاربون على ظن النصر، والفقهاء يفتون على ظنِّ الإصابة، والمراض (4) يتداوون على ظنِّ النفع، والمؤرخون يؤرخون على ظن التصديق، وأهل العلم يحكون ما قالوهُ على ظن الصدق، والخلق يسأل بعضهم بعضاً، ويكتب بعضهم إلى بعضٍ، كل ذلك على أن الظنون معمول بها، ومتميز راجحها من مرجوحها، وقويُّها (5) من ضعيفها، وغالبُها من مغلوبها (6)، وربما احتفّ (7) بالخبر من القرائن ما يرفعه إلى مرتبة الضرورة، ولا سيما في معرفة الله تعالى، وصدق رسله (8) التي هي الفطرة بالنص الصحيح (9)، ولا سيما وطائفة جلَّةٌ من حُذَّاق المتكلِّمين يقولون: إن معرفة الله تعالى ضرورية، والطائفة الأخرى يقولون: إنها قرينة جلية، فلا شكَّ في قوة القرائن الموافقة لذلك الَّتي مادُّتها من كلمات الله التي لا ينفدها البحر يمُدُّه من بعده سبعة أبحر، والتي (10) مثَّلها الله تعالى في كثرة موادِّها، لا في
__________
(1) في (ب): " والظن الجازم مخالف لهم ". وبعد هذا بياض في جميع النسخ.
(2) في (ب): السمع والعقل، وفي (ش): أهل العقل والسمع.
(3) في (ش): المتعارضين.
(4) في الأصول " أمراض ".
(5) في (أ) و (ب) و (ج): وقوتها، وهو خطأ.
(6) تحرفت في (ش) إلى " مغلولها ".
(7) في (أ): أحيف، وهو تصحيف.
(8) في (ب) و (ش): رسوله.
(9) في (ب) و (ش): الصريح.
(10) في (ش): التي.(3/397)
مقدارها {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، ومثَّلها سبحانه بكلمةٍ طيبةٍ أصلُها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلها كُلَّ حين، فيا عجباً، كيف يدق الفرق بين الظن الموافق، وظن كلمة الباطل المشبهة بشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟ وبظلماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ، يغشاه موجٌ، من فوقه موج، من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نُورٍ.
بل المعلوم للعقلاء أنَّه لا يحصلُ ظنٌّ راجح بما خالف الفطرة والبراهين الجلية، اللهم إلا أن يعاندوا في أول الأمر، ويعارضوا الظن الراجح بالشك المساوي، بل الوهم المرجوح، فيخذلهم الله كما لم يؤمنوا به أول مرة، ويعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، ويكونوا من الذين في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضاً. الآيات في أول البقرة، ومن الأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فهؤلاء لا يعدلون عن آيات الله تعالى بعد أن جاءتهم مبصرة، واستيقنتها أنفسهم إلى الشُّبه الخيالية، والمتشابهات الوهمية التي يتبعها الذين في قلوبهم زيغٌ ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وقد أخبر الله تعالى في مُحكَم كتابه: إنما أنزل المتشابه ليهدي به كثيراً، ويضل به كثيرا، وما يُضِلُّ به إلاَّ الفاسقين.
فكيف لا يعرف العاميُّ الفرق بين الفطرة والبدعة، والفرقُ بينهما ضروري من جملة الفطرة، فإنَّ الدين الحق إذا كان هو الفطرة، فمعرفته،(3/398)
والطمأنينةُ به، وشرح الصدر، ونكارة ضده من الفطره أيضاً.
فإذا تقرَّر أنَّ معرفة العامي للفرق بين القرائن أمر جلي فطري، كان فرقه بين القرائن المولِّدة لظنِّه من قبيل العلوم الضرورية، فإنه -وإن لم يعلم أن ظنه مطابق لمظنونه- فإنه يجزم باعتقاد ذلك، ويعلم أن القرينة الدالة على حسن العمل بظنه قرينة صحيحة مقتضية لحسن العمل به بالفطرة الضرورية، كما أن الناظر يعتقد أن استدلاله -وإن كان يصحبه الوسوسة، وتجويز ورود الشُّبهة عليه- فإنه قد بناه على قواعد علمية، ومقدماتٍ يقينيةٍ، بل ضرورية عند المحققين.
ومثال ما ذكرناه في حق المقلد: ما يذكره المتكلِّمون، وأهل الأصول في تجويز التقليد في الفروع للمسلم العامي متى قلَّد مسلماً عالماً بالفقه، وتحريم مثل ذلك على اليهودي العامِّي متى قلَّد يهودياً عالماً بشريعة موسى عليه السلام، وكما أن العامي المقلد للعالم المسلم يجوز له ذلك، ونجد فرقاً بين ذلك، وبين تقليد العامي اليهودي للعالم اليهودي، فكذلك العامي المسلم المقلد في الأصول للأنبياء والصالحين وعلماء المسلمين الذين يعرفهم، وتتحقَّق أمانتهم، ونجد خبرهم موافقاً (1) للفطرة الضرورية التي فطره وربُّه سبحانه عليها، نجد فرقاً بما (2) عرفه من ذلك وبين اليهودي المقلد في أصول دينه للخرَّاصين والمجاهيل من كذبة اليهود وكفرتهم الذين عُلِمَ كذِبُهم أو جُهِلَ حالهم، وإن كان العامي اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك، فالعامي المسلم يعلم فساد اعتقاده، كما يعلمه الناظر المسلم، وذلك بما قدَّمنا من أن علمه بصحة قرائنه وقوتها ورجحانها
__________
(1) في (ش): موافق، وهو خطأ.
(2) في (ش): ما، وهو خطأ.(3/399)
فطريٌّ ضروريٌّ، وإن كان المتولِّد عنه ظناً، إذ لا رابطة عقلية بين القرائن المعلومة ضرورة، وبين مدلولاتها المظنونة، بل المسلم العامي المقلد في الأصول للأنبياء كالعامي المسلم المقلِّد في الفروع للعلماء في التمكن (1) من معرفة الظن الراجح والمرجوح، والتَّفرقة بينهما، وفي أنه لا بد من تسلسل هذه الظنون إلى علومٍ فطرية جلية، وهي (2) إما العلم بحسن العمل بالظن الصحيح الذي لم يعارض المعلومات أو العلم بصحة القرينة، ولذلك سُمِّي الفقهاء علماء، فإنَّ طرق الفقه وإن كانت ظنيَّة - لكن وجوب العمل بها مستند إلى العلم القاطع، فالظن حصل في طريقها (3)، لا في وجوب العمل بها.
جواب آخر: بل القرائن المقتضية لظن الأمر تقتضي بالضرورة ظن بطلان معارضه، ويستحيل الجمع بين ظن صحة أمر، واعتقاد صحة ظن (4) ما يضاده، فكيف يقال فيما يستحيل اجتماعهما: ما الفرق بينهما؟ بل نقلب السؤال على من سأل عن الفرق، فيقال: من أين جاء الاشتباه؟ فإن قال: من حيث إنَّ كلَّ واحد من المُحِقِّ والمبطل يعتقد ذلك في نفسه ومخالفه.
قلنا: وكذلك (5) أهل النظر من المحقِّين والمبطلين يشتبهون من هذه الحيثية، فكما أن النظر الصحيح يميز الفاسد في العلماء، فكذلك
__________
(1) من قوله: " بل المسلم " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ش): طرقها.
(4) " ظن " ساقطة من (ب).
(5) في (ج): فكذلك.(3/400)
الظن (1) الصحيح يميز الفاسد في العامة.
وجواب آخر: وذلك (2) أنه لو لم تكن الظنون وقرائنها ومراتبها متميزة بعضها عن بعض، لم يمكن (3) المجتهدون (4) من علماء الفروع أن يرجِّحوا قولاً على قول، ولاتسعت المناظرة بينهم، بل قد صح تمييز المقلدين لهم لمراتبهم، حتى أوجب بعض أهل (5) النظر على العامي تقليد الأعلم الأورع -في ظنَّه- على الإجمال، أو الأقوى (6) دليلاً في المسألة على التفصيل، وممَّن (7) اختار ذلك المؤيد بالله، نصَّ عليه (8) في " الزيادات "، ولا يعارض هذا بالقول بتصويب كلٍّ من المجتهدين، فإنه إنَّما قيل به بالنَّظر إلى مطلوب الرَّبِّ سبحانه منهم، لأنه سبحانه إنما طلب منهم أن يجتهدوا في طلب الصواب، لا في إصابته، كما طلب من رماة المجاهدين أن يجتهدوا في إصابة الكفار، ولم يطلب منهم أن يُصيبوا في رميهم، وذلك من عدل الله سبحانه ورحمته، حيث علم أنه لا طريق لهم، ولا طاقة سوى الطلب، فقد أصابوا مُراد الله تعالى، وهو الاجتهاد في طلب الإصابة، ولم يصيبوا مطلوبهم الذي هو الإصابة، فالذي تحرَّى القِبْلَةَ كالذي يرمي الكُفَّار في الجهاد، يصيب ويخطىء، وهو في إصابته وخطئه مصيبٌ لمراد الله في طلب الصواب، فبان أنَّ ها هنا مطلوبين اثنين:
__________
(1) في (ش): النظر.
(2) في (ج): وهو.
(3) في (ب) و (ش): يكن.
(4) في (ب): للمجتهدين.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): والأقوى.
(7) في (ش): ومما، وهو خطأ.
(8) " نص عليه " ساقطة من (ج).(3/401)
أحدهما: لله تعالى، وهو طلب الإصابة للحق لا سوى.
وثانيهما: مطلوب المجتهد، وهو إصابةُ عين ذلك الحق المشروع المطلوب، كالكعبة به في تحري القبلة، والخطأ الذي يطلق على المجتهد، بل على المعصوم هو الخطأ الذي نقيضه (1) الإصابة كخطأ الرامي للكافر مع أيه مصيب لمراد الله تعالى في رميه متعين الخطأ الذي نقيضه الصواب كفعل المحرمات.
فأما القول بأنه لا مطلوب متعين، فمحال، لأن الطلب يفتقر إلى مطلوبٍ سابقٍ للطلب يتعلق به الظن، كالكعبة في تحرِّي القبلة، وهذا التلخيصُ مما ألهم الله سبحانه إليه، ولم أقف عليه لأحدٍ من العلماء، ولا عرضتُه على من عرف معارضاتهم (2) في هذه المسألة إلاَّ استجاده لتقريره لأدلَّة الفريقين، ورفعه لِمَا أورد بعضهم على بعض من الإشكالات الصعبة، ولله الحمد والمنة.
ثم إني وقفت عليه بعد مده طويلة اختياراً للعلاَّمة محمد بن جرير الطبري، رواه عنه ابن بطال (3) في أواخر شرح " صحيح البخاري " أظنه في الكلام على مُحاجَّة آدم وموسى في أبواب القدر، فعرفت ما كنت
__________
(1) في (ج) و (ش): " تقتضيه "، وهو خطأ.
(2) في (ش): معارضتهم.
(3) هو العلامة أبو الحسن عليُّ بن خلف بن بطال البكري القرطبي، ثم البلنسي، ويعرف بابن اللجام نسبة إلى عمل اللجم.
قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة والفهم، مليحَ الخط، حسن الضبط، عُني بالحديث العناية التامة، وأتقن ما قيد منه، وشرح " صحيح البخاري " في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستُقضي بحصن لورقة، وحدَّث عنه جماعة من العلماء، توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربع مئة. مترجم في " السير " 18/ 47. =(3/402)
أظنه من أنَّ مثل ذلك في وضوحه لا يخلو من قائل يقول به.
وأما القول بأنَّ بعض الخطأ في الظنون يُعفي عنه، كالخطأ في فروع الإسلام، وبعضها لا يعفى عنه، كالخطأ في مخالفة الإسلام، فلذلك متعلق آخر، ودليل يرجع إلى السمع، وله من النظر وجهٌ واضحٌ، وهو أن العمل بالظن حَسَنٌ عقلاً، ما لم يعارض العلم بل لم يعارض ما رجحانه عليه كلمةُ إجماع، أو بيِّن (1) مكشوف القناع، وكلُّ ذلك مما ليس فيه نزاعٌ، ولا يجهلُه أحدٌ من الرعاع (2)، فَمَنْ عَلم الله أنه عاند الحق المعلوم أو المظنون، فهو الذي يستحقُّ العقوبة، وإن ظن بعد عناده أنه مُحِقٌّ، ثم الذين عاندوا منهم من أعلمنا الله تعالى بأنه علم عناده كالكفرة، فيقطع بذلك، ومنهم من لم يُعلمنا سبحانه بذلك في حقِّهم (3)، مثل المبتدعة من المسلمين، وكل أمرهم إلى الله تعالى، وستأتي الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى تعجيل يوم الفصل قبل يوم القيامة، وأنه لا يُخرجُ اللجاج من أدمغة أهل المِراء إلاَّ الحديد الذي أنزل الله تعالى مع القرآن، بل حكى سبحانه في محكم كتابه عن المعاندين إصرارهم على العناد يوم القيامة بما لا يُمْكِنُ تأويله، وذلك قولهم لجوارحهم حين أنطقها الله تعالى: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21]، فبان بما ذكرنا هنا مع ما تقدم عند ذكر الظنون وحسن العمل بها، والجواب عن من يردُّ على ذلك: أنَّ عامة المسلمين على سبيل هذا،
__________
= قلت: وشرحُه للصحيح لما يُطبع، وانظر التعريف بنسخه الخطية الموجودة في المكتبات العامة في " تاريخ التراث العربي " 1/ 229 لسزكين.
(1) في (ج): " تبيين " وهو خطأ.
(2) من قوله: " بل لم يعارض " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) في (ش): في جمعهم.(3/403)
والحمد لله رب العالمين.
وقد اعترض صاحب هذه الرسالة المردودة بهذا الجواب على هذه (1) الطائفة من أهل السنة في تركهم للخوض في الكلام بأمورٍ ذكرها في رسالة أخرى، فمنها دعوى (2) مخالفة إجماع (3) أهل البيت عليهم السلام.
والجواب عليه: أنه (4) إمَّا أنْ يدَّعي إجماع القُدماء من أهل البيت عليهم السَّلام أو المتأخرين، وكلاهما ممنوع أمَّا القدماءُ (5) فقد وردت عنهم النصوص الكثيرة بمذهب (6) أهل الحديث، وصنف في ذلك محمد ابن منصور الكوفي كتابه المعروف بكتاب " الجملة والألفة " كما تقدم، وسيأتي.
ورواه نصاً (7) من كلام عبد الله بن موسى، والقاسم عليهم السلامُ، وغيرهما من أئمَّة العترة الطاهرة عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام، وسيأتي من ذلك طَرَفٌ صالح في مسألة القرآن، وذلك موجود في كتب أهل البيت عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام، ومن لم يثبت عنه في ذلك (8) قولٌ، فعمله (9) بمقتضى مذهبِ أهل الحديثِ، وكيف يصحُّ له
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): " دعواه "، وهي ساقطة من (ج).
(3) ساقطة من (ش).
(4) " أنه " ساقطة من (ج).
(5) " أما القدماء " ساقطة من (ب).
(6) في (ب): لمذاهب.
(7) في (ج) و (ش): أيضاً.
(8) " في ذلك " ساقطة من (ش).
(9) في (ب): فعلمه.(3/404)
القطعُ بذلك، وهذه نصوصُ أمير المؤمنين علي عليه السلام وأفعاله في تقرير العامة تدلُّ على ما ذكرناه كما جاء مسنداً من رواية السيد أبي طالب عليه السلام في " أماليه "، ومرسلاً من رواية صاحب " نهج البلاغة "، وذلك قوله عليه السلام: فعليك أيُّها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته، وتقدَّمك فيه الرسل (1) بينك وبينَ معرفته إلى قوله في صفة الراسخين: اعلم أيَّها السائِلُ أنَّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السُّدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: آمنَّا به كُلٌّ من عند ربنا، فمدح اللهُ اعترافهم بالعجز عن تناولِ ما لم يُحِيطُوا به علماً، وسمَّى تركهمُ التَّعمُّق فيما لم يُكلِّفهُم منهم رسوخاً، فاقتصر على ذلك (2). انتهى كلامه عليه السلام.
وأصرحُ منه قوله في وصيته لولده الحسن عليهما السلام، وهي مستكملة في النُّسخ الصحيحة من " النهج " كما شرحها ابن أبي الحديد بكمالها، لم يُسقِطْ منها شيئاً (3)، وفي بعض نُسخ الشرح سقوط أشياء منها يسيرة، وفي " أمالي " السيد أبي طالب عن السيد أبي العباس عليهما السلام قطعةٌ وافرةٌ منها، وإشارة إلى روايات لم يورداها بذلك الإسناد.
وقد شرح ابن أبي الحديد هذا القدر الذي نقلتُه، ولم يطعن في ثُبوته مع مخالفته لمذهبه، وركُوبه العناد في تأويله، وهو قوله عليه السلام: ورأيت حين (4) عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) " شرح نهج البلاغة " 6/ 403 - 407.
(3) في (ش): شيء.
(4) في " شرح النهج " 16/ 67: حيث.(3/405)
يكون ذلك وأنت مُقْبلُ العمر مُقتَبَل (1) الدَّهر، ذو نيّةٍ سليمةٍ، ونفسٍ صافيةٍ، وأن أبتدئك بتعلم كتاب الله عزَّ وجل، وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامِه، وحلاله وحرامه، لا أُجاوِزُ ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن (2) يلتبس عليك ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام (3) ذلك على ما كَرِهتُ من تنبيهك له أحبَّ إليَّ من إسلامك إلى أمرٍ لا آمنُ عليك فيه الهَلَكَةَ، ورجوت أن يوفقك الله فيه لرُشدك، وأن يهديك لقصدك، واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذٌ به [إلي] من وصيَّتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأوَّلون من آبائك والصالحون (4) من أهل بيتك، فإنهم لم يُدعُوا أن ينظروا (5) لأنفسهم كما أنت ناظرٌ، وفكروا كما أنت مُفكِّرٌ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمَّا لم يكلفوا، وإن أبت نفسك (6) أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلُّمٍ، لا بتورط الشبهات، وغُلُوِّ الخصومات إلى آخر ما ذكره عليه السلام في هذا المعنى وتأوَّله ابن أبي الحديد بما يستحيى من ذكره من أن ذلك لعلم عليٍّ عليه السلام بقصور الحسن عليه السلام عن درك هذا
__________
(1) في " القاموس " و" شرحه ": واقتَبَلَ أمره: استأنَفَهُ، ومنه رجلٌ مقتبل الشباب -بفتح الباء-: لم يظهر فيه أثر كبرٍ، كأنه يستأنفُ الشباب كلٍّ ساعة، وهو مجاز، قال أبو كبير الهذلي:
ولرُبِّ من طأطأته بحفيرةٍ ... كالرُّمح مُقتبَل الشبابِ مُحَبر
(2) في (ش): عليك أن.
(3) في (ش): " وكانوا حكام "، وهو خطأ.
(4) في (أ): الصالحين.
(5) في " شرح النهج " 16/ 70: نظروا.
(6) في (ش): وإن أبيت.(3/406)
العلم. فكفى شاهداً ببطلان هذه البدعة ما أدَّت إليه من تفضيل شرِّ القرون على ريحانة سيِّد البشر، وعلى سيدي شباب أهل الجنة شَبِير وشَبَّر (1)، وكونها لا تصِحُّ إلا مع (2) تعسُّف التَّأويلات الباردة (3) لكتاب الله عز وجل، ثم لسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لِظواهر أحوال السلف، وأفعالهم، وتقريراتهم، ثم لنصوص الأئمة من أهل بيت رسول الله (4). وكيف يظن بأمير المؤمنين أنه يجعل وصيته لولده الذي تخوَّف عليه الشبهات، ونصيحته التي يُخلِّفها له ولمن بعده بعد الممات من أغمض المتشابهات، وأدقِّ الشبهات، هيهات هيهات، لولا دفعُ الضرورات، وابتغاءُ الفتنة بالتَّأويلات كما هو شعارُ (5) الذين في قلوبهم زيغٌ بنصِّ أمِّ الآيات المُحكَمات.
وأمّا المتأخرون منهم، فقد ذكر (6) المنصورُ بالله عليه السلام في " المجموع المنصوري ": أنّه لا يمكن معرفة اجتماعهم كما سيأتي لفظه في ذلك، واحتجاجه، وهذا هو اختيار الإمام يحيى بن حمزة، والرازي والمحققين، وهو الذي تقومُ عليه الأدلة الوجدانية.
وقد ذكر ابنُ حزم في " جمهرة النسب " في أنساب الطَّالبية،
__________
(1) أخرج الطبراني في " الكبير " (2777) من طريق محمد بن عبد الله الحضرمي، عن عبد الله بن عمر بن أبان، عن يحيى بن عيسى التميمي، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، قال علي: كنت رجلاً أُحبُّ الحرب، فلما ولد الحسن، هممت أن أسميه حرباً، فسماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحسن، فلما وُلد الحسينُ، هممت أن اسميهُ حَرباً، فسماه الحسين، وقال: " إنني سميتُ ابنيّ هذين باسمِ ابني هارون شبر وشبير ".
(2) في (ش): معها.
(3) في (ش): النادرة.
(4) من " ثم لظواهر " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) من قوله: " وأدق الشبهات " إلى هنا ساقط من (ب).
(6) في (ش): نص.(3/407)
وغيرُ ابنِ حزم من النَّسابين ما يعلَمُ العارِفُ به صدق قولِ المنصور عليه السلامُ، ومن قال بقوله.
ولنذكر هنا طرفاً يسيراً من ذلك على جهة التنبيه على ما عداه، فنقول: ذكر ابنُ حزم في " جمهرته " (1) من دُعاة أهل البيت، وساداتهم، ومحدِّثيهم خلقاً كثيراً، وأشار إلى ما لا يُحصى من ذُرِّياتهم، وجملة من سمَّى من دعاتهم الذين لا يُعرفُون في بلادنا، وعندَ علمائنا قَدْر خمسةٍ وعشرين داعياً أكثرهم في الغرب، وذكر أنه لهم في اليمامة دار مُلكٍ (2)، وأنهم فيها داع (3) بعد داع غير هؤلاء الخمسة والعشرين (4)، وذكر (5) من سادتهم الذين لم يدعوا جعفر بن عبيد (6) الله بن الحسين بن علي بن الحسين (7) كانت (8) له شيعة يُسمُّونه (9) حجة الله، وسيأتي ذلك مبسوطاً عند ذكر (10) ردِّ دعوى الإجماع على تكفير أهل الأثر الذين يؤمنون بالجُمل، ولا يتكلمون في تأويل القرآن، ودع عنك كلام ابن حزم، فإن السيد العلامة أبو عبد الله الحسني ذكر في كتابه " الجامع الكافي " (11) على مذهب (12) الزيدية عن محمد بن منصور، والحسن بن يحيى بن الحسين
__________
(1) ص 37 - 65.
(2) في (ب): مملكة.
(3) في (ش): وأن لهم فيها داعياً.
(4) في (ش): " والعشرون "، وهو خطأ.
(5) في (ش): وذلك، وهو خطأ.
(6) في (أ): عبد.
(7) " ابن علي بن الحسين " ساقطة من (ب).
(8) في (ج): كان.
(9) في (أ): تسمى به، وهو تحريف.
(10) " ذكر " ساقطة من (ش).
(11) " الكافي " ساقطة من (أ).
(12) في (ب): في مذاهب، وفي (ج): في مذهب.(3/408)
ابن زيد بن علي عليهم السلام، وأحمد بن عيسى، وكثير من قدماء العترة مثل مذاهبِ أهل السنة كما مضى بعضُه ويأتي بعضه، وذكر الحسن بن يحيى في الفُروع كلها ولا يعرفه أهل الديار اليمنية الآن (1) ولا يروون (2) مذاهبه (3).
وقد أشار جماعة جلة من أهل البيت عليهم السلام إلى الاقتصار على الجُمَل في العقائد، ومنعوا من التعمق في علم الكلام، والخوض فيه، وصنف في ذلك محمد بن منصور كما تقدم، وصرَّحوا بتضليل المعتزلة والجبرية، والغُلاة، والروافض، والنواصب، وأمثالهم، وصنَّفوا في ذلك الكُتُب، وقالوا فيه الأشعار والنُّخَبَ (4)، فمن ذلك قولُ السيد الإمام (5) يحيى بن منصور بن العفيف (6) بن مُفَضَّل رحمه الله في ذكر المعتزلة:
ويرون ذلك مذهباً مُستعظماً ... عن طول أنظارٍ وحُسنِ تفكُّر
ونسُوا غنا الإسلام قبل حدوثهم ... عن كل قولٍ حادث مُتأخِّرِ
ما ظنُّهم بالمصطفى في تركه ... ما استنبطوه ونهيه المُتكرِّر
أعلى صوابٍ أمْ على خطأٍ مضى ... فَمَنِ المُصِيبُ سوى البشير المنذر؟
أيكُونُ في دين النَّبيِّ وصحبه ... نقصٌ، فكيف به ولمَّا يشعرِ؟
__________
(1) ساقطة من (أ) و (ب).
(2) في (ب): يرون، وهو تحريف.
(3) هنا بياض في جميع الأصول قدر كلمتين، وذكر في هامش (ش) أنه بياض في الأم. ولا يوجد هذا البياض في نسخة (د).
(4) في (ب): النجب.
(5) ساقطة من (ش).
(6) " بن العفيف " ساقطة من (ب)، و" ابن العفيف بن المفضل " ساقطة من (ج).(3/409)
أوليس كان المصطفى بتمامه ... وبيانه أولى، فَلِمْ لم يُخبرِ؟
ما بالُهُ حتى السواك أبانه ... وقواعد الإسلام لم تتقرَّرِ
إن كان رب العرش أكمل دينه ... فاعجب لمبْطِنِ قوله والمظهر
أو كان في إجمال أحمدَ غُنْيَةٌ ... فدع التكلف للزيادة واقصِرِ
ما كان أحمدُ بَعدَ منعٍ كاتماً ... لهدايةٍ كلا وربِّ المِشْعرِ
بل كان ينكر كلَّ قولٍ حادثٍ ... حتى الممات فلا تشك وتمتري
وكذا القرابة والصحابة بعده ... ما بين راوٍ ضابطٍ ومُفسرِ
أو بين هادٍ للأنام بعلمه ... أو مُوردٍ لغريبة أو مُصدِر
كخليفة المختار وارث علمه ... رب العلوم أبي شبير وشبّر
ما كان منهم من يرى بتعمقٍ ... كلا، ولا نقلوه عنه فَقَصِّر
بل جاء عنه وعنهم مُتواتراً ... حظرُ التعمق والغُلُوِّ لمُبْصر
عن خبرةٍ وبصيرةٍ وتيقنٍ ... لا عن قُنُوعٍ قاصرٍ وتَعَذُّر
لكن تأسٍّ منهم بمحمد ... وتدبُّر للذكر أيّ تدبُّر
فالزم بعُروة دينهم مُتمسِّكاً ... فلقد هُديتَ إلى سبيلٍ نيِّر
لا يخدعنَّك زُخرفٌ وتصورٌ ... شتَّان بين تيقُّن وتصوُّر
إنَّ الخلاف بكلِّ فنٍّ مُمكنٌ ... إلا الأصول فإنه لم يُؤثَر
فدع الخلاف إلى الوفاقِ تورُّعاً ... فطريقة الإجماع غير مُنكَّرِ
كم بين مُعتمدٍ لقولٍ ظاهرٍ ... ومقالِ حقٍّ واضح لم يُنكَر
ومجاوزٍ حدَّ الوفاق مُخَاطِرٍ ... قد صار بين مُفسِّقٍ ومُكفِّر
من خارجٍ أو مُرجىءٍ أو رافضٍ ... أو ذي اعتزالٍ مُبدِعٍ أو مُجبِر
أو غير ذلك من مذاهبَ جَمَّةٍ ... حدثت ودينُ مُحمَّد منها بَرِي
يكفيك من جهة العقيدة مُسلم ... ومن الإضافة أحمديٌّ حيدَري (1)
__________
(1) أنشدها المؤلف بتمامها في " ترجيح أساليب القرآن " ص 29 - 30.(3/410)
وهذا السيد هو يحيى بنُ منصور بنِ العفيف بن مفضّل كان عالماً فاضلاً، مُبرِّزاً في الكلام، صنف فيه قدر أربعين مُصنَّفاً، والظاهر أنها كلها مختصرات، والمشهور (1) منها " جمل الإسلام " (2)، وكان شديداً على غُلاة المتكلمين، وسائر المبتدعين، رحمه الله تعالى. ومن شعره أيضاً:
يا طالب الحقِّ إنَّ الحق في الجُمَلِ ... وفي الوُقُوفِ عن الإفراط والزَّلَلِ
هي النَّجاةُ فلا تطلُب بها بدلاً ... بذا أتاك حديثُ السادةِ الأُوَلِ (3)
وقال السيد الإمام حُميدان بن يحيى [بن] القاسم (4) رحمه الله، مع أن في كلامه ما لا أذهبُ إليه من التُّهمة بقصد العناد:
زال (5) أهل التفعيل والانفعال ... وأُدِيلَ التطريفُ بالاعتزال
حرَّفُوا مُحكَمَ النُّصُوصِ، فصارُوا ... قُدوةً في التلبيس والإضلال
ولهُم في التَّوحيد أقوالُ زورٍ ... مُزرِيَات في الزُّور بالأقوال (6)
رانقاتٍ بالمَينِ كُلَّ محيل (7) ... فائقات في النُّكرِ كُلَّ مُحَالِ
__________
(1) في (أ): والمشهورة.
(2) اسمه الكامل: "جُمل الإسلام وأصولُ دين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام" منه نسخة ضمن مجموع 168 من 107 - 113 بخط إبراهيم بن سعد بن فيصل بتاريخ 1035 هـ. "فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء" ص 789.
وله كتاب آخر في المجموع نفسه، اسمه " نهاية العقول الكاشفة لمعاني الجمل والأصول " من 115 - 136.
(3) أنشدهما المؤلف أيضاً في " ترجيح أساليب القرآن " ص 30.
(4) في (أ) و (ب): القاسمي.
(5) في (ش): " زوال "، وهو خطأ.
(6) في (ش): والانفعال.
(7) في (ش): محل، وهو خطأ.(3/411)
شاهداتٍ لمفرغ (1) الوهم فيها ... باعتداء المحدود والإيغالِ (2)
أصَّلُوا للقياس أصل اصطلاحٍ ... جلَّ عن أصل صُلحهم ذُو (3) الجلالِ
لَقَّبُوا الجسم بالذَّواتِ ليقضُوا ... باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ
وادَّعوا أنَّ للمُهيمن ذاتاً ... شاركت، ثمَّ فارقت في خِلالِ
ثم قاسوا ما فرَّعُوهُ وخاضُوا ... في شُرُوح لهُم عراضٍ طِوال
باختراصٍ في قولهم وابتداعٍ ... وبظنٍّ في زعمهم وانتحالِ
واحتيالٍ في فرقهم للمعاني ... بيِّنٍ ليسَ فيه فرقٌ بحالِ
نحو ما قد جمعتُ منها مثالاً ... ها هنا فاستمع لضرب المثال
أزلي ثبوته وقديم ... ووجود ما إن له من زوالِ
وكذا الفرقُ بين أمرٍ وشيءٍ ... واشتراكِ الذوات والأمثالِ
ومزيدٍ على الذوات وغير ... واقتضاء الأحكام والإعلالِ
أي فرقٍ ما بين اثنين منها ... في صحيحِ الذَّكا وفرطِ المقالِ
ليس إن قيل ثابتٌ أزليٌّ ... هُو إلا لربنا المُتعالي
مثل من قال: لم يزل كلُّ (4) شيءٍ ... ذا ذواتٍ ثوابتِ الأحوالِ
ما أتى في التكليف قولٌ بهذا ... في مقالٍ يُروى ولا في فعال
بل أتى الأمرُ بالتَّفكُّر في الصُّنـ ... ـعِ وتَركِ اتِّباع رأي الرِّجَالِ
غير من كان مُصطفي ذا اعتصامٍ ... أو حكيماً في قولِهِ غيرَ غالي
إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقال أيضاً في أُرجوزته المشهورة التي سمَّاها الإمامُ المتوكِّلُ المطهر
__________
(1) في (ب): لمفرع، وفي (ج): لمفزع.
(2) تحرفت في (ش) إلى: " يا عبد المحدود والانفعال ".
(3) في (ب): " ذي "، وهو خطأ.
(4) في (ج): لكل.(3/412)
ابن يحيى عليه السلام " المُزَلزِلَة لأعضادِ المعتزلة "، قال في أوَّلها:
إنَّ الشيوخ المفترين في الدُّول ... والمُوهمين أنَّهم فوضَى هَمَلْ
ما دينُهُم أكثرُهُ إلا حِيَلْ (1) ... وشاهِدُ النِّيات (2) في صِدْقِ العمل
فعالمٌ ضلَّ وأغوى من أضل ... وراهبٌ للسُّحتِ بالصدِّ أكَلْ
وكُلُّهُم برفضِهِم نالُوا الأمَلْ ... من لم يكُن مُحارباً منهُم خَذَل
وشرُّهُمْ مكيدةً من اعتَزَل ... وحرَّف الحقَّ وسمَّاه جَدَل
وخاض في العلم برأيٍ مُغرِقِ ... مُجاوِزٍ لحدِّهِ مُدَقِّقِ
مُغَلغِلٍ (3) في لُجَّةِ التَّعمُّق ... وتابعٍ لأهلِ علمِ المنطق
في وصفه للعلم بالتعلُّق (4) ... بثابتٍ من قَبْلِ أن لم يُخْلَقِ
وفي اشتراكِ مُبدِعٍ مُلَفِّقِ ... في اللفظِ بالذَّات ووصفٍ مُطلقِ
ليُثبتَ التَّجنيسَ للمُحقِّق ... والفَصْل بالتَّنويعِ للمُفَرِّقِ (5)
وكي يقِيسَ ربَّهُ بشاهِدِ ... من يقرن الذَّات إلى الزَّوائد
ويُوهم التَّفريق بالفوائدِ ... معوِّلٌ على قياسٍ فاسدِ
لبعض أوصاف القديمِ الواحد ... سُبحانهُ عن فِريَةِ المُنادِدِ (6)
وعن قياس كُلِّ غاوٍ عانِدِ ... ينظُرُ في الصَّانع كالمُشَاهَدِ
وليس في قياسه بواحد ... إلا لمجبولٍ (7) على التَّزايُدِ
وما الذي ألجاهُمُ إلى الخَطَرْ ... والخوضِ في علمِ الغُيُوبِ بالنَّظَرْ
__________
(1) في (ش): " الأجل "، وهو خطأ.
(2) في (ج) الثبات.
(3) في (ش): فعلل، وهو تحريف.
(4) في (ب): بالتغلق.
(5) في (ش): للملفق.
(6) في (ب): المتادد، وهو تصحيف.
(7) في (ش): المجبول.(3/413)
وما يقال فيه للمخطي: كَفَرْ ... وفي النبيِّ أُسوةٌ ومُعتبرْ
وقدوةٌ محمودةٌ لمن شَكَرْ ... ولم يُخالف بالوُهُومِ (1) والفِكَر
فإنَّهُ للفكرِ (2) في الله حَظَرْ ... وفي عجيب الصُّنْعِ بالفكر أمَر
فمن يكونُ بعدهُ مِنَ البَشَرْ ... أدرى بمَا يأتي به وما يَذَرْ
ليس الإلهُ الواحدُ القُدُّوسُ ... كما يظُنُّه الذي يقيس
من وصفُه التشريكُ والتَّجنيسُ ... بل قولُهُم مشاركٌ تلبيسُ
إذ كُلُّ فِكرٍ دُونَه محبُوسُ ... وكلُّ ما تَخَالُهُ النفوسُ
فمُدركٌ مُكيَّفٌ محسوسُ ... فاحذر شُيُوخاً علمُها تلبيسُ
وهمُّها (3) التَّدقيق والتدلِيسُ ... قد حازَها دون الهُدى إبليسُ
ما الفرقُ بينَ مُقتضٍ وعِلَّهْ ... وزائدٍ وكثرةٍ وقلَّه
إلاَّ اصطلاحُ سادةٍ مُضلهْ ... قد سلكوا في طُرُقٍ مُزِلَّهْ
فاقنَعْ بنِحْلَةِ النبيِّ نِحلَه ... قُنُوعَ ذي دينٍ مُسلِّمٍ له
فالمُصطفي من أهلِ كلِ مِلَّه ... أعلمُ بالمَدلُول والأدِلَّه
وبالفُرُوضِ الواجباتِ لله ... والشيخُ أدْنَى أن يَكُونَ مِثْلَهْ
إلى آخر ما ذكره في الأرجوزة، وله رحمه الله رسائل كثيرة في مجلد محتوٍ من الحثِّ على ترك التعمق في الكلام والبدع في الإسلام على ما لا مزيد عليه، وفي " مجموعه " هذا تقرير أئمة أهل البيت وساداتهم عليهم السلام لما ذكره، وتقريره على أن ما ذكره هو (4) مذهبُ أهلهم، ومِمَّن
__________
(1) في (ش): بالوهم، وهو خطأ.
(2) في (ج): للكفر، وهو تحريف.
(3) في (ش): ووهمها.
(4) ساقطة من (ش).(3/414)
روى ذلك عنه: الإمامُ المهدي الشهيد أحمد بن الحسين القاسمي، والإمام المتوكل المطهَّر بن يحيى عليهما السلام، وقرر ذلك بعدهم السيد الإمام العلامة محمد بن يحيى القاسمي، وصنف كتاباً معروفاً، وكتب الإمام المهدي محمد بن المطهر بن يحيى على كتاب السيد محمد بن يحيى القاسمي أنه معتقدُهُ إلاَّ الجوهر، فإنَّ له فيه نظراً (1).
ومما قاله في ذلك (2) جدي المرتضى بن المفضل (3) رحمه الله تعالى:
دعْ عنك ذِكرَ بُثينةٍ وجميلِ ... وحديث كلِّ خليلةٍ وخليلِ
واتلُ الكتابَ وكُنْ لهُ متدبِّراً ... يا حبَّذا من قائِلٍ ومقُولِ
هُو شافعٌ ومُشفَّعٌ ومُصدَّقٌ ... ومُنزَّهٌ حقاً من التَّبديل
وهو الشفاء لكلِّ داءٍ مُعضِل (4) ... نَطَقَ النبيُّ بذاك عن جبريل
فالزم بعُروتهِ ومُتَّ بحَبلِهِ ... فلقدْ نجوتَ وحُزتَ خيرَ سبيل
وعليكَ من بعدِ الكتابِ بعترةٍ ... تنجُو من الآثام والتضليل
لا يخدعنَّك كلُّ قولٍ حادثٍ ... قد نمَّقته الناسُ بالتعليل
وتكلَّفُوا ما لم يكونوا كُلِّفُوا ... لا في الحديث ومُحكَمِ التنزيل
وصفُوا الإلهَ بكلِّ وصفٍ زائدٍ ... يُنبي عن التَّكثيرِ والتَّقليلِ
جعلُوه من جنسِ الذواتِ وَخَالفُوا (5) ... مِنْ بعْدِ ما وَصَفُوهُ بالتَّمثيلِ
زعمُوا بأن الوصفَ لا شيءٌ ولا ... لا شيء هذا قولُ كلِّ مُحيلِ
__________
(1) في الأصول غير (ج): نظر.
(2) " في ذلك " ساقطة من (ج).
(3) " بن المفضل " ساقطة من (أ) و (ش).
(4) في (ش): معطل، وهو تحريف.
(5) في (ش): فخالفوا.(3/415)
ولهُم من الأقوالِ كَمْ مِنْ بدعَةٍ ... في الوعدِ والتوحيدِ والتعديلِ
مالُوا عن الحقِّ القويمِ وما لهُم ... سَبَبٌ سِوَى الإبدَاعِ في التَّفصيلِ
تَبِعُوا (1) الشيوخَ فلم يَرَوا أنَّ الذي ... قالُوه إلاَّ غاية التَّحصيلِ
من لم يكُن آلَ النبيِّ هُداتُهُ ... لم يأتِ فيما قالهُ بدليلِ
بل شُبهةٌ وتظنُّنٌ وتوهُّمٌ ... وتحيُّرٌ في الغّيِّ والتعطيل
فاحذر تَحِيدُ عن الصراط، فإنه ... نهجُ الأئمةِ جاء في التأويل
هم بابُ حطةَ للأنامِ وسُفْنُهَا ... ونجاتُها من مُؤلِم التنكيل
وإذا أردتَ سلامةَ الأصلِ الذي ... هُو دينُهُمْ فَعَليْك بالتِّجمِيلِ
فهُو الذى كان النَّبيُّ يَدِينُهُ ... مِنْ دُونِ بدعَتِهِم وكُلُّ رسُولِ (2)
وتابعهم على هذا السيد الإمام الواثق المطهر بن محمد بن المطهر، وقال في ذلك قصيدته البليغة التي أولها:
لا يَستَزِلَّكَ أقوامٌ بأقوالِ ... مُلفَّقَاتٍ حريَّاتٍ بإبطالِ
لا ترتضي (3) غيرَ آل المُصطفي وزراً ... فالآلُ حقٌّ وغيرُ الآلِ كالآلِ (4)
فآيةُ الوُدِّ والتطهيرِ أُنْزِلَتَا (5) ... فيهم كَمَا قد رُوي مِنْ غيرِ إشكالِ
و" هل أتى " (6) قد أتى فيهِم فما لهُمُ ... من الخلائق من ندٍّ وأشكالِ
__________
(1) في (ج): " منعوا "، وهو خطأ.
(2) في (ب) و (ج) بعد هذا البيت صدر بيت، وهو قوله:
صلى عليهم ذو الجلال وآلهم
(3) في (ش): ترضى.
(4) كالآل: أي: كالسراب.
(5) في (ش): أنزلها.
(6) قال القرطبي في " أحكام القرآن " 19/ 130 - 131: قد ذكر النقاشُ، والثعلبي، والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي، وفاطمة، وجاريتهما حديثاً لا يصح، ولا يثبت. ثم أورده بطوله. =(3/416)
وهُم سفينةُ نُوحٍ كُل (1) من حَمَلَتْ ... نَجَّته من أزلِ أهواءٍ (2) وأهوالِ
والمصطفى قال: إنَّ العلمَ في عَقِبِي ... فاطلُبْهُ ثَمَّ وخلِّ الناصِبَ الغالي
لم يُثبتُوا صفةً للذَّاتِ زائدةً ... ولا قَضَوا باقتضا (3) حالٍ لأحوال
ولا قَضَوْا بثباتِ الذَّات في أزلٍ ... وليس لله إلاَّ صنعةُ الحال
دانُوا بأنّ إله العرش دونَهَا ... بلا احتذاءٍ على حدٍّ وتمثالِ
ما كان يخطرُ هذا من ركَاكَتِهِ ... للمصطفي صفوةِ الباري على بالِ (4)
ولا عليٍّ ولا ابنيه وزوجتِهِ ... فقولُهُم عن أباطيلِ الهُذا خالي
انظُر بإنسانِ عينِ الفكرِ في خُطبٍ ... لَهُمْ ومنثُورِ لفظٍ سلسلٍ حَالِ
قَدْ لحَّبُوا (5) طُرُقاً للسَّالكينَ بِهَا ... وبيَّنُوها (6) بتفصِيلٍ وإجْمَالِ
__________
= وقال الحافظ ابن حجر في " تخريج أحاديث الكشاف " ص 180: رواه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال الذهبي في " الميزان " 3/ 369: القاسم بن بهرام له عجائب، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال ابن حجر في " لسان الميزان " 4/ 459: وهو صاحب الحديث الطويل في نزول قوله تعالى: {يُوفُون بالنذر}، وأورده الحكيم الترمذيُّ في " أصوله "، وقال: إنه مفتعل، وهو في تفسير الثعلبي.
ومن رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} ...
وقال الحكيم الترمذي: هذا حديث مزوَّق مفتعلٌ لا يروجُ إلا على أحمق جاهلٍ.
ورواه ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/ 370 - 371 من طريق أبي عبد الله السمرقندي، عن محمد بن كثير، عن الأصبغ بن نباتة مرسلاً. قال: مرض الحسن والحسين ... ثم قال: موضوع، أصبغُ لا يساوي شيئاً، والكوفي والسمرقندي ضعيفان.
(1) في (ج): وكل.
(2) في (ج): من نارٍ لأهواء.
(3) في (ش): ما اقتضا.
(4) في (ب): حال، وهو تحريف.
(5) أي: وضحوا، يقال: طريق لاحِبٌ، ولَحْبٌ وملحوب، إذا كان واضحاً واسعاً، موطأً، منقاداً، لا ينقطع.
(6) في (ش): ثبتوها.(3/417)
ثم سرد (1) أسماء الأئمة عليهم السلام، راوياً عنهم الموافقة على إنكار هذه المذاهب المبتدعة، فذكر علي بن الحسين (2)، وولديه الباقر (3) و (4) زيداً (5) وجعفراً الصادق (6)، والقاسم، وابنه (7) محمداً، وحفيده الهادي يحيى بن الحسين، وولديه أحمد الناصر، ومحمداً المرتضى، والناصر الأُطروش، والقاسم بن علي، وأحمد بن سليمان، والمنصور بالله، وأحمد بن الحسين، والإمام الحسن بن محمد، والمطهر بن يحيى، ومحمد بن المطهر. نقلتُ ذلك من شرح هذه القصيدة المسمى " باللآلي الدُّرِّية في شرح الأبيات الفخرية " للسيد العلامة شيخ العترة ترجمان الموحدين محمد بن يحيى بن الحسن القاسمي (8)، وقد طوَّل في شرحها، وبيَّن في
__________
(1) في (ش): وذكر.
(2) ابن الإمام علي بن أبي طالب السيد الإمام الثقة زين العابدين الهاشمي العلوي المدني المتوفى سنة 94 هـ. مترجم في " السير " 4/ 386 - 401.
(3) هو السيد الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي العلوي الفاطمي المدني المتوفى سنة 114 هـ بالمدينة. مترجم في " السير " 4/ 401 - 409.
(4) الواو ساقطة من (ش).
(5) هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي المدني، أخو أبي جعفر الباقر، وعبد الله، وعمر، وعلي، وحسين، وأمه أم ولد، عاش نيفاً وأربعين سنة، واستشهد سنة 122 هـ. مترجم في " السير " 5/ 389 - 391.
(6) هو أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي القرشي الهاشمي العلوي المدني، أحد الأعلام الثقات، وأمه: هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر التيمي، وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين، وكان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهراً وباطناً. وروى محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة قال: سألت أبا جعفر، وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا: يا سالم تولَّهما، وابرأ من عدوِّهما، فإنهما كانا إمامي هدى، ثم قال جعفر: يا سالم، أيسب الرجل جده؟ أبو بكر جدي، لا نالتني شفاعةُ محمد - صلى الله عليه وسلم - يومَ القيامة إن لم أكن أتولاهما، وأبرأ من عدوهما. وقد صحح إسناد هذا الخبر الإمام الذهبي في " تاريخ الإسلام " 6/ 46. توفي سنة 148 هـ. مترجم في " السير " 6/ 255 - 270.
(7) في (ش): وأخيه.
(8) هو العلامة السيد محمد بن يحيى القاسمي الحسني المعروف بمؤمن آل القاسم =(3/418)
ذلك طرق الرواية عنهم عليهم السلام، وأفاد وأجاد رحمه الله تعالى، وما زال علماء أهل البيت عليهم السلام على هذا (1) قديماً وأخيراً، ومن الشواهد لذلك أنه ليس لهم في علم الكلام مُصنَّف مبسوط (2)، كتواليف المتكلمين الحافلة، إلاَّ ما صنفه بعضُ العجم (3) منهم في ذلك متابعة لقاضي القضاة، وهو السيد مانكديم، وهو الكتاب الموجود في ديار الزيدية في اليمن المسمى " بشرح الأصول الخمسة " (4)، ويدل على انفراده بذلك من بين سلفه: أنه لم ينقل عنهم فيه حرفاً واحداً، وإنما نقل كلام (5) شيوخ الاعتزال، ومذاهبهم، وأدلتهم، إلا أن يكون حكى مذهبهم وأدلتهم في فروع الكلام السمعية كالأسماء (6)، والشفاعة، والإمامة.
وإذا كان هذا كلام أهل البيت من الزيدية والشيعة، فما ظنك بأهل
__________
= الرسي عليه السلام، أخذ عن السيد الحسن بن المهدي الهادوي، والإمام محمد بن المطهر، والقاضي أحمد بن الحسن بن محمد الرصاص، والفقيه علي بن شوكان، وجار الله الينبعي وغيرهم، وكان عالياً كبيراً، وأجل تلامذته السيد علي بن المرتضى بن المفضل، وولده إبراهم بن علي المرتضى، وغيرهم، وهو شارح الأبيات الفخرية، للإمام الواثق المطهر بن محمد بن المطهر بن يحيى التي أولها:
لا يستزلك أقوامٌ بأقوالِ ... مُلفقاتٍ حَرِيَّاتٍ بإبطالِ
وكان فراغ صاحب الترجمة من تأليف شرحها في ربيع الأول سنة 779 بهجرة الظهراوين. " ملحق البدر الطالع " ص 209.
(1) في (ش): ذلك.
(2) في (ش): مبسوطاً، وهو خطأ.
(3) في (ش): الأعاجم.
(4) في " فهرس المكتبة الغربية بجامع صنعاء " ص 178: " الأصول الخمسة " للسيد مانكديم أحمد بن أبي هاشم الحسني. والشرح عليه لعبد الجبار بن أحمد.
ومانكديم: لفظ فارسي، معناه: وجه القمر.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): كالأسماء والصفات.(3/419)
البيت من أهل الأثر، والفرق الأربع (1)، ويوضح ذلك تأليفهم المختصرات المشهورة في ذلك، واقتصارهم (2) على الإجمال والإشارات، من أشهر ذلك ما أودعه محمد بن سليمان رحمه الله في أول " المنتخب " على مذهب الهادي عليه السلام، فإنه سأله عليه السلام عن ما يكفي في معرفة الله تعالى، ودليل ذلك، فأوجز له الكلام في مقدار عشرة أسطر.
وكذلك كلامات علي عليه السلام في ذلك.
وللمؤيَّد بالله عليه السلام في ذلك كتاب " التبصرة " مختصر جداً، وله في آخر " الزيادات " تزهيدٌ في هذا الفنِّ كثيرٌ، وقد نقلته بألفاظه في كتابي " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان "، وبسطتُ القول في هذا المعنى، فليراجع هنالك (3) وبالله التوفيق.
وما أحسن كلام المنصور بالله عليه السلام في الرد على من ادعى إجماع أهل البيت عليهم السلام، حيث قال في " المجموع المنصوري ": وإن شئت أن ترجع إلى أهل البيت، فتشتتهم كان في أيام عبد الله بن الحسن، ولحاقِ إدريس بن عبد الله بالغرب، وبعضُهم بالمشرق، وتشتَّتوا تحت كُلِّ كوكب، وفيهم العلم ووراثة النُّبوة، وليس لكل منهم تصنيف مع علمه إلى آخر ما ذكره، وسيأتي كلامه عليه السلام مستوفى في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وقد مرَّ في أول هذا الكتاب ذكر جماعة من علمائهم ممن ليس من (4)
__________
(1) في (ش) الرابع، وهو تحريف.
(2) في (ش): فاقتصارهم، وهو خطأ.
(3) انظر ص 24.
(4) في (ش): في.(3/420)
الشيعة، ذكرتُه في المسألة الأولى (1) عند دعوى المعترض لخُلُوِّ العالَم من العلماء من بعد الإمام الشافعي رحمه الله، وبينت هناك (2) قبح هذه الزَّلَّة، وما تؤدي إليه من تجهيل أئمة الإسلام، وفي ذكرهم إشارة إلى عدم صحة الطريق إلى دعوى إجماعهم في كثيرٍ من المواضع التي (3) يُدعى ذلك فيها فيجبُ على المؤمن أن يُراعي قول الله سبحانه: {ولا تقف ما ليس لك به عِلمٌ} [الإسراء: 36]، فيما يرويه عن الأُمَّة والعِتْرةِ، كما يُراعي ذلك فيما يرويه من كلام الله تعالى، وكلام رُسُله عليهم السلام.
وقد كان من الحسين بن القاسم مبالغة في تعظيم فن الكلام، وتصانيفه فيه، وتابَعَتْهُ على ذلك طائفة من ضُعفاء العقول (4)، وأنكرت عليهم ذلك الزيديةُ، وجاهدوهم حتَّى أبادوهم، ولم يبق منهم -وللهِ الحمد- بقيةٌ.
وذكر بعضُ أئمةِ العترة -أظُنُّه المطهر بن يحيى عليه السلام- أنَّه اختلَّ عقلُ الحسين بن القاسم، وتَوَسْوَسَ، وهو المرجوُّ إن شاء الله تعالى.
فأمَّا أتباعُه من الغُلاة، فمرقُوا من (5) الإسلام، وفضَّلُوا كلامه على كلام الله تعالى، وفضلوه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم تكن شبهتُهم إلاَّ أنَّ علم الكلام -كما زعمت المعتزلة- هو أساس الإسلام، وأنه ليس في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يكفي من ذلك العلم، ويُجزِىء
__________
(1) ساقطة من (ش). وانظر مكانه في 2/ 104 - 118.
(2) في (ش): هنالك.
(3) في (ش): الذي.
(4) في (ب): القول.
(5) في (ش): عن.(3/421)
عنه. ولا كلامَ أنَّ التوحيد وأدلَّتَه أساسُ الإسلام، هذه كلمةُ (1) إجماعٍ، ولكن البدعة في قول الحُسينيَّة ومن وافَقَهُم: إنَّه لم يَرِدْ في كتاب الله تعالى، وسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما فيه غَناء وكفاية.
وقد كنتُ قلتُ أبياتاً في الحثِّ على استنباط الأدلَّة العقليَّة في التَّوحيد من كتاب الله تعالى، وذكرتُ أن ذلك يُغني عن الكلام، فعارضني بعضُ من يدَّعي علمَ الكلام (2) العصريِّين، وكاد جوابُه يُلبسُ على كثيرٍ من (3) الضعفاء، فنقضتُ جوابه نقضاً شافياً، كشف الغِطاء عن بدعته، وأجمعتْ (4) كلمةُ المعاصرين من المتكلمين (5) على إنكار كلامه إلاَّ من لا ينظر (6)، وقد رأيتُ أن أُورِدَ من ذلك ما أرجو أن ينفع اللهُ تعالى به، وأُنَبِّهَ على شيءٍ يسيرٍ ممَّا يحتاج إلى الشرح.
قلت في الابتداء:
أُصُولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ ... وليسَ لي في أُصولٍ غَيره (7) غَرَضُ
وأردتُ بهذا البيت معنيين:
أحدهما: أنَّ القرآن مُعجِزٌ، وكُلُّ معجزٍ (8) لا يَقْدِرُ عليه أحدٌ مِنَ
__________
(1) في (ش): هذا كله.
(2) في (ش): " علماً "، وكتب فوقها في (ب): " المهدي أحمد بن يحيى "، وفي حاشية (أ): " هو أحمد بن يحيى صاحب الأزهار ".
(3) " كثير من " سقطت من (ش).
(4) في (ش): اجتمعت.
(5) في (ش): الموحدين المتكلمين.
(6) في (ش): لا ينظر إليه.
(7) في (ش): دونه.
(8) " وكل معجز " سقطت من (ب).(3/422)
البشر، فإنَّه يُعلم بدليلِ العقل أنَّه من عند الله تعالى، وذلك يقتضي صحَّة النبوة، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وصدقَ ما جاء به عن الله تعالى عَلى كُلِّ مذهب.
أما الأشعرية، فعندهم أن العلم بصدقه بعد المعجز ضرُوريٌّ، لا يحتاج إلى استدلال (1)، وأنَّ العلم بالإعجاز ضروريٌّ سواء كان من جنس مقدور العباد، أو مِن غير جنسه، والذي من جنسِ مقدورهم مِنْ قسمِ العاديات (2) من الضروريات.
وكذلك طائفة من المعتزلة، وهم أهل المعارف الضرورية، ومن مذهبهم أن العلم بالله تعالى ضروري، ولكن فيهم طائفة يوجبون النظر، ويقولون: إنه شرط اعتيادي (3)، بمعنى أن الله يخلق العلم الضروري عنده، لا به كما يخلق الإنسان عند قرار النطفتين في الرحم لا بذلك، وهو (4) أقربُ إلى مذاهب (5) أهلِ السُّنَّة، فإنهم يوجبون النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه من المعجزات والمصنوعات من غير ترتيب المقدمات على الأساليب (6) المنطقيات، ويقولون: إن الله تعالى يهبُ لمن يشاء من عباده عقيبَ ذلك النظر (7) من اليقين والمعرفة ما لا يُقْدَرُ قَدْرُه، ولا يُحْصَرُ حَدُّه، فأعلاه ما لا يَعْرِضُ معه الوسواسُ، وأدناه ما يَعْرِضُ (8) معه الوسواسُ إلى
__________
(1) في (ش): الاستدلال.
(2) في (ب): العادات.
(3) في (ب): اعتباري.
(4) في (ش): هو.
(5) في (ش): مذهب.
(6) في (ش): أساليب.
(7) " النظر " ساقطة من (ش).
(8) في (ش): يحصل.(3/423)
أن ينتهي إلى ما قدَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأدنى من مثقال (1) حبَّةِ خردلٍ، كما جاء في أحاديث الشفاعة (2)، ويدينُون بأنَّ الإيمان يزيدُ وينقُصُ، وعلى المؤمن التَّعرُّضُ لما يزيدُ إيمانَه من التَّفكُّر في المصنوعات، ومُعجزات الأنبياء، وأحوالِهم، وسِيَرهم، والقرائن الدالَّة على صدقهم، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، والتَّلقِّي لما وَهَبَ الله تعالى له من الإيمان، واليقين بعد ذلك بالشكر.
وأمَّا النظرُ في الطُّرق المبتَدَعَةِ، فلا تجبُ عِنْدَ أحدٍ من (3) أهل السُّنة، وظاهِرُ مذهبِ الإمام المؤيَّد باللهِ عليه السَّلامُ موافقٌ لمذهبهم في ذلك، فإنه يُجيز حصول العلم الضروري بالله لمن شاء الله من أوليائه، والعلم الاستدلالي لمن دونهم من أهل النظر، ومُجرَّد الظَّنِّ لمن دون الأولياء، وأهل (4) النظر من ضعفاء العامة، وقد نص على هذا الأخير في آخر " الزيادات "، واحتجَّ عليه، وأطال القول فيه، فلا يمكن تأويله، ونَسَبَهَ إلى أبي القاسم البلخي البغدادي شيخ الاعتزال، ولكن حكى عنه أنه يُسمِّيه علماً، ولا طائل تحت الاختلاف في مجرد العبارات.
وفي " مقالات " أبي القاسم ما يؤيد (5) هذه الرواية، فإنه ذكر العامة، وأنها فرقة مستقلة، وقال: هنيئاً لهم السلامة.
__________
(1) " مثقال " ساقطة من (ش).
(2) أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193) (326)، وأحمد 3/ 116 و244 و247 و248، وابن ماجه (3412) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه: "إن الله تعالى يقولُ لنبيِّه: انطلق، فأخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق، فأفعل ... ".
(3) " أحد من " ساقطة من (ش).
(4) " أهل " ساقطة من (ب).
(5) تحرفت في (ش) إلى: يزيد.(3/424)
وعن ابن تيمية أن الرازي (1) ذكر لبعض مشايخ الصوفية أنه أملى في التوحيد كذا بُرهاناً، فقال له الشيخ: ليس ذلك بالتوحيد. قال الرازي: فأفدني يا سيدي، فقال له: التوحيدُ وارداتٌ تَرِدُ على النُّفوس تَعْجِزُ النفوسُ عن ردِّها، قال: فجعل الرازي يتحفَّظ هذه الكلمات ويُردِّدُها حتَّى خرج من عند الشيخ.
وقد (2) ذكر هذا بعضهم في شرح قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في كلامه لكُمَيْل بن زياد (3)، حيث قال عليه السلام في وصف
__________
(1) في (ش): " الراوي "، وهو تحريف.
(2) " قد " ساقطة من (ش).
(3) هو كُمَيْل بن زياد بن نهيك بن الهيثم النخعي، تابعي، ثقة، من أصحاب علي، قال ابن سعد: شهد مع علي صفين، وكان شريفاً مطاعاً في قومه، قَتَلَه مبيرُ ثقيفٍ صبراً سنة 82 هـ. مترجم في " تهذيب التهذيب " 8/ 448 وقول علي هذا قطعة من وصيةٍ مطولة أوردَها صاحب " العقد الفريد " 2/ 69 - 70، رواه عن أيوب بن سليمان، عن عامر بن معاوية، عن أحمد بن عمران الأخنس، عن الوليد بن صالح الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي مخنف، عن كميل النخعي قال: أخذ بيدي عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبَّانة، فلما أصحر، تنفس الصعداء، ثم قال: يا كُميلُ، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفَظ عني ما أقول لك: الناسُ ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهَمَج رَعاع، أتباعُ كُلِّ ناعق مع كل ريح يميلونَ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ.
يا كُميلُ، العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يحرسُك وأنت تحرسُ المالَ، والمالُ تنقصُه النفقة، والعلمُ يَزْكو على الإنفاق، ومنفعة المال تزولُ بزواله.
يا كُميل، محبة العلم دينٌ يُدان به، به يكسبُ الإنسانُ الطاعة في حياته، وجميلُ الأُحدوثة بعد وفاته، والعلمُ حاكمٌ، والمالُ محكومٌ عليه.
يا كميل، ماتَ خُزانُ المالِ وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقون ما بقيَ الدهرُ، أعيانهم مفقودةٌ، وأمثالهم في القلوب موجودةٌ، ها إنَّ هاهنا لعلماً جَمّاً -وأشار بيده إلى صدره- لو وجدتُ له حَمَلةً، بلى أجد لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهِرُ بحجج الله على أوليائه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لحملة الحق ولا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشكُّ في قلبه لأوَّلِ عارض من شُبهة، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، أو منهوماً باللذة، سَلِس القياد للشهوة، أو مُغرماً بالجمع والادِّخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شبهاً بهما الأنعام =(3/425)
العلماء: " هَجَمَ (1) بهمُ العِلْمُ على حقيقةِ الأمر، فاستلانُوا ما استوعرهُ المترفون، وأَنِسُوا (2) بما استوحش منهُ الجاهلون " فإنَّ الهُجوم إنما يُستعمل فيما حصل (3) دفعةً واحدة من غير كدِّ الخواطر في الدقائق، والتَّولُّج من الأنظار في مضايق المزالق، وقال في " ضياء الحلوم ": هجم [على] القوم: إذا أتاهم بغتةً، وهَجَمَ على العدو هجوماً، وهجم على ما في نفسِ فلان.
وأما على مذاهب (4) النُّظَّار مِنْ متكلّمي الشيعة والمعتزلة، فإن النظر في كتاب الله تعالى يدل على قدرة الله تعالى على كل شيءٍ، وكذلك كل معجزٍ لجميع الخلق عندهم، والذي في القرآن من الإحكام البليغ، والتحسين والتقبيح يدل عندهم على علمه سبحانه بكل شيءٍ عموماً، كما تدل أحكام المحكمات عندهم، ويدل على علمه سبحانه بقُبح الكذب، وعلى علمه بقُبح تصديق الكاذب خصوصاً، وبعد علمنا بذلك يجبُ القطع بأنه لا يصح صدور الكذب، وتصديق الكاذب منهُ سبحانه، لعلمه
__________
= السائمة، كذلك يموت العلمُ بموتِ حامليه، اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطُلَ حُجج الله وبيناته، وكم ذا، وأين؟ أولئك والله الأقلونَ عدداً، والأعظمونَ عند الله قدراً، بهم يحفظ الله حُججه حتى يودعوها نُظَراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباهِهم، هجم بهم العلمُ على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استخشنَ المترفون، وأَنِسُوا بما استوحش منه الجاهلون، وصَحِبُوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلقة بالرفيق الأعلى.
يا كُميل، أولئك خلفاءُ الله في أرضه، والدعاةُ إلى دينه، آه، آه، شوقاً إليهم، انصرفْ إذا شئتَ.
(1) في (ش): " هجمتهم "، وكتب فوقها: " هجم ".
(2) في (ش): واستأنسوا.
(3) في (أ): يحصل.
(4) في (ش): مذهب.(3/426)
بقبحه (1)، واستغنائه عن فعله بقدرته على كلِّ شيء، وذلك لأنَّ الكذب ليس بمشتهي لذاته، وإنما يتوصَّل به العاجز إلى منافعه، أو يفعله الجاهل بقبحه، بدليل أنه لو قيل لبعض العقلاء: إن صدقت، فلك درهم، أو كذبت، فلك درهم، فإنَّه يختار الصدق لا محالة إجماعاً، فهذا في آحاد المخلوقين، فكيف برب العالمين القادر على كل شيءٍ، العليم الحكيم. وإلى هذا الدليل أشار قوله تعالى. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وأمثالها، وقد ألمَّ بهذا المعنى مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى " (2) في آخر الطريق الرابع من
__________
(1) من قوله: " وبعد علمنا " إلى هنا مكرر في (ب).
(2) قال اللكنوي في " الفوائد البهية " ص 212 - 213: هو مختار بن محمود بن محمد أبو الرجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني نسبة إلى غزمين -بفتح الغين المعجمة ثم الميم المكسورة، ثم الياء التحتانية المثناة الساكنة، ثم النون- قصبة من قصبات خوارزم، كان من كبار الأئمة، وأعيان الفقهاء، عالماً، كاملاً، له اليد الباسطة في الخلاف، والمذهب، والباع الطويل في الكلام والمناظرة، وله التصانيف التي سارت بها الركبان، منها " شرح مختصر القدوري " شرح نفيس نافع، " وتحفة المنية لتتميم الغنية " استصفاها من " البحر المحيط " للبديع القزويني، وكتاب " الحاوي "، و" الرسالة الناصرية "، وأخذ العلوم عن الأكابر منهم محمد بن عبد الكريم التركستاني عن الدهقان الكاساني، عن نجم الدين عمر النسفي، عن أبي اليسر محمد البزدوي، وأيضاً أخذ عن ناصر الدين المطرزي صاحب " المغرب " تلميذ الزمخشري، وعن صدرِ القُراء سندِ الأئمة يوسف بن محمد الخوارزمي، وعن سراج الدين يوسف السكاكي، وعن فخر الدين القاضي بديع، وبعدما بلغ رتبة الفضل والكمال، رَحَلَ إلى بغداد، وناظَرَ الأئمة والفضلاء، ثم بلغ الروم، وتوطن بها مدةً، ودارس الفقهاء. ومن تصانيفه أيضاً " زاد الأئمة "، و" المجتبى في الأصول "، و" الجامع في الحيض "، و " كتاب الفرائض ".
قال الجامع: ذكر القاري وغيره أنه مات سنة 658 هـ، وقد طالعت " المجتبى شرح القدوري "، و" القنية "، فوجدتهما على المسائل الغريبة حاويين، ولتفصيل الفوائد كافيين إلا أنه صرح ابن وهبان وغيره أنه معتزلي الاعتقاد، حنفي الفروع، وتصانيفُه غيرُ معتبرةٍ ما لم يوجد مطابقتها لغيرها لكونها جامعة للرطب واليابس، وقد فصلتُ المرام في رسالتي " النافع الكبير ".(3/427)
الباب الثاني في إثبات الصَّانع، ولكن لم يُلخِّصهُ هذا التَّلخيص ذكره آخِرَ الاستدلال على نفي الوسائط.
فإن قيل: ما المانعُ أن يكون القُرآن العظيم من كلام الملائكة أو الجنّ، لأنه من جنس مقدور الخلق، وذلك مثل نَتْقِ الجبال، وليس من المعجزات التي ليست من مقدور الخلق، كإحياء الموتى، وقلب العَصَا حيَّة؟
فالجواب: أمَّا على مذهب الأشعريّة، وأهلِ السُّنَّة، فإنا نعلمُ عجز الخلق أجمعين بالضرورة العادية، وذلك أنا نعلمُ أن العرب الفُصحاء المعاصرين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَعْجِزُوا عن معارضته (1) لأجل وقتٍ مخصوص، ولا صورة مخصوصة، ولا بيِّنة مخصوصة (2)، بل لكونِهِ معجزاً في نفسه، فإنا لو قدَّرنا زمانهم تقدَّم أو تأخّر، أو أجسامهم كبرت أو (3) لطفت، أو صورهم اختلفت، أو انعكست، لبقي عِلمُنَا بعجزهم عن حاله، وكذلك البينةُ المخصوصةُ، فإنّا نعلمُ أنّه ليس علَّة عجزهم تركيبهم من اللحمية والدمية، ونُجوِّزُ أنّهم لو كانوا ممن لا نَفْسَ لهُ سائلة، قدروا على مِثْلِهِ، وكذلك أنا نجزمُ على عجز المتأخرين من البشر، ليس إلاَّ لأنّه علمٌ عاديٌّ كعلمنا أنّ الزُّجاج ينكسر بالحديد (4)، سواءٌ كان الكاسر له من الجنِّ أو من الإنس، وفي قديم الزمان وحديثه، وفي شرقِ الأرض وغربها، وهذا العلم الضروري نشأ من العلم الضروري بأنّ فُصحاء العرب
__________
(1) في (ش): معارضة.
(2) عبارة " ولا بينة مخصوصة " ساقطة من النُّسخ، ومثبتة في (ب) فقط.
(3) في (ب) و (ش): و.
(4) في (ش) يكسر الحديد، وهو تحريف.(3/428)
قد بلغوا في لغتهم الغاية القصوى (1)، التي لا يُعجِزُهم كُلَّهم فيها مخلوق، وإنه لو كان مخلوقٌ (2) يقدِرُ عليه، لقضت العادةُ بقُدرة بعض بُلغاء العرب عليه، لأن العادة لم تجرِ بتفاوت المخلوقين فيما يشتركون في معرفته والقدرة عليه تفاوتاً يبلغ هذا الحدَّ، وهذا هو الموافق لكلام الله عز وجل، فإنه (3) قال تعالى في خطاب العرب: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
وكذلك في (4) غير هذه الآية مما عُلِمَ أنه تعالى رتَّب علمهم (5) بأنّه معجزٌ من عند الله تعالى على عجزهم عن الإتيان بمثله، لا على عجزِ جميع الجنِّ، والملائكة، والرُّوح، وما لا يعلمونه غير هؤلاء من خلق الله تعالى، الذي لا سبيل إلى حصره في هذه الأجناس، ولو كان الأمرُ كما زعمت المعتزلة، لكانت هذه الآيات (6) القرآنية معترضةً، ومن جاء بها مُفحَماً منقطع الحجة، وقد اتفق الجميع على امتناع (7) ذلك بأدلة قاطعة، فثبت فساد ما أدَّى إليه.
وإذا حقَّقت النَّظر في جميع ما يُقَدَّرُ اختلاف الجنِّ والإنس فيه مما يرجع إلى الفصاحة، وجدتَهُ مساعداً لهذا العلم الضروري العادي، كما أنا لو (8) سلمنا أن (9) العلم الضروري العادي لم يحصل في هذا المقام،
__________
(1) في (ش): الغاية القصوى في لغتهم.
(2) عبارة: " وإنه لو كان مخلوقاً " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): فإن.
(4) ساقطة من (ب)، وفي (ش): و.
(5) في (ب) و (ش): عليهم.
(6) في (ش): الآية.
(7) في (ش): منع.
(8) "لو" ساقطة من (ش).
(9) في (ش): أن هذا.(3/429)
لادعيناه في مقام آخر، وذلك أنا نقول: أما تقدير أن القرآن من كلام الملائكة، فغفلةٌ فاحشةٌ، لأن الملائكة اسمٌ موضوعٌ في التقدير لمن لا يصدُرُ عنه الكذب، وأما تقديرُ أنه من الجن، فهو بمعنى (1) تقدير أنه من كلام الشياطين، لأنهم هم مردة الجن وفسقتهم، ونحن نعلم بالضرورة العادية أن فسقة الشياطين ومردتهم لا يعتنون في ظهور مثل القرآن الكريم لما فيه من نقضِ مقاصدهم في الفساد، فإنَّ العمل بمقتضاة بإجماع العُقلاء من المسلمين وغيرهم من أعظم أسباب الصلاح، وحسم مواد الفساد، فإنَّه اشتمل (2) على النَّهي عن الظُّلم، والعُدوان، والبغي، واللهو واللعب، والغفلة، وسائر أسباب الشر، والأمر بالبر، والإحسان، والعفو والرحمة، والرفق، والتعاون على الخير، وفعل جميع أسباب الخير، مع ما فيه من سبِّ الشياطين، ولعنهم، وتبكيتهم (3)، فكيف يجوز أنه منهم، وقد ثبت بالبراهين الصحيحة العقلية أنه لا يقع الفعل من القادر بمجرد قدرته عليه؟ ولذلك أجمعت المعتزلة على امتناع صدور القبائح من الله مع قدرته عليها، وإذا تقرَّر ذلك، فمنتهى الأمر أنا نُجوِّزُ قدرة الشياطين على ذلك -وحاشا وكلاّ- فليس لهم داعٍ إليه البتَّة، بل الصَّوارِفُ لهم عنه معلومةٌ بالضرورة من دون مُعارض، وقد نطقت النصوص القرآنيةُ بالردِّ على من زعم ذلك، وأشارت إلى الوجه الأول، أو إلى الوجهين (4) معاً، قال الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]،
__________
(1) في (ب): لمعنى.
(2) في (ش): أشمل.
(3) في (ش): وتكذيبهم.
(4) في (ش): والوجهين.(3/430)
وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 25 - 27]، وأيضاً، لو جاز ذلك عقلاً، لوجب بطلانُهُ عقلاً أيضاً، وذلك أنه يجب أن يكون الجن مختلفي المقاصد والطبائع، كما اطَّرد الاختلافُ بين جميع الأجناس في ذلك، فكان يجب أن يكون في الجن من يُعارض الذي أتى بالقرآن، ويُحِبُّ تكذيبه (1) في دعواه، لعجز الجن والإنس عن ذلك، ويجب أن يهدي من أضلَّه الكاذب لذلك، ولا يجوز اجتماع طبائعهم على ذلك في عقل عاقلٍ (2)، وهذا من أنفس ما يُعارضُ به هذا الهذيان إن أصغى إليه مبطلٌ أو جاهل، كما نبَّه القرآن على ذلك في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] بل عليه بعينه في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، بل أعظمُ منه دلالة وهو (3) أنّه تعالى أوجب من تعدُّد الآلهة وقوع الاختلاف في غير آية والله أعلم.
وأمّا على قواعد المعتزلة، فقد أجابوا بوجوهٍ:
منها: أن العلم بالملائكة والجنِّ إنَّما حصل بالقرآن.
ومنها: أنَّ تقدير مثل هذا يفتح (4) باب الجهالات.
ومنها: أنَّ القرآن العظيم مشتملٌ من (5) علم الغيوب على ما ليس بمقدورٍ لغير الله، وهو أحسنُ ما احتجُّوا به، وهو صحيح على قواعد
__________
(1) في (ج): ويجب تكوينه، وهو تحريف.
(2) في (ب) و (ش): في عقل كل عاقل.
(3) في (ب) و (ج): على ذلك أنه.
(4) في (أ): " بقبح "، وهو تصحيف.
(5) في (ش): على من، وهو خطأ.(3/431)
أهل السنة أيضاً، وتجويزُ استناد ذلك إلى ما استرقته (1) مردةُ الشياطين باطلٌ بالضرورة العادية كما نعلم في المفتي (2) بالصواب أنه فقيهٌ، ولا نُجوِّز أنه عامي، وإنما يتلقَّن (3) من بعض الشياطين، ولا مستند إلى القطع (4) بأنه فقيه (5) إلا الضرورة العادية، وكذلك نعلم (6) فصاحة الفصحاء، وقوة الأقوياء، وذكاء الأذكياء، مع تجويز إعانة الجن في ذلك في بعض الأحوال النادرة، بل معرفتنا لمن نعرفه من الناس مع تجويز أن (7) يتصور بعض الجن على صورته بإذن الله، بل تجويز أن يخلق الله بشراً مثله، إنما مستند ذلك جميعه العلوم العادية الضرورية، ولو رفعناها، دخلنا في السفسطة، وكثير من الناس يغلَطُ فيها، لأنَّ التَّجويز يدخُلُ فيها بالنظر إلى قدرة الله، لا بالنظر إلى الواقع، وقد نعلم بالضرورة العادية كثيراً من البواطن من جوع الجائع، وغضب الغضبان، وإخلاص أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين، فإنا نجزمُ بنفي النفاق عنهم، ولا نجدُ إلى تجويز ذلك سبيلاً، ومستند ذلك العلم الضروري العادي بأن المنافق لا يستمر له إظهار ذلك، وأيضاً فاستراق السمع متفرِّعٌ على ثبوت الرب تعالى، وتفرُّده بعلم الغيب، وهذا متفرِّعٌ على أن القرآن كلام الله تعالى، لأن هذه الأمور لا تُعلمُ إلا منه، وبالجملة فمن ابتُلي بالوسوسة في الضروريات، شكَّ فيها، مثل الموسوسين في الطهارات، نعوذ بالله من الخذلان.
__________
(1) في (ش): تتراقبه.
(2) في (ش): بالمفتي.
(3) في (ب): يتلقف.
(4) في (ب): للقطع.
(5) من قوله: " ولا نجوز " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) في (ش): يعلم الناس.
(7) في (ش): إنه.(3/432)
وأما الدليل الذي تُعوِّل عليه المعتزلة فيما كان من جنس مقدور (1) بعض المخلوقين من المعجزات، كتحريك الجبال عندهم، فإنه من مقدور الملائكة والجن، فهو أن حكمة الله تعالى توجبُ منعهم من فعل ذلك تصديقاً للكاذبين، وقد نازعهم الرازي في إيجاب ذلك على تقدير تسليم قاعدة التحسين العقلي، وقال: إن المنع مما يُوهِمُ غير الصَّواب لا يجب على الله، ولو كان يجب عليه، لقَبُحَ إنزال المتشابه، والتمكين من السحر، وزعم أنَّه لا جواب لهم، وأنه لا بُدَّ لهم من الرجوع إلى مذهب أهل السُّنَّة في أن مستند العلم في هذه الأشياء هو (2) العلوم العادية، لا سوى، ومن ثَمَّ ألزم المعتزلة خاصة أن يكون القرآن من كلام الجن، والحق أنه لا يلزمهم، لما ذكرناه عنهم من الأجوبة، لا سيما الاحتجاج بما فيه من علم الغيب.
وأما احتجاجُهم بوُجُوبِ المنع من ذلك على الله، ففيه مباحثُ، مع أنه يشهد له قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]. ولكن (3) يَرِدُ عليه أن الله لم يقُل: إن ذلك واجبٌ عليه (4)، ويمكن أن يفعل من ذلك سبحانه ما لا (5) يجب عليه، فليس جميع أفعاله سبحانه واجبة، مع أنه سبحانه لم يفعل ذلك مع كُلِّ كذَّابٍ من المُدَّعين للنبوَّة، إمَّا لأنه لا يجب، وإمّا لأنه لم تظهر عليهم معجزاتٌ
__________
(1) " مقدور " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): هي.
(3) في (ش): ولكنه.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): فلا.(3/433)
تُوجب تكذيبهم عليه سبحانه.
أما (1) المتشابه، والسحر، والدَّجَّال، فقد ذكرها الله تعالى ورسوله، وكذلك يمكن أن يقال: قد ثبت أنه لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبرهان القاطع، فأغنى ذلك (2) عن تكذيب الكاذبين بأكثر منه، ولله سبحانه الحجة البالغة، ولا أحد أحبُّ إليه العذرُ منه سبحانه، وبنحو هذه الأمور يُجابُ عن قول من قال: إنّ النُّبُوَّات (3) من قبيل الخواص مثل النفوس التي من خواصها التأثير في الآلام المسمَّاة بالعين، وهو أن يقال: إنّ الأمارات الضرورية قد دلَّت على صدق الأنبياء، وعدم تعمُّدهم الكذب، ودلَّ اجتماعهم على تصديق بعضهم لبعض، ومخالفتهم النُّظَّار في ذلك على عصمتهم عن الخطأ، ورفيع منزلتهم، وتميُّزهم عن أجناس المختلفين وأنواعهم، والخواص من قبيل الطبائع التي لا يتأتَّى منها صُدورُ الأمور المُحْكَمَةِ على الدوام، إلاَّ لو كانوا (4) متهمين بالتَّزوير، وترويج الباطل، وقد يضُرُّ (5) المعاين ولده ونفسه، وتحرق النار (6) أكثر من (7) المقصود مرةً ودونه أخرى (8).
وأما الجاحظ، فقد مال إلى أنه لا جواب على هذا (9)، إلاّ أنه يجبُ
__________
(1) في (ش): وأما.
(2) في (ش): بذلك.
(3) في (ش): الثواب، وهو تحريف.
(4) في (ش): إلا وكانوا، وهو خطأ.
(5) تحرفت في (أ) إلى: " نصر ".
(6) في (أ): " الباب "، وهو تحريف.
(7) في (أ): برمي، وهو تحريف.
(8) " من المقصود مرة ودونه أخرى " ساقطة من (ش).
(9) في (ش): عن هذه.(3/434)
على الله المنعُ منه، وليس بجيِّدٍ لوضوحِ هذا الجواب، وعدمِ الوفاقِ على وجوب ما ذكره (1).
فإذا تقرَّر صحةُ الاحتجاج عقلاً بإعجاز القرآن على ثُبوت الرَّبِّ سبحانه، أو بغير القرآن من سائر المعجزات، وعلى عِلمِهِ بقُبح الكذب، وقبح تصديق الكاذب، واستغنائه عن ذلك، جاز الاستدلالُ بالسَّمع بعد ذلك على سائر العقائد حتى على (2) كونه سبحانه غنيّاً عن كل شيءٍ على الإطلاق، فإنه لو (3) لم يتقرر بإعجاز القرآن إلا غناهُ سبحانه عن الكذب، لا سوى، بدليل قدرته على كل شيءٍ من غير واسطة الكذب، مع علمه بقُبحه، فيجب الجزمُ بصدقه، وصدق من صدَّقهُ، ويشهدُ لذلك ما عُلِمَ من أديان الأنبياء من تقرير المسلمين على الإسلام بعد ظهور المعجِزِ، وفي الاستدلال بالمعجزات السَّلامة مِنَ النَّزاع في الحدوث، وفي الطبع، لأن شرط المعجز أن لا يكون وقوعُه سابقاً لدعوى النبوة، ولا موافقاً للعادة، وكثيراً ما يجعل الله المُعْجِزَ من جنس ما يعرفه المعاصرون لصاحب النبوة، ليعلموا أنه متميِّزٌ عن السحر، وعن مَقدورات العباد، مثل تَلَقُّفِ عصا موسى لما جاءت به السَّحرةُ، لمَّا كان السحرُ صنعة أهل ذلك العصر، وإحياء عيسى عليه السلام للموتى، لمّا كان الطِّبُّ صنعة أهل عصره، وإتيان محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن العظيم، لمّا كانت الفصاحةُ صنعة (4) أهل زمانه. ومتى عجز أهلُ العصر، وتواتَرَ عجزُهُم، عُلِمَ من بعدهم الإعجازُ بالتواتر، وإن لم يكن من أهل الصنعة، كالعَجَمي، يعلم إعجازَ
__________
(1) من قوله: " وأما الجاحظ " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في (أ) بدل " حتى على ": " لا ".
(3) "لو" ساقطة من (ب).
(4) في (ش): صنعة الفصاحة، وهو خطأ.(3/435)
القرآن، لما تواتر لهُ من عجز بُلَغَاء الخلق عن معارضته، وَمَن لا يعرف السحر، يعرف (1) باعتراف السحرة أنّ ما جاء به موسى ليس بسحرٍ، ومن لا يعرف الطبَّ، يعلم بعجز الأطباء عن إحياء الموتى أنَّ ما جاء به عيسى عليه السلام ليس بطب، وكذلك ما يجري للأنبياء عليهم السلام من الكرامات زمن (2) الطفولة، وأيام التربية، فإنه (3) يُميِّزهم من السحرة (4)، وكذلك ما يكونُ لهم من الصدق، والزهادة، والعِفَّة، والجلالة، ولذلك (5) كان معرفة سيرهم وأحوالهم من موجبات الإيمان، وقد جمعتُ في ذلك كتاباً سميته " البرهان القاطع في إثبات الصانع، وجميعِ ما جاءت به الشرائع "، وأشرت إلى أنّ الفرق بينهم عليهم السلام وبين السحرة بذلك أولى من النظر في الفرق بين السحر والمُعجز، لتوقُّفِ ذلك على معرفة السحر (6)، ثمَّ شَغَبَ بعضُ أهل العصر في ذلك بمباحث، فألَّفتُ كتاب (7) " ترجيح أساليب القرآن " وتقصَّيتُ فيه الجواب على المباحث في ذلك (8)، فليُطالعهُ من أراد تحقيق هذا المهم.
والأمر الثاني مما أردته بقولي:
أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ
النظر في الأدلة التي أمرنا الله تعالى أن ننظُر فيها، أو حثَّنا على النَّظَرِ
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): من.
(3) في (ش): وأنه.
(4) في (ش): السحر.
(5) في (ش): وكذلك.
(6) ص 22 - 30.
(7) في (ش): كتاباً سميته.
(8) في (ش): الجواب عن ذلك.(3/436)
فيها، كقوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]، وقوله تعالى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ -إلى قوله- ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج: 5 - 6]، وكذا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - إلى قوله- لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وما لا يأتي عليه العدُّ، وهذا أمرٌ لا يصلح أن يكون فيه خلاف بين المسلمين (1) البتة، ومن أدّاهُ الغُلُوُّ إلى تقبيح الاكتفاء بهذه الأدلة، وجب على جميع المسلمين النَّكيرُ عليه، والإغلاظُ له، وقد ظهر لي أنّه قولُ أئمَّة الكلام، فضلاً عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام.
قال الحاكم في " شرح العيون ": وأمّا الفصلُ السابعُ فيما رُوِيَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخوض في الكلام، فلا شُبْهَةَ أنّه دعاهم إلى هذه الأُصول، والنَّظَرِ في الأدلَّة بمَا تلا عليهم من الآيات في أدلَّة التَّوحيد، والعدل، والنُّبُوَّات.
وذكر مختار في " المجتبى " الاستدلال بطريقة الأحوال في الطريق الرابع من الباب الثاني، ثمَّ قال: وقد جمعها الله تعالى في قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ -إلى قوله- لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
وقال الرَّازي في كتابه " الأربعين " (2) في الكلام على النُّبُوَّات في عرض الكلام في المعجزات العقليَّة: بل أقرَّ الكُلُّ بأنّه لا يُمكِنُ أن يُرادَ
__________
(1) في (ش): الناس.
(2) في (ش): الأربعون.(3/437)
في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن، فهؤلاء الغلاة في الكلام يصرحون بذلك، فلا تلتفت إلى قول من ينكره منهم عند استظهار أهل السنة عليهم في الحجة بذلك، لأن إقرارهم بذلك يلزمهم ترك الخوض فيه، ولزوم منهاج أهل السنة، وذلك واضح، ولله الحمد.
وقال الغزالي في " القدسية " (1) في الأصل الأول من الركن الأول في معرفة وجوده تعالى: وأوَّل ما يُستضاء به من الأنوار، ويسلك من طريق النظر والاعتبار بما أرشد إليه القرآن، فليس بعد بيان الله بيان. ثم ساق الآيات القرآنية، وكذلك فعل يحيى بن منصور في كتابه " الجمل الإسلامية "، فإنه صدر الاحتجاج فيها بالآيات القرآنية، كما ذلك معروف.
وقال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في أوائل كتاب " التمهيد " في القول في وجوب النظر ما لفظه: وكيف يقال: إنهم مُنكرون للخوض في هذه الأدلة، وأكثر القرآن مُشتملٌ على ذكرها وشرحها، ولنذكر منها واحدة يُقاسُ بها الباقي، وهي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] إلى آخر السورة، فالله تعالى حكى في هذه الآية إنكار المنكرين للإعادة (2)، وقرَّر وجه شبهتهم، وأجاب عن كل واحدة منها بوجه يخصُّه، وطوَّل في بيان ذلك إلى قوله: فأمَّا الآيات الدالة على إثبات الصانع وصفاته، والنبوة، والرد على منكريها، فأكثرُ من أن تُحصى.
__________
(1) وهي " الرسالة القدسية في قواعد العقائد "، وهي أيضاً قسم من كتاب " الإحياء "، وهو كتاب قواعد العقائد في الجزء الأول منه. وإفرادها على حدة جاء في مخطوطات عدة، وتسمى الرسالة الوعظية. وانظر " إحياء علوم الدين " 1/ 182.
(2) في (ش): للعادة، وهو تحريف.(3/438)
وقال قاضي القضاة في المجلد الرابع من " المحيط في النبوات " في ذكر إعجاز القرآن ما لفظه: واتَّفق فيه أيضاً استنباطُ الأدلة التي تُوافقُ العقول، وموافقة ما تضمنه لأحكام العقل على وجه يَبْهَرُ ذوي العقول، ويحيِّرهم، فإن الله سبحانه يُنبِّهُ (1) على المعاني التي يستخرجها المتكلمون بمعاناةٍ وجهدٍ بألفاظ سهلةٍ قليلةٍ، تحتوي على معانٍ كثيرةٍ، كما ذكره عزَّ وجلَّ في نقض مذاهب الطبائعيين في قوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} الآية [الرعد: 4]، وفي الآيات التي ذكرها في نفي الثاني، وفي غير ذلك من الأبواب التي لا تكادُ تحصى. انتهى بحروفه.
وقال القاضي عياض في " الشفاء " (2): ومنها جَمْعُهُ لعلوم (3) ومعارف لم تَعهَدِ العربُ عامةً، ولا محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل نبوَّته خاصة (4) بمعرفتها، ولا القيام بها، ولا يُحيطُ بها أحدٌ من علماء الأُمم، ولا يشتمل عليها كتابٌ من كُتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طُرق الحُجج العقليات، والرد على فِرَقِ الأمم ببراهين قوية، وأدلة بيِّنةٍ، سهلة الألفاظ، موجزة المقاصد، رام المتحذلقون بعد أن ينصبوا (5) أدلة مثلها، فلم يقدروا عليها، كقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، و {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] إلى ما حواه من علوم السير، وأنباء الأمم، والمواعظ، والحكم.
__________
(1) في (ش): نبه.
(2) 1/ 277.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): خاصة قبل نبوته.
(5) في (ش): يثبتوا.(3/439)
وقال محمد بن منصور في كتاب " التوحيد والجملة ": وإنما جاءت الرسل بغاية الحجة على من سألها بما بين الله لها، وأنزل في كتبه إليها، لم تَعْدُ ذلك إلى غيره، ولن تُكون حجةٌ أبلغ في الدلالة على الله من حُجج أنبياء الله التي أبلغها عن الله خلقه، ولا أهدى لهم إن قبلوها، قال الله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ثم ساق مُحاجَّة إبراهيم إلى قوله: وقالوا عند مسألة فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} الآية [طه: 49 - 50]، وقال فرعون أيضاً: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23 - 24]، وفي آية {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فلم يتعدَّ موسى في الجواب عند مسألة فرعون غير ما أنبأه (1) اللهُ به في الكتاب، وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - حين سأله قومه: مَنْ يُعيدُنا؟ فأمره الله بالجواب {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، فلم يُكلِّفْهُ من الحجة والجواب غير ما قال له في الكتاب، ولمَّا قالوا له: انسُب لنا ربَّك، نزل عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخر ما ذكره في كتاب " الزيادات " (2) من المجلد السادس من " الجامع الكافي ".
ولما وقف هذا المشارُ إليه على أبياتي هذه، حسب أنِّي استدللتُ على السمع بالسمع (3)، وظنَّ أنَّ مُرادي " أصول ديني ": السمعُ لا العقل، وظن أنَّ أهل السُّنة لا يرون العقل شيئاً، كأنَّه لا يعلم إجماع المسلمين أنه لا تكليف على صبيٍّ ولا مجنون، ولا بُدَّ من نظر العقل،
__________
(1) في (ش): أنبأ.
(2) " الزيادات " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): بالسمع على السمع.(3/440)
ولذلك أمر الله بتدبر كتابه، فبأيِّ شيء يتدبَّرُهُ إلاَّ بالعقل؟ وإنما منعوا من وضع النظر في غير موضعه، ومن الطرائق (1) المبتدعة الضارة، نسأل الله الهداية (2)، وهذا تمام الأبيات:
أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ ... وليس لي في أُصولٍ غيره غَرَضُ
لولاه بالنصِّ ما كان الرسولُ درى ... ما هو الكتابُ ولا الإيمانُ يَفتَرِضُ
ما احتجَّ قطُّ نبيٌّ في الكتابِ بما ... قالوا كأن لم يكُن في وقتهم عَرَضُ
جاء الهُدى والشِّفا فيه وموعِظةٌ ... ورحمة قولُ ربٍّ ليس ينتقِضُ
إشارة إلى قوله تعالى في يونس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58].
وفي توهمهم إن الخليل به اسـ ... ـتدل أفحش وهم ليس يرتحض
ما الفرق في ذاك بين النيرات وما ... بين الأفولين للنظار لو محضوا
وما لهم عن دليل المعجزات أما ... في الشمس عن زحل للمهتدي عوض
دليل موسى لأهل السحر عرفهم ... في ساعة فغنوا عن علمهم ورضوا
وما تحقق ما أوجبتم سنة (3) ... إلا ذكي حريص ليس يغتمض
وذاك أوضح ما حج الكليم به ... فرعون في الشعرا والكفر ينخفض
وعلل الله أعلام الأنام بأهـ ... ـل الكهف بالعلم (4) تعليلاً هو الغرض
كما تقرر في الكشاف وهو من الـ ... ـخصوم، لكن أمر الحق منتهض
__________
(1) في (ش): الطريق.
(2) عبارة " نسأل الله الهداية " ساقط من (ش).
(3) في (ج): شبه.
(4) " بالعلم " ساقطة من (ج) و (ش).(3/441)
إشارة إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (1) [الكهف: 21].
تجري على ألسُنِ الأعداء مُتَّضِحَاً ... عساهُ يشفي الذي في قلبه مرضُ
فما لهم إن جرى ذكرُ الكلام ... وإن ذكرنا كلام الله ينقبض
وليتهُم إذ دَرَوْا علمَ الكلام دروا ... أنَّ الشفاءَ الذي ظنُّوا به مَرَضُ (2)
قالوا: السُّكُونُ (3) وجودٌ ثابتٌ عَرَضٌ ... وقطعُهُم فيه بالتَّشكيك مُنْتَقَضُ
لعلَّ وُجْدانه من ضدِّهِ عدمٌ ... كالجهلِ والموت للأحياء يعترضُ
قالوا: فذاتُ كلا الكونين لبثهما ... ولا دليلَ لهُم في ذاك ينتهِضُ
وكيف يتَّحِدِ الضدان من جدلٍ (4) ... والأوَّليّ ببحثٍ ليس ينقرِضُ
بل السكوتُ هو اللبثُ الذي زعموا ... والاحتراكُ بذاك اللبثِ يُرتَفَضُ
إذِ السكوتُ بسيطٌ يستحيلُ لهُ ... فضلٌ ومعناهُ بالتقييد ينتقِضُ
ألا ترى أنه في طُولِ مدَّته ... فرد على الفرضِ منَّا أنَّه غَرَضُ
وقيدُهُم لبثُه وقتاً بنقلته ... في الاحتراك ركيك ليس ينتهضُ
إن كان ذا القيد شيئاً كان ذاك هو الـ ... ـتحريكُ أو لم يكن شيئاً فما الغرضُ
فإن تقولوا انتفى الماضي فذا عدمٌ ... ووصفُه بحدوث الذات معتَرَضُ
وإن تقولوا: هو المجموع فهو بنا الـ ... ـموجود من عدمٍ والخلف ينتقض (5)
إنَّ البَسَائطِ لا تركيب يدخُلُها ... إذ كُلُّ ما رُكِّبَتْ أفرادُهُ فَضَضُ
وكُلُّ ذاك إضافاتٌ وحاصِلُها ... تخيُّلٌ لذواتٍ ليس تُمْتَحَضُ
__________
(1) من " إشارة إلى " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) هذا البيت ساقط من (ب).
(3) في (ب): السكوت.
(4) في (ش): حدث.
(5) في (ج) و (ش): منتقض.(3/442)
كوصفهم لمقالٍ لا وجود لهُ ... معاً فما وصفُ حرفٍ بالذي فرضُوا
وبعضُ مُحتركِ الأجسامِ أثقلُ مِنْ ... بعضٍ وفي ذاك بحثٌ ليسَ يغتمضُ
سريعُها لابثٌ وقتاً بكُلّ جها ... ت الكونِ حتَّى لُمُوع البرقِ إذ يفِضُ
وضدُّه لابثٌ ضعف (1) السريع بلا ... ريبٍ -على زعمِهِم- والحقُّ مُفترضُ
فكان في جهة (2) وقتين مُحترِكاً ... وجمعُ ذا باضطرار العقلِ يُنتقضُ
ولو تَحَلَّل في ذاك السُّكُون لَمَا ... خفي إذا كان أضعاف الذي يَفِضُ (3)
وكان عن قصدِنَا فيما يكونُ لنا ... لا سيما في الذي ينهَى ويفترِضُ
فانفد (4) حدودهم الأكوان إنَّ بها ... مُزيَّفاً باطلاً بالنقدِ يُرتَفَضُ
فإن قضينا ببُطلانِ الحدودِ، فَذَا ... وإن نقُل باعتباراتٍ، فذا الغَرَضُ
ويشهدُ الظلُّ والنَّجم البطيء لقو ... ل الاعتبار إذا خرَّ الذي يفضُ (5)
صحَّ السُّكُونَ طويلاً فيهما لُغَةً ... والاحتراكُ لمحضِ العقل مُمتحضُ
والحقُّ أنَّ السكونَ والبقاء ردِيـ ... ـفَاً للَّبثِ والكون في المعنى هو الغَرَضُ
وقولُنا الكونُ ذاتٌ غيرُ مُتَّضحٍ ... لأنه باعتبار الوقت مُعتَرضُ
وهو الوجودُ يُسمَّى باعتبارهما ... اسماً وما كُلُّ لفظٍ تحتهُ غَرَضُ
ولا دليلَ عليه وهو مُحتَمَلٌ ... والاحتمالُ بميلِ الظِّلِّ ينتهض (6)
ونُقْلَةُ الجسم والتحريك قطع مسا ... فة ترادُفُها ما ليس يُعتَرَضُ
فالكونُ في حالةِ التحريكِ يُطلقُ لا ... يُقالُ: لبثٌ له، فاللبثُ يُنتَقضُ
إذ فيه معنى السُّكونِ وهو مُحتَرِكٌ ... كما تقدَّم في المبطي وما يَفِضُ
__________
(1) في (ب): ضد.
(2) في (ب) و (ج): وجهه.
(3) في (ش): نقض.
(4) في (ب): فافقد.
(5) في (ش): نقض.
(6) في (ج) و (ش): منتهض.(3/443)
والنَّجم والنَّبْتُ (1) والظلُ الجميعُ سكو ... نهُنَّ كالطفلِ بالبرهانِ مُعتَرَضُ
هذا المُطابِقُ والموضُوعُ في لُغةٍ ... وأوهمُوا فيه بالملزُوم فاعترضوا
فلا تظُنَّ اختلافَ اللفظِ يلتزمُ الـ ... أشيا ولا كُلَّ معنى تحتَهُ غَرَضُ
فالجهلُ لفظٌ لهُ معنى وليس لهُ ... ذات، كذلك موتُ الحيِّ لا المَرَضُ
يعني الجهل اللُّغوي، وكذلك النوم والسهو، والجنون، وكذلك الموت، لأنه زوالُ الحياة، ولو كان معنى، لزم أن يكون للجمادِ معنى بكونه جماداً، بل العدمُ المحضُ لفظٌ له معنى معقول (2)، وليس بشيءٍ ضرورة.
والعَدمُ المحضُ معقولٌ تجدُّدُه ... لفظاً ومعنى ولا وصفٌ ولا غَرَضُ
فلا ترُدَّ نُصوصَ الذِّكر مُعتمداً ... على خيالٍ لأذكى منك يَنتَقِضُ
ورُبما جاء أذكى مِنكُما فَغَدَا الـ ... إسلامُ في كُلِّ يومٍ وهو يُرتَفَضُ
فَقِفْ على الجُمَلِ المعلُومِ صحَّتُها ... ولا تُجَاوِزْ، وقولُ النَّصْحِ مُفتَرَضُ
ومعنى البحث الأول الوارد بعد قولي:
قالوا السُّكونُ وجودٌ ثابتٌ عَرَضٌ ... وقطعُهُمْ فيه بالتَّشكيك ينتقض
أنهم جعلوا مُجرَّد كون الجسم في الجهة لبثاً فيها، سواء كان قاطعاً لها بالحركة والنقل، أو قاراً فيها وقالوا: لا فرق بين الحركة والسكون بالنظر إلى ذاتهما البتَّة، فإنَّ ذاتهما واحدةٌ، وهي اللبث عندهم، ولكن ذلك اللبث إنِ استمرَّ وقتين فصاعداً، وإن قصر، فهو السُّكون، وإن لم يستمر (3) وقتين وكان (4) بعد نقله، فهو الحركة، وإن كانت بطيئة، وهذا
__________
(1) في (ش): واللبث، وهو تحريف.
(2) في (ب): مغفور.
(3) في (ب): يستمروا.
(4) " وكان " ساقطة من (ب).(3/444)
فاسد من وجهين:
أحدهما: ما ذكرتُه من فساد تركيب المعاني البسيطة.
وثانيهما: ما نظمته (1) في هذه الأبيات، وتلخيصُه: أنا إذا فرضنا محتركين في جهاتٍ مستوية الأطراف، وكان أحدهما يقطعها في ساعة، والآخر في ساعتين أو أكثر، وكان مُجرَّد الكون في الجهة لُبثاً فيها، استلزم بالضرورة أنَّ البطيء (2) قد لبث في كلِّ جهة وقتين قصيرين من أوقات سريع الحركة الذي قطع تلك الجهات كلها في ساعة، وهذا يستلزم أحد أمرين:
إمَّا أنَّ البطيء يُسمَّى محتركاً ساكناً معاً باعتبار الجهتين، أعني: متحرِّكاً باعتبار قطع المسافة، ساكناً باعتبار ما هو أسرعُ منه، كما يصحُّ تسمية الظل والنجم ساكنين (3) باعتبار الرؤية، ومحترِكَيْنِ باعتبار البرهان، وحينئذٍ يحصُلُ الغرضُ، وهو أن الأكوان ليست أشياء حقيقةً، لأنَّ الأضداد الحقيقية لا تجتمعُ، كالسَّواد والبياض، بخلاف الإضافيَّة، كالقبلية والبعدية في اليوم، بالنظر إلى أمسِ وغدٍ.
وهم يعتذرون عن هذا بأنَّ في الحركة الثقيلة سكوناتٍ (4) متخلِّلة، وقد أبطله الرازي في " الملخص " بوجوه:
منها، ما أشرتُ إليه في الأبيات، وهذا لفظُ الزازي، قال: لو كان
__________
(1) في (ش): تضمنته.
(2) في (أ): المبطىء.
(3) من قوله: " باعتبار الجهتين " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ب): سكونان.(3/445)
كذلك، كان نسبةُ السكنات المتخلِّلة من حركات الفرس التي (1) تعدو من أول اليوم إلى الظهر خمسين فرسخاً إلى حركاته، كنسبة فضل حركة الفلك الأعظم إلى حركاته، لكن الفلك الأعظم قطع قريباً من ربع مقداره، ومعلومٌ أنه أزيدُ من المسافة المذكورة ألف ألف مرة، فيجبُّ أنْ تكون سكنَاتُ هذه الفرس أزيد من حركاته ألف ألف مرة، ولو كان كذلك، لما ظهرت الحركات الفرسية (2) ما بين خَلَلِ تلك السكنات، لكن الأمر بالعكس، فإنَّا (3) لا نُشاهدُ في (4) حركاته (5) سكناتٍ أصلاً، فيجب أن لا يكون البطءُ المتخلل (6) السكنات، انتهى من التقسيم الثاني في تقسيمات الحركة.
وإمَّا أن ينتقض قولهم: إنَّ مجرَّد السكون (7) لُبث، ويكون الُّلبث مُرادفاً للسكون، بل هو في عُرْفِ اللغة أطول منه، قال في " الضياء ": هو الإقامة، قال الله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23].
والذي يقوم عليه الدليل أنَّ اللبث والسكون يُضادَّان النُّقلة وقطع المسافة، وأنَّ (8) الكون في المكان كالجنس، وهو المسمى في عُرفهم بالكون المطلق، فإن طال حتَّى اتَّصف بما يُناقضُ النقلة ويضادها، فهو اللبث والسكون بالنظر إلى المكان، والبقاء والدوام بالنظر إلى الزمان، وإن لم
__________
(1) في (ش): الذي.
(2) في (ش): " ألف سنة " وهو تحريف.
(3) في (ج): فأما، وهو خطأ.
(4) في (ش): " من "، وهي ساقطة من (ب).
(5) ساقطة من (ج).
(6) في (ش): فوجب أن لا يكون النطق لمتخلل، وهو تحريف.
(7) في النسخ: الكون، وكذا كُتِبَ فوقها في (أ).
(8) في (ش): فإن.(3/446)
يطُل طولاً يناقض مُطلق النقلة السريعة والبطيئة، فهو كونٌ مطلقٌ في كلِّ جهةٍ، ولا يُوصفُ بلُبْث، كما لا يُوصف بسكون، ولا فرق بين كونه في المكان وبين وجوده فيه إلاَّ في العبارة. وحاجته إلى المكان لا توجب حاجته إلى ذاتٍ تحُلُّهُ، كما أن حاجته إلى الزمان لا تُوجب ذلك عند الخصم، ولو سلَّمنا جواز ذلك، فلا يثبتُ بمُجرَّد التجويز. والاستدلال بمثل قولهم: إنَّ المتحرك إذا سكن، فقد حدث، أمرٌ باطل، لوجهين:
الوجه (1) الأول: ما ذكره الرازي في كتابه " الملخص في الجواهر والأعراض "، فإنه ذكر أنَّه ضعيفٌ؛ لأنَّ الحادث بشرط كونه مسبوقاً بالعدم يمنَعُ أن يكون صِحّةُ حصوله على هذا الشرط أزلية، وإلاَّ اجتمع النفي والإثباتُ، فهو قد كان ممتنعاً، ثمَّ صار مُمكناً، وقد ثبت بالدلالة أن الامتناع والإمكان يستحيلُ كونُ واحدٍ منهما أمراً ثُبوتياً، ولأن الشيء أن حدوثه (2) حادث، وغيرُ باقٍ، ثمَّ يصيرُ بعد ذلك باقياً، ويزولُ عنه كونه حادثاً، مع أن الحدوث قد كان يستحيل أن تكون صفتُه ثُبوتيّةً، وإلاَّ لزم التسلسل، والبقاء أيضاً ليست صفة ثبوتية، وإلاَّ لَزِمَ الدَّوْرُ، وكذا القول في جميع الأحوال الاعتبارية التي لا ثبوت لها في الخارج. انتهى بحروفه منسوباً إلى زيتون، ذكره في الفنِّ الخامس في الحركة والزمان من الباب الثاني في بقيَّة المقُولات.
الوجه الثاني: سلَّمنا أنَّ أحدهُما ثبوتيٌّ، فلا يلزمُ أنَّ المتحرِّكَ إذا سكن فيه حدوثُ (3) أمرٍ لجواز أنَّهُ عدمُ أمرٍ، كالجهل، والموت، والظلِّ
__________
(1) ساقطة من (ش)، وفي (ج): أحدهما.
(2) في (ش): حدثه.
(3) في (ب): إذا حدث سكن فيه، وفي (ج): إذا سكن فقد حدث، وفي (ش): إذا سكن حدث فيه.(3/447)
بعد الشمس، وما لا يُحصى. ومجرَّدُ اختلاف الأسماء لا يدلُّ على الذوات كما قدَّمنا، وكالسُّرعة (1) والبطء في الحركة، وكذلك الأحكام الشرعية كلُّها، وهي الوجوب، والنَّدْبُ، والإباحةُ والحظر، والكراهة.
فإذا عرفت معنى اللُّبث والسُّكون، والبقاء والدوام، فاعرف أنَّ الحركة هي قطعُ المسافة، وهي النُّقلة، وليست اسماً للكون في الجهة من حيث هو كون، ولا يدلُّ على ذلك دليلٌ، ولذلك اشترطوا في حدها النقلة، لعلمهم أنهم لو لم يشترطوه، لبطل قولهم ضرورةً، ومع اشتراطه وثُبوتِ الحركة به، وانتفائها بانتفائه، يتعيَّنُ القول بأنه الحركة، والحمد لله.
وبيان ذلك بعرضه على دلالتي المطابقة والالتزام، فإنَّ الحركة في دلالة المطابقة الوضعية في الحقائق الثلاث تدلُّ على النُّقلة، وقطع المسافة من حيث هي كذلك، ولا تدلُّ على الكون في الجهة من هذه الجهة (2) البتة، وإنَّما يدلُّ على ذلك بدلالة الالتزام العقليَّة، كدِلالة الجسم على ذلك محقَّقاً، وهم عكسوا ذلك عكساً مُحقّقاً.
فرضٌ على مِثْلِ هذا النَّقل (3) قولُهُمُ ... تَجِدْهُ مِثْلَ شَرابٍ شُربُهُ حَرَضُ
هذا وإنِّي على ردِّي لِقَولِهِمُ ... أحنُوا عَلَيْهِمْ وإنْ عابُوا وإن بَغَضُوا
إخوانُنَا وعلى الدِّين الحنيف وإنْ ... أخطَوْا، فَمَا الشمُّ يومَ الرِّيحِ تَنْتَقِضُ
لهُم سوابِقُ مِنْ علمٍ ومِنْ عَمَلٍ ... فَكَمْ أَصَحُّوا وكَمْ صحُّوا وإن مَرِضُوا
__________
(1) الواو ساقطة من (ش).
(2) عبارة " من هذه الجهة " ساقطة من (ب).
(3) في (ب) و (ج) و (ش): النقر.(3/448)
ولي ذُنُوب إذا قِيسَتْ بذَنبِهِم ... رُدَّتْ عليَّ ردوداً (1) ليس يَنْتَقِضُ
فاللهُ يُوسِعُنِي فَضْلاً ويوسِعُهُمْ ... فَمَقْصِدُ الكُلِّ أنَّ الحَقَّ يَمْتَحِضُ
وإنَّما نظمتُ هذه المباحث في الأكوانِ على كراهتي للخوض في هذا العلم، لأنَّها لا تَعَلَّقٌ بالكلام في ذات الله تعالى وصفاته، ورجوتُ انتفاع بعضهم بمعرفة ذلك، ومعنى بقية هذه (2) المباحث أنَّ دليلَهم مبنيٌّ على أنَّ الأكوانَ ذواتٌ ثابتةٌ غيرُ عدميَّة، ومن المُمْكِنِ أن يكون السُّكون عدم الحركة، كما أن الجهل عدم العلم، إلا (3) أنه أمرٌ ثبوتيٌّ، فلا يصحُّ قولهم: إنه إذا سكن المحترك، فقد حدث أمرٌ لجواز أن يكون الصواب أنه عدمُ أمرٍ، كما لو عدم العالم، وقد أضربوا عن هذا السُّؤال في كُتُبِهِمْ مثل: " الشرح وتعاليقه "، " والخلاصة وتعاليقها "، وذكره الرازي في " الأربعين "، وحاولوا (4) الجواب عنه بالتزامِ (5) أنَّ الحركة والسكون ذات (6) واحدة، وهي من قبيل (7) اللُّبث، لكن إن استمرَّ وقتين فصاعداً، فهو السُّكُونُ، وإلاَّ فإن كان بعد نقله، فهو الحركة، وإلاَّ فهو الكونُ المطلق، ولبثُ الحركة عندهم في الوقت الثاني ينقلِبُ سكوناً، وهذه (8) منهم غفلةٌ عظيمةٌ، فإنَّ انقلاب الذوات محالٌ، والمعاني كُلُّها بسيطةٌ، لا تركيب فيها كالعلم، والسكون عندهم متركِّبٌ مِنْ لُبثين (9) فصاعِدَاً، وعلى
__________
(1) في (ش): ردود.
(2) في (ش): بقية معرفة هذه.
(3) في النسخ: لا.
(4) في (ش): وحالوا.
(5) في (ج): والتزام.
(6) في (ب): ذوات.
(7) في (أ) و (ب): قبل.
(8) في (ش): وهذا.
(9) في (ش): اثنين.(3/449)
هذا يصحُّ أن يكونَ له نصف، ويلزمُ أنَّه لو طال، لكان سكونات كثيرة، وهم لا يقولون به، ثم الحركةُ عندكم متركِّبة من لُبْثِ المتحَيِّز وقتاً واحداً في المحلِّ الثاني، ومِنْ عدم لُبثها في المحلِّ الأوَّل، والذوات الثبوتية الحقيقية (1) لا تُرَكَّبُ من العدم، والعَدَمُ لا يُوصَفُ بالحدوث.
فإن نازعوا في هذه المعاني، نازعوا في الضرورة، وإن سلَّموها، وزعموا أنهم اصطلحوا هذه الأسماء لهذه المُسمَّيات، فاختلاف الأسماء لا يُحيلُ الذوات ويقلب المعاني، ويتركَّب عليه الدليل، ثم يلزمهم في البقاء أن يكون معنى كالسكون (2)، لأن استمرار الوجود يسمى بالنظر إلى الزمان بقاءً، وبالنظر إلى المكان سُكوناً، ثم إنهم يقولون في الكون المقارب لحدوث الجسم: إنه فعل الله.
فإما أن يكون الجسم (3) مقدوراً من غير كون، لَزِمَ صحةُ خُلوه عنه، وإما أن يكون غير مقدورٍ إلاّ به، لزم نفيُ اختيار الله تعالى في خلقه الجسم منفرداً، وفي هذا منع القادر على كل شيء من مقدور معلوم أنه يقدر عليه إلاَّ بأن يخلُقَ معه شيئاً (4) آخر من غير برهان قاطع.
وأما كونه لا بُدّ أن يكون في جهةٍ معيَّنةٍ فذلك بالفاعل، لا بمعنى كما أنه لا بد أن يكون وقت مُعين، وذلك بالفاعل لا بمعنى اتفاقاً، وقال لهم منازعوهم: ما المانعُ من أنّ المؤثر في هذه الأشياء هو الفاعل من غير واسطة معنى؟
قالوا: المانعُ من ذاك أنا رأينا كلامنا لمّا كان مقدوراً لنا، قدرنا على
__________
(1) في (ش): الحقيقة.
(2) في (ش): السكون.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): شيء.(3/450)
أن نُوجده على صفاته كلها من نحو كونه خبراً وأمراً ونهياً، وكلامُ الغير لما لم يكن مقدوراً لنا، قدَّرنا لم نقدر (1) على جعله صفةً، فثبت أن كل ما لم يكن مقدوراً، كان مثل كلام الغير، والموجود غير مقدور، فلو قدرنا على جعله على صفةٍ قدرنا على جميع صفاته، فنجعله أسود وأبيض، وحلواً ومُرّاً.
وأجاب منازعوهم: بأن هذا القياس يتركب (2) على غلطٍ واضحٍ، فإن وصف الكلام بأنه خبرٌ وإنشاء ونحو ذلك ليس بوصفٍ ثبوتيٍّ حقيقيٍّ، بدليل أنه لا يصحُّ أن يُوجد من الكلام إلاَّ حرفٌ بعد حرفٍ، والمعدوم من الحروف لا يُوصفُ، والموجود منها ليس إلا حرف واحد (3)، والحرف الواحد ليس بكلامٍ وفاقاً (4)، فكيف يُوصفُ ما ليس بكلامٍ بأنّه خبرٌ أو إنشاء، ويكون ذلك الوصف حقيقياً؟
وإذا كان هذا حال الميزان المقيس عليه، فكيف حال الموزون به؟ ثم ما المانع أن تكون بعض الصفات مقدوراً دون بعض؟ كالأعراض عندكم، وما الجامع بين الأكوان، والألوان، والطعوم؟ فدلَّ على أن هذه الصفات إضافيةٌ لا حقيقة لها، أو أن (5) بعضها كذلك، وبعضُها ثبوتيٌّ، والصحيح أن الحركة قطعُ المسافة، والمرجع بالإجماع، والافتراق إليهما، وهذه إشارةٌ لطيفةٌ على حسب اختصار الأبيات، وتمكن الصارف من البسط في هذا العلم، ومن أحبَّ معرفة المباحت في هذه المسألة،
__________
(1) في (ب): لم نحصل نقدر.
(2) في (ش): متركب.
(3) في (ش): حرفاً واحداً.
(4) في (ش): واحداً وفاقاً.
(5) في النسخ: وأن.(3/451)
فعليه بكتاب " منهاج السنة النبوية " (1)، وكتب ابن تيمية الكلامية، وفي كتب الرازي، وأصحاب أبي الحسين شيء منها غير مستوفى، وكتب الرازي أكثر من غيرها، وأما كتبُ المتكلمين من الزيدية والبهاشمة (2) في عصرنا، فما فيها من هذا ما يُغني البتة، وإنما ذكرتُ هذا لإرشاد (3) من لا بُدَّ له من البحث، مع أنَّ الأولى تركُ هذه الوساوس والخيالات، والإقبال على أدلة الكتب السماوية، والسنن النبوية المحروسة من الزَّيغ، المصونة من الوهم (4). نسألُ الله السلامة.
ولأهل علم المعقولات أسلوبٌ آخر في الاستدلالِ بالحركة وتقسيمها إلى ستِّ حركات يجمعها الابتداء من كل تغير (5)، وهي حركة الكون (6)، والفساد، والنُّمو، والنُّقصان، والاستحالة، والنقلة، وهي طبيعية وقسرية (7)، وكلاهما إما أن يتحرَّك المتحرك بكلِّه كانت حركته مستقيمة (8) أو بجزئيه (9) كانت مستديرة، وقد كنت أثبتُّ الجواب ونقضه هنا، ثم رأيتُ ترك ذلك وإفرادَه في (10) مؤلَّفٍ.
__________
(1) وتمام اسمه: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " وقد طبع في أربعة أجزاء في المطبعة الكبرى الأميرية في مصر سنة 1322 هـ. ثم طبع بتحقيق الدكتور رشاد سالم رحمه الله رحمة واسعة.
(2) في (ش): " البهاشمية "، والبهاشمة -وهم البهشمية-: أتباع أبي هاشم الجبائي من معتزلة البصرة. انظر " الملل والنحل " 1/ 78 - 85 للشهرستاني.
(3) في (ب): الإرشاد.
(4) في (ش): المصونة من الزيغ، المحروسة من الوهم.
(5) في (ش): غير.
(6) في (ب): اللون.
(7) في (ب): وبشرية.
(8) في (ش): مستديمة.
(9) في (ب) و (ش): جزئية.
(10) في (ج): من.(3/452)
وقد اعترض بعضُ غُلاة (1) المتكلمين من أهل العصر على أهل الأثر بأنه إنما قال بذلك من هو جامِدُ الفطنة مثل مالكٍ، وبُلْهِ المحدثين، لقلَّةِ ممارستهم للعلوم، واقتصارهم على فنِّ الحديث، وكلامه هذا من فضلات الكلام المؤذي الذي ليس تحته أثارةٌ من علم، وقد قصد به ذم المحدِّثين كلِّهم، ووصمهم (2) بالبَلَهِ، لأن القول الذي نسبه إلى البُله منهم هو قول جلتهم وأئمتهم (3)، ولأنه صرح بنسبة البله إلى إمامهم: إمام دار الهجرة النبوية المُجمع على إمامته وورعه واجتهاده، ذلك شيخ الإسلام الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فكيف بمن دونه منهم، ولأنه علَّل ذلك بعلةٍ تعُمُّهم، وهي ترك (4) ممارسة علوم أهل النظر والجدل، فينبغي تأديبُه على هذه الكلمات المؤذية الزائدة على القدر المحتاج إليه من عبارات المتناظرين في طلب المعرفة، وذلك بذكر بضعة عشر وجهاً على سبيل التَّقريع والتَّأديب:
الأول: أن عادة أهل العلم والفضل، وأهل الإسلام والخلف والسلف، وأهل البدع والكلام، وأهل كتب المقالات في الملل والنِّحل، كلهم استمرت على نسبة الأقوال إلى أهلها من غير زيادة سخريةٍ، ولا غمصٍ، ولا أذى (5)، ولا استهانة، مُنَزِّهين لألسنتهم عن خَبَثِ (6) السَّفه، ولمصنفاتهم عمَّا يدلُّ على قلة التمييز والمناصفة، فترى
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): ووصفهم.
(3) " وأئمتهم " ساقطة من (ج).
(4) في (ش): تركهم.
(5) في (ش) ازدراء.
(6) في (ش): من حيث.(3/453)
المتكلمين يقولون: ذهبت الثَّنوية إلى كذا، وذهبت النصارى إلى كذا، وكذلك سائر أهل المقالات علماً من المحصِّلين أنه لا حاصل تحت السَّفه، وأنه مقدورٌ لأدنى السُّوقة، وإنما يُوجَدُ ذلك في كلام كثير (1) من العلماء عند الانتصاف من البادي (2) بالعدوان، قال الله تعالى في مثل ذلك (3): {لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
الثاني: أنك علَّلتَ (4) جُمود فِطَنِهِمْ وبَلَهَهُم بقلةِ ممارستهم للعلوم النظرية، والأساليب الجدلية، وهذه هفوةٌ عظيمة، لأن هذه العلة قد شاركهم فيها خِيرَةُ الله من خلقه من الملائكة المقربين، والأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والتابعين، والأبدال والصَّالحين.
فإن كان هذا المعترض يجعل هذه العلة مؤثِّرة صحيحة، ويستلزمُ ما أدت إليه من الزِّراية على كُلِّ من ترك الخوض في الكلام والجدل والممارسة لأساليب العلم المنطقي، فقد تعرَّض للهلاك، وارتبك في الغباوة أيَّ ارتباكٍ، وانتظم في سلكِ الحسينية المخذولين (5) المفضِّلين لبعض المتكلمين على الأنبياء والمرسلين، وإن كان يأبى ذلك (6) إباء المسلمين، ويأنَفُ منهُ أنَفَة المؤمنين، فقد تبيَّن له أن من كان له أُسوةٌ في ترك الممارسة لهذه الفنون بالملائكة المقرَّبين، والأنبياء والمرسلين (7)،
__________
(1) في (ش): ذلك كثيراً.
(2) في (ش): المبادي.
(3) " في مثل ذلك " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): أنه علَّلَ.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): من ذلك.
(7) من قوله: " ويأنف منه " إلى هنا، مكرر في (ش).(3/454)
وسائر من ذكرنا من الصالحين، فهو حريٌّ بالتبجيل والتعظيم والتوقير والتكريم، فيا سيَّال الذهن، ووقَّاد القريحة، مَنِ الأبلهُ الآن؟ هل من علَّل بهذا التعليل العليل (1)، وقال: إن إيمانه كإيمان جبريل؟ أم من تأدَب بآداب التنزيل، ولم يتعرَّض لما لا يعلمه البشر من التعليل واقتدى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ترك التعمق في الدين، والإعراض عن الجاهلين؟
الثالث: البله وجمود الفطنة من أفعال الله تعالى التي أجرى العادة أن لا يسلُبها جميع أفراد الطائفة العظيمة الذين لا يحصرهم عددٌ، ولا يجمعهم نسبٌ، ولا بلدٌ، وذلك كالطول والقِصَرِ، والسواد والبياض، والجمال والدمامة، فالقول عليهم بذلك من قبيل التحري على البُهت الذي هو عادةُ البطَّالين، وكلُّ مُنْصف يعلمُ أن في كلِّ طائفةٍ فطناء أذكياء، وقد خاطب الله تعالى عُبَّادَ الحجارة بقوله: {وأنتم تعقلون}، {وأنتم تعلمون}.
الرابع: من المعلوم أيضاً أن في كل طائفة عظيمة بلهاء بُلداء، وإنّ في الزيدية، وسائر الشيعة، والمتعاطين للعلوم الدقيقة من هو عريض القَفَا، جامدُ الطبع، فما بالُ المعترض يَصِمُ المحدثين بأمرٍ قد اشترك فيه الناس، وما أمن المعترض أنه من بُلداء (2) الزيدية، وأهل الدعاوي الباطلة، وإن كان لشدة بَلَهِهِ لا يعلمُ بعيب نفسه، فإنّ من البُلْه من يبقى معه من الفهم ما يُدركُ به قصورَ باعه، وغِلَظَ طباعه، وإنما شديدُ الغباوة، بليغُ البَلَهِ من لم يبقَ لهُ شعورٌ بأحوالِ نفسه، ولا ٌ لمقدار كُنهه، فتراه يتيه على العُظماء وهو حقيرٌ، ويزدري الكُبَرَاء وهو صغيرٌ.
الخامس: أنّ رسائلك أيُّها المعترضُ مناديةٌ عليك نداءً صريحاً
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): بلهاء.(3/455)
بجمود الفطنة، وكثرة البله، وكل إناءٍ بالذي فيه يرشُحُ (1)، ولو كنتَ من أهل المغاصات الغامضة، والأذهان السَّيَّالة، والقرائحِ الوقادة، لظهر ذلك في رسائلك، فلا مخبأ بعد بوس، ولا عِطرَ بعد عَرُوس (2)، فكيف تعيبُ الخصوم بعيبٍ أنت بمثله موصوم؟
وكيفَ يَعيبُ العُورَ من هُو أعوَرُ
السادس: أنّ الفلاسفة تدَّعي من التَّحذلق مثل ما أنت مُدَّعٍ، ونعتقد في علماء المتكلمين من المسلمين كلهم من البله مثل ما أنت معتقد في المُحدثين، فإنهم يدَّعون أن المسلمين غيرُ ممارسين للعلوم العقلية على ما ينبغي، وأنهم همُ السُّبَّاق إلى تأسيس علم المعقول، ووضع قوانين البراهين في فنِّ المنطق، وأنّهُمُ المستبدُّون بذلك، لصفاء أذهانهم، وشدَّة غوصهم على الغوامض، وكما أن ذلك -وإن كان حقّاً- لا يوجب صحة ما كنتم عليه من الكفر المعلوم، وكذلك تشبُّثُ كثيرٍ من المتكلمين ببعض أساليب الفلاسفة في النظر والجدل لا يُوجِبُ صحَّة ما هم عليه من البدع، هذا إن سلَّمتَ أنّ المدقِّق قد يَضِلُّ الطريق، ولا ينفعه التدقيق، وإن لم تُسلِّم ذلك، فاتخذهم أئمة، وانسلخ عن هذه الأُمة، وفي هذا أكبرُ دليلٍ على نقض ما توهَّم المعترِضُ من تعليل إبطال المبطلين بعدم مُمارسة دقائق العلوم.
__________
(1) في (أ): راشح.
وهو مثل يُضربُ في إفصاح الرجل بما يطبع به، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، وهو في الأمثال: " كُلُّ إناءٍ يرشحُ بما فيه "، ويروى: " ينضَحُ بما فيه ". انظر " مجمع الأمثال " للميداني 2/ 162، و" المستقصى " للزمخشري 2/ 224.
(2) وهذا المثل قيل فيه أكثر من مناسبة، فيضرب على ذم ادخار الشيء وقت الحاجة إليه، ويضرب على الاستغناء عن ادخار الشيء لعدم من يدخر له. وانظر: " فصل المقال " لأبي عبيد ص 426 - 427، و" مجمع الأمثال " 2/ 211 - 212، و" المستقصى " 2/ 263 - 264.(3/456)
السابع: كان المسلمون أمةً واحدةً في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأيَّام الخلفاء الراشدين، ليس (1) بينهم خلافٌ في أمر العقيدة، وعُلِمَ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن الخلفاء الراشدين أن الذي كان عليه المسلمون في أعصارهم هو سبيل الهدى، ومنهجُ الحق، وطريق (2) السلامة، حتَّى مارستم هذه العلوم، وتركتم الجمود، وسالت أذهانكم بالحقائق، وغُصتم على خفيات الدقائق، وضلت من ثلاثٍ وسبعين فرقةً اثنتان وسبعون فرقة، ولم يبق من الأمة ببركة هذه الممارسة على الهدى عُشرُها ولا عُشرُ عُشرِها، وأنتم تدَّعُون أن المعتزلة منها، فالمعتزلةُ عشرُ فِرَقٍ كما ذكره إمامُ علومهم عليُّ بنُ عبد الله بن أبي الخير وغيره، وهم مختلفون في عقلياتٍ تجب (3) عندكم وعندهم القطع بقبح الاختلاف فيها، وتحريم أحد القولين، واحتمال الفسق في ذلك الاختلاف عند جميعكم، ومن أجاز منكم ومنهم كفراً لا دليلَ عليه، جوَّز في جميع ذلك الخلاف أن يكون كُفراً.
والشيعة أكثر فِرَقَاً، وأشدُّ اختلافاً من المعتزلة.
والزيديةُ فرقةٌ واحدةٌ من الشيعة (4) قد تفرَّقت إلى مخترعة، ومطرفيَّة، وجاروديَّة (5)، وصالِحِيَّة (6)، وحُسينيَّة، وفي الفُروع مؤيّدية،
__________
(1) في (ش): من ليس.
(2) من قوله: " الخلفاء الراشدين " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ش): ثم.
(4) في (ش): والشيعة.
(5) هم أصحابُ أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وقد زعمُوا أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نصَّ على علي بن أبي طالب بالوصف دون التسمية، وأنه الإمام بعده، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم الاقتداء به واختيارهم أبا بكر، وانظر " مقالات الإسلاميين " ص 66 - 67، و" الملل والنحل " للشهرستاني 1/ 157 - 159.
(6) هم أصحابُ الحسن بن صالح بن حي، وكذلك البترية أصحاب كثير النواء الأبتر، =(3/457)
وهادَوِيَّة (1)، وناصِرِيَّة (2)، وقاسِمِيَّة (3)، وأهلُ الكوفة منهم على مذهب أحمد بن عيسى (4)، والحسن بن يحيى، ومحمد بن منصور كما ذكره صاحب " الجامع الكافي "، ووقَعَ بينهم تفسيق وتأثيم على الاختلاف في
__________
= وهما متفقان في المذهب، يزعمون أن علياً أفضل الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأولاهم بالإمامة، وأن بيعة أبي بكر وعمر ليست بخطأ، لأن علياً ترك ذلك لهما، ويقفون في عثمان وفي قتلته، ولا يقدمون عليه بإكفار، ويرون أن من شهر سيفه من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهما، وكان عالماً، زاهداً، شجاعاً، فهو الإمام، وينكرون رجعة الأموات إلى الدنيا.
انظر " مقالات الإسلاميين " ص 68 - 69، و" الملل والنحل " 1/ 161 - 162.
(1) هم أصحاب الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم الرسي المتوفى سنة 298 هـ، ولد سنة 245 هـ، قام هادياً مرشداً يدعو إلى الله سبحانه وإلى صراطه المستقيم، وكان مرجعاً في الدين من كل الطوائف الإسلامية، ومن أقواله المأثورة عنه: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليخترع أمراً دون علم الله سبحانه وتعالى، كما حكى القرآن عنه - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: {إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ}. وانظر " الإمام زيد " لأبي زهرة ص 509 - 516.
(2) هم أصحاب أبي محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، وتلقب بالناصر الكبير، ويُسمى الأطروش لطرش أصابَ أذنيه، المتوفى سنة 304 هـ، قال الشهرستاني في " الملل ": لم ينتظم أمر الزيدية حى ظهر بخراسان ناصر الأطروش، فطلب مكانه ليقتل، فاختفي، واعتزل إلى بلاد الديلم والجبل، وهم لم ينحلوا بدين الإسلام، فدعا الناس دعوة إلى الإسلام على مذهب زيد بن علي، فدانوا بذلك، وبقيت الزيدية في تلك البلاد ظاهرين، وكان يخرج واحد بعد واحد من الأئمة ويلي أمرهم.
وكان الناصر محيطاً بعلم السنة والسلف الصالح وعلم آل البيت، ويعتمد على الآثار والنصوص، انظر " الإمام زيد " ص 497 - 499.
(3) نسبة إلى كبيرهم القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم طباطبا بن الحسن، بن الحسن بن علي المتوفى سنة 242 هـ وقد نشأت القاسمية ببلاد الحجاز، وكانت آراؤها ضمن الإطار الزيدي، وكان لهذا المذهب شأن باليمن، لأن حفيد القاسم تلقى علم جده، ونشر المذهب الزيدي باليمن بعد أن اختار منه، فصارت زيدية الحجاز واليمن على مذهبه ومذهب جده. انظر الإمام زيد ص 495 - 497.
(4) حفيد الإمام زيد، نشأ في العراق، وكان منصرفاً إلى الاجتهاد الفقهي والفتيا حتى قيل: إنه فقيه آل البيت، صنف الأمالي في الفقه، وقرن فيه الفروع الفقهية بالأدلة ووجه استنباطها، وكان زاهداً متعبداً، ومجاهداً مقاتلاً، واختفي بالبصرة بعد أن تخلص من حبس الرشيد له إلى أن مات سنة 247 هـ انظر " الإمام زيد " ص 493 - 495.(3/458)
الفروع -كما حكاه السيد أبو العباس في تلفيقه رحمه الله، دَعْ عنك الأصول- واشتد اختلافُهم (1) من بعد الإمام المنصور بالله عليه السلامُ في الأئمَّة، فافترقوا على الإمام الدَّاعي، وعلى الإمام المهدي أحمد بن الحسين افتراقاً قبيحاً كفَّر (2) بعضُهم بعضاً.
وعامَّة هذه البدع والشِّيع (3) إنما كانت بسبب ترك (4) الجمود، وسيلان الأذهان، فلا عَدِمَكُمُ المسلمون، زيدُوا في هذا السيلان والممارسة لعلوم اليونان، فما يحصُلُ منها غداً إلاَّ مثلُ ما حصل منها أمس، فقد عرفتُ مضرتها بأعظم التجربة، وما عُرِفَ الداء الذي يجبُ اجتنابه في الطب احترازاً على الأبدان إلا بدون هذه التجربة، فكيف لا يحترز على الأديان من هذه المضرَّة العظمى بعد مثل هذه التَّجارِب الدائمة؟
فإن كان المحدِّثون ما استحفُّوا منك السُّخرية والاستهانة إلاَّ لعدم دخولهم معكُم في هذه الممارسة، فالأمرُ في ذلك مجبور (5)، ولهم أُسوة يُعزُّون بها أنفُسهم بالصحابة، والتَّابعين، بل بالأنبياء والمرسلين، وأمَّا الأعذارُ الموجبة عندكم لهذه الممارسة، فسوف يأتي بيانُها والجوابُ عنها قريباً إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في (ش): خلافهم.
(2) في (ش): كفرت.
(3) في (ب): الشنع.
(4) تصحفت في (ش) إلى " تلك ".
(5) في (ب): مجبوب.(3/459)
تم بعونه تعالى الجزء الثالث من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء الرابع وأوله:
أخبرنا ما سبب توهمك لاختصاصك بالذكاء دون المحدثين.(3/460)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الرابع
مؤسسة الرسالة(4/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
4(4/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(4/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(4/4)
الثامن: أخبِرنَا ما سببُ توهُّمك لاختصاصك بالذكاء دون المحدثين، هل فَهمُك " للخُلاصة " و" شرح الأصول " أو تبريزُك في علم المعقول على الفحول؟ وإن كان الثاني، فلم يظهر منك آثاره، ولا لاحت عليك أنواره، وإن كان الأوَّل، فهو أمرٌ (1) يسير، والساعي فيه بالتِّيه الكثير غير جدير، والظاهر من أحوال أئمة السنة أنَّهم غير عاجزين عن الانتظام في سلك هذا المعترض، فلتُطالع تراجمهم في " تهذيب الكمال "، و" النُّبلاء " (2)، وسائرِ تواريخ الرجال، ويُنظر فيما كان لهم (3) من الذكاء الكثير، والعلم الغزير، فإنَّ المكان (4) لا يتسع من ذلك لذكر اليسير.
التاسع: أخبرنا ما هذه العقائد التي لا تُدرَكُ إلاَّ بعلوم الكلام، فإنا رأينا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أجمعت الأمة على صحة عقائدهم قبل هذه الممارسة.
فإن قلت: إن هذه العقائد هي اعتقاد الصانع جل وعز، وأنه عالمٌ،
__________
(1) في (ش): فالأمر.
(2) " والنبلاء " ساقطة من (ش).
(3) ساقطة ش (ش).
(4) في (ب): كان.(4/5)
قادرٌ، موصوفٌ بجميع صفات الكمال، غيرُ مُمَثلٍ بشبيه ولا مثال، فقد أمكن الصدر الأوَّل إدراك هذا من غير ممارسة، ولم يَصِمهُم أحدٌ بالبَلَه وجُمود الفطنة ممن هو أذكى منك قلباً، وأرجحُ لُبَّاً، وأصلبُ ديناً، وأتمُّ يقيناً.
وإن قلت: إنَّ العقائد التي لا تُدركُ إلاَّ بالممارسة، هي قولُ شيوخكم من (1) المعتزلة: إن الله تعالى لا يعلمُ من نفسه إلاَّ ما يعلمونه، وإن الأجسام، والأعراض، والصِّفات غيرُ مقدورة لله تعالى على الحقيقة، وإنَّما مقدورُه شيءٌ يدقُّ تصوُّره، أو لا يُتَصَوَّرُ البتة، وقد سمَّوهُ بالأحوال (2)، وذلك أن ذات الموجود عندكم غيرُ مقدورة، وصفةُ الوجود كذلك، وكلاهما غيرُ مقدورين عندهم، والمقدورُ عندهم أمر رابع، وهو يُسمَّى حالاً، وهو عندهم كونُ الذات على الصفة، وبإجماعهم أن (3) هذا الحال لا يُسمَّى شيئاً، فحصل من مجموع هذا أن الله عندهم لا يقدر على شيءٍ، وهم يُصرِّحون أن العالم كله لم يزل ولا يزال، وأنه ثابت فيما لم يزل، ولكنه غير موجود فيه، ويفرِّقون بمجرَّد اصطلاحهم بين الثبوت والوجود، وكل هذا حتى يتعلق علم الله تعالى بالأشياء في الغيب قبل حدوثها بأمورٍ ثابتة مُحقَّقةٍ، فليتهم قَنِعُوا في متعلق علم الله تعالى بمثل ما قَنِعُوا به في متعلق قدرته من كونها لا تتعلق بشيءٍ ثابت مُحقَّقٍ فيما لم يزل، أو ساووا بينهما، فجعلوا متعلَّقهما كُلَّ ما يُسمَّى شيئاً حقيقةً أو مجازاً على عموم ما نطق به القرآن، وقام عليه البرهان.
__________
(1) " من " ساقطة من (ش).
(2) في " ش ": الأحوال.
(3) في (ش): على أن.(4/6)
ثم صفة الوجود إن (1) كانت عندهم معلومةً لله تعالى قبل خلقِ المخلوقات، فليست بشيءٍ عندهم، لأن كل شيء عندهم ثابتٌ (2) فيما لم يزلْ، فلو كانت شيئاً، لزم ثبوتُها فيه، وذلك تصريحٌ بقدم العالم، وكذلك الأحوالُ التي هي أَثَرٌ قدرة الله تعالى عندهم إن كانت معلومة لله سبحانه في القِدَمِ، فليست ثابتةً فيه، ولا هي أشياء.
ولذلك قال الرازي في " المُلَخَّص " (3): وعمدتُهم أنَّ المعدومَ معلومٌ، وكُلُّ معلومٍ ثابت، والكبرى منقوضةٌ بالممتنعات والخيالات، ونفس الوجود إلى قوله: العدم كيف يعلم ويُخبر عنه؟ المشهور (4) أن العَدَمَ المطلق لا يُعلم، ولا يُخبر عنه، بل العَدَم المضافُ إلى الموجودات هو الذي يُعلم، ويُخبر عنه، وفيه نظر لوجهين.
الأول: قولنا: العَدَمُ المطلق لا يُخبر عنه، إخبارٌ عنه.
الثاني: العَدَمُ (5) المطلق جزءٌ من المضاف، ولو لم يعرف، لم يُضف، وفي قوله: معلوم (6)، إشكال، لأنه لا تعيُّن له، ولا ثبوت، ولا امتياز، إلى قوله: فهذا مقامٌ مُشكِلٌ، نسأل الله أن يُوفِّقَنَا للوقوفِ عليه. انتهى.
فإن تعلق بعضُهم بتأويلاتٍ لمعنى علمه سبحانه في القِدَمِِ بالصفات
__________
(1) في (ش): وإن.
(2) في (ش): ثابت عندهم.
(3) هو في الحكمة والنطق، وقد شرحه أبو الحسن علي بن عمر القزويني الكاتبي، المتوفى سنة 675 هـ شرحاً مبسوطاً، وسماه " المنصص "، " كشف الظنون " 2/ 1819.
(4) في (ش): والمشهور.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): وفي قولنا إنه معلوم.(4/7)
والأحوال، فلمنازعهم أن يتأوَّل علم الله تعالى بالذوات بمثل ذلك، وإن لم تكن هذه الصفات الحادثة والأحوال عندهم معلومة لله تعالى (1) -وهو مذهبُهم-؛ لَزِمهُم (2) تخصيصُ علمه سبحانه بالذوات، وذلك مع مخالفة (3) ضرورة الدين مُخالِفٌ لدلالة العقل، فإنَّ الإحكام في أفعاله الذي دلَّ على علمه سبحانه ليس بذاتٍ عندهم، ولا يصحُّ إلاَّ من عالمٍ به، ولا يصحُّ تعلُّقُ العلم بالأحكام بغيره. وقد جوَّد أبو الحسين البصري وأصحابه الردَّ عليهم، وسيأتي طرفٌ منه إن شاء الله تعالى في الوهم الذي بَعْدَ هذا.
وقال الشيخُ مختار في كتابه " المجتبى " في المسألة السادسة من خاتمة أبواب العدل في رد قولهم: إنَّ الصفة لا تُعلم، وإنَّما يُعلم الدَّالُّ (4) عليها ما لفظه: البرهان الثالث: لو لم تكن الصفة معلومة لتعطلت دلائل صفات الباري وغيره من إفادة العلم، وأنه ممتنع، لا يقال: لو كانت الصفة معلومةً، لانقلبت ذاتاً، لأنا نقول: إنما تنقلِبُ ذاتاً لو انحصرت المعلوماتُ في الذوات، وهو عينُ النزاع على أن هذا يؤدِّي إلى مفاسِدَ تنبو الأسماع عنها، وتنفِرُ الطباع منها.
منها (5): أن العالِمَ (6) بجميع المعلومات لا يفعل إلاَّ الوجودَ في الجوهر (7)، والأعراض، والوجودُ صفةٌ غيرُ معلومةٍ، فيلزم أن لا يعلم الله
__________
(1) " لله تعالى " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): لزم.
(3) في (ش): مع مخالفه.
(4) في (أ) و (ش): تعلم الذات.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): العلم.
(7) في (ش): الجواهر.(4/8)
تعالى جميع ما يفعلُه، وإنَّما يعلم بعض ما لا يفعله كالذوات، وقد أجبنا عن المدافعة بالملافظة، وأنه بفعل الذوات على الوجود، لأن المراد إن كان أنه (1) بفعلهما، أو بفعل الذات، فهو محال عندهم لاستغناء الذات عن الفاعل، أو بفعل الوجود، فيلزمُ الإلزام الشنيع.
ومنها: أنه يريد وجود الجوهر لا الذات، فيلزمُ أن لا يعلم جميع ما يُريده، وإنَّما يعلم ما لا يُريده.
ومنها: أن لا يكون في العالم معلوم أصلاً، لأن تعريف الذوات بالصفات، وهي غير معلومة.
ومنها: أن لا يعلم الله تعالى قيام الساعة، لأنَّها نفيُ الوجود عندهم (2) لا الذات.
ومنها: أن لا يعلم الله صفاته وأحواله، مع أنها ثابتةٌ له، وهو بكلِّ شيءٍ عليمٌ، إلى آخر ما ذكره.
وكذلك يقولون: إنَّه سبحانه لا يَقدِرَ على شيءٍ من أعيان مقدورات العباد، وإنما يقدرُ على أمثالها مع قولهم في مقدورات العباد: إنها ذواتٌ ثابتة في العدم، فيجوِّزون أن يكون في العدم ذوات ثابتة ممكنة غير مقدورة للقادر على كل شيءٍ، وكل هذا حتى لا يجوِّزوا مقدوراً (3) بين قادرين. وقد شنَّع أبو الحسين في (4) ذلك، وسيأتي تمام الكلام فيه في مسألة أفعال العباد.
__________
(1) في (ب): لأن المراد أنه إن كان.
(2) في (ش): عنهم.
(3) في (ش): " مقدور "، وهو خطأ.
(4) في (ش): عليهم في.(4/9)
وكذلك يقولون: إنَّه ليس في مقدوره سبحانه هداية أحدٍ من المذنبين، ويُخالِفون في ذلك المعقول والمنقول، كما يجيء تحقيقه في آخر الوهم الثامن والعشرين.
وكذلك قولهم: إن الله تعالى غير قادر على إكساب (1) شيءٍ من الموجودات صفةً إلاَّ بواسطة معنى، ولا قادرٍ على إعدامٍ لون، ولا طعم إلا بواسطة طُرُوِّ ضدِّه (2) على محلِّه، وقد مرَّ قريباً ذكرُ شيءٌ من ذلك وإبطالُه، وتعويلُهم فيه على القياس على الكلام حيث ذكرت أبياتي التي أولها:
أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ
وأيضاً هو (3) على خلاف المعقول في نفي الضِّدِّ بطُرُوِّ ضِدِّه عليه كالسواد والبياض، فإن أحدهما لو كان منفياً بضده، لا بقُدرة الله تعالى من غير واسطةٍ، لكان حين انتفي لا يخلو، إمَّا أن يكون ضدُّه نفاه بعد أن حل في محله أو قبل، والأول يستلزم إجتماع الضدين في محل واحد، وهو محال، وإن كان ضده نفاه قبل أن يحُلَّ في محلِّه، فذلك باطل بالاتفاق، لأنهما لا يتنافيان إلاَّ على اتحاد المحل.
وذكر مختار في " المجتبى " (4) مثل هذا التمانع في إيجاب المعنى الزائد، لكون المتحرك ساكناً، فخذه من موضعه، وقد نقلته منه إلى كتابي " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان " (5).
__________
(1) في (ش): " اكتساب "، وهو خطأ.
(2) في (ش): " ضده وصده " وهو خطأ.
(3) في (ش): أيضاً وهو.
(4) " في المجتبى " ساقط من (ش).
(5) ص 101 - 111.(4/10)
وكذلك قولهم: إن الله تعالى يريد بإرادةٍ موجودةٍ لا في محلٍّ مثل وجود ذاته سبحانه، فأثبتوا عَرَضاً لا في محل.
وكذلك قولهم: إن الله تعالى غيرُ مختارٍ في أحكام الشريعة الخمسة: الوجوب، والندب، والإباحة، والكراهة، والحظر (1)، وليس له أن يُرخِّص في فعل حرام (2)، ولا تركِ واجب، لأنَّ هذه الأحكام تثبت عندهم لأنفسها، والله سبحانه وتعالى ورسلُه، وأهلُ الفتيا على (3) سواءٍ في الإعلام بها، والتعريف لها من غير اختيار في المحو والتثبيت.
ومن ذلك قولهم: إن الله تعالى لا يحسُنُ منه أن يتفضَّل على أحدٍ من عباده بمغفرة ذنبٍ واحدٍ، وإنَّه يجب عليه عقابُهُم بكُلِّ ذنبٍ وجوباً يقبُحُ خلافُه.
وأما قبول التوبة، فذلك واجبٌ عليه عندهم، وكذلك تكفير الصغائر بالطاعة، وإنما كلامنا في مغفرة التفضل التي قبَّحوها حتى لو زادت سيئات المسلم يوم القيامة على حسناته (4) مثقالَ حبَّةٍ من خردل، لقبُحَ من الله تعالى مسامحتُه فيها (5)، وتشفيعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووجب (6) تخليده في النار كتخليد فرعون وهامان، ويردُّون ما تواتر (7) في الرجاء لأهل التوحيد من الأحاديث الخاصَّة، ويتمسَّكُون ببعضِ الألفاظِ العامة، ويُحافِظُون
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: والحصر.
(2) تحرفت في (ش) إلى: أو.
(3) " على " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): على حسناته يوم القيامة.
(5) سقطت من (ب).
(6) في (ش): ووجوب.
(7) في (ش): ما ورد.(4/11)
على صدق عمومات الوعيد دونَ عموماتِ الوعد، فذلك يُفيدُ (1) القطع معهم، وهذه لا تفيدُ الظنَّ، ولا التجويزَ، ولا الوهم، هذا فِعْلُهم لا اعتقادُهم (2).
وإذا قيل لهم: إنَّ الخصوص مُقدَّمٌ على العموم، اعتلُّوا بعللٍ باردَةٍ (3)، ثم إذا جاء العموم عليهم خصَّصُوه.
مثال ذلك: أنهم يحتجون على نفي الشفاعة لعصاة المسلمين بعمومِ قوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، ويُقدِّمونه على خصوص قوله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 86، 87]، وخصوص {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ويتأوَّلون هذه الأدلَّة الخاصة مع ما في السُّنَّة من النصوص التي لا يمكن تأويلها، ويتركون البحث عن السنن حتى يحكموا على المتواتر بالآحاد، ويبالغون في أن العموم لا يتأوَّل في الوعيد، فيردُّ عليهم العموم الذي ورد فيه نفيُ الشفاعة مطلقاً عن المطيع والعاصي كقوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} [السجدة: 4]، وقوله: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، فيتأولونه بما هو أخصُّ منه (4) فلا تستمِرُّ لهم قاعدةٌ، ولا يستمرون على أصل، ويقطعون في هذا الموضع الظَّنِّي مع كثرة المعارضات، وسَعَةِ (5) المُبيِّنات المُحكَمَاتِ المُخَصِّصَاتِ قرآناً وسنة،
__________
(1) في (ش): فتلك تفيد.
(2) في (ش): " لاعتقادهم " وهو خطأ.
(3) في (ب): نادرة، وفي (ش): زائدة.
(4) سقطت من (ش).
(5) " وسعة " ساقطة من (ش).(4/12)
واحتمال العمومات على ردِّ المأثور، وتكذيب الثقات معتقدين للتحقيق الذي فات مَن سواهم، والسبق الذي لا يُدرِكُهُ فيه مَن عداهم، وهذا كلام البصرية والبهاشمة (1).
وأما البغداديةُ، فجَحَدُوا الضرورة، وقالوا: العفوُ عن الذنب قبيحٌ عقلاً، ولو لم يصدُر قبلَه وعيدٌ، ولا تهديدٌ، بل أفحشُ من هذا أنهم قالوا: إنَّ الأصلح للعباد واجبٌ على الله تعالى في الدنيا والآخرة حتى التزموا أنَّ خلود أهل (2) النار فيها أصلحُ ما في مقدرات (3) الله تعالى للعباد، وأنه واجبٌ على الله، لأنه أصلحُ، وأعجبُ من هذا وأغرب أنهم لم يوجبوا (4) الثواب، لأنه أصلحُ، وذلك لأن العبادات عندهم شكرٌ على ماضي النعم، وكذلك قالت البغدادية من المعتزلة: إن الله ليس بسميعٍ ولا بصيرٍ ولا مريدٍ حقيقةً، وإنَّما ذلك مجازٌ، وحقيقته أنه عالمٌ لا سوى.
وقالت البغدادية أيضاً: إن جميع أخبار الثقات مردودةٌ ما لم تَواتَرْ، ولا يدرون ما يُؤَدِّي ذلك إليه، ولا يدرون ما في ذلك من المفاسد، ويعتقدون أن ذلك متابعة (5) لمحض العقل وهو مكابرةٌ لمحض العقل، كما ردَّ عليهم ذلك أبو الحسين، والمنصور، وأبو طالب (6) وغيرُ واحدٍ.
ومن عجائبهم أنه لا دليل لهم على ذلك إلاَّ أدلة (7) ظنيَّة من (8)
__________
(1) في (ش): والبهشمية.
(2) " أهل " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): مقدورات.
(4) في (ش): " أنهم يوجبون " وهو خطأ.
(5) في (ش): " مبالغة " وهو خطأ.
(6) في (ش): وأبو طالب، والمنصور.
(7) في (ش): الأدلة
(8) في (ش): ومن.(4/13)
عمومات وَرَدَ فيها ذمُّ الظن، أو قياسٌ عقليٌّ على العمل بالشك المساوي (1)، أو على العمل بالظنِّ المعارض للعلم، أو في موضع القطع، فإن كان الظنُّ حراماً، حرُمَ عليهم تحريم خبر الواحد بالظن أيضاً (2)، والظن الذي ذمَّه الله تعالى هو الشكُّ، وهو يُسمَّى ظناً في اللغة كما نصَّ عليه أئمَّةُ اللغة، وأما (3) الظنُّ الراجح، فلم يَرِدْ ذمُّه، بل سمَّاه الله علماً في غير موضع. ومن العجائب أن شيخهم أبا القاسم البلخيَّ (4) يُجيزُ العمل بالظن في معرفة الله تعالى، لكنه يُسمِّيه علماً نقله عنه المؤيَّدُ بالله في " الزيادات "، فانظر إلى هؤلاء كيف يمنعون من العمل بالظن في فروع الشرع، ويَخرِقُون (5) إجماع الصحابة المعلوم، ويرُدُّون ما عُلِمَ ضرورةً (6) من إرسال النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للآحاد إلى المسلمين، كمعاذٍ إلى اليمن، وقبول أهل اليمن (7) لمعاذ (8) معلوم، وتقرير النَّبي - صلى الله عليه وسلم - له على تبليغهم، ولهم على قبوله، ثم يُجيزون العمل بالظَّنِّ في معرفة الله، ويَدَّعُون أنهم بَلَغُوا في التحقيق مبلغاً عظيماً، وشأواً بعيداً إلى أمثالٍ كثيرةٍ لا يَتَّسَعُ الموضعُ لِذِكرِها.
فإن (9) كان مُرادُ (10) المعترض على أهل السنة بالجمود، وعَدَمِ
__________
(1) في (ش): المستوي.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): فأما.
(4) " البلخي " ساقطة من (ب) و (ش).
(5) في (ج): ويحرفون.
(6) ساقطة من (ب).
(7) " وقبول أهل اليمن " ساقط من (ش).
(8) في (ش): " فمعاذ ". وحديث معاذ إلى اليمن قد تقدّم في 1/ 259 و378 - 379.
(9) في (ش): وإن.
(10) ساقطة من (ش)، و (ب).(4/14)
سيلان الأذهان أراد أنهم ما شاركُوا أهل الكلام في هذه العقائد الدقيقة، ولا أُشرِبَتْ قلوبُهم العُجْبَ بهذه المغاصات اللطيفة، فلقد أراد أن يَذُمَّ، فَمَدَحَ، وأن يَفضَحَ، فافتُضِحَ، فلقد صان الله عصابة الإسلام، وركن الإيمان من الصحابة والتابعين، وحملة سنة سيد المرسلين عن سماع هذه الأباطيل، وابتلانا بمعرفتها ومعرفة أهلها، والردِّ عليهم، فإنَّا لله، وإنا إليه راجعون، والسعيد -والله- من لم يَعْرِفُ عُلُومَكم التي سلبت أذهانكم إلى هذا الحدِّ.
فإن قلت: إن أهل الحديث أيضاً قد وقعوا في أمثال هذه الشُّنعِ، وارتكبوا (1) نظائر هذه البدع من الجبر والتشبيه، ونسبةِ القبائح إلى الله تعالى، مثل تكليف ما لا يُطاقُ، والتعذيبِ بغير ذنب.
فالجواب: من وجوهٍ.
الوجهُ (2) الأول: أنهم منزَّهون من جميع ما ذُكِرَ، وقد مرَّ تنزيهُهُمْ من التشبيه في أوَّل هذا الكلام، وهو الكلام (3) على الوهم الخامس عشر وسيأتي براءة المتكلمين منهم (4) عن ذلك في آخر هذا الكلام، وسيأتي أيضاً في الوهم الثامن والعشرين براءتُهم من الجَبْرِ، وفيما بعده براءتُهم من تكليف ما لا يُطاق، والتعذيب بغير ذنبٍ ونحو ذلك بنقل نصوصهم من كُتُبِهم المشهورة الموجودة في ديار الزيدية، ومن كلام علماء المعتزلة والزيدية في بعض هذه المسائل.
__________
(1) في (ش): وركبوا.
(2) ساقطة من (ش).
(3) من قوله: " في أول " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) من قوله: " من التشبيه " إلى هنا ساقط من (ب).(4/15)
الوجه الثاني: أنَّ ذلك إن وجد فيهم، فهو (1) في فِرَقٍ قد أنكروها وردُّوا عليها في وقتهم (2) كالمطرفية (3) والحسينية في الزيدية، بل كالباطنية الكفرة في شيعة علي عليه السلام.
الوجه الثالث: أنَّ ذلك إنما وقع مع بعض من يُنسَبُ إليهم من فيض علومكم هذه التي افتخرتُم بممارستها بسبب الخوض فيها، والتعويل عليها، ومن بَقِيَ منهم على ما كان عليه (4) السلف الصالح سَلِمَ من جميع ما حَدَثَ من التعمُّق في الأنظارِ والتكلُّف في المذاهب.
الوجه (5) الرابع: أن شرط المحدث السُّني أن لا يُحدِثَ في العقيدة مذهباً (6) لم يكن معروفاً في وقت (7) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمجرد النظر، فإنَّ الدين قد تمَّ وكَمُلَ بنصِّ كتاب الله تعالى حيثُ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فمن أوجب في العقائد التي هي أصول الإسلام أمراً لم يكن مذكوراًَ عند السلف، فقد خرج من (8) أهل السنة ولحق بأهل الممارسة للكلام، والأذهان السَّيَّالَة.
الوجه الخامس: أن المحدِّث إنما يستلزم المُشكل حيث ورد السمع
__________
(1) في (ش): "وهو" وهو خطأ.
(2) في (ش): هي فيهم.
(3) من قوله: " الوجه الثاني " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): مذهباً ما.
(7) في (ش): عهد.
(8) في (ش): عن.(4/16)
به قطعاً، وإنما نشأ إشكالُه من جهة (1) الاستبعاد العقلي مثل إثبات القِدَمِ لله تعالى مع عدم تصور العقل لماهيته، ومثل إشكال (2) إثباتِ الفاعلية لله تعالى في حال القدم، وإشكال إحالة الفاعلية له سبحانه أيضاً.
وكذلك إثباتُ العذاب الأُخروي، ودوامُه على كل مذهب، فالمحدِّثُ لكمال معرفته بالأحوال النبوية يعلم ضروراتها التي جحدُها كُفرٌ، فيؤمن بها، ويَكِلُ المشتبهات (3) إلى الله تعالى، ويلتزم من محارات العقول، ومستبعداتها ما التزمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجاء به، فَيَسْلمُ من الكفر.
والمتكلم لبعده عن الاشتغال بعلم النقل رُبَّما يمكن الاستبعاد العقلي معه، فاعتقده علماً ضرورياً من العقل، ثم اعتقد المعلوم ضرورةً من الدين (4) آحاداً، لأجل تقصيره في البحث، وشُغله وقته بالنظر، فيقع بذلك من الكفر أو الإثم في أعظمِ خطرٍ، ومعرفةُ هذا وتأمُّلُه بعين الإنصاف هو من أعظم المرجِّحات للاشتغال بعلم الأثر، فإن مدة العمر قصيرة، وقلَّ من جمع الإمامتين في العِلْمَين، ومن ثمَّ قيل: إنَّ عِلْمَ السلف أسلم، والله سبحانه أعلم.
ومن أمثلة ذلك: شكُّ الباطنية في المعاد مع تواتره، وشكُّ كثير من المبتدعة في كثيرٍ من الصفات مع تواترها، كنفي المعتزلة لنفوذ مشيئة الله وإرادته وقدرته على هداية الخلق، ونفي الأشعرية لحكمته سبحانه،
__________
(1) " جهة " ساقطة من (ش).
(2) " إشكال " ساقطة من (ش).
(3) في (ش) و (ب): المشبهات.
(4) في (ش): من الدين ضرورة.(4/17)
ونفيهم (1) الجميع لحقائق كثيرٍ من أسمائه الحسنى، كالرحمن الرحيم العلى العظيم.
وكل هذا يتعذر اعتقاده على أئمة الأثر، ولا يُتصوَّر صدوره منهم إلاَّ من بُلي منهم بشيءٍ من الكلام، فإن الوسوسة قد ثبتت في الضروريات ضرورةً، مثل وسوسة كثيرٍ في الطهارة، وعكس هذا اعتقاد (2) أن ما لا أصل له ضرورى من الدين، كاعتقاد الروافض لتواتر النصِّ على اثنيّ عشر إماماً، وتواتر فسقِ كبار الصحابة أو (3) كفرهم.
الوجه السادس: أن كلامنا إنما هو في فوائد ممارسة علم الكلام، والمحدِّث إذا ابتدع، فلم يُؤتَ من الجمود، بل من سيلان الذهن واتباع وساوس النظار، فبان لك بمجموع ما نبهتُك عليه وبَالُ هذه الفَيْهَقَة (4) التي توهمَتها لك، وهي عليك.
العاشر: من الأصل أن المحدثين هم أهل العناية بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أي فرقةٍ كانوا كالنُّحاة والمتكلمين، وهذه للمحدثين صفةٌ شريفة، ورُتبة مُنيفة، وتعليقُك للسخرية (5) والانتقاص بأهلها دليلٌ على
__________
(1) في (ج): " ونفي " وفي (أ) و (ش): ونقضهم.
(2) في (ش): اعتقادات.
(3) في (ش): و.
(4) من الفهق، وهو الامتلاء، وفي حديث جابر عند الترمذي (2018) بسند حسن: " إنَّ من أحبكم إليّ وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإنَّ أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلساً يوم القيامة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون " قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدِّقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون.
قال الزمخشري في " الفائق " 4/ 68: المتفيهق من الفهق، وهو الامتلاء، يُقال: فهق الحوض فَهَقاً وأفهقته: وهو الذي يتوسّع في كلامه، ويملأ به فاه، وهذا من التكبّر والرعونة.
(5) في (ش): السخرية.(4/18)
اتصافك (1) أنت بما رميتَهم به (2) من البله، لأنَّ تعليق الذمِّ على الأوصاف الحميدة تغفيل، فلا يقول الفطناء متى أرادوا الذمَّ والانتقاص لأحد: أنه من بُلْهِ المتقين والمقربين، ونحو ذلك.
ومن العجب أن كلامه ذلك (3) يقتضي ذمَّ طائفةٍ (4) كثيرٍ من أهل البيت عليهم السلام، وشيعتهم، لأنَّ من المعلوم أنَّ منهم محدِّثين كما يجبُ أن يكون من كلِّ فرقةٍ (5) من فرق الإسلام، وقد أوضحتُ أسماء جماعةٍ من أئمة الحديث من الشيعة والمعتزلة في هذا الكتاب، وذكر ابن حزم جماعة من محدثي أهل البيت في " جمهرة النسب "، وكذلك الحاكم في كتابه " علوم الحديث "، بل ذكر ذلك الأمير الحسين في كتابه " شفاء الأوام " فقال في حرب البغاة ابتداءً في غير وقت الإمام (6) ما لفظه: وهو قول السيد الإمام الحسن بن إسماعيل الجُرجاني قال: وهو الذي ذهب إليه محصلو محدثي أصحابنا. انتهى.
فانظر كيف أثبت لنا أصحابا مُحدِّثين، وجعل منهم مُحصِّلين مجتهدين، ولم يصمهُم بالبَلَه والجُمُود أجمعين بمجرَّد كونهم محدثين، والحمد لله رب العالمين.
وقد خاطب الله تعالى المشركين بأنهم يعقلُون، وأنهم يعلمون، بل
__________
(1) في (ج): " إنصافك " وهو خطأ.
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).
(5) فوقها في (ش): منهم.
(6) ساقطة من (ش).(4/19)
بأنهم {قوم خصمون} [الزخرف: 58]، فكيف يعجِزُ عن ذلك (1) المحدثون مع نور الإيمان، ومعارف السنة والقرآن.
الحادي عشر: أنَّ لأهل كُلِّ فنٍّ من العلوم الإسلامية منَّةً على كل مسلم تُوجِبُ توقير أهل ذلك الفن وشكرهم والدعاء لهم، لما (2) مهَّدوا من قواعد العلم، وذلَّلوا من صعوبته، وكثَّروا من فوائده، وقيَّدوا من شوارده، وقرَّبوا من أوابِدِه (3) لا سيما من انتفع بعلومهم، ونظر في حوافِلِ تآليفهم (4)، والمُعترِضُ ممن قرأ كتب الحديث، ونقل في تواليفه منها، واستند في الرواية إليها فبئس ما جَزَيْت من أحسن إليك بارتكاب ما لا يحِلُّ لد، وترك ما يجب عليك.
ومن (5) آداب العلماء والمتعلمين أن يبتدئوا القراءة في كل مجلس (6) بالدعاء لمشايخهم ومعلميهم، وأهلُ كل فنٍّ هم مشايخ العالم فيه، وأدلة المتحير في جوابه (7).
الثاني عشر: العجب من المعترض كيف يذُمُّهم، وهو متحلٍّ بفرائد علومهم، ومُرتوٍ من موارد تواليفهم، ومتصدِّرٌ للتدريس فيها، وعاشٍ (8) في تواليفه إلى ضوء أنوارها (9)، ومُهتدٍ في معارفه بنجوم أئمتها
__________
(1) في (ش): عن مثل ذلك.
(2) في (ش): بما.
(3) وأوابد الكلام: غرائبه، وأوابد الشعر هي التي لا تشاكل جودة.
(4) في (ب) و (ش): " تواليفهم ".
(5) الواو ساقطة من (ش).
(6) " في كل مجلس " ساقطة من (ش).
(7) في (ش): منه في خوافيه.
(8) من عشا فلان إلى النار يعشو عشواً: إذا رأي ناراً في أول الليل، فيعشو إليها: يستضيء بضوئها، قال الحطيئة:
متى تأتِهِ تعشو إلى ضوء نارِه ... تجدْ خيرَ نارٍ عندها خير موقد
(9) في (ش): أضواء نوارها.(4/20)
لا سيما في تفسيره للقرآن وعلومه، فإنه نَقَلَ فيه منها، ومن " تفسير الفخر الرازي "، ونقل فيه من " الكشاف "، وصاحبُ " الكشاف " ينقُلُ منها مع أنه ليس من الزيدية، ولذلك لا يذكُر فيه خلافهم في الفقه، ولا يذكر أحداً من أئمتهم إلاَّ من لا يسلم لهم أنه منهم.
وكان اللائق به أن يأنف من استعارة علوم المخالفين ومعارف أهل الجمود والبدع من الناس أجمعين، ويقتَصِرَ على ما في تفسير جده وجدنا الجميع الإمام الهادي يحيى بن الحسين بن القاسم عليهما السلامُ، وما في تفاسير سائر الأئمَّة، ولا سيما تفسيرُ الحسين بن القاسم، فإنَّه كثير الشواهد اللغوية، مثل ما حثَّ على ترك تواليف غيرهم في سائر العلوم.
فهلاَّ تجنَّب في تفسيره ذِكْرَ القُراء السبعةِ، فإنَّهم ليسوا من أئمَّة الزيدية، وكذلك أئمة النحاة المتكلمون على وجوه القراءات، وأئمة المعاني والبيان الخائضون في لطائف البلاغة، وحفَّاظُ اللغة المعتمدون في نقل اللغات، وعلماء التفسير من التابعين المشحونة بذكرهم جميع التفاسير (1)، الناقلين لأقوال الصحابة، وكذلك علماء التاريخ، فما أعلم في بلاد الزيدية تاريخاً من تأليف أئمتهم، وإنما يعتمدون " تاريخ محمد بن جرير الطبري " (2)، وفي الأزمنة الأخيرة دخلها " تاريخ عز الدين بن الأثير " (3)، و" النبلاء " للذهبي.
__________
(1) في (ش): تفاسير.
(2) وهو المسمَّى " تاريخ الأمم والمملوك " لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، وقد طبع هذا التاريخ بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، في عشرة أجزاء، وهو من التواريخ المشهورة، ابتدأ في تاريخه من بداية الخليقة حتى سنة 302 هـ؛ فبسط فيه الكلام في الوقائع.
(3) وهو" الكامل في التاريخ " للشيخ عز الدين علي بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى سنة 630 هـ، ابتدأ فيه أول الخلق، وانتهى إلى سنة 628.(4/21)
والخلف والسلف مجتمعون (1) على قبول العلوم من أهلها، والسيدان الإمامان المؤيَّد وأبو (2) طالب أخذا علم الحديث عن أهله، فأخذا عن غير واحدٍ من أئمتهم ورواتهم كما تقدَّم بيانُ طرفٍ منه (3) أول هذا الوهم، وأكثر المؤيد بالله عن الحافظ الشهير محمد بن إبراهيم المعروف بابن المقري، والسيد أبو طالب أكثر عن الحافظ الجرجاني (4) أحمد بن عبد الله بن عديّ صاحب كتاب " الكامل في الجرح والتعديل ".
فمن أين جاء لهذا المعترض الغناء التام عن المُحدثين؟ ومن قال بقولهم من النحاة، واللغويين، والمفسرين، والقراء، والمؤرّخين؟ لا والله ما استغنى عنهم، ولا بَرِحَ كلاًّ عليهم، وما أقبح بالإنسان أن يكون، من كفار النَّعم وأشباه النَّعم ولله من قال (5):
أقلُّوا عليهم (6) لا أبا لأبيكُمُ ... مِنَ الَّلوْمِ أوسُدُّوا المكان الَّذي سدُّوا
الثالث عشر: أنَّ جميع أئمة الفنون المُبرِّزين فيها قد شاركوا المحدثين في عدم ممارسة علم الكلام، وإن لم يُشاركوهم في كراهة الخوض فيه، لكن علة جمودهم، ورميهم بالبَلَه هي عَدَمُ الممارسة، والممارسة لا تحصُلُ بمجرد الاعتراف بفضيلة العلوم، فأخبرنا: هل مارس علم الكلام جميع أئمة الفقه كالشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد، وإسحاق، والثوري ومن لا يأتي عليه العدُّ، وأئمة النحو كالخليل وسيبويه ونحوهما، وأئمَّةِ القُرَّاء
__________
(1) في (ش): مجمعون.
(2) في (ش): " وأبي "، وهو خطأ.
(3) في (ب): منها.
(4) تحرف في الأصول إلى " البحراني ".
(5) هو للحطيئة، وقد تقدَّم في 2/ 104.
(6) في (ش): عليكم.(4/22)
واللغويين، وأهل التفسير، وسائر علوم الإسلام؟!
