الإِشكال السابع عشر: أنهم كانوا يُسَمَّوْنَ مسلمين، والمسلم مقبول وقد مرَّ تقريره.
الإشكال الثامن عشر: إنهم في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانوا يُسَمَّوْنَ مؤمنين والمؤمن مقبول وقد مر أيضاً تقريرُه.
الإِشكال التاسع عشر: أنَّه كان يلزم السيدَ إبطالُ القول بقصر العموم على سببه بدليلٍ قاطع أو (1) الاستدلال بدليل قاطع على أن هذه ما نزلت على سببٍ، وقد مر أيضاً تقريرُه.
الإشكال الموفي عشرين: أنَّه كان يلزمُه إبطالُ القول بأن العمومَ مشترك لدعواه القطعَ، وقد مر أيضاً.
الإِشكال الحادي والعشرون: أن لهذه الآية مخصصاتٍ على تقديرِ تسليم العموم وقد مر مثلَه أيضاً، وسيأتي ذكرُ المخصصات في الفصل الثاني.
الإشكال الثاني والعشرون: أن هذا العمومَ مخصوصٌ والاحتجاجُ بالعموم المخصوص مختلفٌ فيه، فكان يلزم السَّيِّد إبطالُ أنَّه ليس بحجة، وبيان أنَّه مخصوص أنَّه يجوزُ اتباعُ سبيل المفسدين فيما فعلوه مِن الواجبات والمندوباتِ والمباحات، وقد مَرَّ شيءٌ منه.
قال: وَمِن ذلك قولُه تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] فهذا من الدلائل القرآنية.
أقول: أطلق السَّيِّد هذه الآيةَ، ولم يُبين وجهَ الاحتجاج بها كأنه
__________
(1) في (ب) و (ج): و.(2/227)
ظاهرٌ لا يخفى، وَيرِدُ عليه في ذلك إشكالات:
الإِشكال الأول: أن ظاهر هذه الآيةِ الكريمة يقتضي الأمرَ (1) باتِّباعِ كُلِّ مَنْ أنابَ إلى الله تعالى، لأن لفظهما مِن أحد الفاظ العموم، فصارت كقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإنَّ العلماء أجمعوا على أنها لا تُوجب اتباعَ سبيل المؤمن الواحد، وإنما اختلفوا هل توجِبُ اتباعَ المؤمنين إذا اجتمعوا على أمرٍ، فكذلك هذه الآية لا تُوجِبُ اتباعَ سبيلِ المؤمنِ الواحد.
الإشكال الثاني: أن هذه الآية نزلت على سبب فيما رواه الزمخشري في " الكشاف " واعترف بذلك السَّيِّد في تجريده للكشاف (2).
قال الزمخشري (3)، وَرُوِيَ أنها نزلت في سعدِ بنِ أبي وقاص
__________
(1) لفط الأمر ساقط من (ب).
(2) في (ب): تجريد الكشاف.
(3) " الكشاف " 3/ 232 وروى الطبراني في كتاب " العشرة " فيما ذكره ابن كثير 6/ 338 من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد، حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند، عن أبي عثمان النهدي أن سعد بن مالك، قال: أنزلت في هذه الآية {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} ... الآية، وقال كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمتُ، قالت: يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعن دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فَتُعَيَّرَ بي، فيقال: يا قاتل أمه، فقلت: لا تفعلي يا أمه، فاني لا أدع ديني هذا لشيء، فمكثت يوماً وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحت قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت: يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مئة نقس، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت كلي وإن شئت لا تأكلي، فأكلت. وهذا سند قابل للتحسين.
وروى ابن سعد في " الطبقات " 4/ 123 - 124 من طريق الواقدي -وهو ضعيف- حدثني عبد الله بن جعفر، عن إسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: جئت من الرمي، فإذا الناس مجتمعون على أمي حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس وعلى أخي عامر حين أسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: هذه أمُّك قد أخذت أخاك عامراً تعطي =(2/228)
رضيَ الله عنه وأُمَّه، وفي القصة أنَّها مكثت ثلاثاً لا تَطْعَمُ ولا تَشْرَب حتى شجروا فَاهَا بعود، ورُوِيَ أنَّه قال: لو كان لها سبعون نفساً ما ارتددتُ إلى الكفر.
فإذا ثبت هذا، فقد عرفت الخلاف في ما نزل على سبب، وما في هذا من الإِشكال وقد مرَّ تقريرُه.
الإشكال الثالث: أن الحجةَ في هذه الآيةِ من قَبِيلِ مفهومِ المخالفة أحدِ قسمي المفهوم، وفي الاحتجاج بها خلافٌ كثيرٌ، ممن أنكرها الإِمامُ أبو حنيفةَ (1) رضي الله عنه على جلالته، فيلزمُ السيدَ إثباتُ دليلٍ قاطعٍ (2) على أنَّ مفهومَ المخالفة حُجَّةٌ حيث ورد لا يكونُ له صورةٌ ظنية، ولا يكفيه أن يكونَ حُجَّةً قطعية في بعضِ المواضع.
الإشكال الرابعُ: أنا بَيَّنَّا أن هذه الآيةَ نزلت لأجل ما جرى مِن سَعْدٍ رضي الله عنه وأُمِّه، وقد ذكر أهلُ الأصول أن مفهومَ المخالفة إذا وَرَدَ لأجل حادثةٍ لم يكن حجةً، فإِن كان السيد يقول بهذا، لزمه الإِشكالُ،
__________
= الله عهداً أن لا يظلها ظل، ولا تأكل طعاماً، ولا تشرب شراباً حتى يدع الصباوة، فأقبل سعد حتى تخلص إليها، فقال: علي يا أُمَّه فاحلفي، قالت: لِم؟ قال: لئلا تستظلي في ظل، ولا تأكلي طعاماً، ولا تشربي شراباً حتى تري مقعدك من الناس، فقالت: إنما أحلف على ابني البر، فأنزل الله تعالى {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.
(1) وهو اختيار أبي العباس أحمد بن سريج، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي، والأمدي، وغير واحد من أئمة المعتزلة. انظر " المحصول " 1/ 2/228 - 250، و" المستصفي " 2/ 204 - 212، و" التبصرة " 218 - 225، و" المعتمد " 1/ 149 - 160، و" الإحكام " 3/ 93 - 146، و" التقرير والتحبير " 1/ 115 - 141، و" تيسير التحرير " 1/ 98 - 132 و" شرح مختصر المنتهى" 2/ 171 - 185، و" نهاية السول " 2/ 197 - 226، و" العدة " 2/ 480 - 482.
(2) في (ب): الدليل القاطع.(2/229)
وإن لم يُساعد على هذا، لزمه نصبُ الدليل القاطع على أن المفهومَ الوارد على حادثة حجةٌ قطعية كلية حتى تَدْخُلَ هذه المسألةُ تحتها على القطع، بل قد اعترفَ السَّيِّد في تجريده للكشاف (1) بذلك وقال في معناه ما لفظُه: يُريدُ: واتبع سبيلَ المؤمنين في دِينِكَ، ولا تُطِعْهُما فيه، يعني والديه المشرِكيْنِ الداعيين له إلى الشرك كما تقدم الآن في ذكر سببِ نزول هذه الآية.
الإشكال الخامس: أن الزمخشري رضي الله عنه ادَّعى أن المفهوم من هذه الآية هو (2): ولا تتبع سبيلَهما، يعني: الوالدين المشركين، وهو إمامُ هذا الفن بلا مدافعة، والسيدُ فَهِمَ مِن هذه الآية: ولا تقبل أحاديثَ المتأوِّلين عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلا يَتمُّ له هذا الذي فهمه حتى يَدُلَّ بدليلٍ قاطع على أن ما فهمه الزمخشري باطل لا يصح.
الإِشكال السادسُ: أن قولَه: (مَنْ أنَابَ إليَّ) من المطلقات التي لم تقَيَّدْ بكثرة ولا قِلة بإطلاقها يقتضي أن مَنْ وُجِدَتْ منه إنابةٌ قليلة أو كثيرة، فهو ممن يَتَّبعُ سبيلَه إما في إنابته على المفهومِ الصحيح، وإما في قبول خبره وسائرِ سبله على تفسير السيد، فيلزم أن يجبَ قبولُ المتأولين على تفسير السَّيِّد خاصة، لأنَّهم قد أنابوا في كثير من الأمور.
الإِشكال السابع: أنَّ حجة السَّيِّد إنما تستقيم على المفهوم، لكن المفهومَ يقتضي تحريمَ اتباع من لم يُنِبْ إلى الله في شيء، وهذا غيرُ حاصل في المتأوِّلين لما ذكرناه آنفاً، وهذا غيرُ الأول، فلا يَقَعُ وَهْمٌ، فإن هذا يقتضي رفعَ تحريم القبول، وذلك يقتضي إيجابَ القبول.
__________
(1) في (ب): تجريد الكشاف.
(2) هو: ساقطة من (ب).(2/230)
الإِشكال الثامن: كان يجب على السَّيِّدِ بيانُ أن الأمرَ للوجوب بدليلٍ قاطع كما تقدم.
الإِشكال التاسع: أن المتأوِّلين كانوا غيرَ موجودين في ذلك الزمان، فيكون السابق إلى الأفهام تحريمَ قبول خبرهم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وقد مر تحقيقه.
الإشكال العاشر والحادي عشر: أنهم كاْنوا يسمَّون مسلمين ومؤمنين في زمانه عليه السلامُ، والمسلم والمؤمن مقبولان، وقد مر أيضاًً.
الإِشكال الثاني عشر: إن الاستدلالَ بهذه الآية لا يَصِحُّ إلا من مجتهد، وقد جوَّزَ السيدُ أنَّه محال، وقطع بالتعسيرِ، فلا يَصِح أن يَصْدُرَ منه ما يجوز أنه محال.
الإشكال الثالث عشر: أنَّه قد حرَّجَ في تفسير القرآن العظيم ثم فسَّرَ هذِه الآية الكريمة بما لا يَسْبِقُ إلى فهم، ولا يوجَدُ في كتاب من كتب التفسير المشهورة.
الإشكال الرابع عشر: إن لم يَصِح أن للمفهومِ عموماً، لم يتِمَّ للسيد حُجَّةٌ في هذه الآية، وإن صَح أن له عموماً، فهو مخصوص، لأنه لَا يَصِحُّ قبولُ مَنْ لَم يُنِبْ في مواضعَ كثيرة كما تقدَّمَ، ونزيد ها هنا صورة، وذلك أنَّه يَصِح قبولُ قولِ المشرك: إنَّه أناب من الشرك فلو لم يُقْبَلْ حتى يثبت أنَّه منيب بغير خبره، لوجب أن لا تُقبل توبة التائبين، لأنَّه لا طريق لنا إلى العلم بصدقهم، ويلزم أن لا يكونَ العدل إلا مَنْ لم يصدُرْ عنه المعصيةُ البتة، وقد مضى لهذا صورٌ كثيرة، وتقدم دورُ هذا الإشكال.(2/231)
الإشكال الخامس عشر: أن العلماء اختلفوا في عموم المنطوق:
هل هو مشترك، وقد قدمنا ذلك، فكيف بعموم المفهوم، فكان يلزم ذكر دليلٍ قاطع على أن عمومَ المفهوم لا يجوزُ أن يُرَادَ به الخصوصُ إلا على سبيلِ التجوز.
الإشكال السادس عشر: أن لِعموم مفهوهاِ هذه الآيةِ مخصصات تأتي في الفصل الثاني، إن شاء الله.
الإشكال السابع عشر: أنَّه يلزم السَّيِّد أن يكون مَنْ خالفه من كبار الأئمة وخيار الأمة ممن اتبع سبيل من لم يُنِبْ إلى الله، وممن ترك اتباع سبيلِ مَن أناب، ولا عذْرَ لهم في الاجتهاد، لأنها عنده قطعيةٌ وقد سبق مثل هذا.
الإشكال الثامن عشر: أنا بيَّنَّا أن مَن غلب على ظنه صدقُ الخبر بالقرائن الصحيحةِ الدائمة الصدق أو الأكثرية، وغلب على ظنه أنَّه إن لم يعمل بمقتضاها وقع في مضرةِ العقاب، فإنه يجب عليه في العقل دفعُ تلك المضرة المظنونة، فاتباعُه لسبيل العقل، لا لسبيل منْ لم يُنِبْ إلى الله تعالى.
الإشكال التاسع عشر: أنَّا بَينَّا أن في قبول المتأولين دفع مضار العقاب المعلومة والمظنونة، والإتيان بالواجبات المعلومة والمظنونة ومن المعلوم أن هذه ليست سبيل من لم يُنِبْ إلى الله تعالى، بل سبيل أهل التحري والتقوى مِن فُضلاء الأمة، ومن لم يُنبْ إلى الله، فقد خلع رِبقة التحري، واجترأ على ما يعلم أو يظن أنَّه قبيحٌ، فلم يكن بينهما ملازمةٌ، ولو دفعوا عن أنفسهم مضرة العقاب المعلومة والمظنونة، لأنابوا إلى الله تعالى.(2/232)
الإشكال الموفي عشرين: أن الآية دليلٌ على وجوب قبول المتأوِّلين، لأن في قبولهم العملَ بما يُعلم أو يُظن أنَّه واجب، والترك لما يُعلم أو يُظن أنَّه حرام، وهذه طريقة المنيبين، وقد أمر اللهُ تعالى باتباعها، فوجب ذلك على مقتضى تفسيرِ السَّيِّد المختار، وهذا غيرُ الأول فتأمله.
الإشكال الحادي والعشرون: أن هذه الحجة لا تَصحُّ إلا بعدَ عدم المعارض، وسيأتي أن لهذا المفهوم معارضاتٍ منطوقة ومفهومة.
الإشكال الثاني والعشرون: هو الإشكالُ الثاني في الآية التي قبل هذه الآية، وقد تقدم بطوله فخذه من هناك.
فهده مئة إشكال، واثنان وعشرون إِشكالاً على القلب من كلام السيد في هذه المسألة، أو تزيدُ قليلاً، وقد انتهت الأدلةُ القرآنية التي تمسَّك بها السَّيِّد -أيده الله- ولم يبقَ معه إلا ما لا يحتمل أن يكونَ فيه حجة قطعية من خبر آحاد أو قياس، وقد سئمتُ من التطويل في هذا، وخشيتُ أن يكون الواقفُ (1) عليه أكثرَ سآمة مني، وإنما حملني على بعضِ البسط فيما تقدم دعوى السيدِ أن هذه المسألة قطعية، وتعريضه بتأثيم من خالفه فيها، ودعواه أن أدلتَه ظاهرة لا يحتمل أن يشُكَّ فيها عاقل فأحببتُ أن أستكثر من إيراد الإشكالاتِ، لعل السَّيِّد -أيده الله- يَشُكُّ في تأثيمي ولا يقطع به بل (2) في تأثيم مَنْ خالفه من الأئمة الكبار، والسادة الأطهار، وسائرِ العلماء الأخيار.
__________
(1) لفظ الواقف سقط من (ب).
(2) بل: سقطت من (ب).(2/233)
قال: الثاني قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ هذا العِلْمَ دِينٌ فَانْظُروا عَمَّن تأخُذُونَ دِينَكُمْ " (1).
أقول: في احتجاج السَّيِّد بهذا الحديث إشكالات:
الأول: أنه قد شك في تعذُّرِ معرفةِ الحديث، وقطع بالتعسُّرِ، وأطال الكلامَ في هذا، وأوسع الدائرة في استبعاد وجودِ طريق صحيحهَ لرواية الآثار، وها هو ذا سابحاً في بحارها، عاشياً إلى ضوء نارِها كما منع مِن تفسير القرآن العظيم، ثم فَسَّر منه هذه الآيات المتقدمة بما لعلَّه لا يُوجَدُ في شيءٍ من التفاسير المعتمدة، بل المهجورة، فكيف التلفيقُ بينَ تحذيرِه من الرواية للحديث، والعملِ به هناك، واعتماده على رواية الحديث، والاحتجاج به هنا.
الإشكال الثاني: سلمنا أنَّ كلام السَّيِّد غيرُ متناقض، وأنه يُمكن معرفةُ الحديث، فكان يجب على السيدِ بيانُ الطريق الصحيحة لهذا الحديث حتى يُلْزِمَ خَصْمَه قبولَه، وقد شرط السَّيِّد علينا في صِحة الحديث أن يكونَ له إسناد صحيح متصل، رواته عدول بتعديل عدول معدلين، وذلك التعديل معلوم وقوعه بخبر عدل، وإسناد صحيح حتى ينتهي إلى زمننا، فإن كان هذا حاصلاً مع السَّيِّد في هذا الحديث، فليتم المِنَّةَ علينا،
__________
(1) لا يصح في المرفوع، ففي سنده خليد بن دعلج عبد ابن عدي كما في " العلل المتناهية " 1/ 131، وهو متقق على ضعفه والصحيح أنَّه قول محمد بن سيرين البصري المتوفى سنة 110 هـ أخرجه عنه مسلم في مقدمة صحيحه 1/ 14، والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " ص 414، والخطيب في " الكفاية " ص 121 وهو بعد الرامهرمزي والخطيب من قول الضحاك بن مزاحم، ومن قول علي رضي الله عنه عند الخطيب.
وما أدري كيف فات المصنف رحمه الله أن ينبه على عدم صحته في المرفوع قبل أن يشرع في إيراد ما فيه من إشكالات، وهو الخبير العارف بعلم الحديث رواية ودراية، كما تشهد بذلك بحوثه المتنوعة وتخريجاته الدقيقة، ونقداته المتينة.(2/234)
وُيعرفنا به وإن لم يكن له طريقٌ صحيحة كذلك فلا يليق بفضله أن يُوجِبَ علينا ما لا يُوجِبُ على نفسه، فإن اعتذر لنفسه بعُذْرٍ، فكان ينبغي منه أن يحْمِلَنَا على مثله.
الإشكالُ الثالث: سلَّمنا أن الحديثَ صحيح، لكنه آحادي ظني، والسيد قد ادَّعى أن المسألة قطعية.
الإشكال الرابع: أن السَّيِّد قد عَظَّمَ القولَ في تفسير القرآن العظيم، ومنع مِن معرفة اللغة، وحذَّرَ من الاجتهاد، لأنَّه ينبني على ذلك، ولا شك أن السنة مشاركة للقرآن في الحاجة إلى التفسير وأنَّ (1) تعذر تفسيرِ القرآن يستلزِمُ تَعَذُّرَ تفسير السنة، والاحتجاجُ بالسنة لا يَصِحُّ إلا بعدَ معرفةِ تفسير لها (2)، فكيف احتج السيدُ بهذه السنة؟ فما أجاب به في هذا، فهو جوابُنا حيث أخذنا بنص الأحاديثِ، فادَّعى السيد أن ذلك من استنتاجِ العقيمِ، واستفتاء من ليس بعليم.
الإشكال الخامس: أن في هذا الحديث عموماً في موضعين:
أحدُهما: العلم، فإنه يُشْمَلُ العلمَ بالقطعيات والظنيات، والعلميات والعمليات.
وثانيهما: قولُه: عمن تأخذون دينكم. فإنه يَشْمَلُ الثقاتِ من المتأولين، والمتنزهين عن البدع، والمصرحين بالكبائر، والمصرحين ببعض المعاصي الملتبسة، وليس بنصٍّ في واحد مِن هذه على إيراده،
__________
(1) في (ب): فإن.
(2) في (ب): تفسيرها.(2/235)
فإذا كان كذلك، فهو محتمل لوجود مخصص لم يعلم به، وهذا الاحتمالُ يمنع من كونه حجةً قطعية.
الإِشكال السادس: أن ذلك المخصصَ موجود كما سيأتي في الفصل الثاني، إن شاء اللهُ تعالى، ووجودُه يمنعُ من كون هذا العمومِ حجةً ظنية.
الإشكال السابع: أن هذا العمومَ يحتمِلُ وجودَ المعارض، وذلك الاحتمال يمنعُ مِن كونه حجةً قطعية.
الإشكال الثامن: أن ذلك المعارض موجودٌ كما سيأتي في الفصل الثاني، ووجودُه يمنع من كونه حجة ظنية.
الإشكال التاسع: يحتمل أن يكونَ منسوخاً، وهذا الاحتمال يمنع مِن كونه حجة قطعية.
الإشكال العاشر: أن هذا الحديثَ مِن العمومات الواردة في العمليات، وما كان كذلك، فهو ظني بالإجماع، والسيد ادَّعى أن هذه المسألة قطعية.
الإشكال الحادي عشر: أن الاحتجاجَ بالعُموم يحتاج إلى الاجتهاد، لأنَّه لا يَصِحُّ إلا بعدَ المعرفةِ بفقدِ (1) المعارض والناسخ والمخصص، واستكمال شرائطِ الاجتهاد، والسيد معترِفٌ بأنه ليس بمجتهد، ويحذِّرُ من الاجتهاد.
الإشكال الثاني عشر: أنَّه يحتمل أن هذا العمومَ ورد على سبب،
__________
(1) في (ب): لفقد.(2/236)
وهذا يمنعُ من القطع، وقد مرَّ تقريرُه في الآيات السابقة.
الإشكال الثالث عشر: أن هذا العمومَ مخصوص بجواز الأخذ بخبر الفاسق المصرح في مواضع كثيرة، وقد قدمنا شيئاً منها، وفي العمل بالعموم المخصوص ما تقدم.
الإشكال الرابع عشر: أن الحديثَ ورد بلفظ الأمر، وفي كون الأمر للوجوب منازعة، والسيد مُدَّعٍ أن المسألة قطعية، فيجب بيانُ أن الأمر للوجوب بدليل قاطع.
الإشكال الخامس عشر: أنَّه لا حجة في هذا الحديث لك، بل هي عليك، وذلك أَن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوضَ الأمرَ في النظر إلينا فقال (1): فانظُروا عمن تأخذون دينَكم. وقد نظرنا كما أمرنا، هل الواجبُ الأخذُ بخبر من يُفيد خبرُه العلمَ أو الظنِّ، فوجد المعتبَر الظن؟ إذ لا طريق إلى العلم، فنظرنا في أخبار المتأوِّلين هل يُفيد الظن المعتبر أم لا؟ فوجدناها تفيده كما تفيده أخبارُ الثقات، فأخذنا به احتياطاً لديننا إذ كانت مخالفته تُؤَدِّي إلى ارتكاب المحرم المظنون تحريمه وتضييع الواجب المظنون وجوبُه مع ما دَلَّ على ذلك من سائر الأدله الآتية في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى.
قال: ومنه قولُه - صلى الله عليه وسلم - " يحملُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ سَلَفٍ عُدُولُهُ، ينْفُون عَنْهُ تَحرِيفَ المُبْطلينَ، وانتحالَ الغَالِينَ " (2).
أقول: احتجاجُ السَّيِّد بهذا الحديث كاحتجاجه بالحديث الأول في
__________
(1) تقدم أنَّه لا يصح في المرفوع وإنما هو من قول ابن سيرين.
(2) تقدم تخريج هذا الحديث في الصفحة 308 - 309 من الجزء الأول.(2/237)
الإشكال، ويردُ عليه الإشكالاتُ الثلاثة عشر الواردة على الأول، وإشكالان بعد تلك الثلاثة عشر.
الإشكال الرابع عشر: وهو الأول منهما أن رواية السَّيِّد لهذا الحديث مخالفة للمشهور في كتب الحديث، فإنه قد رواه جماعة من أئمة الأثر حُفَّاظِ السنة، منهم الحافظ الكبير أبو عمر بن عبد البر، والحافظ ابن القطان، والحافظ العُقيلي، والحافظ ابن النحوي، والشيخ العلامة ابنُ الصلاح فقالوا: " يحْمِلُ هذا العِلْم منْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " ذكره في " البدر المنير " (1)، وفي معنى رواية السَّيِّد إشكال، لأنَّه يكون المعنى: يحْمل هذا العلمَ عن كُلِّ سلفٍ عدول ذلك السلف فيكون السلف حاملين عن السلف، والمعروف أن الخلفَ هُمُ الذين يحملون عن السلف.
الإشكال الخامس عشر: أن هذا الحديث حجة عليك لا لك، وذلك لأنَّه يقضي بتعديلِ حَمَلَةِ العلم على الإطلاق، ولا شك أن الرُّواة من المتأوِّلين من جُمْلَةِ حمله العلم، وقد احتج ابنُ عبد البر بهذا الحديث على أن كل حاملِ علم معروف العناية به، فهو محمول على السلامة، مقبول في فنه ذلك حتى يظهر جرْحُهُ (2) ولم أدرِ ما وجهُ احتجاج السيدِ بهذا الحديث؟! فليس فيه أمر بقبول المتأولين، ولا نهي عن قبولهم، وإنما أخبر عما يكون لا ذكر لهم فيه تصريح ولا مفهوم.
__________
(1) "البدر المنير" للحافظ ابن النحوي المعروف بابن الملقن، وهو في تخريج أحاديث فتح العزيز للرافعي، ولم يطبع، وقد اختصره الحافظ ابن حجر، فسماه " تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " وهو مطبوع في أربعة أجزاء.
(2) ونص كلام ابن عند البر في " التمهيد " 1/ 28: وكل حامل علم، معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره أبداً على العدالة حتى تتبين جرحته في حاله، أو في كثرة غلطه لقوله - صلى الله عليه وسلم - " يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ".(2/238)
قال: ومنه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أخذ دينه عن أفواه الرِّجال ذهبَتْ به الرجالُ مِن يمين إلى شمال، وكان مِن دينِ الله على أعظمِ زوال " تركنا العملَ به في خبر العدل لدليل، وبقي الباقي على الأصل.
أقولُ: في الاحتجاج بهذا الحديث من الإشكالات الثلاثة عشر الذي في الحديثين الأول والثاني، ويختص بإشكالين بعدَها أولُهما.
الرابع عشر: وذلك أن السيد ترك بعض الحديث، وهو قوله عليه السلام: " مَنْ أخَذَ دينَه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لسُنتي، زالتِ الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال، مالت به الرجالُ من يمين إلى شمال، وكان من دين الله على أعظم زوال ".
رواه السَّيِّد أبو طالب في كتاب " الأمالي " (1).
وهذا الحديثُ لا يدل على ما ذكره السيد لوجهين.
أحدُهما: أن في الحديث نصاً صريحاً في وروده في منْ أخذ دينه مِنْ أفواه الرِّجال على جهة التقيد لهم، وهذا يَدُلُّ على أن المراد به ما لا يجوزُ فيه التقليدُ، والذي لا يجوز فيه التقليد لا يُقبل من المتأول ولا من غيره، وإنما يُؤخذ فيه بالأدله القاطعةِ والبراهين الساطعة، فأين هذا مما نحن فيه؟!
الثاني: أنه قد ذكر عليه السلامُ أن المتدبر لسنته ممن (2) تزولُ
__________
(1) لم يذكر المؤلف رحمه الله سنده حتى ننظر فيه، ولم أجده في المصادر الأخرى ويغلب على ظني أنه لا يصح.
(2) ممن: ساقطة من (ب).(2/239)
الرواسي ولا يزول دينُه، ولا شَكَّ أن سنته عليه السلامُ مأخوذة من أفواهِ الرجال المتواتر منها والآحاد، وكذلك القرآن الكريمُ مأخوذ من أفواه الرجال، فدلَّ على أن قوله: " من أخذ دينه من أفواه الرِّجال " عموم مخصوص، والمراد به منْ أخذ دينه من أفواههم على جهة التقليدِ لهم من غير حُجة، كما نجد المخالفين في العقائد يأخذونها عن شيوخهم مِن غير حجة سمعية، ولا عقلية، ولا أثارةٍ من علم، ويكون الدليلُ على التخصيص ذكره للكتاب والسنة المأخوذينِ من أفواه الرجال، فلو لم يحمله على هذا، لكان ظاهره متناقضاً، لأنَّه قضى لمن أخذ دينه عن أفواه الرجال بالزوال، ولمن أخذ دينه عن الكتاب والسنة المأخوذين عن أفواه الرجال بعدم الزوال، فلما تناقض الظاهرُ، وجب حملُه على ما يصح.
الإشكال الخامس عشر: أن الحديث حجة لنا على السيد، وذلك لأن قوله عليه السلام في الحديث: " إن من أخذ دينه عن التفهم لكتاب الله والتدبر لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " عام للمعلوم منهما والمظنون، أما الكتابُ، فالمعلوم من معانيه والمظنون، وأما السنة، فالمعلوم من ألفاظها ومعانيها والمظنون منها، وأخبارُ المتأولين من جملة السنة المظنونة، فدخلت في هذا الحديث، ونحن نُخرج من هذا الحديث ما دَلَّ الدليلُ على خروجه، وهو حديثُ المجروحين بالتصريح دون التأويل، وبقى سواهم على الأصل، وسيأتي لهذه الحجة مزيد بيان.
قال: الثالث: أن الأصل أن لا يُقبل خبرُ الواحد، لأنَّه إقدام على ما لا يُؤمن كونُه خطأ، وأخبارٌ بما لا يُؤمن كونهُ كذباً، دل الدليل على قبول العُدول، وبقي الكافران والفاسقانِ على الأصل.
أقول: جوابُ هذا لا يخفي على من له أدنى معرفة بعلم العقليات،(2/240)
وأقل درْيَةً بالمسائل النظريات، فإن الإِقدام على ما لا يُؤمن كونُه كذباً وقبيحاً إنما يَقْبُحُ متى كان مستويَ الطرَفَيْنِ من غير رُجحان، أو كان مرجوحاً غيرَ مساوٍ ولا راجح، وهذا شيء ليس بالمختلف فيه، وإنما كلامُنا في المتأوِّل الذي صِدْقُه راجح على كذبه، ولا خلافَ بين أكثر العقلاء في حسن الراجح إن لم يكن في تركه مضرة، فإن كان في تركه مضرةٌ مظنونة، فهو واجب عقلاً، بل هو إجماعي فعلي من الموافق والمخالف كما يأتي بيانُه قريباً.
والعجبُ مِن السيد -أيَّده الله- كيف غَفَلَ عن هذا وهو عمدة المتكلمين في إيجاب النظر حيث لم تندفِعِ المضرةُ المظنونة إلا به ودفعُها واجب، وما لا يَتمُ الواجبُ إلا به يجب كوجوبه، فكيف أُنْسِيَ السيدُ مثلَ هذا الذي لا يزال يُدَرِّسُه، ويُلقنه طلبةَ العلم؟
وقد ذهب السيدُ الإمام أبو طالب عليه السلامُ، والإمامُ المنصور بالله عليه السلام إلى عكس ما ذهب إليه السيدُ، وذلك أن العملَ بخبر الواحد واجب عقلاً، ورواه (ص) و (ط) (1) عليهما السلامُ عن جمهورِ العلماء، وحكي الخلافُ فيه عن طائفةٍ من الإمامية، وطائفةٍ من البغدادية، وقومٍ من الخوارج، ثم قال: والذي يَدُلُّ على ما ذهب إليه الجمهورُ: العقل والسمعُ، وساق الأدلة وَجَوَّدهَا، وقد ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسين البصري.
قال (ص) باللهِ: والذي يَدُلُّ على صحة ما قدمنا من أن العقلاء يستحسنون بعقولهم العمل على خبر الواحد إذا غَلَبَ على ظنهم صِدْقُه في
__________
(1) (ص): رمز للمنصور بالله، و (ط) لأبي طالب، كما ورد مصرحاً به في (ش).(2/241)
جلب المنافع، ودفع المضار، ومعلومٌ أنَّ التعبد وُضِعَ لهذين الوجهين، وهما جلبُ منافع الآخرة، ودفعُ مضارِّها، ولأنا كما نعلمُ بعقولنا وجوبَ تناولِ الدواء مِن يدِ الطبيب على بعضِ الوجوه، فكذلك نعلم بعقولنا وجوبَ تناولِه من يد غلامه إذا قال: أنا أُنهيه إليكلم على يدِ هذا الغلامِ، وغَلَبَ على ظننا حصولُ أمانته وفقْدُ خيانته في أنَّه يجب علينا تناولُه في الحالين على سواء إلى آخر كلامه عليه السلامُ في كتاب " صفوة الاختيار ".
وأقول: إن العمل بالخبر المظنون صدقُه ما زال معمولاً به بَيْنَ العقلاء ممن وافق في هذه المسألة، ومِمن خالف، ولو كان الخبرُ بما يُظن صدقه قبيحاً في العقل لم يخبر أحد غيرَه إلا بالضروريات التي لا يُفيد الخبرُ بها، وإنما قلنا بغير ذلك، لأن المخبر بغير الضروري إن كان غيرَ عالم بما أخبر به، قَبُحَ منه الإخبار، وإن كان عالماً، قَبُحَ من صاحبه التصديق، وإن كانا عالِمَيْنِ معاً، فلا فائدة في الخبر إِلا ما لا يكاد (1) يُقْصَد من تعريف الإنسان لصاحبه أنَّه عالم، فهذه الصورة، ذَكَر علماء المعاني أنها قد تكون مقصودةً للمخبر، كقول المسلم للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أنَّكَ رسولُ الله، وهو المسمى بلازمِ فائدةِ الخبر.
وهذا القسم يلزم السَّيِّد أيضاً أن لا يكون للخبرية معنى، لأن قبولَه من المخبر به يكون حراماً في العقل، وكلامُ السَّيِّد هذا يؤدي إلى القول بأن الخبرَ والاستخبارَ قبيحانِ عقلاً لولا ورودُ الشرع بجوازهما، وهذا قول لا يتماسَكُ ضعفاً، فلم يزل العقلاءُ من المسلمين والمشركين والفلاسفة
__________
(1) في (ب): ما يكاد.(2/242)
والبراهمة، وجميعِ الأجناس من أهل الملَلِ والنِّحَلِ والمذاهب والفِرقِ مطبقين من أوَّلِ عُمْرِ الدنيا إلى آخره في (1) أقطار الأرض وجزائر العالم على حُسْنِ الخبر والاستخبار، وتطلب الإِعلام، وتعلّم العلوم من الآحاد فالمريضُ يسأل الطبيبَ عما يشفيه، ويعتمِد على ما يأمره به، وأهلُ الحروب يبعثون العيونَ، ويعملونَ على ما يقولون، ومن خاف على صاحبه بعث إليه النذير، ومن احتاج إلى حاجةٍ من صاحبه وهو غائب أرسل إليه الرسول وكتب إليه الكتاب، وكذلك سائرُ التصرفات من جميع أعمال الدنيا والآخرة مبنية على الظَنَ، وحُسْنِ العمل عليه، فالتاجر يركب البحارَ، ويتعرض للأخطار على ظن الربح والسلامة، والزَّرَّاعُ يتحمل الأعمالَ الشاقة ويكدُّ بدنه في إثارة الأرضِ، ويُخاطر بما يطرح فيها من البذرِ على ظن التمام، والبقاء إلى يوم الحصاد، والملوك يجمعون الجنودَ، ويُنفقون الأموالَ في جمعها على رجاء الفتوح بمجرد الظن من غير قطع، وعمَّالُ الآخرة يتحمَّلون مشاق العبادة والمجاهدة على ظن القبول والسلامة في مستقبل العمر من الوقوع في المعاصي المُحْبِطةِ لتلك الأعمال، وطَلَبَةُ العلم يشرعون في غَيْبِ الكتب ودرسها على ظنِّ الفائدة وبلوغ الأمل، وكذلك ما لا يُحصى من جميع أجناس أفعال العقلاء الدالة على إطبقاهم على حسن العمل بالظن، ولا شَكَّ أن خبرَ المتأوِّلين يفيد الظنَّ عند من أجازه وعند من منعه، فالقول بأنه قبيح في العقل إما تعسُّفٌ شديد، وإما نزوحٌ عن التحقيق إلى مكان بعيد.
واعلم أن العالِم من يرى الواضح واضحاً، والمشكل مشكلاً، وليس بمن يتكلَّفُ التشكيكَ في الواضحات وإيضاح المشكلات، فبان
__________
(1) في (ب): في جميع أقطار.(2/243)
بهذا أن السَّيِّد قصد أن يستدِلَّ بالعقل على استقباح قبولِ المتأوِّلين، فانكشف أن العقلَ يقتضي وجوبَ قبول المتأولين.
قال- أيَّده الله-: الرابع: أنَّا أجمعنا على أنَّه لا يُقْبَل فاسقُ التصريح، فإِمَّا أن تكون العلةُ تهمتَه بالكذب، وإما أن تكون إهانتَه والاستخفاف به، لأن قبولَ الشهادة والرواية مَنْصِبٌ رفيع يُلزم الخلقَ أحكاماً شديدة، فيلزمونها، فأيُّ رِفعةٍ أعظمُ منها؟ والعلة هي هذه، وهي موجودة في فاسق التأويل مثلها في المصرح، لأن معه دليلاً لو تأمَّلَهُ لما ارتكب البدعة، وأما إن عللنا بتهمته بالكذب ويرى أنَّه يُعاقب عليه، ويكون عند نفسه مطيعاً لله تبارك وتعالى، فيلزمُ مِن أرباب الملَلِ الخارجة عن الإسلام أن تُقْبَلَ روايتهُم مثل رُهبان النصارى، وعباد اليهود، ومثل البراهمة، فإنهم يتحرَّزون عن الكذب أشدَّ التحرز، ويتنزهون عنه أعظمَ التنزه.
أقول: لما فَرَغَ السَّيِّد من الاستدلال بالكتاب والسنة والمعقول، عطف عليه الاستدلالَ بالقياس، وَيردُ على ذلك إشكالات:
الإشكال الأول: أن القياسَ لا يَصِحُّ الاستدلالُ به في المسائل القطعية إلا مع القطعِ بانتفاء النص المحرم للقياس، أما المسائلُ الظنية، فإن ظنَ عدمِ النص يكفي في تجويز القياس، لكن السَّيِّد زعم أن هذه المسألة قطعية، فيجب عليه الدليلُ القاطع على عدم النص.
الإِشكال الثاني: أن الإجماعَ موجودٌ على خلافِ هذا القياسِ فلا يصِح القياسُ مع وجود الإجماع، ومن ها هنا علق أبو طالب عليه السلامُ الاحتجاجَ بالقياس في هذه المسألة على عدم صحة الإجماع، وسيأتي في الفصل الثاني ثبوتُ الإجماع، وأنه لا طريق إلى القطع بانتفائه، والفرقُ(2/244)
بينَ هذا الإشكالِ وبَيْنَ الأول أن هذا منع للقياس بوجود الإِجماع، وذلك منع لكون القياس قطعيّاً باحتمال النص.
الإِشكال الثالث: لا يَصِحُّ الاستدلالُ بالقياس في مسألة قطعية مع وجود الظواهر المختلف في صحة القياس معها.
الإِشكال الرابع: إذا سلَّمنا صحةَ القياس، فلا يصح الاحتجاجُ به في مسألتنا هذه على جهة القطع مع احتمال تخصيصِ العلة لكن من الجائز أن تكون العلةُ مخصوصة في قبول المتأولين، فما الدليلُ القاطع على المنع من ذلك.
الإِشكال الخامس: أن المخصص لتلك العلة موجودٌ على تقديرِ صحتها وتسليمِ عِلِّيتها، كما سيأتي بيانُه في الفصل الثاني.
الإِشكال السادس: أنَّه لا يصح الاجتهادُ بالقياس في مسألة قطعية مع احتمال المعارض من الأقيسة، فيلزم بيانُ دليلٍ قاطعٍ على ارتفاع الاحتمال.
الإشكال السابع: أن المعلوم أن هذا القياسَ بعينه قياسٌ ظني، فإما أن ينازع السيدُ في هذا أَوْ لا، إن نازع فيه، فعنادٌ واضحٌ، وإن لم يُنَازِعْ فيه، فما معنى التَّرسُّل على مَنْ خالف مثلَ هذا القياس الظني؟!
الإشكال الثامن: أن شرط الاحتجاج بالقياس عدمُ النصوص والظواهر، وشرط معرفة ذلك بقاء الطريق إِلى معرفة السنن، والسيدُ قد شكَّ في إمكان ذلك، وَمَنْ شَكَّ في شيء لم يُمكنه الاستدلالُ بما هو فرعٌ عليه.(2/245)
الإشكال التاسع: أن الاحتجاجَ بالقياس من خواصِّ المجتهدين، والسيد قد نفي الاجتهادَ عن نفسه، وشك في تعذُّره على الخلق.
الإشكال العاشر: احتج السيدُ على أن المنصب هو العلة، لعدم استحقاق المتأوِّلين له، وليس في هذا حجة، فليس كُلُّ ما لم يستحقه المتأوِّلُ يصلُح أن يكونَ علة، ألا ترى أن المتأوِّل عند السَّيِّد وعند غيره لا يستحقُّ شفاعةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا (1) الاستغفارَ له مع أنَّه لا يَصِحُّ التعليل بذلك، فلا يُقال: إنَّ العدل إنما قبل، لأن النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يشفعُ له بدليل أن المتأوِّلَ لا يستحقُّ الشفاعة، هذا كلامٌ نازل جداً.
الإشكال الحادي عشر: أن التعليل بغير هذه العلة التي ذكرها السيد أرجح من التعليل بها وهو ظنُّ الصدق، ومع وجود ما هو أولى بالتعليل لا يَصِحُّ التعلق بها، وبيان رجحانِ التعليلِ به يَحْصُلُ بالكلامِ في أمرينِ:
الأول: أن قولَ السيدِ يَنْتَقِضُ ذلك برهْبَانِ النصارى، ومَنْ يُظَن صدقُه من المصرِّحين والبراهمة غير صحيح ولا قادح في التعليل بالظن، فإنَّ تخصيصَ العِلَلِ الشَّرْعِيَّة جائِزٌ بإجماعِ الأُصوليين، ليسَ بَيْنَهُمْ خلافٌ على التحقيقِ إلا في العبارة، مثال ذلك: قولُهم في العلة في القصاص: إنه قتلُ عمْدٍ عدوان، وهذه العلة قد وُجدت في قتل الوالد لولده، وتخلف الحكم، لأن الوالد لا يقتل بولده فها هنا اختلفوا:
فمنهم مَنْ يقُولُ: بتخصيص العلة، وأنها قد وُجِدَت في الوالد ولم تُؤثِّر لدليل خصها.
ومنهم من يقول: لا تكونُ تلك العلة، ويزيد في العلة قيداً، ويقول: العلة القتلُ العمد العُدوان من غيرِ الأب، وكذلك يقول: العلة هاهنا
__________
(1) لا: ساقطة من (ب).(2/246)
الظَّنُّ إن قلنا: بتخصيص العِلَّةِ، وإن لم نقل به، قلنا: العلة الظن مِن غير المصرح بالفسق، والخارج مِن الملة، ويبطل ذلك الاشكالُ الذي ذكره السيدُ بالمرة، وقد علل الله سبحانه وتعالى كثيراً من الأحكام الشرعية بحكم غيرِ مُطَّرِدٍ (1) - كالفطر في السفرِ في رمضان، فإن التعليلَ بالتخفيف ظاهر في القرآن في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] عقيب ذكرِ الفطر في السفر والمرض مع أن ذلك لم يَطرِدْ، فمن وقع في أعظم من مشقةِ السفر من الزُّراع وأهلِ الأعمال الشاقة، وأهلِ الجوع والمسكنة، لَمْ يَحِلَّ له الفطرُ لمجرد المشقة، وكذلك القصرُ، فإنه أُبِيحَ للمسافر تخفيفاً ورفقاً ولا يُباح للمريض مع أنه أحوجُ إلى التخفيف.
وقد اختلف الأصوليون في التعليل بالحكم، وجوَّزه غيرُ واحد من المحققين فلا معنى للاحتجاج بما ذكره السَّيِّد في مسألة زعم أنها قطعية، ومنع الخصم من المنازعة فيها، فمثلُ هذا لا يرفع الخلاف ولا يقتضي القطع.
الثاني في بيانِ الأدلة على أن التعليلَ بظنِّ الصدقِ أرجحُ، والدليل على ذلك وجوه:
الحجة الأولى: قولُه تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] فقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} دليل على أن العلة في التبيُّن (2) خوفُ الخطأ، والرغبة في تحري
__________
(1) في (ش) مطردة.
(2) في (ب) التبيين.(2/247)
الإصابة والصدق، ولو كانت العِلَّةُ المنصب، لقال: فتبيَّنُوا أن تُعظِّموا فاسقاً بجهالة.
الحجة الثانية: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] واضح في الدلالة على أن المراد الصدقُ والتحري لا رَفع المناصب.
الحجة الثالثة: قولُه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة: 282] ولو كانت العلة المناصبَ، وتعظيمَ المؤمن، لم يحتج العَدْلُ في ذلك إلى مصاحبةِ عدلٍ آخر، فبان لك أن المرادَ قُوَّةُ ظَنِّ الصدق.
الحجة الرابعة: قولُه تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] وفي هذه الآية وجهان:
أحدُهما: أنَّ الله تعالى شَرع قبول الكفار عندَ الحاجةِ إليهم، وهُمْ لا يَسْتَحِقُّون التعظيمَ ومنصبَ التكرِمة والتبجيل.
وثانيهما: إنَّه لا يجوزُ قبولُهم بعلة الكفر، وبعلَّةِ الإهانة على كلام السَّيِّدِ، وقد خَصَّصَ الله سبحانه العِلةَ هنا، فأجاز قبولَهم، ففي هذا جوازُ تخصيص العِلة الذي أنكره السيد.
الحجة الخامسة: قولُه تعالى في هذه الآية: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 108] فقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى} تنبيهٌ ظاهر على أن المقصودَ قوةُ الظن، وما هو أقربُ إلى الصدق.(2/248)
الحجة السادسة: قولُه تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] وأصل الآية، وإن كان في الكِتابة، فقد دخلت معها الشهادةُ بقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}.
الحجة السابعة: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهمْ لادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ " (1) الحديثَ رواه البخاري ومسلم وغيرُهم، فدلَّ على أن القصدَ الاحترازُ من الكذب، وفيه بيان تخصيصِ العلة، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عَلَّل بهذا، فلو لم تخصص العلة، لم يجب التنبيهُ (2) على العدول الذين يَغْلِبُ على الظَّنِّ صدقُهم على القولِ المختار في جواز التعليل بالحُكم.
الحجة الثامنة: ورد الشرعُ بشاهدٍ ويمينٍ (3)، واليمينُ فيها تُهمةٌ
__________
(1) وتمامه: ولكن اليمين على المدعى عليه، أخرجه أحمد 1/ 343 و351 و363، والبخاري (2514) و (2668) و (4552)، ومسلم (1711) وأبو داود (3619)، والترمذي (1342) والنسائي 8/ 248.
(2) في (ب): البينة.
(3) أخرج أحمد 1/ 248، و315 و323، والشافعي 2/ 234، ومسلم (1712)، وأبو داود (3609) والنسائي في الكبرى كما في " تحفة الأشراف " 7/ 187، وابن ماجة (2370) والطحاوي 4/ 144، وابن الجارود (1006)، والبيهقي 10/ 167، والطبراني في " الكبير " (11185)، وأبو يعلى الورقة 126/ 1 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمين مع الشاهد. وفي الباب عن أبي هريرة عند الشافعي 2/ 235، والترمذي (1343)، وأبي داود (3611)، وابن ماجة (2369)، والطحاوي 4/ 144 وسنده قوي. وعن جابر عند أحمد 3/ 305، وابن ماجة (2369)، وابن الجارود (1008)، والبيهقي 10/ 170 موصولاً خرجه الترمذي (1344) موصولاً و (1345) مرسلاً، وأخرجه مالك 2/ 721، وعنه الشافعي مرسلاً وهو أصح، وعن سُرَّق عند ابن ماجة (2371)، والبيهقي 10/ 172 - 173، وفيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات، وعن سعد بن عبادة عند أحمد 5/ 285، والترمذي والدارقطني 4/ 214، والشافعي 2/ 235، والبيهقي 10/ 171 وهو منقطع.(2/249)
للحالف، ولا رفع فيها لمنصبه ألبتَّة، فقامت مقامَ شاهدٍ آخر في قوة الظن، لا في التعظيم، وهذا شاهِدٌ قويٌّ على أن العِلة قوةُ الظن.
الحجة التاسعة: الملاءمة العقليةُ التي يَثْبُت بها العلل، وبيانُها: أن اشتراطَ العدالة عند الخبرِ والشهادة يُفهم منه أنَّه لِأمْرٍ يرجع إلى الخبر والشهادة من تصحيحهما الراجع إلى قوة الظن، لا لأمر يرجع إلى المخبر والشاهد مِن رفع منار مناصبهما، وإظهار شعار مراتبهما، لأنَّ رفع المناصب، وإظهارَ الفضائل لو كان مقصوداً، لما اختص بوقت الحاجة إلى الروايات، ولا ترجَّح عند المنازعات والخصومات، ولكان في الأعيادِ والجمعات، وعند اجتماعِ الناس للصلوات، وفي سائِرِ المقامات المشهودات.
الحجة العاشرة: أن علماءَ المذهب في جميع الأزمانِ والأقطار ما زالُوا يعلِّلون في مسائل الشهادة والرواية بقوة الظن وضعفه في الأصولِ والفروع من غير نكير في ذلك، وهذا يقتضي ترجيح التعليلِ بالظن، ولْنَذْكُرْ مِنْ ذلك مسائلَ يسيرة مما نص العلماء فيها على التعليل بالظن.
المسألة الأولى: أنهم قالوا: إنَّ من سَمِعَ الحديثَ من غيرِ حجاب، فروايتُه أولى ممن سَمِعَه من وراء حجاب، ولا شكَّ أن العِلَّةَ في هذا قوةُ الظن، لا أنَّ من سَمِعَ من غير حجاب أفضلُ عند الله تعالى.
المسألة الثانية: أن يكونَ أحدُ الراويين مثبتاً، والآخرُ نافياً مع أن المثبت ليس بأفضلَ مِن النافي.
المسألة الثالثة: أن يكون أحدهما عالماًً بالعربية، والآخَرُ غير عالم بها، وإن كان عالماًً بما هو أفضل منها مما لا يَتَعَلَّقُ بالرواية.(2/250)
المسألة الرابعة: أن يكونَ أحدُ الراويين لا يستجيز الروايةَ بالمعنى، فإن روايتَه أرجَحُ.
المسألة الخامسة: أن يكون أحدُ الراويين أكثرَ ذكاءً وفِطنة، فإنه أرجحُ ممن ليس كذلك، فإن الظن لصدقه أقوى، وأمثال هذه المسائل مما لا يُحصى كثرة وهو مذكور (1) في كتب الأصول في الترجيح بين الأخبار، فلا نُطوِّل بنقله مِن مواضعه.
المسألة السادسة: قال العلماءُ: لا يَصِحُّ أن يشهد الشاهدُ لنفسه، وكذلك الحاكمُ لا يحكُم لنفسه وإن كان عدلاًً مرضياً، ورعاً تقيّاً، وعلَّلُوا ذلك بقلة الظَّن المستفاد من العدالة لقوة الداعي الطبيعي إلى ذلك عند الحاجة والخصومة ومحبَّةِ الغلب، وغيظ الحاسد، ومسرَّةِ الصديق من الدواعي الطبيعية المضعفة لظن الصدق، ولا يبقى معها إلا ظنٌّ ضعيف لا يصح الاعتماد عليه في الحقوق، وهذه الدواعي وإن لم تكن مستمرة دائمة، فإنها كثير ما تعرض (2) وقد تُعلَلُ بالعلة لكثرة وقوعها، لا لدوامها ألا ترى أن قوله عليه السلاُم: " لوْ يُعطى النَّاسُ بدَعواهُم لادَّعى ناسٌ دماء رجالٍ وأمْوالهُم، ولكن البيِّنَةَ على المُدَّعِي " (3) فعلَّل شرعيةَ البينَة بخوف أن يدَّعي مَنْ ليس بعدل ما ليس له، فوجب في حقِّ العدل، وفي حقِّ غيره خوفاً من الوقوع في تلك الصورة، ولما كانت الداعيةُ الطبيعية قوته في شهادة الإنسان لنفسه وحكمه لنفسه، أجْمَعَ أهل العلم على المنع من ذلك.
__________
(1) في (ب): وهي مذكورة.
(2) في (ب): تفرض.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة 249.(2/251)
المسألة السابعة: شهادةُ الوالد لأولاده وأحفادِه وشهادة الأولاد لآبائهم وأجدادهم وهي مرتبةٌ أضعفُ من المرتبة الأولى وقد اختلف العلماءُ فيها (1) ولم يجمعوا على بطلانها كشهادةِ الإنسان لنفسه، لأن حُبَّهُ لنفسه أقوى، وإن توهَّم بعضُ الناس أن محبته لأولاده أقوى، فهو خيالٌ كاذب ينكشِفُ بطلانُه وقتَ الشدائد العظيمة، ولهذا أخبر اللهُ تعالى: أن الناس يودُّون يومَ القيامة أن يَفْدُوا أنفسَهم من العذاب بأولادِهم وأهليهم، ولما كان حُبُّ الإنسان لأولاده وآبائه أضعفَ مِن حُبه لنفسه، اختلف العلماءُ فيها، فقال بعضُهم: هي تُهمة شديدة قد تحمِلُ على الباطل عند فورةِ الغضب، والعصبيَّةِ في الخصومات، وشدةِ المنازعة في الحكومات، وخوف غلب القرين، وشماتة الحاسدين، فأوجبت الشَّكَّ، فوجب طرحُها قياساً على شهادة الثقة على عدوه، فإنَّها غيرُ مقبولة مع عدالته لأجل التُّهمة، فكذلك هذه، وقال آخرون: ليست تقوى على القدح في الوازع الشرعي،
__________
(1) جاء في " المغني " لابن قدامة 9/ 191: ظاهر المذهب أن شهادة الوالد لولده لا تقبل، ولا لولد ولده وإن سفل ... ولا تقبل شهادة الولد لوالده ولا لوالدته ... وبه قال شريح والحسن والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب الرأي.
وروي عن أحمد رحمه الله رواية ثانية: تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا تقبل شهادة الأب له، لأن مال الابن في حكم مال الأب، له أن يتملكه إذا شاء، فشهادته له شهادة لنفسه أو يجُرُّ بها لنفسه نفعاً قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومالك لأبيك " وقال: " إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من أموالهم " ولا يوجد هذا في شهادة الابن لأبيه.
وعنه رواية ثالثة: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه في ما لا تهمة فيه كالنكاح والطلاق والقصاص والمال إذا كان مستغنىً عنه، لأن كل واحد منهما لا ينتفع بما يثبت للآخر من ذلك فلا تهمة في حقه.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن شهادة كل واحد منهما للآخر مقبولة، وروي ذلك عن شريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، والمزني، وداود، وإسحاق وابن المنذر لعموم الآيات، ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع فتقبل شهادته فيه كالأجنبي ...(2/252)
وتخصيصِ عمومِ الدليل السمعي، وقال بعضُهم: لا تُقْبَلُ شهادةُ الوالد لولده لِقوة محبته له، وتقبل شهادة الولد لوالده لأنها أضعف.
المسألة الثامنة: شهادةُ الصَّديق لصديقه وهي دونَ هاتين المرتبتين، فإن التُّهمة بها ضعيفة لا تُؤَثِّرِ في الوازع الشرعي، ولا تمحو خوف العذاب الأخروي، ولهذا شذ المخالفُ فيها، فلم يخالف فيها إلا مالك، فإنه منع مِنْ قبولِ شهادة الصديق الملاطف. كذا رُوي عن مالك مِن غير سماع (1).
المسألة التاسعة: شهادةُ العدو على عدوِّه، وهي قويةٌ موجبة للردِّ، فلأجل ذلك شَذَّ المخالفُ في قبولها.
المسألة العاشرة: شهادةُ أحدِ الزوجين للآخر وهي دون التي قبلها في المرتبة، وضعف التهمة، ولذلك اختلف العلماءُ فيها (2)، فمنهم مَنْ مَنعها، ومنهم مَنْ قَبِلَها، ومنهم مَنْ قَالَ: إن شهادةَ الزوجة للزوج (3)، لا تَصِحُّ لوجهين: أحدهما: شدةُ محبتها له، وثانيهما: تعلُّق حقوقها بماله من الكسوة والنفقة، وأما الزوج، فتصحُّ شهادته لها لضعف التهمة في حقه.
المسألة الحادية عشرهْ: حُكْمُ القاضي على غيره (4) بعلمه اختَلف العلماءُ فيها لأجل التُّهمة.
المسألة الثانية عشرة: تهمةُ الحاكم في إقراره بالحكم والقويُّ قولُ
__________
(1) انظر " الكافي " 2/ 894 لابن عبد البر.
(2) انظر " المغني " 9/ 193.
(3) في (ب): الزوجين.
(4) في (ب): لغيره.(2/253)
مَنْ قال: إِنَّ من ملك إنشاءَ الحكم مَلَكَ الإقرارَ.
المسألة الثالثة عشرة: حُكْمُ الحاكم لأولاده وأحفاده، وعلى أعدائه، وأضداده، فإن سَمِعَ البينةَ، وفوَّض الحكم إلى غيره، ففيه خلاف، وقال بعضُ العلماء: لا يحكم لأولاده وعلى أضداده بعلمه، سواء قلنا: إنَّه يحكم بعلمه أو لا، لأن التُّهمة تقوى في حكمه لأولاده وعلى أضداده.
المسألة الرابعة عشرة: طولُ العهد بالتعديل والتزكية لما كان مُضعِّفاً للظن اختلف العلماءُ فيه، فمنهم من لم يقبل شهادةَ من قَدُمَ العهدُ بتعديله، لأن العادة جرت بأن كثيراً مِن العدول يتغيرون، والصبرُ قليلٌ، والدواعي كثيرة، وما ندري لو سئل المُعَدِّلُ إعادةَ التعديل: هل يبقى عليه، فضعف الظَّنُّ واختلف هؤلاء، فقدَّره قوم بثلاثةِ أيام فصاعداً فأبعد في ذلك، وقدَّره آخرون بمدة تتغير فيها الأحوالُ في العادة، وهذا أقربُ على تقدير صحة هذا القول وإن كان الظاهر خلافَه.
المسألة الخامسة عشرة: إذا شَهِدَ بطلاقِ ضَرَّةِ أمِّه، فردَّها بعضُهم، لأن محبة الأم أكثرُ من محبة الأب، وقَبِلَها بعضُهم، لأن في ذلك مضرةً على أبيه وهو يُحبُّه أيضاً، فضعف جانبُ التهمة، دليله لو شَهِدَ لأحدِ ولديه على الآخر، لأن داعي الطبيعة متعارض.
المسألة السادسة عشرة: لو شهد لعدوه على أبيه أو صديقِه، قبلت، وكانت أقوى الشهادات مع أنَّه لا يُقْبَلُ لو شَهِدَ عليه، فدل على اعتبار الظن.
المسألة السابعة عشرة: لو شَهِدَ الفاسقُ المستخفي بفسقه الذي(2/254)
يخاف العارَ من نسبة الفسق إليه، ومن رد الشهادة، فإذا شهد في حال فِسْقِه فَرُدَّت شهادته، ثم إِنَّه تاب، وأعاد الشهادةَ بعد التوبة، لم يقبل عند بعضِ العلماء، لأن له غرضاً طبيعيّاً في نفي تكذيبه الواقع قبلَ التوبة، وإن كان مشتهراً بالفسق فأعاد الشهادةَ بعدَ التوبة، فقد اختلف الرَّادُّون لشهادة المستخفِي في هذا، لضعف غرضه، وكذلك لو شَهدَ على عدوه، فرد، فزالت العداوة، فأعاد الشهادة، ففيه خلاف لمثل ذلك.
المسألة الثامنة عشرة: التائبُ من الفسق الصريح لا تُقْبَلُ شهادتُه عند توبته حتى تمضي مدة يُظن فيها صدقُ توبتِه، وتظن عدالتُه كما تظن عدالةُ غيره، وقد قدَّرها بعضُهم بسنة، وبعضُهم بستة أشهر، والقوي أن أحوال التائبين تختلِفُ، وقد يظهر على التائب من التلهُّفِ والتأسُّف والبُكاء والجزع ما يقضي بصدقه، فدل هذا على أن العلة قوهُ الظن، ولو كانت العلةُ المنصب لاستحقَّها التائبُ عند ظهور التوبة، كما يستحق التكرمةَ والتعظيمَ، وسائر حقوق المؤمنين بالإجماع.
المسألة التاسعة عشرة: أن الفاسقَ المتأوِّل إذا تاب مِن فسقه لم يختبر، وقبلت شهادته على الفور عند من لا (1) يقبلُها فلو كانت العلة المنصبَ لم يكن بين المتأوِّل والمصرِّح فرقٌ في ذلك.
المسألة الموفية عشرين: اختلف العلماءُ في الفاسق المصرِّح إذا كان معروفاً بالصدق، مشهوراً له، عظيمَ الأنَفَةِ من الكذب والوقوع فيه بحيث إنه يخافُه ويمنعُه من شهواته كما يخاف المؤمن العذابَ ويمنعه مِن شهواته، واستمر هذا، وظهر بالقرائن القوية وطول التَّجْرِبَةِ، فروي عن
__________
(1) في (ب): لم.(2/255)
أبي حنيفة قبولُه وهو مذهبُ الإمام المنصور بالله عليه السلام في الأرض التي يَقِلُّ فيها وجودُ العدول من بوادي الأعراب ونحوها أخبرني به اليَقظُ العارف ذكره في " المهذب "، وقاسه على شهادة أهلِ الذمة عند الضرورة والسَّفَرِ، ورده الجمهور، لأن وازِعَ الحياءِ من الناس، وخوفَ العارِ، وحُبَّ المحمدةِ -وإن عظم- فإنه لا يقومُ مقامَ خَوفِ الله تعالى ووازع الشرع، لأنَّ ذلكَ يضعف في ما يخفى، ويظن صاحبُه أنَّه لا ينكشِفُ للناس، والوازعُ الأُخرويّ والحياء من الله تعالى مستوٍ في الباطن والظاهر، فلهذا شَذَّ المخالفُ في هذه المسألة وضَعُف قوله.
المسألة الحادية والعشرون: قال العلماءُ يصِحُّ إقرارٌ المرء على نفسه لِزوال التهمة، بل هو أقوى من الشهادة، ولو أنها شهادةُ جماعةٍ من العدول (1)، لأن وازِعَهُ عن الكذب على نفسه فيما يضرُّه طبيعي، ووازع الشهودِ شرعي، والطبيعي أقوى من الشرعي، ولهذا قُدِّمَ عليه حيث يتعارضان في شهادتِه لنفسه وعلى عدوه، ونحو ذلك.
المسألة الثانية والعشرون: إذا أقرَّ العبدُ بما يُوجِبُ الحدَّ أو القصاصَ، صح إقرارُه، وإن كان فيه مضرةٌ على سَيِّدِه، لأن فيه مضرةً على نفسه، فَقَوِيَ الظَّنُّ لصدقه قوةً مقاربة للعلم، ومنهم من قال: لا يُقْبلُ لأجل مضرةِ السيد، أما لو أقرَّ بما فيه مضرة على السيد، وليس فيه مضرةٌ على نفسه لم تُقبل قطعاً لضعف الظنِّ، وقُوَّةِ التُهمة.
المسألة الثالثة والعشرون: إقرارُ الراهن بأن الرهن ملكٌ للغير،
__________
(1) في (ب): جماعة عدول.(2/256)
وإقرارُ المحجور عليه بالفَلَسِ بعينٍ من أعيان ماله لغير غرمائه اختلفوا في صحته لأجلِ قُوَّةِ الظن وضعفه.
المسألة الرابعة والعشرون: لو شَهِدَ شاهدٌ على بيع يومَ الأحد، وشَهِدَ الشاهد الثاني على ذلك البيعِ يومَ الاثنين، فقد اختلفوا في قبولهما لِضعف الظَّنِّ مع كمال نصابِ الشهادة، وردُّهما يقوى في القتل والإتلاف لتعذرِ حمل الشاهدين على تكرر ذلك بخلاف إلبيع، فإنَّه يحتمل التكرُّر وفيما لا يحتمل التكرر، الظاهرُ تكاذُبهما، أو تساهلُ أحدهما في تأدية الشهادةِ بالظن، فضعف قبولُه.
المسألة الخامسة والعشرون: لما كان الظَّنُّ المستفادُ ممن يُخبر عن الواقعة عن سماعٍ أو مشاهدة أقوى مِن الظن المستفادِ ممن يُخبرُ عنه، لم تُقبل شهادةُ الفرع إلا عندَ تَعذُّرِ شهود الأصلِ، أو عند المشقةِ في حضورِهم.
المسألة السادسة والعشرون: لما كان المنكر لا شهادةَ عليه لم يكتفِ بالأصلِ وهو أنَّه لا حقَّ عليه، وذلك أنَّه أمكن تأكيدُ الظَّنِّ المستفادِ من الاستصحاب باليمين، فتعيَّن العدولُ من القوي إلى الأقوى.
المسألة السابعة والعشرون: تقديمُ البينة المثبتة على النافية لأجل قوة الظن.
المسألة الثامنة والعشرون: إذا تعارضت البينتانِ بَطل الحكم على قول، وذلك لبطلان الظَّنِّ. فهذه المسائلُ وأضعافُها مما في كتب الأصول والفروع (1) مما تداولَه العلماءُ قديماً وحديثاًً في جميع الأمصار، وَمِنْ جميع
__________
(1) في (ب): الفروع والأصول.(2/257)
المذاهب مناديةٌ نداءً صريحاً أنهم فهموا أن العلة في اشتراطِ العدالةِ في الشاهد والرَّاوي والحاكم: هو الظن، ولهذا لا تشترط العدالةُ حيث يكون الداعي طبيعيّاً، كالمُقِرِّ على نفسه. وقد تُخَصَّصُ العلةُ كما هو شأنُ كثيرٍ من العلل الشرعية بخلاف العلل العقلية. إذا عرفت هذه الشهرةَ العظيمةَ في التعليل بالظن، فاعلم أنَّ التعليلَ بالمنصب الذي ذهب إليه السَيِّد وقواه على هذا على العكسِ مِن ذلك في عدم الشهرة، وقِلَّةِ ذكر العلماء له، وتفريعهم عليه، فعدولُ السَّيِّد من هذا المستفيض المشهور إلى ذلك النادِرِ المغمورِ مما لا يَصِحُّ في مِثْلِه أن يدعي أن المسألة قطعيةٌ، وُيشَنِّعَ على مخالفه بذلك.
قال: ولأنَّ المُجْبِرَةَ والمُرْجِئَةَ لا يرتدِعون عن الكذب وغيره من المعاصي، أمَّا المُرْجِئَة فعندَهم: أنَّهم مؤمنونَ، وأنَّ اللهَ لا يُدْخِلُ النارَ مَنْ في قلبه مثقالُ حَبَّةٍ من خردلٍ من إيمان وإنْ زنى وإن سرقَ، وإن قَتَلَ (1)، والكذب أخفُّ مِن ذلك.
__________
(1) جاء في " فيض الباري " للعلامة الشيخ أنور الكشميري 1/ 53 - 54 ما نصه: الإيمان عند السلف عبارة عن ثلاثة أشياء: اعتقاد وقول وعمل، وقد مر الكلام على الأولين أي التصديق والإقرار -وبقي العمل: هل هو جزء للإيمان أم لا؟ فالمذاهب فيه أربعة: -
قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاء للإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما. ثم اختلفوا، فالخوارج أخرجوه عن الإِيمان. وأدخلوه في الكفر، والمعتزلة لم يدخلوه في الكفر، بل قالوا بالمنزلة بين المنزلتين.
والثالث: مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط، فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض.
والرابع: مذهب أهل السنة والجماعة، وهم بين بين، فقالوا: إن الأعمال أيضاً لا بُدَّ منها، لكن تاركها مفسق لا مكفر، فلم يشددوا فيها كالخوارج والمعتزلة ولم يهونوا أمرها كالمرجئة.
ثم هؤلاء -أي أهل السنة- افترقوا فرقتين، فأكثر المحدثين إلى أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا الأعظم رحمه الله تعالى وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخلة =(2/258)
أقول: الجوابُ على السَّيِّد في هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن قولَ السَّيِّد إنَّهم لا يرتدِعُونَ عن الكذب وغيرِه من المعاصي، مباهتةٌ عظيمة وإنكارٌ للضرورة، فإن كلامنا إنما هو في مَنْ
__________
= في الإيمان مع اتفاقهم جميعاً على أن فاقد التصديق كافر، وفاقد العمل فاسق، فلم يبق الخلاف إلا في التعبير، فإن السلف وإن جعلوا الأعمال أجزاء، لكن لا بحيث ينعدم الكل بانعدامها، بل يبقى الإيمان مع انتفائها.
وإمامنا أبو حنيفة وإن لم يجعل الأعمال جزءاً، لكنه اهتم بها، وحرض عليها وجعلها أسباباً سارية في نماء الإيمان، فلم يهدرها هدر المرجئة إلا أن تعبير المحدثين القائلين بجزئية الأعمال، لما كان أبعد من المرجئة المنكرين جرئية الأعمال بخلاف تعبير إمامنا الأعظم رحمه الله تعالى: فإنه كان أقرب إليهم من حيث نفي جزئية الأعمال، رمي الحنفية بالإرجاء، وهذا كما ترى جور علينا فالله المستعان.
ولو كان الاشتراك -مع المرجئة- بوجه من الوجوه التعبيرية كافياً لنسبة الإِرجاء إلينا، لزم نسبة الاعتزال إليهم -أي إلى المحدثين- فإنهم -أي المعتزلة- قائلون بجزئية الأعمال أيضاً كالمحدثين، ولكن حاشاهم من الاعتزال وعفا الله عمن تعصب، ونسب إلينا الإرجاء، فإن الدين كله نُصح، لا مراماة ومنابزة بالألقاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ويطلق الإرجاء أيضاً على من توقف عن تصويب إحدى الطائفتين من الصحابة الذين تقاتلوا بعد عثمان رضي الله عنه، وعلى من لا يقول بزيادة الإيمان ونقصانه.
والمذموم من ذلك كله هو قول من يقول: لا تضر مع الإيمان معصية.
وعليه فلا يسوغ لأحد أن يتسرع في اتهام كل من أطلق عليه الإرجاء، بل لا بد من الفحص عن حاله، فإن كان لإرجائه أمر الصحابة الذين تقاتلوا والتوقف في تصويب إحدى الطائفئين؛ أو لقوله بعدم دخول الأعمال في حقيقة الإيمان أو أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فهو من أهل السنة والجماعة، ولا يعد ذلك طعناً في حقه، أما من أطلق عليه الإرجاء لقوله بعدم إضرار المعاصي فهو الذي يتهم في دينه، ويسقط الاحتجاج بخبره، ولا يعتد بقوله.
قال الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال " 4/ 99: أما مسعر بن كدام فحجة إمام، ولا عبرة بقول السليماني: كان من المرجئة مسعر وحماد بن أبي سليمان، والنعمان، وعمرو بن مرة، وعبد العزيز بن أبي رواد، وأبو معاوية، وعمرو بن ذر ... وسرد جماعة.
قلت - (القائل الذهبي): الإرجاء مذهب لعده من جلة العلماء، لا ينبغي التحامل على قائله. وانظر " الرفع والتكميل " ص 216 - 252 للعلامة اللكنوي، فقد أجاد في بحث الإرجاء غاية الإجادة، ولم يدع فيه قولاً لمستزيد.(2/259)
عُرِفَ منهم بالعبادة العظيمة، والمحافظةِ الشديدة على ما يعتقِدُ أنَّه واجب، والمعلومُ بالضرورةِ لِكل فرقة من فرق الإِسلام أن في المرجئة عُبَّاداً وزهاداً يقومون الليل، ويحيونه بالتلاوة، وينتحِبُونَ بالبكاء العظيم من خوف العذاب الأليم، ويحافظون من النوافل على ما هُوَ أشَقُّ من المفروضات بأضعاف مضاعفة، ويتركون المعاصي والمحرمات. فقولُ السيد: إنهم يرتكبون الكذبَ وسائرَ المعاصي غيرُ صحيح بالضرورة، لأنهم إما أن يُدَّعى إن ارتكابَهم للمعاصي مشاهَدٌ بالأبصار، فذلك مُبَاهَتَةٌ، وأما أن يُدَّعى أن فعلَ الطاعة، واجتنابَ المعصية غيرُ مقدور لهم لبطلان الداعي، وانتفاء الصارف، فذلك غيرُ صحيح، ولا سيما عندك لو قَدَّرْنَا بطلانَ الداعي، وانتفاء الصارف، لكنه غيرُ باطل كما سيأتي، وإما أنْ نُقِرَّ أن فعلَ الطاعة، واجتنابَ المعصية مقدور لهم، ممكن وقوعُهُ منهم في العقل والشرع، فما معنى قطعه بأنَّهم فعلُوا أحد الجائزين؟ وهلاَّ قال: إنهم يفعلونَ الطاعة، ويترُكون المعصيةَ، لأن ذلك مقدور لهم، ولهم إليه أعظمُ الدواعي من المنافسة في مراتب الآخرةِ والتعرض لنفحات رحمة (1) من يعتقدون أنَّه أرحمُ الراحمينَ، وأكرمُ الأكرمين، والمالك لِخَيْرِ الدَّارَيْنِ، وقد قررَ السَّيدُ أنَّه لا يجوزُ للإنسانِ أن يخْبِرَ بخبر يجوزُ أنه كذب، فكيف أخبر عن جميع المرجئة بارتكابِ الكذب وغيرِه من المعاصي بمجرد الجُزَافِ من غير دليل يَدُلُّ على ذلك لا مِن العقل، ولا مِن السمع؟ وليس يجوزُ مثلُ هذا الكلامِ في الفسَّاقِ المصرِّحين إلا في ما شُوهِدَ من معاصيهم، فليس لك أن تقولَ في قاطِع الصلاةِ: إنَّه يَشْرَبُ الخمرَ، ولا في شاربِ الخمر: إنَّهُ يزني، ولا في الزاني: إنَّه يُربي، ولا
__________
(1) لفظ " رحمة " ساقط من (ب).(2/260)
في السَّارق: إنَّه يقتل النفس، فكيف قلتَ في من أُرجىء، ولم يُعرف منه إلا هذه المعصية: إنَّه يفعل غيرَها من المعاصي التي يعتقد تحريمَها، وهلا قلتَ: إن قوله هذا يضعف الظن لصدقه، ويضعف الظن لاجتنابه للمعاصي كما تقول العلماءُ.
فإن قلتَ: إنك إنما عَنَيْتَ بهذا فساقَ التصريح منهم.
قلت: ليس كلامُنا في فساق التصريح على أنَّه لا يجوز الرجمُ بالغيب على فُسَّاق التصريح، ولا كفار التصريح، والعجبُ أن السيد -أيَّده الله- قال في البراهمة مع إنكارهم للنبوات، وما جاءت به الشرائع من عذاب النار في حقِّ الفُساقِ والكفار: إِنهم يتحرَّزُونَ عن الكذب أشدَّ التحرز، فيتنزَّهُونَ عنه أشَدَّ التنزه مع إنكارهم لعذابِ النار بالمرَّة، بل مع تكذيبهم لجميع الرسل والأنبياء، وإنكارهم لجميعِ ما جاؤوا به مما يُخالِفُ العقول من إيلام الحيوان في الدنيا والآخرة، فكيف أخبر عنهم بأنَّهم في غاية التحرز من الكذب.
وأما المرجئة، معَ تصديقهم للأنبياء عليهم السلامُ، وخوفِهم من الموت على الكفر الذي لا يُغفر، وإثباتِهم للعذاب الأخروي، فقطع السيدُ بأنَّهم يكذبون، ويرتكبون سائرَ المعاصي، ولم يُمكنه العدولُ عن هذه العبارة إلى ما هو أقربُ منها إلى الصدق، وإلى ما يكفيه في (1) جرحهم، بل تعدى الطور في الغلو، و (2) جاوز الحد في التعدي حتى فضَّل البراهمَة المصرِّحين بتكذيب اللهِ ورسُلِه، القاطعين ببطلانِ العذاب،
__________
(1) في (ب): من.
(2) في (ب): أو.(2/261)
القاضينَ بتقبيحه على من آمنَ بالله وملائكتِهِ ورُسُلِهِ، وأقام أركانَ الإسلام الخمسة، واجتنب الكبائرَ المتواترة، وإنما عرضت له شُبْهةٌ في خبرٍ واحدٍ من أخبارِ الله، تعارضت عليه فيه العمومات والخصوصاتُ مع تقويه عند اعتقاده أنَّ الله صادق (1)، ولا يُخلِفُ الوعدَ ولا الوعيدَ.
الوجه الثاني: اعْلَمْ أن الحاملَ على المحافظة على الخيرات والمجانبة للمكروهات، ليس مجردَ اعتقاد أنَّ الله يُعَاقِبُ على الذنب ولذلك لم يكن العدلُ مَن اعتقد أن الله لا يغفِرُ كبيرةً إلا بالتوبة، ولا قال أحدٌ مِن أهل (2) الإسلام: إنَّ هذه حقيقةُ العدل في الشرع، وإنما الحامل على العدالة شرفٌ في النفوس، وحياءٌ في القلوب عن مبارزة المنعم بجميع النعم بالمعاصي، ولهذا فإِنَّ أكثر الخلق محافظةً على الخير، ومجانبة للشر أكثرُهم حياءً من الله وتعظيماً وإجلالاً له، وأما مجرد الاعتقاد، فهو واحد لا يزيد، ولا يَنْقصُ ولهذا تجد الوعيدية مختلفين مع أن اعتقادَهم واحد، ولكن تفاضلها في شرف النفوس، وأنَفِهَا من دناءة المعاصي ومذلَّةِ الفواحش، واختلفوا في شِدَّةِ الحياءِ من ملك الملوك، وربِّ الأرباب، وتباينت مراتبهم في التعظيم والإجلال لِمَنْ بيده الخيرُ وهو على كُلِّ شيء قدير، ولهذا فإن أقربَ الخلق إلى الله أخوفهم منه، ولهذا اشتَّد خوفُ الأنبياء والأوصياء، وكانوا أرغَبَ الخلقِ إلى الطاعات، وقد كان كثيرٌ من الصَّالحين لا يرضى أن يَعْبُدَ الله خوفاً مِن العذاب ولا رغبةً في الثواب، وإنما يَعْبُدُهُ إجلالاً، ويُطيعه تعظيماً (3)، وكذلك قالت
__________
(1) في (ب)، زيادة: ولا يكذب.
(2) في (ب)، زيادة: فِرَق.
(3) يرى فريق من أهل العلم أن ما عليه هؤلاء ليس هو الجادة، وإنما هو من الشطحات والرعونات التي تقع للسالكين، ويحتجون بأحوال الأنبياء والرسل والصديقين ودعائهم =(2/262)
المعتزلة: لا تَصِحُّ العبادةُ بقصد دفعِ العقاب، وطلبِ الثواب، فكيف يقال: من لم يخف، قال الزورَ، وارتكب الفجورَ؟! هذا كلامُ مَنْ لم يتأمل، فقد علمنا بالضرورة أن في المرجئة عُبَّاداً خاشعين، ورُهباناً خائفين مشفقين حزناً، باكين صائمين قائمين، وكثيرٌ منا إذا نظرتَ أخَسُّ منهم في الأحوال لا في العقيدة وللهِ الحمد، وذلك لأن مَنْ صبر على مشاقِّ الطاعات، وتركِ الشهوات من غير خوف العذاب، فهو شريفُ النفس، حُرُّ الطبيعة، عزيزُ الهِمَّةِ، عظيمُ المروءة، كثيرُ الأنفة مِن دناءة المعاصي، شديد الحياء من الله تعالى، ومن لا يقومُ إلى الطاعة حتى
__________
= وسؤالهم، والثناء عليهم بخوفهم من النار ورجائهم للجنة، فقد قال تعالى في حق خواص عباده {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} وقال عن أنبيائه ورسله {وزكريا إذ نادى ربه .... إلى أن قال {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين} أي: رغباً فيما عندنا، ورهباً من عذابنا، والضمير في قوله {إنهم} عائد على الأنبياء المذكورين في هذه السورة عند عامة المفسرين، وذكر سبحانه عباده الذين هم خواص خلقه، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم، وجعل منها استعاذتهم به من النار، فقال تعالى {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} وأخبر عنهم أنهم توسلوا إليه بإيمانهم أن ينجيهم من النار، فقال تعالى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فجعلوا أعظم وسائلهم إليه وسيلة الإيمان، وأن ينجيهم من النار.
وقال عن خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فسأل الله الجنة، واستعاذ به من النار وهو الخزي يوم البعث.
وفي السنة الصحيحة نصوص كثيرة فيها الثناء على عباده وأوليائه بسؤال الجنة ورجائها، والاستعاذة من النار، والخوف منها.
وقالوا: كيف يكون العمل لأجل الثواب وخوف العقاب معلولاً، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرض عليه، ويقول: " من فعل كذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية " و" من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة " و" من كسا مسلماً على عري كساه الله من حلل الجنة " و" عائد المريض في خرفة الجنة " والحديث مملوء من ذلك، أفتراه يحرض المؤمنين على مطب معلول ناقص، ويدع المطلب العالي البريء من شوائب العلل لا يحرضهم عليه ....(2/263)
يَخَافَ الخلودَ في النار، ولو كان إلى مجرد الحياءِ من الله تعالى، وإلإِجلالِ له، والقيامِ بحقه لم يرفع إلى ذلك رأساً، ولا هَمَّ به أبداً، فهذه طبيعة شرارِ العبيد، وخِساس الهِمَمِ، ولهذا قيل: والعبد لا يَرْدَعُهُ إلا العَصَا، وإن كثيراً من الصالحين المتوسطين -دَعْ عنكَ الأكابر- لو يعلمُ أنَّ الله قد غَفرَ له كُلَّ ذنب، ولكنه يكره المعصيه منه، ولا يرضاها له، ولا يأذَنُ له بها لمْ يَفْعَلْهُ لو أرِيقَ دمُه، وفارق روحَه، وقد روي في الحديث " نِعْمَ العَبْدُ صهيْبٌ لَوْ لَمْ يخَفِ اللهَ لَمْ يَعْصِهِ " (1) بل هذه حالُ كثير من المحبين للمخلوقين فيما بينَهم، وفي ذلك يقول شاعرُهم:
أهَابُكِ إجْلاَلاً ومَا بِكِ قُدْرَةٌ ... عَلَيَّ وَلكِنْ مِلءُ عيْنٍ حَبِيبُهَا (2)
فهذا معلوم فيما بينَ المتحابين من المخلوقين والذين آمنوا أشدُّ حبّاً لله.
__________
(1) قال السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 449: اشتهر في كلام الأصوليين، وأصحاب المعاني، وأهل العربية من حديث عمر، وذكر البهاء السبكي إنَّه لم يظفر به في شيء من الكتب، وكذا قال جمع جم من أهل اللغة، ثم رأيت بخط شيخنا (الحافظ ابن حجر) أنه ظفر به في " مشكل الحديث " لأبي محمد بن قتيبة، لكن لم يذكر له ابن قتيبة إسناداً، وقال: أراد أن صهيباً إنما يطيع الله حباً، لا مخافة عقابه.
وقال السيوطي -فيما نقله عنه القاري في " الموضوعات الكبرى "- في " شرح نظم التلخيص ": كثر سؤال الناس عن حديث " نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه " ونسبه بعضهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونسبه ابن مالك في "شرح الكافية" وغيره إلى عمر رضي الله عنه، قال الشيخ بهاء الدين السبكي: لم أر هذا الكلام في شيء من كتب الحديث لا مرفوعاًً ولا موقوفاً لا عن عمر رضي الله عنه ولا عن غيره مع شدة التفحيص عنه.
(2) وبعض المفسرين ينشدونه عند قوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} لتوجيه قراءة من قرأ برفع الهاء من لفظ الجلالة، ونصب الهمزة من العلماء، ونسبوها إلى أبي حنيفة، وتكلفوا توجيهها، وهي قراءة موضوعة لا تصح نسبتها إليه، افتعلها وغيرها الخزاعي، ونسبها إلى أبي حنيفة. وراج صنيعه ذلك على أكثر المفسرين. بين ذلك ابن الجزري في " النشر " 1/ 16، فراجعه.(2/264)
الوجه الثالث: أن نقول: ما السببُ في تخصيصِك (1) للمرجئة بالذكرِ دونَ سائرِ أهلِ البدع؟ فإن كنتَ إنَّما ذكرتَهم لأجلِ بدعتهم، فقد شاركهم فيها كثيرٌ من الخوارج، وسائرُ فِرَقِ الضلال، وإن كنتَ إنما ذكرتَهم، لأنهم يُجَوِّزُونَ أن أهلَ المعاصي من أهل الإسلام يدخلون الجنة، بل يقطعونَ على ذلك في من مات على الإسلام، فلا شكَّ أن قولهم بدعة، ولكن السَّيِّد قَصَدَ أنها بدعة صارفةٌ عن الطاعة، وداعيةٌ إلى المعصية بحيث لا يظن في من اعتقدها أنَّه يأتي بواجبٍ، ولا يَرتَدِعُ عن قبيح، وقد غَلِطَ السيدُ في ذلك فإن جميعَ الفرق قد شاركت المرجئةَ في ما هو مثلُ قولهم في تقليل الداعي إلى الطاعة، وتهوينِ الصارفِ عن المعصية، وذلك أن الوعيدِيَّ يقطعُ أن الله تعالى يَقْبَلُ التوبة، فيرتكب المعاصي ثقة بالتوبة، كما أنَّ المرجىء يعتقد أنَّه يَغْفِرُها، فلا فرق بينَهما في الداعي والصارف، وإن كان المرجىء مبتدعاً، وذلك لأن كُلَّ واحد منهما يعتقد أن الله يغفرُ الذنبَ، ويجوز أنَّه مِن أهل النار والخلود فيها، وإنما اختلفا في كيفية المغفرة وسببها، فالوعيدي يقول: إن الله يغفِرُ بالتوبة على سبيل الوجوب عليه، والمرجىء يقول: إن الله يغفِرُها بالإِسلامِ على سبيل التفضُّلِ منه، وإنما قلنا: إن كُلَّ واحد منهما يجوز أنه من أهل النار، فلأن المرجىء يجوز أن يموت على غير الإِسلام، كما أن الوعيدِيَّ يجوز أن يموتَ على غير التوبة، بل على غيرِ الإسلام، بل هو أشدُّ من المرجىء في ذلك، لأنه يعتقدُ أنَّه يَجِبُ على الله قبول التوبة، والمرجىء لا يعتقِد وجوبَ العفو، لأن الوعيدي قد يعتقِدُ أنَّه يجب على الله تَبْقِيَةُ العاصي بعدَ المعصية حتى يتمكَّنَ مِن التوبة وهو قولُ أبي علي، وأبي القاسم، لأنَّه قد كلَّفه بالتوبة،
__________
(1) في (ب): تخصيصه.(2/265)
والتكليفُ لا يَحْسُن إلا مَع التمكين، والشيخ أبو القاسم يقول: إن الأصلحَ واجبٌ على الله، فإذا صارَ العبدُ مؤمناً، وعَلِمَ اللهُ أنَّه يعودُ إلى الكفرِ أو الفسق، لم يَجُزْ أن يُبْقِيَهُ، فهؤلاء أشدُّ أماناً من المرجئة، فإنه يلزم من قول أبي القاسم أن مَنْ مضى له وقت يَعْلَم أنَّه قد أتى فيه بجميع ما كلَّفه اللهُ تعالى، عَلِمَ أنَّه من أهلِ الجنة، فإنه يَقْبُحُ مِن الله تعالى أن يُميتَه على حالٍ يستحق عليها العقوبةَ، وهذا أعظمُ مِن مذهب المرجئة، لأنَّه يُؤَدِّي إلى الأمانِ من العذاب على جهةِ القطع، والمرجئةُ لا يُثبتون ذلك لتجويزهم أن يموتوا كفاراً فيُعَذَّبُونَ بذنب الكُفْرِ الذي لا يُغفر لقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ} [الروم: 10] على أحدِ التفسيرين والاحتمالين، والثاني: أن السُّوأى هي النارُ وكأنَّه المشهورُ، وخرج الحاكم في تفسير (سورة الحشر) عن علي عليه السلامُ: أن عابداً تزيَّنَتْ له امرأة فَوَقَعَ عليها، فَحَمَلتْ، فجاءه الشيطانُ فقال: اقتُلْهَا قبل أن تفضحَك، فقتلها ثم افتضح فأخذوه، فجاءه الشيطان فقال: اسْجُدْ لي سجدةً واحِدَةً وأُنجيك فَسَجَدَ له، فنزل في ذلك قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} الآية، قال الحاكم: صحيح الإسناد (1)، والمرجئة تقول: المعاصي بريدُ الكفر، وليس في مذهبهم أمانٌ
__________
(1) ووافقه الذهبي 2/ 484 - 485 مع أن حميد بن عبد الله السلولي راويه عن علي لا يعرف، ثم هو محرف في المطبوع من المستدرك والمختصر عن عبد الله بن نهيك، ففي تاريخ البخاري 5/ 213: عبد الله بن نهيك: سمع علياً رضي الله عنه في قوله {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} قاله محمد بن مقاتل، أخبرنا النضر، عن شعبة، عن أبي إسحاق سمع عبد الله ...