فإن قلت: كلُّ أهل الفنون الإسلامية قد مارسوا الكلام ما خلا (1) المحدثين لم يُستفد إلاَّ إعلامُ الغير بأنك معانِدٌ، وإن اعترفت بعدم ممارسة الأكثرين منهم (2)، وإن مارس بعضهم فكذلك المحدِّثون قد مارس بعضهم دون الأكثرين منهم، ولم ينفعهم هذا من داء البَلَهِ، وجمود الفطنة، وسوء الأذى، وفُحش السخرية، والكِبْرِ، ويلزمُكَ أن تُشْرِك سائر علماء الإسلام في ذلك الملام ما خلا أهل الكلام، وما أقبح ما يجُرُّ (3) إليه هذا الجهلُ من الكبر الفاحش (4)، فإنَّه قد ثبت في الحديث الصحيح " أنَّ الكِبْرَ غَمْصُ الناس " (5) وهذا غمص (6) أئمة الناس، فاستعذ بالله من الجمع (7) بين النقص والكبير فإنَّ تكبُّر النَّاقص أفحشُ من تكبر الكامل، ولهذا كان الفقير المتكبِّرُ من أبغض الخلق إلى الله كما ورد في الصحيح (8)، فكيف إذا كان كِبْرُهُ على من هو خيرٌ منه، وقد ورد
__________
(1) في (ش): سوى.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): جَرَّ.
(4) في (ش): والفحش.
(5) تقدَّم تخريجه في 2/ 129، وغمص الناس -بالصاد المهملة-: احتقارهم، وفي (ش): " غمط "، بالطاء المهملة، وهو بمعنى الغمص، وكلاهما جاءت به الرواية.
(6) في (ش): غمط.
(7) في (ب): الجميع.
(8) أخرج أحمد 2/ 480، ومسلم (107) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة لا يُكلِّمُهم اللهُ يوم القيامة، ولا يزكّيهم ولا ينظرُ إليهم، ولهم عذابٌ أليم: شيخ زانٍ، وملِكٌ كذاب، وعائلٌ مستكبر ".
وفي الباب عن عصمة بن مالك عند الطبراني 17/ (492)، وعن سلمان عنده أيضاً (6111). قال الهيثمي في " المجمع " 4/ 78 عن الأول: إسناده ضعيف، وقال عن الثاني: رجاله رجال الصحيح.(4/23)
في مطلقِ الكبر وأخَفِّه وأقلِّه أنه يمنع رحمة الله ودخول جنته، ففي الصحيح أنه " لا يشُمُّ رائحة الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر " (1)
الرابع عشر: تصريحك بوصم (2) شيخ الإسلام، وإمام دار هجرة المصطفى عليه السلام مالك بن أنسٍ رضي الله عنه دليلٌ على أنك أنت الجامدُ الفطنة، الكثيرُ البطنة، وأنك لا تدري ما يخرج من رأسك، ولا ما يطيش من دماغك.
ومَنْ جَهِلَتْ نفسُهُ قدْرَهُ ... رأي غيرُهُ مِنْهُ ما لا يرى (3)
كأنك لا تدري ما قدر الأمة، ولا مَحَلُّ إجماعها، أو لم (4) تعرف أن الأمة المعصومة عن الخطإِ أجمعت على أنه أحد المجتهدين المعتبرين،
__________
(1) أخرج أحمد 1/ 399 و412 و416 و451، ومسلم (91)، وابن ماجة (4173)، وابن أبي شيبة 9/ 89، وأبو داود (4091)، والترمذي (1999)، وابن مندة في " الإيمان " (540) و (541) و (542)، والطبراني (10000) و (10001) و (10066) و (10533)، والحاكم 1/ 26، وابن حبان (224) بتحقيقنا من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة أحدٌ في قلبه مثقال حبة خردل من كِبر، ولا يدخلُ النار من كان في قلبه حبة خردل من إيمان ". قال ابن حبان: أي: لا يدخل النار على سبيل الخلود.
(2) في (ش): بوهم.
(3) هو للمتنبي من قصيدته التي يهجو بها كافوراً يقول فيها:
وماذا بمصر من المُضحِكات ... ولكنه ضحكٌ كالبُكَا
بها نَبَطيُّ من أهْلِ السَّوادِ ... يُدَرَّسُ أنسابَ أهل العُلا
وأسْوَدُ مِشفَرُهُ نِصْفُه ... يُقَالُ له أنت بدرُ الدُّجَى
وقد شرح العكبري معنى البيت الذي استشهد به المؤلف، فقال: يقول: من أعجب بنفسه، فلم يعرف قدر نفسه إعجاباً وذهاباً في شأنه، خفيت عليه عيوبه، فاستحسن من نفسه ما يستقبحه غيره. " شرح العكبري " 1/ 44.
(4) في (ش): ولم.(4/24)
وأنه شيخ سُنة سيد المرسلين، وأنها خضعت بين يديه كراسي علماء المسلمين (1)، وأنه لا يصح انعقاد الإجماع مع خلافه، دع عنك الكثير الطيب مما في كتب الرجال من جلائل مناقبه، وخصائص فضائله، وقد جاء في الأثر: " أن الرجل كان إذا حفظ الزَّهراوين (2) جدَّ فينا " وجاء في تعظيم العلماء والمتعلمين ما لا يتَّسِعُ له هذا المكان من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، ولو لم يكن في ذلك إلاَّ ما وردَ من بَسْطِ الملائكة أجنحتها لطالب العلم (3)، فهذا في طالب العلم (4) فكيف بالعالم، فكيف يا سيَّال (5) الذهن بشيخ الإسلام، وإمام دار الهجرة النبوية على صاحبها السلام بإجماع العلماء الأعلام، وقد صَحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " وَجَبَتْ "، فيمن أثنى عليه جماعةٌ يسيرة، أي: وجبت له الجنة، وقال: " أنتم الشهداء " (6)، وفسَّر ذلك بمن (7) شهد له ثلاثة أو اثنان (8)، فكيف بمن تطابق على إمامته علماء الإسلام؟! وكيف لم يهتد
__________
(1) في (ش): الإسلام.
(2) الزهراوان: البقرة، وآل عمران، أي: المنيرتان، واحدتهما زهراء، والأزهر: الأبيض المستنير. وقوله: جدّ فينا، أي: عظُمَ، وفي (1) و (ب): جَل، والرواية: جد، والأثر في " السند " 3/ 120 من حديث أنس.
(3) حديث حسن. أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (795)، ومن طريقه أحمد 4/ 239، وابن ماجة (226)، والطبراني (7352) عن معمر، عن عاصم، عن زر، عن صفوان بن عسال المرادي رفعه: " ما من خارج يخرج من بيته يطلب العلم إلاَّ وضعت له الملائكة أجنحتها رضاً بما يصنع ". وصححه ابن خزيمة (193)، وابن حبان (85) بتحقيقنا. وانظر تمام تخريجه فيه.
(4) جملة " فهذا في طالب العلم " ساقطة من (ش).
(5) في (ش): سائل.
(6) تقدم تخريجه في 1/ 183 ت 3.
(7) في (ش): وقيس بذلك من.
(8) تقدم تخريجه 1/ 183 ت 4. ونزيد عليه هنا: وأخرجه أحمد 1/ 21 - 22 و30 =(4/25)
ذهنُك هذا (1) السيال إلى أنه عارٌ عليك أن تذُمَّ من لا تستفيدُ بذمِّه إلاَّ كشف الغطاء عن حماقتك، وخلع جلباب الحياء عن وجه خلاعتك؟ وانظر (2) إن بَقِيَ لك مُسْكَةٌ من عقلٍ، أو التفاتٌ إلى تمييز، هل لك مطمعٌ في إجماع الأمة على اجتهادك، والاعتداد بأقوالك، والتعظيم لك، والثناء عليك؟! ومن الذي حَصَلَتْ له هذه المرتبة الرفيعة العُظمى من أعيان الأئمة والعلماء؟ ومن أنت حتى ترفع رأسك إلى القدح في أهل هذه المرتبة العزيزة؟ بل قد بان بكلامك أنك قصرت عن العلم بأنهم فوقك، وكيف تطمع في أنك من أهل مرتبةٍ لم تعرفها، ولم تعرف مكانك في البُعد منها، وما أنصفت (3) في جوابك عن (4) الإمام مالكٍ.
أتهجُو ولستَ لهُ بكُفءٍ ... فشرُّكُما لخيرِ كُمَا الفداءُ (5)
__________
= و45 - 46، والبخاري (1368) و (2643)، والنسائي 4/ 50 - 51، والترمذي (1059)، والطيالسي (23) من طريق أبي الأسود الديلي ..
وأخرج أحمد 3/ 242، وابن حبان (749)، والحاكم 1/ 378 من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس مرفوعاً: " ما من مسلم يموت، فيشهد له أربعة من أهل أبيات جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون إلاَّ خيراً إلاَّ قال الله جلَّ وعلا: قد قبلت علمكم فيه، وغفرتُ له ما لا تعلمون ".
قال الحافظ في " الفتح " 3/ 229: والمخاطب بقوله: " أنتم شهداء الله في الأرض ": الصحابة، ومن كان على صفتهم من الإيمان.
وقال الداوودي: والمعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفسقة، لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأنَّ شهادة العدو لا تقبل.
(1) في (ش): ذا.
(2) في (ش): وأيضاً.
(3) في (أ) و (ش): أنصف.
(4) في (ش): على.
(5) البيت لحسان بن ثابت من قصيدة يمدح بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويهجو بها أبا سفيان قبل أن يسلم. مطلعها: =(4/26)
قال: يقال للمخالف ما تقول: إذا وَرَدَتْ عليك شُبُهَات الملحدين، ومشكلات المُشبِّهَة والمُجبرة المتمردين؟ وقد ساعَدَك الناس إلى إهمال النظر في علم الكلام، وهل هذا إلاَّ مكيدةٌ للدين إلى آخر ما ذكره.
أقول: لا يخلو الكفرة إما أن يطلبوا منا تعريفهم بأدلتنا حتى يُسلِمُوا، أو يُوردوا علينا شُبَهَهُم حتى نترُك دين الإسلام، فهذان مقامان:
المقام (1) الأول: أن يسألونا (2) بيان الأدلة على صحة الإسلام حتى يدخلوا فيه، والجراب (3) من وجوهٍ:
الوجه (4) الأول: معارضة مشتملةٌ على تحقيق، وهي أن نقول للمتكلمين: ما تقولون إذا قال الكفرة: إنَّ أدلَّتكم المُحَرَّرة في علم الكلام شُبَهٌ ضعيفة، وخيالاتٌ باردةٌ كما قد (5) قالوا ذلك أو (6) أمثاله؟ فما أجبتم به عليهم بعد الاستدلال والنزاع والخصومة، فهو جوابنا عليهم قبل ذلك كله، فإن قالوا: إنَّه يحسُنُ منا بعد إقامة البراهين (7) أن نحكم عليهم بالعناد، ونرجع إلى الإعراض عنهم أو إلى الجهاد، وأما أهل الأثر وترك علوم الجدل والنظر، فإنه يقبُحُ منهم ذلك قبل إقامة البراهين (7).
__________
= عَفَتْ ذاتُ الأصابع فالجواءُ ... إلى عَذرَاء منزلُهَا خلاءُ
انظر " الديوان " ص 57 - 66 بتحقيق البرقوقي.
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ب): " سألونا "، وفي (ش): " سألوا ".
(3) في (ش): فالجواب.
(4) ساقطة من (ش).
(5) " قد " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): و.
(7) في (ش): البرهان.(4/27)
فالجواب: أنَّ الحجة لله تعالى قد تمَّت قبل نَصْبِنَا ونصبكم للبراهين (1) بما خلق (2) الله لهم من العقول، وأرسل إليهم من (3) الرسل، فكما إنهم لو ماتوا على كفرهم قبل مناظرتكم (4) لهم، حسن من الله تعالى أن يعذبهم، فكذلك يحسن (5) منا قبل المناظرة قتالهم قاطعين بأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، مقتدين في ذلك برسله الكرام وسائر أئمة الإسلام، ويقال للمتكلمين: هل تحكمون على الكفار قبل مناظرتكم لهم وفي خلالها بأنهم معذورون لا إثم عليهم أو لا؟
إن قالوا بالأول، خالفوا الإجماع، بل ضرورة الدين.
وإن قالوا بالثاني، فالحكم الذي حكمتم به عليهم بعد المناظرة قد كان حاصلاً لهم قبلها، وإن كان (6) قصدكم بالمناظرة أن تعلموا عنادهم، فهو أيضاً معلومٌ قبلها إذ لو لم يكونوا معاندين، كانوا معذورين، كما قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِر} [الإسراء: 102]، وإن كان قصدُكم بمناظرتهم تمكينهم (7) من معرفة الله تعالى فقد مكنهم الله تعالى من ذلك، وهو غيرُ مُتَّهَمٍ في عدله وحكمته، وإقامة حجته (8)، وفي الحديث الصحيح أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أحدٌ أحبَّ إليه العُذرُ من الله، من أجلِ ذلك أرسل الرُّسُل
__________
(1) في (ش): البرهان.
(2) في (ش): يخلق.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): مناظرتهم.
(5) في (ش): وكذلك نحن يحسن.
(6) " كان " ساقطة من (ش).
(7) في (ش): تمكنهم.
(8) في (ش): حجيتهم.(4/28)
وأنزل الكتب" أو كما قال، رواه البخاري (1) وغيره، وقال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، إلى أمثال ذلك من النصوص الدالة على أن حجة الله قد وضحت، وقامت على الخلق من قبل مناظرة الدَّرَسَة، وخيالات المبتدعة، ووساوس المتكلمة، وتحكُّمات المتكلّفة، ولكنهم كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آَيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِين} [النمل: 13]، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام لما قال له (2) فرعون: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء: 101، 102]، وقال: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وإن كان مرادُكم الفصل بين المختلفين، وجمع كلمة العالمين (3) أجمعين فذلك غير مقدورٍ عند أهل السنة لأحد من المخلوقين (4)، ولا يَقْدِرُ عليه عندهم، ولا يفصل بينهم إلاَّ ربُّ العالمين كما قال سبحانه في كتابه المبين: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [الحج: 17]، ولهذا سمَّى الله يوم القيامة يوم الفصل، والعَجَبُ من المعتزلة أنَّ مذهبهم أن هداية الكفار والضلال غير مقدورةٍ (5)
__________
(1) (7416)، وقد تقدَّم تخريجه 1/ 170.
(2) في (ش): قاله.
(3) في (ب): كلمة رب العالمين، وهو خطأ.
(4) في (ب): الخلق.
(5) في (ش): مقدر.(4/29)
لله سبحانه وتعالى عما يقولون (1) عُلُوّاً كبيراً، ثم يوجبون على المخلوق الضعيف التعرض لهدايتهم.
فإن كانت غير مقدورة له، فهذا لا يجوز إيجابه بالرأي، والنصُّ عليه غير موجود، ومتى انتهى إلى حد المراء، فالنصوص على المنع منه متواترة، وإن كان هداية الكفار مقدورة للعبد، فكيف لا تكون مقدورة لله تعالى؟!.
فإن قلت: هم يلتزمون (2) أيضاً أن الله سبحانه عن مقالتهم غير قادر على مقدورات العباد، لأن ذلك يؤدي إلى تجويز مقدور بين قادرين.
قلت: نعم، ولكنهم يجوزون قدرته سبحانه على أمثالها دون أعيانها، وسوف يأتي البرهان القاطع على بُطلان كلامهم عند الكلام على أفعل العباد، وأمَّا إلزامنا لهم هنا (3)، فهو خروجُ قدرة الرب سبحانه عن التعلق بمقدور العباد، وبمثله (4) أيضاً، فهو أفحش من مذهبهم حاشا أبا (5) الحسين وأصحابه فإنهم يوافقون أهل السنة في هذه المسألة.
الوجه الثاني: معارضة أيضاً، وهي (6) لبعض المتكلمين ألزم، وذلك أن في المتكلمين من المعتزلة طوائف لا يوجبون النظر في علم الكلام.
__________
(1) في (ش): يقول الظالمون.
(2) في (ش): ملتزمون.
(3) ساقطه من (ش).
(4) في (ش): ومثله.
(5) في (ب): أبي، وحاشا إذا لم يسبقها ما، يجوز في إعراب الاسم الذي بعدها الجر على أنها حرف جر، والنصب على أنها فعل.
(6) في (ش): "وهو"، وهو خطأ.(4/30)
الطائفة الأولى: من قال بأن المعارف ضرورية، لقوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} [إبراهيم: 10]، ولغير ذلك كما سيأتي، ويجعل النظر (1) شرطاً اعتيادياً (2) غير مؤثرٍ، وهم أقوى هذه الطوائف حجة لأنهم لم يسقطوا وجوب النظر في الجملة، ولا طرحوا المعلوم من ثمرته بالفطرة، ولا جحدوا المعلوم منه عن سلف الأمة، ومع ذلك، فلم يبتدعُوا القول بوجوب النظر في الدقائق، والطرائق المبتدعة، وإنما يوجبون من النظر ما يوجبه أهل السنة، وهو النظر فيما أمر الله بالنظر فيه، وفيما عُلِمَ من الأنبياء وأصحابهم وخير أسلافهم أنهم اعتمدوه من النظر في المعجزات، والمخلوقات من غير شعورٍ بترتيب المقدمات على الشرائط المنطقيات، وما ذكره الغزالي في " القسطاس " (3) من كون تلك المقدمات معلومة لجميع العقلاء، واردة (4) في المعنى في كتاب الله تعالى لا يستلزم وجوب الخوض في المنطق والكلام، بل يوجب الاستغناء عن ذلك بالفطرة كما أن من يعرفُ وزن الشعر بالفطرة، ويقوله على أبلغ الوجوه لا يحتاج إلى قراءة علم العروض، ولا يمتنعُ أن يرد الشرع بالمنع عمَّا يستغنى عنه لحكمةٍ استأثر الله بعلمها، كما ورد بالنهي عن كثيرٍ مما لم يُدرك بالعقل قُبْحُهُ، بل ورد بالنهي عن كثيرٍ ممَّا ظاهِرُهُ قُرْبَةٌ، كصلاة الحائض (5)،
__________
(1) " النظر " ساقط من (ش)
(2) في (ش): اعتبارياً.
(3) اسمه الكامل " القسطاس المستقيم " ويقع في 60 صفحة، وهو من مؤلفاته المتأخرة، وقد طبع ضمن مجموعة من رسائل الغزالي، وموضوعه توضيح قواعد التفكير الصحيح المفضية إلى معرفة الحقيقة.
(4) في (ش): ومرادة.
(5) في حديث عائشة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت أبي حبيش: " فإذا أقبلت الحيضة، فاتركي الصلاة ... ". =(4/31)
والوِصال في الصوم (1)، والصلاه في الأوقات المكروهة (2)، وتلاوة الجُنُب للقرآن (3). وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البدع (4)، وأمر عند حدوثها بالتعوُّذ من الشيطان، والفَزَعِ إلى القرآن، ولو خُلينا وقضايا
__________
= أخرجه مالك 1/ 61، والبخاري (306)، ومسلم (333).
وفي حديث أبي سعيد الخدري: " أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم ". أخرجه البخاري (304)، ومسلم (80).
وانظر في معناه حديث أبي هريرة عند أحمد 2/ 373 - 374، ومسلم (80)، والتزمذي (2613).
وحديث ابن عمر عند أحمد 2/ 66 - 67، ومسلم (79)، وأبي داود (4679).
وفي حديث عائشة عند مسلم (335)، والترمذي (887) قالت: كنا نحيض عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نطهر، فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة.
(1) كما في حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إياكم والوصال، إياكم والوصال " قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله! قال: " إني لست في ذاكم مثلكم، إنِّي أبيتُ يطعمني ربي ويسقيني، فاكلفوا من العمل ما لكم به طاقة ".
أخرجه عبد الرزاق (7754)، والبخاري (1966)، ومسلم (1103) (58).
(2) فعن عقبة بن عامر الجهني قال: ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهنَّ أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلُعُ الشمسُ بازغة حتى ترتفع، وحين يقومُ قائمُ الظهيرة حتى تميل الشمسُ، وحين تضيَّف الشمس للغروب حتى تغرُبَ. أخرجه مسلم (831)، وأحمد 4/ 152، والنسائي 1/ 275 - 276، والترمذي (1030)، وأبو داود (3192)، وابن ماجة (1519).
(3) وهو ما رواه الترمذي (131)، وابن ماجة (595)، والدارقطني 1/ 116، والبيهقي 1/ 89 من طريق إسماعيل بن عياش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: " لا تقرأ الحائضُ ولا الجنبُ شيئاً من القرآن " وإسماعيل بن عياش. ضعيف في روايته عن غير أهل بلده، وهذا الحديث منها؛ وله طريقان آخران عند الدارقطني وهما ضعيفان، وفي الباب عن علي عند أبي داود (229) والترمذي (146) وابن ماجة (594)، وابن الجارود (94) وأحمد 1/ 84 و124، والدارقطني 1/ 119، والحاكم 1/ 152 و4/ 107، والبيهقي 1/ 88 - 89 من طريق عمرو بن مرة عن عبد الله بن سَلِمَة، عن علي قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً، وصححه غير واحد من الأئمة، وحسَّنه الحافظ في " الفتح "، ولأحمد 1/ 110 والدارقطني 1/ 118 نحوه من طريق آخر وسنده حسن، ورواه غير واحد موقوفاً على عليٍّ.
(4) تقدَّم في 3/ 257.(4/32)
العقول، ما مُنِعْنَا الخوض في لطيف الكلام لأجل تقوية أدلة الإسلام، والنظر في المخلوقات الوارد في الكتاب والسنة لم (1) يُقَيَّدْ بوجهٍ مخصوصٍ، وهو طريقة المتكلمين، بل فُهِمَ منه تعلُّقه بما يُوقِفُ النفس على الحقِّ اليقين، ويُخرجها من ظلمات دعوى المبطين إلى أنوار معارف المُحقِّين، وربما اختلفت الأدوية على حسب اختلاف الأدواء، وكثيرٌ من الأذكياء الذين يقعون في الحيرة والوسوسة لا ينتفعون من النظر إلاَّ بأمرين.
أحدُهُما: توقيف النفس على أنه قد وقع في الشهادة ما لم يكن ليقر به العقل، وكان في الغيب، وهو جود هذا العالم العجيب المحكم على ما أشار الله تعالى إليه، وقد قرره الجاحظ في " العبر والاعتبار " فإنه لو لم يكن مخلوقاً لله تعالى كما جاء به الإسلام، لم يكن بد من القول بالمحارَات، الوقوع في المحالات، فإنه يلزمُ حينئذٍ إمَّا القول بِقَدَمِ العالم، والقِدَمُ بنفسه هو أعظم المحارات، أو القول بحدوثه من غير مُحدِثٍ ولا مُرَجِّحٍ، وذلك من أعظم المحالات، فحينئذ تخضع النفس للاستسلام لبراهين الإسلام.
وثانيهما: تخويف النفس -من الوقوع- في عظيم (2) العذاب، فإنها كما لا تُؤمن (3) به، فإنَّها لا تأمن منه، لأن طبيعتها عدم الإيمان بالغيب، وعدم الأمان منه، ولذلك أمر الله تعالى أن يحتج بهذا المعنى على المشركين في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ -إلى قوله- إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} [الأحقاف: 10]، وسيأتي
__________
(1) في (ش): ولم.
(2) في (ش): معظم.
(3) في (ش): " لا تأمن "، وهو خطأ.(4/33)
تقرير هذا في بيان (1) الحكم في تقدير الشرور، وهو من أنفع ما تُكسر به سورة النفس عند نُبُوِّها عما لا تألفه ولا تعرِفُه ممَّا جاءت به النبوات، وهو داخلٌ فيما أمر بأنه (2) من النظر في ملكوت الأرضين والسماوات.
الطائفة الثانية: من يقول: إنَّ المعارف ضروريةٌ مطلقاً، وذلك بعد تمام العقل وخطورها في الخاطر، وزوال السهو عن تصورها، وهؤلاء لا (3) يحمِلُون الأمر بالنظر والفكر على مُجرَّد ترك السهو والغفلة، فإنَّ الساهي عن العلم الضروري غير عالم به في حال سهوه عنه، ولذلك شبَّه الله الغافلين بالأنعام، فقال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ} [الفرقان: 44]، قالوا: وليس الأمرُ بالنظر يُناقِضُ كونَ المنظور فيه معلوماً بالضرورة، ولذلك شرع الله للمكلفين الفكر في الموت والمرض ونحوه مع أنه معلومٌ بالضرورة، وأجمعت الأمة على استحباب التفكر فيه، وأخبرنا الله تعالى به، بل أدخل المؤكِّدات على الجبرية، فقال سبحانه: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُون} [المؤمنون: 15]، وفيه بحث لطيف، وهو أن المؤكِّدات لا تدخُل على المعلومات (4)، فلا يحسُنُ أن نقول: والله إن السماء لمرتفعة فوق الأرض، وإنما حَسُنَ ذلك في الآية (5) لتنزيل المخاطبين لشدة غفلتهم منزلة الجاحدين المنكرين له، كما ذكره علماء المعاني والبيان في قول الشاعر:
__________
(1) في (ش): شأن.
(2) في (ش): به.
(3) ساقطة من (ش).
(4) من قوله: " فقال سبحانه " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) " في الآية " ساقط.(4/34)
جاء شقيقٌ عارضَاً رُمحَه ... إنَّ بني عمِّك فيهم رِمَاحٌ (1)
وقال تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْن} [التوبة: 126].
وقال سبحانه: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} [الأنعام: 11].
وقال: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الأنعام: 40].
وقال: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46].
وقال: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِه} [الأنعام: 99]، وكثيرٌ ما يَرِدُ في كتاب الله تعالى، وقد يعظُمُ الانتفاع بالنظر في الضروريات حتَّى قال المؤيد بالله عليه السلام في كتابه " سياسة المرتدين ": إنَّ الفكر في الموت والقبر والبلى أنفع (2) من الفكر في عذاب النار وأمثاله (3)، وعلَّل ذلك بكون الموت وأحواله ضرورية.
وعلى الجملة، فإن الانتفاع باستحضار تصور العلوم الضرورية النافعة، ودوام تصورها معلومٌ بالضرورة، والتضررُ بدوام الغفلة عنها معلومٌ بالضرورة، ولما يفترِقِ الحال بين أهل الصلاح وغيرهم، وتفاوت المراتب إلاَّ بذلك، وعامة ما اشتملت عليه كتبُ الرقائق المُبكية،
__________
(1) في (ش): جراح. والبيت لحجل بن نضلة، وهو في " البيان والتبيين " 3/ 340 (طبعة عبد السلام هارون)، و" مؤتلف " الآمدي ص 112، و" معاهد التنصيص " 1/ 72 (طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد)، و" دلائل الإعجاز " ص 362 (طبعة الخانجي بالقاهرة بتحقيق الأستاذ محمود شاكر).
(2) في (ب): من أنفع .. وهو خطأ.
(3) " وأمثاله " ساقطة من (ش).(4/35)
والمواعظ المُشجية هو التذكير بالضروريات، بل جاء ذلك في أشعار العرب وعقله من لم يعرف النظر قال مُتمِّمٌ (1):
وقالوا أتبكي كُلَّ قبرٍ رأيتَهُ ... لِقَبْرٍ (2) ثَوَى بين اللِّوَى فالدَّكَادِكِ (3)
فقُلتُ لهم إنَّ الأسى يبعَثُ الأسى ... دعُونِي فهذا كُلُّهُ قبرُ مالِكِ
ولو بسطتُ هذا المعنى، لجاء في مجلداتٍ، وقد أشار الله تعالى
__________
(1) هو متمم بن نويرة بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن يربوع التميمي اليربوعي أخو مالك بن نويرة، شاعر، فحل، صحابي، من أشراف قومه، عده ابن سلام في " الطبقات " ص 203 في الطبقة الأولى من أصحاب المراثي. وله في أخيه مالك مراثٍ من غُرر الشعر، لم يقل أحدٌ مثلها، والمقدمة منهنَّ عينيته:
لعمري وما دهري بتأبينِ هالكٍ ... ولا جَزَعٍ ممَّا أصَابَ فأوْجَعا
أنشدها صاحب " المفضليات " (67) يقول فيها:
وكُنَّا كَنَدْمانَيْ جذيمة حِقْبةً ... مِنْ الدهرِ حتى قيل لن يَتَصَدَّعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معا
وقد سكن متمم المدينة في أيام عمر، وتزوج بها امرأة لم ترض أخلاقه لشدة حزنه على أخيه. انظر " شرح المفضليات " لابن الأنباري ص 63 و526، و" أسد الغابة " 5/ 58 - 59، و" الإصابة " 3/ 340.
(2) في (ش): لثاوٍ.
(3) البيتان في " ديوانه " من قصيدة (91)، وهما في " حماسة أبي تمام " ص 390، و" حماسة البحتري " ص 258، و" الحماسة البصرية " 1/ 210، و" الزهرة " للأصبهاني 2/ 539، و" العقد الفريد " 3/ 193، و" أمالي أبي على " 2/ 1، و" وفيات الأعيان " 6/ 17، و" فوات الوفيات " 2/ 298، و" معجم البلدان " 2/ 479.
وجاء في " معجم ما استعجم " للبكرى ص 554 - 555: الدكادك -بفتح أوله، على لفظ جمع دَكْداك-: موضع في بلاد بني أسد، قال مُتمم بن نُويرة:
فقال أتبكي كُلَّ قبرٍ رأيتَهُ ... لِقَبْرٍ ثَوَى بين اللِّوَى فالدَّكَادِكِ
ويُروى: فالدَّوانِكِ، وهو أيضاً هناك، مجاور الدَّكادك، وكان مالك بن نويرة أخو مُتمم المرثي بهذا الشعر، قتل بالملا وقبره هناك، والملا: في بلاد بنى أسد.
قال الأصمعي: قَدِمَ مُتمم العراق، فجعل لا يمُرُّ بقبرٍ إلاَّ بكى عليه، فقيل له: يموت أخوك بالمَلاَ، وتبكي أنت على قبرٍ بالعراق؟ فقال هذه الأبيات. وبعد البيت:
فقُلتُ له إنَّ الأسى يبعَثُ الأسى ... فَدَعني فهذا كُلُّهُ قبرُ مالِكِ(4/36)
إلى فضيلة أهل الرِّقَّة والخشوع التي هي من آثار استحضار تصوُّر الضروريات فقال سبحانه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُون} [المائدة: 82]. ثم وصفهم بالمعرفة، ووصف معرفتهم بما يوجب ملازمة (1) الخشوع العظيم، فقال سبحانه: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ} [المائدة: 83]، وهذه صفة معرفة الصالحين لا صفة معرفة الجدليين والمنطقيين وهذا مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]، فكيف يقال: إن من اعتقد أن المعارف ضروريةٌ يلزمه إهمال الفكر (2) والنظير وردُّ القرآن والخبر والأثر.
ولقد صنَّف الجاحظ -وهو من أهل هذه المقالة- كتات " العبر والاعتبار " (3)، فأتى فيه بما يقضي له بعُلُوِّ القدر في علم النظر من التفكر في عجائب المخلوقات الضروريات.
وكذلك النظر في علم التشريح، وعجيب خِلقة الإنسان والتأمل لما يُدْرَكُ من (4) ذلك بالتواتر والعيان.
وقد حثَّ الله تعالى على النظير في المشاهدات وهي من
__________
(1) " معرفتهم " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): الذكر.
(3) ذكره ابن النديم في " الفهرست " ص 211، وياقوت في " معجم الأدباء " 16/ 108 باسم " التفكر والاعتبار ".
(4) ساقطة من (ش).(4/37)
الضروريات، فقال: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين} [يس: 77].
وقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيم} [لقمان: 10].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7].
فالحث على النظر في المعلومات معلومٌ، لكن المخالف يقول: إنَّ المراد بالنظر فيها استنباطُ علومٍ غيرها بطريق استدلالية تنبني على مقدماتٍ متركبةٍ تركيباً مخصوصاً على وجهٍ يُنتج العلم على سبيل الاختيار، وأهل المعارف يقولون: إنَّ المراد بالنظر فيها؛
إمَّا ما يحصُلُ عنده من تعظيم المعبود، والخشوع له، والرِّقة، والإجلال، والخوف والرجاء كما يحصُلُ بذكر الموت ونحوه.
وإمَّا ما يهجُمُ على القلوب بعد ذلك من صرف اليقين ورسوخ(4/38)
الإيمان من غير اختيار.
وإما مجموعُهُما (1)، ويتفاوت الحاصل من (2) ذلك تفاوتاً عظيماً لا يقف على حدٍّ، ولا يجري على قياسٍ على حسب حكمة الله واستحقاق العبد، وربما أبكى، وربَّما أقلق، وربَّما لم (3) تحتمله القوى البشرية، فيُصعَقُ العبد كما صعق موسى عليه السلام، وربما زاد على ذلك فقتل، فسبحان من هو على كل شيءٍ قدير، وبكل شيء بصير.
الطائفة الثالثة: من المعتزلة والشيعة من يجيز تقليد أهل الحق، وهو قول شيخ البغدادية أبي (4) القاسم البلخي الكعبي حكاه عنه السيد الإمام المؤيد بالله عليه السلام في " الزيادات "، وذكر أبو القاسم ما يدل عليه في " المقالات " وهو قوله فيها عند ذكر العامة، وقد عدَّهم فرقة مستقلة، وذكر ما يجتمعون عليه من إضافة صفات الكمال إلى الله، وتنزيهه عن صفات النقص أو كما قال، ثم قال بعد ذلك. فهنيئاً لهم السلامة. وهذا القول مرويٌّ عن الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلام، وصرح به السيد المؤيد بالله عليه السلام في آخر كتاب " الزيادات " تصريحاً لا يحتمل التأويل البتة؛ لأنه احتج عليه، فطوَّل (5) الكلام فيه، بما لا يمكن معه خفاءُ مقصوده، وقد حاول المعترض إنكار ذلك عن المؤيد بالله، وعارضه بقوله في الإفادة بوجوب المعرفة، فأمَّا المعارضة، فجهل، إذ ليس يمتنع أن يكون للعالم قولان صحيحان عنه، وأما إنكار
__________
(1) في (ش): مجموعها.
(2) في (ش): في.
(3) " لم " ساقطة من (ب).
(4) في (ش): أبا.
(5) في (ش): وطوَّل.(4/39)
ذلك، وتأويله، فعنادٌ لا يساوي شيئاً، ولا يستفيد مُنكرُه إلاَّ أذى نفسه.
وقد اعتمد المؤيد (1) بالله في " الزيادات " على الدليل المعلوم من فِطَرِ العقول، وهو حُسْنُ العمل بالظن كما ذكره في خبر الواحد كثير من المحققين، منهم أخوه السيد أبو طالب في " المجزي "، والإمام المنصور بالله في " الصفوة "، والشيخ أبو الحسين في " المعتمد " (2)، وهو دليل قوي، والعلم به فطري أوَّلي كما تقدم في آخر الوظائف.
وقد تمسك من أوجب العلم بوجوه عقلية وسمعية أشفُّها كون العلم بالله تعالى لُطفاً مقرباً إلى طاعته تعالى، ومعنى المقرِّب: ما يكون المكلَّف (3) معه أقرب إلى أداء ما يجب عليه وترك ما يحرُمُ عليه. وقد ذكر المؤيد بالله في " الزيادات " أنه يحصُلُ بالظن مثل ذلك (4)، ومن السمع قوله تعالى: {فاعلم أنَّهُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ} [محمد: 19]، وما جاء من ذم الظن والإجماع على تحريم الجهل بالله، بل (5) على أنه كفر، وللمخالفين فيها أنظار ومعارضات، أمَّا اللطف المقرب فمن وجوه:
الوجه الأول: وجوبه إمَّا ضروريٌّ عند المعتزلة، كوجوب قضاء الدَّين، وردِّ الوديعة، وهذا ممنوع لوجدان التفرقة الضرورية، وعدم منازعة الخصم.
وإمَّا استدلالي، ولا دليل يتصور على ذلك متركب من مقدمتين
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) انظر 2/ 106 - 110.
(3) في (ش): العبد المكلف.
(4) من قوله: " وقد ذكر " ساقطة من (ب).
(5) ساقطة من (ش).(4/40)
ضروريتين أو منتهيتين إلى ضروريتين، فلم يبق إلاَّ أنه مجرد دعوى أو ظن، فإن كان مجرد دعوى لم تُسمع، وإن كان ظناً، لم يكن مانعاً من ظنٍّ آخر هو أرجح منه بالنسبة إلى من لم يُسلم رجحانه، وكثيرٌ من أدلة الكلام ودعاوي أهله تنهار إذا اعتبرتها بهذا الاعتبار، وإنما هي (1) أقيسةٌ مبنية على اعتقاد صحة الحصر والسَّبْرِ (2) والتلازم في الثبوت، والانتفاء، لا على القسمة الدائرة بين النفي والإثبات، وأمثالِها من الضروريات بل قد يعللُ بعضُ المعتزلة بمجرد إمكان التعليل، ويقولون: ما أمكن تعليله بأمرٍ، وجب، وهذا في غاية السقوط.
وقد ذكر الإمام (3) المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام هذه الأشياء أو أكثرها وزَيفَها، وأوضح بطلانها في مقدمة كتابه " التمهيد " (4)، وهي مردودة عند جميع المنطقيين وأهل التحقيق.
وقد تعرَّض الفقيه يحيى بن حسن القرشي لتصحيحها في أول مصنفه في الكلام، فما أنصف، وهذا عارضٌ، ومن أحبَّ التحقيق فيه، نظر كلام الفريقين في كتبهم الحافلة.
الوجه الثاني: أن اللطف المقرب مجرد دعوى، فلا يخلو إما أن يكون الملطوفُ فيه واقعاً عنده قطعاً (5) كالداعي الرَّاجح على معارِضِه أو لا.
__________
(1) " هي " ساقطة من (ش).
(2) تصحف في (ش) إلى: السير.
(3) " الإمام " ساقطة من (ش).
(4) ذكره الشوكاني في " البدر الطالع " 2/ 331 في مؤلفاته، وسماه " التمهيد لعلوم العدل والتوحيد " وقال: هو في مجلدين.
(5) في (ش): واقعاً قطعياً.(4/41)
الأول: مسلَّم وجوب تحصيله متى كان مقدوراً، ولكنَّ العلم بالله تعالى ليس كذلك إجماعاً وضرورة، لأنَّ كثيراً ممَّن يعرِفُ الله تعالى يعصيه.
والثاني: ممنوعٌ وجوبه، لأنه غيرُ مؤثِّر في وجود الفعل كالقدرة ولا شرط في تأثيرها، والفعل يقع مع حصوله تارةً، ولا يقع مع حصوله أخرى، وهو حين وَقَعَ الفعلُ غير مؤثِّر فيه، وحين لم يقع غيرُ مانع منه، فوجودُه وعدمُه على سواءٍ بالنسبة إلى وجود الفعل وعدمه، ولا فائدة بعد تحقق (1) ذلك، لاعتقادنا أنَّ المكلَّف معه أقربُ، فإنَّ مجرد القرب وصفٌ مُلغى مطَّرح ولا فرق (2) بين وجوده وعدمه مهما لم ينته إلى الرُّجحان المستمر وقوع الفعل عنده.
فإن قلت: يجب تحصيله، لأنه يجوز أن ينضمَّ إليه غيره، فيكون الفعل مع المجموع راجحاً واقعاً مستمراً.
قلتُ: التجويز لا ينتهضُ (3) دليلاً على الوجوب.
فإن قلت: يجب، لأنه يُلازمُ الطاعة غالباً، أو في الأكثر، وعدمه يُلازِمُ الجُرأة كذلك، والظن يتبع الغالب، والأكثر في جلب (4) المصالح ودفع المضار، ولا يلتفت العقلاء إلى النادر، وإنكار نفع العلم في الغالب، والأكثر خلاف المعلوم عقلاً وسمعاً.
قلت: هذا صحيح، ولكن فيه مباحث، منها ما (5) يأتي قريباً في
__________
(1) في (ش): تحقيق.
(2) في (ش): مطروح لا فرق.
(3) في (ش): ينهض.
(4) في (ش): طلب.
(5) ساقطة من (ش).(4/42)
مسألة المشيئة في كلام الرازي من عدم ظنِّ القُدرة عليه والتحصيل له.
ومنها أن نظائره لا تجب إجماعاً من ملازمة الزهد، والخلوة، وقوانين علم الرياضة التي عُلِمَ بالتجربة الضرورية أن المكلف معها أقرب إلى الخير غالباً، وأن نظره معها (1) في العلوم أكثر صواباً.
ومنها ما يأتي الآن في الوجه الثالث من قيام الظن مقامه في العمل لا سيَّما الظنُّ المقارب للعلم المُسمَّى علماً في اللغة.
الوجه الثالث: سلَّمنا كون المقرب واجباً، لكنَّ مثل هذا اللطف يمكن حصوله بالظن، فيقوم مقام العلم، فإنا نعلم بالضرورة أن المكلف مع الظن لثبوت الرَّبِّ (2) سبحانه وثوابه وعقابه أقرب إلى الطاعة، ولا يجبُ العلم، لكونه معه أشدَّ قرباً، كما لا يجبُ العلم بالأدلة الكثيرة، لأنه معها أشدُّ قرباً من العالم بدليلٍ واحدٍ ونحو ذلك.
وقد ذكر المؤيد بالله عليه السلام هذا المعنى في " الزيادات " وذهب إليه، وقد ذكر الفقيه قاسمٌ في تعليق شرح الأصول إشكالاً غيره، وهو: أنه يَلزَمُ أن لا تَجِبَ المعرفةُ في حق من علم الله تعالى أنه لا يعصيه، وإن لم يعرفها بالدليل، وفيه مباحث أكثر من هذا، وقد نبهتُك على أصولها، وإذا كان هذا هو أساسَ علم الكلام، وأصل وجوب الخوض فيه، فما ظنُّك بفروعه!!
وأما قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وسائر الأدلة السمعية فلا يصحُّ عند (3) المعتزلة الاستدلالُ بها قبل إثبات
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) كتب فوقها في (أ): الله.
(3) من قوله: " ظنك " إلى هنا سقط من (ب).(4/43)
الصانع وعلمه وحكمته.
والجواب على من استدل بهذه الآية من وجوه:
الأول: أن كون الأمر يُفيدُ الوجوب ظنِّيُّ.
الثاني: أن الظن يُسمى علماً، وإن مَنَعَ من ذلك مانعٌ (1) فهو ظنّي.
الثالث: أنّ نفي الثاني ممَّا يَصِحُّ الاستدلالُ عليه بالسمع عند المعتزلة، والأشعرية، فيجوز أن يكون العلم المأمور به فيه مستنداً في الدلالة إلى هذا (2) السمع المنصوص فيه التوحيد كما لو أمره بالعِلم (3)، بشيءٍ من السَّمعياتِ المحضةِ التي لا تُدركُ بالعقل كعددِ الركعات، حُمِلَ على ذلك.
فإنُ قيل: الآيةُ تدلُّ على أنه لا يحصُلُ العلم بالاحتجاج بالسمع حتى يكون السمع معلوماً.
قلنا: إن أردتُم دلالة المطابقة، فممنوعٌ قطعاً، إذ لم يقُل: اعلم عقلاً، وإن أردتُم دلالة الالتزام، فممنوعٌ احتمالاً، إذ هو مَحَلُّ النزاع، إذ لا مانع من كون الشيء معلوماً ضرورةً من الدين عند العامي مع كون أصل الدين مظنوناً معه، ولا شكَّ أنَّ العلم في موضعٍ مع الظن في غيره، أو في أصله خيرٌ من الظنِّ فيهما معاً.
الرابع: أن الخطاب خاصٌّ بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعديه إلى غيره بطريق ظني، فأمَّا قولُه تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه
__________
(1) في (ش): مانع من ذلك.
(2) في (أ): التي هي.
(3) ساقطة من (ش).(4/44)
مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]، فإنها في معنى التأكيد للخبر بكون عجزهم عن المعارضة دليلاً مُفيداً للعلم بأن القرآن أُنزل بعلم الله، وبصحة ما فيه من توحيد الله، ونفي كل آلهةٍ سواه، وقرينة ذلك وقفه للأمر بالعلم على شرط أن لا يستجيبوا، وذلك كقولك لمن يُناظرك: ائت بمثل كلام الله، فإن عجزت، فاعلم أنَّه حقٌّ، وإن لم تقطع بهذا المعنى يكون محتملاً، وبيان ذلك أن العجز عن المعارضة للقرآن دليلُ إعجازه، فمتى حَصَلَ العجز بعد التحدي، وتحقَّق، حصل العلم، فيكون الأمر حينئذ بتحصيل العلم مجازاً، لأنه لا يصح الأمر (1) بتحصيل الحاصل، وهذا على المختار أن حصول العلم بعد النظر في الدليل على الوجه الصحيح ضروري غير اختياري، ونظير ذلك قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 49 - 50]، والله سبحانه أعلم.
الخامس: أنه معارض بأدلة المخالفين المتقدمة (2) فكيف يُستنتج العلم مما ترتَّب على هذه الظُّنون، وحَصَلَت فيه مع ذلك المعارضة؟ وكفي في معارضته بقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم} [الحجرات: 14]،
فقد وعدهم بقبول أعمالهم في الإسلام مع عدم الإيمان الصادق الذي
__________
(1) من قوله: " حينئذٍ " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): المقدمة.(4/45)
يُنافي الشكَّ، وإن لم يكن عن أدلة تفصيلية كإيمان كثير من الصالحين والعامة، فكيف مع حصوله من غير خوضٍ في الكلام؟ وهذا إذا لم يُضمِرُوا (1) نقيض الإيمان، فإنَّ ذلك هو النفاق الذي هو شرُّ من الشرك. نعوذ بالله منه.
وإمَّا قولُه في آخر الآيات: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، فإنه لم يُطلق ذلك، بل شرطه (2) بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [الحجرات: 17]، وهذا الشرط لم نعلم نحن حصوله، بل أول الآية نص على عدمه، فكأنه لما نفى ما ادَّعوا من الإيمان: قال وعلى تقدير صدقكم في دعواكم، فالمنَّة لله تعالى في ذلك، فيكون في المعنى كقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [البقرة: 93]، فلم يلزم أن لهم إيماناً مع قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} (3)، كذلك لا يلزم أن لأولئك الأعراب إيماناً مع قوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين}.
وعلى تسليم أنه إيمانٌ، فيحتمل أن يكون في غيرهم، وأن يكون فيهم، والمنفيُّ عنهم الإيمان الكامل، والمثبت لهم القليل منه، فقد صح اختلافه، وتقدير أقلِّه بمثقال حبةٍ من خردل من إيمان، يوضحه أن القليل منه لو انتفى، لكانوا في حكم المنافقين، وهو أحد القولين، والأول قول الجمهور ذكره ابن تيمية، ويوضِّحه قوله تعالى بعد ذكرهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا -إلى قوله- أُولَئِكَ هُمُ
__________
(1) تحرف في (ب) إلى: لم يضموا.
(2) في (ب): شرط.
(3) من قوله: " فلم يلزم " إلى هنا ساقط من (ب).(4/46)
الصَّادِقُون} [الحجرات: 15]، فدلَّ على أن هذا الإيمان الصادق هو (1) المنفي عن أولئك لا أقل ما يُسمى إيماناً مما ورد في أحاديث الشفاعة الصحاح أنَّ أهله يخرجون من النار بعد دخولها (2) والله سبحانه أعلم.
وقد ورد في كتاب الله تعالى ما يدلُّ على زيادة الإيمان ونقصانِه كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]، وكذلك الإسلام يزيد وينقص، وبذلك جمع العلماء بين الآيات المختلفة والأحاديث المتعارضة في تفسير الإيمان والإسلام.
وأما ذمُّ اتباع الظن، فسيأتي الجواب عنه، ويدخُلُ في ضمنه الدليل على أن التمسك بالظن الراجح تقليداً أو (3) استدلالاً، ليس يُسمى في اللغة جاهلاً بالله كما لا يُسمى الفقهاء المجتهدون جهالاً بالأحكام الظنية، ولعلَّ المخالفين (4) أسعد بدعوى إجماع الصحابة والسلف على عدم وجوب الخوض في علوم النظر، ولعلَّ هذا يتكرَّر، وقد مرَّ منه شيء أو سيأتي.
فإن قيل: هذا حسنٌ ولكنه يؤدي إلى حُسن تقليد الكفار لأسلافهم متى ظنوا صحة ما هم عليه، فسيأتي الجواب عن هذا في آخر هذا
__________
(1) في (ش): وهو.
(2) ورد ذلك في حديث أنس، وقد تقدم تخريجه 1/ 211.
(3) في (ش): و.
(4) في (ش): المخالف.(4/47)
الكلام (1)، ونكتَتُه على سبيل الإجمال: أن الله يمنعُ الظن الراجح بذلك في ابتداء التكليف، بما نَصَبَ من القرائن القاضية بنقيضه، وبما بعث من الرُّسل، وأظهر عليهم من المعجزات، بل أوجبت المعتزلة الخاطر الداعي على (2) الله تعالى، فمتى عاندوا، ورجَّحُوا (3) المرجوح في الابتداء، جاز أن يُعاقبهم الله تعالى كما لم يُؤمنوا به أوَّل مرة، وهو سبحانه عدلٌ حكيم، وبعباده خبيرٌ بصير، قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109 - 110]، فيخلي سبحانه بينهم وبين الشياطين تؤُزُّهُم أزّاً، كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36]، وقد أشار سبحانه إلى ذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، ونبَّه على ذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح حيث قال: " كل مولودٍ يولد علن الفطرة وإنَّما أبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانه " (4) وفي هذا أحاديث كثيرة، {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات} [فاطر: 8]، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُون} [الأنفال: 23]، وقد مضى في آخر الوظائف تحقيق الكلام في هذا مبسوطاً، فخُذهُ من هنالك.
__________
(1) في (ش): المقام.
(2) في (ش): " إلى "، وهو خطأ،
(3) في (ش): وأرجحوا.
(4) تقدم تخريجه في 3/ 261.(4/48)
وممَّا يُحتج به لأهل هذا القول ما أجمع عليه المسلمون من جواز وقوع الوسوسة في أمر العقائد الدينية، وورد (1) القرآن بذلك في قوله تعالى لخليله عليه السلام: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]، وقال علماء الاعتزال: إن العلم الاستدلالي لا يرفع الوسوسة.
وقال إمام العلوم العقلية والسمعية الشيخ تقي الدين في " شرح العمدة " (2): وفي الفرق بين ما يقع من ذلك (3)، وما لا يقع إشكالٌ. انتهى.
وقيل في جواب ذلك: إنَّ الوسوسة إن كانت في أركان الدليل، كانت شكّاً يُزيلُ العلم، ووجب تجديد النظر، وهو قول أبي هاشم وأصحابه الذين لا يوجبون الانتهاء في النظر إلى المقدمات الضرورية بل يُجيزون (4) الاقتصار عند سكون النفس بأركان الدليل، ولا يُبالون بالوسوسة إلاَّ فيها. وهذا إن صح عندهم (5) نازلٌ جداً، فإنه يستحيل أن تكون أركانٌ الدليل التي هي عبارة عن المقدمات يقينية معلومة لا شكَّ
__________
(1) في (ش): " وورود "، وفي (ب): " ورد ".
(2) ذكر ذلك في نهاية شرح حديث صفية بنت حيي رضي الله عنها 2/ 261، ونص كلامه: وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس، وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى: {لا يكلِّف الله نفساً إلاَّ وسعها}، ولقوله عليه السلام في الوسوسة التي يتعاظم الإنسان أن يتكلم بها " ذلك محض الإيمان "، وقد فسّروه بأن التعاظم لذلك محض الإيمان، لا الوسوسة، فكيفما كان ففيه دليل على أن تلك الوسوسة لا يؤاخذ بها، نعم في الفرق بين الوسوسة التي لا يؤاخذ بها وبين ما يقع شكّاً إشكال، والله أعلم.
(3) في (ج): " ذلك شكّ "، وفي (ش): ذلك شكّاً.
(4) في (ش): يجوزون.
(5) سقطت من (ب)، وفي (ش): عنهم.(4/49)
فيها، ثم يعرِضُ الشكُّ في النتيجة.
وقد أجمع أهلُ التحقيق من المتكلمين والمنطقيين على بطلان هذا، يوضحه أن البهاشمة (1) يفرقون بين الضروري والاستدلالي بتجوبز ورود الشك والشبهة (2) على الاستدلالي، وهذا التجويز لا يصحبُ العلم البتة، فإنَّ التجويز في هذا الوقت على المعلوم استدلالاً فيه أنه ينكشِفُ بطلانُه فيما بعد (3)، شكٌّ تأخَّر في هذا الوقت، وكونُه شكاً ضروري، فكيف خَفِيَ مثل هذا على أئمة علم الكلام من البهاشمة (4) وجلة المعتزلة؟! وقد زدتُ هذا البحث وضوحاً في " ترجيح أساليب القرآن " (5).
وإذا كان هذا ميزان معارف (6) جِلَّة المتكلمين، فما ظنُّك بالموزون به؟ فلو نظرت بعين الإنصاف والوَرَع في كثير من دعاويهم، لانكشف لك العجبُ، ولكنَّك حسنُ الظنِّ بالقوم، ومتى (7) قطع بصحة أمر لم ينظر فيه، وهذا عارض، فإذا تقرَّر إجماع المسلمين على أنه لا يكفر من عرضت له الوسوسة مع بذله لجهده في النظر، دلَّ على أن الوصول إلى اليقين الموجب لسكون النفس بالأدلَّة القاطعة (8) ليس بمفروضٍ، أو ليس بمقدورٍ لتخلفه كثيراً مع توفّر الدواعي إليه، وإنَّما المقدور النظر، والمتولَّد عنه مختلِفٌ.
__________
(1) في (ش): البهاشمية.
(2) في (ش): والشبه.
(3) في (ش): بعده.
(4) في (ش): البهاشمية.
(5) ص 84 - 87.
(6) سقطت من (ب).
(7) في (ش) و (ب): ومن.
(8) في (ش): القطعية.(4/50)
وأمَّا وقوع النظر على الوجه الصحيح دون غيره، ففي كونه مقدوراً مطلقاً نظرٌ، وإنَّما يقطعُ بذلك حيث يقطع بوجوب معرفة الصواب، واستحقاق المتأوّل للعقوبة قطعاً.
والصحيح أن ذلك لا يقطع به إلاَّ في مخالفة الضروريات من الدين لاسيما العامة، والبُلَدَاء على جميع قواعد أهل النظر المقدمة، وإنَّما العلم من الفضائل والمراتب الرفيعة يؤيِّدُهُ أن العلم من الأعراض التي تزُولُ بالنوم والسهو، ولا يجب تحديدُ النظر في الأدلة عقيب كُلِّ غَفوَةٍ، وكُلِّ غفلة، ومن ادَّعى ذلك، فقد خالف الضرورة الدينية، ويؤيد ذلك ما عُلِمَ بالضرورة من تقرير الأنبياء عليهم السلام لطَغَامِّ العوام والعبيد والنسوان والجُفاة والبُلداء على قبول الإسلام من غير بحث عن الاستدلال والاختبار لهم ولا بيِّنة.
فإن قيل: هلاَّ جوزتُم في العامة أنهم يعرفون الأدلّة الجُملية وأنَّ الأنبياء علموا ذلك منهم، أو حملوهم عليه، فقرروهم على العلم، لا على الظن، ولا على الجهل؟
فالجواب: أن هذا (1) لا يصحُّ إلاَّ عند من يقولُ: إن المعارف ضرورية أو ظنية.
وأما من يقول: إنها نظرية قطعية، فالجواب عليه ما ذكره الرازي في " المحصول " من أن الدليل إذا تركب من عشر مُقدِّماتٍ استحال من العالم الزيادة فيها، ولم يحصل للجاهل العلم متى قلد في واحدة منها، وهذا ضروري، فدلَّ
__________
(1) في (ش): ذلك.(4/51)
على أن العلم الاستدلالي لا يتبغَّضُ وينقسم وكذلك سائر العلوم، بل سائر المعاني البسيطة، وهي التي لا تركيب فيها، وإنَّما الممكن أن يَهَبَ الله تعالى لهم علماً ضرورياً ابتداءً أو عقيب النظر، أو ظناً قوياً لا يكاد يتميَّزُ من العلم إلاَّ للخاصة، يحصُلُ لهم معه من الطمأنينعة ما لا يحصُلُ للمتكلم بالاستدلال الذي يجوز معه ورودُ الشكِّ والشبهة، بل العاميُّ والمُحدِّث وأمثالهم من أهل الطمأنينة أسعدُ حالاً من المتكلم، لسلامتهم من تكفيرِ عامَّة المسلمين ومِن التكبّر على عموم المؤمنين، وممَّا يلحقُهُ من العار في وقوعه في الوسوسة مع دعواه لأرفع مراتب المعرفة، وفي عَدَمِ تمييزه بين الظُّنُون الغالبة حتى حَسِبَها علوماً، وبين العلوم اليقينية المنتهية إلى المقدمات الضرورية حتى رفع إلى مرتبتها الظُّنون الغالبة (1)، والتخيلات الكاذبة، ودليل صحة ذلك أنهم من أشدِّ الناس وسوسةً، بل ما عُلِمَ (2) أنه ارتدَّ عن الإسلام أحدٌ من أئمَّة القرآن والحديث، وقد ارتدَّ من أئمة الكلام غيرُ واحد.
وممَّا يُقوي هذا المذهب ظواهِرُ السمع، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في غير حديث: (من كان في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردل من إيمان) (3)، وقوله تعالى في وصف المؤمنين: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} [البقرة: 46]، ونحو ذلك.
وأمَّا حملُ العامة على أنهم يَعرِفُونَ الأدلة المَعْرِفَة (4) التفصيلية فلا
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): أعلم.
(3) " خردل من " سقطت من (أ) و (ب). وقد تقدَّم تخريج هذا الحديث في 1/ 211.
(4) في (ب): " المعروفة "، وهو خطأ.(4/52)
يصحُّ، لأنه عنادٌ لما يعلم عادةً من امتناع ذلك من غير تعلُّم، كما يُعلم امتناعُ معرفة سائر الصناعات الدقيقة، وإتقانُها من غير تعلُّمٍ (1)، بل يُعلمُ امتناعُ معرفة أسهل من ذلك مثل صنعة الطعام المتقنة من غير تَعَلُّمٍ، مع أن الأنبياء عليهم السلام أنصح الخلق (2) لخلقه، فكما أنَّ العالم في الكلام المتدين الشفيق على ولده لا يُمكِّنُه على (3) غِرته وجهله، وهو يرى قرائن أحواله تدُلُّ على الغباوة حتى يمحَضَهُ النُّصح في ذلك، فالرسل عليهم السلام أولى وأحقُّ بذلك، وكذلك أصحابهم وتابعوهم، ولا يمكن أن تمضي الأعوام، وهم مضربون عن هذا المُهِم الأعظم لو كان مُهماً حقاً، وهذا يُفيد العلم الضروريَّ العادي (4) مع التأملِ والإنصاف، والله أعلم.
وأما قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]. فالجواب (5) عند هؤلاء عن ذلك (6) من وجوه:
الأول: وهو المُعوَّلُ عليه أن اللغويين نقلوا أنَّ الظن في اللغة هو الشكُّ، فثبت (7) بذلك أنه لفظة مشتركة، فحيث يُذمُّ، يرادُ به الشكُّ المعلوم في فِطَرِ العقول ذمُّ التعويل عليه، وحيث يُمدَحُ يُراد به الراجح المعلوم في فِطَرِ العقول حُسنُ العمل به، وقد أوضح الله تعالى انقسامَهُ،
__________
(1) من قوله: " كما يُعلم " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في (ب) و (ش): خلق الله.
(3) في (ش): لا يمكنه تركه على.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): فالجواب عنه.
(6) " عن ذلك " ساقطة من (ش).
(7) في (ش): فيثبت.(4/53)
وعدم تعميم الحكم فيه بقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم} [الحجرات: 12]، والقرآن العظيم (1) يُفسِّرُ بعضه بعضاً، ويُردُّ متشابهه إلى مُحكمِه مع الإمكان، ويوضِّح أنه حيث يُذمُّ يراد به الشَّكُّ المساوي دون الغالب الراجح، قوله تعالى في ذم المشركين: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون} [الأنعام: 116]، وفي آية أخرى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِين} [الأنعام: 148 - 149].
ودلالتُها من وجوه:
أحدها: أن عبادة الحجارة ليست راجحةً في العقل، فتكون مظنونة.
وثانيها: أنه حَصَرَ اتِّباعهُم في الظن، فلو أراد الراجح، لكان فيه تنزيهُهُم من اتِّباع الشكِّ المساوي، وهم إليه أقربُ.
وثالثها: قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون}، فإنه من صفات من يتجرأ على محض المباهتة دون من لا يعمل إلاَّ بالظن الراجح، فإنه من صفات أهل الحق لا سيما (2) وقد قصرهم عليه مبالغةً.
ورابعها: قوله في أول الآية: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، فإنَّ أكثر من في الأرض لا يعملون بالظن الراجح، بل الذي يعمل به من العلماء هم أهلُ الورع والتحرّي، ألا ترى أنَّ من (3) مذاهب العُلماء في مواضِعَ كثيرةٍ التمسك بالأصل، كالطهارة
__________
(1) في (ش): الكريم.
(2) في غير (ش): سيما.
(3) " من " ساقطة من (ش).(4/54)
وعدم العمل بظن النجاسة، وهم يستحبون (1) العمل هنا بالظن.
وخامسها: أن الله تعالى قد وصف الأكثرين بما يدُلُّ (2) على هذا، فقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]، فكأنَّه عبَّر عن أهوائهم بالظن تارة، وعبر عن الظن بأهوائهم أخرى، وكذا وصفهم بالسَّفَه والافتراء في قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام: 140].
وسادسُها: أن أفعالهم تدلُّ على ذلك، فإنهم لو توقَّفُوا على الظن الراجح لما قالوا أشياء لا يهتدي إليها العقلُ، ولا وَرَدَ بها شرعٌ، كقولهم: إنَّ الملائكة بنات الله، ومثل إفكِهِم في التحليل والتحريم على ما حكى الله في (3) البحيرة والسائبة والحام (4) فهذه الوجوه مع نقل اللغويين لذلك تُوجب ترجيح حمل الآيات على الظن المساوي والمرجوح دون الاصطلاحي الذي يختصُّ بالراجح القوي الذي ثبت (5) في الكتاب
__________
(1) في (ش): يستحسنون.
(2) في (ش): دل.
(3) في (ش): حكاه في.
(4) البحيرة: هي الناقة إذا نُتجت خمسة أبطن، والخامس ذكر، نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها، وكانت حراماً على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختار ابن قتيبة.
والسائبة: هي التي تُسيب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزون منها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً.
والحامي: هو الفحل من النعم إذا نُتج له عشر إناث متتابعات ليس بينهنَّ ذكر، حمي ظهره ولم يُركب، ولم يجزوه، ويُخلى في إبله يضربُ فيها لا ينتفع به بغير ذلك. انظر " زاد المسير " 2/ 436 - 440.
(5) في (ش): يثبت.(4/55)
والسُّنَّة والعُرْفِ واللُّغة تسميتُه علماً ومعرفة، ولذلك قال الله في سورة الأنعام بعد أن حكى كثيراً من ذلك: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 144]، ويُوضِّحُهُ أن الله تعالى قَصَرَهُم على اتباع الظن، ثم قصرهم على الخرص (1)، فلو أراد الظن الراجح، لتناقض، لأن المقصور على الخرص، وهو محضُ الكَذِبِ لا يكونُ مقصورا على العمل بالراجح بالضرورة.
الوجه الثاني: من الأصل أن الآية في الظن المعارض للعلم، وهو ظن المشركين لصحة شركهم بدليل قوله: {لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وهذا (2) يدلُّ على أنه ظنُّ غير الحق، فكيف يُحتج بذلك على قبحِ العمل بظنِّ الحقِّ الصادر عن الأمارة الصحيحة الموجبة للرُّجحان المقبول في فِطَرِ العُقول الخالي عن المعارضة!.
الوجه الثالث: أنها من العموم المخصوص بمن ورد فيه بدليل قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون} [يس: 21] وقوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيّ} [الأعراف: 157]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} [الأنعام: 90].
فإن قلت: هذا تجويزٌ للجهل بالله تعالى.
قلت: كلاَّ، فإنَّ الله تعالى قد سمَّى الظن علماً، وذلك صحيحٌ
وقد أقرَّ به الزمخشريُّ في تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ
__________
(1) في (ش): الخوض، وهو تحريف.
(2) في (ش): وهو.(4/56)
مُؤْمِنَات} (1) [الممتحنة: 10]، وكذلك في قوله: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} (2) [يوسف: 81]، وأجمع المسلمون على تسمية فقهاء الفروع علماء، وإن كانت ظنية.
وقال المؤيد بالله في " الزيادات " عن أبي القاسم البلخي: إنَّه يُجيزُ العمل بالظنِّ في معرفة الله، ولكنَّه يُسميه علماً.
وكذلك ذهب جماعةٌ من الجِلَّة إلى تسمية حديث الثقة الحافظ المتقن معلوماً، وكذلك يقول أهل الفطر العقلية السالمة من الشوائب: علمنا بكذا، إذا جاءهم به خبرٌ مظنونٌ، ويقولُ أحدُهم لصاحبه: أعلمني بما في نفسك، وقد أعلمتُك بما في نفسي، فكيف يُتركُ الكتاب، والفِطَرُ، واللغة لِعُرف بعض المتكلمين؟! فإذا تقرَّر أن هذه الطوائف الثلاث من جِلَّة علماء الكلام، بل من أهل الاعتزال والتشيع خاصةً مع إطباق المخالفين من المعتزلة لهذه الطوائف على (3) إجلالهم وتوقيرهم، وأنهم من علماء الإسلام، فما بالُهم يعترِضُون على المحدثين، ويُشنِّعُون عليهم في القول بعَدَمَ وجوب النظر في الكلام؟!
فيُقال لصاحب السؤال: ما كان جوابُ مشايخكم هؤلاء المسقطين (4) للنظر في الكلام على الفلاسفة والمُجبرة والمشبِّهة، فهو بعينه جوابُ المحدثين، فلا تُسرف في التشنيع على أهل الأثَرِ، فقد شاركهم فيما
__________
(1) في " الكشاف " 4/ 92: فإن علمتموهنَّ مؤمنات العلم الذي تبلغه طاقتكم، وهو الظنُّ الغالب بالحلف وظهور الأمارات.
(2) انظر " الكشاف " 2/ 337.
(3) في (ش): من، وهو خطأ.
(4) في (ب): " المقسطين "، وأثبت فوقها: ط المسقطين.(4/57)
شنعتُم به عليهم جماعةٌ من أئمة علم النظر، وهذه كُلُّها معارضات، ويُؤيِّدُ ذلك ما ظَهَرَ من كثير من أئمَّة المعقول، وأعيان المتكلمين، وحُذَّاق الفلاسفة مما يدلُّ على أنَّ العلوم الإلهيات لا تُدرَكُ بالمسالكِ النظريات، وإنما تكون مواهب ربانيات داخلةً في حيِّز الضروريات، أو معارِف ظنيات غير بالغة إلى مراتب الضروريات، ولا مرتبة عندهم بين الظنيات والضروريات، وقد نقل هذا الرازي في " المحصول " (1) عن كثيرٍ من الفلاسفة، فقال في آخر الفصل الثامن: فإن قلت: بل أعرِفُ بضرورة عقلي وجوب النظر عليَّ.
قلت: هذا (2) مكابرة، لأنَّ وجوب النظر يتوقَّفُ على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهيَّة يُفيدُ العلم، وذلك ليس بضروري بل نظريٌّ خفيٌّ، فإنَّ كثيراً من الفلاسفة قالوا: فِكرَةُ العقل تُفيدُ اليقين في الهندسيات والحسابيات، فأمَّا في الأمور الإلهية، فلا تفيد إلاَّ الظن، ثم بتقدير أن يثبُت كونُه مفيداً للعلم، فلا يجبُ الإتيانُ به إلاَّ لو عَرَف (3) أن غيره لا يقومُ مقامه في إفادة العلم، وذلك ممَّا لا سبيل إليه إلاَّ بالنظر الدَّقيق، فإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفاً على ذَيْنِكَ المقامين النظريين، فالموقوف على النظري أولى أن يكون نظرياً.
قلتُ: وهذا (4) مما (5) يدلُّ على أن الرازي يرُدُّ على من يوجب البلوغ إلى العلم في الإلهيات على العامة دون أن (6) يُجيز لهم العمل في
__________
(1) في (ش): " محصوله " وانظر 1/ 207 - 208.
(2) في (ش): هذه.
(3) في " المحصول ": فإنَّما يجب الإتيان به لو عرف.
(4) ساقطة من (ب).
(5) ساقطة من (ب) و (ش).
(6) في (ش): من.(4/58)
ذلك على الظن، كالمؤيد بالله، وأبي القاسم، وأشار إليه الرازيُّ في وصيته (1)،
__________
(1) ذكر هذه الوصية ابن أبي أصيبعة في " عيون الأنباء " 2/ 27 - 28، والذهبي في " تاريخ الإسلام " الطبقة (61) وفيات (606) هـ، والسبكي في " طبقاته " 8/ 90 - 92.
ونص الوصية: يقول العبد الراجي رحمة ربه، الواثق بكرم مولاه محمد بن عمر بن الحسين الرازي، وهو أول عهده بالآخرة، وآخر عهده بالدنيا، وهو الوقتُ الذي يلين فيه كلُّ قاسٍ، ويتوجَّه إلى مولاه كلُّ آبق: أحمدُ الله تعالى بالمحامدِ التي ذكرها أعظم ملائكته في أشرف أوقات معارجهم، ونطق بها أعظم أنبيائه في أكمل أوقات شهاداتهم، وأحمده بالمحامد التي يستحقها، عَرَفتُها أو لم أعرفها، لأنه لا مناسبة للتراب مع ربِّ الأرباب، وصلاته على الملائكة المقربين؛ والأنبياء، والمرسلين، وجميع عباد الله الصالحين.
ثم اعلموا إخواني في الدين، وأخلائي في طلب اليقين أن الناس يقولون: إن الإنسان إذا مات، انقطع عملُه، وتعلُّقُه عن الخلق، وهذا مخصص من وجهين: الأول: إن بقي منه عمل صالح صار ذلك سبباً للدعاء، والدعاء له عند الله أثر، الثاني: ما يتعلق بالأولاد وأداء المظالم والجنايات.
أما الأول: فاعلموا أنني كنتُ رجلاً مُحباً للعلم، فكنتُ أكتب في كل شيء شيئاً، لأقف على كميته وكيفيته، سواء كان حقاً أو باطلاً، إلاَّ أن الذي نظرته في الكتب المعتبرة أن العالم المخصوص تحت تدبير مدبِّرٍ مُنَزَّهٍ عن مماثلة المتحيِّزات موصوفٍ بكمال القدرة والعلم والرحمة، ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيت فيها فائدةً تُساوي الفائدة التي وجدتُها في القرآن، لأنه يسعى في تسليم العظمة والجلالة لله، ويمنع عن التعمُّق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلاَّ للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية، فلهذا اقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء في القدم، والأزلية، والتدبير، والفعالية، فذلك هو الذي أقولُ به، وألقى الله به.
وأما ما انتهى الأمرُ فيه إلى الدقة والغموض، وكلُّ ما ورد في القرآن والصحاح المتعين للمعنى الواحد، فهو كما هو، والذي لم يكن كذلك أقول:
يا إله العالمين، إني أرى الخَلق مطبقين على أنك أكرمُ الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلك ما مدَّ به قلمي، أو خطر ببالي، فأستشهد وأقول: إن علمت مني أني أردتُ به تحقيق باطل، أو إبطال حقٍّ، فافعل بي ما أنا أهله، وإن علمت مني أني ما سعيتُ إلاَّ في تقرير اعتقدتُ أنه الحق، وتصورت أنه الصدق، فلتكن رحمتك مع قصدي لا مع حاصلي، فذاك جُهدُ المُقِلِّ، وأنت أكرم مِن أن تضايق الضعيف الواقع في زَلة، فأغثني، وارحمني، واستر زلتي، وامحُ حوبتي، يا من لا يزيدُ ملكَهُ عِرفانُ العارفين ولا ينقص ملكُه بخطأ المجرمين، وأقول: ديني متابعة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكتابي القرآن العظيم، وتعويلي في طلب الدين عليهما، اللهم يا سامع الأصوات، ويا مُجيبَ الدعوات، ويا مُقيلَ العَثَرات، أنا كنتُ حسنَ =(4/59)
ويأتي (1) في مسألة الأفعال شيء منها، ومما يدل على أنه مذهبه قوله:
العلمُ للرحمن جل جلاله ... وسواه في جَهَلاتِه يَتَغَمْغَمُ
ما للتُّراب وللعلوم وإنَّما ... يسعى ليعلم أنَّه لا يعلمُ
وقد أشار إلى توقُّفه في مسألة الأفعال، وتردُّده في " مفاتح الغيب " وتأتي حكاية لفظه في ذلك، ومن ذلك قول ابن أبي الحديد المعتزلي:
طلبتُك جاهداً خمسين عاماً ... فلم أحصُل على برد اليقين
فهل بعد الممات يكُ اتصالٌ ... فأعلَمَ غامِضِ (2) السرِّ المَصُون
نوى قذفٌ وكم قد مات قبلي ... بحسرته عليك من القرون (3)
__________
= الظن بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: " أنا عند ظن عبدي بي "، وأنت قلت: {أمَّن يجيبُ المضطر إذا دعاه} فهَبْ أني ما جئتُ بشيء، فأنت الغني الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، فلا تخيب رجائي، ولا ترُدِّ دعائي، واجعلني آمناً من عذابك قبل الموت، وبعد الموت، وعند الموت، وسهِّل علي سكرات الموت، فإنك أرحم الراحمين.
وأمِّا الكتب التي صنفتها، واستكثرتُ فيها من إيراد السؤالات، فليذكرني من نظر فيها بصالح دعائه على سبيل التفضل والإنعام، وإلا فليحذف القول السييء، فإني ما أردتُ إلاَّ تكثير البحث، وشحذ الخاطر، والاعتماد في الكل على الله.
الثاني: وهو إصلاح أمر الأطفال، والاعتماد فيه على الله.
ثم إنه سرد وصيته في ذلك، إلى أن قال: وأمرتُ تلامذتي، ومن لي عليه حق إذا أنا مِتُّ، يبالغون في إخفاء موتي، ويدفنوني على شرط الشرع، فإذا دفنوني قرؤوا عليِّ ما قدروا عليه من القرآن، ثم يقولون: يا كريم، جاءك الفقير المحتاج، فأحسن إليه.
قال الذهبي: سمعت وصيته كلها من الكمال عمر بن إلياس بن يونس المراغي، أخبرنا التقي يوسف بن أبي بكر النسائي بمصر، أخبرنا الكمال محمود بن عمر الرازي قال: سمعت الإمام فخر الدين يوصي تلميذه إبراهيم بن أبي بكر، فذكرها.
(1) في (ش): وسيأتي.
(2) في (ش): عالم.
(3) جاء في هامش (ش) ما نصه:
وقلت أنا عند الاشتغال بهذا العلم: =(4/60)
ومن ذلك قول الشهرستاني في أول " نهايته " (1) يصف المتكلمين:
وقد طُفتُ في تلك المعاهد (2) كلها ... وسيَّرتُ طرفِي بين تلك المعالم
فلم أر إلاَّ واضعاً كفَّ حائرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارعِاً سِنَّ نادِمِ (3)
ومنه قول الشيخ تقي الدين:
تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى ... وسافرت واستبقيتهم في المفاوز
وخُضتُ بحاراً ليس يُدركُ قعرُها ... وسيَّرت نفسي في قسيم المفاوز
ولجَّجت في الأفكار ثُمَّ تراجَعَ اخـ ... ـتياري إلى استحسان دين العجائز
رواه الذهبي في ترجمته من " النبلاء " فقال: انشدني الفضل (4) بن قنديل الغابر من سنوات، قال: أنشدنا إسماعيل بن ركاب، أنشدنا (5) علم الدين سليمان بن يوسف الواعظ، أنشدني الإمام أبو الفتح ابنُ دقيق
__________
= وغاية ما حصلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقفُ ما بين الطريقين حيرةً ... فما علمُ من لم يلق غير التحيُّر
على أنني قد خضتُ منه غماره ... وما قنِعت نفسي بغير التبحر
كتبه محمد الشوكاني غفر اللهُ له.
(1) ص 3، والشهرستاني: هو محمد بن عبد الكريم بن أحمد الشهرستاني شيخ أهل الكلام والحكمة، وصاحب كتاب " الملل والنحل " المتوفى سنة 548 قال ابن أرسلان في " تاريخ خوارزم " عالم كيس متفنن، ولولا ميله إلى أهل الإلحاد وتخبطه في الاعتقاد لكان هو الإمام. مترجم في " السير " 20/ 286 - 289.
(2) في (ش): المعالم.
(3) وقد رد على هذين البيتين العلامة محمد بن إسماعيل الأمير صاحب " سبل السلام " فقال:
لعلك أهملت الطواف بمعهد الـ ... ـرسول ومن لاقاه من كُلِّ عالم
فما حارَ من يُهدَى بهدي محمَّدٍ ... ولستَ تراه قارعاً سِن نادم
(4) في (ش): الفاضل.
(5) في (ش): قال أنشدنا.(4/61)
العيد لنفسه الأبيات.
وقال الرازي أيضاً:
نهايات إقدام العقول عِقَالُ ... وأكثر سعي العالمين ضلالُ (1)
وقال غيره:
وكم في البرية من عالمٍ ... قويِّ الجدال سديد (2) الكَلِم
سعى في العلوم فلمَّا يُفِدْ ... سوى علمه أنه ما علم
وقال ابن الجوزي في كتاب " تلبيس إبليس " (3) بعد المبالغة في ذم الكلام، ونقل كلام السلف في ذلك: وقد نُقل إلينا إقلاع متقدمي المتكلمين (4) عما كانوا عليه منه لما رأوا من قُبْح غوائله، ونقل عن الوليد بن أبان الكرابيسي أنه لما حضرته الوفاة، قال لبنيه: تعلمون أحداً أعلم بالكلام منِّي؟ قالوا: لا، قال: فتتَّهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم، أتقبلون؟ قالوا: نعم، قال: عليكم بما عليه أصحابُ الحديث، فإني رأيتُ الحق معهم.
قال: وكان أبو المعالي الجُويني يقول: لقد جرَّبت (5) أهل الإسلام
__________
(1) وبعده:
وأرواحُنا في وحشةٍ من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
انظر " عيون الأنباء " 2/ 28، و" وفيات الأعيان " 4/ 250، و" طبقات السبكي " 8/ 96، و" طبقات ابن شهبة " 2/ 82، و" شذرات الذهب " 5/ 22.
(2) في (ب) و (ش) شديد.
(3) ص 84 - 85.
(4) في (ش): المتقدمين.
(5) في (ش): خبرت.(4/62)
وعلومهم، وركبتُ البحر الأعظم، وغُصتُ في الذي نهوا عنه، كل ذلك في طلب الحق، والهَرَبِ من التقليد، والآن فقد رجعت عن الكُلِّ إلى كلمة الحق: " عليكم بدين العجائز " (1)، فإن لم يدركني الحقُّ بلُطف برِّه، فالويل لابن الجويني.
وكان يقول لأصحابه: لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام (2) يبلغ بي (3) ما بلغتُ، ما تشاغلتُ به.
وقال أبو (4) الوفاء بن عقيل (5) لأصحابه: أنا أقطع أن الصحابة ماتوا، وما عرفوا الجوهر ولا العَرضَ، فإن (6) رضيت أن تكون مثلهم فكُن، وإن (7) رأيت طريق المتكلمين أولى [من طريقة أبي بكر وعمر]،
__________
(1) يتوهم بعضهم أنه حديث، وليس له أصل بهذا اللفظ، كما قال غير واحد من الحفاظ، وللديلمي من طريق محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر رفعه: " إذا كان آخر الزمان واختلفت الأهواء، فعليكم بدين أهل البادية والنساء ". ومحمد بن عبد الرحمن البيلماني: قال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 264: حدَّث عن أبيه بنسخة شبيهاً بمئتي حديث، كلها موضوعة، لا يجوز الاحتجاج به، ولا ذكره في الكتب إلاَّ على جهة التعجب.
وفي " جامع الأصول " برقم (82) عن عمر بن عبد العزيز ينميه إلى عمر بن الخطاب أنه قال: " تُركتم على الواضحة، ليلها كنهارها، وكونوا على دين الأعراب وغلمان الكُتَّاب ".
قال ابن الأثير: أراد بقوله: " دين الأعراب والغلمان والصبيان " الوقوف عند قبول ظاهر الشريعة، واتباعها من غير تفتيش عن الشبه، وتنقير عن أقوال أهل الزيغ والأهواء. ومثله: " عليكم بدين العجائز ".
(2) " فلو عرفتُ أن الكلام " ساقط من (ب).
(3) " بي " ساقطة من (أ).
(4) تحرفت في (ب) إلى: " ابن ".
(5) هو العالم العلامة شيخ الحنابلة أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري المتوفى سنة 513 هـ. مترجم في " السير " 19/ 443 - 451.
(6) في (أ): " فإني "، وهو خطأ.
(7) في (أ): " وإني " وهو خطأ أيضاً.(4/63)
فبئس ما رأيت، وقد أفضى الكلام ببعض أهله (1) إلى الشكوك، وببعضهم إلى الإلحاد تُشمُّ روائحه من فلتات (2) كلامهم، و (3) [أصل] ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع، وطلبوا الحقائق، وليس في قوة العقول إدراك ما عند الله من الحكم التي (4) انفرد بها، ولا أخرج الباري (5) لخلقه جميع ما علمه من حقائق الأمور.
قال: ولقد بالغتُ في الأصول عمري، ثم رجعت القهقرى إلى مذهب المكتب إلى آخر كلام ابن الجوزي في ذلك.
وكان ابن عقيل من أذكياء العالم، وكبار علماء المعقول والمنقول، جمع بين الإمامة في مذهب الحنابلة والمعتزلة (6)، وله كتاب " الفنون " (7) ثلاث مئة مجلد (8) وغير ذلك.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) " فلتات " ساقطة من (أ).
(3) في (ب): وإن.
(4) في (ش): " الذي "، وهو خطأ.
(5) في (ب): سبحانه من علمه.
(6) قال الذهبي في " الميزان " 3/ 146: هو أحد الأعلام، وفرد زمانه علماً ونقلاً وذكاء وتفنناً .. إلاَّ أنه خالف السلف، ووافق المعتزلة في عدة بدع، نسأل الله السلامة، فإن كثرة التبحّر في علم الكلام ربما أضرَّ بصاحبه، ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
وقال الحافظ في " اللسان " 4/ 243: وهذا الرجل من كبار الأئمة، نعم كان معتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحت توبته، ثم صنّف في الرد عليهم، وقد أثنى عليه أهل عصره، ومن بعدهم، وأطراه ابن الجوزي، وعوَّل على كلامه في أكثر تصانيفه.
قلت: وقد أورد ابن رجب في " ذيل الطبقات " 1/ 144 نصَّ براءته من الاعتزال الذي كتبه بخطه سنة 465 بحضور جماعة كثيرة من الشهود والعلماء، يقول فيه: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحّم على أسلافهم، والتكثّر بأخلاقهم، وما كنت علقته، ووُجِدَ بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم، فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحلَّ كتابتُه، ولا قراءتُه، ولا اعتقادُه.
(7) تحرف في (أ) إلى " العيون ".
(8) قال الحافظ ابن رجب في " ذيل الطبقات " 1/ 155: وأكبر تصانيفه كتاب =(4/64)
وأشار إلى ذلك الغزالي حيث قال في " التهافت " (1) أو في " المنقذ مِن الضلال " ما معناه: إنَّ مَنْ وقف على كلام الفلاسفة في علم المنطق، وشرائط إنتاج المقدِّمات، والانتهاء إلى الضرورة فيها، اغترَّ بهم، وظنَّ أن أدلتهم في الإلهيات ونحوها مبنيةٌ على مثل ذلك التحقيق، وليس كذلك. وهذا (2) عندي من أنفس الكلام لمن كان من العارفين قد غلط في ظن تحقيقهم، فتأمله.
وبالغ الغزالي في كتبه في أن الطريق إلى اليقين من كتب الكلام مُسدَّد (3)، وأشار إلى أنه حصل له اليقين بعد طلبه من الله تعالى بطريق الموهبة بعد الخلوة والتخلي من الدنيا وشواغلها، والإقبال بالكلية على الله تعالى (4) وإنما قل (5) ذكر مثل ذلك في كلام المعتزلة لقنوعهم بالاستدلال الذي يصحبه تجويز ورود الشكِّ والشبهة، واعتقادهم أنه
__________
= " الفنون " وهو كتاب كبير جداً، فيه فوائد كثيرة جليلة في الوعظ، والتفسير، والفقه، والأصلين، والنحو، واللغة، والشعر، والتاريخ، والحكايات، وفيه مناظراته ومجالسه التي وقعت له، وخواطره ونتائج فكره قيدها فيه.
وقال ابن الجوزي: وهذا الكتاب مئتا مجلد، وقع لي منه نحو من مئة وخمسين مجلدة.
وقال عبد الرزاق الرسعني في " تفسيره ": قال لي أبو البقاء اللغوي سمعت الشيخ أبا حكيم النهرواني يقول: وقفت على السفر الرابع بعد الثلاث مئة من كتاب " الفنون ".
وقال الحافظ الذهبي في " تاريخه ": لم يصنف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب، حدثني من رأي منه المجلد الفلاني بعد الأربع مئة.
قلت: وقد طبع منه جزء في دار المشرق بلبنان سنة 1969، وهي طبعة رديئة يفشو فيها التصحيف والتحريف.
(1) انظر ص 2 - 6، وانظر " المنقذ من الضلال " ص 106.
(2) في (ش): وهو.
(3) في (ب): سدد.
(4) انظر " المنقذ من الضلال " ص 138 - 143.
(5) في (ش): قل من.(4/65)
علم، وذلك مردودٌ عليهم كما مرَّ تقريره، فكأنهم في الحقيقة قَنِعُوا بالظن، وحسبوه علماً، وقطعُوا باستحالة حصول أكثر منه بخلاف من طلب العلم المستند إلى المقدمات الضرورية، فإنه يحسنُ تفقدُ مطلوبه عند الوسوسة.
وقد تقدَّم قول شيخ الاعتزال أبي القاسم البلخي في العامة: هنيئاً لهم السلامة، وهو من هذا القبيل، بل فيه إشارة إلى وصف أهل النظر بالخطر، وهو كقولهم: إن طريقة (1) السلف أسلم وطريقة (2) الخلف أعلم، ولا يعدِلُ السلامة شيء، نسأل الله السلامة.
وقال إمام المعقول والمنقول عز الدين عبد العزيز (3) بن (4) عبد السلام في أوائل " قواعده " (5) ما لفظُهُ: وما أشدَّ طمع الناس في معرفة ما لم يضع الله على معرفته سبيلاً كلما (6) نظروا فيه، وحرصوا عليه، ازدادوا حيرةً وغفلةً، فالحزم (7) الإضراب عنه، كما فعل السلف الصالح، والبصائر كالأبصار، فمن حرصَ أن يرى ببصره ما وارته (8) الجبال، لم ينفعه إطالة تحديقه إلى ذلك مع قيام الساتر (9)، فكذلك تحديق البصائر إلى ما غيَّبه الله تعالى عنها، وستره بالأوهام، والظنون، والاعتقادات
__________
(1) في (ش): طائفة.
(2) في (ش): وطائفة.
(3) " عبد العزيز " ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ب).
(5) ص 16.
(6) ساقطة من (ش).
(7) في (ش): والحزم.
(8) تحرفت في (ب): وراته.
(9) في (ش): " السائر "، وهو تصحيف.(4/66)
الفاسدة، وكم من (1) اعتقادٍ جزم المرء به، بالغ في الإنكار على مُخالفه، ثم تبين له خطؤه وقبحه بعد الجزم بصوابه وحسنه. انتهى بحروفه.
وفيه بيانُ العلة في ترك السلف، ومن اقتدى بهم من الخلف لعلم الكلام، وأنها قلة جدواه، لا قصور أفهامهم عن أفهام أهل البدع والغُلاة.
وقد أشار علي عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام إلى طلب ذلك من الله تعالى بالدعاء والخضوع، وقد مرَّ طرفٌ منها.
ومنها (2) قوله: واعلم يا بني أن أحبَّ ما أنت آخذ به (3) من وصيتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك (4) والصَّالحون من أهل بيتك، فإنهم لم يدَّعوا أنهم نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكَّروا كما أنت مفكِّر، ثم ردَّهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمَّا لم يكلَّفُوا، وإن أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبُك ذلك بتفهُّم وتعلُّم، لا بتوسُّط الشبهات وعُلوِّ الخصومات، وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك والرغبة إليه في توفيقك، وترك كل شائبةٍ أولجتك في شبهة أو (5) أسلمتك إلى ضلالةٍ (6).
فإذا كان هذا المنقول عن أمير المؤمنين الذي أسند (7) إليه جماعة
__________
(1) غير موجودة في (ب).
(2) " ومنها " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): أخذته.
(4) الواو ساقطة من (ب).
(5) "أو" سقطت من (ب).
(6) انظر " شرح نهج البلاغة " 16/ 70.
(7) في (ش): استند.(4/67)
المتكلمين، ثم عن شيخ الاعتزال أبي القاسم الكعبي (1)، ثم عن أذكى الخائضين في هذا العلم باتفاق العارفين، فما سبب تخصيص المعترض (2) للمحدثين إلاَّ شدة جهله، وقلَّة تمييزه (3).
الوجه الرابع: من الجواب وهو التحقيق، وقد مرَّ في الوجه الأول طرفٌ منه، وهو أن نقول: قد أكمل الله الحجة على المكلفين بخلق العقول، وبعث (4) الرُّسل مبشرين ومنذرين، فتمَّت حُجَّته سبحانه عقلاً وسمعاً، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُل} [النساء: 165].
وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ} [الأنعام: 104].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: 32]. فأخبر عن الكافرين بأنه قد تبين لهم الهدى، وما كفرُوا إلاَّ بعد ذلك.
__________
(1) هو شيخ المعتزلة الأستاذ أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي الخراساني صاحب التصانيف الكثيرة في الكلام، المتوفى سنة 319 هـ. وله تصنيف في الطعن على المحدثين يدل على كثرة اطلاعه وتعصبه، اشتمل على الغضِّ من أكابرهم، وتتبع مثالبهم، سواء كان ذلك عن صحة أم لا، وسواء كان ذلك قادحاً أم غير قادح حتى إنه سرد كتاب الكرابيسي في المدلسين، فأفاد أنَّ التدليس بأنواعه عيب عظيم، وحسبك ممن يذكر شعبة فيمن يُعدُّ كثير الخطأ، وعقد باباً أورد فيه ما يرويه مما ليس له معنى بزعمه، وباباً فيما يرويه متناً متناقضاً لسوء فهمه. " لسان الميزان " 3/ 255 - 256.
(2) في (ش): تخصيصك أيها المعترض.
(3) في (ش): شدة جهلك وقلة تمييزك.
(4) في (ش): وبعثة.(4/68)
وفي آية أخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14].
وقال تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118].
وقال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28].
فمن قال لنا: إنَّه ما عَرَفَ الدليل ..
قلنا له: انظُر بعقلك في معجزات المرسلين، أو (1) في السماوات والأرضين، وعجائب مخلوقات ربِّ العالمين تعلم صحة ما جاؤوا به من الهُدى والدِّين.
فإن قال: إنِّي قد نظرتُ، فلم أعرف قطعنا على كذبه كما يقطع المتكلمون على ذلك بعد مناظرتهم له وكفره (2)، وإنما قطعنا بذلك لخبر الله تعالى حيث يقول: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَة} [الأنعام: 149]، وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّة} [النساء: 165]، وقوله: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25]، أو (3) قوله: {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14] وغير ذلك.
فإن قلت: قد يكون في الناس من هو بليد، لا يستطيع النظر إلاَّ
__________
(1) في (ش): و.
(2) في (ش): بكفره.
(3) ساقطة من (ب)، وفي (ش): و.(4/69)
بتعليمٍ، قيجب تعليمه، فالجواب من وجوه.
الأول: لا سبيل إلى العلم القاطع بذلك، فإن أنواع الأدلة كثيرة، وبعضها أجلى من بعض، والذي لا يفهم الدليل الدقيق لا يفهم الشبهة الدقيقة، فتلك بتلك، ومن فهم الجميع (1)، وقد أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنه يُرِي عباده من آياته ما يقع معه لهم البيان، ولا أصدق وعداً من الرحمن سبحانه (2) في مُحكم القرآن {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [فصلت: 53]. وما أعظم هذا الوعيد الذي ختمت به هذه الآية على من عاند، وادعى أنه لم يتبين له ما أخبر الله أنه بيَّنه، فنعوذ بالله من الخذلان ومصادمة نصوص القرآن.
سلَّمنا، فإنه يجب على الله تعالى عندكم تمكينه وإلهامُه. سلمنا أن ذلك لا يجب، فيجب خلق (3) العلم الضروري له عند علم الله بعجزه، وبذله جُهده.
سلمنا فمن أين أن الظن الراجح لا يكفيه، وقد تقدم ما فيه من الأدلة.
الوجه الثاني: أن تقول قد يكون في الناس أيضاً من لا يفهم بالتفهم لشدَّة غباوته، فجوابُنا هنالك مثل جوابكم هنا.
فإن قلتم: الأدلة تمنع وجود هذا (4)، فإن وُجِدَ، فغيرُ مكلَّفٍ.
__________
(1) في (ش): ومن فَهِمَ الجميع فهم.
(2) في (ش): فقال سبحانه.
(3) تحرفت في (ش) إلى "خلو".
(4) في (ش): ذلك.(4/70)
فلنا أن نُجيب بمثل ذلك، وقد قال الشيخ مختار في الفصل الثامن من مقدمات (1) كتابه " المجتبى " ما لفظه: وقال شيخنا خاتمة أهل الأصول رُكنُ الدين الخوارزمي رحمه الله في " الفائق " في الجواب عن شُبهة العجز (2): إنهم كُلِّفُوا أن يسمعوا أوائل الدلائل التي يتسارع إلى فهمها كلُّ عاقل، فإن فهموا ذلك، كفاهم علماً (3)، ولسنا نُكلِّفُهُمْ تلخيص العبارة (4)، وذلك مُمكن لكل عاقل، فإن لم يُمكنهم الوقوفُ عليها، فإنهم غير مكلفين بها أصلاً ونصره مختار، وقد أوضحت الحق في ذلك في كتاب " ترجيح أساليب القرآن " (5) ولله الحمد والمنة.
الوجه الثالث: إنا نعلمه ما نعرِفُه بِفِطَرِ العقول، وما أمر الله تعالى ورسولُه بالنظر فيه، وإن لم يُمارِس علم الكلام، فإن نفعه ذلك، وإلاَّ لم يجب علينا أكثر منه، كما أنَّ المتكلم يعرِضُ على الفلسفي ما حصَّله من النظر والجدل، فمتى سخر منه، واستحقر ما معه أعرض عنه.
وقد حكى الله تعالى عن الهُدهد، وهو من العالم البهيمي أنه وحَّد الله، واحتج بأن (6) الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض فاحتج بحدوث المطر والنبات، فكيف يقطعُ بعجز عاقلٍ ناطقٍ مكلفٍ عن مثل ذلك؟!
وقد ذكرتُ في غير هذا الموضع الحُجَّة على بُطلان تأويل ذلك،
__________
(1) في (ش): مقدمة؛ وهو خطأ.
(2) في (ش): العجزة.
(3) في (ش): " علمنا " وهو خطأ.
(4) في (ش): هذه العبارة.
(5) انظر ص 89 - 91.
(6) في (ش) و (ب): بأنه.(4/71)
وهذا الوجه يصلُحُ أن يكون جواباً مستقلاً لكني (1) تركتُ إفراده، إذ كان المعلوم أن من لم يمخض (2) في علوم الجدل والمنطق من المسلمين لا يكادُ يوثِّر في كلامهم مع الفلاسفة، وأهل الشُّبَهِ الدقيقة، وإن كان صحيحاً في نفسه نافعاً لمن نظر في معناه دون تراكيبه، فإنه لا يليق بذله إلا حيث يظن نفعه، ومن كان لا ينتفع به، فالصيانة له بالإعراض عن المعجبين بالخذلان والإصرار أولى ولا سيما إذا كان من كتاب الله، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السفر بكتاب الله إلى أرض العدُوِّ (3)، وشرط السلف في عهود أهل الذمة أن لا يتعلَّموا القرآن.
وفي " البخاري " (4) عن علي عليه السلام: " لا تُحدثوا الناس بما لا تحتمِلُهُ عقولُهم، أتُحبون أن يُكذبَ الله ورسوله؟ فكَرِهَ عليه السلام من العلم ما يعرف أنه يكون سبباً في التكذيب، وإن كان حقاً في نفسه (5)، وقد قال الله (6) تعالى في هذا المعنى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْم} [الأنعام: 108].
__________
(1) في (ش): لكن.
(2) في (ش): يخفي.
(3) أخرج مالك في " الموطأ " 2/ 446 من حديث عبد الله بن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو. وقال مالك: أرى ذلك مخافة أن يناله العدو.
وأخرجه من طريق مالك: البخاري (2990)، في الجهاد، باب: كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، ومسلم (1869) في الإمارة، باب: النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم.
(4) هو في " صحيحه " (127) في العلم: باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا.
(5) ساقطة من (ش).
(6) ساقطة من (أ).(4/72)
وقد روي: لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، فينبغي من صاحب القرآن والسنة صيانتهما عن ذكر أدلتهما لمن لا يُنصِفُ من كافرٍ ومبتاع ولا يعرضهما لمن هو أحذقْ منه بالجدل، وأبرعُ في المراء، فقد روى النواس بن سمعان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا تُجادلوا بالقرآن، ولا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فوالله إن المؤمن ليُجادل بالقرآن فَيُغْلَبُ، وإنَّ المنافق ليُجادلُ بالقرآن فَيَغْلِب " ذكره الذهبي في " تذكرته " (1) في ترجمة أبي اليمان الحكم بن نافع الحمصي (2) أحد رجال الجماعة الستة، ثم قال: هذا أورده الحافظ أبو موسى المديني في ترجمة
__________
(1) كذا قال، وقد رجعت إلى ترجمة الحكم بن نافع من المطبوع من " التذكرة " 1/ 412، فلم أره فيها، والحديث أورده السيوطي في " الجامع الكبير " لوحة 888، ونسبه للديلمي من حديث عبد الرحمن بن جبر بن نفير، عن أبيه، عن جده.
وحديث ابن عباس ذكره الإمام أحمد بغير إسناد في الرسالة التي بعث بها إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، أوردها أبو نعيم في " الحلية " 9/ 216 - 219، ونقلها عنه الذهبي في " السير " 11/ 281 - 282.
وحديث ابن عمرو بن العاص أخرجه الطيالسي في " مسنده " (2286) من طريق فليح بن سليمان، عن سالم مولى أبي النضر، عن سليمان بن يسار، عن عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تجادلوا في القرآن، فإنَّ جدالاً فيه كفر ".
وأخرجه أحمد 2/ 178 و181 و195 - 196، وابن ماجة (85): خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حبُّ الرمان من الغضب، فقال: " بهذا أُمرتُم، أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم ".
وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد 2/ 286 و300 و424 و475 و503 و528 وأبو داود (4603) وسنده حسن، وصحَّحه ابن حبان (73)، والحكم 2/ 223، ووافقه الذهبي.
وحديث أبي جهيم (وقد تحرف في الأصول إلى جهم) أخرجه أحمد 4/ 170، ولفظه: " القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تماروا في القرآن، فإن مراء في القرآن كفر " وإسناده صحيح.
وأخرجه أحمد أيضاً 4/ 204 من حديث عمرو بن العاص.
(2) تحرفت في (ش) إلى " الحصمي ".(4/73)
ابن أبي عاصم.
وقال أبو نُعيم: حدثنا به أبو الشيخ، حدثنا ابن أبي عاصم، حدثنا محمد بن خلف، ثم قال: هذا غريب جداً مع قوة إسناده.
قلت: وروى أحمد بن حنبل معناه عن ابن عباس موقوفاً، وعن ابن عمرو بن العاص مرفوعاً، وروى حديث (مِراءٌ في القرآن كفرٌ) عن أبي هُريرة، وعن أبي الجهيم يرفعانه، وعن ابن عباس، عن عُمر بن الخطاب بمعنى الحديث الأول موقوفاً، ذكرها الذهبي في ترجمة أحمد من " النبلاء " (1) وما أحسن كلام العلامة القرطبي في شرح " مسلم " في هذا المعنى، وسيأتي طرف منه في المقام الثاني إن (2) شاء الله تعالى.
الجواب الرابع: أن نقول: النظر في ذلك واجبٌ كالصلاة، وقضاء الدين، والقدرة، والتمكين (3) شرطٌ في الوجوب (4). وإن لم يُمَكِّن (5) الله المكلف، سقط الوجوب، وتبين أنه تعالى غير مؤاخذٍ للعبد بتركه، ولم يرد في (6) الأدلة العقلية والسمعية دليل على وجوب السعي في تحصيل المكلف لشرط الواجب كالعادم للماء، فإنَّه إذا وجب عليه طلبه للوضوء، لم يجب على المتوضىء أن يُعينه بطلب الماء معه، ليؤدي فرضه.
فكذلك من عرف الله، واطمأنَّ قلبه لا يجب عليه أن يطلب ما يرفع
__________
(1) 11/ 282 - 283.
(2) في (ش): قريباً إن.
(3) في (ش): والتمكن.
(4) بعدها بياض في (ش) قدر كلمتين.
(5) تحرفت في (ش) إلى: " يكن ".
(6) " في " ساقطة من (ش).(4/74)
الوسواس عن (1) من ابتُلي به إمَّا عقوبة له على التعنُّت، وتركِ الإيمان بما يوجب الإيمان (2) أوَّل مرة أو غير ذلك.
فإن قيل: قد وَرَدَ في السمع وجوبُ البيان على العلماء، فالجواب من وجوه:
أحدها: أن ذلك محمولٌ على بيان ما لم يُبينه تعالى من السمعيات. ألا ترى أنَّ ما بيَّنه بعض العلماء لم يجب على الباقين القيام ببيانه؟ فكذلك (3) ما بينه الله تعالى أولى وأحرى؛ ولأنه تحصيلُ الحاصل، فلا يجِبُ، وغايةُ ما في هذا أنه تخصيصٌ بدليل العقل، فهو جائزٌ، بل التخصيص بالقياس الظني جائز عند كثيرٍ من أهل العلم، منهم أئمَّة الإسلام الأربعة رضي الله عنهم.
الوجه الثاني: أنا نخصُّ هذا العام بفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لم يشتغل ببيان كيفية النظر في الأدلة، وترتيب المقدمات وتحرير العبارات، بل دعا الناس إلى الإسلام، وقاتلهم عليه، وبلَّغ ما أوحى الله إليه، والعلماءُ ليس هُم بأبلغ من الأنبياء، وقد قال تعالى (4) في حق الأنبياء: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17]. فكذلك العلماء، وإنما العلماء ورثة الأنبياء، وأهل الكتاب والسنة قد قاموا بالوراثة النبوية على التمام والكمال، ورأوا أن الزيادة عليها من قبيل (5) البدَع، بل من قبيل المنافاة لها، ونسبة التقصير إلى الموروث، عليه أفضل الصلاة والسلام،
__________
(1) في (ب): على.
(2) " بما يوجب الإيمان " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): وكذلك.
(4) في (ش): الله تعالى.
(5) في (ش): فتنة.(4/75)
وقد أجمع النَّقَلَة، وأجمع أهل الملة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلُب من المؤمنين إظهار الأدلَّة بعد الإقرار، وكذلك المَلَكان في فتنة القبر لم يطلُبَا ذلك؛ رواه البخاريُّ، ومسلمٌ وأبو داود، والنسائيُّ عن أنس (1)، والترمذي (2) عن أبي هريرة، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي (3) عن البراء (4)، وأبو داود وحدَهُ عن البراء (5) وفيه: " فيقُولان: وما يُدرِيك؟ فيقُولُ: قرأت كتاب الله وآمنت به وصدَّقتُ " (6).
وهذه مُعلَّةٌ، لأنها زيادةٌ في حديث البراء، وقد خرَّجه الحفاظ (7) بغيرها، وخرَّج مسلم (8) في حديث أنس أنه إذا قال: " كنت أعبُدُ الله وقال: محمد عبدُ الله ورسوله، لم يُسأل عن شيء بعدها ". وهذا يُعارِضُ هذه الزيادة، وعلى تقدير ثبوتها، فليست ممَّا يقول به أهل الكلام، بل هي عليهم، لا لهم، وكُلُّ المؤمنين يستنِدُون في إيمانهم إلى كتاب الله، ومعجزات أنبياء الله جُملة. وإنما قبلت لتمييز (9) المنافق من
__________
(1) أخرجه البخاري (1338) و (1374)، ومسلم (2870)، وأبو داود (3231)، والنسائي 4/ 97 - 98. وانظر ألفاظه في " جامع الأصول " 11/ 173 - 175.
(2) رقم (1071) في الجنائز، باب: ما جاء في عذاب القبر. وقال: حديث حسن غريب.
(3) في (ش): والترمذي وأبو داود.
(4) أخرجه البخاري (1369) و (4699)، ومسلم (2871)، والترمذي (3120)، وأبو داود (4750) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " المسلم إذا سُئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}، نزلت في عذاب القبر، يُقال له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - ".
(5) جملة " وحده عن البراء " ساقطة من (ش).
(6) هو في سنن أبي داود (4753) في السنة، باب: في المسألة في القبر وعذاب القبر، وسنده حسن.
(7) في (ش): الحافظ.
(8) ليس هو في مسلم، وإنما هو عند أبي داود (4751).
(9) في (ش): ليتميز.(4/76)
المؤمن، بل حكى الله عن الرسل أنهم قالوا لمن قال: إنه شاكٌّ: أفي الله شكٌّ (1)، كما سيأتي.
والمتكلم الجاهل يطلب أن يكون فوق الأنبياء والملائكة، فكذلك فليكن العلوُّ، أجمعوا (2) على أنَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يُوجب مناظرة الكفار قبل قتالهم، وإنَّما أمَرَ بدعائهم قبل قتالهم، هذا في أول الإسلام حتى اشتهرت الدعوةُ النبوية، واستفاضت، وقاتل عليه الصلاة والسلام قبل الدعاء.
ومِنَ المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يعذر الكفار، ولو اعتذروا بعد الدعوة النبوية بعدم وضوح الأدلة العقلية، وجاؤوا بفيلسوفٍ، فناظر عنهم، وطلبوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك قتالهم حتى يتعلموا (3) أدلَّة الكلام، ويفهموا الجواب، ولن يفهموا الجواب على ما ينبغي حتى يتعلموا (4) السؤال، ولو جاز أن يُمهلهم ساعة أو (5) يوماً جاز شهراً وعاماً والعمر كله لاختلاف أفهام الناس، ولعذر (6) المرتد متى توقَّف، وادَّعى شُبهاً عويصة (7) أوجبت عليه النظر، وأزال التهمة ببيان تلك الشبهة، وعجز الأكثرين عنها، وتعب أفراد (8) الخواص في معرفة دقيق جوابها.
الجواب الخامس: أنها وردت نصوصٌ تقتضي العلم أو الظن أن
__________
(1) في (ب): إنه شاك في الله. وهو خطأ.
(2) في (ش): وأجمعوا.
(3) في (ش): يعلموا.
(4) في (ب) و (ش): يفهموا.
(5) في (ش): و.
(6) في (ش): ويعذر.
(7) في (ش): عريضة.
(8) في (ش): " وتعب أكثر ".(4/77)
الخوض في الكلام على وجه التحكيم (1) في الشُّبَهِ (2)، والإصغاء إليها، والبحث عمَّا لم يعلم (3) منها، والتقصِّي عن مذاهب (4) الفلاسفة، وأهل البدَع مضرةٌ عظيمة في الدنيا بما يُوقِعُ فيه من الكُفر أو (5) الحيرة والبدعة (6)، ولو في حقِّ الأكثرين، وعضدها ما تواتر من عمل (7) السلف بمقتضاها، وفي الآخرة بما يقع على ذلك من العقوبة، ودفع المضرة ولو مظنونة واجبٌ عقلاً بإجماع الخصوم.
ويعضد ذلك من النظر الصحيح (8)، والتجربة أن أوائل الأدلة أقوى من المباحث الغامضة التي زَعَمَ أهلُ الكلام أنها متوقِّفة عليها، ولذلك صحَّح الشيخ محمود، والشيخ مختار وغيرهما من محققي المعتزلة أنه يتسارع إلى فهمها كُلُّ عاقل، ومن لم يفهمها، فليس بمكلفٍ البتة، كما تقدَّم قريباً في الوجه الثالث، فقد أجمع (9) الفريقان على أنها قوية صحيحة ممكنة (10) في فِطَرِ العقول، فكيف ينبني على وجوب النظر في مداحض الأذكياء وخفيَّات المدارك العميقة التي ضلَّ الأكثرون بسبب البحث عنها.
__________
(1) في (ش): التحكم.
(2) في (ش): للشبه.
(3) في (ب) و (ش): يُعرف.
(4) في (ش): مباحث.
(5) في (ب): و.
(6) من " مضرة " إلى هنا ساقط من (ش).
(7) ساقطة من (ب).
(8) " الصحيح " ساقطة من (ب).
(9) في (ب): اجتمع.
(10) في (ب): متمكنة.(4/78)
ألا ترى أن تعلُّقَّ أفعالنا بنا بديهي؟ ومتى استدللنا بتوقفها على دواعيها أدَّى إلى البحث عن الدواعي، وإنَّها إن كانت فعلاً لنا، احتاجت إلى دواعٍ (1) أُخر، وأدَّى إلى التسلسل، وإن كانت من فعل الله، خرجنا إلى أنَّ الداعي موجب (2) و (3) إلى تفسير الموجب، وتعارض الدواعي حتى نشك في الجليِّ.
وأيضاً فقد انتهى الأذكياء إلى المحارات الغامضة، وقالوا في ذلك الأشعار السائرة كما ذكرته في هذا الكتاب حتى ضل ابن عربي بسبب ذلك، وقال فيه:
صورة (4) الكون محال، وهو حق في الحقيقة
وذهب إلى تجويز المحال، وخالفت طوائف في العلوم الضرورية، وأوردوا في ذلك الشبه المعروفة، ولم يمكن الرد عليهم بالدليل، لاستحالة الاستدلال على الضروريات، لأنها قواعد النظر التي لا (5) ينتهي إليها، فرجعوا إلى مثل ما رجع إليه أهل السنة، وورد به الحديث حيث (6) قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يزال (7) الناس يتساءلون حتَّى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمنْ خَلَقَ الله " الحديث (8).
__________
(1) في (أ): " دواعي ".
(2) في (ش): من جنسه.
(3) الواو ساقطة من (ب).
(4) فوقها في (ش): أبيات.
(5) ساقطة من (ش).
(6) ساقطة من (ب).
(7) في (أ): لا زال.
(8) أخرجه البخاري (296)، ومسلم (136) مرفوعاً: " لن يبرح الناسُ يتساءلون حتى يقولوا: هذا الله خالق كل شيء، فمن خلق الله؟ "، ولفظ مسلم: قال: " قال الله عزَّ وجلّ: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا ما كذا حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ".(4/79)
وقد بدّله أهل الكلام بأنَّه واجبُ الوجودِ غيرُ معلل، والمعنى واحد فإنَّما كلامهم هذا جمودٌ محضٌ (1)، وهو الذي عابوا (2).
فإن قالوا: وفي ترك علم الكلام مضرة أيضاً.
فالجواب: أنَّ تسمية تجويز المضرة المرجوح خوفاً غيرُ مسلم، وإلاَّ لسمينا خائفين لسقوط الأبنية القائمة القوية (3).
سلمنا تسميته خوفاً، لكن ليس الواجب دفع المضرة المخوفة، بل الواجب دفع المضرة المظنونة لا الموهومة المرجوحة، ولا المجاوزة المساوية.
سلمنا أن دفع المضرة المخوفة واجبٌ، وإن لم تكن راجحة، لكن بشرط أن لا تُدفَعَ تلك المضرة المرجوحة بفعل ما يستلزِمُ مضرةً راجحة (4) قوية مظنونة.
فإن قُلتَ: وما هذه المضرة المظنونة في الخوض في علم الكلام؟
قلتُ: هي أمران: أحدُهُما: ما شهدت به التجارب مع النظر المقدَّم، وضلَّ بسببه اثنتان (5) وسبعون فرقة من ثلاثٍ وسبعين.
وثانيهما: ما أشار إليه يحيى بن منصور رحمه الله في قوله (6) في
__________
(1) في (أ): ومحض، وهو خطأ.
(2) جملة " وهو الذي عابوا " ساقطة من (أ).
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش) زيادة، وعبارته: ما يستلزم مضرة مرجوحة مثلها، فكيف بما يستلزم مضرة راجحة.
(5) في الأصول: " اثنان "، والصواب ما أثبتنا.
(6) " في قوله " ساقطة من (ش).(4/80)
قصيدته المتقدمة:
بل جاء عنه وعنهُمُ مُتواتراً ... حظْرُ التَّعمُّقِ والغُلُو لِمُبْصِرِ
وهذه الإشارة إلى مجموع أشياء كثيرة:
منها: النَّواهي عن المراء مطلقاً (1).
ومنها: النواهي عن المراء في القرآن خاصة (2).
ومنها: النواهي عن المراء في القدر خاصة.
ومنها: النواهي عن البدع (3).
ومنها: النهي عن التفكر في الله.
ومنها: الأوامر عند الوسوسة بما يُنافي الكلام، وطرائق أهله، وفي ذلك خمسةَ عشر حديثاً في " الصحيحين "، و" السنن الأربع "، و" مجمع الزوائد " (4).
منها (5): حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خَلَقَ كذا؟ من خَلَقَ كذا (6)؟ حتى يقول: من خلق ربَّك؟، فإذا بلغه: فليستعذ بالله وليَنْتَهِ " (7) رواه البخاري
__________
(1) من قوله: " منها النواهي " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) جملة: " ومنها النواهي عن البدع " ساقطة من (ش).
(4) من قوله: " ومنها الأوامر " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (ش): ومنها.
(6) " من خلق كذا " ساقطة من (ش).
(7) أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (135)، وأبو داود (4721)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (662).
وقوله: " فليستعذ بالله ولينته " قال الحافظ في " الفتح " 6/ 340 - 341: أي: عن =(4/81)
ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وألفاظهم مختلفة، والمعنى متقارب.
وفي الباب عن ابن عباس مرفوعاً رواه الطبراني في " الصغير " (1)
__________
= الاسترسال معه في ذلك، بل يلجأ إلى الله في دفعه، ويعلم أنه يريد إفساد دينه وعقله بهذه الوسوسة، فيبغي أن يجتهد في دفعها بالاشتغال بغيرها. قال الخطابي: وجه هذا الحديث أن الشيطان إذا وسوس بذلك، فاستعاذ الشخص بالله منه، وكفَّ عن مطاولته في ذلك، اندفع، قال: وهذا بخلاف ما لو تعرّض أحد من البشر بذلك، فإنه يمكن قطعه بالحجة والبرهان، قال: والفرق بينهما أن الآدمي يقع منه الكلام بالسؤال والجواب والحال معه محصور، فإذا راعى الطريقة، وأصاب الحجة، انقطع، وأما الشيطان فليس لوسوسته انتهاء، بل كلما ألزم حجة، زاغ إلى غيرها إلى أن يفضي بالمرء إلى الحيرة، نعوذ بالله من ذلك. قال الخطابي: على أن قوله: " من خلق ربك " كلام متهافت، ينقض آخره أوله، لأن الخالق يستحيل أن يكون مخلوقاً، ثم لو كان السؤال متجهاً، لاستلزم التسلسل، وهو محال، وقد أثبت العقل أن المحدثات مفتقرة إلى محدث، فلو كان هو مفتقراً إلى محدث، لكان من المحدثات. انتهى.
والذي نحا إليه من التفرقة بين وسوسة الشيطان ومخاطبة البشر، فيه نظر، لأنه ثبت في مسلم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه في هذا الحديث " لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئاً، فليقل: آمنت بالله "، فسوى في الكف عن الخوض في ذلك بين كل سائل عن ذلك من بشر وغيره، وفي رواية لمسلم عن أبي هريرة قال: سألني عنها اثنان، وكان السؤال عن ذلك لما كان واهياً، لم يستحق جواباً، أو الكف عن ذلك نظير الأمر بالكف عن الخوض في الصفات والذات. قال المازري: الخواطر على قسمين: فالتي لا تستقرّ ولا يجلبها شبهة هي التي تندفع بالإعراض عنها، وعلى هذا ينزل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم وسوسة، وأمَّا الخواطر المستقرة الناشئة عن الشبهة، فهي التي لا تندفع إلاَّ بالنظر والاستدلال، وقال الطيبي: إنَّما أمر بالاستعاذة والاشتغال بأمر آخر، ولم يأمر بالتأمل والاحتجاح، لأن العلم باستغناء الله جل وعلا من الموجد أمر ضروري لا يقبل المناظرة، ولأنَّ الاسترسال في الفكر في ذلك لا يزيد المرء إلاَّ حيرة، ومن هذا حاله، فلا علاجَ له إلاَّ الملجأ إلى الله تعالى والاعتصام به، وفي الحديث إشارة إلى ذم كثرة السؤال عما لا يعني المرء، وعما هو مستغنٍ عنه.
(1) برقم (1090) عن منتصر بن نصر بن منتصر الواسطي، حدَّثنا أحمد بن سنان الواسطي، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، حدثنا سفيان الثوري، عن حماد بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أجد في نفسي الشيء أن أكون حُمَمَةً أحب إلي من أن أتكلم به، فقال: " ذاك صريح الإيمان ". قال الهيثمي في " مجمع الزوائد ": رجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني منتصر. =(4/82)
برجال الصحيح، خلا شيخ الطبراني منتصر.
وموقوفاً رواه أبو داود (1) من طريق أبي زميل سماك بن الوليد الحنفي.
ومرفوعاً من طريق أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية (2).
وعن خُزيمة بن ثابت مرفوعاً من طريق ابن لهيعة (3).
__________
= قلت: منتصر ترجمه الخطيب في " تاريخ بغداد " 13/ 266.
وأخرجه أبو داود (5112) من طريقين عن جرير، عن منصور، عن ذر بن عبد الله المرهبي، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه، يُعَرَّضُ بالشيء، لأن يكون حُمَمَة أحبُّ إليه من أن يتكلم به، فقال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة. قال ابن قدامة: " رد أمره " مكان " رد كيده ".
وأخرجه أحمد 1/ 235 و340، والطيالسي (2704)، والنسائي في " اليوم والليلة " (668) و (669)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 251 و252، وابن منده في الإيمان (345)، والبغوي (60) من طرق عن منصور، به. وصحَّحه ابن حبان (147).
(1) " أبو داود " سقطت من (ب) و (ش). وهو في " سننه " (5110) عن عباس بن عبد العظيم، حدثنا النضر بن محمد، حدثنا عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، قال: سألت ابن عباس فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِك} الآية، قال: فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئاً، فقل: (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكلِّ شيءٍ عليم).
(2) أخرجه أحمد 1/ 7 - 8، وأبو يعلى (133) من طرق عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبي الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، عن محمد بن جبير بن مطعم أن عثمان قال: تمنيت أن أكون سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا ينجينا مما يلقي الشيطان في أنفسنا؟ فقال أبو بكر: قد سألته عن ذلك فقال: ينجيكم من ذلك أن تقولوا: ما أمرتُ عمي أن يقوله، فلم يقله. هذا لفظ أحمد. وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 33، وقال: رواه أبو يعلى، وعند أحمد طرف منه، وفي إسناده أبو الحويرث عبد الرحمن بن معاوية، وثقه ابن حبان، والأكثر على تضعيفه.
(3) أخرجه أحمد 5/ 214، والطبراني في " الكبير " (3719) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عماره بن خزيمة، عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: =(4/83)
وعن عائشة مرفوعاً بثقات (1).
وعنها مرفوعاً من طريق شهر بن حوشب (2).
وعن أبي بكر مرفوعاً، وفيه أبو الحويرث أيضاً.
وعن أنس مرفوعاً برجال الصحيح (3).
وعن ابن عمرو (4) مرفوعاً برجاله خلا شيخ الطبراني أحمد بن محمد بن نافع الطحان (5).
وعن أُمِّ سلمة مرفوعاً، وفيه سيفُ بن عميرة (6).
__________
= " يأتي الشيطان الإنسان فيقول: من خلق السماوات؟ فيقول: الله، فيقول: من خلق الأرض؟ فيقول: الله، حتى يقول من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله ". وابن لهيعة: سيىء الحفظ، لكن حديثه حسن في الشواهد، وهذا منها.
(1) أخرجه أحمد 6/ 258، وأبو يعلى 215/ 2، والبزار (50) من طريق الضحاك بن عثمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ أحدكم يأتيه الشيطان، فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله، فيقول: فمن خلق الله؟ فإذا وجد ذلك أحدُكم، فليقل: آمنت بالله ورسله، فإن ذلك يذهبه ". وهذا سند قوي على شرط مسلم، وقد تابع الضحاك بن عثمان عليه سفيان الثوري عند ابن السني (624).
(2) هو في " المسند " 6/ 106 عن مؤمل، حدَّثنا حماد، عن ثابت، عن شهر بن حوشب، عن خاله، عن عائشة رضي الله عنها قالت: شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يجدون من الوسوسة، وقالوا: يا رسول الله، إنا لنجد شيئاً، لو أنَّ أحدنا خرَّ من السماء، كان أحبَّ إليه من أن يتكلم به، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ذاك محض الإيمان ".
(3) أورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 34، ونسبه إلى أبي يعلى، وقال: ورجاله رجال الصحيح إلاَّ يزيد بن أبان الرقاشي، وجاء في أسفل الصفحة من المطبوع ما نصه: " إلا يزيد بن أبان الرقاشي " زائد في نسخة المؤلف.
(4) تحرفت في (ش) إلى: عمر.
(5) أورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 34، ونسبه إلى الطبراني في " الأوسط "، و" الكبير " وقال: رجاله رجال الصحيح خلا أحمد بن محمد بن نافع الطحان شيخ الطبراني.
(6) أخرجه الطبراني في الصغير (356) من طريق سيف بن عميرة، عن أبان بن تغلب، حدثنا سماك بن حرب، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها سمعت رسول الله صلى الله علي وآله وسلم وسأله رجل فقال: إني لأُحَدِّثُ نفسي بالشيء لو تكلمت به لأحبطتُ أجري، فقال: لا يلقى ذلك الكلام إلاَّ مؤمن ". وسيف بن عميرة روى عنه =(4/84)
وعن ابن مسعود مرفوعاً بثقات (1).
وعن معاذ مرفوعاً، وفيه انقطاع (2).
وعن عمارة بن أبي الحسن عن عمه مرفوعاً (3) بثقات أئمة (4).
وعن أبي هريرة أيضاً بثقات (5).
__________
= جمع، وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: يغرب، وقال الأزدي: يتكلمون فيه.
(1) أخرجه مسلم في " صحيحه " (133)، والنسائي في " اليوم والليلة " كما في " التحفة " 7/ 107 وابن منده (347)، والطحاوي في " شرح شكل الآثار " 2/ 251، والبغوي (59) من طريق علي بن سعير بن الخمس، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة قال: " تلك محض الإيمان "، وصححه ابن حبان (149).
(2) أخرجه الطبراني في " الكبير " 20/ (367) عن علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عمر بن ذر قال: سمعت أبي يذكر عن معاذ بن جبل قال: قلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي بعثك بالحق، إنه ليعرض في صدري الشيء، لأن أكون حممة أحبُّ إلي من أن أتكلم به، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الحمد لله، إن الشيطان قد أيِسَ من أن يعبد بأرضي هذه، ولكنه قد رضي بالمحقرات من أعمالكم ". قال الهيثمي 1/ 34: ذر بن عبد الله راوية عن معاذ، لم يدركه.
(3) في الأصول: " حسين (وفي (ش): حصين) مرفوعاً، وعن عمرة ".
(4) وهو في " عمل اليوم والليلة " للنسائي (672)، و" مسند البزار " (49) من طريقين، عن أبي داود، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عمارة بن أبي حسن المازني، عن عمه أن الناس سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوسوسة التي يجدها أحدهم، لأن يسقط من عند الثريا أحبُّ إليه من أن يتكلم به، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ذاك صريح الإيمان، إن الشيطان يأتي العبد فيما دون ذلك، فإذا عصم منه، وقع هنالك ". أبو داود: هو الطيالسي سليمان بن داود، وعمارة بن أبي الحسن: هو الأنصاري المازني المدني، قال الحافظ في " التقريب ": ثقة، يقال: له رؤية، ووهم من عدَّه صحابيّاً، فإن الصحبة لأبيه. وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 35 بعد أن نسبه إلى البزار: ورجاله ثقات أئمة.
والمراد بصريح الإيمان: هو الذي يعظم في نفوسهم إن تكلموا به، ويمنعهم من قبول ما يلقي الشيطان، فلولا ذلك، لم يتعاظم في أنفسهم حتى أنكروه، وليس المراد أن الوسوسة نفسها صريح الايمان، بل هي من قبل الشيطان وكيده.
وقال الطيبي: أي: علمكم بقبيح تلك الوساوس، وامتناع قبولكم ووجودكم النفرة عنها دليل على خلوص إيمانكم، فإن الكافر يصر على ما في قلبه من المحال، ولا ينفر عنه.
(5) أخرجه مسلم في " صحيحه " (132) من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، =(4/85)
ومنها: أحاديث الإيمان والإسلام المتواترة التي تقتضي قواعدُ الكلام منافاتِهما إلاَّ مَعَ التأويلات المتعسِّفة المستكرهة، وأمثال ذلك.
وعن جُنْدُبٍ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه، فقوموا عنه " (1) رواه البخاري ومسلم، والنسائي.
ومن ذلك قصَّة عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم في اختلافهما في القراءة، ورفعها (2) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمره كل واحدٍ منهما أن يقرأ كما سمع منه - صلى الله عليه وسلم -، ونهيه لهما عن الاختلاف الذي هو المناكرة، والمعاداة، رواه الجماعة (3)، وله طرق جمة عرفت (4) منها ثماني عشرة (5) طريقاً عن ثمانية عشر صحابياً (6).
وهذه الأحاديث كالشرح، لقوله تعالى: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} وأمثالها ممَّا قدمته في ديباجة هذا (7) الكتاب، فإن النهي عن التفرُّق نهي عن أسبابه
__________
= عن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان.
وهو في " سنن أبي داود " (5111) في " عمل اليوم والليلة " (664) للنسائي، و" الإيمان " لابن منده (343) و (344)، وانظر " صحيح ابن حبان " (145) و (146).
(1) تقدم تخريجه 1/ 216.
(2) في (ب): " وترافعهما "، وفي (ش): " ورفعهما ".
(3) تقدم تخريجه في 1/ 217. وهشام بن حكيم: هو ابن حزام الأسدي، له ولأبيه صحبة، وكان إسلامهما يوم الفتح، وكان لهشام فضل، ومات قبل أبيه، أخرج له مسلم حديثاً واحداً مرفوعاً من رواية عروة عنه.
(4) في (ش): عرف.
(5) في (ش): ثمانية عشر.
(6) ذكر منها الحافظ في " الفتح " 9/ 26 خمسة طرق.
(7) ساقطة من (ش).(4/86)
المجربة، ويشهد لأحاديث الاستعاذة المتقدمة من كتاب الله تعالى قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} [غافر: 56].
فإذا أمر بالاستعاذة بالله في حقِّ المجادلين، فأولى في وسواس (1) الشياطين، ومن أحب معرفة ذلك، طَالَعَ (2) كُتُب الحديث الحافلة، مثل " جامع الأصول " لابن الأثير، و" مجمع الزوائد " للهيثمي، فإن أحبَّ التضلُّع (3) من العلم، نظر الأسانيد، والطرق، والكلام في الرجال، فإنه (4) يعلم بالضرورة من الدين أشياء كثيرة ليس مع كثير من المتكلمين منها خبر، وهذا مما يحتملُ تأليفاً مستقلاً، وليس القصد (5) الاستيفاء، وإنما (6) القصد الإشارة الواقعة من قلب المنفي (7) موقع الخاطر الذي يُوجبه المعتزلة، والله الهادي.
وأمَّا المقامُ الثاني: هو ورودُ الشُّبَهِ الدقيقة من الفلاسفة وغيرهم على علماء القرآن والحديث، وقولُ السائل: ما تصنعون عند ذلك.
فالجواب من وجهين.
الوجه الأول: معارضة، وهو (8) أن نقول: ما يصنع الصحابة،
__________
(1) في (ش): وساوس.
(2) في (ش): فليطالع.
(3) في (ش): التطلع.
(4) في (ش): فإنه بذلك.
(5) ساقطة من (ب).
(6) الواو ساقطة من (ش).
(7) في (ش): المتقي.
(8) سقطت الواو من (ب) و (ش).(4/87)
والتابعون وأهل المعارف الضرورية، وأول من ابتكر (1) علم الكلام، فإنه يمكن المحدثين (2) أن يصنعوا مثلهم،
فإن قالوا: إنه كان في الصحابة، وفي كل من ذكرتم من يتمكن من ذلك من غير تعليمٍ ورياضةٍ في النظر والجدل، وذلك لفرط ذكائهم، وكمال عقولهم.
قلنا: وما المانع أن يكون (3) في كل عصر من هو كذلك، مثل أوائل مشايخ الكلام، بل أوائل الفلاسفة، والبراهمة (4)، بل المعروف أنه لا يزال في (5) الناس كذلك، بل من (6) لم يكن منطقي الذهن، لم يكن منطقي الفنِّ، والذي يدلُّ على ذلك أن الجمَّ الغفير يشتركون في طلب العلم، وبذل الجهد، فلا ينتفعُ إلاَّ بالقليل، ولا يتميزُ عن الأقرانِ إلا الأفراد.
وبالجملة فليس يفهم مقاصد أهل الكلام على الوجه المرضي بحيث يفهم ما بينها من التفاوت في القوة، والضعف، وعلى ما أثبتت عليه من القواعد، وما يَرِدُ عليها من المعارضات، والمناقضات إلاَّ من هو كذلك، وهذا هو الذي يصلح للرد على الفلاسفة والمبتدعة وغيره، وإن قرأ فما درى، وإن ناظر عن الإسلام، كان أعظم خاذلٍ له، وأكبر ناصرٍ
__________
(1) تحرف في (ش) إلى: أنكر.
(2) في (أ) و (ب) و (د): " المحدثون "، وهو خطأ.
(3) من قوله: " في الصحابة " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) هم قوم ينفون النبوات أصلاً، ويقررون استحالة ذلك في العقول بوجوه ذكرها الشهرستاني في " الملل والنحل " 2/ 251، ويقولون بوحدة الوجود، والتناسخ.
(5) " في " ساقطة من (ش).
(6) " من " ساقطة من (ش).(4/88)
لعدوِّه، وإن أُثيِبَ على نيته.
وما مثل العلماء في علمهم، إلاَّ مثل المجاهدين في جهادهم، فمنهم القوي القلب والبدن، النافع للإسلام، الضارُّ لأعدائه بمجرد ما أعطاه الله تعالى، فإذا انضمَّ إلى ذلك كثرةُ خِبَرةٍ، وطُولُ ممارسةٍ، وتجويد للرياضة في صناعات الرمي، والفراسة، والبَصَر بكيفية الحروب، وما اشتمل عليه علمُ الشطرنج (1)، وإن لم يكن من أهله، وكذلك البصر بأخبار الشجعان ووقعاتهم (2) وكمال ذلك أن يتمكن من الآلات العظيمة من الخيل الجياد، والسلاح الشاكي، والأتباع، عظمت مضرَّتُهُ للعدو، وذلك بنصر الله وتوفيقه، ومن كان على عكس هذه الصفات، فإنه متى بَرَزَ بين شُجعان الأعادي، لم يزد على أن يكون عاراً على أصحابه، وسبباً لقوة أعدائه، وكان كالباحث عن حتفه بِظِلْفِهِ، والجادع مَارِنَ (3) أنفه بكفِّه، وكذلك العلماء فتأمَّل ذلك.
واعلم أنَّ أصل الأمور راجعةٌ إلى العطايا الربانية، وأن الله تعالى لا يُخلي عباده وبلاده من قائمٍ لله بحجةٍ على ما أشارت إليه الأخبار (4)،
__________
(1) تحرف في (ش) إلى: التشريح.
(2) في (د): ووقائعهم.
(3) الحتف: هو الموت، والظلف للبقر والغنم كالحافر للفرس والبغل، والخف للبعير، وهو مثل، وأصله أن رجلاً كان جائعاً بالفلاة القفر، ولم يكن معه ما يذبحها به، فبحثت الشاة الأرض، فظهر فيها مدية، فذبحها بها. يُضرب لكل من أعان على نفسه بسوء تدبيره.
والمارِنُ: ما لان من الأنفِ، أو طَرَفُه.
(4) ثبت ذلك في " صحيح مسلم " (1920)، والترمذي (2230)، وابن ماجة (10) من حديث ثوبان.
وفي البخاري (3641) و (7312) و (7460)، ومسلم 3/ 1524، وأحمد 4/ 101 من حديث معاوية.(4/89)
وذهب إليه العلماء الأحبار (1)، ولا شك في اختلاف الناس، وتباعد مراتبهم في أمرين:
أحدهما: الفهم.
ثانيهما: حسن التعبير عن المفهوم، ألا ترى ما أحسن فهم زيد بن عمرو بن نُفيل (2)، وما أحسن تعبيره عما فهم حيث قال في قصيدته التي أوردها ابن إسحاق أول السيرة، وقال ابن هشام (3): هي لأمية بن أبي الصلت (4)، والمقصود منها قوله:
__________
(1) في (ب): " الأخيار "، وفي (ش): " العلماء والأخيار ".
(2) هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى القرشي العدوي، وكان الخطاب والد عمر بن الخطاب عمه وأخاه لأمه، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة. وكان زيد بن عمرو أحد من اعتزل عبادة الأصنام، وامتنع مِنْ أكل ذبائحهم، وساح في أرض الشام يتطلب الدين القيم، فرأى النصارى واليهود، فكره دينهم، وقال: اللهم إني على دين إبراهيم، ولكنه لم يظفر بشريعة إبراهيم عليه السلام، ولا رأي من يوقفه عليها، ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه مات قبل البعثة بنحو خمس سنوات، وهو من أهل النجاة، فقد شهد له - صلى الله عليه وسلم - في خبر مطول صححه الحاكم 3/ 216 - 217، ووافقه الذهبي بأنه " يبعث أمة وحده ". انظر أخباره في " صحيح البخاري " (3826) و (3827)، و" تاريخ الإسلام " للذهبي 1/ 44 - 48، و" سير أعلام النبلاء " 1/ 126 و221 - 222.
(3) 1/ 242 - 244.
(4) هو أمية بن أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي، شاعر جاهلي، حكيم من أهل الطائف، كان قد قرأ الكتب المتقدمة من كتب الله جل وعز، ورَغِبَ عن عبادة الأوثان، وكان يُخبر بأن نبياً يبعث، قد أظلَّ زمانه، ويؤمل أن يكون ذلك النبي، فلما بلغه خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كفر به حَسَداً.
وفي " صحيح مسلم " (2255) عن الشريد (وقد تحرف في " خزانة الأدب " 1/ 247 بتحقيق عبد السلام هارون إلى: (الرشيد) بن سويد قال: ردفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقال: " هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ " قلت: نعم، قال: " هيه "، فأنشدته بيتاً، فقال: " هيه "، ثم أنشدته بيتاً، فقل: " هيه "، حتى أنشدته مئة بيت، فقال: " إن كاد ليُسلم ". وفي رواية: " فلقد كاد يسلم في شعره ".
وفي " صحيح البخاري " (3841) و (6147) و (6489)، لمسلم (2256) (3) =(4/90)
وأنت الذي من فَضْلِ مَنٍّ ورحمةٍ (1) ... بعثت إلى مُوسى رسُولاً مُناديا
فقلتَ لموسى اذهب وهارون فادعوا (2) ... إلى الله فرعون الذي كان طاغيا
وقُولا له آأنت سوَّيت هذه ... بلا وتدٍ حتى اطمأنَّت كما هيا
وقولا له آأنت رفَّعت هذه ... بلا عَمَدٍ أرفق إذاً بك بانيا (3)
وقولا له آأنت سوَّيت وسطها ... مُنيراً إذا ما جنَّهُ اللَّيلُ هاديا
وقولا له من يُرسِلُ الشمس غُدوةً ... فيُصبِحَ ما مسَّت من الأرض ضاحيا
وقولا له من يُنبتُ الحبَّ في الثَّرَى ... فيُصبحَ منه البَقْلُ يهتزُّ رابيا
ويخرُجَ منه حبُّهُ في رُؤُوسه ... وفي ذاك آياتٌ لمن كان واعيا
وروى الذهبي لزيد رحمه الله في ترجمة ولده سعيد (4) قوله أيضاً:
[و] أسلمتُ نفسي لمن أسلمتْ ... له المُزْنُ تحمل عذباً زُلالا
__________
= من حديث أبي هريرة رفعه: " وكاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم ".
وعاش أمية حتى أدرك وقعة بدر، ورثى من قتل بها من المشركين، ولا يختلف أصحاب الأخبار أنه مات كافراً.
قال ابن سلام في " طبقاته " 1/ 262 - 263: وكان أمية كثير العجائب، يذكر في شعره خلق السماوات والأرض، ويذكر الملائكة، وتذكر من ذلك ما لم يذكره أحد من الشعراء، وكان قد شام أهل الكتاب.
وقال ابن قتيبة في " الشعر والشعراء " ص 227: وكان يحكي في شعره قصص الأنبياء، ويأتي بألفاظ كثيرة لا تعرفُها العرب يأخذها عن الكتب المتقدمة، وبأحاديث من أحاديث أهل الكتاب ... وعلماؤنا لا يرون شعره حجة في اللغة.
(1) في " خزانة الأدب " 1/ 246: سيب ونعمة.
(2) في " السيرة ": فقلت له يا اذهب وهارون فأدعوا.
ورواية البيت في " الخزانة ":
وقلت لهارون اذهبا فتظاهرا ... على المرء فرعون الذي كان طاغيا
(3) في (ج): " ثانياً "، وهو تحريف.
(4) في " السير " 1/ 132 - 133، وأنشدها أيضاً له ابن إسحاق في " السيرة " 1/ 246.(4/91)
إذ سُقِيَتْ بلدةٌ من بلا ... د سيقتْ (1) إليها فسَحَّتْ سِجَالا
وأسلمتُ نفسي لمن أسلمتْ ... له الأرضُ تحمِلُ صخراً ثقالا
دحاها فلمَّا استوت شدَّها ... سواءً وأرسى عليها الجبالا (2)
على (3) أن المتكلمين قد يضطرون إلى أشياء ركيكةٍ لا يعجز عن مثلها أهلُ الأثر والجمود، مثل (4) قولهم: لا نُجيب بلا، ولا نعم، ولا نفي، ولا إثباتٍ في قول خصومهم: إنَّ تقدير ووقوع الأفعال على خلاف علم الله محالٌ، ونحو ذلك.
وقد شنَّع الشيخ مختار في كتابه " المجتبى " عليهم في ذلك، وهو مشهورٌ في كتبهم، قال الشيخُ مختار: ولولا وجوده في كتبهم، ما صُدِّقَ مثل ذلك عليهم (5)، وأحسن الجواب عن ذلك، والمعارضة بأفعال الله تعالى، فإنها معلومةٌ، ومع كونِها معلومةً لم تخرُج عن كونها مقدورةً ممكنة (6)، وجوَّد القول في ذلك، وكم لهم أمثال ذلك (7) من المحارات، ومواقف العقول، وإنَّما بدأ أهل الأثر بما رجع إليه أهل الكلام.
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: " سقيت "، ورواية البيت في " السيرة ":
إذا هي سيقت إلى بلدة ... أطاعت فصبَّت عليها سجالا
والسجال: جمع سجل، وهي المملوءة ماء، استعارها لكثرة المطر.
(2) روايته في ابن هشام:
دحاها فلمَّا رآها استوت ... على الماء أرسى عليها الجبالا
ودحاها: بسطها، وأرسى: أثبت عليها، وثقلها بها.
(3) انفردت (أ) بزيادة قبل " على "، ونصها: " الوجه الثاني أن أصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك "، وليس محلها هنا، وستأتي قريباً.
(4) تحرفت في (أ) إلى: ثم.
(5) في (ش): عنهم.
(6) في (ج): ممكنة مقدورة.
(7) ساقطة من (أ).(4/92)
الوجه الثاني (1): إنَّ أصولكم تقتضي عدم الخوف من ذلك، إذ كان عندكم أن النظر واجبٌ على العبد، والبيان واللطف واجبان على الله تعالى.
فنقول: لا حاجة على هذا إلى تعلم الكلام، بل يترك الخوضُ فيه حتى ترد الشبهة القادحة، ثم نفعل ما يجب علينا، وهو النظر، والله سبحانه يفعل ما يجب عليه عندكم، وهو البيان لنا، واللطف بنا، ومع ذلك تجلى المشكلات، ونَسْلَمُ من مداحض الشبهات.
فإن قيل: فهل تقولون بقُبح النظر فقد أبطلتم كل النظر ببعضِ النظر، لأن أدلتكم هذه نظرية، وهذا متناقض.
فالجواب: أنه لا سبيل إلى إنكار النظر جميعه، ومعرفة وجوبه عند رجحان الخوف مطلقاً عقليةٌ جلية، وفي (2) الإسلام، وصدق الأنبياء عليهم السلام خصوصاً سمعيةٌ ضروريةٌ.
وقول الرازي في " المحصول ": " إن وجوب النظر مبنيٌّ على أنه يفيد العلم في الإلهيات " -وذلك في غاية الدقة- مردودٌ عليه بأن النظر يجب، وإن لم يحصل منه سوى الظن، بل العاقل ينظر مع تجويز أن لا (3) يحصل له ظن ولا علم، ولكن ليبلغ طاقته في دفع الضرر عن نفسه، وأهل السنة لا ينكرون النظر، بل أهل المعارف الضرورية، وإنما يختلف الناس في النظر النافع دون الضار، فعند أهل السنة أن النظر النافع: هو
__________
(1) في (أ): " الوجه الثالث "، وهو خطأ.
(2) "الواو" لم ترد في (ش).
(3) في (أ): " مع تجويز وإن لم "، وفي (ش): " مع التجويز وإن لا ".(4/93)
فيما (1) أرشد الله تعالى إلى النظر فيه من معجزات الأنبياء وبدائع المصنوعات على منهاج الأنبياء وأصحابهم، وهذا القدرُ من النظر نافع بإجماع الأمة من المحدثين والمتكلمين، والذي يختص به أهل الكلام مختلف فيه، والمجمع عليه أولى من المختلف فيه. وقد تقدم الكلام في فائدة النظر عند أهل المعارف، ومن يكتفي بالظن، فخذه من موضعه (2).
فتلخيص الجواب أن هذا إبطالُ (3) بعض النظر ببعضه في مواضع القطع ببطلان طرائق المتكلمين، واستغناءٌ (4) ببعض النظر عن بعض في مواضع في (5) الوقف في طرائقهم، واستغناءٌ بالوقف عن النظر في مواضع الوقف من محارات (6) العقول، ومواقفها، وتعارض السمعيات من غير ظهور ترجيح، ولا بُدَّ من هذه الأشياء، قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: 36]، وأهل الكلام يبطلون بعض الأنظار ببعض، كالأنظار على الوجوه الفاسدة، فإنهم يبطلونها بالأنظار على الوجوه الصحيحة، والوقف في المحارات إجماعُ العُقلاء.
وها هنا حكاية باردة (7) يستروِحُ كثير من أهل الكلام إليها، ويعتمدون في احتقار علماء السمع عليها، وذلك أنه يروى أن الروم سألوا هارون الرشيد المناظرة، فأرسل إليهم بمُحدِّثٍ، فسألوه الدليل على الصانع،
__________
(1) في (ش): ما.
(2) 4/ 113.
(3) في (ج): فتلخيص هذا الجواب أنه إبطال.
(4) في (أ): واستغناء به.
(5) ساقطة من (د).
(6) تصحفت في (ج) إلى: مجازات.
(7) في (أ): نادرة.(4/94)
فروى لهم حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بناء الإسلام على الشهادتين (1) أو ما يشبهه، فكتبوا إلى هارون يذكرون ذلك، فأرسل إليهم بمتكلم فدسُّوا له من فهمه (2) قبل وصوله إليهم، فوجدوه على ما يحذرون، فسمُّوه قبل وصوله إليهم، ولهم أمثال هذه الحكاية.
والجواب: عليهم في مثل هذه الأشياء -وإن لم تصح- أن يقال لهم: ما أردتم بذلك؟ فإن أردتم الاستدلال على أنكم أجدل من المحدثين، وأحذق بصناعات الجدليين، فذلك مُسلَّمٌ لكم، بل مُسلَّمٌ لكم أنكم أجدل من الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وإن أردتم أنكم أعلم بالله، وأفضل عند الله، فغيرُ مسلَّمٍ، فإنه لا ملازمة بين الحذق بالجدل، والعلم بالله عز وجل، فكم من فيلسوف (3) كافرٍ قديرٍ في علم الجدل، وصار فيه إماماً للأذكياء، وكم من وليٍّ لله تعالى قد ارتوى قلبه من اليقين الصِّرف، وهو غير بصيرٍ بقوانين الجدليين، وذلك يظهر (4) بوجهين.
الوجه الأول: أن السائل جهل المقصود بالنبوة، وظن أن الحكمة في بعثة الرسل هي بيان الأدلة على الله وأسمائه (5)، وجدال المخالفين في ذلك، وإنما بعثوا مبشرين، ومنذرين، ومعلمين للشرائع، بل قد نصَّ
__________
(1) أخرجه من حديث ابن عمر: البخاري (8) و (4514)، ومسلم (16)، والترمذي (2609)، والنسائي 4/ 107 - 108، ولفظه في البخاري: " بني الإسلام على خمسٍ: شهاده أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجِّ، وصوم رمضان ".
(2) في (د): " يفهمه "، وكتب فوقها: فهمه صح.
(3) تصحفت في (أ) إلى: فيلفوس.
(4) في (ش): ظاهر.
(5) " وأسمائه " ساقطة من (ش).(4/95)
القرآن على أن المراد بهم الإنذار، بل قد قَصَرَهُم على ذلك مبالغةً، والآيات في ذلك لا تحصى، منها قوله تعالى حاكياً عن محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9]، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [العنكبوت: 50]، وقد أوضح الله الحجة بخلق العقول، ثم قطع الأعذار بالإنذار على ألسنة الرسل، والعلماء ورثة الأنبياء، وهذه نُكتة نفيسة فتأمَّلها.
الوجه الثاني: أنا نعلمُ وكُلُّ مُنْصِفٍ (1)، أنه لو حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - وحضرت المَهَرَةُ من أئمَّة علوم الفلسفة، وأهل الدِّرية التامة بدقائق المنطق والكلام، وحضر أئمة علم الكلام من أهل الإسلام، وأرادوا المناظرة في الأدلة: أن أهل (2) الكلام (3) من المسلمين يكونون أحذق في المناظرة من رسول الله، وقد ذكر معنى هذا (4) الإمام يحيى بن حمزة (5) في بعض كتبه.
فإن قيل: إنه (6) يلزم من هذا أن يكونوا أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن جميع الأنبياء، وهذا معلوم القُبح والبطلان.
قلنا: معاذ الله أن يكون أحدٌ أعلم بالله، وبالأدلة عليه، وبالعلوم
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: مصنف.
(2) ساقطة من (أ).
(3) من قوله: " وحضر أئمَّة " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) في (ج): هذا المعنى.
(5) " ابن حمزة " ساقط من (ش).
(6) " إنه " ساقطة من (أ).(4/96)
النافعة كلها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما نقول: إنهم أعلم بالعلم المبتدَع الذي كَرِهَهُ السلف، ومنتهى حال العالم (1) به عند من يُوجبهُ أن يكون توسَّل به للضرورة إلى بعض معارف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما يتوسل طالب النحو والإعراب بقراءة كتب النحاة إلى معرفة بعض مقاصده - صلى الله عليه وسلم - في كلامه البليغ، ومعلومٌ أن رسول الله وأصحابه لا يُوصفون بمعرفة ما ابتدع النحاةُ من الأسماء الاصطلاحية، ولكن السلف ردُّوا هذا بأنَّ اللغة تغيَّرت، وتحققت الضرورة إلى حفظ اللغة بابتداع عِلْمِ العربية مع ما رُوي (2) في أصل وضعه عن علي عليه السلام (3) بخلاف علم الكلام، فإن العقول لم تختلَّ، ولو اختلَّت، بَطَلَ التكليف، ولم يمكن وضع قوانين الأدلة، ولا يُنكَرُ أن تكون المبتدعةُ أعرف بما لا فضيلة فيه من الأنبياء، كما أن أهل الصناعات أعرف (4) بصناعاتهم، والنساء أعرف بما يخُصُّهنَّ من صنعةِ الطعام، وإنما ينكر أن يكونوا أعرفَ بالعلم النافع في تقرير الإسلام، والإيمانِ، والشرائع والأديان، وليس يجهلُ هذا الأمر إلاَّ من جهل أحوال الأنبياء عليهم السلام، أو جهل علم الجدل.
وقد تعرَّض ابن الزِّبَعْري لمناظرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأعرض عنه حتى نزل الردُّ عليه بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (5) [الأنبياء: 101].
__________
(1) في (ش): العلم.
(2) تحرفت في (ب) إلى: أوى.
(3) انظر الخبر في " الأغاني " 12/ 298، و" نزهة الألباء " لابن الأنباري ص 18 - 22.
(4) في (ش): أعلم.
(5) أخرج الطبراني 12/ (12739) من حديث ابن عباس قال: لما نزلت {إنَّكم وما تعبدون من دونِ الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال عبد الله بن الزِّبَعري: أنا أخصم لكم =(4/97)
وكذلك فعل مع أبي سفيان بن حرب يوم إسلامه، كما هو معروف (1).
وكذلك فعل مع الوليد بن المغيرة حين أجاب عليه بتلاوة سورة السجدة (2).
__________
= محمداً، فقال: يا محمد، أليس فما أنزل الله عليك: {إنَّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون} قال: " نعم "، قال: فهذه النصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، وهذه بنو تميم تعبُدُ الملائكة، فهؤلاء في النار؟ فأنزل الله عز وجل: {إنَّ الذين سبقت لهم منَّا الحسنى أولئك عنها مُبعدون}.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 338، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، والضياء في " المختارة "، وأبي داود في " ناسخه "، وابن المنذر.
وأورد الخبرَ ابن إسحاق (كما في " سيرة ابن هشام " 1/ 384 - 386)، ونقله عنه الطبري في " تفسيره " 17/ 96 - 97.
(1) انظر " سيرة ابن هشام " 4/ 44 - 46، وتاريخ الطبري 3/ 52 - 54.
(2) الخبر عند الحاكم 2/ 506 - 507، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 198 - 199 من طريق عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عمّ، إن قومك يَرَوْن أن يجمعوا لك مالاً، قال: لِمَ؟ قال: ليُعطوكه، فإنك أتيت محمداً لتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالاً، قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له أو أنك كارهٌ له، قال: وماذا أقول، فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن، والله ما يُشبه الذي يقول شيئاً من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوةً، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمرٌ أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه، قال: فدعني حتى أُفكر فيه، فلمَّا فكر قال: هذا سحرٌ يؤثر، يأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
ثم رواه البيهقي من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة قال: جاء الوليد بن
المغيرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: اقرأْ عليِّ، فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال: أعِدْ، فأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوةٍ، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدِقٌ، وما يقول هذا بشر. =(4/98)
وكذلك فعل مع نصارى نجران حين دعاهم إلى المباهلة (1).
وكذلك فعل جعفر بن أبي طالب مع النجاشي وأصحابه (2).
__________
= وأخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 14/ 295 - 297، ومن طريقه: أبو يعلى (1818)، وأبو نعيم في " دلائل النبوة " (182)، وعبد بن حميد، عن علي بن مُسهِر، عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة الأسدي، عن جابر بن عبد الله قال: اجتمعت قريشٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فقالوا: انظروا أعلمَكم بالسِّحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرَّق جماعتنا، وشتَّتَ أمرنا، وعابَ ديننا، فليكلِّمهُ ولينظُر ما يرُدُّ عليه. قالوا: ما نعلم أحداً غير عتبة بن ربيعة، قالوا: أنت يا أبا الوليد، فأتاه عتبة فقال: يا محمدُ أنت خيرٌ أم عبدُ الله؟ فسكت رسول الله، ثم قال: أنت خيرٌ أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قال: فإن كنت تزعُمُ أن هؤلاء خيرٌ منك، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ، وإن كنت تزعُمُ أنَّك خيرٌ منهم، فتكلَّم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سَخْلَةً قطُّ أشأمَ على قومك منك، فرقت جماعتنا، وشتَّتَّ أمرنا، وعبت ديننا، ففضحتنا في العرب حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً، وأن في قريش كاهناً، والله ما ننتظر إلاَّ مثل صيحة الحُبلى بأن يقوم بعضنا إلى بعضٍ بالسيوف حتى نتفانى. أيُّها الرجُلُ إن كان إنَّما بك الحاجة جَمَعنا حتى تكون أغنى قريش رجلاً، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أيَّ نساء قريشٍ شئت، فنُزَوِّجك عشراً. قال له رسول الله: " أفَرَغتَ؟ ". قال: نعم، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 1 - 13] فقال عتبة: حسبُك حسبُك، ما عندك غيرُ هذا؟ قال: " لا "، فرجع إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ قال: ما تركتُ شيئاً أرى أنكم تُكَلِّمُونه به إلاَّ كلمتُهُ. قالوا: هل أجابك؟ قال: نعم والذي نَصَبَها بَنِيَّةً ما فهمتُ شيئاً ممَّا قال غير أنه قال: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، قالوا: ويلك، يكلمك رجلٌ بالعربية لا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمتُ شيئاً ممَّا قال غير ذكر الصاعقة.
والأجلح من رجال " التهذيب "، وهو صدوق، والذيال بن حرملة روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في " الثقات " 4/ 222 - 223 فالسند حسن. وصحَّحه الحاكم 2/ 253 - 254 من طريق جعفر بن عون عن الأجلح به، ووافقه الذهبي. وانظر " مجمع الزوائد 6/ 20، و" المطالب العالية " (4285)، و" تفسير البغوي " 4/ 110 - 111، و" سيرة ابن إسحاق " ص 187 - 188.
ومن قوله: " وكذلك فعل مع الوليد " إلى هنا ساقط من (ب).
(1) انظر البخاري (4380) في المغازي، باب: قصة نجران، و" دلائل النبوة " للبيهقي 5/ 382 - 393.
(2) ذكر ذلك ابن إسحاق في " سيرته " ص 194 - 197، ومن طريقه أحمد 1/ 201 - =(4/99)
وكذلك قد أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - دِحيةَ بن خليفة الكلبي إلى هرقل عظيم الروم بكتاب ليس فيه براهين، ولا جدل، وإنما فيه: " أسلم تسلم، وإن لم تسلم، كان عليك إثمُ الأريسيّين "، وفيه: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا} [آل عمران: 64] الآية (1)، مع توجيه هذا الرسول بهذا الكتاب إلى أئمة المنطق والبرهان، ولم يُعَلِّم رسوله ما يُجادِلُهُمْ به، ولا لقَّنَهُ أي شيء يُجيبُ به عليهم، فهو مثل المحدث الذي زعموا أن هارون أرسله إن صح ذلك (2).
وكذلك سائر (3) رسل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه بَعَثَ إلى النجاشيِّ (4) وإلى
__________
= 203 و5/ 390 - 292 في خبر مطول من حديث أم سلمة، وفيه: كان الذي يُكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتُم دينَ قومكم، ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية، فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك، كنا قوماً على الشرك، نعبدُ الأوثان، ونأكل الميتة، ونسيء الجوار ونستحلُّ المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لا نحلُّ شيئاً ولا نحرمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا، نعرِفُ وفاءَه وصِدْقَه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبُدَ الله وحده، لا شريك له، ونصِلُ الرحم، ونُحْسِنُ الجوار، ونصلي، ونصوم، ولا نعبدُ غيره، فقال: هل معك شيءٌ ممَّا جاء به؟ وقد دعا أساقفته، فأمرهم، فنشروا المصاحف حوله، فقال له جعفر: نعم، قال: هلم، فَاتْلُ عليَّ ما جاء به، فقرأ عليه صدراً من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم.
ورواه البيهقي في " الدلائل " 2/ 299 - 300 من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى. وقال: وهذا إسناد صحيح.
وفي الباب عن ابن مسعود عند الطيالسى (346)، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 297 - 298.
(1) أخرجه البخاري (7) و (2941) و (4553)، ومسلم (1773)، وأحمد
1/ 262، والبيهقي في " الدلائل " 4/ 377 - 380 من طرق عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس.
(2) في الحكاية التي نقلها قريباً، ووصفها بأنها باردة.
(3) ساقطة من (د).
(4) أخرجه ابن إسحاق في " السيرة " ص 210، ومن طريقه الحاكم في " المستدرك " =(4/100)
المقوقِس صاحب الإسكندرية (1)، وبعث أبا عبيدة رضي الله عنه إلى البحرين (2)، ومعاذاً وأبا موسى إلى اليمن (3)، وبعث إلى سائر الملوك.
وكذلك كُتُبُه عليه السلام التي نَفَّذَهَا إلى الآفاق لم يُضَمِّنْها أشياء (4) من هذا القبيل الكلامي. فأهل الحديث أشبه المسلمين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبأصحابه.
وقد قالَ القُرطبي في " شرح مسلم " (5) في ذكر أكثرِ المتكلمين:
__________
= 2/ 623، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 308: قال: هذا كتاب من النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، لم يتُخذ صاحبةً ولا ولداً، وأن محمداً عبدُه ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإنِّي أنا رسوله، فأسلم تسلم، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألاَّ نعبد إلاَّ الله، ولا نُشرِكَ به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فإن تولوا فقولوا: اشهدوا بأنَّا مسلمون، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك ".
(1) ذكره البيهقي في " دلائل النبوة " 4/ 395 - 396 من طريق ابن إسحاق، حدثنا الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد القاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فمضى بكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المقوقس، فقبَّل الكتاب، وأكرم حاطباً، وأحسن نُزلَهُ، وسَرَّحه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأهدى له مع حاطب كسوةً وبغلةً بسرجها وخادمتين، إحداهما أم إبراهيم، وأمَّا الأُخرى، فوهَبَهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجهم بن قيس العبدي، فهي أم زكريا بن جهم الذي كان خليفة عمرو بن العاص على مصر.
(2) الذي في " السيرة " 4/ 254 أنَّ المبعوث إلى البحرين العلاء بن الحضرمي.
(3) أخرجه البخاري (4341) و (4345)، من حديث أبي بردة مرسلاً وأخرجه مسلم (1733) من حديث أبي موسى الأشعري، وأخرجه الدارمي 1/ 73 من حديث عبد الله بن عمر.
(4) في (ش): شيئاً.
(5) هو أحمد بن عمر بن إبراهيم بن عمر أبو العباس القرطبي المالكي، المحدث، الفقيه، المتوفى بالإسكندرية سنة 656 هـ، وهو شيخ القرطبي صاحب التفسير، وشرحه هذا -واسمه " المفهم في شرح مسلم "- لما يطبع، ويكثر النقل عنه الإمامُ النووي، والحافظ ابن حجر. منه جزآن في شستربتي (3592) و (4938)، وأربع أجزاء في أوقاف الرباط (253) و (254) و (41) و (42) و (65).(4/101)
إنَّهم أعرضوا عن الطرق التي أرشد الله تعالى إليها إلى طُرُقٍ مبتدعةٍ، ومناقشاتٍ لفظية (1) يرِدُ بسببها على الأخذ فيها شُبَهٌ يُعجَزُ عنها، وأحسنُهُم انفصالاً عنها أجدَلُهُم لا أعلمُهم، فكم من عالمٍ بفساد الشُّبهةِ لا يقوى على حَلِّها، وكم من منفصلٍ عنها لا يُدرِكُ حقيقةَ علمِها.
وقد أنصف الحافظ (2) المحدِّث ابن خزيمة حينَ ناظر جماعةً من المتكلمين، فقال لمنصور الصيدلاني: ما صنعتك؟ قال: عطَّارٌ، قال: تُحسِنُ صنعَةَ الأساكفة؟ قال: لا، قال: تُحْسِنُ صنعة النجارين؟، قال: لا، قال: فإذا كان العطار لا يُحسِنُ غير ما هو فيه، فما تُنكرونَ على فقيهٍ راوي حديثٍ أنه لا يُحسِنُ الكلام (3).
وكذا رُوِيَ عن الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي أنه أُخبر بما جرى بنيسابور بين ابن خزيمة وأصحابه، فقال: ما له والكلام، إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلَّم فيما لم نتعلمه (4)، رواه البيهقي في " الأسماء والصفات " (5).
وذكر الذهبي: في تاريخ " النبلاء " (6) في الكلام على المِحنَةِ من ترجمة أحمد بن حنبل أنه كان يناظرُ على الكتاب والسنة. قال صالحٌ عن أبيه: فإذا جاء شيءٌ من الكلام ممَّا ليس في الكتاب والسنة؟ قلتُ: ما أدري ما هذا، انتهى.
__________
(1) تحرفت في (أ) و (د) إلى: لطيفة.
(2) في (ش): العالم.
(3) الخبر في " الأسماء والصفات " للبيهقي ص 267.
(4) في (ب) و (ج): لا نعلمه.
(5) ص 269.
(6) 11/ 249.(4/102)
وما أحسَنَ الاحتجاج على حُسنِ هذا الأدب بقوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران: 66]، فهذا أمر علماء الحديث غير مدعين له، ولا راغبين فيه (1)، والذي ذكره المحدث هو الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كتبه إلى الخصوم، ومحاوراته للكفار، أو قريبٌ منه، وإنما العلماء ورثة الأنبياء، وعلى الوارث أن يحفظ تراث الموروث، وأيُّ عار على قومٍ لو حضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكانوا أشبه الخلق به وبأصحابه هدياً وعِلْماً، وفهماً وحُكماً.
وكذلك هم أعلمُ الطوائف بأحواله - صلى الله عليه وسلم - الضرورية، وأحوال أصحابه لشدة عنايتهم بمعرفة ذلك، وقطع أعمارهم فيه، وهذه (2) النكتة النفيسة في التضلع من علم الآثار والإمامة فيه، وبها يسلَمُ المُحدِّثُ من أمرين خطيرين (3) جليين.
أحدهما: جحد المعلوم من الدين ضرورة، والشك فيه.
وثانيهما: اعتقاد ما ليس بضروري من الدين ضرورياً، كما هو عادة كلِّ فرقةٍ من المبتدعة، فإن كل طائفة منهم قد تَلَقَّوا عن أشياخهم، وأهلِ بلدهم أموراً نسبها خلفُهم عن سلفهم إلى الدين، وهم عدد كثير، فاعتقدوا أنها ضرورية منه (4)، ولو كان مثل هذا يوجب الضرورة، تعارضت الضرورات لثبوت مثله في كل بدعة، فتأمل ذلك، فإنه نفيسٌ جداً.
__________
(1) سقطت من (أ).
(2) في (ش): " فهذه "، وفي (ج): " وهذه هي ".
(3) في (ش) و (ج): " خطرين "، وفي (ش): " جليلين " مكان " جليين ".
(4) ساقطة من (ش).(4/103)
وقد رأيتُ بعض الباطنية تمسك بهذا بعينه (1)، وهذا ما لا يعجز عنه أحد ولولا علوم الحديث، والسير، والتواريخ، لاختلط حقُّ ذلك بباطله.
وليس يلزم أن لا يكون في المحدثين أذكى من هذا الذي كُذِبَتْ عليه هذه الحكاية، فالمحدثون يتفاضلون كما أن الصحابة يتفاضلون (2)، بل قد فاضَلَ الله سبحانه بين الأنبياء عليهم السلام قال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، وقال (3) موسى في أخيه عليهما السلام: {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القصص: 34]، وانظر إلى ما حَكَى الله سبحانه في سورة هود وغيرها من مجادلات الأنبياء للكفار ومراتبها في الوضوح، وانظر هل يَعْجِزُ محدثٌ عن مثلها، بل عن نقلها بلفظها، وهل يقنع الملحدون بذلك، هيهات إن هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون، بل لم ينفع فيهم (4) مع ذلك علمُ الكلام، وتحريرُ البراهين.
وما أحسن كلام الغزاليِّ حيثُ قال: إن الله لمَّا عَلِمَ أنَّ في الناسِ مَنْ لا ينفعُه الكتابُ الذي أنزله (5) الله هُدى للناس، أنزلَ مَعَ الكتاب الحديد فيه بأسٌ شديد لعلمِه أنه لا يُخرِجُ المِراءَ (6) من أدمغة أهل اللَّجاج إلاَّ الحديدُ، أو كما قال (7).
__________
(1) في (ش): بهذه الفتنة.
(2) في (ش): متفاضلون.
(3) تحرف في (د) إلى: وقالوا.
(4) في (ش): ينفعهم.
(5) في (ش): أنزل.
(6) تحرفت في (ب) إلى: البراء.
(7) انظر " القسطاس المستقيم " ص 90.(4/104)
واعلم أن العلة (1) في إضراب الأنبياء عليهم السلام عن علم الجدل، وتعلُّم صناعات أهل النظر، ما هو إلاَّ قلة جدواه، بل قد وَرَدَ ما يدُلُّ على مَضَرَّتِه، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - ضَمِنَ لمن تَرَكَ المِرَاءَ -وهو محقٌّ- ببيتٍ في الجنة (2)، وقد جربتُ مضرَّته وصرفَه عن الحقِّ، وقد قال الله سبحانه في كتابه: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256]، وقال سبحانه: {قَدْ فَصَّلنَا الآيَاتِ لِقَومٍ يَعلَمُوْنَ} [الأنعام: 97]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105]، وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (3) لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة: 118]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104]، وقال تعالى: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68 - 69] (4)، وقال تعالى: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ (5) اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِين
__________
(1) تحرفت في (ب): إلى: اللغة.
(2) أخرجه الترمذي (1993)، وابن ماجة (51) من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك الكذب -وهو باطل- بُني له قصرٌ في رَبَضِ الجنة، ومن ترك المراء -وهو محق- بُني له في وسطها، ومن حسَّنَ خُلقه، بُنِيَ له في أعلاها " وفي سنده سلمة بن وردان راويه عن أنس، وهو ضعيف، لكن له شاهد من حديث أبي أمامة عند أبي داود (4800) بإسناد صحيح يتقوَّى به.
(3) من قوله: " وقال تعالى " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) من قوله: " وقال تعالى وإن " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) من قوله: " الله ربنا " إلى هنا ساقط من (ش).(4/105)
يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 15 - 16].
وما أوضح قوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} في ذلك، فإن (1) كان المجادل معانداً ممارياً أعرض عنه، فقد مدح الله المعرضين عن الجاهلين، وأمر بذلك، وذكر في غير آية أعظم الزجر عن الطمع في هدايتهم.
فمن ذلك قوله سبحانه: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف: 146].
وقال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109].
وأمثالها، وقال: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 6].
وقال تعالى في ذلك: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].
وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ (2) وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68].
وقال: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ
__________
(1) في (ب): فإذا.
(2) من قوله: " غيره إنكم إذاً مثلهم " إلى هنا ساقط من (ش).(4/106)
الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106].
وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ
شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [النمل: 91 - 92].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 50 - 51].
وقال: {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الحج: 68 - 69].
وقال (1): {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة: 147].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
__________
(1) " وقال " ساقطة من (ش).(4/107)
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 8 - 10].
وقال تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} إلى قوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 145 - 146] وأمثالها.
وإن كان ممن يظهر منه طلب (1) الهداية، خُوطِبَ بما ورد في كتاب الله تعالى عن الأنبياء، فإنهم عليهم السلام قد بلغوا الغاية في ذلك، ومن يُؤمِن بالله يهدِ قلبه، والله بكل شيء عليم، ومن عَلِمَ الله (2) فيه خيراً أسمعه كما قال: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23].
وقد بين الله تعالى الجدال الذي جادل به (3) رسوله (4) - صلى الله عليه وسلم - خصومه، وكذلك سائر الأنبياء وهو تفسيرٌ للمجادلة بالتي هي أحسن، فإن الجدال قد ورد مطلقاً ومقيداً بالتي هي أحسن، والعمل بالمقيد في الأوامر (5) واجب بالإجماع بخلاف النواهي، ففيه خلافٌ مبينٌ في أصول الفقه.
فإذا أردنا أن نعرف الجدال بالتي هي أحسن (6) باليقين تتبَّعنا كلامات (7) الأنبياء صلوات الله عليهم، ولا أصح من كتاب الله تعالى،
__________
(1) في (ش): طالب.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): جادله.
(4) في (د): رسول الله.
(5) " في الأوامر " ساقطة من (د).
(6) من قوله: " والعمل بالمقيد " إلى هنا ساقط من (ش).
(7) في (ش): كلمات.(4/108)
ولا أصدق من كلامه.
وقد قال تعالى في بيان ذلك ومراده منه: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 19 - 20].
وقال تعالى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 67 - 68].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (1) [سبأ: 46 - 47].
وقال تعالى: {قَالُوا سِحْرَانِ (2) تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 48 - 50].
__________
(1) من قوله: " وقال تعالى: قل " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) هي قراءة ابن عامر، وأبي عمرو بن العلاء، وابن كثير، ونافع، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: (سِحْرَان تظاهرا). انظر " حجة القراءات " لابن زنجلة ص 547.(4/109)
وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
وقال سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63].
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ} [القصص: 71] الآية (1).
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [العنكبوت: 50 - 52].
وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} إلى قوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: 91].
وقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104].
وقال (2) تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
__________
(1) ليست في (ب).
(2) في (ش): وقوله.(4/110)
وقال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].
وقال: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149].
وقال تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} إلى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 80 - 83].
وسمى الله سبحانه ذلك حجة بالنسبة إلى كلامهم الذي هو جواب عليه، وذلك يقتضي أنهم خوَّفوه من أربابهم لأجل توحيده، فخوَّفهم من ربه الحق لأجل شركهم، ولذلك قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81].
ونبه الله تعالى على الكثير الطيب من الأدلة العقلية بأوضح عبارة، وأفصح كلام، وأبلغ بيان.
فمن ذلك قوله تعالى في سورة الروم: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الروم: 20]. إلى آخر الآيات.
وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [إبراهيم: 9 - 10].(4/111)
وقال تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [البقرة: 139].
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [المائدة: 17 - 18].
وقال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59].
وقال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].
وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 37].