وكذلك هو في تفسير الطبري 28/ 32 عبد الله بن نهيك، وفي " التهذيب " لوحة 749: عبد الله بن نهيك كوفي يروي عن علي بن أبي طالب في قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُر} يروي عنه أبو إسحاق السبيعي. ذكره ابن حبان في الثقات على عادته في توثيق =(2/266)
للتائبين لجهل الخواتِم، كيفَ المُصِرِّينَ؟ فلو كان السببُ في العِصيان هو قِلَّةَ الدواعي إلى الطاعة (1) وكثرةَ الصوارف عنها، ما كانت فِرقةٌ من فرق الإسلام إلا وهي مجروحة في العدالة، غيرُ مقبولة في الشهادة والرواية، ولكان العدْل من اعتقد أن الله لا يَقْبَلُ التوبةَ، ولا يُقِيلُ العَثْرَةَ، ولا يَغْفِرُ الخطيئة، لأن المعتقد لهذه العقيدة أبعدُ الناس عن المعاصي، ولكن ليس الأمر كذلك، فقد بيَّنا في الوجه الأول أن وجودَ الطاعة ليس بحسب الاعتقاد، إنما هو بحسب كرمِ النفوس، وشرفِ الطباع، ولهذا اختلف الكفار المصرَّحون في التلطخ بالرذائل، والصبر على المكارم والفضائل مع إنكارهم الجميع للمعاد الأخروي، فإنه كان فيهم من يتحمَّلُ من مشاقِّ مكارِمِ الأخلاق والمعروف ما يقومُ في المشقة مقامَ تَحَمُّلِ واجبات الشريعة، وكذلك كانوا يجتنبون المَذَامَّ وإن كانت شهيةً محبوبة؛ ولهذا قال حاتم:
وإنكَ إنْ أعْطَيْت بَطْنكَ سُؤله ... وَفَرْجَكَ نالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا (2)
ولهذا كان فيهم السيدُ والمسودُ على قدر تفاضلهم في الصبر على المكاره، واحتمال مشاقِّ المكارِم، ولهذا قيل:
لَوْلَا المشقَّةُ سادَ النَّاسُ كلُهُمُ ... الجُودُ يُفْقِرُ والإقْدام قَتَّالُ (3)
__________
= المجاهيل. فالخبر مع كونه موقوفاً ضعيف. وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 199، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن راهويه، وأحمد في " الزهد "، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في " الشعب ".
(1) إلى الطاعة: سقط من (ب).
(2) البيت في ديوان حاتم ص 69، و" البيان والتبيين " 3/ 308، و" أمالي القالي " 2/ 318، وحماسة أبي تمام 2/ 232، و" عيون الأخبار " 1/ 343، و" شرح شواهد المغني " 5/ 238 و350 و" الهمع " 2/ 57، و" الدرر " 2/ 73، والأشموني 4/ 12.
(3) البيت للمتنبي في ديوانه 3/ 287 من قصيدة سائرة يمدح بها أبا شجاع فاتكاً سنة =(2/267)
وقالت العرب في أمثالها: تَجُوعُ الحرَّة، ولا تأْكُلُ بثَدْيَيْها (1).
وقالت هند لِرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أوتزني الحُرَّةُ (2)؟ ومِنْ ثمَّ قال عليه السَّلامُ: " خَيْرُكُم في الجَاهِلِيَّةِ خَيْرُكُمْ في الإسْلَامِ " (3).
الوجه الرابع: أنَّه لم يَرِدْ في الشرع أن العدلَ من اعتقد إن الله لَا
__________
= ثمان وأربعين وثلاث مئة، ومطلعها: -
لَا خَيْلَ عِنْدكَ تُهْدِيها وَلاَ مالُ ... فَلتُسْعِدِ النُّطْقُ إن لم تُسْعِدِ الحالُ
يقول العكبري في معنى البيت: لولا المشقة تمنع من السيادة، لساد الناس كلهم، ثم بين العلة فيها، فقال: الجود يورث الإقلال والفقر، والشجاعة توجب التلف والقتل، وذلك أن المجد والسيادة يصعبان، ولولا الصعوبة ساد الناس بأسرهم.
(1) أي: لا تكون ظئراً وإن آذاها الجوع، وأول من قال ذلك الحارث بن سليل الأسدي. يضرب في صيانة الرجل الحر نفسه عن خسيس المكاسب.
انطر " فصل المقال " 289 - 290، و" مجمع الأمثال " 122 - 123.
(2) قطعة من حديث أخرجه ابن جرير الطبري في " جامع الببان " 28/ 51 من طريق محمد بن سعد العوفي، عن أبيه سعد بن محمد، عن عمه الحسين بن الحسن بن عطية العوفي، عن أبيه الحسن بن عطية بن سعد، عن جده عطية بن سعد عن ابن عباس.
وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء كما يقول العلامة المحدث أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على تفسير الطبري 1/ 263 - 264، وقد تكلم على رجاله مفصلاً فراجعه.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 6/ 210، وزاد نسبته إلى ابن مردويه وأخرجه سعيد ابن منصور وابن سعد فيما ذكره السيوطي في " الدر " 6/ 209 مرسلاً عن الشعبي، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايع النساء ... وفيه حتى جاءت هند امرأة أبي سفيان، فلما قال: ولا يزنين، قالت: أوتزني الحرة؟ لقد كنا نستحي من ذلك في الجاهلية، فكيف بالإسلام؟
(3) أخرجه البخاري (3353) و (3374) و (3383) و (3490) و (4689)، ومسلم (2526) من حديث أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرمُ؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: " فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا " وفي رواية: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، وتجدون خير الناس في هذا الشأن أشدهم له كراهية حتى يقع فيه، وتجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه ".(2/268)
يغْفِرُ لأهل التوحيد بسَعَةِ كرمه ورحمته مِن غير تكذيب للوعيد، ولكن لما ورد في السمع مما ظاهرُه ذلك (1) فقال بذلك على سبيلِ الإيمان بالسمع من غير جُرأة على المعاصي، فلم يَردْ نصٌّ في كتاب الله تعالى، ولا في سُنَّةِ رسول الله أن مَنْ حافظ على الواجبات، واجتنب المحرمات، وعُرِفَ بالصِّدْقِ والأمانة، فإنه إذا اعتقد أن الله يَغْفِرُ لأهل التوحيد لشبهةٍ اعتقدها في ذلك، فإنها تُرَدُّ شهادته، ولا تُقبل روايتُه.
الوجه الخامس: أن مجرَّدَ اعتقاد أن الله يتفضَّلُ بمغفرة الذنوب (2) من غير أن يجب عليه ذلك بالتوبةِ، وتكفير الصغائر ليس مما يدُلُّ على كذب من اعتقد ذلك. ولو أن عبداً من عبيد المخلوقين اعتقد في سيِّدِه أنه في غاية الكرم والحِلْمِ والمسامحة من غير وجوب عليه لم يدُلُّ ذلك على أن جميعَ مَا رَوَى عن سيده، فإنه كذب، وجميعُ ما أمره به سيده، فإنه يعصيه فيه، بل قد يكونُ هذا العبد في غاية الإجلال له والطاعة مع اعتقاده لحلمه وكرمه رغبةً منه في محبة سيده، واستجلاباً لخيراته أو (3) محبة منه لسيده، وشكراً له على نعمائه، وكذلك عَمَلُ الناس مع إخوانهم وأهل الحِلم والكرم مِن أقاربهم، فلم يكن قرابةُ الأحنفِ وعشيرته يكذِبُونَ عليه، ويَعُقُّونَ رَحِمَه لأجل حِلمه، ولو كان لأحدنا صديق في غاية الحِلم والكرم بحيث يعرف أنَّه لا يؤاخِذُنَا، لم يكذب عليه ويَعُقَّه، ويجعل ذلك عادةً مستمرة، بل قد يزيدُه حلْمُهُ وكَرَمه رغبةً في طاعته، وزيادة في محبته، وكم من مَهيبٍ يُعصى وتُحتمل عقوبته لأجل بغضه، ومساوىء
__________
(1) في (ب): يقتضي ذلك.
(2) في (ب): بالمغفرة للذنوب.
(3) في (ب): و.(2/269)
أخلاقه، وكم مِن حليم يُطاع، ويُمتثل أمرُه، وتفنى الأرواح والأموالُ في طاعته، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل هذه الصِّفَةِ الشريفة، بل هو الذي بَلَغَ أعلى مراتبها، واختصَّ بأقصى مناقبها، وهي صفتُه في التوراة والفرقان، قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم: 4] إلى غير ذلك.
وفي تفسير السَّيِّد في قوله تعالى حكايةً عن المنافقين في عيبهم له بأنَّهُ " أُذُن " قال السيد: أي: يُصدِّقُ كلَّ مَا سمِع، وَيقْبَل قَوْلَ كُل أحد وقال في قوله تعالى: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} [التوبة: 61] أي: نعم هو أُذُنٌ، ولكن نِعْمَ الأذنُ، إلى قوله في تفسير كونه خيرَ أذن أنَّهُ يُصدق بالله وًيقْبَلُ من المؤمنين المخلصين إلى قوله: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُم} [التوبة: 61] أي: أظهر الإيمان منكم أيُّها المنافقون يقبل إيمَانَكُمُ الظاهرَ، ولا يكشِف أسرارَكم، فهو أذن كما قلتم، لكنه أذُنُ خيرٍ لا أُذُنُ شرٍّ. فسلم لهم أنَّه أذن، لكنه فسَّره بما هو مدح. انتهى. فلم يكن حِلْمُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وحُسْنُ خلقِهِ، وجزاؤه السيئةَ بالحسنة، حاملاً لخير أهله وأصحابه على الكذب عليه، والعقوقِ له، والتساهلِ في طاعته. وكذلك كلُّ حليم مع أصحابه وقرابته وجيرانِه، فمن أينَ للسَّيِّد أنَّ المرجئَة لما اعتقدوا أنَّ اللهَ يغفِرُ لأهل الإسلام كرماً واسعاً، وحلماً عظيماً، ورحمة لهم، واستغناءً عنهم، فقد استهانوا بجلال الله، وانهمكوا في معاصي الله، وصار دأبهم الكذبَ على الله ورسوله؟! ولقد رأيتُ مِن الصالحين مَنْ يزدادُ عملاً ونشاطاً على الرجاء، ويزدادُ نفوراً على الخوف، وهذا معروف عند أهل الذوق وأنشدوا في ذلك:
لَهَا بوجْهِكَ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... وَمِنْ أيَاديكَ في أعقابِهَا حَادِي
لَهَا أحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا ... عَنِ المَنَامِ وتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ(2/270)
الوجه السادس: أن اعتقادَهم لو كان حاملاً لهم على الكذب، لحملَهم على ترك الصلاة والصومِ والحجِّ، وسائر الواجبات التي ثبت أنهم يُحافِظونَ عليها أشق من الصدقِ في الرواية، بل ليس في الصِّدق مشقة في كثيرٍ من الأحوال، وكذلك لو كان اعتقادُهم يحمِلهُم على الكذب، لحملهم على ما هو أشهي منه إلى النفوس، وعلى ما هُمْ أحوج إليه من القبائح من أكل الحرامِ والزنى والاشتغالِ بالمعازف والملاهي وسائرِ المحرمات، فإِنها أشهي من الكَذِب، بل الكذبُ غيرُ شهي في نفسه، ولا طَيِّب في ذاته، فالذي حملهم على مشاق الطاعات الواجبات والمندوبات يحملُهم على الصدق الذي هو دون الواجبات والمندوبات، وكثيرٌ من الواجبات في علو المرتبة. والذي حملهم على ترك الشهوات المحرمات والمكروهات يحملُهم على ترك الكذبِ على الله ورسوله الذي ليس بمنتظم في جملة الشهوات مع أنَّه مِن أعظم المقبحات وأغلظِ المحرمات، ولو كان قولُ السَّيِّد صحيحاً، لرأيناهم يقطعونَ الصلواتِ، ويرتكبون المحرماتِ، فلما رأيناهم على العكس من ذلك، وَثقْنَا بصدقهم، ورجحنا قبولَ قولهم.
الوجه السابع: أنا قد بيَّنا أن الصالحين منهم يخافون الموتَ على الكفر، ويخافون من شؤم المعاصي المغفورة في الآخرة أن تكون سبباً في الدنيا للذنب الذي لا يُغْفَرُ، وهو ذنبُ الكفر كما قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10] وسيأتي في أحاديث القدر عموماً، والقدر عند الخاتمة خصوصاً ما يُوجبُ خوفَ المؤمن لذلك، وفي " الصحيح " (1) أن رسول
__________
(1) لفظ الصحيح -أي صحيح مسلم (2654) من حديث عبد الله بن عمرو- أنَّه سمع =(2/271)
الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قلْبِي عَلَى دِينِكَ "، فقالوا: أو تخافُ علينا يا رسول الله؟ فذكر التخويف من ذلك.
وفي كتاب الله تعالى من ذلك: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] وهي بمعنى أحاديثِ القَدَرِ عندَ الخاتمة، فَهُمْ مِن خوف سوء الخاتمة في قلقٍ عظيم، وإشفاق شديد، وشُغْلٍ شاغل عن الكذب على رسول الله قد كادت قلوبهم تقَطَّعُ مِن خوف العذاب {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 28] فهم أبداً يجتهدون في التقرب إلى الله رجاءَ ما وعد به المطيعين من الزيادة في الهُدى والألطاف المقربة إلى طاعته (1) السابقة إلى خاتِمة الخير، والموت على الإسلام مع الرغبةِ العظيمة في نيلِ المراتب الشريفة في دار الكرامة.
__________
= رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء "، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " وأخرجه أحمد 2/ 168، والآجري 316، وابن أبي عاصم (222) و (231) وما ذكره المصنف لم يرد في الصحيح، إنما رواه الترمذي (2140) والآجري في "الشريعة" ص 317، وابن أبي عاصم في " السنة " (225) و (230) والحاكم في " المستدرك " 2/ 288 من طريقين عن الأعمش، عن أبي سفيان -طلحة بن نافع- عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "، فقلت: يا رسول الله، قد آمنا بك، وبما جئث به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ". وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال.
وفي الباب عن النواس بن سمعان الكلابي عند أحمد 4/ 182، وابن أبي عاصم (219)، وابن ماجة (199)، والآجري ص 317، وصححه ابن حبان (2419)، والحاكم 2/ 289 و4/ 321، ووافقه الذهبي، والبوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقه 14/ 2 وهو كما قالوا.
وعن أم سلمة عند أحمد 6/ 302 و315، والآجري ص 316، وابن أبي عاصم (232) وسنده حسن في الشواهد، وعن عائشة عند ابن أبي عاصم (233)، وأحمد 6/ 91، والآجري ص 317، ورجال أحمد ثقات.
(1) إلى طاعته: ساقط من (ب).(2/272)
الوجه الثامن: أن الملائكةَ والأنبياء قد أَمِنُوا مِن الموت على الكفر الدي تخافه المرجئةُ، وهم مع ذلك أخوفُ الخلق لله فدل ذلك على أنَّ الخوفَ ليس موقوفاً على ظنِّ الخائف أن الله يعذِّبُه في الآخرة، ولا على تجويزه لذلك، وقد قال تعالى في الملائكة عليهم السلام: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم} [النحل: 50]، وقال: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُون} [الأنبياء: 28].
الوجه التاسع: أن نقولَ: الدواعي إلى الصِّدق في الحديث خاصة أكثر، والصوارفُ عن الكذب فيه أكبر، فقد رأينا الفُسَّاقَ المصرحين يمضي عُمُر أحدِهم ولم يكذب فيه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وتقديرُ وجود الداعي الغالب لوازع الشرع الماحي لآثار الحياءِ من الله تعالى نادرُ الوقوع في الزمان، نادرُ الوقوع في الأشخاص، والنادرُ غيرُ معتبر بدليل أنَّه مرجوح، والصدق راجح، وتقديمُ الراجح على المرجوح، والمساواة بينهما على خلاف المعقول، ولا موجبَ لترك دليل المعقول من المنقول.
الوجه العاشر: لو كان اعتقادُهم أن الله يغفرُ حاملاً على المعصية قطعاَّ، لوجب أن يكون اعتقادُ أنَّ الله يُعَذِّبُ مَنْ لم يتب موجباً لتركِ المعاصي قطعاً كافياً في العدالة، فيكون مَنِ اعتقد أن الله لا يغفِرُ إلا بالتوبة، فهو عدلٌ لا يحتاج إلى تعديل ولا خِبرة، ومنِ اعتقد أن الله يغفِرُ من دون توبة، فهو مجروح من غير جارح ولا خِبرة، بل بمجرَّدِ اعتقادهما يثبت لذلك العدالة ولهذا الجرح، فكما أنَّ ذلك لا يصِحُّ التعديل به في الوعيدي، فكذلك لا يَصحُّ الجرحُ به في المرجىء، فكما أنا نَجِدُ في الوعيدية عاصياً، فكذلك نَجِدُ في المرجئة مطيعاً، بل الوعيدي العاصي هو الذي وجود الذنب منه أقبح وإصرارُه عليه للجرح أصلحُ ولذلك قيل:(2/273)
وأعْظَمُ مِنْ أخِي الإرْجَاءِ ذَنباً ... وعيدِي أصَرَّ عَلَى الكبَائِرْ
هذا بالنظر إلى شدة جرأته، وعدمِ التفاته إلى عقيدته، وإلا فهو أصلحُ اعتقاداً وأقومُ مذهباً، وتحقيقُ هذا أن وجود الداعي من الفريقين لا يكفي في الفعلِ إلا مع عدم الصارِف الراجح، وكذلك العكسُ، هذا هو العلةُ في وجود الطاعة والمعصية مِنَ المرجىء والوعيدي مَعَ القولِ بالاختيار والإجبار، فإِن الفريقين متَفقون على وجودِ الفعل عند رُجحان الدواعي، وإنما اختلفوا في كونِ ذلك الوجود على جهةِ الاختيار والاستمرار، أم على جهة الاضطرار والإجبار، فإذا كان كذلك، فَمِنْ أينَ غَلَب على الظن أن رغبتهم في الشهوات العاجلة أعظمُ مِن رغبتهم في الدرجات الرفيعة عند الله ولا سيما في الصدق الذي لا مَشَقَّةَ فيه.
فإن قلتَ: وما الدواعي التي يمْكِنُ أن تدعو المرجئة إلى فعل الطاعة، وترك المعصية.
قلت: أمورٌ كثيرة.
أولها: أنهم يعتقِدُونَ أن الواجباتِ مما يُحِبُّه اللهُ، ويأمر به، ويستحق العقابَ بتركه (1) والثوابَ بفعله، والمحرماتُ مما يكرهه اللهُ، وينهي عنه، ويستحق العقابَ بفعله.
وثانيها: أنَّه يجوزُ أنهم يجوزون العقابَ في الدنيا على المعاصي بالأمراض، وضيق الأرزاق، وسائر البلاوي.
وثالثها: ما ذكرناه مِن خوفهم أن تكونَ المعاصي سبباً للوقوع في
__________
(1) في (ب): لتركه.(2/274)
ذنب الكفر الذي لا يُغفر.
ورابعُها: المنافسة في عُلُوِّ المراتب الحاملة للوعيدي على النوافل.
وخامسها: إجلالُ الله تعالى وتعظيمه والحياء منه، وقد ذكرنا بعضَ هذه الوجوه، وإنما أعدناها زيادةً في البيان.
الوجه الحادي عشر: أن الإرجاء ليس بكفرٍ ولا فسقٍ عند أهل المذهب، نص عليه القاضي شرف الدين في " تذكرته " والحاكم في " شرح العيون "، وذكر معنى ذلك القاضي العلامة عبدُ الله بن حسن الدواري في تعليقه على " الخلاصة " وغيرهم، كما سيأتي، وقد ثبت أن المبتدع بما لا يتضمن كفراً ولا فسقاً مقبولُ الشهادة، نصَّ عليه في " اللمع " وأشار إلى الاتفاق عليه، وسيأتي الدليلُ على ما ذكره القاضي شرف الدين في " التذكرة " من عدم تكفيرهم وتفسيقهم في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى، وقال الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى " في الكلام في التكفير في المسألة السابعة من ذلك ما لفظه: لم يكفر شيوخُنا المرجئةَ، لأنهم يُوافقونهم في جميع قواعد الإِسلام، لكنهم قالوا: عنى الله بآياتِ الوعيد الكفرة دونَ بعض الفسقة أو (1) التخويف دونَ التحقيق، وأنه ليس بكفر. انتهي وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته (2) عند أئمة الرواية: أن الملائِكَة عليهم السلامُ اختصَمُوا في الذي قَتَلَ تسعةً وتسعينَ، ثم سأل عابداً: هَلْ لَة تَوْبَةٌ؟ فقال له: لا توبةَ له، فقتله، ثم سأل عالماً فأمره بالتوبة والهِجرة عن أرضه، فأدركه الموت في طريقه إلى الهجرة.
__________
(1) في (ب):
(2) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري، البخاري (3470) ومسلم (2766) وقد تقدم في 1/ 219 و314.(2/275)
الحديثَ، وفيه: أنَّه وقع بينَ ملائكة الرحمة والعذاب نحوُ ما وقع بينَ الوعيدية وأهل الرجاء وهو يدل على نجاة الفريقين، إن شاء الله تعالى. فهذه أحدَ عشرَ وجهاً تختص المرجئة (1)، وتحقيق الدلالة على قبولهم يأتي في الفصل الثاني -إِن شاء الله تعالى- عند الكلام على قبولِ المتأوِّلين.
قال: وأما المجبرة، فعندهم أن الله تعالى يجوز أن يُعَاقِبَ المطيعَ، وأن يُثيبَ العاصي، فلا فائدةَ في الطاعة، وأيضاً فعندهم أن أفعالَهم مِن الله تعالى، فالإِثابة عليها، والعقابُ لا معنى له، فإن قالوا: هذا من جهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يَدْخُلُ المطيعُ الجنة، والعاصي النارَ إِلا منْ قال منهم بالإرجاء.
قلنا: إنَّه إنما وَعَدَ ذلك مقروناً بمشيئته لقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 18] وهم لا يعلمونَ من الَّذِين يشاءُ اللهُ أن يغفِرَ لهم.
أقول: الجواب على هذا من وجوه:
الوجه الأول: أن السيدَ منازع في كون هذا مذهبهم، لأنَّه نسب إليهم أنهم يعتقِدُون ذلك، والمعلومُ من مذهبهم ضرورة أنهم لا يعتقدونه، ولم يقُلْ أحدٌ من جميع النّقَلَةِ لمذهبهم أنَّ ذلك مذهبهم، وإنما ألزمهم ذلك أهلُ الكلام مجردَ الزام، واختلف العلماءُ في التكفير بالإلزام مع الإجماع منهم أنَّه لا يجوزُ أن يُقال: إن الخصمَ يعتقِدُه، لأن الجميعَ يعتقدون قبحَ الكذبِ وهذا كذب، فإِن كان السيدُ قال هذا كراهيةً للجبرية، فما أصاب السنة (2) ولا عَمِلَ بمقتضى الشريعة، قال الله تعالى:
__________
(1) في (ب) و (ش): بالمرجئة.
(2) في (ب): السيد.(2/276)
{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وإن كان السَّيِّد يجد ما يشَنِّعُ بِهِ عليهم مِن سائر مَذاهِبِهم القبيحةِ التي صرَّحُوا بها واعتقدوها، وله في التشنيع بها غُنية وكفاية عن هذا الذي يستفيد المتكلم به أن يسقطَ عن العيون، وأن تَسُوء به الظُّنون، وإن كان قال ذلك متوهماً أنَّه يمضي على خصمه ولا يعرِفُه، فأدنى العوام تعرف أن ليس في أهلِ الشهادتين مَنْ يعتقِدُ أنَّ الله يُعاقِبُ على الطاعة، ويُثيبُ على المعصية، بل ليس في مِلَلِ الشرك وعُبَّادِ الأوثان مَنْ يعتقد ذلك.
الوجه الثاني: أن هذا الاستدلالَ منه أَيّده الله هو المعروفُ في علم المنطق بالمغالطة، قالوا: والمورد لها، إن قَابَلَ بها الحكيم، فهو سوفسطائي، وإن قابل بها الجدلي، فهو مُشاغبي، فهب أني رضيت لنفسي التبرؤ مِن مرتبة الحكمة البُرهانية، ونزهتُك عن المذاهب السُّوفسطائية، فما ينبغي منك أن ترضى لنَفْسِكَ بمرتبة المشاغِبِ، فأنت مِن أولاد العِترة الأطايبِ.
وإنما قلتُ: إن ذلك من قياسات المغالطة، لأن المغالطة قياسٌ متركبٌ من مقدمات شبيهة بالحق تفسدُ صورتَه بأن لا يكون على هيئةٍ منتجةٍ لاختلال شرطٍ مُعْتَبرٍ، وهذا حاصلٌ في استدلالِ السيد، وبيانُه من وجهين:
أحدُهما: قوله عندهم: أن الله يجوز أن يُعاقِبَ المطيع، ويُثيب العاصي، فهذه مقدمة باطلة تشبه الحقَّ، والحق أنَّهم لا يقولون بذلك، ولكنه يلزمُهُمُ القولُ به لو جرَوْا على قواعد مذهبهم، فإِما أن يعترِفَ السيد بهذا، فهو الظَنُّ بعلمه وعقله، أو يُصِرَّ على اللجاجة في الخصومة، ويُصمِّمَ على اللَّدَدِ في المماراة، فهاهم أولاءِ في تِهامة فليكتُبْ إليهم(2/277)
كتاباً، أو يرسل إليهم، ويسألهم عن اعتقادهم، فإِن أخبرونا بالذي قال السيد، صح أني مُتَعَدٍّ عليه في كلامي، وإن أخبروا (1) بمثلِ ما قلتُ عنهم وصَحَّ أنَّه متعد في احتجاجه علي، فإِن قال السيد: إن الذي قاله مذهبُهم في الباطن، فعليه أن يدل بدليل قاطعٍ على أمرين:
أحدهما: أنَّه يعلم ما في الضمائر.
والثاني: أنَّه معصوم لا يجوزُ عليه الكذبُ، وحينئذ يجب علينا أن نُؤمِنَ بكلامه من غير منازعة، ونَرْجعَ إلى قوله من غير مراجعة، ومن أحبَّ أن يَعْرفَ صدقَ كلامي من غير سؤال لهم، فلينظر إلى كتُبِهِم الكلامية والأصولية وشروح الحديث وغيرها، وُيطالع " مناهج العابدين إلى الجنة " للغزالي، وكتاب " إحياء علوم الدين "، وكتاب رياض الصالحين " للنواوي وشرح مسلم له، وكتاب " الأذكار " له، وينظر: هل قالُوا: من أطاع الله تعالى، دخل النارَ وغَضِبَ عليه الجبار؟ ومن عصاه أدخله الجنان، ووجب له منه الرضوان؟ فالسيد أيَّده الله صادق، أو قالوا: بالعكس من ذلك، فمحمد بن إبراهيم صادق، وليُطَالِعْ مَنْ أحب معرفةَ مذهبهم في ذلك " شرح مسلم " للنواوي وينظر إلى قوله فيه: باب أن من مات مؤمناً دخل الجنة قطعاً (2)، ولينظر إلى كلام الغزالي في كتاب "المنقذ من
__________
(1) في (ب): أخبرونا.
(2) قال رحمه الله 1/ 217: هذا الباب فيه أحاديث كثيرة، وتنتهي إلى حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً .... ".
واعلم أن مذهب أهل السنة، وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحداً دخل الجنة قطعاً على كل حال، فإن كان سالماً من المعاصي كالصغير والمجنون، والذي اتصل جنونه بالبلوغ، والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يُبْتَل بمعصية أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة، ولا يدخلون النار أصلاً .... وأما من كانت له معصية كبيرة، ومات من غير توبة، فهو في =(2/278)
الضلال والمفصح بالأحوال " وما الَّذي حمله على ترك الرئاسة، والهرب من الدنيا الواسعة، والجاهِ العريض الطويل مع ملوك الشام والعراقين هل الرغبةُ في ثوابِ الله، والطمعُ في الفوز برضوانه ومغفرته، أو اعتقاده أن الله يُعاقِبُه على الزُّهْدِ أعظمَ العقوبة، وأن الذي كان عليه في الدنيا أكرمَ مثوبة، وليُطَالِعْ تراجمَ الأبواب في كتاب " الأذكار " هل قال فيها: باب عقاب مَن قرأ القرآن وذكر الله، وباب ثواب من اغتاب المسلمين وظلمهم. فالسيدُ صادق أو العكس من ذلك، فخصمه صادق.
وقد قال ابن الحاجب في الكلام في الاحتجاج على أنَّ المصيبَ في العقليات واحدٌ، وأن نافي ملة الإِسلام آثِم كافر، اجتهد أو لم يجتهد.
قال ما لفظه: لنا إجماعُ المسلمين على أنَّهم من أهل النار، ولو كانوا غيرَ آثمين لما ساغ ذلك، تَمَّ بلفظه (1).
وليطالعْ كتبَ رجالهم، وتاريخ عبادهم وعلمائهم، وينظر في صبرهم على القيام، والصيام، والتلاوة، والزهادة، والصدقة بالمال المحبوب، والصبرِ على مفارقة الشهوات المحرمة، هل فعلُوا ذلك تعرضاً (2) لعقابِ اللهِ الذي يعتقدون أنَّه يَحْصُلُ بسببه، أو طمعاً في ثوابه جَلَّ
__________
= مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه - وأدخله الجنة أوَّلاً وجعله كالقسم الأول وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنَّه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل.
هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، فإذا تقررت هذه القاعدة، حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة، وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع ....
(1) " شرح مختصر المنتهى " 2/ 293.
(2) في (ب): تعريضاً.(2/279)
جلالُه الذىِ وعد به، ومن نازع في هذا، فقد نازع في أجلى من النهار، وقَرَّرَ كلامَه على شفا جُرُفٍ هَارٍ، وفي أمثال العرب مَنِ ادَّعى البَاطِلَ أنجح به (1). ومن أمارات العاقل إن لا يَدَّعِيَ ما لا يُمْكِنُ، ولا يقولَ ما لا يُصَدَّقُ.
ثم نقول للسيد: إما أن تَدَّعِيَ أنهم لا يُصلون، ولا يصومون، ولا يحجُّون، ولا يفعلون شيئاً من الطاعات، لم تستحقَّ المكالمة، أو تُقِرَّ بأنَّهم يفعلون ذلك، فَأَخْبِرْنَا: هل يفعلون ذلك لِيعذِّبهم الله في الآخرة، أو ليثيبهم؟ فإن قلت: لِيعذِّبهم في الآخرة، لم تُخاطَبْ أيضاًً، لأن الفعل لا يُوجَدُ من غير داع، فكيف يفعل لأجل الصارف عنه، وإن قال: لِيُثيبهم، فقد أبطل قولَه، وأكذبَ روايتَه، فلو كان مذهبُهم أنَّ الله يُعذِّبُ على الطاعة ما فعلوها ليِثيبهم عليها، وما كنتُ أحسب أن السيدَ أيدَهُ الله يُحوج إلى مثل هذا الكلام.
وثانيهما: أعني الوجهين الدَّالين على أن السيدَ سلك سبيلَ المغالطة في هذه الدِّلالة التي ادَّعاها قولُه: فلا فائدة في الطاعة، وذلك أن هذا الكلامَ من جملة مقدماتِ السَّيِّد الْمُنْتِجَةِ لعدم قبولهم، وليس هو النتيجةَ الحاصلَةَ مِن الدليل، بل هذا الكلامُ أحدُ أركان الدليل، ولا شكَّ أنَّه مغالطة أيضاًً، لأنَّه إمَّا أن يدعيَ أن مذهبَهم: أنَّه لا فائدةَ في الطاعة أم لا، إن لم يَدَّعِ ذلك، لم يدل على مقصوده من أنَّهم كذبة، لأنَّهم متى اعتقدوا أن الطاعةَ مفيدة، صدقوا في الحديثِ رغبةً في فائدة الطاعة، وخوفاً من عقاب المعصية، وإن كان يلزمهم أنَّه لا فائدةَ فيها، فإنَّهم لا يكذبون لأجل
__________
(1) في " لسان العرب ": ويقال: أنجح بك الباطلُ، أي: غلبك الباطل، وكل شيء غلبك، فقد أنجح بك، وإذا غلبته، فقد أنجحت به.(2/280)
أن ذلك يلزمهم بالاتفاق، وإنما تَصِحُّ تهمتُهم بالكذب لأجل أن ذلك مذهبُهم، فإن قال السيد: إن ذلك مذهبُهم، لم يتِمَّ له ذلك لإِمور:
أحدها: أنَّه معلومٌ ضرورة أنهم لا يذهبون إلى أنَّه لا فائدة في الطاعة.
الثاني: ما قدمنا في الوجه الأوَّل مِن سؤالهم، والنظر في كتبهم، فنجد ذلك على خلاف ما ذكره السيد، فنعلم أن تلك الدعوى عليهم باطلة.
الثالث: أنا قد علمنا بالضرورة أنَّهم يفعلون كثيراً من الطاعات الشاقة، ومذهبُ المعتزلة والأشعرية وسائر العقلاء أن من اعتقد في فعل أنه لا فائدَة فيه ولم يكن له شهوةٌ لم يفعله ألبتة، وإنما اختلف الناسُ: هل يكون تركُهُ واجباً ضرورة، أو مستمراً غير واجب؟ فالمعتزلة ذهبت إلى أنَّه مستمر، والأشعرية ذهبت إلى استحالة فعله. فحين قال السيد: إنَّهم يدهبون إلى أنه لا فائدةَ في الطاعة لا تخلو من أحد وجهين، إما أن يجمع إلى ذلك دعوى أنه لا يَصْدُرُ منهم طاعة ألبتة، وأنهم يقطعون الصلواتِ، وُيفطرون رمضان، ولا يُوجد فيهم مَنْ يصومُ، ولا يُصلي، ولا يَحُجُّ، ولا يتلو القرآنَ، فهذه سَفْسَطَةٌ محققة، وإما أن تقول: إنهم يفعلون هذه الأشياء بغيرِ داع ألبتة، فهذا خلافٌ منه لجميع العقلاءِ، ويلزمه أيضاًً أن يجوز على الله أن يفعل القبائحَ لا لداعٍ ولا لحاجةٍ، بل لأنَّه قادر على ذلك لا غير، كما يعرف أنَّ ذلك لازم من القول عند أهل المعرفة بالكلام.
الوجه الثالث: أنهم لو ذهبوا إلى أنَّه يجوز على الله أن يُعَذِّبَ رسول الله وسائرَ الأنبياء والملائكة، لكان كُفْرُهُمْ معلوماً بالضرورة من(2/281)
الدين، ولو كان كذلك، لكان المنكرُ له، أو الشاكُّ فيه كافراً بالضرورة من الدين، وكان يلزمه -أيَّده الله- أن يكونَ السَّيِّدُ الإِمام المؤيَّد بالله كافراً بالضرورة، ويلزمه أن يكونَ كفرُه عليه السلام -وَصَانَهُ الله عن ذلك- مثلَ كفرِ عبدة الأوثان والصُّلبان والنيران، وكذلك سائرُ مَنْ شَكَّ في كفرهم من العِترة والعلماء، وكيف يظن السيد أن المؤيَّدَ بالله شكَّ في كفر مَنْ جَوَّزَ أن يكون أبو جهل صاحبَ الشفاعة يومَ القيامة، وجوز أنَّ سيِّدَ الأولين والآخِرِين في أسفل درجات جهنم، وكيف تجاسر السيدُ [أن] يَنْسُبَ إلى الرازي، والغزالي، والنواوي وأمثالهم أنهم يُجوِّزون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يكونُ كالِحَ الوجه يومَ القيامة بِلَفَحَات الجحيم، ومُشَوَّه الخلق في دركات النار بالعذاب الأليم، أما بقي في السَّيِّد ملتفتٌ إلى الحياء بمرة، أليس يعلمُ تعظيمَهم للشعائِرِ النبوية، وحنينَهم إلى التربة المحمدية، كم باكٍ منهم شوقاً إليه، ومحبةً له، وتولهاً به، راجياً لشفاعته، وأنتَ مترفِّهٌ في بيتك ومسجدك تزعم أنَّه يجوز عندهم أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن المعذبين يومَ الدين، والمطرودين عن رحمة رب العالمين، لا والله، بل هو عندهم سيدُ المرسلين، وخيرُ خلق الله أجمعين، وشفيعُ المذنبين، فعُدْ عن الخبطِ والتخليط، وخلطِ أهل مِلَّة الإسلامِ بالمصرحين من الملاحدة الطَّغَام، وذُمَّهم إن شئتَ بمالهم مِن الضلالاتِ التي ارتكبوها، والجهالاتِ التي قالوها، ولا حَرَجَ عليك، ولا اعتراض لك.
قولُه: وأيضاًً فعندهم أن أفعالهم من الله تعالى، فالإثابةُ عليها والعقابُ لا معنى له من تلك الطريقة الغِلاطية، لم يخرج منها، بل استمرَّ على التمسك بعُروتها، وأَصَرَّ على إيهام حَقِّيَّتها (1) وقد ترك الاستنتاجَ من
__________
(1) في (ب): حقيقتها.(2/282)
هذا البرهان الغِلاطي، لأن النتيجةَ معلومة متى صَحَّت هذه المقدماتُ الموهومة، وكلامُهُ هذا يشتمِلُ على حقٍّ وباطلٍ فلم ينتج الحق، وذلك أن قولَه: إن أفعالَهم مِن اللهِ تعالى صحيحٌ، وكلامٌ صادق، لكنه لما لم ينتج له المقصود، ضمَّ إليه الباطلَ طمعاً في أنَّه ينتج له وهو قوله: فالإِثابة عليها والعقاب لا معنى له. فإنَّ هذه الزيادةَ باطلةٌ، لأنَّه إما أن يدعي أنها مذهبهم فإن ذلك لا يتم لوجوه:
أحدها: أنَّ كتبهم تُكَذِّب هذه الدعوى.
وثانيها: أنَّهم أنفُسَهم يُكذبونها، فهم موجودون لم يُعْدَمُوا، ومقاربون للبلاد لم يَبْعُدُوا.
وثالثها: أن أفعالَهم تكذب هذه الدعوى على ما قررنا في الجواب على دليلِه الأول، لأن العاقلَ وغير العاقل لا يفعلُ الفعلَ إلا لِداعٍ، ومن المعلوم أنَّهم يفعلون الطاعَةَ، وأنه لا داعيَ لهم إلى فعلها إلا اعتقادُ أنَّ اللهَ تعالى يثيب عليها، وُيعاقِب على تركها.
ورابعها: أنَّه يلزمُ مِن نسبة هذا إليهم تكفيرُ مَنْ لم يُكفرهم من الأئمهَ عليهم السلامُ وسائر علماء الإسلام.
وخامسها: أنَّ بُطلانَ هذه الدعوى عليهم معلوم بالضرورة لِكل من له أدنى تمييزٍ، فلا نُطَوِّلُ في الجليات.
فإن قلتَ: ما مثالُ قياس السَّيِّدِ هذا في الأقيسة الغِلاطية المنطقية؟
قلث: مثالهُ أن يكون الوسط المتكررُ مشتملاً على حقٍّ وباطل يجعلُهُما محمولاً واحداً لموضوع المقدمة الكبرى، كقولك: الإِنسان ضاحِكٌ وصاهل، وكل صاهِل فرس، لينتج أن الإِنسان فرس، ووجه الغِلاط(2/283)
أنَّك إنما أتيتَ بالحق الذي هو ضاحك لِيصاحب الصاهل، فيقبل الأبلهُ الصاهِل الذي هو باطل لمصاحبة الضاحك الذي هو حق، ولو أنَّه قال: الإنسانُ صاهل كان ذلك لعله مما لا يخفى على الأبله.
فإن قلتَ: وكيف مشابهةُ كلام السَّيِّد لِهذا.
قلت: هو مثلُه حذو النعل بالنعل، لكنه أورده غير مركب تركيبَ البرهان، فإذا ركبتَه انكشف كذلك، فإنَّهُ يجيء في التركيب: كُلُّ جبري، فإنه يقولُ: أفعالُهُ مِن الله، ولا معنى للثواب والعقاب عليها، وكُلُّ من قال ذلك، فهو مجروح غيرُ مقبول في الرواية. فقوله: فهو يقول: أفعالُهُ من الله صادق مثل قولنا: كل إنسان ضاحك، لكنه غيرُ منتج لمقصوده، فضم إليه أن الجبري يقولُ: لا معنى للثواب والعقابِ، لينتج له مقصودُه كما ضم المغالِطُ الصاهل إلى الضاحك لينتج له مقصوده، وصاحب بينَ الحق والباطل، ليخفي الباطل في جنب الحقِّ كما صاحب ذلك بينَ الضاحك والصاهل، ولو أنَّ السَّيِّد قال: إن الجبرية يذهبون إلى أن الله لا يُثيب ولا يُعاقب من غير قوله: إنهم يقولون: أفعالُهُم من الله، لكان ذلك أقربَ إلى أن لا يلتبس بطلانهُ على الأبله عند سماعه.
وفي قوله: فالإثابةُ والعقابُ عليها لا معنى له. مغالطةٌ لطيفة قَلَّ منْ يتنَبَّهُ لها، وذلك أنَّه أراد أن ينسب إليهم أن (1) الله لا يُثيب ولا يُعاقِبُ، فاستكبرها، لأنها تستلزِمُ أن يَنْسِبَ إليهم القولَ بأنه لا جَنَّةَ ولا نار، وأنه لا دَارَ بعدَ هذه الدار، لا للأبرارِ، ولا للفجار، فعَدَلَ عن هذا لبشاعته إلى ما يستلزم معناه، ولا يستغلطه السامعُ في عبارته، ومثل هذا الغِلاط ينكشِفُ بأدنى تأمل، ولا يخفي على مَنْ له أنس بعلوم النظر.
__________
(1) في (ب): القول بأن.(2/284)
فإن قلت: فما مثالُ قياس السَّيِّدِ الأول في الأقيسة الغِلاطية المركبة بالتراكيب المنطقية، أهو مثلُ هذا القياس الذي فرغنا منه أم هو نوع آخر؟
قلتُ: بل هو نوع آخر، وذلك أن وجهَ المغالطة في هذا الذي فرغنا منه مصاحبةُ الحق والباطل، وتقاربها في اللفظ الطارق لسمع الأبْلَهِ الغافل، وأما ذاك، فهو مِن قبيل الباطل المشابه للحق في بعض الأمور غير المصاحب للحق، وذلك أنَّه نَسَبَ إلى الجبرية أنَّهم يعتَقِدُون أنَّه يجوزُ على الله تعالى العقابُ على الحسن، والثوابُ على القبيح، ونسبة هذا إلى اعتقادهم باطلة محضة لم تُصاحب شيئاً من الحق، ولكن فيها شبه بعيدُ منه، وذلك أن هذا يلزمُهُم على بعض قواعدهم، ولما كان يلزمهم ذلك شبهة في نسبته إليهم، وذلك أنَّه يُوجب أن بينهم وبينَ هذا القول ملابسة، ومثال ذلك في الأقيسة الغِلاطية المنطقية قول القائل: كل زَرَافَةٍ فرس، وكل فَرَسٍ صاهل، لينتج أن كُلَّ زرافة صاهل، فالمقدمةُ الأولى هي قولُه: كل زرافة فرس باطل محض لم تَصْحبْ شيئاً من الحق، لكن بين الزرافة والفرس شَبَهٌ بعيدٌ يجري المغالط على الطمع في الاستنتاج مِن ذلك، وذلك الشبه هو أن رأسَ الزَّرافَةِ مثلُ رأسِ الفرس، فلما كانَ بينهما ملابسة ما كان قولُه: كلُّ زرافة فرس من الباطل الذي أَخذَ من الحق شبهاً ما، فَصَلُحَ إيرادُه في الأقيسة الغِلاطية. فهذا وأمثالُه كثيرُ الوقوع في الأقيسة والمناظرات، ونقَّادُ النظر يُمَيِّزُونَ الخالصَ من الزيف، والخبيث مِن الطيب.
وقوله: فإن قالوا هذا من جِهة العقل، لكن قد وَرَدَ السمعُ بأنه يدخل المطيعُ الجنةَ، والعاصي النار إلى آخره، إشارة منه إلى مذهبهم المعلوم، وتعرض لمحاولة إبطاله.(2/285)
وقبل الجواب عليه نذكر مقدمة وهي أنه لا شك عند جميعِ الفرق من أهل الإنصاف، وأهل العنادِ أن الجبرية يذهبون إلى أن الله تعالى قد وَعَدَ المؤمنين المطيعين بجنته ورِضوانه، وتوعَّد على ارتكاب المعاصي والمحرمات بعذابه وبغضبه، وأن وعدَه ووعيدَه صادق لا خُلْفَ فيه، ولكنهم يعتقدون أنَّ ذلك مستند إلى الدليل السمعي دونَ العقلي، ولا شكَّ أيضاًً أن الدليلَ السمعي قد ورد بذلك، فثبت أنَّه لا خلافَ بينَنَا وبينَهم في أن الله صادقٌ في وعده ووعيده، وإنما اختلفنا في وجه الاستدلال على ذلك، فقلنا: ذلك ثابتٌ بدليل العقل القاضي بوجوبِ صدق السمع، وهم قالُوا: ذلك ثابت بدليل السمع الواجب صدقُه بدليل العقل، فالخُلْفُ في كلام الله، والتعذيبُ لأولياء الله ممنوع عندنا وعندهم، ومن قال: إن الشيء ممنوع بدليل السمع لم يلزمه أن يعتقِدَ جوازَ ذلك الشيء على الإطلاق، ألا ترى أن مذهبنَا أن نِكَاحَ الأُمهات والأخوات، وتركَ الصلوات وتركَ الزكوات جائز عقلاً، ولكنه حرام شرعاً وليس لأِحَدٍ أن يَنْسِبَ إلينا القولَ بجواز ذلك على الإطلاق، فكذلك الجبريةُ إذا قالوا: إن الله لا يُعذب المطيعينَ بدليلِ السمع لم يَحِلَّ أن يُقال: إن الله يجوز أن يعَذِّبَ المطيعين على الإِطلاق، وهذا واضح لا يخفي على المنصف.