والقرآن العظيم مُفْتَنٌّ في أساليب الردِّ عليهم، وتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتارةً يردُّ بالبراهين العقلية القطعية كقوله: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} على ما مرَّ تقريره في اشتراط رُجحان الداعي في وقوع المقدورات، وتارةً يأتي بما يفحم الخصم، ويُلقِمُهُ الحَجَرَ، كقول إبراهيم عليه السلام للقائل: أنا أُحيي وأُميت: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا(4/112)
مِنَ الْمَغْرِبِ} إذ كان المتقرر عند الكافر والمسلم حينئذٍ (1) أن الربَّ هو القادر على التصرف في ذلك، فهذا بالنسبة إلى كلام هذا الكافر من أصحِّ الجدل وأجوده، وهو بالنسبة إلى المؤمن، والناظر لنفسه من أصحِّ البراهين على الله تعالى، لأن حال الكواكب يشهد لصانعها (2)، وذلك أنها متحركة حركةً مستمرةً بالضرورة، فلو لم تكن مسخَّرةً مدبرة ما صحَّ ذلك أبداً، لأنها إما حيوانٌ أو لا، والحيوان المختار يحترك (3) مرةً، ويسكن أخرى، ويحتركُ مرةً يميناً، ومرةً شمالاً، ومرةً حركةً (4) سريعةً، ومرةً حركةً بطيئة، والجماد لا يحترك البتة إلاَّ بمحرِّكٍ، وقد تحيَّر الفلاسفة في هذا، وأنشد ابن أبي الحديد في كلامهم فيه أبياتاً في شرح (5) " النهج " أولها:
تحيَّر (6) أربابُ النُّهي وتبلَّدُوا ... من الفَلَكِ الأقصى لِماذا تَحَرَّكا
فسبحان من أودع كتابه الكريم أصحَّ البراهين، و (7) أوضح الآيات.
وتارة ورد بالوعيد كقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنعام: 29 - 30].
وتارةً جاء بالمباهلة، وهي الملاعنة، ومنه مسألة المباهلة في
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): تشهد بصانعها.
(3) في (ج): يتحرك
(4) ساقطة من (ب).
(5) " شرح " ساقطة من (ش).
(6) تصحفت في (ب) إلى: تخير.
(7) الواو ساقطة من (ش).(4/113)
الفرائض، وهي مسألة العول (1)، أراد ابن عباس أن يُباهل فيها من خالفه، وقد باهل غيرُ واحد، وطلب المباهلة غير واحد، قال الله تعالى في ذلك: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
وتارة أمره (2) بمعارضة قولهم بمجرد النص على تكذيبه أو ما يقتضيه مع ما تقدم من حجة المعجزة من غير ذكرٍ للحجة، كقوله لما قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 16 - 18].
وتارةً أمره بالصبر من دون أمرٍ آخر، كقوله لما قالوا: {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 16 - 17].
وتارةً أمره بالاستعاذة بالله كما ورد في الأحاديث المتقدمة كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56] وأمثال ذلك.
وتارةً وَرَدَ (3) بالتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والنهي له عن الاحتفال بهم،
__________
(1) العول: هو زيادة في السهام ونقصان في أنصباء الورثة.
وأخرج ابن أبي شيبة 11/ 282 من طريق وكيع، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: الفرائض لا تعول.
وأخرجه الدارمي 2/ 399 من طريق سفيان عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: " الفرائض من ستة لا نعيلها ". وانظر " المغني " 6/ 184 لابن قدامة المقدسي.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ج) و (د): وورد.(4/114)
كقوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: 32 - 35].
وقال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56].
وقال: {فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 52 - 53].
وقال تعالى (1): {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60].
فالعالم يتأسَّى برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويتَّعِظُ بمواعظ الله ولا يكبُرُ عليه إعراضُ المعرضين (2)، ولا يطمع في هداية المعاندين المتمردين إلاَّ من شاء اللهُ ربُّ العالمين.
وانظر كيف حكى الله تعالى إصرارهم على المجاحدة يوم القيامة بما
__________
(1) " وقال تعالى " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): " المعترضين "، وهو خطأ.(4/115)
لا يمكن لمتأوله تأويله، وذلك قولهم (1) لجوارحهم حين أنطقها الله: {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21].
فَمَنْ بَلَغَ هذا الحدِّ في العناد واللَّجاج، كيف يطمعُ السُّنيُّ أو الجَدَليُّ أن يهديه ويُفحِمَه ويُقرِّره بالحق، وقد قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [الروم: 53] وقال تعالى: {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60].
ولهذا وعد الله بالفصل بين المختلفين يوم القيامة، وسمَّاه يوم الفصل، والمتكلم المغفل يحاول أن يكون الفصل بين الخلق على يديه، وأن يجعل يوم الفصل على زعمه، وأن يُشغل نفسه والمسلمين في غير فائدة، بل ربما ورد السمع بأن فيه مضرة، والحكيم الخبير قد أنبأنا عن عناد كثيرٍ من الخلق بل أكثرهم بما لم نكُن نعرفه لولا تعريفه.
فقال سبحانه: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
__________
(1) في (ب): كقولهم.(4/116)
بل قال تعالى في حق أهل النار بعد مشاهدتها يوم القيامة: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]، وقد تأوَّلها بعض المعتزلة بما أفاد من جهله بالعقل والسمع ما لم يكن يظنه لولا تأويله، وكم من جاهلٍ في كشف ما ستره الله من مساوئه، نسأل الله الستر والعافية.
فالحكمة أن يُوكَلَ الخلقُ إلى خالقهم العالم بسرائرهم، القادر على تصريفهم الذي جعل نفوذ مشيئته فيهم أعظم من قيام القيامة، ومشاهدة كل آيةٍ، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111].
وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13].
وقال (1): {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
وقال في الوجه في ترك هداية بعض من تركه، وبيان حكمته في ذلك: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوجه في ترك هداية بعضهم: " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون، فيستغفرون فيُغفرُ لهم " (2).
__________
(1) " وقال " ساقطة من (ب) و (ش) و (د).
(2) أخرجه مسلم (2749)، وأحمد 2/ 304 و309، والترمذي (2526)، والحاكم 4/ 246، والبغوي (1294) و (1295) من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 3/ 238 من حديث أنس، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 10/ 215 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، ورجاله ثقات.
وأخرجه مسلم (2748) من حديث أبي أيوب الأنصاري. =(4/117)
وقال الله تعالى في حكمته في كثيرٍ منهم أو في نحوها مُخاطباً للملائكة عليهم السلام: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
وقال تعالى في إقامة الحجة عليهم بخلق العقول، وبعثة الرسل: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17]، وقال: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8]، وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
فبهذه (1) الآيات وأمثالها يعرف السُّنيُّ ما يأتي وما يذرُ، ويستغني عن علم الكلام، ودقيق النظر، وقد ظهر الآن للمعترض رجوع فيهقتِه (2) عليه، وخروج الحق من يديه، حيث قال في ترك علم (3) الكلام: إنه مكيدة للدين، لا والله ما كاد الدين من احتجَّ بالقرآن، وعقل ما فيه من البُرهان، واقتدى برسول الله عليه أفضل الصلاة والتسليم الذي أقسم أصدق القائلين إنه على صراطٍ مستقيم، ولو كان ذلك يا بطَّال (4) مكيدة للدين، لكان سيد المرسلين أول من كاد الدين (5)، وكذلك جميع الصحابة والتابعين، وهذا آخر ما أردت الإشارة إليه من جُمَلِ عقائد المحدثين، وهم الطائفة الأولى.
__________
= وأخرجه البزار (3251) من حديث أبي سعيد الخدري. قال الهيثمي 10/ 215: فيه يحيى بن كثير البصري، وهو ضعيف.
(1) في (ب) و (ش): فهذه.
(2) تحرفت في (ش) و (د) إلى: فيقهته.
(3) ليست في (ب).
(4) " يا بطالُ " ليست في (ج).
(5) " الواو" ساقطة من (ش).(4/118)
الطائفة الثانية: أهل النظر في علم الكلام، والمنطق، والمعقولات وهم فرقتان: أحدهما الأشعرية، وكُتُبُهُم مشهورةٌ في ديار الشيعة، وقد نقلتُ جُلَّ كلامهم في مسألة أفعال العباد، والأطفال، وتكليف ما لا يُطاق، والإرادة، ونفي الداعي (1) عن أفعال الله تعالى، وفي التحسين (2) والتقبيح، وهذا جُلُّ ما يُخالفون فيه.
الفرقة الثانية من المتكلمين منهم الأثرية كابن تيمية (3) وأصحابه، فهؤلاء من أهل الحديث لا يُخالفونهم إلاَّ في استحسان الخوض في الكلام، وفي التجاسُر على بعض العبارات (4)، وفيما تفرَّدُوا به من الخوض في الدقائق (5) الخفيات، والمحدِّثون ينكرون ذلك عليهم؛ لأنه ربما أدى ذلك (6) إلى بدعةٍ، أو قدحٍ في سُنَّةٍ.
وأنا أُوردُ شيئاً يسيراً من كلامهم يشير (7) إلى طريقتهم في النظر، فمن أخصر ما يليقُ بهذا الموضع ألفاظٌ مُختصرةٌ من جواب مسألةٍ لشيخ الحنابلة العلاَّمة المتكلم أحمد بن تيمية الحراني، رحمه الله، وقد يعرض فيها من الألفاظ الشنيعة ما تعافه نفوسُ المؤمنين، ولكنه لا بأس بذكرها عند أهل الجدل للحاجة مع حُسن القصد كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، وكما حكى الله تعالى عن اليهود من نسبة
__________
(1) في (ش) و (ج): الدواعي.
(2) في (ج): ونفي التحسين.
(3) في (ش): منهم ابن تيمية.
(4) في (ش): الكلام.
(5) في (ش): دقائق.
(6) ساقطة من (ش).
(7) " من كلامهم يشير " ساقط من (ش).(4/119)
الولد، ونسبة الفقر إليه، تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وكما حكى (1) عن (2) النصارى من التثليث، وعن سائر طوائف الكفر حتى قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]، ثُمَّ عاملهم يوم القيامة بالعدل في إحضار الشهود والكتب والميزان.
قال الشيخ العلامة الحافظ شيخ الحديث والكلام (3) أحمد بن تيمية الحرَّاني الحنبلي في أثناء جواب المسألة المعروفة بالتدمرية (4) لورودها من تدمر ما لفظه -بعد حذف قطعة من أول كلامه للاختصار-:
ويتبيَّنُ هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين (5) -ولله المثل الأعلى (6) - وخاتمة.
أمَّا الأصلان:
فأحدهما: أن يُقال (7): القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإن كان المخاطبُ ممَّن (8) يُقِرُّ بأنَّ الله حيٌّ بحياةٍ، عليمٌ بعلم، قديرٌ بقُدرة، سميعٌ بسمعٍ، بصيرٌ ببصر، متكلمٌ بكلام، مريدٌ بإرادة، ويجعل ذلك كلَّه حقيقةً، وينازع في محبته، ورضاه، وغضبه، وكراهته، فيجعل ذلك مجازاً، ويُفسِّرُه إمَّا بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (د).
(4) يبدأ النقل فيها من ص 20 إلى ص 92.
(5) " الواو" ساقطة من (ش).
(6) " ولله المثل الأعلى " ليست في " التدمرية ".
(7) في (ش): تقول.
(8) ساقطة من (ش).(4/120)
قيل له: لا فرق بين ما نفيتَه وبين ما أثبتَّه.
فإن قلت (1): إنَّ إرادته مثلُ إرادة المخلوقين، فكذلك (2) محبتُه ورضاه وغضبُه، وهذا هو التمثيل.
وإن قلت: إرادةٌ تليقُ به.
قيل له: وكذلك له محبةٌ، ورضاً، وغضبٌ يليق به.
فإن قال: الغضب غليانُ دم القلب لطلب الانتقام.
قيل له: والإرادة ميل (3) النفس إلى جلب منفعة، أو دفع مضرَّةٍ.
فإن قلت: هذه إرادةُ المخلوق.
قيل لك: وهذا غضب المخلوق، وكذلك يلزم بالقول (4) في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقُدرته.
فإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلاَّ ما يختصُّ بالمخلوقين، فيجب نفيُه عنه.
قيل له: وهكذا السمع، والبصر، والكلام، والعلم، والقدرة.
فإن قال (5): تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل، [الحادث] دلَّ على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دلَّ على العلم، وهذه الصفات مُستلزمة للحياة، والحيُّ لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضدِّ ذلك.
__________
(1) في (ش): قيل.
(2) في (ب): وكذلك.
(3) في (د): ميلان.
(4) في المطبوع من " التدمرية ": القول.
(5) في (ش): قيل.(4/121)
قال له سائر أهل (1) الإثبات لك جوابان:
أحدهما: أن يُقال: عدم الدليل [المعين] لا يستلزِمُ عدم المدلول المعين، فهب (2) أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يُثبته، فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل، لأن النافي عليه الدليلُ كالمثبت، والسمع قد دلَّ عليه، ولم يعارض ذلك معارِضٌ عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض.
الثاني: أن يُقال: يُمكنُ إثبات هذه الصفات: بنظير ما أثبت به (3) تلك من العقليات -إلى قوله-: وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات (4)، ويُقِرُّ بالأسماء كالمعتزلي الذي يقولُ: إنه حيٌّ عليمٌ قديرٌ، وينكر أن يتَّصف بالحياة والعلم والقدرة (5)
قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء، وإثبات الصفات، فإنَّك إن قلت: إثبات الحياة، والعلم، والقدرة (6) يقتضي تشبيهاً أو تجسيماً لأنَّا لا نجدُ في الشاهد مُتَّصفاً بالصفات إلاَّ ما هو جسمٌ.
قيل لك: ولا نجد في الشاهد ما هو مسمى: حيٌّ عليم قديرٌ إلاَّ ما هو جسمٌ، فإن نفيت ما نفيت لكونك (7) لم تجده في الشاهد إلاَّ لجسمٍ فانفِ الأسماء، بل وكُلَّ شيءٍ، لأنك لا تجدُه في الشاهد إلاَّ لجسمٍ (8)،
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في المطبوع من " التدمرية ": فثبت.
(3) ساقطة من (د).
(4) من قوله: " بنظير " إلى هنا ساقط من (ب).
(5) في (ش): والقدرة والعلم.
(6) من قوله: " قيل له " إلى هنا ساقط من (ب).
(7) تحرفت في (ب) إلى: " لك وبك "، وفي (د): إلاَّ لكونك.
(8) في (ش): " الجسم "، وفي المطبوع من التدمرية: " للجسم ".(4/122)
فكل ما يحتج به من نفي الصفات، يحتجُّ به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً (1) لذلك، كان جواباً لهذا.
أقول: للمعتزلة كلام في الفرق بين المعاني التي تحتاج إلى محل كالقدرة والعلم، وبين الصفات كالعالم والقادر، وقد نازعهم الرازي في صحة التفرقة بكلامٍ طويلٍ ليس هذا موضع ذكره، وذكر جوابه وتنقيح القوي، وأمَّا ابنُ تيمية فإنما أراد أن يردَّ على من ألزمه التشبيه بإثبات الصفات بالنظر إلى هذا الإلزام من هذا الوجه فقط، ولم يتعرض لسائر أدلة المعتزلة، والله أعلم.
قال ابن تيمية: وإن كان المخاطب من الغُلاة نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول: هو موجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي (2) مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود، ولا حي، ولا عليم، ولا قدير كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
فإن قال: أنا (3) أنفي النفيَ والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنَّه يمتنع أن يكون الشيءُ موجوداً معدوماً (4)، أو لا موجوداً، و (5) لا معدوماً.
__________
(1) في (ش): جوابنا.
(2) في " التدمرية ": إذ هي.
(3) في (ش): إنِّي.
(4) في (ش): ومعدوماً.
(5) في (أ) و (ب): أو.(4/123)
فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما، وهذان يتقابلان تقابل العدم والمَلَكَةِ لا تقابُلَ السلب والإيجاب، فإنَّ الجدار لا يُقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذْ ليس بقابلٍ لهما.
قيل لك: أولاً: هذا لا يصح في العدم والوجود، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب باتفاق العقلاء فيلزم (1) من رفع أحدهما ثبوت الآخر، وأمَّا ما ذكرته من الحياة، والموت، والعلم، والجهل، فهذا اصطلاحٌ اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون، والاصطلاحاتُ اللفظية ليست دليلاً على الحقائق العقلية، وقد قال الله (2) تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، فسمى الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.
وقيل لك ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف (3) بالحياة والموت، والعمى والبصر ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبلُ الاتصاف (4) بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت (5) من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات (6) التي لا تقبل ذلك.
وأيضاً فما لا يقبَلُ الوجود والعدمَ أعظمُ امتناعاً من القابل لهما، ومن
__________
(1) في (ش): فلزم.
(2) ساقطة من (د).
(3) تصحفت في (ب) إلى: الإنصاف.
(4) تصحفت في (ب) إلى: الإنصاف.
(5) تحرفت في (ب) إلى: قدرت.
(6) في (أ): الجامدات.(4/124)
اجتماعهما ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبولهما، كان أعظم امتناعاً مما نفيتهما، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول، كان هذا أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل (1) العدم، هو أعظم الممتنعات (2) وهذا غاية التناقض والفساد.
وقيل له أيضاً: اتفاق المسمّين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات (3)، وإنما نفت ما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق فما (4) يختصُّ بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يشركه فيه مخلوق، ولا يجوز أن يَشْرَكَهُ (5) مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وأما ما نفيته، فهو ثابتٌ بالعقل والشرع، وتسميتك ذلك تشبيهاً وتجسيماً تمويه على الجهَّال الذين يظنون أن كل معنى سماه مُسمٍّ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو شاع هذا لكان كل مُبطلٍ يسمي (6) الحق بأسماءٍ ينفر عنها بعض الناس ليكذب الناسُ بالحق المعلوم بالسمع والعقل، وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقلهم ودينهم، حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغيِّ والضلالة.
وإن قال نُفاةُ الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيبٌ ممتنعٌ.
__________
(1) من قوله: " ذلك وأيضاً " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): من الممتنعات.
(3) في (ش): السمعية والعقلية.
(4) في "التدمرية": فيما.
(5) " فيه مخلوق ولا يجوز أن يشركه " ساقطة من (ب).
(6) في (ش): سمى.(4/125)
قيل: وإذا قلتم: هو موجودٌ واجب، وعقل وعاقل ومعقول، فليس (1) المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا.
فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل، وهذا تركيب عندكم، وأنتم تُثبتونه وتسمونه توحيداً.
فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة، وليس هذا تركيباً ممتنعاً.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيدٌ في الحقيقة، وليس هذا (2) تركيباً ممتنعاً، وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول من الصفات لا ينفي شيئاً فراراً (3) مما هو محذورٌ، إلاَّ وقد أثبت ما يلزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه، فلا بد في آخر الأمر من (4) أن يثبت موجوداً واجباً قديماً (5) مُتَّصفاً بصفاتٍ تُميِّزُهُ عن غيره، ولا يكون فيها (6) مماثلاً لخلقه.
فيقال له: هكذا القول في جميع الصفات، وكل ما تثبته من الأسماء والصفات فلا بد أن يدل على قدرٍ تتواطأُ فيه المسميات، ولولا ذلك لما فُهِمَ الخطاب، ولكن يُعلم أن ما اختص الله به، وامتاز به عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال، ويدور في الخيال. وهذا يتبين (7).
الأصل الثاني: وهو أن يقال: القول في الصفات كالقول في
__________
(1) في " التدمرية ": أفليس.
(2) في " التدمرية ": هو.
(3) ساقطة من (ب).
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): وقديماً.
(6) تحرفت في (ش) إلى: فيهما.
(7) تصحفت في (ب) إلى: تبيين.(4/126)
الذات، فإنَّ الله ليس كمثله شيءٌ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فإذا كان له ذاتٌ حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات (1) متصفة بصفاتٍ حقيقةً لا تُماثِلُ صفات سائر الذوات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
قيل له: كما قال ربيعةُ ومالك وغيرهما (2): الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عن الكيفية بدعة (3)، لأنه سؤالٌ عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟
قيل له: كيف هو؟
فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته.
قيل له: ونحن لا نعلم كيفية نزوله إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابعٌ له، فكيف تُطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه واستوائه ونزوله، وأنت لا تعلم كيفية ذاته، وإذا كنت تُقِرُّ بأن له ذاتاً (4) حقيقة ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ب).
(3) ذكره من قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن -أستاذ مالك بن أنس- البيهقيُّ في " الأسماء والصفات " ص 408.
وأورده من قول الإمام مالك: اللالكائي 3/ 398، وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 325، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 33 والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 408، وابن حجر في " الفتح " 13/ 406، وجوَّد ابن حجر أحدَ أسانيده.
وأورده من قول أم سلمة. اللالكائي 3/ 397، وفي سنده محمد بن أشرس السلمي وهو متهم في الحديث، تركه غير واحد.
(4) ساقطة من المطبوع من " التدمرية ".(4/127)
الكمال لا يُماثِلُها شيءٌ، فسمعُه وبصرُه وكلامُه ونزوله واستواؤه هو ثابت في نفس الأمر، وهو مُتصف بصفات الكمال التي لا يُشابهُهُ فيها سمع المخلوقين، وبصرهم وكلامهم ونزولهم واستواؤهم، وهذا الكلام لازم لهم في العقليات، وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً، ونفى شيئاً بالعقل، إذاً أُلزم (1)، فيما نفاه من الصفات (2) التي جاء بها الكتابُ والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته ولو (3) طُولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا، لم يجد بينهما فرقاً، ولهذا لا يوجد (4) لنُفاة بعض الصفات دون بعض الذين يُوجبون فيما نَفَوه إمَّا التفويض وإمَّا التأويل المخالف لمقتضى اللفظ قانونٌ مستقيم.
فإذا قيل لهم: لم تأوَّلتم هذا وأقررتم هذا والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جوابٌ صحيح، فهذا تناقضُهم في النفي، وكذلك تناقضُهم في الإثبات، فإن (5) من تأوَّل النصوص على معنىً من المعاني التي يثبتها، فإنهم إذا صرفوا النص من المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر لزمهم في المعنى المصروفِ إليه ما كان يلزَمُهم في المعنى المصروف عنه.
فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه، وغضبه وسخطه هو إرادتُه للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظيرُ ما يلزَمُه في الحُبِّ والمَقْتِ، والرِّضا والسخط.
__________
(1) في (ب): " لزم " وهو خطأ.
(2) ساقطة من (ش).
(3) " لو" ساقطة من الأصول، واستدركت من المطبوع من " الرسالة التدمرية " ص 30.
(4) " لا يوجد " ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (ش).(4/128)
ولو فسر ذلك بمفعولاته، وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزَمُه في ذلك نظيرُ ما فَرَّ منه. فإنَّ الفعل المعقول (1) لا بُدَّ أن تقوم أولاً بالفاعل، والثوابُ والعقاب المعقول (2) إنما يكون على فعل ما يُحبُّه ويرضاه، ويَسْخَطُه ويَبْغَضُه المثيب المعاقِبُ فهُم إن أثبتوا الفعل (3) على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد، مثَّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك فكذلك الصفات.
وأمَّا المثلان المضروبان -إلى قوله في المثل الأول-: وهو دارُ الآخرة، وما اشتملت عليه مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر (4)، والله سبحانه لا تُضربُ له الأمثال التي فيها مُماثلةٌ لخلقه، فإن الله لا مِثْلَ (5) له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك (6) هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في (7) قياس شمولٍ يستوي أفراده، ولكن يُستعملُ في حقِّه المثل الأعلى وهو أن كل ما اتصف
__________
(1) في (ش): المفعول، وسقطت من المطبوع من التدمرية.
(2) في المطبوع من " التدمرية ": المفعول.
(3) ساقطة من الأصول، وأثبتت من " الرسالة التدمرية " ص 31.
(4) أخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (3244) و (4779) و (4780) و (8498)، ومسلم (2824)، وأحمد 2/ 312 - 313 و369 - 370 و407 و416 و438 و462 و466 و495 و506، والترمذي (3197) و (3292)، وابن ماجة (4328)، والدارمي 2/ 728 و731. ولفظ البخاري: " قال الله: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، فاقرؤوا إن شئتم {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ".
وأخرجه من حديث المغيرة بن شعبة: مسلم (189).
وأخرجه من حديث سهل بن سعد الساعدي: مسلم (2825)، وأحمد 5/ 334.
(5) في المطبوع من " التدمرية ": مثيل.
(6) في المطبوع: يشرك.
(7) " في " ساقطة من (ش).(4/129)
به المخلوق (1) من كمالٍ فالخالق أولى به، وكل ما يُنَزَّهُ عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه (2) عنه.
فإذا كان المخلوق (3) مُنَزَّهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أولى أن يُنَزَّه عن مماثلة المخلوق، وإن حصلت موافقةٌ في الاسم، وهكذا نقول في المثل الثاني، وهو الروحُ التي فينا، فإنها قد وُصِفَتْ بصفاتٍ ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوصُ أنها تعرُجُ من سماءٍ إلى سماءٍ، وأنها تُقْبَضُ من البدن، وتُسَلُّ منه (4) كما تُسَلُّ الشعرة من العجين، والناس مضطربون فيها:
فمنهم طوائف من أهل الكلام (5) يجعلونها جُزءاً من البدن، أو (6) صفةً من صفاته كقول بعضهم: إنَّها النفس أو الريح الذي يتردَّدُ (7) في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة، أو المِزَاجُ، أو نفس البدن (8).
وفيهم (9) طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، فيقولون: لا هي داخل (10) البدن، ولا مباينةٌ له، ولا
__________
(1) تحرفت في (د) إلى: المخلوقين.
(2) في (ش): بالتنزه.
(3) من قوله: " من كمال " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) ساقطة من (ش).
(5) تحرفت في (ب) إلى: الكتاب.
(6) في (ش): و.
(7) في " المطبوع ": " التي تردد "، والريح مؤنثة على الأكثر، وقد تذكر على معنى الهواء، فيُقال: هو الريح، وهبَّ الريحُ، نقله أبو زيد، كما في " المصباح المنير ".
(8) ساقطة من (ش).
(9) في المطبوع: ومنهم.
(10) في المطبوع: داخلة في البدن ولا خارجة.(4/130)
مداخلةٌ، ولا متحركة، ولا ساكنة، ولا تصعد، ولا تهبِطُ، ولا هي جِسمٌ ولا عَرَضٌ.
وقد يقولون: إنَّها لا تُدرِكُ الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنَّما تدرك الأمور الكلية المطلقة.
وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له (1)، ولا مداخلة له (2)، وربما قالوا: ليست داخلةً في أجسام العالم ولا خارجةً عنها مع تفسيرهم للجسم بما يقبلُ الإشارة الحسِّيَّة، فيصفونها بأنه (3) لا يمكنُ الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع.
وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنعٌ في ضرورة العقل.
قالوا: بل هذا ممكنٌ بدليل أن الكليات موجودة، وهي غير مشار إليها، وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلاَّ في الأذهان لا في الأعيان فيعتمدون في ما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال (4) الذي لا يخفى فسادُه على غالب الجهال (5).
واضطرابُ النفاة والمثبتة في الروح كثيرٌ، وسببُ ذلك أن الروح التي تُسمَّى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هي من جنس هذا البدن، ولا
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) في المطبوع: بأنها.
(4) في الأصول: " الحال "، والمثبت من المطبوع.
(5) في (ش): " الجُهُّل ". قلت: وفي " القاموس ": جُهْل، وجُهُل، وجُهَّل، جمع جاهل.(4/131)
من جنس العناصر والمُوَلَّدات (1) منها (2)، بل هي (3) من جنسٍ آخر مخالفٍ لهذه الأجناس (4)، فصار هؤلاء لا يُعرِّفونها إلاَّ بالسَّلُوب التي (5) لا يوجبُ مخالفتها للأجسام المشهودة، وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة وكلا القولين خطأ، وإطلاق القول عليها بأنها جِسْمٌ أو ليست بجسم يحتاجُ إلى تفصيلٍ، فإنَّ لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غيرُ معناه اللغوي، فأهل اللغة يقولون: الجسمُ: هو الجسدُ والبَدَنُ (6)، وبهذا الاعتبار فالرُوح ليس جسماً، ولهذا يقُولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4]، وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ و َالْجِسْمِ} [البقرة: 247].
وأما أهلُ الكلام فمنهم من يقولُ: الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المُرَكَّبُ من المادة والصورة، وكل (7) هؤلاء يقولون: إنَّه مشارٌ إليه إشارةً حسيةً.
ومنهم من يقول: ليس بمركبٍ لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه، ويقال: إنه هنا أو هناك، فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه (8) ويتبعُهُ بصرُ الميت، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الروح إذا خَرَجَ تَبِعَه
__________
(1) في (ش): المولودات.
(2) ساقطة من (د).
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).
(5) في الأصول: " الذي "، والمثبت من المطبوع.
(6) من قوله: " يحتاج إلى تفصيل " إلى هنا ساقط من (ش).
(7) " الواو" ساقطة من (ش).
(8) من قوله: " ويقال إنه " إلى هنا ساقط من (ب).(4/132)
البَصَرُ" (1) وأنها تُقْبَضُ ويُعرَجُ بها إلى السماء (2)، كانت الروحُ جسما بهذا الاصطلاح.
والمقصود أنَّ الروح إذا (3) كانت موجودة (4) حية عالمة قادرة سميعة بصيرة تصعد وتنزِلُ، وتذهب وتجيءُ ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تُدْرَكُ حقيقتُه إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح مُتَّصفةً بهذه الصفات مع مُماثلتها لما يُشاهد من المخلوقات، فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقُّه من أسمائه وصفاته، وأهلُ العقول أعجزُ عن أن يحدوه أو يُكيفوه منهم عن أن يحُدُّوا الروح أو يكيفوه (5)، فإذا كان من نفي صفات الروح جاحداً مُعَطِّلاً لها، ومن مثَّلها بما يُشاهدُهُ من المخلوقات جاحداً لها، ممثلاً لها بغير شكلها وهي مع ذلك ثابتةٌ بحقيقة الإثبات (6) مستحقةٌ لما لها من الصفات، فالخالق سبحانه وتعالى أولى أن يكون من نفي صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به (7) ممثلاً، وهو سبحانه ثابتٌ بحقيقة الإثبات مستحقٌّ لما له من الأسماء والصفات.
__________
(1) أخرجه مسلم (920)، وابن ماجة (1454)، والبغوي (1468) من حديث أم سلمة، بلفظ: " إن الروح إذا قُبِضَ تَبِعَه البَصَرُ ".
(2) قطعة من حديث مُطوَّل صحيح عند أبي داود (4753)، وأحمد 4/ 287 - 288 و295 - 296 من حديث البراء بن عازب، وصححه الحاكم 1/ 37 - 40، وأقرَّه الذهبي.
(3) في (ش): إن.
(4) ساقطة من (د).
(5) من قوله: " منهم " إلى هنا ساقط من (ج).
(6) من قوله: " فإذا كانت الروح " إلى هنا ساقط من (ب) و (ش) و (د).
(7) " به " ساقطة من (د).(4/133)
فصلٌ: وأمَّا الخاتمة الجامعة ففيها قواعد نافعة.
القاعدة الأولى: إن الله سبحانه موصوفٌ بالإثبات والنفي، فالإثبات كإخباره سبحانه أنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميعٌ بصير ونحو ذلك.
والنفي كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وينبغي أن يُعلم أن النفي ليس فيه مدحٌ ولا كمال إلاَّ إذا تضمَّن إثباتاً؛ لأن النفي المحض عدمٌ محضٌ (1)، والعدم المحض ليس بشيءٍ، وما ليس بشيء هو (2) كما قيل: ليس بشيء فضلاً عن أن يكون مدحاً وكمالاً (3)، ولأنَّ النفي المحض يُوصَفُ به المعدوم والممتنع، وهما لا يُوصفان بمدحٍ ولا كمالٍ، فلهذا كان عامة ما وصف الله به نفسه من النفي متضمناً لإثبات مدحٍ كقوله: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، فإنه يتضمن كمال الحياة والقيام، وقوله: {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255]، فإنه مستلزم لكمال قُدرته وقوله: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3] مستلزم لعلمه بكل ذرة، وقوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] (4) مستلزمٌ كمال القدرة ونهاية القوة، وقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]، نفى الإدراك الذي هو الإحاطة كما قال أكثر العلماء، ولم ينف مجرد الرؤية؛ لأن المعدوم لا يرى، وليس في كونه لا يرى مدحٌ، وإلا لكان المعدوم ممدوحاً، وإنما المدح
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش) مكان: "وما ليس بشيء هو": "فهو".
(3) في المطبوع: أو كمالاً.
(4) من قوله: " مستلزم لكمال " إلى هنا ساقط من (ب).(4/134)
في كونه لا يُحاط به وإن رُئي (1)، كما أنه لا يُحاط به، وإن عُلمَ، فكما أنه إذا عُلِمَ لا يحاط به علماً، فكذلك إذا رُئيَ لا يُحاطُ به رؤيةً، فكان في نفي الإدراك من إثبات عظمته ما يكون مدحاً وصفه كمال.
وإذا تأملت، وجدت كل نفي لا يستلزم ثبوتاً هو مما لم يَصِفِ (2) الله به نفسه، فالذين لا يصفونه إلاَّ بالسُّلوب، لم يُثبتوا في الحقيقة إلهاً محموداً، بل ولا موجوداً، وكذلك من شاركهم في بعض ذلك كالذين قالوا: إنَّه لا يتكلمُ و (3) لا يرى، أو ليس فوق العالم، أو لم يستو على العرش، ويقولون: ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا مباينٍ للعالم، ولا محايثٍ (4) له إذ هذه الصفات يمكن أن يوصَفَ بها المعدوم، وليست هي مُستلزمةً صفة ثبوت.
ولهذا قيل لمن ادَّعى ذلك في الخالق: ميِّز لنا بين هذا الرب الذي تُثبتُه، وبين المعدوم.
وكذلك كونه لا يتكلم ليس فيه صفةُ مدحٍ ولا كمال، بل هذه الصفات فيها تشبيهٌ له بالمنقوصات أو المعدومات، فهذه الصفات منها ما لا يتَّصفُ به إلاَّ المعدوم، ومنها ما لا يتصف به إلاَّ الجماد أو الناقصُ، فمن قال: لا هو مباينٌ للعالم ولا مداخلٌ له، فهو بمنزلة من قال: لا هو قائمٌ بنفسِهِ ولا بغيره، ولا قديمٌ ولا مُحْدَثٌ، ولا متقدمٌ على العالم ولا مقارنٌ له، ومن قال: إنَّهُ ليس بحيٍّ ولا سميع، ولا بصيرٍ، ولا
__________
(1) " وإن رئي " ساقط من (ش).
(2) في (ش): يوصف.
(3) في " التدمرية ": أو.
(4) في (ش): مجانب.(4/135)
متكلمٍ، لزمه أن يوصف بنقائضها من الموت والصَّمم والعمى والبكم.
فإن قال: العمى عدم البصر عمَّا (1) شأنُه أن يقبل البصر، وما لم يَقبَلِ البصر كالحائط لا يُقالُ له: أعمى ولا بصير.
قيل له: هذا اصطلاحٌ اصطلحتموه، وإلا فما يوصف بعدم الحياة والسمع والبصر والكلام يمكن وصفه بالموت والعمى والخرس والعُجمة، قال الله تعالى في صفة الأصنام: {أمواتٌ غيرُ أحياءٍ} [النحل: 21].
وأيضاً فكلُّ موجود يقبلُ الاتصاف بهذه الأمور ونقائِضها، فإن الله قادر على جعل الجماد حيّاً كما جعل عصا موسى حيَّةً ابتلعت الحبال والعِصِيَّ.
وأيضاً فالذي لا يقبل الاتصاف بهذه الصفات أعظم نقصاً ممَّا يقبل الاتصاف بها مع اتصافه بنقائضها، فالجماد (2) الذي لا يوصفُ بالبصر، ولا العمى، ولا الكلام، ولا الخرس أعظم نقصاً من الحيِّ الأعمى الأخرس.
فإذا (3) قيل: إنَّ الباري لا يمكن اتصافه بذلك لأجل هذه العلة، كان في (4) ذلك من وصفه بالنقص أعظم مما إذا وُصِفَ بالخرس والعمى
__________
(1) في (ش): عما من.
(2) في (ش): والجماد.
(3) في (ش): فإن.
(4) ساقطة من (ش).(4/136)
والصمم، ونحو ذلك، مع أنه إذا جُعِلَ غير قابل لهما كان تشبيهاً له بالجماد الذي لا يقبلُ الاتصاف بواحدٍ منها، فكيف يُنكِرُ من قال بذلك على غيره ما يزعم أنه تشبيهٌ بالحي، وليس بتشبيهٍ (1).
وأيضاً فنفسُ نفي هذه الصفات نقصٌ، كما أنَّ إثباتها كمالٌ، فالحياة من حيث هي هي مع قطع النظرعن تعيين الموصوف بها صفةَ كمالٍ.
وكذلك العلمُ، والقدرةُ، والسمع، والبصر، والكلام، والفعل ونحو ذلك، وما كان صفة كمالٍ فهو سبحانه وتعالى أحقُّ أن يتَّصف به من المخلوقات، فلو لم يتَّصِف به مع اتصاف المخلوق به لكان المخلوق أكمل، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً.
واعلم أن الجهميَّة المحضة كالقرامطة، ومن ضاهاهم ينفُون عنه تعالى اتصافه بالنقيضين حتى يقولوا: ليس بموجود، ولا ليس بموجود، ومعلومٌ أن الخلو عن النقيضين ممتنع في بدائه العقول كالجمع بين النقيضين.
وآخرون وصفوه بالنفي فقط، فقالوا: ليسَ بحيِّ، ولا سميع، ولا بصير، وهؤلاء أعظمُ كفراً من أولئك من وجه، وأولئك أعظمُ كفراً من هؤلاء من وجه.
فإذا قيل لهؤلاء: هذا يستلزم وصفه بنقيض ذلك كالموت، والصَّمَمِ، والبَكَمِ، قالوا: إنَّما يلزم ذلك لو كان قابلاً لذلك، وهذا الاعتذار يزيد قولهم فساداً.
__________
(1) عبارة " التدمرية ": فكيف من قال ذلك على غيره مما يزعم أنه تشبيه بالحي.(4/137)
وكذلك من ضاهي هؤلاء، وهم الذين يقولون ليس بداخل العالم ولا بخارجه. إذا قيل لهم: هذا ممتنعٌ في ضرورة العقل، كما إذا قيل: ليس بقديمٍ، ولا محدثٍ، ولا واجب، ولا ممكن، ولا قائم بنفسه، ولا قائم بغيره، قالوا: هذا إذا كان قابلاً لذلك، والقبول إنَّما يكونُ من المتحيز، فإذا انتفى التحيُّزُ (1) انتفى قبول هذين المتناقضين.
فيقال لهم: علمُ الخلق بامتناع هذين النقيضين، هو علمٌ مطلقٌ لا يُستثنى منه (2) موجود، والتحيز المذكور إن أريد به (3) كونُ الأحياز الموجودة محيطةً به، فهذا هو الداخل في العالم، وإن أريد به أنه منحاز عن المخلوقات أي مباين لها متميزٌ عنها، فهذا هو الخروج، فالمتحيز يراد به تارةً ما هو داخل العالم، وتارةً ما هو خارجه، فإذا قيل: ليس بمتحيزٍ، كان معناه ليس بداخل العالم ولا خارجه، فهم غيَّروا العبارة، فيتوهم من لا يفهم حقيقة قولهم أنَّ هذا معنىً آخر، وهو المعنى الذي عُلِمَ فسادُه بضرورة العقل، كما فعل أولئك في قولهم: ليس بحيٍّ، ولا ميت، ولا موجود، ولا معدوم، ولا عالم، ولا جاهل.
القاعدة الثانية: أن ما أخبر به الرسول عن ربِّه فإنَّه يجب الإيمان به، سواء عَرَفنا معناه أو لم نعرف، فما جاء في الكتاب والسنة، وجب الإيمانُ به، وكذلك ما ثبت باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وما تنازع فيه المتأخرون فليس على أحد، بل ولا له أن يُوافِقَ على إثبات لفظٍ أو (4) نفيه حتى يعرِفَ مراده، فإن أرادَ حقّاً قُبِلَ، وإن أراد باطلاً رُدَّ، وإن اشتمل
__________
(1) في (ش) و (د): المتحيز.
(2) في (ش): شيء.
(3) " به " ليست في الأصول، وهي من " التدمرية ".
(4) في (ش): و.(4/138)
كلامه على حق وباطل لم يُقبل مطلقاً، ولم يُرَدَّ جميع معناه، بل يوقف اللفظ، ويُفسَّرُ المعنى كما تنازع الناس في الجهة، والتحيز، ونحو ذلك إلى آخر كلامه في نفي حاجة الله سبحانه إلى الجهة المخلوقة، والمنع من ذلك ومن تحيزه في مخلوقاته سبحانه وتعالى.
القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مرادٌ أو ليس بمراد.
فإنه يقالُ له: لفظ الظاهر فيه إجمالٌ واشتراكٌ، فإن كان القائل يعتقدُ أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أنَّ هذا غيرُ (1) مراد، ولكنَّ السلف والأئمة لم يكونوا يُسَمُّون هذا ظاهرها (2)، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله أحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلاَّ ما هو كفرٌ أو ضلال (3)، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون (4) من وجهين:
تارةً يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويلٍ يُخالِفُ الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارةً يرُدُّون المعنى الحق الذي هو ظاهرُ اللفظ، لاعتقادهم أنه باطل، فالأول كما قالوا: في قوله: " عبدي جعتُ فَلَمْ تُطعِمْني " (5)، وفي الأثر الآخر "الحجرُ الأسودُ يمينُ الله في الأرض، فمَنْ صافَحَه
__________
(1) " غير" ساقطة من (ش).
(2) في (ش): ظاهراً.
(3) في (أ) و (ب) و (ش): " وإضلال "، والمثبت من (د) و" التدمرية ".
(4) في (ب): " يعطلون " وهو خطأ.
(5) أخرجه مسلم (2569) من حديث أبي هريرة.(4/139)
وقبَّلَه، فكأنَّما صافَحَ الله وقبَّل يمينه" (1)، وقوله: " قلوبُ العبادِ بَيْنَ أُصبَعَينِ من أصابعِ الرحمنِ " (2).
فقالوا: قد عُلِمَ أنه ليس في قلوبنا أصابع الحق.
فيقال لهم: لو أعطيتُم النصوص حقَّها من الدلالة لعلمتُم أنها لم تدُلَّ إلاَّ على حق، فقوله: " الحجر الأسود يمينُ الله في الأرض، فمن صافحه وقبَّله، فكأنَّما صافحَ الله وقبَّل يمينه " صريحٌ في أن الحجر ليس هو صفةً (3) لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال: " يمينُ الله في الأرضِ "، وقال: " فمن قبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه " (4)، ومعلوم أن المشبَّه ليس هو المشبَّه به، ففي نفس الحديث بيان أنَّ مُستَلِمَه ليس مصافحاً لله، وأنه لي هو (5) هذا الحديث إنما يعرف عن ابن
__________
(1) أخرجه الحاكم 1/ 457 والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 333 من حديث عبد الله بن عمرو، بلفظ: " يأتي الركن يوم القيامة أعظم من أبي قبيس، له لسان وشفتان يتكلم عمَّن استلمه بالنية وهو يمين الله التي يصافح بها خلقه " وفيه عبد الله بن المؤمل وقد ضعفوه.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 3/ 242 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عبد الله بن المؤمل، وثقه ابن حبان وقال يخطىء وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 6/ 328 من حديث جابر، وفي سنده إسحاق بن بشر الكاهلي كذبه غير واحد، وقال ابن الجوزي: لا يصح.
(2) أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو: أحمد 2/ 168 و173، ومسلم (2654)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 340.
وأخرجه من حديث أم سلمة: أحمد 6/ 302 و315، والترمذي (3522).
وأخرجه من حديث النواس بن سمعان: ابن ماجة (199)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 341.
وأخرجه أحمد 6/ 251 من حديث عائشة، والترمذي (2140) من حديث أنس، والحاكم 2/ 288 - 289 من حديث جابر.
(3) " هو صفة " ساقط من (ب).
(4) من قوله: " صريح في " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) ساقطة من (ش).(4/140)
عباس، يعني موقوفاً عليه (1) لم يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأمَّا الحديث الآخرُ فهو في الصحيح مُفَسَّراً بقول الله: " عبدي جُعْتُ فلم تُطعمني، فيقول: ربِّ كيف أُطعمُك وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمتَ أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمتَه لوجدتَ ذلك عندي، عبدي مَرِضْتُ فلم تَعُدْني، فيقول: ربِّ كيف أعودُك، وأنت ربُّ العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فُلاناً مَرِضَ، فلو عُدْتَه لوجدتني عندَه "، وهذا صريحٌ في أنَّ الله تعالى لم يمرض، ولم يجُع، ولكن مَرِضَ عبدُه (2) وجاع، فجعل جوعَه جوعَه، ومرضَه مرضَه مُفَسِّراً لذلك، بأنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عُدْتَه لوجدتني عنده، فلم يبقَ في الحديث لفظٌ يحتاجُ إلى تأويل (3). انتهى (4).
وأما قوله: " قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن " فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصبع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه، ولا في قول القائل: هذا بين يدي، ما يقتضي مباشرتُه ليديه، وإذا قيل: السحاب المسخَّرُ بين السماء والأرض لم يقتضِ أن يكونَ مماسّاً للسماء والأرض، ونظائرُ هذا كثيرةٌ.
__________
(1) رواه عبد الرزاق في " مصنفه " (8919) موقوفاً بلفظ: " الركن -يعني الحجر- يمين الله في الأرض يصافح بها خلقه مصافحة الرجل أخاه .. "، وفي سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو متروك، وقد تابعه بنحوه ابن جريج بالعنعنة عند عبد الرزاق (8920).
(2) في (ش): عبده مرض.
(3) في (ش): التأويل.
(4) هنا زيادة في (ش) و (د) نصها: ويؤيدُ هذا أنَّ خطاب الله تعالى لعبده بهذا إنَّما يقعُ في دار الآخرة، والعلم فيها بالله تعالى، وامتناع صفات النقص عليه ضروريُّ لا يقعُ فيه شك، ولذلك ظَهَر للمخاطب أنه مسوقٌ بمعنى لطيف، فلم يكن جوابُه إلاَّ بالسؤال بكيف عن تعيين ذلك المعنى المعلوم على سبيل الإجمال، ثم اتَّصَلَ بيانه كاتصال البيان بالاستثناء والشرط.(4/141)
وممَّا يُشبِهُ هذا أن نجعلَ اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [ص: 75]، فقيل: هو مثل قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يس: 71]، فهذا ليس مثل هذا، لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي، فصار شبيهاً بقوله: {فبما كَسَبَتْ أيْدِيْكُمْ} [الشورى: 30]، وهناك أضاف الفعل إليه، فقال: {لِمَا خلقتُ} ثم قال: {بِيَدَيّ}.
وأيضاً هنا ذكرَ نفسه المقدسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله: {بَلْ يَداه مبسوطتان} [المائدة: 64]، وهناك أضاف الأيدي إلى صيغة (1) الجمع، فصار كقوله: {تَجْرِي بأَعْيُنِنا} [القمر: 14]، وهذا في الجمع نظيرُ قوله: {بِيَدِهِ المُلْكُ} [الملك: 1] و {بِيَدِكَ الخَيْرُ} [آل عمران: 26]، في المفرد، فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارةً بصيغة المفرد مُظهَراً أو (2) مُضمراً، وتارةً بصيغة الجمع كقوله: {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحَاً مُبِيناً} [الفتح: 1] وأمثال ذلك، ولا يذكُرُ نفسه بصيغةِ التثنيةِ قط، لأنَّ صيغةَ الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقُّه، ورُبَّما تدلُّ على معاني أسمائه.
وأما صيغة التثنية، فتدل على العدد المحصور، وهو مقدسٌ عن ذلك، فلو (3) قال: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي (4)، [لما] (5) كان كقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدينا} [يس: 71]، وهو نظيرُ قوله: {بيده
__________
(1) تحرف في (ش) إلى: صفة.
(2) في (ش): و.
(3) في (ج) و (ش): ولو.
(4) في (أ): يدي.
(5) ما بين الحاصرتين من " التدمرية ".(4/142)
الملك} و {بيدك الخير}، ولو قال: لما خلقت بيدي بصيغة -الإفراد- لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال: {خلقتُ بِيَديَّ} بصيغة التثنية، هذا مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة، وإجماع السلف على مثل ما دلَّ عليه القرآن، كما هو مبسوطُ في موضعه مثل قوله: " المُقْسِطُون عند الله على منابرَ من نورٍ عن يمينِ الرحمنِ -وكلتا يديه يمينٌ- الذين يعدِلُون في حُكمِهم وأهليهم وما وَلُوا " (1)، وأمثال ذلك.
وإن كان القائلُ يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها من جنسِ ظاهر النصوص المتَّفق على معناها، فالظاهرُ هو المراد في الجميع، فإن الله لما أخبر أنه بكل شيءٍ عليمٌ، وأنه على كل شيءٍ قديرٌ، واتَّفق أهلُ السنَّة، وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهره مرادٌ، كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه مثلَ علمنا، وقدرتُه كقدرتنا.
وكذلك لما اتَّفقوا على أنه حي حقيقةً، عالمٌ حقيقة (2)، قادرٌ حقيقة لم يكن مرادهم (3) إنه مثل المخلوق الذي هو حي عالم قادر.
فكذلك إذا قالوا: في قوله: {يُحبُّهُم ويُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {رَضِيَ اللهُ عنهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، وقوله: {ثُمَّ استَوَى على العرشِ} [الأعراف: 54] أنه على ظاهره لم يقتضِ ذلك أن يكونَ ظاهرُه استواء كاستواء المخلوق (4)، ولا حُبّاً كحبه،
__________
(1) أخرجه مسلم (1827)، والنسائي 8/ 221 - 222، وأحمد 2/ 159 و160 و203، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 324، والبغوي (2470) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) قوله: " عالم حقيقة " ساقط من (ش).
(3) في (ب) و (د): مراد.
(4) في (ش): المخلوقين.(4/143)
ولا رِضاً كرضاه.
فإن كان المستمعُ يظنُّ أنَّ ظاهرَ الصفات يماثلُ صفاتِ المخلوقين، لَزِمَه أن لا يكون شيءٌ من ظاهر ذلك مراداً، وإنْ كان يعتقد أنَّ ظاهرها هو ما يليق بالخالق، ويختصُّ به، لم يكن له نفيُ هذا الظاهر، ونفي أن يكون مراداً إلاَّ بدليل يدُلُّ على النفي، وليس في العقل، ولا في السمع ما ينفي هذا إلاَّ من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكونُ الكلام في الجميع واحداً.
وبيانُ هذا أن صفاتنا منها ما هو أعيانٌ وأجسامٌ، وهي أبعاضٌ لنا كالوجهِ، واليد (1)، ومنها ما هو معان وأعراض، وهي قائمة بنا كالسمع، والبصر، والعلم، والكلام، والقدرة.
ثمَّ من المعلوم أن الربَّ لما وَصَفَ نفسه بأنَّه حيٌّ، عليم، قدير لم يقل المسلمون إن ظاهر هذا غيرُ مراد، لأنَّ مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، وكذلك (2) لما وَصَفَ نفسه بأنه خلق آدم بيديه لم يُوجِبْ ذلك أن يكون ظاهرُه غير مراد، لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقِّنا (3)، بل صفةُ الموصوفِ تُناسبُه.
فإذا كانت ذاتُه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، وصفاته (4) كذاتِه ليست كصفاتِ المخلوقين، ونسبةُ صفة المخلوق إليه كنسبة (5) صفةِ
__________
(1) في (ش): واليدين.
(2) في (ش): فكذلك.
(3) من: " وكذلك " إلى هنا مكرر في (ش).
(4) في المطبوع من " التدمرية ": فصفاته.
(5) تصحفت في (ب) إلى: كتشبيه.(4/144)
الخالق إليه، وليسَ المنسوب كالممنسوب، ولا المنسوبُ إليه كالمنسوب إليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ترون ربَّكُم كما تَرَوْنَ الشَّمْسَ والقَمَرَ " (1) فَشَبَّهَ الرؤيَةِ بالرؤيةِ لا المرئيَّ بالمرئيِّ (2).
قلتُ (3): قالوا: الصفات قد تَخَصَّصَتْ بأنواعٍ غيرِ مختلفة، وهي: العلمُ، والقُدرة، فإنَّ العلمَ غيرُ مختلف، وكذلك القدرةُ وسائر الصفات عند هؤلاء.
قلنا: بل هي مختلفةٌ كما يأتي محقَّقاً في القاعدة السادسة، وللزمخشري شعرٌ أشعر فيه بالتجاهُل، والتحامل الكثير (4) على أهل السنة شنَّع فيه العبارةَ، وأفحشَ في سوء الأدب مع أئمَّة السنة (5)، بل أئمَّةِ الإسلام، وخَرَجَ فيه عن أساليب العلماء الأعلام، فقال فيه:
لِجَمَاعَةٍ سَمَّوا هَواهُم سُنَّةً ... وجماعةٍ حُمْرٍ لَعَمْرِي مُوكَفَهْ
قَدْ شَبَّهُوهُ بخلقِه وتَخَوَّفُوا ... شُنَعَ الوَرَى فَتَسَتَّرُوا بالبَلْكَفَهْ (6)
وله أجوبةٌ كثيرة منها قولُ بعضهم:
ومُبَلْكِفٍ للذاتِ طالَ تَعَجُّبي ... من شِدَّة استنكارِه للبَلْكَفَهْ
__________
(1) تقدم تخريجه في 3/ 125، وسيأتي تخريجه مفصلاً في هذا الجزء.
(2) تحرفت في (ب) إلى: المرء بالمرء.
(3) من هنا إلى نهاية الأبيات من كلام المؤلف ابن الوزير، ثم يرجع فينقل عن " التدمرية ".
(4) في (د): الكبير.
(5) من قوله: " والتحامل " إلى هنا ساقط من (ب).
(6) أنشدهما الزمخشري في تفسيره عند قوله تعالى: {قَالَ لَنْ تَرَانِي} 2/ 116، وصدرهما بقوله: والقول ما قال بعض العدلية فيهم، أي: في أهل السنة والجماعة. وقوله: " موكفة " من الإيكاف، وهو البرذعة، والبلكفة: قولك: بلا كيف، يقرر مذهبه السيىء في نفي الرؤية.(4/145)
إن كنت تُنِكرُها فكيِّف ذاتَه ... أيضاً وقُلْ هي كالذَّوات مُكَيَّفه
بل أنت تِثْبِتُها ولا تدري كَمَا ... لم تدْرِ قطُّ مَنِ الحَمِيرُ المُوكَفَهْ
ولَقَدْ هَجَوتَ وَمَا دَلَلْتَ وإنَّما ... أبداً تدُلُّ على الحِمَارِ العَجْرَفَهْ
وقال آخر أيضاً في الجواب عليه:
يا عائباً من جَهْلِه للبلكفه ... هي قولُكم في الذَّات دَعْ عنك الصِّفه
واللهُ ليس كمثله شيءٌ وذا ... هُو ما اعتَرضْتَ به فَدَعْ عنك السَّفه
من لم يقُل بمقالِنا فيها شَرَى ... بنُصُوصِ وَحْيِ الله رأيَ الفَلْسَفَهْ
ولبعض المغاربة:
لجماعة جعلوا الشرائعَ بدعةً ... وحماقةً حُمْرٍ لَعَمْري مُوكَفَهْ
قد عطَّلُوا أسماءَه وتبدَّلُوا ... بنُصُوصِ وَحي الله رأي الفلسفه
كفروا كأهل الشركِ بالرَّحمن إلـ ... لا في مجازٍ أبدَعُوه زَخْرَفَهْ
وقَضَوا بأنَّ الحقَّ قطعاً نفيُهُ ... وبأنَّهُ لإلهنا بِئْسَ الصِّفَهْ
في (1) عدِّه عشرين من أسمائه الـ ... ـحُسْنَى رواها خِزْيَة مُسْتَنْكَفَهْ
أيُذَمُّ ربُّ الحمدِ في الصَّلَوات والـ ... ـسبْعِ المثاني إنَّ ذا لهُو السَّفَه
واللهُ ليس كمثله شيءٌ وذا ... هو نفسُ ما قدْ لَقَّبُوْهُ (2) البَلْكَفَه
تَعِسَ الذي اعتزَلَ الكتابَ وكذَّبَ الـ ... أسْمَا وبدَّلَهَا بمحْضِ (3) العَجْرَفَهْ
وجوابُنا لكُم نظيِرُ جوابِكُم ... لِقَرَامطٍ لا يُثبِتُونَ له صِفَهْ
كفرُوا بكُلِّ اسمٍ له وكفرتُمُ ... بالبَعْضِ قِسْمَة جُرأةٍ ومُجَازَفَهْ
فإذا أفادَكُمُ المَجَازُ أفادَهُم ... إن كان بينكُمُ حقاقُ (4) مُنَاصَفَهْ
__________
(1) في (ج)، وفوق " في " في (أ): مع.
(2) في (أ): " لقنوه " وهو تصحيف.
(3) في (ش): لمحض.
(4) تحرف في (ش) إلى: حقَّان.(4/146)
فالكلُّ يعلَمُ من ضرُورةِ دِيْنِنا ... مَدْحَ الإلهِ بهِ بغَيْرِ مُخَالَفَهْ
قلت:
وكذاكَ يلزَمُ نفعُ كل تجوُّزٍ ... في ذاتِ خالقِنا وأوجبَ معرِفَه
فتكونُ مُثبَتَةً مجازاً مؤمناً ... إيمانَكم في نفي معلُومِ الصِّفَه
وتكفيرُ أهل القبلة خطأٌ، فيصلح البيت الثالث:
انِفُوا من الرَّحمن كالماضينَ إلـ
ولعلَّه أراد كفراً دونَ كُفر. انتهى (1).
قال: وهذا يتبيَّنُ من:
القاعدة الرابعة: وهي أن كثيراً من الناس يتوهَّم في بعض الصفات، أو كثيرٍ منها، أو أكثرها، أو كُلِّها أنها تُماثلُ صفات المخلوقين، ثم يريد أن ينفي ذلك الذي فَهِمَه فيَقَعُ في أربعة أنواع من المحاذير.
أحدها: كونه مثَّل ما فهمه من النصوص بصفات المخلوقين، وظنَّ (2) أن مدلول النصوص هو التمثيل.
الثاني: أنه إذا جعل ذلك مفهُومها (3)، وعطَّله (4)، بقيت النصوصُ معطلةً عمَّا دلَّت عليه من إثبات الصفات اللائقة بالله فيبقى مع جنايته على النصوص، وظنِّه السيىء الذي ظنَّه بالله ورسوله حيث ظن أن
__________
(1) من قوله: " ولبعض المغاربة " إلى هنا ساقط من (ب)، وإلى هنا انتهى كلام ابن الوزير الذي أدرجه في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
(2) في (ش): فدل.
(3) في (أ) و (ب): مفهوماً.
(4) تحرفت في (ش) إلى: وغلطه.(4/147)
الذي يُفهَمُ من كلامهما هو التمثيل الباطل، وقد عطَّل ما أودع الله ورسوله في كلامهما من إثبات الصفات لله والمعاني الإلهية اللائقة بجلال الله تعالى.
الثالث: أنه (1) ينفي تلك الصفات عن الله بغير علم، فيكون مُعطِّلاً لما يستحقُّه الربُّ.
الرابع: أنه يَصِفُ الربَّ بنقيض تلك الصفات من صفات الموات (2)، والجمادات، أو (3) صفات المعدومات، فيكون قد عَطَّلَ صفاتِ الكمال التي يستحقُّها الرب جلَّ وعزَّ، ومثَّله بالمنقوصات والمعدومات، وعطَّل النصوص عمَّا دلَّت عليه من الصفات، وجعل مدلولها هو التمثيل بالمخلوقات، فيجمعُ في الله، وفي كلام الله بين التعطيل والتمثيل، فيكون مُلحِداً في أسماء الله (4) وآياته.
مثال ذلك: أن النصوصَ كلها دلَّت على وصف الإله (5) بالعُلُوِّ والفوقية على المخلوقات، واستوائه على العرش.
فأمَّا علوُّه ومباينته للمخلوقات، فيُعلمُ بالعقل [الموافق للسمع].
وأمَّا الاستواء (6) على العرش، فطريق العلم به هو (7) السمع،
__________
(1) في (ش): أن.
(2) في (ش): " الموت "، وفي " التدمرية ": الأموات.
(3) في (د): و.
(4) في (ش): أسمائه.
(5) في (أ): " الله "، وكتب فوقها " الإله ".
(6) في (أ): استواؤه.
(7) ساقطة من (ش).(4/148)
وليس في الكتاب والسنة وصفٌ له بأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباينه، ولا مداخله، فيظنُّ المتوهم أنه (1) إذا وصف (2) بالاستواء على العرش، كان استواؤُهُ كاستواء الإنسان على ظهور الفُلكِ والأنعام ... إلى قوله: وليس في اللفظ ما يدل على ذلك، لأنه أضاف الاستواء إلى نفسه الكريمة، كما أضاف إليه سائر أفعاله وصفاته فذكر أنه خلق ثم استوى، كما ذكر أنه قدَّر فَهَدَى، كما (3) ذكر أنه مع موسى وهارون يسمع ويرى، وأنَّه بَنى السماء بأيدٍ إلى قوله: فلمَّا قال تعالى: {والسماءَ بَنَيْنَاهَا بِأيْدٍ} [الذاريات: 47}، فهل يُتوهَّمُ أنَّ بناءه (4) مثلُ بناء الآدمي المحتاج الذي يحتاج إلى زنبيلٍ، ومجارِفَ، وأعوانٍ، وضرب لبنٍ، وجبلِ طين، ثم قد عُلِمَ أن الله تعالى خلق العالم بعضه فوق بعض، ولم يجعل عالية مفتقراً إلى سافله، فالهواء والسحاب فوق الأرض، وليس مفتقراً إلى أن تحمله الأرض، فالعليُّ الأعلى ربُّ كل شيء ومليكه إذا كان فوق جميع خلقه، كيف يجب أن يكون محتاجاً إلى خلقه؟! أو (5) إلى عرشه!، أو كيف يستلزم علوُّه على خلقه هذا الافتقارَ!؟.
وكذلك قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] من توهَّم أن مقتضى هذه الآية أن يكون الله في داخل السموات فهو جاهلٌ ضالٌّ بالاتفاق، وإن كنا إذا قلنا: إنَّ الشمس والقمر في السماء (6) يقتضي ذلك، فإنَّ حرف " في " متعلقٌ بما
__________
(1) " أنه " ساقطة من (د).
(2) من قوله: " له بأنه لا " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ش): وكما.
(4) في (ش): أنه بناء.
(5) في (ش): و.
(6) " في السماء " ساقط من (ش).(4/149)
قبله وما بعده، فهو بحسب المضاف، والمضاف إليه، ولهذا نُفرقُ بين كون الشيء في المكان، وكونِ الجسم في الحيِّز، وكون العَرَضِ في الجسم (1)، وكون الوجه في المرآة، وكون الكلام في الوَرَقِ، فإن لكل نوع من هذه الأنواع خاصةً يتميزُ بها عن غيره، وإن كان حرفُ " في " مستعملاً في ذلك.
إلى قوله: ولما (2) كان قد استقرَّ في نفوس المخاطبين أنَّ الله هو العليُّ الأعلى، وأنه فوق كُلِّ شيء، كان المفهوم من قوله: إنه في السماء، أنه في العُلُوِّ، وأنه (3) فوق كل شيء.
وكذلك الجارية لمَّا قال لها - صلى الله عليه وسلم -: " أين الله؟ "، قالت: في السماء (4)، إنَّما أرادت العُلُوَّ مع عدم تخصيصه بالأجسام المخلوقة.
إلى قوله كما قال: {ولأُصَلِّبَنَّكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، وكما قال: {فسِيْرُوا في الأرْضِ} [النحل: 36]، وكما قال: {فَسِيْحُوْا في الأرْضِ} [التوبة: 2]، ويقال: فلانٌ في الجبل، وفي السطح، وإن كان على أعلى شيءٍ فيه (5) إلى أن قال:
القاعدة الخامسة: لقائلٍ أن يقول: لا بُدَّ في هذا (6) الباب من ضابطٍ يُعرفُ به ما يجوزُ على الله مما لا يجوزُ في النفي والإثبات، إذ
__________
(1) في (ش): وكون الجسم العرض.
(2) "الواو" ساقطة من (ش).
(3) في (ش): " وأنه كان "، وفي (أ): " وإن كان ".
(4) تقدَّم تخريجه في 1/ 380 و2/ 175.
(5) في (ش): منه.
(6) ساقطة من (ش).(4/150)
الاعتمادُ في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو الإثبات من غير تشبيه ليس بسديدٍ (1)، وذلك أنه ما من شيئين إلاَّ بينهما قدرٌ مشترك، وقدرٌ مميز.
فالنافي إن اعتمد في ما ينفيه على أنَّ هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثلٌ له من كل وجه، فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابهٌ له من وجه دون وجه، أو مشاركٌ له في الاسم، لزِمَكَ هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه، فإنَّه يجوزُ على أحدهما ما يجوزُ على الآخر، ويمتنعُ عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.
ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا المعنى ممَّا لا يقولُه عاقلٌ يتصورُ ما يقول، فإنَّه يُعلمُ بضرورة (2) العقل امتناعُه، ولا يلزَمُ من نفي هذا نفيُ التشابه مفسراً بمعنىً من المعاني، ثم كل من أثبت ذلك المعنى، قالوا: إنَّه مشبه، ومنازعهم يقول: ذلك المعنى ليس هو من التشبيه، وقد يُقرنُ بين لفظ التشبيه والتمثيل، وذلك أنَّ المعتزلة ونحوهم من نُفاةِ الصفات يقولون: كل من أثبت للهِ صفةً قديمة، فهو مشبِّهٌ ممثِّلٌ.
فمن قال: إن لله علماً قديماً، أو (3) قدرةً قديمة، كان عندهم مشبهاً ممثلاً، لأنَّ القِدَمَ عند جمهورهم هو أخصُّ وصف الإلة، فمن أثبت له صفةً قديمة، فقد أثبت له مثلاً قديماً، فيسمونه (4) ممثلاً (5) بهذا
__________
(1) تصحفت في (ش) إلى: بشديد.
(2) في (ب): ضرورة.
(3) في (ش): و.
(4) في (أ): " فيسموه "، وهو خطأ.
(5) في (ج): مثلاً.(4/151)
الاعتبار، ومثبتة (1) الصفات لا يوافقونهم (2) على هذا، بل يقولون: أخصُّ وصفه ما لا يتَّصِفُ به غيره مثل كونه ربَّ العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، ونحو ذلك، والصفةُ لا توصف بشيء من ذلك.
ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقولون: الربُّ بصفاته قديمٌ.
ومنهم من يقول: هو قديم وصفاته قديمة، ولا تقولُ: هو وصفاته قديمان.
ومنهم من يقول: هو وصفاتُه قديمان، ولكن يقولُ: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإنَّ القِدَمَ ليس من خصائص الذات المجردة، بل هو من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلاَّ فالذات المجردةُ لا وجود لها عندهم فضلاً عن أن يختصَّ بالقِدَمِ.
وقد يقولون: الذاتُ متصفةٌ بالقدم، والصفاتُ متصفةٌ بالقدم (3)، وليست الصفات إلهاً ولا رباً، كما أنَّ النبي مُحدَثٌ، وصفاتِه محدثةٌ، وليست صفاتُه نبياً فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه والتمثيل كان هذا بحسب اعتقادهم الذي يُنَازِعُهم فيه أولئك.
ثم يقول لهم أولئك: هَبْ أنَّ هذا المعنى قد يُسمَّى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفِه عقلٌ ولا سَمْعٌ، وإنَّما الواجب
__________
(1) في (ش): ومثبت.
(2) في (ب): توافقهم.
(3) من قوله: " وقد يقولون " إلى هنا ساقط من (ش).(4/152)
نفيُ ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى مُسَمَّى المثل والكفؤ والنِّدِّ ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف، ولا كفؤه ولا نِدَّه، فلا تدخل في النص.
وأمَّا العقلُ فلم ينفِ (1) مسمَّى التشبيه في اصطلاح المعتزلة، وكذلك يقولون: إن الصفات لا تقوم إلاَّ بجسمٍ متحيز، والأجسام متماثلة، فلو قامت به الصفاتُ للَزِمَ أن يكون مماثلاً لسائرِ الأجسام، وهذا هو التشبيه.
وكذلك يقولُ هذا كثيرٌ من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون عُلُوَّه على عرشه، وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقومُ بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم، فلا يصحُّ إلاَّ إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوَّه للزم أن يكون جسماً، وحينئذٍ فالأجسام متماثلة، فيلزم التشبيه، فلهذا تجد هؤلاء يُسمُّون من (2) أثبت العلو مُشبهاً، ولا يسمون من أثبت السمع، والبصر، والكلام ونحوه مشبهاً، كما يقوله صاحب " الإرشاد " (3) وأمثاله.
وكذلك يوافقُهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو
__________
(1) في (ب): " ينفيه "، وهو خطأ.
(2) من قوله: "جسماً فلو" إلى هنا ساقط من (ش).
(3) ص 39 و72، واسمه الكامل: " الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد " -وهو مطبوع في باريس، والقاهرة، وبرلين- لمؤلفه أبي المعالي عبد الملك بن الإمام أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن حيوية الجُويني، النيسابوري، الشافعي، المعروف بإمام الحرمين، المتوفى سنة 478 هـ. مترجم في " السير " 18/ 468 - 477، وقد رَجَعَ إمامُ الحرمين في أواخر سني حياته عن التأويل، وسلك طريق السلف في إثبات الصفات بلا كيف ولا تعطيل وارتضاه رأياً، كما - صرح بذلك في كتابه " الرسالة النظامية " ص 23.(4/153)
يعلى (1)، وأمثالُه من (2) مثبتة الصفات والعلو، ولكن (3) هؤلاء قد يجعلون العُلوَّ صفةً خبرية كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكونُ الكلام فيه كالكلام في الوجه.
وقد يقولون: إنَّ ما تثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه (4) في سائر الصفات، والعاقل إذا تأمَّل، وجد الأمر في ما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فَرْقَ.
وأصلُ كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات مستلزمٌ التجسيم، والأجسامُ متماثلة، والمثبتون يُجيبون عن هذا تارة بمنعِ المقدمة الأولى، وتارةً بمنع المقدمة الثانية، وتارةً بمنع كلٍّ من المقدمتين (5)، وتارةً بالاستفصال، ولا ريبَ أنَّ قولهم: بتماثل الأجسام باطلٌ سواء فسَّروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهُيُولى (6) والصورة أو نحو ذلك.
أما إذا فسَّروه بالمركب من الجواهر المنفردة، وعلى أنها متماثلة،
__________
(1) هو الإمام العلامة، شيخ الحنابلة، القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد البغدادي الحنبلي، ابن الفراء، صاحب التعليقة الكبرى، والتصانيف المفيدة في المذهب، أفتى ودرَّس، وتخرَّج به الأصحابُ وانتهت إليه الإمامة في الفقه، وكان عالمَ العراقِ في زمانه مع معرفة بعلوم القرآن وتفسيره، والنظر والأصول، له من الكتب " أحكام القرآن "، و" مسائل الإيمان "، و" الكلام في الاستواء " وغيرها، توفي سنة 458 هـ: " السير " 18/ 89 - 92.
(2) ساقطة من (ش).
(3) " الواو " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): يقولون.
(5) في (ب): المقدمتين معاً.
(6) تحرفت في (ش) إلى: الهيواتي.(4/154)
فهذا ينبني (1) على صحة ذلك، وعلى إثبات الجوهر المنفرد (2)، وعلى أنه متماثل (3)، وجمهورُ العقلاء يخالفونهم في ذلك.
والمقصود أنهم يُطلقون التشبيه على ما يعتقدونه (4) تجسيماً بناءً على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعونهم في اعتقادهم كإطلاق الرافضة النصب على من تَوَلَّى أبا (5) بكر وعمر رضي الله عنهما بناءً على أن من أحبهما، فقد (6) أبغض عليّاً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي.
وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى، ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين يشتبهان من وجه، ويختلفان من وجه.
وفي (7) " تاريخِ ابن خلكان " (8) في حرف الهاء منه في ترجمة البديع الأسطرلابي (9) أن أصل هيئة الفَلَكِ أن تكون في الكُرة التي هي
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: ينبغي.
(2) في (ش): الفرد.
(3) في (ش): تماثلها.
(4) " على ما تعتقدونه " ساقط من (ش).
(5) تحرفت في (ب) إلى: " أبي "، وفي (ش) إلى: أبو.
(6) ساقطة من (ش).
(7) من هنا إلى قوله: " تمت " إدراج من المؤلف، وليس من كلام ابن تيمية في " التدمرية ".
(8) المسمى بـ " وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان " لمؤلفه شمس الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خلكان الأربلي الشافعي، المتوفى سنة 681 هـ، أحد الأئمَّة الفضلاء المشهود له بالبراعة في الفقه، والأصول، والعربية، والتراجم، وهو أول من جدَّد في أيامه قضاءَ القضاة من سائر المذاهب، فاشتغلوا بالأحكام بعدما كانوا نُوَّاباً له.
انظر ترجمته الحافلة بقلم الدكتور إحسان عباس في أول الجزء السابع من كتاب " وفيات الأعيان ".
(9) هو أبو القاسم هبة الله بن الحسين بن يوسف الشاعر المشهور، كان وحيد زمانه في عمل الآلات الفلكية، توفي سنة 534 هـ. والنص الذى نقله المصنف هو في " الوفيات " 6/ 53 نشر دار صادر بتحقيق الدكتور الفاضل إحسان عباس.(4/155)
جسم (1) لأنها تشتملُ على (2) الطول والعرض والعُمق، وتوجدُ في السطح الذي هو مركبٌ من الطول والعرض بغير عمق، ويوجدُ في الخط الذي هو عبارةٌ عن الطول فقط بغيرِ عرض ولا عمق، ولم يبقَ سوى النقطة، ولا يتصوَّر أن يعمل فيها شيء، لأنها ليست جسماً، ولا سطحاً، ولا خطّاً، بل هي طرفُ الخط كما أنَّ الخطَّ طرفُ السطح، والسطح (3) طرفُ الجسم، والنقطةُ لا تُجزَّأُ انتهى.
قلت: الظاهرُ أنَّ النقطة في عُرفِ هؤلاء هي الجوهر في عرف المعتزلة، وأنَّ السطح (3) عبارةٌ عن الطول والعمق من غير عرضٍ، لأنه سطح (3) الجسم، والله أعلم، والمعتزلة أخذت من هذه الاصطلاحات أنَّ الجسم هو الطويل العريضُ العميق، وتوهَّم كثير من المتكلمين أن هذا تفسير الجسم في اللغة حتى استشهدوا عليه بقول الشاعر:
وأجسَمُ مِنْ عَادٍ جُسُومُ رجالِهم ... وأكثرُ إن عُدُّوا عديداً من التُّرْبِ
والعجبُ ممَّن يدَّعي أنه من أهل النظر، ثم يُجوِّزُ أنَّ أهل الوضع اللغوي يعنون بألفاظهم ما يعلم الجميع أنه لم يخطُر لهم على بال، بل لعلَّ كثيراً من منتحلي علم الكلام لم يُحرر فهمَه بعد طولِ البحثِ، فالله المستعانُ. تمَّت.
قال الشيخُ (4): "وأكثرُ العقلاء على خلافِ ذلك، وقد بَسَطْنَا الكلام
__________
(1) في (ش): الجسم.
(2) " على " ساقطة من (ش).
(3) في الأصول: " السطر " في المواطن الثلاثة، والمثبت من " الوفيات ".
(4) من هنا يبدأ كلام ابن تيمية.(4/156)
على هذا في غيرِ هذا الموضع (1)، وبُيِّن (2) فيه حُجَجُ من يقولُ بتماثل الأجسام، وحججُ من نفي ذلك، وبُيِّنَ (2) فسادُ قول من يقول بتماثلها، وأيضاً فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتمادٌ باطل، وذلك إنه إذا ثبت تماثلُ الأجسام فهم لا ينفُون ذلك إلاَّ بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أنَّ هذا يستلزِمُ الجسم، وثَبَتَ امتناعُ الجسم، كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاجُ نفيُ ذلك إلى نفي مُسمَّى التشبيه، لكن نفي التحيّز يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه بأن يُقال (3): لو ثبت كذا وكذا، لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام (4) مثماثلة، فيجب اشتراكها فيما يجبُ، ويجوز، ويمتنع، وهذا ممتنعٌ عليه، لكن حينئذٍ يكونُ من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلكٌ آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يُفِيدُ، إذ ما من شيئين إلاَّ يشتبهان من وجه، ويفترقانِ من وجهٍ بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك ممَّا هو سبحانه مقدسٌ عنه، فإنَّ هذه الطريقة (5) صحيحة.
وكذلك إذا أُثبت (6) له صفاتُ الكمال، ونُفِيَ مماثلةُ غيره له فيها، فإنَّ هذا نفي المماثلة في ما هو مستحقٌّ له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن
__________
(1) انظر " درء تعارض العقل والنقل ".
(2) في المطبوع من " التدمرية ": وبينا.
(3) في (ش): بأن هذا.
(4) "الواو" ساقطة من (ش).
(5) في (ش): طريقة.
(6) في (د) و (ش): ثبت.(4/157)
لا يشرَكَهُ (1) شيءٌ من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكُلُّ صفةٍ من صفات الكمال فهو متَّصفٌ بها على وجهٍ لا يُماثِلُه فيها أحد.
ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمَّتها إثبات ما وصف الله به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيءٍ من المخلوقات.
فإن قيل: إنَّ الشيء إذا شابَهَ غيره من وجه، جاز عليه من ذلك الوجه ما جاز عليه، أو وَجَبَ له ما وَجَبَ له، أو امتنعَ عليه ما امتنعَ عليه.
قيل: هَبْ أنَّ الأمر كذلك، ولكن إذا كان ذلك القدرُ المشترك لا يستلزمُ إثبات ما يمتنِعُ على الربِّ سبحانه، ولا نفيَ ما يستحقُّه لم يكن ممتنعاً، كما إذا قيل: إنَّه موجودٌ، حي، عليم، سميع، بصير، و (2) قد سمَّى بعض عباده حيّاً عليماً سميعاً بصيراً.
فإن قيل: يلزَمُ أنه يجوزُ عليه ما يجوز على ذلك من جهة كونه حياً عليماً سميعاً بصيراً.
قيل: لازمُ هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على (3) الربِّ، فإنَّ ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً ممَّا يُنافي صفات الربوبية، وذلك أنَّ القدر المشترك هو مُسمَّى الوجود، أو الموجود، أو الحياة، أو الحيّ، أو العلم، أو العليم، والقَدَرُ المشتَرك مطلقُ كُلِّي لا يختصُّ بأحدهما دون الآخر، فلم يَقَعْ بينهما اشتراكٌ لا في ما يختصُّ بالممكن المحدث، ولا في ما يختص بالواجب القديم، فإنَّ ما يختصُّ به
__________
(1) في (ش): يشاركه.
(2) الواو ليست في الأصول، والمثبت من " التدمرية ".
(3) في (ش): عن.(4/158)
أحدُهما يمتنعُ اشتراكُهما فيه.
فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمالٍ كالوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدُلُّ على شيء من خصائص المخلوقين كما لا يدلُّ على شيء من خصائص الخالق، لم يكن في إثبات هذا محذورٌ أصلاً، بل إثباتٌ هذا من لوازم الوجود، فكُلُّ موجودين لا بُدَّ بينهما من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمَهُ تعطيلُ وجودِ كُلِّ موجود.
ولهذا لما اطلعَ الأئمَّةُ على أنَّ هذا حقيقةُ قولِ الجهمية سمَّوهم مُعطَّلةً، وكان جَهْمٌ ينكرُ أن يُسمَّى (1) اللهُ شيئاً (2)، وربما قالتِ الجهميةُ: هو شيء لا كالأشياء.
فإذا نُفِيَ القدرُ المشترك مطلقاً، لَزِمَ التعطيلُ التام، والمعاني التي يوصف بها الربُّ تعالى كالحياة، والعلم، والقدرة (3)، بل والوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، تجب له لوازمها، فإنَّ ثبوت الملزوم يقتضي ثبوتَ اللازم وخصائص المخلوق التي يجبُ تنزيهُ الربِّ عنها ليست من لوازم ذلك أصلاً، بل تلك من لوازمِ ما يختص بالمخلوق من وجودٍ، وحياةٍ، وعلمٍ، ونحو ذلك، والله سبحانه مُنَزَّهٌ عن خصائصِ المخلوق، وملزوماتِ خصائصه، وهذا الموضع من فَهِمَه، وتدَبَّرَهُ زالتْ عنه عامةُ الشبهات، وانكشف له غَلَطٌ كثيرٍ من الأذكياء في هذا المقام، وقد بُسِطَ هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها أن القدر المشترك
__________
(1) في (د): يكون.
(2) " مقالات الإسلاميين " ص 181 و518.
(3) في (ش): والقدرة والعلم.(4/159)
الكُلِّي لا يوجد في الخارج إلاَّ معيناً مُقيَّداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمرٍ من الأمور هو تشابُهها (1) من ذلك الوجه، وأنَّ ذلك المعنى العامَّ يطلق على هذا وهذا إلاَّ أن الموجودات في الخارج يشارك أحدها (2) الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله.
ولما كان الأمر كذلك، كان كثير من الناس يتناقضُ في هذا المقام، فتارة يظنُّ أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات حَذَراً من التشبيه، وتارة يتفطَّن أنه لا بد من إثبات هذا على كل تقدير، فيجيبُ به فيما يثبته من الصفات على من احتج به من النفاة (3).
ولكثرة الاشتباه في هذا المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته أو زائدٌ على ماهيته، وهل (4) لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي، أو (5) بالتواطؤ، أو التشكيك كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟، وفي وجود الموجودات هل هو زائدٌ على ماهيتها أم لا؟
وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات (6)، فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين (7)، ويُحكى عن الناس مقالات ما
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: تشابههما.
(2) تحرفت في (ش) إلى: أحدهما.
(3) تحرفت في (ش) إلى " الثقات ".
(4) تحرفت في (ش) إلى: هذا.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): هذا المقام.
(7) في (ش): المتنافيين.(4/160)
قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحير، وقد بسطنا من الكلام في هذه المقالات ما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة (1) ما لا تتَّسع له هذه الجمل المختصرة، و (2) بيَّنَّا أن الصواب هو (3) أن وجود كل شيء في الخارج هو (4) ماهيته الموجودة في الخارج بخلاف الماهية التي في الذهن، فإنها مُغايرة للموجود في الخارج، وأن لفظ الذات، والشيء، والماهية، والحقيقة ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة.
فإذا قيل: إنَّها مشككة (5) لتفاضل مقامها (6) فالمشكك نوعٌ من المتواطىء العام الذي يراعى فيه دلالةُ اللفظ على القدر المشترك سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده أو متماثلاً، وبيَّنَّا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للعالم القائم به.
وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجودٌ في الأذهان، وليس في الأعيان إلاَّ (7) الأعيان الموجودة وصفاتها القائمة بها المعينة، فتتشابه (8) بذلك وتختلف به.
__________
(1) في (ش): الفلاسفة.
(2) "الواو" ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (ش).
(4) "في الخارج هو" ساقط من (ش).
(5) في (ش): تشككه.
(6) " لتفاضل مقامها " ساقط من (ش). وفي المطبوع: معانيها.
(7) ساقطة من (ش).
(8) تحرفت في (د) و (ش) إلى: متشابه.(4/161)
وأمَّا هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جُملٍ مختصره جامعة من فهمها، عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكانُ إغلاق باب الضلال، ثم بسطُها وشرحُها له مقام آخر، إذ لكل مقامٍ مقالٌ، والمقصود هنا: أن الاعتماد على هذه الحجة فيما يُنفى عن الرب ويُنَزَّهُ عنه كما يفعله كثيرٌ من المصنفين خطأ لمن تدبر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة.
فصل: وأفسدُ من ذلك ما يسلُكُه (1) كثير من نُفَاة الصفات أو بعضها إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجبُ تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحُزنِ والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه تعالى بكى على الطُّوفان حتى رَمِدَ، تعالى الله عما يقولون عُلُوّاً كبيراً، والذين يقولون بإلاهية بعض البشر، فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم (2) أو التحيز أو (3) نحو ذلك، وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة نفاة الأسماء والصفات فإن هذه الطريق لا يحصل بها المقصود لوجوهٍ:
الوجه (4) الأول: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهرُ فساداً في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم (5)، فإنَّ هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء (6) ما ليس في ذلك، وكفرُ صاحبِ هذا (7)
__________
(1) في (ب) و (ش): سلكه.
(2) في (ش): بنفي التجسيم والصفات.
(3) في (ش): و.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (د): التجسيم والتحيز.
(6) " والخفاء " ساقطة من (ب).
(7) في المطبوع: ذلك.(4/162)
معلومٌ بالضرورة من دين الإسلام، والدليلُ مُعَرِّفٌ للمدلول (1)، ومبينٌ له، فلا يجوز أن يُستَدَلَّ على الأظهر الأبين بالأخفي كما [لا] (2) يفعلُ مثل ذلك في الحدود.
الوجه الثاني: أن هؤلاء ينفُون صفات الكمال بمثل هذه الطريق، واتصافُه بصفات الكمال واجبٌ ثابتٌ بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة.
الوجه الثالث: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكُلُّ من أثبت شيئاً منهم ألزم (3) الآخر بما يُوافِقُه فيه من الإثبات، كما أن من نفى شيئاً منهم ألزم (3) الآخر بما يُوافقُه فيه (4) من النفي.
فمثبتة الصفات كالعلم، والقدرة إذا قال لهم النفاة المعتزلة: هذا تجسيمٌ، لأن هذه الصفات أعراضٌ، والعرض لا يقوم إلاَّ بالجسم، أو لأنَّا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلاَّ جسماً، قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: إنه حيٌّ عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً حياً عالماً قادراً إلاَّ جسماً، فقد أثبتموه على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتُّم حياً بلا حياة، عالماً بلا علم، قادراً بلا قدرة، وهذا تناقضٌ يعلم بضرورة العقل.
إلى قوله: ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً لم يسلُكه أحدٌ من السلف والأئمة، فلم يَنْطِق
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: المديون.
(2) ما بين الحاصرتين من المطبوع من " التدمرية ".
(3) في المطبوع: ألزمه.
(4) من قوله: " من الإثبات " إلى هنا ساقط من (ش) و (د).(4/163)
أحدٌ منهم في حق الله بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز (1) ونحو ذلك؛ لأنها عباراتٌ مجملة لا تُحِقُّ حقاً، ولا تُبْطِلُ باطلاً. ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكر على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع (2). يعني حين ردَّ (3) عليهم قولهم: {عزيرُ ابنُ الله} [التوبة: 30]، وكذلك قول النصارى في المسيح، وكذا (4) قولُ مشركي العرب بإلهية الأصنام، ولمَّا تحاجَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والنصارى في المسيح، احتجَّ عليه السلام عليهم بأن المسيح عليه السلام كان يأكل ويشرب والله تعالى لا يأكل ولا يشرب، وكذلك قال الله تعالى في المسيح وأمِّه عليهما السلام: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] وأمثال هذا كثيرة (5) جداً. قال:
فصل: وأما في (6) طرق (7) الإثبات فمعلومٌ أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى ذلك، لجاز أن يُوصَفَ سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يُحصَى مما هو ممتنعٌ عليه مع نفي التشبيه عنه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجُوزُ عليه مع نفي التشبيه عنه، كما لو وَصَفَه مُفْتَرٍ بالأكل والشرب، وقال: إنَّه يأكُلُ لا كأكل العباد، ويشربُ لا كشربِهِم.
إلى قوله: فإنه يُقالُ لنا في ذلك مع إثبات الصفات الخبرية وغيرها
__________
(1) في (أ) و (ب): المتحيز.
(2) من هنا إلى قوله: " فصل " من كلام ابن الوزير.
(3) تحرف في (ش) إلى: " حتى يرد " وهو خطأ.
(4) في (ش): وكذلك.
(5) في (ش): ذلك كثير.
(6) في (د): وأمَّا ما في.
(7) في (ج): " طريق "، وتحرفت في (ب) إلى: طرف.(4/164)
من الصفات؛ ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات، فلا بُدَّ من إثبات فرقٍ في نفس الأمر.
فإن قال: العمدة في الفرقِ هو السمع، فما جاء السمعُ به أثبتُّه دون ما لم يجىء به.
قيل له: أولاً: السمع هو خبرُ (1) الصادق عمَّا الأمر عليه في نفسه، فما أخبر به، فهو حقٌّ من نفيٍ أو إثباتٍ، والخبرُ دليلٌ على المخبَرِ عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه (2)، فما لم يَرِدْ به السَّمْعُ يجوزُ أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع.
إلى قوله: فيقال: كل ما نفى (3) صفات الكمال الثابتة لله تعالى فهو منزهٌ عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر.
فإذا عُلِمَ أنه موجودٌ واجبُ الوجود بنفسه، وأنه قديمٌ واجبُ القِدَمِ، عُلِمَ امتناعُ العدم والحدوث عليه، وعُلِمَ أنه غنيٌّ عمَّا سواه، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما تحتاج إليه نفسه (4) ليس موجوداً بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاجُ إليه نفسه (5)، فلا يوجَدُ إلاَّ به، وهو سبحانه غنيٌّ عن كل ما سواه، فكلُّ ما نافى غناه، فهو مُنَزَّهٌ عنه، وهو سبحانه قديرٌ قويٌّ، فكل (6) ما نافى قدرته وقوته، فهو منزَّهٌ عنه، وهو
__________
(1) في (ش): الخبر.
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): " بنفسه "، وفي " التدمرية ": " لنفسه ".
(5) من قوله: " ليس موجوداً " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) في (ش): وكل.(4/165)
سبحانه حي قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته، فهو منزَّهٌ عنه.
وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى، وصفات الكمال ما قد ورد، فكلُّ ما ضادَّ ذلك فالسمعُ ينفيه كما ينفى عنه المثل والكُفء، فإن إثبات الشيء نفيٌ لضده، ولما يستلزِمُ ضده، والعقل يَعْرِفُ نفيَ ذلك كما يعرفُ إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفيٌ للآخر، ولما يستلزِمُه، فطرق النفي (1) لما تنزَّهَ الرب سبحانه عنه (2) متسعةٌ لا يحتاج فيها إلى الاقتصار على مجرد نفي التشبيه والتجسيم كما فعله أهل القصور والتقصير الذين تناقضُوا في ذلك، وفرَّقُوا بين المتماثلين حتى إن كل (3) من أثبت شيئاً احتج عليه من نفاه بأنه يستلزم التشبيه.
وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، وقالوا: لا يُقالُ: موجود، ولا ليس بموجودٍ، لأن ذلك تشبيهٌ بالموجود أو المعدوم، فلزمهم نفيُ النقيضين، وهذا أظهر الأشياء امتناعاً، ثم إنه يلزمهم من تشبيهه بالمعدومات، والممتنعات، والجمادات أعظم ممَّا فرُّوا منه، وقد تقدَّم أن ما يُنفَى عنه سبحانه يُنفىلِتُضمُّنِ النفي الإثبات، إذ مجرد النفي المحض لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يُشبِهُ الموجود، وليس هذا مدحاً له، بل مشابهةُ الناقص في صفات النقص نقصٌ مُطلقاً، كما أنَّ مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيلٌ وتشبيهٌ يُنَزَّهُ عنه الربُّ تبارك وتعالى، والنقصُ ضِدُّ
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (أ) و (ب): " عنه سبحانه "، وسقط من (ش): عنه.
(3) ساقطة من (ش).(4/166)
الكمال، وذلك مثلُ أنه قد عُلِمَ أنه حي، والموتُ ضدُّ ذلك فهو منزهٌ عنه (1).
وكذلك النومُ والسنَةُ ضدُّه كمال الحياة، فإنَّ النوم أخو (2) الموت، وكذلك اللُّغوبُ نقصٌ في القدرة والقوة، والأكلُ والشربُ، ونحو ذلك من الأمور فيه افتقارٌ إلى موجودٍ غيره، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع، كقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] والصمدُ: الذي لا يأكُلُ ولا يشرب ولا جوف له، وهذه السورةُ هي نسبُ الرحمن، وهي الأصل في هذا الباب. ولهذا كانت الملائكة صمداً لا تأكلُ، ولا تشربُ، وقد تقدَّم أنَّ كُلَّ كمالٍ، فالخالقُ أولى به، وكلَّ نقص فالخالقِ أولى بالتنزيهِ عنه.
وقد قال سبحانه في حقِّ المسيح وأمه (3): {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، فجعل ذلك دليلاً على نفي الأُلوهيه، فدلَّ ذلك على تنزيهه عن ذلك بطريق الأولى والأحرى، فهو سبحانه مُنزَّهٌ (4) عن ذلك، وعن آلاتِه وأسبابِه.
وكذلك البكاءُ والحزنُ هو (5) مستلزمٌ للضعف (6) والعجز الذي ينزه الله عنه، إلى قوله: وأيضاً فقد ثبت بالعقل ما بيَّنه السمع من أنه سبحانه
__________
(1) من قوله: " والنقص ضد الكمال " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) "النوم أخو" ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (أ).
(4) في (ش): ينزه.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): الضعف.(4/167)
لا كُفُؤ له، ولا سَمِيَّ له، وليس كمثله شيءٌ، فلا يجوزُ أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات ولا حقيقة شيء من صفاتِه كحقيقة شيء من صفات المخلوقين، فيُعلَمُ قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات لا الملائكة، ولا السماوات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الماء، ولا الأرض، ولا الآدميين، ولا (1) أبدانهم، ولا أنفُسِهم، ولا غير ذلك، بل نعلمُ أنَّ حقيقته عن مماثلة شيء من المخلوقات أبعد من سائر الحقائق، فإن الحقيقتين إذا تماثلتا، جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، فيلزَمُ أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المُحْدَثِ المخلوق من العدم والحاجة، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه، غير واجبٍ بنفسه، وذلك جمعٌ بين النقيضين، وهذا مما يُعلَمُ به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بَصَرٌ كبصري ونحو ذلك.
وليس المقصود هنا استيفاء ما ثبت (2) له، وما تنزّه (3) عنه، واستيفاء طرق (4) ذلك، لأنَّ هذا مبسوطٌ في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يُثبتُه ولا ينفيه، سكتنا عنه، فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت (5) ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكُتُ عن ما لا (6) نعلم نفيه ولا إثباته، والله أعلم. انتهى كلام ابن تيمية.
__________
(1) "الواو" ساقطة من (أ) و (ب).
(2) في (د): يثبت.
(3) في (د): ينزه.
(4) من قوله: " بصر كبصري " إلى هنا ساقط من (ب).
(5) في (ب): فثبت.
(6) في (ب): لم.(4/168)
الفصل الثالث: في الإشارة إلى حُجة من كفَّر هؤلاء، وما يَرِدُ عليها واعلم أنه لا يصلُح (1) إيراد الحُجَّة على التكفير إلاَّ بعد معرفة (2) مذاهبهم، وإيراد الحجة على بُطلان قولهم، لأن التكفير فرع البطلان، وقد تقدم من كلام ابن تيمية ما إذا رآه من ليس له خوض في علم الكلام، ودِرْيَةٌ بفنِّ النظر تطلَّع إلى معرفة الأدلَّةِ من الجانبين، وقد اشتمل كلام ابن تيمية على الإشارة إلى زُبْدَةِ أدلة المعتزلة، والشيعة، والأشعرية، ولكنه على وجهٍ لا يُفِيْدُ إلاَّ الخاصة، ولا يعرِفُه إلاَّ أهل الدِّرية، لكونه أدخل ذلك في ضمن الردِّ عليهم، ولم يُميِّزه عن غيره، ولا شكَّ أن كلام هذه الطوائف العظيمة، أعني: الشيعة والمعتزلة والأشعرية في هذه المسألة هو المشهور في هذه الأعصار، وخاصة في هذه الديار حتى لا يكاد يخفى على أحدٍ، ولا يختص ببلد دون بلد، فلذلك (3) تركت التطويل بذكره مستوفى خوف الإملال، ولم أُحِبَّ ذكر اليسير منه خشية الإخلال، وإنما ذكرت كلام متكلمي أهل الحديث لغرابته في ديارنا، وظهور جهل صاحب الابتداء به.
وأما معرفة مذاهبهم، فقد تقصَّاها علاَّمة المعتزلة عبد الحميد بن أبي الحديد في " شرح نهج البلاغة " لكنه طوَّله تطويلاً كثيراً، واقتصرت منه على المقصود هنا.
وأقول (4): قال الشيخ: واعلم أن التكفير المجمع على صحته
__________
(1) في (ش): يصح.
(2) في (د): إيراد.
(3) في (أ): ولذلك.
(4) في (ب): فأقول.(4/169)
هو تكذيبُ خبر الله عز وجل: أو خَبَرِ رسوله (1) - صلى الله عليه وسلم - المعلوم لفظه بالتواتر، ومعناه بالنصوصية الجلية، فَمَنْ كفَّرهم جعلهم مكذبين لما هو كذلك عنده من السمع، وهو قوله تعالى: {ليس كمثلِه شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ} [الشورى: 11]، وقد تقدم في كلام ابن تيمية في الفصل الثاني جوابهم عن هذا، وإنما أوردته مستوفىً لأجل معرفة هذه النكتة، والمخالفون (2) يعكسون السؤال على المعتزلة، ويوردون (3) عليهم ممَّا يخالفونه من الآيات القرآنية ما هو (4) أكثر من هذه الآية وأصرح، فما أجابت به (5) المعتزلة أجابوا بمثله.
وقد صنف قاضي القضاة عبد الجبار بن (6) أحمد المعتزلي كتاباً كبيراً في تأويل متشابه القرآن، من وقف عليه عَلِمَ كم خالفت المعتزلة منه، وفي ما تقدَّم من كلام ابن تيمية كفايةٌ في هذا المعنى لمن أنصف وفهم معناه وتأمَّله.
وذكر ابن عبد السلام كلاماً نفيساً في عَدَمِ التكفير، وإعذار الغالطين في كتابه " القواعد " (7) موضعُه رأسُ الثُّلث الأول من القواعد تقريراً أو (8) قبله بقليل ما لفظُه:
__________
(1) في (ب): رسول الله.
(2) في (أ): والمخالفين، والتصويب من النسخ الأخرى.
(3) في (ش): ويروون.
(4) في (ش): بما.
(5) ساقطة من (ب).
(6) ساقطة من (ب).
(7) انظر 711 - 173، وقد تقدمت ترجمة ابن عبد السلام في 3/ 135.
(8) في (ب) و (ش): و.(4/170)
الفصل الثامن فيما اختلف فيه من تقديم حقوق الله تعالى، ومضمونه: أن كل طائفة من المسلمين نفت عن الله تعالى ما يُعتقد أنه نقصٌ، وإنما يكفُرُ من عَكَسَ هذا، وأزيدُ التنبيه على معرفتين:
المعرفة الأولى: أن شرط التكفير بمخالفة السمع أن يكون ذلك السمعُ المخالفُ معلوماً علماً ضرورياً من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى فأما اللفظ -وهو الشرط الأول-، فلا إشكال فيه، لأنه يمتنع ثبوته على جهة القطع بغير التواتر، والتواتر ضروري.
فأما الأحاديث الظنية في أصلها المجمع على صحتها، فلا خلاف في (1) أنه لا يكفُرُ مخالفها على جهة التأويل، وإنما اختلف أهل العلم في تلقيها من الأمة بالقبول، هل يدل على القطع بصحتها أم لا؟ فذهب الأكثرون والمحققون إلى أنه لا يُفِيدُ العلم القاطع، ممَّن عزا ذلك إلى الأكثرين والمحققين (2) النواويُّ في كتابه في " علوم الحديث " (3)، وذهب بعضهم إلى أنه يدلُّ على القطع بصحتها، واختاره ابن الصلاح (4)،
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): المحققين والأكثرين.
(3) انظر " تدريب الراوي " 1/ 131 وما بعدها.
(4) في " مقدمته " ص 24. وقال المؤلف في كتابه " تنقيح الأنظار " 1/ 123 بعد أن ذكر كلام ابن الصلاح. وقد سبقه إلى نحو ذلك محمد بن طاهر المقدسي، وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف، واختاره ابن كثير، وحكى في " علوم الحديث " له أن ابن تيمية حكى ذلك عن أهل الحديث، وعن السلف، وعن جماعات كثيرة من الشافعية والحنابلة، والأشاعرة والحنفية وغيرهم والله أعلم.
وقال ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " 18/ 40 - 41: وأمَّا المتواتر فالصواب الذي عليه الجمهور: أن المتواتر ليس له عدد محصور، بل إذا حصل العلم عن إخبار المخبرين كان الخبر متواتراً، وكذلك الذي عليه الجمهور أن العلم يختلف باختلاف حال المخبرين به، فربَّ عددٍ قليلٍ أفاد خبرُهم العلم بما يوجب صدقهم، وأضعافهم لا يفيد خبرهم العلم، ولهذا كان =(4/171)
وابن طاهر، وأبو نصر.
وسِرُّ المسألة هل تجويز الخطأ في ظن المعصوم (1) لمطلوبه لا لمطلوب الله منه يُناقِضُ العصمة أم لا، والحق أنه لا يُنَاقِضها، كتحري الوقت في الصوم والصلاة، بل كرمي الكُفَّار في الجهاد، والدليل عليه وجوه:
الأول: لو امتنع الخطأ في ظن المعصوم لبَطَلَ كونُه ظناً، والفرض أنه ظنٌّ، هذا خلفٌ، وفيه بحث، وهو أنَّ الخطأ امتنع في العلم لنفسه، وفي ظن المعصوم لغيره وهو العصمة.
الثاني: قولُ يعقوب عليه السلام في شأن (2) أخي يوسف: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18 و83]، كما قال
__________
= الصحيحُ أن خبر الواحد قد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تفيد العلم. وعلى هذا فكثير من متون الصحيحين متواتر اللفظ عند أهل العلم بالحديث، وإن لم يعرف غيرهم أنه متواتر، ولهذا كان أكثر متون الصحيحين ممَّا يعلم علماء الحديث علماً قطعيّاً أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، تارة لتواتره عندهم، وتارة لتلقي الأمة له بالقبول. وخبر الواحد الملتقى بالقبول يوجب العلم عند جمهور العلماء من أصحاب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وهو قول أكثر أصحاب الأشعري، كالإسفراييني، وابن فورك، فإنَّه وإن كان في نفسه لا يفيد إلاَّ الظن، لكن لما اقترن به إجماع أهل العلم بالحديث على تلقيه بالتصديق كان بمنزلة إجماع أهل العلم بالفقه على حكم مستندين في ذلك إلى ظاهر أو قياس أو خبر واحد، فإن ذلك الحكم يصير قطعياً عند الجمهور، وإن كان بدون الإجماع ليس بقطعي، لأن الاجماع معصوم، فأهل العلم بالأحكام الشرعية لا يجمعون على تحليل حرام، ولا تحريم حلال، كذلك أهل العلم بالحديث لا يجمعون على التصديق بكذب، ولا التكذيب بصدق. وتارة يكونُ علمُ أحدِهم لقرائن تَحْتَف بالأخبار توجب لهم العلم، ومن علم ما علموه حَصَلَ له من العلم ما حصل لهم. وانظر هذه المسألة في " علوم الحديث " لابن كثير ص 35 - 36، و" شرح مقدمة ابن الصلاح " للعراقي ص 28 - 29، و" تدريب الراوي " 1/ 131 وما بعدها.
(1) قوله: " في ظن المعصوم " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): بنيان.(4/172)
ذلك في شأن يوسف.
الثالث: قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاها سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79].
الرابع: حديث " فمن حكمتُ له بمال أخيه فإنما أقطع له قِطعَةً من نارٍ " (1).
الخامس: ما تواتر وأجمعت عليه الأمة من ثبوت سهو النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاته (2)، فثبت أنه لا يمكن العلم القاطع بشيءٍ من السمع إلاَّ المتواترات، ولكن ها هنا لطيفة: وهي أن المتواترات نوعان:
__________
(1) أخرجه من حديث أم سلمة: مالك في " الموطأ " 2/ 719، والشافعي (626) بترتيب السندي، وأحمد 6/ 203 و290 و307 و320، والبخاري (2458) و (2680) و (6967) و (7169) و (7181) و (7185)، ومسلم (1713)، والترمذي (1339)، والنسائي 8/ 233، وأبو داود (3583)، وابن ماجة (2317)، والبغوي (2506). ولفظ مالك: " إنما أنا بشر، وإنَّكم تختصمون إليَّ، فلعلَّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضيَ له على نحو ما أسمعُ منه، فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه، فلا يأخُذَنَّ منه شيئاً، فإنما أقطع له قطعة من النار ".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 332.
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة: مالك 1/ 93 و94، وأحمد 2/ 271 و284 و423 و459 - 460، والبخاري (714) و (715) و (1227) و (1228) و (1229) و (7250)، ومسلم (573)، والدارمي 1/ 351 - 352، والترمذي (399)، وابن ماجة (1214)، والبغوي (759) و (760). ولفظ مالك: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقَصُرَت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أصدق ذو اليدين؟ " فقال الناس: نعم، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى ركعتين أُخريين، ثم سلم، ثم كبَّر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع، ثم كبَّر، فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع.
وأخرجه من حديث عمران بن الحصين: مسلم (574)، وابن ماجة (1215)، والحاكم 1/ 323، والبغوي (761).
وأخرجه من حديث ابن عمر: ابن ماجة (1213).
وأخرجه من حديث ذي اليدين: أحمد 4/ 77.(4/173)
أحدهما: ما عَلِمَهُ العامة مع الخاصة، كمثل (1) كلمة التوحيد، وأركان الإسلام، فيكفُرُ جاحده مطلقاً (2)، لأنه قد بلغه التنزيل، وإنما رده بالتأويل، وإن لم يعلم هو ثبوت ما جحده من الدين بسبب ما دخل فيه من البدع والشُّبه التي ربما أدت إلى الشك في الضرورات، ودفع العلوم والحجة على التكفير بذلك مع الشكِّ قوله تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثُ ثلاثةٍ} [المائدة: 73]، والمعلوم أنهم ما قصدوا تكذيب عيسى، بل قصدوا تصديقه، ويدل على هذا التعليل بالبلوغ، وعلى أن الجهل قبله عذرٌ لا بعده قوله تعالى: {ذلك أنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مهلكَ القُرى بظُلْمٍ وأهلُها غافلون} [الأنعام: 92] وهي من أوضح الأدلة على ذلك ولله الحمد.
وثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلاَّ الخاصة، فلا يُكفرُ مستحلُّه من العامة، لأنه لم يبلُغه، وإنما يكفر من استحلَّه وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل: تحريم الصلاة على الحائض (3) إلى أمثالٍ لذلك كثيرة، وقد شرب
__________
(1) في (ب) و (ش): مثل.
(2) في (ش): قطعاً مطلقاً.
(3) أخرجه من حديث عائشة: مالك 1/ 61، والبخاري (228) و (306) و (320) و (325) و (331)، ومسلم (333)، وأبو داود (281) و (282) و (283) و (284) و (285)، والنسائي 1/ 117 و118 - 119 و120 - 121 و121 و122 و123 و123 - 124 و124، والترمذي (125)، وابن ماجة (621) و (624) و (626)، وأحمد 6/ 83 و128 - 129. ولفظ مالك: قالت فاطمة بنتُ أبي حُبيش: يا رسول الله، إنِّي لا أطهر، أفأدعُ الصلاة؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما ذلك عِرْقٌ، وليست بالحيضة، فإذا أقبلتِ الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدْرُها فاغسلي الدم عنكِ وصلِّي ".
وأخرجه من حديث أم سلمة: مالك 1/ 62، وأبو داود (274) و (275) و (278) و (281)، والنسائي 1/ 119 - 120، وابن ماجة (623).
وأخرجه من حديث فاطمة بنت أبي حُبيش: أبو داود (280) و (281) و (286)، والنسائي 1/ 116 - 117 و121، وابن ماجة (620).(4/174)
الخمر مُستحلاً متأولاً قُدامة بن مظعون الصحابي البدري (1) فجلده عمر، ولم يقتله ويجعل ذلك رِدّةً، وأقرت الصحابة عمر على ذلك (2)، وكان شبهته في ذلك قوله تعالى بعد آية الخمر في المائدة: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جُناحٌ فيما طَعِمُوا} [المائدة: 93] فدلَّ على أنَّ الشُّبهة قد تدخلُ في بعض الضروريات.
وأصحُّ من حديثِ قُدامة حديث الرجل الذي أوصى أن يُحْرَقَ ويُسْحَقَ ويُذْر حتى لا يَقْدِرَ الله عليه، فإنه إن قدر عليه عذَّبه عذاباً لا يعذبه أحداً، ثم غَفَرَ الله له لخوفه، متفق على صحته عن أربعة من الصحابة (3)، وله طرق متواتره ذكرها في "مجمع
__________
(1) قال الذهبي في " السير " 4/ 161: قدامة بن مظعون أبو عمرو الجمحي من السابقين البدريين، ولي إمرة البحرين لعمر، وهو من أخوال أم المؤمنين حفصة وابن عمر، وزوج عمتهما صفية بنت الخطاب إحدى المهاجرات توفي سنة 36 هـ.
(2) أخرج خبره في ذلك مطولاً عبد الرزاق في " المصنف " (17076) عن معمر عن الزهري أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة -وكان أبوه شهد بدراً- أن عمر بن الخطاب استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ... ورجاله ثقات.
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة: مالك 1/ 240، وأحمد 1/ 398 و2/ 269 و304، والبخاري (3481) و (7506)، ومسلم (2756)، والنسائي 4/ 112 - 113، وابن ماجة (4255)، والبغوي (4183) و (4184).
وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري: البخاري (3478) و (6481) و (7508) ومسلم (2757)، وأحمد 3/ 13 و17 و69 - 70 و77 - 78.
وأخرجه من حديث حذيفة: البخاري (3479) و (6480)، والنسائي 4/ 113، وأحمد 4/ 118 و5/ 395.
وأخرجه من حديث معاوية بن حيدة: الدارمي 2/ 726، وأحمد 4/ 447 و5/ 4.
وأخرجه من حديث أبي مسعود البدري: أحمد 4/ 118.
وأخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد 1/ 398، وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 194 - 195 وزاد فيه: رواه أبو يعلى (5056) و (5105) بسندين ورجالهما رجال الصحيح، ورواه الطبراني بنحوه، وإسناده منقطع، وروى بعضه مرفوعاً أيضاً بإسناد متصل، ورجاله رجال الصحيح غير أبي الزعراء وهو ثقة. =(4/175)
الزوائد" (1) فينبغي التفطن لهذا النوع الذي يختلف العلم به، فلا يقع التكفير به في العقائد، والله أعلم.
الشرط الثاني: أن يكون معنى المتواتر معلوماً بالضرورة على الصحيح كما يأتي في الوجه الثاني من المعرفه الثانية، وهذا الشرط إنما يعتبر في حق من أقر بالتنزيل، وإنما خالف في معناه، أما من كذب اللفظ المنزل، أو جحده (2)، كفر متى كان ممن يعلم بالضرورة أنه يعلمه بالضرورة، وإنما الكلام في طوائف الإسلام الذين وافقوا على الإيمان بالتنزيل، وخالفوا (3) في التأويل، فهؤلاء لا يكفر منهم إلاَّ مَنْ تأويلُه تكذيبٌ، ولكنه سمَاه تأويلاً مخادعة للمسلمين ومكيدة للدين كالقرامطة الذين أنكروا وصف الله تعالى بكونه موجوداً وعالماً (4) وقادراً ونحو ذلك من الصفات التي (5) علم الكافة بالضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بها على ظاهرها.
والدليل على أنه لا يكفُرُ أحدٌ من المخالفين في التأويل إلاَّ من بلغَ هذا الحدَّ في جحد المعاني المعلوم ثبوتُها بالضرورة أنَّ الكُفْرَ: هو تكذيبُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، إمَّا بالتصريح أو بما يستلزمُه استلزاماً ضرورياً لا
__________
= وأخرجه من حديث الحسن وابن سيرين مرسلاً: أحمد 2/ 304.
وأخرجه من حديث سلمان الفارسي: الطبراني في " الكبير " (6122) وذكره الهيثمي 10/ 196. وقال: ورجاله رجال الصحيح غير زكريا بن نافع الأرسُوفي وقد تصحَّف في الطبراني و" المجمع " إلى " الأرسوقي "، والسري بن يحيى، وكلاهما ثقة.
وأخرجه من حديث أبي بكر الصديق: أحمد 1/ 4 - 5.
(1) 10/ 194 - 196.
(2) في (ش): جحد.
(3) في (ش): بل وخالفوا.
(4) "الواو" ساقطة من (ش).
(5) في (ش): الذي.(4/176)
استدلالياً، ومثال ذلك قول هؤلاء وأمثالهم، فإنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم من تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقولون: إنه لا يوصف البتة، ويتأولون الصفات الربانية بأن المراد بها الإمام حتى تُوجَّهَ العبادة إلى الإمام، لأن توجيه الصلاة إلى الله يقتضي عندهم (1) التشبيه، إذ كان في التكبير وصفُه بالكبر، وفي الفاتحة وصفُه بالحمد، والرحمة، والربوبية، والمُلك، والعبادة، والإعانة، والهداية، والإنعام، والغضب، وهذا كلُّه عندهم تشبيهٌ، وتمثيلٌ، وكفرٌ، وضلال فأُروا (2) أن توجيه هذه الصلاة إلى الله (3) أعظمُ الكفر (4)، وأوجبُوا توجيهها إلى أئمَّة كُفرِهم، أو (5) إلى بعض أئمَّة الإسلام الذين هُم أبغضُ الخلقِ لهم تمويهاً على المسلمين، وخديعةً للدين، فأيُّ كفرٍ أعظمُ من كفرهم؟ وأيُّ كيدٍ أضرُّ من كيدهم؟
وأما أهل البدع الذين آمنوا بالله وبرسله وكتبه واليوم الآخر، وإنما غَلِطُوا في بعض العقائد لشُبهَةٍ قَصَرَت عنها أفهامُهم، ولم تبلُغ كشفَها معرفتُهم، فلا دليل على كفرهم، ومن كفَّرهم، فقد اغترَّ في تكفيره من الشبهة بمثل ما اغتروا به في بدعتهم من ذلك.
ألا ترى أنهم يُلزِمُونَ من أقرَّ بالاستواء مع نفيه التشبيه الكفر من حيث إنه جاحدٌ، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وكيف يصح نسبةُ الجحودِ لهذه الآية إليه، وهو يُقِرُّ بها
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): ورأوا.
(3) " إلى الله " ساقطة من (د).
(4) في (ش): كفر.
(5) "إلى أئمة كفرهم أو" ساقطة من (ش).(4/177)
بعينها، ولا يتأوّلها ويقول: إنه تعالى يستوي كما أراد، لا كاستواء الأجسام، وأكثر ما يقول: إنَّه جسمٌ لا كالأجسام، فقوله: لا كالأجسام تصديقٌ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وشرطُ الكفر أن يكون تكذيبُه بالآية معلوماً علماً قاطعاً (1)، وقيل: ضرورياً، وهو الصحيح، وأيُّ قطعٍ على تكذيبه بها، وهو يقول: لا كالأجسام، ويقول: إنها صحيحة المعنى، محكمة غير مأولة (2)، وهذا الذي اختاره الإمام يحيى بن حمزة في " التمهيد "، وحكى شارح " جمع الجوامع " لابن السبكي عن أحمد بن حنبل أن من قال: جسمٌ لا كالأجسام فهو كافرٌ.
المعرفة الثانية: أن التكفير سمعي محضٌ لا مدخل للعقل فيه، وذلك من وجهين:
الوجه الأول: أنه لا يكفر بمخالفة الأدلة العقلية وإن كانت ضروريةٌ، فلو قال بعضُ المُجَّان وأهل الخلاعة: إن الكلَّ أقلُّ من البعض لكانت هذه كذبةٌ، ولم يحكم أحدٌ من المسلمين بردته مع أنه خالف ما هو معلومٌ بالضرورة من العقل، وما لا يُوجَدُ في العلوم العقلية أوضح منه.
ولو قال: إنَّ صلاة الظهر أقلُّ من صلاة الفجر، لكفر بإجماع المسلمين، فإن خالف العقل والسمع معاً، مثل قول القرامطة: إنَّ المؤثر في وجود الموجودات يجب أن لا يكون موجوداً ولا معدوماً، كفر (3) لأجل مخالفة السمع فقط، إذ لو قال بمثل هذه الضلالة فيما لم يَرِدْ به السمع لما كفر، مثل الكلام في الماهيات الكليات الذهنيات كماهية الإنسان التي في
__________
(1) في (د): قطعاً.
(2) في (د): متأولة.
(3) في (ش): ما كفر.(4/178)
الذهن، فإنَّ من قال: إن لها وجوداً في الخارج، أو لا وجود لها فيه، بل هي معدومةٌ، أو قال: لا يُوصَفُ بواحدٍ منهما، لم يستحق الكفر سواء كان خطأ معلوماً بالضرورة أم لا، ما ذلك إلاَّ لأن السمع لم يرد في ذلك بأمر يكون رادُّه مكذباً له، فتأمل ذلك.
فإذا تقرَّر ذلك، فاعلم أن أبعَدَ الناس من الكفر من عظَّم السمع وعظَّم الإيمان بما فيه مع (1) البُعد من التمثيل والتشبيه، وإن اطلع أهل الأنظار العقلية على غَلَطِه أو رِكَّةِ بعض أدلته، فقد يكون إيمان بعض المؤمنين صحيحاً مؤمناً له من عذاب الله، مُقَرِّباً له من الله، ويكون عليه في تَصَرُّفِه في النظر والاستدلال مؤاخذاتٌ لا سيما في العبارة، وذلك لعدم ارتياضه (2) على تهذيب العبارات، وقلَّة دريته بتحرير المقدِّمات، لا لضعف إيمانه، ولا لضعف دليله، وقد يوردُ المتحذلِقُ في علم (3) الجدل الشُّبَهَ، فيكسوها من حسن الترصيف، وجودة الترتيب ما يُموِّهُ به على كثير من المتعاطين لعلم النظر، والمنقطعين في فنِّ الكلام، فإيَّاك والاغترار بذلك، فإن أكثر المعاني المشوَّهة تُسْتَرُ بالعبارات المموّهة.
الوجه الثاني: أنَّ الدليل على الكفر والفِسْقِ لا يكون إلاَّ سمعياً قطعياً ولا نزاع في ذلك، وإنَّما النزاع في بعض الأدِلَّةِ على التكفير، هل هو قاطعٌ أم لا؟، وأنت إذا عَرَفْتَ معنى القاطع، عرفتَ الحقَّ في تلك الأدلة المعينة.
واعلم أن القطعَ لا بُدَّ أن يكون من جهة ثبوت النصِّ الشرعي في
__________
(1) في (ش) و (د): من.
(2) تحرفت في (ش) إلى: ارتباطه.
(3) في (د): لعلم.(4/179)
نفسه، ومن جهة وضوح معناه.
فأمَّا ثبوتُه فلا طريق إليه إلاَّ التواتر الضروري كما تقدم.
وأما وضوح معناه، فهل يمكن أن يكون قطعياً، ولا يكون ضرورياً؟ في كلام كثيرٍ من الأصوليين ما يقتضي تجويز ذلك، وفي (1) كلام بعضهم ما يمنع من ذلك، وهو القويُّ عندي أن (2) القطع على معنى النصِّ من قبل (3) النقل عن أهل اللغة أنهم يعنُونَ باللفظ المعين معناه المُعيَّن دون غيرِه، وهذا (4) طريقُه (5) النقل لا النظر، وما كان طريقه النقل لا النظر لم يدخله القطع الاستدلالي، وإنَّما يكون من قبيل المتواترات وهي ضروريةٌ، ويُؤيِّدُ هذا أن شرط القطع، بمعنى النص مع تواتُرِ معناه لغةً القطع ينفي الاشتراك، والتجوز، والإضمار، والمعارضة، والنسخ، والتخصيص، والاستدلال القاطع على عدم هذه متعذرٌ، لأنه لا مستند لذلك إلاَّ عدمُ الوجدان بعد الطلب، وذلك لا يُفِيدُ القطع البتة، ومنتهى ما يفيد الظن لا سوى، كما ذلك مقررٌ في العلوم النظرية بل مقررٌ في العلوم (6) الفِطرية، فإن كل عاقل يُجَرِّبُ مثل ذلك، فلِمَ يطلب الإنسان الشيء فلا يجده ثم يجده؟.
وقد أورد الرازي هذا السؤال في باب اللغات من " محصوله " (7)
__________
(1) "الواو" ساقطة من (ب).
(2) في (ش): لأن.
(3) في (ش): قبيل.
(4) في (ش): وهذه.
(5) في (ب): طريقة.
(6) في (ب): العقول.
(7) انظر الجزء الأول من ص 260، و269 و279 و294 - 295.(4/180)
مُهذَّباً مُطوَّلاً، وأجاب عنه بما معناه: أن العلم بالمقاصد يكون مع القرائن ضرورياً، فإنا نعلم مراد الله سبحانه بالسماوات والأرض بالضرورة (1)، لا بكون (2) لفظ السماء موضوعاً لِمُسماه، لدخول الاشتراك والمجاز والإضمار في الأوضاع اللغوية.
فإذا تقرَّر هذا، ثبت أن (3) الدليل القطعى على التكفير ليس هو إلاَّ العلم الضروري بأن هذا القول المعين كفرٌ، وهذا غير موجود إلاَّ في مثل من قدمنا ذكره من القرامطة، ألا ترى أن من أوضح الألفاظ في هذا المعنى لفظ الكفر، وقد جاء بمعنى كفر النعمة، وحَمَلَه على ذلك كثيرٌ من العلماء في أحاديث كثيرةٍ، وجاء في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف النساء بالكفر، قالوا: يا رسول الله، يكفرن بالله، قال: " لا، يكفرن العشير " (4) وهو الزوج، وجاء في الحديث إطلاق الكفر على النياحة والطعن في الأنساب (5)، والانتساب إلى غير الأب (6)، ومن ثم اختلف الناس في تكفير قاطع
__________
(1) في (ش): ضرورة.
(2) في (ب): يكون.
(3) ساقطة من (ب).
(4) أخرجه بلفظ المصنف أحمد 1/ 358 - 359 من حديث ابن عباس، وهو بنحوه من حديثه في " الموطأ " 1/ 186 - 187، و" المسند " 1/ 298.
وتقدم تخريجه في 2/ 162 من " الصحيحين " وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري.
وأخرجه من حديث ابن مسعود: أحمد 1/ 423 و425 و433 و436، والدارمي 1/ 237.
وأخرجه من حديث ابن عمر: أحمد 2/ 66 - 67، وابن ماجة (4003).
وأخرجه من حديث أبي هريرة: الترمذي (2613).
وأخرجه من حديث جابر: الدارمي 1/ 377.
(5) أخرجه مسلم (67)، والبيهقي 4/ 63 من حديث أبي هريرة بلفظ: " اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب، والنياحة على الميت ".
(6) أخرجه من حديث أبي ذر: البخاري (3508)، ومسلم (61)، وأحمد =(4/181)
الصلاة لورود النص بكفره (1).
والقصد التنبيه (2) على أن لفظ الكفر الموضوع في الشرع لمضادة الإسلام إذا لم يكُن قاطعاً في معناه الشرعي، فكيف بكثيرٍ من الاستخراجات البعيدة والاستنباطات المتكلفة، والإلزامات المتعسفة، والمفهومات المُتخيلة (3)، وقد صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا قال المسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " (4)، ولا ملجأ للمسلم إلى التعرُّض لمثل هذا الذنب العظيم، والخطأ في العفو أولى من الخطأ في العقوبة، وتقوى الله نِعْمَ الوازِعُ، نسأل الله أن يجعلنا من المتقين.
وهذا الكلام الذي ذكرته في شرائط التكفير والتفسيق هو على قواعد المعتزلة والشيعة وجُلِّ سائر المتكلمين، وهو عندي صحيح في من يُرادُ القطع بكفره، وأما من لا يراد القطع بكفره ففيه لي (5) نظر ليس هذا مَوْضِعَ
__________
= 5/ 166 بلفظ: " ليس من رجلٍ ادَّعى لغير أبيه -وهو يعلمه- إلاَّ كفر بالله، ومن ادَّعى قوماً ليس له فيهم نسب فليتبوّأ مقعده من النار ".
(1) أخرجه من حديث جابر: أحمد 3/ 370 و389، ومسلم (82)، وأبو داود (4678)، وابن ماجة (1078)، والترمذي (2618) و (2619) و (2620)، والبغوي (347). ولفظ مسلم: " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة ".
وأخرجه من حديث بريدة: النسائي 1/ 231 - 232، والترمذي (2621)، وابن ماجة (1079)، والحاكم 1/ 6 - 7.
وأخرجه من حديث أنس: ابن ماجة (1080).
وأخرج الترمذي (2622): عن عبد الله بن شقيق قال: " كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة "، ووصله الحاكم 1/ 7 عن أبي هريرة. وقال الذهبي: لم يتكلم عليه، وإسناده صالح.
(2) في (ب): والتنبيه بزيادة الواو، وهو خطأ.
(3) تحرفت في (ب) و (ش) إلى: المتخلية.
(4) تقدم تخريجه في 2/ 439.
(5) في (د): فلي فيه.(4/182)
ذكره، وقد ذكره الفقيه حميد في " العمدة " (1) وقوَّاه وعزاه إلى الإمام المنصور بالله (2)، والله سبحانه أعلم.
وهذا الكلام كله يتعلق بتكفير المعتزلة أو بعضهم لبعضِ مثبتي الصفات بسبب مخالفة المعلوم من السمع، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] والمعنى المعلوم بالضرورة من الدين في هذه الآية الشريفة المجمع عليه بين المسلمين: هو تكفير من أثبت لله تعالى مثلاً في الربوبية، أو في صفات الربوبية، أو في بعض صفاتها التي هي من خواصِّ الربوبية دون من أثبت سائر صفات الكمال التي يُمْدَحُ الربُّ جل جلاله بالاتصاف بها وسماها المثل الأعلى، وتمدَّح بها في قوله عزَّ وجلّ: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] ومدحه بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجميعُ سلفِ الأمةِ مُتقربين إليه بمدحه بها (3) وتسميته ووصفِه في صلواتهم، وتلاواتهم، وخُطَبهم، ومواعظهم، ومناجاتهم مجمعين على إطلاقها من غير تأويلٍ، ولا تنبيه على ذلك، كيف وهذا أمير المؤمنين الذي يدَّعي عليه كثيرٌ (4) من
__________
(1) هو حميد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد المحلي، النهمي، الوادعي الهمداني، المعروف بالقاضي الشهيد من علماء الزيدية وفضلائها، كان من كبار أصحاب الإمام المهدي أحمد بن الحسين القاسمي، وحضر معه معركة الحصينات بينه وبين المظفر الرسولي يوسف بن عمر، فاستشهد القاضي بها سنة 652، قتله الأشراف بنو حمزة. من تصانيفه: " العمدة " في مجلدين، و" العقد الفريد "، و" الحسامُ الوسيط " و" عقيدة الآل "، " والحدائق الوردية في مناقب الأئمة الزيدية "، وهذا الأخير في مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء. انظر " الفهرس " ص 661. مترجم في " العقود اللؤلؤية " 1/ 115، و" تراجم الرجال " ص 13.
(2) من قوله: " وقد ذكره " إلى هنا مذكور في هاش (أ) غير واضح.
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).(4/183)
أهل البدع موافقتهم فيها (1).
نقول: فيما رواه السيد الإمام الناطق بالحق أبو طالب الحسني رحمه الله في كتابه " الأمالي ": أخبرنا أبي، أخبرنا (2) عبد الله بن أحمد بن سلام، أخبرنا أبي، أخبرنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا عليُّ بن الخطاب الخَثْعَمي، حدثنا أحمد بن محمد الأنصاري، عن بشير، عن زيد بن أسلم، أن رجلاً سأل علياً عليه السلام في مسجد الكوفة، قال: هل تَصِفُ لنا ربَّنا؟ فَغَضِبَ وخطب خطبته التي أولها: الحمد لله الذي لا يضره المنع، ولا يُكديه الإعطاء، وفيها دلالة (3) على معنى ما رُوِيَ عنه عليه السلام من أن الله تعالى لا يوصَفُ إن كان صح ذلك عنه، وذلك قوله عليه السلام في هذه الخطبة بعد أن وصف الله سبحانه بالصفات الحميدة، ثم قال عليه السلام: فعليك أيها السائل بما دل عليه القرآن من صفته، وتقدَّمَكَ فيه الرسلُ بينك وبين معرفته.
وكذلك وصيتُه عليه السلام لولده الحسنِ بن علي عليهما السلام، وما اشتملت عليه من تعظيم القرآن، وما جاءت به الرسل، ووجوب الرجوع إليه، والاعتماد عليه، رواها السيد الإمام أبو طالب الحسني رحمه الله في " أماليه "، فقال: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، أخبرنا محمد بن العباس بن الوليد الشامي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن عقبة الأسدي الكوفي، أخبرنا عبد الرحمن بن القاسم بن إسماعيل القطَّان، أخبرنا إسماعيلُ بن مِهْران، أخبرنا عبد الله بن الحارث
__________
(1) في (ش): له فيما.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): وفيهما ما يدل.(4/184)
الهمداني، عن جابرٍ الجُعْفي، عن أبي جعفر محمد (1) بن علي الباقر، عن أبيه عليهما السلام، أن أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى ابنه الحسن بعد انصرافه من صِفِّين إلى قناصرين (2): من الوالدِ الفَانِ المُقِرِّ للزمان، وساق جملةً صالحةً من الوصية، ولم يستوفها كلها كما في " النهج " (3)، وفيما أورده منها قوله عليه السلام: وَدَعِ القول فيما لا تعرف، والنظر فيما لم تُكَلَّفْ، وأمسك عن طريقٍ إذا خِفْتَ ضلالته (4)، فإن الوقوف عند حَيْرَةِ الطريق خيرٌ من ركوب الأهوال، وهي معروفة في " نهح البلاغة " وغيره.
وقد تكلم عليها ابن أبي الحديد في " شرحه " (5) بكلام يستفرغ العجب من صدوره (6) من مثله، خلاصته: أن عليّاً كرَّم الله وجهه عرف من الحَسَنِ القصورَ عن درك حقائق علم الكلام، فأوصاه بالجُمل، فإنا لله إن كانت ذهبت المعارف، فأين الحياء، أيكون أفضل أهل عصره الذين هم من خير القرون بالإجماع، وإمامُهم المجمع على انعقاد إمامته قاصراً عن مرتبة ابن أبي الحديد وشيوخه المستأخرين قدراً وزماناً بالنصِّ والإجماع عن مراتب ركنِ الإيمان، وعِصَابَةُ الإسلام من رعية سيِّد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7)، فكيف بإمامهم المقطوع على
__________
(1) في (ش): عن محمد.
(2) كذا في الأصول: " قناصرين "، وفي " معجم البلدان ": قاصرين: وهي بلد بالشام بقرب بالس، وبالس: بين حلب والرقة على ضفة الفرات الغربية، وقد تحرفت في " النهج " و" شرحه " ب 16/ 53 إلى: حاضرين.
(3) ص 553 - 572.
(4) في (ش): ضلالاته.
(5) 16/ 9 - 131.
(6) في (ب): صدور.
(7) جاء في الحديث المرفوع: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ". أخرجه =(4/185)
إمامته وولايته وعلمه وجلالته؟!، فكيف يفضُلُ (1) عليه في معرفة الله تعالى التي هي أساس الإيمان وأفضلُه (2) من لم يتخلّص من البدعة، ولم يستضىءْ بنور السنة، بل من اشتدَّ النزاع في حكمه بين كثيرٍ من أهل الملة؟!
ولو كان إثباتُ ما تمدَّح الله به من أسمائه الحسنى أو إثبات بعض ذلك تشبيهاً، لكان الحق قول الباطنية الذين نَفَوْا جميع ذلك، فلمَّا أجمعنا على بُطلان قولهم: إن ذلك تشبيهٌ، كان جواب أهل السنة لمن نسب إليهم التشبيه بسبب إيمانهم بما تمدَّح الله به هو جواب المعتزلة على الباطنية حين نَسَبَتِ (3) الباطنيةُ التشبيه إلى المعتزلة بسبب وصفهم لله تعالى ببعض ما تمدَّح (4) به سبحانه، فافهم ذلك. ومما (5) تقف عليه من كلام أمير المؤمنين وسائر الصحابة والتابعين في الفزع إلى القرآن والاعتقاد أنه أعظم برهان (6)، والوصف لله تعالى بما وصفه به في (7) الفرقان، وما (8)
__________
= الترمذي (3768)، وأحمد 3/ 3 و62 و64 و82 من حديث أبي سعيد الخدري، وصحَّحه الترمذي، وابن حبان (2228)، والحاكم 3/ 166.
وأخرجه أحمد 5/ 391 و392 من حديث حذيفة، وحسنه الترمذي (3781).
وأخرجه من حديث ابن مسعود: الحاكم 3/ 167، وصححه، ووافقه الذهبي.
وفي الباب عن غير واحد من الصحابة، ذكرها الهيثمي في " المجمع " 9/ 182 - 184.
وروى البخاري في " صحيحه " (3753) و (5994) من حديث ابن عمر مرفرعاً:
" هما ريحانتاي من الدنيا " وهو في " المسند " 2/ 85 و153، والترمذي (3770).
(1) في (ش): تفضل.
(2) في (ش): وأفضل.
(3) في (ش): نسب.
(4) في (ش): تمدح الله.
(5) في (ب): وبما.
(6) "الواو" ساقطة من (ب).
(7) ساقطة من (د).
(8) في (ب): وبما.(4/186)
وصَفَتْهُ به رسلُه مما تواتر عنهم في جميع الأديان يُعلم بطلان الوجه الثاني الذي تمسَّك به بعضُ المعتزلة في تكفير بعض الصفاتية الذين (1) افتري عليهم اسمُ (2) المجسمة، وهو الإجماع، فإنَّ كثيراً منهم اسْتَرَكَّ الاستدلال على كفرهم بردِّ المعلوم من السمع لأنهم أشدُّ الناس إيماناً بالسمع، وإنما كفَّرَهُم هؤلاء لشدة ملاحظتهم للسمع، فعرفوا أن طريق (3) تكفيرهم برد السمع الذي هو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ركيكٌ لا سيّما عند من يعرِفُ شروط الأدلَّة القاطعة (4)، ويعرِفُ أنَّ التكفير لا يكونُ إلاَّ بجحد (5) معلوم ضروري أو بدليل معلوم قطعي، فعَدَلُوا عن ذلك إلى الإجماع لما شاع بينهم من أن الإجماع قطعي، وهذه غفلة عظيمة لوجوه.
الوجه الأول: أن (6) المدعى بالإجماع هو كفرُ المُشَبِّهةِ، وهذا صحيح لكن فيه غِلاظٌ خفي، وهو أنه مبنيٌّ على مقدمتين:
إحداهما (7): أن هؤلاء مُشبِّهةٌ.
وثانيهما: أن المشبِّهَة كفارٌ، وموضع الإجماع هو المقدمة الأولى فسكتُوا من تصحيح الإجماع فيها وأغفلوها، وهي موضعُ النِّزاع (8)،
__________
(1) في (ب) و (ش): الذي.
(2) في (ب): " بعض "، وفي (ش): " لفظ ".
(3) في (د): شدة.
(4) في (ش): القطيعة.
(5) في (ب) و (ش): بحجة.
(6) ساقطة من (ب).
(7) في (ب) و (د): أحدهما.
(8) في (ش): موضع النزاع فيها.(4/187)
فتأمل ذلك فعند أهل السنة أن نفي التشبيه عن الله تعالى بتعظيم صفاته في كمالها، ونفي كلِّ نقصٍ عنها. وعند الملاحدة أنه ينفيها، والمعتزلة فرَّقوا بينها، ففي بعضها قالوا بقول أهل السنة، وفي بعضها قالوا: بقولِ الملاحده الباطنية، ويشهدُ لقول أهل السنة: {وهو السميعُ البصيرُ} بعد قوله: {ليسَ كمثلِه شيءٌ}، وقولُه: {وله المثلُ الأعلى} [الروم: 27]، وما تقدَّم في الوهمُ الخامس عشر (1) و (2) سيأتي في الكلام على الرؤية.
الوجه الثاني: أنَّ خصومهم الذين قضَوْا بكفرِهم من الأمة، بل الذين هم أشبهُ الأمة بسَلَفِها الصالح المُجْمَعِ على سلامتهم، ولا يشُكُّ في ذلك من يعرفُ أخبار السلف وبُعدَهم من الكلام، فإجماع مخالفيهم على كفرهم إجماعُ بعضِ الأمة لا إجماع الأمة، بل (3) هؤلاء المدعى كفرُهم بالإجماع يدَّعُون كُفْرَ مكفرِهم بالإجماع، وينقُلُون عن السلف في ذلك ما لا يتَّسِعُ له هذا الموضع، ويعضدُون ذلك بالحديث الصحيح " إذا قالَ المسلمُ لأخيهِ يا كافر، فقَدْ باء بها أحدُهُما ".
وعلى الجَهْدِ (4) أنَّ مكفِّرَهم يَتَخَلَّصُ من دعوى الإجماع على كفرهم (5)، ونحن -ولله الحمد-، نرُدُّ على الطائفتين في تكفيرِ كُلِّ طائفة للأخرى.
__________
(1) " الخامس عشر " ساقط من (ش).
(2) في (أ) و (ش) أو.
(3) من قوله: " الذين هم أشبه " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ش): الجملة.
(5) في (د): كفره، وهو خطأ.(4/188)
فنقول: إنَّه لا يتحققُ تصريحُ أحدٍ من السلف بشيءٍ، من ذلك، فكيف يُدَّعى العلمُ بتصريحِ كلٍّ منهم بذلك، بل لا يتحققُ إجماعُ كُلِّ طائفة من هؤلاء المختلفين على تكفيرِ خصومهم، لأنَّ التنصيصَ على كفرهم إنما كان في الأعصار المتأخرة بعد انتشار الإسلام، وتباعد أقطاره، وتبايُنِ أطرافه، واتِّساع مملكته، وقد مَنَعَ جماعةٌ جِلَّةٌ من المحققين (1) من تَحَقُّقِ الإجماع بعد ذلك، منهم الإمامانِ المنصورُ بالله والمؤيد بالله يحيى بنُ حمزة من أئمَّة الزيدية، والرازيُّ من أئمَّة الأشعرية، والجاحظ من أئمَّة المعتزلة، وأحمدُ بنُ حنبل من أئمة أهل السنة، ومن لا يأتي عليه العَدُّ، واحتجُّوا بما لا يَخْفَى على مميِّزٍ من تَعَذُّرِ العلمِ القاطع بمعرفة أعيانهم فضلاً عن أقوالِهم، وكيف يتصوَّرُ العاقلُ أنه يُمْكِنُه العلمُ القاطع بالإجماع، وهو نَقْلٌ مَحْضٌ لا يدخُلُه الاستدلال، وإنما تدخلُه الضرورةُ، فإذا بَطَلَتْ، كان ظنياً، والعلم الضروري بالإجماع يحتاجُ إلى العلمِ الضروريِّ بانحصار العلماء، بل بانحصار المسلمين ثم تواتر النصِّ الذي لا يحتملُ التأويلَ عن كلِّ فَرْدٍ منهم، وإنما قلنا: بل بانحصارِ المسلمين (2) لأنَّ إجماع العُلَماءِ دون العامةِ حجَّةٌ ظنيةٌ مختَلَفٌ فيها بين العلماء، لأنَّ ظاهر أدلَّة الإجماع يشمَلُ العامة، فإخراجُهم إنَّما كان بدليلٍ ظني وهو عَدَمُ علمِهم بالمسألة، وعدمُ تكليفهم بها، ومن أدخلَهم يقول: لهم طريقٌ إلى الموافقة بالتقليد عند الجمهور، وبالاجتهاد عند البغدادية، فإذا لم يُقَلِّدوا وَجَبَ عليهم الاجتهاد، أقصى ما فيه أن يجوز ضلالُ العامة بعدم التقليد، وضلالُ العُلَماءِ بخطأ الدليل،
__________
(1) في (د): المتكلمين.
(2) من قوله: " ثم تواتر " إلى هنا ساقط من (د).(4/189)
لكن يجوز أن يكون خطأُ العلماء مغفوراً بالاجتهاد، ولم يدُلَّ الدليل على عصمةِ الأمةِ من الخطأ المغفور، وإنَّما القدرُ المتحققُ عصمتُهم ممَّا يُسَمَّى ضلالةً، مثلُ الكفر، سلَّمنا، فلم يدُلَّ الدليل على عصمة الأمة مفترقة، فيجوز ضلالها كُلِّها حين (1) لا تجتمِعُ، وظاهر بعض الأحاديث يمنع هذا (2)، لكنَّه ظنيٌّ، ودخولُ العامي في مسائل التكفير أقوى، لأن عند الخصم أنه مكلفٌ بها، متمكنٌ منها.
ولما قَوِيَ هذا السؤالُ، أراد جماعةٌ دَفْعَه، منهم: ابن الحاجب بأنا نعلم تقديمهم للقاطع على الظني، وهذا لا يُساوي سماعه، فإنا لم نعلم ذلك عنهم بنقلٍ، ولكنا نعلم أن كل عاقل يقول ذلك، كما أنا نعلم إجماع من سيوجد على ذلك ممن لم يخلُقْهُ الله الآن، وذلك مثلُ ما نعلم أن كل عاقلٍ يقول: إنَّ العشرة أكثر من الخمسة.
وقد قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان ما لفظه: وأما الكلام في الوجه الثالث وهو نفي دعوى الإجماع في هذه المسألة بمجرد ما يوجد في كتب المتقدمين، أو يُسمعُ من آحاد المجتهدين ... إلى قوله: وإجماع الأمة فيها غيرُ ممكن، لأنها حَدَثَتْ بعد تباعُدِ أطراف الإسلام، واتِّساع نطاقه، وقد صار طرفُ الإسلام طَرَسُوسَ (3)، ومضيق
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: حتى.
(2) وهو: " إنَّ أمتي لا تجتمع على ضلالة ". أخرجه أحمد 6/ 396، والطبراني من حديث أبي بصرة الغفاري، وابن ماجة (3950) من حديث أنس، وأبو نعيم في " الحلية " 3/ 37، والحاكم 1/ 115 - 116 من حديث ابن عمر، وأبو داود (4253) من حديث أبي مالك الأشعري. وقد تقدم تخريجه 1/ 184.
(3) هي مدينة بثغور الشام شمال غربي حلب تبعد عنها 140 ميلاً تقريباً، وهي قرب أذنة، وبها قبر المأمون، وهي تابعة الآن لجمهورية تركيا.(4/190)
قُسطنطينيَّة، وبلد الهند، وفي الشرقِ إلى ما وراء النهر يعني جيحون (1)، فكيف يمكنُ ادعاءُ علمِ ما عندهم مع أنَّ العلماء فيهم كثرة (2)، وإن شئت أن ترجع إلى أهل البيت، فتشتتُهم كان في أيام عبد الله بن الحسن (3)، ولحاق إدريس بن عبد الله بالغرب (4)، وبعضهم بالمشرق (5)، وتشتتوا تحتَ كُلِّ كوكبٍ، وفيهم العِلمُ ووراثة النبوة، وليس لكل منهم تصنيفٌ مع علمه، وكان أكثرُ ما يُقالُ في ذلك: إنَّا لم نَجِدْ قولاً.
فنقول: إن الذي لم تجدوا أكثر من الذي وجدتُم، أيَّدكم الله تعالى .. إلى قوله: ومِن أين الطَّريقُ لنا إلى العلم بقول كلِّ واحدٍ منهم، والحال هذه وسكوتُه لا يُوَلِّدُ لنا حُكماً، ولا يُعرِّفُنا له قولاً، لأن من الجائز أن يكون عنده غيرُ ما ظهر، ولا يُظهِرُه لعلمه أنَّ قول غيره، وإن خالف اجتهادَه حقٌّ (6)، ولا (7) تَخطُرُ له تلك المسألة ببالٍ. انتهى (8). ذكره في " المجموع المنصوري "، وقد نُسِبَ إلى مخالفة الإجماع.
وذكر الإمام يحيى بن حمزه مثل كلام المنصور واختاره، وذكر
__________
(1) كان هذا النهر يعد الحد الفاصل بين الأقوام الناطقة بالفارسية والتركية فما كان في شماله، أي وراءه من أقاليم قد سماها العرب ما وراء النهر. انظر " بلدان الخلافة الشرقية " ص 476 وما بعدها.
(2) في (ش): كثير.
(3) انظر " البداية والنهاية " 10/ 83 - 85.
(4) هو إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، مؤسس دولة الأدارسة في المغرب، المتوفى سنة 177 هـ مسموماً في وليلي، وهو أول من دخل المغرب من الطالبيين. انظر " الأعلام " 1/ 279.
(5) في (ش): بالشرق.
(6) في (ش): حتى.
(7) في (د): " أو لا "، وفي (ش): " إذ لا ".
(8) ساقطة من (ش).(4/191)
أنه (1) الذي عوَّل عليه أئمة الزيدية وأكثر المعتزلة، ومال إليه أهل الظاهر، وارتضاه الشيخ أبو حامد الغزالي، ثم طوَّل في الاحتجاج عليه (2)، ذكره في " المعيار ".
وهذه المسألة (3) ظنيَّةٌ (4) وربما قيل فيها بالإجماع السُّكُوتي، فكيف بالمسائل القطعية التي يلزَمُ في الاحتجاج بالإجماع فيها ثُبُوتُ نصٍّ لا يحتمل التأويل بالتواتر (5) في الطرفين والوسط عن كل فردٍ من جميع المسلمين، ومن علمائهم بعد العلم الضروري بانحصارهم، ولعزة الإجماع وتساهُل كثيرٍ من الثقات في نقله لمجرد (6) توهُّم موافقة الأكثرين لمن تَكَلَّم لمذهبه (7) فسكتُوا، تجدُ العلماء يتكاذبون في ذلك، فهؤلاء المعتزلة والشيعة مع ثناء بعضهم على بعض، وتوثيق بعضهم لبعض (8) يتكاذبون في روايات ثقاتهم في الإمامة، فالمعتزلة تروي بأجمعهم إجماع الصحابة على خلافة الثلاثة، والشيعةُ تكذِّبُهم في هذه الدَّعوى. وكذلك الشيعة تدَّعي ثبوتَ (9) الخلاف في ذلك و (10) ترويه، والمعتزلة يكذبونَهم في ذلك وأمثال ذلك ما (11) في ذلك لا يُحصَى.
__________
(1) في (أ): أن.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ب): وهذا في مسألة.
(4) "الواو" ساقطة من (ش).
(5) " بالتواتر " ساقطة من (ش).
(6) في (أ): بمجرد.
(7) في (أ): بمذهبه.
(8) قوله: " وتوثيق بعضهم لبعض " ساقط من (ش).
(9) ساقطة من (ش).
(10) في (د): أو.
(11) في (ش): ممَّا.(4/192)
وقد اختار الإمامُ يحيى بن حمزة في كتابه " التمهيد " عدم إكفار أهل القبلة من المُشَبِّهَة والمُجَبِّرة وغيرهم، واحتج على ذلك، ثم ذكر حجج المكفرين للمشبهة والجَبْرِيَّةِ، وجعل الإجماع أحدها، ثم قال: وفي كل واحد من هذه الوجوه نَظَرٌ، ثم قال: حقّاً على كل من تكلم في الإكفار أن يُنْعِمَ النظر فيه، ويتقي الله، فإن موردَه الشرعُ، والخطأ فيه عظيمٌ، وإذا لم يتَّضِحِ الدليل فالوقوف فيه أولى (1) انتهى بحروفه.
وقال الشيخ مختار المعتزليُّ في كتابه " المجتبى " في المسألة التاسعة من التكفير في المشبهة ما لفظه: كَفَّرَهُم شيوخُنا وأكثرُ أهل السنة والأشعرية لأنهم شبَّهُوا الله تعالى بخلقه في الجُلوس والقعود والصعود والنزول (2) وذلك كفرٌ لأنهم (3) عنده كَعَبَدةِ الأصنام، لأنه عندَهُم جسمٌ (4) ذو أبعاد (5)، وعبادة الصنمِ كفرٌ، ولم يُكَفِّرْهُم صاحب " المعتمدِ " (6)، وهو اختيار الرازي من الأشعرية، قال: لأنهم عالمون بذات الصانع القديم على الجملة وبصفاته، ومُقِرُّون (7) به وبصفاته (8) وبكافة الأنبياء عليهم السلام والكتب، فجاز أن لا يبلغَ عقابُهم عقابَ الكافر.
وأما المجسمة فإن (9) عَنَوا بكونِهِ جسماً كونه ذاتاً قائمة، فلا شكَّ في
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ب) و (ش): والنزول والصعود.
(3) في (ب): ولأنهم.
(4) في (ب): جسيم.
(5) ليس في (أ) و (ج): "ذو"، وفي (ب): " ذو أبعاض ".
(6) انظر المعتمد: 2/ 398 - 400 لأبي الحسين البصري المعتزلي.
(7) في (أ): ومعترفون.
(8) قوله: " ومقرون به وبصفاته " ساقطة من (ش).
(9) تحرفت في (أ) إلى: فإنهم.(4/193)
عدم تكفيرهم، وإن عَنَوْا به جسماً ذا أبعادٍ، فَهُمْ والمشبهةُ سواءٌ.
وقال في آخره (1): الفقهاءُ وأصحابُنا لا يُكَفِّرونَ من قال: بأنه كان في جهةٍ وليس بجسمٍ ولا شاغلٍ للجهة. انتهى.
وتقدم تنزيهُ ابنِ أبي الحديد لأحمدَ بن حنبل (2) من التشبيه والتجسيم، وأنه إنما كان يُطلِقُ الآيات ولا يتأوَّلها ويقِفُ على {وما يَعْلَمُ تأويلَه إلاَّ اللهُ} [آل عمران: 7]، وأن ذلك ليس بتشبيهٍ ولا تجسيمٍ، وأكثرُ ما يلزمُ أهلَ الأثرِ التشبيهُ والتجسيم من ذلك، فاعرِفْ (3) هذه الفائدة.
وكذا (4) حكى الشيخ مختار، عن الشيخ أبي الحسين صاحب " المعتمد ": أنه لا يُكَفِّرُ الصفاتية الذين يقولون: إن لله تعالى علماً وقدرةً وحياة وإرادة قديمة، قال: وادعى مُكَفِّروهُم الإجماع على كُفْرِ من أثبت مع الله قديماً.
وأجاب الشيخ أبو الحُسينِ عن هذا الإجماع بأنه يحتمل أن أهل الإجماع إنما أجمعوا على كُفر من أثبت مع الله قديماً واجب الوجود بالذات، لأنه أثبت لله تعالى مثلاً، والصفاتية لا يقُولون بذلك.
قال الشيخ مختار: وهو الحق، لأنهم يقولون: هذه المعاني لا هي الله، ولا غيرُ الله، ولا جزءُ الله (5) فلم يُثبتُوا قديماً من الله، قال:
__________
(1) في (ب): " آخره ما لفظه "، وفي (ش): " آخر هذه ".
(2) 3/ 221.
(3) في (ب): فافهم.
(4) في (ش) و (د): وكذلك.
(5) " ولا جزء الله " ساقطة من (ش).(4/194)
والعجب من أبي هاشم وأصحابه فإنهم (1) يثبتون الأحوال، وهي مثل المعاني، بل أشنع، لقولهم: إنَّه لا يعلمُ ما هيته إلى آخره.
فكيف تصحُّ دعوى الإجماع مع (2) ذلك ومن (3) خلافِ مثلِ (4) هذا الإمام الجليل من أئمَّة أهل البيت فإنه نصَّ على عدم تكفير المُشَبَّهة أول الفصل الثاني في طريق معرفة الكفر، واحتج عليه فيه، وفي النظر الثاني في حكم المخالف للحق من أهل القبلة.
ثم بيَّن (5) الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى " أن ترك التكفير هنا أولى فقال (6) في المسألة (12): الواجب على المفتي أن لا يُفتي بكفر أحدٍ لم يرد فيه دليلٌ على كُفره، واختلف الناس فيه واشتبه الأمر عليه، وأن يكتب في فتواهُ: لا يكفُر، و (7) يُجدد الإسلام ثم النكاح لأن الحكم بكفره حكمٌ بسقوط العبادات عنه والحقوق (8)، والاحتياط في إثباتها، والحكم بتجديد عقد النكاح بعد تجديد الإسلام حكمٌ (9) بتحريم الفُروج، وحرمة الفُروج يُحتاطُ في إثباتها.
وعن بعض السلف أنه كان يكتب: لا يكفُرُ، وغيري يُخالفني.
__________
(1) في (ب): إنَّهم.
(2) في (أ): ومع.
(3) " ومع " ساقطة من (أ).
(4) ساقطة من (ب) و (ش).
(5) تحرفت في (ش) إلى: من.
(6) في (ش): قال.
(7) في (ش): " ولا "، وهو خطأ.
(8) ساقطة من (ب).
(9) من قوله: " بكفره حكم " إلى هنا ساقط من (ش).(4/195)
وفي " البحر المحيط " (1)، وعن أبي عليٍّ الجُبَّائي، وهو قول محمدٍ والشافعيِّ: إنَّه لا يكفُرُ بشيءٍ من ألفاظ الكُفر التي تبدُرُ من (2) الإنسانِ إلاَّ أن يعلَمَ المتلفّظ بها أنه يكفُرُ بها. قال الشيخ مختارٌ: وبه نُفْتي (3).
و (4) قال في المسألة (11) بعد الاحتجاج على عدمِ كُفر المُجبرة: فثبت (5) أنَّه لا (6) يجوزُ تكفيرُ أحدٍ من أهل القبلة إلاَّ من ثَبَتَ بالتواتر أو الإجماع كفرُه، وقد ذكرتُه (7) مستوفىً حيث ذكرتُ كفر المجبرة والاختلاف فيه (8) في المجلد الثالث بعد هذا ..
ويُؤيِّدُ ما اختاره الإمامانِ المنصور بالله، والمؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليهما السلام من تَعَذُّرِ العلم (9) بالإجماع في الأعصار الأخيرة سواءٌ كان إجماع الأمة أو العترة، أنا نظرنا في أقربهما إلى الانحصار، وهو إجماع العِترة فوجدناه مُتَعذِّراً كما ذكره الإمام (10) المنصور بالله، ومن أراد
__________
(1) وهو المشهور بـ " منية الفقهاء " للقاضي فخر الدين بديع بن منصور القُزَبْني الحنفي، إمام فاضل، فقيه كامل، انتهت إليه رياسة الفتوى، تفقَّه على نجم الأئمَّة البخاري، وتفقَّه عليه مختار بن محمود الزاهدي، وكتابه من تصانيفه المعتبرة. " الفوائد البهية " للكنوي ص 54.
(2) في (د): من ألفاظ.
(3) في (ش): أفتي.
(4) "الواو" ساقطة من (ش).
(5) تحرفت في (ب) إلى: مبعث.
(6) " لا " ساقطة من (ب).
(7) في (ش): نقلته.
(8) ساقطة من (ش).
(9) ساقطة من (ش).
(10) ساقطة من (ش).(4/196)
معرفة ذلك من غير تقليدٍ، فليطالع كتب تاريخ (1) الرجال، وكتب الأنساب والمُشَجَّرات، فإنه يرى خلقاً كثيراً منهم ممَّن يُنسبُ إلى العلم، ولا يُعرَفُ لهم مذهبٌ ولا كتابٌ، وقد ذكرتُ منهم جماعةً وافرةً ممَّن لم يعرفهم كثيرٌ من علماء العصر في الرد على السيد، حيث زعم أن الاجتهاد قد انقطع من بعد الشافعي رضي الله عنه، وبينتُ هناك (2) فُحْشَ هذه الدعوى، وأنها تؤدِّي إلى تجهيل القاسم بن إبراهيم، ومن بعده من أئمة العِترة الطاهرة، فإنهم الجميعُ بعد الشافعي، لأنه تُوفي في سنة أربعٍ ومئتين رضي الله عنه من الهجرة النبوية، فذكرت منهم فوق العشرة من أكابر العلماء: أولهم السيد الإمام العلامة الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام إمام الزيدية في الكوفة، ذكره محمد بن منصور، وإنه مِمَّن أجمعت عليه الفِرَقُ، وله مذاهب في الفروع كلها مذكورٌ في كتاب " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، وهو كثيرُ الموافقة لأهل السنة في الفروع والأصول (3).
وذكر محمد بن منصور عنه (4) أنه كان يترحَّمُ على من يُوافِقُه، وعلى (5) من يخالفه من سَلَفِه، وفي (6) هذا إشارة إلى اختلافهم، في ذلك العصر وقبله، إلى آخر من ذكرتُ هناك (7)، وأزيدُ هنا إشارةً مختصرةً إلى
__________
(1) في (ب): تواريخ.
(2) ساقطة من (ب).
(3) انظر 2/ 104 فما بعد من هذا الكتاب.
(4) ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (ش).
(6) " في " ساقطة من (ب).
(7) في (ش) و (د): هنالك.(4/197)
من ذكر منهم العلاَّمة ابنُ حَزْمٍ في كتابه " جمهرةِ النَّسَبِ " (1) مع اختصاره.
فذكر: مِنْ أولاد الحسن بن علي عليهما السلام: الحسن بن زيد بن الحسن بن علي أمير المدينة في أيام المنصور العباسي، ولدُه ثمانية، منهم إبراهيم ولإبراهيم هذا محمدٌ، ومن ولد محمدٍ هذا حفيده محمد بن الحسن بن محمد القائم بالمدينة النبوية، والنقيبُ محمدُ بن الحسن الملقب بالداعي الصغير القائم بالرَّيِّ وطبرستان، وكان بينه وبين الأطروش الحسيني (2) حروبٌ، والحسن ومحمد (3) ابنا (4) زيد الداعيان وعَقْبُ محمدٍ منهما: إسماعيل (5) بن المهدي بن زيد بن محمد المذكور، وعمُّهُما أحمد بن محمد القائم بالحجازِ المحاربُ لبني جعفر بن أبي جعفر (6) الشجوي (7) ابن القاسم بن الحسن بن زيد، وابنُ عمهما أبو لكا بن الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الرحمن الشجوي (8)، وابن أخيه شراهيكُ بن أحمد بن الحسن بن محمد بن جعفر تَسَمَّوا (9) بأسماء الدَّيْلَم لمداخلتِهم، ومحمد بن علي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن الحسن القائم بالمدينة (10) وله عَقْبٌ عظيم جداً يتجاوزُ المئتين، ولهُم
__________
(1) ص 39، وقد تقدَّم أيضاً هذا في 2/ 111 من هذا الجزء.
(2) في (أ) و (ب): الأطروشي الحسني.
(3) في (ب): والحسن أحمد بن محمد.
(4) في (أ) و (ش): ابن.
(5) في (أ) و (ب) و (ج): وإسماعيل.
(6) في " الجمهرة ": جعفر بن أبي طالب.
(7) في (ج): الشجري.
(8) في الجمهرة: الشجوبي.
(9) في (أ): سموا.
(10) في " الجمهرة " ص 43: " محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن القائم بالمدينة " وما ذكره المصنف قائم بخراسان كما ذكر ابن حزم.(4/198)
بالحجازِ ثورةٌ وجموعٌ، ومحمد بن إبراهيم أخو القاسم قام مع أبي السرايا، وللقاسم عليه السلام أولادٌ منهم النقيبان أحمد وإبراهيم ابنا محمدٍ النقيب بن إسماعيل بن القاسم.
ومنهم القائمون بصعدة منهم: جعفرٌ الملقبُ بالرشيد، والحسن المنتجب (1)، والقاسم المختار، ومحمد المهتدي (2) بنو أحمد الناصر، ولهم أخٌ يُسمَّى عبد الله، لكن أمَّه أمُّ ولد، وهو اليماني القائم بمارِدَةَ، المقتول يوم البركة بالزهراء سنة ثلاثٍ وأربعين وثلاث مئة، ولهم أخوةٌ منهم سليمان، ويحيى، وإبراهيم، وهارون، وداود الساكن بمصر، وحمزة، وعبد الله، وأبو الغطمش، وأبو الجحاف، وطارق بنو أحمد الناصر، ولداود منهم الساكن بمصر ولدٌ يقال له: هاشم، ومنهم الشاعر الأصبهاني محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن طباطبا، ولهذا الشاعر ابنان عليٌّ والحسن.
ومن أولاد الحسن بن (3) جعفر بن الحسن جماعة عجم بناحية متِّيجَة (4) وسوق حمزة، ومنهم زهيرٌ وعلي ابنا محمد بن جعفر كانت لهما أعمالٌ بالغرب من جهة سوق حمزة (5).
وأولادُ عبد الله بن الحسن: محمدٌ القائمُ بالمدينة، وإبراهيمُ القائمُ
__________
(1) في (أ) وكذا في 2/ 113: المنتجب.
(2) في (أ) و (ب): المهدي.
(3) ليست في (أ) و (ش).
(4) مِتِّيجة وزان سِكِّينة: بلد بالمغرب الكبير، وكذا سوق حمزة منسوب إلى حمزة بن حسن به سليمان بن الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قال ياقوت: وأبوه الحسن بن سليمان: هو الذي دخل المغرب، وكان له من البنين حمزة هذا وعبد الله وإبراهيم وأحمد ومحمد والقاسم وكلهم أعقب هناك.
(5) من قوله: " ومنهم زهير " إلى هنا ساقط من (ب).(4/199)
بالبصرة، ويحيى القائم بالدَّيلم، وإدريس الأصغر القائم بالغرب، وسليمان وموسى وعَقْبُ هؤلاء الثلاثة كثيرٌ جداً.
ولمحمد بن عبد الله ويلقب الأرقط: عبد الله الأشتر قُتِلَ بكابُل، وله ولدٌ يُسمَّى محمداً (1)، والعَقْبُ فيه، وللأشتر عَقْبٌ ببغداد وغيرها يعرفون ببني الأشتر.
ومحمد بن إبراهيم بن موسى بن عبد الله بن الحسن صاحب اليمامة المقيم (2) بها وهم باليمامة (3) ودارُ ملكهم بها، وهم بها (4) قائمٌ بعدَ قائمٍ.
وعبد الرحمن بن فاتك عبد الله بن داود بن سليمان بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن له اثنان وعشرون ذكراً بالغون سكنوا كلهم أَذَنَةَ إلاَّ ثلاثةً منهم سكنوا أمج (5) بقرب (6) مكة.
ومنهم جعفر بن محمدٍ غلبَ على مكة إيام الإخشيديَّة، وولده إلى اليوم ولاة مكة، وهو ابن (7) محمد بن الحسن بن محمد بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن (8) بن علي بن أبي طالب عليهم السلام (9).
__________
(1) الأصول: محمد.
(2) (ش): القائم.
(3) قوله: " المقيم بها وهم باليمامة " ساقطة من (د).
(4) ساقطة من (ش).
(5) تحرفت في (أ): إلى " أبج "، وفي (ب): " منج ".
(6) في (ب): قرب.
(7) ساقطة من (ب).
(8) " بن الحسن " ساقطة من (ب) و (ش).
(9) من قوله: " ولاة مكة " إلى هنا، مكانها في (د): " ولسليمان بن عبد الله بن الحسن بن علي عليهم السلام ".(4/200)
ولسليمان بن عبد الله بن الحسن ولدٌ، وهو محمد القائم بالمغرب، وله عقبٌ منهم أبو العيش عيسى بن إدريس صاحب جُرَاوَةَ، وابنه الحسن سكن قرطبة، وإدريس بن إبراهيم صاحب آرسقول، وكان مُنقطعاً إلى الناصر صاحب الأندلس، وأحمد بن عيسى صاحب سوق إبراهيم، والحكم وعبد الرحمن ابنا علي بن يحيى، سكنا قرطبة وأعقبا بها، وأولاد يحيى بن محمد بن إبراهيم (1) دخلوا الأندلس كلُّهم، وكان سليمان منهم رئيساً في تلك الناحية، ومنهم القاسم بن محمد صاحب تِلِمْسان، ومنهم بطوش بن حنابش (2) بن الحسن بن محمد بن سليمان، وهم بالمغرب كثيرٌ جداً، وكانت لهم بها ممالك عدة، ومنهم جُنُّون القائم بالمغرب (3) أحمد ومحمد ابنا أبي العيش عيسى بن جنون، كانا ملكين بالمغرب (4)، وإبراهيم لقبُه أبو غبرَةَ كان مَلِكاً بالمغربِ، وكان لجنون منهم عشرون ذكراً، منهم القاسم الأصغر فنون بن جنون القائم بالمغرب (5)، وأخوه عليٌّ الأصغر القائم بعده، ومحمد بن جنون القائم على ابنه بالبصرة، والحسن بن جنون الأعور ادعى النبوَّة بتيدلي (6)، ومنهم الحسن بن محمد بن القاسم الحجام، سُمِّي بذلك لكثرة سفكِه للدماء، ومن ولده القاسم بن محمد بن حسن الفقيه الشافعي بالقيروان المعروف بابن بنت الزيدي، ومنهم إبراهيم بن القاسم صاحب البصرة
__________
(1) من قوله: " والحكم " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في " الجمهرة " ص 48: " حنانش ".
(3) " القائم بالمغرب " ليس في " الجمهرة " و (ب) و (د)، وفي (ش): جنون بن أحمد.
(4) في (ش): بالغرب.
(5) في (ش): بالغرب.
(6) كتب فوقها في (ش): هكذا.(4/201)
كان عمر بن حفصون يخطب لهم (1)، ومنهم المسمَّى بالمأمون، وعلي المسمى بالناصر تَسَمّيَاً بالخلافة بالأندلس، ومحمد بن القاسم صاحب الجزيرة تسمى بالخلافة، وولِيَ الجزيرة (2) بعده ابنه القاسم ولم يَتَسَمَّ بالخلافة، وكان حَصُوراً لا يقرَبُ النساء، وأخو محمد بن القاسم الحسن بن القاسم تَنَسَّك ولَبِسَ الصوف وحجَّ، وولد الناصر يحيى وإدريس تسميَّا بالخلافة في الأندلس، ومحمد بن إدريس خليفةٌ تسمي بالمهدي، وحارب ابن عمِّه إدريس بن يحيى وكلاهما تسمى بالخلافة، وكان بدء أمرهم سنة أربع مئة، وبَقِيَ أمرُهم ثمانيةً وأربعين سنة.
ومنهم صاحبُ تامدلت (3)، وصاحب صنهاجة الرِّمال (4)، وصاحب مِكْناسة.
وذكر من أولاد الحسين عليه السلام: عبد الله بن علي بن الحسين الأرقط، له ولدان إسحاق ومحمد، لهما عَقْبٌ كثيرٌ، منهم الكوكبي اسمه الحسين، وأحمد (5) بن محمد بن إسماعيل كان من قُوَّاد الحسن بن زيد بِطَبَرِسْتان.
ومن أولاد عمر بن علي بن الحسين: محمد بن القاسم بن علي بن عمر، و (6) كان فاضلاً في دينه يميلُ إلى الاعتزال قام بالطَّالَقَان (7)؛ فلما
__________
(1) في " الجمهرة ": له.
(2) من قوله: " تسمى " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) بلد من بلاد المغرب شرقي ملطة. انظر " معجم البلدان " 2/ 7.
(4) في (ب): الزمان.
(5) ساقطة من (ب).
(6) "الواو" ساقطة من (ب).
(7) الطالقان: بلدتان، إحداهما بخراسان بين مرو الروذ وبلخ، والأخرى: بلدة وكورة بين قزوين وأبهر. انظر " معجم ياقوت " 4/ 6 - 7.(4/202)
رأي الأمر لا يَتِمُّ إلاَّ بسفك الدِّماء؛ هَرَبَ واستَتَرَ إلى أن مات.
ومنهم: زيدٌ، وجعفرٌ (1)، ومحمد (2): بنو الحسن الأُطروش الذي أسلم الدَّيْلَمُ على يديه، وهو ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر. وكان للحسن الأطروش من الإخوة: جعفرٌ، ومحمدٌ، وأحمدُ المكنَّى بأبي هاشمٍ، وهو المعروفُ بالصوفي؛ والحسينُ المحدثُ، يَرْوي عنه ابن الأحمر وغيره.
قال ابن حزم: وكان هذا الأُطروش حَسَنَ المذهب، عَدْلاً في أحكامِه، وكان الحسنُ بنُ محمد بن علي، وهو ابنُ (3) أخي الأُطروش، قد قام بطبرستان وقَتَلَه جيوش (4) بها (5) سنة اثنتى (6) عشرة وثلاث مئة.
وأولاد الحسين بن علي بن الحسين (7) ستةٌ، كلُّهم أعقبَ عقباً عظيماً منهم عبدُ الله يُعْرَفُ بالعقيقي، وَمِنْ ولدِه الذي قَتَلَه الحسن بن زيد صاحب طبرستان.
ومنهم: جعفرُ بنُ عبيد (8) الله بن الحسين بن علي بن الحسين كانت له شيعة يُسَمُّونَه حُجَّة الله.
ومنهم: حمزة بن الحسن ملك هان (9) في المغرب، وملك قطيعاً
__________
(1) " وجعفر " ساقطة من (د).
(2) " وجعفر ومحمد " ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (د).
(4) في (ش): الجيوش.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في " الجمهرة " ص 54: سنة 316.
(7) " ابن الحسين " ساقط من (ش).
(8) في (ش): عبد.
(9) في " الجمهرة " ص 55: " هاز "، وانظر " صفة افريقيا الشمالية " للبكري ص 143.(4/203)
من صِنهاجة، وإليه يُنسبُ سوقُ حمزة، وولدُه بها كثيرٌ، وكذلك ولد أخويه في تلك الجهة؛ وكان عمُّه الحسن بن سليمان من قُوَّادِ الحسن بن زيد، وهو الذي غَزَا له الرَّيَّ، وكان شاعراً.
ومنهم المحدث المشهور بمصر ميمون بن حمزة بن الحسين بن محمد بن الحسين (1) بن حمزة (2).
ومنهم الملقب بمسلم (3) الذي كان يريدُ مصر أيام كافور، واسمه محمد بن عبد الله بن طاهر بن يحيى المحدث، وابن عمه طاهر بن الحسين بن طاهر الذي مدحه المتنبي بقوله:
أعِيْدُوا صَبَاحي فَهْوَ عِنْدَ (4) الكَوَاعِبِ (5)
القصيدة التي قال فيها:
إذا عَلَوِيٌّ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ طاهِرٍ ... فَمَا هُوَ إلاَّ حُجَّةٌ للنواصِبِ
وأبو مسلمٍ هذا قامَ بالشام بعد كافور، وتسمَّى (6) بالمهدي، واستنصر بالقرامطة، والحسن بن محمد بن يحيى المحدِّث المذكور تجاوَزَ تسعين سنةً، وكان بالكوفةِ حُمِلَ عنه العلم.
ومنهم محمد بن عبيد الله كان له قدرٌ بالكوفة، ومنزلة
__________
(1) في " الجمهرة " ص 55: الحسن.
(2) " بن محمد بن الحسين بن حمزة " ساقط من (ش).
(3) في (ب)، وفوق " بمسلم " في (أ) و (د): " أبو مسلم ".
(4) في (ش): غيد.