قال الغزالي في كتاب " الاقتصاد في الاعتقاد ": وقد ذكر أن ثوابَ المطيعين تَفَضُّلٌ مِن الله تعالى، وليس بواجب حتى قال: إلا أن يقال: إنه يصير وعدُه كذباً وهو محال، ونحن نعتقد الوجوبَ بهذا المعنى، ولا ننكره. انتهى. ونصوصُهُم على مثل هذا واضحة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
فإن قلتَ: إن بينَ الأمرينِ فرقاً، فإن نكاحَ الأمهاتِ والأخواتِ، ووجوبَ الصلوات والزكوات مما لا يُعْرَفُ بالعقل، وإنما يُعرف بالشرع،(2/286)
وأما صدقُ الوعدِ والوعيد، فإنه مما لا يُعرف إلا بالعقل، وفرق بينَ ما لا يُعرف بالعقل وبينَ ما لا يُعرف إلا به.
قلت: هل ترِيدُ أن بينَهما فرقاً (1) يُسوغ الكذب في أنا نَنْسُبُ إليهم القولَ بما لم يقولوه، فهذا ممنوع، أو تريدُ أن بينَهما فرقاً يُسوغ لهم أن يلزموه ذلك، فمسلم، ولا يضر تسليمُهُ، لأن كلامَه فيما يدل على صدقِ المتدين منهم، وفيما لا يدل على ذلك من اعتقادهم، وليس كلامُنا فيما يلزمهم مما لا تأثيرَ له في ظَنِّ صدقهم أو كذبهم.
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أن السيدَ لما نسب إليهم ما لم يقولوه، وعرف أن مذهبَهم المنعُ منه بالدليل السمعي، وأن ذلك لا يخفى، حاول أن يُبْطِلَ كونَ ذلك مذهبَهم فلا أدري كيف طَمِعَ في الاستدلال على بطلان ما ثبوتُه معلوم بالضرورة، وما هو إلا كما وَرَدَ في الحديث " حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي وَيُصِم " (2) وقد استدل السَّيِّدُ -أيَّده الله- على بُطلان كونِ ذلك مذهَبَهم بأنهم لا يعلمونَ مَن شاء اللهُ أن يَغْفِرَ له لِقوله تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ
__________
(1) في (أ) و (ب) و (ج): فرق والمثبت من (ش).
(2) حديث ضعيف، أخرجه من حديث أبي الدرداء أحمد 5/ 149 و6/ 450، وأبو داود (4130)، والبخاري في "تاريخه" 3/ 171، ويعقوب الفسوي في " تاريخه " 2/ 328، والقضاعي في " مسند الشهاب " (219)، والطبراني في " مسند الشاميين " (1454) و (1468) من طرق عن أبي بكر بن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا سند ضعيف. أبو بكر -وهو ابن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي- ضعيف كان قد سرق بيته، فاختلط.
وقال الحافظ العراقي في ما نقله عنه المناوي في " فيض القدير ": إسناده ضعيف، وقال الزركشي: روي من طرق في كل منها مقال، وقال المصنف كأصله: الوقف أشبه.
وفي الباب عن أبي برزة الأسلمي عند الخرائطي في " اعتلال القلوب " وعن عبد الله بن أنيس، عند ابن عساكر في " تاريخه ".(2/287)
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} [المائدة: 18] وهذا عجيبٌ كأنَّه لم ينزل من السماء إلا هذه الآية، والجواب عليه من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآية مجملةٌ، وقد ورد بيانُها، وقد أجمع أهلُ مِلَّةِ الإِسلام على أنَّه إذا وَرَدَ المجملُ والمبيَّن أنَّه يُعمل على المبيّن، فإما أن يقولَ السيِّدُ: إنَّه لم يَرِدْ لهذه الآية بيانٌ في السمع، أو يقول: إن مذهبهم اعتقادُ المجمل، وطرح المبين، وكلاهما عِناد ومباهتة ما أظنُّه يرضاه لنفسه.
الوجه الثاني: أن نقول: لو سلمنا أنَّه ليس في القرآن، ولا في السُّنَةِ بيانٌ لهذه الآية المجملة، ولا تخصيصٌ لما فيها مِن العموم، لما لزمهم ذلك لأنَّ لهم أن يقولوا: قد علم ضرورةً من الدين أنَّ الله يُدْخِل المطيعينَ الجنة، وقد علمت ضرورة من مذهب الجبرية أنَّه إذا ورد مجمل عام، وعُلِمَ من الدين بيانُه وتخصيصُه بالضرورة والتواتر أنهم يعتقدونَ ما دلّ عليه المبين الخاص المتواتر، فإن كان السَّيِّد شَكَّ في أن ذلك مذهبُهُم، فليسأل، فإنما شِفاء العِيِّ السُّؤَالُ.
الوجه الثالث: لو سلمنا أنَّه لا دَلِيلَ يَدُلُّ على بيان هذه الآية من السمع، وأنه لا يدل عليها إلا دليلٌ العقل الذي لم تستند إليه الجبرية، لما لزم ذلك أيضاًً، لأنا نعلمُ بالضرورة والتواتر عنهم أنَّه (1) يعتقدون إثابةَ المطيعين، وعقوبةَ العاصين، واعتقادُهُم يكفينا في ظَنِّ صدقهم، سواء كان مستنداً إلى دليلٍ صحيح أو باطل.
الوجه الرابع: أن قولَ السيد: إنهم لا يعلمون مَن يشاءُ الله أن يغفِرَ
__________
(1) في (ب) و (ش): أنهم.(2/288)
له مِن قبيل المغالطة أو الغلط، فإن كانت مغالطةً، فهي لطيفة تدل على حِذْقِ صاحبها، وإن كان غلطاً، فهو جلي يدل على بلادةِ مُورِدِه، وبيانُ ذلك أنا نقولُ: ما تريد بأنهم لا يعلمون ذلك؟ هل تُريدُ لا يعلمون مع أنَّهم يعتقدون أنهم لا يعلمون؟ فهذه مباهتة، وجحدٌ للضرورة، فإن المعلومَ أنهم يعتقدون أنهم يعلمون ذلك، وإن أردتَ أنَّهم لا يعلمونَ ذلك لاستنادهم إلى دليلِ السمع، وليس يَصِحُّ الاستدلالُ به في هذه المسألة مع اعترافِك أنَّهم معتقدون للحق، ومُدَّعُونَ للعلم به، فذلك صحيح، ولكنه لا يُفِيدُكَ تهمتُهم بالكذبِ والمنع مِن قبولهم في الرواية، ومِن العجائب مجاوزةُ السيد للحد في الغُلُوِّ أنه احتجَّ بهذا على أن الجبرية لا يتنزَّهونَ من الكذب وقد قال في البراهمة: إنهم يتحرَّزونَ من الكذب أشدَّ التحرز، ويتنزَّهونَ عنه أعظمَ التنزه مع أن البراهمةَ مصرِّحُون بتكذيب جميع كتب الله المنزلة، ويُفصِحُونَ بتضليل جميعِ الأنبياء والرسل الكرام، وينسبونهم إِلى الشعوذة والتحيُّل والسحر، وملاحظة العيش في الدنيا بالكذب على الله، وإفشاء الضَّلال، ويسخرون منهم سَخِرَ الله منهم، ولهم عذاب أليم، ولا يدينون بثبوت النارِ، ولا يخافون العقابَ على ذنب من الذنوب، فهؤلاء نص السيدُ في كتابه على أن صِدْقهُم مظنون، وعلى أنهم عن الكذب متنزهون، ومنع من مثل ذلك في حقِّ مَنْ آمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، واليومِ الآخر، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحَجَّ البيتَ الحرَام، وصامَ رمضَان، وظهرت منه المحافظةُ العظيمةُ على الطاعة فيما نعرِفُه من الحلال والحرام.
هذا وإني أبرأُ إلى الله تعالى مِن اعتقاد الجبر والتشبيه ولستُ أُرِيدُ بكلامي هذا النُصرةَ لمذهبهم، وإنما أردتُ المنعَ من الكذب عليهم،(2/289)
والاحتجاج لمذهبي في (1) قبولِ روايتهم، وقد رَدَّ المؤيَّدُ بالله في " الزيادات " القولَ بتكفيرهم، وأخذ يحتجُّ لهم، ويُجيب عنهم فيما يتعلق بمذهبهم مما احتجَّ به أصحابنا على تكفيرهم، ولم يدل ذلك على ميله إلى اعتقادهم مع أنَّه قد طَوَّل في ذلك، ومن أحبَّ معرفة ذلك، فليُطالِعْهُ في آخر كتاب " الزيادات " ومثل هذا مما لا يخفى، ولكن لما كثر الرجمُ بالظنون، وقل التورعُ عن نهكِ الأعراض، ورمي الغافلين، أحببتُ أن أُصَرِّحَ بمذهبي إيضاحاً للمهتدين، وإرغاماً للحاسدين.
قال: واحتجَّ ابنُ الحاجب للقائلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحنُ نَحْكُمُ بالظَّاهِر " (2) وللرادين بقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] قال: والآية أولى لِوجوه ثلاثةٍ:
أحدُها: تواترها، والخبرُ آحادي.
والثاني: خصوصُها بالفاسق بخلاف الخبر.
والثالث: عدمُ تخصيصها. والخبر مخصص بالفاسق والكافر (3) المصرحين.
قال: وأما دعوى الإِجماع على قبولِ قتلةِ عثمان، فلا نُسلِّمُ الإِجماعَ، ولعلَّ بعضَهم لم يقبلْهم، أو لعلَّ القائلين مختلفون في عِلَّةِ قبولهم، فبعضُهم لأنه لا يرى فسقهم، وبعضهم لأنَّه يقبلُ فاسق التأويل، فلا يكون إجماعاً على أن فسق التأويل لا يَضرُّ الرواية، وأما الخارجون على علي عليه السلامُ. ومعاوية وأصحابه، فلا نُسلِّمُ الاتفاقَ
__________
(1) في: ساقطة من (ب).
(2) هذا وهم من ابن الحاجب، فليس هو بحديث، ولا هو موجود في كتب الحديث المشهورة، ولا في الأجزاء المنثورة، وسينبه المؤلف قريباً على أنَّه لا أصل له.
(3) في (ب): بالكافر والفاسق.(2/290)
على قبول روايتهم، وإن سلم، فلا نسلم اتفاقهم على إن عِلَّةَ القبول واحدة، بل لَعَلَّ بعضَهم يجعل العِلَّةَ أنهم غير فساق عنده، وبعضُهم لا يجعل فسقَ التأويل قادحاً.
أقول: قد اشتمل كلامُه على ثلاثة أشياء:
أولها: أنَّه ذكر الحديث النبوي على صاحبه وآله الصلاةُ والسلام تنبيهاً على أنَّه حجةُ للمتأولين، وسوف يأتي في الفصل الثاني -إن شاء الله تعالى- ذكرُ مالهم من الحجج الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والنظر، فأما هذا الحديث، فهو حديث لا يُعلم لَه أصلٌ، ولكن لمعناه شواهدُ صحيحة.
قال الحافظ ابنُ كثير البصروي رحمه الله: هذا الحديثُ كثيراً ما يَلْهَج به أهلُ الأصول، ولم أَقِفْ له على سند، وسألتُ عنه الحافظ أبا الحجاج المِزِّي فلم يعرفه، لكن له معنى في الصحيح وهو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنما أَقْضِي بِنَحْو مَا أَسْمَعُ " (1).
وقال البخاري في كتاب الشهادات (2): قال عمر: إن أناساً كانوا يُؤخذُون بالوحي على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن الوحي قد انقطعَ، وإنما نأخذكُم الآنَ بما ظهر لنا مِن أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أَمِنَّاه وقربناه، وليس لنا (3) من سريرته شيء يُحاسِبُه الله في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً،
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مالك 2/ 719 والبخاري (2458)، ومسلم (1713) وأبو داود (3583) والترمذي (1339) والنسائي 8/ 233، وأحمد 6/ 290 و307 و308 و320 من حديث أم سلمة.
(2) من " صحيحه " برقم (2641) من طريق الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري حدثني حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الله بن عتبة، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه .... فذكره.
(3) في البخاري: وليس إلينا.(2/291)
لم نأمنه، ولم نُصَدِّقْهُ، وإن قال: إن سريرتَه حسنة. ورواه أحمد في " مسنده " (1) مطولاً، وأبو داود (2) مختصراً وهو من رواية أبي فراس (3) عن عمر، قال أبو زرعة: لا أعرفه.
وروي أنَّ العباسَ قال: يا رسولَ الله كنتُ مكرهاً يعني يومَ بدرٍ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما ظاهِرُك فكانَ علينا وأما سَرِيرَتُك فإلى اللهِ " (4) انتهى كلامه من كتاب " تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ".
وأقولُ لا حجَّةَ في هذا الحديثِ على قبول المتأولين، سواء قلنا بصحته أو لا، وذلك أن الظاهرَ المذكور في الحديث هو ما بَدَا للإِنسان من الأحوال وسائر الأمور المعلومة دونَ البواطن الخفية، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمِّه العباس: " كَانَ ظَاهِرُك علينا " يُريد ما علمنا بما أضمرت، إنما عرفنا ما أظهرتَ وكون الراوي صادقاً أو كاذباً في نفس الأمر ليس مما يسَمَّى ظاهراً في اللغة العربية، والعرفِ المتقدم، وإنما هو اصطلاحُ الأصوليين، يُسَمُّون المظنونَ ظاهراً، ولم يثبت هذا في اللغة، ولا يجوز أن يُفسر كلامُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باصطلاح الأصوليين، ألا ترى أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل صدقَ عمِّه العباس في دعواه للإكراه ظاهراً، وإن كان صدقُه بعدَ إسلامه مظنوناً راجحاً، بل الظاهر أن صدقَه قبل إسلامه كان مظنوناً راجحاً، لأنَّه كان من أهل السيادة والأنَفةِ من الكذب في الأخبار التي لا يُعلم صدقُها وكذبُها،
__________
(1) 1/ 41 من طريق إسماعيل، عن سعيد الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي فراس، قال: خطب عمر بن الخطاب، فقال ....
(2) رقم (4537) من طريق أبي صالح، عن أبي إسحاق الفزاري، عن سعيد الجريري بإسناد أحمد.
(3) يقال: اسمه الربيع بن زياد، قال الحافظ في " التقريب ": مقبول.
(4) انظر " الطبقات " 4/ 13 - 14 لابن سعد، و" سير أعلام النبلاء " 2/ 81 - 82.(2/292)
لأنه ليس يُسمَّى في اللغة ظاهراً، فلا يكون في الحديث حجة. والله أعلم.
وثانيها: ترجيحُ الآيةِ على الحديث، ولا معنى لذلك، لأنَّه لم يَصِحَّ الحديثُ في نفسه، ولا صح (1) الاستدلالُ به على تسليم ثبوته، والترجيحُ فرعٌ على الصحة، وأما احتجاجُه بالآية، فهو لا يصح لوجهين:
أحدهما: أنَّها لا تفيد المنعَ مِن قبول المتأولين، وقد مر تقريرُه، وبيانُ ما يَرِدُ على الاحتجاج بها من الإشكالات.
وثانيهما: أنا لو قدرنا صحةَ الاحتجاج بها بالنظر إلى عمومها، فإن الاستدلالَ به ممنوع، لوجود المخصص، والمعارِض الراجح، وبيانُهما يأتي في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى.
وثالثها: القدح في صحة الإِجماع بوجهين (2):
الوجه الأولُ: قال: لعل بعضَهم لم يقبل، يعني لعلَّ بعضَ الصحابة لم يقبل المتأولين فلم يحصل إجماعٌ.
والجوابُ: أنَّه قد ثبت الإجماعُ برواية جماعةٍ من أئمة أهلِ البيت عليهم السلام وشيعتِهم، وكثيرٍ من العُلماء والثقات المطلعين على أخبار الصحابة، وأحوالِ السلف، وسيأتي بيان عشر طرق لهذا الإجماع، وموضعُ ذلك الفصل الثاني.
وأما ردُّه لرواية الثقات من الأئمةِ والعلماء بقوله: لعلَّ بعضَ الصحابة
__________
(1) في (ب): ولا يصح.
(2) في (ب) و (ش): لوجهين.(2/293)
لم يقبل المتأولين لمثل هذا الكلامِ، فلا يصدر عن محصل، فإنَّ هذا مجرد تَرَجٍّ (1) صَدَرَ مِن صاحبه بعد نقلِ أهلِ العدالة والأمانة والاطلاع على العلوم والتواريخ، وأقوال الخلَف والسَّلَفِ للإِجماع، وجزمهم على أنَّهم قد علموا انعقادَه وإخبارهم لنا أنهم أخبروا بذلك عن علم يقين، لا عن مجازفةٍ وتبخيتٍ (2).
وحاصل هذا الاعتراضِ إن صاحبَه قال: لعل راوي الإجماعِ غيرُ صادق فيما رواه، ولا متحقق لما ادَّعاه، ولو كان مثلُ هذا يقدح في روايةِ الثقات، لبطلت الرواياتُ، فما مِن رواية تصدُرُ عن الثقة في الإجماع، أو في الحديث، أو في الشهادة إلا وهو يُمْكِنُ أن يُقَالَ لعل راويَها وَهِمَ فيها، وقالها بغيرِ علم يقين، وأصدرها إما بمجرد اعتقاد الصحة أو ظنها، أو نحو ذلك، مما لا يُلْتَفَتُ إليه من تطريق الشَّكّ إلى وهم الثقات بمجرد كونه يجوز على البشر، ولو كانت روايةُ العدول العلماء تُعارَضُ بمجردِ توخِّي كذبهم، وتمني صدور الدعوى منهم على سبيلِ التبخيت مِن غير تحقيق، لبطلت طرقُ النقل، وتعطلت فوائدُ الرواية.
الوجه الثاني: مما قدح به في صحة الإِجماعِ قال: سلمنا الإجماعَ، فلا نُسَلِّمُ أنَّ علةَ القبول واحدة. هذا كلام ابن الحاجب وقد أعاد السَّيِّد هذا الاعتراضَ، ولم يَزِدْ على ما أورده ابنُ الحاجب إلا أنَّه وسَّعَ دائرةَ العبارة، ونقله إلى الكلام في الخارجين على علي عليه السلام.
والجوابُ عنه: أن هذا الاعتراض ضعيف، لأنَّه لو كان حراماً -وقد
__________
(1) في (ب) فوق كلمة " ترج ": قدح (خ).
(2) من البخت: وهو الجد والحظ.(2/294)
أجمعوا على جوازه- لكانُوا قد أجمعوا على ضلالة، وسواء اتَّفقُوا في العلة، أو اختلفوا فيها، فالمتفق عليه هو القبول للمتأولين، والخلافُ إنما وقع في العِلة، كما لو أجمعوا على جوازِ قتل رجل، واختلفوا في العِلة، فمنهم من قال: يجوز قتلُه، لأنَّه مرتد، ومنهم من قال: لأنَّه مفسد في الأرض، ومنهم مَنْ قال: لأنه قتل نفساً بغير نفس، فإنهم متى أجمعوا على جواز قتله، كان قتلُه حلالاً، سواء كان بالقصاص، أو الفساد في الأرض، أو الردة، أو الحد مثل ما أجمعوا على أن المجتهدَ غيرُ آثمٍ، ثم اختلفوا في العِلة، فمنهم من قال: لأنَّه مصيب، ومنهم من قال: لأنَّه معفوٌّ عنه وإن كان مخطئاً مع أن القائلينَ بالتصويب لو أقرُّوا بالخطأ، لم يُساعدوا إلى القول بالعفو، لأنَّه عند المعتزلة إغراءٌ بالقبيح، ولأن مشروعية الخطأ قبيحةٌ عقلاً، والاجتهاد مشروعٌ سمعاً، فلم يكن اختلافُهم في العلة المؤدي إلى الاختلاف في بيانِ ما أجمعوا عليه قادحاً في صحة الاحتجاج بإجماعهم حين إجمعوا إجماعاً متفرّعاً عن تلك العلة المختلَفِ فيها. وبيانُ هذه العلة أنَّه لو ثبت في نفس الأمرِ أن قبولَ المتأول حرام، وأجمعوا على قبوله، ولكن اختلفوا في علة القبول، لكانوا قد أجمعوا على قبول الباطل، واختلفوا في علة قبوله، وهذا غيرُ جائز على الأمة.
فإن قلتَ: من لم يعلم الفسق منهم، فهو معذور.
قلت: معنى كونه معذوراً أنَّه لا عقابَ عليه وإن أخطأ في نفس الأمر، وهذا إنما يقال به في حقِّ المجتهد على تقدير عدم تصويبِ الجميع أيضاً، وأما الأمَّةُ، فليس يجوز أن تُخطىء في نفس الأمر.
فإن قلت: لو علموا أنَّه فاسقُ تأويلٍ لم يُجمعوا.
قلت: لو جاز انعقادُ الإِجماع على قاعدة مجهولة لو علموا بها لم(2/295)
يجمعوا عليها، أمكن تقديرُ مثل ذلك في كل إجماع، ولم يصح إجماع أبداً.
فإن قلتَ: مرادي بكونه معذوراً أنَّه بنى على ظاهر العدالة، ولم يتحقق ما يرفعُها، فهو مصيبٌ مستحقٌّ للثواب، لا مخطىء معفو عنه، وذلك كما لو قبلت الأمةُ مَنْ ظاهِرُهُ العدالةُ، وهو كاذب في نفس الأمر.
قلتُ: الجوابُ من وجهين.
الوجه الأول: الفرقُ بينَ الصورتين، فإنهما ليستا سواءً، لأن قبولهم لمن حارب عثمان، ومن حارب عليّاً عليه السلامُ بعدَ علمهم الجميع بأنَّه حارب وفسق، فمتى كانت روايتُهم مردودة، لم يجز على الأمة قبولُها بعدَ العلم بالموجب لردها لا ظاهراً ولا باطناً، وإلا لَزِمَ أن يجوزَ استنادُ الأمة إلى دليل باطل غير صحيح بعدَ العلم بالسبب الذي أوجب بطلانه، وهذا لا نعلم أحداً قال به ممن يقول: بأن الإجماعَ حُجَّةٌ مطلقاً، وإنما تكونُ الرواية عنهم مثل الرواية عمن ظاهرُه العدالة لو أمكن القولُ بأن جماعةً من الصحابة لم يعلموا بوقوعِ الفتن، ولا بدخولِ الداخلين فيها، فقبلوهم مع الجهل بذلك.
الوجه الثاني: أن العلماءَ مختلفون في المسألة المقيسِ عليها وهي: هل يجوزُ قبولُ الأمة لخبرٍ ظاهرُه الصحة وهو في الباطن باطل؟ والمذهبُ أنَّ ذلك لا يجوز، ذكره الإِمامُ المنصورُ بالله في كتاب " الصفوة ".
وقال الإمام يحيى بنُ حمزة في " المعيار": خبر الأمة يُفيدُ العلمَ يعني لو قدرنا أنهم نَقَصُوا عن عددِ التواترِ، أو أخبروا كلُّهم، وكان عددهم بالغاً حدَّ التواتر، ولكن في الوسط دونَ الطرف الذي قبلَه.(2/296)
وإنما قلنا: إنَّه أراد ذلك، لأنَّه جعله قسماً غيرَ المتواتر، وهذا يُشبِهُ كلامَ المنصور بالله في مسألتنا، وهو قوي عند جماعة، لأنَّه يلزم من تجويز ذلك استنادُ الأمة إلى حُجَّةٍ باطلة في نفس الأمر، والأمة معصومةٌ من الخطأ في نفس الأمر، فلهذا كان الإجماعُ حجة، وأما لو لم تكن معصومة إلا من الخطأ في الظاهر، فذلك لا يُوجبُ أن إجماعها حجة، لأن ذلك حكم المجتهد عند المعتزلةِ والشيعةِ غالباً متى وَفَّى الاجتهادَ حَقَّهُ، فكما إنَّه لا يكون قولُ المجتهد حجةً لكونه مصيباً، فكذلك كان يلزم أن لا يكون إِجماعُ الأمة حجةً لكونهم مصيبين.
فإن قلتَ: إنما يُقال: المجتهدُ مصيب لما أراد اللهُ منه.
قلت: وكذلك يلزمُ أن يقال: إِن أهل العصر إذا أجمعوا فإنما أصابوا مرادَ الله منهم، فثبت أن الفرقَ بينَ إصابةِ الأمة وإصابة المجتهد أنَّ المجتهدَ مصيب لما أراد الله منه في الظاهر، ويجوزُ أن يتعلَّق مرادُ الله من غيره بغير ما أراد منه لانكشاف أمرٍ خَفِيَ عليه، وبان لغيره، فلخفائه عليه لم يتَعَبَّدْ به، ولبيانه لغيره تَعَبَّدَ به. وأما الأمةُ، فإنها معصومة باطناً وظاهراً قطعاً بحيث نَعلم أنَّه ليس لله مرادٌ في خلاف قولها، بل نعلمُ أن خلافَ قولها حرام، ونعلم أنَّه لم يخفَ عليهم دليل بحيث إنَّه إذا ظهر لغيرهم تعبّد ذلك الغير بالعمل به، وقد احتج العلماء على (1) صحةِ أحاديثَ بتلقي الأُمَّةِ لها بالقبول (2) بناءً منهم على ما ذكرت مِنْ عِصمة الأُمَّة عن تلقي الباطل في
__________
(1) في (ب): في.
(2) نقل الحافظ السيوطي في " تدريب الراوي " ص 67 في التنبيه الخامس عند قوله: قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول وإن لم يكن له إسناد صحيح قول ابن عبد البر في "الاستذكار" لما حكى عن الترمذي أن البخاري صحح حديث البحر " هو الطهور ماؤه ": وأهل الحديث لا يصححون مثل إسناده، لكن الحديث عندي صحيح، لأن =(2/297)
نفس الأمر بالقبول والاعتقاد لصحته، وكذلك تمسَّكَ أصحابُنا به في بعض الأحاديث الدالةِ على صحة إمامة أمير المؤمنين علي عليه السلامُ بتلقي
__________
= العلماء تلقوه بالقبول، وقوله في " التمهيد " بعد إيراده حديث جابر مرفوعاً "الدينار أربعة وعشرون قيراطاً": وفي قول جماعة العلماء وإجماع الناس على معناه غنى عن الإسناد فيه.
وقال الحافظ ابن حجر في " النكت " 1/ 494 - 495: من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا -يعني الحافظ العراقي- أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث فإنه يقبل حتى يجب العمل به، وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول، ومن أمثلته قول الشافعي رضي الله عنه: وما قلت من أنَّه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه يُروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم خلافاً، وقال في حديث: " لا وصية لوارث ": لا يثبته أهل العلم بالحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية للوارث.
وقال الحافظ السيوطي في " التعقبات على الموضوعات " ص 12 بعد أن ذكر حديث حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى باباً من أبواب الكبائر ": أخرجه الترمذي، وقال: العمل على هذا عند أهل العلم. فأشار بذلك إلى أن الحديث اعتضد بقول أهل العلم، وقد صرح غير واحد بأن من دليل صحة الحديث قول أهل العلم به وإن لم يكن له إسناد يعتمد على مثله.
وقال الحافظ السخاوي في " فتح المغيث " ص 120 - 121: وكذا إذا تلقت الأمة الضعيف بالقبول يعمل به على الصحيح حتى إنَّه ينزل منزلة المتواتر في أنَّه ينسخ المقطوع به، ولهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى في حديث " لا وصية لوارث " إنَّه لا يثبته أهل الحديث، ولكن العامة تلقته بالقبول، وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية.
وقال العلامة الكمال بن الهمام في " فتح القدير " 3/ 143: ومما يصحح الحديث أيضاً عمل العلماء على وفقه، وقاله الترمذي عقيب روايته حديث " طلاق الأمة ثنتان ... ": حديث غريب، والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وفي سنن الدارقطني 4/ 40: قال القاسم وسالم: عمل به المسلمون، وقال مالك: شهرة الحديث بالمدينة تغني عن صحة سنده.
وذكر القاضي أبو يعلى الفراء في " العدة " 3/ 938 - 939: عن مهنا: قال أحمد: الناسُ كلهم أكفاء إلا الحائك والحجام، والكسَّاح. فقيل له: تأخذ بحديث " كُلُّ الناس أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً " وأنت تُضَعِّفهُ؟ فقال: إنما نضعف إسناده لكن العمل عليه.
وقال مهنا أيضاًً: سألتُ أحمد رحمه الله عن حديث معمرٍ، عن الزهري، عن سالم، عن ابنِ عُمَرَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة. قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق يقول عن معمر، عن الزهري مرسلاً.(2/298)
الأمَة لها بالقبول.
فإِن قلتَ: فقد جاز على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يَحْكُمَ في ما بين الناس، وإن كان خطأ في الباطن، ألا ترى إلى قولِه عليه السلامُ: " لعَلَّ بَعْضَكُم أنْ يَكونَ ألْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بعْضٍ، فَإذا حَكَمْت لأِحَدِكم بِمَالِ أخِيه فَإنَّما أَقْطَع لهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " (1) فإذا جاز ذلك على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأولى وأحرى أن يجوزَ على الأمة.
قلت: الجوابُ من وجهين.
الأول: معارضة وهي أن نقولَ: يلزم على هذا تجويزُ الخطأ في التحليلِ والتحريمِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ممنوع بالإجماعِ، سواء قلنا: إنَّه متعبّد بالاجتهاد أو لا.
الثاني: تحقيقٌ، وهو أن نقول: فرق بينَ الصورتين، فإن الدعاوي في الحقوق لا تزالُ مستمرةً في زمانه عليه السلامُ وبعدَه، وقد عَلِمَ الله تعالى أن الوحي غيرُ مستمر بعدَه عليه السلامُ، ولم يكن لنا مصلحة في بناء الحكم بينَ الناسِ على العلم واليقين، فشرع تعالى الرجوعَ فيها إلى الظواهر من الشهادات والبيناتِ، وجعل الحكمَ فيها مستوياً في زمانه عليه السلامُ وفيما بعده من الأزمان؛ إذ يمتنِعُ نزولُ الوحي كلما ادَّعى مدعٍ بعدَه عليه السلامُ، ولم تعلق بذلك المصلحة في زمانه عليه السلامُ، وكذلك سائرُ الأمور المتكررة لم يشرع فيها العملُ باليقين، والرجوع إلى نصوص الشريعة كرؤية الهلال في شهر رمضان، وأشهرِ الحج، ودخول أوقات الصلوات، فإن ذلك لما كان مستمرّاً جعل عليه أماراتٍ ظنية، وجعل
__________
(1) متفق عليه، وقد تقدم في الصفحة 291.(2/299)
تكليفَه عليه السلامُ في ذلك كتكليف أُمته من غيرِ فرق.
وأما الشرائعُ التي تثبُتُ بالوحي، وتقرَّرَتْ قواعدُها، فلا تكونُ إلا بالوحي في حقِّه عليه السلام، وباتباع الأدلةِ الصحيحة التي لا باطلَ فيها، ولا في قواعدها باطناً ولا ظاهراً في حقِّ أمته المعصومة، والله عز وجل أعلَمُ.
وتلخيص المسألة: هل يجوزُ على المعصوم أن يخطىء ظنُّهُ؟ قال ابن الصلاح: لا يجوزُ، وسبقه إلى ذلك محمدُ بنُ طاهر المقدسي، وأبو نصر عبدُ الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف.
قال النواوي: وخالف ابنَ الصلاحَ المحققون والأكثرون، فقالوا: يُفِيدُ الظن ما لم يتواتر.
قلت: مِن أدلة الجمهور {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} [الأنبياء: 79] وحديثُ " إِنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعةً مِنْ نَارٍ "، وحديثُ " حكم داود بينَ المرأتين في الولد الذي تنازعاه، فإنه حَكَمَ به للكُبرى، ثم تحاكما إلى سُليمان، فحكم بقطعه نصفين بينهما، فقالت الصُّغرى: لا، فحكم به لها " (1).
ويُمْكنُ الجوابُ عن هذا كله أن الحديثَ وارد في القضاء بينَ الناس، والآية محتملة لذلك غيرُ ظاهرة في خلافه، وقد بينا الفرقَ بينَ القضاء وغيره، ولو جاز تخطئةُ المعصومِ في كل ظنٍّ، لزم أن لا يكون
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 322 و340، والبخاري (3427) و (6769)، ومسلم (1720) والنسائي 8/ 235 من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كانت أمرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود، فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقُّه بينهما، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى ".(2/300)
الإجماعُ حجةً في المسائل الظنية، وهو إلزامُ حسن فتأمَّلْهُ، ويمكن التزامه، لأن الأمة إنما عُصِمتْ عن الضلالة وهي منتفية على قول المصوِّبَةِ عُرفاً ولغة، وعلى قولِ المخطئة عرفاً، والعرف مُقدَّمٌ على اللغة إذا اختلفا.
وأما ما تقدم مِن الفرق بينَ القضاء من النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بين الناس وبينَ التحليل والتحريم، فالجوابُ عنه أنَّه مما لا يمنع مِن تجويز الخطأ في ظَنِّ المعصوم، بل هو مما يَدُلُّ على جوازه، لأنَّه عليه السلام إنما لم يجز أن يُخطِىءَ في التبليغ، لأنَّه لم يستند فيه إلى الظن.
قولهم: يجوز أن يكونَ متعبداً بالاجتهاد.
قلنا: هذا التجويز لا ينتهض حجةً، فإن انتهض، فحجة ظنية مختصة به، وبمن يذهبُ إلى القول بذلك، والمقطوعُ به هو إصابة ظنه على تقدير اجتهاده، لكنه لا يقطعُ باجتهاده، وعلى تقدير القطع به، فليس معللاً بعصمته، إذ الخطأُ في المعصية لا يُناقِضُ العصمةَ إجماعاً كيف فيما لا يُسمى معصيةً؟ فمن أين يلزمُ إصابةُ ظَنِّ كل معصومٍ، وأحسنُ ما يُجابُ به عن هذا أنَّه لا مانع مِن القول بأنا متعبدون بمتابعة الأمة، وملازمةِ الجماعة وإن جوَّزنا عليهم الخطأَ في الظنيات، كما أنَّا متعبدون بالعمل بخبر الثقة وإن جوزنا ذلك عليه، وممن قال بذلك عبدُ الله بن زيد، ويدل على هذا ما ورد من الأمر المطلق بملازمة الجماعة مثل " يَدُ اللهِ عَلَى الجَمَاعَةِ، ومنْ شَذَّ شَذَّ إلى النَّارِ " رواه الترمذي (1) عن ابن عمر.
__________
(1) رقم (2167) وفي سنده سليمان بن سفيان المدني وهو ضعيف، وهو في " المستدرك " 1/ 115 - 116 و" السنة " لابن أبي عاصم (80)، و" الأسماء والصفات " للبيهقي ص 322.(2/301)
والذي يجمع بينَ هذه الأدلة أن متابعةَ الأمة واجبةٌ في الأصول والفروع، ودليلهم الظني في الفروع لا يَخْرُجُ عن كونه ظنيّاً، فيكون متعلقَ الظن دليلُ الحكم وطريقُه، ومتعلقَ العلم وجوبُ العمل، ولا تناقضَ في ذلك، وقد قال الفقهاء بمثل ذلك في تسمية الفقه علماً، وقالوا: إنَّ الظن في طريقه، ومتى حصل، عَلِمَ المجتهدُ وجوبَ اتباع ظَنِّه، والله سبحانه أعلم.
وحاصِلُ المسألة: أنَّه يجوزُ الخطأُ في ظنِّ المعصوم لمطلوبه، لا لمطلوبِ الله منه، ولا يُناقِضُ العصمةَ بدليل العقل والسمع، أما العقل، فلأن معنى الظن يستلزِمُ تجويزَ الخطأ، فلو امتنعَ الخطأ في ظَنِّ المعصومِ، لم يكن ظنّاً، والفرضُ أنَّه ظن، وأما السمعُ، فلقول يعقوب في قصة يامين: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} [يوسف: 18] وقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان} [الأنبياء: 79] ولأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سها في صلاته وهو يظنُّها تامة (1)، ولقوله: " فمَنْ حَكمْتُ لَهُ بِمَالِ أخِيهِ، فَإنَّما أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ " ولأن هذا بمنزلة الخطأ في رمي الكفار.
قال: وقد ثَبتَ بهذا بطلانُ حجة القابلين لفاسقِ التأويل، وإنما الكلامُ: هل: هذه المسألة قطعية أم لا؟ أعني أنهم لا يقبلون، وعلى طريقةِ القاضي الباقلاني أنها قطعية، لأن القطعي عنده ما كان ظنُّ صحته
__________
= وأخرجه الطبراني في " الكبير " (13623) من طريق آخر صحيح عن ابن عمر. وفي الباب عن ابن عباس عند الترمذي (2166)، وسنده قوي.
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة، مالك في " الموطأ " 1/ 93 - 94، والبخاري (482) و (714) و (715) و (1227) و (1228) و (1229) و (6051) و (7250)، ومسلم (573)، وأبو داود (1008) و (1009) و (1010) و (1011) و (1012)، والنسائي 3/ 30 - 31، والترمذي (394) وانظر رواياته في " جامع الأصول " 5/ 537 - 540 الطبقة الشامية.(2/302)
أقوى، لأنَّه يجب العملُ بالظن الأقوى قطعاً، فيكون رد روايتِهم مقطوعاً به، ولا يَصِحُّ الاجتهادُ فيه، وهذا صحيحٌ في الأمارة الظاهرة التي تَقَعُ لِكُلِّ أحدٍ عندها الظن، وهذه المسألة من هذا القبيل، فثبت بذلك ما ذكرنا في هذه المسألة.
أقول: يرِدُ على كلامِه -أيَّدَهُ الله- في دعواه أنها قطعية إشكالات:
الإشكال الأول: أن السَّيد -أيده الله- قد سَلَّمَ أن الدليل على ردَّ المتأولين ظني، لكنه ادَّعى أنَّه ظن ظاهر لا يخفي على أحد، وادَّعى أن ما كان هكذا، فهو قطعي فجمع بين الدليل الظني والمدلول القطعي، وهذا لا يصِحُّ، لأن تسليمَك أن الدليل ظني يقتضي قطعاً تجويز أن يكون الحق في المرجوح، وتجويز ذلك يستلزم قطعاً تجويز أن يكونَ على ذلك الحق أمارات راجحة على هذا الأمر المظنون أنَّه حق ولكن المترجح له أن هذا المفروضَ أنه راجح، ما عرف تلك الأماراتِ، ولو عرفها لكانت أرجح عنده.
الإشكال الثاني: أن قولَه: إن رد روايتهم يكون مقطوعاً يستلزم كون الحقيَّة في المظنون الراجح قطعاً، ونفي الحَقِّيَّةِ عن الموهوم المرجوح قطعاً أيضاًً، وهذا يقتضي أن الدليلَ يُفِيدُ العلمَ لا الظن؛ لأنَّه لا يَحْصُلُ بالعلم أكثر من القطع بأن الحق هو ما ذهبت إليه باطناً وظاهراً، وأن ما ذهب إليه الخصمُ باطلٌ باطناً وظاهراً، ولكن السَّيدَ -أيده الله- أقرَّ أن الدليل أمارة، وأنه يَحْصُلُ عندها الظن، فإن قال: مراده: أن العمل بتلك الأمارة الظاهرة التي لا تخفي على أحد واجب قطعاً على كل أحد، لا أنَّ (1) ما دلت عليه حق قطعاً، فلا يجوز القطعُ بالاعتقاد على حقِّيَّةِ مدلولها،
__________
(1) في (ب): لأن.(2/303)
ويجب العمل قطعاً بظاهر الظن المستفاد بها.
قلنا: هذا لا يَصحُّ، لأنَّه يستلزم أن يَنْصِب اللهُ على الباطل أمارة ظاهرة لكل أحد، ويوجب على كُلِّ أحد العمل بها، ويترك الحق بغير أمارة، وهذا لا يجوز على الله تعالى، وقد منع العلماء مِن أهون من هذا، فقالوا في الدليل على أن كل مجتهد مصيب: إنَّه لو لم يكن كذلك لكان قد كلَّفَهُ اللهُ بالحق، ولم يَنْصِبْ عليه دليلاً، وذلك يستلزم التكليف بما لا يَعْلَمُ، وهو لا يجوز على الله، أو كلَّفه بالخطأ الذي أدى إليه نظرُهُ، ولا يجوز على الله تعالى التكليفُ بالخطأ، هذا على القول بأن الحقَّ مع واحد، وعلى القول بتصويب الجميع يلزم تجويز أن يتْرُكَ الله الحق بغير دلالة ولا أمارة، ولا يُكلف به أحداً، وهذا يناقض كونه حقاً، والفرض أنه حق هذا خُلف.
الإشكال الثالث: أن نقول: هل كونُهُ راجحاً معلومٌ بالضرورة أو بالدلالة؟ وكلاهما باطل، فما استلزمهما، فهو باطل، وبيانُ الملازمة ظاهر، وبيان بطلان القسمين أن نقول: لا يجوز أن يكونَ رجحانُ ردِّ المتأولين معلوماً بالضرورة، لأن العقلاء مشتركون في العلم بالضروريات، والمجيزون لقبول المتأولين خلقٌ كثير من الأئمة والعلماء والفقهاء لا يجوز تواطُؤُهُم على محض البَهْتِ، وصريحِ المعاندة، وهم منكرون للعلم برُجحان ردِّ المتأولين، فثبت أنَّه لو كان ضرورياًً، لعلموه، لكنه قد ثبت أنهم لم يعلموه، فثبت أنَّه غيرُ ضروري، وأما أنَّه لا يجوز أن يكون الرجحان معلوماً بالدلالة، فلأنَّ الرجحان هو الظن، وثبوت الظن في القلوب، وانتفاؤه عنها من الأمور الوجدانية كالجوع والألم وغير ذلك، وليس في الأدلة ما يُوجب العلمَ الاستدلالي بالأمور الوجدانية، وإنما يصِحُّ(2/304)
العلم بها ضرورة مثل ما يعلم خجلُ الخجلِ، وألمُ الأليم في بعض الأحوال بالقرائن المشاهدة، لكنا قد بينا أن هذه المسألة ليست من الضرورياتَ، وبطل أيضاًً أن تكون استدلالية، فبطل القطعُ برُجحان رَدِّ المتأولين.
الإشكال الرابع: قد ثبت أنا لا نَعْلَمُ في الأدلة العلمية غير الضرورة أنه قد حصل العلمُ للخصم، وأنه جحده عِناداً وعمداً (1)، وإنما نقول بذلك في مَنْ جَحَدَ العلومَ الضروريةَ، فكيف يَصِحُّ منك أن تقول في الظن -ومرتبتُهُ دون مرتبة العلم في الظهور والجلاءِ-: إنَّه قد حَصَلَ لكل أحد، وإنا نعلم حصولَه لكُلِّ أحد، ونعلم أنَّه خَالَفَ (2) مع العلمِ بالرُّجحان مع أن العلم الذي دَلَّ عليه أدلةٌ قاطعةٌ مولدة له على جهة الإيجاب ما ارتقى إلى هذه المرتبة.
الإشكال الخامس: نص علماءُ المنطِق والمعقولاتِ على أنّه ليس بين الأمارة ومدلولِها رابطةٌ عقلية، واحتجُّوا على ذلك بما هو صحيح في المعقول (3) وذلك لأنَّه لو كان بينه وبينَها رابطةٌ عقلية، لاستحالَ تخَلُّفُهُ عنها لأنه لا يَصِحُّ وجودُ اللازِمِ مع تخلُّف الملزوم، إذ لو صَحَّ ذلك، لما كان لازماً، والفرضُ أنَّه لازم، هذا خُلف.
وكذلك الرابطةُ العقلية بين الأمارة والمظنون لو كانث ثابتةً، لم يتخلَّفِ المظنونُ عنها، وقد تخلَّف قطعاً ضرورة ووفاقاً بينَ العقلاء، فقول السيد: إن الحقَّ في ردهم قطعاً يستلزِمُ أن الحقية متعينة في رَدِّهم
__________
(1) في (ب): عمداً وعناداً.
(2) في (ب): قد خالف.
(3) في (ب): بالمعقول.(2/305)
المتأولين لأجل ظهور القرينة المفيدة للظن، وذلك يستلزِمُ تلازم الحَقِّيَّةِ والظن الراجح، وذلك يستلزم أن يكونَ بينهما رابطة عقلية، وهو خلاف كلامِ العلماء وأدلة العقول.
الإشكال السادس: قولُه -أيده الله-: إن القرينة الدالة على ردِّ المتأولين قرينة ظاهرة حاصلة لكل أحدٍ، يقتضي أن المخالفين له في هذه المسألة قد حَصَلَ لهم رجحانُ دليله، وإنما عَدَلُوا تعمداً للباطل، وقد رُوِيَ عن المُؤَيَّدِ بالله أنَّه خالف في هذه المسألة، فهذا يستلزم أن المؤيَّدَ عليه السلامُ آثم، معاند، متعمدٌ لقول الباطل عند السيد.