(5) وعجزه: وَرُودُّا رُقَادي فهو لَحْظُ الحَبَائِبِ
من قصيدة في " ديوانه " بشرح العكبري 1/ 147 - 159.
(6) في (ب): ويسمَّى.(4/204)
بالديالمة (1) يُعارضُ بها منزلة بني عمر العلويين بالكوفة وهو الذي مَدَحَه المتنبي بقوله:
أهلاً بِدارِ سَبَاك أَغْيَدُهَا (2)
انتهى مختصراً ممَّا ذكرَه ابنُ حَزْمٍ في " جَمْهَرةِ النسب "، وهي مختصرةٌ ليس يذكرُ فيها إلاَّ العيون الأكابر المشاهير.
وجملةُ مَنْ ذكره (3) الدعاة القائمين غير (4) دعاة اليمامة قدر ثلاثين داعياً لا يُعْرَفُ منهم إلاَّ قدرُ خمسةٍ: محمد بن إبراهيم وأولاده (5)، وأولاد عبد الله بن الحسن، فهؤلاء تُعرفُ (6) أسماؤهم، ولا تُعرفُ تصانيفهم ولا مذاهبُهم، فكيف بدُعاة اليمامة المستمرين قائماً بعد قائم، وممَّن أُهمِل من ساداتهم المتفرغين للعلم (7)، وقد ذَكَرَ منهم أربعةً من أئمة الحديث، وحجة الله الذي تقدم ذكره، وذكر منهم كثيراً (8) باسمه، ولم يذكره بالعلم لظنِّه أن اسمه يكفي، لأنه مشهورٌ كالمحدث العقيقي، يروي السيد الإمامُ أبو طالب في " أماليه " كثيراً عن أبيه عنه.
وجماعةٌ من رواة الحديث رَوَى عنهم (9) السيد أبو طالب كابنه (10)
__________
(1) في " الجمهرة " ص 56: عند الديالمة.
(2) وعجزه: أَبْعَدَ ما بانَ عَنْكَ خُرَّدُها
انطر " الديوان " بشرح العكبري 1/ 294.
(3) في (ب) و (ش): ذكر.
(4) ساقطة من (ش).
(5) " وأولاده " ساقطة من (ب) و (ش).
(6) في (أ) و (ش): فهؤلاء لا تعرف.
(7) في (د): " لطلب العلم "، وفي (ش): بالعلم.
(8) " وذكر منهم كثيراً " ساقط من (د).
(9) في (ش): واعنه. وهو تحريف.
(10) في (ش): ولابنه.(4/205)
الحسين، وحمزة بن القاسم العلوي، وأبي عبد الله محمد بن زيد الحسيني، وأبي محمد الحسن (1) بن حمزة الحسيني، بل تركَ ذكرَ كثيرٍ (2) من أكابر عُلماء العِتْرة مثل: عمر بن إبراهيم الزيدي، راوي " مجموع زيد بن علي "، ذكره الذهبي في " الميزان " (3) وأثْنَى عليه، ومثل: مصنف " الجامع الكافي " أبي عبد الله الحسني (4) من بحور العلم، ومثل العلاَّمة الشجري (5)، ذكره ابنُ خِلِّكان وغيرهما (6).
ولقد ذكر العلاَّمة السُّبكيُّ في كتابه " طبقات الشافعية " جماعةً وافرةً من عُلماءِ العترة (7) ممن كان يُعَدُّ في أتباع الإمام الشافعي لملازمة الدرس في كتب الشافعية، وإن كانوا مِنَ (8) العلماء المبرزين، فكم في أصحاب الشافعي وأتباعه من منسوب إليه غير (9) مقلّدٍ في العلم كما في سائر أهل المذهب (10).
وقد ذكر الإسنويُّ (11) مناقِبَهُم وتآليفهم وعُلُومَهم في طبقاته، ومَنْ
__________
(1) في (ش): ابن الحسن.
(2) في (ش): ترك كثيراً.
(3) 3/ 181.
(4) هو محمد بن علي بن الحسن العلوي الحسني، ومن كتابه عدة أجزاء موجودة في المكتبة الغربية بصنعاء. انظر " الفهرس " ص 248 - 249.
(5) هو هبة الله بن علي بن محمد بن حمزة الحسني، المعروف بابن الشجري البغدادي، المتوفى سنة 572 هـ. وهو في " وفيات الأعان " 6/ 45 - 50. وتقدمت ترجمة المصنف له نقلاً عن ابن خلكان - في 2/ 109 - 110.
(6) في (ب): وغيرهم.
(7) في (ب): طبقات الشافعية وإن كانوا من العترة.
(8) ساقطة من (ب).
(9) في (ش): إلى غير.
(10) في (ب) و (د): المذاهب.
(11) هو جمال الدين أبو محمد عبد الرِّحيم بن الحسن بن علي بن عمر الأرموي =(4/206)
منهم كان قُطباً (1) في الاجتهاد، وعلى اختصاره.
وكذلك مع كُلِّ طائفةٍ من عُلماء الإسلام من أهل البيت عليهم السلامُ علماء بحور، وأئمَّة صدور، لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يدَّعي الإجماع وهو لا يدري بأحوالهم (2)، كما أشار إليه الإمام (3) المنصور بالله في مسألةٍ سهلةٍ (4) ظنية، فكيف (5) في القطعيات؟، كيف في التكفير؟ الذي هُو أعظمُ القطعيات (6) خَطَراً، وأجلُّها في الدين أثَراً.
وقد قال الأميرُ الحسينُ في " الشِّفاء "، في فصلٍ ذكره في قصد أهل الحرب إلى ديارهم، ما لفظه: وهو قول السيدِ الإمام الحسن بن إسماعيل الجرجاني عليه السلام (7). قال الأمير: قال - يعني: هذا السيد الإمام الجرجاني (8): وهو الذي ذهب إليه (9) مُحَصِّلُو محدثي أصحابنا. انتهى بلفظه.
__________
= الأسنوي، نزيل القاهرة المتوفى سنة 772 هـ. كان فقيهاً ماهراً ومعلماً ناصحاً، من مصنفاته " زوائد الأصول "، وشرح " المنهاج " للبيضاوي وغيرهما. انظر " البدر الطالع " 1/ 352 - 353، و" كشف الظنون " 2/ 1101. وكتابه في طبقات الشافعية مطبوع في بغداد.
(1) تحرفت في (ب) إلى: قطعياً.
(2) في (ب) و (د): بأقوالهم.
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب) و (ش): كيف.
(6) من قوله: " كيف في التكفير " إلى هنا ساقط من (ش).
(7) هو أبو عبد الله الحسن بن إسماعيل بن زيد بن الحسن بن جعفر الشجري الجرجاني، متكلم، من تصانيفه: " الاعتبار "، و" سلوة العارفين " وغيرهما، " تراجم الرجال " للجنداري ص 12.
(8) من قوله: " قال الأمير قال " إلى هنا ساقط من (د).
(9) ساقطة من (أ).(4/207)
فأفاد برواية هذا السيد (1) أنَّ (2) لأصحابنا مُحَدِّثين مجتهدين في تلك البلاد، ولهم مذاهب واختيارات، فلا ينعقد إجماع العترة دون معرفة أقوالهم، بل ليس للزيدية وسائرِ الشيعة نهمة (3) في تدوين أخبار سادات أهل البيت، وعلماء شيعتهم من أهل مذهبهم، دَعْ عنك غيرهم (4)، ولا عَلِمْتُ لأحدٍ منهم في ذلك مُصنَّفاً (5) إلاَّ ما صنفه مسلم اللحجي المطرفي من كتاب " الطبقات "، ولقد أجاد فيه لو استوفى، لكنَّه اقتَصَر على أهل مذهبه، وفي تركهم ترك علومٍ كثيرة، فإنهم أفرغ للعلم من الدُّعاة الذينَ اقتَصَرَتِ الزيديةُ على ذكرِ بعضِهم.
ولقد ذَكَرَ الإمامُ المؤيَّدُ بالله عليه السلامُ في " الزيادات "، أنَّ تقليد ساداتهم الذين لم يشغلهم الجهاد عن التفرغ للعلم أولى، فكيف يُتركُ ذكرُ مثل هؤلاء (6) حتى لا يُعرفوا؟، فكيف بمذاهبهم (7)؟، وكيف يُدعى إجماعُ العِتْرة مع هذا؟، وهل قال أحدٌ قطُّ: بأن المعتبر في (8) الإجماع هم (9) الخلفاء من العترة دونَ غيرهم؟، ولو قال بذلك قائلٌ، ما ساعدَه الدليلُ خصوصاً في القطعيات (10).
__________
(1) من قوله: " وهو الذي " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ب) و (ج): السيد الإمام أن.
(3) تحرفت في (أ) إلى: فهمه، وفي (ج) إلى: تهمه.
(4) من قوله: " من أهل " إلى هنا ساقط من (د).
(5) في (د): مصنفاً دع عنك غيرهم.
(6) في (أ) و (ش): مذهبهم.
(7) " فكيف بمذاهبهم " ساقطة من (ش).
(8) ساقطة من (ش).
(9) في (ش): منهم.
(10) من قوله: " بل ليس للزيدية " إلى هنا ساقط من (ب).(4/208)
واعلم أن رواية الإجماع مثل رواية الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب على المسلم أن يتثبَّتَ فيها، فإنَّه مسؤولٌ عمَّا يرويه وما (1) أكثر التَّساهل في هذا، فنسأل الله السلامة، وهو المستعان.
الوجه الثالث: أنا لو سلَّمنا ثبوت إجماع ظني سكوتي في هذا الموضع، فإنَّه مُعَارَضٌ بثبوتِ الأخبار الصحيحة الصريحة (2) المتواتر معناها القاضية بإسلام من شَهِدَ أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحجَّ البيت، وصام رمضان، وثبوت ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يُمْكِنُ معرفةُ أقواله بالطرق الصحيحة أولى وأرجحُ من تخيُّلِ ما لا يمكن من الإحاطة بأقوال الأمة، وظنِّ موافقة (3) السكوت لمن تكلَّم بغير قرينةٍ صحيحة، والله سبحانه أعلم.
فإن قيل: فما تقول (4) في مَنْ كفَّر مسلماً مُتأوِّلاً أو مجترئاً، هل يكفر المكفِّر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال المسلمُ لأخيه يا كافرُ فقد باء بها أحدُهما "؟
قلت: أما المعتزلة والشيعة، فتمنع من تكفيره (5)، لأن الحديث ظني، وإن كان صحيحاً، أمَّا أهل الحديث (6)، فقد قال البخاري في الصحيح (7): باب: من كفَّر أخاه بغير تأويل، فهو كما قال، واحتجَّ في
__________
(1) في (ش): فما.
(2) ساقطة من (ب).
(3) " وظن موافقة " ساقطة من (ب).
(4) في (ش) فما تقولون.
(5) في (ب): تكفير.
(6) من قوله: " قلت أما المعتزلة " إلى هنا ساقط من (ش).
(7) في (ب) و (د) بعد هذا: " بعد ثمانين باباً أو يزيد قليلاً من كتاب الأدب ".(4/209)
الباب بحديثِ ابن عمر وأبي هريرة (1) المقدم، " فقد باءَ بها أحدهما " وبحديث ثابت بن الضحاك " مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذباً فهو كما قال " (2).
ثمَّ قال: باب من لم يَرَ إكفار (3) من قال ذلك متأوِّلاً، أو جاهلاً، وأورد فيه حديث عمر في قوله لِحَاطِب: إنَّه منافق، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ: " وما يُدريك ... " (4) الحديث.
وبحديث جابرٍ بقولِ معاذٍ للمتجوز (5) في صلاته خلفه: إنه منافقٌ (6).
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذٍ حين قال (7) ذلك: " أفتانٌ أنت " (8).
__________
(1) في (د) و (ش): " بحديث ابن عمر، وحديث أبي هريرة ". وقد تقدم تخريجه في 2/ 439 من هذا الكتاب.
(2) أخرجه أحمد 4/ 33 و34، والبخاري (1363) و (6047) و (6652)، ومسلم (110)، والترمذي (1543)، والنسائي 7/ 5 - 6 و6 و19، وابن ماجة (2098)، والبغوي (2432)، وأبو داود (3257).
(3) سقطت من (ب).
(4) تمامه: " وما يدريك لعلَّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال: قد غفرتُ لكم ".
أخرجه البخاري معلقاً في كتاب الأدب، باب: من لم يرَ إكفار من قال ذلك متأولاً أو جاهلاً. وأخرجه موصولاً (3983) و (4890) و (6939)، ومسلم (2494)، والترمذي (3305)، وأبو داود (3650) و (3651)، وأحمد 1/ 78 - 79 و105.
وأخرجه من طريق ابن عمر: أحمد 2/ 109، وكذا من طريق جابر بن عبد الله: 3/ 350.
(5) في (ش): للمتحول.
(6) أخرجه مسلم (465)، والنسائي 2/ 172 - 173، وابن ماجة (986).
وأخرجه من حديث أنس بن مالك: أحمد 3/ 124.
(7) في (د): قال له.
(8) تقدَّم تخريجه في 1/ 259.(4/210)
وبحديث أبي هريرة: " من حَلَفَ منكم، فقال في حَلِفِه: باللات والعُزَّى، فليقل: لا إله إلاَّ الله " (1).
وبحديث ابن عمر: " إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالِفاً، فليحلف بالله أو لِيَصمُتْ " (2) قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد أدرك ركباً فيهم عمرُ، وهو يَحْلِفُ بأبيه. انتهى.
قلت: ويدلُّ على هذا أيضاً حديث عتبان بن مالك، وقول الأنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - في رجل: إنه منافقٌ، فقال: " أليس يشهد أن لا إله إلا الله " (3) الحديث.
ويدل عليه ما في الوجه الثاني المقدَّم.
ويدل عليه: " رُفِعَ عن أُمَّتي الخَطَأ والنِّسيانُ وما استُكرِهُوا عليه " (4). وما في معناه مِنَ القرآن.
ويدُلُّ عليه الأحاديث التي (5) احتجُّوا بها على عَدَمِ كُفْرِ الخوارج، مثل حديث " دَعْهُ، فإنَّ له أصحاباً ليست قراءتكم إلى قراءتِهم " (6).
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 309، والبخاري (6650)، ومسلم (1647)، وأبو داود (3247)، والنسائي 7/ 7، والترمذي (1545)، وابن ماجة (2096)، والبغوي (2433).
(2) أخرجه مالك 2/ 480، وأحمد 2/ 11، والبخاري (6647) ومسلم (1646)، والترمذي (1534)، وأبو داود (3249)، والنسائي 7/ 4، والبغوي (2431).
(3) أخرجه أحمد 4/ 43 و44 و5/ 449.
(4) تقدم تخريجه في 1/ 192 - 193.
(5) في (د): الذي.
(6) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري: أحمد 3/ 56، والبخاري (3610) ومسلم (1064)، وفيه: " دعه فإن له أصحاباً يحقِرُ أحدُكُم صلاتَهُ مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآنَ، لا يجاوزُ تراقِيَهُم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السَّهْمُ من =(4/211)
وحديث الخارجي الذي قال لعليَّ عليه السلام وهو في الصلاة: لَئِنْ أشرَكت لَيَحْبَطنَّ عَمَلُكَ (1)، وقول علي عليه السلام له: لكم علينا ثلاث، ومطالبة علي عليه السَّلام لهم بدم ابنِ خباب (2).
وادَّعى الخطابيُّ (3) الإجماع على أنهم غيرُ كفارٍ (4)، وصَنَّفَ ابنُ حزم في عدم تكفيرِ المتأولين مجلداً ذكره الذهبي في ترجمته من "النبلاء" (5).
__________
= الرَّمية ... يخرُجُون على حين فُرقةٍ من الناس".
وأخرج مسلم (1066) من حديث علي حين سار إلى الخوارج، قال: أيها الناس، إني سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يخرجُ قومٌ من أمتي يقرؤون القرآن، ليس قراءتُكم الى قراءتهم بشيء ولا صلاتُكُمْ إلى صلاتهم بشيء، ولا صيامُكم إلى صامِهم بشيء، يقرؤون القرآن، يحسبون أنه لهم وهو عليهم، لا تُجاوز صلاتُهم تراقِيَهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرَّمْيَةِ ".
(1) أخرج ابن جرير 21/ 59 عن علي بن ربيعة وقتادة، والحاكم 3/ 146، والبيهقي 2/ 245 عن أبي يحيى حكيم بن سعد أنَّ رجلاً من الخوارج نادى عليّاً وهو في صلاة الفجر، فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فأجابه علي رضي الله عنه، وهو في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}. وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 502، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) هو عبد الله بن خباب بن الأرت المدني حليف بني زهرة، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله رؤية، ولأبيه صحبة، قتله الخوارج حين بعث إليهم علي رضي الله عنه، فأرسل إليهم علي: أقيدونا بعبد الله بن خباب، فقالوا: كيف نقيدك به، وكلنا قتله، فنفذ إليهم، فقاتلهم: " طبقات ابن سعد " 5/ 245، و" تاريخ البخاري " 5/ 78، و" الثقات " 5/ 11 لابن حبان، و" تاريخ الثقات " ص 254 للعجلي، و" تهذيب التهذيب " 5/ 196، و" تاريخ الطبري " 5/ 83.
(3) هو الإمام العلاَّمة، الحافظ اللغوي، أبو سليمان حَمْدُ بن محمد بن إبراهيم بن خطاب البستي الخطابي صاحب التصانيف المنقنة، المتوفى سنة (388). مترجم في " السير " 17/ 23.
(4) انظر " معالم السنن " 4/ 295 و311.
(5) 18/ 195.(4/212)
الفصل الرابع (1): في ذكر نُبَذٍ (2) من سيرة أحمد بن حنبل، والتعريفِ بأحواله الشريفة، ومناقبه الغزيرة (3)، ومحلِّه في الإسلام، وذكر عقيدته، وما ثبت عنه من ذلك، وما لم يثبُت، والقصد بذكر ذلك تعريفُ من وقف عليه بأن هذا الإمام الجليل حريٌّ بالحمل على السلامة، والتثبت فيما يُنْسَبُ إليه، بل حريٌّ بالتعظيم والتجليل.
وقد اخترت لنقل سيرته كتاب " النبلاء " للذهبي لوجهين:
أحدُهما: كونُ الذهبي شافعيَّ المذهب، وليس بحنبلي، فيُتَّهَم بشدة العصبية (4)، لإمامه الذي نشأ على تعظيمه.
وثانيهما: كون الذهبي معروفاً بتزييفِ ما يمُرُّ عليه من الأشياء الواهية، وأنت إذا قرأت هذه الترجمة عَرَفْتَ ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذا جملة ما ذكره الذهبي في ترجمته في " النبلاء " (5) قال ما لفظه مع اختصارٍ كبير (6): هو الإمام حقاً، وشيخ الإسلام صدقاً، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن عبد الله بن حَيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن شيبان بن ذُهْلِ الذُّهلي (7) الشيباني المَرْوَزي ثم البغدادي، أحد الأئمة الأعلام. هكذا
__________
(1) سقط من (ش) ترجمة الإمام أحمد كاملة، وفي هامشها: نعم، قد أسقط من هذه النسخة الفصل الرابع في ترجمة أحمد بن حنبل، من منقولِه من " النبلاء " للذهبي، يعلم ذلك، وقد ندم على إسقاطه، ولا بُدَّ من إثباته إن شاء الله تعالى. كذا في الأم.
(2) في (د): نبذة.
(3) في (ب): العزيزة.
(4) في (ج): التعصب.
(5) 11/ 177. وفي (ج): بالنبلاء.
(6) في (ب): كثير.
(7) تحرفت في (ب) إلى: الذهبي.(4/213)
ساق نسبه ولده عبد الله، واعتمده أبو بكرٍ الخطيب في " تاريخه " وغيرُه.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب " مناقب أحمد ": حدَّثنا صالح بن أحمد، قال: وجدت في كتاب أبي نَسَبَه، فساقه كما مَرَّ، وقال: ابن هذيلُ بن شيبان، وهو وَهمٌ، وزاد بقية النسب إلى إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما.
وقال أبو القاسم البغوي: حدثنا صالح بن أحمد فذكر النسب، فقال فيه: ذُهل على الصَّواب. وهكذا نقل إسحاقُ الغَسيلي عن صالح.
وأما قول عباس الدوري، وأبي (1) بكر بن أبي داود: إنَّ الإمام أحمد من بني ذُهل بن شيبان فَوَهْمٌ، غَلَّطهما (2) الخطيبُ، وقال: إنما هو من بني شيبان بن ذُهْلِ بن ثعلبة، ثم (3) قال: وذُهل بن ثعلبة هو عمُّ ذُهْلٍ بن شيبان بن ثعلبة (4). فينبغي أن يقال فيه: أحمد بن حنبل الذهلي على الإطلاق، وقد نسبه البخاري إليهما معاً.
وأمَّا ابن ماكولا، فمع بصره بهذا الشأن وَهِمَ أيضاً، وقال في نسبه: مازن بن ذُهل بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وما تابعه على هذا أحدٌ.
وقال صالحٌ: قال لي أبي: وُلِدْتُ سنة أربعٍ وستين ومئة.
وكذا قال أبو داود، عن يعقوب الدَّورقي، عن أحمد.
قال حنبل: سمعتُ أبا عبد الله، يقول: طلبتُ الحديثَ سنة تسعٍ وسبعين، فسمعتُ بموتِ حمادِ بن زيد، وأنا في مجلس هُشيمٍ.
__________
(1) في الأصول و" السير ": وأبو.
(2) في (ج): فغلطهما.
(3) ساقطة من (ب).
(4) " بن ثعلبة " ساقطة من (د).(4/214)
قال صالح: قال أبي: ثَقَبَتْ أُمي أُذُنيَّ، فكانت تُصيِّرُ فيهما لؤلؤتين، فلمَّا ترعرعتُ، نزعتهما، فكانتا (1) عندها، ثم دَفَعَتْهما إليَّ، فبِعْتُهما بنحوٍ من ثلاثين درهماً.
فصلٌ في شيوخه:
طلب العِلْمَ وهو ابنُ خمس عشرة سنة، في العام الذي مات فيه مالكٌ، وحمادُ بن زيد.
فسَمِعَ من إبراهيم بن سعدٍ قليلاً، ومن هُشيم بن بشير فأكثر، وجوَّد، ومن عبَّاد بن عباد المهلبي، ومعتمر (2) بن سُليمان التيمي، وسفيان بن عيينة الهلالي، وأيوب بن النجار، ويحيى بن أبي زائدة، وعليِّ بن هاشم بن البريد، وقُرَّان بن تمَّام، وعمَّار بن محمد الثوري، والقاضي أبي (3) يوسف، وجابر بن نوح الحِمَّاني، وعلي بن غُراب القاضي، وعمر بن عبيد الطنافسي، وأخويه يعلى، ومحمدٍ، والمطلب بن زياد، ويوسف بن الماجِشَون، وجريرِ بنِ عبد الحميد، وخالد بنِ الحارث، وبشر بن المفضل، وعبَّاد بن العوام، وأبي بكر بن عيَّاش، ومحمد بن عبد الرَّحمن الطُّفاوي، وعبدِ العزيز بن عبد الصمد العمِّي (4)، وعبدة بن سليمان، ويحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، والنضر بن إسماعيل البجلي، وأبي خالد الأحمر، وعلي بن ثابتٍ
__________
(1) في (أ) و (ب) والسير: " فكانت "، والمثبت من (د)، وهامش (أ)، وفوق " كانت " في (ج)، و" تاريخ الإسلام ".
(2) تحرف في الأصول إلى: " معمر "، والتصويب من " السير ".
(3) في (د): "أبو" وهو خطأ.
(4) من قوله: " وأبي بكر " إلى هنا ساقط من (د). وذكر بعدها في (أ) و (د): " وعيسى بن يونس "، وفي (ب): " وعيسى بن أبي نواس "، وكلها عليها إشارة حذف.(4/215)
الجزري، وأبي عُبيدة الحداد، وعَبِيدَة بن حميد الحذاء، ومحمد بن سلمة الحرَّاني، وأبي معاوية الضرير، وعبد الله بن إدريس، ومروان بن معاوية، وغُنْدَر، وابن عُلَيَّة، ومَخْلد بن يزيد الحراني، وحفص بن غياث، وعبد الوهاب الثقفي، ومحمد بن فُضيل، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي، والوليد بن مسلم، ويحيى بن سُلَيْمٍ حديثاً واحداً، ومحمد بنِ يزيد الواسطي، ومحمد بن الحسن المُزَني الواسطي، ويزيد بن هارون، وعلي بن عاصم، وشعيب بن حرب، ووكيعٍ فأكثر، ويحيى القطان فبالغ، ومسكين بن بُكَير، وأنس بن عِياض الليثي، وإسحاق الأزرق، ومعاذ بن معاذ، ومعاذ (1) بن هشام، وعبد الأعلى السامي (2)، ومحمد بن أبي عدي، وعبدِ الرحمن بن مهدي، وعبد الله بن نُمير، ومحمد بن بشر، وزيد بن الحباب، وعبد الله بن بكر، ومحمد بن إدريس الشافعي، وأبي عاصم، وعبد الرزاق، وأبي نعيم، وعفَّان، وحسين بن علي الجُعفي (3)، وأبي النضر، ويحيى بن آدم، وأبي عبد الرحمن المقرىء، وحجاج بن محمد، وأبي عامرٍ العَقَدي، وعبد الصَّمَد بن عبد الوارث، وروح بن عبادة، وأسود بن عامر، ووهب بن جرير، ويونس بن محمد، وسليمان بن حرب، ويعقوب بن إبراهيم بن سعد، وخلائق إلى أن ينزل في الرواية عن قتيبة بن سعيد (4)، وعليِّ بن المديني، وأبي بكر بن أبي شيبة، وهارون بن معروف، وجماعة من أقرانه.
__________
(1) " ومعاذ " ساقطة من (ب) و (ش).
(2) تصحف في (ب) و (ج) إلى: الشامي.
(3) تحرفت في (ج) إلى: الحفي.
(4) تحرف في الأصول إلى سعد.(4/216)
فعدَّة شيوخه الذين روى عنهم في " المسند " مئتان وثمانون ونيِّف.
حدَّث عنه البخاري حديثاً، وعن أحمد بن الحسن عنه حديثاً آخر في المغازي، وحدَّث عنه (1) مسلم، وأبو داود بجملةٍ وافرة، وروى أبو داود أيضاً، والنسائي والترمذي، وابن ماجة عن رجلٍ عنه، وحدث عنه (2) أيضاً ولداه صالح وعبد الله، وابن عمه حنبل بن إسحاق، وشيوخه: عبد الرزاق، والحسن بن موسن الأشيب، وأبو عبد الله الشافعي، لكن الشافعي لم يُسمِّه، بل قال: حدثني الثقة. وحدَّث عنه علي بن المديني، ويحيى بن معين، ودُحيم، وأحمد بن صالح، وأحمد بن أبي الحواري، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وأحمد بن الفرات، والحسن بن الصَّبَّاح البزار، والحسن بن محمد بن (3) الصباح الزعفراني، وحجَّاج بن الشاعر، ورجاء بن المرجَّى، وسلمة بن شبيب، وأبو قِلابة الرقاشي، والفضل بن سهل الأعرج، ومحمد بن منصور الطوسي، وزياد بن أيوب، وعباس الدوري، وأبو زُرعة، وأبو حاتم، وحرب بن إسماعيل الكرماني، وإسحاق الكَوْسج، وأبو بكر الأثرم، وإبراهيم الحربي، وأبو بكر المرُّوذي، وأبو زرعة الدمشقيُّ، وبقيُّ بن مَخْلَدٍ، وأحمدُ بنُ أصرمَ المُغَفَّلي، وأحمد بن منصور الرمادي، وأحمد بن ملاعب، وأحمد بن أبي خيثمة، وموسى بن هارون، وأحمد بن علي الأبَّار، ومحمد بن عبد الله مُطَيَّن، وأبو طالب أحمدُ بن حميد، وإبراهيمُ بن هانىء النيسابوري، وولده إسحاق بن إبراهيم، وبَدْرٌ المغازلي، وزكريا بن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ج).
(3) " بن " ساقطة من (ج).(4/217)
يحيى الناقد، ويوسفُ بن موسى الحربي (1)، وأبو محمد فوران، وعُبدوس بن مالك العَطَّار، ويعقوبُ بن بُختان، ومهنى بن يحيى الشامي، وحمدان بن علي الوراق، وأحمد بن محمد القاضي البِرتي، والحسين بن إسحاق التُّسْتَري، وإبراهيم بن محمد بن الحارث الأصبهاني، وأحمد بن يحيى بن ثعلب، وأحمدُ بن الحسن بن عبد الجبار الصُّوفي، وإدريس بن عبد الكريم الحداد، وعمر بن حفص السدوسي، وأبو عبد (2) الله محمد بن (3) إبراهيم البُوشَنْجي، ومحمد بن عبد الرحمن السامي، وعبدُ اللهِ بن محمد البَغَوي، وأممٌ سواهم.
وقد جَمَعَ أبو محمد الخلاَّل جزءاً في تسمية الرواة عن أحمد سمعناه من الحسن بن علي، عن جعفر، عن السِّلفي، عن جعفر السَّرَّاج عنه، فعدَّ فيهم وكيع بن الجراح، ويحيى بن آدم.
قال الخطيب في كتاب " السابق " (4): أخبرنا أبو سعيدٍ الصيرفي، حدثنا الأصمُّ، حدثنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا الثقة من أصحابنا، عن يحيى بن سعيد، عن شُعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارقٍ، أن عمر قال: إنما الغنيمة لمن شَهِدَ الوقعة (5).
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرعة أن أحمد أصلُه بصريٌّ،
__________
(1) تصحفت في (ب) إلى: الجرني.
(2) تحرفت في (ب) إلى: عبيد.
(3) ساقطة من (ب).
(4) ص 55.
(5) أخرجه عبد الرزاق (9689)، والبيهقي في " السنن " 9/ 50 من طريق شعبة عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب الأحمسي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنَّ الغنيمة لِمَنْ شَهِدَ الوقعةَ. وقال البيهقي: هذا هو الصحيح عن عمر رضي الله عنه.
وأخرجه أيضاً البيهقي 9/ 50 من قول أبي بكر، وعلي.(4/218)
وخِطَّتُه بمرو، وحدثنا صالح سمعت أبي يقولُ: مات هُشيمٌ فخرجت إلى الكوفة سنة ثلاثٍ وثمانين وأول رحلاتي إلى البصرة سنة ستٍ، وخرجت إلى سُفيان سنة سبع، فقدِمْنَا وقد مات الفضيل بن عياض، وحَجَجْتُ خمس حجج، منها ثلاثٌ راجلاً، أنفقت في إحداها ثلاثين درهماً، وقَدِمَ ابن المبارك في سنة تسعٍ وسبعين، وفيها أول سماعي من هُشيم، فذهبت إلى مجلس ابن المبارك، فقالوا: قد خَرَجَ إلى طَرَسُوس، وكتبت عن هُشيمٍ أكثر من ثلاثة آلافٍ ولو كان عندي خمسون درهماً، لخرجت إلى جريرٍ إلى الرَّي.
قلتُ: قد سمع منه أحاديث.
قال: وسمعتُ أبي يقول: كتبت عن إبراهيم بن سعد في ألواح، وصليت خلفه غير مرةٍ، وكان يُسلِّمُ واحدةً، وقد روى عنه من شيوخه ابن مهدي.
فقرأتُ على إسماعيل بن الفراء، أخبرنا ابن قُدامة، أخبرنا المبارك بن خضير، أخبرنا أبو طالب اليُوسُفي، أخبرنا إبراهيم بن عمر، أخبرنا عليُّ بن عبد العزيز، حدَّثنا ابن أبي حاتم، حدثنا أحمد بن سِنان، سمعت عبد الرحمن بن مهدي، يقول: كان أحمد بن حنبل عندي، فقال: نظرنا فيما كان يُخالِفُكم فيه وكيعٌ، أو فيما يخالف وكيعٌ الناس، فإذا هي نيِّفٌ وستون (1) حديثاً.
ومن صفته: كان شيخاً طُوالاً أسمر شديد السُّمرة (2).
وقال المَرُّوذيُّ: رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت خاشعاً،
__________
(1) في الأصول: وستين.
(2) تصحفت في (ب) إلى: السحرة.(4/219)
فإذا كان بَرّاً (1)، لم يتبين منه شِدَّةُ خُشُوعٍ، وكنتُ أدخل، والجزء في يده يقرأُ.
رحلته وحفظه:
قال صالحٌ: سمعت أبي يقول: خرجت إلى الكوفة، فكنت في بيتٍ تحت رأسي لبنةٌ، فحُمِمْتُ (2)، فرجعت إلى أمي، ولم أَكُنِ استأذنتُها.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله، يقول: تزوَّجتُ وأنا ابن أربعين سنة، فَرَزَقَ الله خيراً كثيراً.
قال أبو بكر الخلال في كتاب " أخلاق أحمد "، وهو مجلد: أملى عليَّ زهير بن صالح بن أحمد، قال: تزوَّج جدي عباسة بنت الفضل من العرب، فلم يُولَدْ له منها غيرُ أبي. وتُوفيت فتزوَّج بعدها ريحانة، فولدت عبد الله عمي، ثم تُوفيت، فاشترى حُسْنَ، فولدت أُمَّ علي زينب، وولدت الحسن والحسين توأماً (3)، وماتا بقرب ولادتهما، ثم ولدت الحسن ومحمداً (4)، فعاشا حتى صارا من السنِّ نحو أربعين سنة، ثم ولدتْ سعيداً.
قيل (5): كانت والدة عبد الله عوراء، وأقامت معه سنين.
__________
(1) أي: خارج الدار، قال ابن الأثير: وفي حديث سلمان: " من أصلح جوانبه، أصلح الله برانيه " أراد بالبراني: العلانية، والألف والنون من زيادات النسب. كما قالوا في صنعاء: صنعاني، وأصله من قولهم: خرج فلان برّاً، أي: خرج إلى البر والصحراء، وليس من قديم الكلام وفصيحه.
(2) في " السير ": فحججت.
(3) في (أ): " توم "، والمثبت من (ب) و (ج).
(4) الأصول: " ومحمد "، والمثبت من " السير ".
(5) ساقطة من (ب).(4/220)
قال المَرُّوذي: قال لي أبو عبد الله: اختلفتُ إلى الكُتَّاب، ثم (1) اختلفتُ إلى الديوان، وأنا ابنُ أربع عشرة سنة.
وذكر الخلالُ حكاياتٍ في عقل أحمد وحياته في المكتب ووَرَعِه في الصِّغر.
حدثنا المرُّوذيُّ: سَمِعْتُ أبا عبد الله، يقولُ: مات هُشيم ولي عشرون سنةً، فخرجتُ أنا والأعرابيُّ -رفيقٌ كان لأبي عبد الله- قال (2): فخرجنا مُشاةً، فوصلنا الكوفة، يعني: في سنة ثلاث (3) وثمانين، فأتينا أبا معاوية، وعنده الخلق، فأعطى الأعرابي حَجَّة بستين درهماً، فخرج وتركني في بيتٍ وحدي، فاستوحشتُ، وليس معي إلاَّ جِرابٌ فيه كتبي، كنت أضعه فوق لبنة، وأضعُ رأسي عليه، وكنت أذاكِرُ وكيعاً بحديث الثوري، وذكر مرة شيئاً (4)، فقال: هذا عند هُشيمٍ؟ فقلت: لا. وكان ربَّما ذكر العشر أحاديث، فأحفظُها، فإذا قامَ، قالوا لي، فأُمْليها عليهم.
وحدثنا عبد الله بن أحمد، قال لي أبي: خذ أيَّ كتابٍ شئت من كُتُبِ وكيع من المصنف، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أُخبرك بالإسناد، وإن شئت بالإسناد حتى أُخبِرَكَ أنا بالكلام.
وحدثنا عبد الله بن أحمد: قال لي أبي (5) سمعتُ سفيان بن وكيعٍ،
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ج).
(3) في (ب): ثمان.
(4) ساقطة من (ج).
(5) جملة " قال لي أبي " ساقطة من (أ) و (ب).(4/221)
يقول: أحفظُ عن أبيك مسألةً من نحو أربعين سنةً. سُئل عن الطلاق قبل النكاج، فقال: يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعن عليٍّ وابن عباس ونيِّفٍ وعشرين من التابعين، لم يَرَوْا به بأساً، فسألتُ أبي عن ذلك، فقال: صَدَقَ، كذا قلت.
قال: وحفظتُ أني سمعتُ أبا بكر بن حماد، يقول: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة، يقول: لا يُقَالُ لأحمد بن حنبل: من أين قُلْتَ؟
وسمعت أبا إسماعيل التِّرمِذِيَّ، يذكر عن ابنِ نُمَيْر، قال: كنت عند وَكيعٍ، فجاءه رجلٌ أو قال: جماعةٌ من أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: ها هنا رجل بغدادي يتكلَّم في بعض الكوفيين، فلم يَعْرِفْهُ وكيعٌ، فبينا نحن إذ طلع أحمد بن حنبل، فقالوا: هذا هو، فقال وكيعٌ: ها هنا يا أبا عبدِ الله، فأفرجوا له، فَجَلُوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي يُنْكِرُوْنَ، وجَعَلَ أبو عبد الله يحتجُّ بالأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقالوا لوكيع: هذا بحضرتِك تَرَى ما يقول؟ فقال: رجلٌ يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أيشٍ أقول له؟ ثم قال: ليس القول إلاَّ كما قُلْتَ يا أبا عبدِ الله، فقال القومُ لوكيع: خَدَعَكَ والله البغدادي.
قال عارم: وضعَ أحمدُ عندي نفقته، فقُلْتُ له يوماً، يا أبا عبدِ الله، بَلَغَني أنَّك من العرب. فقال (1): يا أبا النعمان، نحن قومٌ مساكينٌ فلم يَزَلْ يُدَافِعُني حتى خَرَجَ، ولم يقلْ لي شيئاً.
قال الخلالُ: أخبرنا المَرُّوذي: أنَّ أبا عبد الله، قال: ما تَزَوَّجْتُ إلاَّ بعدَ الأربعين.
__________
(1) في (ج): قال.(4/222)
وعن أحمد الدَّوْرَقي، عن أبي عبد الله، قال: نحنُ كتبنا الحديث في ستَّة وجوهٍ و (1) سبعة لم نَضْبِطْهُ، فكيف يضبطه (2) من كتَبَه من وجهٍ واحد؟!.
قال عبدُ الله بن أحمد: قال لي أبو زرعة: أبوكَ يحفظُ ألف ألف حديث، فقيل له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرتُه، فأخذتُ عليه الأبواب.
فهذه حكايةٌ صحيحة في سَعَةِ علم أبي عبد الله، وكانوا يعُدُّون في ذلك المُكَرَّر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فُسِّر، ونحو ذلك. وإلاَّ فالمتونُ المرفوعة القوية لا تبلُغُ عُشْرَ مِعشارِ ذلك ... إلى قول الذهبي (3):
قال صالحُ بنُ أحمد (4): قَدِمَ المتوكلُ، فَنَزَلَ الشمَّاشِيَّة (5) يُريدُ المدائن، فقال لي أبي: أُحِبُّ أنْ لا تذهبَ إليهم تُنَبِّهُ عليِّ، فلمَّا كان بَعْدَ يومٍ أنا قاعد، وكان يوماً مطيراً، فإذا بيحيى بن خاقان قد جاءَ في مَوْكبٍ عظيم، والمطرُ عليه، فقال لي: سبحان الله لم تَصِرْ إلينا حتَّى تُبَلِّغَ أمير المؤمنين السلام عن شيخِك، ثم نَزَلَ خارج الزُّقاق، فجَهَدْتُ به أن يدخُلَ على الدابةِ فلم يفعَلْ، فجعل يخوضُ في المطير. فلمَّا وَصَلَ نزع جُرْمُوقَه (6)، ودخل، وأبي في الزاوية عليه كِسَاءَ، فسلَّم عليه، وقبَّل
__________
(1) في (ج): أو.
(2) من قوله: " أبي عبد الله " إلى هنا ساقط من (د).
(3) 11/ 292.
(4) " ابن أحمد " ساقطة من (ج).
(5) تحرف في الأصول إلى: " الشماسة "، والمثبت من " السير ".
(6) هو ما يُلْبَسُ فوق الخُفِّ.(4/223)
جبهتَه، وسأَلَهُ عن حالِه، وقال: أميرُ المؤمنين يُقرِئُك السلام، ويقول: كيف أنت في نفسك؟ وكيف حالك؟ وقد أَنِسْبُ بقربك (1) ويسألُك أن تدعو له، فقال: ما يأتي عليّ يومٌ إلاَّ وأنا أدعو الله له. ثم قال: قد (2) وجَّه معي ألف دينار تُفَرِّقُها على أهل الحاجة، فقال: يا أبا زكريا، أنا في بيتٍ منقطعٍ، وقد أعفاني من كل ما أكرهُ، وهذا مما أكره (3) فقال: يا أبا عبد الله، الخلفاءُ لا يحتملون هذا. فقال: يا أبا زكريا، تلطَّف في ذلك، فدعا له، ثم قام، فلما صار إلى الدار، رجع، فقال: هكذا لو وجَّه إليك بعضُ إخوانك كنت تفعل؟ قال: نعم، فلما صِرنا إلى الدهليز، قال: قد أمرني أمير المؤمنين أدفعها إليك تُفَرِّقُها، فقلت: تكون عندك إلى أن تمضي هذه الأيام.
أحمد بن محمد بن الحسين بن معاوية الرازي، حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب، سمعت المِسْعَرَ بن (4) محمد بن (5) وهب، قال: كنتُ مُؤدِّباً للمتوكل، فلمَّا استخلف، أدناني، وكان يسألُني وأُجيبُه على مذهب الحديث والعلم، وإنه جلسَ للخاصة يوماً، ثم قام، حتى دخل بيتاً لَهُ من قوارير، سقفُه وحيطانُه وأرضُه (6)، وقد أُجري له الماء فيه، يتقلَّبُ فيه (7). فمن دَخَلَه، فكأنَّه في جوفِ الماء جالسٌ. وجَلَسَ عن يمينِه الفتحُ بنُ خاقان، وعبيد الله بن يحيى بن خاقان (8)، وعن يسارِه بُغا
__________
(1) من قوله: " ويقول: كيف " إلى هنا ساقط من (ج).
(2) في (ب): وقد.
(3) قوله: " وهذا ممَّا أكره " ساقطة من (د).
(4) في " السير " 11/ 293: المسعري.
(5) " بن " ساقطة من (ج).
(6) في (ج): وأرضه وحيطانه.
(7) ساقطة من (ب) و (د).
(8) من قوله. " وعبيد الله " إلى هنا ساقط من (ج).(4/224)
الكبير، ووصيف، وأنا واقفٌ إذ ضحك، فأرمَّ (1) القوم، فقال: ألاَ تسألوني مِنْ ما ضَحِكتُ؟! إنِّي ذات يومٍ واقفٌ على رأسِ الواثق، وقد قَعَدَ للخاصة، ثم دَخَلَ هنا، ورمتُ الدخول فَمُنِعْتُه ووقفت حيث ذاك الخادمُ واقفٌ، وعنده ابن أبي دُوَاد، وابنُ الزيات، وإسحاقُ بن إبراهيم. فقال الواثق: لقد فكرت فيما دعوت إليه الناس من (2) أن القرآن مخلوقٌ، وسرعةِ إجابة من أجابنا، وشدة خلاف من خالفنا مع الضرب والسيف، فوجدتُ من أجابنا رَغِبَ فيما في أيدينا، ووجدتُ (3) من خالفنا معه دينٌ وَوَرَعٌ، فدخل قلبي من ذلك أمرٌ وشكٌّ حتى هممتُ بترك ذلك. فقال ابن أبي دُوَاد: الله الله يا أمير المؤمنين! إن تُميتَ سُنَّةً قد أحييتها، وأن تُبْطِلَ ديناً قد أقمته. ثم أطرقوا، وخاف ابن أبي دُوَاد، فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن هذا القول الذي تدعو الناس إليه لهو الدين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورسله، وبعث به نبيَّه، ولكنَّ الناسَ عَمُوا عن قبوله. قال الواثق: فَبَاهِلُوني (4) على ذلك. فقال أحمد: ضربَهُ الله بالفالج إن لم يكُن ما يقُولُ حقاً، وقال ابن الزيات: وهو فَسَمَّرَ الله يديه (5) بمسامير في الدنيا قبل الآخرة إن لم يكن ما يقول أمير المؤمنين حقاً بأن القرآن مخلوق. وقال إسحاق بن إبراهيم: وهو فأنتن اللهُ ريحَه في الدنيا إنْ لم يكن ما يقولُ حقاً، وقال نجاح: وهو فقَتَلَه اللهُ في أضيق محبسٍ، وقال إيتاخ: وهو فَغَرَّقَهُ الله، وقال الواثق: وهو فأحرق الله بدنه بالنار إن لم يكن ما يقول حقاً من أن القرآن مخلوقٌ، فأضحكُ أنه لم
__________
(1) أي: سكتوا.
(2) في (د): في.
(3) " وجدت " ساقطة من (ج).
(4) يقال: باهَل بعضُهم بعضاً، وتبهلوا، وتباهلوا، أي: تلاعنوا.
(5) في " السير ": بدنه.(4/225)
يَدْعُ أحدٌ منهم يومئذٍ إلاَّ استُجِيْبَ.
أمَّا ابن أبي دواد، فقد ضربه الله بالفالج، وأمَّا ابن الزيات، فأنا أقعدته في تنُّورٍ من حديد، وسمَّرتُ يديه (1) بمسامير، وأما إسحاق، فأقبل يَعْرَقُ في مرضه عرقاً (2) مُنْتِناً حتى هرب منه الحميمُ والقريب، وأما نجاح، فأنا بنيتُ عليه بيتاً ذراعاً في ذراعين حتى ماتَ، وأمَّا إيتاخ، فكتبتُ إلى إسحاق بن إبراهيم، وقد رَجَعَ من الحجِّ فقيَّده وغرَّقه، وأما الواثق، فكان يُحِبُّ الجماع، فقال: يا ميخائيل: أبغني دواء الباه (3) فقال: يا أمير المؤمنين؛ بدنَك فلا تَهُدَّه، لا سيما إذا تكلَّفُ الرجل الجماع. فقال: لا بدَّ منه، قال: عليك بلحم السبع، يُؤخَذُ رِطْلٌ فيُغلى سبع غليات بِخَلِّ خَمرٍ عتيقٍ. فإذا جلستَ على شُربك، فخذ منه زِنَةَ ثلاثة دراهم، فإنك تَجِدُ بُغيتك. فلها أياماً، ثم قال: عليَّ بلحم سبعٍ الساعة، فأُخرج له سبعٌ، فذُبح واستعمله. قال: فسُقي (4) بطنُه، فجُمِعَ له الأطباء، فأجمعوا على أن لا دواء له إلاَّ أن (5) يُسْجَر له تنورٌ بحطبِ الزيتون، حتى يمتلىء جمراً، ثم يُكسَحَ ما فيه، ويُحشى بالرُّطبة، ويقعد فيه ثلاث ساعات، فإن طَلَبَ ماءً لم يُسْقَ، ثم يخرجُ، فإنه يَجِدُ وَجَعَاً شديداً، ولا يُعَادُ إلى التنور إلاَّ بعد ساعتين، فإنه يجري ذلك الماء، ويخرُجُ من مخارج البول، وإن هو سُقِيَ أو رُدَّ إلى التنور، تَلِفَ. فسُجِرَ له التنور، ثم أُخرج الجمرُ، وجُعِلَ على ظهر التنور، ثم
__________
(1) في " السير ": بدنه.
(2) ساقطة من (ج) و (د).
(3) في " السير ": " دواءً للباه "، وفي (أ): دواء لباه.
(4) يُقال: سُقِيَ بطنُه، وسَقَى بطنُه، واستسقى بطنُه، أي: حصل فيه الماء الأصفر.
(5) ساقطة من (ج).(4/226)
حُشِيَ بالرُّطبة. فعُرِّيَ الواثق، وأُجْلِسَ فيه، فصاح، وقال: أحرقتموني، اسقُوني ماءً، فمُنِعَ (1)، فتنفَّط (2) بدنُه كلُّه، وصارَ نُفاخاتٍ (3) كالبِطِّيخ، ثم أُخرج وقد كاد أن يحترق، فأجلسه الأطباء فلمَّا شَمَّ الهواء اشتدَّ به الألم، فأقبل يصيحُ ويخورُ كالثور، ويقول: ردُّوني إلى التنور، واجتمع نساؤه وخواصُّه، وردوه إلى التنور، وَرَجَوْا له الفَرَجَ. فلما حَمِيَ، سكن صياحُه، وتفطَّرَت تلك النفاخات (4) وأُخرج وقد احترق واسوَدَّ، وقضى بعد ساعة.
قلت: راويها لا أعرفه.
وعن جرير بن أحمد بن أبي دواد، قال: قال أبي: ما رأيتُ أحداً أشدَّ قلباً من هذا، يعني: أحمد بن حنبل، جعلنا نكلمه، وجعل (5) الخليفة يكلمه، يسميه مرة ويكنيه أخرى (6)، وهو يقول: يا أمير المؤمنين، أوجدني شيئاً من (7) كتاب الله أو سنة رسوله حتى أُجيبَك إليه.
أبو يعقوب القرَّاب: أخبرنا أبو بكر بن أبي الفضل، أخبرنا محمد بن إبراهيم الصَّرَّام، حدثنا إبراهيم بن إسحاق، حدَّثني الحسن بن عبد العزيز الجَرَوي، قال: دخلتُ أنا والحارث بن مسكين على أحمد (8) حِدْثَانَ ضَرْبِه، فقال لنا: ضُرِبْتُ فسقطتُ، وسمعتُ ذاك -
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ج).
(3) [و (4)] في (د): نفاجات، وهو تصحيف.
(5) في (ب): وجعلنا.
(6) في (ج): مرة أخرى.
(7) " من " ساقطة من (ب).
(8) " على أحمد " ساقطة من (ب).(4/227)
يعني: ابن أبي دُوَاد- يقول: يا أمير المؤمنين، هو والله ضالٌّ مُضِلٌّ.
فقال له الحارت: أخبرني يوسف بن عمر، عن مالك، أن الزهري سُعِيَ به حتى ضُرٍبَ بالسياط، وقيل: عُلِّقَتْ كتُبُه في عُنُقِه. ثم قال مالك: وقد ضُرِبَ سعيد بن المسيب، وحُلِقَ رأسُه ولحيتُه، وضُرب أبو الزناد (1)، وضُرِبَ محمد بن المنكدر، وأصحابٌ له في حمَّام بالسياط. وما ذكر مالكٌ نفسه، فأُعجب أحمد بقول الحارث. قال مكيُّ بن عبدان: ضَرَبَ جعفرُ بن سليمان مالكاً تسعين سوطاً سنة سبع وأربعين ومئة.
البيهقي: أخبرنا الحاكم، حدثنا حسان بن محمد الفقيه، سمعت إبراهيم بن أبي طالب، يقول: دخلت على أحمد بن حنبل بعد المحنة غير مرة، وذاكرته (2) رجاء أن آخذ عنه حديثاً، إلى أن قلت: يا أبا عبد الله، حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " امرُؤُ القيس قائدُ الشعراء إلى النار " (3). فقال: قيل: عن الزُّهريِّ، عن أبي سلمة، فقلتُ: مَنْ عن الزهري؟ قال: أبو الجهم، فقلت: من رواه عن أبي الجهم؟ فسكت، فلما عاودتُه فيه، قال: اللهُمَّ سلِّم.
__________
(1) في (د): أبي الزيات.
(2) تحرفت في (ب) إلى: وذكر أنه.
(3) أخرجه أحمد في " مسنده " 2/ 228، والبزار (2091) من طريق هشيم، حدثنا أبو الجهم (وقد تحرف في " المسند " إلى الجهيم)، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وأبو الجهم هذا قال عنه أبو زرعة: واهٍ، وقال أحمد: مجهول، وقال ابن حبان: يروي عن الزهري ما ليس من حديثه.
وأخرجه أبو عروبة في " الأوائل "، وابن عساكر في " تاريخه " وفي سنده ضعيفان لا يحتج بهما.
وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 9/ 370 من طريق جنيد بن حكيم الدقاق، عن أبي هفان الشاعر، عن الأصمعي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة. وإسناده ضعيف أيضاً.(4/228)
قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي، أخبرنا الفضل بن زياد، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: من رد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو على شَفَا هَلَكَةٍ.
أبو مسلم محمد بن إسماعيل: أخبرنا صالح بن أحمد، قال: مضيت مع أبي يوم جُمعةٍ إلى مسجد الجامع، فوافَقَنا الناسَ قد انصرفوا، فدخل إلى المسجد (1)، فتقدَّم أبي فصلَّى بنا الظهر أربعاً، وقال: قد فَعَلَه ابنُ مسعود بعَلقمة والأسود (2)، وكان أبي (3) إذا دَخَلَ مقبرةً، خَلَعَ نعليه، وأمسكَهما بيده.
إبراهيم بن محمد بن سفيان: سمعت عاصم بن عصام البيهقي، يقول: بِتُّ ليلةً عند أحمد بن حنبل، فجاء بماءٍ فوضَعَه، فلمَّا أصبح، نظر إلى الماء بحالِه، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له وِردٌ بالليل.
الطبراني: أنشدنا محمد بن موسى بن حماد لمحمدِ بن عبد الله بن طاهر:
أضحى ابنُ حنبل مِحْنَةً مَرضِيَّةً ... وَبِحُبِّ أحمدَ يُعْرَفُ المُتَنَسِّكُ
وإذا رأيتَ لأحمدٍ مُتَنَقِّصاً ... فاعلم بأنَّ سُتُورَه سَتُهَتَّكُ
أحمد بن مروان الدِّينَوَرِيُّ: حدثنا إدريس الحداد، قال: كان
__________
(1) في (أ): مسجد.
(2) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (5456) عن الثوري، عن الحسن بن عبيد الله قال: صلَّيت أنا وزر، فأمَّني وفاتتني الجمعة، فسألت إبراهيم، فقال: فعل ذلك عبد الله بعلقمة والأسود، قال سفيان: وربما فعلته أنا والأعمش.
(3) ساقطة من (د).(4/229)
أحمدُ بن حنبل إذا ضاق به الأمرُ، أجَّرَ نفسه من الحاكة، فسوَّى لهم، فلمَّا كان أيام المحنة، وصُرِفَ إلى بيته، حُمِلَ إليه مالٌ، فردَّه وهو محتاجٌ إلى رغيف، فجَعَلَ عمُّه إسحاق يحسُبُ ما ردَّ، فإذا هو نحو من خمسِ مئةِ ألف. قال: فقال: يا عمّ، لو طلبناه لم يأتِنا، وإنَّما أتانا لما تركناه.
البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظُ، حدِّثنا الزُّبيرُ بن عبد الواحد الحافظ، حدثنا إبراهيم بن عبد الواحد البَلَدي، سمعتُ جعفر بن محمد الطيالسي، يقول: صلَّى أحمدُ بن حنبل ويحيى بنُ معين في مسجد الرُّصافة، فقام قاصٌّ، فقال: حدثنا أحمدُ بن حنبل ويحيى بن معين، قالا: حدثنا عبدُ الرزاق، أخبرنا معمرٌ، عن قتادة، عن أنس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قال: لا إله إلاَّ الله، خلق الله من كل كلمة طيراً، منقارُه من ذهبٍ، وريشُه من مرجان ". وأخذ في قصةٍ نحواً من عشرين ورقة (1)، وجَعَلَ أحمدُ ينظرُ إلى يحيى، ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته بهذا؟ فيقول: والله ما سمعت به إلاَّ الساعة، فسكتا حتى فَرَغَ، وأخذَ قِطاعه، فقال له يحيى بيده: أن تعال. فجاء مُتَوَهِّماً لنوالٍ. فقال: من حدثك بهذا؟ فقال: أحمد وابن معين، فقال: أنا يحيى، وهذا أحمد، ما سمعنا بهذا قطُّ، فإن كان ولا بُدَّ
__________
(1) قال ابن القيِّم في " المنار المنيف " ص 50: فصل: ونحن ننبه على أمور كلية يُعرف بها كون الحديث موضوعاً، فمنها اشتماله على أمثال هذه المجازفات التي لا يقول مثلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي كثيرة جداً، كقوله في الحديث المكذوب: " من قال: لا إله إلاَّ الله، خلق الله من تلك الكلمة طائراً، له سبعون ألف لسان، لكل لسانٍ سبعون ألف لغة، يستغفرون الله له "، و" من فعل كذا وكذا، أُعطى في الجنة سبعين ألف مدينة، في كل مدينة سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف حوراء "، وأمثال هذه المجازفات الباردة التي لا يخلو حال واضعها من أحد أمرين: إما أن يكون في غاية الجهل والحمق، وإما أن يكون زنديقاً قصد التنقيص بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، بإضافة مثل هذه الكلمات إليه.(4/230)
والكذب، فعلى غيرنا، فقال: أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمعُ أن يحيى بن معين أحمق، ما علمت إلاَّ الساعة، كأن ليس في الدنيا يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل غيركما!! كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين غيركما. فوضع أحمدُ كُمَّه على وجهه، وقال: دَعْه يقومُ، فقامَ كالمستهزىء بهما.
هذه الحكاية اشتهرت على ألسنةِ الجماعة، وهي باطلةٌ. أظن البَلَدِي وَضَعَها، ويعرف بالمعصوب. رواها عنه أبو حاتم بن حبان (1) فارتفعت عنه الجهالة (2).
ذكر المَرُّوذيُّ عن أحمد، أنه بقى بسَامَرَّاء ثمانية أيام، لم يشرب إلاَّ أقل من ربع سَويقٍ.
أحمد بن بندار الشعار: حدثنا أبو يحيى بن الرازي، سمعت علي بن سعيد الرازي، قال: صِرنا مع أحمد إلى باب المتوكل، فلما أدخلوه من باب الخاصة، قال: انصرِفُوا، عافاكم الله. فما مَرِضَ منا أحدٌ بعد ذلك اليوم.
الكُدَيمي: حدثنا علي بن المديني، قال لي أحمد بن حنبل: إنِّي لأشتهي أن أصحبك إلى مكة، وما يمنعُني إلاَّ خوفُ أن أمَلَّكَ وتَمَلَّني.
فلمَّا ودعته، قلت: أوصِني، قال: اجعلِ التقوى زادك، وانصِب الآخرة أمامك.
__________
(1) في " المجروحين " 1/ 85.
(2) وقال في " الميزان " 1/ 47 في ترجمة إبراهيم بن عبد الواحد البلدي: لا أدري من هو ذا، أتى بحكاية منكرة أخاف أن لا تكون من وضعه، ثم ذكرها، وقال ابن حجر في " اللسان " 1/ 79 بعد أن نقل كلام الذهبي: وهذا الرجل من شيوخ أبي حاتم بن حبان أخرج هذه القصة في مقدمة " الضعفاء " له عنه.(4/231)
قال أبو حاتم: أول ما لقيت أحمد بن حنبل سنة ثلاث عشرة ومئتين، فإذا قد أخرج معه إلى الصلاة " كتاب الأشربة " (1)، و" كتاب الإيمان " (2) فصلى، ولم يسأله أحد، فرده إلى بيته. وأتيتُه يوماً آخر، فإذا قد أخرج الكتابين، فظننت أنه يحتسب في إخراج ذلك، لأن كتاب الإيمان أصل الدين، وكتاب الأشربة صرفُ الناس عن الشِّرِّ، فإن كل شرٍّ من السُّكر.
الدارقطني: حدثنا جعفر الخُلْديُّ (3)، حدِّثنا العباس بن يوسف، حدَّثني عمي محمد بن إسماعيل بن العلاء، حدثني أبي، قال: دعاني رزق الله بن الكَلْوَذَاني، فقدَّم إلينا طعاماً كثيراً، وفينا أحمد، وابن معين، وأبو خيثمة فَقُدِّمَتْ لوزينج أنفق عليها ثمانين درهماً. فقال أبو خيثمة: هذا إسرافٌ فقال أحمد بن حنبل: لو أن الدنيا في مقدار لُقمة، ثم أخذها مسلم، فوضعها في فم أخيه، لما كان مُسرفاً. فقال له يحيى: صدقت. وهذه حكاية منكرة.
الخلال: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: رأيت كثيراً من العلماء والفقهاء والمحدثين، وبني هاشم وقريش والأنصار، يُقّبِّلون أبي، بعضُهم يدَه، وبعضُهم رأسه، ويُعظِّمونه تعظيماً لم أرَهُم يفعلون ذلك بأحدٍ من الفقهاء غيره، ولم أرَهُ يشتهي ذلك، ورأيتُ الهيثم بن
__________
(1) طبع في بغداد سنة 1396 هـ، بتحقيق الأستاذ السيد صبحي جاسم البدري السامرائي، ثم أُعيد طبعه في بيروت سنة 1405 هـ.
(2) ذكره ابن النديم في " الفهرست " ومنه نسخة في المتحف البريطاني، مخطوطات شرقية 6275. انظر " تاريخ التراث العربي " 1/ 3/226 لسزكين.
(3) هو جعفر بن محمد بن نصير بن القاسم الخواص الخُلدي، أبو محمد، أحد المشايخ الصوفية، صاحب الأحوال والمجاهدات والكرامات الظاهرة. توفي في رمضان 348 هـ. انظر " الأنساب " للسمعاني 5/ 161 - 162.(4/232)
خارجة، والقواريري، وأبا معمر، وعلي بن المديني، وبشاراً (1) الخفاف، وعبد الله بن عون الخرَّاز، وابن أبي الشوارب، وإبراهيم الهروي، ومحمد بن بكار، ويحين بن أيوب، وسريج (2) بن يونس، وأبا خيثمة، ويحيى بن معين، وابن أبي شيبة، وعبد الأعلى النرسي، وخلف بن هشام، وجماعةٌ لا أُحصيهم، يُعظِّمونه ويُوقِّرونه.
الخلال: أخبرنا المَرُّوذيُّ، سمعت عبد الوهَّاب الورَّاق، يقول: أبو عبد الله إمامنا، وهو من الراسخين في العلم، إذا وقفتُ غداً بين يدي الله، فسألَني بمن اقتديت، أيَّ شيءٍ أقولُ؟ وأيُّ شيءٍ ذهبَ على أبي عبد الله من أمر الإسلام؟!
قال صالحُ بن علي الحلبي: سمعت أبا همَّام، يقول: ما رأي أحمدُ مثل نفسه.
قال الخلال: بُلينا بقومٍ جُهَّالٍ، يظنون أنهم علماء (3)، فإذا ذكرنا فضائل أبي عبد الله، يُخرِجُهم الحسد، إلى أن قال بعضُهم فيما أخبرني ثقة عنه: أحمد بن حنبل نبيُّهم.
قال الخلال: أخبرنا المروذي، سمعت أبا عبد الله، يقول: الخوف منعني أكل الطعام والشراب، فما اشتهيته، وما أبالي أن لا يراني أحدٌ ولا أراه، وإني لأشتهي أن أرى عبد الوهَّاب. قل لعبد الوهاب: أخمِلْ ذكرَك، فإني قد بُليتُ بالشهرة.
__________
(1) في (ب): " وبشار "، وفي (د): " ويسار ".
(2) تصحفت في (ب) و (ج) إلى: شريح.
(3) قوله: " يظنون أنهم علماء " ساقط من (د).(4/233)
الخلال: أخبرنا أحمد بن محمد بن يزيد الوراق، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما شَبَّهْتُ الشباب إلاَّ بشيءٍ كان في كُمِّي فسقط.
قال إسحاق بن هانىء: مات أبو عبد الله، وما خلَّف إلاَّ ستَّ قطعٍ في خِرقةٍ قدر دانقين.
وقال عبد الله: سمعت أبي، يقول: ربما أردتُ البكورَ في الحديث، فتأخذُ أمى بثوبي، وتقول: حتى يؤذن المؤذن.
وقال عباس الدوري: سمعت أحمد يقول: أول ما طلبت اختلفت إلى أبي يوسف القاضي.
قال عبد الله: كتب أبي عن أبي يوسف ومحمدٍ الكتب، وكان يحفظُها، فقال لي مُهَنِّا: كنت أسأله فيقول: ليس ذا في كتبهم، فأرجع إليهم، فيقولون: صاحبك أعلمُ منا بالكتب.
قال عبد الله: سمعت أبي يقول: رأيت موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن، وكان رجلاً صالحاً (1).
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: حدثتنا أمُّ عمر ابنة حسان عن أبيها، قال: دخلت المسجد، فإذا علي بن أبي طالب على المنبر، وهو يقول: إنما مثلي ومثل عثمان كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا
__________
(1) هو موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي من أهل مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أخو محمد وإبراهيم ابن عبد الله ظفر به أبو جعفر المنصور بعد قتل أخويه، فعفا عنه، وسكن بغداد، وقد روى عن أبيه شيئاً يسيراً، وثقه ابن معين، وعاش إلى أيام الرشيد، وله خبر معه، ونسله كثير. مترجم في " تاريخ بغداد " 13/ 25 - 27.(4/234)
ما في صُدورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (1) [الأعراف: 43] و [الحجر: 47].
الخلال: أخبرني أبو بكر بنُ صدقة، سمعت محمد بن عبد الرحمن الصيرفي، قال: أتيت أحمد بن حنبل أنا وعبد الله بن سعيد الجمال، وذاك في آخر سنة مئتين، فقال أبو عبد الله للجمال: يا أبا محمدٍ، إن أقواماً يسألوني (2) أن أُحَدِّث، فهل ترى ذلك؟ فسكت. فقلت: أنا أُجيبكُ. قال: تكلَّمْ. قلت (3): أرى لك إن كنت تشتهي أن تُحَدِّثَ، فلا تحدِّث، وإن كنت تشتهي أن لا تحدث فحدث، فكأنه استحسنه.
عبد الله بن أحمد: سمعتُ نوح بن حبيب القُومَسي، يقول: رأيت أحمد بن حنبل في مسجد الخَيْفِ سنة ثمان وتسعين وابن عيينة حيٌّ، وهو يفتي فتوى واسعة، فسلَّمت عليه.
قال عبد الله: سمعت أبي سنة سبع وثلاثين ومئتين (4)، يقول: قد استخرتُ الله أن لا أُحدِّث حديثاً على تمامه أبداً، ثم قال: إن الله يقول: {يأيُّها الذين آمنوا أَوْفُوا بالعُقُود} [المائدة: 1]، وإني أعاهد الله أن لا أحدث بحديث على تمامه أبداً، ثم قال: ولا لك، وإن كنت تشتهي، فقلت له بعد ذلك بأشهرٍ: أليس يُروى (5) عن شريك، عن
__________
(1) جاء في " تفسير الطبري " 14/ 36 - 37 من طرق متعددة أن الغِلَّ: العداوة، وفيه: حدثنا الحسن قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي، قال: حدثنا السكن بن المغيرة قال: حدثنا معاوية بن راشد، قال: قال علي: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان ممن قال الله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}.
(2) في (ب): سألوني.
(3) في (ب): قال.
(4) " ومئتين " ساقطة من (د).
(5) في (ب): تروي.(4/235)
يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، قال: " العهدُ يمينٌ " (1)؟ قال: نعم. ثم سكت فظننت أنه سيُكَفِّر. فلمَّا كان بعد أيام قلت له في ذلك، فلم ينشط للكفارة ثم لم أسمعه يُحدِّث بحديث على تمامه.
قال المروذي: سمعت أبا عبد الله في العسكر، يقول لولده: قال الله تعالى: {أَوْفُوا بالعُقُود} [المائدة: 1] أتدرون ما العقودُ؟ إنَّما هو العهود وإنِّي أعاهد الله جلَّ وعزَّ، ثم قال: والله، والله، والله، وعليَّ عهد الله (2) وميثاقُه أن لا حدَّثتُ بحديثٍ لقريبٍ ولا لبعيد حديثاً تاماً، حتى ألقى الله، ثم التفت إلى ولده، وقال: وإن كان هذا يشتهي منه ما يشتهي، ثم بَلَغَه عن رجلٍ من الدولة وهو ابن أكثم، أنه قال: قد أردتُ أن يأمرَهُ الخليفة أن يُكَفِّرَ عن يمينه، ويحدث، فسمعت أبا عبد الله يقول لرجل من قبل صاحب الكلام: لو ضربت ظهري بالسياط، ما حدثت.
الخلال: حدثنا محمد بن المنذر، حدثنا أحمد بن الحسن
__________
(1) إسناده ضعيف، وشريك هو ابن عبد الله القاضي، ويزيد بن أبي زياد هو الهاشمي وكلاهما ضعيف.
(2) قال الراغب: العهد: هو حفظ الشيء ومراعاته، ومن ثمَّ قيل للوثيقة: عهدة.
ويطلق عهد الله على ما فطر علي عباده من الإيمان به عند أخذ الميثاق، ويُراد به أيضاً ما أمر به في الكتاب والسنة مؤكداً، وما التزمه المرء من قبل نفسه كالنذر.
قال الحافظ في " الفتح " 11/ 544 - 545: وللعهد معانٍ أخرى غير هذه كالأمان، والوفاء، والوصية، واليمين، ورعاية الحرمة، والمعرفة، واللقاء عن قرب، والزمان، والذمة، وبعضها قد تداخل، والله أعلم. ونقل عن ابن المنذر أن من حلف بالعهد، فحنث، لزمه الكفارة، سواء نوى أم لا عند مالك، والأوزاعي، والكوفيين، وبه قال الحسن، والشعبي، وطاووس وغيرهم، وبه قال أحمد. وقال عطاء، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيدة: لا تكون يميناً إلاَّ إن نَوَى. وانظر " المغني " 8/ 697 لابن قدامة المقدسي.(4/236)
الترمذي، قال: رأيت أبا عبد الله يشتري الخبز من السوق، ويحمله في الزِّنْبِيلِ، ورأيته يشتري الباقلاء غير مرة، ويجعله في خِرْقَةٍ، فيحمله آخذاً بيدِ (1) عبد الله ابنه.
الميموني: قال لي أبو عُبيد (2): يا أبا الحسن، قد جالست أبا يوسف ومحمداً، وأحسِبُه ذكر يحيى بن سعيد، ما هِبْتُ أحداً ما هِبتُ أحمدَ بن حنبل.
قال عبد الله بن محمود بن الفرج: سمعتُ عبد الله بن أحمد، يقولُ: خرج أبي إلى طَرَسُوسَ، ورابط بها، وغزا، ثم قال أبي (3): رأيت العِلْمَ بها يموتُ.
وعن أحمد، أنه قال لرجلٍ: عليك بالثَّغْر، عليك بقَزوين، وكانت (4) ثَغْراً.
الخلال: حدثنا (5) المَرُّوذيُّ: قلت لأبي عبد الله: قال لي رجلٌ: من هنا إلى بلاد الترك يدعون (6) لك، فكيف تؤدِّي شكر ما أنعم الله عليك، وما بثَّ لك في الناس؟ قال: اسأل الله أن لا يجعلنا مُرائين.
أخبرنا المسلم بن علاَّن (7) وغيره كتابةً أنَّ أبا اليُمن الكندي
__________
(1) في (ب): بيده.
(2) هو القاسم بن سلام، صاحب كتاب " الأموال " و" غريب الحديث "، و" الغريب المصنف "، و" فضائل القرآن " وغيرها.
(3) في (د): إنِّي.
(4) في (د): وكان.
(5) في (ب) و (د): أخبرنا.
(6) في الأصول: "يدعو"، والمثبت من " السير ".
(7) ترجمه الذهبي في مشيخته ورقة 169/ 1 فقال: المسلَّم بن محمد بن المسلَّم بن =(4/237)
أخبرهم، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، أخبرنا أبو بكر الخطيب، حدثنا محمد بن الفرج البزاز (1)، حدثنا عبد الله بن إبراهيم بن ماسي، حدثنا (2) جعفر بن شعيب الشاشي، حدثني محمد بن يوسف الشاشي، حدثهم إبراهيم بن أمية، سمعت طاهر بن خلف، سمعت المهتدي بالله محمد بن الواثق، يقول: كان أبي إذا أراد أن يقتل أحداً، أحضرنا، فأتي بشيخٍ مخضوبٍ مُقَيَّدٍ، فقال أبي: ائذنوا لأبي عبد الله وأصحابه، يعني (3): ابن أبي دُوَاد، قال: فأُدخِل الشيخ، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال: لا سلم الله عليك، فقال: يا أمير المؤمنين: بئس ما أدَّبك مُؤدِّبوك، فإن الله تعالى يقول: {وإذا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بأحسَنَ منها أَوْ رُدُّوها} [النساء: 86]. فقال ابن أبي دواد: الرجل متكلم.
قال له: كلمه، فقال: يا شيخ، ما تقول في القرآن؟ قال: لم يُنصفني (4)، ولي السؤال قال: سَلْ، قال: ما تقول في القرآن؟ [قال: مخلوق] (5)، قال الشيخ: هذا شيءٌ عَلِمَه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكر، وعمر،
__________
= مكي بن علاف المسند الجليل، الصادق العالم، شمس الدين أبو الغنائم العبسي الدمشقي الكاتب، ولد سنة أربع وتسعين وخمس مئة، وسمع من حنبل جميع " المسند "، ومن ابن طبرزد، والكندي، وابن الريف، وابن الحرستاني، وآخرين، فسمع من الكندي " تاريخ بغداد "، ومن ابن الحرستاني: " صحيح مسلم "، ومن ابن طبرزد: " الزهد " لابن المبارك، والترمذي، وأبا داود، والقطيعيات، وسمع " صحيح البخاري " من ابن مندويه، وأجاز له أبو طاهر الخُشوعي، والقاسم بن عساكر، وأبو سعد الصفار، وعُمِّر دهراً، وروى " المسند " ببعلبك وبدمشق، ومات في ذي الحجة سنة ثمانين وستمائة، أجاز لي بجميع مروياته، وكان سخياً سرياً ديِّناً، ولِي نَظَرَ بعلبك.
(1) في (ب): " البواب "، وهو تحريف.
(2) في (ب): أخبرنا.
(3) في (د): يعني بأصحابه.
(4) في (ب): تنصفني.
(5) ساقطة من الأصول، واستدركت من " السير ".(4/238)
والخلفاء الراشدون، أم شيءٌ لم يعلموه (1)؟ قال: شيء لم يعلموه (2). فقال: سبحان الله! شىء لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، علمتَه أنت؟ فخَجِلَ. فقال: أَقِلْني، قال: المسألة بحالها. قال: نعم عَلِمُوه، قال: علموه (3)، ولم يدعوا الناس إليه؟ قال: نعم. قال: أفلا (4) وسعك ما وَسِعَهم؟ قال: فقام أبي، فدخل مجلسنا (5)، واستلقى، وهو يقول: شيءٌ لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي ولا الخلفاء الراشدون، علمته أنت! سبحان الله! شيء علموه، ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسعك ما وسعهم؟! (6) ثم أمر برفع قيوده، وأن يُعطى أربع مئة دينار، ويُؤذن له في الرجوع، وسقط من عينه ابن أبي دواد ولم يمتحن بعدها أحداً.
هذه قصة مليحة، وإن كان في طريقها من يُجهل ولها شاهد.
وبإسنادنا إلى الخطيب: أخبرنا ابنُ رزقويه، أخبرنا أحمد بن سندي الحداد، حدثنا أحمد بن الممتنع، أخبرنا صالح بن علي الهاشمي، قال: حضرت المهتدي بالله، وجلس لينظر في أمور المظلومين - إلى قوله: قال -يعني المهتدي-: ما زلتُ أقول: إن القرآن مخلوقٌ صدراً من أيام الواثق، وساق نحواً من القصة المتقدمة.
قال الذهبي: كان صغيراً زمن الواثق، والحكاية فمنكرة.
__________
(1) تصحفت في (ب) إلى: تعلموه.
(2) " قال علموه " ساقطة من (ب).
(3) في (ب): نعم أفلا.
(4) في " السير ": مجلساً.
(5) من قوله: " قال فقام أبي " إلى هنا ساقط من (أ).
(6) ساقطة من (ب).(4/239)
عن الحسين بن إسماعيل، عن أبيه، قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زُهاء (1) خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون، والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
ابن بطة: سمع النَّجاد، يقول: سمعت أبا بكر بن (2) المطوعي، يقول: اختلفتُ إلى أبي عبد الله، ثنتي عشرة سنة، وهو يقرأ " المسند " على أولاده، فما كتبت عنه حديثاً واحداً، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه.
قال حميد بن عبد الرحمن الرُّؤاسي: يقال: لم يكن أحدٌ من الصحابة أشبه هدياً وسمتاً ودلاً من ابن مسعود بالنبي - صلى الله عليه وسلم - (3)، وكان أشبه الناس به علقمة، وكان أشبه الناس بعلقمة إبراهيم، وكان أشبههم بإبراهيم منصور بن المعتمر، وأشبه الناس به سفيان الثوري، وأشبه الناس به وكيع، وأشبه الناس بوكيع فيما قاله محمد بن يونس الجمال: أحمد بن حنبل.
الخلال: أخبرني محمد بن الحسين، أخبرنا المروذي، قال: قال جارنا فلان: دخلت على الأمير فلان وفلان، ذكر سلاطين، ما رأيت
__________
(1) في الأصول: " زهاء على ". ففي " اللسان ": زُهاء الشيء وزِهاؤه: قدره، يقال: هم زُهاء مئة وزِهاء مئة، أي: قدرها، وهم قوم ذوو زُهاء، أي: ذوو عدد كثير .. من زهوت القوم: إذا حَزَرتهم.
(2) " بن " ساقطة من (د).
(3) أخرجه من حديث حذيفة: أحمد 5/ 389 و394 و395 و401 و402، والبخاري (3762) و (6097)، والترمذي (3807)، والحاكم 3/ 315. ولفظ البخاري: " سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى نأخذ عنه، فقال: ما أعرف أحداً أقرب سمتاً وهدياً ودلاً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من ابن أم عبد ".(4/240)
أهيب من أحمد بن حنبل، صِرْتُ إليه أكلمه في شيء، فوقعت علي (1) الرِّعْدَة من هيبته. ثم قال المروذي (2): ولقد طرقه الكلبي -صاحب خبر السر- ليلاً. فمن هيبته لم يقرعُوا بابه، ودقوا باب عمِّه.
عبد الله بن محمد الورَّاق: كنت في مجلس أحمد بن حنبل، فقال: من أين أقبلتم؟ قلنا: من مجلس أبي كُرَيْبٍ، فقال: اكتبوا عنه، فإنه شيخ صالح، فقلنا: إنه يطعن عليك. قال: فأي شيء حيلتي، شيخٌ صالح قد بُلِيَ بي.
ابن المنادي، عن جدِّه أبي جعفر، قال: كان أحمد من أحيى الناس، وأكرمهم، وأحسنهم عشرةً وأدباً، كثير الإطراق، لا يُسمع منه إلا المذاكرة للحديث، وذكر الصالحين في وقارٍ وسُكونٍ، ولفظ حسن. وإذا لقيه إنسان، بشَّ به، وأقبل عليه. وكان يتواضع للشيوخ شديداً، وكانوا يعظمونه، وكان يفعل بيحيى بن معين ما لم أره يعمل لغيره من التواضع والتكريم والتبجيل، كان يحيى أكبر منه بسبع سنين.
وقالب الميموني: كان أبو عبد الله حسن الخُلُق، دائم البِشْرِ، يحتمل الأذى من الجار.
علوان بن الحسين: سمعت عبد الله بن أحمد، قال: سُئِلَ أبي: لم لا تصحب الناس؟ قال: لِوحشة الفراق.
ابن بطة: حدثنا محمد بن أيوب (3)، حدثنا إبراهيم الحربي،
__________
(1) ساقطة من (د).
(2) تحرفت في (ب) إلى: المردي.
(3) في (د): يعقوب.(4/241)
سمعت أحمد بن حنبل، يقول لأحمد الوكيعي: يا أبا عبد الرحمن: إئي لأحبك، حدثنا (1) يحيى، عن ثور، عن حبيب بن عبيد، عن المقدام، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أحب أحدُكم أخاه، فليُعْلِمْهُ " (2).
فصل:
قال ابن الجوزي: خلَّف له أبوه طرزاً وداراً يسكنُها (3)، فكان يكري تلك الطرز، ويتعفَّفُ بها.
قال ابن المنادي: حدثنا جدي، قال لي أحمد بن حنبل: أنا أذرَعُ هذه الدار، وأُخرجُ الزكاة عنها في كُلِّ سنةٍ. أذهبُ إلى قول عمر في أرض السواد (4).
قال المرُّوذي: سمعت أبا عبد الله، يقول: الغلَّة ما يكون قوتنا، وإنما أذهب فيه إلى أن لنا فيه شيئاً، فقلت له: قال رجل: لو ترك أبو عبد الله الغلة، وكان يصنع له صديق له، كان أعجب إلي. فقال: هذه طعمة سوءٍ، ومن تعوَّد هذا، لم يصبر عنه. ثم قال: هذا أعجب إلي من غيره، يعني: الغلة. وأنت تعلم أنها لا تُقيمنا، وإنما أخذها على الاضطرار.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) إسناده صحيح، وهو في " المسند " 4/ 130، وأخرجه أبو داود (5124) في الأدب، باب: إخبار الرجل بمحبته إليه، والترمذي (2393) في الزهد، باب: ما جاء في إعلام الحب، والبخاري في " الأدب المفرد " (542)، وصححه ابن حبان (2514)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وسكت عليه الحاكم في " المستدرك " 4/ 171، والذهبي المؤلف.
(3) في (ب): سكنها.
(4) انظر " المغني " 2/ 716 وما بعدها.(4/242)
قال ابن الجوزي: ربما احتاج أحمد، فخرج إلى اللِّقاط (1).
قال الخلال: حدثني محمد بن الحسين، حدثنا المروذي، حدثني أبو جعفر الطرسوسي (2)، حدثني الذي نزل عليه أبو عبد الله، قال: لما نزل علي، خرج إلى اللِّقاط، فجاء وقد لَقَطَ شيئاً يسيراً. فقلت له: قد أكلت أكثر مما لقطت، فقال: رأيت أمراً استحييت منه، رأيتهم يلتقطون، فيقوم الرجل على أربعٍ، وكنت أزحف.
أحمد بن محمد بن عبد الخالق: حدثنا المروذي، قال أبو عبد الله: خرجت إلى الثَّغْرِ على قدمي، فالتقطت، لو قد رأيت قوماً يُفسِدُون مزارع الناس، قال: وكنا نخرج إلى اللقاط.
قلت: وربما نسخ بأجرةٍ، وربما عمل التِّكَكَ، وأجَّر نفسه لجمال. رحمة الله عليه.
فصل:
قال إبراهيم الحربي: سُئل أحمد عن المسلم يقول للنصراني: أكرمَكَ الله. قال: نعم، ينوي بها الإسلام.
وقيل: سئل أحمد عن رجلٍ نذر أن يطوف على أربع، فقال: يطوف طوافين، ولا يطُف على أربعٍ.
قال ابن عقيل: من عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهَّال، أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحدَّثٌ. قال: وهذا غاية
__________
(1) في " اللسان " (لقط): اللِّقاط: السُّنْبُل الذى تخطئه المناجل، ويلتقطه الناس، واللِّقاط: اسم لذلك الفعل.
(2) تحرفت في (ب) إلى الطرسوني.(4/243)
الجهل، لأنه له اختياراتٌ بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم، وربما زاد على كبارهم.
قلت: ما أحسِبُهم يظنُّونه مُحدِّثاً وبس (1)، بل يتخيَّلُونه من بابة محدثي زماننا، ووالله لقد بلغ في الفقه خاصة رُتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، وفي الزهد والورع رتبة الفضيل، وإبراهيم بن أدهم، وفي الحفظ رُتبة شعبة، ويحيى القطان، وابن المديني، ولكن الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره؟!!.
حكاية موضوعة:
لم يستح (2) ابن الجوزي من إيرادها، فقال: أخبرنا ابن ناصر، أخبرنا ابن الطيوري (3)، أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسين، أخبرنا القاضي همام بن محمد الأُبُلِّي، أخبرنا أحمد بن علي بن حسين بن الخطيب، حدثنا الحسين بن بكر الوراق، أخبرنا أبو الطيب محمد بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: لمَّا أُطلِقَ أبي من المحنة، خشي أن يجيء إليه إسحاق بن راهويه، فرحل إليه. فلما بلغ الرَّيَّ، دخل مسجداً، فجاء مطرٌ كأفواه القِرَبِ. فقالوا له: اخرُج من المسجد لنغلقه، فأبى، فقالوا: اخرُجْ أو تُجَرَّ برجلك، فقلت: سلاماً، فخرجت، والمطر والرعد، ولا أدري أين (4) أضع رجلي، فإذا رجل قد خرج من داره، فقال: يا هذا: أين تمر؟ فقلت: لا أدري. قال: فأدخلني إلى
__________
(1) " بس " بمعنى: كفى وحسب، قال في " اللسان ": فارسية.
(2) في (أ) و (د): لم يستحيي.
(3) في (ب): " الطنبوري " وهو تحريف.
(4) في (د): أن.(4/244)
بيتٍ فيه كانونُ فحم ولُبُود (1) ومائدة، فأكلتُ. فقال: من أين أنت؟ قلت: من بغداد، فقال: تعرف أحمد بن حنبل؟ فقلت: أنا هو، فقال: وأنا إسحاق بن راهويه.
إنما قال الذهبي: إنها موضوعة، لأن أحمد، وإسحاق صديقان يتعارفان من قبل المحنة، وهذا أمرٌ لا يخفى على مثل (2) ابن الجوزي، فلعلَّه سها وما تأمل والله أعلم.
قال الذهبي: سعيد بن عمرو البرذعي: سمعت أبا زُرعة، يقول: كان أحمد لا يرى الكتابة عن أبي نصر التَّمار، ولا يحيى بن معين، ولا أحدٍ (3) ممن امتُحِنَ فأجاب.
أبو عوانة: سمعتُ الميموني، يقول: صحَّ عندي أن أحمد لم يحضُر أبا نصرٍ التَّمار لمَّا مات. فحسبتُ أن ذلك لإجابته في المحنة.
وعن حجاج بن الشاعر، سمع أحمد يقول: لو حدثت عن أحدٍ ممن أجاب، لحدثت عن أبي معمرٍ وأبي كُريب (4).
قلت: لأن أبا معمر الهذلي نَدِمَ، ومقت نفسه، والآخر أجْرَوْا له دينارين بعد الإجابة، فردهما مع فقره.
أحمد بن علي الأبَّار: حدثنا يحيى بن عثمان الحربي، سمعت
__________
(1) جمع لِبْد، ولِبْدَة، ولُبٍدة، وهي كل شعر أو صوف متلبد.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): " أحداً "، وهو خطأ.
(4) في (ب): كرب.(4/245)
بشر بن الحارث، يقول: وددت أن رؤوسهم خُضِبَت بدمائهم، وأنهم لم يُجيبوا.
نقل أبو علي بن البناء، عن شيخٍ (1)، عن آخر، أن هذه الأبيات لأحمد في علي بن المديني:
يا ابن المديني الذي عُرِضت له ... دنيا فجاد بدينه ليَنَالَهَا
ماذا دَعَاكَ إلى انتحال مقالةٍ ... قد كنتَ تزعُمُ كافراً مَنْ قالَها
أمرٌ بَدَا لك رُشْدُهُ فَتَبِعْتَهُ ... أم زهرةُ الدنيا أردتَ نَوالَهَا
ولقد عَهِدْتُكَ مرَّةً مُتشدداً ... صعب المقالةِ للتي تُدْعَى لها
إنَّ المُرَزَّى من يُصابُ بدينِه ... لا من يُرَزَّى ناقةً وفِصَالَها (2)
قال الذهبي في ترجمة ابن المديني: قيل ليحيى بن معين. ارتدَّ ابنُ المديني؟ فقال: ما ارتدَّ ولكن خاف، فقال: انتهى (3).
قال الذهبي: قال صالح: قال لى أبي: كانت أُمُّك تغزل غزلاً دقيقاً، فتبيع الأستار (4) بدرهمين أو نحوها، وكان ذلك قوتنا.
قال صالح: كنَّا ربما اشترينا الشيء، فنستُرُه منه لئلاَّ يُوَبِّخَنا عليه.
الخلال: أخبرنا المروذي، قال: رأيت أحمد بن عيسى المصري ومعه قوم (5) من المحدثين، دخلوا على أبي عبد الله بالعسكر، فقال له
__________
(1) " عن شيخ " ساقط من (ب).
(2) الأبيات غير منسوبة في " تهذيب الكمال " ورقة 983، و" تاريخ بغداد " 11/ 469 - 470، و" طبقات الشافعية " 2/ 148، و" تذهيب التهذيب " 3/ 69/1. ويستبعد أن تكون للإمام أحمد وفي السنة مجاهيل.
(3) 11/ 57.
(4) في (أ): " الأستان "، وفي (ب): " الأستاب "، والمثبت من " السير ".
(5) ساقطة من (ب).(4/246)
أحمد: يا أبا عبد الله، ما هذا الغم؟ الإسلام حنيفية سمحة، وبيتٌ واسع. فنظر إليهم، وكان مُضطجعاً، فلمَّا خرجوا، قال: ما أريدُ أن يدخل عليَّ هؤلاء.
الخلال: أخبرنا محمد بن علي السِّمسَار، حدَّثني إسحاق بن هانىء، قال لي أبو عبد الله: بكِّر حتى نُعارِضَ بشيءٍ من الزُّهد. فبكَّرتُ إليه، وقلت لأم ولده: أعطيني حصيراً ومِخَدة، وبسطتُ في الدِّهليز، فخرج ومعه الكتب والمِحْبَرة، فقال: ما هذا؟! فقلت: لتجلس عليه، فقال: ارفعه، الزهد لا يحسن إلاَّ بالزهد. فرفعته، وجلس على التراب.
وقال الميموني: كان منزل أبي عبد الله ضيقاً صغيراً، وينام في الحرِّ في أسفله.
وقال لي عمُّه: ربما قلت له تنام فوق، فلا يفعل. وقد رأيت موضع مضجعه وفيه شاذكونة (1) وبرذعة (2)، قد غلب عليها الوسخ، وقيل: كان على بابه مِسْحٌ من شعر.
الخلال: حدثنا المروذي، عن إسحاق بن إبراهيم النيسابوري، قال لي الأمير: إذا حلَّ إفطارُ أبي عبد الله، فأرنيه. قال: فجاؤوا برغيفين: خبز وخُبَّازة، فأريته الأمير، فقال: هذا لا يجيبنا إذا كان هذا يُعِفُّه.
قال المروذي: قال أبو عبد الله في أيام عيدٍ: اشتروا لنا أمس
__________
(1) بفتح الذال، وهي ثيابٌ غِلاظٌ مُضَرِّبة تعمل في اليمن. انظر " القاموس المحيط " (الشاذكونة).
(2) أي: الحِلْس يُلقى تحت الرَّحْلِ.(4/247)
باقِلَّى، فأيُّ شيءٍ كان به من الجودة، وسمعته يقول: وجدتُ البرد في أطرافي، ما أراه إلاَّ من إدامي الملح والخَلِّ.
قال أحمد بن محمد بن مسروق. قال لي عبد الله بن أحمد: دخل عليَّ أبي يَعُودني في مرضي، فقلت: يا أبةِ، عندنا شيء مما كان يَبَرُّنا به المتوكل أفأحُجُّ منه؟ قال: نعم. قلت: فإذا كان هذا عندك هكذا، فلِمَ لا (1) تأخذُ منه؟ قال: ليس هو عندي حرام (2)، ولكن تنزَّهتُ عنه. رواه الخُلدِي (3) عنه.
فصل:
قال ابنُ الجوزي: كان الإمام لا يرى وضع الكتب، ويَنْهَى عن كتبة كلامه ومسائله. ولو رأي ذلك، لكانت له تصانيفُ كثيرةٌ، وصنَّف " المسند " وهو ثلاثون ألف حديث، وكان يقول لابنه عبد الله: احتفظ بهذا " المسند "، فإنه سيكون للناس إماماً (4). " والتفسير " وهو مئةٌ
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) كذا الأصول و" السير ".
(3) تحرفت في الأصول إلى " الخدري "، والتصويب من " السير ".
(4) قال الحافظ أبو موسى المديني في " خصائص المسند " ص 21: وهذا الكتاب أصل كبير، ومرجع وثيق لأصحاب الحديث، انتقي من حديث كثير، ومسموعات وافرة، فجُعل إماماً ومعتمداً، وعند التنازع ملجأً ومستنداً " ويبلغ عدد أحاديثه أكثر من ثلاثين ألف حديث.
وقال ابن كثير في " الباعث الحثيث ": وكذلك يوجد في " مسند " الإمام أحمد من الأسانيد والمتون شيءٌ كثير مما يوازي كثيراً من أحاديث مسلم، بل والبخاري أيضاً، وليست عندهما، ولا عند أحدهما، بل ولم يُخْرجه أحد من أصحاب الكتب الأربعة، وهم أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة ".
قلت: ولم يتوخَّ الإمام أحمد الصحة في " مسنده " هذا، بل روى فيه الصحيح، والحسن، والضعيف، يُعلم ذلك من دراسة الأسانيد والتخريج. وقد قال ابن الجوزي في =(4/248)
وعشرون ألفاً، و" الناسخ والمنسوخ "، و" التاريخ "، و" حديث شعبة "، و" المقدَّم والمؤخر في القرآن "، و" جوابات القرآن "، و" المناسك " الكبير والصغير، وأشياء أُخَرَ.
قلت: وكتاب " الإيمان "، وكتاب " الأشربة "، ورأيتُ له ورقةً من كتاب " الفرائض ". فتفسيره المذكور شيءٌ لا وجود له. ولو وُجِدَ، لاجتهد الفضلاء في تحصيله، ولاشتهر، ثم لو ألَّف تفسيراً، لما كان يكون أزيدَ من عشرة آلاف أثر، ولاقتضى أن يكون في خمس مجلدات.
فهذا تفسير ابن جرير الذي جَمَعَ فيه فأوعى لا يبلُغُ عشرين ألفاً. وما ذكر تفسير أحمد أحدٌ (1) سوى أبي الحسين بن المنادي. فقال في " تاريخه ": لم يكن أحدٌ أروى في الدنيا عن أبيه من عبد الله بن أحمد، لأنه سَمِعَ منه " المسند " وهو ثلاثون ألفاً، و" التفسير " وهو مئةٌ وعشرون ألفاً، سَمِعَ ثلثيه والباقي وِجادة (2).
__________
= " صيد الخاطر ": ومن نظر في كتاب " العلل " الذي صنفه أبو بكر الخلال، رأي أحاديث كثيرة كلها في " المسند "، وقد طعن فيها أحمد. ونقلتُ من خط القاضي أبي يعلى محمد بن الحسين الفراء في مسألة النبيذ، قال: إنما روى أحمد في " مسنده " ما اشتهر، ولم يقصد الصحيح ولا السقيم، ويدل على ذلك أن عبد الله قال: قلت لأبي: ما تقول في حديث ربعي بن خِراش عن حذيفة؟ قال: الذي يرويه عبد العزيز بن أبي رَوَّاد؟ قلت: نعم، قال: الأحاديث بخلافه، قلت: قد ذكرته في " المسند "، قال: قصدت في " المسند " المشهور، فلو أردت أن أقصِدَ ما صَحَّ عندي، لم أروِ من هذا " المسند " إلاَّ الشيء بعد الشيء اليسير، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث، لستُ أخالف ما ضعف من الحديث إذا لم يكن في الباب شيءٌ يدفعه. قال القاضي: وقد أخبر عن نفسه كيف طريقه في " المسند "، فمن جعله أصلاً للصحة، فقد خالفه، وتَرَكَ مَقصِدَه.
(1) ساقطة من (د).
(2) الوِجادة: هي أن يَجِدَ الشخص أحاديث بخط راويها، سواء لَقِيَه أو سَمِعَ منه، أم لم يلقه ولم يسمع منه، أو أن يَجِدَ أحاديث في كتب المؤلفين المعروفين، ففي هذه الأنواع كلها لا يجوز له أن يرويها عن أصحابها، بل يقول: وجدت بخط فلان، إذا عرف الخط، =(4/249)
ابن السَّمَّاك: حدثنا حنبل، قال: جمعنا أحمد بن حنبل، أنا وصالح وعبد الله، وقرأنا عليه " المسند " ما سمعه غيرُنا. وقال: هذا الكتاب: جمعته وانتقيته من أكثر (1) من سبع مئة ألفٍ وخمسين ألفاً (2)، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فارجعوا إليه، فإن وجدتموه فيه، وإلاَّ فليس بحجة.
قلت: في " الصحيحين " أحاديث قليلة، ليست في " المسند "، لكن قد يقال: لا تَرِدُ على قوله، فإنَّ المسلمين ما اختلفوا فيها (3)، ثم ما يلزم من هذا القول: أن ما يوجد فيه يكون حجةً، ففيه جملة من الأحاديث الضعيفة مما يسُوغُ نقلُها، ولا يجب الاحتجاج بها. وفيه أحاديثُ معدودة شِبْهُ موضوعة ولكنها قطرةٌ في بحر (4). وفي (5) غضون " المسند " زيادات جمّة لعبد الله بن أحمد.
قال ابن الجوزي: وله -يعني: أبا عبد الله- من المصنفات كتاب " نفي التشبيه " مجلدة، وكتاب " الإمامة " مجلدة صغيرة، وكتاب
__________
= ووَثِقَ منه، أو يقول: قال فلان، أو نحو ذلك، والذي عليه المحققون من أهل العلم وجوب العمل بها عند حصولِ الثقة بما يجدُه القارىء، أي: يَثِقُ بأن هذا الخبر أو الحديث بخطِّ الشيخ الذي يعرفه، أو يَثِقُ بأن الكتاب الذي ينقُلُ منه ثابت النسبة إلى مؤلِّفِه الثقةِ المأمون، وأن يكون إسنادُ الخبر صحيحاً.
(1) " من أكثر" ساقط من (ب).
(2) " وخمسين ألفاً " ساقط من (ب).
(3) ساقطة من (ب).
(4) للحافظ ابن حجر رسالة ردَّ بها على من ادعى أنَّ في " المسند " أحاديث موضوعة وسمها بـ " القول المسدد في الذب عن مسند أحمد " وهي مطبوعة في الهند.
(5) " في " ساقطة من (ب).(4/250)
" الرد على الزنادقة " ثلاثة أجزاء، وكتاب " الزهد " (1) مجلد كبير (2)، وكتاب " الرسالة في الصلاة " -قلت: هو موضوعٌ على الإمام- قال: وكتاب " فضائل الصحابة " (3) مجلدة.
قلت: وفيه زياداتٌ لابنه عبد الله، ولأبي بكرٍ القطيعي صاحبه.
وقد دوَّن عنه كبار تلامذته مسائل وافرةً في عدة مجلدات، كالمَرُّوذي، والأثرم، وحرْب، وابن هانىء (4)، والكوسج، وأبي طالب، وفُوران، وبدرٍ المغازلي، وأبي يحيى الناقد، ويوسف بن محمد الحربي، وعبدوس العطار، ومحمد بن موسى بن مُشَيش (5)، ويعقوب بن بُختان، ومُهَنَّا الشامي، وصالح بن أحمد، وأخيه (6)، وابن عمهما حنبل، وأبي الحارب أحمد بن محمد الصائغ، والفضل بن زياد، وأبي الحسن الميموني، والحسن بن ثواب، وأبي داود السِّجستاني (7)، وهارون الحمال، والقاضي أحمد بن محمد البِرْتي، وأيوب بن إسحاق بن (8) سافري، وهارون المستملي، وبِشْرِ بن موسى، وأحمد بن
__________
(1) طبع بمصر.
(2): ساقطة من (ب).
(3) طبع في مجلدين في مؤسسة الرسالة، بتحقيق وصي الدين بن محمد عباس.
(4) هو إسحاق بن إبراهيم بن هانىء النيسابوري، المتوفى سنة 275 هـ، وقد طبعت في جزأين في مجلد في المكتب الإسلامي سنة 1400 هـ بتحقيق الأستاذ زهير الشاويش. ونشر أيضاً بتحقيقه " مسائل أحمد " رواية ابنه عبد الله سنة 1401 هـ.
(5) في (أ): موسى.
(6) في " الأصول ": " وأخوه "، والمثبت من " السير ".
(7) هو الإمام الحافظ أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب " السنن "، المتوفى سنة 275 هـ، وقد طبعت " مسائل أحمد " بروايته سنة 1353 هـ بعناية السيد محمد رشيد رضا رحمه الله.
(8) ساقطة من الأصول، ومثبتة من " السير " وغيره.(4/251)
القاسم صاحب أبي عُبيد، ويعقوبَ بنِ العباس الهاشمي، وحُبَيْش بن سِندي، وأبي الصقر يحيى بن يزداد الورَّاق، وأبي جعفر محمدِ بن يحيى الكَحَّال، ومحمد بن حبيب البَرَّاز، ومحمد بن موسى النَّهْرُتيري، ومحمد بن أحمد بن واصل المقرىء، وأحمد بن أصرم المُزَني، وعبدوس الحربي قديمٌ، عنده عن أحمد نحوٌ من عشرة آلاف مسألةٍ لم يُحَدِّث بها، وإبراهيم الحربي، وأبي جعفر محمد بن الحسين بن هارون بن بَدِينا، وجعفر بن محمد بن الهُذيل الكوفي، وكان يُشبهونه في الجلالة بمحمد بن عبد الله بن نمير، وأبي شيبة إبراهيم بن أبي بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن عبد الله مُطيَّن (1)، وجعفر بن أحمد (2) الواسطي، والحسن بن علي الإسكافي، والحسن بن علي بن بحر بن برِّي القطَّان، والحُسين بن إسحاق التُّسْتَري، والحسن بن محمد بن الحارث السِّجِسْتَاني، قال الخلاَّلُ: يقرُبُ من أبي داود في المعرفة وبصر الحديث والتفقه - وإسماعيل بن عمر السِّجزي (3) الحافظ، وأحمد بن الفُرات الرازي الحافظ. وخلقٍ سوى هؤلاء، سماهم الخلال في أصحاب أبي عبد الله نَقَلُوا المسائل الكثيرة والقليلة.
وجمع الخلال سائر ما عند هؤلاء من أقوال أحمد، وفتاويه، وكلامه في العلل، والرجال، والسنة، والفروع، حتى حصل عنده من ذلك ما لا يوصف كثرةً. ورحل إلى النواحي في تحصيله، وكتب عن نحوٍ من مئةِ نفس من أصحاب الإمام. ثم كتب كثيراً من ذلك عن أصحاب
__________
(1) في (د): " بن مطين " وهو خطأ.
(2) في (ب): محمد.
(3) في (ب): الشجري.(4/252)
أصحابه، وبعضه عن رجلٍ، عن آخر، عن آخر، عن الإمام أحمد، ثم أخذ في ترتيب ذلك، وتهذيبه، وتبويبه. وعَمِل كتاب " العلم "، وكتابَ " العلل " وكتاب " السنة "، كل واحدٍ من الثلاثة في ثلاث مجلدات.
ويروي في غضون ذلك من الأحاديث العالية عنده، عن أقران أحمد من أصحاب ابن عُيينة ووكيعٍ (1) وبقية مما يشهدُ له بالإمامة والتقدم.
وألَّف كتاب " الجامع " في بضعة عشر مجلدةً، أو أكثر. وقد قال: في كتاب " أخلاق أحمد بن حنبل " لم يكُن أحدٌ علمتُ عني بمسائل أبي عبد الله، ما عُنيتُ بها أنا إلاَّ رجلٌ بهَمْدَان، يقال له: متويه، واسمه محمد بن أبي عبد الله، جَمَعَ سبعين جُزءاً كباراً.
أولادُه: الحسنُ والحسين ماتا صغيرين، ثم الحسنُ ومحمدٌ عاشا نحو الأربعين، وصالحٌ وعبدُ الله وأمُّ علي زينب.
قال الخلاَّل: حدثنا (2) محمد بن علي بن بحر، قال: سمعت حُسْنَ أُمَّ ولد أبي عبد الله، تقول: لما ولدتُ حَسَناً، أعطى مولاتي (3) كرامةً درهماً، فقال: اشتري بهذا رأساً، فجاءت به، فأكلنا. فقال: يا حُسْنُ، ما أملِكُ غير هذا الدرهم. قالت: وكان إذا لم يكن عنده شيء، فَرِحَ يومَه.
وصيتُه:
عن المروذي سمعته يقول: وأشهدَ على وصيته: هذا ما أوصى به
__________
(1) " ووكيع " ساقطة من (ب).
(2) في (د): أخبرنا.
(3) في (ب): مولاي.(4/253)
أحمد بن محمد، أوصى أنه يشهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وإنَّ محمداً عبده ورسوله.
ورواها أيضاً ولده عبد الله كذلك.
مرضه:
قال عبد الله: سمعت أبي، يقول: استكملت سبعاً وسبعين سنة، ودخلتُ في ثمانٍ، فحُمَّ من ليلته، ومات اليوم العاشر.
وقال صالح (1): صار الفتح (2) بن سهل إلى الباب (3) ليعوده فحجبتُه، وأتى ابنُ علي بن الجعد فحجبتُه، وكَثُرَ الناس. فقال: ما ترى؟ قلت: تأذنُ لهم، فيدعون لك.
قال: أستخير الله، فجعل الناس يدخلون عليه أفواجاً، حتى تمتلىء الدار، وكثر الناس، وامتلأ الشارع، وأغلقنا باب الزقاق -إلى قوله- (4): وجعلَ يُحَرِّكُ لسانه، ولم يَئِنَّ إلاَّ في الليلة التي تُوفي فيها. ولم يزل يُصلي قائماً، أُمسِكُهُ فيركَعُ ويسجد، وأرفعه في ركوعه. واجتمعت عليه أوجاعُ الحصر، وغير ذلك، ولم يزل عقلُهُ ثابتاً.
قال المَرُّوذي: مَرِضَ تسعة أيام، وكان ربما أذِنَ للناس، فيدخلون عليه أفواجاً، يُسلمون ويرُدُّ بيده، وتسامع الناسُ وكثروا، وسمع السلطان بكثرة الناس، فوَكَّل السلطان ببابه وبباب الزقاق الرابطة وأصحاب
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (د): الفضل.
(3) " إلى الباب " ساقط من (د).
(4) " إلى قوله " ساقطة من (ب).(4/254)
الأخبار، ثم أغلق باب الزقاق، فكان الناس في الشوارع والمساجد، حتى تعطَّل بعضُ الباعة. وكان الرجل إذا أراد أن يدخل إليه، ربما دخل من بعض الدور وطرز (1) الحاكة. ورُبَّما تَسَلَّق.
وجاءه حاجب بن طاهرٍ، فقال: إن الأمير يُقرِئُك السلام، وهو يشتهي أن يراك. فقال: هذا مِمَّا أكرَهُ، وأميرُ المؤمنين قد أعفاني ممَّا أكرَهُ.
وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه، وجَعَلُوا يبكون عليه (2). وجاء قومٌ من القضاة وغيرهم، فلم يُؤذَن لهم " ودخل عليه شيخ، فقال: اذكر وقوفك بين يديّ الله، فشَهِقَ أبو عبد الله، وسالت دموعُه.
وأدخلت تحته الطَّسْتَ، فرأيت بولَه دماً عبيطاً. فقلت للطبيب، فقال: هذا رجلٌ قد فتَّت الحُزْنُ والغَمُّ جوفَه.
واشتدَّت علتُه يوم الخميس ووَضَّأتُهُ، فقال: خلِّلْ بين (3) الأصابع، فلما كان ليلة (4) الجمعة، ثَقُلَ، وقُبِضَ صدر النهار.
الخلال: أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، قال: أعطى بعضُ ولد الفضل بن الربيع أبا عبد الله، وهو في الحبس ثلاث شعرات، فقال: هذه من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأوصى أبو عبد الله عند موته أن يُجعل على كل عينٍ شعرةٌ، وشعرةٌ على لسانه. ففُعِل ذلك به عند موته.
__________
(1) الموضع الذي تُنسج فيه الثياب.
(2) من قوله: " فقال: هذا ممَّا أكره " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) ليست في " السير ".
(4) في (ب): يوم.(4/255)
الخلال: حدثنا المَرُّوذي، قال: أُخْرِجَتِ الجنازة عند منصَرَفِ الناس من الجمعة.
أحمد في " مسنده ": حدثنا أبو عامر، حدثنا هشام بن سعد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة بن سيف، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " ما مِن مسلمٍ يموتُ يومَ الجمعة إلاَّ وقاه الله فتنة القبر " (1).
قال صالح بنُ أحمد: فُرِغَ من غَسلِه، وكفَّنَّاه، وحضر نحوُ مئةٍ من بني هاشمٍ، ونحنُ نكفنُه. وجعلوا يُقَبَِّلون جبهته حتى رفعناه على السرير.
قال عبد الله: صلَّى على أبي محمد بن عبد الله بن طاهر، غلبنا على الصلاة عليه، وقد كُنَّا صلينا عليه نحن والهاشميون في الدار.
__________
(1) هو في " المسند " 2/ 169، وأخرجه الترمذي (1074) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وأبي عامر العقدي، كلاهما عن هشام بن سعد، بهذا الإسناد. وقال: هذا حديث غريب، ليس إسناده بمتصل، ربيعة بن سيف إنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبلي، عن عبد الله بن عمرو، ولا نعرف لربيعة بن سيف سماعاً من عبد الله بن عمرو.
قلت: ووصله -كما في " المقاصد الحسنة " ص 429 - الطبراني وأبو يعلى من حديث ربيعة، عن عياض بن عقبة الفهري، عن عبد الله بن عمرو.
وله طريق أخرى عند أحمد 2/ 176 من طريق بقية، عن معاوية بن سعيد، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رفعه: " من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة، وُقيّ فتنة القبر".
وفي الباب عن أنس عند أبي يعلى (4113)، وفي سنده وافد -بالفاء أو القاف- بن سلامة، ويزيد الرقاشي، وهما ضعيفان.
وعن جابر عند أبي نعيم في " الحلية " 3/ 155 - 156، وفي سنده عمر بن موسى بن وجيه الحمصي، وهو متروك، وبعضهم اتهمه.
وعن علي عند الديلمي في " مسنده " كما في " المقاصد الحسنة " ص 429، فالحديث يتقوَّى بهذه الشواهد.(4/256)
قال صالح: ولم يعلم الناس بصلاة محمد بن عبد الله بن طاهر عليه، فلما كان في الغد عَلِمُوا، فجعلوا يجيئون، فيُصَلُّون على القبر. ومكث الناس ما شاء الله، يأتون، فيُصلُّون على القبر (1).
الخلال: حدثنا محمد بن حصن، قال: بَلَغني أن أحمد بن حنبل لما مات، فوَصَلَ الخبرُ إلى " الشاش " سعى بعضهم إلى بعض، فقالوا: قوموا حتى نُصلِّي على أحمد بن حنبل كما صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم -، على النجاشي فَخَرَجُوا إلى المصلى فَصَلُّوا عليه.
قال الخلالُ: سمعت عبد الوهَّاب الورَّاق، يقول: ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا الإسلام مثله -يعني: من شهد الجنازة- حتى بلغنا أن الموضع مُسِحَ وحُزِرَ على الصحيح، فإذا هو نحوٌ من ألفِ ألفٍ وَحَزَرْنا على القبور نحواً من ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدُّروب، ينادون من أراد الوضوء. ثم روى الذهبي نحو هذا من سبع طرق.
قال أبو بكرٍ البيهقيُّ: بلغني عن أبي القاسم البغويِّ أن ابن طاهرٍ أمر أن يُحزَرَ الخلقُ، فاتفقوا على سَبْعِ مئةِ ألف.
قال صالح: ودخل عليه سوَّارٌ القاضي، فجَعَلَ يُبَشِّرُهُ ويخبرُه بالرُّخص، وذكر عن معتمر أن أباه، قال له عند موته: حدثني بالرخص.
وفي جزء محمد بن عبد الله بن علم: الذي سمعناه، قال: سمعت عبد الله بن أحمد، يقول: لما حَضَرَتْ أبي الوفاةُ، جلستُ عنده
__________
(1) من قوله: " ومكث " إلى هنا ساقط من (ب).(4/257)
وبيدي الخِرقةُ لأفتقد (1) بها لحيته، فجعل يَغرَقُ، ثم يُفيقُ، ثم يفتحُ عينيه، ويقول بيده هكذا (2) لا بَعدُ لا بعد، ثلاث مرات. فلمَّا كان في الثالثة، قلت له: يا أبة، أيُّ شيء هذا الذي لَهِجْتَ به في هذا الوقت؟ فقال: يا بني، ما تدري؟ قلت: لا. قال: إبليس لعنه الله قائم، بحذائي، وهو عاضٌّ على أنامله، يقول: يا أحمد فُتَّني، وأنا أقول: لا بعد حتى أموت.
فهذه حكاية غريبة، تفرَّد بها ابن عَلم، فالله أعلم.
وقد أنبأنا الثقة، عن أبي المكارم التيمي، أخبرنا الحداد، أخبرنا أبو نُعيم، أخبرنا أبي، حدثنا (3) أحمد بن محمد بن عمر، قال: سُئِلَ عبد الله بن أحمد: هل عَقَلَ أبوك عند المعاينة؟ قال: نعم. كنا نُوَضِّئُه، فجعل يُشِيُر بيده، فقال لي صالح: أيُّ شيءٍ يقول؟ فقلت، هو ذا يقول: خلِّلوا أصابعي، فخلَّلْنا أصابعه ثم ترك (4) الإشارة، فمات من ساعته.
وقال صالحٌ: جعل أبي يحرِّك لسانه إلى أن تُوفي.
قال صالح: لم يحضُر أبي عند غَسلِه غريبٌ، فأردنا أن نُكفِّنَه، فغلبنا (5) عليه بنو هاشم، وجعلوا يبكون عليه، ويأتون بأولادهم فيُكبونهم عليه ويقبلونه.
__________
(1) في " السير ": لأشُدَّ.
(2) في (ب): هكذا بيده.
(3) في (ب): أخبرنا.
(4) في (ب): فترك.
(5) في (د): فغلب.(4/258)
أقول: هذا دليلٌ على شدة موالاته لأهل البيت، وقيامه بحق القرابة، وقد وصفه بذلك الإمام المنصور بالله، فقال في " المجموع المنصوري " في الدعوة العامة إلى جَيْلان ودَيْلَمان ما لفظُه: وأما أحمد بن حنبل، فيكفيك في الاستقصاء عن أمره أنه ذُكِرَ له الحديث المُطَرَّقُ بعليِّ بن موسى بن جعفر، قال: أخبرني موسى العبد الصالح، عن أبيه جعفر (1) بن محمد الصادق، عن أبيه محمد بن علي باقر علم الأنبياء، عن أبيه عليِّ بن الحسين زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي (2) سيد شباب أهل الجنة، عن أبيه علي بن أبي طالب سيد العرب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد الأوَّلين والآخرين، إنه قال: " الإيمان قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالقلب، وعملٌ بالجوارح ". فذكر هذا السند لأحمد بن حنبل، فقال: لو قُرِىءَ هذا على مجنونٍ لبرأ من جنونه (3).
__________
(1) في (ب): " عن أبيه عن جعفر " وهو خطأ.
(2) " بن علي " ساقطة من (ب).
(3) أخرجه ابن ماجة (65)، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/ 138، والخطيب في " تاريخه " 5/ 418 - 419 و10/ 343 - 344 و11/ 47 و51 من طريق أبي الصلت الهروي عن علي بن موسى الرضا، بهذا الإسناد. ولفظ أبي نعيم: " حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله المعدَّل، حدثنا أبو علي أحمد بن علي الأنصاري، حدثنا أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي قال: كنت مع علي بن موسى الرضا ... قال: حدثني أبي العدل الصالح موسى بن جعفر -إلى- حدثني أبي عليٌّ بن أبي طالب رضوان الله عليهم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الإيمان؟ قال: " معرفةٌ بالقلب، وإقرارٌ باللسان، وعملٌ بالأركان " وقال أبو علي: قال لي أحمد بن حنبل: إن قرأت هذا الإسناد على مجنونٍ بَرِىء من جنونه، وما عيب هذا الحديث إلاَّ جودة إسناده.
وقول الإمام أحمد تارة روي من قول أبي الصلت كما في ابن ماجة، وتارة من قول عبد الله بن طاهر بلفظ: " هذا سعوط المجانين إذا سعط به المجنون برأ " كما في " تاريخ بغداد " 5/ 418 - 419.
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 6: قلت: أبو الصلت هذا متفق على ضعفه، واتهمه بعضهم، تابعه محمد بن سهل بن عامر البجلي، ومحمد بن زياد السلمي عن =(4/259)
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: فهذا يكفيك عن التفتيش عن صحة ولاءه، وذكر موالاة بقية أئمة (1) الفقهاء الأربعة إلى آخر ما ذكره - فهذا عارضٌ ثم نعود إلى سيرته.
قال الذهبي: أخبرنا إسحاق بن أبي بكر، أخبرنا ابن خليل، حدثنا اللبان، عن الحداد، أخبرنا أبو نعيم، سمعت ظفر بن أحمد، حدثني الحسين بن علي، حدثني أحمد بن الورَّاق، حدثني عبد الرحمن بن محمد (ح) وأخبرنا ابن الفراء، أخبرنا ابن قدامة، أخبرنا ابن خُضير، أخبرنا ابن يوسف، أخبرنا البرمكي، أخبرنا ابن مردك، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثني أبو بكر محمد بن عباس المكي، سمعت الوركاني جار أحمد بن حنبل، قال: يوم مات أحمد أسلم (2) عشرون ألفاً. وفي رواية ظفر: عشرةُ آلاف من اليهود والنصارى والمجوس.
هذه حكاية منكرة، تفرَّد بنقلها هذا المكي عن هذا الوركاني، ولا يعرف، وماذا بالوركاني المشهور محمد بن جعفر الذي مات قبل أحمد بن حنبل بثلاث عشرة سنة، وهو الذي قال فيه أبو زرعة: كان جاراً لأحمد بن حنبل. ثم العادة والعقل تُحيلُ وقوع مثل هذا. وهو إسلام ألوفٍ من الناس بموت وليٍّ لله (3)، ثم لا ينقُلُ ذلك إلاَّ مجهولٌ لا
__________
= علي بن موسى الرضا.
وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 1/ 255 - 256 من طريق علي بن غراب، ومحمد بن سهل بن عامر البجلي، و9/ 386 من طريق أحمد بن عامر بن سليمان الطائي، ثلاثتهم عن علي بن موسى بن جعفر، به ..
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): أسلم يوم مات أحمد بن حنبل.
(3) في (ب) و (د): الله.(4/260)
يُعرف. فلو وقع ذلك، لاشتهر وتواتر لتوفُّر الهمم والدواعي على نقل مثله، بل لو أسلم لموته (1) مئة نفس، لقُضي من ذلك العَجَبُ. فما ظنُّك (2)؟!.
المنامات:
ذكر الذهبي مناماتٍ صالحةً رُؤيت لأحمد بعد موته في قدر أربعِ ورقات في نصف القطع، ثم قال: ولقد جمع ابن الجوزي فأوعى من المنامات في نحوٍ من ثلاثين ورقة، وأفرد ابن البناء جزءاً في ذلك، وليس أبو عبد الله ممن يحتاجُ تقرير ولايتِه إلى منامات، ولكنها جندٌ من جند الله تسُرُّ المؤمن ولا سيما إذا تواترت.
المحنة (3):
قال عمرو بن حكام، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ونصُّ كلام الذهبي في " تاريخ الإسلام ": وهي حكاية منكرة، لا أعلم رواها أحد إلاَّ هذا الوركاني، ولا عنه إلاَّ محمد بن العباس، تفرَّد بها ابن أبي حاتم، والعقل يحيل أن يقع مثل هذا الحادث في بغداد، ولا ينقله جماعة تنعقد همهم ودواعيهم على نقل ما هو دون ذلك بكثير، وكيف يقع مثل هذا الأمر الكبير ولا يذكره المروذي، ولا صالح بن أحمد، ولا عبد الله بن أحمد، ولا حنبل الذين حكوا من أخبار أبي عبد الله جزئيات كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، فوالله لو أسلم يوم موته عشرة أنفس لكان عظيماً، ولكان ينبغي أن يرويه نحو من عشرة أنفس، ثم انكشف لي كَذِبُ الحكاية بأن أبا زرعة قال: كان الوركاني يعني -محمد بن جعفر- جار أحمد بن حنبل، وكان يرضاه، وقال ابن سعد، وعبد الله بن أحمد، وموسى بن هارون: مات الوركاني في رمضان سنة ثمانٍ وعشرين ومئتين. فظهر لك بهذا أنه مات قبل أحمد بدهر، فكيف يحكي يوم جنازة أحمد رحمه الله.
(3) إنَّ الإمام أحمد صار مثلاً سائراً، يضرب به المثل في المحنة والصبر على الحق، فإنه لم يكن يأخذه في الله لومة لائم، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد، فيقال: قال الإمام أحمد، وهذا مذهب الإمام أحمد ... لقوله تعالى: {وجعلناهم أئمَّة =(4/261)
ابن عباس، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنعنَّ أحدكُم مخافة الناس أن يتكلم بحقِّ علمه ". تفرَّد به عمرو، وليس بحجة (1).
وقال سليمان ابن بنت شُرَحبيل، حدثنا عيسى بن يونس، عن سليمان التيمي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يمنعنَّ أحدَكُم هيبةُ الناس أن يقول بالحقِّ إذا رآه أو سَمِعَهُ " (2). غريب فرد.
__________
= يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون}. فإنه أعطي من الصبر واليقين ما نال به الإمامة في الدين، وقد تداوله ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة ما لا يحصيه إلاَّ الله، فبعضهم تسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد الشديد، وبعضهم يعده بالقتل وبغيره من الرعب، وبعضهم بالترغيب في الرياسة والمال، وبعضهم بالنفي والتشريد من وطنه. وقد خذله في ذلك أهل الأرض حتى أصحابه العلماء والصالحون، وهو مع ذلك لا يجيبهم إلى كلمة واحدة ممَّا طلبوا منه، وما رجع عمَّا جاء به الكتاب والسنة، ولا كتم العلم، ولا استعمل التقية، بل قد أظهر من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآثاره ما دفع به البدع المخالفة لذلك ما لم يتأتَّ مثله لعالم من نظرائه.
(1) نقل المصنف في " الميزان " 3/ 254 قول ابن عدي: عامة ما يرويه عمرو بن حكام غير متابع عليه، إلاَّ أنه مع ضعفه يُكتب حديثه. ومعنى هذا أن ضعفه خفيف، ويصلح حديثه أن يكون شاهداً، وهو هنا كذلك.
(2) رجاله ثقات، وأخرجه أحمد 3/ 5 من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، و53 عن يحيى القطان، كلاهما عن سليمان بن طرخان التيمي، حدثنا أبو نضرة، عن أبي سعيد. وهذا سند صحيح.
وأخرجه أحمد أيضاً 3/ 19 و71، والترمذي (2191)، وابن ماجة (4007) من طريق حماد وأحمد 3/ 61 من طريق معمر، كلاهما عن علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد 3/ 92، والطيالسي (2151) من طريق شعبة عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد 46 - 47، والطيالسي (2158) من طريق المستمر بن الريان عن أبي نضرة - عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد 3/ 50 من طريق جعفر بن سليمان، و3/ 87 من طريق عباد بن عباد، كلاهما عن المعلى بن زياد القردوسي، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري. =(4/262)
وقال حماد بن سلمة، ومُعَلَّى بن زياد -وهذا لفظه-، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة أن رسول الله (1) - صلى الله عليه وسلم -، قال: " أحبُّ الجهاد إلى الله كلمة حقٍّ تقال لإمامٍ جائرٍ " (2).
إسحاق بن موسى الخطمي: حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن، حدثنا يعقوب بن محمد بن عبد القاري، عن أبيه، عن جده، أن عمر كتب إلى معاوية: أما بعد، فالزم الحق، يُنزِلك الحق منازل أهل الحق، يوم لا يُقضى إلاَّ بالحقِّ (3).
وبإسنادٍ واهٍ إلى أبي ذر: أبى الحقُّ أن يترُك لي صديقاً.
الصدع بالحق عظيمٌ يحتاج إلى قوةٍ وإخلاص، فالمخلص بلا قوةٍ يعجِزُ عن القيام به، والقويُّ بلا إخلاص يُخذَل، فمن قام بهما كاملاً، فهو صِدِّيقٌ، ومن ضعُف، فلا أقلَّ من التألم والإنكار بالقلب، ليس وراء ذلك إيمانٌ، ولا قوةٌ إلاَّ بالله.
سفيان الثوري: عن الحسن بن عمرو، عن محمد بن مسلم مولى
__________
= وأخرجه أحمد من طرق أخرى من حديث أبي سعيد 3/ 44 و84 و87. وانظر ص 246 من هذا الجزء.
(1) من قوله: " وقال حماد " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) سنده حسن، وأخرجه أحمد 5/ 251 و256، وابن ماجة (4012).
وفي الباب عن طارق بن شهاب عند أحمد 4/ 314 و315، والنسأني 7/ 161، وإسناده صحيح، وصحَّحه النووي والمنذري.
وعن أبي سعيد الخدري عند الترمذي (2175)، وأبي داو (4344)، وابن ماجة (4011)، وأحمد 3/ 19. وعن سمرة عند البزار (3313)، وإسنادهما ضعيفان، لكن يتقويان بما قبله، فالحديث صحيح. وانظر 2/ 68.
(3) جاء في " كنز العمال " (44383) قول عمر: الزم الحق يلزمك الحق، ونسبه إلى البيهقي.(4/263)
حكيم بن حزام، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا رأيتُم أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم " (1).
هكذا رواه جماعة عن سفيان. ورواه النضر بن إسماعيل، عن الحسن، فقال: عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً. ورواه سيف بن هارون، عن الحسن، فقال: عن أبي الزبير: سمعت عبد الله بن عمرو (2) مرفوعاً.
سفيان الثوري: عن زُبَيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيدٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه
__________
(1) رجاله ثقات إلاَّ أن محمد بن مسلم مولى حكيم بن حزام مدلس وقد عنعنه، ومع ذلك فقد صححه الحاكم 4/ 96، ووافقه الذهبي المؤلف. ونقل المناوي في " الفيض " أن البيهقي تعقب الحاكم بأنه منقطع، حيث قال: محمد بن مسلم هو أبو الزبير المكي، ولم يسمع من ابن عمرو، لكن وقع عنده في السند خطأ، وهو قوله: عن محمد بن مسلم بن السائب، وصوابه: محمد بن مسلم بن تدرس، أبو الزبير مولى حكيم بن حزام، كما جاء في أصلنا هذا، فإن الحديث لا يُعرف إلاَّ به، ويغلب على الظن أن الخطأ فيه من النساخ.
وأخرجه أحمد في " المسند " 2/ 163 من طريق ابن نمير، و2/ 190 من طريق سفيان، والبزار (3303) من طريق عبد الرحمن بن محمد المحاربي، ثلاثتهم عن الحسن بن عمرو، عن محمد بن مسلم، عن عبد الله بن عمرو. وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 262: ورجاله رجال الصحيح.
وأخرجه البزار أيضاً (3302) من طريق عُبيد الله بن عبد الله الربعي، حدثنا الحسن بن عمرو، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو.
وقوله: " فقد تودع منهم " بضمِّ التاء والواو، وكسر الدال المشددة، من التوديع. قال الزمخشري في " الفائق ": أي: استريح منهم، وخذلوا، وخلي بينهم وبين ما يرتكبون من المعاصي، وهو من المجاز، لأن المعتني بإصلاح شأن الرجل إذا يئس من صلاحه، تركه ونفض منه يده، واستراح من معاناة النصب في استصلاحه، ويجوز أن يكون من قولهم: تودعت الشيء، أي: صنته في ميدَع ... أي: فقد صاروا بحيث يتحفظ منهم، كما يتوقى شرار الناس.
(2) تحرفت في (ب) إلى: عمر.(4/264)
أن يرى أمراً لله فيه مقالٌ، فلا يقول فيه، فيقال له: ما منعك؟ فيقول: مخافة الناس، فيقول: فإيَّايَ كنت أحقَّ أن تخاف" (1).
رواه الفريابي، وأبو نُعيم، وخلاَّد عنه.
حماد بن زيد: عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمَّة المُضِلُّون، وإذا وُضِعَ السيف عليهم، لم يُرفع عنهم إلى يوم القيامة، ولا تزال طائفةٌ من أمتى على الحق ظاهرين، لا يضُرُّهُم من خالفهم أو خَذَلَهم حتى يأتي أمر الله " (2).
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 47 و73 من طريق وكيع، وعبد الرزاق، وأبو نعيم في " الحلية " 4/ 384 من طريق الفريابي، ثلاثتهم عن سفيان بهذا الإسناد.
وأخرجه أحمد 3/ 91، والطيالسي (2206) من طريق شعبة، عن عروة بن مرة، به.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 4/ 384 من طريق الطيالسي بهذا الإسناد إلاَّ أنه قال: عن أبي البختري، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 4/ 384 من طريق يزيد بن سنان عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن مشفعة، عن أبي سعيد.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 4/ 384 من طريق زهير بن معاوية عن عمرو بن قيس عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن أبي سعيد.
وأخرجه أحمد 3/ 30، وابن ماجة (4008) من طريق عبد الله بن نمير، وابن ماجة (4008)، وأبو نعيم في " الحلية " 4/ 384 من طريق أبي معاوية، كلاهما عن الأعمش، عن عمرو بن مرة به.
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 250: هذا الإسناد صحيح، وأبو البختري اسمه سعيد بن فيروز ... ورواه البيهقي في " السنن الكبرى " 10/ 90 من طريق محمد بن عبيد عن الأعمش فذكر بإسناده ومتنه، وقال: تابعه زبيد وشعبة، عن عمرو بن مرة. ورواه عبد بن حميد في " مسنده ": حدثنا محمد بن عبيد فذكره. وانظر حديث " لا يمنعنَّ أحدكم مخافة الناس ... " في الصفحة السابقة.
(2) إسناده صحيح، وأخرجه أحمد 5/ 278 و283، 284، وأبو داود (4252)، وابن ماجة (3952) من طريق أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله زوى لي الأرض " أو قال: " إن ربي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها =(4/265)
الحُسين بن موسى: حدثنا الحسين بن الفضل البَجَلي، حدثنا عبد العزيز بن يحيى المكي، حدثنا سليم بن مسلم (1)، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لله عند إحداث كلِّ بدعة تَكيدُ الإسلام وليٌّ يذُبُّ (2) عن دينه " الحديث.
هدا موضوعٌ، ما رواه ابن جريج.
كان الناس أمةً واحدة، ودينهم قائماً في خلافة أبي بكر وعمر، فلما استشهد قُفْلُ باب الفتنة عمرُ رضي الله عنه، وانكسرَ الباب، قام رؤوس الشر على الشهيد عثمان حتى ذُبحَ صبراً، وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل، ثم وقعة صفين. فظهرت الخوارج، وكفَّرت سادة الصحابة، ثم ظهرت الروافض والنواصب.
وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية، ثم ظهرت المعتزلة بالبصرة، والجهمية والمجسمة بخراسان في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها إلى بعد المئتين، فظهر (3) المأمون الخليفة -وكان
__________
= ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها. وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض. وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، ولا يسلّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها، أو قال: بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً، وإنما أخاف على أمتي الأئمَّة المضلّين. وإذا وضع السيف في أمتي، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان. وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ". قال ابن عيسى: " ظاهرين " ثم اتفقا: " لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ". وانظر 1/ 184.
(1) قال ابن معين: جهمي خبيث، وقال النسائي: متروك الحديث. وقال أحمد: لا يساوي حديثه شيئاً. ذكر ذلك المؤلف في " ميزانه ".
(2) في (ب): يذب به الله.
(3) في (ب): وظهر.(4/266)
ذكيّاً متكلماً، له نظرٌ في المعقول- فاستجلب كُتُب الأوائل، وعرَّب (1) حكمة اليونان، وقام في ذلك وقعد، وخبَّ ووضع، ورفعت الجهمية والمعتزلة رؤوسها. وآل به الحال إلى حَمْلِ الأمة على القول بخلقِ القرآن، وامتحن العلماء، فلم يُمهَلُ، وهلك لعامه، وخلَّى بعده شرّاً وبلاءً في الدين. فإن الأمة ما زالت على أنَّ القرآن العظيم كلام الله تعالى ووحيه وتنزيله (2)، لا يعرفون غير ذلك، حتى نَبَغَ لهم القول بأنه كلام الله مخلوقٌ، وأنه إنما يُضافُ إلى الله تعالى إضافه تشريفٍ، كبيت الله، وناقة الله. فأنكر ذلك العلماء -إلى قوله-:
قال صالح بن أحمد: سمعت أبي، يقول: لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم للمحنة، قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طَرَسُوس، يعني: المأمون، فكان فيما قُرِىءَ علينا: {ليس كمثله شيء} [الشورى: 11] و {هو خالقُ ُكلِّ شيء} [الأنعام: 102] فقلت: {وهو السميعُ البصير} قال صالح: ثم امتحن القوم، ووَجَّهَ بمن امتنع إلى الحبس، فأجاب القوم غير أربعة: أبي، ومحمد بن نوح، والقواريري، والحسن بن حماد سجَّادة. ثم أجاب هذان، وبقي أبي ومحمدٌ في الحبس أياماً، ثم جاء كتابٌ من طرسوس بحملهما مُقَيَّدَيْنِ زميلينِ.
الطبراني: حدثنا عبد الله بن أحمد، حدثني أبو معمر القطيعي، قال: لما أُحضِرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحضِرَ، فلما رأي الناس يُجِيبونَ، وكان رجلاً ليِّناً، فانتفخت أوداجه،
__________
(1) تصحفت في (ب) إلى: وعزت.
(2) في (ب): وتنزيله ووحيه.(4/267)
واحمَّرت عيناه، وذهب ذلك اللين. فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشِرْ.
حدثنا ابن فضيل، عن الوليد بن عبد الله بن جُمَيْعٍ، عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من إذا أريد على أمرِ دينه، رأيت حمالِيقَ عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون.
أخبرنا عُمَرُ بن القوَّاس، عن الكندي، أخبرنا الكَرُوجي، أخبرنا شيخ الإسلام، أخبرنا أبو يعقوب، حدثنا الحسين بن محمد الخَفَّاف: سمعت ابن أبي أُسامة، يقول: حُكي لنا أن أحمد قيل له أيام المحنة: يا أبا عبد الله، أولا ترى الحقَّ كيف ظهر عليه الباطل؟ قال: كلاَّ، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهُدَى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمةٌ للحق.
قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي: حدثنا الفضل بن زياد، سمعت أحمد بن حنبل يقول: أول يوم امتحنه [إسحاق] (1) لما خرج من عنده، فقعد في مسجده، فقال له جماعةٌ: أخبرنا بمن أجاب.
فكأنَّه ثَقُلَ عليه، فكلَّموه أيضاً، قال: فلم يُجِب أحدٌ من أصحابنا، ولله الحمد. ثمَّ ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ممَّا (2) أرادوا. فقالوا: هو مجعولٌ محدث، وامتحنهم مرةً مرة، وامتحنني مرتين مرتين. قال لي: ما تقول في القرآن؟ قلتُ: كلام الله غير مخلوق، فأقامني وأجلسني في ناحية، ثم سألهم، ثم ردَّني ثانيةً، فسألني وأخذ بي (3) في
__________
(1) ساقطة من الأصول، والمثبت من " السير ".
(2) في " السير ": ما.
(3) في " السير ": أخذني.(4/268)
التشبيه. فقلت: {ليس كمثله شيءٌ وهو السميعُ البصيرُ} [الشورى: 11] فقال لي: وما السميع البصير؟ فقلت: هكذا قال الله تعالى.
قال محمد بن إبراهيم البُوشَنجي: جعلوا يُذاكِرون أبا عبد الله بالرقة في التَّقِيَّةِ وما رُوِيَ فيها. فقال: كيف تصنعون بحديث خبَّاب: " إنَّ من كان قبلَكُم كان يُنشَرُ أحدهم بالمنشار، لا يصُدُّه ذلك عن دينه " (1) فأيسنا منه. وقال: لست أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلاَّ واحدٌ، ولا قتلاً بالسيف، إنما أخافُ فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس، فقال: لا عليك يا أبا عبد الله فما هو إلاَّ سوطان، ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سُرِّيَ عنه.
قال: وحدثني من أثِقُ به، عن محمد بن إبراهيم بن مصعب، وهو يومئذٍ صاحب شرطة المعتصم قال: ما رأيت أحداً لم يُدَاخِلِ السلطان، ولا خالط الملوك، كان أثبت قلباً من أحمد يومئذٍ، ما نحن في عينه إلا كالذباب.
قال صالح بن أحمد: حُمِلَ أبي ومحمد بن نوح من بغداد مقيدين، فصرنا معهما إلى الأنبار. فسُئِلَ أبي: إن عُرِضْتَ على السيف، تُجِيبُ؟
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 109 و110 و111 و6/ 395، والبخاري (3612) و (3852) و (6943) وأبو داود (2649) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألاَّ تدعو لنا؟ فقال: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاَّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ".(4/269)
قال: لا. ثم سُيِّرا، فسمعتُ أبي يقول: صِرنا إلى الرَّحبة (1)، ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ قيل له: هذا، فقال للجمال: على رِسْلِك، ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تقتل ها هنا، وتدخل الجنة ثم قال: أستودعك الله، ومضى، فسألت عنه، فقيل: رجلٌ من العرب من ربيعة يذكر بخيرٍ.
أحمد بن أبي الحواري: حدثنا إبراهيم بن عبد الله، قال أحمد: ما سمعت كلمةً منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمةِ أعرابيٍّ كلَّمني بها في رحبة طوقٍ، قال: يا أحمد، إن يقتلكَ الحقُّ، مُِتَّ شهيداً، وإن عِشْتَ، عِشْتَ حميداً. فقَوِيَ قلبي.
قال صالح: قال أبي: فلمَّا صِرْنا إلى أَذَنَة (2)، ورَحَلْنا منها في جوف الليل، وفُتِحَ لنا بابها، إذا رجلٌ قد دَخَلَ. فقال: البُشرى! قد مات الرجل يعني: المأمون. قال أبي: وكنت أدعو الله أن لا أراه.
قال صالح: ومات محمد بن نوح، وصلَّى أبي عليه، وصار أبي إلى بغداد مقيداً.
قال صالح: قال أبي: يُوجَّهُ إليَّ كُلَّ يوم برجلين يناظراني، ثم يُدعى بقيدٍ، فيُزادُ في قيودي، فصار في رجلي أربعة أقياد، فلمَّا كان في الليلة الرابعة، وجَّه -يعني: المعتصم- ببِغُا الكبير إلى إسحاق، فأمره بحملي إليه، وأُدخلت على (3) إسحاق، وقال لي: يا أحمد إنها
__________
(1) وهي رَحْبَة مالك بن طوْق، تقع بين الرقة وبغداد على شاطىء الفرات، تبعد عن بغداد مئة فرسخ، وعن الرقة نيفاً وعشرين فرسخاً.
(2) بفتحات، وهي بلد مشهور من الثغور، قرب المِصِّيصَة.
(3) في (ب): إلى.(4/270)
والله نفسُك، إنَّه لا يقتلُك بالسيف، إنه قد آلى، إن لم تجبه، أن يضربك ضرباً بعد ضربِ، وأن يقتُلك في موضع لا يُرى فيه شمسٌ ولا قمر. أليس قد قال الله تعالى: {إنَّا جعلناه قُرآناً عربياً} [الزخرف: 3] أفيكون مجعولاً إلاَّ مخلوقاً؟ فقلت: فقد (1) قال الله تعالى: {فجعلهم كعصفٍ مأكُولٍ} [الفيل: 5] أفخلَقَهم؟ فسكت فلمَّا صِرْنا إلى الموضع المعروف بباب البستان، أخرجت وَجِيءَ بدابةٍ، فأركبت وعليَّ الأقياد، ما معي من يُمسِكُني، فكدت غير مرة أخِرُّ على وجهي لثقل القيود. فجيء بي إلى دار المعتصم، فأدخلت حجرة، ثم أُدخلت بيتاً، وأقفل الباب علي في جوف الليل ولا سراج، فأردت الوُضوء، فمددت يدي، فإذا أنا بإناءٍ فيه ماءٌ، وطستٌ موضوع فتوضَّأتُ وصلَّيتُ.
فلمَّا كان من الغد، أخرجت تِكَّتي، وشددت بها الأقياد أحملها وعطفت سراويلي. فجاء رسول المعتصم، فقال: أجب فأخذ بيدي، وأدخلني عليه، وإذا (2) هو جالس، وأحمد بن أبي دُوَاد حاضرٌ، وقد جَمَعَ خلقاً كثيراً من أصحابه، فقال لي المعتصم: ادنُهْ ادنُهْ، فلم يزل يُدنيني حتى قرُبتُ منه، ثم قلت: أتأذن في الكلام؟ قال: تكلَّم، قلت: إلى ما دعا الله ورسوله؟ فسكت هُنيهةً، ثم قال: إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله، قلت: فأنا أشهد أن لا إله إلاَّ الله، ثم قلت: إن جدك ابن عباس يقول: لما قَدِمَ وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، سألوه عن الإيمان، فقال: " أتدرون ما الإيمان؟ " قالوا: الله
__________
(1) في (ب): قد.
(2) في (ب): فإذا.(4/271)
ورسوله أعلم، قال: " شهادة أن لا إله إلاَّ الله، وأنَّ محمداً رسول الله (1) وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تُعطوا الخمس من المَغنم " (2) فقال المعتصم: لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ما عرضتُ لك.
ثم قال لهم: ناظِرُوه، كلموه، يا عبد الرحمن بن إسحاق كلِّمه.
فقال: ما تقول في القرآن؟ فقلت: ما تقول أنت في علم الله؟ فسكت، فقال لي بعضهم: أليس قال الله: {الله خالقُ كُلِّ شيءٍ}؟ [الرعد: 16] والقرآن أليس شيئاً، فقلت: قال الله: {تُدَمِّرُ كُلِّ شَيءٍ} [الأحقاف: 25] فدمَّرَت إلاَّ ما أراد الله؟! فقال بعضُهم: {ما يأتيهم مِنْ ذكرٍ من ربِّهم مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] أفيكون محدثٌ إلا مخلوقاً؟ فقلت: قال الله: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] فالذِّكر هو القرآن، وتلك ليس فيها ألف ولام. وذكر بعضهم حديث عِمران بن حصين: " إن الله كتب الذكر " (3) واحتجوا بحديث ابن
__________
(1) لفظ الجلالة ساقط من (أ).
(2) أخرجه أحمد 1/ 228، والبخاري (53) و (87) و (523) و (1398) و (3510) و (6176) و (7266)، ومسلم (17)، وأبو داود (3692)، والترمذي (2611)، والنسائي 8/ 120.
(3) أخرجه أحمد 4/ 431 - 432، والبخاري (3191) و (7418)، ولفظ البخاري: عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعقلت ناقتي بالباب، فإذا ناس من بني تميم، فقال: " اقبلوا البشرى يا بني تميم "، قالوا: قد بشرتنا، فأعطينا مرتين، ثم دخل عليه ناس من اليمن، فقال: " اقبلوا البشرى يا أهل اليمن، إذ لم يقبلها بنو تميم "، قالوا: قبلنا، جئناك لنتفقّه في الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال: كان الله ولم يكن شيءٌ غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض ". وعند أحمد فيه: " وكتب في اللوح ذكر كل شيء ".
وفي الباب من حديث بريدة الأسلمي أخرجه الحاكم 2/ 341، ولفظه فيه: " وكتب في الذكر كل شيء ".(4/272)
مسعود: " ما خلق الله من جنةٍ ولا نارٍ ولا سماءٍ ولا أرضٍ أعظم من آية الكرسي " (1). فقلت: إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض، ولم يَقَعْ على القرآن. فقال بعضهم: حديث خباب: " يا هَنَتاه تَقَرَّب إلى الله بما استطعت، فإنَّك لن تقرَّبَ إليه بشيءٍ أحبَّ إليه من كلامه " (2) فقلت: هكذا هو.
وكان يتكلم هذا فأرُدُّ عليه، وهذا فأرد عليه، فإذا انقطعوا يقولُ المعتصم: ويحك يا أحمد، ما تقول؟ فأقول: يا أمير المؤمنين أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به.
قال حنبل: قال أبو عبد الله: لقد احتجوا عليَّ بشىء ما يقوى قلبي، ولا ينطلق لساني أن أحكيه، أنكروا الآثار، وما ظننتُهم على هذا حتى سمعته، وجعلوا يُرْغُون، يقول الخصم: كذا وكذا، فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله: {يا أَبَتِ لِمَ تعبُدُ ما لا يسمَعُ ولا يُبْصِرُ} [مريم: 42] فهذا منكرٌ عندكم؟ قالوا: شبَّه يا أميرَ المؤمنين، شبَّه.
__________
(1) ذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 323 ونسبه إلى أبي عبيد، وابن الضريس، ومحمد بن نصر، بلفظ: " ما خلق الله من سماء ولا أرض، ولا جنة، ولا نار أعظم من آية في سورة البقرة: {الله لا إله إلاَّ هو الحيُّ القيوم} ". وأخرجه سعيد بن منصور، وابن الضريس، والبيهقي في " الأسماء والصفات " عن ابن مسعود قال: " ما من سماء ولا أرض ولا سهل ولا جبل أعظم من آية الكرسي ".
(2) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 77، والحاكم في " المستدرك " 2/ 441، وأحمد في " السنة " ص 26 والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 241 من طريق منصور بن المعتمر (وقد تحرف في " السنة " إلى: منصور عن المعتمر) عن هلال بن يساف، عن فروة (وقد تحرفت في " الشريعة " إلى: قرة) بن نوفل الأشجعي. ولفظ الحاكم: " قال: كنت جاراً لخباب بن الآرت، فخرجنا مرة من المسجد فأخذ بيدي فقال: يا هناه تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تقرب إليه بشيء أحبُّ إليه من كلامه ". وقال الحاكم والببهقي: إسناده صحيح، ووافق الحاكم الذهبيُّ.(4/273)
قال صالح، عن أبيه: فإذا جاء شيءٌ من الكلام ممَّا ليس في الكتاب والسنَّة، قلت: ما أدري ما هذا. فيقولون: يا أمير المؤمنين إذا توجهت (1) الحُجَّةُ علينا، ثبت، وإذا كلَّمناهُ بشيءٍ، يقول: لا أدري ما هذا. فقال: ناظروه، فقال رجلٌ: أراك تذكر الحديث وتنتحِلُه، فقال: ما تقول في قوله: {يُوصيكُم الله في أولادِكم للذكَرِ مثلُ حظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]؟ قال: خصَّ الله بها المؤمنين، قلت: ما تقول: إن كان قاتلاً أو عبداً؟ فسكت، وإنما احتججتُ عليه بهذا، لأنهم كانوا (2) يحتجون بظاهرِ القرآن. فحيثُ قال لي: أراك تنتحل الحديث، احتججت بالقرآن، يعني: وإنَّ السنة خصَّصتِ القاتل والعبد، فأخرجتهما من العموم - إلى قوله:
فلمَّا كانت الليلة الثالثة، قلت: خليقٌ أن يحدث غداً من أمري شيءٌ، فقلت للموكِّل بي: أريد خيطاً، فشددت به الأقياد، ورددتُ التِّكَّة إلى سراويلي مخافة أن يحدُثَ من أمري شيء، فأتَعَرَّى. فلما كان من الغد، أُدخلت إلى الدار، فإذا هي غاصَّةٌ، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع، وقومٌ معهم السيوف، وقومٌ معهم السِّياط، وغير ذلك، ولم يكن في اليومين الأولين كبير أحد (3) من هؤلاء. فلما انتهيت إليه، قال: اقعُد. ثم قال: ناظِرُوه، فلما طال المجلس، نحاني، ثم خلا بهم، ثم نحاهم، وردَّني إلى عنده، وقال: ويحك يا أحمد! أجبني حتى أُطلِقَ عنك بيدي، فرددتُ عليه نحو ردِّي. فقال: عليك، وذكر اللعن، خذوه
__________
(1) في " تاريخ الإسلام ": إذا توجهت له.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (د): " كثير أحد "، وتصحفت في (ب): " كثيراً حد ".(4/274)
اسحبوه (1) خلِّعوه. فسحبت (2) وخُلِّعت. وجلس على كرسيٍّ، ثم قال: العُقَابين (3) والسياط، فجيء بالعُقابين، فمُدَّت يداي، فقال بعض من حضر خلفي: خُذ ناتىء الخشبتين بيديك، وشُدَّ عليهما. فلم أفهم ما قال: فتخلَّعت يداي.
قال صالح: قال أبي فلما جيء بالسياط، نظر إليها المعتصم، فقال: ائتوني بغيرها. ثم قال للجلادين: تقدَّموا، فجعل يتقدم إليَّ الرجل منهم، فيضربني سوطين، فيقول له: شُدَّ، قطع الله يدك! ثم يتنحَّى ويتقدم آخر، فيضرِبُني سوطين، وهو يقول في كل ذلك: شُدَّ، قطع الله يدَك! فلما ضُربتُ تسعة (4) عشر سوطاً، قام إليَّ، يعني: المعتصم، فقال: يا أحمد، علام تقتُلُ نفسك؟ إنِّي والله عليك لشفيقٌ، وجعل عُجَيْف ينخسُني بقائمة سيفه، وقال: أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم؟ وقال بعضهم (5): يا أمير المؤمنين دمُه في عُنقي، فقال: ويحكَ يا أحمد، ما تقول؟ فقلت: أعطوني شيئاً من كتاب الله أو سنة رسول الله أقولُ به. فرجع وجلسَ. وقال للجلاد: تقدم، وأوجع، قَطَعَ الله يدك، ثم قام الثانية، وجعل يقول: ويحك يا أحمد: أجبني إلى شيءٍ فيه (6) أدنى فرجٍ حتى أُطلِقَ عنك بيديَّ، ثم رَجَعَ، وقال للجلاد: تقدَّم، فجعل يضرِبُني وذهب عقلي، ثم أفقتُ بعد، فإذا الأقياد قد
__________
(1) في (د): اسجنوه.
(2) في (د): فسجنت.
(3) وهما خشبتان يُشْبَحُ الرجلُ بينهما للجلد.
(4) في " السير ": " سبعة ". وما هنا موافق لما في " تاريخ الإسلام ".
(5) ساقطة من (ب).
(6) في " تاريخ الإسلام ": لك فيه.(4/275)
أُطلقتْ عني. فقال رجلٌ ممَّن حضر: كببناك على وجهك، وطرحنا على ظهرك بارِيَّة (1) ودُسْنَاكَ! فما شعرت بذلك، وآتوني بسويقٍ، فقالوا: اشرب وتقيَّأ، فقلت: لا أُفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق، فحضرت الظهر، فتقدم ابن سماعه، فصلى! [فلما انفتل من صلاته] (2) وقال لي (3): صليتَ والدم يسيل في ثوبك؟ قلتُ: قد صلَّى عمر وجرحه يثعبُ دماً (4).
قال صالح: ثم خُلِّي عنه، وصار إلى منزله، وكان لبثه منذ أُخِذَ إلى أن ضُرِبَ، وخُلِّيَ عنه، ثمانية وعشرون شهراً.
قال حنبل: سمعته يقول: ذهب عقلي مراراً، فكان إذا رُفِعَ عني الضرب رجعت إليّ نفسي، وإذا استرخيت وسقطت، رُفِعَ الضرب، أصابني ذلك مراراً.
الحسن بن محمد بن عثمان الفسوي، حدثنا داود بن عرفة، حدثنا ميمون بن أصبُغ، قال: نزل السراويل إلى عانة أحمد عند الضرب، وانقطعت تِكَّتُه، وكانت حاشية ثوبٍ، فرمى بطرفه إلى السماء وحرك شفتيه، فما كان بأسرع من أن بَقِيَ السراويل لم ينزل، فدخلت عليه بعد أيام، فسألته ما قال: فذكر دعاءً.
__________
(1) بكسر الراء، وفتح الياء المشددة: الحصير المنسوج، وهي فارسية الأصل.
(2) ما بين المعقوفين من " السير ".
(3) " لي " ساقطة من (ب).
(4) أخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 39 باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه أن المِسْوَر بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى عمر وجرحه يثعبُ دماً، أي يجري ويتفجر منه الدم.(4/276)
قال الذهبي: هذه حكايةٌ منكرةٌ، أخاف أن يكون داود وضعها.
وذكر الذهبي، عن جعفر بن فارسٍ الأصبهاني، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أحمد بن الفرج نحوها. ثم قال: فهذه الحكايةُ لا تَصِحُّ، ولقد ساق صاحب " الحلية " (1) من الخرافات السَّمجة هنا ما يُستحيا عن (2) ذكره.
فمن ذلك، ذكر بإسناده أن أحمد لما حرك شفتيه حين سقط سراويله، رأيت (3) يدين خرجتا من تحته، فشدَّتا السراويل، فلما فرغوا من الضرب، سألناه. فقال: قلتُ: يا مَنْ لا يُعلمُ العرش من أين هو، إن كنت على الحقِّ فلا تُبدِ عَورتي.
أوردها البيهقي في " مناقب أحمد "، وما جَسَرَ على توهيتها (4)، بل روى عن أبي مسعود البَجَلِي، عن ابن جَهْضَم ذاك الكذاب، عن أبي بكر النَّجَّاد، عن ابن أبي العوام نحواً منها، وفيه فرأيت كفّاً من ذهب خرج من تحت مئزره بقدرة الله، فصاحت العامة.
وعن صالح، عن أبيه: مررت بهذه الآية: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] فجعلتُ الميت في حِلٍّ، ثم قال: وما على رجلٍ أن لا يعذِّب الله بسببه أحداً.
هذه نبذةٌ مختصرةٌ مما ذكره الذهبيُّ - إلى قوله: العجب من أبي
__________
(1) 9/ 206.
(2) في (د): من ذكره.
(3) القائل هو علي بن محمد القرشي.
(4) في (ب): توهينها.(4/277)
القاسم عليِّ بن الحسن الحافظ (1) كيف ذكر ترجمة أحمد مُطوَّلةً كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمةً، مع صحة أسانيدها (2)، فإنَّ حنبلاً ألَّفها في جُزأين، وكذلك صالح بن أحمد وجماعة، ثم رجع إلى ذكر حال أحمد في أيام المتوكل.
واعلم أن من وَقَفَ على تشدُّد أحمد في أمرِ المحنة ممن لم يعرف ما المقصود بقولهم: إن القرآن مخلوقٌ، أو غير مخلوق يطلع إلى معرفة حقيقة ذلك وغائلته التي حملت الفريقين على هذا الأمر العظيم، وقد رأيت أن أختم ترجمة أحمد بذكر كلام الفرق في هذه المسألة من غير تطويل بذكر الحُجَج، وسيأتي ذلك بعد ذكر كتاب أحمد إلى المتوكل، المشتمل على ذكر جملةٍ صالحةٍ من الآيات والآثار في ذلك، وهذا موضعه، ولكن بَقِيَت بقيةٌ من مناقب الإمام أحمد تليق بهذا الموضع (3):
قال ابن أبي حاتم: قال سعيد بن عمرو: يا أبا زُرعة، أأنت أحفظ أم أحمد؟ قال: بل أحمد، قلت: كيف علمت؟ قال: وجدت كتبه ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه، فكان يحفظ كل جزءٍ ممن سمعه، وأنا لا أقدر على هذا.
وعن أبي زرعة، قال: حُزِرَتْ كتب أحمد يوم مات فبلغت اثنيّ عشر حِمْلاً، وعِدْلاً (4)، ما كان على ظهرِ كتابٍ منها: حديث فلان، ولا
__________
(1) يريد: الحافظ ابن عساكر مؤلف " تاريخ دمشق ".
(2) وتمامه فوي " تاريخ الإسلام ": ولعلَّ له نيةً في تركها.
(3) 11/ 187 من " السير ".
(4) في الأصول: " عِدْل " وهو خطأ، والعِدْل: نِصفُ الحِمْل يكون على أحد جنبي البعير.(4/278)
في بطنه (1): حدثنا فلان، كل ذلك كان يحفطه.
وقال حسن بن مُنَبِّه: سمعت أبا زرعة، يقول: أخرج إليَّ أبو عبد الله أجزاءً كلها سفيان سفيان، ليس على حديثٍ منها: حدثنا فلان، فظننتها عن رجلٍ واحد فامتحنت (2) منها، فلما قرأ ذلك عليَّ جعل يقول: حدثنا وكيع ويحيى، وحدثنا فلان، فعَجِبْتُ، ولم أقدِر أنا على هذا.
قال إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله، كأنَّ الله جمع له علم الأوَّلين والآخرين.
وعن رجلٍ، قال: ما رأيتُ أحداً أعلَمَ بفقه الحديث ومعانيه من أحمد.
أحمد بن سلمة: سمعتُ ابن راهويه، يقول: كنتُ أُجَالِسُ أحمد وابن معين، ونتذاكر، فأقول: ما فقهُهُ؟ ما تفسيره؟ فيسكتون إلاَّ أحمد.
قال أبو بكر الخلاَّل: كان أحمدُ قد كتب كتب الرأي، وحفظها، ثم لم يلتفت إليها.
قال إبراهيم بن شمَّاس: سألنا وكيعاً عن خارجة بن مصعب، فقال: نهاني أحمدُ أن أحدِّث عنه.
قال العباس بن محمد الخلاَّل: حدثنا إبراهيمُ بن شمَّاس، سمعت وكيعاً وحفص بن غياث يقولان: ما قدِمَ الكوفة مثل ذاك الفتى، يعنيان: أحمد بن حنبل.
__________
(1) في (د): بطنها.
(2) في " السير " فانتخبت منها.(4/279)
وقيل: إنَّ أحمد أتى حسيناً (1) الجُعفي بكتابٍ كبير يشفع في أحمد، فقال: حسين: يا أبا عبد الله لا تجعل بيني وبينك مُنعِماً فليس تحمَّلُ عليَّ بأحدٍ إلاَّ وأنت أكبر منه.
الخلال: حدثنا (2) المروذي، حدثنا (3) خَضِرٌ المروذي بطرسوس سمعت ابن راهويه، سمعت يحيى بن آدم، يقول: أحمد بن حنبل إمامنا.
الخلال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا الأثرم، حدثني (4) بعض من كان يسمع مع أبي عبد الله أنهم كانوا يجتمعون عند يحيى بن آدم، فيتشاغلون عن الحديث بمناظرة أحمد يحيى بن آدم، ويرتفع الصوت بينهما، وكان يحيى بن آدم، واحد أهل زمانه في الفقه.
الخلال: حدثنا المروذي، سمعت محمد بن يحيى القطان، يفول: رأيت أبي مكرِّماً لأحمد بن حنبل، لقد بذل له كتبه، أو قال: حديثه.
وقال القواريري، قال يحيى القطان: ما قدم علينا مثل هذين أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. وما قدم عليَّ من بغداد أحبُّ إليَّ من أحمد بن حنبل.
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: شقَّ على يحيى بن سعيد يوم خرجت من البصرة.
__________
(1) تحرف في (ج) إلى: حسينياً.
(2) في (د): حدثني.
(3) في (د): أخبرنا.
(4) ساقطة من (د).(4/280)
عمرو بن العباس: سَمِعتُ عبد الرحمن بن مهدي، ذكر أصحاب الحديث، فقال: أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل. قال: فأقبل أحمد، فقال ابن مهدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري، فلينظُر إلى هذا.
قال المرُّوذي: قال أحمد: عُنيتُ بحديث سفيان حتى كتبته عن رجلين، حتى كلَّمنا يحيى بن آدم، فكلم لنا (1) الأشجعيَّ، فكانت تخرج (2) إلينا الكتب، فنكتب من غير أن نسمع.
وعن ابن مهدي، قال: ما نظرتُ إلى أحمد إلاَّ ذكرت به سفيان.
قال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: خالف وكيعٌ ابن مهدي في نحوٍ من ستين حديثاً من حديث سفيان، فذكرت ذلك لابن مهدي، وكان يحكيه عني.
عباس الدوري: سمعت أبا عاصم يقول لرجلٍ بغدادي: من تعُدُّون عندكم اليومَ من أصحاب الحديث؟ قال: عندنا أحمدُ بن حنبل، وابن معين، وأبو خيثمة، والمُعَيْطِي، والسُّويدي، حتى عدَّ له جماعة بالكوفة أيضاً وبالبصرة، فقال أبو عاصم: قد رأيت جميع من ذكرت، وجاؤوا إليَّ، لم آر مثل ذاك الفتن، يعني: أحمد بن حنبل.
قال شجاع بن مخلد: سمعت أبا الوليد الطيالسي يقول: ما بالمِصْرَيْنِ (3) رجلٌ أكرم عليَّ من أحمد بن حنبل.
__________
(1) تحرفت في (د) إلى: فكلمنا.
(2) في (ج) و" السير ": فكان يخرج.
(3) أي: البصرة والكوفة. وفي (ب): بالمصر.(4/281)
وعن سليمان بن حربٍ، أنه قال لرجلٍ: سَلْ أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا، فإنه عندنا إمامٌ.
الخلال: حدثنا عليُّ بن سهل (1)، قال: رأيت يحيى بن معين عند عفان ومعه أحمد بن حنبل، فقال: ليس هنا اليوم حديثٌ. فقال يحيى: تردُّ أحمد بن حنبل، وقد جاءك؟ فقال (2): الباب مُقفلٌ، والجارية ليست هنا. قال يحيى: أنا أفتح، فتكلم على القُفلِ (3) بشيءٍ، ففتحه. فقال عفان: وفشَّاش (4) أيضاً! وحدثهم.
قال: وحدثنا (5) المروذي: قلت لأحمد: أكان أُغمي عليك أو غُشِيَ عليك (6) عند ابن عُيينة؟ قال: نعم في دهليزه (7) زحمني الناس فأُغمي عليَّ.
وروي أن سفيان، قال يومئذٍ: كيف أُحَدِّثُ وقد مات خير الناس.
وقال مُهَنَّا بن يحيى: قد رأيت ابن عيينة، ووكيعاً، وبقية، وعبد الرزاق، وضمرة، والناس، ما رأيت رجلاً أجمع من أحمد في علمه، وزهده، وورعه، وذكر أشياء.
وقال نوحُ بن حبيب القُومَسي: سلَّمتُ على أحمد بن حنبل في سنة
__________
(1) في (ب): سهيل.
(2) من قوله: " ليس هنا " إلى هنا ساقط من (د).
(3) في (ب): على الباب القفل.
(4) في " السير ": " أفشَّاشٌ ". يقال: فشَّ القُفل فشاً، أي: فتحه بغير مفتاح.
(5) في (د): وأخبرنا.
(6) " أو غُشي عليك " ساقط من (ب).
(7) " في دهليزه " ساقط من (د).(4/282)
ثمانٍ وتسعين ومئةٍ بمسجدِ الخَيْفِ، وهو يُفتي فُتيا واسعة.
وعن شيخٍ أنه كان عنده كتابٌ بخطِّ أحمد بن حنبل، فقال: كنا عند (1) ابن عيينة سنة ففقدت (2) أحمد بن حنبل أياماً، فدُلِلتُ على موضعه، فجئت، فإذا هو في شبيهٍ بكهفٍ في جياد (3). فقلت: سلام عليكم، أدخلُ؟ فقال: لا، ثم قال: ادْخُلْ، فدخلت، وإذا عليه قطعة لبدٍ خلقٍ، فقلت: لِمَ حجبتني؟ فقال: حتى استترتُ فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت (4) ثيابي، فبادرت إلى منزلي فجئته بمئة درهم فعرضتها عليه، فامتنع، فقلت: قرضاً، فأبى، حتى بلغتُ عشرين درهماً، ويأبى. فقمت، وقلت: ما يحِلُّ لك أن تقتل نفسك. قال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عُيينة؟ قلت: بلى. قال: تحبُّ أن أنسخه لك؟ قلت: نعم. قال: اشتر لي وَرَقاً. قال: فكتب بدراهم اكتسى منها ثوبين.
الحاكم: سمعتُ بكران بن أحمد الحنظلي الزاهد ببغداد، سمعت عبد الله بن أحمد، سمعتُ أبي يقول: قَدِمْتُ صنعاء (5) أنا ويحيى بن معين، فمضيت إلى عبد الرزاق إلى قريته، وتخلَّف يحيى، فلما ذهبت أدُقُّ الباب، قال لي بقَّالٌ تُِجاه داره: مَهْ، لا تدُقَّ، فإنَّ الشيخ يُهاب.
فجلستُ حتى إذا كان قبل المغرب، خرج فوثبت إليه، وفي يدي أحاديث
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: عن.
(2) الأصول: " فقدت "، والمثبت من " السير ".
(3) موضع بمكة يلي الصفا، وقد ضبطه الذهبي بالكسر، وضبطه ياقوت بالفتح، ويسمَّى هذا الموضع أيضاً أجياداً، بفتح أوله وسكون ثانيه، وهما أجيادان: كبير وصغير.
(4) تحرفت في (د) إلى: شرقت.
(5) في (ب): إلى صنعاء.(4/283)
انتقيتُها، فسلمت، وقلت: حدثني بهذه يرحمك الله، فإني رجلٌ غريب. قال: ومن أنت؟ وَزَبَرني. قلت: أنا (1) أحمد بن حنبل، قال: فتقاصر؟ وضمَّني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث، وجعل يقرؤها حتى أظلم، فقال للبقال: هلُمَّ المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يُؤخِّرُ صلاة (2) المغرب.
الخلال: حدثنا الرمادي، سمعت عبد الرزاق، وذكر أحمد بن حنبل، فدَمِعَتْ عيناه، وقال: بلغني أن نفقته نفدت، فأخذت بيده فأقمته خلف الباب وما معنا أحدٌ، فقلتُ له: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلَّة، أشغلناها في شيء، وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها، وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيَّأ شيء. فقال لي: يا أبا بكرٍ، لو قبلت من أحدٍ شيئاً، لَقبِلتُ منك.
وقال عبدُ الله: قلتُ لأبي: بلغني أنَّ عبد الرزاق عَرَضَ عليك دنانيرَ؟ قال: نعم، وأعطاني يزيدُ بن هارون خمس مئة درهم -أظُنُّ- فلم أقبل، وأعطى يحيى بن معين، وأبا مسلم فأخذا منه.
وقال محمد بن سهل بن عسكر: سمعت عبد الرزاق يقول: إن يَعِشْ هذا الرجل يكُن خَلَفاً من العلماء.
المروذي: حدثني أبو محمد النسائي، سمعت إسحاق بن راهويه، قال: كنا عند عبد الرزاق أنا وأحمد بن حنبل، فمضينا معه إلى المصلى يوم عيد، فلم يكبر هو ولا أنا ولا أحمد، فقال لنا: رأيت مَعْمراً
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (د): وقت.(4/284)
والثوري في هذا اليوم كبَّرا، وإني رأيتكما لم تُكبِّرا، فلم أُكبِّر، فلِمَ لم تُكبِّرا؟ قلنا: نحن نرى التكبير، ولكن شغلنا بأي شيء نبتدىء من الكتب.
أبو إسحاق الجُوزجاني، قال: كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق، فسها، فسأل عنه عبد الرزاق، فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئاً. رواها الخلال، سمعت أبا زرعة القاضي الدمشقي عن الجوزجاني.
قال الخلال: حدثنا أبو القاسم بن الجَبُّلِي، عن أبي إسماعيل الترمذي، عن إسحاق بن راهويه، قال: كنت مع أحمد بن حنبل عند عبد الرزاق، وكانت معي جارية، وسكنا فوق، وأحمد أسفل في البيت، فقال لي: يا أبا يعقوب: هوذا (1) يُعجبني ما أسمع من حركتكم (2) قال: وكنت أطلع، فأراه يعملُ التِّكَكَ ويَبيعُها، ويتقوَّتُ بها هذا أو نحوه.
قال المروذي: سمعت أبا عبد الله، يقول: كنت في أزْرِي من اليمن إلى مكة. قلت: أَكْرَيتَ نفسك من الجمالين؟ قال: قد اكتريت (3) لكتبي (4)، ولم يقل: لا.
وعن إسماعيل بن عُلَيه: أنه أُقيمت الصلاة، فقال: ها هنا أحمد بن حنبل قولوا (5) له يتقدَّمُ يُصلِّي بنا.
__________
(1) في (ج): هذا.
(2) في الأصول: خرجتكم.
(3) في (د): أكريتُ.
(4) تصحفت في (أ) و (د) و (ج): " لكنني "، وفي (ب): " لكني ".
(5) في (د): فقولوا.(4/285)
وقال الأثرمُ: أخبرني عبد الله بن المبارك شيخٌ سَمِعَ قديماً، قال: كنا عند ابن عُلَيَّة، فضَحِكَ بعضُنا، وثم أحمد بن حنبل، قال: فأتينا إسماعيل بعدُ، فوجدناه غضبان (1)، فقال: تضحكون وعندي أحمد بن حنبل!
قال المروذي: قال لي أبو عبد الله: كنا عند يزيد بن هارون، فوَهِمَ في شيء، فكلَّمته، فأخرج كتابه، فوجده كما قلتُ، فغيَّره، فكان إذا جلس يقول: يا ابن حنبل، ادْنُ، يا ابن حنبل، ادنُ ها هنا. ومَرِضْتُ فعادَني، فنطحه الباب.
المَرُّوذي: سمعت جعفر بن ميمون بن الأصبغ، سمعت أبي يقول: كنا عند يزيد بن هارون، وكان عنده المُعَيْطي (2) وأبو خيثمة (3)، وأحمد، وكان في يزيد رحمه الله مداعبة، فذاكره المعيطي (4) بشيء.
فقال له يزيد: فقدتُك، فتنحنح أحمد فالتفت إليه، فقال: من ذا؟ قالوا: أحمد بن حنبل، قال: ألا أعلمتموني أنه ها هنا.
قال المروذي: فسمعت بعض الواسطيين يقول: ما رأيت يزيد بن هارون ترك المِزَاحَ لأحدٍ إلاَّ لأحمد بن حنبل.
قال أحمد بن سنان القطان: ما رأيت يزيد لأحدٍ أشدَّ تعظيماً منه لأحمد بن حنبل، ولا أكرم أحداً مثله، كان يُقْعِدُه إلى جنبه ويُوَقِّرُه، ولا يمازحه.
__________
(1) في (د): غضباناً.
(2) تصحفت في (ب) إلى: المعتطي.
(3) " وأبو خيثمة " ساقطة من (ب).
(4) تصحفت في (ب) إلى: المعتطي.(4/286)
وقال عبدُ الرزاق: ما رأيتُ أحداً أفقه ولا أورَعَ من أحمد بن حنبل.
قلت: قال هذا (1)، وقد رأي مثل الثوري، ومالكٍ، وابن جريج.
وقال حفص بن غياث: ما قَدِمَ الكوفة مثل أحمد بن حنبل.
وقال أبو اليمان: كنتُ أُشبِّهُ أحمد بأرطاة بن المنذر.
وقال الهيثم بن جميل الحافظ: إن عاش أحمد سيكون حجةً على أهل زمانه.
وقال قتيبة: خيرُ أهل زماننا ابن المبارك، ثُمَّ هذا الشابُّ يعني: أحمد بن حنبل، واذا رأيت رجلاً يُحِبُّ أحمد فاعلم أنه صاحب سنةٍ، ولو أدرك عصر الثوري، والأوزاعي، والليث لكان هو المقدَّم عليهم. فقيل لقُتيبة: تضُمُّ أحمد إلى التابعين؟ قال: إلى كبار التابعين.