الإِشكال السابع: القول بأن في الظنيات قطعيّاً، وتفسير تلك القطعيات بأنها ما ظهرت الأمارةُ الدالة عليها، وحصل الظنُّ بها لِكُل أحد قولٌ غريبٌ، لم أَعْلَمْ أنَّ أحداً قال به إلا القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري، وهو عندك كافِرُ تصريحٍ. والظاهرُ مِن علماء الأصول أنهم لا يُثْبِتونَ القطعيات إلا في الأدلةِ العلمية المفيدة لليقين، فيلزم السيدَ القولُ بتأثيم مَنْ خالف الباقلاني في هذه القاعدة.
الإشكال الثامن: قد بَيَّنَّا أن جماعةً ادَّعَوْا إجماعَ الأمة على خلاف قولِ السيدِ منهم الإمام المنصورُ بالله، ويحيى بنُ حمزة، والمؤيَّد بالله، وغيرهم، فهؤلاء إما أن يصدقوا في دعوى إجماع الأمة كلهم أو لا، إن صدقوا لَزِمَ أن تكون الأمة قد اجتمعت على ضلالة، وإن لم يصدقوا، فلا أقلَّ من أن تكون دعوى الإجماعِ الذي تَطَابَقُوا على دعوى الإجماع فيه قولَ أكثرِ الأمة وجماهير العلماء، لأنَّ أقلَّ أحوال مُدعي الإجماع أن يبحث قبل الدعوى عن أقوالِ مَنْ يَعرفُ من عيون (1) العلماء، فلا يَعرِفُ خلافاً
__________
(1) في (ب): وجوه.(2/306)
بعدَ الاستقصاء في الطلب وهؤلاءِ الأكابرُ قد ادَّعَوا الإجماعَ، وَهمْ مِن أهل الورع الشحيح، والاطلاع العظيم، فلم يكونوا لِيُجَازِفُوا بدعوى الإِجماع، وأقلُّ أحوالهم أن يكون ما ادَّعَوْا فيه إلإِجماع هو القولَ الظاهر المستفيضَ بَيْنَ عيون الأئمة وكبارِ علماء الأمة، والسيد قد قطع بتخطئتهم في هذه المسألة، ولم يَرْض بذلك حتى أخرج هذه المسألة من جملة الظنيات التي يُمْكِنُ رفع الإثم عن المخطىء فيها، فيلزم السيدَ تأثيم عيون الأئمة، وجماهيرِ علماء الأمة على كُلِّ حال، سواء صدق هؤلاء المُدَّعون للإجماع أو لم يصدقوا، والفرق بينَ هذا وبينَ السابع والسادس، أن السابع في مَنْ خالف في القاعدة كلها وهي إثبات القطعيات بالأدلة الظنية، وهي أعَمُّ مِن هذه، فإنَّ هذه مسألةٌ واحدة من جملة تدخل تحت تلك القاعدة من المسائل التي لا تنحصرُ، وأما السادسُ، فلأنه فيما يلزمه بإقراره من تأثيم المؤيَّدِ وفي هذا ما يلزمه بالدليل لا بالإقرار.
الإِشكال التاسع: أنَّه قد ثبت الخلافُ في هذه المسألةِ بإقرار السيد عن الفقهاء والمؤيَّدِ بالله، وقاضي القضاة، وأبي الحسين، فجميعُ هؤلاء الذين قَبِلُوا روايةَ فُسَّاق التأويل مثل الفقهاء والمؤيَّد بالله عند السيد قد بَنَوْا مذاهبَهم في الفروع الفقهية على قبولِ رواية المتأولين، لكن السيد قال: هي باطلة قطعاً، فيلزمُ السيدَ أن تكونَ مذاهبُهُم في الفروع الفقهية باطلة قطعاً، لأن الأصلَ إذا بطل بالقطع، بطل فرعُهُ بالقطع بالأولى، لأن الفرعَ أضعفُ مِن الأصل، وكُلُّ مجتهدٍ بنى اجتهادَه على أصلٍ باطل بالقطع من خلاف إجماع وغيرِه، فإنَّه لا يعتد بخلافه، فيلزم السيدَ بإقراره إبطالُ مذاهب المؤيَّد والفقهاء.
الإشكال العاشر: قد أجمعت الأمةُ على الاعتداد بمذاهب القابلين(2/307)
للمتأولين، فإن الزيدية أجمعت على الاعتداد بمذهب المؤيَّد، وسائرُ الفرق أجمعت على الاعتداد بمذاهب الفقهاء في الفروع، أما من يُجِيزُ تقليدَ الميت، فظاهر، وأما من لا يُجيزه، فاعتد بها في انعقاد الإجماع وعدمه، وأصلُ السَّيِّد هذا يؤدي إلى أن لا يعتد بالمؤيَّد بالله والفقهاء، فقد أدَّى إلى تخطئة الأمة بأسرها بإقراره أيضاً، لأنَّه مقر بثبوت الخلاف عن المؤيَّد بالله والفقهاء، ومقر بإجماعِ الأمة على الاعتداد بأقوالهم في الفروع، فثبت على مقتضى كلامه أن الأمة أجمعت على ما لا يجوز، لكن ذلك باطل قطعاً، فما أدَّى إليه فهو باطل.
الإشكال الحادي عشر: أنا قد قدمنا أن المؤيَّد، والمنصور، ويحيى بن حمزة وغيرهم رَوَوُا الإجماعَ على قبول المتأولين كما سيأتي تفصيلُ ذلك في الفصل الثاني. إن شاء الله، وبَيّنّا أن أقلَّ أحوالهم أن يعلموا أن ذلك مذهبُ جماهير الأئمة والأمة، والسيد قد قال: إن ذلك باطل قطعاً، فيلزمه أن مذهبَ جماهير الأئمة والأمة في الفروع باطل، لأنَّه انبنى على باطل، فقولُ السَّيِّد أدَّى إِلى بطلان الانتفاع بالفقه وعلم الفروع، لأن التهمة قد تَطَرَّقتْ إلى كل منهم، إذ كان هؤلاء العدول يدعون على الأمة أنَّهم قبلوا المتأوّل، وَبَنَوْا مذهبهم (1) على قبوله، فلا يَحِلُّ تقليدُ أحدٍ من الأمة إلا بتبرئة صحيحة، ونقل ثقة عن ثقة أنَّه لا يقبل المتأولين، وإلا فالظَّاهِر صدق هؤلاء الأئمة والعلماء، وصدقهم يتضَمَّن هدم ما بناه الناسُ مِن علم الفروع، فلم يسلم من هذه المشكلة أحد حتى الهادي والقاسم، فقد روى أبو مضر عنهما القولَ بقبول المتأول، وكذلك عموم رواية المؤيَّد بالله، والقاضي زيد وغيرهم تَدُلُّ على أنَّ مَذْهب القاسم ويحيى قبولُ
__________
(1) في (ب): مذاهبهم.(2/308)
المتأول، لكن قبوله عند السَّيِّد باطل قطعاً، والفروع المبنية عليه باطلة قطعاً، فيلزم أن لا يعتد بقولهما عليهما السلامُ، ولا بقول غيرهما من علماء الإِسلام، سواء قلنا بتقليد الميت أم لا، فلا يجوز تقليدُ أحدٍ إلا من علم بطريقٍ صحيحة أنَّه لا يقبل المتأولين ولا مرسل مَنْ يقبل المتأولين.
الإِشكال الثاني عشر: يلزم السيدَ -أيده اللهُ- أن الرادين لِرِواية المتأول إذا أجمعوا في الفروع، وخالفهم القابلون، انعقد الإِجماعُ وكان حجةً، لأنهم قد بَنَوْا مذاهبَهُمْ على باطل، والتبس ما بَنَوْه على الباطل بما بَنَوْه على الحق فترك جميعاًً، فلم يعتد لهم بقول، فلم يجز تقليدُهم، وقد ذكر -أيَّده الله- إن مَنْ لم يبق له خلف يُقَلِّدونه، بطل قولُه، وانعقد الإِجماعُ على رأسه، فكذلك من يحرم تقليده بل هو أولى.
الإشكال الثالث عشر: أن الأمة أجمعت على عدم التأثيم لمن خالف العموم وأخبارَ الآحاد والقياسَ والاستدلالَ متأولاً في مخالفته، وقول السيد: إنها قطعية يستلزم تأثيمَ مَنْ خالف هذه الأدلةَ، أو أحدها متأولاً، وذلك أنَّه استدل بها، وزعم أن مدلولَها قطعي، فقد توجه عليه مخالفة الأمة إما في هذه القاعدة كلها، وإما في تخصيص أدلته، فإن خالفهم في القاعدة كُلِّها، أثم جميعُ المخالفين في الفروع، وإن خالفهم في هذه وحدها، تحكم.
الإشكال الرابع عشر: استدل بهذه الأدلة، وكلها ظني، ثم استنتج منها نتيجةً قطعية، وقد أجمع علماء البُرهان من المسلمين والفلاسفة أن مقدماتِ الدليل إذا كان كُلُّها قطعية إلا واحدة منها، فإن النتيجةَ تكون ظنية وقالوا: النتيجةُ تتبع أخَسَّ المقدمات، فكيف تكونُ مقدمات السَّيِّد كلها ظنية، ويقر بذلك، ثم يستنتج منها نتيجة، ويزعم أنها قطعية، وأن(2/309)
المخالف له فيها على الخطأ قطعاً؟ ما كأنَّه قد خاض في علم النظر يوماً واحداً، والفرق بين هذا وبين الإشكالِ الثاني أنا ألزمناه في الثاني أن تكونَ علميةً مع إقراره أن أدلتها ظنيةٌ، هذا خلف، وها هنا ألزمناه عكسَ ذلك، وذلك أنَّه ادَّعى أنها قطعية، فألزمناه أنها ظنية.
الإِشكال الخامس عشر: إذا كنتَ استدللتَ بأدلة ظنية، وادعيتَ القطع بأن الحقَّ معك، وأن خصمَكَ على الباطل، فما يمنع خصمَكَ من مثل هذه الدعوى؟ بل: ما يمنع من مثلها في كثيرٍ من مسائِلِ الفروع، وإنما بين المتناظرين الأدلة المفيدة للعلم، فمن ادعى القطعَ بأنَّه محق، وأن خصمَه مبطل أظهر ما عنده مِن البراهين المفيدة للعلم القاطعة للأعذار، وأما لو كَانَ مَن ادَّعى الحَقَّ كفاه أن يقول: لأني ظننتُ أنَّه حق بأمارات ظاهره لا تخفي على أحد، وظننتُ أن قولَ الخصوم (1) باطل مثل ذلك كان هذا الكلام مقدوراً لكل أحد.
الإشكال السادس عشر: أنا قد بيّنّا غير مرة أن جماعةً من الأئمة والعلماء ادَّعَوْا إجماعَ الأمة على قبول المتأولين، فيلزمه القطعُ بتكذيب من ادَّعى الإجماعَ من الأئمة مثل: المنصور بالله، ويحيى بنِ حمزة وغيرهم ممن يأتي ذكره. أقصى ما في الباب أن يقول: إنَّهم لم يكذبوا عمداً لكنهم قد كذبوا عندك على سبيلِ الخطأ، لكن دعوى الإجماع ليست من مسائل الفروع التي كُلُّ مخطىءٍ فيها مصيب ومعذور.
الإشكال السابع عشر: يلزم السيدَ -أيده الله- الإنكارُ على مَنْ خالفه في هذه المسألة، وتحريم النزاع فيها، لكن لم يزل العلماءُ قديماً
__________
(1) في (ب): الخصم.(2/310)
وحديثاً يخوضون في هذه المسألة، ويذكرون الخلافَ فيها في كتب الفقه والأصول من غيرِ نكير مِن أحدِ الفريقين على الآخر، وهذا يقتضي بطلانَ قولِ السيد: إنها قطعية، ومما يدل على هذا أن أحداً ما سبق السّيّد إلى هذا القول فيما نعلم، وهذه كتب الأولين والآخرين والسابقين والمقتصدين والزيدية، والشافعية والمعتزلة والأشعرية ما نعلمُ أنَّ أحداً ذكر فيها أن هذه المسألة قطعية، وأوصدَ باب النزاع، وقطع طُرُقَ الخلافِ عنها إلا السيد أيَّده الله، فإنه سلك مسلك الغُلُوِّ في رسالته، والزيادة على أساليب العلماء في مصنفاتهم، فإن جميعَ مَنْ ذكَرَ هذه المسألة من العلماء ما زادوا على ذكر الخلاف والأدلة، وسكتوا عما يقتضي تأثيم المخالفين.
الإشكال الثامن عشر: أنَّه يلزمُ مِن كلام السَّيِّد نقضُ الأحكام المثبتة على شهادة المتأولين، لأن القاضي إذا أدَّاه اجتهادُه إلى مخالفة القطعيات نقض حكمه، وإن كان مذهباً له، إذ لا معنى للمذهب الباطل قطعاً، وهذا يؤدي إلى نقضِ أحكام كثيرة، فإنَّ مذهب الفقهاء مبني على جواز هذا، وكذا حكام مذهب الزيدية إنما عملُهم في الغالب بما هو منصوص في " اللمع "، والمنصوص في " اللمع " قبول شهادة المتأولين، بل هذا يُؤدِّي إلى الشك في الأحكام كلها، لأنا لما علمنا أو ظننا أن الحكامَ مستحلون للحكم بشهادة المتأولين، وكانت باطلةً قطعاً، وقد اختلطتِ الأحكامُ ولم نعلم ما ترتَّب منها على شهادتهم وما لم يترتب، وجب الوقفُ فيها كُلِّها إلا في ما ثبت لنا أن الحكم فيه لم يترتب على شهادة متأول وكذلك يلزمُ مِن هذا نقض أحكام المقلدين للمؤيد والفقهاء ومَنْ بنى مذهبه على قبول المتأولين.
الإشكال التاسع عشر: أنَّه يلزمُ تحريمُ نصبِ الحكام الذين يستحِلُّونَ الحكم بشهادة المتأولين، سواء كانوا مجتهدين أو غيرَ مجتهدين، وسواء(2/311)
كانوا مقلِّدين لمن يقبل المتأولين، أو لمن لا يقبلهم، لأنهم يستحِلُّونَ شهادة المتأولين، وهذا عند السَّيِّد باطِلٌ قطعاً، ولا يحِلُّ نصبُ من يستحل الحكم بالباطل القطعي، وكلُُّ هذا مخالف لما عليه أهلُ الإسلام في جميع أقطار الدنيا، فكان أولى بالبطلان.
الإشكال الموفي عشرين: أنَّه يلزم من هذا تحريم نصب الأئمة الذين يستحِلُّونَ قبولَ المتأولين، وذلك لأنَّهم حكام، ولا يجوزُ نصب مَنْ يستحِلُّ الحكم بالباطل القطعي، ولأنَّهم يستحلون نصبَ الحكام الذين يَرَوْن قبولَ المتأولين، وفي هذا مفسدة عظيمة وهي توليةُ مَن يَسْتَحِلُّ الحكمَ بالباطل.
الإِشكال الحادي والعشرون: أنَّه يلزم القطعُ ببطلان إمامةِ مَنْ صح عنه قبولُ المتأولين من كبار الأئمة الميامين لهذا الوجه الذي ذكرناه في الإشكال الذي قبلَ هذا، وكُلُّ هذا في غاية النكارة، فما أدى إليه، فهو أنكر، والبعد عنه أولى وأجدر.
الإشكال الثاني والعشرون: أن السَّيِّد -أيده الله- يلزمه أن يكون المؤيَّدُ بالله والفقهاء مجروحين عنده غيرَ مقبولين في الرواية، هذا بإقراره، ويلزمه مثلُ ذلك في حق المنصور، والإمام يحيى بن حمزة، والقاضي زيد، وعبدِ الله بن زيد، والهادي، والقاسم وسائر الأئمة.
فإن قلت: هذه عبارة منكرة.
قلت: لا شَكَّ في ذلك، ولكن أنكرُ منها ما أدى إليها.
فإن قلت: وأينَ كلامُ السَّيِّد الذي يلزم هذا منه؟
قلت: هو متفرق في موضعين من رسالته.
أحدهما: قولُه، إن الكاذب لا تُقْبَلُ روايتُه وإن كان متأولاً قياساً على(2/312)
الخطابية، والجامع بينهما أن كل واحد منهما قد استحل الكذب للتأويل، فلما أجمعت الأمةُ على رَدَّ رواية الخطابية لعلة استحلالهم للكذب متأولين، لَزِمَ في كل من استحل الكذب متأولاً أن ترد روايته. وسيأتي الجوابُ عن هذه الشبهة الضعيفة، وإنما نذكر ها هنا طرفاً مما يلزمه، فنقول، كُلُّ مَن خالف في مسألة قطعية، فقد كذب متأولاً، فالمعتزلة قد كذبوا متأولين حيث قالوا: إن الخليفة بعدَ النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ أمير المؤمنين علي عليه السلامُ، وكذلك كُل متأول خالف في القطعيات، وقد قررت أن القول بردِّ رواية المتأولين قطعي، فيلزمك أن المخالف لك فيه كاذب متأول، لأنَّه قال: إن المتأول مقبول، وهذا عندك كذبٌ قطعاً، وقد استحله المخالف لك فوجب رَدَّ شهادته وروايته قياساً على الخطابية.
فنقول: أما المؤيَّد، والفقهاء، وأبو الحسين، وقاضي القضاة فيلزمُك أنهم غيرُ مقبولين في الشهادة، ولا في الرواية، لأنَّك قررت أنهم قد خالفوك في هذه المسألة القطعية، وأما المنصورُ بالله، ويحيى بنُ حمزة، والقاضي زيد، وعبدُ الله بنُ زيد، فلأنهم قد كذبوا متأولين في موضعين.
أحدُهما: قولُهم: إن المتأولين مقبولون.
وثانيهما: في قولهم: إن الأمة مجمعة على ذلك، وهذه أغلظ من الأولى، لأنهم عندك ما قنِعُوا بما كذبوا حتى نسبُوه إلى الأمة والأئمة.
وأما الهادي، والقاسم، فإنما يلزمُك ذلك، لأن أبا مضر قد نسبه إليهم وهو ثقة، لأنَّه لم يختر ذلك لنفسه مذهباً، إنما حكى ذلك عنهم، وقولك: إن أبا جعفر قد عارضه لا ينفعُك، لأنك قد قلت في رسالتك: إن الجارح مُقَدَّمٌ على المعدل، والمثبت مُقدَّمٌ على النافي، وكذا لا ينفعك أن تقول: إن هذه الأشياء لم تواتر عنهم، لأنك قد قلتَ في رسالتك: الجرح(2/313)
يثبت بخبرِ الواحد بخلاف التكفير والتفسيق، وقلتَ، في مثل هذه الأشياء: أقل الأحوال أن يكون هذا موجباً للشك، فلا تَحِلُّ الرواية عن أحد منهم حتى تحصل له تبرئة صحيحة من المخالفة لك في هذه المسألة القطعية، وأما سائرُ الأئمة، فإنما يلزمُك جرحُهم، أو الوقفُ فيهم، لأنَّه قد ثبت من عشرِ طرق كما يأتي بيانُه أن الأمة أجمعت على ذلك، وهذه الطرق العشر من جماعة قد تَحصَّلَ بخبرِ مثلهم التواتُر لا سيما وهم متفرقو الأوطانِ والأزمانِ، والبُلدان والأنساب، فَبَعُدَ تواطؤهم على الكذب لكنك لما علمتَ أن الأمة معصومة، وجب أن تقطع بأنهم ما صدقوا على الأمة كلها، لكن يعلم بالضرورة استحالةٌ تواطئهم على عمدِ الكذب، وصريحِ المباهتة، فيجب أن يُحْمَلَ كلامُهم على أنَّهم عَلِموا أن ذلك قولُ الأكثرين، ولم يعتدوا بالباقين إما لأنَّ المخالف إِذا ندر لم يعتبر عندهم، وإما لتوهمهم أن سكوتَ الباقين سكوت رضا، ونقول في دعواهم للإِجماع مثل ما قلنا في دعوى المعتزلة إجماع الصحابة في الإِمامة.
إذا ثبت - هذا فلا شَكَّ أنَّه قد التبس عليك الآنَ: مَن البريء من الأمة من هذه الدعوى، فلا تَحِلُّ الرواية عن أحدٍ من الأمة حتى تَحْصُلَ له براءة صحيحة غير معارضة بمثلها، شاهدة له بأنه لا يذهب إلى مخالفتك في هذه المسألة، ومن لم يحصل ذلك في حقه، بقي على الشك، فانظر أيُّها السيد إلى قول يُؤدي إلى التشكيك في قبول شهادة القاسم، ويحيى، والمنصور، والمؤيَّد فما أبعدَه عن الصواب.
الإِشكال الثالث والعشرون: أنَّه قد ثبت أن المخالفة في القطعيات معصية، وأن المخالفَ فيها غيرُ معذور بالتأويل، ألا ترى أن السيدَ -أيده الله- قال ما هذا لفظه: فيكون ردُّ روايتهم مقطوعاً به، ولا يصح الاجتهاد(2/314)
فيه، وهذا صحيح في الأمارة الظاهرة التي يقع لِكل أحدٍ عندها الظن، وهذه المسألة من هذا القبيل. انتهي كلامه.
فبين أن الاجتهاد لا يَصِحُّ، وعلى هذا لا يُعذَرُ مَن اعتذر به، وأيضاًً قد بَيَّنَ السَّيِّد أن الأمارةَ الدالة على رد المتأولين ظاهرة يقع لكلٍ عندها الظن، فثبت بهذا أن المخالفين له -أيده الله- قد وقع لهم الظنُّ الراجح برد رواية المتأولين، وأن قبولهم للمتأولين مما هو عمل بالمرجوح قطعاً، وإنما توهموا أنَّه راجحٌ توهماً لا حقيقةَ له؛ لما لم ينظروا على الوجه الصحيح. والتقصير في النظر في المسائل القطعية حرام.
فإذا تقرر هذا، فقد ثبت أنَّه لا يجوزُ العلمُ بصغر المعصية، فوجب أن يكونَ المخالف للسيد -أيَّده الله تعالى- عاصياً معصيةً محتملة للكبر والفسق، ومحتملة للصغر، فلا يجوز في مَنْ صَحَّ عنه أنَّه خالف السَّيِّد في هذه المسألة أن يقطع بأن ظاهره الإسلامُ والإِيمان، ولا يقطع بأن ظاهره الفسقُ، بل نقف في أمره، ويكون الخلاف في الترضية عنه مثل الخلاف في الترضية عن المتقدمين على علي عليه السلام، لأنهم سواء، إذ كُلُّ منهم أخطأ في مسألة قطعية متأولاً، وأصرَّ على خطئه ومعصيته حتى مات فهذه مِئتا إشكال ونيف على مقدارٍ يسير من كلام السَّيِّد في كتابه أظهرتُ بيانها لِيظهر له أنْ (1) قد تعسَّف عليَّ في كتابه، وتعنتني في احتجاجه، فالله المستعان.
__________
(1) في (ب): أنه.(2/315)
الفصل الثاني: في الدليل على قَبول المتأوِّلين، ومعارضة الحُجَجِ التي أوردهَا السيدُ مِن العمومات والأحاديث، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: الكلامُ (1) في الفاسق بالتأويل. والذي حَضَرني الآنَ مِن الحجج على قَبوله خمسُ وثلاثون حُجةً، منها ما أوردتهُ للاعتماد عليه في الاحتجاج، ومنها ما أوردتهُ معارضةً لما أَورَدَه السَّيِّد من العمومات البعيدة.
الحُجَّة الأولى: الإجماعُ، وهو مِن أقوى ما يُحْتجُّ به في هذه المسألةِ؛ لأن حجج السَّيِّد كُلَّها عامَّةٌ، وهذه الحجة خاصةٌ، والإجماع الخاصُّ مُقَدَّمٌ على العمومات بإجماع، لأنَّه متأخر عنها، مُبيِّنٌ لها، فهو في أرفع مراتب الأدلَّةِ الظاهرة، وأقوى المتمسَّكَاتِ في مثل هذه المسألةِ، والذي يدل على صحة هذا الإجماعِ وجهان:
الوجه الأول: أنَّه قد ادَّعى جماعةٌ مِن الأئمة عليهمُ السَّلامُ، وخلقٌ مِن سائر علماءِ الإسلام أنَّ الصدرَ الأوَّل من الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على قَبولِهم، ونقل هذا الإجماع عَدَدٌ كثير لا يأتي عليه العَدُّ، وأنا أُشير إلى جماعةٍ يسيرة من أعيانهم لم أتمكَّن في الوقت مِن ذكر أكثر منهم، وقد شكَّ جماعة من العلماء في صحة دعوى الإجماع من غير قطع على بطلانه، ولا رواية لِخلاف كان في ذلك بين الصحابة.
فاعلمْ أَنَّه لم يُنْقلْ عن أحدٍ مِن الصحابة أنَّه لا يقبلُهم ألبتة، وكذلك
__________
(1) في (ب) و (ش): في الكلام.(2/316)
لم يَدَّعِ أحدٌ من الخلف، ولا مِن السَّلَفِ أَن الأمة أجمعت على رَدِّ فساق التأويل. فتأمل هاتين الفائدتين وإنما وقع الخلافُ في إجماعهم على القَبول، فطائفةٌ من الأئمة والعلماء قطعوا بأنهم أجمعُوا على ذلك، وطائفة منهم شكُّوا في ذلك، وبيان هذه الجملة يَظهر في أربعِ فوائد:
الفائدة الأولى: في الإشارة إلى طرف يسيرٍ من طرق الإجماع المروي في قبول فُسَّاق التأويل، فاعلم أنَّ طرق نقل الإجماع في هذه المسألةِ كثيرةٌ لا سبيل إلى حصرها، وقد ذكر السَّيّدُ أبو طالب أن مَنْ قَبِلَ المتأولين فإنه يذهبُ إلى أنَّ الإجماعَ قد حصل في قبولِ شهادتهم وخبرِهم، وكلامُه عليه السلام يدل على أَنَّ كُلَّ مَنْ يذهب إلى هذا المذهبِ، فقد روى الإِجماعَ على ذلك، ولا شَكَّ أن الذاهبينَ إلى هذا المذهب عدد كثير يزيدون على العددِ المشروط في التواتر أضعافاً مضاعفة، ولو حضرتنا تواليفُ كثيرٍ منهم لنقلنا ذلك عن كثيرٍ منهم بألفاظهم، ونحن نذكُرُ طرفاً يسيراً من ذلك على حسب ما حضر مِن التواليف، وجملةُ ما حضر من ذلك عشرُ طرق:
الطريق الأولى: طريق الإمام المنصور بالله عليه السلامُ، فإنه عليه السلام ادَّعى إجماعَ الأمة على قبول فساق التأويل، وذلك معروف في تصانيفه عليه السلامُ، وقد تيسَّر لي في وقت كتابة هذا الجواب نقلُه عنه عليه السلامُ من موضعين:
الموضع الأول: كتاب " صفوة الاختيار " في أصول الفقهِ من تصنيفه عليه السلام، فإنه قال فيه ما لفظُه:
مسألة: اختلف أهل العلم في خبرِ الفاسقِ مِن جهة التأويل، فحكى شيخُنا الحسن بن محمد رحمه الله عن الفقهاء بأسرهم، والقاضي، وأبي(2/317)
رشيد أنَّه يقبل إلاَّ أن يُعلم أنَّه ممن يستجيزُ الكذب كالخطَّابية (1) ومَنْ ضاهاها، وحُكي عن الشيخين أبي علي (2) وأبي هاشم (3) أنَّه لا يقبل، قال رحمه الله: وكان القاضي يقول: مذهبُ (4) أبي علي وأبي هاشم أقيسُ، ومذهبُ الفقهاء أقربُ إلى الأثر، وكان يعتمِدُ الأولَ، وهو الذي نختارُه. والذي يدُلُّ على صحته إجماعُ الصحابة على قبوله، وإجماعُهم حجةٌ على ما يأتي بيانُه، أما أنهم أجمعوا، فذلك معلوم من ظاهر حالهم لمن تَصَفَّحَ أخبارَهم، واقتصَّ آثارهم، وذلك لأن الفتنة لما ظهرت فيهم، وتفرَّقوا فِرَقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهي أمرُهم بينهم إلى القتلِ والقتالِ، وكان بعضُهم يروي عن بعضٍ بغير مناكرةٍ بينَهم، بل اعتمادُ أحدهم على ما يرويه عمَّن يُوافقه كاعتماده على ما يرويه عمَّن يُخالفه، وذلك ظاهر فيهم كروايتهم عن النعمان بنِ بشير (5)، وروايتهم عن أصحاب الجمل، وعن
__________
(1) هم أصحاب أبي الخطّاب محمد بن مقلاص، أبو زينب الأسدي الكوفي الأجدع الزراد البزاز، المقتول عام (138) هـ، وانظر تفصيل القول في هذه الفرقة في " مقالات الإسلاميين ": 10 - 13، و" التبصير ": 73، و" الفرق بين الفرق ": 247 - 250، و" الملل والنحل " 1/ 179 - 181، و" خطط المقريزي " 1/ 352، و" نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام " 2/ 231 - 245.
(2) هو شيخُ المعتزلة، وصاحبُ التصانيف، أبو علي محمد بن عبد الوهّاب البصري الجبائي، المتوفّى سنة (303) هـ مترجم في " سير أعلام النبلاء " 14/ 183 - 185، وكان -كما يقول الإمام الذهبي- على بدعته - متوسعاً في العلم، سيال الذهن، وهو الذي ذلل الكلام وسهله، ويسر ما صعب منه.
(3) هو أبو هاشم، عبد السلام بن محمد بن عبد الوهّاب البصري، المتكلم المشهور، شيخ المعتزلة وابن شيخهم، تُوفي ببغداد في شعبان سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة. " العبر " 2/ 187.
(4) تحرفت في (ب) إلى: بمذهب.
(5) هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة، الأميرُ العالمُ، صاحبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابنُ صاحبه، ولد سنة اثنتين، وسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعُدَّ من الصحابة الصِّبيان باتفاق، وكان من أمراء معاوية، فولاَّه الكوفة، ثم وليَ قضاء دمشق بعد فضالة، ثم ولي إمرة حمص، روى =(2/318)
نَقَلَةِ أصحاب النَّهروان (1) وغيرهم، وكانوا في أمرهم بين راوٍ عنهم، وعاملٍ على مقتضى الرواية، وساكتٍ عن الإِنكار، وذلك يُفيد معنى الإِجماع، ولأنَّهم لما افترقوا، لم يختلفوا في أن الكذبَ لا يجوزُ، بل المعلوم من حالِهِم التشديدُ على مَنْ فعل ما يعتقدون قُبْحَهُ، أو كذب في شيء من كلامه.
ومن ذلك ما رُوي أن الخوارجَ لما نادت قَطَرِيَّ بنَ الفجاءة (2) من خلفه: يا دابَّة يا دابة، فالتفت إليهم، وقال: كفرتُم، فقالوا: بل كفرت لِكذبك علينا وتكفيرك إيانا، وما قلنا لك إلاَّ ما قال اللهُ سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ثم قالُوا له: تُبْ من تكفيرك إيَّانا، فقال لعُبيدة بن هلال (3): ما ترى؟ قال: إن أقررت بالكفر، لم يقبلوا توبتَك، ولكن قُلْ: إنَّما استفهمتكُم، فقلتُ: أكفرتم؟ فقالوا: لا ما كفرنا. ثم انصرفوا، فإذا كان الأمرُ كما ترى، كان من يقول: من كذب، كفر، روايتُه أولى من رواية مَنْ يقول: من كذب
__________
= عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مئة وأربعة عشر حديثاًً، اتَّفق الشيخان له على خمسة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بأربعة. قُتل في آخر سنة أربع وستين. " سير أعلام النبلاء " 3/ 411.
(1) بليدة قديمة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي، وفيها سنة 38 هـ كانت وقعة بين أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وبين الخوارج، قُتل فيها رأس الخوارج عبد الله بن وهب السبأي وأكثر أصحابه. " العبر " 1/ 44.
(2) هو الأمير أبو نعامة التميمي المازني، الفارس المشهور، رأسُ الخوارج، خرج زمن ابن الزبير، وهزم الجيوش، واستفحل بلاؤه، وقد كسر جيش الحجاج غير مرة، وغلب على بلاد فارس، وله وقائع مشهودة، وشجاعة نادرة، وشعر فصيح سائر، وخُطب بليغة، وقد استوفي أخبارَه المُبَرّدُ في " الكامل " 3/ 355 وما بعدها، وقد قُتل سنة تسع وسبعين هـ " سير أعلام النبلاء " 4/ 151 - 152.
(3) هو عُبَيدة بن هلال اليَشكري، من رؤساء الأزارقة، وشعرائهم، وخطبائهم، كان مع قطري بن الفجاءة، ثم ولي بعده أمر الخوارج، قتله سفيانُ بن الأبرد الكلبي سنة (77) هـ في حصن قُومِس بجبالِ طبرستان، وانظر " البيان والتبيين " للجاحظ 1/ 55، و" الاشتقاق " لابن دريد: 343، و" الكامل " لابن الأثير 4/ 441 - 443.(2/319)
فسق، لأن الإنسان قد يتجاسر على الفسق، ولا يتجاسر على الكفر، وقولُ مَنْ يقول: إن مَنْ عُرِفَ بالكذب في المعاملات لا يُقبل خبرُه، فكيف يُقبل خبرُ من عُرِفَ بالكذب على أفاضِل (1) الصحابة، وساداتِ المسلمين من المهاجرين والأنصار، وانتقاصهم لا يتَّسِقُ، لأن المعلوم مِن حالهم أنَّهم لا يكذبون على أفاضِلِ الصحابة في الرواية عنهم، وإنَّما يكذبون عليهم في الاعتقاد، وذلك خارج عن باب الإخبار، وكانوا لا ينتقِصُونَ إلاَّ مَنْ يعتقدون الصوابَ في انتقاصه ومحاربته.
فأما من عُلِمَ مِن حاله استجازةُ الكذب على آحاد الناس فيما يرويه عنهم فضلاً عن فضلاء الصحابة، لم يُقبل خبره كما قلنا في الخطابية ومَنْ شاكلهم، وإنَّما منعنا مِن قبول خبرِ الفاسق مِن جهة التصريح، فلأنا نعلم منه التجاسرَ على الكذب، والإقدامَ على القبيح، فلا تَسْكُنُ النفسُ إلى صدقه فيما يرويه، ولا يَغْلِبُ على الظن صحةُ ما يقوله، وليس كذلك الفاسق من جهة (2) التأويل لأنَّه لا (3) يُقْدِمُ على ما يعلم كونه قبيحاً، فصح ما قلناه. انتهي كلام المنصور عليه السلام في كتاب " الصفوة ".
الموضع الثاني: كتاب " المهذب " (4) فإنَّه عليه السلام قال في كتاب " الشهادات " منه ما لفظه: وقد ذكر أهلُ التحصيلِ من العلماء جوازَ (5) قبولِ أخبار المخالفين في الاعتقادات، وروى عنهم المحققون بغير مناكرةٍ، ذكره عليه السلام في كتاب " الشهادات " محتجّاً به على قبولِ
__________
(1) في (ب): على فاضل الصحابة.
(2) من قوله: " التصريح " إلى هنا سقط من (ب).
(3) سقطت " لا " من (ب).
(4) تحرف في (ب) إلى: المهدي.
(5) سقطت من (ب).(2/320)
شهادتهم.
قال عليه السلام: لأن الإخبارَ نوع من الشهادة، وتجري مجراها في بعضِ الأحكام، والدليلُ على أنَّه عليه السلام ادَّعى الإجماعَ في هذا الكلامَ وجوه:
أولها: -وهو أقواها- أنَّه احتجَّ على جواز الشهادة بالقياسِ على الأخبار، واحتجَّ على قبولهم في الأخبار بأنَّ المحصلين ذهبوا إلى جواز ذلك بغيرِ مناكرة، فلو أراد بالمحصِّلين بعضَ العلماء، أو أراد بغير مناكرة مِن بعضهم مع وجود المناكرة مِن البعض، لم يكن ذلك إجماعاًً، ولو لم يكن إجماعاً، لم يكن فيه حجة، وقد ثبت أنَّه جعله حجةً، وقاسَ عليها، ولفظهُ صالح لإفادة دعوى الإجماع في اللغة من غير تعسُّفٍ ولا تأويل، فوجب القولُ بظاهره، وتأكَّد الظاهرُ بهذه القرينة.
وثانيها: أنَّ ظاهر كلامه يقتضي دعوى الإجماعِ من غير قرينة، وذلك لأنَّ قولَه: إن أهلَ التحصيل من العلماء ذكروا جوازَ ذلك يَعُمُّ جميعَ أهلِ التحصيل ولم يخرج مِن هذا اللفظ إلاَّ مَنْ ليس مِن أهل التحصيل، ومن لم يكن مِن أهل التحصيل، فليس بمجتهد لا في الوضع اللغوي، ولا في العرف الطارىء، لأنَّه ليس يَصحُّ أن يقَالَ لِعالم مجتهدٍ من علماء الإسلام: إنَّه ليس مِن أهل التحصيل.
وثالثها: قولُه بغيرِ مناكرة مطلقٌ يقتضي نفي المناكرة (1) عن جميع الأُمَّةِ، وقد أطلق القولَ في ذلك، ولم يُقيده بقيدٍ، فأفاد الإجماعَ على أنه -عليه السلامُ- قد صرَّح بدعوى الإجماع في كتاب " الصفوة "، وإنَّما
__________
(1) تحرف في (ب) إلى: الناكرة.(2/321)
أحببنا التبركَ بالاستكثار من كلامه، فمن استكثر من كلامه، فقد استكثر مِن طيب.
الطريق الثانية: طريقُ الإمامِ المؤيَّدِ بالله يحيى بنِ حمزة عليه السلامُ، فإنَّه قال: إن الإجماعَ منعقدٌ على قبول رواية الخوارج مع ظهور فسقهم وتأويلهم، قلتُ: ما خلا الخطابية. هذا كلامُه عليه السلام في " المعيار ".
وقال عليه السلامُ في باب الأذان في " الانتصار ": وأما كفارُ التأويلِ -وهم المجبرة، والمشبِّهة والروافض والخوارجُ- فهؤلاء اختلف أهلُ القبلة في كفرهم، والمختارُ أنهم ليسوا بكُفَّارٍ، لأن الأدلة بكفرهم تحتمِلُ احتمالاتٍ كثيرة. وعلى الجملة، فمن حكم بإسلامهم، أو بكفرهم، قضى بصحة أذانهم، وقبول أخبارهم وشهاداتهم.
وقال عليه السلام في كتاب " الشهادات " من هذا الكتاب: ومن كَفَّر المجبرة والمشبِّهة، قَبِلَ أخبارَهم، وأجاز شهاداتهم على المسلمين وعلى بعض، وناكحوهم، وقبروهُم في مقابر المسلمين، وتوارثوا هُمْ والمسلِمُونَ (1).
الطريق الثالثة: طريقُ المؤيَّد بالله عليه السلامُ، فإنه قال في كفار التأويل دَعْ عنك الفساقَ ما هذا لفظُه: فعلى هذا شهادتُهم جائزة عند أصحابنا. هكذا ثبت هذا اللفظ عنه في كتاب " اللمع " وكتاب " التقرير " وغيرهما أنَّه روى جواز الشهادة دَعْ عنك الرواية عنِ الكفار، دع عنك الفساقَ عن أصحابِنا بلفظ العموم من غير استثناء لأحد منهم، لا متقدِّمٍ ولا
__________
(1) في (ب): والمسلمين.(2/322)
متأخر. وقد تمسَّك السَّيِّد أيَّدَهُ اللهُ بمثل هذا في الإجماع، فروى في كتابه عن أبي طالب عليه السلامُ أنَّه قال: إلَّا أن المشهورَ والمعمولَ عليه عند أصحابنا ما يقتضيه أصولُه مِن المنع منه.
قال السَّيِّد أيَّده الله: فقولُه " عند أصحابنا " لفظ عموم يقتضي حكايةَ إجماعهم هذا لفظ السَّيِّد في المسألة الأولى في وضع اليُمنى على اليُسرى، فقد احتججنا على السَّيِّد بما نَصَّ على أنَّه طريق إلى معرفة الإجماعِ وهذا غايةُ الإنصاف، ولم نُوافِقْه على ما ذكره إلاَّ وهو كما قال، لأنَ المؤيَّد عليه السلام لولا أنَّه لا يعلمُ فيه خلافاً بين أصحابنا، لقال: عندَ بعض أصحابنا، أو عند أكثرهم، أو عند كثير منهم، أو عند متأخريهم أو متقدميهم، لكنه عليه السلامُ ترك هذه العبارات التي تُفيد الاختلافَ، وعدل عنها إلى العبارة العامة المستغرقة المفيدة لاجتماعهم على قبولِ كفار التأويل، والواجبُ حمل كلام العلماء على ظاهره، لا سيّما وقد قال أخوه السيد أبو طالب عليه السلامُ ما لفظه: ومن يُجيزُ شهادَتهم يذهب إلى أن الإجماعَ قد حصل في قبول شهادتهم وخبرهم، ذكره في " اللمع " وغيره فهذه رواية من أبي طالب عن أخيه المؤيَّد بالله عليه السلامُ أنَّه يذهب إلى أن الإجماعَ قد حصل على قبولِ خبرهم وشهاداتهم، فبيَّنَ بهذا أن الظاهر من كلام المؤيَّد بالله عليه السلامُ أنَّه يذهب إلى أن الإِجماعَ قد حصل على قبولِ خبرهم وشهاداتهم، فتبيَّن بهذا أن الظاهرَ مِن كلام المؤيد بالله عليه السلام دعوى إجماعِ (1) العِترة، وهو حجة ظاهرة.
الطريق الرابعة: طريقُ السَّيِّد الإمام أبي طالبِ عليه السلام، فإنه قال في كتاب " المجزىء " ما لفظُه: والذي يَعْتمِدُهُ الفقهاءُ في نصرة
__________
(1) في (ب): دعوى الإجماع.(2/323)
المذهب الأول -يعني قبولَ المتأولين- هو الرجوعُ إلى إتِّفاقِ الصحابة والتابعين على ذلك قالوا: لأن المعلومَ مِن حالهم أنهم كانوا يُراعون في قبول الحديث والشهادة الإِسلامَ الذي هو إظهارُ الشهادتين، والتنزّه عمَّا يُوجب الجرحَ، وُيسقِطُ العدالةَ من أفعالِ الجوارح دونَ أمر المذاهب، وأنهم كانوا مجمعينَ على التسوية بين الكل فيمن هذه حاله في قبول شهادته وحديثه مع العلْمِ باختلافهم في المذاهب، وهذه حكايةٌ من أبي طالب عليه السَّلامُ عن جميع الفقهاء أنَّهم ادَّعوا العلم بالإجماع.
ولما فرغَ مِن الحكاية أرادَ عليه السَّلامُ أن يُحَرِّرَ دعواهم للإجماع بِأفْصحَ مِن عبارتهم، ويقَرِّرَ مَا رَوَوهُ بأوضح مِن دلالتهم، فقال عليه السلام ما لفظُه: وُيمكن أن يُزاد في نصرة هذه الطريقة أن يقال: إنَّه لا إشْكَال في حدوثِ الفسق في أواخر أيَّامِ الصحابة فيما يتعلَّق بالاعتقاد، كمذهب الخوارج، وفيما يتعلق بأفعال الخوارج كفعل (1) البُغاة، والمعلوم من أحوال جماعتهم أن شهادتَهم كانت تُقْبَلُ وأخبارُهم لا تُرَدُّ، ولو رد ذلك لكان ينقل الرد كما نُقِلَ سائرُ الأحوال المتعلقة بمنازعة بعضهم لبعض. ثم تكلَّم عليه السلامُ في ما يُجاب به، وما ينقض به تلك الأجوبة على منهاج أهل النظر والإنصافِ من غير تجريح على المخالف، ولا دعوى لِوضوح (2) دليله في المسألة حتَّى لا يخفى على أحدٍ، كما فعل السَّيِّد أيده الله، ولم يَرْضَ بعبارتهم في دعوى الإِجماع حتى هذَّبها، فأحسنَ تهذيبَها، وحرَّرها فأجاد تحريرَها، وختَمَ كلامَه في المسألة بأن قال: والمسألةُ محتمِلَةٌ للنظر. ولم يقل كما قال السَّيِّدُ -أيَّده الله-: إن المسألة قطعيةٌ، وإن الحق معه دون
__________
(1) في (ب): كأفعال.
(2) تحرفت في (ب) إلى: " لو صرح ".(2/324)
غيره، وإن دليلَه لا يخفي على أحدٍ من العُقلاء. وسيأتي كلامُ أبي طالب عليه السلامُ الذي أورده في دعوى الإجماع.