وقال قتيبة: لولا الثوريُّ لمات الورع، ولولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا.
قلت: قد روى أحمد في مسنده عن قتيبة (2) كثيراً.
وقيل لأبي مُسهر الغساني: تعرف من يحفظ على الأمة أمر دينها؟ قال: شابٌّ في ناحية المشرق، يعني: أحمد بن حنبل.
قال المُزَنيُّ: قال لي الشافعي: رأيت ببغداد شابّاً إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صَدَقَ. قلت: ومن هو؟ قال: أحمد بن حنبل.
__________
(1) " قال هذا " ساقط من (ب).
(2) " من " ساقطة من (ب).(4/287)
وقال حرملة: سمعت الشافعي يقول: خرجت من بغداد فما خلَّفت بها رجلاً أفضل، ولا أعلم، ولا أفقه، ولا أتقى من أحمد بن حنبل.
وقال الزعفراني: قال لي الشافعي: ما رأيت أعقل من أحمد، وسليمان بن داود الهاشمي.
قال محمد بن إسحاق بن راهويه: حدثني أبي قال (1) قال لي أحمد بن حنبل: تعال حتى أُرِيكَ من لم تر مثله، فذهب بي إلى الشافعي، قال أبي: وما رأي الشافعي مثل أحمد بن حنبل. ولولا أحمد وبذْلُ (2) نفسه، لذهب الإسلام - يريد المحنة.
وروي عن إسحاق بن راهويه، قال: أحمد حُجَّةٌ بين الله وبين خلقه.
وقال محمد بن عبدويه: سمعتُ علي بن المديني، يقول: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه، لأن سعيداً كان له نظراء.
وعن ابن المديني، قال: أعزَّ الله الدين بالصِّدِّيق يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.
وقال أبو عبيد: انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل وهو أفقههم، وذكر الحكاية.
وقال أبو عبيد: إني لأتدين بذكر أحمد بن حنبل، ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه.
__________
(1) زيادة من " السير ".
(2) في (ب): فبذل.(4/288)
وقال الحسن بن الربيع: ما شبَّهت أحمد بن حنبل إلاَّ بابن المبارك في سمته وهيبته.
الطبراني: حدثنا محمد بن حسين الأنماطي، قال: كنا في مجلسٍ فيه يحيى بن معين، وأبو خيثمة، فجعلوا يُثْنُون على أحمد بن حنبل، فقال رجلٌ: فبعض هذا، فقال يحيى: وكثرةُ الثناء على أحمد تُستنكر! لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه، ما ذكرنا فضائله بكمالها.
وروى عباس، عن ابن معين قال: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل.
وقال النُّفيلي: كان أحمد بن حنبل (1) من أعلام الدين.
وقال المروذي: حضرت أبا ثورٍ سُئِلَ عن مسألة، فقال: قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل شيخنا وإمامنا فيها كذا وكذا.
وقال ابن معين: ما رأيت من يحدث لله إلاَّ ثلاثة: يعلى بن عبيد، والقعنبي، وأحمد بن حنبل.
وقال ابن معين: أرادوا أن أكون مثل أحمد، والله لا أكون مثله أبداً.
وقال أبو خيثمة: ما رأيت مثل أحمد، ولا أشد منه قلباً.
وقال علي بن خَشْرمٍ: سمعت بشر بن الحارث، [يقول] (2): أنا أسأل عن أحمد بن حنبل، إنَّ أحمد أُدْخِلَ الكِيرَ، فخرج ذهباً أحمر.
وقال عبدا لله بن أحمد: قال أصحاب بشر الحافي له حين ضُرِبَ
__________
(1) من قوله: " وقال النفيلي " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) ليست في الأصول.(4/289)
أبي: لو أنك خرجت فقلت: إني على قول أحمد، فقال: أتريدون إن أقوم مقام الأنبياء؟!.
القاسم بن محمد الصائغ: سمعت المروذي يقول: دخلت على ذي النون السجن، ونحنُ بالعسكر، فقال: أيُّ شيءٍ حالُ سيدنا؟ يعن: أحمد بن حنبل.
وقال محمد بن حماد الطِّهراني: سمعت أبا ثور الفقيه يقول: أحمد بن حنبل أعلم أو (1) أفقه من الثوري.
وقال نصر بن علي الجهضمي: أحمد أفضل أهل زمانه.
قال صالح بن علي الحلبي: سمعتُ أبا همام السكوني (2) يقول: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، ولا رأى هو مثل نفسه.
وعن حجاج بن الشاعر، قال: ما رأيت أفضل من أحمد، وما كنت أُحبُّ أن أُقتل في سبيل الله، ولم أُصَلِّ على أحمد، بلغ والله في الإمامة أكبر من مبلغ سفيان ومالك.
وقال عمرو الناقد: إذا وافقني أحمد بن حنبل على حديثٍ لا أبالي من خالفني.
قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عن عليِّ بن المديني، وأحمد بن حنبل، أيُّهما أحفظ؟ قال: كانا في الحفظ متقاربين، وكان أحمد أفقه، إذا رأيت من يُحب أحمد، فاعلم أنه صاحبُ سنةٍ.
__________
(1) في (ب) و (د): و.
(2) تحرفت في (ب) إلى: السكولي.(4/290)
وقال أبو زُرعة: أحمد بن حنبل أكبر من إسحاق وأفقه، ما رأيت أحداً أكمل من أحمد.
وقال محمد بن يحيى الذهلي: جعلت أحمد إماماً فيما بيني وبين الله تعالى.
وقال محمد بن مهران الجمال: ما بَقِيَ غير أحمد.
قال إمام الأئمة ابن خزيمة: سمعت محمد بن سحتويه (1) سمعت أبا عمير بن النحاس الرملي، وذُكِرَ أحمد بن حنبل، فقال: رحمه الله، عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عُرِضَتْ له الدنيا، فأباها، والبدعُ، فنفاها.
قال أبو حاتم: كان أبو عمير من عُبَّاد المسلمين، قال لي: أَمِلَّ عليَّ شيئاً عن أحمد بن حنبل.
وروي عن أبي عبد الله البُوشنجي: قال: ما رأيتُ أجمع في كل شيء من أحمد بن حنبل، ولا أعقل منه (2).
وقال ابنُ وارة (3): كان أحمد صاحب فقه، صاحب حفظ، صاحب معرفة.
وقال النسائي: جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث، والفقه، والوَرَعَ، والزهد، والصَّبرَ.
__________
(1) في الأصول: سحتونة، والمثبت من " السير ".
(2) من قوله. " وروي عن " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في الأصول: " ابن دارة "، وهو خطأ.(4/291)
وعن عبد الوهاب الورَّاق: قال: لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فردوه إلى عالمه " (1) رددناه إلى أحمد بن حنبل، وكان أعلم أهل زمانه.
وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، ولا يُذكرُ فيها شيءٌ من أمر (2) الدنيا، ما رأيتُه ذكر الدُّنيا قطُّ.
قال صالح بن محمد جزرة: أفقه من أدركت في الحديث أحمد بن حنبل.
وقال علي بن خلف: سمعت الحميدي، يقول: ما دمت بالحجاز، وأحمد بالعراق، وابن راهويه بخراسان لا يَغْلِبُنا أحدٌ (3).
الخلال: حدَّثنا محمد بن ياسين البَلَدي، سمعتُ ابن أبي أُويس وقيل له (4): ذهب أصحاب الحديث، فقال: ما أبقى الله أحمد بن حنبل، فلم يذهب أصحابُ الحديث.
وعن ابن المديني، قال: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أُحدِّث إلاَّ من كتابٍ.
الحسين بن الحسن أبو معين الرازي: سمعت ابن المديني، يقول: ليس في أصحابنا أحفظ من أحمد، وبلغني أنه لا يحدث إلاَّ من كتاب ولنا فيه أُسوةٌ.
وعنه قال: أحمد اليوم حجة الله على خلقه.
__________
(1) قطعة من حديث حسن تقدم تخريجه في 3/ 238.
(2) ساقطة من (ب).
(3) تحرفت في (ب) إلى: أحمد.
(4) " له " ساقطة من (ب).(4/292)
أخبرنا عمر بن عبد المنعم، عن أبي اليُمن الكندي، حدثنا عبد الملك بن أبي القاسم، أخبرنا أبو إسماعيل الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب القرَّاب، أخبرنا محمد بن عبد الله الجَوْزَقِيُّ، سمعت أبا حامد الشرقي، سَمِعْتُ أحمد بن عاصم، سمعتُ أبا عبيدٍ القاسم بن سلاَّم، يقول: انتهى العلم إلى أربعة: أحمد بن حنبل وهو أفقههم فيه، وإلى ابن أبي شيبة وهو أحفظهم له، وإلى عليِّ بن المديني وهو أعلمهم به، وإلى يحيى بن معين وهو أكتبهم له.
إسحاق المنجنيقي: حدثنا القاسم بن محمد المؤدب، عن محمد بن أبي بشر، قال: أتيت أحمد بن حنبل في مسألةٍ. فقال: ائتِ أبا (1) عُبيدٍ، فإن له بياناً (2) لا تسمعه من غيره. فأتيتُه فشفاني جوابه.
فأخبرته بقول أحمد، فقال: ذاك رجل من عمال الله نَشَرَ الله رداء علمه (3)، وذَخَرَ له عنده الزُّلفى، أما تراه مُحبباً (4) مألوفاً، فبارك الله له فيما أعطاه من الحلم والعلم والفهم، فإنه لكما قيل:
يَزِينُكَ إمَّا غابَ عنك فإنْ دَنَا ... رأيتَ لهُ وجهاً يَسُرُّكَ مُقبِلاً
ويحسنُ في ذاتِ الإله إذا رأي ... مَضيماً لأهل الحقِّ لا يسأمُ البَلاَ
وإخوانُه الأدْنَوْنَ كُلُّ مُوفَّقٍ ... بَصيرٍ بأمرِ الله لا يسأمُ العُلاَ (5)
وبإسنادي إلى أبي إسماعيل الأنصاري: أخبرنا إسماعيل بن
__________
(1) في (ب): " أبي " وهو خطأ.
(2) في (ج): " ثباتاًَ "، وهو خطأ.
(3) في هامش (أ) عمله (خ).
(4) في الأصول: " فحبتاً " والمثبت من " السير ".
(5) في " السير ": يسمو على العلا.(4/293)
إبراهيم، أخبرنا نصر بن أبي نصر الطوسي، سمعت علي بن أحمد بن خُشيش، سمعت أبا الحديد الصُّوفي بمصر، عن أبيه، عن المزني، يقول: أحمد بن حنبل يوم المِحْنَةِ، وأبو بكر يوم الرِّدَّة، وعمر يوم السَّقيفة، وعثمان يوم الدار، وعليٌّ يوم صِفِّين.
قال (1) أحمد بن محمد الرُّشدِيني: سمعت أحمد بن صالح المصري، يقول: ما رأيت بالعراق مثل هذين أحمد بن حنبل، ومحمد بن عبد الله بن نمير، رجلين جامعين لم أر مثلهما بالعراق.
وروى أحمد بن سلمة النيسابوري، عن ابن وارة، قال: أحمد بن حنبل ببغداد، وأحمد بن صالح بمصر، وأبو جعفرٍ النفيلي بحرَّان، وابن نُمير بالكوفة، هؤلاء أركان الدِّين.
وقال علي بن الجنيد الرازي: سمعتُ أبا (2) جعفرٍ النُّفيلي، يقول: كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين.
وعن محمد بن مصعب العابد، قال (3): لسوطٌ ضُرِبَه أحمد بن حنبل في الله أكبر من أيام بشر بن الحارث.
قلت: بشرٌ عظيمُ القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما الله يعلم ذلك.
قال أبو عبد الرحمن النهاوندي، سمعت يعقوب الفَسَويَّ، يقول: كتبت عن ألف شيخٍ، حجتي فيما بيني وبين الله رجلان: أحمد بن
__________
(1) في (د): وقال.
(2) في (ب): " أبي " وهو خطأ.
(3) ساقطة من (ب).(4/294)
حنبل، وأحمد بن صالح.
وبالإسناد إلى الأنصاري شيخ الإسلام: أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا منصور بن عبد الله الذهلي، حدثنا محمد بن الحسن بن علي البخاري، سمعت محمد بن إبراهيم البوشنجي، وذكر أحمد بن حنبل، فقال: هو عندي أفقَهُ وأفضل من سفيان الثوري، وذلك أن سفيان لم يُمتَحَن بمثل ما امتُحِنَ به أحمدُ، ولا علمُ سفيان ومن تقدَّم من عُلماء الأمصار كعِلم أحمد بن حنبل، لأنه كان أجمع لها (1)، وأبصر بأغاليطهم وصدوقهم وكذوبهم، قال: ولقد بلغني عن بشر بن الحارث أنه قال: قام أحمد (2) مقام الأنبياء، وأحمد عندنا امتُحِنَ بالسَّرَّاء والضَّرَّاء، وكان فيهما معتصماً بالله.
قال أبو يحيى الناقدُ: كنَّا عند إبراهيم بن عَرْعَرَةَ، فذكروا علي بن عاصم، فقال رجلٌ: أحمد بن حنبل يُضعِّفُه. فقال رجل: وما يضره إذا كان ثقةً؟ فقال ابن عرعرة: والله لو تكلم أحمد في علقمة والأسود لضَرَّهُما.
وقال الحُنَيْنِي: سمعت إسماعيل بن الخليل، يقول: لو كان أحمد ابن حنبل في بني إسرائيل، لكان آية.
وعن علي بن شعيب، قال: عندنا المثل الكائن في بني إسرائيل، من أنَّ أحدهم كان يُوضَعُ المنشار على مفرِقِ رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه (3). ولولا أن أحمد قام بهذا الشأن، لكان عاراً علينا أن قوماً سُبكوا
__________
(1) في (ب): بها.
(2) في (ب): أحمد بن حنبل.
(3) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 269.(4/295)
فلم يخرج منهم أحدٌ.
قال ابن سَلْم: سمعت محمد بن نصر المروزي (1)، يقول: صِرتُ إلى دار أحمد بن حنبل مراراً، وسألته عن مسائل، فقيل له: أكان أكثر حديثاً أم إسحاق؟ فقال: بل (2) أحمد أكثر حديثاً وأورع. أحمد فاق أهل زمانه.
قلت: كان أحمد عظيم الشأن، رأساً (3) في الفقه، وفي الحديث، وفي التألُّهِ، أثنى عليه خلقٌ من خصومِهِ، فما الظن بإخوانه وأقرانه؟!!
وكان مَهِيباً في ذات الله، حتى لقال أبو عبيد: ما هِبْتُ أحداً في مسألةٍ، ما هبت أحمد بن حنبل.
وقال إبراهيم الحربي: عالم وقته سعيد بن المسيب في زمانه، وسفيان الثوري في زمانه، وأحمد بن حنبل في زمانه.
قرأت على إسحاق الأسدي: أخبركُم ابن خليل، أخبرنا اللبان، عن أبي علي الحدَّاد، أخبرنا أبو نعيم، أخبرنا أبو بكر بن مالك، حدثنا (4) محمد بن يونس، حدثني سليمان الشاذكوني، قال: يُشَبَّه عليُّ بن المديني بأحمد بن حنبل؟ أيهات!! ما أشبه السُّك (5) باللُّك (6). لقد
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: المروذي.
(2) ساقطة من (د).
(3) في (د): كان رأساً.
(4) ساقطة من (ب).
(5) تصحفت في (ج) إلى: الشك.
(6) السكُّ: ضرب من الطيب. واللّك -بالفتح-: صبغ أحمر يُصبغ به، -وبالضم-: ثقله أو عصارته.(4/296)
حضرتُ من وَرَعِه شيئاً بمكة: أنه أرهن سطلاً عند فامِيَّ (1)، فأخذ منه شيئاً لِيَقوتَه. فجاء، فأعطاه فِكَاكه، فأخرج إليه سطلين، فقال: انظُر أيُّهما سطلُك؟ فقال: لا أدري أنت في حِلٍّ منه، ومما أعطيتك، ولم يأخذه. قال الفامي: والله إنه لسطلُه، وإنما أردت أن أمتحنه فيه.
وبه (2) إلى أبي نعيم حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا الأبار: سمعت محمد بن يحيى النيسابوري، حين بلغه وفاة أحمد، يقول: ينبغي لكلِّ أهل دارٍ ببغداد أن يُقيموا عليه النياحةَ في دورهم.
قلت: تكلَّم الذُّهلي بمقتضى الحُزن لا بمقتضى الشرع (3).
قال أحمد بن القاسم المقرىء: سمعت الحسين الكرابيسي، يقول: مثل الذين يذكرون أحمد بن حنبل مَثَلُ قومٍ يجيئون إلى أبي قُبَيْسٍ (4) يُريدون أن يَهدِمُوه بنعالهم.
الطبراني: حدثنا إدريس بن عبد الكريم المقرىء، قال: رأيتُ علماءنا مثل الهيثم بن خارجة، ومُصعبٍ الزُّبيري، ويحيى بن معين،
__________
(1) أي: بائع الفوم، أي: الحِمّص.
(2) أي: بالسند السابق، وتحرف في الأصول إلى: " ونسبه ".
(3) لأن الشرع قد نهى عن النياحة، وعدها من صنيع الجاهلية. فقد أخرج مسلم في " صحيحه " (67) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت ".
وأخرج البخاري (1294) و (1297) و (1298) و (3519) من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس منَّا من ضَرَبَ الخُدود، وشقَّ الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية ".
وأخرج مسلم (934) من طريق أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سربال من قَطِران ودرعٌ من جرب ".
(4) هو اسم الجبل المشرف على مكة، وهو مواجه جبل قُعَيْقِعَان، وبينهما مكة، أبو قبيس من جهة الشرق، وقعيقعان من جهة الغرب.(4/297)
وأبي بكرٍ بن أبي شيبة، وأخيه، وعبد الأعلى بن حماد، وابن أبي الشوارب، وعليِّ بن المديني، والقواريري، وأبي خيثمة، وأبي معمرٍ، والوَرْكاني، وأحمد بن محمد بن أيوب، ومحمدِ بن بكَّار، وعمرٍو الناقد (1)، ويحيى بن أيوب المقابري، وسُريجٍ (2) بن يونس، وخلف بن هشام، وأبي الربيع الزهراني، فيمن لا أُحصيهم، يُعظِّمون أحمد ويُجِلُّونه ويُوَقرونه ويُبَجِّلُونَه ويقصدونه للسلام عليه.
قال أبو علي بن شاذان: قال لي محمد (3) بن عبد الله الشافعي: لمَّا مات سعيد بن أحمد بن حنبل، جاء إبراهيم الحربيُّ إلى عبد الله بن أحمد، فقام إليه عبد الله، فقال: تقومُ إليَّ؟ فقال: والله لو رآك أبي، لقامَ إليك، فقال إبراهيمُ: والله لو رأى ابنُ عيينة أباك، لقام إليه.
قال محمد بن أيوب العُكْبَري: سمعت إبراهيم الحربي، يقول: التابعون كلهم وآخرهم أحمد بن حنبل -وهو عندي أجَلُّهم- يقولون: من حلف بالطلاق أن لا يفعل شيئاً ثم فعله ناسياً، كلهم يُلزِمُونَه الطلاق.
وعن الأثرم، قال: ناظرت رجلاً، فقال: من قال بهذه المسألة؟ قلت: من ليس في شرقٍ ولا غربٍ مثلُه، قال: من؟ قلتُ: أحمد بن حنبل.
وقد أثنى على أبي عبد الله جماعةٌ من أولياء الله، وتبرَّكُوا به، روى
__________
(1) في (ب): " وعمرو والناقد " وهو خطأ.
(2) تصحف في (ب) و (ج) و (د) إلى: شريح.
(3) في (ب): قال أحمد.(4/298)
ذلك أبو الفرج بن الجوزي، وشيخ الإسلام (1) ولم يصح سند بعض ذلك.
أخبرنا إسماعيل بن عُمَيرة، أخبرنا ابن قدامة (2)، أخبرنا أبو طالب بنُ خُضَير، أخبرنا أبو طالب اليُوسُفي، أخبرنا أبو إسحاق البرمكي، أخبرنا عليُّ بن عبد العزيز، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا أبو زُرعة، وقيل له: اختيار أحمد وإسحاق أحبُّ إليك أم قول الشافعي؟ قال: بل اختيار أحمد وإسحاق، ما أعلم في أصحابنا أسود الرأس أفقه من أحمد بن حنبل، وما رأيت أحداً أجمع منه.
في فضلِهِ وتألُّهِهِ وشمائله:
وبه قال ابن أبي حاتم: حدثنا صالح بن أحمد، قال: دخلت على أبي يوماً أيام الواثق -والله أعلم على أيِّ حال نحن- وقد خرج لصلاة العصر، وكان له لِبْدٌ يجلِسُ عليه، قد أتى عليه سنون كثيرةٌ حتى بَلِيَ، وإذا تحته كتاب كاغَدٌ (3) فيه: بلغني يا أبا عبد الله ما أنت فيه من الضِّيق، وما عليك من الدَّين، وقد وجَّهتُ إليك بأربعة (4) آلاف درهم على يدي فلانٍ، وما هي من صدقة ولا (5) زكاةٍ، وإنما هو (6) شيءٌ وَرِثْتُهُ من أبي. فقرأت الكتاب، ووضعتُه. فلما دخل، قلت: يا أبة، ما هذا
__________
(1) هو موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الصالحي، المتوفى سنة 620 هـ.
(2) قوله: " أخبرنا ابن قدامة " ساقط من (ب).
(3) أي: قرطاس، وهو فارسي معرب.
(4) في (ب): أربعة.
(5) في (ب): ولا من.
(6) في (ب): هو من.(4/299)
الكتاب؟ فاحمَرَّ وجهُه، وقال: رفعتُه منك. ثم قال: تذهب بجوابه (1)؟ فكتب إلى الرجل: وَصَلَ كتابُك إليَّ، ونحن في عافيةٍ. فأما الدَّين، فإنه لرجلٍ لا يُرهِقُنا، وأما عيالُنا، ففي نعمة الله. فذهبتُ بالكتاب إلى الرجل الذي كان أوصل كتاب الرجل، فلما كان بعد حين، ورد كتاب الرجل بمثل ذلك، فرد عليه (2) بمثل ما ردَّ (3). فلما مضت سنةٌ أو نحوها، ذكرناها، فقال: لو كنا قبلناها، كانت (4) قد ذهبت.
وشهدت ابن الجَرَوِيِّ، وقد جاء بعد المغرب، فقال لأبي: أنا رجلٌ مشهور، وقد أتيتُك في هذا الوقت (5)، وعندي شيءٌ قد اعتدتُه لك (6)، وهو ميراثٌ، فأُحِبُّ أن تقبله، فلم يزل به. فلمَّا أكثر عليه، قام ودخل. قال صالح: فأُخبرتُ عن ابن الجروي أنه قال: قلت له: يا أبا عبدِ الله، هي ثلاثة آلاف دينار. فقام وتركني.
قال صالح: ووجَّه رجلٌ من الصين بكَاغَدٍ صيني إلى جماعةٍ من المحدثين، ووجَّه بِقِمَطْرٍ (7) إلى أبي، فردَّه، ووُلِدَ لي مولودٌ فأهدى صديقٌ لي شيئاً. ثم أتى على ذلك أشهرٌ، وأراد الخروج إلى البصرة، فقال لي: تُكَلِّمُ أبا عبد الله يكتب لي إلى المشايخ بالبصرة؟ فكلَّمتُه فقال: لولا أنَّهُ أهدى إليك، كنت أكتب له.
__________
(1) في " السير ": لجوابه.
(2) " ذلك فرد عليه بمثل " ساقطة من (ب).
(3) في (ب): ورد.
(4) سقطت من (ب).
(5) " في هذا الوقت " مكرر في (ب).
(6) تحرفت في (ب): بلك.
(7) وهو ما يُصَان فيه الكتب.(4/300)
وبه قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، قال: بَلَغني أن أحمد بن حنبل رَهَنَ نعلَه (1) عند خَبَّازٍ باليمن، وأكرى نفسه من جمالين عند خروجه، وعَرَضَ عليه عبدُ الرزاق دراهم صالحة، فلم يقبَلُها.
وَبَعَثَ ابنُ طاهر حين مات أحمد بأكفانٍ وحَنوط، فأبَى صالح أن يقبَلَه، وقال: إنَّ أبي قد أعدَّ كفنَه وحنوطَه، وردَّه (2)، فراجعه، فقال (3): إن أمير المؤمنين أعفى أبا عبد الله ممَّا يكرَهُ، وهذا مما يكرَهَهُ (4)، فلستُ أقبله.
وبه: حدثنا صالحٌ، قال: [قال] (5) أبي: جاءني يحيى بن يحيى قال أبي: وما أخرجت خُراسانُ بعد ابن المبارك رجلاً (6) يُشْبِهُ يحيى بن يحيى - فجاءني ابنه، فقال: إن أبي أوصى بِمَبْطَنَة له (7) لك، قال: يذكرُني بها. قلت: جِيءْ بها، فجاء برُزمةِ ثياب، فقلتُ له: اذهب رَحِمَكَ الله، يعني: ولم يَقْبَلْها.
قلت: وقيل: إنَّه أخَذَ منها ثوباً واحداً.
وبه: قال: حدثنا صالحٌ، قال: قلت لأبي: إنَّ أحمد الدَّوْرَقي أُعطيَ ألف دينار، فقال: يا بُني: {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبْقَى} [طه: 131].
__________
(1) في المطبوع من " الجرح والتعديل " 1/ 301: بغلاً له.
(2) في (ب): فردَّه.
(3) في (ب): وقال.
(4) " وهذا ممَّا يكرهه " ساقط من (ب).
(5) زيادة من " السير ".
(6) في (ب) و (د): من.
(7) " له " ساقطة من (ب).(4/301)
وبه: قال: حدثنا (1) أبي، حدثنا (1) أحمد بن أبي الحواري، حدَّثني عُبيد القاري، قال: دَخَلَ على أحمد عمُّه، فقال: يا ابن أخي، أيش هذا الغَمُّ؟ أيشٍ هذا الحزنُ؟ فرفع رأسه، وقال: يا عمُّ، طُوبى لمن أخملَ الله ذكره.
وبه: سمعتُ أبي يقول: كان أحمد إذا رأيته، تعلمُ أنَّه لا يُظهِرُ النُّسُك، رأيت عليه نعلاً لا يُشْبِهُ نعال القُراءِ، له رأس كبيرٌ معقد، وشِراكُه مُسبَلٌ، ورأيت عليه إزاراً وجُبَّة بُرد مخططة. أي: لم يكن بزيِّ القُرَّاء.
وبه: حدثنا صالح: قال لي أبي: جاءني أمسِ رجلٌ كنت أُحِبُّ أن تراه، بينا أنا قاعدٌ في نحرِ الظهيرة، إذ برجل سلَّم بالباب، فكأنَّ قلبي ارتاح، ففتحتُ، فإذا برجلٍ عليه فَروة، وعلى رأسه خِرقةُ، ما تحت فروه قميصٌ، ولا مَعَه رَكْوةٌ ولا جِراب ولا عُكَّازٌ، لقد لَوَّحته الشمسُ. فقلت: ادخُلْ، فَدَخَلَ الدهليز، فقلت: مِنْ أين أقبلت؟ قال: من ناحية المشرق، أريد الساحل، ولولا مكانك ما دخلت هذا البلد، نويتُ السلام عليك. قُلتُ: على هذه الحال؟ قال: نعم. ما الزهد في الدنيا؟ قلت: قصر الأمل، قال: فجعلت أعجب منه، فقلت في نفسي: ما عندي ذهبٌ ولا فضة. فدخلت البيت فأخذت أربعة أرغفةٍ، فخرجت إليه، فقال: أوَيَسُرُّك أن أقبل ذلك يا أبا عبد الله؟ قلت: نعم، فأخذها، فوضعها تحت حِضنه، وقال: أرجو أن تكفيني إلى الرقة (2). وأستودعك الله. فكان يذكره كثيراً.
__________
(1) في (د): أخبرنا.
(2) "الواو" ساقطة من (د).(4/302)
وبه (1): كتب إليَّ عَبْدُ اللهِ بن أحمد: سمعتُ أبي (2)، وذكرَ الدنيا، فقال: قليلُها يجزئُ، وكثيرُها لا يجزئُ، وقال أبي: وقد ذكرَ عنده الفقر فقال: الفقيرُ معَ الخيرِ.
وبه: حدثنا صالح، قال: أمسكَ أبي عن مُكاتبةِ ابن راهَويه، لما أَدخَل كتابه إلى عبدِ الله بن طاهر وقَرأَه.
وبه قال: ذكر عبدُ الله بن أبي عمر البكري، سمعتُ عبد الملك بن عبد الحميد الميموني (3)، قال: ما أعلم أنِّي رأيت أحداً أنظفَ بدناً، ولا أشدَّ تعاهداً لنفسه في شاربه وشعرِ رأسه وشعرِ بَدَنه، ولا أَنْقَى ثوباً بشدة (4) بياضٍ، من أحمد بن حنبل رضي الله عنه. كان ثيابُه بين الثوبين، تَسوَى مَلْحَفَتُه خمسةَ عشر درهماً، وكان ثوبُ قميصه يُؤخذ بالدينارِ ونحوه، لم يكن له دِقة تُنكر، ولا غِلظُ ينكر، وكانت مَلْحَفَتُه مهذبةً.
وبه حدثنا صالح، قال: ربَّما رأيت أبي يأخذ الكِسر، ينفض الغبار عنها، ويصيَّرها في قَصعةٍ، ويصُبُّ عليها ماءً، ثم يأكلها بالمِلحِ، وما رأيته اشترى رُمَّانًا ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة، إلاَّ أن يكون بطيخة فيأكلها بخبزٍ وعِنباً وتمراً.
وقال لي: كانت والدتك في الغلاء (5) تغزِل غزلاً دقيقاً، فتبيع
__________
(1) في (ب): وبه إلى.
(2) "الواو" ساقطة من (ب).
(3) تحرفت في (ب) إلى: اليموني.
(4) في (ب): شدة.
(5) تحرف في " السير " 11/ 209 إلى الظلام، وجاء على الصواب في 11/ 324، و" الجرح والتعديل " 1/ 304.(4/303)
الأستار بدرهمين (1) أقلَّ أو أكثر، وكان ذلك قوتنا، وكنا إذا اشترينا الشيء، نستره عنه كيلا يراه، فيُوبِّخُنا (2)، وكان ربما خُبِزَ له، فيجعل في فخَّارة عدساً وشحماً وتمرات شِهريز (3)، فيجيء الصِّبيان، فيصوِّتُ ببعضهم، فيدفعه إليهم، فيضحكون ولا يأكلون. وكان يأتدِمُ بالخلِّ كثيراً.
قال: وقال أبي: إذا لم يكن عندي قطعة، أفرح.
وكان إذا توضَّأ لا يدعُ من يستقي له، ورُبَّما اعتللت فيأخذ قدحاً فيه ماء، فيقرأ فيه، ثم يقول: اشرب منه، واغسِلْ وجهَكَ ويديك.
وكانت له قلنسُوةٌ خاطَها بيده، فيها قُطن، فإذا قام بالليل لَبِسَهَا.
وكان ربما أخذ القدوم، وخرج إلى دار السكان، يعملُ الشيء بيده، واعتل فيعالج.
وكان ربما خرج إلى البقَّال، فيشتري الجُرزَةَ الحطب والشيء، فيحملُه بيده.
وكان يتنوَّر في البيت. فقال لي في يوم شتوي: أريدُ أدخلُ الحمامَ بعد المغرب، فقل لصاحب الحمام. ثم بعث إليَّ: إني قد أضربتُ عن الدخول. وتنوَّر في البيت.
وكنث أسمعُه كثيراً يقول: اللهمَّ سلِّم سلِّم.
__________
(1) في (ب): بدرهمين أو.
(2) في (ب): يوبخنا.
(3) والشهريز - بالضم. والكسر، وبالسين المهملة أو بالشين المعجمة: نوع من التمر.(4/304)
وبه حدثنا أحمد بن سنان، قال: بعثت إلى أحمد بن حنبل حيث كان عندنا أيام يزيد جَوْزاً ونَبْقاً (1) كثيراً، فقَبِلَ، وقال: لي كل هذا؟
قال عبد الله بن أحمد: حدثنا أبي، وذكر عنده الشافعي رحمه الله، فقال: ما استفاد منا أكثر مما استفدنا منه، ثم قال عبد الله: كل شيء في كتاب الشافعي أخبرنا الثقة فهو عن أبي.
الخلال: حدثنا المروذي، قال: قَدِمَ رجل من الزهاد، فأدخلته على أحمد، وعليه فروٌ خَلَقٌ، وخُرَيْقَة على رأسه وهو حافٍ في بَرد شديد، فسلَّم، وقال: يا أبا عبد الله، قد جئتُ من موضعٍ بعيد، ما أردت إلاَّ السلام عليك، وأريدُ عبَّادان، وأريد أن أنا رجعت، أسلِّم عليك. فقال: إن قُدِّر. فقام الرجل وسلم (2)، وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله، حتى يقوم هو إلاَّ هذا الرجل، فقال لي أبو عبد الله: ما ترى ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه أبو عبد الله أربعة أرغفة مشطورة بكامخ (3)، وقال: لو كان عندنا شيءٌ، لواسيناك.
وأخبرنا المروذي: قلت لأبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، بأيِّ شيء هذا؟ قلت له (4): قدم رجل من طرسوس، فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هَدَأَ الليل، رفعوا
__________
(1) النَّبْق: هو ثمر السِّدْر.
(2) في (ب): فسلم.
(3) في الأصول: " كافح "، والمثبت من " السير "، وهو بفتح الميم: نوعٌ من الأدْم، معرب.
(4) ساقطة من (ب).(4/305)
أصواتهم بالدُّعاء، ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمُدُّ المنجنيق، ونرمي عن أبي عبد الله. ولقد رُمي عنه بحجرٍ، والعِلج على الحصن متترسٌ بدَرَقَة فذهب برأسه وبالدِّرَقَةِ (1) فتغيَّر وجهُ أبي عبد الله، وقال: ليته لا يكون استدراجاً. قلت: كلا.
وعن رجلٍ قال: عندنا بخراسان يظنُّون أن أحمد لا يُشبِهُ البشر، يظنون أنه من الملائكة.
وقال آخر: نظرةٌ عندنا (2) من أحمد تعدِلُ عبادة سنة.
قلت: هذا غلوُّ لا ينبغي، لكن الباعث له حبُّ ولي الله في الله.
قال المرُّوذي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهبٌ، فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله.
وأدخلت نصرانياً على أبي عبد الله، فقال له: إنِّي لأشتهي أن أراك منذ سنين. ما بقاؤك صلاحٌ للإسلام وحدَهم، بل للخلق جميعاً، وليس من أصحابنا أحدٌ إلاَّ وقد رَضِيَ بك. قلتُ لأبي عبد الله: إني لأرجو أن يكون يدعى لك في جميع الأمصار. فقال: يا أبا بكر إذا عرف الرجل نفسه، فما ينفعه كلام الناس.
قال عبد الله بن أحمد: خَرَجَ أبي إلى طرسوس ماشياً، وحجَّ حجتين أو ثلاثاً (3) ماشياً، وكان أصبر الناس على الوحدة، وبِشْرٌ لم يكن يصبر على الوحدة. كان يخرج إلى ذا وإلى ذا.
__________
(1) في (د): وبدرقة.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): " ثلاث "، وهو خطأ.(4/306)
قال عباس الدوري: حدثنا علي بن أبي فزارة (1) جارنا، قال: كانت أمي مُقعدةً من نحو عشرين سنة. فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل، فسله أن يدعو لي، فأتيت، فدقَقْتُ عليه وهو في دهليزه، فقال: من هذا؟ فقلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء. فسمعت كلامه كلام رجلٍ مُغضبٍ. فقال: نحن أحوج أن تدعوا الله لنا، فولَّيت منصرفاً. فخرجتْ عجوز، فقالت: قد تركته يدعو لها. فجئت إلى بيتنا فدقَقْتُ الباب، فخرجت أمي تمشي على رجليها (2).
هذه الواقعةُ نقلها ثقتان عن عباس.
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يُصلِّي في كل يوم وليلة ثلاث مئة ركعة. فلمَّا مَرِضَ من تلك الأسواط، أضعفته، فكان يُصلي كُلَّ يوم وليلة مئةً وخمسين ركعة.
وعن أبي إسماعيل الترمذيِّ: قال: جاء رجلٌ بعشرة آلاف من ربح تجارته إلى أحمد فردَّها. وقيل: إن صيرفياً بذل له (3) خمس مئة دينار، فلم يقبل.
ومن آدابه:
وقال المروذي: قال لي أحمد: ما كتبت حديثاً إلاَّ وقد عملت به حتى مرَّ بي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجمَ وأعطى أبا طيبة ديناراً فأعطيت الحجام
__________
(1) كذا الأصول، وفي هامش " السير " وهامش (أ): " حزارة خ "، وفوق الكلمة في (ج): حرارة.
(2) في (د): و" السير ": " على رجليها تمشي ".
(3) " له " ساقطة من (ب).(4/307)
ديناراً حين احتجمتُ (1)
وقال: رأيت أبا عبد الله قد ألقى (2) لِخَتَّانٍ درهمين في الطست.
وقال عبد الله: ما رأيت أبي حدَّث من غير كتابٍ إلاَّ بأقل من مئة حديثٍ. وسمعت أبي يقول: قال الشافعي: يا أبا عبد الله: إذا صحَّ عندكم الحديث، فأخبرونا حتى نرجع إليه، أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبرٌ صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفياً كان أو بصرياً أو شامياً.
قلت: لم يحتج إلى أن يقول حجازياً، فإنه كان بصيراً بحديث الحجاز، ولا قال مصرياً، فإن غيرهما كان أقعد بحديث مصر منهما ..
الطبراني: حدثنا موسى بن هارون: سمعت ابن راهويه، يقول: لما خرج أحمد (3) إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة فلم يأخذ.
__________
(1) أخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 974، والبخاري (2102) و (2210) و (2277) و (2281) و (5696)، ومسلم (1577) والبغوي (2035)، كلهم من طرق عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك قال: حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو طَيْبة، فأمر له بصاع من تمر، وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه.
وأخرجه الدارمي 2/ 272، والترمذي (1278)، وأبو داود (3424)، وأحمد 3/ 100 و174 و182 والطحاوي في " شرح معاني الآثار" 4/ 131. وفي بعض هذه الروايات: " فأمر له بصاع من طعام "، وفي بعضها: " بصاع من شعير " وفي بعضها: " بصاعين من طعام "، ولم يرد فيها أنه أعطاه ديناراً.
(2) في الأصول: " أكفى "، والمثبت من " السير ".
(3) في (ب): أحمد بن حنبل.(4/308)
أبو نعيم: حدثنا الحسين بن محمد، حدثنا شاكر بن جعفر، سمعت أحمد بن محمد التستري، يقول: ذكروا أن أحمد بن حنبل أتى عليه ثلاثة أيام ما طَعِمَ فيها، فبعث إلى صديق له، فاقترض منه دقيقاً، فجهَّزوه بسرعة، فقال: كيف ذا؟ فقالوا: تنَّورُ صالح مُسْجَرٌ، فخبزنا فيه، فقال: ارفعوا، وأَمَرَ بسدِّ بابٍ بينه وبين صالح.
قلت: لكونه أخذ جائزة المتوكل.
قال يحيى بن معين: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل صحبناه خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير.
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يقرأُ كُلَّ يوم سُبعاً، وكان ينامُ بعد العشاء نومةً خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يُصلِّي ويدعو.
وقال صالح: كان أبي إذا دعا له رجلٌ، قال: ليس يحرز الرجل المؤمن إلاَّ حفرته، الأعمال بخواتيمها. وقال لي في مرضه: أخرج كتاب عبد الله بن إدريس، فقال: اقرأ عليَّ حديث ليث: إنَّ طاووساً كان يكره الأنين في المرض. فما سمعتَ لأبي أنيناً حتى مات .. وسمِعَه ابنه عبد الله يقول: تمنيت الموت: وهذا أمر أشدُّ عليَّ من ذاك، ذاك فتنةُ الضرب والحبس، كنت أحملُه، وهذه فتنةُ الدنيا.
قال أحمد الدورقي: لما قَدِمَ أحمد بن حنبل من عند عبد الرزاق، رأيتُ به شُحوباً بمكة. ولد تبيّن عليه النَّصبُ والتَّعَبُ، فكلمته، فقال: هيِّن فيما استفدنا من عبد الرزاق.
قال عبد الله: قال أبي: ما كتبنا عن عبد الرزاق من حفظه إلاَّ المجلس الأول، وذلك أنا دخلنا بالليل، فأملى علينا سبعين حديثاً. وقد(4/309)
جالس مَعْمَراً تسع سنين. وكان يكتبُ عنه كل ما يقول.
.. قال عبد الله: من سمع من عبد الرزاق بعد المئتين، فسماعه ضعيفٌ.
قال موسى بن هارون: سُئِلَ أحمد: أين نطلب البدلاء؟ فسكت ثم قال: إن لم يكن من أصحاب الحديث فلا أدري.
قال المروذي: كان أبو عبد الله إذا ذكر الموت، خَنَقَتْه العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت، هان على كلُّ (1) أمر الدنيا، إنما هو طعامٌ دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام (2) قلائل. ما أعدِل بالفقرِ شيئاً. ولو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكرٌ.
وقال: أريد أن أكون في شِعْبٍ بمكة حتى لا أعرف، قد بُليتُ بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً.
قال (3) المروذي: وذكر لأحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له (4). وقال: لقد استرحت (5)، ما
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (أ) و (د): " وأنا أيام "، وفي " السير ": " وإنَّها أيام ".
(3) في (د): وقال.
(4) اللقاء الذي لم يركب فيه الإمام أحمد هو الذي يراد منه ذيوع الصيت والتكلف، أمَّا لقاء الناس لتعليمهم ما جهلوا من أمر دينهم، وإسداء النصح لهم، وصلة أرحامهم، وزيارتهم في المناسبات المشروعة، فهو ممَّا يرتضيه ويرغب فيه، لأن ذلك ممَّا يحمده الشرع، ويحثُّ عليه. فقد روى الإمام أحمد 2/ 43، وابن ماجة (4032)، والترمذي (2507) بسند قوي من حديث ابن عمر مرفوعاً: " المؤمن الذي يُخالطُ الناس، ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطُ الناس، ولا يصبر على أذاهم ".
(5) في (ب): أشرحت، وبقية الأصول: " انشرحت "، والمثبت من " السير ".(4/310)
جاءني الفرجُ إلاَّ منذ خلفتُ أن لا أحدِّث، وليتنا نُترَكُ، الطريق ما كان عليه بِشرُ بن الحارث. فقلت له: إنَّ فلاناً، قال: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، قال: زَهِدَ في الناس. فقال: ومن أنا حتى أزهَدَ في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.
وسمعتُه يكرهُ للرجل النوم بعد العصر، يخاف على عقله (1).
وسُئِلَ عن القراءة بالألحان، فقال: هذه بدعةٌ لا تُسمع.
قال الخلال: عن زهير بن صالح: كان لي أخٌ أصغر مني اسمه علي، فأراد أبي أن يَخْتِنه، فاتَّخذ له طعاماً كثيراً، ودعا قوماً، فوجَّه إليه جدي: إنك قد أسرفت، فابدأ بالضعفاء والفقراء. فلما أن كان من الغد، وحضر الحجَّام، وحضر أهلُنا، جاء جدي، وأخرج صُرّةً، فدفعها إلى الحجام، وقام فنظر الحجَّام في الصُّرَّة، فإذا درهم واحد، وكنا قد رفعنا كثيراً من الفُرُش.
قال الميموني: كثيراً ما كنت أسأل أبا عبد الله من الشيء، فيقول: لبَّيك لبيك.
وعن المروذي: لم أر الفقير في مجلس أعز منه في مجلس أحمد. كان مائلاً إليهم، مُقصراً عن أهل الدنيا، وكان فيه حِلْمٌ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع تَعْلوه السكينةُ والوقارُ. وإذا جلس [في مجلسه بعد العصر] للفُتيا لا يتكلمُ حتى يُسأل، وإذا خرج إلى مسجده لم يتصدَّر.
__________
(1) لم يثبت هذا في نص يُعَوَّلُ عليه.(4/311)
قال عبد الله: رأيت أبي حرَّج على (1) النمل أن يُخْرَجوا من داره، فرأيت النمل قد خرجن بعدُ نملاً سُوداً، فلم أرهم بعد ذلك.
ومن كرمه:
الخلال: حدثنا عبد الله قال أبو سعيد بن أبي حنيفة المؤدِّب: كنت آتي أباك فيدفع إليَّ الثلاثة دراهم وأقل وأكثر ويقعدُ معي، فيتحدث، وربما أعطاني الشيء، ويقول: أعطيتك نصف ما عندنا. فجئت يوماً، فأطلت القعود أنا وهو. قال: ثم خرج ومعه تحت كسائه أربعة أرغفة.
فقال: هذا نصف ما عندنا. فقلت: هي أحبُّ إليَّ من أربعة آلاف من غيرك.
وقال هارون المستملي: لقيت أحمد فقلت: ما عندنا شيء.
فأعطاني خمسة دراهم، وقال: ما عندنا غيرها.
قال المروذي: رأيت أبا عبد الله قد وهب لرجل قميصه، وكان ربما واسى من قُوتِه. وكان إذا جاءه أمرٌ يُهِمُّه من أمر الدنيا، لم يُفطر وواصل.
وجاءه أبو سعيد الضرير، وكان قال (2) قصيدة في ابن أبي دواد، فشكا إلى أبي عبد الله، فقال: يا أبا سعيد، ما عندنا إلاَّ هذا الجَذَع.
فجيء بحمَّال، قال فبِعْتُه بتسعةِ دراهم ودانِقين. وكان أبو عبد الله شديد الحياء، كريم الأخلاق، يُعجِبُه السَّخاء.
قال المروذي: سمعتُ أبا الفوارس ساكن (3) أبي عبد الله، يقول:
__________
(1) في (ب): إلى.
(2) في (د): قد قال.
(3) في هامش (أ) و (د): يريد ساكن دار أبي عبد الله كذا.(4/312)
قال لي أبو عبد الله: يا محمدُ، ألقى الصبيُّ المقراض في البئر، فنزلتُ فأخرجته. فكتب إلى البقَّال: أعطه نصف درهم. قلت: هذا لا يسوى قيراط. والله لا أخذته. قال: فلما كان بعد، دعاني، فقال: كم عليك من الكِراء؟ قلت: ثلاثة أشهر. قال: أنت في حِلٍّ.
الخلال: حدثنا الميموني ما رأيتُ أبا عبد الله عليه طيلسان قط، ولا رداء (1)، إنما هو إزارٌ صغير.
وقال الفضل بن زياد: ربما لَبِسَ القلنسوة بغير عمامة.
قال أبو داود: كنت أرى إزاره محلولة، ورأيتُ عليه من النعال والخفافِ غيرَ زوجٍ، فما رأيتُ فيه مخصراً، ولا شيئاً (2) له قبالان (3).
الخلال: حدثنا محمد بن الحسين، أن أبا بكر المروذي حدثهم في آداب أبي عبد الله، قال: كان لا يجهل، وإن جُهِلَ عليه حَلُم واحتمل ويقول: يكفي الله، ولم يكن بالحقود ولا العَجُول، كثيرُ التواضع، حسن الخلق، دائم البشر، لينُ الجانب، ليس بِفَظٍّ، وكان يُحبُّ في الله، ويبغضُ في الله، وإذا كان في أمرٍ من الدين اشتدَّ له غضبه، وكان يحتمل الأذى من الجيران.
وسرد الخلاَّل حكاياتٍ فيمن أهدى إلى أحمد، فأتى به بأكثر من هَدِيَّته.
قال الخلال: حدَّثنا أحمد (4) بن جعفر بن حاتم، حدثني محمد بن
__________
(1) في (ب) و (د): رداءاً.
(2) في " الأصول " و" السير ": " ولا شيءٌ ".
(3) مثنى قِبال، وهو الزمام، أو ما كان قُدَّام عقد الشراك.
(4) في " السير ": إبراهيم.(4/313)
الحسن بن الجُنيد، عن هارون بن سفيان المستملي، قال: جئت إلى أحمد بن حنبل حين أراد أن يفرق الدراهم التي جاءته من المتوكل، فأعطاني مئتيّ درهم. فقلت: لا تكفيني. قال: ليس هنا غيرها، ولكن هوذا، أعمل بك شيئاً أعطيك ثلاث مئةٍ تُفرِّقُها. قال: فلما أخذتها، قلت: ليس والله أعطي أحداً منها شيئاً، فتبسم.
قال عبد الله: ما رأيت أبي دخل الحمَّام قَطُّ.
الخلال: حدثنا عبد الله بن حنبل: حدثني أبي، قال [قيل] لأبي عبد الله لما ضُرِبَ وبرىء، وكانت يدُه وَجِعَة، وكانت تضرب عليه، فذكروا له الحمَّام، وألحُّوا عليه، فقال لأبي (1): كلِّم صاحب الحمام يُخليه لي، ففعل ثم امتنع، وقال: ما أريد أن أدخل الحمام.
وقال المروذي: رأيتُ أبا عبد الله يقوم لورده قريباً من نصف الليل حتى يقارب السحر، ورأيتُه ركع فيما بين المغرب والعشاء.
وقال عبد الله: ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوامٍ بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويُخفيه، ويُصلي بين العشاءين. فإذا صلَّى عشاء الآخرة، رَكَعَ ركعاتٍ صالحة، ثم يوتر وينام نومة خفيفة، ثم يقوم فيُصلي. وكانت قراءته لينةً، ربما لم أفهم بعضها. وكان يصوم ويُدْمِنُ، ثم يُفطر ما شاء الله. ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر، أدمن الصوم إلى أن مات.
__________
(1) في (ب): " أبي " وهو خطأ.(4/314)
تركه للجهات جُملةَ:
عن محمد بن يحيى خادم المُزني عنه، قال: قال الشافعي: لما دخلت على الرشيد، قال: اليمن يحتاج إلى حاكم، فانظُر رجلاً نُوليه، فلما رجع الشافعي إلى مجلسه، ورأي أحمد بن حنبل من أمثلهم، كلمه في ذلك، وقال: تهيَّأ حتى أُدخِلَك على أمير المؤمنين. فقال: إنما جئت لأقتبس منك العلم، وتأمُرني أن أدخل في القضاء، ووبخه. فاستحيا الشافعي.
قلت: إسنادها مظلمٌ.
قال ابن الجوزي: قيل: كان هذا في زمان الأمين.
وأخبرنا ابن ناصر، أخبرنا عبد القادر، أخبرنا البرمكي، أخبرنا أبو بكر عبد العزيز، أخبرنا الخلاَّل، أخبرني محمد بن أبي هارون، حدثنا الأثرم، قال: أخبرتُ أن الشافعي قال لأبي عبد الله: إن أمير المؤمنين، يعني، محمداً، سألني أن ألتمس له (1) قاضياً لليمن، وأنت تحب الخروج إلى عبد الرزاق، فقد نِلتَ حاجتك، وتقضي بالحق، فقال للشافعي: يا أبا عبد الله، إن سمعتُ هذا منك ثانية، لم تَرَني عندك.
فظننت أنه كان لأبي عبد الله ثلاثون (2) سنة، أو سبع وعشرون (3) سنة.
الصَّنْدلي: حدثنا أبو جعفر الترمذي، أخبرنا عبد الله بن محمد البلخي أن الشافعي كان كبيراً عند محمد بن زُبَيْدة، يعني: الأمين، فذكر
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في " الأصول " و" السير ": " ثلاثين "، والجادة ما أثبت.
(3) في غير (ج) " سبعاً وعشرين ".(4/315)
له محمد يوماً اغتمامه برجلٍ يصلح للقضاءِ صاحب سنة. قال: قد وجدت. قال: ومن هو؟ فذكر أحمد بن حنبل. قال: فلقيه أحمد، فقال: أخْمِل هذا وأعفني، وإلاَّ خرجتُ من البلد.
قال صالح بن أحمد: كتب إليَّ إسحاق بن راهويه: إن الأمير عبد الله ابن طاهر وجَّه إليَّ، فدخلتُ عليه وفي يدي كتاب أبي عبد الله.
فقال: ما هذا؟ فقلت: كتاب أحمد بن حنبل، فأخذه وقرأه، وقال: إني أحبه، وأحب حمزة بن الهَيْصَم البُوشنجي، لأنهما لم يختلطا بأمر السلطان. قال: فأمسك أبي عن مكاتبة إسحاق.
قال إبراهيم بن أبي طالب: سمعت أحمد بن سعيد الرِّباطي، يقول: قدمت على أحمد بن حنبل، فجعل لا يرفع رأسه إليَّ، فقلت: يا أبا عبد الله، إنه يُكتب عني بخُراسان، وإن عاملتني بهذه المعاملة رَمَوا حديثي، قال: يا أحمد، هل بُدُّ يوم القيامة من أن يقال: أين عبد الله بن طاهر وأتباعه؟ فانظر أين تكون منه.
قال عبد الله بن (1) بشر الطالقاني: سمعت محمد بن طارق البغدادي، يقول: قلت لأحمد بن حنبل: أستمِدُّ من محبرتك، فقال: لم يبلُغْ ورعي وورعك هذا، وتبسَّم.
قال المروذي (2): قلتُ لأبي عبد الله: الرجل يقال في وجهه: أحييتَ السنة، قال: هذا فسادٌ لقلبه.
الخلال: أخبرني محمد بن موسى، قال: رأيت أبا عبد الله، وقد
__________
(1) في (ب): عبد بن.
(2) من قوله: " قلت لأحمد " إلى هنا ساقط من (ب).(4/316)
قال له خُراساني: الحمد لله الذي رأيتُك، قال: أيُّ شيء ذا؟ من أنا؟
وعن رجل قال: رأيت أثر الغَمِّ في وجه أبي عبد الله، وقد أثنى عليه شخصٌ، وقيل له: جزاك الله عن الإسلام خيراً. قال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً. من أنا وما أنا؟!
الخلال: أخبرنا علي بن عبد الصمد الطيالسي، قال: مسحت يدي على أحمد، وهو ينظر، فغضب، وجعل ينفُضُ يدَه ويقولُ: عمَّن أخذتُم هذا.
وقال خطاب بن بشر: سألتُ أحمد عن شيء من الوَرَع، فتبيَّن الاغتمام عليه إزراءً على نفسه.
وقال المروذي: سمعتُ أبا عبد الله وذكر أخلاق الورعين، فقال: أسألُ الله أن لا يَمْقُتنا. أين نحنُ من هؤلاء؟!! ..
قال الأبَّار: سمعتُ رجلاً سأل أحمد، قال: حلفت بيمين (1) لا أدري أيش هي؟ فقال: ليتك إذا دَرَيْتَ دَريْتُ أنا.
قال إبراهيم الحَرْبي: كان أحمد يجيب في العرس والختان، ويأكل. وذكر غيره أن أحمد ربما استعفي من الإجابة. وكان إن رأي إناء فضة أو منكراً، خرج. وكان يحب الخمول والانزواء عن الناس، ويعودُ المريض، وكان يكرَهُ المشي في الأسواق، ويُؤثِرُ الوَحدة.
قال أبو العباس السراج: سمعت فتح بن نوح، سمعتُ أحمد، يقول: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحدٌ من الناس.
__________
(1) في (ب): " يمين "، وفي (أ): " يمين ما ".(4/317)
وقال الميموني: قال أحمد: رأيت الخلوة أروح لقلبي.
قال المروذي: قال لي أحمد: قل لعبد الوهاب: أخمل ذكرك، فإني أنا قد بُليتُ بالشهرة.
وقال محمد بن الحسن بن هارون: رأيت أبا عبد الله إذا مشى في الطريق، يكرَه أن يتبعه أحدٌ.
قلت: إيثارُ الخمول والتواضع، وكثرة الوَجَل من علامات التقوى والفلاح.
قال صالح بن أحمد: كان أبي إذا دعا له رجلٌ، يقول: الأعمال بخواتيمها.
وقال عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: وددت أني نجوت من هذا الأمر كَفافاً لا عَلَيَّ ولا لي.
وعن المروذي قال: أدخلتُ إبراهيم الحُصري على أبي عبد الله -وكان رجلاً صالحاً- فقال: إن أمي رأت لك مناماً، هو كذا وكذا. وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا. وخرج إلى سفك الدماء. وقال: الرُّؤيا تسُرُّ المؤمن ولا تغُرُّه.
قال المروذي: بال أبو عبد الله في مرض الموت دماً عبيطاً، فأريته الطبيب، فقال: هذا رجل قد فتَّت الغمُّ أو الخوف جوفه.
ورُوي عن المروذي، قال: قلت لأحمد: كيف أصبحت؟ قال: كيف أصبح من ربُّه؟ يُطالبُه بأداء الفرائض، ونبيُّه يطالبه بأداء السنة، والملَكَان يطالبانه بتصحيح العمل، ونفسه تطالبه بهواها، وإبليس يطالبه بالفحشاء، وملك الموت يراقب قبض روحه، وعياله يطالبونه بالنفقة؟!(4/318)
الخلال: أخبرنا المروذي، قال: مررت وأبو عبد الله متوكىء على يدي، فاستقبلتنا امرأة بيدها طُنبور، فأخذته فكسرته، وجعلت أدوسه، وأبو عبد الله واقفٌ منكس الرأس. فلم يقُل شيئاً، وانتشر أمر الطُّنبور.
فقال أبو عبد الله: ما علمت أنك كسرت طُنبوراً إلى الساعة.
قال الميموني: قال لي القاضي محمد بن محمد بن إدريس الشافعي: قال لي أحمد: أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم (1) سَحَراً.
وعن إبراهيم بن هانىء النيسابوري، قال: كان أبو عبد الله حيث توارى من السلطان عندي. وذكر من اجتهاده في العبادة أمراً عجيباً. قال: وكنتُ لا أقوى معه على العبادة، وأفطَرَ يوماً واحداً، واحتَجَمَ.
قال الخلال: حدثنا محمد بن علي، حدثنا العباس بن أبي طالب: سمعت إبراهيم بن شماس، قال: كنت أعرف أحمد بن حنبل وهو غلامٌ وهو يُحيي الليل.
قال محمد بن رجاء: حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: لما قدم أبو زرعة نزل عند أبي، فكان كثير المذاكرة له، فسمعت أبي يقول يوماً: ما صليت اليوم غير الفريضة. استأثرت بمذاكرة أبي زرعة على نوافلي.
وعن عبد الله بن أحمد، قال: كان في دهليزنا دكانٌ، إذا جاء من يُريد أبي أن يخلو معه، أجلَسه ثمَّ، وإذا لم يُرد، أخذ بعِضَادَتي الباب، وكلَّمه. فلما كان ذات يوم، جاءنا (2) إنسان، فقال لي (3): قل: أبو
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (د): " جاءه "، وفي " السير": " جاء ".
(3) ساقطة من (أ).(4/319)
إبراهيم السائح. قال: فقال أبي: سلَّم عليه، فإنه من خيار المسلمين. فسلمت عليه، فقال له أبي: حدثني (1) يا أبا إبراهيم. قال: خرجت إلى موضع، فأصابتني علة، فقلت: لو تقربت إلى الدير لعلَّ من فيه من الرهبان يُداويني. فإذا بِسَبُع عظيمٍ يقصدني، فاحتملني (2) على ظهره حتى ألقاني عند الدير. فشاهد الرُّهبان ذلك فأسلموا كلهم. وهم أربع مئة. ثم قال لأبي: حدثني يا أبا عبد الله. فقال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا أحمد، حُجَّ، فانتبهت، وجعلت في المِزْوَدِ فتيتاً، وقصدت إلى الكوفة. فلمَّا تَقَضَّى بعضُ النهار، إذا أنا بالكوفة. فدخلت الجامع، فإذا أنا بشابٍّ حسن الوجه، طيب الريح. فسلمت وكبرت، فلما فرغت من صلاتي، قلت: هل بقي من يخرج إلى الحج؟ فقال: انتظر حتى يجيء أخٌ من إخواننا، فإذا أنا برجلٍ في مثل حالي. فلم نزل نسير (3)، فقال له (4) الذي معي: رحمك الله، ارفُق بنا. فقال الشاب: إن كان معنا أحمد بن حنبل، فسوف يرفق بنا. فوقع في نفسي أنه خَضِر (5)، فقلت للذي معي: هل لك في الطعام؟ فقال: كل مما تعرف، وآكل مما أعرف. فلما أكلنا، غاب الشاب. ثم كان يرجع بعد فراغنا. فلما كان بعد ثلاث، إذا نحن بمكة.
هذه حكاية منكرة.
قال أبو يعلى: نقلتُ من خط أبي إسحاق بن شاقْلا: أخبرني عمر
__________
(1) في (د): حدثنا.
(2) في (أ): " فحملني "، وفي (ج): " فأنزلني ".
(3) في (ج) و (د): يزل يسير.
(4) " له " ساقطة من (ج).
(5) في " السير ": الخضر.(4/320)
بن علي، حدثنا جعفر الرزاز جارنا، سمعت أبا جعفر محمد بن المدني (1)، سمعت عبد الله فذكرها. فلعلَّها من وضع الرزاز.
أنبؤونا عن ابن الجوزي، أخبرنا عبد الوهاب بن المبارك، أخبرنا المبارك بن عبد الجبار، أخبرنا إبراهيم بن عمر البرمكي، أخبرنا محمد بن إسماعيل الوراق، حدثنا عبد الله بن إسحاق البَغَوي، حدثنا أبو جعفر محمد بن يعقوب الصفار، قال: كنا عند أحمد، فقلت: ادع الله لنا.
فقال: اللهم إنك تعلم أنك لنا على (2) أكثر مما نحِبُّ، فاجعلنا لك على ما تحبُّ. اللهم إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين} [فصلت: 11]. اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلاَّ إليك، ومن الذل إلاَّ لك.
رواتها أئمةٌ إلى (3) الصفار، ولا أعرفه. وهي منكرة.
أخبرنا عمر بن القوَّاس، عن الكندي، أخبرنا الكرُوخيُّ، أخبرنا شيخ الإسلام الأنصاري، أخبرنا أبو يعقوب، أخبرنا زاهر بن أحمد، حدثنا علي بن عبد الله بن مُبَشِّر: سمعت الرمادي، سمعت عبد الرزاق، وذكر أحمد، فدمعت عينه. وقال: قدم وبلغني أن نفقته نَفِدَتْ، فأخذت عشرة دنانير، وعرضتُها عليه، فتبسم، وقال: يا أبا بكر، لو قبلت شيئاً من الناس، قبلت منك. ولم يقبل مني شيئاً.
الخلال: أخبرني أبو غالب علي بن أحمد، حدثني صالح بن أحمد، قال: جاءتني حُسْن، فقالت: قد جاء رجل بتلِّيسة (4) فيها فاكهة
__________
(1) في السير: المولى.
(2) ساقطة من (د).
(3) في (أ): إلاَّ.
(4) وعاء يسوى من الخوص.(4/321)
يابسة، وبكتاب. فقمت فقرأت (1) الكتاب، فإذا فيه: يا أبا عبد الله، أبضعت لك بضاعة إلى سمرقند، فربحت، فبعثت بذلك إليك أربعة آلاف، وفاكهة أنا لقطُتها من بستاني ورِثته من أبي. قال: فجمعت الصبيان ودخلنا، فبكيتُ وقلتُ: يا أبة، ما ترِقُّ لي من أكل الزكاة؟ ثم كشف عن رأس الصبية، وبكيت. فقال: من أين علمت؟ دع حتى أستخير الله الليلة. قال: فلما كان من الغد. قال: استخرتُ الله، فعزم لي أن لا آخُذَها. وفتح التلِّيسة ففرَّقَها على الصبيان. وكان عنده ثوبٌ عُشاري، فَبَعَثَ به إلى الرجل، وردَّ المال.
عبد الله بن أحمد: سمعت فوران، يقول: مَرِضَ أبو عبد الله، فعاده الناس، يعني: قبل المئتين. وعاده عليُّ بن الجَعْد، فترك عند رأسه صُرَّة (2)، فقلت له عنها، فقال: ما رأيت. اذهب فردَّها إليه.
أبو بكر بن شاذان: حدثنا أبو عيسى أحمد بن يعقوب، حدثتني فاطمة بنت أحمد بن حنبل، فقالت: وقع الحريق في بيت أخي صالح، وكان قد تزوج بغنية، فحملوا إليه جهازاً شبيهاً بأربعة آلاف دينار، فأكلته النار فجعل صالح، يقول: ما غمَّني ما ذهب إلاَّ ثوبٌ لأبي. كان يصلي فيه أتبرَّك به وأُصلِّي فيه. قالت: فطُفِىء الحريق، ودخلوا فوجدُوا الثوب على سرير قد أكلت النار ما حولَه وسَلِم.
قال ابن الجوزي: وبلَغَني عن قاضي القضاة علي بن الحسين الزينبي أنه حكى أن الحريق وقع في دارهم، فأحرق ما فيها إلاَّ كتاباً كان
__________
(1) في (د): وقرأت.
(2) ساقطة من (د).(4/322)
فيه شيء بخطِّ الإمام أحمد. قال: ولمَّا وقعَ الغرق ببغداد في سنة 554 (1)، وغرقت كتبي، سَلِمَ مجلدٌ فيه ورقتان بخط الإمام.
قلت: وكذا استفاض وثبت أن الغرق الكائن بعد العشرين وسبع مئة ببغداد عام على حفائر (2) مقبرة أحمد، وأن الماء دخل في الدِّهليز عُلُو ذِراعٍ، ووقف بقدرة الله، وبقيت الحصر حول قبر الإمام بغُبارها، وكان ذلك آيةً.
أبو طالب: حدثنا المروذي: سمعت مجاهد بن موسى، يقول: رأيت أحمد، وهو حدث، وما في وجهه طاقة، وهو يُذكَرُ.
وروى حَرَمِي بن يونس، عن أبيه: رأيت أحمد أيامَ هُشيمٍ وله قَدْر.
قال أحمد بن سعيد الرِّباطي سمعت أحمد بن حنبل، يقول: أخذنا هذا العلم بالذُّلِّ فلا ندفعه إلاَّ بالذل.
محمد بن صالح بن هانىء: حدثنا أحمدُ بن شهاب الإسفراييني: سمعتُ أحمد بن حنبل، وسُئِلَ عمَّن نكتب في طريقنا، فقال: عليكم بهَنَّاد، وبسفيان (3) بن وكيع، وبمكة ابن أبي عمر، وإيّاكم أن تكتُبوا، يعني: عن أحدٍ من أصحاب الأهواء، قليلاً ولا كثيراً. عليكم بأصحاب الآثار والسُّنن.
عبد الله بن أحمد: كتب إليَّ الفتحُ بن شَخْرَف (4) أنَّه سمع
__________
(1) في الأصول: " أربع وخمس مئة "، والمثبت من " السير "، وهو الصواب.
(2) في " السير ": مقابر.
(3) في (ب): وسفيان.
(4) في (أ) و (د): شحرب.(4/323)
موسى بن حِزام الترمذي، يقول (1): كنت أختلفُ إلى أبي سليمان الجوزجاني في كتب محمد، فاستقبلني أحمد، فقال: إلى أين؟ قلت: إلى أبي سليمان. فقال: العجبُ منكم! تركتُم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، يزيد عن حُميد، عن أنس، وأقبلتم على ثلاثة إلى أبي حنيفة، رحمه الله. أبو سليمان، عن محمد، عن أبي يوسف، عنه! قال: فانحدرت إلى يزيد بن هارون.
ابن عدي: أخبرنا عبد الملك بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد: سمعت أبي، يقول: والله لقد أعطيت المجهود من نفسي، ولَوَدِدْتُ أني أنجو كفافاً.
الحاكم: حدثنا أبو علي الحافظ: سمعت محمد بن المسيب، سمعت زكريا بن يحيى الضرير، يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مُفتياً؟ يكفيه مئة ألف حديث؟ فقال: لا. إلى أن قال: فيكفيه خمس مئة ألف حديث؟ قال: أرجو.
تقدم قول الذهبي في قول أبي زرعة: إن محفوظ أحمد كان ألف ألف حديث، كانوا يعُدُّون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي وما فسر، ونحو ذلك، وإلاَّ فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عُشْرَ معشار ذلك انتهى.
ثم ذكر الذهبي سيرة أحمد في الفتنة، وما جَرَى معه مع (2) المأمون من الحبس قليلاً، ثم مات المأمون قبل امتحان أحمد، ثم وَلِيَ
__________
(1) من قوله: " كتب الي " إلى هنا كتب مكانها في (ج): قال.
(2) ساقطة من (ب).(4/324)
المعتصم، وضَرَبَه الضرب الشديد، حتى ظنَّ أنه يموت، فأخرجه لكي لا يموت في حبسه، فتثُور عليه العامة، ثم وَلِيَ الواثق فَنَهَى أحمد أن يُساكِنَه بأرضٍ، فاختفي مُدَّة حياته، ثم وَلِيَ المتوكِّلُ، وقد اختصرت (1) ما ذكره الذهبي في المحنةِ لطوله، فإنَّه ساقه في ست عشرة (2) ورقة، وإن كان فيه أعظمُ دليل على شِدَّةِ وَرَعِ هذا الإمام وتقواه، وبذله للروح فما دونه في مرضاةِ الله.
وقال الذهبي بعد ذلك: العجب من أبي القاسم علي بن الحسن الحافظ، كيف ذكر ترجمة أحمد مطوَّلةً كعوائده، ولكن ما أورد من أمر المحنة كلمةً مع صحة أسانيدها، فإنَّ حنبلاً ألَّفها في جزأين، وكذلك صالح بن أحمد وجماعة.
فصلٌ في حال (3) أحمد في دولة المتوكل
قال حنبل: وَلِيَ المتوكل جعفرٌ، فأظهر الله السُّنَّة، وفرَّج عن الناس، وكان أبو عبد الله يحدثنا ويُحدِّث أصحابه في أيام المتوكل.
وسمعته يقول: ما كان الناس إلى الحديث والعلم أحوج منهم إليه في زماننا.
إلى أن قال:
فلما كان بعد أيام بينا نحن جلوسٌ بباب الدار، إذ بيعقوب أحد حجاب المتوكل قد جاء، فاستأذن على أبي عبد الله، فدخل، ودخل أبي
__________
(1) في (ب): فاختصرت.
(2) في (أ) و (ب) و (د): " ستة عشر "، والتصويب من (ج).
(3) في (ج) و (د): حالة.(4/325)
ومع بعضِ غلمانه بَدْرَةٌ (1)، ومعه كتابُ المتوكل. فقرأه على أبي عبد الله: فأبى أن يَقْبَل المال، وقال: ما لي إليه حاجة. فقال: اقبل من أمير المؤمنين، فإنه خيرٌ لك عنده، فإنَّه إن رددتَه (2)، خِفتُ أن يظن بك سُوءاً. فحينئذٍ قَبِلَها، فلما كان من الليل، إذا أُمُّ ولد أبي عبد الله تدُقُّ (3) علينا الحائط، فخرجنا، فدخلنا عليه، فقال: يا عم، ما أخذني النوم، لأجل هذا المال، وجعل يَتَوَجَّعُ لأخذِه، وأبي يُسكِّنُه (4) ويُسهِّلُ عليه.
وقال: حتى تُصبح، وترى فيه رأيك. فإن هذا ليل، والناس في المنازل، وخرجنا. فلما كان من السحر، وجَّه إلى عبدوس بن مالك، وإلى الحسن ابن البزار وحضر جماعةٌ، منهم: هارون الحمال، وأحمد بن منيع، وابنُ الدَّوْرَقي، وأبي، وأنا، وصالح، وعبد الله.
فجعلنا نكتب من يذكرونه من أهل السِّتْرِ والصلاح ببغداد والكوفة، فوجَّه منها إلى أبي كريب، وللأشج وإلى من يعلمون حاجته، ففرَّقها كلها ما بين الخمسين إلى المئة وإلى المئتين، فما بقي في الكيس درهم.
فلما كان بعد ذلك، مات الأمير إسحاق بن إبراهيم وابنه محمد. ثم ولي بغداد عبد الله بن إسحاق، فجاء رسوله إلى أبي عبد الله، فقرأ عليه كتاب المتوكل، وقال له: يأمرك بالخروج يعني: إلى سامَرَاء. فقال: أنا شيخٌ ضعيفٌ عليل. فكتب بما ردَّ عليه، فردَّ جواب الكتاب: أن أمير المؤمنين يأمره بالخروج. فوجَّه عبد الله أجناداً، فباتوا على بابنا أياماً،
__________
(1) البَدْرة: كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار.
(2) في (ب): رددت.
(3) في (أ): يدق.
(4) في (ب): سكنه.(4/326)
حتى تَهَيَّأ أبو عبد الله للخروج، فخرج ومعه صالح وعبد الله وأبي زُمَيْلَة (1).
قال صالح: كان حمل أبي إلى المتوكل سنة سبعٍ وثلاثين. ثمَّ [و] (2) إلى أن مات أبي قلَّ يومٌ يمضي إلاَّ ورسول المتوكل يأتيه.
قال حنبل: فأخبرني أبي، قال: دخلنا إلى العسكر، فإذا نحن بموكبٍ عظيم مُقبل، فلما حاذى بنا، قالوا: هذا وصيفٌ، وإذا بفارس مقبل، فقال لأبي عبد الله: الأمير وصيفٌ يُقرئُك السلام، وقال: إن الله قد أمكنك من عدوِّك، يعني: ابن أبي دُوَاد، وأمير المؤمنين يقبل منك، فلا تَدَعْ شيئاً إلاَّ تكلمت به. فما رد عليه أبو عبد الله شيئاً. وجعلت أنا أدعو لأمير المؤمنين ولوصيف. ومضينا، فأُنزلنا في دار إيتاخ، قال: حوَّلوني، اكترُوا لي داراً. قالوا: هذه دارٌ أنزلَكَها أمير المؤمنين، قال: لا أبيتُ ها هنا. ولم يزل حتى اكترينا له داراً. وكانت تأتينا في كل يوم مائدة فيها ألوان يأمر بها المتوكل والثلج والفاكهة وغير ذلك، فما ذاق منها شيئاً، ولا نظر إليها. وكان نفقة المائدة في اليوم مئةً وعشرين درهماً.
وكان يحيى بن خاقان، وابنه عبيد الله، وعليُّ بن الجهم (3) يختلفون إليه برسالةِ المتوكل. ودامت العلة بأبي عبد الله، وضعف شديد. وكان يواصل، ومكث ثمانية أيام لا يأكل ولا يشرب، ففي الثامن دخلت عليه، وقد كاد أن يُطفَأ، فقلت: ابن الزبير كان يواصلُ سبعة أيام، وهذا لك ثمانية أيام. قال: إني مُطيقٌ. قلت: بحقي عليك.
__________
(1) الزُّمْلَة -بضم الزاي وسكون الميم-: الرفقة، فالظاهر أن هذا تصغيرها.
(2) من " السير ".
(3) تحرفت في (ب) إلى: الجهضم.(4/327)
قال: فإنِّي أفعل. فأتيته بسويق فشَرِبَ. ووجَّه إليه المتوكل بمال عظيم، فرده، فقال له عبيد الله بن يحيى: فإن أمير المؤمنين يأمرك أن تدفعها إلى ولدك وأهلك (1). قال: هم مستغنون، فردَّها عليه [فأخذها] (2) عبيد الله، فقسمها على ولده، ثم أجرى المتوكل على أهله وولده في كل شهر أربعة آلاف. فبعث إليه أبو عبد الله: إنهم في كفاية، وليست بهم حاجة (3). فبعث إليه المتوكل: إنما هذا لولدك، فما لك ولهذا؟ فأمسك أبو عبد الله، فلم يزل يُجري علينا حتى مات المتوكل.
وجرى بين أبي عبد الله وبين أبي كلام كثير. وقال: يا عم، ما بقي من أعمارنا. كأنك بالأمر قد نزل. فالله الله، فإن أولادنا إنَّما يريدون أن يأكلوا بنا، وإنما هي أيامٌ قلائل، وإنما هذه فتنة. قال أبي: فقلت: أرجو أن يَؤمِّنك الله مما تحذر. فقال: كيف وأنتم لا تتركون طعامهم ولا جوائزهم؟ ولو تركتموها، لتركوكم. ما ننتظر إنما هو الموت. فإما إلى جنةٍ، وإمَّا إلى نار. فطُوبى لمن قَدِمَ على خير. قال: فقلت: أليس قد (4) أمرت ما جاءك من هذا المال من غير إشراف (5) نفس، ولا مسألةٍ إن تأخذه؟ قال: قد أخذت مرة بلا إشراف نفس، فالثانية (6) والثالثة؟ ألم تستشرف نفسُك؟ قلت: أفلم يأخذ ابن عمر وابن عباس؟ فقال: ما هذا وذاك! وقال: لو أعلمُ أن هذا المال يُؤخذُ من وجْهِه، ولا يكون فيه ظُلمٌ
__________
(1) ساقطة من (د).
(2) زيادة من " تاريخ الإسلام ".
(3) ساقطة من (د).
(4) ساقطة من (ب).
(5) مكانها بياض في (ب).
(6) ساقطة من (ب).(4/328)
ولا حَيْف لم أُبالِ.
قال حنبل: ولمَّا طالت عِلَّةُ أبي عبد الله، كان المتوكلُ يبعث بابن ماسويه المتطبِّب، فيصفُ له الأدوية، فلا يتعالج. ويدخل ابن ماسويه، فقال: يا أمير المؤمنين ليست بأحمد عِلَّةٌ، إنما هو من قلة الطعام، والصيام والعبادة، فسكت المتوكل.
وبلغ أمَّ المتوكل خبر أبي عبد الله، فقالت لابنها: أشتهي أن (1) أرى هذا الرجل، فوجَّه المتوكل إلى أبي عبد الله، يسألُه أن يدخل على ابنه المعتز، ويدعو له ويسلم عليه، ويجعله في حجره. فامتنع، ثم أجاب رجاء أن يُطلَق، فوجه إليه المتوكل خِلْعَةً، وأَتَوه بدابةٍ يركبها فامتنع، وكانت عليه مِيثرَةَ نُمُورٍ. فقدم إليه بغلٌ لتاجر، فركبه (2)، وجلس المتوكل مع أمه في مجلسٍ من المكان، وعلى المجلس سِترٌ رقيق.
فدخل أبو عبد الله على المعتز (3)، ونظر إليه المتوكل وأمه. فلما رأته، قالت: يا بني، الله الله في هذا الرجل، فليس هذا ممن يريد ما عندكم، ولا المصلحة أن تحبسه عن منزله، فائذنْ له ليذهب، فدخل أبو عبد الله على المعتز، فقال: السلام عليكم، وجلس، ولم يسلم عليه بالإمْرَة ققال مؤدِّبه: أصلح الله الأمير، هذا هو الذي أمره (4) أمير المؤمنين يُؤدِّبُك ويعلِّمك؟ فقال الصبي: إن علمني شيئاً، تعلمتُه! قال أبو عبد الله: فعجبت من ذكائه وجوابه على صغره، وكان صغيراً.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) من قوله: " خلعة " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) من قوله: " وعلى المجلس " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) ساقطة من (ب).(4/329)
ودامت علة أبي عبد الله، وبلغ المتوكل ما هو فيه، وكلمه يحيى بن خاقان، وأخبره أنه رجلٌ لا يريد الدنيا، فأذن له في الانصراف، فانصرف.
وكان ربما استعار الشيء من منزلنا ومنزل ولده، فلما صار إلينا من مال السلطان ما صار، امتنع من ذلك حتى لقد وُصِفَ له في علته قرعة تُشوى، فشُويت في تنُّور صالح، فعلم، فلم يستعملها ومثل هذا كثير.
وقد ذكر صالح قصة خروج أبيه إلى العسكر، وتفتيش بيوتهم على العَلَوي، وورود يعقوب بالبَدْرَة، وأن بعضها كان مئتى دينار، وأنه بكى، وقال: سلِمْتُ منهم، حتى إذا كان في آخر عمري، بُليتُ بهم.
وذكر أنه فرق (1) الجميع، ونحن في حالةٍ، الله بها عليم. فجاءني ابنٌ لي فطلب درهماً، فأخرجت قطعة، فأعطيته، فكتب صاحب البريد: إنه تصدَّق بالكل ليومه حتى بالكيس.
قال عليُّ بن الجهم: فقلت: يا أمير المؤمنين، قد تصدَّق بها (2)، وعلم الناس أنه قَبِلَ منك، وما يصنع أحمد بالمال؟! وإنما قُوتُه رغيفٌ. قال: صدقت.
قال صالح: ثم أخرج أبي ليلاً ومعنا حراسٌ، فلمَّا أصبح، قال: أمعك دراهم؟ قلت: نعم. قال: أعطهم. وجعل يعقوب يسير معه، فقال له: يا أبا عبد الله، ابن الثلجي بلغني أنه كان يذكرك. قال: يا أبا يوسف، سَلِ الله العافية. قال: يا أبا عبد الله، تريدُ أن نؤدِّيَ عنك
__________
(1) في " السير " فرق.
(2) في (ب): بالكل.(4/330)
رسالةً إلى أمير المؤمنين؟ فسكت، فقال: إن عبد الله بن إسحاق أخبرني أن الوابِصِيَّ (1)، قال له: إني أشهد عليه أنه قال: إن أحمد يعبُدُ ماني (2)! فقال: يا أبا يوسف يكفي الله، فغضب يعقوب، والتفت إلي فقال: ما رأيت أعجب مما نحن فيه. أساله أن يُطلَق لي كلمةً أُخبِرُ بها أميرَ المؤمنين، فلا يفعل!!
قال: ووجَّه يعقوب إلى المتوكل بما عمل، ودخلنا العسكر، وأبي منكسُ الرأس، ورأسهُ مُغطَّى. فقال له يعقوب: اكشف رأسك، فكشَفَه. ثم جاء وصيفٌ يريد الدار، ووجَّه إلى أبي بيحيى بن هَرْثَمَة (3)، فقال: يُقرِئُك أمير المؤمنين السلام، وقال: الحمد لله الذي لم (4) يُشمِّتْ بك أهل البِدَع، قد علمت حال ابن أبي دواد، فينبغي أن تتكلَّم (5) فيه بما يجبُ لله.
إلى قوله: وجعل يعقوب وغياث يصيران إليه، ويقولان له: يقول لك أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دُوَاد وفي ماله فلا يجيبُ بشيءٍ إلى قوله:
__________
(1) هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن صخر، من ولد وابصة بن معبد وكان يتولَّى قضاء بغداد. مات سنة 249 هـ. له ترجمة في تاريخ بغداد 14/ 52 - 53، و" التهذيب " 6/ 322 - 323.
(2) ماني هو أحد نبهاء الفرس، وقد ظهر في القرن الثالث الميلادي في إيران، وانتقل إلى الهند للتبشير بمذهبه، إلاَّ أن ملك الهند سابور الثاني قام بإعدامه. ومذهبه مزيج من معتقدات الزرادشتية والنصرانية والبوذية، كالإيمان بالصراع بين إلهين اثنين: إله الخير والنور، وإله الظلمة والشر، وإباحة نكاح الأخوات والبنات ... ولقد انتشرت المانوية في فارس، والهند، والتيبت، والصين، وتركستان، حيث بقيت حتى القرن الحادي عشر الميلادي.
(3) في (أ) و (ج): أبي يحيى بن هزيمة، وهو تحريف.
(4) " لم " ساقطة من (أ).
(5) في (ب): تكلم.(4/331)
ثم قال يعقوب: إن لي ابناً أنا به مُعجب، وإنَّ له في قلبي مَوْقِعاً، فأُحِبُّ أن تُحَدِّثَهُ بأحاديث، فسكت. فلما خرج، قال: أتراه لا (1) يرى ما أنا فيه؟!! ..
وكان يختم القرآن من جمعة إلى جمعة، فلمَّا كان غداة الجمعة، وجَّه إليَّ وإلى أخي. فلمَّا ختم، جعل يدعو ونحن نؤمِّن. فلما فرغ (2)، جعل يقول: أستخير الله مراتٍ. فجعلت أقول: ما تريدُ؟ ثم قال: إني (3) أُعطي الله عهداً، إن عهده كان مسؤولاً، وقال (4) تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] إني (5) لا أحدِّث بحديثٍ تمامٍ أبداً حتى ألقى الله، ولا أستثني منكم أحداً، فخرجنا، وجاء عليُّ بن الجهم فأخبرناه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: إنما تريدون أحدِّث، ويكون هذا البلد حبسي، وإنما كان سبب الذين أقاموا بهذا البلد لما أُعطوا فقبلوا، وأُمروا فحدَّثوا، والله لقد تمنيتُ الموت في هذا وذاك.
إن هذا فتنة الدنيا، وذاك فتنة الدين، ثم جعل يضُمُّ أصابعه، ويقول: لو كانت تفسي في يدي لأرسلتها [ثم يفتح أصابعه] (6).
وكان المتوكل يُكثرُ السؤال عنه، وفي خلال ذلك يأمر لنا بالمال، ويقول: لا يُعلَمُ شيخُهم فيَغْتَمَّ، ما يريد منهم؟ إن كان هو لا يريد الدنيا، فلِمَ يمنعهم؟!
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) قوله: " ونحن نؤمن، فلما فرغ " ساقط من (ب).
(3) في (د): أبي.
(4) في (أ): فقال.
(5) في (ب): وإني.
(6) ما بين حاصرتين من " تاريخ الإسلام ".(4/332)
وقال للمتوكل: إنه لا يأكل طعامك، ولا يجلسُ على فِراشك، ويُحرِّم الذي تشرب. فقال: لو نُشر لي المعتصم، لقال فيه شيئاً، لم أقبل منه.
ثم ذكر الذهبي من شدة منعه لأولاده من قبول الأموال شيئاً عجباً (1) إلى قوله: أنبؤونا عمَّن سمع أبا علي المُقرىء، أخبرنا أبو نعيم (2)، حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: كتب عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى أبي يخبره أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إليك أسألك عن القرآن، لا مسألة امتحان، لكن مسألة معرفة وتبصرة. فأملى عليَّ أبي: إلى عُبيد الله بن يحيى، بسم الله الرحمن الرحيم، أحسن الله عاقبتك أبا الحسن في الأمور كلها، ودفع عنك المكاره برحمته، قد كتبتُ إليك، رضي الله عنك، بالذي سأل عنه أمير المؤمنين بأمر القرآن بما حضرني، وإني (3) أسال الله أن يُديمَ توفيق أمير المؤمنين، فقد كان الناس في خوضٍ من الباطل، واختلافٍ شديد ينغمسون فيه (4)، حتى أفضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين، فنفي الله به كلَّ بدعة، وانجلى عن الناس ما كانوا فيه من الذل وضيق المحابس (5). ووقع ذلك من المسلمين موقعاً عظيماً، ودَعُوا الله لأمير المؤمنين [وأسأل الله أن يستجيب في أمير
__________
(1) في (ب): عجيباً.
(2) صاحب " حلية الأوياء "، والخبر فيه 9/ 216 - 219، ورواها ابن الجوزي في " المناقب " ص 377 - 379 بإسناده لأبي نعيم، ولكن اختصرها، ولم يسق نصها كاملاً.
(3) في (د): وأنا.
(4) قوله: " ينغمسون فيه " ساقطة من (ب).
(5) في " الحلية ": " ضيق المجالس "، وما هنا موافق لابن الجوزي.(4/333)
المؤمنين صالح الدعاء، وأن يُتمَّ ذلك لأمير المؤمنين] (1) وأن يزيد في نيته، وأن يُعْينَه على ما هو عليه. فقد ذكر عن ابن عباس أنه قال: لا تَضرِبُوا كتاب الله بعضه ببعضٍ، فإنه يُوقِعُ الشك في قلوبكم.
وذُكِرَ عن عبد الله بن عمرو، أن نفراً كانوا جلوساً عند باب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضُهم: ألم يقل [الله] (2) كذا، وقال بعضهم، ألم يقل الله كذا (3)؟ فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فخرج كأنما فُقِىءَ في وجهه حَبُّ الرُّمان، فقال: " أبهذا أُمِرتُم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلَّت الأمم قبلكم في (4) مثل هذا، انظروا الذي أُمِرتُم به، فاعملوا به، والذي نُهِيتُم عنه، فانتهوا عنه " (5).
ورُوي عن أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ["مراءٌ في القرآن كفرٌ" (6)
__________
(1) ما بين حاصرتين من " تاريخ الإسلام "، و" الحلية ".
(2) الزيادة من " تاريخ الإسلام ".
(3) ساقطة من (د).
(4) في (ب): من.
(5) تقدم تخريجه 3/ 238.
(6) أخرجه أحمد 2/ 286 و300 و424 و475 و503 و528، وأبو داود (4603) في السنة: باب النهي عن الجدال في القرآن، والآجري في " الشريعة " ص 67 وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 215 وسنده حسن، وصححه ابن حبان (73)، والحاكم 2/ 223، ووافقه الذهبي.
واختلفوا في تأويل هذا الحديث، فقيل: معنى المراء: الشك، كقوله سبحانه وتعالى: {فلا تَكُ في مِرْيةٍ}، أي: في شك. وقيل المراء: هو الجدال المشكك، وذلك أنه إذا جادل فيه، أداه إلى ما يرتاب في الآي المتشابهة منه، فيؤديه ذلك إلى الجحود فسماه كفراً باسم ما يُخشى من عاقبته، إلاَّ من عصمه الله. ومن حق الناظر في القرآن أن يجتهد في التوفيق بين الآيات برد المتشابهات إلى المحكمات، والجمع بين المختلفات ظاهراً ما أمكنه، فإنَّ القرآن يصدِّق بعضه بعضاً، فإن أشكل عليه شيء من ذلك، ولم يتيسَّر له التوفيق، فليعتقد =(4/334)
وروي عن أبي جهيم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:] (1) " لا تَمَارَوْا في القرآن، فإنَّ مراءٌ فيه كفر " (2).
وقال ابن عباس: قدم رجلٌ على عمر، فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، قد قرأ القرآن منهم كذا وكذا. فقال ابن عباس: فقلت: والله ما أُحِبُّ أن يسارعوا يومهم في القرآن هذه المسارعة. فزَبَرَني عُمر، وقال: مه. فانطلقت إلى منزلي كئيباً حزيناً، فبينا أنا كذلك، إذ أتاني رجلٌ، فقال: أجِبْ أميرَ المؤمنين. فخرجت، فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخذَ بيدي، فخَلاَ بي، وقال: ما الذي كرهتَ؟ قلت: يا أمير المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعة، يحتَقُّوا (3)، ومتى
__________
= أنه من سوء فهمه، وليكله إلى عالمه، وهو الله ورسوله. وتأوله بعضهم على المراء في قراءته، وهو أن ينكر بعض القراءات المروية، وقد أنزل الله القرآن على سبعة أحرف، فتوعدهم بالكفر لينتهوا عن المراء فيها، والتكذيب بها، إذ كلها قرآن منزل يجب الإيمان به، ويشهد لهذا التفسير حديث أبي جهيم الآتي. وقيل: إنما جاء هذا في الجدال بالقرآن من الآي التي فيها ذكر القدَر والوعيد وما كان في معناهما على مذهب أهل الكلام والجدل، دون ما كان منها في الأحكام وأبواب الإباحة والتحريم، فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قد تنازعوها فيما بينهم، وتحاجُّوا بها عند اختلافهم، في الأحكام. ويشهد لهذا التفسير حديث عبد الله بن عمرو المتقدم، فقد وقع عند أحمد 2/ 296، وابن ماجة (85) أن تنازعهم كان في القدر.
(1) ما بين حاصرتين ساقط من الأصول، وهو من " السير "، و" السنة " ص 22.
(2) أخرجه أحمد 4/ 170 من طريق أبي سلمة الخزاعي، حدثنا سليمان بن بلال، حدثني يزيد بن خُصَيْفَة، أخبرني بسر بن سعيد قال: حدثني أبو جهيم أن رجلان اختلفا في آية من القرآن، فقال هذا: تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال الآخر: تلقيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسألا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " القرآن يقرأ على سبعة أحرف، فلا تُماروا في القرآن، فإنَّ مراءً في القرآن كفر "، وإسناده صحيح.
وفي الباب عن عمرو بن العاص عند أحمد 4/ 204.
وعن زيد بن ثابت في الطبراني 5/ (4916). وقال الهيثمي في " المجمع " 1/ 157: ورجاله موثقون.
وعن عبد الله بن عمرو عند الآجُري في " الشريعة " ص 68.
(3) أي: يقول كل منهم: الحق في يدي ومعي.(4/335)
يحتَفُّوا (1) يختصموا، ومتى يختصِمُوا يختلفوا، ومتى ما اختلفُوا يقتتلوا.
قال: لله أبوك، والله إن كنتُ لأكتُمها الناس، حتى جئت بها (2).
ورُوي عن جابر، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يعرض نفسه على الناس (3) بالموقف، فيقول: " هل مِنْ رجُلٍ يحمِلُني إلى قومه، فإنَّ قريشاً قد منعُوني أن أُبَلِّغ كلام ربِّي " (4).
ورُوي عن جُبَير (5) بن نُفَير، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّكُم لن ترجعوا إلى الله بشيءٍ أفضَلَ ممَّا خَرَجَ منه " يعني: القرآن (6).
__________
(1) قوله: " يحتقوا ومتى " ساقطة من (ب).
(2) أخرج الخطيب في " الجامع " 2/ 194 من طريق محمد بن الحسن القطان، أخبرنا دَعْلَج بن أحمد، أخبرنا محمد بن علي بن زيد الصائغ، أخبرنا سعيد بن منصور حدثهم قال: حدثنا هُشيم، أخبرنا العوَّام بن حوشب، حدثنا إبراهيم التميمي قال: خلا عمر بن الخطاب ذات يوم، فجعل يُحَدِّث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس قال: كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد، ونبيها واحد، وقبلتها واحدة، قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنما أُنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيمَ نزل، وإنه يكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن، ولا يعرفون فيمَ نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قومٍ فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا، اقتتلوا، فزبَرَه عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ثم دعاه بعد، فعرف الذي قال، ثم قال: إيهِ، أعِدْ عليَّ.
وذكره صاحب " الكنز " (4167) وزاد نسبته إلى " سنن سعيد بن منصور "، و" شعب الإيمان " للبيهقي.
(3) في (د): على الناس نفسه.
(4) أخرجه أبو داود (4734)، والترمذي (2925)، وابن ماجة (201)، والحاكم 2/ 612 - 613 وأحمد 3/ 390 من طرق عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر. وإسناده صحيح. وقال الترمذي: هذا حديث غريب صحيح.
(5) تحرف في (د) إلى جابر.
(6) أخرجه الترمذي (2912)، وأحمد في " الزهد " ص 35 وفي " السنة " ص 26 من طريق عبد الرَّحمن بن مهدي، عن معاوية، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير بن نفير، ورجاله ثقات، وأعلَّه البخاري في " خلق أفعال العباد " ص 99 بالإرسال والانقطاع. =(4/336)
ورُوي عن ابن مسعود، قال: جرِّدوا القرآن، لا تكتبوا فيه شيئاً إلاَّ كلام الله (1).
وروي عن عمر أنه قال: هذا القرآن كلام الله، فضَعوهُ مواضعه (2).
وقال رجل للحسن: يا أبا سعيد، إنِّي إذا قرأتُ كتاب الله، وتدبَّرته، كِدتُ أن أيأسَ، وينقطعَ رجائي، فقال: إن القرآن كلام الله، وأعمالُ ابن آدم إلى الضعف والتقصير، فاعمل وأبشر (3).
__________
= قلت: ووصله الحاكم 1/ 555 من طريق أحمد في حنبل، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة، عن جبير عن أبي ذر الغفاري. و2/ 441 ومن طريق عبد الله بن صالح عن معاوية في صالح، عن العلاء بن الحارث، عن زيد بن أرطاة عن جبير بن نفير، عن عقبة بن عامر الجهني. وقال: هما صحيحا الإسناد، ووافقه فيهما الذهبي.
وفي الباب عند الخطيب في " تاريخه " 7/ 88 و12/ 220 من طريق في ليث بن أبي سليم، عن زيد بن أرطاة، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أَذِنَ الله لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما، وإنَّ البِرَّ ليُذَرُّ على رأس العبد ما دام في صلاته، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه " يعني: القرآن، وذكره صاحب " الكنز " (2366) ونسبه إلى ابن السني.
(1) أخرجه ابن أبي داود في " المصاحف " ص 154 - 155 من طرق عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله: " جردوا القرآن، ولا تلبسوا به ما ليس منه "، ومنها بلفظ: " جردوا القرآن ولا تخلطوا به ما ليس فيه "، وآخر بلفظ: " جردوا القرآن ولا تلبسوا به شيئاً ".
(2) أخرجه البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 242 - 243 وأحمد في " السنة " ص 27، والشريعة ص 77 من طريق أبي الزعراء (وقد تحرف في البيهقى إلى: الزهراء) عبد الله بن هانىء، ومجاهد، والزهري قالوا: قال عمر: " القرآن كلام الله ". وزاد الآجري: " فلا تضربوه على آرائكم ".
(3) أخرجه أحمد في " السنة " ص 29، من طريق هارون بن عبد الله أبي موسى عن عبد الأعلى بن سليمان الزراد، عن صالح المري قال: أتى رجلٌ الحسن فقال له: يا أبا سعيد ...
وأخرج البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 244 - 245 من طريق أبي الحسن المقري عن أبي عمرو الصفار، عن أبي عوانة الإسفراييني عن عثمان بن خرزاد، عن معاوية الغلابي =(4/337)
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنتُ جاراً لخبَّاب، فخرجتُ يوماً معه إلى المسجد، وهو آخذٌ بيدي، فقال: " يا هَنَاه، تَقَرَّب إلى الله بما استطعتَ، فإنَّك لن تتقرَّب إليه بشيءٍ أحبَّ إليه من كلامه" (1).
وقال رجلٌ للحَكَمَ: ما حمل أهل الأهواء على هذا؟ قال: الخصومات.
وقال معاويةُ بن قُرَّة: إياكم وهذه الخصومات (2)، فإنها تحبط الأعمال.
وقال أبو قِلابة: لا تُجالسوا أهل الأهواء، أو قال: أصحاب الخصومات. فإنِّي لا آمَنُ أن يَغمِسوكم في ضلالتهم (3)، ويُلبِسوا عليكم بعض ما تعرفون.
ودخل رجلان من أصحاب (4) الأهواء على محمد بن سيرين، فقالا: يا أبا بكر، نحدثُك بحديث؟ قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية؟ قال: لا. لَتَقومانِّ عني، أو لأقومَنَّهْ، فقاما. [فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما عليك أن يقرأ عليك آية؟ قال ... ] (5). وقال (6):
__________
= عن صالح المري قال: سمعت الحسن يقول: القرآن كلام الله تعالى إلى القوة والصفاء، وأعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير.
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 273 ت 3.
(2) من قوله: " وقال معاوية " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ب): ضلالهم.
(4) في (ب): أهل.
(5) ما بين الحاصرتين من " تاريخ الإسلام ".
(6) في (ب) و (د): فقال:(4/338)
خَشِيتُ أن يقرأ آية فيحرفاها (1)، فَيَقَرَّ ذلك في قلبي.
وقال رجُلٌ من أهل البدع لأيوب: يا أبا بكر أسألُك عن كلمة؟ فولَّى، وهو يقول بيده: لا، ولا نصف كلمة.
وقال ابن طاووس لابنٍ له يكلمه رجلٌ من أهل البدع: يا بُني أَدْخِلْ
أصبعيْك في أُذُنيك حتى لا تسمع ما يقُول. ثم قال: اشْدُد اشدد (2).
وقال عمر بن عبد العزيز: مَن جعل دينه غرضاً (3) للخصومات، أكثر التنقل.
وقال إبراهيم النَّخَعي: إن القوم لم يُدَّخَرْ عنهم شيء خُبِّىء (4) لكم لفضلٍ (5) عندكم.
وكان الحسنُ يقول: شرُّ داءٍ خالط قلباً، يعني: الأهواء.
وقال حذيفةُ: اتَّقُوا الله، وخُذوا طريق مَنْ كان قبلكم، والله لئِنِ استَقَمْتُمْ، لقد سَبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتُموه يميناً وشمالاً، لقد ضللتم ضلالاً بعيداً، أو قال: مبيناً.
قال أبي: وإنما تركت الأسانيد لما تقدم من اليمين التي حَلَفْتُ بها مما قد علمه أمير المؤمنين، ولولا ذاك، ذكرتها بأسانيدها. وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}
__________
(1) في الأصول و" السير ": فيحرفانها، والتصويب من " السنة " ص 24.
(2) في الأصول: " اسدُد اسدد " والمثبت من " السير " و" السنة ".
(3) في الأصول: عرضاً، والمثبت من " السير " و" السنة ".
(4) ساقطة من (ب)، وفي (ج) و (د): " حتى "، وهو تحريف.
(5) في (ب): " الفضل "، وهو خطأ.(4/339)
[التوبة: 6]. وقال: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]. فأخبَرَ أن الأمر (1) غيرُ الخلق. وقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَان} [الرحمن: 1 - 4]. فأخبر أن القرآن من عِلْمه. وقال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]. وقال: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} [البقرة: 145]. إلى قوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 145]. فالقرآن من علم الله.
وفي الآيات دليلٌ على أن الذي جاءه هو القرآن. وقد روي عن السلف أنهم كانوا يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق (2)، وهو الذي أذهب إليه، لست بصاحب كلام، ولا أرى الكلام في شيء من هذا إلاَّ ما كان في كتاب الله، أو في حديثٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو عن أصحابه، أو عن التابعين. فأما غير ذلك، فإن الكلام فيه غير محمود (3).
فهذه الرسالة إسنادُها كالشمس، فانظر إلى هذا النَّفَس النوراني، لا " كرسالة الإصطخري " (4)، ولا " كالرد على الجهمية " الموضوع على
__________
(1) في (ب): " الخلق " وهو خطأ.
(2) انظر " الأسماء والصفات " للبيهقي ص 243 - 258، و" السنة " للإمام أحمد ص 21.
(3) نص الرسالة كاملة في " السنة " للإمام أحمد ص 21 - 26.
(4) هو أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله الفارسي الإصطخري. ورسالته هذه المتضمنة لمذاهب أهل العلم ومذاهب الأثر، رواها عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل.
وقد ذكرها بتمامها القاضي أبو الحسين في " طبقات الحنابلة " 1/ 24، 36، وفيها من العبارات ما يخالف ما عليه السلف، ممَّا يستبعد صدوره من مثل هذا الإمام الجليل، كقوله =(4/340)
أبي عبد الله (1)، فإن الرجل كان تقياً ورعاً لا يَتَفَوَّه بمثل ذلك. وكذلك رسالة المُسيء (2) في الصلاة باطلةٌ، وما ثَبَتَ عنه أصلاً وفرعاً، ففيه كفاية.
ومما ثبت عنه مسألة الإيمان، وقد صَنَّفَ فيها.
قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الإيمان قول
__________
= فيها: " وكلم الله موسى تكليماً من فيه " و" ناوله التوراة من يده إلى يده ". وربما كان ذلك مدعاة للمؤلف أن يطعن في صحة نسبتها إلى الإمام أحمد. ونص كلام المؤلف في " تاريخ الإسلام ": " ... قلت: رواة هذه الرسالة عن أحمد أئمة أثبات، أشهد بالله أنه أملاها على ولده، وأما غيرها من الرسائل المنسوبة إليه كرسالة الإصطخري، ففيها نظر. والله أعلم ".
(1) يرى الذهبي المؤلف أن كتاب " الرد على الجهمية " موضوع على الإمام أحمد. وقد شكك أيضاً في نسبة هذا الكتاب إلى الإمام أحمد بعض المعاصرين في تعليقه على " الاختلاف في اللفظ، والرد على الجهمية " لابن قتيبة. ومستنده أن في السند إليه مجهولاً، فقد رواه أبو بكر غلام الخلال، عن الخلال، عن الخَضِر بن المثنى، عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه ... والخضر بن المثنى هذا مجهول، والرواية عن مجهول مقدوح فيها، مطعون في سندها. وفيه ما يخالف ما كان عليه السلف من معتقد، ولا يتسق مع ما جاء عن الإمام في غيره مما صح عنه وهذا هو الذي دعا الإمام الذهبي هنا إلى نفي نسبته إلى الإمام أحمد. ومع ذلك، فإن غير واحد من العلماء قد صححوا نسبة هذا الكتاب إليه، ونقلوا عنه، وأفادوا منه، منهم القاضي أبو يعلى، وأبو الوفاء بن عقيل، والإمام البيهقي، وابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، وتوجد من الكتاب نسخة خطية في ظاهرية دمشق، ضمن مجموع رقم (116)، وهي تشتمل على نص " الرد على الجهمية " فقط، وهو نصف الكتاب، وعن هذا الأصل نشر الكتاب في الشام، بتحقيق الأستاذ محمد فهر الشقفة.
ومما يؤكد أن هذا الكتاب ليس للإمام أحمد أننا لا نجد له ذكراً لدى أقرب الناس إلى الإمام أحمد بن حنبل ممن عاصروه وجالسوه، أو أتوا بعده مباشرة وكتبوا في الموضوع ذاته كالإمام البخاري ت 256 هـ، وعبد الله بن مسلم بن قتيبة ت 276 هـ، وأبي سعيد الدارمي ت 280. والإمام أبو الحسن الأشعري قد ذكر عقيدة الإمام أحمد في كتابه " مقالات الإسلاميين "، ولكنه لم يشر إلى هذا الكتاب مطلقاً، ولم يستفد منه شيئاً.
(2) يغلب على الظن أنه يريد الرسالة الموسومة بـ " الصلاة "، وقد طبعت في مصر بتحقيق حامد الفقي. وكثير من الأئمة الذين ينتمون إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ينقلون عنها، ويحتجون بما فيها.(4/341)
وعمل، ويزيد وينقص، البِرُّ كله من الإيمان، والمعاصي تنقص الإيمان.
أقول: هذا لفظُ الذهبي، ونصه بحروفه من خطه (1) المعروف، لكن فيه شيء مصلح بغير خطه، وأحسبُه لبعض المبتدعة، وقد حذفتُه، وهو ما لفظه: " ولعله قاله " صلَّحه عقيب قول الذهبي، فإن الرجل كان تقياً، ورعاً، لا يتفوَّهُ بذلك، وكان مكان هذا اللفظ المصلح لفظ غيره بخط الذهبي، وبدله بما يناقض كلام الذهبي، وما خَفِيَ ذلك ولله الحمد لوجوه:
أحدها: الكشط الواضح.
وثانيها: الخط المخالف.
وثالثها: المعنى المناقض لما قبله، ولما بعده، ولما تكرر من نحو ذلك في غير هذا الموضع.
من ذلك قول الذهبي بعد هذا بقليل.
أنبؤونا عن محمد بن إسماعيل، عن يحيى بن مندَة الحافظ أخبرنا أبو الوليد الدَّرْبَنْدي سنة (2) أربعين وأربع مئة، أخبرنا (3) أبو بكر محمد بن عبيد الله بن الأسود بدمشق، أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر النَّهاوَنْدي، حدثنا (4) أبو بكر محمد بن إبراهيم بن زُوران لفظاً، حدثنا (4)
__________
(1) في (ب): خط.
(2) مكررة في (د).
(3) من قوله " عن محمد بن إسماعيل " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) في (د): أخبرنا.(4/342)
أحمدُ بن جعفر الإصطخري (1)، قال (2): قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: هذا مذهب أهل العلم والأثر، فمن خالف شيئاً من ذلك أو عاب قائلها، فهو مُبتدع. وكان قولهم: إن الإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّةٌ، وتمسكٌ بالسنة، والإيمان يزيد وينقصُ، ومن زعم أن الإيمان قول، والأعمال شرائع، فهو جهميٌّ، ومن لم ير الاستثناء في الإيمان، فهو مُرجىء، والزنى والسرقة وقتل النفس، والشرك (3) كلها بقضاءٍ وقدرٍ من غير أن يكون لأحد على الله حجة. إلى أن قال: والجنة والنار خُلِقَتا، ثم خلق الخلقُ لهما، لا تفنيان، ولا يفنى ما فيهما أبداً. إلى أن قال: والله تعالى على العرش، والكرسيُّ موضعُ قدميه. إلى أن قال: وللعرش حَمَلَة. ومن (4) زعم أن ألفاظنا بالقرآن وتلاوتنا له مخلوقة، والقرآن كلام الله، فهو جهمي. ومن لم يكفِّره، فهو مثله. وكلم الله موسى تكليماً من فيه. إلى أن ذكر أشياء من هذا الأنموذج المنكر، والأشياء التي -والله- ما قالها الإمام. فقاتل اللهُ واضعَها. ومن أسمجِ ما فيها قوله: ومن زعم أنه لا يرى التقليد، ولا يُقلِّد دينه أحداً، فهذا قول فاسقٍ عدو لله. فانظر إلى جهل المحدثين كيف يروون هذه (5) الخُرافة، ويسكتون عنها (6).
__________
(1) هذه هي الرسالة التي أشار الذهبي إلى بطلانها كما في الصفحة السابقة، وهي مذكورة في " طبقات الحنابلة " 1/ 24 - 31.
(2) ساقطة من (د).
(3) في الأصول: " والترك "، والمثبت من " السير ".
(4) في (د): إلى أن قال: ومن.
(5) في (د): مثل هذه.
(6) رحم الله الإمام الذهبي، وجزاه عن الإسلام خيراً، فهو كما وصفه تلميذه الصلاح الصفدي 2/ 163 بأنه لم يكن عنده جمود المحدثين، ولا كودنة النقلة، بل هو فقيه، له دِرْية بأقوال الناس، ومذاهب الأئمَّة من السلف، وأرباب المقالات فهو لا يكاد يمر على حديث أو خبر في سنده ضعف أو في متنه نكارة حتى يعلق عليه، ويبين ما فيه بأسلوب علمي متزن.(4/343)
انتهى كلام الذهبي بنصِّه، وحروفِه، فقد بان لك تَصَلُّب هذا الحافظ المطَّلعِ على القطع بتنزيه هذا الإمام من هذه الحموقات، والمنكرات مع عدم مُداهنته، وسطعه بالحق حتى في مثالِبِ الأصدقاء، ومناقب الأعداء، فما رأيتُ له شبيهاً في ذلك، والله يُحِبُّ الإنصاف.
فإن قلت: ومن أين عَلِمَ صحة نفي ذلك عن أحمد حتى حَلَفَ عليه، والشهادة على النفي لا تَصِحُّ.
قلت: مثل ما يَعْلَمُ الزيديُّ كَذِبَ ذلك، لو وَجَدَهُ مسنداً إلى أئمته، وكذلك المعتزلي.
فإن قلت: إنَّ لأئمَّةِ الشيعة والمعتزلة من النصوص على ذلك ما يوجب القطع على براءتهم عن مثل هذا لو لُطِخُوا به.
قلت: هل تُريدُ أن كُلَّ أحدٍ من المكلفين يعلم براءتهم من ذلك وإن لم يشتغل بعلومِهم، ويُطَالِعْ كتبهم، ويَعْرِفْ نصوصَهم فهذا ممنوعٌ، أو تريد أن كل من اشتغل بمعرفة علومهم، ومطالعة كتبهم عرف ذلك، فهذا مسلمٌ، ولكن للذهبي في معرفة مذاهب الفقهاء، والمعلوم منها، والمظنون مثل ما لكم في معرفة مذاهب أئمتكم، ألا تراه حكى أن لأحمد بن حنبل كتاباً في نفي التشبيه في مجلدة، ثم ذكر سائر تواليفه، ومن رواها، وما يَصِحُّ منها عنه، وما لا يَصِحُّ إلى أمثال ذلك ممَّا يُفِيدُ شِدَّة العناية بمعرفة أحواله، فلا ينكر بمن بالغ في معرفة أمر أن يختصَّ فيه بما لا يعرفه سواه، لأن قرائن الأحوال إذا كثُرت، أفادت علوماً ضرورية لا يمكن التصريح بمستندها، كما تُميِّزُ حُمْرَةُ الخجل وصفرة الوَجَل (1) من غيرهما
__________
(1) في (ب) و (د): المرض.(4/344)
بالقرائن ونحو ذلك.
ولو لم يكن في ذلك من القرائن إلاَّ ما في قصة المِحنة لمن تأملها مما يدل على براءته من هذه العظائم، فإنهم حبسوا الإمام أحمد، وضربوه، وعذبوه على مسألة القرآن، وهي أسهل من مسائل التشبيه.
وكان ابن أبي داود عَدُوَّ أحمد يتمنى ما يُشَنِّعُ به عليه، فكيف يكون في عقل عاقل: قد تظاهر أحمد بالتشبيه الفظيع، ثم ما ضربوه عليه ولا عاقبوه من أجله مع تعرُّضِهم لذلك فيما هو أهونُ منه، ثم إنه عَرَضَ في مناظرتهم ذكر التشبيه، فألزموه ذلك، كما يُلزَمُ المنكرُ الممتنع، وذلك يفيدُ العلمَ بعدم ظهوره عنه، لا يُقالُ أنه ترك إظهار ذلك تَقِيَّةً، لأن من عرف أمرَ المحنة، عَلِمَ أنه لو كان مُتَاقياً لتاقى (1) في مسألة القرآن، فقد خاف القتل فيها، بل توعَّده المعتصم به غير مرة، وظن ذلك أحمد، بل كان أحبَّ إليه من التعذيب، فهذا مع ما تقدَّم من تأليفه في (2) نفي التشبيه، وروايات ثقات أهل مذهبه، وثناءِ من يُكفِّرُ المشبهة عليه من سائر أهل المذاهب أوضح دليل على براءته.
وأما الشهادة على النفي، فبابُ الشهادات غير ما نحن فيه، ولها أحكامٌ أُخَرُ.
وأما أحكامُ المسلمين فإنَّما يُرجَعُ فيها إلى الظواهر، ومتعلق القطع والظن فيها هو الظواهر غالباً، ويجوز القطعُ بالنفي في باب الحمل على السلامة، لقوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا
__________
(1) في (د): " متأتياً لتأتى " وهو تحريف.
(2) " تأليفه في " ساقطة من (ب).(4/345)
سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} (1) [النور: 16] وقوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].
ويلحق بهذا (2) فائدةٌ تتعلق بيان مقاصدهم في القرآن، فإن المغرب عنها إذا وقف على ما ذكرنا عنهم، قال بلسان الحال، أو بلسان المقال (3): كيف يَصِحُّ إنكارُهم لخلق القرآن، وقِدَمِه؟ وكيف كَفَّرُوا من قال: بخلقه؟ ولم يُكَفِّرُوا مَنْ قال: بحدوثه!! وهل (4) هذا إلاَّ محض الجهل ونقصانُ العقل؟!
ومن بلغ به الجهل إلى هذا الحد لم يكن معدوداً من العلماء ولا مذكوراً في (5) " النبلاء "، وكيف يمكن سلبُ الخلق والقِدَم معاً وهو يستلزم سلب النفي والإثبات وارتفاعهما عن الشيء الواحد وذلك من المحالات الضرورية، وأيُّ فرقٍ بين الخلقِ والحدوث حتى يكفر القائل بأحدِهما دون الآخر.
والجواب: من وجهينِ معارضةٌ وتحقيق:
أمَّا المعارضة، فللمعتزلة من المتكلمين مثل ذلك، فإن أبا (6) هاشم (7)، يقول: إن إرادة الله حادثةٌ غير مخلوقة، ولا قديمة، والبغدادية تقول مثل ذلك في جميع أفعال العباد، لأنَّ المخلوق عندهم ما فُعِلَ بغير
__________
(1) كذا الأصول، والآية الي بعدها كان يجب أن تذكر قبل هذه.
(2) من ص 213 إلى هنا ساقط من (ش).
(3) في (ب): بلسان المقال أو بلسان الحال.
(4) في (ش): فهل.
(5) في (ش): من.
(6) في (ش): أبو.
(7) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب. تقدمت ترجمته في 2/ 318.(4/346)
آلة، وكذا أفعالُ الله عند أبي عبد الله، لأن الخلق عنده الفكر.
الوجه الثاني: أنهم ما جَهِلُوا هذه العلوم الضرورية، والمعارف الأولية، التي لا يخلو مُكلَّفٌ من معرفيها، وإن كانوا ما حفظوا (1) اصطلاح أهل العقول في مجرد أسمائها الاصطلاحية، ولو كانوا مِمَّن يجهل جليات العقليات، ما صحَّ منهم استنباطُ الخفيات في الفقهيات (2)، فإليهم (3) المنتهى في الذكاء، وصفاء الأذهان، ومعرفة البرهان، وحفظ السنة والقرآن، ولكن العبارات مختلفةٌ منها: لغوية، واصطلاحية، وفصيحة، وركيكةٌ، وبسيطة، ووجيزة، وحقيقةٌ، ومجاز، وعامة، وخاصة (4)، وعامة (5) يُرادُ بها الخصوص، وخاصةٌ يُراد بها العموم، وجميع ذلك عربي شهير مستعملٌ كثير، بل اللغات عربية وعجمية، ومعربة وملحونة، ولكل أهل فنٍّ عُرْفٌ واصطلاح كما ذلك لكلِّ أهل زمنٍ (6) وبلد.
وما أحسن قول العلاَّمة القرطبي في " شرح مسلم ": إن أكثر (7) المتكلمين أعرَضُوا عن الطرق (8) التي أرشد الله إليها إلى طرقٍ مبتَدَعةٍ (9)، ومناقشاتٍ لفظيةٍ يَرِدُ بسببها على الأخذِ فيها شُبَهٌ يُعجَزُ عنها، وأحسنهم انفصالاَّ عنها (10) أجدلُهم، لا أعلَمُهم، فكمْ من عالمٍ بفساد الشُّبهة لا
__________
(1) في (ب): عرفوا.
(2) في (ش): العقليات.
(3) في (ش): فإنهم.
(4) في (ب): وخاصة وعامة.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): زمان.
(7) في (ش): جميع.
(8) في (ب): الطريق.
(9) تحرفت في (ش) إلى: مبينة.
(10) " انفصالاً عنها " ساقطة من (ش).(4/347)
يَقوَى على حلِّها، وكم مِن منفصلٍ عنها لا يُدرك حقيقة علمها.
ونحو هذا كلام الذهبي في " زغلِ العلم " (1) حين ذكر علم المنطق والجدل، وفي كلامه ما معناه: أنها علوم يتمكن الماهر فيها من نُصرة الباطل، وترجيجه على الحقِّ، وإن كان يعلمُ أنه مبطلٌ.
قلت: و (2) ذلك بالنسبة إلى بعض الناس ممَّن يُصغي إلى الوِسواس، فلا فرق بين وسواس الشيطان، وشُبَهِ اليونان، إلاَّ أن هؤلاء شياطين الإنس، وأولئك شياطين الجن يُوحي بعضهم إلى بعضٍ زُخرفَ القول غُروراً.
وَرَوَى الذهبي في " الميزان " (3) في ترجمة أبي اليمان الحكم بن نافعٍ الحمصي، عن النواس بن سمعان مرفوعاً: " لا تُجادلوا بالقرآن، [ولا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض] (4) فوالله إن المؤمن ليُجَادل بالقرآن فيُغلَبُ، وإن المنافق ليُجَادِلُ بالقرآن فيَغْلِبُ " (5). ثم قال: غريبٌ جداً مع قُوةِ إسناده.
قلت: وهذا بغير شكٍّ في بعض المؤمنين، لقوله: {وجَادِلْهُمْ بِالتي هي أحْسَنُ} [النحل: 125] وغير ذلك.
وإذا كان هذا في الجدال بالقرآن، فكيف بعلوم اليونان، فيجب
__________
(1) زغل العلم ص 43 (طبعة مكتبة الصحوة الإسلامية) في الكويت.
(2) "الواو" ساقطة من (ب).
(3) 1/ 581.
(4) ما بين حاصرتين من " الميزان ".
(5) أخرجه الديلمي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن جده، كما ذكر في " الكنز " (2859).(4/348)
على من لا يُحْسِنُ الجدالَ عن الحق تركُه.
فإذا تقرَّر هذا، فاعلم أنَّ أصل الخلاف في مسألة القرآن في زمن التابعين، وذلك أن المسلمين ما زالوا على أنَّ الله تعالى متكلمٌ (1)، وأن له كلاماً (2) على ظاهر ذلك (3) من غير تأويلٍ ولا تشبيهٍ (4)، تصديقاً للنُّصوص القرآنية، مثل قوله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164]، وقوله سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بعضٍ منهُم مَنْ كَلَّمَ اللهُ} [البقرة: 253] برفع الله، أي: من كلَّمه الله (5)، وهي من أبين الآيات في الفرق بين الوحي والكلام، لأن الله أوحى إلى كُلِّ نبيٍّ، وخصَّ بعضهم بالتكليم (6)، وفضَّله بذلك.
وقوله تعالى: {وإنْ أحدٌ من المشركين استجارَكَ فأجِرْهُ حتى يسمَعَ كلامَ اللهِ} [التوبة: 6].
وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174].
__________
(1) في (ب): تكلم.
(2) في (ش): كلام.
(3) في (ب): ظاهره.
(4) في (ش): شبه.
(5) " أي من كلمه الله " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): بالمتكلم وفضله بالتكليم.(4/349)
وقال في الذين يشترون بعهد الله ثمناً قليلاً نحو ذلك.
وقال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143].
وذكر في غير آيةٍ من كتاب الله ما كلَّم به موسى مثل قوله: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12] وقوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 13 - 14].
وقال تعالى: {يسمعون كلام الله (1) ثم يحرِّفونه} [البقرة: 75].
وقال: {يُريدُونَ أن يبدِّلوا كلامَ الله} [الفتح: 15].
وقال: {اتلُ ما أُوحِيَ إليكَ مِنْ كِتابِ ربِّكَ لا مُبدِّل لكلماتِه} [الكهف: 27]، وقال: {لا تبديلَ لكلمات الله} [يونس: 64].
وقال: {ويُريدُ الله أن يُحِقَّ الحقَّ بكلماتِه ويقطعَ دابرَ الكافرين} [الأنفال: 7]، وقال: (ويُحِق الله الحقَّ بكلماته ولو كَرِهَ المُجرمُون} [يونس: 82].
وقال: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربيِّ لَنَفِدَ البحرُ قبل أن تنفَدَ كلماتُ ربِّي} [الكهف: 109]، وقال: {ولو أنَّ ما في الأرضِ
__________
(1) هنا زيادة في (ش): لا يشك عاقل أن المراد بنحو (حتى يسمع كلام الله) هو المسموع من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتلو الذي أجمع الصحابة على تدوينه وكتابته في المصاحف.(4/350)
من شجرةٍ أقلامٌ والبحرُ يمُدُّهُ مِنْ بعدِه سبعةُ أبحُرٍ ما نَفِدَتْ كلماتُ الله} [لقمان: 27].
وقال: {ولكن حقَّت كلمةُ العذابِ على الكافرين} [الزمر: 71]، وقال: {إنَّ الذين حقَّت عليهم كلمةُ ربِّك لا يُؤمنون ولو جاءتهُم كُلُّ آية حتى يَرَوُا العذابَ الأليم} [يونس: 96 - 97]، وقال: {وتمَّت كلمةُ ربِّك لأملأنَّ جهنَّم} [هود: 119]، وقال: {وتمَّت كلمةُ ربِّك الحُسنَى على بني إسرائيلَ بما صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
وجاء في الأخبار النبوية، والآثار الصحابية من هذا ما لا يُحصى، وتكرَّر وشاع بين الخاصة والعامة، فاقتضى العلم الضروري بأنه على ظاهرِهِ بهذه القرينة، كما ثَبَتَ في نظائره، وكذلك نسبة القول إلى الله، وهو والكلامُ عبارتان عن معنىً واحدٍ، فمنه قوله سبحانه: {قال اللهُ يا عيسى} [آل عمران: 55]، وقال: {فالحَقُّ والحقَّ أقُولُ} (1) [ص: 84]، وقال: {ولكن حَقَّ القولُ مني} [السجدة: 13]، وقال: {لقد حَقَّ القولُ على أكثرِهم} [يس: 7].
وقال: {ومَن أصدقُ مِنَ اللهِ قيلا} [النساء: 122]، وقال: {ومَن أصدَقُ مِنَ اللهِ حديثاً} [النساء: 87]، وقال: {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58]، وقال: {قولُهُ الحقُّ} [الأنعام: 73]، وقال: {وإذْ قالَ ربُّك للملائكةِ} [البقرة 30]، {وقُلنا يا آدمُ اسكُنْ أنت وزوجُك الجنةَ} [البقرة: 35].
__________
(1) في (ب): {فالحقُّ والحق أقول لأملأنَّ جهنم}.(4/351)
وذُكِرَ في غير موضعٍ ما كلَّم الله به ملائكته (1) ورسله وعباده، وقال الله تعالى حاكياً عن الملائكة: {قالوا ماذا قال ربُّكُم قالوا الحقَّ وهو العلي الكبير} [سبأ: 23].
وقال: {يومَ يجمَعُ الله الرُّسُل فيقولُ ماذا أُجِبْتُم} [المائدة: 109]، وقال: {ويومَ يُناديهم فيقولُ ماذا أجبتُمُ المُرسَلينَ} [القصص: 65] وفي هذه الآية لفظ المناداة (2).
وكذلك لفظ السؤال قد ورد في قوله تعالى: {فلنسألنَّ الذين أُرسِلَ إليهم ولنسألنَّ المُرسَلِينَ} [الأعراف: 6].
وكذا ما ورد في القرآن على صيغة {يا عبادِ لا خوفٌ عليكم اليوم} (3) [الزخرف: 68]، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} (4) [الأنفال: 64]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 104]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21].
بل قال تعالى في الاحتجاج على بطلان ربوبية عِجْلِ السامري: {أفلا يَرَوْنَ أن لا يَرْجِعَ إليهِمْ قولاً ولا يملِكُ لهُم ضَرّاً ولا نَفْعَاً} [طه: 89]، فدلَّ ذلك على أن من صفات الله الواجبة أن يكون متكلماً كلاماً حقيقياً، فكيف يَجِبُ عكس ذلك، ويُكَفَّرُ مَنْ قاله.
وقال: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
__________
(1) في (ش): الملائكة.
(2) في (ش): المباداة.
(3) في (ش): { ... اليوم ولا أنتم تحزنون}.
(4) " يا أيُّها النبي " ساقطة من (ب).(4/352)
هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: 63 - 67].
وفيها أن من لا ينطق كمن لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع، وأنه لما نبَّهَهُم (1) على ذلك عرفوا أنه حقٌّ {فقالوا إنَّكُم أنتُم الظالمون ثم نُكِسُوا} فجحدوا الحُجَجَ الواضحة، أشار إليه الزمخشريُّ (2).
إلى سائر ما وَرَدَ في الأخبار والآثار من ذلك مما (3) قد أشار (4) أحمد بن حنبل إلى بعضه في كتابه المُقدَّم إلى المتوكل، وذكر البيهقي منه طَرَفاً صالحاً في كتاب " الأسماء والصفات " (5)، فآمن المسلمون (6) ولم يعتقدوا فيه المجاز، ولا التشبيه، كلما آمَنوا بكلام الجمادات من غير تَجَوُّزٍ ولا تشبيهٍ، فإنه ليس للجمادات من أدوات الكلام ما للإنسان.
فإذا صحَّ الكلام في الجماد (7) بالنصِّ والإجماع من الصدر الأول، والمحققين من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم مع عدم شبهه (8) للإنسان في أدوات الكلام، وكان ذلك حقيقةً غير مجاز، لم يمتنِعُ مثلُه في حقِّ الله تعالى، ويكون كلامه سبحانُه مُخالِفاً لكلام جميع المخلوقات، كما أنَّ إرادته عند كثيرٍ من المعتزلة فعلٌ له تعالى لا تُوصَفُ بأنها قديمةٌ، ولا
__________
(1) في (ب): " ينههم ".
(2) انظر " الكشاف " 2/ 577.
(3) في (ش): ما.
(4) في (ش): أشار إليه.
(5) انظر " الأسماء والصفات " ص 181 - 208 و216 - 222.
(6) تحرف في (ش) إلى: من المسلمين.
(7) في (ب): الجمادات.
(8) في (ش): الشبهة.(4/353)
مخلوقة، وتُوجِبُ له صفة، ويختصُّ به، ولا توجد في غيره، ولا تُوصَفُ بالحلول فيه، وهي حقيقةٌ غير مجاز، ممن قال بذلك أبو هاشم.
فما المانع من مثل ذلك في كلامه؟ وما الفرق الضروري من الدين بين كلامه في الإرادة، وكلام الظاهرية في القرآن حتى يكفروا به؟
قال الله تعالى في كلام الجمادات: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
وقال تعالى: {وسخَّرنَا مع داودَ الجبالَ يُسَبِّحنَ والطيرَ} [الأنبياء: 79].
وقال تعالى: {ولقد آتينا دَاوُدَ مِنَّا فضلاً يا جبالُ أوبي معه والطير} (1) [سبأ: 10].
وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5].
ومثل كلام الجمادات كلام الأعضاء التي ليست لها أدواتٌ، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 20 - 21].
والحجة في قوله تعالى: {الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} عامةٌ في الجماد وغيره.
__________
(1) من قوله: " وقال تعالى ولقد " إلى هنا ساقط من (ب).(4/354)
وقال سبحانه: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65].
فكان المسلمون في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وصدراً من زمن التابعين يُؤمنون بجميع هذه الأشياء على حقائقها مع علمهم باختلاف الكلام والمتكلمين (1)، فليس كلام الإنسان الناطق باللسان مثل كلام الجمادات، والأعضاء، ولا كلام ربِّ العالمين مثل كلام (2) شيء من خلقه أجمعين.
فلمَّا حدثت بدعة الكلام والنظر على أساليب الفلاسفة والمشي وراء الخيالات العقلية، قالت المعتزلة وكثيرٌ من المتكلمين: إنَّ جميع ما تلوناه من كتاب الله تعالى من إضافة الكلام إليها، وكذلك القول وما في معناهما من المناداة، والسؤال، كله تشبيه لله تعالى بخلقه، وذمٌّ له عز وجل، وقدحٌ في ربوبيته، وكفرٌ به، وإلحادٌ في أسمائه إلاَّ أن يُتَأوَّل على ما لا تُساعِدُ عليه قواعدُ التأويل، ولا تبقى معه جلالة صوادع التنزيل، وسبحان الله أيكون أحدٌ أعرف بالله وأكره لما لا يليق به من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهله وأصحابه وتابعيهم. فكيف يسمعون ما ظاهره الكفر والإلحاد في أسماء الله والتشبيه له بخلقه، ولا يُنَبِّهُون (3) على تأويله أحداً من المتعلمين، ولا من المسلمين أجمعين. والعلمُ الضروريُّ يقتضي في كل ما شاع مثل هذا في أعصارهم، ولم يذكُرْ أحدٌ منهم (4) له تأويلاً البتة أنه على ظاهره على (5)
__________
(1) في (ش): والمتكلم.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): ينهون.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ب): في.(4/355)
حسبِ ما يليقُ بجلال الله من غير تشبيهٍ كعلم الله وقدرته، فإنهما صفتا كمالٍ بالإجماع.
ولو قلنا: إنهما كعلم الخلق وقُدرتهم كان تشبيهاً قبيحاً، وكفراً صريحاً (1)، ومع ذلك فلا يَجِبُ تأويلُ ما ورد في الشرع من وَصْفِ الله تعالى بأنه عالمٌ قادر، ونحو ذلك من الحي السميع البصير.
فتأمَّل هذه القاعدة التي ذكرتها لك فيما استفاضَ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استفاضةً متواترةً شائعةً (2)، ولم يُذكر له تأويل البتة، فإنها تميز لك الصحيح من العقائد من المُبتدَعِ الفاسد.
وقال: من اعتقد استحالة الكلام من الله تعالى، أنه سبحانه لا يوصف بالقدرة على صدوره من ذاته، ولا تُضافُ إليه إلاَّ إضافة تشريفٍ كبيتِ (3) الله، وناقةِ الله، فاعتقد المجاز (4) في قوله تعالى: {وكلَّم اللهُ موسى تَكلِيماً} [النساء: 164]، واعتقدَ أن الحقيقة أن الله تعالى خَلَقَ الكلام في الشجرة المباركة التي ذكرها الله في كتابه، وأن الكلام صَدَرَ منها لا يصح غيرُ ذلك، وكانت النصوص القرآنية على عصر (5) التابعين على جلالتها لم تتبدَّل بكثرة التأويل، فعظُمَ على التابعين أن يكون ظاهرُ قول الله: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} قبيحاً وضلالاً مع أن الله سبحانه نسبه إلى ذاته المقدسة، واحتج على بطلان ربوبية العجل
__________
(1) " وكفراً صريحاً " ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): للتشريف ككتب.
(4) في (ش): الكلام المجاز.
(5) في (ش): عهد.(4/356)
والأصنام بعدمه، لا بعدم القدرة على خلقه في غيرها.
وكذلك بقوله: {تكليماً} مع ما شَهِدَ (1) لصحته من سائر الآيات والآثار وإجماع الصحابة على وصف الله تعالى بأنه متكلمٌ، وله كلامٌ من غير إشعارٍ بتأويل، فجَهَرُوا بتكفير من قال ذلك، إما لاعتقادهم أنه مُكَذِّبٌ (2) لهذه الآيات، أو أن كلامه يؤولُ إلى التكذيب، ولم يكُن قد عَرَضَ في زمن الصحابة و (3) التابعين ذكر الكلام النفسي وقدمه، فلم يذكر أحدٌ منهم هذه المسألة، وإنما كان كلامهم في اللفظيِّ الذي لم يقُل بقِدَمِه طائفةٌ من طوائِفِ المسلمين البتة، وإن شذَّ بذلك بعض المحدثين كما شذَّ أبو علي الجُبَّائي شيخ الاعتزال، فإنه قد شارك هذه الطائفة المخالفة للضرورة في شُبَهِهِم، ووقع من الرِّكَّة في مثلِ ركتِهم حيث قال: إن حكايته لكلام الله تعالى هي كلامه المبتدأ المعجِزُ، ثم انتهى به التدقيق إلى أن المسموع من القارىء شيئان.
أحدهما: كلامه.
والثاني: كلام الله تعالى، فأثبت حرفين مسموعين غير الصوت، حكاه عنه ابنُ متويه في " تذكرته " (4).
فإذا كان هذا ضلال إمام النظارين، فأيُّ ملامةٍ على شواذِّ (5)
__________
(1) في (ب): يشهد.
(2) في (ش): مكذوب.
(3) في (ش): أو.
(4) هو أبو محمد الحسن بن أحمد بن متويه، له كتب مشهورة " كالمحيط في أصول الدين "، و" التذكرة في لطيف الكلام ". انظر " باب ذكر المعتزلة من كتاب المنية والأمل في شرح الملل والنحل " لأحمد بن يحيى بن المرتضى ص 71.
(5) في (ش): سواد.(4/357)
المحدثين مع أنَّ كلام المنصور بالله يقتضي اختيار قوله في أن التلاوة هي المتلوُّ.
وكذا ذَهَبَ أبو عليٍّ إلى بقاء الكلام في الكتابة، وكمونه (1) فيها، وأنه غيرُ الصوت، فإذا قارَنَه الصوتُ سُمِعَ، وإلاَّ كَمَنَ وبَقِيَ غيرَ مسموع.
فقد بان لك الآن أن من أنكرَ قِدَمَ القرآن وخلقه، فلم يَقْصِدْ رفع النفي والإثبات، ولا جهلَ الضرورات، وإنما قَصَدَ أن الكلام الذي سَمِعَه موسى هو كلام الله على الحقيقة لا كلام الشجرة، فإنه لو كان مخلوقاً في الشجرة، كان كلام الشجرة على الحقيقة، وإنْ كان خلقاً لله، كما أنَّ الأعضاء لمَّا أنطقها الله يوم القيامة بدليلِ قولها: {أنطَقَنَا اللهُ الذي أنْطَقَ كُلَّ شيءٍ} [فصلت: 21] كان ذلك كلامَها لا كلام الله، فلذلك استشهدَها الله، ونسبَ (2) الشهادة إليها، وقال: {شَهِدَ عَلَيْهِم سمعُهُم وأبصَارُهُم} [فصلت: 20].
ومن قال بقِدَم القرآن فلم يقصِد قِدَمَ الأصوات والحروف المتعاقبة، وإنما قَصَدَ قدم الكلام النفسي الذي المرجعُ به عند المعتزلة إلى الإرادة أو العلم، كما ذلك مقررٌ في كُتُبِ الكلام.
وقد روى الذهبي عن اللالكائي في " السنة " (3): حدثنا المخلصُ، حدثنا أبو الفضل شعيبُ بن محمد، حدثنا علي بن حرب بسام، سمعتُ شُعيبَ بن حرب، يقول: قلت لسفيان الثوري: حدِّث بحديثٍ في السنة
__________
(1) في (ش): وبكونه.
(2) في (ش): فنسب.
(3) 2/ 151.(4/358)
ينفعني الله به، فإذا وقفتُ بين يديه، وسألني (1) عنه، قلت: يا رب، حدثني بهذا سفيان، فأنجو أنا، وتُؤخذ (2). قال: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، منه بدأ وإليه يعودُ، مَن قال غير ذلك فهو كافرٌ.
وقال الذهبي: هذا ثابتٌ عن سفيان، وشيخ المخلص ثقة، ذكره في ترجمة الثوري من " التذكرة " (3).
وفي " الجامع الكافي " نحو هذا عن الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليه السلام إمام الزيدية في الكوفة فإنه قال: قال و (4) الله {يا موسى إنَّني أنا اللهُ لا إله إلاَّ أنا فاعبُدني} [طه: 14] فمن زعم أن الداعي إلى عبادته غير الله فقد ضل .. انتهى. وسيأتي مع أقوال سائر أهل البيت عليهم السلام.
وهذا الجنس هو المعروف عن التابعين، وأئمة السنة من دون اعتقادٍ للقِدَمِ، كما ذكر الذهبي في ترجمة أحمد بن حنبل من " النبلاء " (5)، وابن تيمية في " منهاج السنة النبوية ".
ولا شَكَّ أن القول بخلق القرآن بدعةٌ، وأمَّا (6) أنه كفرٌ فقد أطلقه جماهيرُ أئمة السنة وجِلَّتهم، وبعضُ أئمةِ أهل البيت كما سيأتي. ثم
__________
(1) في (ب): وسئلت.
(2) في (ش): " وتؤخر "، وفي " السنة " للالكلائي: " وتؤاخذ ".
(3) " تذكرة الحفاظ " 1/ 206 - 207.
(4) "الواو" ساقطة من (ش).
(5) كما تقدم في محنته.
(6) " أما " ساقطة من (ش).(4/359)
اختلفوا: هل هو كفرٌ على الحقيقة أم لا؟
قال البيهقي في " الأسماء والصفات " (1) بعد حكاية أقوال السلف في تكفير من قال بخلق القرآن: ورُوِّيناه في كتاب القَدَر عن جماعةٍ منهم أنهم كانوا لا يَرَوْنَ الصلاة خلف القَدَري ولا يُجيزون شهادته، وحكينا عن الشافعي رحمه الله في كتاب " الشهادات " ما دلَّ على قبول شهادة أهل الأهواء، ما لم تبلُغُ بهم المعصيةُ مبلغَ العداوة، فحينئذٍ تُرَدُّ بالعداوة.
وحكينا عنه في كتاب " الصلاة " أنه قال: وأكرَهُ إمامة الفاسق والمُظْهِرِ البدع، ومن صلَّى خلف واحدٍ منهم أجزأتْهُ صلاته، ولم يكن عليه إعادةٌ إذا أقام (2) الصلاة.
وقد اختلف علماؤُنا في تكفيرِ أهل الأهواء، منهم من كفَّرهم على تفصيلٍ ذكرَهُ في أهوائهم، ومنهم من لم يُكفرْهم، وزَعَمَ أن قول الشافعي في تكفيرِ مَنْ قال بخلق القرآن أراد به كُفراً دون كفر، كقول (3) الله عز وجلّ: {ومَنْ لَمْ يحكُم بما أنزَلَ اللهُ فأولئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44]، ومن قال بهذا جرى (4) في قبول شهادتهم، وجواز الصلاة خلفهم مع الكراهية، على ما قال الشافعي رحمه الله في أهل الأهواء، والمُظهِرِ البِدَع.
ثمَّ حكى (5) عن الخطابي أنهُ لا يكفِّرُ من الخوارج والروافض (6) إلا
__________
(1) ص 257.
(2) في (ش): إذا قام.
(3) في (ب): لقول.
(4) " بهذا جرى " ساقط من (ش).
(5) أي: البيهقي في " الأسماء والصفات ".
(6) في (ش): النواصب.(4/360)
من كفَّر الصحابة. ولا من القدرية إلاَّ من كفَّرَهُ.
قال: وكانت المعتزلة في الزمان الأول على خلاف هذه الأهواء، وإنما أحدثها بعضهم في الزمان المتأخر. انتهى كلام البيهقي.
وفي " المعالم " للخطابي: الميل إلى ترك (1) التكفير مُطلقاً، فإنه مال إلى عدم تكفير الخوارج، بل ادَّعى الإجماع عليه، مع تصريحهم بتكفير خلق كثير من الصحابة، بل تكفير خيرهم في عصره بالإجماع.
وأقول: إن المختار ما أشار إليه الشافعي رحمه الله، لأنه لا بد من دليل على الكفر، ولا دليل هنا، لأن أدلة الكفر منحصرةٌ في ثلاثة أشياء، وهي: النصُّ، أو (2) التكذيب، أو ما يؤول إلى التكذيب على اختلافٍ فيما يؤول إلى التكذيب.
أمَّا النصُّ فغير موجودٍ وفاقاً، أنا في القرآن فواضحٌ، وأما السنة فقد رُوِيَ في ذلك حديثٌ، اتَّفق أهل الحديث على أنه موضوعٌ، لا أصل له، ومتنه: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فقد كفر (3).
__________
(1) في (ش): تركه.
(2) في (ب) و (د) و (ش): و.
(3) رواه الخطيب في " تاريخه " 2/ 389 من حديث جابر، وفي سنده محمد بن عبد بن عامر، قال الذهبي في " الميزان " 3/ 633: معروف بوضع الحديث، وقال الدارقطني: كان يكذب ويضع الحديث.
ورواه أيضاً 13/ 142 من حديث أنس بن مالك، وفي سنده محمد بن يحيى بن رزين قال ابن حبان في " المجروحين " 2/ 312: دجَّال يضع الحديث لا يحل ذكره في الكتب إلاَّ على سبيل القدح فيه.
ورواه ابن عدي 1/ 203 من حديث أبي هريرة، وفي سنده أحمد بن محمد بن حرب، وهو ممَّن يتعمد الكذب، وشيخه فيه محمد بن حميد بن حبان الرازي قال البخاري: فيه نظر، وكذبه أبو زرعة. =(4/361)
قال البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " (1): ونُقل إلينا عن أبي الدرداء مرفوعاً: القرآن كلام الله غير مخلوقٍ. ورُوِيَ أيضاً ذلك (2) عن معاذ بني جبل، وعبدِ الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله مرفوعاً. ولا يصح شيء من ذلك، أسانيدُه (3) مظلمةٌ لا ينبغي أن يحتجَّ بشيء منها، ولا يُستشهد بشيءٍ منها (4). انتهى بلفظه.
وذكر الحافط زين الدين أبو حفص عمر بن بدر الموصِلِّيُّ (5) في كتابه " المغني عن الحفظ من الكتاب " بقولهم: لم يصح شيءٌ في هذا الباب ما لفظه: كلام الله قديمٌ غير مخلوق، وَرَدَ فيه أحاديث ليس فيها شيءٌ
__________
= ورواه الخطيب 1/ 360 من طريق أبي القاسم طلحة بن علي بن الصقر الكتاني، عن محمد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعي، عن محمد بن أحمد بن المهدي أبي عمارة، عن أبي نافع أحمد بن كثير، عن جعفر بن محمد العابد، عن أبي يعقوب الأعمى، عن إسماعيل بن معمر، عن محمد بن عبد الله الدغشي عن مجالد بن سعيد، عن مسروق، عن ابن مسعود.
وقال: هذا الحديث منكر جداً، وفيه مجاهيل. وقال الذهبي في " الميزان " 3/ 456: محمد بن أحمد بن مهدي أبو عمارة قال الدارقطني: ضعيف جداً، وقال أيضاً: متروك، ونقل عن الخطيب قوله: في حديثه مناكير وغرائب، ثم أورد هذا الخبر من طريقه، وقال: هو موضوع على مجالد.
وقال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 304: الحديث باطل من جميع طرقه.
وقال الشوكاني في " الفوائد المجموعة " ص 313 - 314: وقد أورده صاحب اللآلىء في أول كتابه، وذكر له شواهد، وأطال في غير طائل، فالحديث موضوع، تجاراً على وضعه من لا يستحي من الله تعالى عند حدوث القول في هذه المسألة في أيام المأمون، وصار بذلك على الناس محنة كبيرة، وفتنة عمياء صمَّاء، والكلام في مثل هذا بدعة ومنكرة، لم يرد به في الكتاب ولا في السنة حرف واحد، ولا صحَّ عن السلف في ذلك شيء.
(1) ص 239.
(2) في (ب): ذلك أيضاً.
(3) في (ش): أسانيد.
(4) قوله: " ولا يستشهد بشيء منها " ساقطة من (ب).
(5) تقدمت ترجمته 1/ 187.(4/362)
ثابت. وقال: قاله ابن الجوزي، نقل ذلك ابن النحوي في تلخيصه (1) لكتاب زين الدين المذكور.
فهذه كلمة إجماعٍ بين حفاظ الحديث الأُمناء عليه، ومن العجب أن المعتزلة ترويه، وتؤوله بالمكذوب، وأئمة الحديث يُزَيِّفُونَه كما هو عادتُهم فيما كُذِبَ لهم، وذلك أعظم شاهدٍ لهم على أنهم أمناءُ الله على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يَنْفُون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما ورد ذلك مرفوعاً في صفة حملة العلم (2).
وأما الإجماع فهو أيضاً منتفٍ لما تقدَّم من تعذُّر العلم بالإجماع القاطع، ولأن الاختلاف في ذلك منقولٌ عن أئمة أهل السنة، كما ذكر البيهقيُّ.
ولقد نقل الذهبي في " النبلاء "، و" الميزان "، و" الكاشف " (3) عن الحافظ علي بن الجعد أنه قال: من قال القرآن مخلوقٌ لَمْ أُعَنِّفْهُ.
فهذا عليُّ بن الجعد يقول: إنَّ القرآن غير مخلوق، كقول أهل الحديث، ومع ذلك خالف في تعنيف من قال: إنه مخلوقٌ.
وقد حكى الذهبي الوقف عن جماعةٍ وافدة، فالمتوقف غيرُ مكفِّرٍ للمخالف، فمنهم من وقف وقف حيرةٍ وشَكٍّ، ومنهم من وَقَفَ وقف حَيْطَةٍ وَوَرَعٍ.
__________
(1) تقدم التعريف به 1/ 187.
(2) تقدم تخريجه في 1/ 308 - 313.
(3) " النبلاء " 10/ 465، و" الميزان " 3/ 116، و" الكاشف " 2/ 280، و" تذكرة الحفاظ " 1/ 400.(4/363)
قال الذهبي في " النبلاء " (1) في ترجمة إسحاق بن أبي إسرائيل، أحدِ الواقفة: هو الإمام الحافظ الثقة.
قال شاهين بن السَّمَيْدَع: سمعت أحمد بن حنبل، يقول فيه (2): واقفيٌّ مشؤومٌ إلاَّ أنه كَيِّسٌ صاحبُ حديث.
وقال السَّاجي: صدوقٌ، تركوه لموضع الوقف.
قال (3): معنى قوله تركوه: أعرضُوا عن الأخذ عنه، لا أن حديثه في حيِّز المتروك المطَّرَح، قلت: أدَّاهُ وَرَعُه وجموده إلى الوقف، وقد ناظره (4) مصعب الزبيري، فقال: لم أقُل على الشكِّ، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.
قال الذهبي: والإنصاف فيمن هذا حاله أن يكون باقياً على عدالته.
وحكى ابن عبد ربه في " العقد " (5) في المجلد الرابع منه في كتاب الجوهرة في الأمثال في بيان قولهم في القرآن ما لفظه: كتب المريسي إلى أبي السري (6) منصور بن محمد: أكتب إلي: القرآن خالقٌ أو (7) مخلوقٌ؟ فكتب إليه: عافانا الله وإياك من كل فتنة وجعلنا وإياك من (8) أهل السنة (9)، ومن لا يرغب بنفسه عن الجماعة، فإنه إن يفعل فأعْطِمْ بها
__________
(1) 11/ 476.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في الأصول زيادة " الذهبي "، وليست في " السير ".
(4) في الأصول: ناظر.
(5) 2/ 335، وهو في كتاب الياقوتة في العلم والأدب، لا كما ذكر في الجوهرة.
(6) في " العقد ": إلى أبي يحيى.
(7) في (ش): أم.
(8) ما بين حاصرتين ليس في الأصول، وهو من " العقد ".
(9) في الأصول: الشبه.(4/364)
مِنَّةً، وإن لا يفعل فهي الهلكةُ، وليس لأحدٍ بعد المرسلين (1) على الله حجةٌ، ونحن نقول: إن الكلام في القرآن بدعةٌ، يتكلَّفُ المجيبُ المحسن ما ليس عليه، ويتعاطى السائل ما ليس له، وما نعلم خالقاً إلاَّ الله، وما سوى الله تعالى مخلوقٌ، والقرآن كلام الله، فانته بنفسك إلى أسمائه التي سمَّاه الله بها فتكون من المهتدين، وذر الذين يُلحِدُون في أسمائه سيُجزون ما كانوا يعملون، ولا تُسَمِّ القرآن باسمٍ من عندك، فتكون من الظالمين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مُشفقون.
فهذا فيه إشارةٌ بينةٌ إلى شبهتهم (2)، وتقدم جوابُها حيث أجبنا على المعتزلة إحالتهم تجرُّد القرآن عن الخلق والقِدَمِ معاً، ومراد الواقفية نحو هذا، وهو أنهم لا يسمونه إلاَّ بما سماه الله أو رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يوصف بأنه غير مخلوق، كما لم يكُن يوصف بأنه مخلوق (3) فسكَتُوا عن ذلك، وعن الطائفتين.
فبان بهذا أنه لا يصح التمسك بالنص في تكفيرهم، لا نصِّ الكتاب ولا السنة، ولا الإجماع.
وأمَّا التمسك بأنهم مكذبون لقوله تعالى: {وكلَّم اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164]، فيُعارِضُه أنهم يُقِرُّون (4) بكلام الله وتكليمه، ولكنهم يجعلونه مجازاً. وربما قال منهم قائلٌ بصحته على معنى
__________
(1) في (ب): الرسل.
(2) في (ش): شبههم.
(3) من قوله: " كما لم " إلى هنا مكرر في (ش)، وفيه: " بأنه غير مخلوق ".
(4) في (ش): يقولون.(4/365)
الخلق حقيقة، وقد تكلَّم الأصوليون من أجل هذا في مسألة في اشتقاق اسم الفاعل، وهل مِن شرطه أن يكون المعنى المشتق منه قائماً (1) بالفاعل أم لا؟
وأجازت المعتزلة أن لا يكون قائماً بالفاعل ليصحَّ لهم تسميته (2) تعالى مُتكلماً بكلامٍ غير قائم بذاته، ولا صادرٍ منها، واحتجُّوا بتسميته (3) خالقاً، ومنعت ذلك جماعةٌ (4) من الأشعرية، وطوَّلها ابن الحاجب في " مختصر المنتهى " (5)، وأدقها، وهي لغويةٌ لا تحتملُ تلك الدِّقَّة التي تعلق (6) بها.
وقد مال الرازي إلى تصحيح كلام المعتزلة، واحتج بصحة النسب، فإن قولنا في الرجل: مكي ومدني مشتقٌّ من مكة والمدينة (7).
والحق أن هذه المسألة لغوية ليس فيها نظرٌ، ولا قياسٌ، وقد يشتقُّون مما ليس بقائمٍ بالفاعل مثلما ذكر الرازيُّ، ومثل: لابن، وتامر ولكن ما هذا مطرداً ولا قياساً بإجماع اللغويين، ولذلك لا يُسمَّى الله لابِناً وتامِراً مع ورود اللغة بكذلك في من يَملِك اللبن، والتَّمر، ولذلك لا يُسمَّى حجَّاراً ومُترباً لكونه خلق الحجار والتراب، ولا متحركاً ولا ساكناً لمثل
__________
(1) في (أ): " قائم "، وهو خطأ.
(2) في (ب): تسمية الله.
(3) في (ب): بتسمية.
(4) في (ش): جملة.
(5) انظر " المختصر " بشرح العضد 1/ 181 - 182.
(6) في (ش): تعلو.
(7) " المحصول " 1/ 344.(4/366)
ذلك، فدلَّ على أن مسألة الكلام مستقلةٌ بنفسها لا ينقل الكلام فيها إلى غيرها.
وكذلك كل لفظية (1) لغوية، فإذا نظرنا في متكلمٍ لم نجد أهل اللغة يطلقونه على من قام الكلام بغيره.
وكذلك نَسَبَ الله كلام الأعضاء يوم القيامة إليها حقيقةً (2) لا إليه، وعلى كلام المعتزلة: هو له حقيقة ولها مجاز، وهذا نازلٌ (3) جداً فإنه لا يحسُنُ أن يُستشهد بكلامه على مثل هذه الصفة، ولكنَّ اشتراط قيام (4) المعنى المشتق منه بالفاعل في هذه المسألة، ليس مما عُلِمَ (5) ضرورة من الدين حتى يكفر من أخطأ في ذلك قطعاً، ويُعَدَّ مُكَذِّباً لكلام الله، وللتأويل، وللشبهة في هذا مجال نعوذ بالله من الشُّبَه والضلال، ويُقَوِّي هذا المعنى أنهم إنما قصدوا المحافظة على تصديق قوله سبحانه: " ليس كمثله شيءٌ " ومن قصد المحافظة على تصديق بعض السمع، فتأوَّل بعضه لتصديق بعضه لم يُسَمَّ مُكذِّباً بما أوَّلَهُ، بخلاف القرامطة الذين تأوَّلوا السمعَ (6) كُلَّه قاصدين لتبديله كلِّه، وتحريفه جميعه.
وأما الوجه الثالث: وهو التكفير بمآل المذهب، ويُسمَّى التكفير بالإلزام، فقد ذَهَبَ إليه كثيرٌ، وأنكره (7) المحققون، منهم: محمد بن
__________
(1) في (ب): لفظة.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): نادر.
(4) في (ب): " كلام "، وساقطة من (ش).
(5) في (ش): يعلم.
(6) من قوله: " فتأوّل بعضه " إلى هنا ساقط من (ب).
(7) في غير (ش): واستركه.(4/367)
منصور الكوفي الشيعي العلامة، وألَّف في إنكاره كتاباً سمَّاه كتاب " الجملة والأُلفة " وحكى اختياره عن أكابر أئمَّة أهل البيت عليهم السلام وكبار المعتزلة، كما سيأتي بحروفه (1).
ومنهم الشيخ تقيُّ الدين في شرح " العمدة " (2)، والرازي، والغزالي في " التفرقة " (3)، وغير واحد، وعليه مدار أكثر التكفير، وهو عندي في غايه الضعف لما تقدَّم من اشتراط القطع في التكفير عند المعتزلة والشيعة، وطوائف من الأمة، وهو كذلك في حقِّ من أراد القطع بالكفر.
فإن قيل (4): إنه ينزل عن هذه المرتبة إلى مرتبة الظنِّ الراجح المستند إلى السمع الواضح، والعمل بالظن لا يمتنع إلاَّ بقاطعٍ، ولا قاطع (5)، فالجواب أن ذلك الظنَّ غير حاصلٍ أيضاً لوجوهٍ.
الوجه الأول: أن التكفير بالإلزام، ومآل المذهب رأيٌ محضٌ لم يرد به السمعُ لا تواتُراً، ولا آحاداً (6) ولا إجماعاً، والفرض أن أدلة التكفير والتفسيق لا تكون إلاَّ سمعيةً، فانهدَّت القاعدة، وبَقِيَ التكفير به (7) على غير أساس.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) هو" عمدة الأحكام " للإمام عبد الغني المقدسي، شرحه تقي الدين ابن دقيق العيد بكتاب " إحكام الأحكام ".
(3) هو" التفرقة بين الإيمان والزندقة "، وقد طبع في القاهرة سنة 1319 هـ بعنوان " رسالة في الوعظ والعقائد "، وطبعت في الهند في مجموع رسائل سنة 1283 هـ.
(4) في (ش): قيل له.
(5) قوله: " ولا قاطع " ساقط من (ش).
(6) في (ش): أحادياً.
(7) " به " ساقطة من (ب).(4/368)
الوجه الثاني: لو سلَّمنا أنه دلَّ على ذلك دليلٌ سمعي خَفِي لكان معارضاً بما هو أوضح منه مما تقدمت الإشارة إليه في المنع من تكفير مُثبتي الصفات، وذلك ما ورد من النصوص المجمع على صحتها من أن الإسلام هو شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، إلى آخر الحديث (1)، وأمثاله، وشواهده.
الوجه الثالث: إنا نعلم بالضرورة منهم ضِدَّ ما ألزموهم، فكيف يصح لنا أن نُلزمهم التكذيب، ونحن نعلم منهم التصديق؟! فهذا الإلزام إن لم يوجب العلم لم يُعارِض علمنا بتصديقهم، ولا يصِحُّ أن نوجب العلم، لأن علمنا بتصديقهم ضروريٌّ، والعلوم (2) لا تعارض (3).
الوجه الرابع: أنا لو كفرنا بذلك لأمكن المعتزلة، والشيعة، والظاهرية تكفير من لم يقُل بحدوث القرآن لتأويله لقوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، وقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى} [هود: 17] ونحو ذلك.
الوجه الخامس: أن النصوص قد تواترت بمروق الخوارج، ومع ذلك، فما كفَّرهم كثيرٌ من أهل السنة.
وادعى الخطابي في " معالم السُّنن " الإجماع على عَدَمِ كفرهم، وجاءت أحاديث تدلُّ على ذلك، من ذلك: حديث أبي سعيدٍ الثابت في " الصحيحين " في قول عبد الله بن ذي الخُويصرة: اعْدِلْ يا رسول
__________
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 95.
(2) في (ب): والمعلوم.
(3) في (ش): لا تتعارض.(4/369)
الله! فقال: " ويلُك، ومن يعدلُ إذا لم أعدِلْ؟ فقال عمر رضي الله عنه: ائذن لي فأضربُ عُنُقه! فقال: " دعه، فإن له أصحاباً يحقِرُ أحدُكُم صلاته مع صلاتِهِم " (1) الحديث.
ومن ذلك ما رواه أبو القاسم البغوي، عن عليِّ بن الجعد، عن شريكٍ القاضي، عن عمران بن ظبيان، عن أبي تحيى، قال: صلَّى عليٌّ عليه السلام صلاة الفجر، فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]، فأجابه عليٌّ في الصلاة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 60] (2).
الوجه السادس: ما جاء في المتأوِّلين من قوله تعالى (3): {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5]، وقوله تعالى: {ربنا لا تُؤاخِذنَا إن نسينا أو أخطأنا} [البقرة: 286]، وحديث: " رُفِعَ عن أُمَّتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهُوا عليه " (4)، ولا شكَّ أن ترك التكفير أسلم، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في العُقوبة.
الوجه السابع: أنه قد ورد من الأدلة السمعية ما يُعارضُ ذلك الظن لكفر أهل التأويل مما هو أرجح منه (5)، وذلك مثلُ حديث أنسٍ، قال:
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (18669)، والبخاري (3610) و (5058) و (6163)، ومسلم (1064) (148)، والبغوي في " شرح السنة " (2552).
(2) تقدم تخريجه ص 212 من هذا الجزء.
(3) عبارة " من قوله تعالى " لم ترد في (ش).
(4) تقدم تخريجه في 1/ 192 - 196.
(5) ساقطة من (ش).(4/370)
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ثلاثٌ من أصل الإيمان: الكفُّ عمن قال: لا إله إلاَّ الله، لا نُكفِّرُهُ بذنب، ولا نُخرِجُهُ من الإسلام بعَمَلٍ، والجهاد ماضٍ منذُ بعثني الله إلى أن تقاتل آخرُ أمتي الدَّجَّال، لا يُبطلُهُ جورُ جائرٍ؛ والإيمان بالأقدار " (1) رواه أبو داود (1)، وحكاه أحمد في رواية ابنه (2) عبد الله.
فالظن الحاصل بهذا وما في معناه من الحديث أقوى من ظنِّ التكفير المستند إلى القياس.
وقد صنَّف العلامة أبو محمد بن حزم الفارسي (3) مصنَّفاً حافلاً في المنع من تكفير أهل القِبلَة، وعقد البخاري باباً في " صحيحه " في ذلك (4)، وقد بسطتُ هذا في غير هذا الموضع في هذا الكتاب، والله الهادي وله الحمد والمنة.
وأما قول من يقولُ: ما الفرق بين الخلق، والجعل، والحُدُوث حتى كفَّر أحمد بن حنبل وغيرُه من قال بخلق القرآن، ولم يُكفِّرُوا من قال بحدوثه من الظاهرية؟
فالفرق: أن من قال: بخلق القرآن (5)، إنَّما صاروا إلى ذلك لاعتقادهم أنه مستحيل (6) على الله تعالى أن يكون متكلِّماً على الحقيقة كما
__________
(1) رقم (2532) وفي سنده يزيد بن أبي نُشبة راويه عن أنس، وهو مجهول.
(2) ساقطة من (ش).
(3) تصحفت في (ش) إلى: " الفاسي "، وكتابه المشار إليه هو: " الرد على من كفَّر المتأولين من المسلمين " ذكره الذهبي في " النبلاء " 18/ 195 ضن مؤلفاته.
(4) باب " من كفَّر أخاه بغير تأويل فهو كما قال " 10/ 514 بشرح " الفتح ".
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب) و (ش): يستحيل.(4/371)
تقدَّم، وذلك عند المكفِّرين لهم يقتضي ردَّ القرآن المعلوم، وتكذيبه، أو يؤول إلى ردِّه وتكذيبه بخلاف قول الظاهرية بحدوث القرآن وجعله، فإنهم لم يُخالفوا في كون الله تعالى متكلِّماً على الحقيقة، وإنما قالوا ما قالوه لقوله تعالى: {ومن قبله كتابُ موسى} [هود: 17]، وقوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكرٍ من ربِّهم مُحدثٍ إلاَّ استمعوه وهم يلعبون} (1) [الأنبياء: 2]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]. فقوله (2): {مُحْدَثٍ} نكرة في سياقِ النفي، وذلك يُفيد العموم، والقرآن ذِكرٌ بدليل قوله تعالى: {وهذا ذكرٌ مباركٌ أنزلناه} [الأنبياء: 50].
واحتجُّوا -أيضاً- بما في فِطَرِ العقول من حدوثِ الأصوات، والحروف المتعاقبة؛ فإنها حجة عقلية ضرورية، وأهل السنة والظاهرية، وإن بعُدُوا من المباحث الكلامية، وبدعوا من خاض فيها، فإنهم (3) يعنون ما دقَّ الأمر فيه (4)، ولم يُؤمنْ أن يجُرَّ إلى بدعةٍ، وأما ما كان جلياً، فلا يمنعون من الاحتجاج به، فإنه لا بد من ذلك، ولولا ذلك، ما عرفنا صدق الأنبياء، كما أن المجنون لا يعلم صدق الأنبياء بالسمع.
ولهذا تكلم البخاري، ومسلم، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " في مسألة اللفظ بالقرآن والتلاوة له، كما قرر ذلك الذهبي.
وصنف البخاري في أن اللفظ مخلوق كتاب " أفعال العباد " (5) مع
__________
(1) من قوله: " وقوله تعالى " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) ساقط من (ش).
(3) في (ش): فإنما.
(4) ساقطة من (ش).
(5) ردّ فيه على الجهمية والمعطلة، وقرر فيه عقيدة أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وأن أفعال العباد مخلوقة، وهو من منشورات مؤسسة الرسالة.(4/372)
إمامته، وجلالته، ومبالغته في النَّهي عنِ البدع.
وذكر البيهقي في " الأسماء والصفات " (1): اتفاق أهل السنة على ذلك في المعنى، وأن المخالف فيه إنما أساء العبارة. هذا أو (2) معناه، وقاله الغزالي في أول كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد " (3) وقد ذكر أهل الذَّكاء والفطنة من أهل (4) البدع في الفرقة الرابعة ما لفظه -مع اختصار-: فهؤلاء يجب التَّلطُّف بهم في استمالتهم إلى الحقِّ، لا في معرِض اللَّجاج والتَّعصبُّ، فإن ذلك يُهيِجُ بواعث التمادي والإصرار، وأكثر الجهالات إنما رسخت بتعصُّبِ جماعةٍ من أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلاء، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين النَّحس والإزراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة، وتعسَّر على العلماء المتلطفين (5) محوها، حتى انتهى التعصُّب بطائفةٍ إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة، ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد، والتَّعصُّب. لما وُجِد (6) مثلُ هذا الاعتقاد مستقرَّاً (7) في قلب مجنون، فضلاً عن قلب عاقل.
وقال الغزالي في " القدسية ": ومن لم يعقله عقلُه، ولا نَهاه نُهاهُ عن أن يقول: لساني حادثٌ، ولكن ما يحدُثُ فيه بقدرتي (8) الحادثة قديم، فاقطع عن عقله طمعك، وكُفَّ عن خطابه لسانك، ومن لم يفهم أن القديم
__________
(1) ص 264 - 267، وعنى بالمخالف محمد بن إسحاق بن خزيمة.
(2) في (ش): و.
(3) 1/ 196، وهو الفصل الأول من " الإحياء ".
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): المحقين، وفي (ش): اللطفين.
(6) ساقطة من (ش).
(7) ساقطة من (ش).
(8) في (ش): بقدر في.(4/373)
عبارةٌ عمَّا ليس قبلهُ شيءٌ، وأنَّ الباء قبل السين في قوله: بسم الله، فلا يكون السِّين المتأخِّرُ عن الباء قديماً، فنزِّه عن الالتفات إليه قلبك. انتهى.
وقد بالغ الذهبي في قُوَّة هذا مع مبالغته في النهي عن الكلام، لكن ليس من نهى عن علم الكلام، فقد نهى عن فِطَرِ العقول، كما قدمتُ في عقيدة أهل السنة، وإنما كرهوا الخوض فيما لا يُعلمُ، كما روى البيهقي في " الأسماء والصفات " (1) في هذه المسألة، عن الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرَّازي، أنه أُخْبِرَ بما جرى بنيسابور بين (2) ابن خُزيمة وأصحابه، فقال: ما له والكلام، إنما الأولى بنا وبه أن لا نتكلم فيما لم (3) نتعلَّمْهُ.
وكذا روى البيهقي (4)، عن ابن خزيمة: أنه خرج يوماً، فقال لمنصورٍ الصَّيدلاني: ما صنعتك؟ قال: عطَّارٌ، قال: أتحسن (5) صنعة الأساكفة؟ قال: لا، قال: أتحسن (5) صنعة النَّجَّارين؟ قال: لا، فقال: إذا كان العطَّارُ لا يحسن غير ما هو فيه، فما تُنكِرون على فقيهٍ، راوي حديثٍ أنه لا يحسن الكلام. انتهى.
قلت: لا نَكارة عليه في عدم حِذْقِ الجدليين، ولكن عليه أن يتأدب بقوله تعالى: {ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ} [الإسراء: 36]، ويصنع كما صنع الإمام أحمد يوم المحنة، فإن المتكلمين كانوا إذا راجعوه بعلمهم، قال: هذا شيءٌ لا أعرفه، ولا أدري ما هو، وإذا راجعوه بشيءٍ من كتاب الله تعالى، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم خاضَ معهم خوض العارفين، فكذلك فليكن السَّنِّيُّ.
__________
(1) ص 269.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في الأصول " لا "، والمثبت من " الأسماء والصفات ".
(4) تقدم في ص 151 من هذا الجزء.
(5) في (ب)، " والأسماء والصفات ": تحسن.(4/374)
وأما الهجوم على الجزم باعتقاد أحد الأقوال في مسائل الخلاف النَّظريَّة من غير نصٍّ من كتاب الله تعالى، ولا سنَّةٍ (1) صحيحةٍ من مُحَدِّثٍ جامد، فيُعَرَّض للخزي في الدنيا والآخرة. نسأل الله السلامة.
فإيَّاك أيُّها السُّنِّيُّ، وطول اللجاج، وشِدَّة الشَّكيمة في مسألة اللفظ (2)، وفي مسألة الحدوث، وفي مسألة القِدَمِ، واقتصر على أن القرآن كلامُ الله حقيقةً، وأنه كلَّم موسى عليه السلام، وكلَّم من شاء من أنبيائه، كما قال: منهم من كلم الله [البقرة: 253] مع الجزم بأن الله ليس كمثله شيءٌ، وسمِّ القرآن بما سمَّاه الله تعالى من الأسماء الشريفة، وكِلْ حُكْمَ من تعدِّى ذلك من المختلفين إلى الله تعالى.
فإن قلت: ما الذي مَنَعَ أحمد بن حنبل وغيره من أهلِ الحديث من مُوافقةِ الظاهريَّة على حدوث القرآن مع أنه ظاهر الآيات، ومع أنه (3) لا يقتضي ردَّ قوله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ مُوسى تكليماً} وأمثالها، ومع كونهم لا يرون (4) تأويل الظواهر بالرأي، والتمحُّل (5) البعيد بغير موجبٍ؟
قلت: الذي فهمته مِنْ تكرارِ النظر في عباراتهم ومقاصدهم أحد وجهين، أو كلاهما:
الوجه الأول: أنهم رأوا للحدوث معنيين: حدوثاً نسبيّاً، وحدوثاً مُطلقاً، فالحدوث النسبي (6) بالنظر إلى نزوله، ومجيء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجبريل عليه السلام، كقوله تعالى: {إنَّه لَقَوْلُ
__________
(1) في (ش): سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ب): كونه.
(4) في (أ) و (ج) و (د) و (ش): " يروون "، والمثبت من (ب).
(5) في (ب): " التحمل "، وهو تحريف.
(6) في (ب): فالنسبي هو حدوثه.(4/375)
رسولٍ كريمٍ} [التكوير: 19] أي حكايته، والمَحكِيُّ كلام الله لقوله: {حتَّى يسمَعَ كلاَمَ اللهِ} [التوبة: 6].
والحدوث المطلق حدوثُ ذاته، فتركوا الخوض في حدوث الذات لما اختلف أهل الكلام في حقيقة ذات الكلام، هل هي (1) الصوت المقطع حروفاً مفهومةً؟ أو هي المعنى الذي في النفس الذي جعل اللفظ عبارةً عنه؟ فلمَّا شوَّش أهل الكلام عليهم معرفة الذات، ورأوا الحدوث النِّسبي صحيحاً بالإجماع والنص، اقتصروا على موضع الإجماع مع لطيفة نظرية (2)، وهي أن البلاغة تقتضي أن لا يَرِدَ اللفظ البليغ إلاَّ لإفادة معنى مُهِمٍّ أو خفيٍّ، أو ردٍّ على خصمٍ، ولا يَرِدُ بتعريف المعرَّفات، وكان حدوث الأصوات معلوماً في عهد (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يومئذٍ من يعتقِدُ قِدَمَ الأصوات فيعرف حدوثها، أعني القدم الاصطلاحيَّ الذي معناه نفيُ الأوَّليَّة، ولا مجرَّدُ الحدوث صفة مدحٍ، فيُمدحُ به القرآن، كما مُدِحَ بكونه ضياءً وشفاءً، وهدىً، ونُوراً، فلا بُدَّ من وجه لذكره، وأقربُ ما يكون أن (4) ذكر حُدوثه ردّاً لقول المشركين: إنَّه إفكٌ قديمٌ، وإنه أساطير الأولين، فقُوبل الإفك بالذكر، والقديمُ بالمحدث.
فكان المراد بهذا الحدوث نقيضَ القِدَم (5) الذي أراده المشركون، ولا شكَّ أنهم أرادوا أنه أساطير الأولين اكتتبها (6) كما صرح به القرآن (7) لا القِدم الاصطلاحي، فكان المراد بهذا الحدوث هو حدوث نزوله ومجيئه مِنْ
__________
(1) في (ب): هي في.
(2) في (أ) و (ش) و (د): النظرية.
(3) في (ب): وقت.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): " العدم "، وهو خطأ.
(6) في (ب): التي اكتتبها.
(7) كما في الآية (5) من سورة الفرقان.(4/376)
عند الله تعالى في زمن (1) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون من تقدمه من الرسل. وحدوثه بهذا المعنى هو الحدوثُ النسبي المُجمَعُ على صحته، وفيه مع ذلك تشريفٌ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حين (2) كان هو المختصَّ بالمجيء به، وتبرئةٌ (3) له مما رَمَوْهُ به من اكتتاب أساطير الأوَّلين، واستراق محاسن المتقدِّمين، وهذا بيِّنٌ في سورةٍ الأحقاف في قوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 11 - 12]، فقابل (4) وصفهم له بالقِدَم بتقديم (5) كتاب موسى عليه، وبالإفك بتصديقه كتاب موسى الذي استقرَّ أنه إمامٌ ورحمةٌ، فرأوا الاقتصار على تفسيره بهذا أسلم، وإن كان غيره أعلم، لكنه (6) على تسليم هذا وصحَّته لا يمنع (7) من وصفه بالحدوث المطلق، أقصى ما فيه، أن يكون حدوث نزوله (8)، ومجيئه هو مدلول المطابقة، وهو اللُّغويُّ الوضعي، وحدوث ذاته هو مدلول الالتزام، وهو الذهني العقلي كما هو مذكور في علم المعاني والبيان، وعلم أصول الفقه، لكنه شوَّش هذا عليهم سماعهم شدَّة اختلاف المتكلمين في حقيقة ذات الكلام، كما قدمته، حتى قال شيخ الاعتزال أبو علي الجُبَّائي: إن كلام الله تعالى باقٍ (9) لا يجوز أن
__________
(1) في (ش): زمان.
(2) في (ب): حيث.
(3) في (ش): وتنزيه.
(4) في (ش): وقابل.
(5) في (ب) و (ش): بتقديم.
(6) في (ش): لكن
(7) ساقطة من (ب).
(8) في (أ): فردٍ له.
(9) في الأصول غير (ج): باقي.(4/377)
يَفنى، وأنه يحُلُّ في الخطِّ المكتوب، ويظهر مع الصَّوت، وهو غير الصوت. حكى هذا (1) عنه الشيخ ابن مثَّوَيه في كتابه " التَّذكرة ".
فقد وافق أبو عليٍّ الأشعرية على تفسير كلام الله تعالى بأنه غير الصوت المسموع، فلما دق النظر في باب (2) الكلام تركه المحدثون على عادتهم في ترك أمثاله، وتركوا ما يترتَّب عليه، وإن كان الأمر في هذا قريباً (3)، ورأوا الحزم البُعد من مواضع التَّكفير، وإن نُسِبُوا في ذلك إلى الجهل فقد قيل: إن طريقة السلف، أسلَمُ، وطريقة الخلف أعلم، فالسعي في السلامة أولى من دعوى العلم، ومسألة الكلام (4) سهلة، ولكن هوَّلها المتكلِّمون بتجاسُرهم على تكفير المخالف فيها. فالله المستعان.
وقد عوَّل البيهقي في " الأسماء والصفات " على هذا المعنى، وحام عليه ولم يقع، ولم تخلُص (5) له تلك النُّكتة اللَّطيفة في وجه ذِكْرِ حدوث القرآن، وسبب وروده فقال البيهقي (6): المراد بالذِّكر المُحْدَثِ ذكر القرآن لهم، وتلاوته عليهم، وعلمهم به، كل ذلك مُحْدَثٌ، والمذكور المتلوُّ المعلوم غير مُحْدَثٍ، كما أن ذِكْرَ العبد لله تعالى مُحْدَثٌ، والمذكور -سبحانه- غير مُحْدَثٍ.
__________
(1) في (ب): ذكر ذلك.
(2) في (ب) و (ش): ذات.
(3) في (أ): " قريباً من "، وفي (ش): " قريباً وسهله "، وكتب فوقها: كذا في الأم، وفي (ب): " قريباً سهله ".
(4) من قوله: " فرأوا الحزم " إلى هنا أتى في نسخة (ب) بعد قوله الآتي: " فالله المستعان ".
(5) في (أ) و (ج) و (د): يلخص.
(6) ص 229.(4/378)
وقال أيضاً: وقوله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة القدر} [القدر: 1]، يريد (1) والله أعلم: أنا أسمعناه (2) المَلَكَ، وأنزلنا الملك بما سمع. وقوله: {إنا نحنُ نزَّلنا الذكرَ وإنا لهُ لَحَافظون} [الحجر: 9] يريد حفظ رسومه وتلاوته.
قلت: تأويل النزول لازمٌ على مذهب المعتزلة، لأن العَرَضَ عندهم لا يُوصف بالنزول وحده، ولا بُدَّ أن يحُلَّ في جسم، وهو (3) فيه، هذا في الأعراض الباقية، كالألوان، وأما الكلام عندهم (4)، فإنه يزول في الوقت الثاني إلاَّ أبا عليٍّ الجُبَّائي، فإنه يقول ببقائه كما تقدم.
ويأتي في كلام الإمام الحسن بن يحيى بن الحسن (5) بن زيد بن عليٍّ عليهم السلام نحو كلام البيهقيِّ هذا (6)، فإنه ذكر أن القرآن مُحدَثٌ، ثم قال: قال الله تعالى: {ما يأتِيهِمْ مِنْ ذِكرٍ من ربِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، فأحدث في قلوب العباد بالرُّسل من تنزيل الكتاب ما لم يكونوا يعلمون. انتهى بحروفه، والله أعلم بمراده.
قال البيهقيُّ: وأما الإنزال بمعنى الخلق، فغيرُ معقولٍ (7).
قلت: صحيحٌ، ولكن تحقيقه ما ذكرته في مسألة الأفعال من أن الخلق لا يُطلق على كل فعلٍ، وهو قول البغدادية. وقد أوضحتُ الدليل
__________
(1) في " الأسماء والصفات ": يريد به.
(2) في (ش): سمعناه.
(3) في (ب) و (ش): ينزل الجسم وهو.
(4) في (ب): فإنه عندهم.
(5) في (ب): الحسين.
(6) ساقطة من (ش).
(7) " الأسماء والصفات " ص 230.(4/379)
عليه في موضعه مِنْ مسألة أفعال العباد في هذا الكتاب، وهذا يدل على موافقة البيهقي لما اخترتُه هنالك؛ لأن الإنزال فعل الله بغير شك، ومع هذا اعترف (1) البيهقي أنه لا يُسمى خلقاً في اللغة.
وقال البيهقي (2) في قوله تعالى: {إنَّا جعلناهُ قُرآناً عربياً} [الزخرف: 3]: أي (3): سميناه، كقوله: {وجَعَلُوا الملائكة الذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحمن إناثاً} [الزخرف: 19]، أي: سموهم، وقوله: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} [الرعد: 16] إلى قول البيهقي: وأما النسخ، والإنساء والنسيان، والإذهاب، والترك، والتبعيض، فكلُّ ذلك راجعٌ إلى التلاوة والحُكم المأمور به (4).
واحتجَّ البيهقيُّ على القِدَمِ، بقوله تعالى: {لله الأمرُ مِنْ قَبْلُ} [الروم: 4] قال: وظاهره (5) يدل على أن أمره قبل كلِّ شيءٍ، وهو معنى القديم، وبقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وبقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، قال: فأخبر أنه كان موجوداً مكتوباً قبل الحاجة إليه (6) في أمِّ الكتاب، وبقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، فأخبر أنه كان في اللوح المحفوظ، يريد مكتوباً فيه، وذلك قبل الحاجة إليه، وإذا ثبت أنه كان موجوداً قبل الحاجة إليه،
__________
(1) في (ب): اعتراف.
(2) ص 229 - 230.
(3) في (ب): إنا.
(4) " المأمور به " ساقطة من (ش).
(5) في " الأسماء والصفات ": فظاهره.
(6) ساقطة من (ش).(4/380)
ثبت أنه لم يزلْ (1).
قلت: هذا يصلحُ حُجَّةً على المعتزلة الذين يمنعون ثُبوته قبل الحاجة إليه (2)، أما من مَنَعَ القِدَمَ، كقدماء أهل السنة، والظاهرية والواقفية - لم يصلح هذا حجة عليه، وكلامه يُشعِرَ بتفسير الأمر في قوله {لله الأمرُ} بقول الله: {أقيموا الصَّلاة} ونحوه، وليس كذلك، وإنما الأمر هنا مثله في قول القائل: إن صاحب الأمر فلانٌ، أي صاحب الحلِّ والعقد، وهو قريبٌ من معنى الملك.
واحتج البيهقي بقوله تعالى: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف: 54] فجعل الخلق مسخراً بالأمر، وبقوله: {أَلاَ لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54] فإن أراد البيهقي الاحتجاج على قدم اللفظ، وعلى من لا يقول به من المعتزلة، وأهل السنة - كالبخاري ومسلمٍ، فضعيفٌ، خصوصاً مع مراعاة القطع بذلك، ولا سيّما متى عُورِضَ بأدلة الحدوث العقلية والسمعية، وقد ذكر الغزاليُّ أنه ضروري -أعني: حدوث اللَّفظ كما تقدم- وعبَّر عن ذلك بأحسن عبارةٍ وأجلاها.
وإن أراد البيهقي قِدَمَ الكلام النفسي، فالخوض فيه من بدَع عِلمِ الكلام، ولا يليق بالسُّنِّيِّ الخوض فيما لا يعرفه كما سيأتي، وكما مضى، مع أن الخلاف فيه يرجِعُ إلى العبارة، فإن المعتزلة لم تنكره، وإنما قالوا (3): المرجع به إلى العلم، أو إلى الإراده، والله سبحانه عالم في القِدَمِ بالاتفاق، وهو مريدٌ عند الجمهور من المعتزلة، وعند
__________
(1) " الأسماء والصفات " ص 228 - 229.
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ش).(4/381)
الأشعرية، لكنهم يختلفون في إرادته: هل تُوصَفُ بالقِدَم؟ وليس في السمع فيها نصٌّ قاطعٌ، والخوض في أسماء الله تعالى، ونعوت جلاله بالرأي مما لا يرتضيه أهل السنة، ولا مُلجىء إلى ذلك.
وقد استوفيت كلام البيهقي للإفادة، وخرجتُ عن المقصود الأول، وهو ذِكْرُ الوجه في ترك كثيرٍ من أهل الحديث للقول بحدوث ذات القرآن.
الوجه الثاني: أنهم لما رأوا القول بخلقه شعار المعتزلة المنكرين لصحة الكلام من الله تعالى، رأوا لفظ الحدوث يقارب لفظ الخلق ويُوهِمُه، وإن كان لفظ الحدوث صحيحاً في نفسه عند النظر المميز بينهما، بدليل أنه امتنع مِنْ وصف القرآن بالحدوث من لم يَصِفْهُ بالقدم، كأحمد بن حنبل، وأهل الجمود على ما نقله الذهبي عنهم، وعن أحمد في ترجمة أحمد من " النبلاء "، وكذا نقل هنالك عن قدماء أهل السنة أنهم لم يَصِفُوا القرآن بأنه قديمٌ، كما لم يصفوه بأنه مخلوقٌ، واختار ذلك لنفسه.
وأما الأشعرية، فلم يصفوا (1) اللفظ بالقِدَمِ قطُّ، ونسبوا من وصفه بالقدم إلى الجهل الفاحش، وجحد الضرورة، كما تقدم في كلام الغزالي، وإنما قالوا بِقِدَم الكلام النفسي، والآية ليست من الكلام النفسي في شيءٍ، فإنه لا يُوصف بالإتيان.
فدلَّ على أن منعهم مِنْ وصف القرآن بالحدوث مع اعتقادهم
__________
(1) من قوله: " القرآن " إلى هنا ساقط من (ب).(4/382)
لحدوث اللفظ، لأنه قد صار في عُرفهم في ذلك العصر يفيد معنى محظوراً عندهم، أو يُوهِمه، أو يجري عليه، وقد يُنهى (1) عن اللفظ الصحيح لمثل ذلك، كما قال تعالى: {لا تقولوا رَاعِنَا وقُولوا انظُرنا} (2) [البقرة: 104] فمنع مِن قولهم: {رَاعِنا} وهو لفظٌ صحيح المعنى لما تعلَّقت به مفسدةٌ يسيرةٌ، فكيف (3) بما نحن فيه؟!
وقد صحَّ، أو تواتر، النهيُ عن أن يقول المسلم: نسيت آية كذا، بل هو أُنسِيَها لنحو ذلك (4)، وكل هذا صحيحٌ صريحٌ في منع بعض
__________
(1) في (د): نهى.
(2) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية 1/ 213: نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه ثورية لما يقصدونه من التنقص، فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا، يقولون: راعِنا، يُورون بالرُّعونة كما قال تعالى: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} ...
ويقول القاسمي رحمه الله في تفسيرها 2/ 215 - 216: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا} للنبي - صلى الله عليه وسلم - (راعنا) التي تقصدون بها الرعاية والمراتبة لمقصد الخير وحفظ الجانب، فاغتنمها اليهود لموافقة كلمة سيئة عندهم، فصاروا يلوون بها ألسننهم، ويقصدون بها الرعونة، وهي إفراط الجهالة، فنهاهم عن موافقتهم في القول منعاً للصحيح الموافق في الصورة لشبهه من القبيح، وعوضهم منها ما لا يتطرّق إليه فساد، فقال: وقولوا انظرنا فأبقى المعنى وصرف اللفظ أي: انظر إلينا بالحذف والإيصال أو انتظرنا على أنه من نَظَرَه، إذا انتظره. وانظر " جامع البيان " 2/ 459 - 469.
(3) في (ش): كيف.
(4) أخرج البخاري (5032) و (5039)، ومسلم (790)، وأحمد 1/ 382 و417 و423 و429 و438 - 439، والترمذي (2942)، والنسائي 2/ 154، والطبراني 10/ (1023) و (10415) و (10436) و (10437) و (10449)، والحاكم 1/ 553، والبغوي في " شرح السنة " (1222) من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بئس ما لأحدكم أن يقول: نسيتُ آية كيت وكيت، بل هو نُسِّيَ واستذكروا القرآن، فإنَّه أشدُّ تَفَصِّيّاً من صدور الرجال مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِها ". =(4/383)
العبارات الصحيحة لِمَانِعٍ يقترِنُ بها.
وهذا أقوى من الوجه الأول، وقوّته توقَّفُ على قُوَّة هذه العِلَّة، وهي خوفُ المفسدة التي هي ظنُّ السامع في المتكلِّم أنه يعتقد أن الله غير قادرٍ على أن يتكلَّم، أو يكلِّمَ أحداً في الدنيا والآخرة.
وهذا أمرٌ يختلف بحسب اختلاف العرف بحسب البلدان والأزمان، وهو أظهرُ في مقاصدهم، كما أنه ظهر هذا المعنى مِن أحمد وغيره في منعهم ممَّا أجازه البخاري ومسلم وغيرهما، من قول القائل: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، ولم يمنعوا من ذلك شكّاً في قِدَمِهِ، فقد منعوا أيضاً من قول القائل: لفظي بالقرآن غيرُ مخلوقٍ، ونصوا على المنع منهما، كما رواه البيهقيُّ في " الأسماء والصفات " (1) عن أحمد بن حنبل، والذهبي في " النُّبلاء " في ترجمة أحمد بن حنبل عنه أيضاً. قال البيهقي (2). وقد تكَّلم محمد بن مسلم (3) الطوسي في ذلك بعبارة رَدِيَّة، يعني: توهم قِدَمَ صوت القارىء، قال: وأخذه منه (4) ابن خزيمة، قال: وعندي أن مرادهم نفي الخلق عن المتلوِّ، لكن لم يُحْسِنُوا العبارة، ولا تلخص (5) لهم الفرق بين التلاوة والمتلوِّ -إلى قوله (6): - وقد رجع محمد بن
__________
= وفي لفظ للطبراني: تعاهدوا القرآن فإنَّه وحشي، فلهو أسرعُ تَفصِّيّاً من صدور الرجال من الإبل من عُقُلها.
وأخرج البخاري (5033)، ومسلم (791) من حديث أبي موسى الأشعري رفعه: " تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده، لهو أشدُّ تفلُّتاً من الإبل في عُقُلِها ".
(1) ص 265.
(2) نفس المصدر ص 267.
(3) في " الأسماء والصفات ": أسلم.
(4) في " الأسماء والصفات ": عنه.
(5) في (ب): تخلص.
(6) ص 269.(4/384)
إسحاق، يعني: ابن خزيمة - إلى طريقة السلف وتلهف على ما قال.
قلت: وهو يدل على ما قال البيهقي: أنهم أخطؤوا في العبارة، فمن بان له منهم معناها (1)، رجع عنه؛ لأنه خلافُ الضرورة، فلا يُخالِف فيه بعد معرفة معناه (2) عاقلٌ، أما المتأوِّل، فظاهرٌ، وأما غيره، فلما يعرف مِنَ الاستهزاء به، فأمَّا الأئمة الذين نهوا عن ذلك وضده -كأحمد بن حنبل، وإضرابه- فإنما (3) نهوا عنه كراهيةً لما يُلبِسُ على عوامِّ المسلمين، ويُضارع ألفاظ أهل البدع، ويتولَّد منه المِراء والتشويش.
فإن قيل: ما يقول أهل السُّنة في قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شيءٍ} [الرعد: 16]، فقد احتجت به (4) المعتزلة على خلق القرآن، لأنه شيءٌ.
قلنا: يقولون: إن عمومها مخصوصٌ بإجماع الفريقين.
أمَّا المعتزلة، فيُخرجون منها جميع أفعال العباد، وجميع الذوات الثابتة عندهم في حال العدم، بل قد ألزمهم أهل السنة أن الله -على مذهبهم- ما خلق شيئاً قطُّ، لأن قدرته -عندهم- لا تَعلَّقُ بالذَّوات، وإنما يُكسب (5) الذوات صفة الوجود، وصفة الوجود التي هي أثَرُ قدرته ليست بشيءٍ عندهم (6) كما سيأتي (7) محقَّقاً في مسألة أفعال العباد من هذا الكتاب.
__________
(1) في (ش): معناه.
(2) في (ب): معرفته لمعناه.
(3) في (ب): فإنهم.
(4) في (ب): " احتجت بها "، وفي (ش): احتج به.
(5) في (ب): تكسب.
(6) من قوله: " لا تعلق " إلى هنا ساقط من (ش).
(7) في (ش): يأتي.(4/385)
وأما أهل السنة، فمعنى الآية عندهم: أن الله تعالى خالقُ كلِّ شيء من عالم الخلق، لا من عالم الأمر، فإنه لا يُسمَّى مخلوقاً، لقوله تعالى: {ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ} [الأعراف: 54]، وهي أبينُ آيةٍ في هذا، لأنه قسَّم المسميات فيها إلى قسمين مختلفين متغايرين:
أحدهما: الخلق، وهو أخصُّهما، ولذلك قدَّمه.
وثانيهما: الأمر، وهو أعمُّهما، ولذلك أخره؛ لأن الخلق نوع من جنس الأمر يدخل تحته، بدليل قوله تعالى: {وإليه يَرْجِعُ الأمرُ كُلُّهُ} [هود: 123]، فدخل فيه الخلق والأمر، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {إنما أمرُه إذا أراد شيئاً أن يقُولَ لَهُ كُنْ فيكُوْنُ} [يس: 82]، فلو كانت " كُنْ " مخلوقةً من جملة عالم الخلق، ما كانت (1) سبباً لخلق المخلوقات، ولكانت محتاجةً إلى أن يُقال لها (2) ذلك، ويؤدي (3) إلى التسلسل.
وسيأتي في مسألة خلق الأفعال أنه لم يَرِدْ في اللغة تسمية (4) كلِّ شيءٍ مخلوقاً، وإن كان الخلق والأمر كلاهما لله تعالى، فَلِكُلِّ واحد منهما اسمٌ يخصه.
ومن هنا اختصَّ الوعيد بالمصوِّرين المتعرِّضين لما سمَّى (5) خلقاً، وقيل لهم: " فليخلُقُوا حبةً أو شعيرةً " وقال صلى الله عليه وآله وسلم:
__________
(1) في الأصول: " كان "، والمثبت من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ب): وذلك يؤدي.
(4) في (ب): تسميته.
(5) في (ب): يسمَّى.(4/386)
" أشدُّ الناسِ عذاباً يوم القيامة الذين يُضَاهُونَ بخلقِ الله "، وفي حديثٍ: " الذين يُشبِّهون بخلق الله " (1)، ولم يدخل في هذا الكلام؛ لأنه لا يُسمَّى مخلوقاً، ولا يقال يوم القيامة: اخلقُوا كلاماً، ولا يقول أهل اللغة: خلقتُ كلاماً، ولا أمراً، ولا نهياً إلاَّ الخلق الذي بمعنى الكذب، وليس من هذا في شيءٍ، فثبت أن كلام الله من أمر الله، لا من خلقه.
فإن قيل: هذا الكلامُ (2) خلاف إجماع (3) أهل البيت عليهم السلام، لأنهم قد أجمعوا على أنه مخلوقٌ، فصرَّحوا بذلك، وردُّوا على من ادَّعى خلافه.
فالجواب: أنَّ هذا غير صحيحٍ على (4) الإطلاق؛ لأن أهل البيت عليهم السلام متقدِّمون ومتأخرون.
فأما الصدر الأول من المتقدمين، فمنهم من صرَّح بمثل مذهب أهل الأثر، ومنهم من لم يُنقل عنه في ذلك نفيٌ ولا إثباث.
وأما المتأخرون منهم، فقد صار في كل فرقةٍ، وقُطر مِنْ فِرَقِ الإسلام وأقطاره منهم طائفةٌ فيهم العلم ووراثة النبوة، كما يعرف ذلك من طالع تواريخ الرجال. وقد تقدم في هذا الكتاب طرفٌ صالحٌ من ذكر
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة أحمد 6/ 36 و83 و85 و86 و219، والبخاري (5954)، ومسلم (2107) (91) و (92)، والنسائي 8/ 214، والبغوي في " شرح السنة " (3215). وانظر " جامع الأصول " 4/ 795 - 797 الطبعة الشامية.
(2) في (ب): كله.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): عن.(4/387)
بعضهم في الكلام على سُهولة الاجتهاد وتعسُّره، وتقدم كلام الإمامين (1) المنصور بالله، والمؤيد بالله يحيى بن حمزة عليهما السلام في تعذُّر معرفة إجماعهم، على أن الإجماع بعد الخلاف -لا سيما الكثير- لا يصح، كما هو مقرَّرٌ في الأصول.
وأنا أُورد ما يُثْلِج الصَّدر، ويقطع الرَّيب في ذلك من نصوصهم من كتبهم الشهيرة الموجودة في خزائن أئمتهم عليهم السلام.
فأقول (2): قال السيد الشريف الإمام أبو عبد الله، محمّد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن عبد الرحمن العلوي الحسني في المجلد السادس مِن تأليفه المسمَّى " بالجامع الكافي في فقه الزيدية " ما لفظه: الكلام في خلق القرآن، قال محمد، يعني: ابن منصور الكوفيّ الشّيعي محبّ أهل البيت، وراوية مذاهبهم (3) في كتاب أحمد: ذاكرت عبد الله بن موسى قول من يقول: القرآنُ مخلوقٌ، فقلت: أدركت (4) أحداً من أبائِك يقول به؟ قال: لا.
قال محمد: وكان عبد الله يكره الكلام فيه، وفي غيره (5)، مِمَّا أحدث الناس، وكان عبد الله إذا ذُكِرَ له رجلٌ ممن يتكلم فيما أحدث الناس من الكلام، قال: اللهم أمتنا على الإسلام ويُمْسِكُ.
قال محمد في كتاب " الجملة ": رأيت أحمد بن عيسى يترحَّمُ (6)
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): مذهبهم.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ب): وغيره.
(6) في (ش): ترحّم.(4/388)
على من يقول بخلق القرآن، ومن لا يقول به، وكان عنده (1) الأخذ بالجمل (2) محمودٌ (3)، وترك ما فيه الفرقة، وهو عنده الاتِّباع للسلف.
قال محمد: حدثني عليُّ بن أحمد الباهلي، أنه ذاكر (4) أحمد بن عيسى اختلاف الناس في خلق القرآن، فقال أحمد: كلا الفرقتين (5) مخطئة في إقدام بعضهم على بعض بالبراءة.
وقال أحمد، فيما حدثنا علي، عن ابن هارون، عن سعدان، عن محمد، عنه، وذكر اختلاف الناس، وتفرُّقهم في الدِّين، فقال: إني لخائفٌ على إمام لو قام (6)، فإنه إن ذهب، توهّم (7) كلّ فرقةٍ أنهم على حق (8)، كان أول من يُهْلِكُ نفسه، وإن صار إلى فرقةٍ، أفسد الباقين (9) على نفسه.
وأخبرنا محمد بن علي بن أبي الجرَّاح، قال: أخبرنا أبي، قال: حدثنا (10) إسحاق بن محمد، قال: حدثني حمدان (11) بن علي بن أيوب، قال: أخبرني بنين العطار، قال: قدم رجل كان يقدَمُ على
__________
(1) في (ب): عند.
(2) في (ب) و (ش): بالجملة.
(3) ساقطة من (ب) و (ش).
(4) في (ب): ذكر.
(5) في الأصول " الفريقين "، والمثبت من (ش).
(6) في (ب): قام به.
(7) في (ب): يوهم.
(8) في (ب): الحق.
(9) في (ش): الباقي.
(10) في (ش): أخبرنا.
(11) في (ب): " أحمد "، وفي (ش): أحمدان.(4/389)
أحمد بن عيسى من أصحاب الكلام فيُناظره (1)، قال: فقدم البصرة، وهو مريض، فقمتُ عليه، فلم يزل عندي حتى مات، فكتبتُ إلى أحمد بن عيسى، أنه قَدِمَ عليَّ (2) فلانٌ، وأنه لم يزل عندي عليلاً حتى مات، وكنت أفعل به، وأفعل (3) حتى مات (4) رحمه الله، وغفر له، ورضي عنه.
فكتب إليَّ أحمد: أمَّا قولك: إنِّي قمتُ عليه وفعلتُ به، فلعمري إنَّ هذا يجب، وأمَّا قولك: رحمه الله، ورضي عنه، وغفر له، فإنما أردت بذلك تُرضيني أن الرجل كان يلقاني فيُناظرُني، وكنت أملُّه، فلمَّا مات، انقطعت عصمتُه. قال: وكان الرجل يقول: القرآنَ مخلوقٌ.
قال الحسنيُّ (5): حدثنا أبو حازم محمد بن علي الوشَّاء، قال: حدثنا إسحاق بن محمد المقرىء، قال: حدثنا (6) عليّ بن الحسين بن كعب، قال: حدثنا يحيى بن حسن بن فرات، ومحمد بن جميل (7)، ومحمد بن راشد، قالوا: سألنا عبد الله بن موسى بن عبد الله (8)، فقلنا له: ما تقولُ في القرآن؟ فقال: مَنْ زعم أنَّ القرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ، لأن الله عزَّ وجل يقول (9): {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ
__________
(1) في (ب): فناظره.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (أ) و (د): فأفعل.
(4) عبارة " حتى مات " سقطت من (ش).
(5) في (ش): الحسن.
(6) في (ش): أخبرنا.
(7) في (ش): حنبل.
(8) " بن عبد الله " ساقطة من (ب).
(9) في (ش): قال.(4/390)
الله} [التوبة: 6].
حدثنا محمد بن جعفر بن النجار، وأبو طالب بن (1) الصباغ، وزيد بن مصاية (2)، عن علي بن عبد الرحمن بن ماتي، عن علي بن الحسين بن كعب بمثله.
حدثنا ميمون بن حميد، قال: حدثنا إسحاق بن محمد، قال: حدثنا عبيد بن كثير، قال: حدثنا عبَّاد بن يعقوب، ويحيى بن حسن بن فرات، قالا: سمعنا عبد الله بن موسى بن عبد الله، يقول: القرآن (3) كلام الله ليس بمخلوق.
حدثنا الحسين بن محمد البجلي (4) المقرىء، قال: حدثنا عليُّ بن بشير بن يعقوب، قال: حدثنا سعدان بن محمد بن سعدان، قال: سمعت الحسين بن الحكم بن مسلم يحدِّثُ أن القاسم كتب إلى عبد الله بن موسى بن عبد الله (5) بن الحسن، يسأله عن القرآن، فكتب إليه عبد الله: نحن نرى أن الكلام في القرآن بدعةٌ، اشترك فيها السائل والمجيب، فتعاطى السائل ما ليس له، وتكلَّف المجيبُ ما ليس عليه، فانتَهِ بنفسك (6) والمختلفون في القرآن إلى أسمائه التي سماه الله بها تكُن (7) من المهتدين، ولا تُسَمِّ القرآن بأسماءٍ من عندك، فتكون
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ج): مضاية.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): البلخي.
(5) من قوله: " بن موسى " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) في (ب): نفسك.
(7) في (د): تكون.(4/391)
من الذين يلحدون في أسمائه، سيُجزون ما كانوا يعملون.
حدثنا ميمون بن علي بن حميد، قال: أخبرنا إسحاق بن محمد المقرىء، قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفرٍ المقرىء، قال: حدثنا إبراهيم بن مبشِّر، قال: قلت لعبد الله بن موسى: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله وكتابه، فقلنا (1): إنَّ عندنا قوماً يقولون: مخلوق، ويقولون: من (2) لم يقل: إنه مخلوقٌ فهو كافرٌ! قال: هم أولى بالكفر.
وقال محمد في كتاب (3) " الجملة ": وسألت القاسم بن إبراهيم عن القرآن؟ فقال: كلام الله ووحيُه وتنزيله، لا يجاوز هذا إلى غيره، وهكذا كان أسلافُنَا.
قال محمد: وكان يقولُ بخلق القرآن، يُضمِرُ ذلك.
وقال لي القاسم: يقال للذين يقولون: القرآنُ مخلوق (4)، أليس قد عَلِمَ الله أنه مخلوق، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: أليس قد عَلِمَ الله أنه مخلوقٌ، واجتزأ، مِنَ الخليقة أن قال لهم: مجعولٌ، فإذا قالوا: نعم، قيل لهم: فلمَ لا تجتزئون مِنْ خلق الله بما اجتزأ (5) الله به لخلقه؟
قال محمد: وذلك حثٌّ منه على القول بالجمل وترك الاختلاف والفرقة. حدثنا ميمون بن حميد، عن إسحاق بن محمد التَّمَّار، عن قاسم بن عبيد، عن بنين بن إبراهيم، قال: قلت للقاسم (6) بن إبراهيم:
__________
(1) في (ب) و (ش): فقلت.
(2) في (ب) و (ش): إن من.
(3) في (ش): كتابه.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): أخبر.
(6) في (ب): لقاسم.(4/392)
قال لي ابن منصور عنك: إنَّك قلت: من زعم أن القرآن مخلوقٌ فقدِ ابتدع، فقال (1): نعم هما بدعتان، لم يبلغنا أنهم قالوا: مخلوقٌ ولا غير مخلوقٍ، ولكنا نقول: كلام الله ووحيه.
حدثنا الحسن بن أحمد بن القطان، قال: حدثنا زيد بن محمد بن أبي اليابس، قال: حدثنا قاسم بن عُبيد، قال: حدثنا أحمد بن سلام، قال: سألت: القاسم بن إبراهيم عن القرآن؟ وأخبرته بما رُوِيَ عن زيد بن علي: إنَّا لا نُشَبِّهُ بالله أحداً، ولا نقول لكلام الله مخلوقٌ. فقال (2): هكذا أقول (3).
وقال محمد: حدثنا أبو الطاهر، عن ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئب (4) عن الزُّهري، عن علي بن الحسين، أنه سُئِلَ عن القرآن، فقال: كلام الله وكتابه (5)، لا أقول غير ذلك.
وحدثني حربُ بن حسن الطَّحَّان، عن أحمد بن مفضل، عن معاوية بن عمَّار، قال: سألتُ جعفرَ بن محمدٍ عن القرآن: خالق أو مخلوقٌ؟ قال (6): لا خالقٌ ولا مخلوقٌ، ولكنه (7) كلام الخالق.
__________
(1) في (ب): قال.
(2) ساقطة من (ش).
(3) هنا زيادة في (ش) نصها: إنما قال ذلك زيد بن علي عليه السلام، لأن من ادَّعى أن القرآن مخلوق التشبيه من (كذا) قال: إنه غير مخلوق، فأوضح عليه السلام أنه لا مانع من الجمع بين نفي التشبيه عن الله عز وجل، ونفي الخلق عن كلامه سبحانه، كما يأتي قريباً في تأويل قول الإمام القاسم إن أخاه الإمام محمداً كان يقول بشيء من التشبيه، قال محمد بن منصور: وذلك عندهم أنه كان لا يقول بخلق القرآن.
(4) تصحفت في (ش) إلى: ذؤيب.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): فقال.
(7) في (ش): لكن.(4/393)
وقال محمد في كتابه (1) " الجملة "، وذكر اختلاف الناس وإكفار بعضهم بعضاً، وإقدامَ بعضهم على بعضٍ بالبراءة والتَّضليل، فقال: رأيتُ المتفرِّقين، وعاشرتُ المختلفين في المقالات من الخاصَّة والعامَّة من علماء آل الرَّسول، وأهل الفضل منهم، وغيرهم من أهل العلم والفضل مِنَ (2) الشيعة الموجبين لإنكار المنكر وحياطة الدِّين، فما رأيتهم يُكَفِّرُ بعضُهم بعضاً، ولا يستحلُّون ذلك، ولا تبرَّأ بعضهم من بعضٍ، بل قد رأيتُ بعضهم يتولَّى بعضاً، ويترحَّم عليه بعد المعرفة منهم لمخالفة بعضهم لبعضٍ في المقالات، سمعت القاسم بن إبراهيم ذكر أخاه محمد بن إبراهيم، فقال: رحمة الله عليه ورضوانه، إنِّي لأرجو أن يكون له يوم القيامة موقفٌ يُغبطُ به، على أنه كان يقول بشيءٍ من التشبيه، وذلك عندهم أنه لا يقول بخلق القرآن، وكان يُكثِرُ التَّرحُّم عليه ما لا أُحصيه، ورثاه بأبياتٍ كتبتُها عنه.
ومِنْ ذلك أن عبد الله بن موسى ذاكرته هذا الأمر، وذكرت له القاسم بن إبراهيم، فقال عبد الله: وددِتُ أنَّه فعل حتى أكون أوَّل من يضع يده في يدِه.
قال عبدُ الله: وقد (3) بلغني أنه يقول بخلق القرآن، ولم أسمع منه.
قال محمد: وحضرتُ عبد الله بن موسى عليه السلام، وجماعة من أهل بيته مجتمعين عند القاسم بن إبراهيم في منزله، فتذاكروا هذا الأمر،
__________
(1) في (ب) و (ش): كتاب.
(2) في (ش): ومن.
(3) ساقطة من (ش).(4/394)
وكان منهم فيه (1) جِدُّ، أين يكون؟ وكيف التأتي له؟ وكاد القاسم أشدهم فيه ذكراً، وكانوا يُومؤون إلى عبدِ الله بن موسى، فقال عبد الله بن موسى: أنا ليس في شيءٍ، قد ضعفت عنه (2)، ولكن من الذي يقوم بهذا، فهذه يدي له، وكأنَّه أومأ إلى القاسم بن إبراهيم قال محمد: وكلُّ (3) واحدٍ منهم يتولَّى صاحبه، ويدين له بالطاعة، ويؤهِّلُه لهذا الأمر الذي ليس فوقَه غايةٌ من تقليد الأحكام، والحلال والحرام، والدِّماء، والمواريث، وهذا غاية الولاية أن جعله بينه وبين الله في دينه يُحِلُّ به (4) ويُحَرِّمُ، يُحِلُّ به الجمعة ركعتين، ويُحرِّمُ به الظهر أربعاً في وقت الجمعة.
قال محمد: وكان عمرو بن الهيثم المُراديُّ من كبار أصحاب سليمان بنِ جرير، وكان يقول: القرآن مخلوق، ويُشَدِّدُ (5) في ذلك، وسمعته يقول: لا رَحِمَ الله ابن أبي دُوَاد (6)، كان الناسُ على جملةٍ تُؤدِّيهم إلى الله عزَّ وجل، فطرح بينهم الفُرقة، يعني: حين أظهر المحنة في القرآن.
قال محمد: وكان عمرو بن الهيثم، وبِشْرُ بن الحسن، ومحمد بن يحيى الحجري دُعاةً لعبد الله بن موسى، ومذهبهُم واحدٌ، بعني: كانوا
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ب) و (ش).
(4) " يحل به " ساقطة من (ب).
(5) في (ش): شدّد.
(6) تحرف في (أ) و (ش) إلى " داود "، وهو أحمد بن أبي داود، تقدمت ترجمته 1/ 356.(4/395)
يقولون بخلق القرآن، وكان عبد الله بن موسى قد بعث ابنيه -أو أحدهما- مع بشر بن الحسن إلى طاهر بن الحسين يدعوه إلى هذا الأمر مع معرفة عبد الله بقول بشرٍ، ومعرفة بشرٍ لعبد الله.
وقوله " بالجمل ": فلم أر أحداً من هؤلاء دان بالبراءة مِمَّن خالفه بالمقالة (1).
قال محمد: وذكر عبد الله بن موسى، محمَّد (2) بن يحيى الحُجري، فقال: كان أصدق أهل الكوفة لي.
قال محمد: وسمعت القاسم بن إبراهيم يقول: ما رأيت كِلْمَانِيّاً (3) قطُّ له خشوعٌ، ثم قال: الجمل الجمل.
قال محمد: وقال لي محمد بن عبد الله الإسكافي (4)، وكان يقول بخلق القرآن: إذا كان هذا الأمرُ، كَتَبْنَا على الأعلام: لا إله إلاَّ الله، محمدٌ رسولُ الله، القرآن كلامُ الله. يريدُ بذلك الأُلْفَةَ واجتماع الكلمة، وترك الاختلاف والفُرقةِ.
قال محمد: وقد عاشرتُ المعتزلة (5)، ومن لا أُحصي مِنْهُم مِمَّن يقول بهذا القول، منهم: جعفر بن حرب (6)، وجعفر بن مبشِّر
__________
(1) في (ب) و (ش): في المقالة.
(2) في (ب): موسى بن محمد.
(3) في (ب): كلمانياً.
(4) هو أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي أحد المتكلمين من المعتزلة، توفي سنة 240 هـ. انظر ترجمته في " تاريخ بغداد " 5/ 416.
(5) في (ب): رؤساء.
(6) هو أبو الفضل جعفر بن حرب الهمذاني المعتزلي العابد، كان مِنْ نُسَّاك القوم، وله تصانيف، توفي سنة 236 هـ. مترجم في " السير " 10/ 549 - 550.(4/396)
القصبيّ (1)، ومحمد بن عبد الله الإسكافي، فما سألني أحدٌ منهم قطُّ (2) عما يختلِفُ الناس فيه من أمر القرآن، والاستطاعة، ولا كشفوني عن شيءٍ من ذلك.
وأخبرني أبو سهل (3) الخراساني أنه كان رسول سهلِ (3) بن سلامة، وهُوَ من كبار المعتزلة وعُبَّادهم - إلى عبد الله بن موسى يدعوه إلى أن يتقلَّد هذا الأمر، ويكون سهل (3) عوناً له عليه.
قال محمد: فهذا غيرُ سبيلُ المنتحلين اليوم للدِّين، وغير ما أظهروا وشرَّعوا من التباين، والبراءة، والتَّكفير، وهذا هو الفرقة والاختلاف الذي نهى الله عنه في القرآن بقوله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19].
فأخبر سبحانه أن اختلافهم بغيٌ من (4) بعضهم على بعضٍ، وأخبر عز وجل أن في (5) الفُرقة الضَّعف والفَشَلَ عن العدو، فحذَّر من ذلك بقوله: {ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، يقول الله عز وجل: فتذهب هَيْبَتُكُمْ.
__________
(1) هو أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي المعتزلي. قال الذهبي: كان مع بدعته يوصف بزهد وتألُّه وعِفَّة، وله تصانيف جمة، وتبحّر في العلم. انظر ترجمته في " السير " 10/ 549.
(2) في (ش): قط منهم.
(3) في (ش): سهيل.
(4) في (ش): عن.
(5) ساقطة من (ب).(4/397)
فهذا ما ندب الله إليه مع ما رأينا عليه السلف الصالح المتقدِّم الذين (1) يصلحُ أن نجعلَهم بينا وبين الله تعالى، لأنهم لا يخلُون من (2) إحدى منزلتين:
إما أن يكونوا علموا أنَّ الديانة فيما بينهم وبين الله تعالى القول ببعض هذه المقالات التي تنازع الناس فيها حقٌّ واجبٌ لازمٌ، فأجزأهم من ذلك الإضمار، ورأوا الصَّواب والرُّشد في الإمساك عَنِ الإظهار لما فيه مِنَ (3) الفُرقة والاختلاف الذي نهى الله عنه، فرأوا الجمل والقول بظاهر القرآن كافياً مُؤدِّياً للعباد إلى الله عزَّ وجلّ، فتمسَّكُوا بذلك، فينبغي لِمَنْ أمَّ الدِّين، وقصد (4) إلى الله الاقتداء بهم، والتَّمسُّك بسبيلهم.
أو يكونوا لم يعتقدوا في ظاهر الأمر وباطنه إلاَّ القول بظاهر القرآن، والجُمَلِ المجمع (5) عليها، فقد يجبُ الاقتداء بهم أيضاً (6) في ذلك.
قال محمد: وهذا أحمد بن عيسى قد اجتمع عليه المختلفون، واتَّخذ من يَشْرَكُه في أمره جماعة من المتفرِّقين.
وقد كتب إليه عبد الله بن محمد بن سليمان يسأله عن القرآن، وغيره باختلاف الناس فيه (7). فكان فيما كتب إليه أحمد بن عيسى: ذكرت اختلاف الناس في القرآن، ولم يختلفوا أنه من عند الله.
__________
(1) في (د) و (ش): الذي.
(2) في (ش): بين.
(3) وردت في (ب): فقط.
(4) في (ش): وقصدوا.
(5) في (ب) و (ج) و (د): المجتمع.
(6) سقطت من (ش).
(7) في (ش): عنه.(4/398)
فهذا من أحمد دليلٌ على أن الأخذ بظاهر القرآن، والجُمَل المجمع (1) عليها مجزىءٌ مؤدٍّ (2) إلى الله تعالى، وقد علمت أن رجال أحمد بن عيسى الذين كان يُوجِّهُهم في أموره مختلفون (3)، منهم: حسن بن هُذيل على مذهب أبي الجارود، ومنهم: عبد الرحمن بن معمر، وهو يظهر القول بخلق القرآن (4) لا يستتر بِهِ، ومخول بن إبراهيم، وأمثالُهم كثيرٌ من المختلفين، فلم نره بان بِفرقة يُفَارِق (5) فيها أخرى، وقد كان رحمة الله عليه عالماً بما يَضِيقُ عليه من ذلك، وما يتَّسع له في أمر دينه، ولو ضاق عليه ذلك لم يفعله.
وهذا الحسن بن يحيى، أنا متَّصلٌ به منذ (6) أربعين سنةً أو قريباً من ذلك يُعاشِرُ ضُروباً من المتدينين مختلفين في المذاهب (7)، فما رأيته مع قوله بالجملة، وكراهية (8) للفرقة امتحن أحداً، ولا كشفَ له عن مذهبٍ، بل قد رأيتُه يعُمُّهم بالنَّصيحة، ويُحْسِنُ لهم العِشْرَةَ، ويترحَّمُ (9) على مَنْ مضى من سلفه، وأهل بيته ممَّن يوافقُه في المقالة ويخالفه، هذا مع جلالة سنِّه، وكثرة علمِه، ومعرفته، بما يلزم في ذلك ويجب عليه.
قال محمد في كتاب " الجملة ": وأخبرني من أثِقُ به مِنْ آل
__________
(1) في (ب) و (ج) و (د) و (ش): المجتمع.
(2) في الأصول: " مؤدي "، والمثبث من (ج).
(3) جاء في هامش (ج) و (د): " في الأصل: مختلفين ".
(4) في (أ) و (ج) و (د): يظهر القول بالقرآن.
(5) في (ش): مفارقة.
(6) سقطت من (ش).
(7) " في المذاهب " لم ترد في (ش).
(8) في (ش): وكراهته.
(9) في (ش): وترحم.(4/399)
الرسول (1) - صلى الله عليه وسلم -، عن محمد بن عبد الله، أنه أوجب على من قام بهذا الأمر الدُّعاء لجميع الدِّيانين، وقَطْعَ الألقاب التي (2) يُدعى بها فرقُ المصلين، وغلق الأبواب التي في فَتْحِ مثلِها يكون عليهم التَّلفُ (3)، والإمساك عمَّا شتَّت الكلمة، وفرَّق الجماعة، وأغرى بين الناس فيما اختلفوا فيه وصاروا به أحزاباً، والدعاء لطبقات الناس من حيث يعقلون (4) إلى السبيل الذي (5) لا ينكرون، وبه يُؤَلَّفون، فيتولَّى بعضهم بعضاً، ويدينون بذلك، فإنَّ اجتماعهم عليه إثباتٌ للحق، وإزالةٌ للباطل.
قال محمد: وكذلك سمعنا عن إبراهيم بن عبد الله، أنه سُئل عن بعض ما يختلف النَّاس فيه من المذاهب، فلم يُجِبْ فيه، وقال: أعينوني على ما اجتمعنا عليه حتى نتفرَّغ لما اختلفنا فيه.
حدثنا أبو الحسن محمد بن جعفر بن محمد النحوي، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: قال لي القاسم بن إبراهيم: أخبرني بعض (6) من أثِقُ به من آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عن محمد بن عبد الله بن الحسن، أنه قال: يجب على من قام بهذا الأمر الدعاء لجميع الناس، وقطعُ الألقاب التي يدعى بها فرقُ المصلين، وذكر مثل هذا الكلام.
__________
(1) في الأصول كلها ما عدا (أ): آل رسول الله.
(2) تحرفت في (ش) إلى: " الذي ".
(3) تحرفت في (ش) الى: " التالف ".
(4) في (ش): لا يعقلون.
(5) في (ب) و (ج) و (د): التي.
(6) " بعض " لم ترد في (أ).(4/400)
قال الحسن بن يحيى: أجمع آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) على أن الله خالقُ كل شيءٍ، والقرآن (2) كلام الله ووحيه وتنزيله، يُسَمَّى بما سمَّاه الله به في كتابه، لا يجاوزُ ذلك إلى غيره.
وقال الحسن -وسُئِلَ عن القرآن-: قد وجدنا الله سبحانه سمى القرآن بأسماءٍ في كتابه لم يُرِدْ من خلقه أن يتكلَّفوا للقرآن أسماء غير ما سماه الله به، وقَبِلَ ذلك من أهل الإسلام في عصر نبينا عليه السلام، ومن القرون التي كانت من بعده، حتى تكلم المتكلمون بالرأي، وتراقَوْا في دينهم رجماً بالغيب إلى صفة ما لا يُدْرِكُونَه من نعت خالقهم، وحتى نحلوا القرآن أسماء برأيهم لم نجدُه منصوصاً في آيةٍ محكمةٍ يُستغنى بها عن التَّأويل، واحتجوا بأنهم لم يجدوا للمجعول (3) معنى يصرفونه إليه إلاَّ مخلوقاً، فسمَّوا القرآن -برأيهم- مخلوقاً (4)، ولو سمَّوه مجعولاً، كما قال - ومُنَزَّلاً ومُحْدَثاً، كما قال الله ولم يَتَرَاقَوْا رجماً بالغيب إلى تحديد القرآن من ذات الله تبارك وتعالى عن أن يُدْرِكَه الواصفون إلاَّ بما وصف به نفسه في كتابه بلا تحديدٍ ولا تشبيه ولا تناهي.
ومعنى قوله: {إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرآناً عَرَبيّاً} [الزخرف: 3]: صيَّرناه (5)، قال الله تعالى: {يا داوُدُ إنَّا جعلنَاكَ خَلِيفَةً في الأرضِ} [ص: 26]، يعني: إنَّا صيرناك خليفةً في الأرض.
ولسنا نقول: إن القرآن خالقٌ ولا مخلوقٌ، ولكنا نسمِّيه بالأسماء
__________
(1) من قوله: " عن محمد بن عبد الله بن الحسن " إلى هنا ساقط من (ج).
(2) في (ب): وأنَّ القرآن.
(3) في (ش): للمجهول.
(4) من قوله: " فسمّوا " إلى هنا ساقط من (ب).
(5) ساقطة من (ب).(4/401)
التي سمَّاه الله بها في مُحكم كتابه، قال الله تعالى: {وكلَّمَ اللهُ موسى تَكليماً} [النساء: 164]، وقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51] وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]. فمن زعم أنَّ الداعي لموسى إلى عبادته غير الله، فقد ضلَّ، وقال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء} [الشورى: 51].
فقد بيَّن لنا كيف (1) جهة كلامه، فكلامٌ (2) من كلامه أرسل به جبريل إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومن كلامه وحيٌ بلا رسول (3)، وقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]، {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. فقد أوحى بلا رسول، ومنه الوحي إلى الرسل في النوم، ومنه (4) كلامه لموسى عليه السلام بلا كيفية، فليس لنا أن نُكَيِّفَ ما لَم يُكيِّفِ الله تعالى، ولا نَحُدّ ما لم يَحُدّ الله، فمَنْ حدَّد ما لم يحد (5) الله، فقد اجترأ على تأويل علمِ الغيب بلا حُجَّةٍ.
والقرآن (6) كلامُ الله ووحيُه، وتنزيلُه، وكتابُه، وقال: {قُرْآنٌ مجيدٌ في لوحٍ محفُوظٍ} [البروج: 21، 22]، وقال: {قُرْآنٌ كَرِيمٌ
__________
(1) في (أ): كشف.
(2) في (ب): " بكلام "، وفي (ج): " وكلام ".
(3) من قوله: " فيوحي بإذنه ما يشاء فقد بين لنا " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (أ) و (ب): " ومن "، وهو خطأ.
(5) في (ش): يحدد.
(6) تحرف في (ب) إلى: وألفوا أن.(4/402)
في كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78]، وقال: {لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42]، وقال: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5].
فأحدث في قلوب العباد بالرسل من تنزيل الكتاب ما لم يكونوا يعلمون، وإنَّا وجدنا الله تعالى يقول في كتابه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، وقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان: 27]، وقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
فإذا كان القرآن يكونُ بـ " كُنْ " (1) وتكون " كن " بـ " كن "، فمتى يتناهي علمُ مَنْ رجم بالغيب في معرفة كينونة القرآن من ذات الله؟ وقد قال عليٌّ عليه السلام: يا بَرْدَهَا على الكَبِدِ (2) إذا سئل المرء عمَّا لا يعلم أن يقول: الله أعلم.
حدثنا زيد بن حاجب، عن ابن وليد (2)، عن جعفر بن الصَّيدلاني، قال: أخبرني يحيى بن أبي عطاء البراد، أنه سمع (2) الحسن بن يحيى، يقول: ليس بمخلوقٍ، يعني: القرآن.
__________
(1) في (ب): أيكون كن.
(2) من قوله: " علي " إلى قوله: " الكبد "، ومن قوله: " حدثنا زيد " إلى قوله: " وليد "، ومن قوله: " أخبرني يحيى " إلى قوله: " سمع " ساقط من (ب).(4/403)
وقال الحسن فيما روى ابنُ صباح عنه، وهو قول محمدٍ في المسائل، وسُئِلا عمَّن يقول: القرآن مخلوقٌ أو غيرُ مخلوق، فقالا: القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله، نقولُ في ذلك ما قال الله، ولا نتعدَّى ذلك إلى غيره، والله خالقُ كل شيءٍ، الأول قبلَ كُلِّ شيء وخالقه، والباقي بعد كُلِّ شيءٍ (1) ووارثُه، وكلُّ ما كان دون الله (2)، فهو مخلوق.
وقال أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام: الزم ما اجتمع عليه المتفرِّقون. قال محمد: فاكتفِ بما لا اختلاف فيه، ولا فُرقَةَ من الجملة التي دلَّ عليها الكتاب (3)، وما اجتمع عليه مِنَ الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن المحنة عندنا في القرآن بدعةٌ.
فأمَّا من يقول: إنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى تكليماً، فإن هذا رادٌّ لتنزيل القرآن، بل نقول كما قال الله عز وجل: {وكلَّمَ اللهُ موسى تكليماً} [النساء: 164] على معنى ما أراد، لسنا نُكيِّفُ ذلك. وقد علمنا أن الكلام من الله عزَّ وجلَّ على وجوه شتَّى، وكذلك الوحي منه على وجوه شتَّى، قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51].
فهذه حالات الأنبياء، وقوله: {إلاَّ وَحْيَاً} في النوم، وكذلك
كان (4) أمرُ النبيِّ عليه السلام خمس سنين أنه يرى في النوم الوحيَ، ثمَّ
__________
(1) من قوله: " وخالقه " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في (ش): من دون ذلك.
(3) في (ش): الكتاب والسنة.
(4) في (ش): كذلك وكان.(4/404)
ظهر له جبريل بعد ذلك (1)، وأما قوله: {أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}، فكما كلَّم موسى عليه السلام. وأمَّا قوله: {أو يُرْسِلَ رَسُولاً}، فهو جبريل.
قال محمَّد، وقد سئل عن قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} [يس: 82]، فقال: نقول في ذلك ما قال الله تعالى، ولا نكيفه، ويقال -والله أعلم-: إن لوحاً بين عيني إسرافيل، فإذا أراد الله أمراً، أقرأه (2) إسرافيلَ في ذلك اللوح.
تمَّ بعونه تعالى الجزء الرابع من العواصم والقواصم
ويليه إن شاء الله
الجزء الخامس وأوله: الوهم السادس عشر: قال: وقد نسب إلى الشافعي القول بالرؤية
__________
(1) في خبر عائشة المطول في البخاري (3): أول ما بدىء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلاَّ جاءت مثل فَلَقِ الصبح ... وانظر " الفتح " 1/ 27.
(2) في (د): قرأه.(4/405)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الخامس
مؤسسة الرسالة(5/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
5(5/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(5/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(5/4)
الوهم السَّادس عشر: قال: وقد نُسِبَ إلى الشافعي القول بالرُّؤية، فطرَّق عليه الاحتمال، لأن الرؤية إما أن تكون بكيف، أو بلا كيف، والمكيَّفة تجسيمٌ لا محالة.
أقول يَرِدُ على كلامه هذا (1) إشكالات:
الإشكال الأول: أنه قد منع في أوَّل رسالته من صحة " كتاب البخاري " عن مولِّفه، وأمثال ذلك مع شدَّة العناية من مؤلِّفه في تبليغ كتابه واشتغاله بتسميعه، حتى نُقِلَ أنه سمعه منه قدرُ مئة ألفٍ، ثمَّ اشتدَّت عناية الراغبين في هذا الفنِّ في سماعه سماعاً متَّصلاً، ولم تعرض فترة فيما بيننا وبينه في ذلك قطُّ، فلما توفر داعي (2) هذا المعترض إلى اللجاح في التشويش على المسلمين في علم الحديث بالقدح في أئمة رواته، قبل ما نُسِبَ إلى الشافعي مجرَّد نسبةٍ أورَدَهَا على صيغة ما لم يُسَم فاعله، وهي الصيغة المعروفة بصيغة التمريض، وجعلها وسيلةً منتهضةً إلى رتبة التَّشكيك في كفر إمام الإسلام وعَلَم الأعلام.
الإشكال الثاني: أنَّ شيوخ المعترض وأئمته في بدعة الكلام من المعتزلة مُصفِقُون (3) على تعظيم الشافعي، ودعوى أنه منهم في بدعهم (4)، وحاشاه من ذلك، وكثيرٌ منهم مقلِّدون له في الفروع، أتبع له من الظِّلِّ، وأطوع له من النعل، وكفي بما ذكره صاحبُكم، بل شيخكُم الحاكم المُحسِّن بن كرامة (5) من
__________
(1) سقطت من (ش).
(2) في (أ) و (ج): دواعي.
(3) في (ش): مطبقون.
(4) في (ب) و (ش): بدعتهم.
(5) تقدمت ترجمته 1/ 296 و2/ 333.(5/5)
ذلك في كتابه " شرح العيون "، وهم عند المعترض أجلُّ وأعقلُ من أن يقلِّدوا ويُعَظِّمُوا مشكوكاً في كفره وإلحاده، مغموصاً عليه في صحة إيمانه واعتقاده، فلو سلك مسلك (1) العُلماء في اعتراضاته، لبيَّن وجه (2) الترجيح لسوء الظن بهذا الإمام الجليل، والعلم الشهير.
الإشكال الثالث: أن أئمة الزيدية مشهورون بتعظيمه، وتعظيم علمه وتدوينه، والاعتداد بخلافه، والتدريس في فقهه، وقد نصَّ الإمام المنصور بالله على ذلك في الرِّسالة العامة من " المجموع المنصوري "، ولم يعترضْهُ أحدٌ، وذكر صحة موالاته -رضي الله عنه- لأهل البيت عليهم السلام، وهو مشهور بذلك، حتى روى عنه يحيى بن معين، وأبو عبيد: أنه شيعي المذهب، ذكره الذهبي في " النبلاء " (3).
وذكر الذهبي في ترجمته من (4) " النبلاء " أبياته المشهورة في ذلك منها قوله:
يا راكباً قِفْ بالمحصَّبِ مِنْ مِنى ... واهتِفْ بِقَاطِنِ أهلِهَا (5) والنَّاهِضِ
إلى قوله (6):
إن كان رفضَاً حُبُّ آل محمَّدٍ ... فَلْيَشْهَدِ الثَّقلانِ أنِّي رافِضِي
وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في ترجمته. فَبِمَن اقتديتَ أيُّها المبتدع في انتقاص الإمام الشافعي؟! فما يغُضُّ من مناقبه إلاَّ سخيف العقل، بعيدٌ من العلم والفضل، ولا بد إن شاء الله من إيراد ترجمته وما اشتملت عليه من شهادة
__________
(1) في (ب) و (د) و (ش): مسالك.
(2) في (ب): وجوه.
(3) 10/ 58.
(4) في (ش): في.
(5) في " السير ": بقاعد خيفنا.
(6) " إلى قوله " ساقطة من (ب).(5/6)
علماء الأمة، وعيون الأئمة بعلُوِّ مرتبته، ليعلم المعترض أنه أحقر من أن يرفع رأسه إليه، وأخفُّ وزناً من أن يُقبَلَ منهُ الكلام عليه، وكيف يُقبلُ القدحُ من معترفٍ بالجهل، مصنِّف بالاحتجاج (1) على تعفِّي (2) رسوم العلم فيمن أجمعت الأمة على إمامته فيم الإسلام، وأنَّه مِن أفضل عُلماء الملة الأعلام (3)، بل
__________
(1) في (ب) و (ج) و (د): في الاحتجاج.
(2) في (أ): " معفى "، وفي (ش): بعض.
(3) جاء في هامش الأصل ما نصه: وفي " كتاب القادري في التعبير " ليعقوب الدينوري ما لفظه: قال المسلمون: حُبس محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه مع قوم من الشيعة بسبب التشيع، فرأي كأنه مصلوب مع علي بن أبي طالب عليه السلام في قناة، وقصَّ رؤياه على مُعَبِّر، فقال: إن صدقت رؤياك، شُهِرْتَ وذُكرت، وانتشر أمرك، فجرى بينه وبين محمد بن الحسن في مجلس الرشيد مناظرات، فعلا أمره.
قال شعيب: والجزء المؤلف في رحلة الشافعي المروي من طريق عبد الله بن محمد البلوى الكذاب الوضاع، أوردها البيهقي في " مناقب الشافعي " 1/ 130، ولم ينبه على وضعها، مع أنَّه غير خافٍ بطلانها، وقد انخدع بصنيعه هذا غير واحد ممن ألف في مناقب الشافعي، ممن لا شأن له في تمحيص الروايات وغربلتها من أمثال الجويني، والرازي، وأبي حامد الطوسي، واعتمدوها في ترجيح مذهب الشافعي على غيره من الأئمة المتبوعين وما أدري كيف راجت هذه الأكذوبة على الإمام النووي، وهو من نقدة الأخبار وجهابذة المحدثين، فقال في " المجموع " 1/ 8: وفي رحلته مصنف مشهور مسموع، ونقل منها في " تهذيب الأسماء " 1/ 59 قوله: وبعث أبو يوسف القاضي إلى الشافعي حين خرج من عند هارون الرشيد يقرئه السلام، ويقول: صنف الكتب، فإنك أولى في هذا الزمان.
أما الحافظ ابن حجر، فقد قال في " توالي التأسيس " ص 71: وأما الرحلة المنسوبة إلى الشافعي المروية من طريق عبد الله بن محمد البلوي، فقد أخرجها الآبري والبيهقي وغيرهما مطولة ومختصرة، وساقها الفخر الرازي في " مناقب الشافعي " ص 23 بغير إسناد معتمداً عليها، وهي مكذوبة، وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفق من روايات ملفقة، وأوضح ما فيها من الكذب قوله فيها: إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن حرضا الرشيد على =(5/7)
العجب أن المعترض نقل في تعسير (1) الاجتهاد، أن الاجتهاد خُتِمَ بالإمام الشافعي، وأنه لا يُوجَدُ بعده مجتهدٌ، واحتجَّ على ما رام تصحيحه من هذه الدعوى، بما نُقِلَ من ذلك عن بعض قدماء (2) أصحابه رضي الله عنه، كما تقدم إيضاح ذلك، وما يؤدي إليه من الجهالات الكبار، وتجهيل علماء العترة، والأمة الأخيار، فما أحسن بمن يدعي هذا الجهل العظيم أن يزُمَّ لسانه عما لا يعلم، فإن الصمت سلامة الجاهل خصوصاً، وبئس ما جزيت به هذا الإمام الجليل في حُبِّه لأهل البيت عليهم السلام إذ (3) كنت من أهل البيت الشريف، والمَحْتِدِ المُنيف.
فقد روى السيد الإمام أبو طالب عليه السلام في أوائل " أماليه " ما لفظه: أبو العبَّاس أحمد بن إبراهيم الحسنى، قال: حدَّثني عبد الله بن أحمد بن سلاَّم، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن منصور، قال: كنت عند القاسم بن إبراهيم بالقريتين (4). فجرى ذكرُ الشافعي (5)، فأثنى عليه خيراً، فقلنا
__________
= قتل الشافعي، وهذا باطل من وجهين:
أحدهما: أن أبا يوسف لما دخل الشافعي بغداد كان مات ولم يجتمع به الشافعي.
والثاني: أنهما كانا اتقى لله من أن يسعيا في قتل رجل مسلم لا سيما وقد اشتهر بالعلم، وليس له إليهما ذنب إلاَّ الحسد له على ما آتاه الله من العلم، هذا ما لا يظن بهما، وإن منصبهما وجلالتهما، وما اشتهر من دينهما ليصد عن ذلك.
والذي تحرر لنا بالطرق الصحيحة أن قدوم الشافعي بغداد أول ما قدم كان سنة أربع وثمانين، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنتين، وأنه لقي محمد بن الحسن في تلك القدمة، وكان يعرفه قبل ذلك من الحجاز وأخذ عنه ولازمه.
(1) في (أ): تفسير.
(2) سقطت من (ش).
(3) في (ش): أن.
(4) القريتان على لفظ تثنية قرية: موضع في طريق البصرة إلى مكة. " معجم ما استعجم " ص 1069.
(5) عبارة " ابن إبراهيم بالقريتين فجرى ذكر الشافعي " سقطت من (ش).(5/8)
له: رأيته؟ فقال: كان صديقي والمختصَّ بي، وما رأيتُ في (1) إخواننا الفقهاء أشد تحقيقاً (2) بالعدل منه. انتهى بحروفه.
وكذلك فليكن ثناءُ علماء (2) أهل البيت عليهم السلام على علماء الإسلام {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وأما المسارعة إلى وصم (3) علماء الإسلام بالعظائم، بل التشكيك في إسلامهم من غير مُوجبٍ لذلك، فهذا صنيع من لا خلاق له من أعداء (4) الإسلام الملاحدة (5)، صانَ الله السيد عن ذكرهم، وأعاذ الجميع من التَّخلُّق بأخلاقهم.
الإشكال الرابع: أن الأمة قد أجمعت على تعظيم الشافعي رضي الله عنه.
أمَّا أهلُ السُّنَّة: فواضحٌ.
وأما الشيعة والمعتزلةُ، فلإجماعهم على الاعتداد بأقواله، وأنه لا ينعقدُ إجماع الأمَّة مع خلافه، ولتدوينهم لعلومه، وتعلُّمهم لها، وتعليمها، وتقريرهم على ذلك، ولا يُعلم من أحدٍ منهم أنه تعرَّض لتجهيله وتكفيره، ولا للتشكيك في ذلك.
فإذا تقرَّر ذلك، ثبت أن المعترض قد خرق الإجماع، ورضي لنفسه بالانتظام في سلك سَقَطَةِ (6) المتاع، الذين اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وجُبلوا
__________
(1) في (أ): من.
(2) في (ب) و (ج) و (د): تحققاً.
(3) سقطت من (أ).
(4) في (ب): أئمة.
(5) في (ش): من الملاحدة.
(6) في (ج): سقط.(5/9)
على محبة القدح في أئمة الدين، وخالفوا المحمود من طرائق المتَّقين في الذب عن الغائبين (1).
وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن سبِّ الأموات (2)، وذكر مساوئهم (3)، فهذا فيمن له مساوىءُ تُذكر، وذنوبٌ تُستنكر، فأمَّا الافتراء على أهل الرتب الرفيعة، والجرأة على القدح فيهم والوقيعة، فليس يرضى بذلك لنفسه متَّقٍ متحرِّزٌ، بل (4) ولا عاقلٌ مميِّزٌ، فبادِرْ بالتوبة من ذلك إن كان لك في الفلاح نصيب، فإن الله تعالى يقبل توبة (5) العبد المنيب.
__________
(1) في (ب): المؤمنين.
(2) أخرج أحمد 6/ 180، والبخاري (1393) و (6516)، والنسائي 8/ 33 من حديث عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا ".
ورواه من حديث ابن عباس: النسائي 8/ 33، ومن حديث ابن عمر: الطبراني في " الكبير" 12/ (13605)، ومن حديث الميرة بن شعبة: أحمد 4/ 252، والترمذي (1982)، وانظر " مجمع الزوائد " 8/ 76.
(3) أخرج أبو داود (4900)، والترمذي (1019)، والحاكم 1/ 385 من حديث ابن عمر رفعه: " اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم "، وفي سنده عمران بن أنس المكي، وهو ضعيف، ولأبي داود (4899) بإسناد صحيح من حديث عائشة مرفوعاً: " إذا مات صاحبكم فدعوه ولا تقعوا فيه ".
وأخرج الطيالسي (1494) من طريق إياس بن أبي تميمة عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً ذكر عند عائشة، فلعنته أو سبته، فقيل لها: إنه قد مات، فقالت: استغفر الله له، فقيل لها: يا أم المؤمنين، لعنتِه ثم استغفرتِ له! فقالت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تذكروا موتاكم إلاَّ بخير ".
وأخرجه النسائي 4/ 52 عن إبراهيم بن يعقوب، حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا وهيب، حدثنا منصور بن عبد الرحمن، عن أمه، عن عائشة قالت: ذكر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - هالك بسوء، فقال: " لا تذكروا هلكاكم إلاَّ بخير ".
(4) سقطت من (ش).
(5) سقطت من (ب).(5/10)
الإشكال الخامس: أنه قد روي القول بالرُّؤية عن خلائق لا ينحصرون، كما تأتي طُرُقُ (1) ذلك ونسبتها إلى كُتب الإسلام الشَّهيرة (2).
فممن رُوِيَ عنه القول بها: أمير المومنين عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، وأبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه، وبحرُ العلم وحَبْرُه عبد الله بن عباس، وحذيفة بنُ اليمانِ، وعبد الله بن مسعودٍ، ومعاذُ بنُ جبلٍ، وأبو هريرة، وعبدُ الله بن عمر بن الخطاب، وفضَالةُ بن عُبيدٍ، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وكعب الأحبار.
ومن التابعين: سعيد بن المسيِّب، والحسن البصري، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وعمر بن عبد العزيز، والأعمش، وسعيد بن جُبير، وطاووس اليماني، وهشام بن حسان، والقاضي شريك بن أبي نَمِرٍ (3)، وعبد الله بن المبارك، وأئمة المذاهب الأربعة، والأوزاعي، وإسحاق بن راهويه، والليث بن سعدٍ، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجرَّاح، وقتيبة بن سعيدٍ، وأبو عبيدٍ (4) القاسم بن سلاَّم.
فكل هؤلاء رُوِيَ عنهم القول بالرُّؤية كما يأتي، فلم يستخرج لهم أحدٌ احتمال التشبيه والكفر، فما خصَّ المعترض باستخراج ذلك من بين الأمة وما خصَّ الشافعي باستخراج ذلك له (5) من بين الأئمة (6).
__________
(1) في (ش): يأتي طريق.
(2) سيورد المصنف فيما بعد الأحاديث الواردة في مسألة الرؤية وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء في ذلك نقلاً عن الإمام ابن القيم من كتاب " حادي الأرواح ".
(3) هذا وهم من المصنف رحمه الله، فشريك بن أبي نمر: لم يكن قاضياً، والصواب شريك بن عبد الله النخعي، وقد أورد المصنف كلامه في إثبات الرؤية ص 467، فانظره هناك.
(4) في (ش): " أبو عبيدة "، وهو تحريف.
(5) سقطت من (ب) و (ش).
(6) في (ب) و (ش): الأمة.(5/11)
فإن قلت: إن الرِّواية عنه صحيحة دون الأئمة، وإنك مختصٌّ بالإصابة دون الأمة، فهاتِ الأدلة الصَّحيحة على ذلك، وإلا فأنت هالكٌ متهالكٌ في سُلوك هذه (1) المسالك.
الإشكال السادس: أنَّ الأمة مجمعةٌ على إطلاق كثير من أسماء الله الحسنى وألفاظ القرآن الكريم مما (2) يحتمل مثل (3) استخراج المعترض لذلك الاحتمال الشنيع، والاستنباط البديع.
ومن أوضح ذلك مع كثرته (4): إطلاق الرحمن الرحيم على الله تعالى، وأنه واسع الرحمة، وخير الراحمين، وأرحم الراحمين على سبيل المدح له، والثناء عليه بذلك كما يُمدح بجميع ذلك في كتابه المبين، وكلامه (5) الحق اليقين، وكما (6) أن ذلك يحتمل في اللغة أن يُفسَّر بمثل رحمة المخلوق المؤلمة لقلبه، المُبكية لعينه، المُنَغِّصة لعيشه عند عجزه اللازمة لكثيرٍ من الآفات لنقصه، ولم يحتمل (7). من أطلقها (8) على الله على شيء من ذلك، لأن الله سبحانه يختصُّ من كل صفةٍ بمحاسنها دون مساوئها، كما أنه لما اتصف بالعلم (9)، لم يجُزْ عليه ما يجوزُ على المخلوق العالم من اكتساب العلم، وحدوثه، وتغيُّره، والشك فيه، والنِّسيان له، والتألم ببعضه، وسائر النقائص.
__________
(1) في (ش): تلك.
(2) في (ش): ما.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): كثرة.
(5) في (ش): وكلام.
(6) في (ب): فكما.
(7) في (ب) و (ج) و (د): يحمل.
(8) في (ش): إطلاقها.
(9) في (ب) و (ش): بالعليم.(5/12)
وكذلك كلُّ من صح عنه من المسلمين ماله وجهان، ومَحمِلان: حَسَنٌ وقبيحٌ، فإنه يُحمل على الوجه الحسن، والمَحمِل الجميل، ولا يحِلُّ لأحد التشكيك في إسلامه، والقدح فيه بسبب ذلك الاحتمال، وإنما يبالغ في إنكار ذلك ويستخرج منه الكفر، ولا يُجيز منه شيئاً، من ينفي جميع أسماء الله الحسنى من الباطنية، ويعتذرون لإلحادهم بتنزيه الله تعالى من إطلاق الألفاظ عليه، وتناول العبارات له.
فكما أن المعتزلة ترُدُّ عليهم ذلك (1) بالرُّدود المعروفة في ذلك، فكذلك أهل السنة يرُدُّون على المعتزلة مشاركتهم لهم في بعض ذلك بتلك الردود بعينها.
ألا ترى أن الباطنية يردون حقائق جميع أسماء الله -كالعليم القدير- إلى المجاز، وكذلك المعتزلة (2) تردُّ حقائق بعض أسمائه -كالرحمن الرحيم- إلى المجاز.
وقد تقدم في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في الوهم الخامس عشر السابق قبل هذا كيفية الرَّد عليهم، وبيانُ تناقضهم في ذلك، وقد يُطلِقُ بعض علماء العِترة وأئمتهم، وأئمة الاعتزال نحو ذلك.
وكذلك رُوِيَ عن الشافعي، فلا يُستخرج لهم منه جرحٌ، ولا يصحُّ به فيهم قدحٌ.
مِنْ ذلك قول الإمام أحمد بن عيسى بن زيدٍ عليه السلام في كتابه " علوم آل محمد " في باب فضل الحج وثوابه بعد رواية حديث النزول ما لفظه: وقال (3) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أعظمُ من أن يزول عن مكانه، ولكن هبوطه نظره إلى السماء (4) " انتهى بحروفه.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): جميع المعتزلة.
(3) في (ش): وقول.
(4) لم أقف على هذا الحديث في شىء من كتب السنة، وغالب ظني أنه موضوع. وفي =(5/13)
وقال في " الجامع الكافي ": إن القرآن كلام الله غيرُ مخلوق، وقال ذلك من أئمة العترة: زيد بن علي، وجعفر الصادق، وعبد الله بن موسى، والحسن بن يحيى وغيرهم ممن حكاه عنهم محمد بن منصورٍ، وأبو عبد الله الحسني العلوي مصنِّف " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، كما مرَّ تحقيقه، فلم يحتمل استخراج الكفر لأحدٍ منهم.
وقال الزمخشري في بعض " مقاماته " (1): واستحي من الله، وقلبك قلبُه، ولبُّك لُبُّه (2)، وكُلَّك (3) فهو فاطِره وربُّه.
ولو تتبعنا أمثال ذلك، لطال، وما زال الحمل على السلامة عند الاحتمال شعار العارفين والصالحين والمتَّقين.
الإشكال السابع: أنَّ كثيراً من (4) أهل البيت عليهم السلام ممن أنت له مُعَظِّمٌ، وله في التفضيل مُقدِّم، لا يغلو غُلُوَّك في هذه المسألة وقد بين ذلك محمَّد بن منصور، وصنف فيه كتاب " الألفة والجملة " (5).
وقد قدمنا ما نقل عنهم في الوهم الخامس عشر السابق قبل هذا في مسألة القرآن، فخذه من هنالك، فإنه ذكر عنهم ترحُمَّهم على من خالفهم في الاعتقادات المختلف فيها، حتى نقل عن الإمام القاسم بن إبراهيم أنه رَثَى (6)
__________
= " موضوعات ابن الجوزي " 1/ 123 مرفوعاً بلفظ: " إن نزول الله إلى الشيء إقباله عليه من غير نزول ". قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع لا أصل له ... وقال الإمام الذهبي في " الميزان " 2/ 623: إسناد مظلم، ومتنه مختلق.
(1) في مقامة الولاية ص 113.
(2) " ولبك لبه " غير موجودة في المطبوع من المقامة.
(3) في (ب) و (ج): وكلمك.
(4) سقطت من (أ).
(5) في (ب) و (ج): الجملة والألفة.
(6) في (ش): رثاه.(5/14)
أخاه محمد بن إبراهيم بالترثية المعروفة، وترحَّم عليه، وحُكيَ عنه -مع ذلك- أنه كان يذهب إلى شيءٍ من التشبيه، قال محمد بن منصور: يقال: إن قوله: إن القرآن غير مخلوقٍ. وقد أطال محمد بن منصور في ذلك وأجاد، ولا حاجة إلى إعادته، فراجِعْهُ في موضعه، ونزيد ها هنا ما (1) يختص بالرُّؤية.
وحاصل الكلام: أن القدماء من العِترة عليهم السلام لم يُنقَل عنهم مذهبُ المعتزلة، أن الرؤية من المُحالات التي لا تدخل في مقدور الله تعالى، بل مقتضى عبارتهم: أن الله لا يُرى لعظمته، وعزته، وكبريائه، كما قال أهل السنة: إنه لا يُدرك بالأبصار إدراك الإحاطة لأجل ذلك، كما لا يُحاط به علماً لمثل ذلك.
وأنا أًورِدُ ألفاظهم في ذلك من كتاب الزيدية " الجامع الكافي ".
فأقول: قال السيد الإمام أبو عبد الله الحسني في هذا الكتاب المذكور في كتاب " الزيادات " منه في المجلد السادس في القول في نفي الرؤية ما لفظه: وقال الحسن، يعني: الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام: وقد رُوي في الحديث: أن أهل الجنة تبلغ بهم الكرامة إلى أن ينظروا إلى خالقهم، كما ينظر بعضهم إلى بعض، والله سبحانه أجل وأعظم من أن تدركه الأبصار، أو تحيط به العقول، أو تقع عليه الأوهام، والأمر في ذلك مردودٌ إلى الله يفعل ما يشاء، ويُرِي أولياءه من عظمة نوره، وجلال (2) عظمته ما لم تكن أبصارهم تُطِيقُ النظر إليه في الدنيا.
وقد رُوِيَ عن زيد بن علي عليهما السلام أنه قال: إن بين الله سبحانه يوم القيامة، وبين أدنى خلقه من مَلكٍ مقرَّبٍ، أو نبيِّ مُرسلٍ سبعين ألف حجابٍ من نورٍ، لن يستطيع أدناهم أن يرفع رأسه إلى أدنى حجابٍ من عظمة الله، وقد
__________
(1) سقطت من (ب).
(2) في (ش): وجلاله.(5/15)
قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] ولا يتأولونهم (1) برأيهم على أهوائهم.
وقال محمد -يعني محمد بن منصور -: إن الله لا تدركهُ الأبصار، ولا تحويه الأوهام. قال: وقال بعض أهل العلم: إن الله يُرى في الآخرة، وليس كرؤية المخلوقين للشيء الذي تحويه أبصارُهم، ولكن لله خفايا ولطائف يلطُفُ فيها لمن يشاء كما يشاء (2)، فهذا كلام الإمام الحسن، واحتجاجه بحديث زيد بن علي في الحُجُب يدلُّ على إمكان الرُّؤية في قدرة الله لمن يشاء، وكذلك ما حكاه محمد بن منصور، وقرَّره من ذلك، ومن نحوه، وكفى فيه بقوله (3) تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143] وقوله: {أو مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] وإلزامك للإمام الشافعي رضي الله عنه لازم لجميع من ذكرنا من السلف الأكرمين من أهل البيت المطهرين الذين كانوا في خير القرون من التابعين وتابعي التابعين كما هو الظاهر من قول الصحابة السابقين، حيث أجمعت (4) الأُمة على أنهم سألوا عن ذلك سيد المرسلين لكونهم له مُجَوِّزين، فلم يكن لِسُؤالهم عنه من المنكرين، أفتجوِّزُ كُفرَ سائر مَن رُوِيَ هذا عنه من سلفنا الطاهرين (5)، والصحابة السابقين، وتشكُّ وتُشكِّك في أنهم من المسلمين، وتجعلهم بذلك من المجروحين، فتكون من الأخسرين؟ فنعوذ من ذلك (6) بأرحم الراحمين.
ولا بد من إشارة مقنعةٍ إلى جملةٍ صالحة من أدلَّة أهل السنة، وأدلَّة (7)
__________
(1) في (ش): يتأولونه.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ب): بقول الله.
(4) في (أ): اجتمعت.
(5) في (ش): الصالحين الطاهرين.
(6) في (ب) و (ج) و (د): من مثل ذلك، وفي (ش): من مثل ذلك بالرحمن الرحيم.
(7) ساقطة من (ش).(5/16)
المعتزلة في تجويز الرؤية في الآخرة من المعقول والمنقول، وأقوال سلف الأمة، والاحتجاج بالآيات الصَّادعة (1) والعلوم النافعة إن شاء الله تعالى.
الإشكال الثامن: قال المعترض: والمكيِّفة تُجسِّم لا محالة (2)، هكذا من غير ذكر تفصيل ولا خلافٍ ولا دلالةٍ، وهذا في مثل (3) هذا الموضع مَعيبٌ أشد العيب، إذ كان من أعظم مواضع النزاع والرَّيب.
واعلم أني مقدِّم ها هنا مقدمة مفيدة قبل الخوض في بيان المراد من هذا الإشكال، وذلك أني لا أرد عليه إنكار التشبيه على المشبِّهة فإني موافق في التنزيه، وقائل ببطلان التشبيه، وإن كنت لا أتعرض لبيان المختار عندي في دقائق الكلام الذي أحكيه، وإنما غرضي في هذا: القيام (4) بما يجب من الذبِّ عن السُّنن ومذاهب العترة عليهم السلام، فإن المعترض قد ادعى القطع بأن في (5) كتب الحديث المُسماة بالصحاح أكاذيب معلومةً متعمدة، وادَّعى على كثيرٍ من رواتها تعمُّد الكذب، وحاول بذلك تقبيح الرُّجوع إليها، وقد بيَّنت (6) فيما سلف إجماع الأمة على الرجوع إليها، والنقل منها، وأن ذلك مشهور في كتب الزيدية، وأن المعترض هو بنفسه لم يسلم من ذلك، حيث نقل عنها في تفسيره، وقد بينتُ نصوص العترة في كتبهم على أنهم من أهل التأويل، وذكرت دعوى الإجماع على قبولهم من عشر طرق، وأن ذلك هو المذكور في كتاب " اللُّمع " في كتاب الشهادات منه كما مضى بحروفه في مسألة المتأولين في أوَّل المجلد الأول (7)، وحين تقرَّر ذلك، فإنما أُورِدُ ها هنا أدلتهم
__________
(1) في (د): الساطعة، وفي (ش): الصادقة.
(2) " لا محالة " ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): المقام.
(5) سقطت من (ش).
(6) في (ب): ثبت.
(7) انظر 2/ 155.(5/17)
في مذهبهم، ليعلم المنصف (1) صدق أهل البيت عليهم السلام، في قولهم: إنهم من أهل التأويل، وحسن نظرهم (2) وتحريهم وإنصافهم في قبول أخبارهم مع المخالفة، وخشيت إن لم أذكر أدلتهم في ذلك أن يظن الجاهل من أهل بلدنا وعصرنا، أن المعترض هو الصادق لكبر مَحَلِّه في النفوس، فمن ظن بي غير ذلك، أو نقل عني سواه بعد هذا البيان (3)، كان من المعتدين المتعمدين، والله المستعان.
فأقول: قد تقدم في (4) الإشكال الخامس عشر بيان عقيدة أهل السنة في كلام الطائفة الثانية منهم الذين خاضوا في علم الكلام على جهة الذب عن كتاب الله عز وجل وعن سنة رسله عليهم السلام (5) في مقصدهم. وتقدم ما في معنى الجسم من الاختلاف بين العقلاء من أهل الملل، ثم بين العلماء من أهل الإسلام، والإشارة إلى ذلك فيما تقدم في القاعدة السادسة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان إليه المنتهى في العلوم العقلية والسمعية باتفاق المختلفين، ولذلك سارت بمصنفاته الركبان إلى جميع البلدان، وهي قدر ثلاث مئة مجلد أو أكثر كما ذكر في كتاب " النبلاء" (6) فانظر في كلامه نظر إنصافٍ، ولا تنظر إلى من قال، ولكن انظر إلى ما قال، وإياك وتقليد الرجال.
وقد ذكر الاختلاف في تفسير الجسم، ثم في تماثل الأجسام، وأن كلام المعتزلة
__________
(1) تحرف في (ب) و (ش) إلى: المصنف.
(2) في (ج) و (ش): فطرهم.
(3) عبارة " بعد هذا البيان " سقطت من (ش).
(4) سقطت من (أ).
(5) في (ب) و (ش): رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
(6) والترجمة الكاملة التي سيثبتها المؤلف لابن تيمية من كتاب "النبلاء" تعزِّز رأينا في أن الجزء الرابع عشر الذي لم نظفر به حتى هذه اللحظة هو من صلب الكتاب، وليس ذيلاً له كما توهمه بعضهم.(5/18)
في هذا مبني على تفسير الجسم بأنه المركب من الجواهر، وعلى إثبات الجوهر الفرد، على تماثل الأجسام وأن من المخالفين لهم من يمنع المقدمة الأولى، ومنهم من يمنع المقدمة الثانية، ومنهم من يمنع المقدمتين معاً، ومنهم من يجيب بالاستفسار.
قلت: بل قد اختلفت المعتزلة فيما بينهم في تفسير الجسم على أربعة أقوالٍ، كما ذكره صاحبهم ابن متويه في " تذكرته " في علم الجواهر (1) والأعراض، إذا تقرر هذا، فلا سبيل إلى نسبة العناد، وتعمُّد القول بالباطل إلى من خالف في معنى الجسم وتفسيره، ولا إلى مَن خالف في تماثل الأجسام وقال باختلافها بعد اعترافه باشتراكها في الجسميَّة.
وممن خالف في تماثلها أبو القاسم البلخي وأصحابه من المعتزلة، والفخر الرازي علي ما أشار إليه في " الملخص " (2) وغيره، وغيرهم من أهل النظر والأثر.
حكاه ابن متوية/المعتزلي، في " تذكرته " عن أبي القاسم، وقد بالغت المعتزلة في دعوى تماثل الأجسام حتى قطعوا أن (3) النور والظلمة جسمان (4) متماثلان، وكذلك الغبار، والدخان، واللهب، والسحاب، والجِن، والإنس، والنجوم، والأحجار، والتراب، والأشجار، ومضغ القلوب اللطيفة الذكية التي هي مَحلُّ (5) المعارف العلمية، وجنادل الحديد الصلبة القوية، والماء، والنار، والفضة، والقارُّ، والأجسام، والأرواح، والأجرام الكثيفة، والرياح، والصخور، والهباء
__________
(1) في (ش): الجوهر.
(2) هو في الحكمة والمنطق، وسيعرف به المصنف قريباً، وقد شرحه أبو الحسن علي بن عمر القزويني المتوفى سنة 675 هـ، وسماه " المنصص " واختصره نجم الدين اللبودي، وشرحه شمس الدين اللبودي. انظر " كشف الظنون " 2/ 1819.
(3) في (ب): على أن.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): محال.(5/19)
والأرض، والسماء، بل والموجود من الجواهر والمعدوم، وكذلك من (1) كل جنس معلوم - ذكره ابن متويه في " تذكرته " في الأسئلة الواردة على دليل تماثل الجواهر، وهو يفيد القطع برد قولهم في اللغة التي نزل عليها كتاب الله تعالى، وكيف وقد قال الله تعالى في: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 7 - 8]، ولو لم يُخالفوا (2) في هذا الأصل (3) إلاَّ هذه الآية الكريمة.
وإلى الردِّ عليهم في ذلك أشار أبو السعود بن زيد المطرفي في أرجوزته المشهورة، حيث قال:
ما نحن قلنا: النار مثلُ الماء ... والقارُ مِثلُ الفِضَّة البيضاء
واعلم أنهم لا يخالفون في القدر الضروريِّ من هذا الاختلاف المشاهد المحسوس، ولكنهم يقولون: إن المرجع بهذا الاختلاف المعلوم إلى اختلاف صفات الأجسام، واختلاف الأعراض التي تحلُّها، بحيث لو تجردت الأجسام عن صفاتها، وما حلها من الأعراض، لوجب تماثلها، واستحال اختلافها، وهذا هو محل النزاع، فإن المخالفين لهم في ذلك يقولون: إن الحق أنا لا ندري لو تجردت (4) عن ذلك، هل نشاهدها مختلفة أو لا نشاهدها كذلك؟ وعلى تسليم أنا قد رأيناها متجرِّدة، ولم ندرك اختلافها بالحس، فإنا لا ندري، هل اختلافها (5) من الأمور المحسوسة المُدرَكة أم لا؟ والقطع (6) في موضع الوقف من المحرمات، وإن لم يترتب عليه أمر كبير، فكيف فيما تركب عليه التفسيق والتكفير، بل تركب عليه الكلام في أسماء (7) الملك الكبير؟ وقد قال الله تعالى:
__________
(1) في (ب) و (ش): في.
(2) في (ج): ولم يخالفوا.
(3) لم ترد في الأصول ما عدا (أ).
(4) من قوله: " الأجسام عن صفاتها " إلى هنا ساقط من (ب).
(5) في (ب): اختلافهما.
(6) في (ب): وانقطع.
(7) في (ش): بأسماء.(5/20)
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
ولهم في هذا أدلة ينبغي ذكرها وما يَرِدُ عليها، منها: أن الأجسام مشتركة في الجسمية، فيجبُ أن تشترك في كل ما يَجِبُ لها، ويمتنع عليها، ويجوز عليها، وهذه مجرد دعوى لا يحل تسليمها لهم حتَّى يأتوا ببرهانٍ قاطعٍ، وقد تقدم في كلام ابن تيمية تقرير أن الماهية المطلقة مُجرد عبارةٍ لا وجود لها في الخارج، مثل الجسميَّة وسائر ما تشترك الأنواع أو الأشخاص فيه من القدر الكلي المشترك، فإنه لا وجود له في الخارج إلاَّ معيناً مقيداً، وأن معنى الاشتراك في ذلك هو التشابه من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يُطلق على هذا وعلى هذا، لا أن (1) الموجودات في الخارج يشارك بعضها بعضاً (2) في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميز (3) عن غيره بذاته وصفاته والمعتزلة ظنت أن الاشتراك في ذلك يُوجب حكماً، ولذلك قالوا: أن الله قد شارك خلقه في الذاتية، ثمَّ تميز عنهم بعد المشاركة (4) بالصِّفة الأخص، ونَقَمَ ذلك عليهم غير واحد من العلماء أهل البيت وغيرهم. وقال السيد حميدان (5) في ذلك:
لقَّبُوا الجسمَ بالذوات ليقضُوا ... باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ
وادَّعَوا أن للمُهيمن ذاتاً ... شاركت ثُمَّ فارقت في خلالِ
__________
(1) في (ب) و (ج) و (ش): " لأن "، وهو خطأ.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (د) و (ش): " يتميز "، وفي (ب): " تميز ".
(4) في (ش): ذلك.
(5) تحرَّف في (ج) إلى " حمدان "، وحميدان: وهو ابن يحيى بن حمدان القاسمي صاحب التصانيف في علم الكلام، والمترجم عن أهل البيت المصرح بمذهبهم، وقال عنه المصنف في " ترجيح أساليب القرآن " ص 32: له رسائل كثيرة في مجلد محتوٍ على ترك التعمق في علم الكلام والبدع في الإسلام مما لا مزيد عليه. وهو مترجم في " مطلع البدور " ورقة 85/ 2 - 86/ 1.(5/21)
ثمَّ قاسوا ما فرَّعوه وخاضُوا ... في شروحٍ لهم عِرَاضٍ طِوَالِ
وقال في ذلك أيضاً في أُرجوزته التي سماها الإمام المطهر بن يحيى عليه السلام " المزلزلة لأعضاد المعتزلة "، ومنها في هذا المعنى:
ليس الإله الواحدُ القدوس ... كما يظنه الذي يقيسُ
مِن وصفه التشريكُ والتجنيسُ ... بل قولُهم مشاركٌ تلبيسُ
إذ كلُّ فكرٍ دُونَه محبوسُ ... وكلُّ ما تخالُه النفوسُ
فمدرَكٌ مُكيَّفٌ محسوسُ (1)
وكان كثير من أهل البيت يُصححون ما ذكره السيد حميدان، وكتب غير واحد منهم خطوطهم في مجموعه المعروف أنه اعتقادهم.
وممن أنكر ذلك (2) على المعتزلة وغيرهم فخر الدين الرازي في كتبه، فمن ذلك في كتابه " الملخص في علم اللطيف والجواهر والأعراض "، وهو كتاب جليل في فنه لم يصنف في معناه مثله، قال فيه في الباب الثالث في الأجسام البسيطة من الجملة الثانية في الجواهر في الكلام على أن الكواكب هل تقبل (3) الخرق أم لا؟: إن (4) من قال: إنها تقبله، احتج بتساوي الأجسام بأسرها في الجسمية، إلى قوله في آخر ذلك: وفي هذه الطريقة (5) أبحاثٌ عميقةٌ أصولها مرت في هذا الباب، وتفاصيلها مذكورة في كتاب " النهاية " (6) إلى قوله في ذكر
__________
(1) أوردها في " ترجيح أساليب القرآن " ص 32، مع بيت أخير هو:
فاحذر شيوخاً علمها تلبيسُ
(2) في الأصول ما عدا (أ): هذا.
(3) في (ب): " تفيد " وهو تحريف.
(4) في (أ): إلا.
(5) في (ش): الطريق.
(6) هو " نهاية العقول في الكلام في دراية الأصول " رتبه على عشرين أصلاً. انظر " كشف الظنون " 2/ 1988.(5/22)
سُخُونة الكواكب في هذا الباب: ولِقَائِلٍ أن يقول: الاشتراك في اللوازم لا يقتضي الاشتراك في تمام (1) الماهية، فلم (2) لا يجوز أن يكون الكوكب والنار مشتركين في غاية السخونة، لكن الكواكب مخالفةٌ في ماهيتها لماهية النار، فلأجل ذلك كانت النار التي عندنا شفافة إلى قوله في القسم الثاني في البسائط العنصرية: إنه لا يلزم من اشتراك الهواء والنار في الحرارة (3) والرِّقة اشتراكهما في تمام الماهية.
وقال في الباب الأول في تجوهر الأجسام من الجملة الثانية في الجواهر، في الرد على من قال: إن اختلاف الأعراض لا بد أن يكون لاختلاف صور (4) مركوزةٍ في تلك الأجسام، لأنها مشتركة في الجسمية ... إلى قوله: والاعتراض: لا نسلِّم اشتراك الأجسام بأسرها في الجسمية، إلى آخر كلامه.
قلت: وإنما اكتفي بعدم التَّسليم لذلك في جميع المواضع، لأن الخصم لم يأتِ بحُجَّةٍ بيِّنةٍ يقبُحُ إنكارُها إلاَّ مجرَّد تخيُّلات، والامتناعُ في مثل هذا من التسليم أصحُّ من الاستدلال، لأنه لا مجال للعقل في هذه المضايق، فالممتنع أسعد بالحق من المستدل لسلامته من دعوى ما لا يعلم وصدقه في عدم تسليمه (5) حينئذ، ولأن استدلالهم في ذلك يرجع حاصله على اختلاف عباراتهم إلى أنهم لم يعلموا دليلاً على اختلاف الأجسام، فوجب نفيه، وسيأتي إبطال هذه الطريقة، وأنه لم يَقُمْ عليها دليل، فالامتناع من تسليمها يكفي، إذ كان قولهم: إنها حجة مجرد دعوى.
وقال قبل هذا في هذا الباب في رد الحجة الثالثة من أدلة من زعم أن
__________
(1) في (ب): دليل.
(2) في (ب): ولم، وفي (ش): وإلا.
(3) عبارة " في الحرارة " سقطت من (ش).
(4) في (ش): صورة.
(5) في (ب): التسليم.(5/23)
الجسم مركبٌ من الهيولى والصورة.
وأما الثالثة، فهي بعد تسليم أن الفلك يستحيل عليه التغير في المقدار والشكل مبنية (1) على أن الأجسام متحدة في الطبيعة الجسمية، لكن ذلك مما لم (2) يثبت بدلالةٍ قاطعةٍ.
وقال في " نهاية العقول " في الأصل الثالث في حدوث الأجسام في المسلك الأول من المسالك الثلاثة في سبب اختصاص الجسم بحيِّز (3) مخصوص، وهو الحجة الأولى لخصوم أهل الأثر ما لفظه: قولكم: إن الجسمية أمر مشترك بين الأجسام.
قلنا: لا نسلِّم، والذي يدل على ذلك أنها لو كانت مشتركة بين أفراد الأجسام، لكانت شخصية (4) كل واحد من الأجسام زائدة على جسميته، لأن ما به الاشتراك غير ما به الامتياز، لكن يستحيل أن تكون شخصية الجسم المشخص زائدة على جسميته، فإن انضمام ذلك الزائد إلى الجسمية (5) في الخارج يتوقف على حصول الجسمية في الخارج، وحصول الجسمية في الخارج يتوقف على (6) شخصه الذي هو عبارة عن انضمام ذلك الزائد إليه، ويلزم من ذلك الدور، فثبت أن القول بكون الجسمية أمراً مشتركاً بين أشخاص الأجسام يؤدي إلى هذا المحال، فيكون مُحالاً.
لا يُقال: المعقول من الجسمية إنما هو شغل الحيز، ومنع الغير أن يكون بحيث هو، وهذا القدر مشتركٌ، لأنا نقول: ليس الشغل والمنع (7) نفس
__________
(1) في (ج): مثبتة.
(2) في (ش): ما لا.
(3) في (ب): تحيز.
(4) في (أ) و (د): شخصيته.
(5) من قوله: " فإن انضمام " إلى هنا ساقط من (ب).
(6) من قوله: " حصول الجسمية " إلى هنا ساقط من (ج).
(7) في (ش): والمنفي.(5/24)
الجسمية، بل حكمٌ من أحكامها، ولا يلزم من الاشتراك في المؤثِّر الاشتراك في الأثر، ويدل عليه أمور ثلاثة:
أحدها: أن الذات حال الحدوث يجب افتقارها إلى الفاعل، وحالة البقاء يمتنع افتقارها إليه، مع أن الذات واحدة في الحالين، فإذا جاز أن ينقلب الشيء الواحد من الوجوب إلى الامتناع الذاتيين بحسب زمانين، فلأن يجوز (1) ذلك في المثلين أولى. وأيضاً فلأن الجوهر الحادث مثل الباقي، ثم لا يلزم من تماثلهما تساويهما في صحة المقدورية، وامتناعها، فكذا ها هنا، وكذا العَرَضُ الذي لا يبقى يصحُّ أن يحدث في زمان عدمه مثله، ولا يلزم من صحة حدوث مثله في ذلك الزمان صحة وجوده في ذلك الزمان، وكذا (2) ها هنا.
الثالث: أن الممكن المعين يحتاج إلى مؤثِّر معين أو شرط معين، وعلة تلك الحاجة هي الإمكان، لأنا لو رفعنا الإمكان بقي إما الوجوب أو الامتناع، وهما مستغنيان عن المؤثِّر، ثم إن الإمكان (3) مشترك بين الممكنات، ولا يلزم من اشتراكها في الإمكان اشتراكها في الحاجة إلى ذلك المؤثر المعين، أو إلى ذلك الشرط المعين، لأن أكثر الطوائف أثبتوا مؤثراً غير الله تعالى، فإن بعضهم زعم أن العبد مُوجِدُ، وبعضهم أثبث معاني توجب أحوالاً، وبعضهم أثبت طبيعة وعقلاً ونفساً.
ثم إن سلمنا أنه لا مؤثِّر إلاَّ الواحد، ولكن لا نِزَاعَ في كثرة الشروط إذ الجوهر شرط العرض، والحياة شرط العلم، وذلك مما لا خلاف فيه بين
__________
(1) في (أ) و (د) و (ش): " فلأن لا نجوز "، والمثبث من (ب) و (ج) وجاء في هامش (أ) ما نصه: صوابه فلأن نجوز، والتصويب مبني على ثبوت " لا " النافية، وهي غير ثابتة في الأصل، بل مصحح عليها في هامش الأصل والتصويب عليه.
(2) في (ب) و (د) و (ش): فكذا.
(3) من قوله: " لأنا لو رفعنا " إلى هنا ساقطة من (ب).(5/25)
العقلاء. ومعلوم أن حاجة المشروط إلى الشرط لإمكانه، والشرط علة لصحة المشروط، ومع أنه لا (1) يلزم من احتياج صحة ذلك المشروط إلى ذلك الشرط احتياج كل صحة إلى ذلك الشرط، فثبت أنه لا يلزم من الاشتراك في المقتضى الاشتراك في الحكم.
ثم إن سلمنا أن الاشتراك في السبب يقتضي الاشتراك في الحكم (2)، ولكن متى؟ إذا فُقِدَ الشرط، أو إذا (3) وُجِدَ مانعٌ، أو إذا لم يكن كذلك، الأول ممنوع، والثاني مسلم بيانه. وهو أن الأشياء المتماثلة في تمام الماهية لا بد وأن تكون متمايزة تشخيصاتها وتعييناتها (4)، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فإذاً تشخيص كل شخص يكون زائداً على ماهيته (5)، ولأن المتصور من هذا الجسم لا يصح أن يكون محمولاً على كثيرين، مع أنا نعلم بالضرورة أن المتصور من الجسم داخل في المتصور من هذا الجسم، فعلمنا أن المتصور من هذا الجسم (6) دخل (7) فيه مفهوم زائد على المتصور من الجسم، وإذا ثبت ذلك، ظهر أن تعيُّن كل شخص زائد على حقيقته، وإذا كان كذلك، فمن المحتمل أن تكون شخصية الشخص المعين من الأجسام المتماثلة تكون شرطاً لاقتضاء الجسمية للحصول في ذلك الحيز، أو تكون شخصية الجسم الآخر مانعة من ذلك الاقتضاء، وإذا كان كذلك، لم يلزم من اشتراك الأجسام في تمام الجسمية، وكونها موجبة الحصول في الحيز المعين اشتراك كل الأجسام في ذلك، وبهذا التقدير يتبين أن المقدمة المشهورة من أن المتماثلات يجبُ استواؤُها في جميع اللوازم مقدمة ضعيفة.
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) من قوله: " ثم إن سلمنا " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ب): وإذا.
(4) في (ب): شخصياتها وتعيينها.
(5) في (ش): ماهية.
(6) من قوله: " لا يصح " إلى هنا سقط من (ش).
(7) من قوله: " داخل في المتصور " إلى هنا سقط من (ج).(5/26)
لا يقال: التعيين أمرٌ عَدَميٌ، فإن معناه أنه ليس غيره، والقيد العدمي لا يصلح أن يكون جزءاً (1) من المقتضى، لأنا نقول: لا نُسلِّم أنه أمر عدميٌّ، وبتقدير تسليمه، فالمقصودُ حاصلٌ أيضاً، لأنه لا نزاع بين العقلاء أن العدم يصلح أن يكون شرطاً، ألا ترى أن عدم الضدِّ شرطٌ لصحة حلول الضد الآخر في المحلِّ؟ انتهى بحروفه ذكره الرازي فيما يرد على دليل الأكوان مع غيره.
ثم عقَّب الجواب على الجميع، فأجاب على المنع من تماثل الأجسام بجوابهم المعروف في الاستدلال على عدم الشيء بعدم الدليل عليه، وأشار إلى ضعفه، وقد بالغ في بطلانه، كما يأتي الآن في الحجة الثانية، وقوَّى أنه التعيُّن (2) وصفٌ عدمي، وأن الدور غير لازم، وترك صحة كونه شرطاً بغير جواب لأنه قوي عنده كما ذكره في غير موضعٍ، ومن احتج بهذا في إثبات الصفة الأخص، يلزمه أن يكون التعيين وصفاً ثبوتياً، لأنه يجعل تميز الرب سبحانه عن غيره يستلزم ذلك حيث كان قد شارك الذوات في أنه ذاتٌ، ثم تميَّز عنها بتعيُّن ذاته وتميزها، فتأمل ذلك، بل هذا يلزمه تجويز مثل ذلك في كل متمايزين يحتملان مثل ذلك، ولو بمجرد احتمال.
ولهذه الشكوك في طرق المتكلمين اختار الإمام المؤيد بالله في كتاب " الزيادات " الاستدلال على ثبوت الباري بالأحكام الذي في المخلوقات وحسن التقدير، ثم أجاز بعد ذلك أن يستدل على خلق (3) سائر المخلوقات بالسمع.
قلت: وصح (4) في طريق على قوتها الاستدلال على الله تعالى بالمعجزات، فإنها حادثة بالضرورة ومخالفة للطبع بالضرورة، وهي (5) طريقة
__________
(1) في (أ) و (ش): " جزاء "، وهو خطأ.
(2) في (ش): التعيين.
(3) سقطت من (ش).
(4) في (ج): وأوضح.
(5) من قوله: " ومخالفة للطبع " إلى هنا ساقط من (ب).(5/27)
مُجمعٌ على صحتها عند المتكلمين والسلف والخلف، وفي هذا ما ترى من شهرة النزاع بين أئمة هذا الفن في الأمرين معاً:
أحدهما: نزاعُهم في تماثل الأجسام في الجسمية.
وثانيهما: نزاعهم في أن تماثلها على تسليمه يُوجِبُ استواءها في جميع اللوازم.
وإنما سقتُه بطوله، ليعلم الواقف على ذلك وأمثاله من قواعد هذه المسألة أن المخالف فيها غير معلوم العناد (1) والتعمُّد، فيكون من أهل التأويل الذي يجوز قبول حديثهم عند الجمهور، بل يجب على ما تقدم.
ويُشبه هذا ما ذكر الإمام يحيى في مقدمات " التمهيد "، والرازي في مقدمات " النهاية " من تضعيف المقدمتين المشهورتين عند المتكلمين، أحدهما -وهي الثالثة (2) في " التمهيد " والثانية في " النهاية "-: استدلالُهم بتساوي الشيئين في بعض الوجوه على تساويهما مطلقاً، وذكرا لذلك أمثلة، ثم ذكرا أنها ضعيفة جداً، وساقا الدليل على ذلك، ونزاعهم في أدلتهم بعدم (3) التسليم، ومن أحب معرفة ذلك، وقف عليه في موضعه، فقد نبَّهت على ذلك (4)، والدليل على من ادعى صحة ذلك، فلم نحتج نطوِّل بذكره (5). ومما تطابقا على التمثيل، والرد له قول البهاشمة (6): لو كانت معاني صفات (7) الله قديمة، كانت
__________
(1) في (ش): بالعناد.
(2) في (أ) و (ش): الثانية.
(3) في (ج): " بعد "، وفي (ش): مقدم.
(4) من قوله: " ونزاعهم في أدلتهم " إلى هنا سقط من (ب).
(5) في (ب) و (ش): ذكره.
(6) هم أصحاب أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، وهما من معتزلة البصرة، انفردا عن أصحابهما بمسائل، وانفرد أحدهما عن صاحبه بمسائل. انظر " الملل والنحل " 1/ 78، و" اعتقادات فرق المسلمين والمشركين " للرازي ص 40 - 41.
(7) سقطت من (ج).(5/28)
مساوية لذاته في القدم، فيجب تساويها في جميع الوجوه، فتكون أرباباً.
الحجة الثانية: للمعتزلة على تماثل الجواهر والأجسام، بل (1) جميع المستقلات بأنفسها التي سموها أجساماً، هي أنه لا دليل على اختلافها (2) في ذواتها، وما لا دليل عليه يجب نفيه. ممَّن عوَّل على هذا منهم: مدقِّقُهم ومحققهم الشيخ ابن متويه في " تذكرته "، وهذا لفظه: قوله: فإن قال: كونه جواهراً (3) مختلفاً (4) في الذوات، وكذلك تحيُّزه، وكذلك الوجود، فلا يجب لأجل الاشتراك فيما ذكرتم أن يُقضى بالتماثل.
قيل له: إن هذه الصفات لو اختلفت، لكان إلى اختلافها طريقٌ والطرق (5) التي بها يعرف اختلاف الصفات إما الإدراك، أو الوجدان (6) من النفس، أو اختلاف الأحكام. انتهى بحروفه.
وتلخيصه: أن الجواهر متغايرةٌ في ذواتها (7) بالاتفاق وتماثُلُها غير معلومٍ ضرورةً بالاتفاق (8)، فاحتاج القائل به إلى برهانٍ صحيحٍ قاطعٍ، ولم يأتوا بشيءٍ من ذلك. فأجاب الشيخ ابن متويه بقاعدتهم المشهورة الباطلة عند النُّقاد، وهي: أن ما لم يقُم الدليل على ثبوته يجبُ نفيه، وقد ردَّ هذا بأن القديم في الأزل لا (9) دليل عليه مع وجوب (10) ثبوته حينئذٍ، فكان يلزمهم وجوب نفيه
__________
(1) في (ش): في.
(2) في (ش): اختلاف.
(3) في (ش): جواهر.
(4) في (د) و (ش): مختلف.
(5) في (ش): الطريق.
(6) في (ب): " والوجدان "، وهو خطأ.
(7) في (ج) و (ش): ذاتها.
(8) عبارة " وتماثلها غير معلوم ضرورة بالاتفاق " ساقطة من (ب).
(9) ساقطة من (أ).
(10) في (أ): وجود.(5/29)
حينئذٍ، ولأن ذلك ليس بأولى من أن ما لم يقم دليل ٌعلى نفيه يجب ثبوته، ذكره الشيخ مختارٌ المعتزليُّ من أصحاب أبي الحسين في كتابه " المجتبى "، وحكى ابن متويه في " تذكرته " أن الشيخ أبا القاسم البلخيَّ الكعبي (1) شيخ البغدادية خالفهم في ذلك، وكذلك حكى البحتري (2) في جواب المسائل القاسمية، أن إنكار ذلك هو قول القاسم بن إبراهيم عليه السلام وقول أتباعه، واحتجَّ على ذلك، وذكر الشيخ مختار في " المجتبى " أن ذلك قول أكثر المحققين، وجوَّد الاحتجاج على ذلك في المسألة الثانية عشرة من خاتمة أبواب العدل، فلينظر فيه (3).
ولنذكر كلام المحققين في بطلان (4) ذلك من غير تقليدٍ لهم، ولكن نُورِدُ الأدلة للنُّظَّار ليعلموا الصَّحيح، ثم ليعلموا أن المخالف في مثل هذه الدقائق معدودٌ من المتأولين المقبولين (5) في الأخبار، فَمِنَ المزيِّفين لهذه الطريقة: الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة -عليه السلام- فإنه بالغ في إبطالها في أوائل " التمهيد " في الفصل الثالث في مسالك المتكلمين الفاسدة، قال عليه السلام: وهي خمس، قال عليه السلام (6): الأولى: قولهم: الشيء الفلاني لا دليل عليه، وما لا دليل عليه يجب نفيُه، وساق عليه السلام كلام الرَّازيِّ الآتي الآن بألفاظه إلاَّ اليسير، إلى قوله: إن الدليل إنما يفيد العلم إذا كانت مقدماته بديهية أو لازمة للبديهية (7)، وأقتصر على ذلك القدر، وفيه كفاية، ولما اشترك فيه هو والرازي، وزاد الرازي (8) عليه، أوردتُ كلام الرازي لتضمنه كلام الإمام وزيادته
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (د): البحيري.
(3) من قوله: " وقد ردَّ هذا " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) ساقطة من (ج).
(5) ساقطة من (ب).
(6) " قال عليه السلام " ليست في (ش).
(7) في (ش): للبديهة.
(8) عبارة " وزاد الرازي " ليست في (ج).(5/30)
عليه كراهيةً للتطويل (1)، بسياق كل كلام على انفراده.
فأقول: قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة في مقدمات " التمهيد "، وفخر الذين الرازي في مقدِّمات " نهاية العقول "، واللفظ له: الفصل (2) السابع في تزييف الطرق الضعيفة، فالأُولى: أنهم متى حاولوا نفي شيءٍ غير معلوم الثبوت بالضرورة، قالوا: إنه لا دليل عليه، وما لا دليل عليه، فيجب (3) نفيه، أما بيان أنه لا دليل عليه، فإنما يُثبتُونَه بنقل أدلة المثبتين لذلك الشيء، ثم ببيان فسادها وضعفها، وقد يقيمون الدلالة على حصر وجوه الأدلة، ثم يكتفون في بيان انتفائها بعدم وجدانهم لها، والأول أولى، لأنه إذا كان لا بد في آخر الأمر من التعويل على عدم الوجدان، فلأن نتمسك به ابتداءً حتى نُسقِطَ عن أنفسنا بيان حصر وجوه الأدلة أولى.
قلت: يعني لأنه لا دليل لهم على انحصار الأدلة في طريقة الحصر والسبر إلاَّ عدم الوجدان.
قال: وأما بيان أن ما لا دليل عليه وجب نفيهُ، فهم يثبتونه من وجهين:
الأول: أن تجويز ما لا دليل عليه يلزم منه القدح في العلوم الضرورية والعلوم النظرية، وما أدى إليه يجب أن يكون فاسداً.
بيانُ أدائه إلى القدح في العلوم الضرورية (4) أنا إذا جوَّزنا إثبات ما لا دليل عليه يلزم تجويز أن يكون بحضرتنا جبالٌ شامخة وأصوات هائلة، ونحن لا ندركها، لأن الله خلق في عُيوننا ما يعارض إدراكها، ولعل لكل واحدٍ منا ألف رأس، إلاَّ أنه قام بالعين ما يمنع إدراك ما عدا الواحد منها، وإن لم نُقِم دليلاً (5)
__________
(1) في (ش): التطويل.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ب) و (ش) و (ج): وجب.
(4) من قوله: " والعلوم النظرية " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (ب): " يقم دليلاً "، وفي (ش) و (ج): " يقم دليل ".(5/31)
على إثبات المانع، وبيان أدائه إلى القدح في العلوم النظرية: أنا إذا استدللنا بدليل على شيء، فإذا جوَّزنا ثبوت ما لا دليل عليه، فلعل في مقدمات ذلك الدليل غلطاً لم نقف عليه نحن ولا غيرنا، ومع هذا التجويز لا يمكن حصول اليقين، فإذا لا بد من دفع هذا التجويز، ودفعُه لو كان بدليل آخر، لكان الكلام فيه كالكلام في الأول، فيلزم منه حاجة كل دليل إلى دليل آخر، لا إلى نهاية، وذلك محالٌ، فإذا لو لم نقطع بنفي ما لا دليل على ثبوته، لم يمكنا أن نجزم بصحة الدليل، فثبت أن تجويزنا ما لم تقُم الدلالة على ثبوته يؤذن بالقدح في الضروريات والنظريات. زاد الرازي.
الثاني: أن الأمور التي لم يدل الدليل على ثبوتها غير متناهية، فلو جاز إثبات ما هذا شأنه، لزم إثبات أمورٍ لا نهاية لها، وذلك محالٌ، فهذا تقرير هذه الحجة، وهي عندي ضعيفة جداً.
ثم اتفقا في رد الشبهة، فقالا: قولُكم في المطلوب المعين: إنه لا دليل عليه، تعنُون به أنكم لم تعرفوا دليل ثبوته، أو تعنون أنه ليس في نفس الأمر عليه دليل.
فإن عنيتُم (1) به الأول، كان حاصل كلامكم (2) أن الشيء الفلاني لم نعرف على ثبوته دليلاً، وكل ما لا (3) نعرف على ثبوته دليلاً وجب نفيه، وعلى هذا التقدير تكون المقدمة الأولى خفية، لكن المقدمة الثانية ظاهرة الفساد، لأنه لو كان عدم علم الإنسان بدليل ثبوبت الشيء دليلاً على عدم ذلك الشيء، لزم من هذا أن يكون العوام كلهم جازمين بنفي الأمور التي لا يعلمون دليلاً على ثبوتها، ولزم كون المنكرين لوجود الصانع، والتوحيد، والنبوة (4)، والحشر
__________
(1) في (أ): " عينتم "، وهو تحريف.
(2) في (ش): الكلام.
(3) في (ش): لم.
(4) في (أ): والنبوءة.(5/32)
عالمين، لكونهم (1) غير عالمين بأدلة ثبوت هذه الأشياء، بل يلزم أن يكون الإنسان كلما كان أقل معرفة بالدلائل أن يكون أكثر علماً. وفساد هذا أكثر من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب.
وإن عنيتم به الثاني، كان معنى كلامكم أن (2) الشيء الفلاني لا دليل على ثبوته في نفس الأمر، وكل ما كان كذلك وجب نفيه، وعلى هذا التقدير تكون هذه (3) المقدمة الثانية صحيحة، لكن المقدمة الأولى لا تتقرر (4) بتزييف أدلة المثبت (5) له لأنه من الجائز أن يكون على ثبوت ذلك الشيء دليل وإن لم يقف المثبت له على ذلك الدليل هنا.
وبالجملة لا يلزم من الوجوه التي تمسك بها المثبت في إثبات ذلك الشيء ألاَّ يكون (6) على إثبات ذلك دليل غير معلوم للمثبت.
ثم إن سلمنا أنه لا دليل عليه في الحال، ولكن من الجائز أن يوجد بعد ذلك ما يدلُّ عليه، وهو إخبار الشرع عنه، ومعلوم أن خبر الشارع عن ثبوت الشيء يفيد العلم به، إذا كان لم يتوقف العلم لكون الشارع صادقاً على العلم به. فما دام يبقى احتمال أن يخبر الشارع عن ثبوته، استحال الجزم بعدمه، ولولا صحة هذه الطريقة (7) لزمنا أن نقطع بعدم وقوع هذه الممكنات التي لا طريق إلى العلم بوقوعها إلاَّ إخبار الشرع، نحو مقادير السماوات والأرض والكواكب، وأحوال الجنة والنار، ومقادير الثواب والعقاب، وحصول الملائكة
__________
(1) في (ش): بكونهم.
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ب): تقرر.
(5) في (ش): المثبتين.
(6) في (ش): إلاَّ أن يكون.
(7) في (ش): الطريق.(5/33)
والجنِّ عندنا، ثم وإن سلمنا أنه لا دليل على ثبوته في الحال والاستقبال، فَلِمَ قلتم بأن ما كان كذلك وجب نفيه؟
قوله: يلزم من تجويزه القدحُ في العلوم الضرورية.
قلنا: العلم بعدم الجبل بحضرتنا (1)، وبعدم الرؤوس الكثيرة للشخص الواحد، مما يكون متوقفاً على العلم بأن ما لا دليل علبه يجب نفيه أو لا يتوقف، فإن كان متوقفاً، لم يكن حصول العلم بأنه لا جَبَلَ بحضرتنا إلاَّ بعد العلم بأن ما لا دليل عليه وجب نفيُه، ويلزم من ذلك محذوران:
أحدهما: أنه إذا كان العلم بعدم كون الجبل بحضرتنا متوقِّفاً على العلم بأن ما لا دليل عليه يجب نفيه، وهذا القائل قد بنى قوله على أن ما لا دليل عليه وجب (2) نفيه، على أن القدح فيه يفضي إلى كون الجبل بحضرتنا، فحينئذٍ يلزم الدَّورُ.
وثانيهما: أنه إذا كان العلم بعدم الجبل بحضرتي موقوفاً (3) على العلم بأن ما لا دليل عليه يجب نفيُه، فحينئذ يكون عدم الجبل بحضرتي علماً نظرياً مستفاداً من دليل، فلا يلزم من القدح فيه القدح في العلم الضروري. وأما إن لم يكن العلم بعدم الجبل بحضرتي موقوفاً على العلم بأن ما لا دليل عليه وجب نفيه، لم يلزم من عدم العلم بأن " ما لا دليل عليه وجب نفيه " زوال العلم بأن لا جبل بحضرتنا، فإن (4) ما لا يتوقفُ حصوله على حصول غيره لم يلزم من عدمِه عَدَمُه.
وأما قوله: يلزم منه القدح في العلوم النظرية لاحتمال أن يكون هناك غلطٌ غير معلومٍ.
__________
(1) في (ب) و (ش): " بحضرتي "، وكتب فوقهافي (أ): " تي ".
(2) في (ب): يجب.
(3) في (ش): متوقفاً.
(4) في (ش): وأما.(5/34)
قلنا: قد بينا أن الدليل إنما يفيد (1) العلم إذا كان (2) مقدماته بديهية ابتداء، أو تكون بديهية (3) اللزوم عن البديهي ابتداءً (4)، فعلى (5) هذا إنما نحكم بصحة النتجية عند العلم بصحة المقدمات، لا عند عدم العلم بفسادها، فأين أحد البابين عن الآخر. انتهى ها هنا كلام الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام- وزاد الرازي:
وأما قوله: ما لا دليل على ثبوته (6) لا نهاية له، فلو جاز إثبات (7) ما هذا شأنه، لزم إثبات ما لا نهاية له.
قلنا: إن قام دليل قاطع على استحالة (8) وجود ما لا نهاية له، لم يلزم من الجزم بعدم ما قام الدليل على امتناع حصوله الجزم بعدم ما لم يقم الدليل على امتناع حصوله لظهور الفارق، وإن لم يقم دليل على امتناع حصوله (9)، لم يمكنا (10) القطع بعدم حصوله (11)، فالحاصل أنهم قاسوا عدم حصول الشيء على عدم حصول ما لا نهاية له، ونحن نقدح في هذا القياس، إما بإظهار الفارق، أو بمنع الحكم في الأصل، وبنحو هذا يُجاب على من قال منهم: إنهم لا يقولون بأن ذلك حجة إلاَّ حيث يؤدي عدم الاحتجاج به إلى المحال،
__________
(1) في (ش): يفيد نفيه.
(2) في (ش): كانت.
(3) في (ب): بديهته.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): وعلى.
(6) في (ش): ثبوت ما.
(7) ساقطة من (ش).
(8) في (أ): استحال.
(9) من قوله: " الجزم بعدم " إلى هنا ساقط من (ش).
(10) في (ش): يمكن.
(11) عبارة " لم يمكننا القطع بعدم حصوله " ساقطة من (ب).(5/35)
أو نحو ذلك، فيجاب عليه بوجوه:
أحدها: أنه إذا لم يحتجَّ به إلاَّ في نحو (1) ذلك، جاز أن لا تكون الحجة (2) إلا في لزوم المحال من بطلانه، لأنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين حصول الآخر، وهذا انتقال من موضع الخلاف الذي لم يثبت فيه برهانٌ إلى موضع الوفاق، وهذا مثل من يحتج بدليلٍ ظنِّي في موضع القطع، فإذا نُوقِشَ في ذلك، قال: إني لا أحتجُّ به إلاَّ مع دليلٍ قاطعٍ.
وثانيها: أن ذلك يؤدي إلى أن تكون المقدِّمة الكبرى (3) في البرهان جزئية، وذلك لا ينتج، فإنَّك متى قلت: هذا الأمر لا دليل عليه (4)، وبعضُ ما لا دليل عليه، يجب نفيه، فيجب نفي هذا، كنت مثل من يقول: العالم متغيرٌ وبعض المتغير مُحدّث، فالعالم مُحدثٌ.
وثالثها: أنهم إذا اعترفوا بأن ذلك غير حجَّةٍ دائمة، فقد اعترفوا بأنه غير جُجَّةٍ في نفسه وهو المراد، والله أعلم، بل ربما رجع كلامهم في هذا إلى ما تقدم من امتناع تجويزنا الجبل (5) عندنا فتحرر (6) ما قال الرازي.
ثم إن سلمنا أن ما ذكروه يقتضي أن ما لا دليل عليه وجب نفيه، ولكنا نقول: لو لَزِمَ من نفي دليل الثبوت الجزم بالعدم، للزم منه أيضاً الجزم بالوجود، وذلك متناقضٌ، وما ينتج المتناقض (7) كان باطلاً، فإذاً هذه الطريقة باطلة.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): حجّه.
(3) في (ش): الأولى.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): " الجبال " وهو خطأ.
(6) في (ب): " فتحرروا " وهو خطأ.
(7) في (ج): " المنتقض "، وفي (ش): التناقض.(5/36)
بيان ما ذكرنا من وجهين:
الأول: هو أن جزم (1) النَّافي بالنفي أمرٌ ثبوتيٌّ، فإما أن يلزم من عدم الجزم بالنفي الجزم بالثبوت أو لا يلزم، فإن لزم (2)، فنقول: كما لم يوجد ما يقتضي ثبوت المطلوب، لم يوجد ما يقتضي الجزم (3) بالنفي، فليس الاستدلال بعدم دليل ثبوت الشيء على ثبوت الجزم بانتفائه بأولى من الاستلال بعدم دليل ثبوت الجزم بالنفي على حصول المطلوب.
وإما أن تحصل (4) الدلالتان معاً، فحينئذٍ يلزم منه الجزم بالثبوت والعدم، وهو محالٌ، وإما أن لا يحصُل واحدٌ منهما، فيكون ذلك (5) اعترافاً بأن عدم دليل الثبوت لا يقتضي الجزم بالنفي، وأما إن كان لا يلزم من عدم الجزم بالنفي (6) الجزم بالثبوت، فذلك إنما يكون إذا كان بينهما واسطةٌ، وإذا كان كذلك، لا يلزم من عدم ما يقتضي الجزم بالثبوت (7) الجزم بالنفي لاحتمال القسم الثالث، وهو عدم الجزم أصلاً وحصول التوقف.
قلت: وهذا الوجه هو المعتمد، وفيه كفايةٌ لما يظهر في الوجه الثاني من (8) قبيل المعارضة دون التحقيق.
قال الرازي: الثاني: سلمنا هذا، ولكن، إن جاز (9) أن يُستدل بعدم دليل
__________
(1) في (ش): رجم.
(2) في (ب): يلزم.
(3) في (ب) و (ش) ثبوت الجزم.
(4) في (ب): يحصل.
(5) ساقطة من (ب).
(6) من قوله: " وأما إن كان " إلى هنا ساقطة من (ش).
(7) في (ش): وأما إن كان لا يلزم من عدم ..
(8) في (ب) و (ش): أنه من.
(9) في (ش): إن سلمنا جاز.(5/37)
الثبوت على النفي، جاز أن يُستدل بعدم دليل (1) النفي على الثبوت، فيلزم من ذلك الجزم بالإثبات والنفي معاً، وهو محال.
لا يقال: فرقاً بينهما من وجوهٍ أربعة:
أحدها: هو أن دليل النفي إما أن يعني به عدم دليل الثبوت، أو يعني به وجود دليل النفي. فإن عنى به الأول، كان عدم دليل النفي عبارة عن عدم دليل الثبوت، وهو نفس دليل (2) الثبوت، فيكون حاصله الحكم بالإثبات لوجود دليل الثبوت، وذلك لا نزاع فيه، وإن عنى به الثاني، لم يلزم من عدم ما ينفي وجود الشيء حصول ذلك الشيء لاحتمال حصول عدمه بالطريق الأول، وهو عدم المثبت.
وثانيها: أن دليل كلِّ شيء على حسب ما يليق به، فدليل الثبوت يجب أن يكون ثبوتياً، ودليل النفي يجب أن يكون عدميَّاً.
وثالثها: إذا لم نجد على (3) إنسانٍ ما يدلُّ على نبوته، قطعنا (4) إنه ليس بنبيٍّ، وليس إذا لم نجد عليه ما يقدح في نبوته يقطع بكونه نبياً.
ورابعها: أنا لو نفينا ما لم يوجد دليل ثبوته، لزم نفي أمورٍ غير متناهيةٍ، وهو غير ممتنع، أما لو أثبتنا ما لم يوجد دليل عدمه، لزم (5) إثبات ما لا نهاية له، وذلك ممتنع، فظهر الفرق، لأنا نقول: أما الأول، فهو معارضٌ بمثله، لأن من قال في الشيء المعين: إنه لا دليل على ثبوته، فيقال: إن دليل الثبوت قد يراد به عدم دليل العدم، وقد يراد به ما يقتضي نفس الثبوت، فإن عنيت الأول،
__________
(1) من قوله: " الثبوت " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): ذلك.
(3) سقطت من (ش).
(4) في (ش): وطعنا.
(5) في (ب): لزمه.(5/38)
كان معنى قولك لم يوجد دليل الثبوت، أنه قد عدم دليل الثبوت، أنه قد عُدِمَ دليل الثاني، وذلك هو نفس وجود (1) دليل العدم، فيكون حاصله الحكم بالنفي لوجود ما يقتضي دليل النفي، وذلك غير هذه الطريقة، وإن عنيت الثاني، لم يلزم من عدم ما يقتضي الثبوت إلاَّ يكون الثبوت حاصلاً لاحتمال أن يحصل بواسطة الطريق الثاني، وهو عدم دليل العدم.
وأما قوله: دليلُ كل شيءٍ بحسب ما يليق به.
قلنا: هذا كلامٌ إقناعيُّ، ثم إنه باطل، لأنا توافقنا على أنه يجوز الاستدلال بعدم شيءٍ على ثبوت شيءٍ آخر، بل ذلك هو الحق، فإنه يلزم من ارتفاع أحد النقيضين القطع بحصول النقيض الآخر (2).
قوله: إذا لم يجد إنسانٌ ما يدل على نبوَّته، قطعنا أنه ليس بنبي.
قلنا: لا نُسلِّم، بل إنما نقطع بذلك لقيام الدلالة القاطعة على أنه لا نبي بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولولا ذلك لما قطعنا به.
قوله: لو نفينا ما لم يوجد دليل ثبوته، لزمنا نفي ما لا نهاية له، ولو أثبتنا وجود ما لا دليل على نفيه، لزمنا إثبات ما لا نهاية له.
قلنا: نحن لا (3) ندعي أن الاستدلال بعدم دليل النفي على الثبوت (4) طريقٌ مستقيمٌ، بل نقول: إنه لا فارق في العقل بين الاستدلال لعدم دليل الثبوت على النفي وبين الاستلال بعدم دليل النفي على الثبوت، ولكن ذاك محالٌ لوجوه: منها ما ذكرتم أنه يلزم منه إثبات ما لا نهاية له، فيكون ما ذكرتموه باطلاً، وهذا إنما يتمشَّى لو دلَلْنَا على أنه يلزم من أحدهما الآخر، أما لو لم يدل
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): ثبوت.(5/39)
عليه، فهذا الكلام غير جيد، وفي هذا الموضع مزيدُ نظرٍ. وبالله التوفيق.
انتهى كلام الرازي، وقد جوَّده وطوَّله، لأنه يُحيل (1) إليه من بعد بأدنى إشارة، كما قال في دليل الأكوان بعد المنع من تماثل الأجسام مُحتجاً للخصوم بحجَّتهم المعروفة التي فرغنا من تزييفها ما لفظه.
قوله: لا نُسلِّم (2) أن الجسميّة أمرٌ مشترك.
قلنا: المرجعُ في تماثل المتماثلات واختلاف المختلفات، إما إلى العقل، أو إلى الحسِّ، وكلاهما حاكمان بتساوي الأجسام في الجسمية، لأن المعقول من الجسمية الامتداد في الجهات، وصريح العقل شاهد بأن هذا القدر غير مختلف في أفراد الأجسام، وأما في الحس، فلأن كل جسمين يتساويان فيما عدا الجسمية من الصفات، فإنه يلتبس أحدهما بالآخر حتى يظن أن أحدهما هو الآخر، ولو كان الاختلاف في الجسمية حاصلاً، لما حصل الالتباس (3).
قال الرازي: وفي هذا الكلام (4) نظرٌ. ولم يزد على هذا، وهو يعني جميع ما تقدم في نقض هذه الحجة التي هي الاستدلال على عدم الشيء بعدم الدليل عليه، وجميع ما تقدم في نقض دعوى تماثل الأجسام. وأنا أنبه على يسيرٍ مما يعارض ذلك.
فأقول: لا نُسلِّم أوَّلاً أن المرجع في اختلاف المختلفات كلها إلى العقل أو الحسِّ، بل المرجع إليهما فيما أدركنا اختلافه من المختلفات، لكن ما المانع أن يكون الاختلاف في نفسه مختلفاً، منه (5) ما يصح أن يدركه البشر
__________
(1) تصحفت في (أ) إلى: يخيل.
(2) " لا نسلم " ساقطة من (ب).
(3) في (ب): " هذا الالتباس "، وفي (ش): هذا القياس.
(4) ساقطة من (ج).
(5) في (ج): فيه.(5/40)
بعقولهم وحسهم، ومنه ما لا يصح أن يُدركوه بهما (1) ولا دليل لهم على رفع هذا الاحتمال (2) إلاَّ عدم وجدانهم لذلك، واعتقادهم وجوب (3) النفي لما لم يجدوه، وقد مر بطلانه، فظهر أن هذه الحجة ترجع إلى ذلك، وإن زخرفوها (4) بتغيير العبارة، ولذلك قال الرازي: وفي هذا الكلام نظر، سلمنا أنه كله مما يصح أن (5) يدركوه بهما أو بأحدهما، لكن ما المانع أن يكون الحسُّ هو الطريق إلي معرفة اختلاف الأجسام، لكن لم يحصل ذلك الإدراك الممكن لمانعٍ، تارة يرجع إلى المختلف وتارة إلى (6) الاختلاف.
بيانه أن الجواهر وما لَطُفَ من الأجسام لا تُدْرِكُ هي أنفسها للطافتها، وذلك أمرٌ ضروري متفق عليه، فإذا لم تدرك هي أنفسها، فكيف اختلافها؟! فجاز أن يكون عدم الإدراك مما (7) صَغُرَ وخَفِيَ من الأجسام لأمرٍ راجع إلى نقصان إدراك البشر وضعف قوتهم في إدراكهم عن إدراك كل شيء كما لا تدرك الملائكة والجن والشياطين، ولا تُدرَكُ كبار الأجسام لإفراط البعد (8)، وما المانع أن يُدْرِكَ الله تعالى من الذوات اللطيفة واختلافها اللطيف ما لا يدرك، ومن العجب موافقة (9) الخصم على أنه تعالى يُدرِكُ من الذوات اللطيفة ما لا يُدرَكُ (10)، ونزاعه في أنه يُدرِكُ من اختلافها ما لا نُدرِك، ولا شك أن اختلاف ما
__________
(1) عبارة " أن يدركوه بهما " ساقطة من (ش).
(2) كتب على هامش الأصل ما لفظه: مستندهم في ذلك وجدان العقل وحكمه الذي جعله الله تعالى لنا حجة قاطعة، ولا عبرة بما خالف من الاحتمالات في التكاليف فتأمل.
(3) في (ب): اعتقاد وجوب.
(4) في (ج): حرفوها.
(5) " يصح أن " ساقطة من (ب).
(6) في (ش): يرجع إلى.
(7) في (ب): فيما.
(8) تحرفت في (أ) إلى: العبد.
(9) في (ش): موافقتهم.
(10) في (ش): ندركه.(5/41)
لطُفَ ألطفُ من ذاته، وأما الأجسام المُدَركة، فالاحتمال فيها من وجهين:
أحدهما: أن الخصم مسلِّمٌ أنا (1) قد لا ندركها مع عظمها لمانعٍ من ضعف البصر، أو البُعد المُفرطِ، أو الحجاب الكثيف، فيجوز أنا لم ندرك اختلافها لمانعٍ، وهو اتصافها بالصفات العارضة من الألوان والمقادير والأشكال والصور، ولعلها لو تجرَّدت من (2) هذه الأمور، أدركنا نوعاً آخر من الاختلاف لم نعرِفْهُ قطُّ.
وثانيهما: أنه (3) كما صح أن (4) في الذوات ما لا يُدرَكُ (5) للطافته، فلا يمتنعُ أن يكون اختلاف الأجسام العظيمة لطيفاً غامضاً، ولا (6) يدرك للطافته، ولا يعلمه إلاَّ الله تعالى. ألا ترى أنه لو أخبر الله بذلك لوجب تصديقه، ولم يكن كالإخبار بأن البعض أكثر من الكل، بل قد أخبر الله تعالى باختلاف المتحيِّزات في ذكره سبحانه: {إرَمَ ذات العماد} [الفجر: 7]، حيث قال في وصفها: {التي لم يُخلقْ مثلُها في البلاد} [الفجر: 8] فأمِنَ بذلك من لم يعرف علم الكلام من جميع أهل الفطر السليمة من التغيير من جميع طوائف المسلمين وسلفهم الصالح، واحتجُّوا به، ولم يجعلوا ظاهره في البُطلان كالمقيد بوجود المُحال الذي يجب القطع على أن ظاهره كذب مقطوعٌ به لا يمكن تجويز صدوره من الله، وكذلك يجد الإنسان التطلعَ إلى سؤال من يعلم الغيب عن الشفاء واليقين في مثل هذه المشكلة تطلُّعَ من تَقَبَّلَ الخبر بأي الأمرين وقع، وليس هذا حال المعلومات اليقينية. فإن قالوا: لا نعلم مانعاً، فيجب نفيه،
__________
(1) في (ش): أنها.
(2) في (ش): عن.
(3) في (ش): أنه لا يصح.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): يدركه.
(6) "الواو" ساقطة من (ب) و (ش) و (ج).(5/42)
رجعوا إلى ما تقدَّم بطلانه، وعرفت أن دليلهم هنا يدور عليه.
ومثال ما ذكرته لك من لُطف الاختلاف الذي يخفى على البشر: اختلاف أئمة الاعتزال في الحركة والسكون وسائر الأكوان، هل هي مُدرَكَةٌ بالبصر أم لا؟
فقال الشيخ أبو عليٍّ الجبائي: هي مُشَاهَدَةٌ، وهو أول قولي أبي هاشم، ثم رجع عن ذلك، فنفى أن تكون مشاهدة لما التبس عليه المتحرِّك نفسه بحركته، فلم يدر هل المشاهد المتحرك وحده أو المتحرك وحركته، ولو رجع من إثبات المشاهدة إلى الوقف، لكان أقوى له، ولكنه رجع إلى الجزم بالنفي ملاحظةً للبقاء (1) على قاعدتهم الفاسدة في أن عدم الدليل على ثبوت الشيء يستلزم القطع بنفيه، فانظر إلى اختلاف هذين الشيخين الكبيرين وتردُّدهما في أمرٍ: هل هو مشاهد أم لا؟ وعلى كلام أبي عليٍّ يكون أبو هاشم جَحَدَ الضرورة المشاهدة وعرض له من الشكِّ فيها ما عرض للسوفسطائية من الشُّبهة في إنكار جميع العلوم الضروريات، وما أوقعهم في هذا إلاَّ دعوى القطع في موضع الوقف، وقد يقفون في بعض المواضع كما يقفون في إدراك الفناء. مع أن ضده مُدرَكٌ، وكما وافقونا (2) عليه في تجويز ألوان غير هذه الألوان في قدرة الله تعالى من غير دليلٍ عليها، وكذلك في الطعوم والروائح، ولم يخافوا (3) من هذا لزوم ثبوت ما لا يتناهي من كلِّ جنسٍ من ذلك، كما مر في أدلتهم، وهذا ينقضُ عليهم قاعدتهم في نفي ما لا دليل عليه، بل قد نصُّوا على اختلاف الذوات في العدم، واختلافها فيه غير مُدرَكٍ ضرورة، فبطلت شبهتهم، والحمد لله.
واعلم أن قاعدتهم هذه الفاسدة قد ألجأتهم إلى القطع بأن الله عزَّ وجلَّ لا يصحُّ أن يُدرك، ولا يعلم من اختلاف الأجسام والجواهر في ذواتها (4) غير ما
__________
(1) في (ش): للنفي.
(2) في (ب): أو قفونا.
(3) في (ب): يخالفوا في.
(4) ساقطة من (ب).(5/43)
يعلمه ضعفاء البشر، وجُهَّالُهم، وكفي بهذا شناعة على من يقول به، ومناقضة لقولهم: إن الاختلاف ثابثٌ في العدم (1) غير مُدرَكٍ فيه.
وعلى الجملة، فالعلم الضروري حاصل باختلاف البشر في الإدراك، تارة لأمرٍ يرجع إلى قوة الحاشة، مثل ما رُوِيَ عن الزرقاء (2) في حدة بصرها، ومثل ما يشاهد في رؤية الهلال، وأمثال ذلك، وتارة يرجع إلى كثرة المعرفة والخبرة وطول التجربة، مثل ما أن الجوهرى يعلم من اختلاف الجواهر النفيسة والفصوص الثمينة ما لا يعرفه من يُشاهدُها متماثلةً مع صحة بصره لعدم خبرته، وكذلك الصيرفي النَّقَّادُ (3) يدرك التفاوت العظيم بين الدرهمين المُتماثلين في بصرِ من لا يُحسِن صنعته، بل البهائم تدرك من اختلاف صور أولادها المثماثلة في أبصارنا ما لا ندرك، خصوصاً الشاة والماعز، وكذلك الرعاة (4) تُدرِكُ من اختلاف صور الشاة ونحوها (5) ما لا يدرك غيرُهم، وهذا (6) شيء يعلمه العامَّة،
__________
(1) في (ب): القدم.
(2) هي زرقاء اليمامة، واليمامة اسمها، وبها سُمِّيَ البلد، وهي امرأة من جديس وكانت تبصر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، ويُضرب بها المثل في حدة النظر وجودة البصر، وهي التي ذكرها النابغة في قوله:
واحكمْ كحكمِ فتاةِ الحيِّ إذ نَظَرَتْ ... إلى حَمَامٍ شِراع وارد الثَّمَدِ
يحفُّه جانبا نيق وتتبعُه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرَّمَدِ
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامَتنا أو نصفه فَقَدِ
فحسّبوه فألفَوْه كما ذكرتْ ... تِسعاً وتسعين لم تَنْقُص ولم تَزِدِ
ويقال لها: زرقاء جو لزرقة عينيها، وجو اسم لليمامة، قال المتنبي:
وأبصر من زرقاء جوٍّ لأنني ... إذا نظرت عيناي شاءهما علمي
انظر " المستقصى " 1/ 18، و" مجمع الأمثال " 1/ 114، و" خزانة الأدب " 10/ 254 - 255 و485.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ب): وكذا الرِّعاء.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): هذا.(5/44)
فالعجبُ من قوم يدَّعون فرط الذكاء، وبُعْدَ الغايات في التدقيق لم يعرفوا أن الله اللطيف الخبير علاَّم الغيوب يجوز أن يُدرك في (1) اختلاف المتماثلات في إدراكنا ما لا نُدركه، وكيف (2) لا يكون إدراكه يخالف إدراكنا، وعلمه يخالف علمنا، وصفاته (3) تخالُف صفاتنا في كمالها في حقه ونقصها في حقنا، وأي أمر ساواه فيه (4) خلقه، وأين نفي التشبيه (5) الذي تدعي الخصوم المبالغة فيه؟ وما ألجأهم إلى تشبيه الله تعالى بخلقه الضعفاء في صفة الإدراك، وأوقعهم (6) فيه؟ وقد ثبت أن من قال في علم الله أو قدرته أو غيرهما من صفات الله المحكمة: إنها مثل صفاتنا، فهو كافرٌ مشبِّهٌ بإجماع المسلمين (7)، فليحذر في (8) ذلك، والقائل (9) بأن إدراكه لاختلاف المختلفات وتماثل المتماثلات لا يصحُّ أن يزيد على إدراكنا قطعاً (10) - تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (11)، وما زال المسلمون يُنزِّهون الله تعالى عن ذلك (12). ومن الدائر بينهم قول القائل:
يا من يرى مدَّ البَعُوض جَنَاحَهَا ... في ظُلمةِ الليل البهيمِ الأليَلِ
ويرى نِياطَ عُرُوقِهَا في سَاقِهَا ... والمُخ في تلك العظام النحل (13)
__________
(1) في (ب) و (ش): من.
(2) في (ش): وكذلك.
(3) في (ب) و (ش): وجميع صفاته.
(4) في (ش): في.
(5) في (ب): الشبيه.
(6) في (ش): ووافقهم.
(7) في (ش): بالإجماع.
(8) ساقطة من (ب) و (ش).
(9) في (ب) و (ش): القائل.
(10) ساقطة من (ش).
(11) في (ب): عن ذلك.
(12) جملة " ينزهون الله تعالى عن ذلك " ساقطة من (ش).
(13) أنشدهما الزمخشري في " الكشاف " 1/ 265 في تفسير قوله تعالى: {إن الله لا =(5/45)
وكذلك البَّزازُ يعرف تفاوتاً كثيراً في الثياب المتماثلة في رؤية البدوي الغِرِّ، فإذا كان البدوي الغِرُّ يجوز أن يدرك الجوهري والبزاز فيما اختصَّا به، ما لم يدركه (1)، فكيف لا يجوز في البشر الضعيف في قواه أن يستأثر الله تعالى بإدراك ما لا ندركه من اختلاف الأشياء، وقد صح أن الله تعالى خالف بين الأشخاص في وجوههم مخالفة تُحيِّرُ عقول الأذكياء، فما كان العقل يُدرك أن مقدار شبرٍ يُصوِّرُ بصورٍ مختلفةٍ متمايزة إلى حدٍّ لا نهاية له، وقد يخفي علينا من (2) ذلك ما لا يخفى على الله تعالى من اختلاف البَعُوض والذَّرِّ، وما هو أصغرُ من ذلك في وجوهها واختلاف الأصوات، وقد سمعت عن بعض (3) العارفين أن كل حبةٍ من العنب وغيره مخالفة للحبة الأخرى في مقدارها، ولا سبيل إلى تكذيب هذا، وبعضه مُدرَكٌ، ولكن من قطع بأن الله تعالى لا يعلم من ذاته إلاَّ مثل ما يعلمه نظَّارةُ البشر لم يُستنكر (4) منه أن يقطع على أن (5) الله تعالى لا يُدرِكُ من اختلاف المختلفات إلاَّ ما يُدرِكه البشر فالله المستعان.
وليت شعري، من أين جاء للعقول القطع بأن ذوات الملائكة مثل ذوات الكلاب والخنازير، وأن ذات النور مثل ذات الظلمة، وذات الرياح مثل ذات الحديد، وما أحسن الإنسان يَقِفُ حيث لا يعلم، ويتأدَّبُ بقول الله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليسَ لَكَ به عِلْمٌ} [الإسراء: 36]. نسأل الله التوفيق، وقد عَظُمَ
__________
= يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضة فما فوقها} فقال: أنشدت لبعضهم وذكر البيتين، وزاد بيتاً ثالثاً، وهو:
اغفِرْ لعبدٍ تابَ من فرطاتِه ... ما كان منه في الزَّمان الأوَّلِ
وأوردهما ابن خلكان في " وفيات الأعيان " 5/ 173 في ترجمة الزمخشري.
(1) من قوله: " في ظلمة الليل البهيم الأليل " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في (ب): في.
(3) في (ب): " وعن بعض "، وفي (ش): " وقد سمعت بعض ".
(4) في (ش): يستكثر.
(5) سقطت من (أ).(5/46)
الوعيدُ فيمن افترى على عينيه في الأحلام (1)، فكيف بمن افترى على عقله في قواعد الإسلام.
وذكر ابن متويه في الألوان أن طريقة الحصر إنما تكون حجة حيث تؤدِّي إلى ما لا يعقِلُه أصلاً، وهذا ضعيفٌ جداً، فإنه إن أراد بما لا نعقله أصلاً ما لا نعلمه بنفيٍ ولا إثباتٍ، فمحل النزاع، وإن أراد ما نعلم نفيه، فغير محلِّ النِّزاع.
وأيضاً فإن أراد ما لا يتصوره لعدم إلفِنَا له، لَزِمَهُ بطلان القِدَم، فإنَّ العقول تنبو عن تصوُّره لعدم إلفِهَا له، ولأنه لا نهاية له كما ذكره أهل علم المعقولات، وكذلك لا يمكن تصوُّر ذات الله عز وجلّ، مع أنها أحق الحق، والمختصَّة بوجوب الوجود.
وإن أراد بما لا نعقله أصلاً ما نعلم بفطرة العقول إحالته وامتناعه، فالعلم بذلك دليل على انتفائه، وقد خرج بذلك عن الاستدلال على نفيه بعدم الدليل على نفيه (2)، ولو كان كلام ابن متويه صحيحاً، لكان أكبر حُجَّةٍ لخصومه حيث قالوا: إنهم يعلمون بالضرورة إن كل موجوديْن، إما أن يَحُلُّ أحدُهما في الآخر،
__________
(1) أخرج أحمد 1/ 90 و91 و131، والترمذي (2281) و (2282)، والحاكم 4/ 392 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه رفعه: " من كَذَبَ في حُلْمِهِ، كُلِّف يوم القيامة عقد شعيرة ".
وأخرجه من حديث ابن عباس: أحمد 1/ 216 و246، والبخاري (7042)، والترمذي (2283)، وأبو داود (5024)، والبغوي في " شرح السنة " (3218)، والطبراني في " الكبير " 11/ (11831) و (11855) و (11884) و (11923) و (11960) بلفظ: " من تحلَّمِ بحُلْمٍ لم يره كُلِّفَ أن يعقد بين شعيرتين، ولن يفعل ".
وأخرجه من حديث ابن عمر: البخاري (7043) بلفظ: " مِنْ أفرى الفِرى أن يُرِي عينه ما لم تَرَ ".
وأخرجه البخاري معلقاً من حديث أبي هريرة (7042) عقب حديث ابن عباس المتقدم. وانظر " تغليق التعليق " 5/ 274 - 275.
(2) " على نفيه " ساقطة من (ب).(5/47)
أو يكون مفارقاً (1) له بالجهات، بدليل أنهم لا يعقلون قسماً ثالثاً أصلاً.
قالوا: فلو جوَّزنا القدح في هذه القضية مع كونها معلومة بالفطرة موافقة لنصوص الكتب المنزَّلة، جاز القدح في سائر القضايا الضرورية، وذلك يجرُّ إلى السفسطة، فإذا كانت هذه الطريقة هي حُجَّته عليهم، فإنها بعينها هي حجَّتُهم عليه، فكان في تصحيح قوله بطلانه.
زاد مختار: إنه لا دليل على القديم في الأزل مع وجوب ثبوته فيه، وهو دليك صحيحٌ، فهذا من الأدلة العقلية.
ومن الأدلة السمعية ما لا يُحصى، من ذلك قوله تعالى: {وَيَخلُقُ مَا لا تعلَمُون} [النحل: 8]، فلو كان ما لا يعلم البشر يجب نفيه، لوجب أن يستحيل صدور مثل هذا النص الحقِّ عن الربِّ الحقِّ، ومن ذلك ما ثبث وصحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من طريق ابن عباس: " أن الخَضِرَ قال لموسى ما علمي وعِلمُكَ وعِلْمُ جميع الخلائق في علم الله إلاَّ مثل ما أخذ هذا العصفور من هذا البحر " (2)، ويشهد لهذا قوله تعالى: {وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلمِ إلاَّ قَليِلاً} [الإسراء: 85].
وفي الصَّحيح أيضاً عنه - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: " لو تعلمون ما أعلمُ، لضَحِكْتُم قليلاً ولبكيتُم كثيراً " (3)، فكيف يصح مع هذا في عقل عاقل أن يكون الجهلُ طريقاً
__________
(1) في (ش): مقارناً.
(2) أخرجه أحمد 5/ 118، والبخاري (122) و (3401).
(3) روى هذا الحديث غيرُ واحد من الصحابة، رضوان الله عليهم، فأخرجه من حديث عائشة: أحمد 6/ 81 و164، ومالك 1/ 186، والبخاري (1044) و (6631)، ومسلم (901)، والنسائي 3/ 132 - 133 و152.
وأخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 257 و312 - 313 و418 و432 و453 و467 و477 و502، والبخاري (6485) و (6637)، والترمذي (2313)، والحاكم 5/ 479، والبغوي في " شرح السنة " (4170)، والقضاعي في " مسند الشهاب " =(5/48)
إلى العلم والعمى سبيلاً إلى البصر (1)، وأدلَّة السمع هنا صحيحة، لعدم وقوف صحة السمع على هذه المسألة، بل هي أصح، لعدم تعارضها والأمان من الزلل في مداحض غوامضها.
وبتأمل هذا وتفهُّمِه تعرف أن الذين لم يُكفِّروا المختلفين في هذه الدقائق، ولم يحكموا بعنادهم وتعمدهم له، هم الذين بلغوا الغاية في معرفة قواعد الاختلاف وأسبابه.
الحجة الثالثة: للمعتزلة على تماثل الأجسام: قسمة الحصر والسَّبْر، وقد تقدم في كلام الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام والرازي، أن المرجِع بها إلى الاستدلال بعدم الدليل على نفي المدلول، وقد مر الكلام فيه، وهو صحيح جليٌّ، لأنه لا بد أن يقولوا: لو كان هناك قسم آخر غير الأقسام المذكورة لعرفناه، لكنا لا نعرفه، فهو باطل، على أنها لو صحت لاحتجَّ بها خصومُهم، كما تقدم، وكانت لفساد قول المعتزلة ألزم، والله سبحانه أعلم.
ثم إن ابن متويه عَضَّدَ هذا الاستدلال بطريقة الحصر بنحوه، وطوَّل في
__________
= (1419)، وابن حبان (113) و (358) و (662) و (5793) و (6706).
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 102 و126 و180 و193 و210 و251 و268 والبخاري (4621) و (6486)، ومسلم (2359)، والنسائي 3/ 83، وابن ماجه (4191)، والبغوي (4171)، والقضاعي (1430) و (1432)، وابن حبان (5792).
وأخرجه من حديث أبي ذر الغفاري: أحمد 5/ 173، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، والحاكم 2/ 510 و4/ 544 و579.
وأخرجه من حديث أبي الدرداء الحاكم 4/ 320، وصححه، ووافقه الذهبي، والقضاعي في " مسند الشهاب " (1433)، ونحوه عند أبي نعيم في " الحلية " 1/ 216 موقوفاً على أبي الدرداء.
وأحرجه من حديث عبد الله بن عمر: القضاعي (1431).
وأخرجه من حديث عمرو بن العاص: أبو نعيم في " الحلية " 1/ 289.
(1) في (ب): النظر.(5/49)
اختلاف عباراتهم عنه، وما هو إلاَّ تسويدٌ للأوراق، وتشويشٌ على النُّظَّار، وتضييعٌ للأوقات، وكثيراً ما يغترُّ من نظر في كتبهم بأنهم يخوضون كثيراً في أمورٍ صحيحة جليَّةٍ، ويوردون على أنفسهم أسئلة ساقطة بمرَّةٍ، ثم يَحيدُون في الجواب عنها، ويُدرجون في أثنائها السؤال الحق الذي لا جواب يتَّضحُ لهم عليه، ثم يُوردون في الجواب عليه ما لا يشفي ولا يكفي، فربما لم يتفطن له الغبي، وربما ظن حين لم يفهم كلامهم أنه دقَّ عليه ما فهموه بفرط ذكائهم، وما أحسن قول إمام علم الكلام الغزالي، حيث قال: إنَّ الطريق إلى التحقيق من علم الكلام مسدد، وإنه لا يخلو من معارف صحيحةٍ، ولكن اليقين الذي فيه إنَّما هُوَ في أمورٍ يحصُلُ اليقين بها قبل الخوض فيه، أو كما قال. وما أنفسَه من كلام!
وربما دقَّ كلامهم على من لم يألف عباراتهم (1)، وفي الحقيقة إنما دق عليه ما اصطلحوا عليه وابتدعوه مِنَ العبارات كما يدقُّ على العربي الفصيح فهم كلام الأعاجم في تراطنهم، ولذلك كان الإمام أحمد إذا جادلوه بتلك العبارات، يُجيب عليهم بأن هذا فنٌّ لا أعرفه، كما مرَّ تحقيقه، وأنَّه الذي ينبغي للسُّنِّيِّ في الجواب عليهم، وأنت تقول: إن هذا كلام من لم يفهم ما ذكروه، فاعتبر بمن أجمعوا على تعظيمه من مشايخهم، ممن يَرُدُّ قولهم ويبالغ في نسبتهم إلى رِكَّةِ النظر، أو إلى (2) العناد، كما سيأتي من كلام أبي الحسين البصري وأصحابه على أبي هاشم وأصحابه، فقد تعارضت أقوالهم في هذه الدقائق، ويستحيل تكاذب العلماء، كما يستحيل تعارضُ العلوم.
وربَّما رجَّحوا ما يعتقدونه دليلاً عقلياً، بأنه لا يحتمل التأويل، وهذا معارض في حق المعتزلة بأن الاستدلاليَّ عندهم ما يجوز عروض الشَّكِّ والشبهة فيه عند القطع به، وقد حقَّقت في " ترجيح أساليب القرآن " (3) أن هذا شكٌّ ناجزٌ يُنافي
__________
(1) في (ش): عبارتهم.
(2) في (ش): وإلى.
(3) انظر ص 87.(5/50)
العلم القاطع، وهو مذهب الإمام يحيى بن حمزة والرازي، كما مر بيانُه في الحجة الثانية في جواب قول المعتزلة: إن الوقف فيما لا دليل عليه يؤدي إلى بطلان العلوم النظرية لتجويز غلطٍ في مقدماتها لم يشعر به (1) الناظر.
ثم إن أكثرهم لا يُجيدون علم الاجتهاد، ولا يتقنون (2) قواعد التأويل الصحيح، فيأتون من التأويلات بجنس تأويلات الباطنية، وقد تكلم عليهم الزمخشري في بعض المواضع، وخالفهم في كثيرٍ منها لذلك، فقال في تأويلهم لقوله تعالى: {بلْ يداهُ مَبْسُوطَتَان} [المائدة: 64]: وهذا من ضيق العَطَنِ والمُسافرة عن علم البيان مسافة أعوامٍ، وخالفهم في تأويلهم لمثل (3) قوله: {ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] وغير ذلك.
وأما قولهم: إذا بطل العقل بطل السمع، فإنه فرعه، فالجواب (4) من وجوه:
أحدها: أن السمع لا يُعارضُ العقل، فإن الأنبياء والأولياء والسلف أوفر الخلق عُقولاً، ولذلك زهِدُوا في الدنيا، وكثير من المتكلمين فاسق تصريح، ومن شيوخهم في علم الكلام أعداء الإسلام المخذولون من الفلاسفة وأشباههم، وإنما يجنون على العقول بدعاوى باطلةٍ.
والوجه الثاني: أن المبتدعة والفلاسفة لم يسلموا من مخالفة فِطَرِ العقول، كما بيَّنوا ذلك في رد بعضهم على بعض في علم اللطيف، ولكنهم يقعون في تلك المحارات (5) حين يُلجئهم إليها دليلُ الخُلْفِ الظَّني، وتقليد القدماء ممن يُعظِّمُونه، وأهل السنة يُؤمنون (6) بالمحارات (7) السمعية التي جاءت بها الرسل،
__________
(1) في (ش): بها.
(2) في (ب) و (ش): يحققون.
(3) في (ش): مثل.
(4) في (ج): والجواب.
(5) في (ش): المحالات، وهو خطأ.
(6) ساقطة من (ب).
(7) في (ش): بالمحالات، وهو خطأ.(5/51)
وصحت فيها النصوص، والكل مُقرٌّ بامتناع المحالات (1) العقلية الضرورية.
الوجه الثالث وهو الحق: أن تقدير تعارض العقل والسمع القاطعين (2) تقديرٌ محالٌ: لأن تعارض العلوم محالٌ، ولو قُدِّرَ، بطلا معاً، ألا ترى أن السمع لو بطل، وقد حكم العقل أنه لا يبطُلُ، لعلمنا بذلك أيضاً بطلان إحكام العقول، وقد أجاب عليهم (3) بهذا شيخ المعقول والمنقول ابن دقيق العيد، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره الزركشي (4) في شرح " جمع الجوامع " للسبكي وقد تفرَّع هذا الكلام من رد احتجاجهم على تماثل الحوادث المستقلة، وتسميتها أجساماً كلها بدليل الحصر والسبر، ونقض ذلك عليهم، وبيان مخالفتهم فيه لجمهور علماء المعقول، وجميع أئمة علم (5) المنقول ممن وقع الاتفاق على تفضيله في عقله، وتصديقه في نقله، لكمال تقواه وفضله.
الحجة الرابعة: أنهم بَنَوا على أنه لا يصحُّ اختلاف الأجسام إلاَّ في صفاتها الذاتية أو المقتضاة، وصفاتها الذاتية ثابتة (6) معها في حال (7) العدم بغير اختيارٍ
__________
(1) في (أ) و (ج): المحارات، وهو خطأ.
(2) في (ب): القاطعة، وفي (ش): القطعيين.
(3) في (ش): عنهم.
(4) هو الإمام العلامة أبو عبد الله بدر الدين محمد بن بَهَادر بن عبد الله المصري الزركشي الشافعي، ولد سنة خمس وأربعين وسبع مئة، وسمع من العلامة مغلطاي، وتخرج به في الحديث، وقرأ على الشيخ جمال الدين الإسنوي، وتخرج به في الفقه، ورحل إلى دمشق، فتفقه بها، وسمع من الحافظ ابن كثير، ورحل إلى حلب، فأخذ عن الأذرعي وغيره، وأقبل على التصنيف، فكتب بخطه ما لا يحصى لنفسه ولغيره، له تصانيف كثيرة في الأصول والفقه والحديث والتفسير، منها كتابه الذي نقل عنه ابن الوزير هنا، وهو مطبوع في مجموع شروح " جمع الجوامع " بمصر سنة 1322 هـ، واسمه " تشنيف المسامع لجمع الجوامع "، توفي سنة 794 هـ بالقاهرة، ودُفن بالقرافة الصغرى. مترجم في " إنباء الغمر " 3/ 138، و" طبقات ابن قاضي شهبة " 3/ 227، و" تاريخ ابن الفرات " 9/ 326.
(5) ساقطة من (ب) و (ج).
(6) ساقطة من (ش).
(7) ساقطة من (ج)، وفي (ش): حالة.(5/52)
من الله تعالى وصفاتها المقتضاة عنها ليست إلاَّ التحيز لا سوى، والتحيز مختلفٌ فيه بينهم، فمنهم (1) من قال: هو ثابت أيضاً في العدم بغير اختيار الله تعالى، حكاه مختار في " المجتبى "، كما سيأتي كلامه، وحكاه ابن متويه في " التذكرة " ولم يُقبِّحه على قائله من شيوخهم (2)، وهذا جرى (3) على القياس، لأن الصفة المقتضاة لا تَخَلَّفُ (4) عمَّا يقتضيها في العقل، وإلا لما كانت مقتضاة، كما أن المعلول لا يتخلف عن العلَّة (5)، ولكنهم خافوا أن يتفاحش الأمر ويلزمهم التصريحُ بقدم (6) العالم، والمجاهرة بذلك، فاعتذروا بأنَّ هذا التحيُّز لا يظهر إلاَّ بشرط الوجود، والوجود بالفاعل، فقد زعموا أن التحيُّز ليس بالفاعل، وهو الله تعالى، ولا الذات، ولا صفتها الذاتية، والوجود عندهم ليس بشيءٍ، لأنَّ الأشياء ثابتةٌ في العَدَم، ولا تأثيرَ لله تعالى إلاَّ فيه، مع أنه ليس بشيءٍ، فصحَّ (7) على زعمهم أنَّ الله تعالى لم يؤثر في شيءٍ على الحقيقة، وهذا مما لا جواب لهم عنه (8)، وإنما (9) حاولوا الجواب عن (10) كونه تعالى لم يخلُق شيئاً ولا أحدثه، فإن ابن متويه حاول الجواب عن هذا بأن خلق الشيء وإحداثه هو إيجاده، والله تعالى هو الذي حصَّل (11) له صفة الوجود، وهذا الجواب غير مخلص، فإن معنى الإلزام أن اتِّصاف الشَّيء بأنه مخلوق على اعتقادهم مجاز،
__________
(1) جاء في هامش (ش): وهو أبو عبد الله البصري.
(2) في (ش): شيوخهم.
(3) في (ب) و (ش): وقد أجري.
(4) في (د): نخالف.
(5) في (ب) و (ش): العلة العقلية.
(6) في (ب): بعدم.
(7) في (ش): يصح.
(8) في (ش): فيه.
(9) في (ش): ولما.
(10) في (ش): من.
(11) في (ش): جعل.(5/53)
لأن الشيء ثابتٌ عندهم في العدم قبل خلقه، وإنما المخلوق على (1) الحقيقة عندهم حدوثه ووجوده، وليسا بشيءٍ عندهم. وقد صرَّح الزمخشري في " أساس البلاغة " (2) بأن الله لا يُسمى خالقاً إلاَّ مجازاً، وهو علاَّمتهم في علم اللغة، فكيف غيرُه؟
وقد صرَّح ابن متويه بأن الأشياء مختلفة في العدم بصفاتها الذاتية، وأن اختلافها ليس بالفاعل -يعني بالله تعالى- وإلا لجاز (3) أن يجعل السواد مثلاً (4) للبياض، فثبت أن عندهم أن الله تعالى غير قادرٍ على خلق جوهرٍ مخالفٍ للجواهر، ولا يمكن أن يعلمَ الله إلى ذلك سبيلاً، ولا يقدر على المخالفة بين شيئين أصلاً، إلاَّ أن يكونا مختلفين بأنفسهما من قبل خلقه لهما، وهذا أيضاً راجعٌ إلى عدم الشيء لعدم الدليل عليه، لأنه لا دليل لهم على أنه لا يصحُّ اختلاف الأجسام سواه، فإذا كان (5) تماثل الأجسام مبنياً على هذه الدعاوى، فلا شكَّ في مخالفة (6) أكثر علماء المعقولات لهم في ذلك. دع عنك علماء الآثار (7) وأئمة الإسلام، وقد خالفهم في ذلك خلق كثير من علماء الاعتزال، وشنَّعوا عليهم في ذلك لما فَحُشَ جهلُهم فيه.
فلنقتصر على ردِّ أصحابهم عليهم، ولنقتصر علي أخصر كلامٍ، في ذلك لمجانبة هذا الجواب لهذا (8) الفنِّ إلاَّ ما تمسُّ الحاجة إليه مما ليس فيه خوضٌ في ذات الله عز وجل.
__________
(1) من قوله: " اعتقادهم مجاز " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) ص 173.
(3) في (ش): جاز.
(4) سقطت من (ش).
(5) في (ش): وإن كان.
(6) في (ش): مخالفته.
(7) في (ش): الأثر.
(8) في (ب) و (ش): بهذا.(5/54)
فنقول: قال الشيخ مختار بن محمود المعتزلي في كتابه " المجتبى " في الكلام على وجود الرب سبحانه وتعالى ما لفظه: الكلام في هذه المسألة يختلف باختلاف الناس (1) في الوجود، فَمَن قال: وجود الشيء ذاته وحقيقته، قال: إذا دللنا على أنه لا بد للعالم من صانع، علمنا أنه موجود، لأن الشكَّ في عدمه بعد العلم بثبوته شكٌّ في انتفائه بعد ثبوته، وأنه خُلْفٌ، وإنما قلنا: إنه شكٌّ في انتفائه، لأن أهل اللُّغة يستعملون لفظ العدم، ولفظ النفي بالترادف، والنفي والثبوت يتقابلان، فكذا العدم والثبوت، فكل ما كان ثابتاً لا يكون معدوماً، وإذا لم يكن الباري معدوماً، كان موجوداً، فصحَّ ما ادعينا أنه إذا ثبت أنه لا بد من صانعٍ للعالم، ظهر وجوده، وإلى ذلك ذهب كثير من المشايخ، كأبي الهُذيل (2) وهشام الفُوطِي (3) وهشام البرذعي، وأبي (4) الحسين البصري، وشيخنا ركن الدين محمود الخوارزمي (5)، ومن السنية: أبو بكر الباقلاني (6) وأتباعه.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول أبو الهذيل العلاَّف، شيخ المعتزلة، ومقرِّرُ طريقتهم، والمناظر عليها، المتوفى سنة (227) هـ، زعم أن حركات أهل الجنة والنار تنقطع ويصيرون إلى سكون دائم، وأنكر الصفات المقدسة حتى العلم والقدرة، وقال: هما الله انظر ترجمته في " السير " 10/ 542.
(3) هو هشام بن عمرو الفوطي كان صاحب ذكاء وجدال وبدعة ووبال. مترجم في " السير " 1/ 177.
(4) في (أ): "أبو"، وتقدمت ترجمة أبي الحسين البصري 2/ 333.
(5) قال اللكنوي في " الفوائد البهية " ص 74 هو ركن الدين الوالجاني الخوارزمي، كان إماماً جليلاً، كثير العلم، أوحدَ عصره في العلوم الدينية، ومجتهد زمانه في المذهب والخلاف، تفقه على نجم الدين الحكيمي عن فخر الدين حسن قاضيخان، وتفقه عليه صاحب القنية. قلت: صاحب القنية هو الشيخ مختار بن محمود هذا الذي نقل عنه المؤلف.
(6) هو الإمام العلامة أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم البصري ثم =(5/55)
وأما من قال: وجود الذات زائدٌ على حقيقته، لكنه غيرُ منفكٍّ عنها، وهذا قول أكثر الفلاسفة والأشعرية، ومن تابعهم، فإنهم قالوا: الدليل على ثبوت حقيقته دليلٌ على وجوده، لأن وجوده عندهم لا ينفكُّ عن حقيقته.
وأما من قال: وجود الذات زائد عليه، ومنفكٌّ عنه، زعم أن الحقائق متقررة مع انتفاء الوجود عنها، وهم (1) جمعٌ من المشايخ، كأبي يعقوب الشَّحَّام (2)، وأبي علي الجُبَّائي، وأبي هاشم، وأبي الحسين الخياط (3)، وأبي القاسم البلخي، وأبي عبد الله البصري، وقاضي القضاة، وأبي رشيد، وابن متويه، وأتباعهم. وزعموا أن المعدومات قبل وجودها ذوات، وأعيان وحقاثق، وأن تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات على صفة الوجود لا على الذوات، ثم اتفق هولاء أن الذوات لا تختلف إلاَّ بالصفات، واختلفوا في أنها هل (4) هي موصوفةٌ في حال عدمها، فقال ابن عياش والكعبي: إنها غير موصوفة بشيءٍ من الصفات.
وقال في الفصل الرابع في الصفات الذاتية: إنهم جوَّزوا للمعدوم تحققاً في الخارج. انتهى (5).
قال خاتمة أهل الأصول، تقي الأئمة العجالي (6): وما نُقِلَ عن الكعبيِّ من
__________
= البغدادي، صاحب التصانيف النفيسة المتوفى سنة 403 هـ، كان إماماً ثقةً بارعاً، يضرب المثل بفهمه وذكائه. مترجم في " السير " 17/ 190.
(1) في (ش): فهم.
(2) كان رئيس معتزلة البصرة في عصره، وقد عينه الواثق رئيساً لديوان الخراج، مات سنة 267 هـ. انظر مقالاته في مقالات الإسلاميين " للأشعري " ص 162 و199 و277 415 و504 - 506 و549 - 550.
(3) هو عبد الرحيم بن محمد بن عثمان البلخي، شيخ المعتزلة البغداديين، وتنسب إليه فرقة الخياطية، كان ذا ذكاء مفرط من بحور العلم، صنف كتاب " الاستدلال "، ونََقَضَ كتاب ابن الراوندي في فضائح المعتزلة. مترجم في " السير " 14/ 220.