فإن قلْتَ: كيف تروي الإجماعَ مِن طريق أبي طالب، وهو متوقف في صحته؟
قلتُ: إنَّما قصدتُ التمسك برواية الإجماعِ عن الفقهاءِ من طريقه عليه السلامُ، فإنَّه قد روى عن الفقهاء بأسرهم أنَّهم رَوَوا الإجماعَ، وهو عليه السلامُ ثقة، والفقهاءُ ثقات أيضاًً.
الطريق الخامسة: طريقُ القاضي زيد (1) رحمه الله تعالى، وذلك ما رواه الأمير الحسين بن محمد (2) رحمه الله في كتاب " التقرير " فإنَّه قال فيه ما لفظُه: وفي " الوافي ": لا بأسَ بشهادة أهلِ الأهواءِ إذا كان لا يرى أن يَشْهَدَ لموافقه بتصديقه وقبول يمينه تجريحاً.
قال القاضي زيدٌ رحمه الله: وذلك لأنَّ الإجماعَ قد حَصَلَ على قبول خبرهم، فجاز أن تُقْبَلَ شهادتُهم، هذا كلامُ القاضي زيد رحمه الله وهو نظيرُ كلامِ المنصور بالله عليه السَّلامُ في " المهذَّب " في تخصيص دعوى الإِجماع بقبول الأخبارِ دونَ الشهادة، وقياس الشهادة عليها، وكثيرٌ مِن العلماء ادَّعى الإجماعَ على قبول الشهادة والأخبار معاً، كما هو بَيِّنٌ فيما نقلناه عنهم، وكلامُ القاضي زيد يَعُمُّ الكفارَ والفُسَّاقَ، فكيف وإنَّما
__________
(1) انظر فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء ص 264 - 265.
(2) هو الأمير الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى، من نسل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسن، فقيه من علماء الزيدية من بيت الإمامة، له تآليف كثيرة أشهرها: " شفاء الأوام في التمييز بين الحلال والحرام "، و" الأجوبة العقيانية على الأسئلة السفيانية "، تُوفِّي سنة (662) هـ. انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية ": 85 - 89، و" الأعلام " للزركلي 2/ 255 - 256.(2/325)
كلامُنا في هذه المسألة في الفساق فقط.
الطريق السادسة: طريقُ الفقيه العلامة عبد الله بن زيد، فإنه قال:
-وقد ذكر (1) فاسقَ التأويل وكافره- والمختارُ: أنه يُقبل خَبَرُهُما متى كانا عَدلَيْن في مذهبهما، وهو قولُ طائفة من العلماء، قال: والذي يَدُلُّ على صحة قولنا أن الصحابة أجمعت على ذلك، وإجماعُهم حجة. إلى قوله ما لفظه: يُبيِّنُ ذلك وُيوضحه أن من عرف الأخبارَ، وبحث عن السِّيَرِ والآثار، عَلِمَ أنهم أجمعوا على ذلك، ولهذا، فإنهم كانوا يقبلون الأخبارَ بينهم في حال الفتنة وبعدَها، ولا يُمَيِّزونَ بينَ ما وقع قبل الفتنة وبعدَها، وبذلك جرت عادة التابعين، فإنَّهم كانوا ينقلون الأخبارَ عن الصحابة من غير تمييز لما رُوِيَ قبل الفتنة وبعدَها. تم بلفظه من " الدرر المنظومة ".
الطريق السابعة: طريق الشيخ أبي (2) الحسين محمد بن علي البصري، فإنَّه قال في كتاب " المعتمد " (3) بعد ذكر حجة من رَد خبر المتأولين ونقضِه لكلامهم، وجوابه عليهم إلى أن قال: وعند جُلِّ الفقهاء أن الفسقَ في الاعتقادات لا يمنع مِن قبول الحديثِ، لأن مَنْ تقدم قد قَبِلَ (4) بعضُهم حديثَ بعضٍ بعد الفُرْقَة، وقَبِلَ التابعون روايةَ الفريقين من السلف، ولأنَّ الظن يقوى بصدقِ مَنْ هذه سبيلُه إذا كان متحرجاً إلى قوله:
وأما الكفر بتأويل، فذكر قاضي القضاة -أيَّده الله- أنَّه يمنع مِن قبول الحديث قال: لاتفاق الأمة على المنع مِن قبول خبر الكافر، قال:
__________
(1) في (ب): وقد ذكرنا.
(2) في (ب): أبو.
(3) 2/ 134 - 135.
(4) تصحف في (ب) إلى: " قيل ".(2/326)
والفقهاءُ إنَّما قَبلُوا أخبارَ من هو كافر عندنا، لأنهم لم يعتقدوا فيه أنَّه كافر.
قال أبو الحسين: والأولى أن يُقبل خبرُ من كفر أو فسق بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرِّجاً، لأن الظنَّ لصدقه غير زائل، وادعاؤه الإِجماعَ على نفي قبولِ خبرِ الكافر على الإطلاق لا يَصِحُّ، لأن كثيراً من أصحابِ الحديثِ يقبلون أخبار سلفنا رحمهم الله كالحسن (1) وقتادة (2) وعمرو (3) مع علمهم بمذهبهم وإكفارِهم مَنْ يقول بقولهم، وقد نصُّوا على ذلك.
__________
(1) هو الحسن بن أبي الحسن البصري يسار، أبو سعيد، مولى زيد بن ثابت الأنصاري المتوفَّى سنة (110) هـ. كان رحمه الله -كما وصفه ابن سعد- جامعاً، عالماًْ، رفيعاً، فقيهاً، ثقة، حجة، مأموناً، عابداً، ناسكاً، كثير العلم، إلا إنَّه مع جلالته -كما يقول الذهبي- مدلس، ومراسيله عن الضعفاء ليست بذاك. وقال أبو سعيد بن الأعرابي: كان يجلس إلى الحسن طائفة من هؤلاء، فيتكلم في الخصوص حتى نسبته القدرية إلى الجبر، وتكلم في الاكتساب حتى نسبته السنةُ إلى القدر، كل ذلك لافتنانه، وتفاوت الناس عنده، وتفاوتهم في الأخذ عنه، وهو بريء من القدر، ومن كل بدعة، وقد روى له الجماعة. " سير أعلام النبلاء " 4/ 563 - 588.
(2) هو قتادة بن دِعامة بن قتادة بن عزيز، حافظ العصر، وقدوة المفسرين والمحدثين، أبو الخطاب السَّدوسي البصري الضرير الأكمة، المتوفَّى سنة (118) هـ، كان من أوعية العلم، وممن يُضرب به المثل في قوة الحفظ، خرَّج حديثَه الجماعة. قال الإمام الذهبي: هو حجة بالإجماع إذا بيَّن السماع، فإنه مدلس معروف بذلك، وكان يرى القدر، نسأل الله العفو، ومع هذا فما توقف أحد في صدقه، وعدالته، وحفظه، ولعل الله يَعذِر أمثاله ممن تلبَّس ببدعة يريد بها تعظيم الباري وتنزيهه، وبذل وسعه، والله حَكمٌ عدل لطيف بعباده، ولا يُسأل عما يفعل. ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثُر صَوابُه، وعُلم تحرِّيه للحق، واتَّسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعُرف صلاحه وورعه واتباعه، يُغفر له زلَلُه، ولا نُضلِّله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك. " سير أعلام النبلاء " 5/ 269 - 283.
(3) هو عمرو بن عُبيد بن باب الزاهد، العابد، القدري، كبير المعتزلة وأوَلُهم أبو عثمان البصري، جالس الحسن البصري، وحفظ عنه، واشتهر بصحبته، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة، فقال بالقدر ودعا إليه، وقد ضعفه غير واحدٍ من الأئمة. مات سنة (144) هـ بطريق مكة. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 6/رقم الترجمة (27).(2/327)
وقول أبي الحسين: " على الإِطلاق " يعني أنَّه لم يقيد ذلك الكفر المجمع على ردِّ صاحبه بالكفر المخرج عن المِلَّةِ.
الطريق الثامنة: طريقُ الشيخ العلاّمة الحاكم أبي سعد المحسن بن محمد بن كرامة رحمه الله تعالى، فإنه قال في كتابه " شرح العيون " ما لفظُه: الفاسقُ مِن جهة التأويل يُقبل خبرُه عند جماعة الفقهاء وهو قولُ أبي القاسم البلخي، وقاضي القضاة، وأبي رشيد.
وقال أبو علي وأبو هاشم: لا يُقبل، ووجهُ ذلك إجماعُ الصحابة والتابعين، لأن (1) الفتنة وقعت وهُمْ متنافرون وبعضُهم يُحدِّث عن بعض مع كونهم فِرَقاً وأحزاباً مِن غير نكير. يُوضِّحُهُ أَنَّهم مع كثرة الاختلاف والمقاتلة، وسفكِ الدماء وكانت الشهادات مقبولةً، فلم يَرُدَّ أحدٌ شهادةً لأجل مذهب مع معرفتهم بالمذاهب، وذلك إجماعٌ منهم على قبول الشهادة، كذلك الخبرُ، ويدل عليه أن علياً وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم اختلفوا وتقاتلُوا، ثم لم يَرُدَّ بعضُهم خبرَ بعض، ولم يَردُّوا خبرَ عبدِ الله بن عمرو يعني ابنَ العاص لِكونه مع معاوية، ولأنَّه مع تلك الاعتقادات مُتنَزَّهٌ عن الكذب وُيحرمه، بل ربما كَفَّرَ مَنْ كذب كالخوارج، فوجب أن يُقبل خبرهم، ولأن الخطأ بالتأويل يُزيل التهمة وتعمدَ الكذب بخلاف الفسق من جهة ارتكاب المحظورات مِن غير تأويل وهذا على ما روي عن بعضهم أنَّه سُئِلَ عن شهادة الخوارج، فقال: شهادة من يُكفر بكذبه أولى مِن شهادة من لا يرى ذلك، احتجُّوا بأن الفسقَ مِن جهة الفعلِ يُوجب رَدِّ الخبر، فَمِنْ جهة الاعتقاد أولى.
__________
(1) في (ب): على أن.(2/328)
والجوابُ: أن مَنِ ارتكب محظورَ دينه لا يُفرق أن يكذب في خبره وشهادته بخلاف الاعتقاد، لأن تأويلَهُ يُزيل التُّهمة.
فإن قيل: لو ارتكبه مع العلمِ، أثَّرَ في خبره، فمعَ الجهل أولى، لأنهما (1) معصيتان.
قلنا: مع الجهل والتأويل رباطُ التمسك بالدِّيانة لم يَنْحَلَّ، فإذا أقدم مع العلم فقدِ انحلَّ، يُوضحه مَن استخفَّ بأبيه مع العلم لا يكونُ كمن استخفَّ وهو لا يعلم أنَّه أبوه، وكذلك مَنْ كشف عورتَه بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لا يعلمُه لا يكون (2) كمن كشف وهو يعلمُه، لأنَّه يكفر. إلى قوله: فأما الفتوى، فأبو القاسم جرى على أصله، وقال: يُقْبَلُ خبرُه وفتواه إذا كان مِن أهل الاجتهاد، والشيخان مرَّا على أصلهما، وقالا: لا يُقبل خبره ولا فتواه، والقاضي فرق بينهما.
قلتُ: وكذلك الإمامُ يحيى بنُ حمزه، فإنه اختار في " المعيار " أنه يجوز قبولُ فتواهم مثلَ قول أبي القاسم البلخي.
الطريق التاسعة: ما ذكره صاحبُ " شفاء الأوام " رحمه الله في كتاب الوصايا في باب ما يجوز من الوصية وما لا يجوز، فإنه قال فيه ما لفظه: وقولُنا إنَّ الوصية لا تجوزُ إلى الفاسقِ يُريدُ الفاسقَ المجاهر، فأما الفاسق مِن جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءَته في النكاح كما تقدم، ويُقبل خبرُه الذي يجعله أصلاً للأحكام الشرعية لإجماعِ الصحابة رضي الله عنهم على قبولِ أخبار البغاة على أميرِ المؤمنين عليه السلام، وإجماعُهم
__________
(1) في (ب): لأنها، وهو خطأ.
(2) في (ب): ليس.(2/329)
حجة. انتهي بحروفه (1).
الطريق العاشرة: طريق الشيخ أحمد بن محمد الرصاص، فإنَّه قال في " الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ الزيدية في هذه الأعصار ما لفظه: واختلفُوا في قبول الفاسق مِن جهة التأويل، فذهب الفقهاءُ بأسرهم أنَّه يُقْبَل خبرُه، وهو قولُ القاضي، وأبي رشيد. إلى أن قال:
وجه ما قاله الفقهاء إجماعُ الصحابة على قبولِ خبر الفاسق المتأوِّل، فإن الفتنة لما وقعت في الصحابة، ودارت رحاها، وشبَّت لظاها، كان بعضُهم يُحَدِّثُ عن بعض، وُيسندُ الرجل إلى من يخالفه كما يُسندُ إلى من يُوالفه من غير نكير من بعضهم على بعض في ذلك، فكان إجماعاً إلى أن قال: ولأن من يقول: من كذب كفر، أولى بالقبول ممَّن لا يرى ذلك وإن كان مخطئاً في قوله هذا، لأنَّه يَبْعُدُ الظن لكذبه (2)، ويقرب صدقه ... إلى أن (3) قال: ويجيء عليه رواية كافر التأويل كالجبري وهو اختيار أبي الحسين.
الطريقُ الحادية عشرة والثاثية عشرة: طريقا الشيخين أبي محمد الحسن بن محمد بن الحسن الرصاص (4)، والشيخ أبي عمرو عثمان بن عمر بن الحاجب.
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: بحراوفه.
(2) في (ش): بكذبه.
(3) " إلى أن " لم ترد في (ب).
(4) هو الحسن بن محمد بن الحسن بن الحسن بن أبي بكر الرصاص، المتوفى سنة (584) هـ، وهو من شيوخ الزيدية، ومن مؤلفاته " الاعتبار لمذاهب العترة الأطهار " و" المؤثرات ومفتاح المشكلات " وكلاهما في دار الكتب المصرية. " تراجم الرِّجال " ص 11، و" الأعلام " للزركلي 2/ 214.(2/330)
فأمَّا طريقُ الشيخ الحسن، فذلك ما نقله عنه حفيده الشيخ أحمد بن محمد بن الحسن في كتاب " غرر الحقائق من مسائل الفائق ".
قال الشيخ أحمد في كتابه " الغرر " المنتزع مِن كتاب " الفائق " ما لفظه: حكى رضي الله عنه قبولَه عن الفقهاء، والقاضي أبي رشيد إلا أن يُعْلَمَ أنَّه ممن يستجيزُ الكذبَ كالخطابية، وهو الذي مالَ إليه أبو الحسين البصري وأجراه والكافرَ المتأوِّلَ مجرىً واحداً، وهو الظاهرُ مِن قول الفقهاء، واحتجاجُ الكُلِّ على قبول خبرِ الفاسق المتأول قائمٌ في الكافر المتأول وإن لم يُصرح به في الكتاب .. إلى قوله:
وجهُ القولِ الأول إجماعُ الصحابة على قبوله، وإجماعهم حجة، أما أنهم أجمعوا، فذلك معلوم من ظاهر أحوالهم لِمَنْ تصفح أخبارَهم، واقتصَّ آثارَهم، وذلك أنَّ الفتنة لما وقعت فيهم، وتفرَّقوا فرقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهي الأمرُ بينهم إلى القتل والقتال، كان (1) بعضهم يروي عن بعض مِن غير مناكرة بينهم في ذلك. وساق مثلَ كلام المنصورِ بالله عليه السلامُ، وقال كما قال المنصور: وإذا كان الأمرُ كما ترى، فإن مَنْ يقول: من كذب، كفر، أولى مِن رواية من يقول: من كذب، فسق. إلى آخر كلام المنصور المتقدم.
ثم أورد حُجَحَ الرَّادِّينَ وأجابها ونقضها، وأطال الكلامَ في ذلك. فهذه رواية الشيخ أحمد عن جده.
وأما روايةُ ابنِ الحاجب، فهي معروفة في " المنتهي " (2) وقد أوردها السَّيِّدُ في كتابه، لكن ابن الحاجب رواها عمَّن يقبلُ المتأولين، ثم
__________
(1) في (ب): وكان.
(2) 2/ 62.(2/331)
اعترضها، وقد مَرَّ جوابُ اعتراضه.
الوجه الثاني: مما يدل على صِحة دعوى الإجماعِ هذه أنَّها دعوى صدرت مع القرائن الشاهدة بصدقها، وقد ذكر العلماءُ أن خبرَ الواحد مع القرائن يُفيدُ العلم، فكيف بخبر الجمِّ الغفيرِ من الأئمة الأعلامِ، وجميعِ فقهاء الإسلام إذا انضمَّ إلى القرائن العظيمة.
فإن قلتَ: وما تلك القرائنُ؟
قلتُ: اشتهارُ الرواية عن المتأولين قديِماً وحديثاً مع الموافق والمخالف من غير نكير، أما قديماً، ففي عصر الصحابة وهذا هو الإجماعُ الذي ادَّعاه هؤلاء الثقاتُ، وقد مَرَّ تقريرُه، وأما حديثاً -وهو الذي أردنا تأكيدَ ذلك الإجماع به- فإنَّ الناسَ ما زالوا يقرؤون كتبَ المخالفين، ويروون منها (1) في شرق الأرضِ وغربها (2)، فالزيديةُ يروون عن المخالفين في تصانيفهم، ويدرسون كتبَ المخالفين في مدارسهم، ألا ترى أن المعتمد في الحديث في التحليل والتحريم في كتب الزيدية هو " أصولُ الأحكام " (3) للإمام المتوكِّل على الله أحمد بن سليمان (4) عليه
__________
(1) في (ب): عنها.
(2) في (ب): ومغاربها.
(3) واسمه الكامل: " أصول الأحكام في الحلال والحرام وما تبعها من الأحكام ". منه عدة نسخ في المكتبة الغربية بالجامع الكبير، انظر وصفها في " الفهرس " ص 50، ومن مؤلفاته أيضاً: كتاب " الزاهر " في أصول الفقه، و"حقائق المعرفة" في الأصول والفروع.
(4) هو أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر، شمس الدين، الإمام المتوكل على الله ابن الهادي عليه السلام، ظهر في أيام حاتم بن عمران سنة (532) هـ، ودعا الناس إلى بيعته بالإمامة، فبايعه خلق كثير، وملك صعدة ونجران وزبيد، ومواضع أخرى من الديار اليمنية، ونشبت بينه وبين حاتم حروب، ثم تمَّ الصلحُ بينهما على أن يكون لكل منهما ما في يده من بلاد وحصون، وكانت له مع الباطنية حروب، وأضرَّ بأخرة، وتُوفِّي بحيدان من بلاد خولان. " بلوغ المرام " ص 39 و406، و" تراجم الرِّجال " ص 4.(2/332)
السلام وقد ذكر في خطبته أنَّه نقل فيهِ من كتاب البخاري، وكتاب المزني، وكتاب الطحاوي ولم يُبين فيه ما نقله في هذه الكتب عمَّا نقله عن غيرها، وعلماءُ الزيدية وأئمتُهم معتمدون في التحليل والتحريم على الرجوع إلى هذا الكتاب منذ سنين كثيرةٍ، وقرونٍ عديدة، وكذلك " شفاءُ الأوام " صرَّح فيه بالنقل عنهم في غيرِ موضع، وكذلك محمد بن منصور الكوفي مصنف كتاب " علوم آل محمد " الذي يُعرف " بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد " فنقل عنهم، وفيه مِن ذلك شيء كثير، لأنَّه يُسند، وفيه روايتُه عن البخاري نفسِه وصاحب " أصول الأحكام " وصاحب " شفاء الأوام " ينقلان عنه، بل هو مادتُهما وعُمْدَتُهما، والزيدية مطبقون على الأخذ منها، وكذلك " الكشافُ " فإن صاحبَه رحمه الله ممن يستحِلُّ النقلَ عنهم في " كشافه " ولا يُعلم في الزيدية من يتحرى عن النقل عن " الكشاف " وكذلك الحاكمُ (1) قد صرَّح بجواز النقلِ عنهم، واحتجَّ على ذلك بالإجماع، والزيدية مطبقون على الرجوع إلى كتبه مثل تفسيره " التهذيب "، وكتاب (2) " السفينة " وغيرهما، وكذلك المؤيد بالله، والمنصورُ بالله قد صرَّحا بجوازِ الرواية عنهم، ولا يُوجد في الزيدية من لا يقبلُ مرسلَ المؤيَّدِ والمنصور لجواز أن يكونا استندا في الرواية إليهم. فهذا في كتب الحديث والتفسير.
وأما كتبُ الأصول، فالزيدية معتمدون فيها على كتاب أبي الحسين (3) مع أنَّه يقبل فساقَ التأويلِ وكُفَّارَة، وعلى كلام الحاكم في
__________
(1) هو الحاكم الجشمي محسن بن محمد بن كرامة، شيخ الزمخشري، المتوفَّى سنة (494) هـ.
(2) في (ب): وكتابه.
(3) محمد بن علي البصري المعتزلي، المتوفَّى سنة (436) هـ، واسم كتابه " المعتمد ".(2/333)
أصول الفقه، ومُعتَمَدُهم في هذه الأزمان الأخيرة كتابُ الشيخ أحمد " الجوهرة " (1) مع شهرة بغيه على الإِمام الشهيد أحمد بن الحسين، وكتاب " منتهي السول " لأبي عمرو بن الحاجب، فإنه معتمد عليه في هذه الأعصارِ في بلاد الزيدية. وكتبُ الأصولِ، وإن كانت نظريةً، فإن فيها آثاراً كثيرة لا بُدَّ فيها من عدالة الرواةِ، وكذلك ما يتعلق برواية الإجماع الآحادي والألفاظ اللغوية.
وأما كتبُ القراءات فما زال الناس معتمدين على كتاب " الشاطبية " (2) آخذين بما وجدوا فيها ممَّا ليس بمتواترٍ. وأما كتبُ العربية، فلم يزل النحاة من الزيدية يقرؤون مقدمة طاهر وشرحه، وكذلك كتبُ ابن الحاجب في النحو والتصريف (3) مع ما اشتملت عليه من رواية
__________
(1) اسمه الكامل: " جوهرة الأصول وتذكرة الفحول ". منه نسخة في المكتبة الغربية تقع في 81 ورقة كتبت سنة (389) هـ. انظر " الفهرس " ص 328.
(2) نسبة إلى مؤلفها الإمام أبي محمد القاسم بن فيرة الرعيني الشاطبي المقرىء الضرير، المتوفَّى سنة (590). والشاطبية: قصيدة لامية من بحر الطويل في القراءات السبع، سماها " حرز الأماني ووجه التهاني "، وعدة أبياتها ألف ومئة وثلاثة وسبعون بيتاً، ومطلعها:
بدأتُ ببسمِ اللهِ في النظم أوَّلا ... تباركَ رحماناً رحيماً وموْئلا
ولها شروح كثيرة، من أحسنها شرح أبي شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي المتوفَّى سنة (665) هـ، المسمى " إبراز المعاني من حرز الأماني "، وهو مطبوع. انظر " معرفة القراء " 2/ 573 رقم الترجمة (531).
(3) وهما " الكافية " في النحو، و" الشافية " في الصرف، وقد تولى شرحهما أفضلُ المحققين العالم العلامة محمد رضي الدين بن الحسن الاستراباذي، وقد قال السيوطي عن " شرح الكافية ": لم يؤلف عليها، بل ولا في غالب كتب النحو مثله جمعاً وتحقيقاً وحسن تعليل، وقد أكبَّ الناس عليه، وتداولوه، واعتمده شيوخ العصر فمن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم.
وقد خرَّج شواهدَهما، وشرحها شرحاً وافياً بحيث لم يدع زيادة لمستزيد العالمُ الأديبُ عبد القادر بن عمر البغدادي المتوفَّى سنة (1093) هـ، سمى الأول مهما " خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب "، وقد طبع أخيراً في أحد عشر جزءاً بتحقيق عبد السلام هارون، والثاني -ويقع في مجلد- قد تم طبعه بتحقيق الأساتذة محمد نور الحسن، ومحمد الزفاف، ومحمد محيي الدين عبد الحميد.(2/334)
اللغة والإعراب.
وأما المعاني والبيان، فالمعتمدُ عليه في هذه الأزمان الأخيرة كتاب " التلخيص " (1) في ديار الزيدية " وغيرها وهو من رواية الأشعرية.
وبعدُ، فهذه خزائنُ الأئمة مشحونة بكتب المخالفين في الحديث والفقه والتفسير والسِّيرِ والتواريخ، مشيرة إلى نقلهم عنها، واستنادهم إليها، فمنهم مصرحٌ بذلك في مصنفاته، وتكرر منه كالمنصور بالله عليه السلام، والسيد أبي طالب، والمؤيَّد باللهِ، فإنَّ أبا طالب يروي في " أماليه " عن شيخه في الحديثِ الحافظِ الكبير أبي أحمد عبدِ الله بن عدي (2) يُعرف بابن عدي وبابنِ القطان أيضاًً وهو صاحبُ كتاب " الكامل " في الجرح والتعديل، وأحد أئمة الحديث في الاعتقاد والانتقاد، وتراه إذا روى عنه، وصفه بالحافظ دونَ غيره، ومِنْ طريقه روى حديثَ النعمان بن بشير في الحلال والحرام والمتشابه (3) وهو الحديث الجليل الذي وصف
__________
(1) لمؤلفه محمد بن عبد الرحمن بن عمر القزويني، المعروف بخطيب دمشق من أحفاد أبي دُلَف العجلي المتوفَّى سنة (739) هـ، وكتابه مشهور متداول، وقد لخصه من " مفتاح العلوم " للإمام أبي يعقوب بن أبي بكر محمد بن علي السكاكي المتوفَّى سنة (626) هـ. وهو من أجل المختصرات فيه. مترجم في " طبقات الشافعية " 9/ 158.
(2) هو الإمام الحافظ الناقد الجوّال أبو أحمد عبد الله بن عدي بن عبد الله بن محمد بن مبارك الجرجاني المتوفَّى سنة (365) هـ، مترجم في " سير أعلام النبلاء "16/ 154 - 156، وقال السخاوي في " الإعلان بالتوبيخ " ص 586: كامله أكمل الكتب المصنفة قبله وأجلها، ولكن توسع لذكره كل من تُكُلِّمَ فيه؛ وإن كان ثقة، مع أنَّه لا يحسن أن يقال: الكامل للناقصين. ومما يؤخذ به ابن عدي طعنه في الرجل بحديث مع أن آفته الراوي عن الرجل دون الرجل نفسه، وقد أقرَّ بذلك الإمام الذهبي في مواضع من "الميزان". قلت: وكان -مع حفظه وإتقانه- كثير اللحن يظهر ذلك جليّاً في كتابه " الكامل "، وقد طُبع أخيراً في سبعة أجزاء طبعة غير محررة.
(3) ونصه بتمامه: " إن الحلال بين، وإن الحرامَ بين، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام؛ =(2/335)
بأنه ربع الإسلام مع أن النعمان من أشهر البُغاة على أمير المؤمنين وأهلِ بيته عليهم السلام، وكذا حديث " إنَّ هذا العِلْمَ دينٌ فانظروا عمن تأخذون دينَكم " (1)، وكذلك شيخُ المؤيَّدِ بالله (2) في الحديث هو الحافظُ الكبير محمد بن إبراهيم الشهير بابن المقرىء (3) وعامةُ رواية المؤيَّد بالله للحديث في " شرح التجريد " عنه عن الطحاوي الحنفي، وكذلك أبو العباس الحسني قد روى عن إمامِ المحدثين وابن (4) إمامهم صاحب " الجرح والتعديل " عبد الرحمان بن أبي حاتم (5) عن داود الثقفي (6) هو ابن يزيد أحد المجاهيل عن أبي داود الطيالسي أحد أئمة الحديث على كثرة أوهامه (7) عن
__________
= كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مُضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ". أخرجه أحمد 4/ 267 و269 و270 و271، والبخاري (52) و (3051)، ومسلم (1599)، وأبو داود (3329) و (3330)، والنسائي 7/ 241، وابن ماجة (3984)، والترمذي (1205)، والبغوي، في " شرح السنة " (2031)، وأبو نعيم في " الحلية " 4/ 270 و336، و5/ 105، وابن المستوفي في " تاريخ اربل " 1/ 147 و204، كلهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، وقد توسع الإمام الشوكاني في شرح هذا الحديث في رسالة سماها " تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام "، وهي مطبوعة في مصر باسم " كشف الشبهات عن المشتبهات ".
(1) تقدم في الصفحة 234 من هذا الجزء أنَّه ليس بحديث، وأنه من كلام محمد بن سيرين.
(2) هو أحمد بن الحسين بن هارون المتوفَّى سنة (421) هـ.
(3) المتوفَّى سنة (381) هـ، مترجم في " السير " 16/ 398 رقم الترجمة (288).
(4) سقطت من (أ).
(5) انظر ترجمته مع أبيه في " السير " 13/ 247 - 263.
(6) ترجمه ابن أبي حاتم 3/ 428، ونقل عن أبيه قوله فيه: شيخ مجهول.
(7) هذه مبالغة من المؤلف، فأبو داود الطيالسي -واسمه سليمان بن داود- حافظ كبير، وصاحب مسند، وقد أثنى عليه غير واحد من الأئمة، ووثقوه، واحتجوا بحديثه، إلا أنه -كما يقول الذهبي-: أخطأ في عدة أحاديث؛ لكونه كان يتكل على حفظه، ولا يروي من أصله، وقال ابن سعد في " الطبقات " 7/ 298: ثقة كثير الحديث ربما غلط، تُوفي بالبصرة سنة ثلاث ومئتين، وهو يومئذ ابن ثنتين وسبعين سنة. انظر ترجمته في " السير " 9/ 378 - 384.(2/336)
سهل بن شعيب، عن عبد الأعلى، عن نوفٍ هو البكالي ابن امرأة كعب (1).
وخرَّجه عن أمير المؤمنين علي عليه السلام بحديثه الطويل، وخرجه أبو عبد الله السَّيِّد الجرجاني من طريق أبي داود الطيالسي عن سهل بن شعيب به.
وأما أحمد بن عيسى بن زيد، فعامة حديثه في " أماليه " عن حسين ابن علوان، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد، فإن كان حسين بن علوان هو الكلبي -وهو الظاهر- فهو متكلم عليه كثيراً (2)، وكذلك أبو خالد.
وأما السَّيِّد أبو عبد الله الجرجاني، فروى عن محمد بن عمر الجِعابي (3) من غير واسطة، وعن الطيالسي بواسطة كما مر في حديث نوف البكالي وهو كثيرُ التسامح في الراوية حتى إنَّه روى في " سلوة العارفين " عن أبي الدنيا (4) الأشج المشهور بالكذب على أمير المؤمنين فإنه
__________
(1) هو نوف بن فضالة الحميري البكالي ابن امرأة كعب الأحبار، ذكره خليفة بن خياط في الطبقة الأولى من الشاميين، وقع ذكره في حديث سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب في قصة موسى والخضر عند البخاري (122)، ومسلم (2380).
وذكره ابن حبان في " الثقات " 5/ 483، وقال: كان يروي القصص، وأورده ابن أبي حاتم 8/ 505، ولم يِذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
(2) في " ميزان الاعتدال " 1/ 542: قال يحيى: كذاب، وقال علي: ضعيف جدّاً، وقال أبو حاتم والنسائي والدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن حِبَّان: كان يضع الحديث على هشام وغيره وضعاً، لا يحل كَتْبُ حديثه إلا على جهة التعجب، وأبو خالد الواسطي، يقال: اسمه عمرو، ضعفه أبو حاتم.
(3) هو الحافظ البارع العلاّمة، قاضي المَوْصِل، أبو بكر محمد بن عمر بن محمد بن سلم التميمي البغدادي الجعابي المتوفَّى سنة (355) هـ، مترجم في " سير أعلام النبلاء " 16/ 88 - 92.
(4) واسمه: عثمان بن خطاب أبو عمر البلوي المغربي، أبو الدنيا الأشج، ويقال: ابن أبي الدنيا، قال الذهبي في " الميزان " 3/ 33: طيرٌ طرأ على أهل بغداد، وحدَّث بقلَّةِ حياء بعد الثلاث مئة عن علي بن أبي طالب، فافتضح بذلك، وكذَّبه النقَّاد. قال الخطيب: =(2/337)
ادعى بعد ثلاث مئة سنة أنَّه من أصحابه، وروى عن شيخين عنه.
وروى المؤيَّدُ بالله في " أماليه " عن شيخ، عن عبد السلام عبد الله بن محمد النحوي أحد أئمة السنة، وروى فيها عن شيخين عن يَغْنَمَ (1) بن سالم بن قنبر وضُعّف بل كذبه الأكثرُ، وما وثقه أحد، ومن طريقه روى حديث ركعتي الفرقان.
ودع عنك الأئمةَ المتأخرين كثيراً، فإنَّ قدماء الأئمة (2) ما رَوَوْا إلا عن رجالِ الفقهاء غالباً، فعامةُ أسانيد القاسم عليه السلام في كتاب " الأحكام " تدور على الأخوين إسماعيل وعبد الحميد أبي (3) بكر ابني
__________
= علماء النقل لا يثبتون قوله، ومات سنة سبع وعشرين وثلاث مئة. قال المفيد: سمعته يقول: ولدت في خلافة الصديق، وأخذت لعلي بركاب بغلته أيام صفين، وذكر قصة طويلة، أوردها بتمامها ابن حجر في " اللسان " 4/ 135 - 136 من رواية أبي نُعيم الأصبهاني وغيره، عن المفيد- وهو محمد بن أحمد بن محمد بن يعقوب.
(1) بفتح أوله، وسكون المعجمة، وفتح النون كما في كتب المشتبه، وقد تصحف في (ج) إلى " نعيم "، وقال الذهبي: أتى عن أنس بعجائب، وبقي إلى زمان مالك ... وقال أبو حاتم: مجهول ضعيف الحديث، وقال ابن حبان: كان يضع على أنس بن مالك، وقال ابن يونس: حدث عن أنس، فكذب، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه غير محفوظة. انظر " الكامل " 7/ 2738، و" المجروحين والضعفاء " 3/ 145، و" الميزان " 4/ 459، و" لسان الميزان " 6/ 315.
(2) في (ب): الأمة.
(3) تحرف في (ب) إلى ابن، وأبو بكر كنية عبد الحميد، وقد أثبت فوق إسماعيل خ م ت د ق، وفوق عبد الحميد خ م د س ق، وهي رموز تشير إلى من خرج حديثهما من أصحاب الكتب الستة.
وإسماعيل بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي ابن أخت مالك بن أنس، احتج به الشيخان، إلا أنهما لم يكثرا من تخريح حديثه، ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين، وأما مسلم فأخرج له أقل مما أخرج البخاري، وروى له الباقون سوى النسائي، فإنه أطلق القول بضعفه، وروى عن سلمة بن شبيب ما يوجب طرح روايته، واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: لا بأس به، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: =(2/338)
عبد الله بن أبي أويس عن حسين بن عبد الله (1) بن ضميرة بن أبي ضميرة (2) عن أبيه عن جده.
وعامة رواية أحمد بن عيسى بن زيد عن حسين بن علوان هو الكلبي، عن أبي خالد الواسطي.
وعامة أسانيد الهادي في " الأحكام " عن أبيه عن جده عمن تقدم في
__________
= كان يسرق الحديث هو وأبوه، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان مغفلاً، وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح. قلت: وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقيَ منها، وأن يعلِّمَ له على ما يحدث به ليحدث به، ويعرض عما سواه، وهو مشعر بأن ما أخرجه البخاري عنه هو من صحيح حديثه، لأنَّه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره؛ إلا أن شاركه فيه غيره فيعتبر فيه. انظر " مقدمة الفتح " ص 391.
وعبد الحميد بن أبي أويس عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي أبو بكر الأعشى أخو إسماعيل، وكان الأكبر، وثقه ابن معين، وأبو داود، وابن حبان، والدارقطني، وضعفه النسائي، وقال الأزدي في " ضعفائه ": أبو بكر الأعشى يضع الحديث، فكأنه ظن أنَّه آخر غير هذا، وقد بالغ أبو عمر بن عبد البر في الرد على الأزدي، فقال: هذا رجم بالظن الفاسد، وكذب محض إلى آخر كلامه. قلت: احتج به الجماعة إلا ابن ماجة.
(1) كذبه مالك، وقال أحمد: لا يساوي شيئاً، متروك الحديث كذاب، وعجب من الإمام أحمد يكذبه، ثم يخرج حديثه في " مسنده "، وقال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن حبان: روى عن أبيه، عن جده نسخة موضوعة، وقال أبو زرعة. ليس بشيء أضرب على حديثه، وقال البخاري في " التاريخ الأوسط ": تركه علي، وأحمد، وقال الدارقطني: متروك، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه. انظر " التاريخ الكبير " 2/ 387، و" الجرح والتعديل " 3/ 57 - 58، و" الضعفاء " للعقيلي 1/ 246 - 247، و" المجروحين " 1/ 244، و" الكامل " 2/ 766 - 769، و" الميزان " 1/ 538، و" تعجيل المنفعة " ص 96.
(2) ابن أبي ضميرة ساقطة من (ب). وأبو ضميرة ذكره ابن مندة في الكنى، وسبقه البغوي، ومِنْ قبله محمد بن سعد، ووصفوه بأنه مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قيل: اسمه سعد، وقيل: روح، وقد كتب له النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأهل بيته كتاباًً أوصى المسلمين بهم خيراً. " أسد الغابة " 6/ 177، و" الإصابة " 4/ 111.(2/339)
أسانيد القاسم وربما روى عن (1) ....
وعن أبي الزبير (2) عن جابر، وعن عمرو بنِ شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه (3) كُلُّه في " المنتخب "، وروى في
__________
(1) بياض في الأصول كلها قدر نصف سطر.
(2) هو محمد بن مسلم بن تدرس الإمام الحافظ الصدوق، أبو الزبير القرشي المكي مولى حكيم بن حزام المتوفَّى سنة (128) هـ، أخرج حديثه مسلم في "صحيحه"، وأصحاب السنن، وأخرج له البخاري متابعة، وهو ثقة ثبت، إلا أنَّه مدلس، فيُرَدُّ من حديثه ما يقول فيه " عن " أو" قال " ونحو ذلك، سواء كان حديثه في الصحيح أو غيره، فإذا قال: " سمعت " و " أخبرنا " احتج به، ويحتج بحديثه أيضاً إذا قال: " عن "، مما رواه عنه الليث بن سعد خاصة، لأن الليث جاء أبا الزبير حين قدم مكة، فدفع إليه أبو الزبير كتابين، فسأله الليث: هل سمعت هذا كله من جابر؟ فقال: منه ما سمعت منه، ومنه ما حدثت عنه، فقال له الليث: أعلم لي على ما سمعت، فأعلم لي على هذا الذي عندي.
(3) هو عمرو بن شعيب بن محمد بن صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل الإمام المحدث الثقة، أبو إبراهيم، وأبو عبد الله القرشي السهمي الحجازي، فقيه أهل الطائف ومحدثهم، وكان يتردد كثيراً إلى مكة، وينشر العلم، وقد أكثر من رواية الأحاديث بهذا السند، وهو قوي يحتج به إذا كان الإسناد إليه صحيحاً، فقد نقل الترمذي، عن الإمام البخاري قوله: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن راهويه، وأبا عبيد القاسم بن سلام، وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ما تركه أحد من المسلمين، فمن الناس بعدَهم؟! والمراد بجده هنا: هو عبد الله بن عمرو جده الأعلى، لا محمد بن عبد الله كما توهمه البعض، فحكم على هذا السند بالإرسال، فقد ورد التصريح بتسمية جده عبد الله في غير ما حديث ذكر بعضها الإمام الذهبي في " السير " 5/ 170 - 173، وقال: وعندي عدة أحاديث سوى ما مر يقول: عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، فالمطلق محمول على المقيد المفسر بعبد الله. وكان شعيب صغيراً حين مات أبوه محمد بن عبد الله بن عمرو، فرباه جده عبد الله بن عمرو، وكثيراً ما كان يعبر عن عبد الله بن عمرو بأنه أبوه، والجد أب لا شك فيه، فقد روى البيهقي في " سننه " 5/ 92 عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله بن عمرو بن العاص، وثمت خبر مطول ساقه الحاكم في " المستدرك " 2/ 65 وصححه هو والذهبي، وفيه التصريح بصحة سماع شعيب من جده عبد الله، وروى الحاكم في " المستدرك " 2/ 47 بإسناده عن محمد بن علي بن حمدان الوراق، قال: قلت لأحمد بن حنبل: عمرو بن شعيب سمع من أبيه شيئاً؟ فقال: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو، وقد صح سماع عمرو بن =(2/340)
" المنتخب " (1) عن أبي بكر بن أبي شيبة (2)، وعن عبد الرزاق اليماني (3)،
__________
= شعيب من أبيه، وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو. وروى الدارقطني عنه 3/ 50 نحو هذا، وروى أيضاً عقب ذلك عن أبي بكر النيسابوري، قال: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد صح سماع عمرو بن شعبب، عن أبيه شعيب، وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، ثم روى عن محمد بن الحسن النقاش، عن أحمد بن تميم، قال: قلت لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: شعيب والد عمرو بن شعيب سمع من عبد الله بن عمرو؟ قال: نعم. قلت له: فعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده يتكلم الناس فيه، قال: رأيت علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والحميدي، وإسحاق بن راهويه يحتجون به ....
وقال ابن عبد البر في " التقصي " ص 255: حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده مقبول عند أكثر أهل العلم بالنقل، ثم روى بإسناده عن علي بن المديني، قال: عمرو بن شعيب: هو عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، سمع عمرو بن شعيب من أبيه، وسمع أبوه من عبد الله بن عمرو بن العاص.
وقال البيهقي في " السنن " 7/ 397: وسماع شعيب بن محمد بن عبد الله صحيح من جده عبد الله، لكن يجب أن يكون الإسناد إلى عمرو صحيحاً.
وقد عد الإمام الذهبي في " الميزان " 3/ 268: روايته عن أبيه، عن جده من قبيل الحسن.
(1) جملة " وروى في المنتخب " ساقطة من (ب).
(2) هو الإمام العلم سيد الحفاظ، عبد الله بن محمد بن القاضي أبي شيبة صاحب " المصنف "، و" المسند "، و" التفسير " المتوفَّى سنة (235) هـ. وكتابه " المصنف " طبع في الهند في خمسة عشر مجلداً، مترجم في " السير" 11/ 122 - 127.
(3) هو عبد الرزاق بن همام بن نافع، أبو بكر الحميري مولاهم، الصنعاني، أحد الحفاظ الأثبات، صاحب التصانيف، وثقه الأئمة كلهم إلا العباس بن عبد العظيم العنبري وحده، فتكلم بكلام أفرط فيه، ولم يوافقه عليه أحد، وقد قال أبو زرعة الدمشقي: قيل لأحمد: من أثبت في ابن جريج عبد الرزاق أو محمد بن بكر البرساني؟ ففال: عبد الرزاق، وقال عباس الدوري، عن ابن معين: كان عبد الرزاق أثبت في حديث معمر من هشام بن يوسف، وقال يعقوب بن شيبة، عن علي بن المديني، قال لي هشام بن يوسف: كان عبد الرزاق أعلمنا وأحفظنا، قال يعقوب: كلاهما ثقة ثبت، وقال الذهلي: كان أيقظهم في الحديث، وكان يحفظ، وقال ابن عدي: رحل إليه ثقات المسلمين وأئمتهم، وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأساً، إلا أنهم نسبوه إلى التشيع، وهو أعظم ما ذموه به، وأما في باب الصدق، فأرجو أنَّه لا بأس به، وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة كتبوا عنه أحاديث مناكير، وقال الأثرم: عن أحمد: من سمع منه بعد ما عمي، فليس بشيء، وما كان في =(2/341)
وعن كادح بن جعفر (1)، وعن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس (2) حديث الجمع في السفر.
وروى المؤيَّد بالله في " الأمالي " عن النقاش (3)، عن الناصر الحسنِ بنِ علي، عن محمدِ بنِ منصور، عن الحكمِ، عن سُليمان، عن عمرو بنِ حفص، عن أبي غالب، عن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً في فضل الوضوء، وذكر الدعاء فيه حتى قال في آخره: ثم مسح قدميه، فقال: اللَّهُمَّ ثَبّتْ قَدَمَيَّ على الصِّرَاطِ.
وروى أبو طالب في " أماليه " عن الناصر، عن الكلبي منقطعاً في موضعين.
ويُسند عن الناصر، عن عباد بن يعقوب، عن إبراهيم بنِ أبي يحيى (4) يعني شيخ الشافعي المتكلم فيه حديثين حديثاً في وعيدِ مدمن
__________
= كتبه، فهو صحيح، وما ليس في كتبه، فإنه كان يلقن فيتلقن. " سير أعلام النبلاء " 9/ 563 - 580، " الكامل " 5/ 1948 - 1952، " مقدمة الفتح " ص 419.
(1) ترجمه ابن أبي حاتم 7/ 176، وكناه بأبي عبد الله، وقال: سألت أبي عنه، فقال: كان من العباد، وكان كوفياً، فوقع إلى مصر، فسمع من ابن لهيعة وهو صدوق، وقال أحمد: ليس به بأس.
(2) من رجال " التهذيب " وقد ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، والعقيلي، وابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، وقال ابن عدي في " الكامل " 2/ 761: أحاديثه يُشبه بعضها بعضاً، وهو ممن يكتب حديثه (أي للمتابعة والاستشهاد)، فإني لم أجد في أحاديثه منكراً قد جاوز المقدار والحدّ.
(3) هو محمد بن الحسن بن محمد بن زياد المَوْصلي ثم البغدادي، أبو بكر النقاش المقرىء المفسر المتوفَّى سنة (351) هـ، قال طلحة بن محمد الشاهد: كان النقاش يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص، وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر، وقال الخطيب: في حديثه مناكير بأسانيد مشهورة. مترجم في " السير " 15/ 573 - 576.
(4) هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي مولاهم المدني الفقيه المتوفَّى سنة (184) هـ، اتفقوا على ضعفه إلا الشافعي، فقد كان حسن الرأي فيه، ومع ذلك فإنه إذا روى عنه ربما دلسه، ويقول: أخبرني من لا أتهم. مترجم في " السير " 8/ 450 - 454.(2/342)
الخمرِ، وحديثاً في حكم آخر.
وكذلك عامةُ أسانيدهم متى ذكروها لم يذكروا إلا رجال العامة من الثقات والضعفاء ولا أعلمهم سلسلوا إسناداً بأهل البيت في الحلال والحرام لا يخلطهم أحدٌ من الفقهاء إلاَّ النادرَ الذي لا يُجتزأ به وتأمَّل ذلك، وذلك يقتضي أن مرسلَهم كذلك، إذ لا يُظن أنهم يُسقطونَ مِن سندهم أصحَّ الأسانيد، ولا يُظن ذلك بعاقل دائماً.
ومنهم من صرَّحَ بجواز الأخذ عنهم، ولم يُصرِّحْ بالنقل عنهم مشافهةً وإن أسند إلى من يُسند إليهم كالهادي عليه السلام.
ومنهم مَنْ يرى ذلك ويعلمه، ولا ينهي عنه ولا يُنْكِرُه.
والسيد -أيده الله تعالى- ممن شَدَّدَ في المنع من قبولهم، وغلا في ذلك غلواً منكراً حتى ادَّعى أنَّه حرام على جهة القطع بحيث لا يُعذر مَنْ قبلهم، وإن اجتهد وبذل (1) الوُسع في معرفة الصواب، هذا مع أن السيد -أيده الله- مِنْ أكثرِ الناس روايةً عنهم، واعتماداً على كتبهم، فهو في الحديث يقرأ كتبَهم التي حرم النقلَ عنها، واستدل على أنَّه لا طريقَ إلى صحتها، وزاد على الناس المنع عن عاريتها من الثقات صيانةً لصحتها من تجويز التغيير المستبعد، وهو في تفسيره ناقل مِن تفاسيرهم، راجع إلى تصانيفهم، ولشدة تولُّعِهِ بذلك وحِرْصِه عليه اختصر من " مفاتح الغيب " للرازي تفسيراً للقرآن العظيم، ثم ادخله في تفسيره " تجريد الكشاف "، مع زيادةِ نكت لطاف، وكذلك أدخل تفاسيرَ ابنِ الجوزي الحنبلي (2) وغيرِه من
__________
(1) في (ب): وبلغ.
(2) للإمام العلاّمة جمال الدين أبي الفرج ابن الجوزي، عبد الرَّحمن بن علي البغدادي الحنبلي المتوفى سنة (597) هـ ثلاثة تفاسير: " المغني " وهو أكبرها، و" زاد المسير " وهو =(2/343)
المخالفين في الاعتقاد مع أنَّه قد قرر في كتابه أن الرازي من كفارِ التصريح دعَ عنك التأويلَ.
فهذا من أعظم دليل على أن السَّيِّد سلك في كتابه مسلكَ التعنت والتشديد، وقال بما لم يَعْمَلْ به، فإن كان يعتقد أن الرازي كما قال، فكان ينبغي أن يختصِرَ من تفاسير الباطنية تفسيراً للقرآن العظيم، وأن ينقل خلافَهم في تفسيره كما نقل أقوالَ الأشعرية، وكذلك كان ينبغي أن ينقل خلافَهم في الفقه والفرائض، وقولهم: إن للأنثى مثلَ حظ الذكر. وإن كان لا يعتقد ما قرَّره في كتابه من نسبته للرازي إلى الكفر الصريح، فما ينبغي منه أن يقول ما لا يَعْتَقِدُ، وينهي عما هو عليه معتمد، وإن كان إنما اختصر كتابَ الرازي لغرض غيرِ هذا فكان ينبغي منه أن يُنبه (1) لئلا يغترَّ بذلك مَنْ يراه من المسلمين، فإنه -أيده الله- في محل القدوة، لأنَّه شيبةُ العِترة في هذا الزمان، وكبيرُ علمائهم المتصدر للتعليم (2) في هذه الديار.
وأما كتُبهم في العربية وغيرها، فالسيد لا يزال مُكِبَّاً عليها ملقياً لها كـ " الحاجبية " وشروحها وهو من جملة من شرحها، وكتاب " التذييل والتكميل في شرح التسهيل " لأبي حيان (3)، وكتاب " التلخيص "،
__________
= أوسطها، و" تيسير البيان " وهو أصغرها، والمطبوع منها " زاد المسير "، وقد يسر الله لنا تحقيقه وضبط نصه، والتعليق عليه بمشاركة الأستاذ عبد القادر الأرنؤوط، وقد تم نشره سنة (138) هـ في دمشق الشام المحروسة. وانظر ترجمة ابن الجوزي في " السير " 21/ 365 - 384.
(1) في (ش): يبينه.
(2) ساقطة من (ب).
(3) " التسهيل " للإمام محمد جمال الدين بن عبد الله بن مالك، المتوفى سنة (672) هـ، وهو كتاب جامع لمسائل النحو، لا يند عنه مسألة من مسائله وقواعده، وقد تصدَّى لشرحه غير واحدٍ من أئمة النحو، ومن أجود شروحه " التذييل والتكملة " لمؤلفه نحوي عصره ولغويه ومفسره ومحدثه ومقرئه وأديبه، أبي حيان محمد بن يوسف بن علي الأندلسي الغرناطي =(2/344)
وكتاب " المنتهى " وشروحه، وكتاب " الجوهرة " وغير ذلك، فدل ذلك على صحة إجماع الأمة على الاعتماد على كتب المخالفين مِن الموافق على قبولهم والمخالف. ولم نذكر فعل السَّيِّد للاحتجاج به في الإجماع، فإنَّه لا يصح الاحتجاج بفعلِ منْ صرح بما يُخالف فعله، وإنما يحتج بالفعل إذا لم يُناقضه القولُ كأفعال الأئمة عليهم السلام، وسائِرِ العلماء الأعلام، ولم نذكر فعله في ذلك لبيان المناقضة بين فعله وقوله.
وإنما أحببنا أن نُريه حاجةَ الجميع إلى الرواية عن المتأولين، وأن كلاًّ معتمد عليها محتاج (1) إليها، ألا ترى أنها في خزائن أئمة الزيدية وعلمائهم وعليها خطوطُهم بالسماع أو الإجازة أو (2) نحو ذلك، ومن ملك شيئاً منها منهم، اغتبط به، وصانه، وحَفِظَه، وربما سمعه، كما سمعها المنصورُ بالله عبد الله بن حمزة، وذكر أسانيدَه فيها في كتابه " الشافعي "، وسمعها الإمامُ الناصر محمد بن الإمام المهدي عليهما السلام، والمصنفون من الزيدية ينقلون منها كالمتوكل في " أصول الأحكام " والأمير الحسين في " شفاء الأوام " و" سنن أبي داود " (3) كانت
__________
= المتوفى سنة (745) هـ، صاحب " البحر المحيط " في التفسير، وغيره من المؤلفات. انظر " كشف الظنون " 1/ 405، و" بغية الوعاة " 1/ 280 - 285، و" الوافي بالوفيات " 5/ 267.
(1) في (ب): ومحتاج.
(2) في (ب): و.
(3) لمؤلفه شيخ السنة، مقدم الحفاظ الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، المتوفَّى سنة (275) هـ، وكتاب " السنن " كتاب حافل عظيم، مشتمل على معظم أحاديث الأحكام التي يُحتج بها مع سهولة تناوله، وتلخيص أحاديثه، وبراعة مصنفه، واعتنائه بتهذيبه، وقد رزق القبول من كافة أهل العلم في مختلف الأمصار. قال أبو بكر ابن داسة راوي السنن عن أبي داود: سمعت أبا داود يقول: ذكرت في " السنن " الصحيح وما يقاربه، فإن كان فيه وهن شديد بينته. وقد علق الإمام الذهبي في " السير " 13/ 214 على كلمة أبي داود =(2/345)
عمدةَ الإمامِ يحيى بنِ حمزة وأمر مَن سمعها له، وهي نسخةٌ مسموعة بعناية الإمام المهدي محمد بن المطهر، وهي في خزانة كتبه مما وقفه لله تعالى، وفيها كان سماعي. وكان اللائقُ على كلامك ودعواك على أهل البيت أَن يشتهِرَ في بلادهم وممالكهم تحريقُ هذه الكتب، والضرب الشديد والتعزير لمن قرأ فيها، وإظهار أنها إنما تترك في الخزائن ليعلم كفرُ
__________
= هذه، فقال: فقد وفى رحمه الله بذلك بحسب اجتهاده، وبيَّن ما ضعفُه شديدٌ، ووهنُهُ غير محتمل، وكاسَرَ عن ما ضعفُهُ خفيف محتمل، فلا يلزم من سُكوته -والحالة هذه- عن الحديث أن يكون حسناً عنده، ولا سيما إذا حكمنا على حد الحسن باصطلاحنا المولد الحادث، الذي هو في عُرف السلف يعود إلى قسم من أقسام الصحيح، الذي يجب العمل به عند جمهور العلماء، أو الذي يرغب عنه أبو عبد الله البخاري، ويمشيه مسلم، وبالعكس، فهو داخل في أداني مراتب الصحة، فإنه لو انحطَّ عن ذلك لخرج عن الاحتجاج، ولبقي متجاذباً بين الضعف والحسن، فكتاب أبي داود أعلى ما فيه من الثابت ما أخرجه الشيخان، وذلك نحوٌ من شطر الكتاب، ثم يليه ما أخرجه أحد الشيخين، ورغب عنه الآخر، ثم يليه ما رغبا عنه، وكان إسناده جيداً، سالماً من علة وشذوذ، ثم ما كان إسناده صالحاً، وقبله العلماء لمجيئه من وجهين لينين فصاعداً، يعضد كل إسنادٍ منهما الآخر، ثم يليه ما ضعف إسناده لنقص حفظ راويه، فمثل هذا يمشيه أبو داود، ويسكت عنه غالباً، ثم يليه ما كان بين الضعف من جهة راويه، فهذا لا يسكت عنه، بل يوهنه غالباً، وقد يسكت عنه بحسب شهرته ونكارته، والله أعلم.
وقال الحافظ ابن حجر: إن قول أبي داود: " فإن كان فيه وهن شديد بينته " يُفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد أنَّه لا يبينه، ومن هنا يتبين أن جميع ما سكت عنه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن إذا اعتضد، وهذان القسمان كثير في كتابه جداً، ومنه ما هو ضعيف، لكن من رواته من لم يجمع على تركه غالباً، وكل من هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها كما نقل ابن مندة عنه أنَّه يُخرِّج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره، وأنه أقوى من رأي الرجال.
وقال الإمام النووي: في " سنن أبي داود" أحاديث ظاهرة الضعف لم يبينها مع أنَّه متفق على ضعفها، والحق أن ما وجدناه في سننه مما لم يبينه، ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد، فهو حسن، وإن نص على ضعفه من يعتمد، أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له، حُكم بضعفه، ولا يلتفت إلى سكوت أبي داود.
وإنما ذكرت هذه النقول لدحض ما شاع وذاع بين من لا تحقيق عنده من أن ما سكت عنه أبو داود من الحديث، فهو حسن عنده صالح للاحتجاج.(2/346)
أهلها وكفرُ من صَدّق ما فيها كما يكون ذلك في حفظ بعض كتب الباطنية خذلهم اللهُ تعالى، وسيأتي مزيدُ بيانٍ لهذا عند ذكر المرجحات لذكر ما ورد في كتب الحديث مما يجب تأويلُه، ويُمكِنُ، إن شاء الله تعالى.
الفائدة الثانية: في ذكر ما اعترض به على الإجماع والجوابِ عنه وقد تقدم ذلك حيث أورده السيد، ونزيد ها هنا بيانَ كيفية اختلاف العلماء في نقل الإجماعِ على قبول فاسق التأويل.
واعلم أن العلماء على ضربين: منهم مَنِ ادَّعى العلم بالإجماع على ذلك، ورواه كما قدمنا ذكره، ومنهم منْ شَكَّ في ثبوته وتوقَّفَ، وليس منهم من ادَّعى العلمَ ببطلان الإجماع، ولا فيهم منْ روى عن أحد من الصحابة القول بتحريم قبولِ الفاسق المتأول، وهذا ظاهر في كلامات العلماء.
قال السَّيِّد أبو طالب رضي الله عنه في كتاب " المجزىء " في الاعتراض على من احتجَّ بدعوى الإجماع في هذه المسألة ما لفظه: واعلم أنَّ ما احتج به جمهورُ الفقهاء من الإجماع (1) وإطباقِ الصحابة والتابعين عليه إن كان صحيحاً، فاتباعُهُ واجب، ويكون الصحيحُ هو المذهبُ الأول دونَ الثاني، لأن طريقَ إثبات المذهب الثاني قياسٌ، فإذا اقتضى الإجماعُ خلافَه، وجب اتباعُه، والعدولُ عما أوجبه القياسُ، والذي يُمكِنُ أن يقدم به في ما ادَّعَوْه من الإجماعِ أن يقالَ: مِن أين أنَّ كُلَّ العلماءِ مِن الصحابة والتابعين رأوا قبولَ شهادة الفساق من طريق التأويل وحديثهم، وبماذا عَلِمْتُم إطباقهم على ذلك؟
__________
(1) من قوله " في هذه المسألة " إلى هنا ساقط من (ب).(2/347)
ومما يُمكن أن يُجابَ به عن هذا هو أن يقال: قد علمنا (1) أن في آخرِ أيام الصحابة حدثت مذاهبُ وأفعال أوجبت الفسقَ عند كثيرٍ منهم، كمذاهب الخوارج، وحروبِ مَنْ حارب من البغاة، ولم يُنْقلْ أن أحداً ردَّ شهادة هؤلاء وحديثهم، ولو وقع الرَّدُّ، لنقل حتى قال عليه السلام في الرد على ما ادَّعي من الإجماع: إنَّا لا نعلم قبول الكل منهم لشهادة هؤلاء وحديثهم، والمسألة محتملة للنظر. انتهي كلامه عليه السلام.
وهو ظاهر في أنَّه لم يدفع دعوى الإجماعِ بالعلم ببطلانها بل بين أنظاراً عرضت له أوجبت القدح في العلم بصحة دعوى الإجماع، ولم يُوجب العلم ببطلان دعوى الإجماع، ولهذا قال: إن كان دعوى الإجماع صحيحاً، فاتباعُه واجب، وليس يقول هكذا، وهو يعلم أن الإجماع باطل، وأوضح من هذا قولُه في آخر الكلام: والمسألة محتملة للنظر.
وهو ظاهر في المقصود، ويقوي ذلك أنَّه عليه السلام قد روى عنهم في كتابه " الأمالي " وهذا أمارة مقوية (2) لا حُجَّةٌ مستقلة.
فإذا ثبت هذا، لم يكن في كلام أبي طالب عليه السلامُ اعتراضٌ قادح على من ادَّعى العلم بالإجمْاع من الأئمة عليهم السلامُ، فإن العلمَ فعلُ الله تعالى، وقد يخلقه للبعض دون البعض فيما لا يجب التسويةُ فيه من علوم العقل الضرورية التي يجب أن يشتركَ فيها جميعُ المكلفين، وقد ثبت أن الراوي الجازمَ القاطعَ المدعيَ للعلم بصحة ما روى مقبولٌ متى كان ثقة عدلاً في دينه، وثبت أن روايته لا تُعارض بشك من شَكَّ من العدول في صحة ما روى، وإنما تُعارض بخبر مَنْ هو مثلُه في العدالة متى أخبر أنه يعلم بطلانَ خبره، وتعارض الخبران. ومثال (3) ذلك: لو قال قائل:
__________
(1) " قد علمنا " ساقط من (ب).
(2) في (ش): وهذه أمارة قوية.
(3) في (ب): مثال.(2/348)
إن هذا الشاهد هو فلان بنُ فلان الثقة المشهورُ أعرفه، ولا أشكُّ فيه، وقال آخر: أما أنا، فعندي شكٌّ في هذا، ولا أتحقق أنَّه هذا الذي ذكريت، فإنَّه يعمل على قول مَن علم، وبترك قول مَنْ شكَّ وهذا ظاهر عند أهل العلم، وكذا في غير هذه الصورة من سائر (1) المسائل، كما لو أخبر ثقةٌ بنجاسة هذا الماء أو طهارتِهِ، وشك آخرُ، فالعمل على قول مَنْ أخبر عن العلم واليقين دونَ من شك وتردَّدَ.
وكذلك الإجماعُ قد ادَّعى المنصورُ، ويحيى بنُ حمزة عليهما السلام، وكذلك المؤيَّدُ بالله عليه السلام، والقاضي زيد، وعبدُ الله بن زيد، والفقهاء بأسرهم ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ والإحصاءُ مِن الأصوليين وسائر علماء الطوائف أنَّهم علموا إجماعَ الصحابة والتابعين على قبولِ الفاسق المتأول، وجزموا بالقولِ في ذلك، وقطعوا على حصولِ العلم لهم بهذا الإجماعِ، وأحالوا العلمَ بذلك إلى الاطلاع على التواريخ، وأخبارِ الصحابة كما أشار إليه المنصورُ بالله عليه السلام، وهؤلاء جَمٌّ غفير، وعددٌ كثيرٌ من أهل الفضل والتقوى والورع الشحيح فيما يصدر عنهم من الرواية والفتوى، فخبرهم يُفيدُ العلمَ القاطع، أو الظَّّنَّ الراجح، ومن تمسَّك بروايتهم، واعتمد على تصديقهم، واستند إلى خبرهم، لم يستحق الإنكارَ والتشنيع، ويعترض عليه بأن غيرَهم من الأئمة العلماء شكَّ في دعوى الإجماع، وأورد أسئلة تقطع في طريقهم، فإن لهم أن يُجيبوا بأنَّ العلم يحْصُلُ عند كثرة المطالعة لأخبار الصحابة، والإحاطة بأحوالهم، ولا شَكَّ أن أحوال الناس تخْتَلِفُ في ذلك، وقد يكون بعض أهلِ العلم أكثرَ إطلاعاً مِن بعض في بعضِ المسائل، فيَحْصُلُ له العلمُ
__________
(1) " سائر " لم ترد في (ب).(2/349)
دونَ غيره، فيكون المدعي للعلم صادقاً، والمدعي للشك صادقاً، وكُلُّ أحدٍ أخبر بما يَعْلَمُ مِن نفسه، ولا يُكذّب هذا ولا هذا، كما لو روى هذا خبراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر أنَّه يعلمه، وأخبر غيرُه أنَّه لا يعلمه، صدقناهما معاً.
فقد تبيَّنَ لك بهذا أنا متى قبلنا روايةَ الأئمة: المؤيَّد، والمنصور، ويحيى بنِ حمزة عليهم السلام، وسائرِ من (1) روى ذلك مِن عيون أهل العلم، فقد جمعنا بينَ قبول كلامهم، وقبولِ كلام أبي طالب عليه السلام، وأما لو عملنا على (2) أن كلام أبي طالب مُقَدَّمٌ على روايتهم، لكنا قد نسبنا إليهم ما لا يليق بهم مِن القول بغيرِ علم، والرواية من غير تثبث، وذلك لا يجوز، مع أنَّا سلَّمنا أن أحداً مِن العدول عارض روايتهم معارضةً صريحة (3)، وادعى العلمَ ببطلان الإجماع، لكان لنا أن نُرَجِّحَ روايتهم بوجوه:
أحَدُهَا: كثرتُهُم، فقد ثبت دعوى الإجماع عن الأئمة والعلماء المذكورين، وعن جميع العِصابة العظمى مِن فقهاء الطوائف مع كثرتهم وسَعةِ علمهم، وكثرةِ اطَّلاعهم، فإن هؤلاء الذين ادَّعَوا الإجماعَ مِن أكثرِ العلماء معرفةً بأحوال الصحابة.
وثالثها (4): أنهم مُثْبِتُون، والمُثْبِتُ مقدَّمٌ على النافي للإجماع إلا أن يُثبت خلافاً معيناً عن بعضِ أهل الإجماع وذلك لم يكن، فقد روينا نصَّ
__________
(1) في (ب): " ممن " وهو خطأ.
(2) في (ب): لو علمنا أن كلام ....
(3) في (ب) و (ج): صحيحة.
(4) كذا الأصول: ثالثها، مع أنه لم يرد ذكر للوجه الثاني.(2/350)
أبي طالب عليه السلام على أنَّه لم يَنْقلْ أن أحداً من الصحابة رَدَّ شهادةَ المتأولين ولا حديثهم، ولم يقعِ النزاعُ في أن ذلك نقل، فعدمُ النقل مما لا نزاع فيه.
الفائدة الثالثة: في الإِشارةِ إلى شهرةِ الخلاف في هذه المسألة مِن غير نكير ولا تأثيم، فذلك كثيرٌ شهير لا يُمْكِنُ أن يذكر منه إلا اليسير، لأن أكثر المصنفين في الأصول والفروعِ من أهل الكتب الحافلة، والتواليف الممتعة مِن المتقدمين والمتأخرين لا يذكرون هذه المسألة إلا ويذكرون اختلافَ الخَلف فيها، وكثيرٌ منهم يذكر إجماعَ السلف على القبول للمتأولين كما قدمنا. فإذا عَرَفْتَ أن الخلافَ واسع، فاعلم أنا لا نتعرَّضُ للاستقصاء في ذكر كلام الأئمة والعلماء في ذلك، وإنما نُشير إلى طرفٍ يسير من الخلاف المشهور المذكور في الكتب المتداولة المعروفة عند كثيرٍ من المبتدئين في طلب العلم، وإنما نذكرُه، لأن السَّيِّد أعرض عن ذكره مع التعرض لحكاية الخلاف في الطرفين في المسألة، فلم يذكر السَّيِّد عن أحد من العِترة عليهم السلامُ أنَّه يَقْبَلُ خبرَ المتأولين إلا عن المؤيَّدِ بالله عليه السلامُ كأنَّه لا يعرف هذا القول منسوباً إلى غيره، وما هذا عمل المنصف، ففي كتاب " اللمع " الذي لا يزال السَّيِّد مشتغلاً بدرسه ما لفظه: وفي تعليق الإفادة: ومن بلغ إلى حدِّ الكفر والفسق وكان متأوِّلاً فالعلماءُ مختلفون فيه، والأظهرُ عند أصحابنا أن شهادتَه جائزة، وهو قولُ أبي حنيفة وأصحابِه والشافعي، وعند أبي علي، وأبي هاشم لا تُقبل شهادته، وهذا كالخوارج والمجبرة.
قلتُ: قد قدمنا أن هذه رواية من المؤَّيد عن جميع أهل المذهب من أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم أن الأظهرَ عندهم قبولُ كافر التأويل. قال(2/351)
في " اللمع ": لنا أنَّه لم يرتكب محظوراتِ دينه، فجاز قبولُ شهادته كما إذا كان صحيحَ الاعتقاد، ومن هذه سبيلُه إذا تاب في الحال، يجوزُ قبولُ شهادته، ولا يجب الاستمرارُ، وإنما الخلاف: هل (1) تقبلُ شهادتُه قبل التوبة أم لا؟ وفي شرح أبي مضر: قال م بالله في الإِفادة: مَنْ لم يبلغ في الاعتقاد الكفر أو الفسق، فشهادتهُ جائزة، ومن بلغ إلى هذا الحد -وكان متأوِّلاً- فأكثرُ العلماء مختلفون فيه، فالأظهرُ عند أصحابنا أن شهادتَهَ جائزة إلى آخره، فعلى هذا شهادةُ المجبرة والمشبهة يجب أن تكونَ مقبولة عنده قَدَّس الله روحه، وكذلك عند القاسم، ويحيى عليهما السلامُ يدل على أن الجبرَ والتشبيه من جهة التأويلِ والتدين يُوجب (2) قبولَ شهادتهم، لأنَّه مِن أهل القبلة والشهادة وأهل الكتاب والتَّبَرِّي من الأديان ما عدا (3) دينَ الإسلام، وهذه الأشياء أمارة العدالة من جهة الظاهر، فلا يمنعُ مِن قبول الشهادة.
فإن قيل: من قال بكفرهم من أصحابنا قال: إنهم كالمرتدين، وقد ثبت أن المرتد لا تُقبل شهادته.
قلنا: المرادُ به في بعض الأحكام لا على الإطلاق في جميعِ الأحكام والأحوال.
قال السَّيِّد أبو طالب: وأما شهادةُ أهلِ الأهواء من البُغاة والخوارج، فإنَّ جوازَ شهادتهم لا يمتنعُ أن يُخرج على اعتباره عليه السلام أن تكونَ الملةُ واحدة، لأن هؤلاء كُلَّهُمْ مِن أهل ملة الإسلام، قال: ويُمْكِن أن يخرج من مذهبه عليه السلام أن شهادَتَهم لا تجوز، لأنَّه نصَّ في " الأحكام " على أن مَنْ نَكَثَ بيعةَ إمام زمانه، طُرِحَتْ شهادتُهُ، وهذا
__________
(1) في (ب): " وهل " وليس بشيء.
(2) في (ت) فوجب.
(3) في (ب): " وما عدا " ولا معنى لزيادة الواو.(2/352)
سبيلُ الخوارج والبغاة، ومن يُجيز شهادتهم يذهب إِلى أن الإجماعَ قد حصل في قبول شهادتهم وخبرهم.
قال المؤيَّدُ بالله: من أنكر إمامَه، طُرِحَتْ شهادتُهُ إذا كان لا يقول بإمامته لأجل الفسوق والتهتك، لا لأجل النظر في أمره، والتفكر في أحواله.
وقال المؤيَّدُ مرة: لعلَّه قال ذلك اجتهاداً، ولكنه يضعف عندي إذا كان مستقيمَ الطريقة في سائر أحواله، فإن عُرِفَ منه الفسوقُ بما يقوله، فإني لا أقبلُها. انتهي كلام الأمير في " اللمع " رحمه الله تعالى.
قال القاضي شرف الدين في شرحه للزيادات: معنى قولِه: لعله قال ذلك اجتهاداً، أي: استحساناً، لأن المعلوم أن جميع أقواله اجتهاد.
ومثلُهُ قال الفقيهُ علي بن يحيى في تعليقه: قال مِن غير دليل معيّن.
قلت: قد قال المؤيَّدُ بالله في " الزيادات ": والقولُ بالاستحسان قوي عندي، ولكن ما هذا يَدُلُّ على أن الاستحسانَ هو الاجتهادُ، بل هو بعضُ طرقِ الاجتهاد، ويمكن أن المؤيَّدَ بالله عليه السلامُ أراد أنَّه قال ذلك بالاجتهاد المستند إلى غيرِ النصوصِ الصريحة والله أعلم.
وقال القاضي شرفُ الدين رحمه الله في " تذكرته " ما لفظه: وأما كفارُ التأويل، كمشبِّه ومجسِّم، فتُقبل على كل أحدٍ، كخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحد قولي المؤيَّد بالله وتحصيله، والأكثر، والثاني والناصر، وأبو علي، وأبو هاشم، ورواية أبي جعفر للهادي: لا تَصِحَّانِ، وكذا فاسقُ التأويل كخارجي وباغ غير الخطابية، ومن لم يبلغ خطؤه كفراً أو فسقاً،(2/353)
كمخالف في العوض وإلإرجاء، وتفضيل النبي على الملك، والإمامة مع العدالة في الكل، وفي كتاب مختصر لبعض الخصوم (1) ما لفظه: ولا تَصِحُّ يعني الشهادة منْ أخرسٍ وصبي مطلقاًً، وكافرٍ تصريحاً إلا ملياً على مثلهِ، وفاسق جارحة وإن تاب إلا بعدَ سنة، وفيه ما لفظه: وكُلُّ فعلٍ أو (2) تركٍ محرمين في اعتقاد الفاعلِ التارك لا يُتسامح بمثلهما؛ وقعا جُرْأةً، فجرح.
وقال الفقيه علي بنُ يحيى الوشلي في تعليقه على " اللمع " في قول أبي مضر: فعلى هذا شهادةُ المجبرة والمشبهة يجب أن تكونَ مقبولةً عنده قَدَّسَ الله روحَه، وكذا عند يحيى، والقاسم: ظاهرُ هذا أنَّه رواية عن يحيى، وليس بتخريج.
قال رحمه الله: وهو مذهب المؤيَّدِ بالله وتخريجه، وهو أحدُ تخريجي أبي طالب، وعند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي أن شهادتَهم مقبولة، والتخريج الثاني لأبي طالب، وهو قولُ أبي علي، وأبي هاشم أن شهادتَهم لا تُقبل، والمذكور في " الكافي " ما لفظه: ومن بلغ اعتقادُهُ فسقاً بتأويل إلى قوله لا يُقبل خبرُه وشهادته، وكذلك من كفر بالتأويل، وعند الباقي من السادة يُقبل خبرهما وشهادتهما ذكر ذلك في " التقرير ". انتهى.
وقال في " فائقة الفصول (3) في ضبط معاني جوهره الأصول " في
__________
(1) في هامش (أ) ما نصه: يعني بالخصوم المنازعين للمتأول فيما تأول فيه، فافهم ذلك، إذ كل منازع يقال له: خصم وفي (ش) فوق كلمة " مختصر " ما نصه: هو منن الأزهار، وفوق كلمة " الخصوم ": هو الإمام المهدي، فوق كلمة " ما لفظه ": هذا لفظ " الأزهار".
(2) في (ب): و.
(3) في (ب) زيادة: ما لفظه، ولا معنى لها. وهذا النظم لأحمد بن يحيى بن =(2/354)
شروط خبرِ الواحد ما لفظه:
تَنَزُّه الرَّاوي عَنِ الكَبَائِرِ ... وَتَرْكُ إصْرَارٍ على الصَّغَائِرِ
وَمَا يُضَاهِي لَعِبَاً بِطَائِرِ ... واختَلَفوا في فَاسِقٍ وَكافِرِ
مؤوِّلاً فَغَيْرُنَا لا يَقْبَلُهْ ... وَنَحْنُ لا نَرُدُّ شيئاً يَنْقُلُهْ
وهذا من شهادةِ الخصم لخصمه وهو (1) من أرفع المراتب.
والفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بهِ الأعْدَاءُ.
فإذا ثبت هذا، فقد عَرَفْتَ أن المؤيَّد بالله عليه السلامُ نسب قبول المتأولين إلى جميع أهلِ المذهب الشريف مِن الأئمة وأتباعهم، وروى ذلك عنه في " اللمع " وقرّره ولم يعترضه، فالذي في كتاب " اللمع " أنّ قبولَهم مذهبُنا ومذهبُ القاسم والهادي والمؤيَّد، ولم يذكر فيه عن أحد من العِترة أنَّه نصَّ على تحريمه، لا مِن المتقدمين، ولا مِن المتأخرين، وإنما روي عن أبي طالب أنَّه قال: يُمْكِنُ أن يُخرج للهادي عليه السلام قبولُهُم، ويمكن أن يخرج له رَدُّهُم، وإنما روى في " اللمع " الخلاف في ذلك (2) عن أبي علي وأبي هاشم، ولو كان يَعْرِفُ في ذلك خلافاً للهادي والقاسم، لكانا أحقَّ بالذكر من أبي علي، وأبي هاشم، ويشهد لما (3) ذكرتُهُ مِن أن مذهَبَنَا قبولُهُم قولُه في " اللمع ": لنا أنَّه لم يرتكب محظوراتِ دينه، إلى آخره. فقولُهُ: " لنا " واضح في أن ذلك مذهبُنا لا
__________
= المرتضى اليمني الزيدي الإمام المهدي المولود سنة (775) هـ والمتوفى في سنة (840) هـ، وقد جاء اسم النظم في فهرس المكتبة الغربية ص 347: " نيرة الفصول في ضبط معاني جوهرة الأصول ".
(1) ساقطة من (ب).
(2) " في ذلك " ساقطة من (ب).
(3) تحرفت في (ب) إلى " بما ".(2/355)
مذهبَ لنا سواه، ولم يعترض أحدٌ على صاحب " اللمع " في قوله ذلك، فثبت أن المؤيَّد ذكره لأهل المذهب، ولم يذكر خلافاً، والمنصورُ بالله ذكره في " المهذب " ولم يذكر خلافاً، والأميرُ علي بن الحسين ذكره (1) ولم يذكر خلافاً لأهل المذهب (2)، والفقيهُ عبدُ الله بنُ زيد ذكره ولم يذكر خلافاً، وغيرُ هؤلاء من أهل التعاليق والمذاكرين لم يعترضوا على أحدٍ ممن روى الإجماعَ، ولا ممن روى الخلافَ، ولا شَذَّ واحد في ذلك حتى جاء السيدُ -أيَّده الله- فبالغ في إنكارِ قبولهم، بل الظاهرُ أنَّه -أيَّده اللهُ- كان مقرراً له غيرَ منكر حتى دخلت سنة ثمانٍ وثماني مئة، وعَلِمَ السيدُ أن محمد بنَ إبراهيم اختار القولَ المنصوصَ في " اللمع " المشهور عن الخلف والسلف، فترجَّحَ له تحريمُ هذا القول، والمنع من الخلاف فيه، وجعل هذه المسألة من القطعيات التي يأثم المخالفُ فيها، ويعلم أنه معاند مع أنَّه قبل هذا التاريخ لم يزل يمُرُّ على كلامِ الأمير علي بن الحسين رضي الله عنه في " اللمع " فلا يُنكره، ولا يُنبه التلامذةَ على أنَّه قولٌ باطل، ومذهب قبيح مخالف للأدلة القاطعة، وإنما توفَّرت دواعيه إلى تحريم النزاع في هذه المسألة في حق شخص مخصوص، وما هذا من الإنصافِ، فالله المستعان.
الحجة الثانية: إجماعُ العِترة عليهم السلام، وذلك أنَّ المنصورَ باللهِ والإمامَ يحيى بنَ حمزة، وغيرَهما ممن سبق أنّه ادعى إجماعَ الصحابة قَدِ ادَّعَوْا إجماعُ الصدر الأول مِن الأمة، ولا شكَّ أن هؤلاء الذين ادَّعُوا الإجماعَ من المشاهير بتعظيم العِترة عليهم السلامُ، ومن أهل الورع
__________
(1) سقطت من (ب).
(2) في (ب): لم يذكر لأهل المذهب خلافاً.(2/356)
والاطلاع، وذلك يقتضي أنَّهم ما ادَّعوا إجماعَ الأُمة حتى عَرَفُوا إجماعَ أهلِ البيت عليهم السلامُ أولاًً خاصة في ذلك العصرِ، فإن أهلَ البيت عليهمُ السلامُ في زمان (1) حدوث الفسق في المذاهب، لم يكونوا إلا ثلاثةً عليٌّ، وولده عليهم السَّلامُ، وإجماعُهُم حجة، ومعرفتُهُ متيسرة مستهلة (2) لانحصارهم واشتهارهم، فأقلُّ أحوال المنصورِ بالله والإِمامِ يحيى، عليهما السلام أنهما لا يَدَّعيان إجماعَ الصحابة ألا وهما يعرفان ما مذهَبُ علي وولديه عليهم السلام، فإنهما لو لم يعرفا مذهبهم، لكانا مجازفين بدعوى الإجماع، وهُما منزَّهان من ذلك باتفاق الجميعِ على أمانتهما وسَعة معرفتهما.
الحجة الثالثة: أن ذلك يقتضي أنَّهما عليهما السلامُ عرفا أن قبولَ المتأولين مذهبٌ علي عليه السلامُ، لأن أقلَّ أحوالهما حين ادَّعيا العلم بمذهب جميع الصحابة المشهور والمغمور أن يكونا قد عَرَفَا أن ذلك مذهبُ إمام الأئمة، وأفضل الأمة، وكفي به عليه السلامُ حجة (3) لمن أراد الهدى، وعِصمَةً لمن خاف الردى.
الحجة الرابعة: أنا لو لم نقبل المتأوِّلين، لوجب أن لا نقبلَ الصحابة أجمعين، ولا الصدرَ الأول مِن أهل البيت الطاهرين إذا لم يُصَرِّحُوا بالسماعِ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنَّ هؤلاء الثقات من الأئمة وغيرهم قد رَوَوْا عنهم أنَّهم يقبلون الفاسقَ المتأول، فذلك لا بدَّ أن يفيد العلمَ، أو الظنّ بأنهم كانوا كذلك، أقصى ما في الباب أن ذلك يُفيد الشَّكَّ
__________
(1) في (ب): وقت.
(2) في (ب): سهلة.
(3) ساقطة من (ب).(2/357)
في قبولهم للفساق المتأولين، فلو كانوا مردودين بالقطع، وحصل الشكُّ في أن روايةَ العدولِ مستندةٌ إليهم لم يجز قبولُه إلا إذا حصلت تبرئة صحيحة يحصلُ معها الظَّنُّ الراجحُ أن روايتَه غير مستندة إلى من لا يقبل قطعاً، وقد ألزمنا السَّيِّد في رسالته مثل هذا، ومن التناصفِ بين المتناظرين أن يجري كُلُّ خصم على قياسه، ويبنيَ كُلُّ أحدٍ على أساسه.
الحجة الخامسة: هي الحجة العقلية التي عَوَّلَ عليها الإمامان: المنصورُ بالله والناطقُ بالحقِّ عليهما السلامُ، والشيخُ المحقِّقُ أبو الحسين البصري رحمه الله وهي أنَّ خبرهم يُفيدُ الظنَّ قطعاً، والعمل بالظن حسن عقلاً، وقد قررنا اتفاقَ العقلاء على حُسْنِ الخبر والاستخبار، واعتمادهم عند المهمات على إرسالِ الرسول، وكتابةِ الكتاب، وبعثِ النذير إلى من يخاف عليه منه (1) والطليعةِ إلى من يُخاف منه، وسفرِ التاجر على ظنِّ الربح، وزرع الزراع على ظنِّ التمام، وغزوِ الملوك على ظن الظَّفَرِ، وقراءة القرآن (2) على ظن الفائدة، وكذلك العملُ في ضِرَابِ الأنعام وتربية صغارها (3)، وجمعِ سمنها وألبانها، وسائرُ تصرفات العقلاء كُلُّها مبنية على ظن (4) المنفعة دون اليقين (5)، ولهذا فإن رسل (6) رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لما كانت تأتي (7) العرب، تُخبرهم بالشريعة، وتُبلِّغهم الأحكامَ، امتثلوا ذلك، وَعَمِلُوا به بمقتضى فِطرة العقول من غير أن يقولَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك (8) جائز، ومن غير أن يسألوا عن ذلك، ولا
__________
(1) ساقطة من (ج).
(2) في (ج): القراءة.
(3) في (ج): صغيرها.
(4) ساقطة من (ج).
(5) تحرفت في (ج) إلى: التعيين.
(6) ساقطة من (ج).
(7) ساقطة من (ج).
(8) في (ج) و (ش): أن ذلك.(2/358)
تناظروا (1) فيه، ومن غير أن يستقبح ذلك منهم واحد، بل اجتمعوا على استحسان ذلك، وقررهم عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. ولو كان ذلك لا يُعرف إلا (2) بالشرع، لكانوا قد أقدموا على قبيحٍ في عملهم بكلام الرسل التي جاءتهم من عنده عليه السلامُ، ولو كان عملهم في ذلك قبيحاً، لما أقرهم عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
فثبت بذلك أنَّ العمل على قول من يُظَنُّ صدقُه حسنٌ عقلاً، معمول به قديماً وحديثاً إلا ما خصَّه الدليل الشرعي من ذلك، فيُقرر حيث ورد، ويُعمل بدليل العقل فيما عداه. وقد كفانا مؤنَة الاحتجاج في هذه المسألة بهذا الوجه العقلي أبو طالب في كتاب " المجزىء " وكذلك المنصورُ بالله، وأبو الحسين، فمن أراد تحقيقها، فليطالعها في مصنفاتهم.
الحجة السادسة: أن في مخالفتهم مضرةً مظنونة، ودفعُ الضرر المظنون عن النفس واجبٌ، والمقدمة الثانية اتفاقية، وبيانُ المقدمة الأولى أن الثقة من المتأولين متى أخبرنا بتحريم الشيء، وظننا صِدْقَهُ، فإن ظن صدقه يستلزم ظنَّ العِقاب المتوعّد به على ارتكاب الحرام، وكذلك إذا أخبر بوجوبِ الواجب، وكذلك إذا أخبر بإباحة إلمباح، فإنه ليس لنا أن نُخَالِفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تحريم ولا إيجاب.
الحجة السابعة: أنّه (3) إمَّا أن يحصل بخبرهم الرُّجحانُ أو لا، إن لم يَحْصُل الرجحانُ، ثم يُقبلوا، وإن حصل الرجحانُ، فإما أن يعمل بالراجح، أو المرجوحِ، أو يساوي بينهما، وترجيحُ المرجوح على
__________
(1) في (ج): ولا يتناظروا.
(2) ساقطة من (ج).
(3) ساقطة من (ج).(2/359)
الراجح والمساواة بينهما في الترجيح قبيحٌ عقلاً، فوجب المصيرُ إلى ترجيح الراجح، وذلك مقتضى العقول.
الحجة الثامنة: أنَّه يَحْصُلُ بخبرهم الظنُّ لثبوت الحكم الشرعي المخصص للعموم وليس يجوزُ الحكم بالعموم (1) مع ظن أنّه مخصوص إجماعاً، وإنما اختُلفَ هل يجب العلم بانتفاء الخاصِّ، أو يجب الظَّنُّ لانتفائه، أو يكفي البقاءُ على الأصلِ وهو عدمُ المخصص حتى يظن وجودُه، فأما إذا ظن المجتهدُ وجودَ المخصص، فلا خلاف في تحريم العمل بالعموم حيث ورد الخاصُّ، وهي حُجة قوية.
الحجة التاسعة: أنَّه يحصل بخبرهم الظنُّ لثبوت النص الشرعي ومع ذلك يحرم الاعتمادُ على القياس والاجتهاد، وتقريرُها مثل الثامنة.
الحجة العاشرة: أنَّه يحصل ظَنُّ النص، فيحرم التمسكُ بالحظر والإباحة الأصليين.
الحجة الحادية عشرة: أنَّه يحصل بخبرهم ظنُّ النسخ، ومتى غلب على الظن أن هذا الحكمَ منسوخٌ لم يحل التمسكُ به إجماعاً، وتقريرُهُ كما في الثامنة.
الحجة الثانية عشرة: أنَّه ينتفي الإجمالُ في الاشتراك بخبرهم، فإنهم متى أخبروا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد متعين في أحد اللفظين المشتركين ترجح ظنُّ (2) ذلك.
وقد ثبت أنَّه يُرجع في المشترك إلى القرائن المفيدة للظن، ولهذا
__________
(1) في (ج): للعموم.
(2) ساقطة من (ج).(2/360)
ثبت التجوزُ بالعادة وهي ظنية، وحكموا بها في تفسير كتاب الله تعالى فقالوا في {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (1) [المسد: 4]: إن المرادَ بها نَمَّامة لمَّا كانت مِن أهل الشرف والثروة والترفة في أحدِ التفسيرين، واتفقوا على التجوز في قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] لأجل القرينة العرفية.
الحجة الثالثة عشرة: أنَّه ينتفي الظن في الطواهر والحقائق الظنية الموجبة للتجوز وتقريره كما مر في الثانية عشرة، وخبرُهُم قرينة ظنية بغير شك، فوجبَ قبولُه.
الحجة الرابعة عشرة: أنَّه قد ثبت أنَّه مَنْ أكثرَ من ارتكاب المعاصي الملتبسة على جهة التعمد، وأصَرَّ عليها مع العلم بقُبحها، فإنه مجروحُ العدالةِ، غيرُ مقبولٍ في الشهادة والرواية، ومن عصى معاصيَ كثيرةً لا تَبْلُغُ الكفرَ والفسق وكان متأوِّلاً فيها، غيرَ عالم بقبحها، فإنَّه مقبولُ الشهادة والرواية، مع أنَّ معه دليلاً لو أنصف وتأمَّلَه، عَلِمَ الحق كالفاسق المتأوِّل سواء، فدل على أن العلة في القبول هي صدورُ المعصية على جهة التأويل، صغيرةً كانت أو كبيرةً، وليست العلةُ الفسقَ، ألا ترى أنا نَرُدُّ من تعمد المعاصي، وإن لم يكن فسقاً، ونقبل مَنْ فعلها بعينها متأولاً، فقد
__________
(1) في تفسيرها أقوال، أحدها: أنها كانت تمشي بالنميمة، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسُّدِّي، والفراء، وقال ابن قُتيبة: فشبهوا النميمة بالحطب، والعداوة والشحناء بالنار، لأنهما يقعان بالنميمة كما تلتهب النار بالحطب.