(4) سقطت من (أ) و (ش).
(5) من قوله: " وقال في الفصل الرابع " إلى هنا ساقط من (ب).
(6) في (ش): تقي الدين.(5/56)
أنَّ المعدوم شيءٌ يريد به أنه معلومٌ على ما ذهب إليه أبو الحسين البصري، وهو غير كونه ذاتاً.
وقال غيرهما من هؤلاء المشايخية: إنها في حال عدمها موصوفةٌ بالصفات، فقال أبو علي، وأبو هاشم، وقاضي القضاة، وتلامذته: إن للجوهر أربع صفاتٍ: الجوهرية، وهي صفة ذاتٍ، والتحيز، وهي صفةٌ مقتضاةٌ عن الجوهرية، والوجود (1)، وهو الصفة التي بالفاعل، والكائنية وهي الثابتة بالمعنى، وكذا سائر الذوات موصوفةٌ بأمثال هذه الصفات، إلاَّ الكائنية، فإنها لا تصحُّ في الأعراض (2)، والسواد له صفة السَّوادية في حالة العدم، وهي تقتضي هيئة السوادية عند العدم (3)، وبعضهم جعلوا صفة التحيُّز (4) والجوهريَّة واحدة، وقال أبو الحسين الخياط: إنه متحيِّزٌ، ومَحلٌ للمعاني، وجسم حال العدم، وجوَّز أبو يعقوب رجلاً راكباً على فرس في العدم، ثم إنهم مع اختلافهم اتفقوا بأنا بعد العلم بأن للعالم صانعاً، محدِثاً، قادراً، عالماً، حيَّاً، سميعاً، بصيراً، حكيماً، محسناً، باعثاً للرسل، مقيماً للقيامة، مصيباً، مُعاقباً، نشكُّ أنه موجودٌ أم معدومٌ (5)، وإنما يتبين وجودُه بدلالة مستأنَفَةٍ، وكذا اتفقوا على أن في العدم أنواعاً وأجناساً (6) مختلفةً بالصفات، ولكون (7) كل جنس أعداداً (8) غير متناهية يمكن الإشارة العقلية إلى كلِّ واحدٍ منها، وإلى مماثلتها ومخالفتها.
قال تقيُّ الأئمة العجالي: إنَّ كل من سمع ذلك من العقلاء قبل أن يتلوَّث (9) خاطره بالاعتقادات التقليدية، فإنه يقطع ببطلان هذه المذاهب،
__________
(1) في (ش): والوجودية.
(2) في (ب): بالأعراض.
(3) في (ب) و (ش): " الوجود " وكتب عليها في (أ): الوجود.
(4) في (ب): المتحيز.
(5) في (ب): معدوم أم موجود.
(6) في (ش). وأجساماً.
(7) في (ب) و (ش) و (ج): ويكون.
(8) في الأصول: أعداد، والمثبت من (د).
(9) في (أ): يتلوب.(5/57)
ويتعجب أن يكون في الوجود عاقلٌ تسمَحُ نفسه بمثل هذه الاعتقادات، ويلزمُهم أن يُجَوِّزوا فيما شاهدوه من الأجسام والأعراض أن تكون كلها معدومة، لأن الوجود غيرُ مدرَكٍ عندهم، وإلاَّ لزمَ أن يرى الله تعالى لوجوده (1)، بل إنما يتناوله الإدراك للصفة المقتضاة عندهم، وهي التحيُّز، وبقية (2) السواد والبياض فيهما غاية الأمر أن الجوهر عند بعضهم يقتضي التحيز بشرط الوجود، لكن الترتُّب في الوجود لا يقتضي الترتُّب في العلم، كما في صفة الحياة والعلم، فيلزمهم أن يشكُّوا بعد هذه المشاهدة في وجودها، وكل مذهب يؤدي إلى هذه التَّمحُّلات - والخصم مع هذا يزيد سفاهةً ولَجَاجَاً فالواجب على العاقل الفطن (3) الإعراض عنه، والتمسك بقوله تعالى: {وإذا خاطبهُمُ الجاهلُونَ قالوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، ومن ذمَّ مِنَ السلف الصالح الكلام والمتكلمين، إنما عنوا أمثال هؤلاء ظاهراً (4). والله الموفق. انتهى بحروفه (5).
وإذا كان هذا كلام أئمة الاعتزال بعضهم في بعض، فكيف بكلام (6) متكلمي أهل السنة فيهم، وإذا كان الجهل (7) في علم النظر يؤدي إلى هذا، ويكون هذه عاقبته، فكيف يُلام من أعرض عنه وتمسَّك بطريقة السلف الصالح الذين لم يَجْرِ بينهم من نحو هذا كلمةٌ واحدةٌ لبركة (8) إقبالهم على الكتاب والسنة، وترك الفضول، وترك دعاوى علم ما لا طريق للبشر إلى علمه.
واعلم أن سبب قول البهاشمة بالشكِّ في وجود الله تعالى بعد العلم بكونه
__________
(1) في (ب): لوجوه.
(2) في (ب) و (ج) و (ش): وهيئة.
(3) ساقطة من (ش)، وفي (ب): والفطن الصالح.
(4) ساقطة من (ش).
(5) انظر " ترجيح أساليب القرآن " للمصنف ص 87 - 89.
(6) في (أ): لكلام.
(7) في (أ) و (ج): الجهد، وفي (ش): " العلم "، وكتب فوقها: " في الأم: الجهل والعلم ".
(8) في (ش): لتوسعة.(5/58)
صانعاً متَّصفاً بصفات الكمال، هو اعتقادهم أنه حينئذٍ ثابتٌ، وتجويزُهم أن يكون الثابت معدوماً غير موجود، فلذلك (1) لزمَهُم تجويز أن يكون الثابت مُشاهَداً بالأعيان غير موجود، لأن كون (2) الثابت المعدوم لا يُرى نظريٌّ على هذا، كما أن نفي صفات الكمال عنه نظري، وكل نظري يصحُّ الشك فيه، فيلزمهم صحة الشك في وجود العالم المشاهَد لتجويز أنه ثابتٌ غير موجود (3).
وأما الرازي، فاختصر الرد عليهم في " الملخص " غاية الاختصار، فقال في الباب الأول من الكتاب الأول في الأمور العامة: المعدوم ليس بثابتٍ، لأن المعدوم إن كان مساوياً للمنفيِّ أو أخصَّ منه، فكلُّ منفيٍّ فليس بثابتٍ، فكل معدوم فليس بثابت، وإن كان أعمَّ منه، وجب أن يكون نفياً صرفاً، وإلا لم يَبْقَ الفرق بين العام والخاص، فإذا هو ثابتٌ، وهو مقولٌ على المنفي، والمنفي ليس بثابتٍ، هذا خُلْفٌ. وعمدتهم أن المعدوم معلوم، وكل معلومٍ ثابتٌ، والكبرى منقوضةٌ بالممتنعات والخيالات والوجود. انتهى.
وأما دليل الأكوان، وهو الحجة الخامسة: فليس يدُلُّ على تماثل الأجسام، إنما يدلُّ على حدوثها، وقد تقدم الكلام فيه في أول الوهم الخامس عشر، وهو الذي قبل هذا، وقد استوفيته في تكملة " ترجيح أساليب القرآن ".
ونقلت فيه كلام أبي الحسين وأصحابه من كتاب " المجتبى " للشيخ مختار بن محمود، وقد كَفَوُا (4) المُؤنَةَ في المبالغة في ذلك والنصرة (5) له والحمد لله.
واعلم أن المعترض وأمثاله بنوا تكفير أهل السنة على مثل هذه الخيالات. وعمدتهم فيها أمران:
__________
(1) في (ب): فكذلك.
(2) في (ش): كونه.
(3) من قوله: " لأن كون الثابت " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) في (ش): كفينا.
(5) في (أ): والنصر.(5/59)
أحدهما: ما ذكرنا من دعوى تسمية المتباينات بالجهات كلِّها أجساماً، ثم دعوى تماثل الأجسام، وقد بان بطلان كل من هاتين الدعويَيْن.
وثانيهما: ما مرَّ بيانه في الوهم الخامس عشر من كلامهم في دليل الأكوان ودعواهم لصحته، ولا حاجة إلى إعادته، وليس في هذا الكتاب ما يكفي ويشفي (1) في نقضه، وقد أفردتُ نقضه (2) في مصنفٍ، سمَّيتُه " ترجيح أساليب القرآن " (3) وأوردتُ فيه كلام أصحاب (4) الشيخ أبي الحسين البصري في نقضه.
وهو كلامٌ مجوَّدٌ (5) محرَّرٌ منقَّح، ذكره مختار بن محمود المعتزلي في كتابه " المجتبى " وذكر عن شيخ الاعتزال تقي الأئمة العجاليّ بعد إيراد نقض كلامهم أن الصبيان في ملاعبهم لا يرضون بمثل كلامهم في ذلك لِرِكَّتِه وسقوطه. انتهى.
فهذه شهادة أئمة الاعتزال على بطلان أدلة هذا المعترض، وعلي بُطلان أدلة كثيرٍ من شيوخهم على بطلان مذاهب أهل السنة، وعلى بطلان شُبَه (6) من كفَّرهم، وما هي إلاَّ فضيلةٌ من فضائلهم أنطق الله بها خُصومهم ليُظهر براءتهم كما أنطق جُلودَ المنافقين يوم القيامة بالشهادة (7) بالحق عليهم. فالحمد لله رب العالمين.
ولكن الجاهل حَسَنُ الظنِّ بهم، فإذا سَمِعَ دعواهم لمعرفة الحقائق والدقائق، حسَّنَ ظنِّه بهم، ولم يعلم أنه يُعَارِض ذلك دعوى (8) خصومهم لمثل
__________
(1) في (ش): يشفي ويكفي.
(2) في (ش): بعضه.
(3) انظر ص 87 وما بعدها.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ب): محمود.
(6) في (أ): نسبة.
(7) ساقطة من (ب).
(8) في (ب): تعارض دعوى.(5/60)
ذلك، ويوضِّحُه خوضهم فيما لا يعنيهم مما (1) دلَّ السمع على جهل الخلق به، مثل خوضهم في حقيقة الروح مع توقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخوض فيه حين سُئِلَ عنه، وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (2) [الإسراء: 85]، فإذا رأي الجاهلُ تجاسُرَهُمْ على القطع بدعوى العلوم وتجهيل الناس وتكفيرهم، ظنَّ ذلك من قوَّة ما عَلِمُوا، ولو فكرَّ في اختلافهم وتخطئة بعضهم بعضاً، وتكفيرهم، أمثالهم في الدعوى والعجب ببدعهم، لتَعَارَضَ ذلك عليه، وعَرَفَ (3) أنَّ خيرَ (4) الهدي هدْي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتابعيهم.
الحجة السادسة: قياس واجب الوجود -سبحانه وتعالى عن ذلك- على ممكن الوجود في أشياء كثيرة، مثل قولهم: إنَّ كونه على صفةٍ دون أخرى يجري مجرى الإحكام في الممكنات، والإحكام يدل على الحاجة إلى المحكم، وهي شبهة الملاحدة في نفي جميع الأسماء والصفات حتى الوجود.
والجواب إنَّ ذلك إنما دل في المحدث (5) لإمكانه، ولذلك لا يصِحُّ الاستدلالُ حتى يُقرِّر أنه ممكنٌ، لأن واجبَ الوجود لا يمكن تعليله، لأنه لو كان
__________
(1) في (ش): عما.
(2) أخرج البخاري (4721)، والترمذي (3141) من حديث عبد الله بن مسعود -واللفظ للبخاري- قال: " بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرثٍ وهو متكىءٌ على عسيب، إذ مرَّ اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه فسألوه عن الروح، فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يرد عليهم شيئاً، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقامي، فلما نزل الوحي، قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.
وهو عند الترمذي (3140) بلفظ آخر من حديث ابن عباس.
(3) في (أ): " وعرفت "، وفي (ج): " علم "، وفي (د): لعرف.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): على الحديث.(5/61)
له علّة، كان الكلام فيها مثل الكلام (1) فيه، ويُؤدِّي إلى ما لا نهاية له، ولذلك رَجَعَتْ إلى ذلك الفلاسفة، لكنَّهم سَمُّوا الله تعالى عِلَّة، ولكلِّ طائفةٍ في هذا القياس عبارةٌ.
وشرط صحة القياس عدم الفارق، فيطلب السُّنِّيُّ من المبتدع الدليل القاطع على عدم الفارق، بل على أن وجوب وجوده ليس بفارقٍ (2)، ثم يمتنع مِنْ تسليم الشُّبهة (3) التي يُعَوَّلُ عليها، مثل ما يمتنع المبتدع من تسليم الأدلة الصحيحة.
ولما عرفتُ (4) اتِّساع العبارات في هذا المقام، وأهمَّني (5) جمعه (6)، رأيتُ قوله تعالى: {لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15] فعرفتُ أنها إشارةٌ إلى سلوك هذا المسلك معهم، وهو طلبُ الدليل منهم، ثم الامتناع من تسليم الباطل، فإدأ ذلك حيلتهم، فيقلب عليهم.
إذا عرفت هذا، فاعلم أن الجسم في لغة العرب (7) التي نزل عليها كتاب الله، وخاطب بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير ما اصطلح عليه أهل المعقولات كلُّهم. كما تشهد (8) بذلك كتبُ اللغة.
قال محمد بن نشوان في " ضياء الحلوم " (9) في باب الجيم والسين.
__________
(1) في (ش): كالكلام.
(2) جملة: " بل على أن وجوب وجوده لبس بفارق " ساقطة من (ب).
(3) في (ب) و (ج): الشبه.
(4) في (ب): عرف.
(5) في (ش): " وهمني "، وكتب فوقها: ظ: " إذ " بدل الواو.
(6) في (أ) و (ش): جميعه.
(7) في (ب): في اللغة التي.
(8) في (ب): شهد
(9) في الأصول غير (ب): العلوم.(5/62)
الجسم (1) كلُّ شخصٍ مُدرَكٌ، وقال في باب الشين والخاء: الشخص: سوادُ الإنسان من بعيدٍ (2)، والشخص: الجسم. والجمع شُخُوصٌ وأشخاصٌ، والسواد: الشخص. ذكره الجوهري أيضاً (3) انتهى.
وهذا (4) يدلك على أن تسمية الجسم تختصُّ بهذه الحيوانات، إذ لا يُسَمِّي أحدٌ الأحجار ولا الأشجار ولا الجبال ولا القِيعان جسوماً (5) ولا أشخاصاً، وكذلك سائرُ أهل (6) كتب اللغة.
قال الجوهري في " الصحاح " (7) في فصل الجيم من كتاب الميم ما لفظه: قال أبو زيد: الجِسْمُ: الجسدُ، وكذلك الجُسمان والجُثمان، وقال الأصمعي: الجسم والجسمان: الجسد (8) والجُثمان: الشخص. قال: وجماعةٌ جسم الإنسان أيضاً يقال له: الجُسمان، مِثْلُ ذئبٍ وذُؤبان.
وقال الجوهري (9): الجسد: البدن. ذكره في موضعه من فصل الجيم في كتاب الدال. وقال صاحب " الضياء ": جسد الإنسان معروفٌ، والجسد ما لا يأكلُ ولا يشرب كالملائكة والجن. ومنه قوله: {عِجْلاً جَسَدَاً}، فجعلها مشتركة، لا عامة. وأما الجوهري فقال في الآية: قيل: إنَّه بمعنى أحمَرَ من ذهبٍ،
__________
(1) ساقطة من (ب) و (ش).
(2) جملة: " الشخص: سواد الإنسان من بعيد " ساقطة من (أ).
(3) " الصحاح " 3/ 1042 مادة " شخص ".
(4) في (ش): وهو.
(5) في (أ) و (ج): شخوصاً.
(6) سقطت من (ب).
(7) 5/ 1887 مادة " جسم ".
(8) ساقطة من (ب).
(9) " الصحاح " 2/ 456.(5/63)
والجسد: الزعفران، ونحوه، من الصِّبْغ، وهو الدَّمُ، فجعلها لفظة مشتركة أيضاً، غير أنهم حين فسَّروا بها الجسم لم يعنوا بها إلاَّ المعنى الأول، ونحو ذلك في " ديوان الأدب ".
وقال الخليل في " العين " ومجد الدِّين في " القاموس " (1): الجسم: جماعة البدنِ أو الأعضاء (2) [و] من الناس وسائر الأنواع العظيمة الخَلْقِ، كالجُسْمَان بالضم، (ج) (3) أجسامٌ وجسومٌ، وككَرُمَ: عَظُمَ، فهو جسيمٌ وجُسَامٌ كغُرابٌ، وهي بهاءٍ، والجسيم (4)، البدينُ، وما ارتفع من الأرض وعلاه الماء [ج] (5) جِسَامٌ [ككتابٍ]، وبنو جَوْسَم: حي درجوا، وبنو جاسم: حي قديم وتجسَّم الأمر والرَّمْل: ركب (6) معظمهما (7). انتهى ما ذكره مجدُ الذين في " القاموس " فبان لك من هذا (8) أنهم يصطلحون على أشياء ليرَكِّبُوا عليها ما ابتدعوا من تشنيعٍ وتكفيرٍ وإبداعٍ وتغييرٍ، وقد احتجُّوا على قولهم في الجسم بقول الشاعر:
وأجسم مِنْ عادٍ جُسومُ رِجَالِهم
ولا حُجَّة لهم فيه بل هو حجةٌ على ما ذكرنا، فإنه لم يثبت اسم الجسم فيه إلاَّ في حق الأشخاص. وأما الاحتجاج به على ما لم يخطر لقائله ببال من تركُّب الجسم من ثمانية جواهر لا أقل منها، فعجيبٌ ممن توهمه. والله أعلم.
__________
(1) مادة " جسم " ص 1406، طبع مؤسسة الرسالة، وهذه الطبعة نسخت كل سابقاتها لما اشتملت عليه من الاتقان والجودة وجمال الإخراج، وليس الخبر كالعيان.
محا حُبُّها حبَّ الألى كُنَّ قبلها ... وحَلَّت سواداً لم يكن حُلَّ من قبلُ
(2) في (ب) و (ش) و (ج): " والأعضاء "، والصواب ما في (أ).
(3) في (أ) و (د): " جمع " دون اختصار.
(4) تحرفت في (أ) و (د) إلى الجسم.
(5) سقطت من الأصول واستدركت من " القاموس ".
(6) في (ش): رأي.
(7) في (أ) و (ب) و (ج): معظمها.
(8) في (ب) و (د) و (ش): بهذا.(5/64)
وإنما ذلك كما اصطلحوا على أن الموجود مثل المعدوم من الجواهر، لا أن هذه لغاتٌ عربية.
وكذلك فعل أعداء الجميع من الباطنية. ألا ترى أن الباطنية يُسَمُّون حقائق مدح الرب سبحانه بأسمائه الحسنى تشبيهاً وتمثيلاً وكُفراً وشركاً، ويجعلون تلك الممادح الشريفة بمنزلة السبِّ والذم لله تعالى، حتى يصُوغَ لهم تأويلها على ما شاؤوا (1)، وصرفها إلى أئمتهم دون الله تعالى، وكذلك مَنْ نفي حقيقة التمدح بأسماء الله الرحمن الرحيم خير الراحمين أرحم الراحمين (2)، وكذلك اسمه الرؤوف، واسمه الودود، واسمه الحليم، بالَّلام عند المعتزلة، واسمه الحكيم، بالكاف عند الأشعرية، إلى أمثال لها (3)، لا دليل لهم عند البحث التام على ذلك إلاَّ مجرد اصطلاحات في العبارات تواطؤوا عليها، ومن أحبَّ كشف عوارهم في ذلك، لم يقلِّدهم في شيءٍ قطُّ، وراجع محض عقلِه، وراجع مصنفات خصومِهمُ الحافلة، كمصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
وأما من اعتقد فيهم التحقيق، وقَبِلَ منهم، ولم يسمع من غيرهم، فقد سدَّ أبواب الهداية على نفسه، وكذلك كل عامِّيٍّ مع كل طائفةٍ، بل المعتزليُّ الطالب لعلم الكلام على رأي أبي هاشم يعتقدُ غلطَ مخالِفِه (4) من سائر المعتزلة، ولا يدري ما في كتب أبي الحسين المعتزلي وأصحابه من الردود الصعبة القوية لمذهب (5) أبي هاشم، ولا يرى أجمع للمساوىء من صاحب كلامٍ وجدال، مقلّد لا يفي معه صمتُ (6) أهل السنة وسَمْتُهم وحُسْنُ أخلاقهم وتواضعهم، ولا يتكلم بعلمٍ ويقينٍ، ويُرشِدُ إلى الحق الجاهلين، ويفيض مِنْ
__________
(1) في (ش): يشاؤون.
(2) " أرحم الراحمين " لم ترد في (ش).
(3) في (ش): إلى أمثالها.
(4) في (ب): مخالفيه.
(5) في (ب): الردود على مذهب.
(6) " معه صمت " ساقطة من (ب)، ومكانها بياض.(5/65)
علومه وفوائده على الطالبين، ولا يقبلُ من فوقَه من العارفين، وإنما هو قذى للعيون، مَجْمَعٌ (1) لمساوىء الأخلاق وسيِّئات الظُّنون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الإشكال التاسع: سلَّمنا للخصم جميع (2) ما تعاطاه مما رمى به الإمام الشافعي، وحاشاه. فإن أئمة العِترة والمعتزلة غيرُ مجمعين على التكفير بذلك، ولا على سلامة أدلَّته من القدح، وهذا الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام على قرب عهده من المعترض، وصِحَّة تواليفه عنه، فإنها باقيةٌ بخط يده الكريمة، وسماع أولاده الثِّقات قد اختار في كتابه " التمهيد " عدم إكفار أهل القبلة من المشبِّهة والمجبرة (3) وغيرهم، واحتجَّ على ذلك، وذكر أدلَّة المكفرين لهم، وجعل دعواهم للإجماع أحدها. ثم قال: وفي كُلِّ واحدٍ من هذه الوجوه نظر، ثم قال: حقاً على كلَّ من تكلَّم في الإكفار أن يُنْعِمَ النظر فيه، ويتَّقي الله، فإن موردَه الشرعُ، والخطر فيه عظيم، وإذا لم يتَّضح الدليل فيه، فالوقوف لنا أولى. انتهى بحروفه.
وقال مختصر " الانتصار " (4): مسألة: لا نكَفِّرُ مطلق الجسمية على الله تعالى حتى يفسر، أبو علي: يكفر، قلنا: لفظه محتمل للخطأ في العبارة فقط. انتهى.
فيُبحث عن ذلك في كتاب " التَّحقيق " للإمام يحيى عليه السلام (5)
__________
(1) في الأصول: " مجمعاً ".
(2) ساقط من (ش).
(3) في (ب) و (ج): والجبرية.
(4) كتاب " الانتصار " للإمام يحيى بن حمزة، يقع في ثمانية عشر مجلداً، كان يورد أقوال العلماء وأدلتهم، ثم يرجح أحدها، فيقول: والانتصار لكذا. انظر " البدر الطالع " 2/ 331، و" هدية العارفين " 2/ 526.
(5) في (ب): يحيى بن حمزة، وذكره في مصنفاته الشوكانيُّ في " البدر الطالع " 2/ 331.(5/66)
وكذلك قال علامة الاعتزال، والتَّشيُّع عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح قول علي -عليه السلام-: تعالى عما يقول المشبهون به والجاحدون له عُلُوّاً كبيراً.
أنواع التشبيه العشرة كما تقدم في الوهم الخامس عشر (1)، وقال فيه: فأمَّا من قال: إنه جسم لا كالأجسام، ونَفَوْا عنه معنى الجسمية، وأرادوا تنزيهه عن أن يكون عَرَضاً تستحيل مِنْهُ الأفعال، وأرادوا أنه شيءٌ لا كالأشياء، فأمْرُهم سهل، لأن خلافهم في العبارة، وهم: علي بن منصور، والسَّكَّاك (2)، ويونس بن عبد الرحمن، والفضل بن شاذان، وكل هؤلاء من قدماء الشيعة (3)، وهو قول ابن كرَّام وأصحابه.
قال: والمتعصِّبون لهشام بن الحكم (4) من الشيعة في وقتنا هذا يزعمون أن هذا مذهبه، وإن كان الحسن بن موسى النُّوبختي (5) -وهو مِنْ فُضلاء الشيعة- قد روى عنه التَّجسيم المعنويَّ المحض في كتاب " الآراء والدِّيانات ".
__________
(1) كتب في (ب) بالأرقام (15).
(2) سماه ابن النديم في " الفهرست " ص 225: محمد بن الخليل، وقال: كان متكلماً من أصحاب هشام بن الحكم، وخالفه في أشياء إلاَّ في أصل الإمامة، وذكر لد عدة كتب من مؤلفاته.
(3) انظر " مقالات الإسلاميين " ص 63.
(4) ترجمه الذهبي في " السير " 10/ 543 فقال: هو المتكلم البارع هشام بن الحكم الكوفي المشبه المُعثر وله نظر وجدل، وتواليف كثيرة، وعده ابن قتيبة في " مختلف الحديث " ص 48 من الغلاة، وأنه يقول في الله تعالى بالأقطار والحدود والأشبار وأشياء يتحرج من ذكرها، ويقول بالجبر الشديد، ويبالغ في ذلك، ويُجوز المحال الذي لا يتردد في بطلانه ذو عقل. ووصفه ابن النديم في " الفهرست " ص 222 بأنه من أصحاب جعفر الصادق، وأنه هذَّب المذهب، وفتق الكلام في الإمامة، وذكر له مؤلفات كثيرة. توفي بعد نكبة البرامكة، وقيل: في خلافة المأمون. وانظر مقالات هشام هذا في " مقالات الإسلاميين " ص 31 - 33 و40 - 41 و44 و59 و62 و207 - 208 و210 - 211 و304 و344 - 345.
(5) العلامة الفاضل ذو الفنون أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، المتفلسف، صاحب =(5/67)
قلت: وقد قدم ابن أبي الحديد قبل هذا رواياتٍ فاحشةً عن هشام في ذلك، لكن ذكر أن أتباعه من الشيعة تُنْكِرُها (1) كما تقدم في الوهم الخامس عشر (2).
وقد نقل ابن تيمية أن من الناس من يُسمِّي كل موجودٍ جسماً، ويجعلهما مترادفين. وفيه أقوالٌ كثيرة، ويقويه أن التكفير قطعي يجب البلوغ إلى اليقين فيه، ورفع كل احتمال. وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استفسر الذي أقرَّ بالزنى على نفسه، وسأل عن عقله، وقال: " لعلَّكَ قَبَّلْتَ، لعلك فعلت " حتَّى صرَّح له بالنُّون، والياء المثناة من تحت، والكاف (3). وهذا في الحدِّ الذي يثبت بالشهادة الظنية، فكيف بالإخراج عن الإسلام لمن يشهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، وأن جميع ما جاء به حق؟ كما قال من عرضت له شبهةٌ اعتقد فيها أنه (4) مصدِّقٌ لكلام الله تعالى، ومتقرِّبٌ في القول بها إلى الله. ولذلك أجمعت المعتزلة وهم الخصوم على وجوب الدليل القاطع فيه، وتحريم الأدلة الظنية (5)، وخصوصاً التكفير بها (6) يؤدي إلى تكفير الصالحين من العامة،
__________
= التصانيف، ذكره ابن النديم وابن النجار بلا وفاة، وله مصنفات وتواليف في الكلام والفلسفة، وكان جمّاعة للكتب، نسخ بخطه شيئاً كثيراً، وكانت المعتزلة تدَّعيه، والشيعة تدعيه. مترجم في " السير " 15/ 327، و" الفهرست " ص 251 - 252، و" الوافي بالوفيات " 12/ 280.
(1) في (ب) و (ش): ينكرونها.
(2) جملة " كما تقدم في الوهم الخامس عشرة " ساقطة من (ب) و (ش).
(3) أخرج أحمد 1/ 238 و270، والبخاري (6824)، وأبو داود (4427)، والبغوي (2586) من طرق عن ابن عباس قال: لما أتى ماعز بن مالك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " لعلَّك قبَّلت أو غمزت أو نظرتَ؟ " قال: لا يا رسول الله، قال: " أنكتها؟ " لا يكني، قال: نعم، قال: فعند ذلك أمر برجمه.
(4) في (ب) و (ش): أنه فيها.
(5) في (ب) و (ش): الظنية فيه.
(6) في (ب): " بهذا "، وسقطت من (ج).(5/68)
وتحريم أكثر المناكحات، وما عُلِمَ من السلف خلاف.
وقد قال شيخ الإسلام في الرد على من يكفِّرُ من يُسميِّه مشبِّهاً وليس بمشبِّهٍ عند نفسه من مثبتي الصفات: إن الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو الإثبات (1) من غير تشبيه ليس بسديدٍ، وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدرٌ مشتركٌ وقدرٌ متميِّزٌ (2). فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيهٌ، قيل له: إن أردت أنه مماثلٌ له من كل وجهٍ، فهذا باطلٌ، وإن أردت أنه مشابهٌ له من وجهٍ دون وجهٍ، أو مشاركٌ له في الاسم، لزمك هذا في سائر ما تثبته. وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسَّرتُّموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له.
ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا المعنى مما لا يقوله عاقلٌ يتصوَّر ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه.
إلى قوله في الرَّدِّ على من كفَّر مثبتي الصفات: إن من قال: إنَّ لله علماً قديماً، أو قدرةٌ قديمةٌ، كان مشبِّهاً عند المعتزلة، لأن القدم (3) عندهم أخصُّ وصف (4) الإله، ومثبتو (5) الصفات لا يُوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخصُّ وصفه ما لا يتَّصف به غيره، مثل كونه رب العالمين، وكونه على كلِّ شيءٍ قدير، والصفة - (التي هي القدرة أو العلم) (6). لا توصف بشيءٍ من ذلك.
ثم إن من (7) هؤلاء الصفاتية من لا (7) يقول: إن الصفات قديمةٌ، بل يقول:
__________
(1) في (أ): " الاعتماد "، وفي " التدمرية ": " مطلق الإثبات ".
(2) في (ب) و" التدمرية ": مييز.
(3) في " التدمرية ": القديم.
(4) في (ش): " أوصاف "، وفي (ب): " وصفه ".
(5) في " التدمرية " ومثبتة.
(6) ما بين القوسين مدرج من كلام المصنف، وليس هو في " التدمرية ".
(7) ساقطة من (ب).(5/69)
إن الرَّبَّ بصفاته قديمٌ.
ومنهم من يقول: هو قديمٌ، وصفاته (1) قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان.
ومنهم من يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك (2) لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيءٍ من خصائصه. وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم، والصفات متصفة بالقدم، وليست الصفات إلهاً ولا رباً (3) كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مُحْدَثٌ وصفاته محدَثةٌ، وليست صفاته رسولاً ولا نبياً، فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم التشبيه، كانت هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، يقول (4) لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يُسمَّى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقلٌ ولا شرع (5)، وإنما الواحب نفيُ ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية، والقرآن قد نفى (6) مسمى المثل والكُفء والنِّدِّ ونحو ذلك، لكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست بمثل الموصوف ولا كُفْئِه ولا نِدِّه، فلا يدخل في النصِّ إلى آخر كلامه في ذلك (7). وقد تقدم بكماله في الوهم الخامس عشر (8).
وإنما قصدت الإرشاد إلى احتمال أدلَّة: المكفِّرين لمن يسمُّونه -باصطلاحهم- مشبِّهاً، وإن لم تصحَّ هذه التسمية في لغة العرب صحة قطعية متواترة، كما أن طائفة من المعتزلة اصطلحت على تسمية الموجود من الجواهر
__________
(1) في " الرسالة التدمرية ": وصفته.
(2) في (ش): القول بذلك.
(3) في (ش) إلهات ولا أرباباً.
(4) في (ب) و" التدمرية ": ثم نقول.
(5) في " الرسالة التدمرية ": " سمع "، وكذا مرَّ في هذا الجزء ص 183.
(6) في (ش): سمَّى نفي.
(7) " الرسالة التدمرية " 73 - 75.
(8) تقدم في الجزء الرابع.(5/70)
والأجسام مثلاً للمعدوم، وكذلك اصطلحت (1) على أن من أثبت لله علماً أو رحمة أو عُلُوّاً من غير تكييفٍ، فقد كفر، وشبَّه الله تعالى ومَثَّلَه، مع تصريحه بنفي ذلك. والإمام الشافعي رضي الله عنه منزَّهٌ عن هذا المقام، وإنَّما أحببت استطراد القائدة بذكر كلام العلماء المنصفين الذين لم يحملهم الغضب على تكفير مخالفيهم بغير حجةٍ (2) بيِّنةٍ، فإنه لا يُقبلُ في هذا المقام إلاَّ (3) الأدلة القاطعة. وقد ذكر غير واحد من المحققين أن الأدلة القاطعة (4) متى كانت شرعيَّة لم تكن إلاَّ ضرورية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في الوهم الخامس عشر، فخذه من هناك (5).
الإشكال العاشر: نذكره على جهة الاستقصاء لبيان مجاوزة المعترض للحدِّ في الخطأ مع تنزيه الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك أنه لو صح له والعياذ بالله جميع ما أراد، ما حصل منه مقصودُه، لأن مقصوده (6) في أول الكلام القدح في علوم الحديث النبوي وصحتها، بأن الشافعي رضي الله عنه من رواتها، كما قدح فيها بأن أحمد بن حنبل والبخاري من رواتها. وقد تقدم الكلام عليه في هذا، والتعجب (7) مِنْهُ في أول الوهم الخامس عشر، فطالعه هنالك (8) إن كنت لم تقف عليه، وجدِّد به العهد إن كنت قد رأيته وأُنسيته، فهو من أنفس ما في هذا الجواب. وقد ذكرنا فيه من روى عنه حُفَّاظ الإسلام وأئمة المذاهب الأربعة، وأئمة العِترة عليهم السلام ممن لا يُوازن الإمام الشافعي
__________
(1) من قوله: " على تسمية الموجود " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): القطعية.
(5) في (ش): هنالك.
(6) " لأن مقصوده " ساقطة من (ش).
(7) في (ش): والعجب.
(8) في (ب): هناك.(5/71)
رضي الله عنه في مناقبه الشهيرة، وفضائلة الطيِّبة الكثيرة.
وقد تقدم في المسألة الأولى مِن هذا الكتاب دعوى علماء الزيدية للإجماع على وجوب القبول لرواية المتأولين: فُسَّاقهم وكفارهم، وبيان كثرة طرق دعوى الإجماع على ذلك وشهرتها وقوتها بعلمهم (1) بذلك من غير نكير، والمعترض يُقرىء ذلك في كل سنةٍ في كتاب " الُّلمع " ويعتمد (2) في رواياته في التفسير والحديث عن كلِّ من دَبَّ ودَرَجَ. فالله المستعان.
وبعد ذكر هذه الإشكالات العشرة الكاشفة عن غفلة المعترض عمَّا يجب عليه، يزيدُ الأمر وضوحاً بذكر أدلَّة من قال بالرُّؤية، وأدلَّة من منعها، بحيث يظهر للنَّاظر فيها حكمُ القائل بالرُّؤية، وهل يُعَدُّ من منكري الضرورات الشرعية فيكفر؟ ويُعَدُّ من المكذبين فيما رواه؟ أو يُعَدُّ من المتأولين؟ فيتكلم بكلامهم لا بالمختار عندنا في فصلين: فصل في إمكانها في قدرة الله تعالى عندهم حسبما فهموه من أدلتهم، وفصل في وقوعها عندهم. ونشير إلى الأدلة العقلية من غير استقصاء، إذا (3) كانت مقرَّرة في مواضعها من كتب الفريقين، وإذ كانت المخالفة فيها لا تقتضي التكفير، وننقل كلام الفريقين من أهل الحديث والمعتزلة بألفاظهم لنبرأ من وصم العصبية إن شاء الله تعالى.
الفصل الأول: في إمكانها في قدرة الله تعالى، وأنه سبحانه يرى ذاته الشريفة هو عز وجل، وإن حَجَبَ عن ذلك خلقه كلهم، أو من شاء منهم.
قالوا: وهذا القدر لم يُعرف فيه خلافٌ بين السلف القدماء من العترة والصحابة، وإنما يُنكِرهُ المعتزلة ومن وافقهم من متأخِّري الشيعة.
فلنذكر أدلة الجميع على الاختصار الشافي والإنصاف:
__________
(1) في (ب) و (ج): " بعملهم "، وفي (د) و (ش): " لعملهم ".
(2) في (ب): ويعتمده.
(3) في (أ): إذا.(5/72)
أمَّا من أنكر ذلك، فليس لهم إلاَّ حجتان: عقلية وسمعِيَّة:
أمَّا العقلية. فاعتقادهم إن ذلك يؤدي إلى ثبوت الجهة لله تعالى، وأن ثبوتها يؤدِّي إلى التجسيم، وأن الأجسام متماثلة، وأنه يجب في كل مثلين أن يشتركا في كل ما يجب ويجوز ويستحيل.
وأمَّا السمعية: فما اتفق الجميعُ عليه (1) من ورود السمع بنفي التشبيه والتمثيل.
وأمَّا (2) طوائف المخالفين لهم: فإن منهم من وافقهم في صحِّة الحجَّة العقلية، ونازعهم في لزومها لنفي الرُّؤية، وهم طائفة من متكلِّمي أهل السُّنَّة كالأشعرية، فإنَّهم اعتقدوا صحَّة الجمع بين نفي الجهة وصحَّة الرؤية، وجعلوا ذلك مثل ما أجمعوا (3) عليه هم والمعتزلة من صحة الجمع بين نفي الجهة عن الله تعالى وصحَّة وجوده. ولهم في ذلك مباحثٌ دقيقةٌ ومعارضاتٌ طويلةٌ، وهي معروفةٌ في كتب الكلام، فلا نُطيلُ بذكرها، حتَّي قال الرازي في كتابه " الأربعين في أصول الدِّين ": إنَّ مرادهم بالرؤية صفةٌ تنكشِفُ لله تعالى في الآخرة، وهي (4) بالنِّسبة إليه كالرُّؤية بالنسبة إلى غيره.
وقال الشهرستاني في " الملل والنحل " (5) في الكلام على الاجتهاد أوّل القول في الفروع، ما معناه: إن الرؤية عند من أثبتها من متكلمي الأشعرية إدراكٌ أو علمٌ مخصوصٌ. وهذا يخالِفُ كلام أهل الأثره وحاصل كلامهم أن الرُّؤية غير مكيفةٍ كالمرئي سبحانه، وعند أهل الأثر: أن الرؤية مكيفةٌ، ولكن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): فأما.
(3) في (ب): اجتمعوا.
(4) في (ب): هي.
(5) 1/ 202.(5/73)
المرئي سبحانه غير مكيَّفٍ كما ورد في الحديث (1). ولا يلزم تكييف المرئي من تكييف الرؤية، كما لا يلزم تكييف الموجود من تكييف الوجود.
والحاصل أن أهل السنن (2) والآثار يقطعون بنفي التشبيه والتمثيل، كما قالت المعتزلة والأشعرية، لكنهم يرون أن ما وصف الله تعالى به ذاته الكريمة في كتابه الكريم وبلغه رسوله الكريم، ولم يتأوله، ولم يُحذِّر من اعتقاد ظاهره، ولا كان من أحد من أصحابه مثل ذلك مع طول المدة، فإنه غيرُ مناقض لنفي التشبيه والتمثيل، ولا يجوز في العادات أن تمرَّ المدة الطويلة ولا يُبَين مثل ذلك.
قالوا: وقد اجتمعنا على ردِّ قول الملاحدة الباطنية في نفي الصفات كلها، وعلى رد قولهم: إن مجرد الاشتراك في بعض الأسماء والألفاظ يوجب التشبيه، فإنهم زعموا أن الله تعالى لو كان شيئاً والإنسان شيئاً أو موجوداً والإنسان موجوداً كان ذلك تشبيهاً، فرددنا الجميع ذلك عليهم. ووافقت المعتزلة على ردِّ هذا عليهم (3)، وأجازت المعتزلة بأجمعهم أن يُوصف كل واحدٍ من الرَّبِّ عزَّ وجلَّ، ومن بعض عباده الحُقراء بأنه موجودٌ، حي، قادرٌ عالمٌ، سميعٌ، بصيرٌ، مريد، مدبِّرٌ، حكيمٌ، مثيبٌ، (4) معاقبٌ، فاعلٌ، مختارٌ ... إلى غير ذلك من الصفات الحميده، ثم لا يوجب الاشتراك في جميع تلك الصفات تشبيهاً، ولا تمثيلاً، بحيث إنه تعالى تمدَّح في كتابه المبين بانه أرحم الراحمين وأحسن الخالقين، وخير الحافظين، وخير الرازقين، مع جمعه معهم في اللفظ بإجماع المسلمين.
فكيف يجب القطع بوقوع السُّنِيِّ في صريح التشبيه؟ إذا قال: إنه تعالى استوى على عرشه، وعلا فوق خلقه علواً كبيراً (5)، مع قطعه بنفي التشبيه لاستوائه وعلوّه
__________
(1) سيورد المصنف نقلاً عن ابن القيم أحاديث الرؤية قريباً، وسنستوفي تخريجها هناك إن شاء الله.
(2) في (ب): السنة.
(3) جملة: " ووافقت المعتزلة على رد هذا عليهم " ساقطة من (ب).
(4) تحرفت في الأصول إلى: " مثبت "، والمثبت من (ب).
(5) في (ب) كثيراً.(5/74)
باستواء خلقه وعلوهم المستلزمين حاجتهم إلى ما استووا عليه واستقرُّوا فوقه، محمولين مفتقرين إلى ما حملهم، محدودين محيط بهم ما حصرهم، مصوَّرين متصورين، مكيفين مقهورين مربوبين، مع إثبات السُّنِّيِّ في ذلك لجميع الفوارق التي لا تُحصى بين رب العزة وخلقه الأدلة من إثبات كل كمالٍ لله جل جلاله، ونفي كلِّ نقص وعيب (1) عنه سبحانه، وتخصيصه دون خلقه بوجوب الوجود، والقِدَمِ، والبقاء، وعدم التشبيه، والتشريك، والنِّدِّ والكُفء، والضِّدِّ، وإثباث ما لا يأتي عليه العدُّ من ثبوت الحمد، والمجد، وكمال القدرة، والملك، والعزَّة، والكبرياء، ونفوذ المشيئة، وبلاغ الحكمة، ودفع الحُجَّة، وسُبوغ النعمة، واستحقاق حقائق جميع المحامد والممادح، وعموم الرُّبوبية لكل شيءٍ، وتمام القيومية (2) بكلٍّ حي وعجز كل (3) واصفٍ، وحَيرة كلِّ مفكِّرٍ، وعِيَّ كل بليغٍ، وتقصير كلِّ حامدٍ. فأيُّ تشبيه (4) مع هذا وأضعافه، وكل ذلك الإلزام من أجل إيمانهم بمراد الله تعالى في تمدُّحه بعُلوِّه على خلقه، وظهور ذلك في جميع الكتب السماوية، وأوقات الرسل وأصحابهم وأتباعهم من غير إشعارٍ بالتحذير لعوامِّ المسلمين من اعتقاد ذلك الظاهر جمع دوام إسماعهم لهم ذلك في التلاوة والصلوات والمجامع والخُطب، حتى إن الخصوم الذين يحتجُّون بما لم يصح عن عليٍّ عليه السلام من ذلك، وافقوا أهل السنة على رواية ذلك عن علي عليه السلام.
فروى صاحب " النهج " (5) بغير إسناد والسيد الإمام أبو طالب بإسناده في " أماليه " أن رجلاً سأله في مسجد الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين، هل تصف
__________
(1) في (أ): عبث.
(2) في (ب): " القيمومية "، وهو خطأ.
(3) في (ب): وعجز عن كل.
(4) في (ش): شبيه.
(5) " نهج البلاغة " ص 212 - 213، و" الشرح " 6/ 398 - 403. والخطبة بتمامها في " النهج " 212 - 233، و" الشرح " 6/ 398 - 403 و7/ 3 - 32.(5/75)
لنا ربَّنا فنزداد له حُبَّاً، وبه معرفةً، فغضب عليه السلام، ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، حتى غَصَّ المسجد بأهله، ثم صَعِدَ المنبر وهو مغضبٌ متغير اللون، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم سرد خُطبته -عليه السلام- إلى قوله: أيها السائل، اعقِل ما سألتني عنه، ولا تسألَنَّ (1) أحداً عنه بعدي، فإني أكفيك مُؤنة (2) الطلب، وشدة التَّعمُّق في المذهب، فكيف يوصف الذي سألتني عنه وهو الذي عَجَزَتِ الملائكة مع قربهم من كرسيِّ كرامته، وطول وَلَهِهِم إليه، وتعظيم جلال عزَّته، وقُربهم (3) من غيب ملكوت قدرته، أن يعلموا من علمه إلا ما علَّمهم، وهم من (4) ملكوت القُدس بحيث هم ومن معرفته على ما فطرهم عليه، فقالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، فعليك أيُّها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته وتقدمك (5) فيه الرسل بينك وبين معرفته، فَأتَمَّ به، واستَضِىء بنور هدايته ... إلى قوله: وما كلَّفك الشيطان علمه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سُنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا من (6) أئمة الهدى أثرُه، فكِلْ علمه إلى الله، فإنه منتهى حق الله عليك.
ورواه محمد بن منصور في كتاب " الجملة " عن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، وهذا صريحُ مذهب أهل السنة. فهذا نقلُ الثِّقات والخصوم عن المدَّعي على أهل السنة مخالفته، فكيف بنقل أهل السنة عنه (7) - عليه السلام، وعن سائر الصحابة والتابعين ما (8) يشهد بتصديقهم
__________
(1) في (ب): تسأل.
(2) في (أ): " بمعرفة "، وفي (ش): " بمؤنة ".
(3) في (ش): " وفرقهم " وكذا كتب فوقها في (أ).
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): وتقدمتك.
(6) في (ب): عن.
(7) ساقطة من (ب).
(8) في (ب) و (ش): مما.(5/76)
في نقلهم القرآن وسائر كتب الله تعالى، بل (1) أغنى عن نقلهم كونه مما تواتر أنه طريقة السلف وعجزت الخصوم عن دعوى موافقة السلف لهم في طريقتهم، إذ كانت (2) طريقة السلف في ذلك معلومةً للجميع بالضرورة، فخاف القوم مِنَ ابتداع التحذير من ذلك. والتصريح بالتأويل فيه الوقوع في البدعة التي صح عندهم النهي عنها، والتحذير منها، وأجمع على ذمها المخالف والمؤالِفُ، فآمنوا بمراد الله في ذلك، مع القطع بنفي ما نفاه الله من شَبَه المخلوقين، والقطع بأن استواءه وعلُوَّه لا يشبه علو المخلوقين واستواءهم في أوصافهما ولوازمهما، كما يقول الجميع في الفرق بين علمه وعلمهم، وقدرته وقدرتهم، وإنما أثبتوا عُلُواً واستواءً يُناسب (3) ذاته العزيزة التي يستحيلُ تصوُّرها، ويستحيل تصور جميع ما يتعلق بها.
وهذه الفوقية عندهم غير مقتضيةٍ للتشبيه (4)، مثل ما أن وجوده سبحانه وسائر صفاته الثبوتيَّة صحيحة عند خصومهم، وإن لم تكن مقتضية لذلك لما دلَّتهم عليه أدلَّتُهم، فكذلك هؤلاء دلَّتهم أدلَّتُهُمْ على الإيمان بما ورد في القرآن مِنْ ذلك، ورأوا أن نصوص القرآن التي أجمع المسلمون على أنها كلام الله تعالى، وأنها لم تزل متلوَّةً مجلَّلةً معظَّمةً، منذ بُعِثَ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق الكلام بالقبول (5) والتَّبجيل والتقديم على غيرها، والتعظيم والاحترام لها والتكريم (6)، فلا يُستباح لها حِمى، ولا يُخاف من جهتها ضلالٌ ولا عمى.
وقد أجمع المسلمون على أنه لا أعلم من الله تعالى بما ينبغي أن يقال فيه،
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (أ): " إذا كانت "، وفي (ج) و (د): " وكانت ".
(3) في (ب): " مناسب " وهو تحريف.
(4) في (ش): للشبيه.
(5) ساقطة من (ب).
(6) تحرفت في (ب) إلى: والكريم.(5/77)
ويسمى به، ولا أحد أحبُّ إليه المدح منه، ولا أفصح، ولا أبلغ من كلامه، ولا أهدى ولا أنصح (1) من رسله، فكلُّ ما أجمعت (2) عليه كتبه ورسله وأظهروه، ولم يُحذِّروا منه، كان أحقَّ الحقِّ، وكلُّ ما لم يذكر في كتابٍ من كتبه، ولا ذكره أحد من رسله، كان إيجابُه على الخلق أبعد من كلِّ بعيدٍ، والله على كلِّ شيءٍ شهيد.
وبعد، فقد أجمعت (3) المعتزلة والشيعة والأشعرية على أنه لا يوجب التشبيه إلا الاشتراك في صفة الذات التي هي عند كثير من المعتزلة الصِّفة الأخصُّ أو فيما اقتضته هذه الصفة الأخصُّ، وعند كثير أنها وجوبُ الوجود والكمال حتى يجب لكلِّ واحدٍ من المثلين كلُّ ما يجب للآخر، ويجوز عليه كل ما يجوز (4)، ويستحيل عليه كل ما (5) يستحيل عليه. وقد جوَّد القول في ذلك الغزالي في مقدمات " المقصد الأسنى " (6).
قال شيخُ الإسلام: ولم يقل بالتشبيه بهذا المعنى أحدٌ يتعقَّل (7) ما يقول، فإنه متى تعقَّل هذا، عرف فساده بالضرورة.
وقال علامة الزيدية في الكلام وترجمانهم فيه، صاحب كتاب (8) " الغُرَرُ (9) الحُجُول في الكشف عن أسرار شرح الأصول " في الكلام على إثبات الصِّفةِ
__________
(1) في (ش): ولا أهدى ولا أنصح.
(2) في (ج) و (ش): " اجتمعت "، وفي (ب): " اجتمع ".
(3) في (ب): اجتمعت.
(4) في (ش): كما يجوز عليه.
(5) في (ش): كما.
(6) انظر ص 45 فما بعد.
(7) في (ب): يعقل.
(8) ساقطة من (ب).
(9) تحرف في (أ) إلى: العز.(5/78)
الأخص لله تعالى ما هذا لفظه:
الدليل الأول: أنا قد شاركنا الله تعالى في استحقاقِ الصفات الأربع التي هي: القادرية، والعالِمَّية والحياتيَّة، والوجود (1)، ثم فارقناه، فوجبت له، وجازت لنا، فلا بد من أمرٍ وجبت (2) له، وجازت لنا، إلى آخر ما ذكره.
وقد أجمعت المعتزلة على أن مثل هذه المشاركة في الأمهات الجوامع من الصفات والأسماء لا تقتضي التَّشبيه من أجل وجود الفارق على الصحيح، فكيف ألزموا أهل السنة التشبيه وهم يحرمون إطلاق مثل هذه العبارات في المشاركة، ولا يجترئون على مثل هذه العقائد التي لم تَرِدْ بها نصوص القرآن ولا السنة المعلومة؟
قال أهل السنة للمعتزلة: وحين اتفقنا على أن الاشتراك في كثير من الأسماء والصفات لا تُوجِبُ مسمى التمثيل، علمنا أنه لا مناقضة بين نفي (3) التمثيل وبين إثبات ما تمدَّح به الربُّ من صفاته التي خالفت المعتزلة في حقائقها، كتمدُّحه بأنه الرحمن الرحيم، واسعُ الرحمة، خير الراحمين، وبأنه العليُّ، العظيم، الأعلى، المتعالي، ذو المعارج، وهو سبحانه أعلم بحقائق المناقضة، ولو كان ذلك تناقضاً، ما تمدَّح به ومدح رسوله (4) وأصحابه، وشاع ذلك بينهم المُدَدَ المتطاولة من غير تأويل.
فحاصلُ كلام أهل السنة راجعٌ إلى تفسير نفي التشبيه بإثبات هذه الأسماء وسائر ما وصف الله به ذاته على أكمل الوجوه، ونفي ما يلزمها في المخلوقين مِنَ النقص، ونفي لوازم النقص عن الله تعالى، ونفي كمالِها عن المخلوقين.
__________
(1) في (ش): والوجودية.
(2) في (ب): لأجلها وجبت.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي (ب) و (ج) و (د): ومدحه رسوله.(5/79)
ألا ترى أنه تعالى عالمٌ لا يعزُبُ عن علمه شيءٌ في الحال والماضي والاستقبال من المعدومات والموجودات، ولا يجوزُ عليه الشكُّ فيما علمه، ولا النسيان له (1) ولا الخطأ، ولا النظر والاستدلال (2). وقد يُسمَّى (3) بعض عباده عالماً، ولكن عالماً ناقصاً مشُوباً بتجويز جميع هذه (4) النقائص التي تنَّزه الربُّ عنها، وكذلك سائر الأسماء، قالوا: ومتى كان القول بأن الله عالمٌ مثل علم (5) خلقه كفراً (6) بالإجماع، مع أن كونه تعالى عالماً من المحكمات.
وكيف (7) من قال: بأن عُلوَّه واستواءه على عرشه كعُلوِّ الأجسام واستوائها، مع أن هذا من المتشابهات؟
فمن ها هنا لم يكن له سبحانه كفواً أحد، وكان كما قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وهو السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقوله تعالى: {وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد نفي التشبيه من أقوى أدلَّة أهل السنة على هذا، وكذلك قوله تعالى: {وللهِ المَثَلُ الأعلى وهُوَ العزيزُ الحكيمُ} [النحل: 6] وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] أي: الوصفُ الأعلى على ألسِنةِ أهل السماوات وأهل الأرض. وتقدم قول عليٍّ عليه السلام: فعليك أيها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته (8).
وإنما تنَّزه الرَّبُّ سبحانه عما يصفون من الصاحبة (9) والولد، والأمر بالفواحش، وأمثال ذلك مِنَ النقائص، ولم ينَّزه قطُّ عن الوصف بالمحامدِ والممادح والأسماء الحسنى.
وقالت الملاحدة من الباطنية والفلاسفة: لا يجوز عليه (10) شيءٌ مِن هذه
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): ولا الاستدلال.
(3) في (ش): سمَّى.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): بمثل ما علم.
(6) في (ش): " كفر " وهو خطأ.
(7) في (ب) و (ج): فكيف.
(8) ص 394.
(9) في (ش): المصاحبة.
(10) ساقطة من (ب).(5/80)
الأسماء والصفات قالت الباطنية: وإنما هي مجازٌ لا حقيقة له، وكلُّ اسمٍ أو وصفٍ منها يوجب التَّشبيه، ويجب نفيه عن الله تعالى على جهة التعظيم والتنزيه، ونسبتها إلى الله تعالى كنسبة الجناح إلى الذُّلِّ في قوله تعالى: {واخفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ .. } [الإسراء: 24].
ولو قال قائل: ليس للذل جناحٌ، وقصد الحقيقة، كان صادقاً عندهم (1) فكذلك، من نفي الأسماء الحسنى عن الله تعالى، وقصد الحقيقة، كان صادقاً عندهم، فالنَّافي لرحمة الله عز وجل، الواصف له بأنه ليس برحمن، ولا رحيمٍ، ولا عليٍّ، ولا عظيم، كالنافي للجناح عن الذُّلِّ، والإرادة عن الجدار، صادقٌ عندهم، بل هو (2) أصدقُ عندهم ممَّن سمَّاه الرحمن على سبيل التجوُّز (3).
وكما (4) أن إثبات المجاز لا ينفعُ الباطنية فيما نَفَوهُ من حقائق صفات العليم القدير وحقائق المَعاد فكذلك إثبات المجاز لا ينفعُ المعتزليَّ فيما نفاه من حقائق صفات الرحمن الرحيم، العلي العظيم، وما أبدَوْهُ من الفرق في ذلك غيرُ صحيحٍ عند خصومهم، ومعارضٌ عندهم كما تقدَّم في الوهم الخامس عشر في كلام شيخ الإسلام. فهاتان طائفتان متقابلتان أعني: الباطنية الذين نَفَوُا الأسماء كلها، وأهل الأثر الذين أثبتوها كلها.
وأمَّا المعتزلة والأشعرية، ففرَّقوا بين الأسماء والصفات، فتارةً يوافقون أهل السنة، وتارة (5) يوافقون الباطنية، واعتمدوا في التفرقة على أدلةٍ عقليةٍ دقيقةٍ خفيَّةٍ، أدَّت إلى القطع عندهم بنفي أمرين جليَّين عند مخالفيهم من أهل السنة
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): التجويز.
(4) في (ش): فكما.
(5) في (ب): ومرّة.(5/81)
هما عند أهل السنة أقوى وأجلى، وأولى بالتَّسليم (1) من تلك الخفيات التي لا يُخاف الكفر بالمخالفة لشيء منها (2)، ولا ينتهض (3) في العقل لمعارضةٍ أقوى منها عندهم، واعتقدوا أن الاستضاءة في هذه المسالك المجهولة بأنوار النُّبوَّة والآيات القرآنية أحزمُ وأسلم، وإن كان غيرهم يرى الخوض في تلك الدقائق أنبه وأعلم، فإن معرفة الجلال الأعزِّ أعزُّ من (4) أن يهتدى إليه (5) إلاَّ بتعريفه:
مَرَامٌ شَطَّ مَرْمَى العقل فيه ... فَدُونَ مَدَاه بِيدٌ لا تَبيدُ (6)
فلنذكر أدلة الجميع بتوفيق الله تعالى وعونه.
أمَّا تلك الأدلة التي تمسَّك بها المتكلمون، فهي ما قدمنا (7) في هذا الوهم من اعتقادهم لتسمية الموجودات في الخلاء العدميِّ المستقلاَّت بأنفسها كلِّها أجساماً، واعتقادهم لِتماثلها، وكذلك ما قدمنا في الوهم الخامس عشر من اعتقادهم لصحة دليل الأكوان، واستلزامه لحدوث جميع ما سمَّوه جسماً من كل موجود في الخلاء العدمي مستقلّ بنفسه.
وقد قدمنا مخالفة بعضهم بعضاً (8) في ذلك، ورد بعضهم على بعض، وما في أدلتهم هناك من الدقة والنزاع والإشكالات لو لم يعارضها شيءٌ ألبتة ولا يخاف من القول بها إنكار (9) ما يخاف الكفر في إنكاره، ومرادنا بالخلاء العدميِّ
__________
(1) في (أ): وأجلى فالتسليم.
(2) في (ش): ليس منها.
(3) في (ب): تنتهض.
(4) ساقطة من (ب).
(5) ساقطة من (أ)، وفي (ب) و (د): إليها.
(6) تقدم في 3/ 323.
(7) في (ش): قدمناه.
(8) في (ش): لبعض.
(9) ساقطة من (أ).(5/82)
هو ما وُجدت فيه الموجودات في أول إيجادها وإيجاد إمكانها (1)، فإن الأماكن عند المتكلمين عبارةٌ عن أجسام الأرض والسماوات التي تستقُّر فيها الموجودات، ولا شكَّ أن أول موجودٍ منها قبل خلق (2) الأمكنة كان في جهةٍ عدميَّةٍ، وكذلك الأمكنة كانت فيها، وإلاَّ احتاج كلُّ مكانٍ إلى مكان (3)، إلى ما لا نهاية له.
وأما الأمران الجليِّان الَّلذان ادَّعى أهل السنة معارضَتَهُما (4) لذلك، ووضوحَهما، وخوف الكفر في إنكارهما.
فأحدهما: ما فُطِرَت عليه العقول السليمة عن التَّلوُّن بالاعتقادات التقليدية من استحالة تعطيل الموجود من جميع الجهات السِّتِّ التي لا غاية لكل واحدة منها (5) كما قرَّره ابن تيمية وغيره من متكلِّميهم استدلالاً وسؤالاًَ وانفصالاً، مثلما أن المعتزلة تعتقد استحالة الرؤية، كذلك قالوا ولا شكَّ أنَّ هذا هو الفطرة، ولكن الأدلة المعروفة في علم المنطق والكلام، المعروفة بالأدلة الخلقية ألجأت المتكلمين إليه، ومعنى هذه الأدلة الخلقية (6) أن النقيضين إذا بطل أحدهما ثبت الآخر، فلما بطل عندهم هذا الأمر الجليُّ بتلك الأمور التي قدمناها ونحوها، واعتقدوها قاطعةً، اضطرهم ذلك إلي إثبات نقيضه، وظنوا أن تلك الفطرة العقلية المعارضة لأدلتهم طبيعية (7) وهميَّةٌ نافرةٌ عن ذلك.
قالوا: ولو أنعموا (8) النظر فيما ألجأهم إليه، لما عوَّلوا عليه، فإن الذي نَفَوْهُ
__________
(1) في (أ) و (ش): إمكانها.
(2) ساقطة من (ش).
(3) " إلى مكان " ساقطة من (ب).
(4) في (ب): معارضتها.
(5) في (ب): منها.
(6) جملة: " ألجأت المتكلمين إليه، ومعنى هذه الأدلة الخلقيه " ساقطة من (أ).
(7) في (ب): طبيعة.
(8) في (أ): نعموا.(5/83)
أقوى وأجلى في الفِطَرِ العقلية من أدلتهم على نفيه بكثيرٍ، ونفيُ الأجلى بالأخفى باطلٌ، ولا يعرف هذا إلاَّ من اطَّلع على تلك الأدلة التي ظنُّوها قاطعة، التي قدمنا الكلام فيها آنفاً.
فإن قيل: إذا كان أهل السنة ينفون الكيفيَّة عن الاستواء والعلوِّ ونحو ذلك، فقد شاركوا المتكلمين في مخالفه الفطر (1) العقلية، وعدم القبول لظواهر النصوص السمعية، ولم يبق بينهم خلافٌ إلاَّ في العبارات اللفظية، ففي أي شيءٍ افترقوا على التَّحقيق؟ وما بالهم يوهمون الاختصاص لكمال (2) التصديق؟ فجوابهم عن ذلك من وجهين:
أحدهما: أنهم -أو كثيرٌ منهم- لم ينفوا حقيقة العلوِّ المفهومة من حيث هي (3) مجرَّدة عن لوازمها التي لا تجوز على الله عز وجل، وإنما نَفَوْا تلك اللوازم ذاهبين إلى أن المستلزم لها أمورٌ تَخْتَصُّ بالأجسامِ التي يجب القَطْعُ بنفي تشبيه الله عز وجلَّ بها (4)، لا أن (5) العلوَّ من حيث هو علوٌ هو الذي التزمها كما تقدَّم ذلك قريباً في ردِّهم لأدلَّة المعتزلة، فاعِرفْ ذلك، وأنهم إذا أطلقوا العُلُوَّ عَنَوْا به ما فوق العالم جميعاً (6)، وذلك خارجٌ عن الجهات المخلوقة، فلا يتصَّور منه لزومُ الحاجة إليها عندهم.
وثانيهما: أنهم لم ينفوا علم الله سبحانه بحقائق أسمائه، وما نطق به التنزيل من نعوت الرَّبِّ الجليل، ولم يُثبتوا الحيرة (7) في ذلك على الإطلاق،
__________
(1) في (ب) و (ج) و (ش): الفطرة.
(2) في (ب): بكمال.
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): " إلاَّ أن "، وفي (أ) و (ش): " لأن ".
(6) في (ب): جميعه.
(7) في (ش): الخيرية.(5/84)
بل نَفَوْا عن أنفسهم، لا عن ربِّهم جلَّ وعزَّ وتبارك وتعالى معرفة حقيقة الذات المقدسة، وما يتعلق بها على التفصيل، وأثبتوا المحارة (1) في ذلك بالنسبة إلى أنفسهم لقصور البشر عن إدراك ذلك (2) الجلال الأعزِّ، وبُعدِ مَنْ صوَّره الله تعالى من التراب عن بلوغ الغاية القصوى في معرفة ربِّ الأرباب تصديقاً لقوله تعالى: {ولا يُحيطُونَ به علمَاً} [طه: 110]، لا بالنسبة إلى علم الله تعالى المحيط الذي لا يجوزُ أن يدخُلَه نقصٌ، ولا وقفٌ، ولا حَيرة، ولا شُبهةٌ، ولذلك ذهبوا إلى أنه تعالى (3) يعرف ذاته معرفة المفردات، وهي على الحقيقة المعرفة التامة.
وأما العباد، فإنما يعلمون نسبة الأسماء والنعوت إليها كنسبة الوجود وصفات الكمال، ولا يعرفون الذات التي نُسبَت (4) إليها هذه الأمور، وذلك الذي يختص به العباد يُسمى علماً لا معرفة عند أهل اللغة وأهل المعقولات، لأن العلم يتعدَّى إلى مفعولين، كما تقول: علمت الله موجوداً عليماً قديراً، وأمَّا المعرفة، فلها مفعولٌ واحدٌ مفردٌ. ومذهبُ أهل الأثر في هذا هو المعروف عن عليٍّ كرَّم الله وجهه (5)، وبه فسَّر ابن أبي الحديد -مع اعتزاله (6) - قوله عليه السلام في وصف عزة (7) الربِّ جل جلاله عن إدراك العقول لحقيقة ذاته، قال عليه السلام: " امتنع منها بها، وإليها حَاكَمَها ". أراد عليه السلام أن العقول عرفت قصورها عن دركِ حقيقة الذات المقدسة، وكان الامتناع من ذلك بالعقول، وإلى العقول حاكم العقول، شبَّه العقل (8) بالخصم المدعي لما لا
__________
(1) وفي (ش): المحاراة.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (أ): " ذهبوا أن الله تعالى "، وفي (ش): " ذهبوا إلى أن الله تعالى ".
(4) في (ش): تنسب.
(5) في (ب): عليه السلام.
(6) في (ب) اعترافه.
(7) ساقطة من (ش).
(8) في (أ): " شبهة العقل "، وفي (ب) و (ج): " شبه العقول "، وفي (ش): " حاكم العقول ".(5/85)
يصح، ولا يخفى بطلانه على أحد. وفي مثل ذلك يحكم العاقل خصمه فيما ادَّعاه (1)، حتى إنه إذا ادعى الباطل لم يزد على أنه أودى (2) بنفسه وحقَّق للسامعين تعمُّده للباطل، وإن أقرَّ بالحق، حصل المقصود (3).
ومن (4) ها هنا وقعت البهاشمة من المعتزلة في البدعة الكبرى، حيث قالوا: إن الله تعالى لا يعلم من نفسه (5) إلاَّ ما يعلمون، فتعالى الله عما يقولون علواً عظيماً، بل هو أعز وأجل من أن يحيطوا به علماً، وهم أحقر وأقل من ذلك كما نص عليه كتاب الله تعالى حيث قال متمدحاً: {ولا يُحيطُونَ به عِلْمَاً} [طه: 110]، وقد بالغ ابن أبي الحديد في نُصرة قول أمير المؤمنين عليه السلام، وذكر أنه قولٌ لم يزل فضلاء العقلاء مائلين إليه معوِّلين عليه، وأنشد في ذلك من الأشعار المستجادة ما يطول ذكره ويطيبُ ويشتمل على كل معنى عجيب، وقد ذكرت ذلك في " ترجيح أساليب القرآن " (6) وجوَّدته. فخذه من هناك. فأهل السنة لزموا الأدب عملاً بقوله تعالى: {ولا يُحيطُونَ به عِلْمَاً} (7) [طه: 110]، وبقوله تعالى: {ولا تَقْفُ ما ليس لك بهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فأثبتوا الذات على وجهٍ يعقلُ جملةً لا تفصيلاً، وآمنوا بما علمهم الله من تفصيل تلك المعارف في تلك الجملة، وهذا من محارات العقول بإقرار العقول (8) وشهادة (9) المنقول، أعني تفصيل الكلام في ذات الله تعالى.
__________
(1) " فيما ادعاه " ساقطة من (ش).
(2) في (ب): أزري.
(3) نص كلام المؤلف في " ترجيح أساليب القرآن " ص 112: " بها امتنع منها وإليها حاكِمها " أي: امتنع من العقول بمعرفة العقول لعجزها عن إدراكه والإحاطة به، وإليها حاكمها، أي: اجعلها محكَّمة في ذلك، لأنه نزلها منزلة الخصم المدعي، والخصم لا يحكم إلا حيث تتضح الحجة، ويفتضح جاحدها، فلا يرضى لنفسه بدعوى ما يعلم كل عاقل كذبه فيها.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): ذاته.
(6) ص 112 وما بعدها، وانظر " شرح نهج البلاغة " 13/ 49 - 54.
(7) في (ش): ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
(8) ساقطة من (ش).
(9) في (ش): وشهادات.(5/86)
وأما نفيُ ما جهلنا من ذلك عن علم الله، فمن المحالات في العقول، وفرقُ بين المحارات والمحالات، فالسمع يردُ بالمحارات، والعقل يقبل الإيمان بها جملةً، ويَكِلُّ عنها ويكِلُ تفصيلها إلى الله تعالى، والمحالات، لا يَرِدُ بها السمع، ولا يجوزها العقل. ولعلَّ المعتزلة إنما نفوا أن يعلم الله من ذاته غير ما يعلمون طرداً لقاعدتهم الضعيفة المقدَّمة (1)، وهي أن ما لم يعلموا عليه دليلاً وجب نفيه، وكثيراً ما ترجع أدلَّتهُمْ لمن تأمَّلها إلى هذه القاعدة وقد مرَّ إبطالها بما لا زيادة عليه والحمد لله.
وقد نُقِلَ عن قدماء العترة عليهم السلام ما يُشبه قول علي عليه السلام وقول أهل السنة، فذكر أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية، عن محمد بن منصور، أن أحمد بن عيسى عليه السلام كان ينفي التشبيه والحدود والنهاية، ويقول: هو عز وجل موجود في كل مكان بلا كيفية.
ونقل محمد بن منصور عن أحمد بن عيسى في كتاب أحمد أنه روى ذلك (2) عن أبيه، وقال الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام: أجمع علماء (3) آل الرسول - صلى الله عليه وسلم - على نفي التشبيه عن الله، وأنه ليس كمثله شيءٌ .. إلى قوله: عن (4) أن يدركه الواصفون إلاَّ بما وصف به نفسه بلا تحديدٍ ولا تشبيهٍ ولا تناهي. وقال محمد: قد وصف الله تعالى نفسه بصفات مدائح لن تزول عن الله في حال، يدان فيها بإثبات ما أوجب الله تعالى، ونفي ما أزال، فقال عزّ وجلّ: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22] إلى آخر السورة، فعدَّ الرحمن الرحيم من مدائح الرَّبِّ التي لا تزول عنه، ويجب إثباتها له بلا كيفيةٍ ولا تشبيهٍ.
__________
(1) في (ش): المتقدمة.
(2) ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (د) و (ش).
(4) في (ب): عز.(5/87)
وبهذا يظهر لك أن أهل السنة لم يختصُّوا (1) بالبَلْكَفَة التي شنَّع بها عليهم بعضُ المعتزلة، بل هي قول جميع المسلمين في ذات الله تعالى، وإنما خالفوا أهل السنة في صفاته تعالى كما مر تحقيقه في الوهم الخامس عشر، وهذا تمام الكلام في الأمر الأول من الأمرين الحليين الَّلذَيْن ادعى أهل السنة معارضَتَهُما لأدلة المتكلمين، وقضوا بأنهما أجلى منهما، وخافوا الكفر في مخالفتها.
وأما الأمر الثاني الذي يعضُدُ هذه الفطرة، فهو تطابقُ جميع هذه الكتب السماوية على ذلك، وكذلك الفِطَرُ (2) السليمة من شَوبِها بالتقليدات الكلامية.
وبيان ذلك يظهر بوجوه:
الوجه الأول: خلوُّ الكتب السماوية والآثار النبوية من وصف الرب سبحانه بالتعطيل من جميع الجهات مع ورودها بكثير (3) من المتشابهات، فأما هذا الوصفُ، فتعطَّلت كلها منه لنكارته حتى اتفق أنه ما كَذَبَ أحدٌ من الكذابين في الحديث شيئاً يوافق هذا فيما علمناه إلى الآن، وتواتر في القرآن والسنة وصف الرب سبحانه بما يقتضي بُطلان هذا كما تراه الآن، وكما يعرف بأدنى تأمُّلٍ، ولم يرد القرآن بأنه كُلَّه متشابهٌ، وإنما ورد بأن منه آيات محكماتٍ هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات. فأرُونا الآيات المحكمات الواردات بهذا التعطيل من الجهات حتى نرُدَّ إليها سائر آيات كتاب الله وأحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والعقول السليمة تُحيلُ خُلُوَّ الكتب السماوية والأحاديث النبوية من النطق بالصواب الذي يُرَدُّ (4) إليه كثيرٌ من متشابه (5) الكتاب، وإلى استحالة ذلك أشار قوله بعالى: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]، ويا
__________
(1) في (أ) و (ج) و (د): " لا يختصوا "، وفي (ش): " لا يختصون ".
(2) في (ب) و (ش) و (ج): الفطرة.
(3) في (ب): " تكثير " وهو خطأ.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): متشابهات.(5/88)
لها من آيةٍ قاطعةٍ للمبطلين لمن تأمَّلها في كلِّ موضعٍ مع ظاهر قوله: {ما فَرَّطْنَا في الكتابِ من شَيءٍ} [الأنعام: 38]، فإن الله سبحانه لم يُخْلِ كتبه الكريمة من بيان مهمَّات الدِّين. وقول المتكلمين: إن ظاهر هذه الآيات قبيحٌ، جنايةٌ على كتاب الله تعالى، فإنه لا يشكُّ منصفٌ (1) أنها جاءت -أو كثيرٌ منها- على جهة التمدُّح منه عزَّ وجلَّ بالرحمن الرحيم، العلي العظيم، فجعلوا ما تمدَّح به يقتضي بظاهره غاية الذم والسَّبِّ باستلزام ظاهِرِه تشبيه (2) العبيد المساكين المخلوقين، وليس يرضى بمثل هذا عاقلٌ أن يَقصِدَ التمدح بما ظاهره النقص لنفسه، والقدح في عرضه، كيف الملك الحميد الذي صحَّ عن أعلم الخلق به أنه لا أحد أحبُّ إليه المدح منه، من أجل ذلك مدح نفسه (3)؟ فكيف يكون أظهر المعاني من كلامه الذي المقصود منه التمدح يقتضي نقيض المقصود، مع أنه أبلغ الكلام والبلاغة تقتضي بلوغ المتكلم لبيان مراده على أبلغ الوجوه؟ فكيف يستكثر من لا أحد أحبُّ إليه المدح منه مما ظاهرُه الذمُّ، ويكون ذلك في السبع المثاني المتكرِّرة في الصَّلوات، وفي أول كل سورةٍ من المصاحف المكرمات؟ وقولهم: إن المقصود بذلك تعريضُ المكلَّفين إلى دَرْكِ الثواب العظيم بالنظر في تأويله مردودٌ بوجوه:
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: مصنف.
(2) في (ب): " شبه "، وهو خطأ.
(3) أخرج أحمد 1/ 381 و436، والبخاري (4634) و (4637) و (5220) و (7403)، ومسلم (2760)، والترمذي (3530) وابن حبان (294) طبع مؤسسة الرسالة من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، من أجل ذلك مدح نفسه ".
وأخرجه أحمد 4/ 248، والبخاري (7416)، ومسلم (1499)، والدارمي 2/ 149، وابن حبان (5773)، والطبراني 20/ (921) و (922)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " 2/ 12 من حديث المغيرة بن شعبة.(5/89)
الأول: أن ذلك لو كان هو المقصود، لوجد الصواب ولو مرَّةً واحدة حتى يرد المتشابه إليه كما وعد به التنزيل، فأين آيةٌ واحدةٌ نفت الرحمة على الإطلاق عَنِ الله تعالى، أو نفت أسماءه: العليَّ، الأعلى، المتعالي، وما شاكلها؟
وثانيها (1) لو (2) كان تأويلها هو المقصود، وكانت مناقضةً لنفي التشبيه، لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابُه وتابعوهم أسبق الناس إلى تأويلها كما سبقوا إلى كل خير، وسيأتي بطلان ما كُذِبَ من ذلك على (3) أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام كما أوضحتُه في " ترجيح أساليب القرآن "، ولو لم يُعارض ما رُوِيَ عنه من مذاهب الباطنية في نفي الصفات إلاَّ بما رواه السيد أبو طالب في " أماليه " بسنده من قوله عليه السلام: فعليك أيُّها السائل بما دلَّك (4) عليه القرآن من صفته، وتقدَّمك فيه الرُّسل بينك وبين معرفته، فأتَمَّ به، واستضىء بنور هدايته وبكلامه في صفة الرَّاسخين ووصفه لهم بالعجز عن التأويل، كما أسنده عنه السيد أبو طالب، وقرَّره وأرسله صاحب " النهج " (5)، وهو نصُّ قول أهل السنة.
والعجبُ ممَّن يتسع عقله من العلماء لتصديق أنه -عليه السلام- كان يخطُبُ لمذاهب القرامطة في صدر الإسلام والصحابة متوافرون سكوتٌ لذلك، ولا يهتدي بعقله إلي أنه أتبعُ خلق الله للنبيِّ عليه السلام، وأشبههُم به علماً وبياناً، ووعظاً وخطابةً، وأشدُّ الناس اقتداءً، وأبعدهم عن الابتداع، حتى لقد قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كذا، أما إني أقول نهاني، ولا أقول نهاكم (6)، فما أبعده عما فَرِحَتْ به القرامطة مما رُوِيَ عنه من شُبَهِ مذاهبهم صانه الله عنها.
__________
(1) في (د): وثانيهما.
(2) في (ش): أنه لو كان.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (د) و (ش): دلَّ.
(5) " نهج البلاغة " ص 212 - 233، وقد تقدم كلام أمير المؤمنين الخليفة الرابع ص 394.
(6) أخرج الإمام أحمد 1/ 132 عن علي رضي الله عنه أنه قال: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا أقول: نهاكم - عن العصفر والتختم بالذهب.(5/90)
وثالثها: أن هذا المدعى الذي ذكروه لا يصح تقديره فيما موارده (1) إظهار المحامد وبيان الممادح.
ورابعها: أنه لو كان -كما ذكروه- لورود (2) السمع بما ظاهره القبح الضروري المتفق عليه ليُثاب (3) المكلَّفون بتأويله، كنسبة الظلم والولد والشركاء وسائر النقائص -تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً- فإنه يمكن تكلُّف التجوزات البعيدة في ذلك كما زعمه الزمخشري في تأويل قوله تعالى: {أمَرْنَا مُترَفِيهَا فَفَسَُوا فيها} [الإسراء: 16] فإنه زعم أن المراد: أمرناهم بالفسق مجازاً (4).
وسوف يأتي في الوهم الثامن والعشرين تمام البحث فيما يتعلق بهذا المعنى من الأسئلة (5) إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: في الإشارة إلى طرفٍ من هذه الآيات التي تعارض دعوى تعطيله عزَّ وجلَّ من كل الجهات، وذلك في القرآن والسنة متنوعٌ أنواعاً كثيرة، فمن أنواعه: قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقولُه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210]، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22]، ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وما جاء في ذكر الحجب من السنة من رواية زيد بن علي -عليهما السلام- ومن رواية أهل الحديث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهي حُجُبٌ حاجبةٌ للعباد، محيطةٌ بهم، لا بالله -عزَّ وجلَّ- فافْهم هذه الفائدة، فإنها مهمَّة.
__________
(1) من قوله: " من شبه مذاهبهم " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في (ش): لورد.
(3) في (ج): " لثبات " وهو تحريف.
(4) " الكشاف " 2/ 442.
(5) في (أ): الأنمطة.(5/91)
ومن أنواعه: قوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65] بالرَّفع، ولو كان منقطعاً لنُصب. وقوله (1) تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنبياء: 21، 22]، وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17]، و" في " هنا بمعنى " فوق " كقوله: {لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]. ولا يُحيط بالله شيءٌ بالإجماع، وهي في الفوقية حقيقةٌ لا مجازٌ، وآيات الاستواء تُوَضِّحُ ذلك.
ومن أنواعه: قوله تعالى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. ومن أنواعه: قوله تعالى: {ثُمَّ استَوَى إلى السماء} [البقرة: 29]، وقوله تعالى في غير آية: {ثُمَّ استَوَى على العَرْشِ}.
ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19]، وقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف: 19]، وقوله: {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران: 15]، وقوله: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127]، وقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54، 55]، وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الزمر: 34 والشورى: 22]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34]، وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]. وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19]، وقوله: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات: 34]، وقوله: {وعندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} [الرعد: 39]، وقوله: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، وقوله: {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4]، وقوله: {ولَدَيْنَا كِتَابٌ
__________
(1) في (ب): " ونحو قوله " وفي (ش): " ونحوه قوله ".(5/92)
يَنطِقُ بالحَقِّ} [المؤمنون: 62]. وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة: 12]، وفي آية: {مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [سبأ: 31]، وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 73] وقوله: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق: 28].
ومن أنواعه: قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 30].
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} [هود: 18].
ومن أنواعه: آيات لقاء الله تعالى، وهي أشهر وأكثر من أن تُذكر.
ومن أنواعه الكثيرة ما في القرآن من ذكر علوِّه على خلقه، تارةً بالتَّمدُّحِ بأسمائه: العلي، والأعلى، والمتعالي، وذي المعارج، وتارة بالخبر عن ذلك في آياتٍ عديدة، كقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. وقوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]، وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 157، 158] وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5]. وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] وقوله: {إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42].
ومن أنواعها: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. وقد تقدم كلام شيخ الإسلام فيها في الوهم الخامس عشر (1) وقوله: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]. وقد صح تفسيرها بالحقيقة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث ابن مسعود (2)،
__________
(1) تقدم في الجزء الرابع.
(2) أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7451) و (7513)، ومسلم (2786)، وأحمد 1/ 429 و457، وابن أبي عاصم (549)، وابن خزيمة في " التوحيد " =(5/93)
والبخاري ومسلم وأبو داود عن ابن عمر (1)، والبخاري عن أبي هريرة (2)، والترمذي عن ابن عباس (3) كما هو مبسوط بأسانيده وألفاظه في كتب الإسلام، ولم يُنكِر ذلك عليهم أحدٌ مِمَّن عاصرهم من الصحابة، ولا مِمَّن سمع منهم من التابعين، وما زال السلف يروون مثل ذلك، ويُروى عنهم من غير نكيرٍ (4). حتى إن السيد المنكر لرواية هذا الجنس (5) على المحدثين روى هذه الأخبار المشار إليها في تفسير هذه الآية (6) في تفسيره الذي سماه " تجريد الكشاف مع زيادة نكت لطاف "، ولم يذكر بعد روايتها (7) ما يدلُّ على قبح الاغترار بها، ووجوب التحذير منها، وأمثال ذلك كثير في كتاب الله تعالى وتفاسير علماء الإسلام.
ومن أنواعها: جميع الآيات (8) المتضمنة لكلامه، وتكليمه، ومناداته، ولذلك أنكرت المعتزلة ذلك على الحقيقة كما مضى مبسوطاً في الوهم الخامس عشر، وقالوا: ليس في مقدوره أن يصدر عنه الكلام ألبتة، وإنما في (9) مقدوره أن يخلق كلاماً في شجر أو حجر (10) أو نحو ذلك. وقد مرَّ ما ورد في ذلك في الوهم الخامس عشر.
__________
= ص 76 و77 و78، والآجري ص 318، والطبري: 24/ 27، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 334.
(1) أخرجه البخاري (7412) و (7413) تعليقاً، ووصله مسلم (2788)، وأبو داود (4732). وانظر " تغليق التعليق " للحافظ ابن حجر 5/ 341 - 342.
(2) البخاري (4812) و (7413) و (6519) و (7382).
(3) أخرجه الترمذي (3240)، وابن أبي عاصم (545)، وابن خزيمة ص 780، والطبري 24/ 26، وفي سنده عطاء بن السائب وكان قد اختلط، ومع ذلك فقد قال الترمذي بإثره:
هذا حديث حسن غريب صحيح لا نعرفه من حديث ابن عباس إلاَّ من هذا الوجه.
(4) في (ش): نكير به.
(5) في (ب): الخبر.
(6) عبارة: " تفسير هذه الآية " ساقطة من (ش).
(7) تحرفت في (ب) إلى: رواتها.
(8) في (ب): " الآثار " وهو خطأ.
(9) ساقطة من (ش).
(10) في (ب): حجر أو حجر.(5/94)
ومن ذلك سؤال موسى -عليه السلام- للرؤية، حيث قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143]، فإنه من أعلم الخلق بما يجوز على الله تعالى وما يستحيل، والخصم ينزل ذلك منزلة تجويز الأكل والشرب والنوم والعجز والفناء على الله تعالى، وموسى الكليم أعلم من أن يجهل ما يستحيل على ربِّه عز وجل، ويعرِفَه شيوخ المعتزلة بأنظارهم، ولم يقع الجواب عليه بأن ذلك لا يصحُّ ولا يمكن، بل أجيب بنفي ما طلبه من الرُّؤية في الدنيا، وكان جوابه على سبب سؤاله، وسؤاله كان مقصوراً على رؤية الدنيا، كما سيأتي تحقيقه.
و" سوف " لا تدل على أن المنفيِّ متأخِّرٌ إلى الآخرة، وقد قال تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {سوفَ أستغفِرُ لكُم ربِّي} [يوسف: 98]، وإنما (1) أخَّره إلى ليلة الجمعة (2).
__________
(1) في (ش): فإنما.
(2) أخرجه الطبراني (19875) و (19876) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، أخبرنا ابن جريج عن عطاء وعكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قد قال أخي يعقوب: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} يقول: حتى تأتي ليلة الجمعة ".
وأخرجه الترمذي (3570) ضمن حديث مُطَوَّل من طريق سليمان بن عبد الرحمن بهذا الإسناد. وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث الوليد بن مسلم. وأخرجه الحاكم في " المستدرك " 1/ 316 من هذة الطريق، ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وقد علق عليه الإمام الذهبي فقال: هذا حديث منكر شاذ أخاف أن يكون موضوعاً، وقد حيَّرني والله جَوْدَةُ سندِه.
وقال في " ميزان الاعتدال " في ترجمة سليمان بن عبد الرحمن بعد أنا ذكر طرفاً من هذا الحديث: وهو مع نظافة سنده حديث منكر جداً في نفسي منه شيء، فالله أعلم، فلعل سليمان شبه له، وأدخل عليه، كما قال فيه أبو حاتم: لو أن رجلاً وضع له حديثاً لم يفهم.
وأورده الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " 2/ 214 من رواية الترمذي =(5/95)
وبكلِّ حالٍ، فالآية واضحةٌ في صحَّة الرؤية، ألا تراه تجلَّى كيف شاء للجبل، فجعله دكّاً، وعلَّق الرُّؤية باستقراره وهو ممكن بقدرة (1) الله إجماعاً، وما عُلِّق بالممكن فهو ممكن. ألا تراه لا يصحُّ أن يقال: إن استقرَّ مكانه، فسوف آكلُ وأشربُ وأعجِز وأجهَل، تعالى الله عن ذلك. ويوضح ما ذكرته (2) من كونها في (3) رؤية الدنيا أن قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، لم يكن جواباً لقوله: أرني في الآخرة، ولا لقوله (4): هل أراك فيها، بدليل أنه يحسُنُ منه بعد ذلك أن يقول فهل أراك في الآخرة حين لم تُجبني إلى رؤيئك في الدنيا، فلا تعارض أنه (5) رؤية الآخرة معارضة النصوص. ألا ترى أن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53]، لما نزل على سبب قول المشركين: إنهم قد كفروا وكذبوا، وزنوا، فأكثروا (6) كانت خاصة بالمغفرة في الدنيا لمن تاب من الكافرين (7)، ولمن شاء الله من غيرهم (8). وحسنٌ أن يُقال في من مات (9)
__________
= والحاكم، ثم قال بإثره: طرق أسانيد هذا الحديث جيدة، ومتنه غريب جداً.
وذكره ابن كثير في " تفسيره " 4/ 334 طبعة الشعب من طريق ابن جرير، وقال بإثره: وهذا غريب من هذا الوجه، وفي رفعه نظر، والله أعلم.
(1) في (ش): في قدرة.
(2) في (ش): ويوضح ذلك.
(3) ساقطة من (ب).
(4) تحرفت في (أ) إلى: وقولي.
(5) تحرفت في (أ) إلى: أية.
(6) في (ش): وأكثروا.
(7) في (ش): المشركين.
(8) أخرج البخاري (4810)، ومسلم (122)، والنسائي 7/ 86 - 87، وفي " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 458، وأبو داود (4374) عن ابن عباس أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا، وزنوا وأكثروا، فأتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لَحَسَنٌ، لو تخيرت أن لما عملنا كفارةً، فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ}، ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ .. }
وأخرجه الطبري 24/ 14 بلفظ آخر.
وذكر ابن إسحاق في " سيرته " 2/ 119 سبباً آخر لنزول الآية.
(9) في (أ) و (ج) و (د) و (ش): كان.(5/96)
كافراً: إنه لا يُغفر له بإجماع أهل العلم واللغة، أما أهل العلم، فظاهرٌ، وأمَّا أهل اللغة، فلأنهم لم يعدُّوه متناقضاً، لا مسلمهم ولا كافِرُهم، ولذلك قال ابن عبد البَرِّ: إنها في الدنيا، وقوله (1): {ويَغفِرُ ما دُونَ ذلك لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] في الآخرة جمعاً بينهما.
ومن ذلك قول إبراهيم في النجم، ثم القمر، ثم الشمس {هَذَا رَبِّي} وسيأتي تمام الكلام فيها (2) عند الكلام على ما أورده الخصم مما يتعذَّر تأويله من الحديث.
وقد اعترف الرازي في كتاب " الأربعين " بأن الكتب السماوية كلها جاءت بذلك في حق الله تعالى، كما جاءت بتحقيق المعاد، ونسب إلى الفلاسفة (3) والباطنية المخالفة فيهما معاً، ونسب إلى المتكلمين تقرير ما جاءت به الشرائع في المعاد، وتأويل ما جاءت به في المبدأ، يعني به الرب سبحانه.
الوجه الثالث: أن كلَّ من جادل من الأنبياء عليهم السلام عُبَّاد الأصنام وغيرهم، لم يحتجَّ بوجوب (4) تعطيل المعبود عن الجهات كلها، بل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للنصارى ألم يكن عيسى يأكُلُ ويشرب؟ قالوا: بلى. قال: فأين الشَّبه (5)؟ وقال تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} [طه: 89]، فاحتجَّ على بطلان ربوبيَّة العجل بأنه لا يتكلم، وهذا نقيضُ توحيد المعتزلة، فإنهم قطعوا بأن صدور الكلام عن الرب كفرٌ وتشبيهٌ، وكذلك الصحابة فيما بينهم، فإنهم اختلفوا: هل رأي محمدٌ ربَّه؟ وكان حَبْرُ الأمة وبحرُها بالاتفاق عبد الله بن عباس مِمَّن اشتهر عنه القول بأنه - صلى الله عليه وسلم - رأي ربَّه، ونقل ذلك عنه المفسِّرون والمحدِّثون
__________
(1) في (ب): وقوله.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (أ): الفلاسفية.
(4) في (ش): لوجوب.
(5) في (أ) و (ج): الشبيه.(5/97)
والحاكم على تشيُّعه وسائر أهل السنة (1)، ونفوا عن عائشة إنكار ذلك كما هو ثابتٌ عنها في " البخاري " و" مسلم " فلم ينقل أحد أنَّهم احتجوا على ابن عباس في التعطيل، ولا ألزموه في قوله الكفر والتشبيه وقد ناظر في ذلك هو وأصحابه، واحتجُّوا بظاهر الآيات في سورة النجم، ولم يكفِّرهم أحدٌ، ولا قال: إنَّ ظاهر تلك الآيات كفرٌ وتشبيه، وإنَّما احتجُّوا عليهم بالسمع. وفي الحديث السابع والثلاثين بعد المئة من مسند عائشة في " جامع " ابن الجوزي (2) أن عائشة احتجت على مسروقٍ في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رأي ربَّه بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51]. فدل على أنها لم تذهب إلى أن الرُّؤية مستحيلةٌ غير مقدورةٍ لله تعالى، لاحتجاجها بهذه الآية، فإنه يدلُّ على أنها محكمة عندها، بل قد روت عائشة الرُّؤية في الآخرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي. وإن (3) الحاكم أخرجه (4) عنها في " المستدرك ".
وهذا يدلُّ على أنها لم تعتقد الإحالة، وإنما أنكرت الرُّؤية في الدنيا لورود السمع بنفيها.
وأوضحُ من ذلك أن الله تعالى ما احتج بالتعطيل قطُّ على عُبَّاد الأصنام، بل احتج بأنهم عبدوا ما لا يضرُّ ولا ينفع، ولا يُبصر، ولا يسمع، ونحو ذلك.
قال تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا} [المائدة: 76] وقال: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا} [الأنعام: 71].
قال الزمخشري في تفسيرها (5): وهذا دليلٌ قاطعٌ على أن أمره يعني عيسى عليه
__________
(1) انظر " مسند أحمد " 1/ 285 و290، و" جامع الترمذي " (3278) و (3279) و (3280) و" السابق واللاحق " للخطيب ص 57، و" السنة " لابن أبي عاصم (433)، والطبري 27/ 52، والبغوي 4/ 247، والحاكم 2/ 469.
(2) واسمه " جامع المسانيد " ذكره الإمام الذهبي في " السير " 21/ 368 في جملة مؤلفاته، وقال: إنه في سبع مجلدات، وما استوعب فيه ولا كاد.
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش)، وفي (ب): خرجه.
(5) " الكشاف " 1/ 635.(5/98)
السلام مُنافٍ للرُّبوبيَّة، لأن صفة الرَّبِ أن يكون قادراً (1) على كل شيءٍ لا يخرج مقدورٌ عن قدرته. انتهى.
وقال إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 42]، ولما قال الكافرُ لإبراهيم الخليل: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] وبما حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - أمَّته من الدَّجال، جعل الفارق الجليَّ أنه أعورُ (2)، وقال إبراهيم الخليل للمشركين: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95، 96].
وكم جرى بين الأنبياء الكرام عليهم السلام وبين عُبَّاد الأصنام وعُبَّاد ذوي الأجسام من جدالٍ وخصامٍ، فما نُقِلَ في الكتب السماوية، ولا على ألسنة رواة الأخبار النبوية والإسرائيلية أن نبيَّاً قط احتجّ على أحدٍ من أولئك بوجوب تعطيل المعبود عن الجهات. ولا يجوز في عقل عاقل أن يكون هذا الأصل معروفاً معلوماً عند كل نبيٍّ، وبه يتميز الحق من الباطل، والموحِّدُ من المعطِّل، والمتشابهات من المحكمات، ولجهله يقع الخلائق في الجهالات والهلكات.
ثم تنقضي أعمارُ الدنيا، وتفنى القرون والأمم وذلك غيرُ مذكورٍ ولا مشهورٍ، ولا سيَّما والأمر المناقضُ له مما شحنت به (3) الكتب السماوية، بل صحَّ واشتهر تفسيره بظاهره كما مر في قوله: {والسمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} (4) وأمثالها. وتلقَّاه
__________
(1) في (ب): " قادر " وهو خطأ.
(2) أخرج البخاري (3439) و (3441) و (5902) و (6999) و (7026) و (7128) ومسلم (169)، والترمذي (2235) و (2241)، وأحمد 2/ 37 و131، وأبو داود (4757)، والبغوي في " شرح السنة " (4255) و (4256) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لا يخفى عليكم، وإن الله ليسَ بأعور " وأشار بيده إلى عينيه، " وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأنَّ عينه عِنَبةٌ طافيةٌ ".
(3) ساقطة من (ش).
(4) ص 408.(5/99)
الخلف عن السلف (1) من غير نكيرٍ (2).
والعادة العقلية تقضي (3) بوجوب رفع هذه الظواهر، لا سيَّما مع مطابقتها لما ذُكر في الفِطَرِ، وأن لا يهمل الخلق، فكيف يأتي رجلٌ من قرية جُبّة (4) من سواد الكوفة، فيستنبط ذلك برأيه، ويقبلَ منه، ويردَّ به جميع ما اشتملت عليه الكتب السماوية وتكرَّر فيها وتلاوة (5) السلف والخلف على جهة الحمد والمدح والثَّناء لربِّ العزَّة، سبحانه وتعالى.
قالوا: ولم تكتف المعتزلة والأشعريَّةُ حتَّى جعلوا هذه الممادح الحميدة تقتضي بظاهرها سبَّ الربِّ الحميد المجيدِ وذمَّه، وجعلوا الإيمان الواجب بها كفراً ومُروقاً، والاستقامة على ذلك بَلَهاً وجُموداً، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
الوجه الرابع: أن الكل من المختلفين نقلوا عن الصحابة أنهم سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤية ربه يوم القيامة، وإنما اختلف الناس في تأويل جوابه لهم أو تقريره (6)، وهم بإجماع الفريقين - أصحُّ أذهاناً وأتمُّ إيماناً، وسؤالهم عن ذلك يدلُّ علي عدم اعتقادهم لتعطيل معبودهم عن الجهات كما زعمت المعتزلة والأشعرية، وكذلك كُلُّ ذي فطرةٍ سليمةٍ لم تمرَض بداء الكلام من جميع العقلاء من أهل الإسلام وغيرهم، والتجربة وامتحان العقلاء يصدق ذلك.
فإن قيل: إن الصحابة كانوا أقربَ إلى البَلَهِ وعدم التحقيق في العقليَّات
__________
(1) في (ب): " السلف عن الخلف "، وهو سهو من الناسخ.
(2) تحرفت في (ش) إلى: " ذكر "، وهو خطأ.
(3) في (ش): تقتضي.
(4) كذا في الأصول. والصواب " جُبّى " بالضم ثم التشديد والقصر، والنسبة إليها: جُبائي، كما في " معجم البلدان "، و" صورة الأرض " لحوقل ص 231، وفي " الروض المعطار " للحميري ص 156: جباي، ونسبوا إليها أبا علي الجبائي عناه المصنف.
(5) في (ش): تلا، وفي (ج): وتلاه.
(6) في (ش): وتقريره.(5/100)
لعدم الممارسة في ذلك.
فالجواب من وجوه:
أحدها: أن ممارسة الكلام يُمَرِّضُ العقول، وتلجىء كثيراً منهم إلى مخالفة الفطرة الأوّلة، كالموسوسين في الطهارة، ولذلك لا يكون في أهل الفِطَرِ والجمل من يلزمُه جحدُ الضرورة، وفي كل طائفةٍ من المتكلمين من يلزمه ذلك، فإن ترك (1) الممارسة أصحُّ للعقل.
وثانيها: أن الفلاسفة أئمة المدقِّقين، وقد تطابقوا على مطابقة السمع هنا من بعض الوجوه، وعضدوا السمع والفطرة، وقاوموا من خالفهما بمجرَّد التدقيق، قالوا: ولا شك أن رأي (2) الجزم (3)، وسبيل (4) النجاة هو مذهب أهل السنة في مثل هذه المشكلات، لأنه أبعد من الكفر، وأقرب إلى الإيمان على قواعد الجميع.
ألا ترى أن الجميع متفقون على أن الكفر هو مخالفة السمع الجليِّ (5)، لا مخالفة المعقول الجليِّ، فإن من خالف ضرورة العقل التي لم يَرِدْ بها الشرعُ، فزعم أن بعض الأشربة الحُلوة مرَّة، وبعض الأدوية النافعة ضارة، لم يكفر بإجماع المسلمين؟ فكيف بمن (6) خالف أدلَة المتكلمين التي في علمه الجواهر والأعراض مع دقَّتها، وطعن كثيرٌ منهم فيها، وتوقَّف بعضهم بَعْدَ طول النظر فيها (7)؟.
__________
(1) في (ج): تلك.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ب): الحزم.
(4) في (ش): وسيلة.
(5) في (ش): المعلوم الجلي.
(6) في (ش): من.
(7) من قوله: " السمع الجلي " إلى هنا جاءت في نسخة (ب) بعد قوله: " والمناصحة لا المجارحة ".(5/101)
وثالثها: أن المخالفين للصَّحابة والسلف من أهل الكلام (1) اختلفوا في جميع القواعد التي بَنَوْا مخالفة السلف عليها، ونقض بعضهم على بعضٍ أشد النقض، حتَّى كَفَوْا (2) أهل السنة مؤنة (3) الرَّدِّ عليهم، حتى قال الشيخ أبو الحسين: إنه اكتفي في بطلان مذاهب البهاشمة بمجرد بيان مقاصدهم. وادَّعى أن وضوحها يكفي في معرفة بطلانها، وقد تقدم شيءٌ من ذلك، ومن أحبَّ معرفته فليقف عليه في كتاب " المجتبى " للشيخ مختار أحد أئمة الاعتزال من أصحاب أبي الحسين. فما سَلِمُوا من الوقوع (4) في المحارات (5) والمُحالات، والمعارضات والمناقضات مع البدعة، وأين من يعرف هذا؟ لم يبق من أهل الكلام إلاَّ من يقلِّدُ ويدَّعي، ولا ينظر إلاَّ في تواليف شُيوخه، وهذا هو الذي عابوا (6) على أهل الجُمود، بل هو أقبحُ على زعمهم. فالله المستعان والمرجوُّ لمسامحة الجميع في الخطأ، فإن العصمة مرتفعةٌ، والسلامة من الخطأ على الدوام في كل الأمور عزيزةٌ والقصد المعاونة، لا المشاحنة، والمناصحة لا المجارحة.
قال أهل السنة: وأما ردُّ الآيات والأخبار، فإنه (7) موضع الخطر (8)، فالمتكلِّم المعتزليُّ يتجاسر على أن يقول: إنه يكفر بربٍّ له يدٌ أو لهُ وجهٌ، أو استوى (9) على العرش. كما قد سُمِعَ ذلك من بعض المجادلين ويسهل (10) عليه
__________
(1) في (ش): الكتاب، وهو خطأ.
(2) تحرفت في (أ) و (ش) إلى: كفروا.
(3) تحرفت في (أ) و (ش) إلى: معروفة.
(4) " من الوقوع " ساقطة من (ب).
(5) في (ج): المجازات، وهو تصحيف.
(6) في (ب): عابوه.
(7) في (ش): فإنها.
(8) في (ب): خطر.
(9) في (ب): واستوى.
(10) في (ب): " وأسهل "، وفي (ش): ويشهد، وهو تحريف.(5/102)
أن يقول (1): ليس لله يدٌ ولا وجهٌ، وهو يعلم بالضرورة إثبات القرآن لما نفاه، ويلزمه أن يقول: ليس الله رحمان على الحقيقة، كما ليس للذُّلِّ جناحٌ على الحقيقة، وهم يلتزمونه. فاعرض هذا على قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110].
قالوا: وأما ما يُشَنِّعون به من التشبيه والتمثيل، فقد أوضحنا أن خير ما يرجع إليه في ذلك كلام الله ورسوله، فما (2) تمدَّح الله تعالى به ومدحه به رسوله وأصحابه (3)، وتابِعُوهم، ولم يتأوَّلوه، ولم يُحَذِّرُوا منه، فليس بتشبيهٍ، ولو (4) لم يرجع إلى هذا، لزم (5) مذهب القرامطة، ولذلك عقّب الله تعالى نفي (6) التشبيه بقوله: {وهُوَ السَّميعُ البَصيرُ} [الشورى: 11]. وتمدَّح بأن له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو الوصفُ الأعلى بأسمائه الحسنى، فكان المعنى ليس كمثله شيءٌ في كمال أسمائه ونفي النَّقص عنها، لا في تأويل حقائقها بالنفي المحض (7) والمجاز الخياليِّ الذي استعمله الشُّعراء في تشبيه الخدود والقُدود، ونحو هذا (8)، فلا ينزل (9) قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ هذا الجَمَلَ شكا إليَّ (10) أنك تُجيعُه وتُدْئبُه " (11) منزلة (12) قول الشاعر:
__________
(1) أن يقول: ساقطة من (ش).
(2) في (ش): كما.
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): للزم.
(6) في (ش): بنفي.
(7) في (ش): ونفي المحض.
(8) في (ب) و (ج) و (د): ونحوها.
(9) " فلا ينزل " ساقطة من (أ).
(10) في الأصول: " علي "، والمثبت من مصادر التخريج.
(11) أخرجه أحمد 1/ 204، وأبو داود (2549)، والحاكم 2/ 99 - 100 من طريق مهدي [ص:104] بن ميمون، عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب، عن الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي عن عبد الله بن جعفر رفعه. وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أحمد 1/ 205 من طريق جرير بن حازم، عن مهدى بن ميمون، به.
وتدئبه: تكُده وتتعبه، من الدأب، وهو الجد والتعب.
وفي الباب عند أحمد 4/ 173 من حديث يعلى بن مرة الثقفي مرفوعاً بلفظ: " شكا كثرة العمل، وقلة العلف، فأحسنوا إليه " وفي سنده عطاء بن السائب وقد اختلط، وشيخه فيه -وهو عبد الله بن حفص- مجهول، لكن يتقوى بما قبله.
(12) في (ب): منزل.(5/103)
شكا إليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرى ... يا جملي ليس إلي المُشتكى (1)
__________
(1) الرجز بهذا اللفظ غير منسوب في " أمالي المرتضى " 1/ 107، وهو أيضاً غير منسوب عند سيبوبه 1/ 321، وأبي عبيدة في " مجاز القرآن " 1/ 303، والجرجاني في " أسرار البلاغة " ص 463، وفي " شروح سقط الزند " ص 463، و" شرح الأشموني " 1/ 221 بلفظ:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى ... صَبْرٌ جميل فكلانا مبتلى
وأنشدهما الفراء في " معاني القرآن " 2/ 54 و256، والقرطبي في " أحكام القرآن " 9/ 152:
يشكو إلي جملي طول السُّرى ... صبراً جميلاً فكلانا مبتلى
ورواية " اللسان ": (شكا)
شكا إلي جملي طول السرى ... صبراً جُميلي فكلانا مبتلى
ونسبهما السيرافي في " شرح أبيات سيبويه 1/ 317 إلى الملبد بن حرملة الشيباني، وتعقبه الغندجاني في " فرحة الأديب " ص 179 - 180، فقال: ليس بيت الكتاب للملبد بن حرملة الشيباني، إنما سئل أبو عبيدة عن قائله فقال: هو لبعض السواقين، فأنشد:
يشكو إليَّ جملي طول السُّرى ... يا جَملي ليس إلي المُشتكى
صبرٌ جميلٌ فكلانا مبتَلَى ... الدِّرهَمَان كلفاني ما ترى
قال (س): حفظي: صبراً جُميلي.
وأما أبيات الملبد، فليس فيه " صبر جميل "، وهي:
يشكو إليَّ فرسي وقعَ القَنا ... اصبرْ جُمَيْلُ فكلانا مبتلى(5/104)
وقد حسبت القرامطة أن الإيمان المجازيَّ ينفعها، فآمنت بالمعاد والأسماء الحُسنى مجازاً، فكفرت بالإجماع، فإيَّاك أن تقنع بالإيمان بالرحمن الرحيم العليِّ العظيم مجازاً (1) مخافة أن تكون كمن آمن بالقدير العليم مجازاً. وبهذا تمَّ الكلام في الفصل الأول (2).
الفصل الثاني في أدلَّة أهل الحديث، ومن قالوا بقوله، وقال بقولهم على وقوع الرُّؤية في الآخرة. وقد يتخلَّل فيه اليسيرُ ممَّا يليق بالفصل الأول مما قد مضى. وقد تقدم (3) جوابُ المانعين لذلك في الفصل الأول وجميع ما يتعلق به، ولم يبق لهم فيما أعلم هنا إلاَّ معارضة أدلة المخالفين بقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، وسوف يأتي الكلام عليها بما تراه إن شاء الله تعالى. وقد ذكر السيد المرتضى في كتابه " الغرر " مثل كلام ابن تيمية الآتي فيها، وكذا قوله لموسى عليه السلام: {لن تراني}، وقد احتجَّ الفريقان (4) بها كما يأتي. والمُنْصِفُ لا ينظر إلى من قال، ولكن ينظرُ إلى ما قال وإلاَّ وقع في تقليد الرِّجال، وكان من دين الله على أعظم زوال. على أنَّ الناظر في هذا ينبغي له أن يُحقِّق النظر في كتب أئمة الاعتزال، ويتحقق ما لهم من المعارضات والاستدلال، ولا يكتفي بما نقلت عنهم، فإنما نقلت الذي علمت في وقت كتابتي هذا الجواب وعلى قدر علمي، وهذا (5) أقوى ما تمسَّكوا به وأشهره. وكذلك ينبغي أن يُنظر في حافلات كتب المخالفين، فإني إنما نقلت ما في كتاب ابن قيم الجوزية (6) منهم (7). وفوق كل
__________
(1) وردت في (أ) فقط.
(2) عبارة " في الفصل الأول " سقطت من (ب).
(3) في (ب): وقد مضى.
(4) في (ش): " الفريقين "، وهو خطأ.
(5) في (ش): وهو.
(6) هو كتاب " حادي الأرواح " ص 196 فما بعدها.
(7) ساقطة من (ش).(5/105)
ذي علمٍ عليم. وهو كذلك أقوى أدلَّةِ أهل السنة، والله أعلم.
فأقول -مع اختصارٍ يسيرٍ- ذكر الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب لأهل الحديث على ذلك أدلَّةً:
الدليل الأوّل: أن الله قد أخبر عن أعلم الخلق (1) في زمانه، وهو كليمه ونَجِيُّه وصَفِيُّه من أهل الأرض أنه سأل ربَّه تعالى النظر إليه، فقال له ربُّه تبارك وتعالى: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وبيان الأدلة (2) من هذه الآية من وجوه عديدة:
أحدها: أنه لا يُظنُّ بكليم الرحمن ورسوله الكريم عليه أن يسأل ربه ما لا يجوزُ عليه، بل هو من أبطل الباطل وأعظم المُحال، لأنه سأله النظر جازِماً بصحته، ولم يسأله عن صحته، ولا وقف سؤاله على شرط صحته، وإنما سأله على أمر جليٍّ عنده، لا (3) ينبغي عنده الشك في إمكانه وتجويزه، كقول إبراهيم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]، فلو كان يعتقد تعطيل الرب سبحانه، لقطع بفطرة عقله أن رؤيته ممتنعةٌ كما اعتقد ذلك من عطَّلهُ سبحانه، وهو عند فروخ اليونان (4) والصابئة والفرعونية بمنزلة أن يسأله أن يأكل ويشرب وينام ونحو ذلك مِمَّا يتعالى عنه. فيالله العجب كيف صار أتباع الصابئة والمجوس وفروخ الجهمية والفرعونية أعلم بالله تعالى من موسى بن عِمران، وبما يستحيلُ عليه ويجب له، وأشدَّ تنزيها له منه.
الوجه الثاني: أن الله سبحانه لم يُنْكِرْ عليه سؤاله، ولو كان محالاً لأنكره
__________
(1) في (ج): الخلق به.
(2) في (ش): الدلالة.
(3) في (أ): ولا.
(4) في (ب): اليونانية.(5/106)
عليه، ولهذا لما سأل إبراهيم الخليل ربَّه تعالى أن يُرِيَه كيف يحيى الموتى، لم يُنكر عليه، ولما سأل عيسى ابن مريم ربه إنزال المائدة من السماء، لم ينكر عليه (1)، ولمَّا سأل نوحٌ ربَّه نجاه ابنه، أنكر عليه سؤاله، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46، 47].
الوجه الثالث: أنه أجابه بقوله: {لن تَرَاني}، ولم يقل: إنِّي لا أُرى، ولا: إني لست بمرئيٍّ، ولا يجوزُ رؤيتي. والفرق بين الجوابين ظاهرٌ لمن تأمَّله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئيٌّ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته (2) في هذه الدَّار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه (3) ....
الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت لتجلِّيه في هذه الدَّار، فكيف بالبشريِّ (4) الضعيف الذي خُلِقَ من ضعفٍ.
الوجه الخامس: أن الله سبحانه قادرٌ على أن يجعل الجبل مستقرَّاً مكانه، وليس هذا بممتنع (5) في مقدوره، بل هو ممكن، وقد علَّق به الرؤية، ولو كانت مُحالاً في ذاتها، لم يعلِّقها بالممكن في ذاته، ولو كانت الرؤية مُحالاً، لكان ذلك نظير أن يقول: أن استقرَّ الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، فالأمران عندكم سواءٌ.
الوجه السادس: قوله سبحانه: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وهذا
__________
(1) في (ب): عليه سؤاله.
(2) في (ش): ولا رؤيته.
(3) في (أ): لو صحت.
(4) في (ش) و" حادي الأرواح ": بالبشر.
(5) في (ب): الممتنع.(5/107)
من أبين الدلالة على جواز رُؤيته تبارك وتعالى، فإنه إذا جاز أن يتجلَّى للجبل الذي هو جمادٌ لا ثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلَّى لأنبيائه ورسله وأوليائه في دار كرامته، ويُريَهم نفسه؟ وأعلم (1) سبحانه أن الجبل إذا لم يثبت (2) لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
الوجه السابع: أن ربَّه سبحانه قد كلَّمه منه إليه، وخاطبه وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلُّم والتكليم، وأن يسمع مخاطِبُه كلامَه معه بغير واسطة، فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتمُّ إنكار الرؤية إلاَّ بإنكار التكليم، وقد جَمَعَتْ هذه الطوائف بين إنكار الأمرين، فأنكروا أن يُكَلم أحداً ويراه أحدٌ، ولهذا سأل موسى النظر إليه لمَّا أسمعه كلامه، وعلم من الله جواز رؤيته من وقوع خطابه (3) وتكليمه، فلم يخبره باستحالة ذلك عليه، ولكن أراه أن ما سأله لا يقدر على احتماله، كما لم يثبت الجبل لتجلِّيه.
وأما قوله تعالى: {لن تراني} فإنه نزل (4) على سبب طلب الرؤية في الحال، فكان نفياً لذلك المطلوب، كما صح حكمُ الصحابة بمثل ذلك في مواضع كثيرةٍ يوضحه أنه لا يقبُح أن يقول: فهل أراك في الآخرة؟ ويعارض من لم يقبل بيان السنة بظاهر سورة النجم، فإنه يقضي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية كما صح عن ابن عباس الجزمُ به (5). فإن رجعوا فيها إلى بيان السنة، وجب الرُّجوع إليه في الموضعين، كما وجب ذلك في جميع شرائع الإسلام الأركان الخمسة وغيرها يأتي بيان السنة بما ليس في القرآن. وأجمعت الأمة على اعتبار الأسباب في بعض المواضع كتفسير: {الذين يفرحُون بمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] في
__________
(1) في (ب): فأعلم.
(2) في (ش): أن الجبل لا يثبت.
(3) " من وقوع خطابه " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): نزل هنا.
(5) ساقطة من (أ)، وفي (ش). " بذلك "، وقد تقدم تخريج قول ابن عباس ص 409.(5/108)
اليهود (1) و" سوف ": قد تكون للقريب من المستقبل، كقوله تعالى حكايةً عن يعقوب: {سَوْفَ أستغفِرُ لَكُمُ ربِّي} [يوسف: 98] وعدهم لليلة الجمعة (2)، وهو كثيرٌ، ولا خلاف (3) فيه بقول سوف أفعل غداً بإجماع (4) أهل العربية.
وأما قولهم: إن " لن " تدلُّ على النفي في الاستقبال، فإن الاستقبال هُنا حاصلٌ، وهو مدَّةُ عمر موسى عليه السلام في الدنيا، ولكن -مع هذا- لا بد من دخول نفي رؤيته في الحال، وإلاَّ خرج الجواب عن مطابقة السؤال، وذلك لا يجوز.
وأيضا، فإنما يدلُّ على النفي في المستقبل، ولا يدلُّ على دوام النفي، ولو قيِّدت بالتَّأبيد، فكيف إذا أطلقت؟ قال تعالى: {ولَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبَدَاً} [البقرة: 95] مع قوله: {ونادَوْا يا مَالِكُ لِيَقْضِ علينا ربُّكَ} [الزخرف: 77].
فصل: الدليل الثاني: قوله تعالى: {واتَّقُوا الله واعلَمُوا أنَّكُم مُلاقُوه} [البقرة: 223]، وقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُم يوم يلقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب: 44]، وقوله: {فمن كان يرجُو لِقَاء ربِّهِ} [الكهف: 110]، وقوله: {قال الذِينَ يظُنُّونَ
__________
(1) هو قول ابن عباس رضي الله عنه، رواه عنه البخاري (4568)، والطبرى 7/ (8237) و (8338) و (8344) و (8348). والبغوي في " تفسيره " 1/ 384، وهو قول عكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، والسدي، وكعب الأحبار.
وروى البخاري (4567)، والطبري 7/ (8335)، والبغوي في " تفسيره " 1/ 384 عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت في المنافقين.
قال الزمخشري 1/ 487 بعد أن أورد الروايتين: ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة، فيفرح بها فرح إعجاب، ويجب أن يحمده الناس، ويُثنوا عليه بالديانة والزُّهد بما ليس فيه.
(2) تقدم تخريجه ص 408.
(3) في (ج): باختلاف.
(4) في (ب): بالإجماع.(5/109)
أنَّهُم مُلاقُوا الله} [البقرة: 249]. وأجمع أهل الِّلسان على أن اللقاء متى نُسِبَ إلى الحيِّ السليم من العمى والمانع، اقتضى المعاينة والرؤية، ولا ينتقِضُ هذا بقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، فقد دلَّت الأحاديث الصحيحة الصريحة على أن المنافقين يرونه تعالى في عرصات القيامة، بل والكفار أيضاً كما في " الصحيحين " في حديث التَّجلِّي يوم القيامة، وسَيَمرُّ بك عن قريبٍ إن شاء الله تعالى.
وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة:
أحدها: أنه لا يراه إلاَّ المؤمنون.
والثاني: يراه جميع أهل الموقف مؤمنُهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار، فلا يرونه بعد ذلك.
والثالث: يراه المنافقون دون الكفار. والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، وهي لأصحابه، وكذلك الأقوال الثلاثة بعينها في تكليمه لهم.
ولشيخنا في ذلك مصنَّفٌ مفردٌ حكى فيه الأقوال الثلاثة وحُجَجَ أصحابها (1).
وكذا قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، إن عاد الضمير إلى العمل، فهو رؤيته في الكتاب مسطوراً مبيناً، وإن عاد على الرب تعالى، فهو لقاؤه الذي وعد به.
فصل: الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25، 26]
فالحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجهه الكريم، كدلك فسَّرها رسول الله
__________
(1) هو مدرج في الجزء السادس من " مجموع الفتاوى " من ص 401 إلى ص 460.(5/110)
- صلى الله عليه وسلم - الذي أنزل عليه القرآن والصحابة من بعده، كما روى (1) مسلم في " صحيحه " من حديث حماد بن سلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب، قال قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {للذِينَ أحسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ} [يونس: 26]، قال: " إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نادى منادٍ يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً، ويريدُ أن ينجزَكُموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقِّل موازيننا ويبيِّض وجوهنا، ويدخلنا الجنة، ويُجِرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إليه " (2)، وهي الزيادة " (3).
قال الحسن بن عرفة، حدثنا سلم (4) بن سالم البلخي، عن نوح بن أبي مريم، عن ثابت، عن أنس، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {للذِينَ أحسَنُوا الحُسنَى وزيادةٌ} قال: "للذين أحسنوا العمل في الدنيا الحسنى: وهي
__________
(1) في (ش): رواه.
(2) هو في " صحيح مسلم " (181) بلفظ: " إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال: يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون، ألم تُبَيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتُنجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم ".
وهو في " مسند الطيالسي " (1315)، و" المسند " 4/ 332 و333، و6/ 15، والترمذي (3105)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 180، والطبري (17626)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 307، وابن ماجه (187)، والآجري في " الشريعة " ص 261، وابن منده في " الرد على الجهمية " ص 95، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " 3/ 455 و481، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 54 - 55، وابن أبي عاصم في " السنة " (472)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " ص 53 من طرق عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وانظر " صحيح ابن حبان " (7441) بتحقيقنا.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 356، وزاد نسبته إلى هناد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والدارقطني في " الرؤية "، وابن مردويه.
(3) لم ترد في (ش).
(4) تحرفت في (أ) إلى: مسلم.(5/111)
الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى" (1).
وقال محمد بن جرير: حدثنا ابن حميد (2)، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عُجْرَة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ}، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن جلّ جلاله (3).
قلت: عطاءٌ هذا هو الخراساني، وليس بعطاء بن أبي رباح.
قال ابن جرير: حدثنا ابن عبد الرحيم (4)، حدثنا عمر بن أبي سلمة، قال: سمعت زهيراً .. وقال يعقوب بن سفيان (5)، حدثنا صفوان بن صالح، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زهير بن محمد، قال: حدثني من سَمِعَ أبا العالية الرّياحي، يحدث عن أبيّ بن كعب، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الزيادة في
__________
(1) سلم بن سالم البلخي: ضعفه غير واحد، وشيخه فيه نوح بن أبي مريم: متروك، وبعضهم اتهمه.
وأخرجه اللالكائي 3/ 456، والخطيب في " تاريخ بغداد " 9/ 140، وابن عدي في " الكامل " 3/ 1173 - 1174 من طريق الحسن بن عرفة، بهذا الإسناد. قال ابن عدي: ولعل البلاء فيه من نوح بن أبي مريم، فإنه أضعف من سلم بن سالم.
(2) تحرف في (ب) إلى: أحمد.
(3) هو في " جامع البيان " 15/ 68 برقم (17631) وأخرجه أيضاً اللالكائي 3/ 456 - 457 وسنده ضعيف. ابن حميد -وهو محمد بن حميد الرازي- ضعيف، وشيخه فيه إبراهيم بن المختار: ضعيف، وعطاء -وهو كما قال المؤلف: ابن أبي مسلم الخراساني-: كثير الأوهام، وروايته عن الصحابة مرسلة.
(4) تحرف في الأصول إلى: " عبد الرحمن "، وهو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم أبو بكر بن البرقي الحافظ المتقن المتوفى سنة 270 هـ، نسب إلى جده، مترجم في " السير " 13/ 47. وقد ذكر في المطبوع من " جامع البيان " (17633) بكنية " ابن البرقي ".
(5) هو يعقوب بن سفيان الفسوي صاحب " المعرفة والتاريخ "، وهذا الخبر في الجزء الثالث من " تاريخه " ص 395 من نصوص يظن أنها مأخوذة عن كتاب " السنة " له.(5/112)
كتاب الله قوله (1) {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (2).
وقال أسدُ السُّنة: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبان، عن أبي تميمة (3) الهُجيمي أنه سمع أبا موسى يحدِّث أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يبعث الله يوم القيامة منادياً يُنَادي أهل الجنة بصوتٍ يسمِعُ أوَّلهم وآخرهم: إن الله عز وجل وعدكم الحُسنى، والحُسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله " (4).
وقال ابن وهب أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي (5)، أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أن الله عزَّ وجلَّ يبعث يوم القيامة منادياً ينادي: يا أهل الجنة بصوتٍ يسمع أولهم وآخرهم: إن الله عز وجلَّ وعدكم الحسنى وزيادة، الحسنى (6): الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الرحمن (7) ".
__________
(1) في (ب) و (ش): في قوله.
(2) إسناده ضعيف لجهالة من رواه عن أبي العالية. وأخرجه اللالكائي 3/ 456 و492.
(3) تحرفت في (ب) و (ج) و (د) و (ش) إلى: خيثمة.
(4) قيس بن الربيع: تغير لما كبر، وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به، وأبان -وهو ابن أبي عياش- متروك، وهو في " شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة " لللالكائي 3/ 457 من طريق أسد بن موسى، بهذا الإسناد.
وأخرجه الطبري (17618) من طريق يونس، عن ابن وهب، أخبرني شبيب، عن أبان، به. وأبو تميمة الهجيمي: اسمه طريف بن مجالد.
(5) تحرف في (أ) إلى: الجهيمي.
(6) في الطبري: فالحسنى.
(7) إسناده ضعيف، لضعف أبان كما تقدم، وشبيب: هو ابن سعيد التميمي الحبطي، أحاديثه مستقيمة إلاَّ أن ابن وهب حدَّث عنه بأحاديث مناكير، قال ابن عدي في " الكامل " 4/ 1347: ولعل شبيباً بمصر في تجارته إليها كتب عنه ابن وهب من حفظه، فيغلط ويهم، وأرجو أن لا يتعمد شبيب هذا الكذب.(5/113)
وأما الصحابة، فقال ابن جرير (1)، حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن -هو ابن مهدي- حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، قال: النظر إلى وجه الله.
وبهذا الإسناد عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد (2)، عن حذيفة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، قال: النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (3).
وحدثنا علي بن عيسى، حدثنا شبابة، حدثنا أبو بكر الهذليّ، قال: سمعت أبا (4) تميمة الهجيمي (5) يحدِّث عن أبي موسى الأشعري، قال: إذا كان يوم القيامة، يبعث (6) الله عز وجلَّ [إلى أهل الجنة] (7) منادياً ينادي: هل أنجزكُمْ (8) الله ما وَعَدَكُم؟ فينظرون ما أعدَّ الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم،
__________
(1) 15/ (17610). وأخرجه ابن منده في " الرد على الجهمية " ص 95، والآجري في " الشريعة " ص 257، ورجاله ثقات إلاَّ أن عامر بن سعد روايته عن أبي بكر مرسلة.
وأخرجه الطبري (17611) من طريق سفيان، عن حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر.
وأورده السيوطي في " الدر " 4/ 358، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والدارقطني، وابن مردويه، والبيهقي.
وأخرجه الدارمي في " الرد على الجهمية " ص 60 - 61 من طريق شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر.
(2) ويقال له: مسلم بن نُذَير، كما جاء في الطبري، وفي " التهذيب ": مسلم بن نُذّير، وقيل: ابن يزيد، ويقال: إن يزيد جده. أبو نذير، ويقال: أبو عياض، روى عنه جمع، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في " الثقات ".
(3) هو في " جامع البيان " (17614)، وأخرجه اللالكائي 3/ 458، والدارمي في " الرد على الجهمية " ص 61، والآجري في " الشريعة " ص 257، وابن أبي عاصم في " السنة " (473)، ورجاله ثقات.
(4) في (ب): " أبي "، وهو خطأ.
(5) تحرفت في (أ) و (ش) إلى: الجهيمي.
(6) في الطبري: بعث.
(7) زيادة من الطبري، و" حادي الأرواح ".
(8) في الأصول: " أنجز "، والمثبت من الطبري و" حادي الأرواح ".(5/114)
فيقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، النظر إلى وجه الرحمن عز وجلّ (1).
وقال عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي، أخبرنا أبو تميمة، قال: سمعت أبا موسى الأشعري يخطب (2) الناس في جامع البصرة، ويقول: إن الله عز وجل يبعث يوم القيامة مَلكَاً إلى أهل الجنة، فيقول: يا أهل الجنة هل أنجز (3) تعالى لكم (4) ما وعدكم؟ فينظرون، فيرون الحليَّ والحُلل [والثمار] (5) والأنهار (6) والأزواج المطهَّرة، فيقولون: نعم، قد أنجز (7) الله ما وعدنا، ثم يقول (8) الملك: هل أنجزكم (9) ما وعدكم ثلاث مرات، فلا يَفقدُون شيئاً مما وُعِدُوا، فيقولون: نعم. فيقول: قد بقي لكم شيءٌ إن الله عز وجل يقول: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، ألا إنَّ الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (10).
وفي تفسير أسباط بن نصر (11) عن إسماعيل السُّدّي، عن أبي مالك وأبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
__________
(1) هو في "جامع البيان" (17616) و (7/ 176)، وأبو بكر الهذلي: واهٍ بمرة، وأخرجه الدارمي في " الرد على الجهمية " ص 61، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 184، واللالكائي 3/ 459 كلهم من طريق أبي بكر هذا.
(2) في (ب): يحدث.
(3) في (ش)، والطبري، و" حادي الأرواح ".
(4) ساقطة من (ش)، ولم ترد في الطبري، و" حادي الأرواح ".
(5) زياده من الطبري.
(6) ساقطة من (ش).
(7) في الطبري و" حادي الأرواح ": أنجزنا.
(8) في (ش): فيقول.
(9) في (ش): " أنجز الله "، وفي (ج) والطبري و" حادي الأرواح ": أنجزكم الله.
(10) الطبري 15/ (17617)، وإسناده ضعيف كسابقه.
(11) تحرف في (ب) و (ش) إلى: نصير.(5/115)
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ}، فقال: أما الحسنى: فالجنة وأما الزيادة: فالنظر إلى وجه الله، وأما القترُ: فالسواد (1).
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعامر بن سعد، وإسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي، والضَّحَّاك بن مُزاحم، وعبد الرحمن بن سابط، وأبو إسحاق السبيعي، وقتادة، وسعيد ابن المسيب، والحسن البصري، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد بن جبر (2): الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله تعالى (3).
وقال غيرُ واحدٍ من السلف في الآية: {ولا يَرهَقُ وُجُوهَهُم قترٌ ولا ذِلَّةٌ}، بعد النظر إليه. والأسانيد عنهم بذلك صحيحة.
ولما عطف سبحانه الزيادة على الحسنى -التي هي الجنة- دل على أنها أمرٌ آخر وراء الجنة، وقدرٌ زائدٌ عليها، ومن فسَّر الزيادة بالمغفرة والرضوان، فهو من لوازم رؤية الرب تعالى.
فصل: الدليل الرابع: قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)} [المطففين: 14، 15]. ووجه الاستدلال (4) بها أنه سبحانه جعل من أعظم عقوبة الكفار كونهم محجوبين عن رويته وسماع كلامه، فلو لم يره المؤمنون، ولم يسمعوا كلامه، كانوا -أيضاً- محجوبين عنه.
__________
(1) وأخرجه اللالكائي 3/ 459 من طريق عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث، حدثنا الحسين بن علي بن مهران الفسوي، حدثنا عامر بن الفرات، عن أسباط بن نصر به.
(2) تحرف في (ش) إلى: جبيرة.
(3) انظر " اللالكائي " 3/ 455، و" تفسير ابن كثير " 4/ 198، و" الدر المنثور " 4/ 358 - 359.
(4) في (ش): عن الاستدلال.(5/116)
وقد احتجَّ بهذه الحجة الشافعي نفسه وغيره من الأئمة، فذكر الطبراني وغيره عن المُزنيِّ قال: سمعت الشافعي يقول في قوله عز وجل: {كلاَّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ}؟ قال: فيها دلالة على أن أولياء الله يرون ربَّهم يوم القيامة، وقال الحاكم: حدثنا الأصمُّ، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله تعالى: {كلاَّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ}، فقال الشافعي: لما أن حَجَبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل (1) على أن أولياءه (2) يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله، وبه تقول؟ قال نعم، وبه أدين الله، لو لم يُوقن محمد بن إدريس أنه يرى الله لما عبد الله عز وجل.
ولعله يريد أن الجميع ممَّا ورد به السمع المعلوم عنده، وقد ذم الله تعالى من يُؤمِنُ ببعض الكتاب، ويكفر ببعض، فكان الإيمان بالجميع لازماً أو الترك. والله أعلم (3).
ورواه الطبراني في " شرح السنة " من طريق الأصم أيضاً.
وقال أبو زرعة الرَّازي. سمعت أحمد بن محمد بن الحسين يقول: سئل محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: هل يرى الخلق كلُّهم ربَّهم يوم القيامة: المؤمنون والكفار؟ فقال محمد: ليس يراه إلاَّ المؤمنون. قال محمد (4): وسئل الشافعي عن الرؤية، فقال: يقول الله تعالى: {كلاَّ إنَّهم عن ربِّهِم يومئذٍ لمحجُوبُونَ}، ففي هذا دليل على أن المؤمنين لا يُحجبون عن الله عز وجل.
__________
(1) في (ب): دلَّ على ...
(2) في (ش): أولياء الله.
(3) من قوله: " ولعله يريد " إلى هنا، ورُمِّج في (ب)، وهو من كلام المصنف رحمه الله، وليس من كلام العلامة ابن القيم.
(4) من قوله: " ابن عبد الله بن الحكم " إلى هنا ساقط من (ش).(5/117)
فصل: الدليل الخامس: قوله عز وجل: {لهُمْ ما يَشَاؤونَ فيها ولدينا مَزِيدٌ} [ق: 35].
قال الطبراني: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل، وقاله من التابعين زيد بن وهبٍ وغيره.
فصل: الدليل السادس: قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ وهو يُدْرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103] والاستدلال بهذا عجيب (1)، فإنه من أدِلَّة النفاة.
وقد قرَّر شيخنا وجه الاستدلال بة أحسن تقريرٍ وألطفه، وقال لي: أنا ألتزم أنه لا يحتج مبطلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطله إلاَّ وفي ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله، فمنها هذه الآية، وهي (2) على جواز الرؤية أدلُّ منها على امتناعها، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون في الأوصاف (3) الثبوتية، وأما العدم المحضُ، فليس بكمال، فلا يمدح (4) به. وأما (5) تمدُّحُ الرب بالعدم إذا تضمَّن أمراً وجوديّاً كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمِّن كمال القَيُّوميَّة، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي الُّلغُوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظِّهير المتضمن كمال ربوبيته (6) وإلهيته وقوَّته، ونفي الأكل والشرب المتضمن لكمال صَمَدِيَّته وغناه، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعُزوب شيءٍ عن (7) علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المِثْلِ المتضمِّن
__________
(1) في (ب): " عجب "، وفي " الروح ": أعجب.
(2) في (ش): وهذا.
(3) في (ب) و" حادي الأوراح ": بالأوصاف.
(4) في (ب): تمدّح.
(5) في (ب) و" حادي الأرواح ": وإنما.
(6) في (أ) و (ش): الربويية.
(7) في (ش): من.(5/118)
لكمال ذاته وصفاته ولهذا لم يتمدَّح بعدمٍ محضٍ لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يُشارِكُ الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه، فلو كان المراد بقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أنه لا يُرى بحالٍ، لم يكن في ذلك مدح ولا كمال (1) لمشاركة المعدوم له في ذلك، فإن العدم الصرف لا يرى، ولا تدركه الأبصار، والربُّ -جلَّ جلالُه- يتعالى أن يُمْدَحَ بما يُشارِكُه فيه العدم المحضُ، فإذاً المعنى: أنه (2) يُرى، ولا يُدرَكُ ولا يُحَاطُ به كما كان المعنى في قوله: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} [يونس: 61] أنه يعلم كل شيءٍ، وفي قوله: {وَمَا مَسَّنَا من لُغُوبٍ} [ق: 38]: أنَّه كامل القدرة، وفي قوله: {ولا يَظلِمُ ربُّك أحداً} [الكهف: 49]: أنه كامل العدل، وفي قوله: {لا تأخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، أنه كامل القيومية، فقوله: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} [الأنعام: 103] يدل على غاية عَظَمَتِه، وأنه أكبرُ من كل شيءٍ، وأنه لعظمته لا يُدرَكُ بحيث يُحاطُ به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائدٌ على الرؤية، كما قال تعالى: {َفلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا} [الشعراء: 61، 62]، فلم يَنفِ موسى الرؤية، ولم يريدوا بقولهم: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}: إنا لمرئيون، فإن موسى - صلوات الله وسلامه عليه - نفي إدراكهم إيَّاهم بقوله: كلاَّ، وأخبر الله سبحانه أنه لا يخاف دَرَكَهُم، بقوله: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} [طه: 77] فالرؤية والإدراك كل منهما يُوجَدُ مع الآخر وبدونه.
فالربُ تعالى يُرى ولا يُدرَكُ كما (3) يُعلَمُ ولا يُحاطُ به، وهذا هو الذي فهمته الصحابة والأئمة من الآية.
قال ابن عبَّاس: لا تدركه الأبصار: لا تُحيط به الأبصار (4).
__________
(1) في (ش): لم يكن تمدح ولا كمال
(2) في (ب): أن.
(3) في (ش): كما أنه.
(4) رواه عنه الطبري (13694) بسند مسلسل بالضعفاء.(5/119)
وقال قتادة: هو أعظمُ من أن تُدرِكَهُ الأبصار (1).
وقال عطية (2): ينظرون إلى الله تعالى، ولا تُحِيطُ أبصارُهم به من عظمته، وبصره (3) يحيط بهم، فذلك قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَار} (4) [الأنعام: 103] فالمؤمنون يرون ربهم تبارك وتعالى بأبصارهم عِياناً، ولا تدركه أبصارهم بمعنى أنها (5) لا تحيط به، إذ كان غير جائزٍ أن يُوصف الله عز وجل بشيءٍ يُحيط به، وهو بكل شيءٍ محيطٌ. وهكذا يُسمعُ كلامه من شاء من خلقه، ولا يحيطون بكلامه، وهكذا (6) يُعَلِّمُ الخلق ما علمهم، ولا يُحيطون بعلمه.
ونظير هذا استدلالهم على نفي الصفات بقوله تعالى: {ليس كَمثلِهِ شيءٌ} [الشورى: 11] وهذا من أعظم الأدلة: على كثرة صفات كماله (7) ونُعوت جلاله، وأنها لكثرتها وعظمتها وسعتها لم يكن له مِثْلٌ فيها، وإلا فلو أراد بها نفي الصِّفات، لكان العدم المحضُ أولى بهذا المدح منه، مع أن جميع العقلاء إنما يفهمون من قول القائل: فلانٌ لا مِثْلَ لهُ، وليس له نظير ولا شبيه ولا مثل (8)، أنه قد تميَّز عن الناس بأوصافٍ ونعوتٍ لا يُشاركونه فيها، وكلَّما كثُرَت أوصافهُ ونعوته، فات أمثاله، وبَعُدَ عن مشابهة أضرابه. فقوله: {ليس كمثله شيء} من أدلِّ شيءٍ على كثرة نعوته وصفاته، وقوله: {لا تدركه الأبصار} من أدلِّ شيءٍ على أنه يُرى ولا يُدرَكُ. وقوله: {هو الذي خلق السماوات والأرض في
__________
(1) رواه ابن جرير (14694) من طريق بشر، عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة.
(2) هو عطية بن سعد العوفي، ضعفوه في الرواية، وقوله هذا عند ابن جرير (13696).
(3) تحرفت في (ب) إلى: وبصيره.
(4) من قوله: " وقال عطية " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (ب): " أنه "، وهو خطأ.
(6) في (ش): وهذا.
(7) تحرفت في (أ) إلى: جماله.
(8) في (أ): مثيل.(5/120)
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4] من أدلِّ (1) شيءٍ على مباينة الرب تعالى لخلقه، فإنه لم (2) يخلقهم في ذاته، بل خارج عن ذاته، ثم بان عنهم باستوائه على عرشه، وهو يعلم ما هُمْ عليه، ويراهم وينفذهم ببصره (3)، ويُحِيطُ بهم علماً وإرادةً وقدرةً وسمعاً وبصراً. فهذا معنى قوله (4) سبحانه: {هو مَعَهُم أينَمَا كانوا}، وتأمل حُسْنَ هذه المقالة لفظاً ومعنى، بين قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ وهو يُدرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103]، فإنه سبحانه لعظمته يتعالى أن تدركه الأبصارُ وتحيط به، ولِلُطفه وخبرته يدرك الأبصار، فلا تخفي عليه، فهو العظيم في لطفه، اللطيف في عظمته، العالي في قربه (5)، القريب في عُلُوِّه، الذي ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. انتهى كلام الشيخ.
ومنهم من احتجَّ بهذه الآية من وجهٍ آخر: وهو أن النفي إذا وجِّه إلى الشمول، فهم منه مخالفةُ البعض، ولم يُفدِ النفي عن كلِّ فرد، كما إذا قلت: ما جاء القوم. ليس فيه نفي مجيء البعض، بل إذا قلت: ما جاء عشرة رجال، لم يكن فيه نفي مجيء التِّسعة. هذا لو لم يَرِدْ لهذا العموم مخصِّصٌ من الكتاب والسنة، فأمَّا بعد قولِه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] وتواترُ الأحاديث في ذلك -كما سيأتي- فلا شك في أنها أبين مِنْ هذه الآية، وأخصُّ على جميع القواعد، ولذلك أجمعنا على ثبوت الشفاعة الخاصة في الآخرة مع قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ
__________
(1) تحرفت في (أ) إلى: أدلة.
(2) في (ب): " لو لم " وهو خطأ.
(3) في " حادي الأرواح ": وينفذهم بصره.
(4) في " حادي الأرواح " ص 203: فهذا معنى كونه سبحانه معهم إينما كانوا.
(5) تحرفت في (ش) إلى: قدرته.(5/121)
وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، ما ذلك إلاَّ لتقديم الخاص على العامِّ في مثل هذا. والخصوم لا يُخالفون في مثل هذا من هذه الجهة، وإنما حملهم على تأويل الأدلة الخاصَّة اعتقادهم لاستحالة الرؤية عقلاً، وقد مرَّ ما فيه، ولذلك احتالوا على استفادة العموم من هذه الآية من التَّمدُّح -ولا يمتنع أن يكون التمدُّح مخصوصاً- الراجع (1) إلى الذات دون التمدح (2) الراجع إلى غير ذلك.
كما سيأتي في كلامهم.
والجواب عليهم من وجوه:
الوجه الأول: أن حجَّتهم هذه وأكثر أدلتهم، راجعة إلى القطع بنفي ما لم يعلموا عليه دليلاً، وقد تقدم بطلانها. بيانه: أنه لا دليل لهم على (3) أنه لا وجه للتمدح في علم الله إلاَّ ذلك، بحيث لا يصحُّ أن يُخبر به نبي صادق.
الوجه الثاني: أنه قد ورد السمع بما يدل أنه تمدُّح راجعٌ إلى قدرته وعزَّته.
وذلك ممكن عقلاً قبل ورود السمع. ومجرَّد التجويز يكفي أهل السنة، لأنه يمنع (4) من وجوب تأويل الظواهر، كيف إلاَّ النصوص؟
وأما المعتزلة، فلا يكفيهم إلاَّ الأدلة القاطعة المانعة من تسليم الظواهر، أما أن التمدُّح بذلك ممكنٌ عقلاً، فضروريٌّ، وعلى مانعه الدليل يوضحه أن الله تعالى تمدح بذلك في قوله تعالى (5): {يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]، وتمدَّحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يقضي ولا يُقضى عليه (6).
__________
(1) من هنا إلى قوله. " يمتنع أن يكون التمدح مخصوصاً " في ص 426 ساقط من (ب).
(2) من قوله: " ولا يمتنع " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) ساقطة من (أ).
(4) في (أ): يمتنع.
(5) في الأصول جميعها غير (ج): " قوله تعالى: إنه يجير ".
(6) أخرج أحمد 1/ 199 - 200، والترمذي (464)، والنسائي 3/ 248، وابن ماجه =(5/122)
وأما أنَّ الدليل السمعي قد دلَّ على تعليل عدم إدراكه بأمرٍ (1) يرجع إلى قدرته وعزته، فذلك كثيرٌ جداً في الكتاب والسنة.
أمَّا القرآن، فقوله تعالى: {أو من وراء حجاب} [الشورى: 51]، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]. والقرائن تضطر إلى أنه لا يصح تأويل (2) تجليِّه سبحانه للجبل، لأنه لو كان مؤولاً، كان أجنبياً عن الرؤية.
وأما السنة، فأكثرُ مِن أن تحصر (3)، ولا تحتاج إلى ما فيها من ذكر الحُجْبِ بعد ورود نصوص (4) الله تعالى بذلك. ولقد جاء ذلك من طريق زيد بن علي عليه السلام، كما رواه محمد بن منصور في " الجامع الكافي " على مذهب الزَّيدية. وهذا وجهٌ جليٌّ، لا غبار عليه، وإنما تكلَّفت (5) المعتزلة على منعه بقيام الدليل العقلي عندهم على استحالة ذلك.
وقد بيَّنَّا فيما تقدم أن أدلتهم العقلية كلها راجعةٌ إلى القطع بالنفي للشيء عند عدم العلم به، وأن ذلك باطلٌ.
__________
= (1178)، وأبو داود (1425)، والبغوي (640)، والدارمي 1/ 373، والحاكم 3/ 172 و4/ 268 من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علمني جدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولهن في قنوت الوتر: وفيه: " إنك تقضي ولا يُقضى عليك ".
وأخرجه من حديث بريدة: الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 2/ 138. وهو حديث صحيح.
(1) تحرفت في (أ) إلى: ما مرّ.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): تحصى.
(4) في (ج): " نص "، وفي (ش): " نصوص كتاب ".
(5) في (ج): تكلّف.(5/123)
الوجه الثالث: أن نقول: إنه لا خلاف أنَّهم يحتاجون إلى دليلٍ قاطعٍ على منع هذا الاحتمال، وهو أن التمدُّح هنا راجع (1) إلى القدرة وكمال العزة، فإن رجعوا إلى الأدلة العقلية، فقد قدمنا الكلام فيها، ولم يزيدوا عليها (2) هنا إلا دليلهم المعروف بأن الحواسَّ سليمةٌ، والمدرك موجودٌ، والموانع مرتفعة. وللأشعرية معارضاتٌ كثيرةٌ لذلك موجودةٌ في كتبهم الكلامية.
وأما أهل السنة، فَيُنَازِعُون في أن الموانع مرتفعةٌ لورود نصوص الكتاب والسنة بمنع الحجب من ذلك على الوجه الذي لا يحيط بعلمه إلاَّ الله تعالى، كما تقدَّم تقريره في كلام ابن تيمية في نفيهم للكيفية عن ذات الله تعالى. وكل ما يتعلَّق بها، وإن رجعوا إلى الأدلة السمعية في منع رجوع التمدح إلى القدرة، فهي عليهم، لا لهم، كما تقدَّم. وإنما احتجَّ في الشرح بأمرين:
أحدهما: أن هذا خلاف تفسير المفسِّرين، وهذا مردودٌ عليه (3) ومُعَارضٌ بمثله وسيأتي ما في ذلك من تفاسير الصحابة والتابعين من نقل أئمة الحديث وراجعٌ إلى القطع بالنفي عند عدم العلم. وقد مرَّ بطلانه.
وأما قوله: إنه خلاف الظاهر، فليس في الظاهر ذكر العلم في ذلك، لا بالذات -كما زعمت المعتزلة- ولا بالقدرة، وإنما أُخِذَت هذه العلة في التمدح من ذكر الحجاب في نصوص الكتاب والسنة، ومن النص على (4) أن الله تعالى تجلَّى للجبل، فجعله دكّاً، وجعل ذلك عقيب سؤال موسى موعظة لموسى وتسليةً، لأنه بذلك عرف أنه سأل ما لا يقدرُ عليه، وكذلك قوله: إنه تمدُّحٌ راجعٌ إلى ذاته، ليس من الظاهر في شيءٍ، وإنما هو عند الخصوم بأدلةٍ عقلية خارجةٍ.
__________
(1) من قوله: " إنه لا خلاف " إلى هنا ساقط من (ج).
(2) في (أ): " علمنا "، وهو خطأ.
(3) في (أ): عليهم.
(4) ساقطة من (ج).(5/124)
وبالجملة، فتعليل المعتزلة بأن ذلك أمرٌ ذاتيٌ ليس في الآية (1)، كما أن تعليل المحدِّثين ليس فيها، وإنما هما أمران زائدان، كلُّ من أثبت أحدهما أثبته بدليلٍ منفصلٍ. والأمر الزائد لا يُقالُ فيه: إنه خلافُ الظاهر، بل يتوقف على الدليل الصحيح، وعلى تسليم أنه خلافه مشترك الإلزام، وهو جائزٌ وفاقاً، لكن كلام أهل الحديث أصح لثلاثة وجوهٍ:
أحدها: أن التجويز يكفيهم كما تقدم، ولا يكفي المعتزلة إلاَّ القاطع.
وثانيها: أن الأدلة السمعية دلت عليه.
وثالثها: أن كلام المعتزلة يقتضي أن الله تعالى لا يَقْدِرُ يَرَى ذاته، ولا يقد يُريها أحداً من خلقه. وفي هذا معارضة قدرته على كل شيء، وما يدل على ذلك، ولا يمتنع أن يكون التمدح مخصوصاً (2) بالعموم في جميع الأشخاص والأزمان، حيث لم يعارض العزة والكبرياء معارض الرحمة والمثوبة والإكرام،.
كما أن الله تعالى ممدوحٌ عند الخصوم بأنه لا يُثيب (3) الجميع ويعظمهم، وإنما يفعل ذلك لمن يستحقُّه، فلا يمتنع مثله هنا.
قال الشيخ: (4)
فصل: الدليل السابع: قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23]، وأنت إذا أجرت (5) هذه الآية من تحريفها عن مواضعها، والكذب على المتكلم بها سبحانه، فيما (6) أراد منها، وجدتها مناديةً نداءً
__________
(1) عبارة " ليس في الآية " ساقطة من (أ).
(2) من قوله: " الراجع إلى الذات " في ص 424 إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (أ): " يثبت " وهو تحريف.
(4) يعني العلامة ابن القيم في " حادي الأرواح " ص 203.
(5) في (ج): " إذ أجرت "، وفي (ش): " إذا أجريت ".
(6) في (ش): استعان فيما.(5/125)
صريحاً (1)، أن الله سبحانه يُرى عياناً بالأبصار يوم القيامة، وإن (2) أبيت إلا تحريفها الذي يُسمِّيه المحرِّفون تأويلاً، فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والميزان (3) والحساب أسهل على أربابه من تأويلها، وتأويل كلِّ نص تضمَّنه القرآن والسنة كذلك. ولا يشاء مبطلٌ على وجه الأرض (4) أن يؤوِّلَ النصوص، ويحرِّفَها عن مواضعها، إلاَّ وجد إلى ذلك مِنَ السبيل ما وجده متأوِّل مثل هذه النصوص، وهذا الذي أفسد الدين والدنيا، وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محلُّه في هذه الآية، وتعديته بأداة (5) " إلى " الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدلُّ على أن المراد بالنظر المضاف إلى الوجه المعدَّى بـ " إلى " خلاف حقيقته. وموضوعه صريح (1)، في أن الله سبحانه أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى نفس الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعدِّيه بنفسه (6) فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، فإنْ عُدِّيَ بـ " في "، فمعناه التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] وإن عُدِّيَ بـ " إلى "، فمعناه المعاينة بالأبصار، كقوله (7): {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 99]، فكيف إذا أُضيف إلى الوجه الذي هو محلُّ النَّظر.
وفي كلام الشيخ هنا نظرٌ من وجهين.
أحدهما: أنه موهمٌ أن أهل السنة ينسِبُون المخالفين لهم في هذه المسألة
__________
(1) في (ب): صحيحاً صريحاً.
(2) تحرفت في (أ) إلى: " وأنت "، وفي (ب): " وإن أتيت إلى ".
(3) ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).
(5) تحرفت في (ش) إلى: بأدلة.
(6) في (ب): في نفسه.
(7) في (ش): نحو ذلك.(5/126)
إلى العناد والتَّعمدُّ، وليس كذلك، وهذا هو الذي نحن قاصدون لِردِّه. وقد اعتمد أئمة السنة على رواية الثقات من المعتزلة والشيعة كما أوضحته في هذا المصنف، وأوضحه جميع من تكلم في الرجال، وحسبك أن النسائي (1) من أئمة الشيعة، وقد فضلوه على مسلمٍ صاحب " الصحيح ".
والوجه الثاني: أن النظر قد يُستعمل في غير الرؤية مُعَدّي بـ " إلى " (2) كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِم} [آل عمران: 77]، بل النظر في اللغة وعند أهل الكلام هو تقليب الحدقة الصحيحة في وجه (3) المرئيِّ طلباً (4) لرؤيته، وإن لم تحصل رؤية (5)، وذلك لا يجوز على الله في كل مذهب، فلا يختص نفيه عمَّن ذكر، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُون} [الأعراف: 198] وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} كناية عن إهمالهم لا سوى. والله أعلم.
والآية على هذا من الظواهر التي لا يجوز تأويلها إلاَّ بدليل، لا من النصوص الضرورية التي يكفر متأولها.
قال الشيخ (6): قال يزيد بن هارون: حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: نَظَرَت إلى ربها، فَنَضُرَتْ بنوره (7).
__________
(1) عبارة: " أن النسائي من " ساقطة من (ج).
(2) ساقطة من (أ).
(3) في (ب) و (ج) و (د): جهة.
(4) في (ش): طالباً.
(5) في (ب): رؤيته.
(6) " حادي الأرواح " ص 204.
(7) أخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة " ص 53 و143، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 121، والطبري في " جامع البيان " 29/ 192، والأجري ص 256، واللالكائي 3/ 464.(5/127)
فاسمع (1) الآن (2) أيُّها السُّنِّي تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه والتابعين وأئمة الإسلام لهذه الآية:
قال ابن مردويه في " تفسيره ". حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا صالح بن أحمد حدثنا يزيدُ بن الهيثم، حدثنا محمد بن الصَّباح، حدثنا مصعب بن المِقْدَام، حدثنا سفيان، عن ثور بن أبي فاخِتة، عن أبيه، في عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] قال: من البهاء والحُسْنِ (3) {إلى ربِّها ناظِرَة} قال: " في وجه الله عز وجل " (4).
وقال عن ابن عباس: {إلى ربها ناظرة}، قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل (5).
وقال عكرمة: {وجوهٌ يومئذٍ ناضرة} قال: من النعيم: {إلى ربِّها ناظرة} قال: تنظر إلى ربِّها نظراً، ثم حكى عن ابن عباس مثله. وهذا قول كلِّ مفسِّرٍ من أهل السنة والحديث (6).
فصل: وأما الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الدالة على الرؤية، فمتواترة رواها عنه أبو بكر الصدّيق، وأبو هريرة الدوسي، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، وجرير ابن عبد الله البَجَلي، وصهيب بن سنان الرومي، وعبد الله بن مسعود الهُذلي، وعلي بن أبي طالب، وأبو موسى الأشعريُّ، وعدي بن حاتم الطائي، وأنس بن مالك الأنصاري، وبريدة بن الحصيب الأسلمي، وأبو رزين العقيلي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبو أُمامة الباهلي، وزيد بن ثابث، وعمار بن ياسر، وعائشة
__________
(1) في (ج): " واسمع "، وفي (ش): " واستمع ".
(2) ساقطة من (ش).
(3) جملة " قال: من البهاء والحسن " ساقطة من (ش).
(4) إسناده ضعيف لضعف ثوير بن أبي فاختة.
(5) انظر " السنة " لعبد الله ص 62، واللالكائي 3/ 464.
(6) انظر اللالكائي 3/ 463 - 466.(5/128)
أمُّ المؤمنين، وعبد الله بن عمر، وعمارة (1) بن رُويبة، وسلمان الفارسي، وحذيفة ابن اليمان، وعبد الله بن عباس (2)، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه موقوفٌ، وأُبيُّ بن كعب، وكعبُ بن عُجرة، وفَضالة بن عبيد وحديثه موقوفٌ، ورجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مسمَّى، فهاك سياق أحاديثهم من الصِّحاح والمسانيد والسُّنن، وتلقَّها بالقبول والتسليم وانشراح الصدر، لا بالتحريف والتبديل وضيق العَطَن، ولا تكذِّب بها (3)، فمن كذَّب بها لم يكن إلى وجه ربِّه من الناظرين، وكان عنه يوم القيامة من المحجوبين.
قلت: وقد ذكر الحاكم على (4) تشيعه في كتابه " علوم الحديث " (5) في النوع الموفي خمسين أنه قد جمع أخبار الرؤية في باب، وأن ذلك من الأبواب التي يجمعها أهل الحديث. انتهى.
فصل: فأمَّا حديث أبي بكر الصديق. فقال الإمام أحمد (6): حدثنا إبراهيمُ
__________
(1) تحرف في (ش) إلى: عمار.
(2) من قوله: " وعبد الله بن عمر " إلى هنا ساقط من (ج).
(3) ساقطة من (ش).
(4) تحرفت في (أ) إلى: في.
(5) ص 251.
(6) 1/ 4 - 5، وإسناده جيد. أبو نعامة: هو عمرو بن عيسى بن سويد بن هبيرة البصري، أطلق ابن معين والنسائي القول بتوثيقه، وقال أبو حاتم: لا بأس به، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وأخرج حديثه مسلم في " صحيحه "، وقال أحمد: ثقة إلاَّ أنه اختلط قبل موته، وقال الإمام الذهبي في " الكاشف ": ثقة، قيل. تغير بأخرة. وأبو هنيدة: هو البراء بن نوفل، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال ابن سعد في " الطبقات " 7/ 226: كان معروفاً قليل الحديث. ووالان العدوي: هو والان بن بيهس، أو ابن قرفة، وثقه ابن معين، وذكره ابن حبان في " الثقات "، وأخرج حديثه هذا في " صحيحه ".
وأخرجه المروزي في " مسند أبي بكر " (15) بتحقيقنا، وأبو عوانة 1/ 175 - 178، وابن أبي عاصم في " السنة " (751) و (712)، وأبو يعلى (56)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 310 - 312، والبزار (3465) من طرق عن النضر بن شميل، بهذا =(5/129)
ابن إسحاق الطالقاني: قال: حدثني النضر بن شُميل المازني، قال: حدثني أبو نعامة، قال: حدثني أبو هنيدة (1) البراء بن نوفل، عن والان (2) العدوي، عن حذيفة، عن أبي بكر الصديق. قال: أصبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يومٍ، فصلَّى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضُّحى ضَحِكَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم جلس مكانه حتى صلَّى الأُولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم، حتى صلى العشاء الآخرة، ثم قام إلى أهله. فقال الناس لأبي بكر: ألا تسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما شأنُه؟ صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قط. قال (3) فسأله (4)، فقال: " نعم، عُرِضَ عليّ ما هو كائنٌ من أمر الدنيا والآخرة، فجُمِعَ الأوَّلون والآخرون في صعيدٍ واحدٍ، ففظعَ الناس بذلك حتَّى انطلقوا إلى آدم - صلى الله عليه وسلم - والعَرَقُ يكاد يُلجِمُهُم (5)، فقالوا: يا آدم أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله عز وجل، اشفع لنا الى ربك، قال: لقد لقيت مثل الذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم، إلى نوح: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين} [آل عمران: 33] فقال (6): فينطلقون إلى نوح - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فأنت اصطفاك الله، واستجاب لك في دعائك، ولم يَدَعْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً. فيقول لهم: ليس ذلك عندي، انطلقوا إلى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله اتخذه خليلاً، فينطلقون إلى إبراهيم، فيقول: ليس ذلكم (7) عندي. انطلقوا إلى
__________
= الإسناد، وصححه ابن حبان (6476) طبع مؤسسة الرسالة.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 374، ونسبه إلى أحمد، وأبي يعلى، والبزار، وقال: ورجالهم ثقات.
(1) في (ش): " هنيد "، وهو تحريف.
(2) تحرفت في (ب) إلى: دلان.
(3) ساقطة من (أ).
(4) في (ش): فسألته.
(5) في (ب): يلجم.
(6) في (ش) و" المسند " و" حادي الأرواح ": قال.
(7) في (ب) و" مسند أحمد ": ذاكم.(5/130)
موسى - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله عزَّ وجلَّ كلَّمه تكليماً، فيقول موسى - صلى الله عليه وسلم -. ليس ذلك عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى بن مريم، فإنه كان (1) يبرىء الأكمه والأبرص، ويُحيي الموتى، فيقول عيسى: ليس ذلكم (2) عندي. انطلقوا إلى سيد ولد آدم، انطلقوا إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فليشفع لكما إلى ربكم عز وجل، قال: فينطلق فيأتي جبريل ربه (3) تبارك وتعالى، فيقول الله عز وجل: ائذن لهُ، وبشِّره بالجنة، فينطلق به جبريل - صلى الله عليه وسلم - فيخِرُّ ساجداً قدر جُمُعَةٍ، ويقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل تُسمَعْ، واشفَعْ تُشَفَّع. قال: فيرفع رأسه، فإذا نظر إلى ربه عز وجل، خرّ ساجداً قدر جمعة أخرى، فيقول الله عز وجل: ارفع رأسك، وقل تُسمع واشفع تُشَفَّعْ. قال: فيذهبُ ليقع ساجداً، فيأخذ جبريل بِضَبْعَيه، فيفتح الله عليه من الدعاء شيئاً (4) لم يفتحه (5) على بشرٍ قطُّ. فيقول: أي رب، خلقتني سيد ولد آدم ولا فخر، وأوَّل من تنشقُ الأرض عنه يوم القيامة ولا فخر (6) حتى إنه لَيَردُ علي الحوض أكثر ما بين صنعاء وأيلَةَ، ثم يقال: ادع الصدِّيقين، ثم يقال: ادعُ الأنبياء، قال (7) فيجيء النبي ومعه العِصابة، والنبي ومعه الخمسة؟ والستة، والنبيُّ وليس معه أحدٌ، ثم يقال: ادعوا الشهداء، فيشفعون لمن أرادوا، قال: فإذا فعلت الشهداء ذلك، قال: يقول (8) الله عز وجل: أنا أرحم الراحمين، أدخلُوا الجنة (9) من كان لا يُشرك بي شيئاً، قال: فيدخلون الجنة،
__________
(1) ساقطة من (ج)، ولم ترد في " المسند ".
(2) في (ش) و" حادي الأرواح ": " ذلك "، وفي (ج) و" المسند ": " ذاكم ".
(3) في (ج): إلى ربه.
(4) ساقطة من (ش)، وفي (أ) و (د): " ما " والمثبث من (ب) و (ج) و" المسند " و" حادي الأرواح ".
(5) في (د): يكن يفتحه.
(6) " ولا فخر " ساقطة من (ش).
(7) ساقطة من (ش).
(8) في (ش): فتقول.
(9) ساقطة من (ب)، وفي (ج): جنتي.(5/131)
قال: ثم يقول الله عز وجل: انظروا في النار، هل تَلْقَوْنَ من أحدٍ عَمِلَ خيراً قطُّ، قال: فيجدون في النار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيراً قط؟ فيقول لا، غير أني كنت أسامح الناس في البيع، فيقول الله عز وجل: اسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي، ثم يُخرجون من النار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيراً قط؟ قال: لا، غير أني قد أمرت ولدي إذا مِتُّ فاحروقوني بالنار، ثم اطحنوني (1)، حتى إذا كنت مثل الكُحْل، فاذهبوا بي إلى البحر، فاذروني في الرِّيح (2)، فوالله لا يقدر عليَّ رب العالمين أبداً. فقال الله عزَّ وجلَّ له: لِمَ فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك، قال: فيقول الله عز وجل: انظر إلى مُلَكِ أعظم ملك، فإن لك مثله وعشرة أمثاله، قال: فيقول: أتسخرُ بي، وأنت الملك؟ قال: وذاك الذي ضحكتُ منه من الضحى.
فصل: وأما حديث أبي هريرة، وأبي سعيدٍ، ففي " الصحيحين " (3)، و" الترمذي " (4) عن أبي هريرة أن ناساً قالوا: يا رسول الله. هل نرى ربَّنا يوم
__________
(1) تحرفت في (ش) إلى: اطرحوني.
(2) في (أ): البحر.
(3) أما حديث أبي هريرة، فهو في البخاري (7437)، ومسلم (182). وأخرجه أبو داود (4730)، والترمذي (2560)، وأحمد 2/ 275 و293 و368 و524، والحميدي (1178)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 170 و171 و174، وابن أبي عاصم في " السنة " (443) و (444) و (445) و (446) و (447) و (448) و (449) و (453) و (454) و (455) و (456) و (475)، والطيالسي (2383)، والآجري في " الشريعة " ص 259، وابن منده في الإيمان (802) و (803) و (804) و (805) و (807) و (808) و (809)، واللالكائي (814) و (817) و (819) و (824). وانظر " ابن حبان " (8429).
أما حديث أبي سعيد، فهو في البخاري (7439)، ومسلم (183). وأخرجه ابن خزيمة في " التوحيد " ص 169 و172 و173، وابن أبي عاصم في " السنة " (452) و (457) و (458)، والآجري في " الشريعة " ص 260 و261، واللالكائي (818).
وصححه ابن حبان (7377) بتحقيقي.
(4) ساقطة من (ب)، ولم ترد في " حادي الأرواح ".(5/132)
القيامة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل تُضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر؟ " قالوا: لا يا رسول الله. قال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحابٌ؟ " قالوا: لا. قال: " فإنكم ترونه كذلك ".
يجمع الله الناس يوم القيامة، فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتَّبعهُ: فيتَّبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورةٍ غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهيم الله عزَّ وجلَّ في صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه.
ويُضرَبُ الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمَّتي أول من (1) يُجيز، ولا يتكلم يومئذٍ إلاَّ الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلِّم سلِّم، وفي جهنم كلاليب مثل شوكِ السعدان، هل رأيتم السعدان "؟ قالوا (2) نعم يا رسول الله.
قال: " فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عِظَمِهَا إلاَّ الله عز وجل، تخطَفُ الناس بأعمالهم، فمنهم المُوثَقُ (3) بعمله، ومنهم المُجازى حتى ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يُخرج برجمته (4) من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يقول: لا إله إلاَّ الله، فيعرفونهم بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم (5) إلاَّ أثر السجود، وحرَّم الله على النار أن تأكل أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتَحَشُوا (6)، فيُصَبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحِبَّة
__________
(1) في (ش): ما.
(2) في (ج): فقالوا.
(3) قال القاضي: روي على ثلاثة أوجه، أحدها: المؤمن بقي، والثاني: الموثق، والثالث: الموبق، يعني: بعمله. وقال هو وغيره عن الرواية الثالثة: هي أصحها.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ج) و (ش): من ابن آدم.
(6) أي: احترقوا.(5/133)
في حميل السيل (1).
ثم يفرغ من القضاء بين العباد، ويبقى رجلٌ مقبل بوجهه على النار وهو من آخر أهل الجنة دخولاً الجنة، فيقول: أي ربِّ، اصرف وجهي عن النار، فإنه قد قشبني (2) ريحُها، وأحرقني ذَكَاؤُها، فيدعو الله ما شاء الله أن يدعوه، ثم يقول الله تبارك وتعالى: هل عسيت إن فعلت ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره، فيعطي ربه من عهودٍ ومواثيق ما شاء، فيصرف الله وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدِّمني إلى باب الجنة. فيقول الله: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك لا تسألني غير الذي أعطيتك؟ ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك فيقول: أي ربِّ، فيدعو الله، حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتُك ذلك أن تسأل (3) غيره؟ فيقول: لا وعزِّتِك، فيعطي ربه ما شاء من عهودٍ ومواثيق (4)، فيقدمهُ إلى باب الجنة. فإذا قام على باب الجنة انفهقت (5) له الجنة (6)، فرأي ما فيها من الخير والسرور، فيسكت (7) ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي ربِّ، أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك ألاَّ تسأل غير ما أُعطيت (8)؟ ويلك يا ابن آدم ما أغدَرَكَ! فيقول: أي ربِّ، لا أكون أشقى خلقك، فلا يزال
__________
(1) الحِبَّة: هي بزر البقول والعشب تنبت في البراري، وجوانب السيول، وجمعها حِبَب.
وحميل السيل: ما جاء به السيل من طين أو غثاء، ومعناه محمول السيل، والمراد التشبيه في سرعة النبات، وحسنه، وطراوته.
(2) أي: سمَّني، وآذاني، وأهلكني، وقوله: " وأحرقني ذكاؤها "، أي: لهبها واشتعالها.
(3) في (ب): تسألني.
(4) من قوله: " ما شاء فيصرف " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) أي: انفتحت واتسعت.
(6) قوله: " فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة " ساقط من (ج).
(7) في (ش) و (ج): فسكت.
(8) في (ش): أعطيتك.(5/134)
يدعو الله حتى يضحك الله عزَّ وجلَّ منه، فإذا ضَحِكَ منه، قال: ادخُل الجنة، فإذا دخلها، قال الله تعالى له: تَمَنَّهْ. فيسألُ ربه ويتمنى، حتى إن الله تعالى ليُذَكِّره يقول: من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال الله عز وجل: ذلك لك ومثله معه.
قال عطاء بن يزيد: وأبو سعيد الخدري مع أبي هريرة ما يَرُدُّ عليه من حديثه شيئاً حتى إذا حدَّث أبو هريرة أن الله عزَّ وجلَّ قال لذلك الرَّجل: ومثله معه، قال أبو سعيد: وعشرة أمثاله معه يا أبا هريرة قال أبو هريرة: ما حفظت إلاَّ قوله: ذلك لك ومثله معه، قال أبو سعيد: أشهد أني حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله (1) ذلك لك وعشرة أمثاله. قال أبو هريرة: وذلك الرجل آخر أهل الجنة دخولاً الجنة (2).
وفي الصحيحين و" النسائي " (3) أيضاً عن أبي سعيدٍ الخدري أن ناساً في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم هل تُضارُّون في رؤية الشمس بالظهيرة (4) صَحْواً ليس معها سحاب "؟ قالوا: لا يا رسول الله، " وهل تُضارُّون في رؤية (5) القمر ليلة البدر صحواً ليس فيها (6) سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلاَّ كما تضارون في رؤية أحدهما.
إذا كان يوم القيامة أذن مؤذِّنٌ ليتَّبِع كل أمة ما كانت تعبد (7)، فلا يبقى أحدٌ
__________
(1) في (ب): يقول.
(2) " دخولاً الجنة " ساقطة من (ش).
(3) لم ترد نسبته إلى النسائي في " حادي الأرواح "، وهو الصواب، فإن النسائي لم يروه، ولم يعزه المزي في " أطرافه " إليه. انظر " التحفة " 3/ 410.
(4) في (ش): في الظهيرة.
(5) من قوله: " الشمس بالظهيرة " إلى هنا ساقط من (ب).
(6) في (ب): فيه.
(7) في (ب): تعبده.(5/135)
كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلاَّ يتساقطون في النار، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبُدُ الله من بَرٍّ وفاجرٍ وغُبَّر (1) أهل الكتاب، فيُدعى اليهود، فيقال لهم: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد عزيراً ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ (2) من صاحبٍ (3) ولا ولدٍ، فماذا تبغون؟ قالوا: عطشنا يا ربُّ فاسقنا، فيُشارُ إليهم: ألا تَرِدُون (4)؟ فيُحشرون إلى النار كأنها سرابٌ يحطمُ بعضُها بعضاً فيتساقطون في النار.
ثم يدعى النصارى، فيقال لهم: ماذا (5) كنتم تعبدون؟ قالوا: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال لهم: كذبتم، ما اتخذ الله من صاحبةٍ ولا ولدٍ، فيقال ماذا تبغون؟ فيقولون: عطشنا يا ربنا (6) فاسقنا، قال: فتشار إليهم: ألا تردون (7)، فيحشرون إلى جهنم كأنهم سرابٌ يحطم بعضُهم بعضاً، فيتساقطون في النار.
حتى إذا لم يبق إلاَّ من كان يعبد الله من بَرٍّ وفاجرٍ، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورةٍ من التي رأوْهُ فيها، قال: فما تنتظرون (8)؟ لتتبع (9) كل أمةٍ ما كانت تعبد. قالوا: يا ربنا، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم. فيقول: أنا ربكم فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشركُ بالله شيئاً -مرتين أو ثلاثاً- حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية
__________
(1) الغُبّر: جمع غابر، أي: من بقايا أهل الكتاب. وقد تصحفت في الأصوله إلى: " غير ".
(2) في (ش): اتخذ الله.
(3) في (ب): " صاحبه " وكذا كتب فوقها في (أ).
(4) في (ش): فلا تروون.
(5) في (ش): ما.
(6) في (ش) و (ج): يا رب.
(7) في (ش): تروون.
(8) في الأصول: تنظرون.
(9) كذا الأصول غير (ش)، ففيها: " إذ تتبع "، ورواية مسلم: " تتبع " بلا " إذ " ولفظ البخاري: " ما يحبسكم وقد ذهب الناس ".(5/136)
تعرفونه بها؟ فيقولون: نعم. فيُكشَفُ عن ساقٍ (1)، فلا يبقى من كان يسجد لله
__________
(1) في (ش): فيكشف الله عن ساق، ولفظ البخاري (4919) من طريق سعيد بن أبي هلال: " يكشف ربنا عن ساقه " قال الإسماعيلي كما في " الفتح " 8/ 664 بعد أن أخرجه من رواية سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم: وقوله " عن ساقه " نكرة، ثم أخرجه من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد بن أسلم بلفظ " يكشف عن ساق "، وقال: هذا أصح لموافقتها لفظ القرآن في الجملة.
قلت: وقد جاء عن ابن عباس في قوله تعالى: {يوم يكشف عن ساق} قال: عن شدة في الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق: إذا اشتدت به، ومنه:
قد سَنَّ أصحابُك ضَرْبَ الأعناقِ ... وقامت الحربُ بنا على ساقِ
وأسند البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 345 الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب، ثم أنشد الرجز المتقدم.
وأسند البيهقي أيضاً ص 346 من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد القيامة والساعة لشدتها.
وأنشد الإمام الخطابي كما في " الأسماء والصفات " في إطلاق الساق على الأمر الشديد:
عَجِبتُ من نفسي ومن إشفاقِها ... ومن طرادي الطيرَ عن أرزاقها
في سَنَةٍ قد كشفت عن ساقِها
وفي " جامع البيان " 29/ 38 للطبري: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمر شديد.
وقال الآلوسي في " تفسيره " 29/ 34 - 35: المراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق: ما فوق القدم، وكشفها والتشمير عنها مَثَلٌ في شدة الأمر، وصعوبة الخطب، حتى إنه يستعمل بحيث لا يُتصور ساق بوجه، كما في قول حاتم:
أخو الحرب إن عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها ... وإن شَمَّرتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا
وقال الراجز:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها .......
وأصله بشمير المخدرات عن سُوقهن من الهرب، فإنهن لا يفعلن ذلك إلاَّ إذا عَظُم الخَطْبُ، واشتدَّ الأمرُ، فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة، وقد روي أيضاً عن ابن عباس. أخرج عبد بن =(5/137)
تعالى من تلقاء نفسه إلاَّ أذن الله له (1) بالسجود، ولا يبقى من كان يسجُدُ اتِّقاء ورياءً إلاَّ جعل الله ظهره طبقةً واحدةً، كلما أراد أن يسجد، خرَّ على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحوَّل في صورته (2) التي رأوه فيها أول مرةٍ، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربُّنا.
ثم يُضرَبُ الجسر على جَهَنَّم، وتحُلُّ الشفاعة. قيل: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: " دحضٌ مَزِلَّةٌ، فيه خطاطيف وكلاليبُ وحَسَكَةٌ تكون بنَجدٍ (3) فيها شويكةٌ يقال لها: السعدان، فيمرُّ المؤمنون كَطَرْفِ العين (4)، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومخدوشٌ مرسلٌ، ومكدوسٌ في نار جهنم، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما من أحدٍ منكم بأشدَّ مناشدة في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويُصلُّون، ويحُجُّون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتُحَرَّمُ صورهم على النار، فيُخرِجُون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى أنصاف ساقيه وإلى رُكبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحدٌ مِمَّن أمرتنا، فيقول: ارجعوا، فَمَنْ وجدتم في قلبه مثقال دينارٍ من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نَذَرْ فيها أحداً ممن أمرتَنَا، ثم يقول: ارجِعُوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال (5) نصف دينار من
__________
= حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصحه، والبيهقي في " الأسماء والصفات " من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه سُئل عن ذلك، فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب، أما سمعتم قول الشاعر:
صبراً عناق إنه شر باق ... قد سَنَّ لي قومُك ضربَ الأعناقِ
وقامت الحربُ بنا على ساق
(1) ساقطة من (ش).
(2) تحرفت في (ش) إلى: تصوره.
(3) تحرفت في الأصول إلى: تتخذ.
(4) ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (ج).(5/138)
خيبر فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نَذَرْ فيها ممن أمرتنا أحداً. ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرةٍ من خيرٍ فأخرجوه، فيُخرجون خلقاً كثيراً، ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً.
وكان (1) أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرؤوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40].
فيقول الله عز وجل: شَفَعتِ الملائكة، وشفع النبيون، وشفع (2) المؤمنون، ولم يبق إلاَّ أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حُمَماً، فيُلقيهم في نهرٍ في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فيخرُجون كما تخرج الحِبَّة في حَميل السيل. ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر (3)، وما يكون منها إلى الظِّلِّ يكون أبيض؟ " فقالوا: يا رسول الله، كأنك كنت ترعى بالبادية! قال: " فيخرجُون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم يعرفهم أهل الجَنَّة هؤلاء عُتَقَاء (4) الله الذين أدخلهم الله الجنة (5) بغير عملٍ عملوه، ولا خير قدَّموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا، أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين. فيقول لكم عندي أفضلُ من هذا، فيقولون: ربنا، وأيُّ شيءٍ أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخطُ عليكم بعده أبداً " (6).
__________
(1) في الأصول: " وقال "، والمثبت من (ب) و"صحيح مسلم " و" حادي الأرواح ".
(2) في (ش): ويشفع.
(3) في (ش): أصفر وأخضر.
(4) في الأصول: " شفعاء "، والمثبت من (ب) و (ج) ومصادر التخريج، وكذا كتب فوقها في (أ).
(5) وردت في (أ): فقط.
(6) أخرجه بطوله البخاري (7439)، ومسلم (183)، وأحمد 3/ 16، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (237)، وأخرج بعضه البخاري (6549) و (6560).(5/139)
فصل: وأما حديث جرير (1) بن عبد الله، ففي " الصحيحين " من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم عنه، قال: كنَّا جلوساً مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: " إنكم سَتَرَوْنَ ربَّكم عِياناً كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغْلَبُوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا "، ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوب} (2) [ق: 39].
رواه عن إسماعيل بن أبي خالد (3): عبد الله بن إدريس الأودي، ويحيى ابن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن محمد (4) المحاربي، وجرير بن عبد الحميد، وعبيدة بن حميد، وهشيم (5) بن بشير، وعليُّ بن عاصم، وسفيان بن
__________
(1) تحرف في (ب) إلى: جابر.
(2) أخرجه البخاري (554) و (573) و (4851) و (7434) و (7435) و (7436)، ومسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2554)، وابن ماجه (177)، وأحمد 4/ 360 و362 و365، والحميدي في " مسنده " (799)، وابن أبي عاصم في " السنة " (443) و (444) و (445) و (446) و (447) و (448) و (449) و (450) و (451)، والأجري ص 257 - 259، وابن منده في " الإيمان " (791) و (792) و (793) و (794) و (795) و (796) و (797) و (798) و (799) و (800) و (801) و (815)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 168، 169، واللالكائي (825) و (826) و (827)، والطبراني في " الكبير " (2224) و (2225) و (2226) و (2227) و (2229) و (2232) و (2233) و (2234) و (2235) و (2236) و (2237) و (2288) و (2292).
وصححه ابن حبان (7442).
(3) موارد هذه الروايات تنظر في " صحيح ابن حبان " وكتاب " الإيمان " لابن منده، و" السنة " لابن أبي عاصم، و" شرح أصول اعتقاد أهل السنة " للالكائي، وكتاب " الرؤية " للدارقطني. وذكر الحافظ في " الفتح " 13/ 427 أن شيخ الإسلام الهروي ساقه في كتاب " الفاروق " من رواية أكثر من ستين نفساً عن إسماعيل بلفظ واحد.
(4) ساقطة من (ب).
(5) تحرفت في (ج) إلى: هشام.(5/140)
عيينة، ومروان بن معاوية، وأبو أسامة (1)، وعبد الله بن نُمير، ومحمد بن عُبَيْدٍ، وأخوه يعلى بن عبيد، وكيعُ بن الجَّراح، ومحمد بن فضيل (2)، والطُّفاوي، ويزيد بن هارون، وإسماعيل بن أبي (3) خالد، وعنبسة بن سعيد، والحسن بن صالح بن حيّ، وورقاء بن عمر، وعمَّار بن رُزيق (4)، وأبو الأغر سعيد (5) بن عبد الله، ونصر بن طريف، وعمار بن محمد، (6) والحسن بن عياش أخو أبي بكر، ويزيد بن عطاء، وعيسى بن يونس، وشعبة بن الحجَّاج، وعبد الله بن المبارك، وأبو حمزة السُّكَّري، وحسين بن واقد، ومُعتَمِرُ (7) بن سليمان، وجعفر بن زياد، وخداش بن المهاجر، وهُرَيْم (8) بن سفيان، ومِنْدَلُ (9) بن علي، وأخوه حِبَّان بن علي، وعمرو (10) بن مرثد، وعبد الغفار بن القاسم، ومحمد بن بشر الحريري، ومالك بن مغول، وعصام بن النعمان، وعلي بن القاسم الكندي، وعُبيدة بن الأسود الهمداني، وعبد الجبار بن المقياس، والمُعلَّى بن هلال، ويحيى بن زكريا بن أبي زائدة، والصباح بن محارب، ومحمد بن عيسى، وسعيد بن حازم، وأبان بن أرقم، وعمرو بن النعمان، ومسعود بن سعدٍ الجعفيُّ، وغنَّام بن علي، وحسن بن حبيب، وسنان بن هارون البُرجمي، ومحمد بن سعيد (11) الواسطي، وعمرو بن هشام، ومحمد بن مروان، ويعلى بن
__________
(1) هو حماد بن أسامه كما في " تهذيب الكمال " 3/ 71.
(2) تحرفت في (ش) إلى: فضل.
(3) ساقطة من (أ).
(4) تحرف في (ب) إلى: زريق.
(5) في (ش): سعد.
(6) في (ش): بن.
(7) في (ش): " معمر "، وهو تحريف.
(8) في (ب): " هذيم "، وهو تحريف.
(9) تحرفت في الأصول إلى: مدل.
(10) في (ش): " معمر "، وهو خطأ.
(11) ساقطة من (ج).(5/141)
الحارث المحاربي، وشعيب (1) بن راشد، والحسن بن دينار، وسلاَّم بن أبي مطيع، وداود بن الزِّبرِقان، وحمادُ بن أبي حنيفة، ويعقوب بن حبيب، وحَكَّام بن سلم، وأبو مقاتل بن حفص، ومسيب (2) بن شريك، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت، وعمرو بن شمر الجُعفي، وعمرو بن عبد الغفار الفُقيمي (3)، وسيف بن هارون البُرجميُّ أخو سنان، وعائذ بن حبيب، ومالك بن سعد (4) بن الحسن، ويزيد بن عطاء مولى ابن عوانة، وخالد بن يزيد، وعُبيدُ (5) الله بن موسى، وخالد بن عبد الله الطحان، وأبو كُدَيْنَة (6) يحيى بن المهلَّب، ورَقَبَة بن مَصْقَلَة (7)، ومَعْمَرُ بن سليمان الرَّقِّي، ومرَجَّى بن رجاء، وعمرو بن جرير، ويحيى بن هاشم السمسار، وإبراهيم بن طهمان، وخارجة بن مصعب، وعبد الله بن عثمان - شريك شعبة- وعبد الله بن فرُّوخ، وزيد بن أبي أُنيسة، وجوَّده، فقال: " ستُعَاينُون ربكم عزَّ وجلَّ كما تعاينون هذا القمر ". وأبو شهاب الحنَّاط، وقال: " سترون ربكم عِياناً "، وجارية (8) ابن هرم، وعاصم بن حكيم، ومقاتل بن سليمان، وأبو جعفر الرازي، والحسن ابن أبي جعفر، والوليد بن عمرو، وأخوه عثمان بن عمرو (9)، وعبد السلام [بن] (10) عبد الله بن قُرة (11) العنبري، ويزيد بن
__________
(1) في (ب): سعيد.
(2) تحرفت في (ش) إلى شبيب.
(3) تحرفت في (أ) و (ج) و (د) إلى: " النقيمي "، وفي (ش): " التغمي "، والمثبت من " الجرح والتعديل " 6/ 246، و" الأنساب " 9/ 324.
(4) في (ب): سعيد.
(5) تحرفت في (ش) إلى: عبد.
(6) تحرفت في (ج) و (د) و (ش) إلى: لدينة.
(7) تحرف في (ش) إلى: مقصلة.
(8) تحرفت في (ش) و (ج) و" حادي الأرواح " إلى: " حارثة ". وجارية هذا مترجم في " الميزان "، وهو هالك.
(9) " ابن عمرو " ساقطة من (ش).
(10) زيادة من " حادي الأرواح ".
(11) في (ب): " مرة " وفي (ج): مرد.(5/142)
عبد العزيز، وعلي بن صالح بن حي، وزُفَر بن الهذيل، والقاسمُ بن معنٍ.
تابع إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس جماعة، منهم: بيان بن بشرٍ، ومُجالدُ بن سعيد، وطارق بن عبد الرحمن، وجرير بن يزيد بن جرير البَجَلِي، وعيسى بن المسيب، كلُّهم عن قيس بن أبي حازم.
فكل هؤلاء شهدوا على إسماعيل بن أبي (1) خالد، وشهد إسماعيل بن أبي خالد (2)، على (3) قيس بن أبي حازم، وشهد قيس (4) بن أبي حازم (5) على (6) جرير بن عبد الله، وشهد جريرٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنك تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (7)، وهو يقوله ويبلِّغه لأمته، ولا شيء أقرُّ لأعينهم منه.
فصل: وأما حديث صهيبٍ، فرواه مسلم في " صحيحه " من حديث حماد ابن سلمة عن ثابث، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صُهيبٍ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا دَخَلَ أهل الجنة الجنة، يقول الله عزَّ وجلَّ: تريدون شيئاً أزيدكم؟ يقولون: ألم تُبّيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتُنَجِّنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم " ثم تلا هذه الآية: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ} [يونس: 26]. وهذا حديث (8) رواه الأئمة عن حماد، وتلقَّوه عن نبيهم بالقبول والتصديق.
فصل: وأما حديث عبد الله بن مسعودٍ، فقال الطبراني: حدثنا محمد بن
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) جملة " وشهد إسماعيل بن أبي خالد " ساقطة من (ب).
(3) في الأصول: " عن "، والمثبت من (ب) و" حادي الأرواح ".
(4) ساقطة من (ب).
(5) من قوله: " فكل هؤلاء شهدوا " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) في (ش): عن.
(7) جملة " فكأنك تسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ساقطة من (ج).
(8) في (ش): الحديث. وتقدم تخريجه.(5/143)
النضر الأزدي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، والحضرمي، قالوا: حدثنا إسماعيل (1) بن عبيد بن أبي كريمة الحرَّاني، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني، عن أبي عبد الرحيم (2)، عن زيد بن أبي أُنيسة، عن المنهال بن عمرٍو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، حدثنا عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3): " يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، قياماً أربعين سنة، شاخصةً أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء ". قال (4): " وينزل الله عز وجل في ظُلَلٍ مِنَ الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس، ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه، ولا تشركوا به شيئاً أن يُولِّي كلُّ ناس منكم ما كانوا يتولَّون ويعبُدون في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى.
قال (4): فينطلق كُلُّ قوم إلى ما كانوا يعبدون ويتولَّون في الدنيا، فينطلقون ويُمَثَّل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان من الحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون. قال: ويُمَثَّل لمن كان يعبدُ عيسى شيطان عيسى، ويمثَّل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزيرٍ.
ويبقى محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمَّته، فيأتيهم الرب عز وجل، فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً ما رأيناه بعد، فيقول: هل تعرفونه إذا (5) رأيتموه؟ فيقولون: إن بيننا وبينه علامة إن (6) رأيناها عرفناها، قال: فيقول: ما هي؟ فيقولون: يكشف عن ساقه. قال: فعند ذلك يُكشَفُ عن ساق فيخرُّون
__________
(1) في (ب): " شعيب "، وهو خطأ.
(2) في (ب): عبد الرحمن.
(3) زيادة من " المجمع " 10/ 340، و" حادي الأرواح " ص 212.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب)، و" المجمع "، و" حادي الأرواح ": إن.
(6) في (ب)، و" المجمع "، و" حادي الأرواح ": إذا.(5/144)
له (1) سُجَّداً، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يريدون السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدْعَوْنَ إلى السجود وهم سالمون.
ثم يقول: ارفعوا رؤوسكم، فيرفعون رؤوسهم، ويعطيهم نورهم على قدر (2) أعمالهم، فمنهم من يُعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين يديه، ومنهم من يُعطى أصغر من ذلك، ومنهم من يُعطى نوراً مثل النخلة بيمينه (3)، ومنهم من يعطى نوراً أصغر من ذلك، حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوره على إبهام قدمه يضيءُ مرُّة، ويُطفَأُ مرة، فإذا أضاء، قدَّم قدمه فمشى (4)، وإذا طُفِىء، قام، والرَّبُّ تبارك وتعالى أمامهم، حتى يمرَّ في النار، فيبقى أثرٌ كحدِّ السيف، قال: ويقول: مرُّوا، فيمرون على قدر نورهم (5).
منهم من يمر كطرف العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشدِّ الفرس، ومنهم من يمرُّ كشدِّ الرَّحل، حتى يمر الذي أُعطِيَ نوره على إبهام قدمه يحبو (6) على وجهه ويديه ورجليه (7) تَخِرُّ (8) يدٌ وتَعْلَقُ يدٌ، وتخرُّ رجلٌ وتعلق رجلٌ، وتصيب جوانِبَهُ النار، فلا يزال كذلك حتى يَخلُصَ، فإذا خَلَص، وقف عليها، وقال: الحمد لله، لقد أعطاني الله ما لم يُعطِ أحداً إذ نجَّاني منها بعد إذ رأيتها. قال: فينطلق به إلى غديرٍ عند باب الجنة فيغتسل (9)، فيعود إليه
__________
(1) سقطت من (أ)، وفي (ش): لله.
(2) سقطت من (أ).
(3) ساقطة من (د).
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): قدرهم.
(6) في (ش)، و" المجمع ": يجثو.
(7) ساقطة من (أ).
(8) في (ب): تجر، وهو تصحيف.
(9) في (ش). فيغسل.(5/145)
ريحُ أهل الجنة وألوانهم، فيرى ما في الجنة من خلال الباب، قيقول: رب أدخلني الجنة، فيقول الله تبارك وتعالى له (1) اتسأل (2) الجنة وقد نجَّيتُك من النار؟! فيقول: رب اجعل بيني وبينها حِجاباً لا أسمع حَسِيسَها، قال: فيدخل الجنة، قال: ويرى (3) أو يُرفَعُ له منزلٌ أمام ذلك كأنما (4) الذي هو فيه إليه حلمٌ، فيقول: ربِّ أعطني ذلك المنزل، فيقول: فلعلك إن أعطيتُكه (5) تسأل غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأيُّ منزلٍ يكون أحسن منه، فيعطاه (6)، فينزلُه، قال ويرى أمام ذلك منزلاً آخر، كأنما هو فيه إليه حلمٌ، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول الله جل جلاله: فلعلك إن أعطيتُكه (7) تسأل غيره؟ قال: لا وعزَّتك، لا أسأل غيره، وأيُّ منزلٍ يكون أحسن منه؟ قال: فيعطى، فينزله، قال: ويرى أو يرفع له أمام ذلك منزلٌ آخر، كأنما هو فيه إليه حُلُم، فيقول: أعطني ذلك المنزل، فيقول الله جل جلاله: فلعلك إن أعطيتك إياه تسأل (8) غيره؟ قال: لا وعزتك لا أسألك غيره، وأي منزل يكون أحسن منه قال: فيعطاه، فينزله (9)، ثم يسكت، فيقول الله عز وجل: مالك لا تسأل؟ فيقول: ربِّ، لقد سألتُك حتى استحييتُك، وأقسمتُ لك حتى استحييتُك، فيقول الله عزَّ وجلَّ: ألا ترضى أن أعطيتك مثل الدنيا مذ يوم خلقتها (10) إلى يوم أفنيتها
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (أ): " تسأل "، وفي (ش): أسأل.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): ما كان.
(5) في (ب): " أعطيتك "، وفي (ش): " أعطيك هو".
(6) في (ب): فيعطى.
(7) في (ب): " أعطيتك "، وفي (ش): " أعطيتك إياه ".
(8) ساقطة من (ب).
(9) في (ش): فيعطى منزله.
(10) في (ش): من خلقها.(5/146)
وعشرة أضعافه؟ فيقول: أتستهزىء بي، وأنت ربُّ العِزة، فيضحك الرب عز وجل من قوله.
قال: فرأيت عبد الله بن مسعود إذا بلغ هذا المكان (1) من هذا الحديث ضَحِكَ. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، قد سمعتك تحدث هذا (2) الحديث مراراً، كلما بلغت هذا المكان ضحكتَ؟ فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدِّث هذا الحديث مراراً، كلما بلغ هذا المكان من هذا الحديث ضحك حتى تبدو أضراسه.
قال: فيقول الرب عز وجل: لا: ولكني على ذلك قادرٌ. سل. فيقول: ألحقني بالناس، فيقول: الحق بالناس قال: فينطلق يرمُل في الجنة حتى إذا دنا (3) من الناس، رُفِعَ له (4) قصرٌ من دُرَّةٍ، فيخرُّ ساجداً، فيقال (5) له: ارفع رأسك، مالك؟ فيقول: رأيت ربي، أو تراءى لي ربي، فيقال له إنما هو منزلٌ مِنْ منازلك، قال: ثم يلقى رجلاً، فيتهيّأُ (6) للسجود، فيقال له: مه، مالك؟ فيقول: رأيت أنك ملكٌ من الملائكة، فيقول: إنما أنا خازنٌ من خُزَّانِك، عبدٌ من عبيدك، تحت يدي ألف قهرَمَانٍ على مثل ما أنا عليه.
قال: فينطلق أمامه حتى (7) يفتح له القصر، قال: وهو في دُرَّةٍ مُجوَّفةٍ سقائفها وأبوابها وأغلاقها ومفاتيحها منها، تستقبله جوهرةٌ خضراءُ مُبَطَّنَةٌ بحمراء، كل جوهرةٍ تُفضي إلى جوهرةٍ فيها (8) سبعون باباً، كل بابٍ يُفضي إلى جوهرة
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): بهذا.
(3) في (ش): أتى.
(4) ساقطة من (د).
(5) في (ش): فيقول.
(6) في (ب): فيهيأ.
(7) في (ش): بحيث.
(8) ساقطة من (ب).(5/147)
خضراء مُبطنةٍ بحمراء، كل جوهرةٍ (1) تفضي إلى جوهرة على غير لون الأخرى، في كل جوهرة سُرُرٌ وأزواجٌ ووصائف، أدناهنَّ (2) حوراء (3) عيناء عليها سبعون حُلَّة، يُرَى مُخُّ ساقها من وراء حُلَلِهَا، كَبِدُها مرآتُه، وكبده مرآتُها، إذا أعرض عنها إعراضةً ازدادت في عينه سبعين ضعفاً عما كانت قبل ذلك، فيقول لها: والله لقد ازددتِ في عيني سبعين ضعفاً، وتقول له: والله وأنت (4)، لقد ازددت في عيني سبعين ضعفاً، (5) فيقال له: أشرف. قال: فيشرفُ، فيقال له: مُلكُكَ مسيرة مئة (6) عام ينفده بصره (7).
قال فقال عمر: ألا تسمع إلى ما يحدِّثنا ابن أمِّ عبدٍ يا كعب عن أدنى أهلِ الجنة منزلاً، فكيف أعلاهم؟ قال كعبٌ: يا أمير المؤمنين (8)، ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت، إن الله تعالى جعل داراً فيها ما شاء (9) من الأزواج والثمرات والأشربة، ثم أطبقها، فلم يرها أحدٌ من خلقه، لا جبريلُ ولا غيرُه من الملائكة.
ثم قرأ كعب: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].
قال: وخلق دون ذلك جنتين، فزيَّنهما بما شاء، وأراهما من شاء (10) من خلقه، ثم قال: من كان في عِلِّيِّين نزل تلك الدار التي لم يرها أحد، حتى إن
__________
(1) من قوله: " تفضي إلى جوهرة " ساقط من (ش).
(2) في (ش): أدناهم.
(3) في (ش): " حمراء "، وهو تحريف.
(4) ساقطة من (ب).
(5) من قوله: " وتقول له " إلى هنا، ساقط من (د).
(6) في (أ): ألف.
(7) في " المجمع ": بصرك.
(8) " يا أمير المؤمنين " ساقطة من (ش).
(9) في (ش): يشاء.
(10) في (ش): يشاء.(5/148)
الرجل من أهل عِلِّيِّين ليخرج فيسير في ملكه، فما تبقى خيمةٌ من خِيَمِ الجنة (1) إلا دخلها من ضوءِ وجههِ، فيستبشرون بريحه، فيقولون، واهاً لهذه الريح، هذا رجل من أهل عِلِّيِّين قد خرج يسير في ملكه. فقال: ويحك يا كعب، هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها. فقال كعب: والذي نفسي بيده، إنَّ لجهنم يوم القيامة لزفرةً ما يبقى من مَلَكٍ مقرَّبٍ ولا نبيٍّ مُرسلٍ إلاَّ خرَّ لركبتبه (2)، حتى إن إبراهيم خليل الله (3) عليه السلام يقول: ربِّ نفسي نفسي، حتى لو كان لك عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو (4).
هذا حديث كبيرٌ حسن رواه المصنِّفون في السنة كعبد الله بن أحمد (5)، والطبراني، والدارقطني في كتاب (6) " الرؤية ". رواه عن ابن صاعد، حدثنا
__________
(1) في (ش) و (ج): أهل الجنة.
(2) في (د) و (ش): لركبته.
(3) في (ش): الخليل.
(4) رجاله ثقات، وأبو عبد الرحيم: هو خالد بن أبي يزيد الحراني، وهو في " السنة " لعبد الله بن أحمد (1133)، وأخرجه عنه الطبراني في " الكبير " (9763).
وأخرجه الحاكم 4/ 589 - 592، والطبراني في " الكبير " (9763) من طريق عبد السلام بن حرب، عن أبي خالد الدالاني، عن المنهال بن عمرو، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: رواة هذه الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا لأبي خالد الدالاني في " الصحيحين " لما ذكر من انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة. وقال الذهبي في " تلخيصه ": ما أنكره حديثاً على جودة إسناده.
وأخرجه الحاكم مختصراً بالسند نفسه 2/ 376 - 377، وصححه، وهنا أقره الذهبي على تصحيحه.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 340 - 343، وقال: رواه الطبراني من طرق، ورجال أحدها رجال الصحيح غير أبي خالد الدالاني، وهو ثقة.
(5) في " السنة " (1133).
(6) في (أ): كتابه.(5/149)
محمد بن أبي (1) عبد الرحمن المقرىء، حدثنا أبي، حدثنا ورقاء بن عمر، حدثنا أبو طيبة، عن كُرز بن وَبْرَةَ، عن نُعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة، عن عبد الله (2).
ورواه من طريق عبد السلام بن حرب (3)، حدثنا الدالاني، حدثنا المنهال ابن عمرو، عن أبي (4) عبيدة (5).
ورواه من طريق زيد بن أبي أُنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة به.
ومن طريق أحمد بن أبي طيبة عن كُرز بن وبرة، عن نعيم بن أبي هند، عن أبي عبيدة.
فصل: وأما حديث علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه، فقال يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن المُصَفَّى (6)، حدثنا سُويدُ بن عبد العزيز، حدثنا عمرو بن خالد، عن زيد بن عليٍّ، عن أبيه، عن جده، عن عليِّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يزور (7) أهلُ الجنة الرب تبارك وتعالى في كل جُمعَة، وذكر ما يعطون. قال: " ثم يقول الله تبارك وتعالى: اكشِفُوا حجاباً فيَكشِفُ حجاباً (8)، ثم حجاباً، ثم يتجلى لهم تبارك وتعالى عن وجهه،
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) هذا منقطع، أبو عبيدة، لم يسمع من أبيه عبد الله، وقد ذكرت الواسطة في السند السابق، وهو مسروق بن الأجدع.
(3) تحرف في الأصول إلى: حريث.
(4) ساقطة من (ش).
(5) تحرف في (ب) إلى " أبي عبيد به " وأبو عبيدة: هو ابن عبد الله بن مسعود.
(6) تحرف في (ب) و (ش) إلى: المصطفى.
(7) في (ب) و (ش): يرون.
(8) " فيكشف حجاباً " ساقطة من (ش).(5/150)
فكأنهم لم يَرَوا نعيماً قبل ذلك. وهو قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (1) [ق: 35].
فصل: وسيأتي في الآثار عنه عليه السلام شاهدٌ لهذا من طريق ابن أبي حاتم. وتقدم له شاهدٌ عنه عليه السلام في الدليل الخامس من طريق الطبراني، وله طريقٌ رابعةٌ عنه عليه السلام، وهو حديثٌ آخر أخرجه الثعلبي في تفسير قوله: {يستبشِرُون بنعمةٍ من الله وفَضْلٍ} [آل عمران: 171].
ورواه عنه السيد صاحب الأصل المردود بكتاب " العواصم "، فقال السيد (2) ما لفظه: وروى الثعلبي بإسناده إلى عليِّ بن موسى الرضى عن أبيه موسى بن جعفر لا عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم السلام، وقد سأله شابٌ وهو يخطب ويحثُّ على الجهاد، عن فضل الغُزاة، فقال عليه السلام: كنت رديفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ناقته العضباء، فسألته عما سألتني عنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الغُزَاة إذا همُّوا بالغزاة، كتب الله لهم براءة من النار " ... وساق الحديث في فضلهم وختمه بقول: " فينظرون إلى الله تعالى بُكرةً وعَشِيّاً ". انتهى.
وأقل أحوال هذه الطرق الأربع أن يمتنع دعوى العلم القاطع بإجماع أهل البيت، خصوصاً مع ما في " الجامع الكافي على مذهب الزيدية " من مخالفة الأوائل لمن تأخر في الاعتقاد عموماً، ثم مخالفة بعضُ أكابرهم في هذه المسألة خصوصاً. وهذا الكتاب (3) الجامع الكافي " عمدة الزيدية في الكوفة،
__________
(1) إسناده هالك. سويد بن عبد العزيز ضعفه غير واحد، وقال البخاري: في حديثه نظر لا يحتمل. وعمرو بن خالد هو القرشي مولاهم، متروك، ورماه وكيع بالكذب. وأخرجه اللالكائي (852) من طريق يعقوب بن سفيان، به. وانظر ملحق " المعرفة والتاريخ " 3/ 395 - 396.
(2) " فقال السيد " ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ب).(5/151)
وموجودٌ في خزائن أئمتهم في اليمن كما ذكرته في الكلام على مسألة الأفعال، والذي أخرجه إلى اليمن السيد أحمد بن أمير الجيلى الزيدي الناصري العلامة الشهير، وخطُّه المعروف عليه بذلك مع ما يشهد (1) بمخالفة الأوائل لمتأخريهم في الاعتقاد مثل ما ذكره محمد بن منصور الزيدي، في كتابه " علوم آل محمد " في أول كتاب الحجِّ منه من (2) حديث النزول، وقوله في تأويله إن الله تعالى لا يزول من (3) مكانه، ونحو ذلك، قد ذكر مبسوطاً.
فصل: وأما حديث أبي موسى، ففي " الصحيحين " عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهبٍ آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلاَّ رداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدنٍ " (4).
وقال الإمام أحمد (5): حدثنا حسن بن موسى وعفان، قالا: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيدٍ، عن عمارة، عن أبي بُردَة، عن أبي موسى، قال: قال (6) رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله الأمم في صعيدٍ واحدٍ يوم القيامة، فإذا بدا (7)
__________
(1) في (ش): شهد.
(2) ساقطة من (ش).
(3) سقطت من (أ).
(4) أخرجه البخاري (4878) و (4880) و (7444)، ومسلم (180)، وأحمد 4/ 411 و416، والترمذي (2528)، وابن ماجه (186)، والدارمي 2/ 333، واللالكائي (834)، والآجري ص 262 و263 و264، والبيهقي في " البعث والنشور " ص 158، وصححه ابن حبان (7386).
(5) 4/ 407 و408 وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد وهو ابن جدعان التيمي البصري، وشيخه عمارة هو القرشي، قال الأزدي: ضعيف جداً. نقله عنه الذهبي في " المغني " 2/ 462.
(6) ساقطة من (ج).
(7) كتب فوقها في (أ): أذن.(5/152)
لله أن يصدع بين خلقه مثَّلَّ لكل قومٍ (1) ما كانوا يعبدون، فيتبعونهم حتى يقحمونهم النار، ثم يأتينا ربنا عزَّ وجلَّ ونحن في مكانٍ رفيعٍ، فيقول: من أنتم؟ فنقول: نحن المسلمون فيقول: ما تنتظرون؟ فنقول: ننتظر ربنا عز وجل، فيقول: وهل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون: نعم إنه لا عِدْلَ له، فيتجلى لنا ضاحكاً فيقول (2): أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس منكم أحد إلاَّ جعلتُ في النار يهودياً أو نصرانياً مكانه ".
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن عمارة القرشي، عن أبي بردة عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يتجلى لنا ربنا تبارك وتعالى ضاحكاً يوم القيامة (3).
وذكر الدارقطني من حديث أبان بن أبي عيَّاش، عن أبي تميمة الهُجيمي (4)، عن أبي موسى، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يبعث الله يوم القيامه منادياً بصوتٍ يسمعُه أولهم وآخرهم: إن الله عز وجل وعدكم الحسنى وزيادة، فالحسنى (5): الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ " (6).
فصل: وأما حديث عديِّ بن حاتم، ففي " صحيح البخاري " (7) قال: بينما
__________
(1) في (ش): " ينظر مثل قوم " وهو تحريف.
(2) في الأصول: " يقول "، والمثبت من (ش) و" المسند ".
(3) " يوم القيامة " ساقطة من (ش). وإسناده ضعيف كسابقه.
(4) تحرف في (أ) و (ش) إلى: الجهيمي.
(5) في (ش): والحسنى.
(6) تقدم تخريجه ص 418.
(7) برقم (3595) في المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، وأخرجه مختصراً البخاري (1413)، مسلم (1016) (67)، والترمذي (2415)، وأحمد 4/ 256 و 377، والآجري ص 269 و270، واللالكائي (834)، والطبراني 17/ (223) و (224) و (225)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (249) و (250) و (251) و (252)، وابن ماجه (185)، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 218 و219.(5/153)
أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجلٌ، فشكا (1) إليه الفاقة، ثم أتى إليه (2) آخرٌ فشكا إليه قطع السبيل، فقال: " يا عديُّ، هل رأيت الحيرة؟ " فقلت: لم أرها، وقد أُنبِئتُ عنها. قال: " فإن طالت بك حياةٌ لَتَرَيَنَّ الظَّعينة ترتحل من الحيرة، حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلاَّ الله "، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعَّار (3) طيِّءٍ الذين سعَّروا البلاد؟ " ولئن طالت بك حياة لتُفتَحَنَّ كنوز كسرى ". قلت: كسرى (4) بن هرمز؟! قال: كسرى بن هرمز. ولئن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الرجل يُخرِجُ ملءَ كفِّه من ذهبٍ أو فضةٍ يطلبُ من يقبله منه فلا يجد أحداُ يقبله منه، ولَيَلقيَنَّ الله أحدُكم يوم يلقاه (5) وليس بينه وبينه حجاب ولا تُرجُمانٌ يُترجِمُ له، فليقولن (6): ألم أبعث إليك رسولاً يبلِّغك؟ فيقول: بلى يا رب. فيقول: ألم أُعطِكَ مالاً وأفضِل عليك؟ فيقول بلى (7)، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلاَّ جهَنَّم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلاَّ جهنم ".
قال عدي: فسمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد شقَّ تمرةٍ، فبكلمةٍ طيبةٍ ".
قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحِلُ من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في (ش): يشكي وهو تحريف.
(2) في (ش): ثم أتاه.
(3) في (د): زعّار.
(4) " قلت كسرى " ساقطة من (ش).
(5) في (ب) و (ش): " القيامة "، وكذا في (أ)، وكتب فوقها " يلقاه ". و" يلقاه " لفظ البخاري.
(6) في (أ): فليقولن الله.
(7) في (د): بلى يا رب.(5/154)
فصل: وأما حديث أنس بن مالك، ففي " الصحيحين، من حديث سعيد ابن أبي (1) عروبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتَمُّون بذلك وفي لفظ فيُلهمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم، فيقولون أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يُريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هُناكُم. فيذكر (2) خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا نوحاً أول رسولٍ بعثه الله عز وجل.
قال: فيأتون نوحاً، فيقول: لستُ هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها (3)، ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم، ويذكر (4) خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها ولكن ائتوا موسى الذي كلَّمه الله تكليماً، وأعطاه التوراة، فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله، وكلمته، فيقول: لست هناكم، ولكن (5) ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم -، عبداً قد غفر الله له (6) ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر ". قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فيأتوني، فأستأذنُ على ربي، فيؤذَنُ لي، فإذا أنا (7) رأيته، فأقع ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تُسمع، وسل تعطَه، واشفع تُشفَّعْ، فأرفعُ رأسي، فأحمد ربي بتحميدٍ يُعَلِّمُنيه
__________
(1) ساقطة من (ج).
(2) في (ش): ويذكر.
(3) من قوله: " ولكن أئتوا نوحاً " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ب): فيذكر.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): " غُفر له "، وهي كذلك في " صحيح مسلم " المطبوع.
(7) ساقطة من (ب).(5/155)
ربِّي، فأشفع فيحُدُّ لي حدّاً، فأُخرِجُهم من النار وأدخلهم الجنة، ثم أعودُ فأقع ساجداً، فيدعُني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، وقُل (1) تُسمع، وسل تُعطَه، واشفع تُشَفَّع، فأرفعُ رأسي، فأحمد ربي بتحميدٍ يعلِّمُنيه ربي، ثم أشفع فيحُدُّ لي حدّاً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، قال: فلا أدري في الثالثة أو في (2) الرابعة. قال: فأقول: يا رب، ما بقي في النار إلاَّ من حبسه القرآن، أي: وجب عليه الخلود (3).
وذكر ابن خزيمة عن ابن عبد الحكم عن أبيه وشعيب بن الليث عن الليث، حدثنا معتمر (4) بن سليمان، عن حميد، عن أنس، قال: " يلقى الناس يوم القيامة ما شاء الله أن يلقَوهُ من الحبس، فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم فيشفع لنا إلى ربنا "، فذكر الحديث ... إلى إن قال: " فينطلقون إلى محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: أنا لها، فأنطلِقُ حتى أستفتح باب الجنة، فيُفتح لي (5)، فأدخلُ وربي على عرشه فأخرُّ ساجداً ... وذكر الحديث (6).
__________
(1) في (ب) و (ج): قل.
(2) ساقطة من (ش).
(3) أخرجه البخاري (4476) و (6565) و (7410)، ومسلم (193)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 247 و249، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 191، واللالكائي 3/ 477 - 478.
وقوله: " أي: وجب عليه الخلود " مدرج في الحديث من قول قتادة كما هو مبين في رواية البخاري ومسلم، وقد فسر به قتادة: " من حبسه القرآن " أي: من أخبر القرآن أنه يخلد في النار.
(4) تحرف في (ش) إلى: معمر.
(5) في (ج): لي باب الجنة.
(6) هو في كتاب " التوحيد " ص 303 من طريقين عن حماد بن مسعدة، حدثنا ابن عجلان، عن جُوثة بن عبيد، عن أنس بن مالك رفعه. وجوثه بن عبيد روى عنه عياش بن عباس، ومحمد بن عجلان، ونافع بن يزيد، وذكره ابن حبان في " الثقات " 4/ 120 وأرخ وفاته سنة 127 هـ فالسند حسن.(5/156)
وقال أبو (1) عوانة وابن أبي عروبة وهمام وغيرهم عن أنس في هذا الحديث: " فاستأذِنُ على ربي، فإذا رأيتُه، وقعت ساجداً. وساقه ابن خزيمة بسياقٍ طويل، وقال فيه: فأستفتح، فإذا نظرت إلى الرحمن وقعت له ساجداً.
ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - لربه في هذا المقام ثابتةٌ عنه ثبوتاً يقطع به أهل العلم بالحديث والسنة.
وفي حديث أبي هريرة (2): " أنا أول من تنشق عني الأرض يوم القيامة، ولا فخر، أنا (3) سيد ولد آدم ولا فخرٌ، وأنا صاحب لواء الحمد ولا فخر، وأنا أول من يدخل الجنة ولا فخر، آخُذُ بحلقة باب الجنة، فيُؤذن لي، فيستقبلني وجهُ الجبَّار جل جلاله، فأخرُّ له ساجداً ".
وقال الدارقطني: حدثنا محمد بن إبراهيم النسائي المعدَّل بمصر، حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر القاضي، حدثنا أبو بكر إبراهيم بن محمد، حدثنا الخليل بن عصر الأشجُّ، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قولِ الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، قال: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (4).
__________
(1) تحرف في (ش) إلى: ابن.
(2) هذا وهم من العلامة ابن القيم، تابعه عليه المصنف، صوابه: " وفي حديث أنس "، وهو في " المسند " 3/ 144، و" سنن الدارمي " 1/ 27 - 28، وفي " السنن الكبرى " للنسائي كما في " تحفة الأشراف " 1/ 295 - 296، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 296 - 297 من طرق عن الليث، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إني لأول الناس تنشق الأرض عن جمجمتي يوم القيامة ولا فخر ... وهذا سند قوي رجاله رجال الشيخين.
(3) في (ب) و (ش): وأنا.
(4) عبد الله بن محمد بن جعفر القاضي، قال الدارقطني في " سؤالات الحاكم " (115) و (264): كذاب يضع الحديث.(5/157)
حدثنا أبو صالح عبد الرحمن بن سعيد بن هارون الأصبهاني، ومحمد بن جعفر بن أحمد الطبراني، ومحمد بن علي بن إسماعيل الأيلي، قالوا: حدثنا عبد الله بن روحٍ المدائني، حدثنا سلام بن سليمان، حدثنا ورقاءُ وإسرائيل وشعبة وجرير بن عبد الحميد، كلهم قالوا: حدثنا (1) ليثٌ عن عثمان بن أبي حُميد، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أتاني جبريل وفي كفِّه كالمرآة البيضاء يحملها، فيها كالنُّكتَة السوداء، فقلت: ما هذه التي في يدِكَ يا جبريل؟ فقال: هذه الجمعة، فقلت: وما الجُمعة؟ فقال: لكم فيها خيرٌ كبيرٌ. قلت: وما يكون لنا فيها؟ قال: تكون عيداً لك ولقومك من بعدك، ويكون اليهود والنصارى تبعاً لكم، قلت (2): وما لنا فيها؟ قال: لكم فيها ساعة لا يسأل الله عبدٌ فيها شيئاً هو له قسمٌ (3) إلاَّ أعطاه إياه، أو ليس له بقسمٍ إلاَّ ادَّخر لهُ في آخرته ما هو أعظم له منه. قلت: ما هذه النكتة التي فيها؟ قال: هي الساعة، ونحن ندعوه (4) يوم المزيد، قلت: وما ذاك يا جبريل؟ قال: إن ربك اتَّخذ في الجنة وادياً فيه كُثبانُ المسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة هبط من عِلِّيِّين على كرسيه، فيُحَفُّ الكرسيُّ بكراسي من نورٍ، فيجيء النبيون حتى يجلسوا (5) على تلك الكراسي، وتُحَفُّ الكراسي (6) بمنابر من نورٍ ومن ذهبٍ مُكَلَّلةٍ بالجوهر، ثم يجيء الصديقون والشهداء حتى يجلسوا على تلك المنابر، ثم ينزل أهل الغرف من غُرفِهم حتى يجلسوا على تلك الكُثبان، ثم يتجلى لهم (7) عز وجل، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت علكيم نعمتي،
__________
(1) سقطت من (ش).
(2) في (ش): قال.
(3) عبارة " هو له قسم " ساقطة من (ب).
(4) في (ب) وندعوه.
(5) في (أ): يجلسون.
(6) في (ب): ويحف الكرسي.
(7) في (ب): ربهم.(5/158)
وهذا محل كرامتي، فسلوني. فيسألون حتَّى (1) ننتهي رغبتهم، فيُفتح لهم في ذلك (2) ما لا عينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشرٍ، وذلك بمقدار مُنْصرفِكُم من الجمعة. ثمَّ يرتفعُ على كرسيه عز وجل. ويرتفع معه النبيون والصديقون، ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم، وهي لؤلؤة بيضاء (3) أو زبرجَدَةٌ خضراء، أو ياقوتةٌ حمراء، غُرفُها وأبوابها فيها، أنهارُها مُطَّرِدَةٌ فيها، وأزواجها وخدَّامها، وثمارُها متدلِّيَةٌ فيها، فليسوا إلى شيءٍ أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا نظراً إلى ربِّهم، ويزدادوا منه كرامة (4).
__________
(1) في (ب): حتى.
(2) ساقطة من (ب).
(3) ساقطة من (أ).
(4) إسناده ضعيف. عثمان بن أبي حميد - واسم أبي حميد عُمير: ضعفه غير واحد، وقال ابن عدي: يكتب حديثه مع ضعفه.
أخرجه ابن أبي شيبة 2/ 150 - 151، وابن جرير في " جامع البيان " 26/ 175، والبزار (3519)، والآجري في " الشريعة " ص 265 من طريقين عن عثمان بن عمير، به.
وأخرجه الشافعي في " المسند" 1/ 126، و" الأم " 1/ 208 - 209 من طريق إبراهيم بن محمد، عن موسى بن عبيدة -وكلاهما ضعيف- عن أبي الأزهر معاوية بن إسحاق بن طلحة، عن عبد الله بن عبيد بن عمير أنه سمع أنس بن مالك ...
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 605، وزاد نسبته لابن أبي الدنيا في " صفة الجنة "، وابن المنذر، والطبراني في " الأوسط "، وابن مردويه، والبيهقي في " الرؤية "، وأبي نصر السجزي في " الإبانة ".
وأخرجه أبو يعلى (4228) بأخصر مما هنا عن شيبان بن فروخ، حدثنا الصَّعقُ بن خَزْنٍ، حدثنا علي بن الحكم البناني، عن أنس.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 421 - 422 وقال: رواه البزار والطبراني في " الأوسط " بنحوه وأبو يعلى باختصار، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح، وأحد إسنادي الطبراني، رجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وقد وثقه غير واحد، وضعفه غيرهم، وإسناد البزار فيه خلاف.
قلت: عبد الرحمن بن ثابت: حسن الحديث. وانظر " المطالب العالية " 1/ 157 - =(5/159)
هذا حديثٌ كبيرٌ عظيم الشأن رواه أئمة السنة (1) وتلقَّوه بالقبول، وجَمَّلَ به الشافعي " مسنده " (2). فرواه فيه عن إبراهيم بن محمد قال حدثني موسى بن عبيدة قال حدثني أبو الأزهر عن عبد الله بن عبيد بن عمير، أنه سمع أنس بن مالك فذكره بنحوه. وقد تقدم لفظه.
قال الشافعي (3): أخبرنا إبراهيم، قال حدثني أبو عمران إبراهيم بن الجعد، عن أنس شبيهاً به، وزاد فيه أشياء (4).
ورواه محمد بن إسحاق، قال: حدثني ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن عمير، عن أنس، به. وقال فيه: " ثم يتجلى (5) لهم ربُّهم حتى ينظروا إلى وجهه الكريم " .. وذكر (6) باقي الحديث.
ورواه عمر بن أبي قيسٍ (7) عن أبي طيبة، عن عاصمٍ، عن عثمان بن عُميرٍ، عن (8) أبي اليقظان، عن أنس وجوَّده وفيه: " فإذا كان يوم الجمعة، نزل على كرسيه، ثم حُفَّ الكرسى بمنابر من نور، فيجيء النبيون حتى يجلسوا عليها، ويجيء أهل الغُرَف حتى يجلسوا على الكُثُب، قال: ثم يتجلى لهم ربهم تبارك وتعالى، فينظرون إليه، فيقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، وهذا محلُّ كرامتي، فسلُوني، فيسألونه الرِّضا، قال: رضاي أنزلكم داري، وأنالَكُم كرامتي، فسلوني (9)، فيسألونه الرضا. قال: فيشهدهم
__________
= 159، وللحافظ ابن عساكر جزء سماه " القول في جملة الأسانيد الواردة في حديث يوم المزيد " بيَّن فيه وجوه الوهي فيها، وقال: إن لهذا الحديث عن أنس عدة طرق، في جميعها مقال.
(1) في (أ): أئمة أهل السنة.
(2) حديث رقم (422) بترتيب الساعاتي.
(3) رقم (423).
(4) من قوله: " وقد تقدم لفظه " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (ب): فيتجلَّى.
(6) في (ج) وذكرنا.
(7) في (ش): حدثنا ابن أبي قيس.
(8) ساقطة من (ب).
(9) في (ش): فاسألوني.(5/160)
بالرضا، ثم يسألونه حتى تنتهي رغبتهم ... وذكر الحديث.
ورواه علي بن حرب، حدثنا إسحاق بن سليمان، حدثنا عنبسة بن سعيد، عن عثمان بن عُمَيْرٍ.
ورواه الحسن بن عرفة، حدثنا عمار بن محمد (1) ابن أخت سفيان الثوري، عن ليث ابن أبي سليم، عن عثمان، وقال فيه: " ثم يرتفع على كرسيِّه، ويرتفع معه النبيون والصديقون والشهداء، ويرجِعُ أهل الغُرَف إلى غُرَفِهِم ".
ورواه الدارقطني من طريق أخرى من حديث قتادة، عن أنس، قال: سمعته يقول: بينا نحن حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ (2) قال: " أتاني جبريل في يده كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، قلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا يوم الجمعة يعرضه عليك ربك ليكون لك عيداً ولأُمَّتك من بعدك قال: قلت: يا جبريل، ما هذه النكتة السوداء؟ قال: هذه الساعة، وهي تقوم يوم الجمعة، وهو سيد أيام الدنيا، ونحن ندعوه في الجنة يوم المزيد. قال: قلت (3): يا جبريل ولِمَ تدعوه يوم المزيد. قال: إن الله عزَّ وجلَّ اتخذ وادياً أفيح من مسكٍ أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل ربُّنا عزَّ وجلَّ على كرسيه إلى ذلك الوادي، وقد خُفَّ العرش بمنابر من ذهبٍ مُكَلَّلةٍ بالجوهر، وقد حُفَّت تلك المنابر بكراسي من نورٍ، ثم يُؤذن لأهل الغرف، فيُقبلون يخوضون كثبان المسك إلى الرُّكَبِ، عليهم أسورة الذهب والفضة وثياب السندس والحرير، حتى ينتهو إلى ذلك الوادي. فإذا اطمأنوا فيه جلوساً، بعث الله عليهم ريحاً يقال لها: المُثيرة، فثارت (4) ينابيع المسك الأبيض في وجوههم وثيابهم، وهم (5)
__________
(1) في (ش): " سليمان "، وهو خطأ.
(2) في (أ): إذا.
(3) في (ش): فقلت.
(4) في (ش) فثارت عليهم من.
(5) في (ب): فهم.(5/161)
يومئذ جُرْدٌ، مُرْدٌ، مُكَحَّلون، أبناء ثلاث وثلاثين، على صورة آدم يوم خلقه عز وجل، فينادي ربُّ العزة تبارك وتعالى رضوان -وهو خازن الجنة- فيقول: يا رضوان، ارفع الحُجُب بيني وبين عبادي وزُوَّاري. فإذا رفع الحجب بينه وبينهم، فرأوا بهاءه ونوره هُيِّئوا (1) له بالسجود، فيناديهم تبارك وتعالى بصوته: ارفعوا رؤوسكم، فإنما كاذت العبادة في الدنيا، وأنتم اليوم في دار الجزاء، سلوني ما شئتم، فأنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فهذا محلُّ كرامتي، فسلوني ما شئتم، فيقولون: ربنا، وأيُّ خير لم تفعله بنا؟! ألستَ الذي أعنتنا على سكرات الموت، وآنست منا الوحشة في ظلمة القبور، وأمَّنت روعتنا عند (2) النفخة في الصور؟ ألست (3) أقلتنا عثراتنا (4)، وسترت علينا القبيح من فعلنا، وثبَّتَّ على جسر جهنَّم أقدامنا؟ ألست الذي أدنيتنا من جوارك، وأسمعتنا لَذَاذَةَ منطقك، وتجلَّيت لنا بنورك؟ فأي خيرٍ لم تفعله بنا؟ فيعود الله عز وجل، فيناديهم بصوته، فيقول: أنا ربكم الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، فسلُوني، فيقولون: نسألك رضاك، فيقول: برضاي عليكم: أقلتُكُم عثراتكم، وسترتُ عليكم القبيح من أموركم، وأدنيتُ مني جواركم، وأسمعتكم لذاذة منطقي، وتجليت لكم بنوري، فهذا محل كرامتي، فسلوني، فيسألونه (5) حتى تنتهي (6) مسائلهم، ثم يقول عز وجل: سلوني، فيسألونه حتى تنتهي رغبتهم، ثم يقول عز وجل: سلوني، فيقولون: رضينا ربنا وسلَّمنا، فيُريهم من مشهد فضله وكرامته ما لا عينٌ رأت، ولا أُذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، ويكود ذلك مقدار تفريقهم (7) من الجمعة.
__________
(1) في (ب): " هبوا "، وفي " حادي الأرواح ": " هموا ".
(2) في (ب): يوم.
(3) في (ش): لست الذي.
(4) في (ش): عثرتنا.
(5) في (ش): فيسألوه.
(6) ساقطة من (أ).
(7) في (ش): على مقدار تفرفهم.(5/162)
فقال أنسٌ: فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، ما مقدار تفرقهم؟ قال: كقدر الجُمعة إلى الجمعة (1) قال: ثم يحمل عرش ربنا تبارك وتعالى معهم الملائكة والنبيون، ثم يُؤذن لأهل الغرف، فيعودون إلى غرفهم، وهما غرفتان من زُمرُّدتين (2) خضراوين، وليسوا في شيءٍ أشوق منهم إلى الجمعة لينظروا إلى ربهم عز وجل، وليزيدهم من مزيد فضله وكرامته. قال أنس: سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بيني وبينه أحدٌ.
ورواه الدارقطني أيضاً عن أبي بكر النيسابوري، قال: أخبرني العبَّاس بن الوليد بن مَزْيَد (3)، قال: أخبرني محمد بن شعيب، قال: أخبرني عمر مولى غُفرة، عن أنس (4).
ورواه محمد بن خالد بن خليّ (5)، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا صفوان، قال: قال أنسٌ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (6) ...
ورواه أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الرحمن بن محمد عن ليث، عن عثمان بن عُمير (7) عن أنس (8) ...
__________
(1) من قوله: " فقال أنس " إلى هنا ساقط من (ب).
(2) في " الأصول ": زمردتان خضراوان "، وهو خطأ.
(3) تحرف في (أ) و (د) و (ش) إلى: " مرثد "، وتحرف في (ب) و (ج) إلى " زيد "، وفي " الروح ": يزيد.
(4) إسناده ضعيف عمر مولى غُفرة -وهو عمر بن عبد الله المدني مولى غفرة- قال الحافظ في " التقريب ": ضعيف كثير الإرسال.
(5) في الأصول: ورواه عمر عن خالد بن جلي، وهو تحريف، والمثبت من " حادي الأرواح "، وقد تحرفت فيه " خلي " إلى " جني ".
(6) محمد بن خالد بن خلي صدوق ومن فوقه من رجال الصحيح.
(7) تحرف في (ش) إلى: أبي عمير.
(8) المصنف 2/ 150.(5/163)
ورواه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خُزيمة، عن زهير بن حرب، حدثنا جريرٌ، عن ليثٍ، عن عثمان بن حُميد، عن أنس ...
ورواه عن الأسود بن عامر، قال: ذكر لي عن شريك، عن أبي اليقظان، عن أنس (1).
ورواه ابن بطة (2) في " الإبانة " من حديث الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة (3) وسيأتي سياقه، وقد جمع ابن أبي داود طُرُقَهُ.
فصل: وأما حديث بريدة بن الحصيب، فقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا أبو خالد عبد العزيز بن أبان القُرشي، حدثنا بشير (4) بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحدٍ إلاَّ سيخلو الله به يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب ولا تَرْجُمان " (5).
فصل: وأما حديث أبي رزين العُقيلي، فرواه الإمام أحمد من حديث شعبة
__________
(1) إسناده ضعيف لضعف شريك، وهو ابن عبد الله القاضي، وضعف أبي اليقظان عثمان بن أبي حميد.
(2) هو الإمام القدوة، العابد الفقيه المحدث، شيخ العراق، أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان العكبري الحنبلي المتوفى (387) هـ. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 16/ 529.
(3) رواه عن الأعمش القاسم بن مطيب كما سيأتي، وهو متروك.
(4) تحرف في الأصول إلى: بشر.
(5) إسناد ضعيف جداً. عبد العزيز بن أبان: متروك، وكذبه ابن معين وغيره.
وأخرجه ابن خزيمة في " التوحيد " ص 150 من طريق علي بن سلمة اللَّبَقِي حفظاً، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا حسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما منكم من أحدٍ إلاَّ وسيُكَلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه حِجابٌ ولا تَرجُمان " إسناده على شرط مسلم غير علي بن سلمة، وهو صدوق.(5/164)
وحماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عُدس، عن أبي رزين، قال: قلنا يا رسول الله، أكلُّنا يرى ربه عزَّ وجلَّ يوم القيامة؟ قال: " نعم " قلت: وما آية ذلك في خلقه؟ قال: " أليس كلَّكم ينظر إلى القمر ليلة البدر؟ قلنا: نعم. قال: " الله أكبر وأعظم " (1)، قال عبد الله: قال أبي: والصواب حُدُس (2).
وقال أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد ابن سلمة، به.
فقد اتفق شعبة، وحماد بن سلمة، وحسبُك بهما على روايته (3) عن يعلى ابن عطاء ورواه الناس عنهما، وعن أبي رزين فيه إسناد آخر، قد تقدم ذكره في حديثه الطويل، وأبو رزين العُقيلي له صحبة، وعِدادُه من أهل الطائف، وهو لقيط بن عامر، ويقال: لقيطُ بن صَبِرَة، هكذا قال البخاري (4) وابن أبي حاتم (5) وغيرهما، وقيل: هما اثنان، ولقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة، والصحيح الأول.
وقال ابن عبد البر (6) [فمن] قال لقيط بن صبرة: نسبه إلى جده، وهو لقيطُ
__________
(1) أخرجه أحمد 4/ 11 و12، وابنه عبد الله في " السنة ": (257) و (258) و (261) و (265) و (266) و (267)، وابن ماجه (180)، وأبو داود (4731) والطيالسي (1094)، والطبراني 19/ (465) و (466)، وابن أبي عاصم (459) و (460). ووكيع بن عدس: مقبول، وقد توبع عليه عند أحمد 4/ 13 - 14، وابن خزيمة ص 186 بسند ضعيف فيتقوى به.
(2) في " التقريب ": عُدُس بمهملات وضم أوله وثانيه، وقد يفتح ثانيه، ويقال بالحاء بدل العين.
(3) في (ش): رواية.
(4) في " التاريخ الكبير " 7/ 248.
(5) في " الجرح والتعديل " 7/ 177.
(6) في " الاستيعاب " 3/ 305 وما بين حاصرتين منه.(5/165)
ابن عامر بن صبرة.
فصل: وأما حديث جابر بن عبد الله: فقال الإمام أحمد، حدثنا روح (1)، حدثنا ابن جريج (2)، قال: أخبرني أبو الزبير أنه سمِع جابراً يسأل عن الورود، فقال: نجيءُ (3) يوم القيامة على كذا وكذا أي فوق الناس - فتُدْعَى الأمم بأوثانها، وما كانت تعبُدُ: الأول فالأول، ثم يأتينا ربنا بعد ذلك، فيقول: من تنتظرون؟ فيقولون: ننتظر ربَّنا، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: حتى ننظر إليك.
فيتجلى لهم تبارك وتعالى يضحك. قال: فينطلق بهم ويتبعونه، ويعطي كل إنسان (4) منهم، منافقٍ أو مؤمنٍ نوراً، ثم يتبعونه على جسر جهنم، وعليه كلاليب وحَسَكٌ تأخذ من شاء (5) الله تعالى، ثم يُطْفَأ نورُ المنافق، ثم ينجو المؤمنون.
فتنجو أوَّل زُمرةٍ، وجوهُهُم كالقمر ليلة البدر، وسبعون ألفاً لا يُحاسَبُون، ثم الذين يلونهم كأضوإ نجم في السماء، ثم كذلك، ثم تَحِلُّ الشفاعة حتى يخرج من النار من يقول (6): لا إله إلاَّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، فيجعلون بفناء الجنة ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبُتُوا نبات الشيء في السيل، ويذهب حُراقُه، ثم يسأل، حتى يجعل الله له الدنيا وعشرة (7) أمثالها معها " رواه مسلم في " صحيحه " (8).
__________
(1) " حدثنا روح " ساقطة من (ش).
(2) تحرف في " السنة " لعبد الله بن أحمد إلى: " خديج "، وفي " حادي الأرواح " حدثنا روح ابن جريج.
(3) في " السنة " و" المسند " و" حادي الأرواح ": " نحن "، وفي " صحيح مسلم ": نجيء نحن.
(4) في (ش): أناس.
(5) في (ج): " ما شاء "، وفي (ش): من يشاء.
(6) في (ب) و (ش) و" السنة " و" حادي الأرواح ": قال.
(7) في (ب) و (ج) و (ش): وعشر.
(8) أخرجه أحمد في " المسند " 3/ 383، وابنه عبد الله في " السنة " (269)، ومسلم (191). وأخرجه أحمد من طريق ابن لهيعة 3/ 245.(5/166)
وهذا الذي وقع في الحديث من قوله: كذا كذا قد جاء مفسراً في رواية صحيحة ذكرها عبد الحق (1) في " الجمع بين الصحيحين ": نجيء يوم القيامة على تلٍّ مشرفين على الخلائق.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا رباح بن زيد، قال: حدثني ابن جريج، قال: أخبرني زيادُ بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يتجلى لنا الرب تبارك وتعالى ننظر إلى وجهه، فيَخِرُّون له سُجَّداً، فيقول ارفعوا رؤوسكم، فليس هذا بيوم عبادةٍ " (2).
وقال الدارقطني: أخبرنا أحمد بن عيسى بن السَّكن، حدثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس، (3) حدثنا محمد بن شرحبيل الصنعاني، قال: حدثني ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يتجلَّى لنا ربنا عزَّ وجلَّ يوم القيامة ضاحكاً ".
وروى أبو قُرَّة عن مالك بن أنسٍ، عن زياد بن سعد، حدثنا أبو الزبير، عن جابر، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا كان يوم القيامة، جُمعت الأمم " ... فذكر الحديث. وفيه: " يقول: أتعرفون الله عزَّ وجلَّ إن رأيتموه، فيقولون: نعم (4)
__________
(1) هو الإمام الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأندلسي الإشبيلي المعروف بابن الخراط، كان فقيهاً حافظاً عالماً بالحديث وعلله، عارفاً بالرجال، موصوفاً بالخير والصلاح والزهد والورع ولزوم السنة والتقلل من الدنيا، صاحب مصنفات، وكتابه " الجمع بين الصحيحين " الذي ينقل عنه المصنف عمله بلا إسناد على ترتيب " صحيح مسلم "، ولم يطبع بعد. توفي سنة 582 هـ. انظر ترجمته في " السير " 21/ 198.
(2) رجاله ثقات.
(3) قال الذهبي في " الميزان " 1/ 143: كذبه أبو حاتم وابن صاعد، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال مرة: متروك، وقال ابن عدي: حدّث عن الثقات بمناكير. ومحمد بن شرحبيل الصنعاني: ضعفه الدارقطني كما في " الميزان " 3/ 579.
(4) " فيقولون نعم " ساقطة من (ش).(5/167)
فيقول: وكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون: نعلم أنه لا عِدْلَ له. قال: فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى، فيخرون له سُجَّداً (1).
وقال ابن ماجه في " سننه " (2)، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عاصمٍ العَبَّاداني، عن فضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سَطَعَ لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قوله عز وجلَّ: {سلامٌ قولاً من ربٍّ رحيمٍ} [يس: 58]. فلا يلتفتون إلى شيءٍ مِمَّا هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى فيهم بركته ونوره ".
وقال: حربٌ (3) في " مسائله ". حدثنا يحيى بن أبي حزم، حدثنا يحيى بن محمد أبو عاصم العباداني، فذكره، وعند البيهقي في هذا الحديث سياقٌ آخر، رواه أيضاً من طريق العباداني عن الفضل بن عيسى، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بينا أهل الجنة في مجلس لهم، إذ سطع لهم نورٌ على باب الجنة فيرفعون رؤوسهم، فإذا الرب تبارك وتعالى قد
__________
(1) رجاله ثقات، وأبو قرة: هو موسى بن طارق الزبيدي.
(2) رقم (184) وهو في " مسند البزار " (2253)، والآجري في " الشريعة " ص 267، و " أصول الاعتقاد " (836). وإسناده ضعيف. الفضل بن عيسى الرقاشي. ضعفه أحمد وابن معين وأبو داود والنسائي وغيرهم، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: منكر الحديث، في حديثه بعض الوهن ليس بقوي، وقال ابن عدي: الضعف بيِّنٌ على ما يرويه.
(3) هو حرب بن إسماعيل بن خلف الحنظلي الكرماني، قال عنه أبو بكر الخلال: كان رجلاً جليلاً، و" مسائله " هذه التي ينقل عنها ابن القيم قد سمعها من الإمام أحمد ودوَّنها، وسمعها منه أبو بكر الخلال، وقاله. إنها أربعة آلاف مسألة. انظر ترجمته في " طبقات الحنابلة " 1/ 145، و" المنهج الأحمد " 1/ 394.(5/168)
أشرف، قال: يا أهل الجنة سلوني، قالوا: نسألك الرضا عنا، قال: رضاي: أحَلَّكم داري، وأنالكم كرامتي هذا (1) أوانها، فسلوني. قالوا: نسألك الزيادة قال: فيؤتَون بنجائب من ياقوتٍ أحمر، أزِمَّتُها زمرُّدٌ أخضر، وياقوت أحمر، فجاؤوا عليها تضع حوافرها عند منتهى طرفها، فيأمر الله عز وجل بأشجارٍ عليها الثمار فتجيء جواري الحور العين (2)، وهنَّ يقُلن: نحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الخالدات، فلا نموت، أزواج قومٍ مؤمنين (3) كرام، ويأمر الله عز وجل بكُثبانٍ من مسكٍ أبيض أذفر، فيُثير (4) عليهم ريحاً يقال لها: المثيرة حتَّى تنتهي بهم إلى جنة عدنٍ، وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا، قد جاء القوم، فيقول: مرحباً بالصادقين (5)، مرحبا بالطائعين. قال: فيكشف لهم الحجاب، فينظرون الله تبارك وتعالى، فيتمتعون بنور الرحمن حتى لا ينظر بعضهم بعضاً، ثم يقول: أرجعوهم إلى قصورٍ (6) بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضاً.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك قوله تعالى: {نُزُلاً من غَفُورٍ رحيمٍ} [فصلت: 32] رواه في كتاب " البعث والنشور " (7) وفي كتاب " الرؤية ". قال: وقد مضى في هذا الكتاب، وفي كتاب " الرؤية " ما يؤكد هذا الخبر.
وقال الدارقطني: حدثنا الحسن بن إسماعيل، حدثنا أبو الحسن علي بن عبدة، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن أبي ذئب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله عزَّ وجلَّ يتجلى للناس عامة، ويتجلى لأبي بكرٍ خاصةً " (8).
__________
(1) ساقطة من (أ).
(2) في " البعث والنشور ": جوارٍ من الحور العين.
(3) ليست في " البعث ".
(4) في (ج): فينثر، وفي (ش): فتثير.
(5) قوله: " مرحباً بالصادقين " ساقط من (ب).
(6) في (ج) و (ش): قصورهم.
(7) رقم (448)، وإسناده ضعيف كسابقه.
(8) موضوع، آفته على بن عبدة، قال الدارقطني: كان يضع الحديث. =(5/169)
فصل: وأما حديث أبي أمامة، فقال ابن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن عطاءٍ الخُراساني، عن يحيى بن أبي (1) عمرو الشيباني، عن عمرو بن عبد الله
__________
= وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 12/ 19، ومن طريقه ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/ 306 أخبرني الأزهري، حدثنا علي بن عمر الدارقطني، بهذا الإسناد. وقال وهو باطل.
ثم أخرجه من طريق أبي حامد أحمد بن علي بن حسنويه المقرىء، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا ابن أبي ذئب، به. وقال: وهذا باطل أيضاً، والحمل فيه على أبي حامد بن حسنويه، فإنه لم يكن ثقة، ونرى أن أبا حامد وقع إليه حديث علي بن عبدة، فركبه على هذا الإسناد.
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " 5/ 1858، والذهبي في " الميزان " 3/ 120 من طرق عن علي بن عبدة، به وقال ابن عدي: هذا حديث باطل بهذا الإسناد، وقال الذهبي: أقطع بأنه من وضع هذا الشويخ على القطان.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 5/ 11 - 12، والحاكم 3/ 78 من طريقين عن محمد بن خالد الختلي، حدثنا كثير بن هشام، حدثنا جعفر بن برقان، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر. وقال أبو نعيم: هذا حديث ثابت رواته أعلام، تفرد به الختلي عن كثير.
وأورده السيوطى في " اللآلالىء " 1/ 287 من رواية أبي نعيم، وقال: تفرد به محمد بن خالد، وهو كذاب. وقال الذهبي: تفرد به محمد بن خالد الختلي، وأحسبه وضعه.
وأخرجه أيضاً أبو نعيم 5/ 11 من طريق محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر. وقال: غريب من حديث محمد.
وللحديث شواهد لا يفرح بها انظرها في " اللآلالىء المصنوعة " 1/ 286 - 288، و" تاريخ الخطيب " 2/ 388 و11/ 254 - 255، و" الموضوعات " 1/ 304 - 308.
قال الإمام ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/ 303: وقد تعصب قوم لا خلاق لهم يدَّعون التمسك بالسنة، فوضعوا لأبى بكر فضائل، وفيهم من قصد معارضة الرافضة بما وضعت لعلي عليه السلام، وكلا الفريقين على الخطأ، وذانك السيدان غنيان بالفضائل الصحيحة الصريحة عن استعارة وتخرص.
(1) ساقطة من (ش).(5/170)
الحضرمي، عن أبي أُمامة، قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فكان أكثر خطبته ذكر الدجال، يحذِّرُنَاه، ويحدثنا عنه، حتي فرغ من خطبته فكان فيما قال لنا يومئذٍ: " إن الله عزَّ وجلَّ لم يبعث نبياً إلاَّ حذَّره (1) أمته وإني آخر الأنبياء، وأنتم آخر الأمم، وهو خارجٌ فيكم لا محالة، فإن يخرج وأنا بين أظهركم، فأنا حجيح كل مسلم، وإن يخرج فيكم بعدي، فكل امرىءٍ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، إنه يخرج من خَلَّةٍ بين العراق والشام عاث يميناً وعاث شمالاً. يا عباد الله، اثبتوا، فإنه (2) يبدأ فيقول: أنا نبي. ولا نبي بعدي، ثم يثني فيقول: أنا ربكم، ولن تَرَوْ ربكم حتى تموتوا، وإنه مكتوبٌ بين عينيه " كافر " يقرؤه كل مؤمن (3)، فمن لقيه منكم (4)، فليتفُلْ في وجهه، وليقرأ بفواتح سورة أصحاب (5) الكهف، وإنه يُسلَّط (6) على نفس من بني آدم فيقتلها ثم يحييها، وانه لا يعدو ذلك، ولا يُسلَّط على نفسٍ غيرها، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فنارُه جنة، وجنته نارٌ، فمن ابتُلِيَ بناره فليُغمض عينيه، وليستغث بالله تكون (7) برداً وسلاماً، كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وإن أيامه أربعون يوماً: يوماً كسنة، ويوماً كشهرٍ، ويوماً كجمعةٍ، ويوماً كالأيام، وآخر أيامه كالسراب، يصبح الرجل عند باب المدينة، فيُمسي قبل أن يبلغ بابها الآخر " قالوا: فكيف نُصَلِّي يا رسول الله في تلك الأيام؟ قال: تقدُرُون فيها كما تقدرون في الأيام الطِّوال (8).
__________
(1) في (ج) و (ش): حذر.
(2) في (ب) و (ج) و (ش): وإنه.
(3) في (ش): مؤمن منكم.
(4) قوله: " فمن لقيه منكم " ساقط من (ش).
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): سلط.
(7) عند ابن ماجه: فتكون.
(8) إسناده ضعيف. عمرو بن عبد الله الحضرمي لم يوثقه غير ابن حبان ولم يرو عنه غير يحيى. =(5/171)
ورواه الدارقطني عن ابن صاعد، عن أحمد بن الفرج، عن ضمرة بن ربيعة، عن يحيى بن أبي عمرو به مختصراً.
فصل: وأما حديث زيد بن ثابت: فقال الإمام أحمد: حدثنا أبو (1) المغيرة، قال: حدثني أبو بكر، قال: حدثني ضمرة بن حبيب، عن زيد بن ثابت، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه دعاء، وأمره أن يتعاهد به أهله كل يوم، قال: " قل كل يوم حين تصبح: لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك، ومنك وإليك، اللهم ما قلتُ من قول أو نذرتُ من نذرٍ أو حلفتُ من حَلفٍ، فمشيئتك ببن يديه، ما شئت كان، وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلاَّ بك، إنك على كل شيءٍ قدير اللهم وما صليت من صلاةٍ، فعلى من صليت، وما لعنت من لعنة، فعلى من لعنت، أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً، وألحقني بالصالحين، أسألك اللهم الرضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلي لقائك من غير ضرَّاء مضرَّة، ولا فتنةٍ مضلَّةٍ، أعوذ بك -اللهم- أن أظلِمَ أو أُظلم، أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ، أو أكسِبَ خطيئةً مُحبطًة، أو ذنباً لا يُغفر.
اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة ذا الجلال والإكرام، فإني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا، وأشهدك - وكفى بك شهيداً
__________
= وأخرجه ابن أبي عاصم (429)، والآجري ص 375 - 376، واللالكائي (851)، وأبو داود (4322)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 185، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (864) كلهم من طريق يحيى بن أبي عمرو السيباني به. وقد تصحف " السيباني " في أكثر من موضع إلى: " الشيباني ".
وأخرجه ابن ماجه مطولاً (4077) من طريق إسماعيل بن رافع، عن أبي زرعة يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن أبي أمامة ... وسقط من إسناده عمرو بن عبد الله الحضرمي.
(1) في (ش): " بن " وهو تحريف.(5/172)
أني أشهد أنه لا إله إلاَّ أنت وحدك لا شريك لك، لك الملك، ولك الحمد، وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبدك ورسولك، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حقٌ (1)، والساعة آتية لاريب فيها، وأنت تبعث من في القبور، وأشهد أنك إن تَكِلني إلى نفسي تكلني إلى ضيعةٍ (2) وعورةٍ وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلاَّ برحمتك، فاغفر لي ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم " (3). رواه الحاكم في " صحيحه " (4).
فصل: وأما حديث عمار بن ياسر، فقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق الأزرق عن شريك، عن أبي هاشم، عن أبي مِجْلَزٍ، قال: صلى بنا عمار، فأوجز، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أُتم الركوع والسجود؟ قالوا: بلى. قال (5): أمَّا إني قد دعوت فيها بدعاءٍ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو به: "اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة
__________
(1) " والجنة حق " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): ضعف.
(3) إسناده ضعيف. أبو بكر -وهو ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي- ضعيف، وكان قد سُرِقَ بيته فاختلط.
وأخرجه أحمد 5/ 191، والحاكم 1/ 516، واللالكائي (846) من طريق أبي بكر، به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه هكذا، فتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر ضعيف فأين الصحة. ووقع عند اللالكائي: " حبيب بن عبيد بن صهيب " بدل " ضمره بن حبيب بن صهيب ".
تنبيه: وقع في " المسند " المطبوع زيادة " عن أبي الدرداء " بين ضمرة بن حبيب وزيد بن ثابت.
(4) في وصف " مستدرك الحاكم " بالصحيح تساهل غير مرضي، وقد وقع هذا لابن القيم رحمه الله في غير موضع من تآليفه، ولا أظنه يخفى عليه أن في " المستدرك " أحاديث كثيرة ضعافاً، ومنها ما هو موضوع.
(5) ساقطة من (ش).(5/173)
خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنا، ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرةٍ، ولا فتنةٍ مضلة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين (1).
وأخرجه ابن حبان والحاكم في " صحيحيهما ".
فصل: وأما حديث عائشة ففي " صحيح الحاكم " من حديث الزهري، عن عُروة عنها قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجابر: " يا جابر، ألا أبشِّرُك "؟ قال: بلى بشرك الله بخيرٍ. قال: أشعرت (2) الله أحيا أباك، فأقعده (3) بين يديه، فقال تمنَّ (4) علي عبدي ما شئت أعطكَهُ (5)، قال: يا ربِّ، ما عبدتك حق عبادتك، أتمنى عليك أن تَرُدَّني إلى الدنيا، فأقاتل مع نبيك فأُقتَلَ (6) فيك مرة أخرى. قال: إنه قد سلف مني أنك إليها لا ترجع (7).
__________
(1) شريك: هو ابن عبد الله القاضي، سيء الحفظ، لكن يقوى حديثه بالمتابعات، وهذا منها.
وأخرجه أحمد 4/ 264، والنسائي 3/ 53، وابن أبي شيبة 1/ 264 - 265 من طرق عن شريك، بهذا الإسناد. وأبو هاشم: يحيى بن دينار الرماني، وأبو مجلز: لاحق بن حميد السدوسي.
وأخرجه النسائي 3/ 54 - 55، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 12 وابن حبان (1971)، والحاكم 1/ 524 وغيرهم من طرق عن حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمار. وهذا سند قوي، فإن حماد بن زيد سمع من عطاء قبل اختلاطه.
(2) من قوله: " عائشة " إلى هنا بياض في (ج).
(3) في (ج): فأوقفه.
(4) في الأصول: " تمنَّى "، والمثبت من (ش) و" المستدرك ".
(5) في (ب) و" المستدرك ": أعطيكه.
(6) عبارة " مع نبيك فأقتل " ساقطة من (ش).
(7) هو في " مستدرك الحاكم " 3/ 203 وصححه فتعقبه الذهبي بإثره فقال: فيض -وهو ابن =(5/174)
وهو في " المسند " من حديث جابر، وفي " المسند " أدخله.
وللترمذي فيه سياق أتمُّ من هذا عن جابر، قال: لما قُتِلَ عبد الله بن عمرو ابن حرامٍ يوم أحد، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا جابر، ألا أخبرك ما قال الله عز وجل لأبيك "؟ قال: بلى. قال: " ما كلَّم أحداً إلاَّ من وراء حجابٍ، وكلم أباك كِفَاحاً، فقال: يا عبد الله تَمَنَّ (1) عليَّ أُعطك (2). قال: يا ربِّ، تحييني فأُقتل فيك ثانيةً، قال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. قال: يا رب، فأبلغ مَنْ ورائي، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ... } الآية [آل عمران: 169]. قال الترمذي (3) هذا حديث حسن غريب.
قلت: وإسناده صحيح رواه الحاكم في " صحيحه ".
فصل: وأما حديث عبد الله بن عمر، فقال الترمذي: حدثنا عبد بن حميد (4) عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير (5) بن أبي فاختة.
__________
= وثيق راويه عن الزهري- كذاب، ونقل في " ميزانه " قول ابن معين فيه: كذاب خبيث، ثم استدرك، فقال: روى عنه أبو زرعة وأبو حاتم، وهو مقارب الحديث إن شاء الله.
وحديث جابر عند أحمد في " المسند " 3/ 361 عن علي بن عبد الله المديني، حدثنا سفيان، حدثنا محمد بن علي بن ربيعة السلمي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. وهذا سند حسن.
(1) في الأصول: " تمنّى "، والمثبث من (ش).
(2) في (أ) و (ب)، أعطيك.
(3) أخرجه الترمذي (3010)، وابن ماجه (190) و (2800)، والحاكم 3/ 204 والطبري في " جامع البيان " 7/ (8214)، وابن إسحاق في " السيره " 3/ 127.
وقوله: " كفاحاً " أي: مقابلةً ومواجهةً.
(4) تحرفت هذه الجملة في الأصول: قال أحمد: حدثنا عبد الله بن جميل، والتصحيح من " حادي الأرواح ".
(5) تحرف في الأصول إلى: ثور.(5/175)
وقال الطبراني: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا أبو معاوية محمد بن خازم، عن عبد الملك بن أبجر، عن ثوير بن أبي فاختة، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في مُلكه ألفي سنةٍ يرى أقصاه مثل ما يرى أدناه، ينظر إلى أزواجه، وسُرُره، وخدَمِه، وإن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه الله تبارك وتعالى كل يوم مرتين " (1).
قال الترمذي: وروي هذا الحديث من غير وجه عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعاً.
ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثُويرٍ، عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفاً.
وروى الأشجعي عبيد الله، عن الثوري، عن ثوير، عن مجاهد (2)، عن ابن عمر قوله، ولم يرفعه، حدثنا بذلك أبو كريب، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن ثوير عن مجاهد، عن ابن عمر، نحوه ولم يرفعه.
قلت: رواه الحسن بن (3) عرفة، عن شبابة، عن إسرائيل، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعاً، وزاد فيه، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (4).
وقال (5) سعيد بن هُشيم بن بشير، عن أبيه، عن كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوم القيامة أول يومٍ نظرت فيه عينٌ إلى
__________
(1) أخرجه الترمذي (2553) و (3330)، وأحمد 2/ 13 و64، واللالكائي (840) و (841)، والآجري ص (269) وفيه عند الجميع: ثوير بن أبي فاختة، وهو مجمع على ضعفه.
(2) " عن مجاهد " ساقطة من (ش).
(3) تحرفت في (ش) إلى: عن.
(4) إسناده ضعيف كسابقه.
(5) في الأصول: " فقال "، والمثبت من (ب) و" حادي الأرواح ".(5/176)
الله تبارك وتعالى" (1).
رواه الدارقطني عن جماعةٍ، عن أحمد بن يحيى بن حيَّان الرَّقِّي عن إبراهيم بن خرّزاد (2)، عنه.
وقال الدارقطني، حدثنا أحمد بن سليمان (3)، حدثنا محمد بن يونس، حدثنا عبد الحميد بن صالح، حدثنا أبو شهاب الحنَّاط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ألا أخبركم بأسفل أهل الجنة "؟ قالوا: بلى يا رسول الله ". فذكر الحديث إلى أن قال: " حتى إذا بلغ النعيم منهم كُلَّ مبلغٍ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، أشرف الرب تبارك وتعالى عليهم، فينظرون إلى وجه الرحمن عز وجل، فيقول: يا أهل الجنة، هلِّلُوني، وكبِّروني وسبِّحوني بما (5) كنتم تهللوني وتكبروني
__________
(1) سنده ضعيف جداً. سعيد بن هشيم: لا يعرف بتوثيق ولا بجرح، وكوثر بن حكيم -وقد تحرف في غير (ش) إلى: كريز- متروك.
وأخرجه الخطيب في " تاريخ بغداد " 10/ 352 من طريق أحمد بن يحيى بن حيان الرقي، عن إبراهيم بن خرّزاذ، عن سعيد بن هشيم، بهذا الإسناد.
(2) قال ابن خلكان في " وفيات الأعيان " 7/ 76: وخرزاذ: بضم الخاء المعجمة والراء المشددة وبعدها زاي وبعد الألف ذال معجمة. قلت: هكذا يضبط أهل الحديث هذا الاسم، وهو لفظ أعجمي، وتفسير " زاذ " بالعربي: " ابن "، وأما " خُرَّ " بتشديد الراء، فليس له معنى، إلاَّ أن يكون أهل العربية قد غيَّروه كما جرت عادتهم في ذلك، فيكون أصله " خار " بالألف، وهو الشوك، فيكون خارزاذ معناه: ابن الشوك .. وعلى الجملة فإنهم يتلاعبون بالأسماء العجمية. ثم وجدت في كتاب " البلدان " تأليف البلاذري: ومعنى أردشير خره: ولد أردشير بها .. وعلى هذا يكون معنى خُرزاذ: بها وُلد، كما هو عادتهم في التقديم والتأخير.
(3) في (ج) و (ش) و" حادي الأرواح ": سليمان.
(4) ساقطة من (أ).
(5) في (ب): كما.(5/177)
وتسبحوني في دار الدنيا، فيتجاوبون بتهليل الرحمن، فيقول تبارك وتعالى لداود: يا داود، قم فمجِّدني، فيقوم داود. فيمجد ربَّه عزَّ وجلَّ" (1).
وقال عثمان بن سعيد الدارمي (2) في رده على بشر المريسي (3): حدثنا أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحنَّاط، عن خالد بن دينار، عن حماد بن جعفر، أن ابن عمر رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أهل الجنة إذا بلغ منهم النعيم كل مبلغ، وظنوا أن لا نعيم أفضل منه، تجلى لهم الرب تبارك وتعالى، فنظروا (4) إلى وجه الرحمن، فنسوا كل نعيمٍ عاينوه حين نظروا إلى وجه الرحمن (5).
وخرَّج الحاكم في " المستدرك " في تفسير سورة الأنعام (6) من حديث عُبيد المُكتِبِ، عن مجاهد، عن ابن عمر "أن الله احتجب من الخلق بأربعة: بنارٍ
__________
(1) حماد بن جعفر: ليس له رواية عن الصحابة. قال الحافظ في " التقريب " فيه لين.
(2) هو الإمام العلامة الحافظ الناقد عثمان بن سعيد أبو سعيد التميمي الدارمي قال عنه أبو زرعة الرازي: ذاك رُزِقَ حسنَ التصنيف، أما كتابه في الرد على بشر المريسي، فهو من أجلِّ الكتب المصنفة في بابها وأنفعها، إلاَّ أنه اشتمل على ألفاظ منكرة أطلقها على الله، كالجسم والحركة والمكان والحيز، دعاه إليها عنف الرد وشدة الحرص على إثبات صفات الله وأسمائه التي كان يُبالغ بشر المريسي في نفيها، وكان يجمل به أن لا يتفوه بها، وينهج منهج السلف في الاقتصار على إثبات ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة في باب الصفات.
قال الإمام الذهبي في كتابه هذا: فيه بحوث عجيبة مع المريسي يبالغ فيها في الإثبات، والسكوت عنها أشبه بمنهج السلف في القديم والحديث. انظر ترجمته في " السير " 13/ 320.
(3) ص 518 - 519 ضمن مجموع عقائد السلف.
(4) في (ش): فينظرون.
(5) هو كسابقه.
(6) بل هو في تفسير سورة الأعراف، كما هو في " المستدرك " 2/ 319، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.(5/178)
وظُلمَةٍ ونورٍ وظلمةٍ". وقال: صحيح الإسناد (1).
فصل. وأما حديث عمارة بن رُويبة، فقال ابن بطة في " الإبانة ": حدثنا عبد الغافر بن سلام الحمصي، حدثنا محمد بن عوف بن سفيان الطائي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن أبي بكر بن عُمارة (2) بن رُويبة، عن أبيه، قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضارُّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبُوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا (3) ".
قال ابن بطة: وأخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد، عن أبي بكر أحمد بن هارون، حدثنا عبد الرزاق بن منصور، حدثنا المغيرة، حدثنا المسعودي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة، عن أبيه، قال: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى القمر ليلة البدر، فقال: " إنكم سترون الله (4) تبارك وتعالى كما ترون هذا القمر لا تُضامون (5) في رؤيته، فإن استطعتم ألاَّ تغلبوا على ركعتين
__________
(1) من قوله: " وخرج الحاكم " إلى هنا لم يرد في المطبوع من " حادي الأرواح "، ويغلب على الظن أنه مما أضافه المصنف.
(2) في (ج) و (ش) عن أبي بكر، عن ابن عمار، وهو تحريف.
(3) إسناده ضعيف. إسماعيل بن عياش الحمصي: ضعيف في روايته عن غير أهل بلده، وعبد الرحمن بن عبد الله: هو المسعودي، رمي بالاختلاط، وهو حديث صحيح لغيره.
فقد أخرجه مسلم في " صحيحه " بهذا اللفظ (633) من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله ... وقد جاء بيان المراد من الصلاتين في صحيح مسلم (634) من طرق عن أبي بكر بن عمارة بن رويبة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " يعني الفجر والعصر.
(4) في (ش): ربكم الله.
(5) في (ج): تضارون.(5/179)
قبل طلوع الشمس، ولا ركعتين قبل غروبها، فافعلوا " (1).
فصل: وأما حديث سلمان الفارسي فقال أبو معاوية: حدثنا عاصم الأحول، عن أبي عثمان، عن سلمان الفارسي، قال: يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: يا نبيَّ الله، إن الله فتح بك، وختم بك، وغفر لك، قم، فاشفع لنا إلى ربك.
فيقول: نعم، أنا صاحبكم، فيخرج يحوش الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة، فيأخذ بحلقة الباب، فيقرع، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد. قال: فيفتح له، فيجيء حتى يقوم بين يدي الله، فيستأذن في السجود فيؤذن له ... الحديث (2).
فصل: وأما حديث حذيفة بن اليمان، فقال ابن بطة: أخبرني أبو القاسم عمر بن أحمد، عن أبي بكر أحمد بن هارون، حدثنا يزيد بن جمهور، حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير العنبري، حدثنا أبي، عن إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مطيَّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة بن اليمان (3).
وقال البزار: حدثنا محمد بن معمر، وأحمد بن عمرو بن عُبيدة العُصفري، قالا: حدثنا يحيى بن كثير، حدثنا إبراهيم بن المبارك، عن القاسم بن مُطيَّب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتاني جبريل، فإذا في كفِّه مرآةٌ كأصفي المرايا وأحسنها، وإذا في وسطها نكتة سوداء.
__________
(1) إسناده ضعيف. المسعودي -وهو عبد الرحممن بن عبد الله بن عتبة- اختلط قبل موته.
عبد الرزاق بن منصور: هو ابن أبان أبو محمد البندار، ترجم له الخطيب في "تاريخه" 11/ 92 وقال: وكان ثقة، والمغيرة: هو ابن عبد الله الجرجرائي كما جاء مصرحاً به في " تاريخ بغداد في ترجمة عبد الرزاق ولم أقف له على ترجمة. وانظر ما قبله.
(2) إسناده صحيح. عاصم الأحول: هو ابن سليمان، وهو في " مصنف ابن أبي شيبة " 11/ 447 عن أبي معاوية، به.
وأورد الإمام الذهبي في " السير " 1/ 553 - 554 في ترجمة سلمان رضي الله عنه من طريق بقي بن مخلد، عن ابن أبي شيبة.
(3) القاسم بن مطيب يخطىء كثيراً فاستحق الترك، كما قال ابن حبان.(5/180)
قال: قلت يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذه الدنيا صفتها وحسنها قال: قلت: وما هذه اللمعة في وسطها؟ قال: هذه الجمعة، قال: قلت: وما الجمعة؟ قال: يوم من أيام ربك عظيمٌ، وسأخبرك بشرفه وفضله واسمه في الآخرة، أما شرفه وفضله في الدنيا، فإن الله تبارك وتعالى جمع فيه أمر الخلق، وأما ما يُرجى فيه، فإن فيه ساعةً لا يوافقها عبدٌ مسلم أو أمة مسلمة يسألان الله فيها خيراً إلاَّ أعطاهما إياه، وأما شرفه وفضله واسمه في الآخرة، فإن الله عزَّ وجلَّ إذا صير أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار، وجرت عليهم أيامهما وساعاتهما ليس بها ليلٌ ولا نهارٌ، إلاَّ قد علم الله مقدار ذاك وساعاته.
فإذا كان يوم الجمعة في الحين الذي يبرُزُ أو يخرج فيه أهل الجنة إلى جمعتهم، نادى منادٍ يا أهل الجنة، اخرجوا إلى دار المزيد، لا يعلم سعته وطوله وعرضه إلاَّ الله عز وجل، في كثبانٍ من المسك، قال: فيخرج غِلمان الأنبياء بمنابر من نورٍ، ويخرج غلمان المؤمنين بكراسي من ياقوتٍ. قال: فإذا وُضِعَت لهم، وأخذ القوم مجالسهم، بعث الله عليهم -عز وجل- ريحاً تدعى المُثيرة، تنثرُ (1) عليهم أناثير المسك الأبيض، فتدخله من تحت ثيابهم، وتخرجه في وجوههم (2) وأشعارهم فتلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من امرأة أحدكم لو دُفِعَ إليها كل طيبٍ على وجه الأرض، لكانت تلك الريح أعلم كيف تصنع بذلك المسك من تلك المرأة لو دُفع إليها ذلك الطيب (3) بإذن الله تعالى.
قال: ثم يوحي الله سبحانه إلى حملة العرش، فتوضَعُ بين ظهراني الجنة وبينه وبينهم الحُجُبُ، فيكون أول ما يسمعون منه أن يقول: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب، ولم يروني، وصدقوا رسلي، واتبعوا أمري، فاسألوني، فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمةٍ واحدةٍ: ربِّ (4) رضينا عنك، فارض
__________
(1) في (ب) و (ش) و" البزار " و" حادي الأرواح ": تثير.
(2) في (ش): من وجوههم. وعند البزار: في جيوبهم.
(3) من قوله: " لكانت تلك الريح " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ب) و (ش) و (د): " ربنا " ولم ترد عند البزار.(5/181)
عنا. قال: فيرجعُ الله تعالى في قولهم: أن يا أهل الجنة، إنِّي لو لم أرض عنكم، ما أسكنتُكم جنتي، فاسألوني، فهذا يوم المزيد، قال: فيجتمعون على كلمةٍ واحدةٍ: ربِّ وجهك، رب وجهك، أرنا ننظر إليه. قال: فيكشف الله تبارك وتعالى تلك الحُجب، ويَتَجلَّى لهم، فيغشاهم من نوره شيءٌ، لولا أنه قضى عليهم أن لا يحترقوا (1) لاحترقوا مِمَّا غشيهم من نوره. قال: ثم يقال: ارجعوا إلى منازلكم. قال: فيرجعون إلى منازلهم وقد خَفُوا على أزواجهم وخَفِينَ عليهم مما غشيهم من نوره، وإذا صاروا إلى منازلهم ترادّ النور وأمكن، وترادَّ وأمكن (2)، حتى يرجعوا إلى صُورهم التي كانوا عليها. قال: فيقول لهم أزواجهم: لقد خرجتم من عندنا على صورةٍ ورجعتم على غيرها. قال: فيقولون: ذلك بأن الله تبارك وتعالى تجلَّى لنا، فنظرنا منه إلى ما خفينا به عليكم. قال: فلهم في كل سبعة أيامٍ الضعف (3) على ما كانوا فيه. قال: فذلك قوله عز وجل: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} [السجدة: 17] (4).
وقال عبد الرحمن بن مهدي حدثنا إسرائيل. عن أبي إسحاق، عن مسلم بن يزيد السعدي عن حذيفة في قوله عزَّ وجلَّ (5): {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. قال: النظر إلى وجه الله عزَّ وجلَّ (6).
__________
(1) في " البزار ": يموتوا.
(2) في " البزار ": فلا يزال النور يتمكن حتى يرجعوا إلى حالهم.
(3) في (ش): ضعف الضعف.
(4) هو في " مسند البزار " برقم (3518)، وإسناده ضعيف. القاسم بن مطيب: قال ابن حبان: كان يخطىء كثيراً فاستحق الترك، وأورده في " المجمع " 10/ 422 عن البزار وقال: وفيه القاسم بن مطيب، وهو متروك.
(5) من قوله تعالى: " فلا تعلم نفس " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) رجاله ثقات، مسلم بن يزيد: هو مسلم بن نذير، لا بأس به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (473)، والدارمي في " الرد على بشر المريسي " =(5/182)
قال الحاكم: وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع (1).
__________
= ص 303 - 304 و519، والآجري في " الشريعة " ص 257، واللالكائي في " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " (783) و (784)، وابن خزيمة في التوحيد ص 183، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (287).
(1) قال الحاكم في " المستدرك " 2/ 258: ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند.
قال المصنف في " تنقيح الأنظار " 1/ 280 - 281: اختلف أهل العلم في تفسير الصحابي، فذكر زين الدين وابن الصلاح أنه إن كان في ذكر أسباب النزول، فحكمه حكم المرفوع، وإلا فهو موقوف، وجعل هذا هو القول المعتمد، وأشار ابن الصلاح إلى الخلاف ولم يعين القائل بأن مطلق تفسير الصحابي مرفوع. قال الزين: وهو الحاكم وعزاه إلى الشيخين، قال ابن الصلاح تعقباً للحاكم: إنما ذلك في تفسير متعلق بسبب نرول آية يخبر به الصحابي أو نحو ذلك.
قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه الصنعاني في " توضيح الأفكار ": والحق أن ضابط ما يعتبره الصحابي إن كان مما لا مجال فيه للاجتهاد، ولا منقول عن لسان العرب، فحكمه الرفع وإلا فلا، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء، وعن الأمور الآتية كالملاحم والفتن والبعث والجنة والنار والأخبار، وعن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص، فهذه أشياء لا مجال للاجتهاد فيها، فيحكم لها بالرفع، وأما إذا فسر الآية بحكم شرعي، فيحتمل أن يكون مستفاداً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عن القواعد، فلا نجزم برفعه، وكذا إذا فسر مفرداً، فقد يكون نقلاً عن اللسان فلا نجزم برفعه.
وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصاحبي الصحيح، والإمام الشافعي، وأبي جعفر الطبري، وأبي جعفر الطحاوي، وابن مردويه في تفسيره المسند، والبيهقي، وابن عبد البر في آخرين إلاَّ أنه يستثنى من ذلك إذا كان المفسر له من الصحابة ممن عرف بالنظر في الإسرائيليات كمسلمة أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام، وكعبد الله بن عمرو بن العاص، فإنه كان حصل له في معركة اليرموك كتب كثيرة من كتب أهل الكتاب، فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان ربما قال له بعض أصحابه: حدثنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تحدثنا عن الصحيفة.(5/183)
فصل: وأما حديث ابن عباس، فروى ابن خزيمة من حديث حماد بن سلمة عن ابن جُدعان، عن أبي نضرة، قال: خَطَبَنَا ابن عباس، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبيٍّ إلاَّ له دعوةٌ يعجلها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فآتي باب الجنة، فآخذ بحلقة الباب، فأقرع الباب فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمد، فآتي ربي وهو على كرسيه أو سريره، فيتجلى لي ربي، فأخِرُّ له ساجداً " (1).
ورواه ابن عيينة عن ابن جدعان، فقال: عن أبي سعيد بدل ابن عباس.
وقال أبو بكر بن أبي داود، حدثنا عمي (2) محمد بن الأشعث، حدثنا ابن جبير، قال حدثني أبي (3) جُبيرٌ، عن الحسن، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إن أهل الجنة يَرَون ربهم تعالى في كل جمعة في رمالِ الكافور، وأقربُهم منه مجلساً أسرعهم إليه يوم الجمعة وأبكرُهم غُدوّاً " (4).
فصل: وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال الصَّغاني: حدثنا صدقة أبو عمرو المقعد (5)، قال: قرأت على محمد بن إسحاق (6)، حدثني
__________
(1) إسناده ضعيف، ابن جدعان -وهو علي بن زيد- ضعيف، وهو في " التوحيد " ص 165.
وأخرجه أحمد 1/ 281 و295، واللالكلائي (1843)، والدارمي في " الرد على بشر المريسي " ص 301 و524.
(2) سقطت من (ب) و (ش).
(3) ساقطة من (ش).
(4) محمد بن الأشعث: لم أجد له ترجمة، وابن جبير وأبوه لا يعرفان، ويغلب على الظن أنهما محرفان. فقد أخرج الحديث الآجري في " الشريعة " ص 265 عن أبي بكر بن أبي داود، بهذا الإسناد، إلاَّ إنه قال: حدثنا حسن بن حسن، حدثني أبي حسن، عن الحسن .. والحسن بن حسن وأبوه: من رجال " التهذيب "، الأول مقبول، والثاني صدوق.
(5) تحرف في (أ) و (ش) إلى " المعقد "، وفي (ج): " المعقب "، والتصويب من " حادي الأرواح ".
(6) تحرف في الأصول إلى " ابن الحسن "، والتصويب من " حادي الأرواح ".(5/184)
أُمَيَّة بن عبد الله بن عمرو (1) بن عثمان، عن أبيه عبد الله بن عمرو قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يُحدِّث مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، قال: خلق الله الملائكة لعبادته أصنافاً، فإن منهم الملائكة قياماً صافِّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكةً ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجوداً منذ (2) خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة وتجلى لهم تعالى، ونظروا إلى وجهه الكريم، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك (3).
فصل: وأما حديث أُبيِّ بن كعبٍ: فقال الدارقطني، حدثنا عبد العزيز بن علي (4)، حدثنا محمد بن زكريا بن زيادٍ (5)، قال: حدثني قَحْطَبَة بن غُدانة (6)، حدثنا أبو خلدة، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تبارك وتعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. قال: النظر إلى وجه الله عز وجل (7).
__________
(1) تحرف في (ج) و (ش) إلى عمر.
(2) في (ش): منذ يوم.
(3) الصغاني: هو محمد بن إسحاق الصغاني، ثقة من رجال مسلم، وصدقة أبو عمرو المقعد: ذكره ابن حبان في " الثقات " 8/ 320 فقال: صدقة بن سابق الزمن، كنيته أبو عمرو، وهو الذي يقال له: صدقة المقعد مولى بن هاشم، يروي عن ابن إسحاق، روى عنه الفضل بن سهل الأعرج، وصاعقة، وأمية بن عبد الله بن عمرو. قال أبو حاتم: ما بحديثه بأس. وعبد الله بن عمرو بن عثمان: ثقة من رجال مسلم. وذكره السيوطي في " الحبائك " (551)، ونسبه للبيهقي في " الرؤية " وابن عساكر.
(4) " ابن علي " ساقطة من (ش).
(5) في (ب) و" حادي الأرواح ": حدثنا ابن دينار.
(6) تحرف في (ش) إلى: غلاثة.
(7) أخرجه اللالكلائي (849) من طريق آخر عن قحطبة بن غدانة، به. وقحطبة: صدوق، ومن فوقه ثقات. أبو خلدة: هو خالد بن دينار، وأبو العالية: رفيع بن مهران. =(5/185)
فصل: وأما حديث كعب بن عجْرَةَ، ققال محمد بن حميد، حدثنا إبراهيم ابن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن كعب بن عُجرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} قال: الزيادة (1) النظر إلى وجه ربهم تبارك وتعالى (2).
فصل: وأما حديث فضالة بن عبيد، فقال عثمان بن سعيد الدارمي: حدثنا محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس، عن أبي الدرداء (3)، أن فضالة -يعني ابن عُبيدٍ- كان يقول: اللهم أني أسألك الرضا بعد القضاء، وبَرْدَ العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرةٍ ولا فتنةٍ مضلَّةٍ (4).
فصل: وأما حديث عبادة بن الصامت: ففي " مسند " أحمد من حديث بقية: حدثنا بحير (5) بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عمرو بن الأسود، عن جُنادة بن أبي (6) أمية، عن عُبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "قد (7)
__________
= وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 357، وزاد نسبته إلى الطبري، وابن أبي حاتم، والدارقطني، وابن مردويه، والبيهقي في كتاب " الرؤية ".
(1) ساقطة من (ب) و (ش).
(2) تقدم تخريجه ص 72.
(3) كذا في الأصول و" حادي الأرواح " ص 230، وفي مصادر الحديث: عن أم الدرداء.
(4) إسناده صحيح. وأخرجه ابن أبي عاصم في " السنة " (427)، والطبراني في " الكبير " 18/ (825)، و" الأوسط "، واللالكائي في " أصول الاعتقاد " (847) من طريق عمرو بن عثمان (هو الحمصي)، حدثنا أبي عن محمد بن المهاجر، عن ابن حلبس (وهو يونس بن ميسرة بن حلبس) عن أم الدرداء، عن فضالة بن عبيد وفيه عندهم زيادة، وهي: وزعم أنها دعوات كان يدعو بها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 177، ونسبه للطبراني في " الكبير " و" الأوسط "، وقال: رجاله ثقات.
(5) تحرف في الأصول إلى: يحيى.
(6) ساقطة من (ش).
(7) ساقطة من (ج).(5/186)
حدثتكم عن الدَّجَّال حتى (1) خشيتُ ألا تَعقِلوا، إن مسيحَ الدجال رجلٌ قصير، أفحجُ، جعدٌ، أعورٌ، مطموس العين، ليس بناتئةٍ ولا حَجْراء، فإن التبس عليكم [قال يزيد: ربكم] فاعلموا أن ربكم ليس بأعور، وأنكم لن تروا ربَّكم حتى تموتوا" (2).
وأما حديثُ الرَّجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال الصغاني: حدثنا روح بن عُبادة، حدثنا عباد بن منصور، قال: سمعت عديَّ بن أرطاة يخطب على المنبر بالمدائن، فجعل يَعِظُ (3) حتى بكى وأبكانا (4)، ثم قال: كونُوا كرجل قال لابنه وهو يعظه: يا بُني، أوصيك أن لا تُصَلَّي صلاة إلاَّ ظننت أنك لا تصلي بعدها غيرها حتى تموت، وتعال يا بني (5) نعمل عمل رجلين كأنهما قد وقفا على النار، ثم سألا الكرَّة، ولقد سمعت فلاناً نَسِيَ (6) عبَّادٌ اسمه - ما بيني وبين رسول الله غيره، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن لله ملائكة ترعُدُ فرائصهم من مخافته، ما منهم مَلكٌ تقطُرُ دمعةٌ من عينه إلاَّ وقعت مَلَكاً يسبح الله، قال: وملائكة سجود منذ خلق الله السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم، ولا يرفعونها إلى يوم القيامة، وصفوفٌ لم ينصرفوا عن مصافِّهم ولا ينصرفون إلى يوم القيامة، فإذا كان
__________
(1) ساقطة من (ش)
(2) إسناده حسن، رجاله ثقات، وبقية قد صرح بالتحديث، وفيه كلام ينزله عن رتبة الصحيح وهو في " مسند أحمد " 5/ 324.
وأخرجه أيضاً من طريق بقية بن الوليد: أبو داود (4320)، وابن أبي عاصم (428)، والآجري ص 375، والدارمي في " الرد على بشر المريسي " ص 301، واللالكائي (848).
وقوله: " حجراء " قال الهروي: إن كانت هذه اللفظة محفوظة، فمعناها: أنها ليست بصلبة متحجرة.
(3) في (ش): يعظ الناس.
(4) في (د) و (ش): وأبكي.
(5) في الأصول: " ويقال بني "، والتصحيح من " حادي الأرواح ".
(6) في (ش): ينسى.(5/187)
يوم القيامة وتجلَّى لهم ربهم، فينظروا (1) إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك" (2).
فصل: وهاكَ بعض ما قاله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعون وأئمة الإسلام من بعدهم.
قول أبي بكر الصديق: قال أبو إسحاق، عن عامر بن سعدٍ، قرأ أبو بكر الصديق: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، فقالوا: ما الزيادة يا خليفة رسول الله؟ قال: النظر إلى وجه الرب تبارك وتعالى (3).
قول علي بن أبي طالب عليه السلام قال عبد الرحمن بن أبي حاتمٍ، حدثنا أبي، حدثنا علي بن ميسرة الهمداني، حدثنا صالح بن أبي خالدٍ العنبري، عن أبي الأحوص، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عمارة بن عبد (4)، قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: من تمام النعمة دخول الجنة والنظر إلى الله
__________
(1) في (ج) و (ش): فنظروا.
(2) إسناده ضعيف. عباد بن منصور: ضعيف.
وأخرجه الخطيب البغدادي في " تاريخه " 12/ 306 - 307 من طريق الصغاني بهذا الإسناد.
وأخرجه أبو الشيخ في " العظمة " (515)، ومحمد بن نصر المروزي في " تعظيم قدر الصلاة " (260) من طريق النضر بن شميل، عن عباد بن منصور، به.
وأورده الحافظ ابن كثير من طريق المروزي وقال: وهذا إسناد لا بأس به.
(3) هذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن رواية عامر بن سعد عن أبي بكر مرسلة، وقد تبينت الواسطة -وهو سعيد بن نُمران- في رواية الطبري (17611). قال الذهبي في " الميزان " 2/ 161: مجهول. وذكره ابن أبي حاتم، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً.
وأخرجه الطبري (17610)، واللالكائي (784)، وابن أبي عاصم (473) والآجري في " الشريعة " ص 257، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (283) و (284) من طريق أبي إسحاق، به.
(4) تحرفت في الأصول إلى: عبيد.(5/188)
تبارك وتعالى في جنته (1).
وتقدم في الدليل الخامس من أدلة القرآن عنه رضي الله عنه: أن المزيد: النظر إلى وجه الله عز وجل. رواه الطبراني موقوفاً عليه (2).
وتقدم في الأحاديث روايته كرَّم الله وجهه مرفوعاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه عنه يعقوب بن سفيان من طريق أبي خالد، عن زيد بن علي، عن أبيه (3)، عن جده عليهم السلام.
قول حذيفة بن اليمان: وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق (4)، عن مسلم بن يزيد، عن حذيفة بن اليمان: الزيادة: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى (5).
قول عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس: ذكر أبو عوانه عن هلالٍ، عن (6) عبد الله بن عُكَيمٍ، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذا المسجد، مسجد الكوفة يبدأ باليمين قبل أن يحدثنا، فقال، والله ما منكم من إنسانٍ إلاَّ أن ربه سيخلو به يوم القيامة كما يخلو أحدُكم بالقمر ليلة البدر. قال: فيقول: ما غرَّك بي يا ابن آدم -ثلاث مرات - ماذا أجبت المرسلين -ثلاثاً-؟ كيف عَمِلتَ فيما عَلِمْتَ؟ (7).
__________
(1) علي بن ميسرة: قال أبو حاتم: صدوق، وصالح بن أبي خالد: لم يذكر فيه ابن أبي حاتم جرحاً ولا تعديلاً. أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي، وأبو إسحاق: هو عمرو بن عبد الله السبيعي، وعمارة بن عبد: قال الحافظ: مقبول.
وأخرجه اللالكائي (859) من طريق عبد الرحمن بن أبي حاتم، بهذا الإسناد.
(2) تقدم في هذا الجزء.
(3) ساقطة من (ب).
(4) " عن أبي إسحاق " ساقطة من (ج).
(5) تقدم تخريجه ص 459.
(6) تحرفت في الأصول إلى: ابن.
(7) إسناده صحيح. أبو عوانة: اسمه وضاح اليشكري، وهلال: هو ابن أبي حميد. =(5/189)
وقال ابن أبي داود، حدثنا أحمد بن الأزهر، حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثنا أبي، عن عكرمة، قال: قيل لابن عباس: كل من دخل الجنة يرى الله عز وجل؟ قال: نعم (1).
قال أسباط بن نصر، عن إسماعيل السُّدِّيِّ، عن أبي مالكٍ وأبي صالح، عن ابن عبَّاسٍ ...
وعن مُرَّة الهمداني، عن ابن مسعود: الزيادة: النظر إلى وجه الله (2).
قول معاذ بن جبل: قال عبد الرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا إسحاق بن أحمد الخرَّاز (3)، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن المغيرة بن مسلم، عن ميمون أبي حمزة (4)، قال: كنت جالساً عند أبي وائل، فدخل علينا رجل يقال
__________
= وأخرجه الطبراني في " الكبير " (8899)، واللالكائي (860) من طريق أبي عوانة.
وأخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة " (288) و (289)، والطبراني (8900) من طريق شريك -وهو ابن عبد الله النخعي- عن هلال، به وشريك متابع.
(1) إسناده ضعيف لضعف إبراهيم بن الحكم، وأبوه -وهو الحكم بن أبان- له أوهام.
وأخرجه الآجري في " الشريعة " ص 257 عن ابن أبي داود، بإسناده.
(2) أورده اللالكائي (787) عن ابن أبي حاتم، أخبرنا ابن أبي داود السجستاني، حدثنا الحسين بن علي بن مهران الفسوي، حدثنا عامر بن الفرات، عن أسباط بن نصر، به.
الحسين بن علي: ذكره ابن أبي حاتم 3/ 56، ولم يورد فيه جرحاً ولا تعديلاً، وعامر بن الفرات: أورده ابن حبان في " الثقات " 8/ 501، وأبو مالك: هو غزوان الغفاري، وأبو صالح: هو باذام -ويقال: باذان- مولى أم هانىء، ضعيف، وقد تابعه أبو مالك، وهو ثقة. وأثر ابن مسعود هو أيضاً عند اللالكائي (788) بإسناد الذي قبله، ومرة الهمداني: هو ابن شراحيل.
(3) بالخاء المعجمة، ثم راء مهملة، فألف فزاي، ذكره ابن حجر في " تبصير المنتبه " 1/ 332، وقد تصحف في الأصول إلى: " الجزار ".
(4) في الأصول و" حادي الأرواح ": " ابن أبي حمزة "، وهو خطأ، وفي (ش): ميمون بن حمزة، وهو خطأ أيضاً.(5/190)
له: أبو عُفيف، فقال له شقيق بن سلمة: يا أبا عُفيف، ألا تُحدِّثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يُحشرُ (1) الناس يوم القيامة في صعيدٍ واحدٍ، فينادى: أين المتَّقون؟ فيقومون في كَنَفٍ من الرحمن لا يحتجب الله منهم (2) ولا يستتِر. قلت: مِنِ المتقون؟. قال: قومٌ اتَّقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله تعالى بالعبادة، فيمرون إلى الجنة (3).
قول أبي هريرة: قال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعَة، عن أبي النضر أن أبا هريرة كان يقول: لن تَرَوْا ربكم حتى تذوقوا الموت (4).
قول عبد الله بن عمر: قال حُسين الجُعفي، عن عبد الملك بن أبْجر، عن ثوير (5)، عن ابن عمر، قال: إن أدني أهل الجنة منزلة من ينظُرُ إلى مُلكه ألفي عام يرى أدناه كما يرى أقصاه، وإن أفضلهم منزلة لمن ينظر إلى وجه الله في كلِّ يوم مرتين (6).
__________
(1) عند اللالكائي: يحبس.
(2) في (ش): عنهم.
(3) إسناده ضعيف لضعف ميمون أبي حمزة. وأبو العُفيف: ذكره ابن سعد في " الطبقات " 7/ 439 في تابعي أهل الشام، وقال: قال: شهدت أبا بكر الصديق وهو يبايع الناس.
وضبطه ابن ماكولا 6/ 225، والذهبي في " المشتبه " 2/ 465 بضم العين المهملة وفتح الفاء، وقالا: ابن العفيف. وسماه ابن معين في " كتاب التابعين ": يزيد بن العُفيف في تابعي أهل الجزيرة. والأثر أورده اللالكائي (864) عن عبد الرحمن بن أبي حاتم بإسناده.
(4) ابن وهب: هو عبد الله، وابن لهيعة: اسمه عبد الله، ورواية ابن وهب عنه صحيحة.
وأبو النضر: هو سالم بن أبي أمية، ثقة وكان يرسل.
وأخرجه اللالكائي (865) عن عبد الرحمن بن أبي حاتم، حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن يحيى بن إسماعيل المصري، أخبرنا ابن وهب، به.
(5) في (ب): ثور.
(6) أخرجه اللالكائي (866) من طريق حسين الجعفي، به. وقد تقدم مرفوعاً.(5/191)
قول فضالة بن عُبيد: ذكر الدارمي عن محمد بن مهاجر، عن ابن حلبس، عن أبي، الدرداء أن فضالة بن عبيدٍ كان يقول: اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك. وقد تقدم (1).
قول أبي موسى الأشعري: قال وكيع عن أبي بكر الهُذلي، عن أبي تميمة، عن أبي موسى، قال: الزيادة: النظر إلى وجه الله (2).
وروى يزيد بن هارون وابن أبي عدي، عن التيمي، عن أسلم العِجلي عن أبي مُرَاية، عن أبي موسى الأشعري، أنه كان يحدث الناس فشَخَصوا (3) بأبصارهم، فقال: ما صرف أبصاركم عني؟ قالوا: الهلال. قال: فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة (4).
قول أنس بن مالك: قال ابن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن يمان، حدثنا شريك عن أبي اليقظان، عن أنس بن مالك في قول الله عز وجل: {ولدينا مزيد} [ق: 35] قال: يظهر لهم الربُّ تبارك وتعالى يوم القيامة (5).
قول جابر بن عبد الله: قال مروان بن معاوية، عن الحكم بن أبي خالد، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأُدِيمَ عليهم بالكرامة، جاءتهم خيولٌ من ياقوتٍ أحمر لا تبولُ ولا تروثُ، لها أجنحةٌ فيقعُدُون (6) عليها، ثم يأتون الجبار عز وجل، فإذا تجلى لهم، خرُّوا له سُجَّداً، فيقول: ارفعوا رؤوسكم فقد رضيت عنكم رضاً لا سخط بعده (7).
__________
(1) تقدم ص 114.
(2) تقدم.
(3) في غير (ب): فيشخصوا.
(4) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 264، وعبد الله في " السنة " (278)، واللالكلائي (862).
(5) تقدم ص 103.
(6) في (ش): فيقعدوا.
(7) إسناده ضعيف جداً. الحكم بن أبي خالد: هو الحكم بن ظهير، ترك حديثه البخاري =(5/192)
قال الطبراني: فتحصَّل في الباب ممن روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة حديث الرؤية ثلاثةٌ وعشرون نفساً، منهم: علي، وأبو هريرة، وأبو سعيد، وجرير، وأبو موسى، وصهيب، وجابر، وابن عباس، وأنسٌ، وعمَّار بن ياسر، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن اليمان، وعُبادة بن الصامت، وعَدي بن حاتم، وأبو رزين العُقيلي، وكعب بن عجرة، وفضالة بن عبيد، وبُريدة بن الحُصيب، ورجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الدارقطني: أخبرنا محمد بن عبد الله، حدثنا جعفر بن محمد بن الأزهر، حدثنا مفضل بن غسان، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عندي (1) سبعة عشر حديثاً في الرؤية كلها صِحاحٌ.
وقال البيهقي: روينا في إثباث الرؤية عن أبي بكر الصديق، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وأبي موسى وغيرهم، ولم يُرْوَ عن أحدٍ منهم نفيُها، ولو كانوا فيها مختلفين، لنُقِلَ اختلافهم إلينا، كما أنهم [لمَّا] اختلفوا في الحلال والحرام والشرائع والأحكام، نُقِلَ اختلافهم في ذلك إلينا، وكما أنهم لما اختلفوا في (2) رؤية الله بالأبصار في الدنيا، نقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلما نقلت رؤية الله سبحانه بالأبصار في الآخرة عنهم، ولم يُنقل
__________
= وأبو حاتم والنسائي وأبو زرعة، ورماه غيرهم بالوضع. ومروان بن معاوية: هو الفزاري، ثقة من رجال الجماعة، إلاَّ أنه كان يدلس أسماء الشيوخ، قال ابن معين، كان مروان بن معاوية يغير الأسماء، يعمي على الناس، كان يقول: حدثنا الحكم بن أبي خالد، وإنما هو الحكم بن ظهير. والحسن: هو البصري، وهو مدلس وقد عنعن.
وأخرجه الآجري في " الشريعة " ص 267 - 268 من طريق الحسين بن الحسن المروزي، قال: حدثنا مروان بن معاوية، بهذا الإسناد.
وأخرجه أيضاً ص 267 من طريق سويد بن سعيد، عن مروان بن معاوية. قلت: سويد بن سعيد: قال فيه الحافظ: عمي فصار يتلقن ما ليس من حديثه.
(1) ساقطة من (أ).
(2) من قوله: " الحلال والحرام " إلى هنا ساقط من (ب).(5/193)
عنهم في ذلك اختلافٌ كما نُقِل عنهم فيها اختلاف في الدنيا، علمنا أنهم كانوا على القول برؤية الله تعالى بالأبصار في الآخرة متفقين مُجمعين (1).
وقد أشار البيهقي باختلافهم في الرؤية في الدُّنيا إلى ما تقصاه القاضي عياض في " الشِّفاء " (2) وغيره. ومعظم ذلك حديث عائشة الذي رواه عامرٌ الشعبي عن مسروق عنها. وخرَّجه أكثر الجماعة من هذه الطريق، وأكثر الروايات أن عائشة قالت في تفسير آية النجم: " إنه جبريل " موقوفاً عليها. وكذا رواه البُخاري عن ابن عون (3) عن القاسم عنها موقوفاً (4)، يحتمل أنه تأويلٌ منها، كما رُوي نحو ذلك عن ابن مسعود موقوفاً (5).
وأما رواية الرفع عن عائشة فانفرد (6) بها داود بن أبي هند، عن الشعبي وخالفه إسماعيل بن أبي خالد ومجالدٌ (7) عن الشعبيِّ بالحديث سنداً ومتناً (8)، وليس فيه تصريح عائشة برفع ذلك، ولعلَّ البخاري إنما تجنَّب حديث داود بن أبي هند لمثل ذلك والله أعلم. ولعل هذه علة الحديث، وإلاّ لما ساغ لابن عباس مخالفته. فإن صحَّ مرفوعاً، لم يَحِل لأحدٍ مخالفته، وإذا (9) لم يصح، وجب الوقف أو كان أرجح لاحتمال صحته والله أعلم.
__________
(1) في (ش): مجتمعين.
(2) 1/ 195.
(3) تحرف في الأصول إلى: عوف.
(4) هو في " صحيح البخاري " رقم (3234).
(5) أخرجه البخاري (3232) و (4856) و (4857) عن زر بن حبيش في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} قال: حدثنا ابن مسعود أنه -أي: جبريل- له ست مئة جناح.
(6) في (د) و (ش): فإنه تفرد.
(7) في (ب): " خالد "، وهو تحريف.
(8) في الأصول: " مسنداً ومبيناً "، والمثبت من (ش).
(9) في (ب) و (ش) و (ج). وإن.(5/194)
فصل: وأما التابعون، ويَزَكُ الإسلام، وعصابة الإيمان منهم أئمة (1) الحديث والفقه والتفسير وأئمة التَّصوُّف، فأقوالهم (2) أكثرُ من أن يُحيط بها إلاَّ الله عزَّ وجلَّ.
قال سعيد بن المسيب: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه مالك عن يحيى عنه (3).
وقال الحسن: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه ابن أبي حاتم عنه (4).
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: الزيادة: النظر إلى وجه الله. رواه حماد ابن زيد، عن ثابت، عنه (5).
وقاله عامر بن سعد البجلي، ذكره سفيان عن أبي إسحاق عنه (6).
وقاله عبد الرحمن بن سابط. رواه جرير، عن ليث، عنه (7).
وقاله عكرمة ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك وكعب (8).
__________
(1) في (ش): أهل.
(2) ساقطة من (أ).
(3) أخرجه اللالكائي (789) من طريق مالك، به.
(4) أخرجه الطبري (17624)، واللالكائي (790) و (791).
(5) أخرجه الطبري (17619) و (17622)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 182، وعبد الله في " السنة " (255)، واللالكائي (792) من طرق عن حماد بن زيد، به.
(6) أخرجه اللالكائي (792) (793)، وابن خزيمة ص 183 من طريقين عن سفيان، به.
وأخرجه الطبري (17613)، وعبد الله بن أحمد في " السنة " (285) و (286) من طريقين عن أبي إسحاق، به. وقد تحرف " سعد " في الأصول إلى: " سعيد " و" عن أبي إسحاق " إلى: " ابن أبي إسحاق ".
(7) أخرجه اللالكائي (795)، والطبري (17632) من طريق جرير، به.
وأخرجه عبد الله في " السنة " (292) عن هشيم، عن فطر بن خليفة، عن ابن سابط.
(8) قول عكرمة أخرجه اللالكائي (796) و (803) و (804)، وعبد الله (295)، والآجري =(5/195)
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: أما بعد، فإني أُوصيك بتقوى الله، ولزوم طاعته، والتَّمسُّك بأمره، والمُعاهدة على ما حمَّلك الله من دينه، واستحفظك مني كتابه. فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها وافقوا أنبياءه، وبها نُضِّرت وجوههم، ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمةٌ في الدنيا من الفتن، ومن كُرَب (1) يوم القيامة (2).
وقال الحسن: لو يعلم العابدون في الدنيا أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لذابَتْ أنفُسُهم في الدنيا (3).
وقال الأعمش وسعيد بن جبير: إن أشرف أهل الجنة لمن ينظر إلى الله تبارك وتعالى غُدوة وعشية (4).
وقال كعبٌ: ما نظر الله عزَّ وجلَّ إلى الجنة قط إلاَّ قال: طيبي لأهلك، فزادت ضعفاً على ما كانت حتى يأتيها أهلها، وما من يوم كان لهم عيداً في الدنيا إلاَّ يخرجون في مقداره في رياض الجنة، فيبرُزُ لهم الرب تبارك وتعالى، فينظرون إليه، وتسعى عليهم الرِّيح المِسْكُ، ولا يسألون الرب تعالى شيئاً إلا أعطاهم حتى يرجعوا وقد ازدادوا على ما كانوا من الحسن والجمال سبعين ضعفاً
__________
= ص 256 - 257.
وقول مجاهد أخرجه اللالكائي (797) و (801) و (802)، وعبد الله (294).
وقول قتادة أخرجه الطبري (17629) و (17630)، واللالكائي (798)، وابن خزيمة ص 184.
وقول السدي عزاه السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 359 للداقطني في " الرؤية ".
وقول الضحاك عزاه السيوطي للدارقطني.
(1) تحرفت في الأصول إلى: " كتب "، والمثبت من " حادي الأرواح ".
(2) أخرجه الدارمي في " الرد علي بشر المريسي " ص 305.
(3) أخرجه اللالكائي (869)، وعبد الله (300)، والآجري في " الشريعة " ص 253.
(4) في (ش): غدواً وعشياً.(5/196)
ثم يرجعون إلى أزواجهم وقد ازدَدْنَ مثل ذلك (1).
وقال هشام بن حسان: إنَّ الله سبحانه يتجلَّى لأهل الجنة، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة (2).
وقال طاووس: أصحاب المراء والمقاييس لا يزال بهم المِراء والمقاييس حتَّى يجحدوا الرؤية، ويُخالفوا السنة (3).
وقال شريك عن أبي إسحاق السبيعي (4): الزيادة: النظر إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى (5).
وقال حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، أُعطوا فيها ما شاؤوا، فيقول الله عز وجل لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعطَوهُ، فيتجلَّى لهم ربَّهم، فلا يكون ما أُعطوا عند ذلك بشيءٍ، فالحسنى الجنة. والزيادة: النظر إلى وجه ربهم عز وجل. {ولا يَرْهَقُ وُجُوهَهمُ قَتَرٌ ولا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]: بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى (6).
وقال علي بن المديني: سألت عبد الله بن المبارك، عن قوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]، قال عبد الله، من أراد النظر إلى وجه خالقه، فليعمل عملاً صالحاً، ولا يخبر به أحداً (7).
__________
(1) أخرجه الآجري على 253، والدارمي ص 305.
(2) وأخرجه بهذا اللفظ: الآجري ص 253 عن هشام بن حسان، عن الحسن قوله.
(3) أخرجه اللالكائي (868).
(4) تحرفت في (ش) إلى: الشعبي.
(5) أخرجه الطبري (17615)، واللالكائي (794).
(6) أحرجه الطبري (17622). وقد تقدم ص 418 من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب مرفوعاً.
(7) أخرجه اللالكائي (895).(5/197)
قال نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عزَّ وجلَّ أحداً عنه إلاَّ عذبه. ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون} [المطففين: 15 - 17] قال بالرؤية. ذكره ابن أبي الدنيا عن يعقوب بن إسحاق (1) عن نُعيم (2).
وقال عبَّاد بن العوَّام: قدم علينا شريك بن عبد الله منذ خمسين سنة، فقلت له (3): يا أبا عبد الله، إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: " إن الله ينزل إلى سماء الدنيا "، و" إن أهل الجنة يرون ربهم "، فحدثني بنحو عشرة أحاديث في هذا، وقال: أما نحن، فقد أخذنا ديننا هذا عن التابعين، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم عمن أخذوا؟ (4).
وقال عُقبة بن قبيصة (5): أتينا أبا نعيم يوماً، فنزل إلينا من الدرجة التي في داره، فجلس وسطها (6) كأنه مُغضبٌ، فقال: حدثنا سفيان بن سعيد، ومنذرٌ الثوري وزهير بن معاوية، وحدثنا حسن بن صالح بن حي، وحدثنا شريك بن عبد الله النخعي وهؤلاء أبناء المهاجرين يُحدثوننا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله تبارك وتعالى يرى في الآخرة حتَّى جاء ابن يهودي صبَّاغ يزعم أن الله لا يُرى يعني بشراً المريسي.
فصل: في المنقول عن الأئمة الأربعة، ونُظرائهم، وشيوخهم، وأتباعهم على طريقهم ومنهاجهم.
__________
(1) في (ش): عن سفيان.
(2) أخرجه اللالكائي (894).
(3) ساقطة من (ج).
(4) أخرجه عبد الله بن أحمد في " السنة " (326)، واللالكلائي (879).
(5) تحرف في الأصول إلى: قبيصة بن عقبة، والتصحيح من " حادي الأرواح " وكتب الرجال، واللالكائي (887).
(6) في (ج): في وسطها.(5/198)
ذكر قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس: قال أحمد بن صالح المصري، حدثنا عبد الله بن وهب، قال: قال مالك بن أنس: الناس ينظرون إلى الله عز وجل يوم القيامة (1) بأعينهم.
وقال الحارث بن مسكين، حدثنا أشهب، قال: سئل مالك عن قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] أتنظر إلى الله عز وجل؟ قال: نعم. فقلت: إن أقواماً يقولون: تنتظر ما عنده. قال: بل تنظر إليه نظراً، وقد قال موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُون} (2)، [المطففين: 15].
وذكر الطبري (3) وغيره أنه قيل لمالك: إنهم يزعمون أن الله لا يُرى، فقال مالك: السَّيفَ السَّيفَ (4).
ذكر قول ابن الماجَِشون: قال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث أملى علي عبد العزيز بن أبي سلمة الماجَِشُون، وسألته عما تحدث (5) الجهمية، فقال: لم يزل يُملي لهم الشيطان حتى جحدوا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فقالوا: لا يراه أحد يوم القيامة، فجحدوا والله أفضل كرامة الله التي كرَّم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه، ونضرته إياهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر. فوربِّ السماء والأرض، ليجعلن رؤيته يوم القيامة للمخلصين له ثواباً لينضِّرَ بها وجوههم دون المجرمين، ويُفلج بها حجَّتهم على الجاحدين، وهم عن ربهم يومئذٍ محجوبون، لا يرونه كما زعموا
__________
(1) " يوم القيامة " ساقطة من (ب).
(2) أخرجه اللالكائي (871)، والآجري ص 254.
(3) تحرفت في (ش) إلى الطبراني.
(4) أخرجه اللالكائي (808) و (872).
(5) في (ب) و (ش): " جحدت "، وعند اللالكائي: فيما أحدثت.(5/199)
أنه لا يُرى، ولا يُكلِّمهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذابٌ أليم (1).
ذكر قول الأوزاعي: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: إني لأرجو أن يَحجُبَ الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه حين يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فجحد جهم (2) وأصحابه أفضل ثوابه الذي وعد أولياءه (3).
ذكر قول الليث بن سعدٍ: قال ابن أبي حاتم: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا الهيثم بن خارجة، قال: سمعت الوليد بن مسلم يقول: سألتُ الأوزاعي وسفيان الثوري، ومالك بن أنس، والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي فيها الرؤية، فقالوا: تُمَرُّ بلا كيفٍ (4).
قول سفيان بن عيينة: ذكر الطبري وغيره عنه أنه قال: من لم يقل: إن القرآن كلام الله، وإن الله يُرى في الجنة، فهو جهمي (5).
وذكر عنه ابن أبي حاتم أنه قال: لا يُصلِّى خلف الجهمي، والجهمي: الذي يقول: لا يرى ربه يوم القيامة (6).
قول جرير بن عبد الحميد: ذكر ابن أبي حاتم عنه أنه ذكر له حديث (7) ابن أسباط في الزيادة أنها النظر إلى وجه الله تعالى، فأنكره رجلٌ، فصاح به، فأخرجه من مجلسه (8).
__________
(1) أخرجه اللالكائي (873).
(2) في (ش): فجحد هو.
(3) أخرجه اللالكائي (873).
(4) أخرجه اللالكائي (875).
(5) أخرجه اللالكائي (876).
(6) أخرجه اللالكائي (878).
(7) من قوله: " لا يرى ربه " إلى هنا ساقط من (ب).
(8) أخرجه اللالكائي (880).(5/200)
قول عبد الله بن المبارك: ذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم عنه أن رجلاً من الجهمية قال له: يا أبا عبد الرحمن، خدارابآن جهان جون بينند ومعناه: كيف نرى الله يوم القيامة؟ فقال: بالعين (1).
وقال ابن أبي الدنيا: حدثني يعقوب بن إسحاق، قال: سمعت نعيم بن حماد يقول (2): سمعت ابن المبارك يقول: ما حجب الله عزَّ وجلَّ عنه أحداً إلا عذَّبه، ثم قرأ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 15 - 17]. وقال ابن المبارك، بالرؤية (3).
قول وكيع بن الجَّراح: ذكر ابن أبي حاتم أنه (4) قال: يراه المؤمنون في الجنة ولا يراه إلاَّ المؤمنون (5).
قول قتيبة بن سعيدٍ: ذكر ابن أبي حاتم عنه، قال: قول الأئمة المأخوذ به في الإسلام والسنة: الإيمان (6) بالرؤية، والتصديق بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالرؤية (7).
قول أبي عبيدٍ القاسم بن سلام: ذكر ابن بطة وغيره عنه أنه ذُكرَتْ عنده هذه الأحاديث التي في الرؤية، فقال: هي عندنا حق. رواها الثقات عن الثقات إلى أن صارت إلينا، إلاَّ أنا (8)، إذا قيل لنا: فسِّروها، قلنا: لا نفسر منها شيئاً، ولكن
__________
(1) أخرجه اللالكائي (881).
(2) قوله: " سمعت حماد بن حماد يقول " ساقط من (ب).
(3) أخرجه اللالكائي (894)، وقد تقدم ص 467.
(4) في (ب): عنه أنه.
(5) أخرجه اللالكائي (882).
(6) في الأصول: والإيمان.
(7) أخرجه اللالكائي (886).
(8) ساقطة من (ب).(5/201)
نمضيها كما جاءت (1).
قول أسود بن سالم شيخ الإمام أحمد: قال المروالروذي (2)، حدثنا عبد الوهاب الوراق، قال: سألت أسود بن سالم عن أحاديث الرؤية، فقال: أحلف عليها بالطلاق وبالنبي (3) أنها حق (4).
قول محمد بن إدريس الشافعي: قد تقدم رواية الربيع عنه أنه قال في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} لما حُجِبَ هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل أن أولياءه يرونه في الرضا. قال الربيع: فقلت: يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال: نعم وبه أدين الله لو لم يُوقِنْ محمد بن إدريس أنه يرى ربه ما عبده (5).
وقال ابن بطة: حدثنا ابن الأنباري، حدثنا أبو القاسم الأنماطيُّ صاحب المزني، قال: قال الشافعي: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} على أن أولياءه يرونه يوم القيامة بأبصار وجوههم.
قول إمام السنة أحمد بن حنبل: قال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: ربنا تبارك وتعالى، يراه أهل الجنة أليس (6) تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: صحيح.
قال ابن منصور: وقال إسحاق بن راهويه: صحيح، ولا يدعهُ إلاَّ مبتدع، أو ضعيفُ الرأي.
__________
(1) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 255.
(2) في (ج) و (ش): " المروزي "، وفي (ب): " المروذي ".
(3) في " الشريعة " و" حادي الأرواح ": وبالمشي.
(4) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 254.
(5) أخرجه اللالكائي (883).
(6) في (ش): ألست.(5/202)
وقال الفضل بن زياد: سمعتُ أبا عبد الله يقول له: أتقول بالرؤية؟ فقال: مَنْ لم يقل بالرؤية فهو جهمي.
وقال: وسمعت أبا عبد الله -وبلغه عن رجل أنه قال: إن الله لا يُرى في الآخرة- فغضِبَ غضباً شديداً، ثم قال (1): من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فقد كفر، عليه لعنةُ الله وغضبه من كان من الناس، أليس يقول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}؟ وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (2).
وقال أبو داود: سمعت أحمد وذُكِرَ له عن رجل شيءٌ في الرؤية فغضب، وقال: من قال: إن الله لا يُرى فهو كافرٌ (3).
قال أبو داود: وسمعت أحمد - وقيل له في رجل يحدِّث بحديثٍ عن رجلٍ عن أبي العطوف (4) أن الله لا يُرى في الآخرة. فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال: أخزى الله هذا.
وقال أبو بكر المروزي: قيل لأبي عبد الله تعرف عن يزيد بن هارون، عن أبي العطوف عن أبي الزبير، عن جابرٍ: إن استقر الجبل فسوف تراني، وإن لم يستقر، فلا تراني، لا في الدنيا، ولا في الآخرة؟ فغضب أبو عبد الله غضباً شديداً، حتى تبين في وجهه، وكان قاعداً والناس حوله، فأخذ نعله وانتعل، وقال: أخزى الله هذا، لا ينبغي أن يكتب، ودفع أن يكون يزيد بن هارون رواه أو حدَّث به، وقال: هذا جهميٌّ كافرٌ، خالف قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
__________
(1) في (ش): فقال.
(2) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 254.
(3) أخرجه الآجري في " الشريعة " ص 255.
(4) هو الجراح بن منهال الجزري، قال أحمد: كان صاحب غفلة، وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه، وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث، وقال النسائي والدارقطني: متروك. " ميزان الاعتدال " 1/ 390.(5/203)
نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} أخزى الله هذا ... الحديث.
وقال أبو طالب: قال أبو عبد الله: قوله عز وجل: {هل ينظرون إلاَّ أن يأتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، {وجاء ربُّك والمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً} [الفجر: 22] فمن قال: الله (1) لا يُرى، فقد كفر.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن هانىء: سمعت أبا عبد الله يقول: من لم يؤمن بالرؤية، فهو جهمي، والجهميُّ كافرٌ (2).
وقال يوسف بن موسى القَطَّان: قيل لأبي عبد الله: أهل الجنة ينظرون إلى ربهم تبارك وتعالى، ويُكلِمونه ويكلِّمهم؟ قال: نعم ينظر (3) إليهم وينظرون إليه، ويكلمهم ويكلمونه (4) كيف شاؤوا إذا شاؤوا.
قال حنبل بن إسحاق: سمعت أبا عبد الله يقول: القوم يرجعون إلى التعطيل في أقوالهم، يُنكرون الرؤية والآثار كلها، وما ظننت أنهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم.
قال حنبلٌ: سمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يُرى، فقد ردَّ على الله وعلى الرَّسول، ومن زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، فقد كفر، وردَّ على الله قوله.
قال أبو عبد الله: فنحن نؤمن بهذه الأحاديث، ونُقِرُّ بها، ونُمرُّها كما جاءت (5).
__________
(1) في (ب) و (ش): إن الله.
(2) أورده في " مسائل الإمام أحمد " 2/ 152 (1850)، وانظر (1878).
(3) في (ج): ينظر الله إليهم.
(4) من قوله: " ويكلمهم " إلى هنا ساقط من (ج).
(5) أخرجه اللالكائي (889).(5/204)
وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول: فأمَّا من قال: إن الله (1) لا يُرى في الآخرة، فهو جهميٌّ. قال أبو عبد الله: وإنما تكلَّم من تكلم في رؤية الدنيا.
وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرُّؤية مَنْ كذَّب بها، فهو زنديقٌ.
وقال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: أدركنا الناس وما يُنكرون مِنْ هذه الأحاديث شيئاً -أحاديث الرؤية- وكانوا يُحدثون بها على الجملة يُمِرُّونَها على حالِها غير منكرين لذلك، ولا مرتابين.
وقال أبو عبد الله: قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فكلَّم الله موسى من وراء حجاب، فقال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فأخبر الله عزَّ وجلَّ أن موسى يراه في الآخرة، وقال: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، ولا يكون حجابٌ (2) إلاَّ لرؤية أخبر الله سبحانه أن من شاء الله ومن أراد يراه والكفَّار لا يرونه.
قال حنبل: وسمعتُ أبا عبد الله يقول: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}، والأحاديث التي تُروى في النظر إلى وجه الله تعالى: حديث جرير بن عبد الله وغيره: " تنظُرُون إلى ربِّكم " .. أحاديث صحاح. وقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} النظر إلى وجه الله تعالى، قال أبو عبد الله: نؤمن بها ونعلم أنها حق أحاديث الرؤية، ونؤمن أن الله يُرى، نرى ربنا (3) يوم القيامة، لا نشك فيه ولا نرتاب.
__________
(1) في (ج): إنه.
(2) في (ش): الحجاب.
(3) " نرى ربنا " ساقطة من (ب).(5/205)
قال: وسمعت أبا عبد الله يقول: من زعم أن الله لا يُرى في الآخرة، فقد كفر بالله، وكذَّب بالقرآن، ورد على الله أمره. يُستتابُ، فإن تاب، وإلا قُتِلَ.
قال حنبل: قلت لأبي عبد الله في أحاديث الرؤية. فقال: هذه صحاح، نؤمن بها، ونُقِرُّ بها، وكل ما (1) رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إسناده جيِّدٌ أقررنا به.
قال أبو عبد الله: إذا لم نقر بما جاء عن النبي ودفعناه، رددنا على الله أمره، قال الله تعالى: {وما آتاكُمُ الرسولُ فخُذُوهُ وما نهاكُمْ عنه فانتَهُوا} [الحشر: 7].
قول إسحاق بن راهويه: ذكر الحاكم وشيخ الإسلام وغيرهما عنه أن عبد الله بن طاهر أمير خراسان سأله، فقال: يا أبا يعقوب، هذه الأحاديث التي تروونها في النُّزول والرؤية ما هي (2)؟ فقال: رواها من روى الطهارة والغسل (3) والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا في هذه عُدولاً، وإلاَّ فقد ارتفعت، وبطل الشرع. فقال: شفاك الله كما شفيتني. أو كما قال.
قول جميع أهل الإيمان: قال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة في كتابه: إن المؤمنين لم يختلفوا أن جميع المؤمنين يرون خالقهم يوم المعاد، ومن أنكر ذلك، فليس بمؤمنٍ عند المؤمنين.
قول المزني: ذكر الطبري في " السنة " عن إبراهيم بن أبي (4) داود المصري، قال كنا عند نعيم بن حمَّادٍ جلوساً، فقال نعيم، للمزني: ما تقول في القرآن؟ قال: أقول: إنه كلام الله. فقال: غير مخلوقٍ؟ فقال: غير مخلوقٍ.
قال: وتقول: إن الله يرى يوم القيامة؟ قال: نعم. فلما افترق الناس، قام إليه المُزنيُّ، فقال: يا أبا عبد الله، شهَّرتني على رؤوس الناس (5). فقال: إن الناس
__________
(1) في (ب): وكلّها.
(2) في (ب) و (ج) و" حادي الأرواح ": هن.
(3) " الطهارة والغسل " ساقط من (ج).
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ب): الخلائق.(5/206)
قد أكثروا فيك فأردت أن أُبرِّئك (1).
قول جميع أهل اللغة. قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد صاحب اللغة يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلباً يقول في قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ} [الأحزاب: 44] أجمع أهل اللغة أن اللقاء ها هنا لا يكون إلاَّ معاينةً ونظراً بالأبصار، وحسبُك بهذا الإسناد صحة (2).
واللقاء ثابتٌ بنصِّ القرآن كما تقدَّم، وبالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلُّ أحاديث اللقاء صحيحة.
فحديث أنسٍ في قصة بئر معونة: أنا قد لقينا ربَّنا، فرضيَ عنَّا وأرضانا (3).
وحديث عبادة وعائشة وأبي هريرة وابن مسعودٍ: " من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه " (4).
__________
(1) أخرجه اللالكائي (891).
(2) في (ش): حجة.
(3) أخرجه البخاري (4090) و (4091)، ومسلم (677)، وأبو يعلى (3160).
(4) أخرجه من حديث عبادة: أحمد 5/ 316 و321، والبخاري (6507) ومسلم (2683)، والترمذي (1066)، والنسائي 4/ 10.
وأخرجه من حديث عائشة: أحمد 6/ 44 و55 و207 و236، ومسلم (2684)، والترمذي (1067)، والنسائي 4/ 9 و10، وابن ماجه (4264)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (430)، وعلقه البخاري (6507).
وأخرجه من حديث أبي موسى الأشعري: البخاري (6508)، ومسلم (2686)، والقضاعي (431)، والترمذي عقب حديث عبادة.
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 107، والبزار (780)، وأبو يعلى (3877).
وأخرجه أحمد عن رجل من الصحابة 4/ 259، وأورده كذلك الهيثمي 2/ 321.
وأخرجه من حديث معاوية: الطبراني في " الكبير " كما في " المجمع " 2/ 321. =(5/207)
وحديث أنس: " إنكم ستلقون بعدي أثَرَةً، فاصبروا حتَّى تلقوا الله ورسوله " (1).
وحديث أبي ذرٍّ: " لو لقيتني بقِرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرِكُ به شيئاً (2) لقيتك بقرابها مغفرة ".
وحديث أبي موسى. " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة " (3).
وغير ذلك من أحاديث اللقاء التي اطَّرَدَتْ كلها بلفظٍ واحدٍ.
انتهى كلام هذه الطائفة منقولاً بحروفه من كتاب الشيخ ابن قيم الجوزية، والمقصود بنقله على طُولهِ بيان أنهم من أهل التأويل والتديُّن، وقبول أخبار ثقاتهم، كما هو مذهب أهل البيت والمنصوص في كتبهم المشهورة، حتى نجمت هذه البدعة البديعة، والعصبية الشنيعة في القول بأنهم مكذبون لله ورسوله (4) على سبيل التَّعمُّد وقصد إضلال الخلق عما يعلمونه من الحق.
فصل: ومن العدل بعد حكاية أدلتهم بعباراتهم أن نحكيَ أدلة المعتزلة
__________
= وأخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد والطبراني كما في " المجمع " بلفظ: " إن الله عزَّ وجلَّ يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي، فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول: لم، فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي ".
وأخرجه بهذا اللفظ: أحمد 5/ 238 من حديث معاذ.
(1) أخرجه أحمد 3/ 166 و244، والبخاري (3793) و (7052)، ومسلم (1845)، والترمذي (2190)، والبغوي (3974).
(2) أخرجه مسلم (2687)، والبغوي (1254)، وابن منده في " الإيمان " (78) و (79)، والطيالسي (464).
(3) صح هذا الحديث عن غير واحد من الصحابة بهذا اللفظ. أما حديث أبي موسى، فقد رواه أحمد 4/ 402 و411، والطبراني في " الكبير " كما في " المجمع " 1/ 16 بلفظ: " أبشروا وبشروا من وراءكم أنه من شهد أن لا إله إلاَّ الله صادقاً بها دخل الجنة ".
(4) في (ج): ولرسوله.(5/208)
ومتأخِّري الشيعة بعباراتهم أيضاً لوجهين:
أحدهما: لكيلا يتوهَّم فينا (1) أنا قصدنا الحَيْفَ على (2) المعتزلة بترك عباراتهم المختارة لنُصرة مذهبهم، وعدم الاستيعاب لما في كُتبهم.
وثانيهما: ليظهر من (3) تصرُّفاتهم العلم بمقصدنا الأول الذي هو الباعث على هذا التأليف، وهو أن المعتزلة خاضوا مع القوم في الاستدلال عليهم، والجواب عن أدلتهم، كما هو شأنُ المتأولين، ولم يقولوا: إنهم أنكروا الضرورة في مذاهبهم وأن عنادهم معلومٌ ببدائه العقول، مستغنٍ عن البيان كما ذكروا ذلك في السُّوفسطائية.
فنقول: قال السيد العلامة المتكلِّمُ أحمد بن أبي هاشم الحسيني في كتابه " شرح الأصول الخمسة " (4) لقاضي القضاة -رحمة الله عليهما- ما لفظه (5).
فصل في نفي الرُّؤية: ومما يجب نفيه عن الله تعالى: الرؤية، وهذه مسألة خلافٍ بين الناس، وفي الحقيقة الخلاف في هذه المسألة إنما يتحقَّق بيننا وبين هؤلاء الأشعرية الذين لا (6) يكيِّفون الرؤية، فأمَّا المجسِّمة، فهم يُسَلِّمون لنا أنَّ
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): عن.
(3) في (ب): أن من.
(4) ص 232.
(5) حذف هذا الفصل عمداً من نسخة (ش)، فقد قال الناسخ هنا ما نصه: نعم، وقد نقله مولانا السيد الإمام الرحالة الحافظ القدوة في الآل الأكرمين -قدس الله روحه بحق سيد المرسلين الأولين والآخرين- مستوفى، وقد حذفته من هذه النسخة رجاء في جمعه من كلام القوم جمعاً على طريقة كلام الشيخ ابن قيم الجوزية إن مَهَّل الله تعالى. نعم ذكر السيد -رحمة الله تعالى- ما لفظه بعد تمام كلام صاحب " شرح الأصول " ما هذا لفظه: انتهى كلام المعتزلة ...
(6) ساقطة من (ج).(5/209)
الله تعالى لو لم يكن جسماً، لما صح أن يُرى، ونحن نسلِّم لهم أنه تعالى لو كان جسماً، لصحَّ أن يُرى، فالكلام معهم في هذه المسألة لغوٌ، ويمكن أن يُستدل علم هذه المسألة بالعقل والسمع جميعاً، لأن صحة السمع لا تقِفُ عليها، وكلُّ مسألةٍ لا تقف صحة السمع عليها، فالاستدلال عليها بالسمع ممكن، ولهذا جوَّزنا الاستدلال بالسمع على كونه تعالى حيَّاً لما لم تقف صحة السمع عليها. يُبَيِّن ذلك أن أحدنا يمكنه أن يعلم أن للعالم صانعاً حكيماً، وإن لم يخطُر بباله أنه هل يُرى أم لا؟ ولهذا لم نكفِّر (1) من خالفنا في هذه المسألة، لما كان الجهل بأنه تعالى لا يُرى، لا يقتضي جهلاً بذاته ولا شيءٍ من صفاته، ولهذا جوَّزنا في قوله تعالى: {ربِّ أرني أنظُر إليك} أن يكون سؤال موسى عليه السلام، لأن المرئي ليس له (2) -بكونه مرئياً- حالٌ وصفة، وعلى هذا لم نجهِّلْ شيخنا أبا عليِّ بالأكوان، حيث قال: إنها مُدرَكَةٌ بالبصر.
إذا ثبتت هذه الجملة، فاعلم أنه -رحمه الله- بدأ في الاستدلال على هذه المسألة بقوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الأنعام: 103]، ووجه الدلالة من الآية هو ما قد ثبت أن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلاَّ الرؤية، وثبت (3) أنه تعالى نفى عن نفسه إدراك البصر، وتمدَّح بذلك تمدُّحاً راجعاً إلى ذاته، وما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان (4) إثباته نقصاً، والنقائص (5) غير جائزة على الله تعالى في حال من الأحوال.
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلاَّ الرؤية؟ (6).
قلنا: لأن الرائي ليس له بكونه رائياً حالةٌ زائدةٌ على كونه مدركاً، لأنه لو كان أمراً زائداً عليه، لصحَّ انفصال أحدهما عن الآخر على كونه مدركاً (7)، إذ
__________
(1) في (د): يكفر.
(2) ساقطة من (ج).
(3) في (ج): ولو ثبت.
(4) عبارة " إلى ذاته كان " ساقطة من (ب).
(5) في (ب): وإثبات النقائص.
(6) في غير (ج) و (د): بالرؤية.
(7) قوله: " على كونه مدركاً " ورد فقط في (أ)، وليس هو في " شرح الأصول الخمسة ".(5/210)
لا علاقة بينهما من وجهٍ معقول، والمعقول (1) خلافه.
وبعد: فإن الإدراك إذا أُطلِقَ يحتمل معاني كثيرة. قد يُذكَرُ ويُراد به البلوغ، يقال: أدرك الغلام: إذا بلغ الحُلمَ، وقد يُذكر ويراد به النُّضج والإيناع، يقال (2): أدرك الثَّمر: إذا أينع، فأمَّا إذا قُيِّدَ بالبصر، فإنه لا يحتمل إلاَّ الرؤية على ما ذكرناه، وصار الحال فيه كالحال في السُّكون، فإنه إذا قُرنَ بالنفس لا يحتمل إلاَّ العلم، وإن احتمل، بإطلاقه شيئاً آخر، تبين ما ذكرناه أنه لا فرق بين قولهم: أدركتُ ببصري هذا الشخص، وبين قولهم (4): آنستُ (5) ببصري هذا الشخص، ورأيت (6) ببصري هذا الشخص، أو أبصرت ببصري هذا الشخص (7)، حتى لو قال: أدركتُ ببصري وما رأيتُ، أو آنست وما أدركت، لعُدَّ مناقضاً.
ومن علامة اتفاق اللفظين في الفائدة أن يُثْبَتا (8) في الاستعمال معاً ويزولا معاً، حتى لو أثبت بأحدهما، ونفي بالآخر لتناقض الكلام. وبهذه الطريقة يُعلَمُ اتفاق الجلوس والقعودِ في الفائدة وغيرها من الأسامي.
فإن قيل: كيف يصحُّ قولكم: إن من علامة اتفاق اللفظين في الفائدة أن يثبتا في الاستعمال معاً، ويزولا معاً؟ ومعلوم أن الإرادة والمحبة واحدٌ (9)، ثم (10)
__________
(1) في (د) و (ج): والمعلوم.
(2) من قوله: " أدرك الغلام " إلى هنا ساقط من (ج).
(4) ساقطة من (ج).
(5) في " شرح الأصول الخمسة ": رأيت.
(6) في الأصول: " أو رأيت "، والمثبت من " شرح الأصول الخمسة ".
(7) زيادة من " شرح الأصول الخمسة " لم ترد في الأصول.
(8) في (ب): ثبت.
(9) في " شرح الأصول الخمسة ": واحدة.
(10) في (أ): " لم "، وهو تحريف.(5/211)
يستعمل أحدُهما حيث لا يستعمل الآخر (1)، فيقال: أُحِبُّ جاريتي، ولا يقال: أريدُها؟
قلنا: كلامنا فيما إذا استُعملا حقيقةً، وهذا فقد استعمل مجازاً، وحقيقته " أُحِبُ " (2): الاستمتاع بها، فلا جرم، يجوز أن نقول: أريد الاستمتاع بها، وصار الحال فيما ذكروه كالحال في الغائط، فإنه المكان المطمئن في الأصل، ثم يُتجوَّز به في الكناية عن قضاء الحاجة، ولا يُستعمل بدله (3) المكان المطمئنُّ في الكناية عن قضاء تلك الحاجة لما كان ذلك الاستعمال على سبيل التَّوسُّع والمجاز، لا على وجه الحقيقة، كذلك ها هنا.
فإن قيل: أليس أنهم يقولون: أدركتُ ببصري حرارة الميل، فكيف يصحُّ قولهم: إن الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر لا يحتمل إلاَّ الرؤية؟
قلنا: هذا ليس من اللغة في شيءٍ، وإنما اخترعه ابن أبي بشرٍ الأشعري ليصح (4) مذهبه به، إذ لم يَرِدْ في كلامهم: لا المنظوم ولا المنثور، يبين ما ذكرناه، ويوضحه: أن هذه " الباء " إذا دخلت على الأسامي أفادت أنها آلةٌ فيما دخلت فيه كقولهم: مشيتُ برجلي، وكتبت بقلمي. والبصرُ ليس بآلةٍ في إدراك الحرارة، إذ الخيشوم يُشاركه في ذلك، فلو كان آلة فيه، لم يَجُزْ ذلك، ألا ترى أن البصر لما كان آلة في الرُّؤية، لم يُشاركه فيها آلة السمع وغيره من الحواس؟ كذلك كان يجب مثله في مسألتنا، على أنا لم نقل: إنَّ الإدراك إذا قُرِنَ بالبصر، وقُيِّدَ بالحرارة، فإنه لا يُفيدُ إلاَّ الرؤية، فمتى (5) يكون هذا نقضاً لكلامنا؟ وإنما قلنا: إنه إذا قُرِنَ بالبصر، لم يحتمل إلاَّ الرُّؤية، فلا يتوجه هذا على ما قلناه.
__________
(1) في (ب): " الأخرى "، وفي (أ): بالآخر.
(2) في (ب): لسبب.
(3) في (ب): به.
(4) في " شرح الأصول الخمسة " ليصحح.
(5) في " شرح الأصول الخمسة ": حتى.(5/212)
فإن قيل: ولم قلتم: إنَّ هذه الآية وردت مورد التمدُّح؟
قلنا: لأن سياق الآية يقتضي ذلك، وكذلك ما قبلها وما بعدها، لأن جميعه في مدائح الله سبحانه، وغير جائزٍ من الحكيم أن يأتي بجملةٍ مشتملةٍ على المدح، ثم يخلِطُ بها ما ليس بمدح ألبتَّة. ألا ترى أنه لا يَحْسنُ أن نقول: فلانٌ وَرِعٌ، تقيٌّ، نقيُّ الجيب، مرضيُّ الطريقة، أسودُ، يأكل الخبز، يُصلِّي بالليل ويصوم بالنَّهار، لما لم يكن لكونه أسودَ، وأكله (1) الخبز تأثيرٌ في المدح؟ يبيِّنُ ذلك أنه تعالى لما بيَّن تميُّزه عمَّا عداه من سائر الأحياء (2) بنفي الصاحبة والولد، بين أنه يتميز عن غيره من الذوات بأنه لا يُرى ويرى (3).
وبعد، فإن الأمة اتفقوا على أن الآية واردةٌ مورد المدح، وأنه لا (4) كلام في ذلك، وإنما الكلام في جهة التَّمدح، فمنهم من قال: إن التمدح هو بأن القديم -تعالى- لا يُرى، لا في الدنيا، ولا في الآخرة على ما يقوله، ومنهم من قال: إن التَّمدُّح هو أنه لا يرى في دار الدنيا، ومنهم من قال: إن التمدُّح في أنه لا يُرى بهذه الحواسِّ، وإن جاز أن يُرى بحاسَّةٍ أُخرى، فصحَّ أن الآية وردت مورد التمدح على ما ذكرناه، ولا تمدُّح إلاَّ من الجهة التي نقولها.
فإن قيل: وأيُّ مدحٍ في أن لا يُرى القديمُ تعالى، وقد شاركه فيه المعدومات وكثيرٌ من الموجودات؟
قلنا: لم يقع التمدح بمجرد أن لا يرى، وإنما يقع التمدح بكونه رائياً، ولا يرى، ولا يمتنع في الشيء أن لا يكون مدحاً، وعلى هذا لا مدح في نفي
__________
(1) في " شرح الأصول ": يأكل.
(2) في " شرح الأصول ": من الأجناس.
(3) عبارة " لا يرى ويرى " ساقطة من (ب)، وفي (أ) و (ج): " لا يرى ولا يرى "، والمثبت من (د) و" شرح الأصول الخمسة ".
(4) قوله: " المدح وأنه لا " من (د)، وفي باقي الأصول بياض مكانها، وفي " شرح الأصول الخمسة ": " التمدح " وسقط بعده: " وأنه لا كلام في ذلك ".(5/213)
الصاحبة والولد مجرداً، ثمَّ بانضمامه إلى شيءٍ آخرَ يصيرُ مدحاً، ثم إذا انضمَّ إليه كونه حيّاً لا آفة به، صار مدحاً. وهكذا لا مدح في أنه لا أوَّل له، فإن المعدومات تشاركُه في ذلك، ثم يصيرُ مدحاً بانضمام شيء آخر إليه، وهو كونه قادراً، عالماً، حياً، سميعاً، بصيراً، موجوداً، كذلك في مسألتنا. وحاصل هذه الجملة أن التَّمدُّح إنما يقع بما به تقعُ البينونة بينه وبين غيره من الذوات، والبينونة لا تقع إلاَّ بما يقوله، لأن الذوات على أقسامٍ منها ما يُرى ويَرى كالواحد منَّا. ومنها ما لا يَرَى ولا يُرى كالمعدومات. ومنها ما صحّ ولا يرى كالجمادات.
ومنها ما يَرَى ولا يُرى كالقديم تعالى، وعلى هذا صحَّ التَّمدُّح بقوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
فإن قيل: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ، كيف يصيرُ مدحاً؟.
قيل له: لا مانع من ذلك، فمعلوم أن قوله عز وجل: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ليس (1) بمدحٍ، ثم صار مدحاً بانضمامه إلى قوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} وكذلك قولنا في الله عز وجل: إنه موجودٌ، ليس بمدحٍ، ثم إذا ضممنا إليه القول بأئه لا ابتداء له، صار مدحاً، ونظائر ذلك أكثرُ مِن أن تذكر، والمنكر له متجاهل.
فإن قيل: لو جاز فيما ليس بمدحٍ أن يصير مدحاً بانضمامه إلى غيره، لكان لا يمتنع أن يصير الجهل مدحاً بانضمامه إلى الشجاعة وقوة القلب، حتى يحسُنَ أن يُمدَحَ الغير (2) بأنه جاهلٌ، قويُّ القلب، شجاعٌ.
قيل له: إن ما وُضع للنقص من الأوصاف، نحو قولنا: جاهلٌ، عاجزٌ، وما شاكلها، لا تختلف فائدته، ولا يتغير حاله بالانضمام (3)، بل يقبل (4) النقصَ
__________
(1) زيد قبلها في " شرح الأصول ": بمجرده.
(2) في " شرح الأصول ": أن يمدح الواحد الغير.
(3) في " شرح الأصول ": بالانضمام ولا عدم الانضمام.
(4) في " شرح الأصول ": يفيد.(5/214)
بكل حالٍ، سواء ضُمَّ إلى غيره أو لم يضم، وليس كذلك سبيل ما (1) ليس بمدحٍ ولا نقصٍ، فإن ذلك مما لا يمتنعُ أن يصير مدحاً بغيره على ما ذكرناه.
فإن قيل: فجوزوا أن يصير قولنا: " أسود " مدحاً بأن ينضم إليه قولنا: عالم، ومعلوم أن ذلك لا يصير مدحاً لما لم يكن مدحاً في نفسه، فإذا لم يَجُزْ أن يصير ذلك مدحاً، فكذلك لا يجوز في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأبصَارُ} أن يصير مدحاً بأن ينضمَّ إليه قوله: {وهو يُدْرِكُ الأبصَارَ} [الأنعام: 103].
قيل: إنا لم نقل: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ صار مدحاً بكل حالٍ، بل قلنا: إن ما ليس بمدحٍ إذا انضمَّ إلى ما هو مدحٌ، وحصل بمجموعهما (2) البينونةُ، صار مدحاً، ولا تحصُلُ البينونة بانضمام قولنا: " أسودُ " إلى قولنا " عالمٌ "، بخلاف مسألتنا، لأنه حصل ها هنا بينونةٌ على الوجه الذي ذكرناه.
فإن قيل: ما وجه البينونة؟
قلنا: وجهُ البينونة: هو أنه يرى ولا يُرى.
فإن قيل: هلاَّ جاز أن تكون جهةُ التمدُّح هو كونه قادراً على أن منعنا (3) من رؤيته؟
قلنا: هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسِّرين. وما هذا سبيله من التأويلات يكون (4) فاسداً.
__________
(1) المثبت من (د)، وفي باقي الأصول بياض.
(2) في (أ) و (ب): مجموعهما.
(3) في " شرح الأصول ": يمنعنا.
(4) في (أ): " لكونه "، وهو تحريف.(5/215)
وبعد: فإن هذا حملٌ لخطاب الله تعالى على غير (1) ما تقتضيه حقيقة اللُّغة ومجازها، فلا يجوز.
يُبيِّنُ ذلك أن أحدنا إذا قال: فلان لا يرى، فإنه لا يقتضي كونه قادراً على أن يمنع من رويته، لا في حقيقة اللغة ولا في مجازها، فكيف يصحُّ ما ذكرته؟
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن هذا التمدُّح راجعٌ إلى الذات؟
قلنا: لأن المدح على ضربين:
أحدهما: يرجع إلى الذات. والثاني: يرجعُ إلى الفعل.
وما يرجع إلى الذات قسمان: أحدهما يرجع إلى الإثبات (2)، نحو قولنا: قادرٌ، عالمٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ.
والثاني: يرجع إلى النَّفي، وذلك نحو قولنا: لا يحتاج، ولا يتحرَّك ولا يسكن.
وأما ما يرجع إلى الفعل، فعلى ضربين أيضاً (3):
أحدهما: يرجع إلى الإثبات، نحو قولنا: رازقٌ، ومحسنٌ، ومتفضِّلٌ.
والثاني: يرجِعُ إلى النفي، وذلك نحو قولنا: لا يَظْلِمُ، ولا يكذِبُ.
إذا ثبت هذا، فالواجبُ أن ننظر في قوله تعالى: {لا تُدرِكُهُ الأبصارُ} من أيِّ القبيلين هو؟ لا يجوز أن يكون من قبيل ما يرجع إلى الفعل، لأنه تعالى لم يفعل فعلاً حتى لا يُرى، وليس يجب في الشيء إذا لم ير أن يحصل منه فعل حتى لا يُرى، فإن كثيراً من الأشياء لا تُرى، وإن لم تفعل أمراً من الأمور كالمعدومات، وكثيرٍ من الأعراض، والشيء إذا لم يُرَ، فإنما لم يُرَ لما هو عليه
__________
(1) في الأصول: " قدر "، والمثبت من " شرح الأصول ".
(2) في (ب): إثبات.
(3) ساقطة من (ب).(5/216)
في ذاته، لا لأنه يفعل أمراً من الأمور. وإذا كان الأمر كذلك، صح أن هذا الأمر يرجع إلى الذات على ما نقوله.
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن ما كان نفيهُ مدحاً راجعاً إلى ذاته، كان إثباته نقصاً.
قيل له: لأنه لو لم يكن إثباته نقصاً، لم يكن نفيه مدحاً (1)، ألا ترى أن نفي السِّنَةِ والنوم لمَّا كان مدحاً، كان إثباته نقصاً؟ (2) حتَّى لو قال أحدٌ: إنه تعالى ينام، كان هذا نقصاً.
وبعد: فإنه تعالى إذا لم يُرَ إنما (3) لم يُرَ لما هو عليه في ذاته (4)، فلو رُئِيَ، لوجب أن يكون قد خرج عما هو عليه في ذاته، فكان نقصاً.
فإن قيل: وأيُّ نقصٍ في أن يُرى القديم؟ وما وجه النقص؟
قلنا: لا يلزمنا أن نعلم ذلك مفصلاً، بل إذا علمنا على الجملة أنه تعالى تمدَّح بنفي الرؤية عن نفسه مدحاً راجعاً إلى ذاته، وعلمنا أن ما كان نفيه مدحاً راجعاً إلى الذات، كان إثباته نقصاً، كفى، وإذا أردت التفصيل، فلأن فيه انقلابه وخروجه عما هو عليه في ذاته.
فإن قيل: ما أنكرتم أن المراد بقوله تعالى: {لا تُدرِكُه الأبصارُ}، أي لا تحيط به الأبصار، ونحن هكذا نقول.
قلنا: الإحاطة ليس هي بمعنى الإدراك، لا في حقيقة اللُّغة، ولا في مجازها، ألا ترى أنهم يقولون: السُّورُ أحاط بالمدينة، ولا يقولون: أدركها، ولا أدرك بها، وكذلك يقولون: عين الميت أحاطت بالكافور، ولا يقولون: أدركته.
__________
(1) في " شرح الأصول ": التمدح.
(2) في (أ): " لم يكن نقصاً ".
(3) في (أ): بما.
(4) في الأصول: " ذلك "، والمثبت من " شرح الأصول الخمسة ".(5/217)
وبعد: فإن هذا تأويلٌ بخلاف تأويل المفسرين، فلا يقبل على أنه كما لا تحيط به الأبصار، فكذلك لا يحيط هو (1) بالأبصار، لأن المانع عن ذلك في الموضعين واحدٌ، فلا يجوز حمل الإدراك المذكور في الآية على الإحاطة لهذه الوجوه.
فإن قيل: لا تَعَلُّق لكم بالظاهر، لأن الذي يقتضيه الظاهر أن الأبصار لا تراه، ونحن كذلك نقول.
قيل له: إن الله تعالى تمدَّح بنفي الرؤية عن نفسه، فلا بُدَّ أن يحمل على وجهٍ تقعُ فيه البينونة (2) بينه وبين غيره من الذوات حتى يدخل في باب التَّمدُّح، ولا تقع البينونة بينه وبين غيره من الذوات (3)، بهذا الذي ذكرتموه لأن الأبصار كما لا تراه فكذلك لا ترى غيره.
وبعد، فإن المراد بالأبصار: المبصرون، إلاَّ أنه تعالى علَّق (4) الإدراك بما هو آلةٌ فيه وعنى به الجملة.
ألا ترى أنهم يقولون: مشتْ رجلي، وكتبتْ يدي، وسمعت أُذني، ويريدون الجملة، وعلى هذا المثل السائر: يداك أو كتا وفُوك نَفَخَ (5). ثم إن لتعليق الشيء بما هو آلة فيه فائدةٌ ظاهرةٌ، لا تحصل تلك الفائدة إذا علقت بالجملة.
__________
(1) في (د): هو لا يحيط.
(2) في (د): " به البينونة "، وفي (ج): " البينونة به ".
(3) من قوله: " حتى يدخل " إلى هنا ساقط من (أ) و (د).
(4) في (أ) و (ج): إلى ذاته تعالى على.
(5) في " فصل المقال " ص 458، و" المستقصى " 2/ 410، و" مجمع الأمثال " ص 414: أصله أن رجلاً كان في جزيرة من جزائر البحر، فأراد أن يَعْبُرَ على زِقٍّ نفخ فيه، فلم يُحسن إحكامه، حتى إذا توسَّط البحر خرجت منه الريح، فغرق، فلما غشيه الموت استغاث برجل، فقال له: يداك أوكتا وفوك نفخ.
وثمت سبب آخر لهذا المثل أورده البكري، فانظره فيه.(5/218)