والثاني: أنها كانت تحتطب الشوك، فتلقيه في طريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلاً، رواه عطية، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، وابن زيد، ورجحه الطبري.
والثالث: أن المراد بالحطب: الخطايا، قاله سعيد بن جبير.
انظر " معاني القرآن " للفراء 3/ 298 - 299، و" زاد المسير " 9/ 260 - 261، والطبري 30/ 219 - 220، والآلوسي 30/ 263.(2/361)
فَرَّقْنَا بين المتأوِّل (1) والمتعمِّدِ في ارتكاب المعاصي، فدار القبولُ مع التأويل ثبوتاً وعدماً، ودار الردُّ مع التصريح ثبوتاً وعدماً، وهذا يُفيد ظَنَّ العِلية، وهو أحد طرق العلل، وإن لم يُفد ذلك دائماً، فمن اعتمد ذلك، لم يستحق النكيرَ، ولا التأثيمَ.
فإن قلتَ: إن مرتكب الكبيرة تأويلاً (2) قد خرج من ولاية الله قطعاً بخلاف صاحب المعصية الملتبسة.
قلت: ليس العلةُ الخروجَ من ولاية الله قطعاً بدليل أنَّ من ارتكب المعاصي تعمداً، لم يُقبل وإن لم تكن كبائرَ مع أنا لم نعلم أنَّه قد خرج مِن ولاية الله قطعاً ولا ظناً، فدل على أن المعتبر التأويل الذي يبقى معه ظَنُّ الصدق.
الحجة الخامسة عشرة: قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ودخول السؤالِ عن الأدلة في هذه الآية على سبيلِ طلب (3) الاجتهاد أقربُ من دخول السؤال عن المذاهب على سبيلِ التقليد، لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، وقد تَقدَّمَ ذكر ذلك عند الاحتجاج على تعديل حملةِ العلم (4).
فإن قُلْتَ: فقد تقدَّم أن الصحيحَ أنها في سؤال المشركين لأهل الكتاب عن الرُّسُلِ أكانوا بشراً أم لا.
قلت: ذلك صحيح أنَّه معناها الذي سِيقَتْ له، ونَزَلَتْ فيه،
__________
(1) سقطت الواو من (ب).
(2) في (ب): متأولاً.
(3) في (ب): الطلب طلب.
(4) انظر ص 315 من الجزء الأول.(2/362)
ولكن قد يُؤخذ من الآية حكمٌ لم يَرِدْ فيها على سبيل الاستنباطِ، وقد يكونُ ذلك من مفهومِ الموافقة (1)، وهو قطعي وظني، فالأوَّلُ مثل تحريم الضَّربِ مِن تحريم التأفيف، والثاني مثلُ وجوبِ الكفارة في قتل العمدِ من وجوبها في قتل الخطأ على قولِ الشافعي، وهذا مِن ذاك، فإن المفهومَ أن المشركين، إنَّما أُمِرُوا بسؤالِ أهل الكتاب لجهل المشركين وعلم أهل الكتاب في تلك الحادثة، فكذا (2) كُلُّ حادثة يُوجد فيها عالم وجاهلٌ مِنَ المسلمين، فإنَّه يكون المفهومُ مِن الآية أن المشروعَ للجاهل مِن المسلمين أن يسأل العَالِمَ من أهلِ الإسلام، وهذا أولى من ذاك (3)، أقصى ما في الباب أنَّه قياس على المنطوق، فالكُلُّ منهما حُجَّةٌ.
إذا ثبت هذا، فالآية عامة في العلماءِ المتنزهين عن البدع على سبيلِ التأويل، وليس يلزمُنا في هذه الحجة وأمثالها مثلُ ما ألزمنا السيدَ في
__________
(1) ويسمى أيضاً دلالة النص، وفحوى الخطاب: وهو ثبوت حكم المنطوق للمسكوت بفهم مناط الحكم لغةً، وهو قسمان، فتارة يكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق، كقوله تعالى: {ولا تَقُلْ لهما أُفٍّ} فإنه يفهم تحريم الضرب مثلاً بالأولى، لأن مناط النهي عن التأفيف هو الإيذاء، وهذا مفهوم لغةً، فكان منهيّاً عنه، ومن جزئياته الضرب ونحوه، فيكون منهيّاً عنه أيضاً، بل أولى، وتارة يكون المسكوت مساوياً في الحكم للمنطوق، لأننا نعلم قطعاً أن كثيراً ما يفهم الحكم في المسكوت مع عدم الأولوية لفهم المناط لغةً، وذلك كإثبات الكفارة -بالأكل عمداً في صوم رمضان كالجماع الذي ورد فيه إيجاب الكفارة بحديث الأعرابي- عند الحنفية، وكإيجاب الشافعي الكفارة في القتل العمد، واليمين الغموس بنص الخطأ في القتل، وبنص غير الغموس في اليمين، وإيجاب حد الزنا في اللواطة في غير الزوجة والأمة عند الأئمة الثلاثة، وأبي يوسف ومحمد بن الحسن بنص وجوبه في الزنى. انطر " جمع الجوامع " مع شرحه وحاشيته 1/ 306 - 307، و" الابتهاج في شرح المنهاج " 1/ 366 - 369، و" روضة الناظر " ص 138 - 139، و" نهاية السول " 2/ 197 - 200، و" المستصفي " 2/ 190 - 191.
(2) في (ب): فكذلك.
(3) في (ب): ذلك.(2/363)
تلك الإِشكالات، لأنا لم ندَّعِ أَنَّ المسألَة قطعية، وتلك الإِشكالات إنَّما ورد عليه أكثرُها لدعواه أَنَّ المسألة قطعية، وأما مَنْ أَقَرَّ أنها ظنية، فليس عليه إلَّا أن يستدِلَّ بدليل يُفيده (1) الظن، وليس عليه أيضاًً أن يُفيد غيرَه الظن، وإنَّما عليه أن يُبْدِيَ دليلَه لمن أراد أن يعرفه، فيستدل به، أو يعارضه.
الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] وهذا عامٌّ في كل ما جاء عن الله، سواء كان مِن كلامه سبحانه وتعالى في القرآن العظيم، أو على لسانِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وسواء كان معلوماً أو مظنوناً، بل الأكثر مِن ذلك هو الذي جاءَ مظنوناً، وقد ثبت أن في القرآن العظيمِ ما معناه (2) مظنونٌ، وما معناه معلومٌ، وثبت أنهما جميعاً مُعْتَدٌّ بهما، وأن المعنى المظنون من جملة ما جاء مِن عند الله تعالى، فكذلك السنة فيها معلوم و (3) مظنون، وكل منهما مما جاء مِن عند الله تعالى، ألا ترى أن السيدَ إذا قال لعبده: إذا جاءَك لي قريبٌ، فأكرمه، وكان العبدُ لا يعرف أقاربَ سيده، فإنَّه متى أخبره مَنْ يظن صدقَه عن أحدٍ أنَّه مِن قرابة سيده، فإنه يَحسن منه إكرامُه، لأجل ذلك الخبرِ المظنونِ صدقُه، وكذلك إذا جاءه كتابُ سيده مع رجل يُوصيه، وعرف خطَّه، فإنَّه يَحْسُن منه العملُ به وإن لم يكن معرفة الخط يُفيده إلاَّ الظن، وقد تقرَّرَ أن المشروعَ في معرفة الحلالِ والحرام هو العلمُ أو الظن، كما ذكره المنصورُ وغيرُه من علماء العِترة عليهم السلامُ.
__________
(1) في (ش) يفيد.
(2) في (ب): " ما فيه " وهو خطأ.
(3) ساقطة من (ب).(2/364)
فإذا عرفتَ هذا، فحديثُ المتأولين مِن جملة ما جاء عن الله ورسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مما يظن صحتُه، ويعتقد تحري رواته في الصدق وأمانتِهم في الرواية، فوجب الامتثالُ، وأمِنَّا باتباعهِ من الشقاء والضلال.
الحجة السابعة عشرة: قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ذَمَّهُمُ الله تعالى بعدمِ الاستماع، وهو مطلق في كل ما جاء عن الله تعالى من معلوم ومظنون، خرج المُجْمَعُ على ردِّه، وبقي المُخْتَلَفُ فيه إلاَّ ما خصَّه دليل، وأمثال هذه الآية الكريمة كثيرٌ في القرآن الكريم مما ورد في ذَمِّ مَنْ لا يسمع، ومدحِ المستمعين مثل قوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285] وأمثال ذلك.
الحجة الثامنة عشرة: قوله تعالى: {خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63] فهذا عام فيما آتانا الله تعالى مِن معلوم ومظنون، وقد ثبت أنَّه تعالى إذا أمرنا بأمرٍ، وجبَ علينا منه ما علمنا وما ظننا، ألا ترى أنَّه يَجِبُ طلبُ الماء للطهور حيث يُعْلَم وحيث يُظن، ولا يُجزىء الاكتفاءُ بالطلب في المواضع المعلوم وجودُه فيها مع ترك المواضِع المظنون وجوده فيها، وقد ثبت عنه عليه السَّلامُ أنَّه قال: " إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُم " (1).
فيجب بذلُ الوسع في القُدرة، ومراتبها ظاهرة، فيصلي قياماً ثُم قعوداً
__________
(1) أخرجه البخاري (7288) في الاعتصام، ومسلم (1337) في الحج من حديث أبي هريرة، ولفظه بتمامه " ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك مَنْ كان قبلكم سؤالُهم واختلافُهُم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء، فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء، فأتوا منه ما استطعتم ". وقد توسع الحافظ ابن رجب في شرح هذا الحديث في " جامع العلوم والحكم " ص 83 - 92 فراجعه.(2/365)
ثم على الجُنُوبِ (1).
وكذلك يجب بذلُ الوُسْعِ في تَعَرُّفِ ما آتانا (2) الله، وأمرنا بأخذه، وذكر ما فيه، وبذل الوسع في ذلك حسبَ الطاقة ومراتبها، فأعلى المراتبِ أن نعلمَ اللفظَ والمعنى، وهذا يكون في كثير من القرآن، وكثير من السنة المتواترة، ودُونَ هذه المرتبة أن نعلَم اللفظ ونظن المعنى، وذلك يكون (3) أيضاًً كثيراً في القرآن والمتواترِ مِن السنة.
والمرتبة الثالتة أن نظنَّ اللفظ والمعنى، أو نعلم المعنى، ونظن اللفظ وكلاهما في السُّنَّةِ المنقولة بطريق الآحاد، وهما متقاربان.
واعلم أنَّه لو لم يجب علينا مِن ألفاظ السنّة إلاَّ ما علمنا، لما وجب علينا من معاني القرآن إلاَّ ما علمنا، لأن ذلك كُلَّه يرجِعُ إلى العمل في الشريعة بالظن، وذلك يؤدّي إلى خلاف الإجماع، ومما يؤيِّدُ ما ذكرته في العمل بالمظنون مما آتانا الله من الشريعة أنَّه تعالى لما أمرنا بِبِرِّ الوالدين والأقربين، والصدقة على المساكين وجب في ذلك أنَّه يُراد به من ظننا قرابته ومن ظننا فقره ومسكنته، لأنَّه لا طريقَ معلومة إلى معرفة القرابة والفقر غالباً، وأمثالُ ذلك في الشريعة كثيرة.
الحجة التاسعة عشرة: قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ
__________
(1) أخرج البخاري في " صحيحه " (1117)، وأبو داود (952)، والترمذي (372) عن عِمران بن حصين، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة المريض، فقال: " صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب " وانظر " الفتح " 2/ 588.
(2) في (ب): أتى.
(3) ساقطة من (ب).(2/366)
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] فهذا وعيد شديد، ومضرَّة عظيمة فيجب الاحترازُ مِن الوقوع فيما يُخاف الوقوعُ فيه لمخالفتها، ولا يَحْصُلُ الأمانُ من ذلك إلاَّ بامتثال كُلِّ معلومٍ ومظنونٍ مما جاء عنه عليه السلام، فيدخل في ذلك خبرُ المتأولين.
الحجة الموفية عشرين: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] وفي آية: {الفاسقون}، وفي آية: {الظالمون}، ولا شك أنَّ ما أنزل اللهُ يكون معلوماً ومظنوناً (1)، ولم يقُلْ أحدٌ من أهل العلم: إنَّه لا يكون مظنوناً، وخبر المتأولين من ذلك، ولكن لا يُفِيدُ الكفر والفسق والظلم، لأن المسألة اجتهادية، إذ هذه الآية من العمومات العملية الظنية المخصوصة المؤوَّلة، ولكنها حجةٌ لمن ظَنَّ في شيء معيَّن أنَّه يدخل في عمومها.
الحجة الحادية والعشرون: قولُه تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] وكلامُه عليه السلام من جملة ما أنزلَ الله تعالى، لقوله سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) [النجم: 3 - 4] إذا ثبت هذا في حقه عليه السَّلامُ ثبت في حقنا مثله، لأنَّ التأسي به واجبٌ علينا، فيحرم علينا أن نفتتن عن بعض ما أنزل اللهُ إليه، وذلك يُوجب المحافظة على قبولِ ما صدر منه عليه السلامُ، وتلك المحافظة لا تَتِمُّ إلاَّ بقبول المتأولين، وإلا لم يَحْصُل
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في الاستدلال بالآية على ما ذهب إليه المؤلف نظر، فإن السياق يدل على أن الكلام في القرآن، وأن المراد أن هذا القرآن الذي يتلوه عليكم رسول الله ليس من عنده، بل هو وحي يوحى إليه من الله. انظر الطبري 27/ 25، والقرطبي 17/ 84 - 85، و" زاد المسير " 8/ 63، والآلوسي 27/ 46 - 47.(2/367)
الأمانُ من الإخلال ببعضِ صَدَرَ منه عليه السلامُ، لأنَّا لا نأمن أن ما روَوْهُ (1) مما أنزل اللهُ إليه، وخرج من ذلك ما قام الدليلُ على رده.
الحجة الثانية والعشرون: قوله تعالى: {فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] فأمر اللهُ باتباعه، وقد قال عليه السلامُ: " إِذَا أَمَرْتُكمْ بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنْه مَا اسْتَطَعْتُمْ " (2) فوجب أن نتَّبِعَه فيما استطعنا مِن معلوم ومظنون على الإطلاق إلاَّ ما قيَّده الدليل.
الحجة الرابعة والعشرون (3): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فتجب طاعتُه في كل معلوم ومظنون كما تقدَّم.
واعلم أن العمومات الواردة في هذا الباب كثيرة جداً، والعلماء تركوا الاستدلال بها استغناءً بحجة الإجماع، لأنها أخصُّ من العمومات، وأقطعُ للشغب، وإنَّما أوردت هذه العمومات معارضةً لما توهَّمه السيدُ مِن صحة الاحتجاج بتلك العمومات التي أوردها، وقد بيَّنا فيما تقدم الجوابَ عليه في (4) الاحتجاج بها، بل قد تقدَّم فيها، أو في أكثرها أنَّها حجج عليه لا له، وذلك مقرر في الإشكالات الواردة على احتجاجه بها، وهذا القدرُ يكفي في المعارضة فلنقتصر عليه.
__________
(1) في (ب): ما رواه.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة 365.
(3) في هامش (ب) ما نصه: لم يثبت في الأم الحجة الثالثة والعشرون، ولعله سقط سهواً.
(4) ساقطة من (ب).(2/368)
الحجة الخامسة والعشرون: ما رواه عِكرمةُ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيتُ الهلال يعني رمضان، فقال: " أَتَشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إلاَّ الله، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً رَسُول اللهِ "؟ قال: نَعَمْ، قال: " يَا بلَالُ أَذِّنْ في الناسِ أَنْ يَصُومُوا غَدَاً " (1). رواه أهلُ السنن الأربع، ولفظُه لأبي داود، وهو مروي من طريق أهل البيت عليهم السلامُ، ومن طريق شيعتهم.
وقالَ أبو عبد الله الحاكمُ الحافظُ أحدُ علماء شيعة أهلِ البيت عليهم السلامُ: هو حديثٌ صحيحٌ، وفي إسنادِه وإرسالِه خلافٌ يسير، لا يَضُرُّ مثلُه إن شاء الله تعالى، وهو يدل على قبول من شهد الشهادتين من أهل الإسلام القائمين بأركانه الخمسة ما لم يثبت جرحُهم.
الحجة السادسة والعشرون: حديثُ الأمةِ السوداء التي قالَ عليه السلام: " هِيَ مُؤمِنَةٌ " لما أشارت أن الله ربُّها، وأنَّه عليه السلامُ رسولُ الله والحديثُ صحيح خرجه مسلم (2) وغيره وهو دليلٌ على قبول كُلِّ مَنْ آمن بالله ورسوله مِن أهل الإسلام ما لم يثبت عنه فعل ما يُجرح به بدليل صحيح من كتابٍ أو سُنَّة أو إجماعٍ، وهذا كله مفقودٌ في المتأوِّلين، لأنه عليه السلام قد أثبت لها الإيمانَ بذلك، والمؤمنُ مقبولٌ، لقوله تعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} (3)
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول ص 377.
(2) رقم (537) وقد تقدم تخريجه في الجزء الأول ص 379.
(3) قال الإمام الطبري 14/ 327: وأما قوله: " يؤمن بالله " فإنه يقول: يصدق بالله وحده لا شريك له، وقوله: " يؤمن للمؤمنين " يقول: ويصدق المؤمنين، لا الكافرين ولا المنافقين، وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا: محمد أُذُنٌ، يقول جل ثناؤه: إنما محمد مستمع خير، يصدق بالله وبما جاء من عنده، ويصدق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله. =(2/369)
[التوبة: 61] وقد مرَّ في كلام السَّيِّد أبي طالب أنَّ العدالةَ كانت منوطةً في ذلك الصدر الأول بالإِسلامِ والقيامِ بأركانه، واجتنابِ معاصي الجوارح المعروفة دونَ معاصي الاعتقاد وما يتفرَّعُ عنها، هذا معنى كلامه عليه السلام، وقد مَرَّ بلفظه.
الحجة السابعة والعشرون: حديثُ الحسن بن علي عليهما السلامُ الذي فيه " إنَّ ابْنِي هذا سَيِّدٌ وسَيُصْلِحُ الله بِهِ بَيْنَ طَائِفَتيْنِ عظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ " (1) وفيه النَّصُّ على تسميتهم مسلمين، وقد تقدَّم الكلام على صحة الحديث.
والمسلم مقبولٌ ما لم يظهر ما يجرحه والدليلُ على ذلك إجماعُ الصحابة عليه في الصدر الأول. رواه الشيخ أبو الحسين في " المعتمد " كما تقدم، وقد تقدَّم أيضاً أثر عمر الصحيح في ذلك في كتابه المشهور (2)، ولم يُنكره أحد، وهو شاهدٌ جيد لدعوى الشيخ أبي (3) الحسين والشواهد على ذلك كثيرة، ولا معنى للتكثير بإيرادها، لأنَّ الخصم غيرُ منازع في قبول من ثبت أنَّه مسلم. والله أعلم.
الحجة الثامنة والعشرون: قولُه عليه السلامُ في الحديث المشهور
__________
= وقال ابن قتيبة: الباء واللام زائدتان، والمعنى: يصدق الله، ويصدق المؤمنين، وقال الزجاج: يسمع ما ينزله الله عليه، فيصدق به، ويصدق المؤمنين فيما يخبرونه به. " زاد المسير " 3/ 461.
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 169 من هذا الجزء، والصفحة 186 من الجزء الأول.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة 375 من الجزء الأول.
(3) في (ب): أبو.(2/370)
الصحيح " كَيْفَ وَقَدْ قيلَ " (1) ففيه تنبيهٌ على حسن قبولِ خبر من أخبر عن تحريم أو وجوبٍ بمجرد القول مِن غير ظن على جهةِ الاحتياط، فكيف مع الظن الغالب، والصِّدْقِ الراجح خرج من ذلك المصرح، وبقي المتأوِّل.
الحجة التاسعة والعشرون: قولُه عليه السلام في حديث الحسن بن علي عليهما السلام " دَعْ ما يُرِيْبُكَ إلى ما لَا يُرِيبُكَ " (2) وهذا حديثٌ حسن معمول به، خرَّجه النواوي في مباني الإسلام وحسنه، ورواه الترمذي في " جامعه " وهو يدُلُّ على قبول من يظن صدقه، لأن رده مما يُريب خوفاً أن يكونَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك الذي رواه.
فإن قلتَ: إن تصديقَهم ريبٌ أيضاًً، فتعارضت جِهتا الترجيحِ، فوجب الوقف.
قلت: الجوابُ مِن وجوه:
أحدها: أن قبولَهم يُريب ريباً مرجوحاً، فلم يُعتبر، لأن الريبَ المرجوح حاصلٌ في خبر الثقة المتنزِّه من البدع، فكما أنَّه لم يُؤثر فيه، كذلك (3) هذا.
وثانيها: أن نقولَ: اجتمع في قبوله ورده رَيْبَانِ، ففي قبوله ريبٌ مرجوح موهوم، وفي ردِّه ريبٌ راجح مظنون، فوجب الاحترازُ مِن الرَّيْبِ الرَّاجِحِ المظنون، لأن فيه مضرةً مظنونةً، ولم يجب الاحترازُ مِن الريب
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 382.
(2) إسناده صحيح، أخرجه أحمد 1/ 200، والترمذي (2518)، والطيالسي (1178)، وعبد الرزاق (4984)، والطبراني (2708) و (2711)، وصححه ابن حبان (512)، والحاكم 2/ 13 ووافقه الذهبي.
(3) في (ب): فكذلك.(2/371)
المرجوح، لأن فيه مضرَّة مرجوحة، والمضرةُ المجوزة مِن غير رجحان لا يجبُ الاحترازُ منها، فكيف إذا كانت مرجوحةً موهومةً، فلم يقل أحدٌ من العقلاء بوجوب الاحتراز من ذلك، ولو وجب مثلُ ذلك، لوجب على العقلاء أن يخرجوا من بيوتهم خوفاً لسقوطها عليهم مِن غير أمارة للسقوط.
وثالثها: أنَّ الراجح المظنون (1) لا يُسمى ريباً في اللغة، ولهذا، فإن الإنسانَ إذا غابَ من منزله وأولادِه ساعةً من نهار، وعهده بالدار صحيحةً، وبأهله سالمين، فإنه لا يُسمى مريباً في انهدام الدارِ، وموتِ الأولاد لمجرد أن ذلك ممكن مِن غير محال، وهذا واضح، وقد ذكر الزمخشريُّ (2) هذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10].
الحجة الموفية ثلاثين: ما ثبت في الصحمِح من قوله عليه السلامُ: " الحَلاَلُ بيِّنٌ، والحَرامُ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُما أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَن اتَّقى الشُّبُهَاتِ، اسْتَبْرأ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ " الحديث (3)، وفيه ما لا يخفى من الحثِّ على تركِ المتشابهات، ولا شَكَّ أنَّ رَدَّ المتأولين من المتشابهات لوجوه:
أحدُها: ظَنُّ صدقهم.
وثانيها: دعوى الثقاتِ من الأُمة الإجماعَ على قبولهم، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإجماعَ على ردهم، كما قدمنا.
وثالثها: أنَّهم إذا رَوَوْا عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه حرم شيئاً، فإنَّه لا يكونُ
__________
(1) في (ب): المظنون الراجح.
(2) 4/ 92 - 93.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة 335 من هذا الجزء.(2/372)
حلالاً بيِّناً، وكذلك إذا رَوَوْا أنَّه أوجب شيئاً لا يكونُ تركُه من الحلال البَيِّنِ لوقوع الشبهة بروايتهم للنص النبوي، وهذا قوي جداً.
الحجة الحادية والثلاثون: قولُه عليه السلام: " يَحْمِلُ هذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " (1)، وقد مَرَّ الكلامُ على تصحيحه، ووجهِ الاحتجاج به حيث (2) نقضنا احتجاحَ السَّيِّد به، وبينا أنَّه حجةٌ عليه، لا لَهُ.
الحجة الثانية والثلاثون: أنَّه يَحْرُمُ عليهم كتمُ ما يحفظونه من العلم، والنصوصِ النبوية لنَصِّ القرآن الكريم على تحريمِ كَتْمِ العلم فلا يرتفع (3) الوجوبُ عنهم إلا بدليل مثل ذلك النص في القُوَّةِ والظهور، ولا شَكَّ أنَّه لا يُوجَدُ ما يُماثِلُه في إسقاط التكليف عنهم في ذلك (4) فإذَا ثبت أنَّه يجبُ عليهم التبليغُ، وَيحْرُمُ عليهم الكتمُ ثَبَتَ أنَّه يُقْبَلُ منهم، وإلا لم يكن لتبليغهم فائدةٌ، ولا لوجوب ذلك عليهم معنى، وأما المصرِّحُ، فقد دل الإجماعُ القاطع على اشتراط توبته في القبول فافترقا.
الفائدة الثانية: في الإشارةِ إلى المرجِّحات لقبول المتأولين على تقدير تسليم التعارض وهي خمسةَ عَشَرَ وجهاً:
الأولُ: خبرُ الثقاتِ مِن عشر طرق أو أكثر بأنَّ الأمة أجمعت على ذلك كما تقدَّم بيانُه عن الأئمة المؤيَّد ِ بالله، وأبي طالب، والمنصور (5)، والإمامِ يحيى بنِ حمزة في كتبهم، والأميرِ الحسين في " شفاء الأوام "،
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 308.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): فلا يرتفع كتم ما يحفظونه.
(4) " في ذلك " ساقط من (ب).
(5) في (ب): والمنصور بالله.(2/373)
والقاضي زيد في " الشرح "، وعبدِ الله بن زيد في كتابه " الدرر المنظومة " في أصول الفقه، والشيخِ أبي الحسين في " المعتمد "، والحاكم في " شرح العيون "، والشيخ الحسن الرصاص في " غرر الحقائق "، وحفيدِه أحمد في " الجوهرة "، وابنِ الحاجب في " مختصر المنتهى "، وروايةِ السيدِ أبي طالب عن الفقهاء أنهم رَوَوْا ذلك لا عن نفسه كما تقدم بيانُ ذلك مفصَّلاً قريباً مع ما شهد لخبرهم مِن القرائن، ومع اطلاعهم على الخلاف وأخبار الصحابة، وذلك يقوي الظَّنِّ قوةً عظيمة على أن ذلك الإجماعَ صحيحٌ إن لم يُفِدِ العلمَ، ولا شَكَّ أنَّه ما رُوي إجماعٌ على رد فُسَّاقِ التأويل ألبتة، فكان القول بقبولهم أولى، لأن في ردهم التعرضَ للعقاب والوعيد الحاصل بمخالفة الإجماعِ، ولا شَكَّ أنه حاصِلٌ إما علماً ضرورياًً، أو ظناً، أو تجويزاً، وليس في قبولهم شيءٌ من مخالفة الإجماعِ ألبتة.
الثاني: أن التكذيبَ لحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مع العلم أنَّه حديثُه كُفْرٌ صريح، والتصديقُ بمن كَذَبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمداً ليسَ بكفر بالإِجماع، بل الكذبُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً ليس بكُفْر بالإجماعِ قبل خلافِ الجويني (1)، والخطاُ فيما عمدُه ليس بكفر أقلُّ إثماً مما عمده كفر بالإجماع، فإن قتل مَنْ يجوز أنَّهُ نبي أقبحُ مِن قتل منْ يجوز أنَّه مؤمن، وليس بنبي قطعاً.
الثالث: أن في القبول تكاليفَ حتى بالإِباحة، فإن ما (2) أباحه عليه السلامُ يحرم تغييرُه تحريماً مغلَّظاً بحيث يكفر منكرُه إذا كان معلوماً ضرورة
__________
(1) انظر " توضيح الأفكار" 2/ 88.
(2) في (ب): " من " وهو تحريف.(2/374)
وعليه الحديثُ " وأكَلَ ذَبِيحَتَنَا " جعل ذلك شرطاً في الإسلام بخلاف المباحِ على الأصل.
الرابع: أنَّه أحوطُ إما كُلُّه وإما أكثره فيجب قبولُ الجميع، لأن تركَ قبولِ الجميع تغليبٌ للنادر على الأكثر، وهو مثلُ ترجيح المرجوح على الراجح، وهو خلاف المعقول، وقبولُ البعضِ دونَ البعض تحَكُّمٌ. إنما قلنا: أحوطُ، لأنَّ حديثَهم إن عارض الكتابَ، أو ما هو أرجحُ (1) منه مِن حديث الثقات لم يعمل به إذ هو مرجوحٌ، وإن لم يُعارض، فالفرضُ أنَّه ورد في مباح يجوز تركُه وفعلُه، فإن اقتضى التحريمَ، فالتركُ أحوطُ، وإن اقتضى الوجوبَ، فالفعلُ أحوط، وهذا الوجه يختص بما لم يخصّ العموم المعلوم.
الخامس: نحن نعلمُ بالقرائنِ صِدْقَ أكثرِه، لأنَّ الدواعي إلى الصدق في حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوفِّرَةٌ وهي العلم بما فيه مِن كثرة الثواب الوارد في حفظ العلم وتعليمه، وبما في كتمه والكذب فيه مِن العقاب، والصوارفُ منتفية، لأنَّه ليس في الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهوةٌ ورغبة، وللأكثرين مثلُ ما في غيره مِن سائر المعاصي المحبوبة بنفسها، مثل الزنى، وأكلِ الحرام، ولا هو من الأكاذيب المؤدِّية إلى ذلك غالباً مثل الشهادة الباطلة في الأموال.
ويدل على هذا وجهان:
أحدهما: أنَّه ربما مضى عمرُ الفاسق المصرح وما كَذَب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذبةً واحدة متعمِّداً لها، ولعله لا يمضي له (2) يوم لم يكذب فيه في مصالح دنياه، فأما العصيانُ بغيرِ الكذب، فلا يكاد ينفك.
__________
(1) في (ب): راجح.
(2) ساقطة من (ب).(2/375)
الوجهُ الثاني: أنَّ الله شَدَّدَ في الشهادة، فلم يقبل إلا اثنينِ، وأكد إنكارَ المُنْكِرِ باليمين (1)، ولم يقبل منْ بينَه وبَيْنَ أخيه عداوةٌ إلى غير ذلك بخلاف الحديث، فَكُلُّ هذه الأمور (2) مقبولةٌ فيه.
قال بعضُ العلماء: وذلك لِقوة الداعي إلى الصدق (3) في الحديث، وقِلَّةِ الداعي إلى الكذب فيه.
وأما مما يقدر مِن قوة محبة الكذبِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو في نفسه نادر، وعلى تقدير وقوعه، فهو مِن العدل المتأوّل نادرٌ جداً هذا معلومٌ بالضرورة، فلما علمنا أنَّ الصدق في حديثهم أكثري، وأن الكذبَ نادرٌ، وجب ترجيحُ الصدقِ المعلومِ الغالبِ الراجحِ الأكثري على الكذبِ الموهومِ النادرِ المرجوح.
السادس: أن لهم خطأً وصواباً، فوجب النظرُ في أيُّهما أكثرُ، فما كان أكثرَ، علق به الحكم إلا ما خصَّه الدليلُ، وقد نظرنا، فوجدنا صوابَهم أكثر، لأنهم أقاموا أركانَ الإسلامِ الخمسة، وانْتَهَوْا عن جميع الكبائر المعلومهَ، وآمنوا بكُلِّ ما هو معلومٌ بالضرورة من الدين، وكثيرٌ منهم لا يعصي إلا في فعلٍ واحد، أو اعتقاد واحد وقع فيه أيضاًً مع عدم العلم بتحريمه، ومع وجود الشُّبْهَةِ في فعلِه واعتقادِهِ.
وبيان ذلك أن لِلدين عموداً وهو الإِيمانُ بالقلب، وأركاناً ظاهرة، وهي الخمسةُ المنصوصة: الشهادتان، والصلاةُ والصيامُ والحجُّ والزكاةُ،
__________
(1) انظر " شرح السنة " 10/ 68 - 102.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): داعي الصدق.(2/376)
وحدوداً معلومة ضرورية التحريم، وهي الكبائرُ المنصوصة، فهذه مهماتُ الإسلام، وقد جاؤوا بذلك كُلِّهِ على ما يُحِبُّ الله ويرضى، وهو الأكثرُ والأكبر، وليس التعذيبُ في الآخرة دليلاً على عدم القبول في الدنيا بدليلِ الجرحِ بالمعاصي الملتبسة، بل ببعض المباحات الدالة على قِلَّةِ الحياء والمروءة، وبكثرة السهو والغفلة، فكما قد يُرَدُّ مَنْ هو مِن أهل الخير، فقد يقْبَلُ مَنْ هو مِن أهل الشر، لأن حكم الرواية يرجع إلى الصدق وظنِّه، لا إلى استحقاق العقوبةِ في الآخرة. فأحكامُ الآخرةِ بِمَعْزِلٍ عن هذا، ولا شَكَّ أن القياس تعليقُ الحكم بما هو أكثرُ، دليلُه إجماعُ العلماء على أن مَنْ كان يَهِمُ في الحديث وَهْماً نادِراً، ويُصِيبُ كثيراً، فإنه يُقْبَلُ حديثُه تغليباً للأكثر إذا ثبت هذا، قبلوا تغليباً للأكثر.
السابع: روايتُهم للحجج الدالةِ على خلاف مذهبهم مثل أثر عائشة في نفي الرؤيةِ في ليلةِ الإسراء، وتفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] بجبريل عليه السلام (1). واتَّفَقُوا على صحة ذلك عنها، ومثلُ الأحاديث والمناقب الدالة على تفضيلِ أمير المؤمنين علي عليه السلام، ولقد ذكر الذهبي في كتابه " طبقات القُراء " (2) عليّاً عليه السلامُ، وذكر أنَّه لم يَسْبِقْهُ إلى الإسلام إلاّ خديجةُ، وأن المكان يَضِيقُ عن مناقبه وأنَّه جمع القرآنَ العظيم، وصحح ذلك، وَرَدَّ على من خالف فيه. ثم ذكر: عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابنِ سيرين أن أبا بكر
__________
(1) أخرجه البخاري (3234) و (3235) و (4612) و (4855) و (7380) و (7531)، والترمذي (3278)، وفي الباب عن ابن مسعود عند البخاري (4856) و (4857)، ومسلم (174).
(2) الموسوم بـ " معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار " 1/ 25 - 28 نشر مؤسسة الرسالة.(2/377)
رَضِيَ الله عنه مات ولم يَخْتِم القرآن، ولم يُضعف هذه الرواية، ولا عارضها بشيء، وكيف يُضعفها وقد بين إسنادَها، وهو على شرط البخاري ومسلم وجميع أئمة الحديث.
وكذلك عمر رضي الله عنه، فإِنَّهم اتَّفقُوا على أنَّه لم يجمع القرآنَ كأبي بكر، ولو كانوا مِن أهلِ الكذب مع تفضيلهم لهما، لَكَذَبُوا لهما، أو تركوا ذكر (1) ذلك نفياً وإثباتاً ليبقى مجملاً، ولم يعتنوا في ذكره، وإيرادِ إسناده (2) الصحيح، ولهذا نظائرُ لو ذكرتُها واستوفيتُها جاءت في مصنف مفرد، وأخرجت عن المقصود.
ومنْ ذلك حديثُ سَمرَةَ بنِ جُندب حيث (3) قال له عليه السلامُ ولأبي هُريرة، ولثالث معهما: " آخِرُكُمْ مَوْتاً في النَّارِ " (4) فكان آخرَهم موتاً سَمُرَةُ بن جندُب، رووه وحكموا بصحته، وقد رُوي أنَّه مات حريقاً؛ روي (5) أنَّه وقع في نارٍ أو ماء يغلي، ولعلَّ هذا معنى الحديث إن صحت روايتُه، فقد كان سمرةُ حافظاً، أثنى عليه الحَسَنُ البصري ووثقه، وروى عنه.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): إسناد.
(3) سقطت من (ب).
(4) أورده الإمام الذهبي في ترجمة سمرة من " السير " 3/ 184 - 185 من طريق شعبة، عن أبي مسلمة، عن أبي نضرة، عن أبي هريرة، وقال في إثره: هذا حديث غريب جدّاً، ولم يصح لأبي نضرة سماع من أبي هريرة، وله شويهد فذكره.
قلت: وفي سنده مجهولان، وآخر وفي سنده ضعيف ومجهول.
ثم روى من طريق هلال بن العلاء، عن عبد الله بن معاوية، عن رجل أن سمرة استجمر، فغفل عن نفسه حتى احترق، فقال: فهذا إن صح، فهو مراد النبي، يعني نار الدنيا.
(5) في (ب): وروي.(2/378)
ومثلُ حديث معاوية حيث قال عليه السلامُ: " إذا ارتقى معاوية منبري هذا، فاقتلوه " رواه الذهبي (1) بثلاثة أسانيد طعن في واحد منها وسكت عن (2) اثنين، ورواه بإسناد آخر " فاقبلوه، فإنَّه أمين " وقال: إسنادٌ مظلم وأمثالُ ذلك شيء كثير، لو نُقِلَتْ من كتب رجالهم لما جاءت في أقلِّ مِن مجلد كبير.
الثامن: تضعيفُهم لأحاديث أئمتهم المحتج بها في الفروع، فمن نظر " البدر المنير " و" خلاصته " و" الإرشاد " و" التلخيص " في الأحاديث التي احتج بها الشافعي عَلِمَ إنصافَهم، وأنَّهم غيرُ متعصبين، فلعلَّهم أجمعوا على ضَعْفِ قدر الربع من حُجَجِهِ، هذا وَهُمْ أصحابُه المنتسبون إليه، وكذلك المحدثون من الحنفية، ولهم في ذلك كتاب أحاديث الهداية (3)، وكذلك المالكية، وَمِنْ أحسنِ الكتب لهم في ذلك
__________
(1) في " السير " 3/ 149، والأسانيد الثلاثة لا تصح، ففي الأول علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف لا يحتج به، وفي الثاني الحكم بن ظهير، قال البخاري: تركوه، وفي الثالث إرسال الحسن البصري، وقال الحافظ ابن كثير في " البداية " 8/ 133: وهذا الحديث كذب بلا شك، ولو كان صحيحاًً، لبادر الصحابة إلى فعل ذلك، لأنهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
(2) تحرفت في (أ) و (ج) إلى " من ".
(3) " الهداية " كتاب في الفقه الحنفي ألفه شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المتوفى سنة 593 هـ، وكان قد صنف قبل هذا الكتاب " بداية المبتدي " جمعَ فيه كتابي أبي الحسن القدوري، و" الجامع الصغير " لمحمد بن الحسن، وزاد عليهما مسائل ثم شرحه بكتاب سماه " كفاية المنتهي " في ثمانين مجلداً، ثم اختصره في كتاب سماه " الهداية ". قال الشيخ أنور الكشميري: ليس في أسفار المذاهب الأربعة كتاب بمنزلة كتاب " الهداية " في تلخيص كلام القوم، وحسن تعبيره الرائق، والجمع للمهمات في تفقه نفس بكلمات كلها درر وغرر، وهو مطبوع بمفرده، ومع شرحيه لابن الهمام والعَيني، وقد تصدى لتخريج أحاديثه غير واحد من الحفاظ، من أجودها وأبرعها " نصب الراية " للإمام الحافظ المتقن جمال الدين أبي محمد عبد الله بن يوسف بن محمد الزَّيْلَعي، المتوفَّى سنة =(2/379)
وأكثرها إنصافاً كتابُ " التمهيد " (1) لابن عبد البر وهو أحدُ كتب الإِسلام ومختصره " التنضيد " حسن جداً.
العاشر (2): تضعيفُهم للأحاديثِ الدالة على مذاهبهم في التفضيل وغيرِه مثل حديث أنس مرفوعاًً: " لمَّا عرج بي جبريلُ رأيتُ في السَّمَاءِ خيلاً مَوْقُوفَةً مُسْرَجَةً مُلْجَمَة لا تَرُوثُ ولا تَبُولُ، رُؤُوسُها مِنَ اليَاقُوتِ وحَوَافِرُهَا مِن الزُّمُرُّدِ الأخْضَرِ، وأبْدَانُهَا مِن العِقْيَانِ الأصْفَرِ ذوات الأجنحة، فقلتُ لِجبريل: لِمَنْ هذه؟ قال: لِمُحِبِّي أبي بَكرٍ وعُمَرَ "،
__________
= (762) هـ. قال الحافظ ابن حجر: جمع تخريج أحاديث " الهداية "، فاستوعب فيه ما ذكره صاحب "الهداية" من الأحاديث والآثار في الأصل، وما أشار إليه إشاره، ثم اعتمد في كل باب أن يذكر أدلة المخالفين، ثم هو في ذلك كثير الإنصاف، يحكي ما وجده من غير اعتراضٍ ولا تعصب غالباً، فكثر إقبال الطوائف عليه. وهو مطبوع طبعة جيدة بعناية المجلس العلمي في أربعة أسفار كبار بمصر سنة (1357) هـ.
(1) واسمه الكامل " التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " تأليف الإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النَّمَري الأندلسي المتوفَّى سنة (463) هـ. وهو كتاب عظيم في بابه، لم يتقدمه أحد إلى مثله، رتبه بطريقة الإسناد على أسماء شيوخ الإمام مالك الذين روى عنهم ما في "الموطأ" من الأحاديث، وذكر ما له عن كل شيخ مرتباً على نسق حروف المعجم بترتيب المغاربة، ووصل كل مقطوع جاء متصلاً من غير رواية مالك، وكل مرسل جاء مسنداً من غير طريقه، وذكر من معاني الآثار وأحكامها المقصود بظاهر الخطاب ما عوَّل على مثله الفقهاء أولو الألباب، وجلب من أقاويل العلماء في تأويلها، وناسخها ومنسوخها وأحكامها ومعانيها ما يشتفي به القارىء الطالب ويبصره، وينبه العالم ويذكره، وأثبت من الشواهد على المعاني والإسناد بما حضره من الأثر ذكره، وصحبه حفظه مما تعظم به فائدة الكتاب. وقد قضى في تأليفه أكثر من ثلاثين سنة كما يدل عليه قوله فيه:
سميرَ فؤادي مُذْ ثلاثون حِجَّةً ... وصيقل ذهني والمفرج عن همي
بسطت لكم فيه كلام نبيكم ... بما في معانيه من الفقه والعلم
وفيه من الآثار ما يقتدى به ... إلى البر والتقوى وينهي عن الظلم
انطر " سير أعلام النبلاء " 18/ 153 - 163، وتقوم بنشره وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية، وقد صدر منه حتى الآن أربعة عشر جزءاً بالقطع الكبير، يسر الله إتمامه.
(2) كذا في الأصول كلها لم يرد فيها التاسع.(2/380)
قال الذهبي في " الميزان " (1): إنَّه حديث كذب.
ومثل حديثِ عقبةَ بنِ عامر سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أتاني جبريلُ، فقال: يا محمَّدُ إنَّ الله أمَرَكَ أن تستشيرَ أبا بكر ". في إسناده رجل يقال له: محمد بن عبد الرحمن بن غزوان. قال الدارقطنيُّ وغيرُه: كان يضعُ الحديثَ، وقال ابنُ عدي: له عن ثقات الناس بواطيل، وعدُّوا هذا الحديث منها (2).
ومثل: " أبو بكر يلي أُمَّتي مِن بعدي " قال الذهبي: هو كذب (3).
ومثل حديث رواه محمد بن بابشاذ البصري، وقد وثقه الدارقطني، قال الذهبي (4): لكنه أتى بطامَّةٍ لا تتطيب، فروى عن عائشة قالت: لمَّا كانت ليلتي مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضمَّني وإياه الفراشُ قلتُ: يا رسولَ الله حدثني بشيء لأبي، قال: "أخبرني جبريلُ عن الله أنَّه لما خلق الأرواح اختار روحَ أبي بكر لي مِن بين الأرواح، وإني ضمنتُ على الله أن لا يكونَ لي خليفةٌ مِن أمتي، ولا مؤنس في خلوتي، ولا ضجيع في حُفرتي إلا
__________
(1) 3/ 638 في ترجمة محمد بن عبيد الله بن مرزوق، والحديث أورده الخطيب البغدادي في " تاريخه " 2/ 329 - 330 من طريق عمر بن محمد الترمذي، عن جده لأمه أبي بكر محمد بن عبيد الله بن مرزوق، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن أنس. وعمر بن محمد الترمذي. قال الذهبي في " الميزان " 3/ 221: له حديث باطل يذكر في ترجمة محمد جده، ونقل عن أبي الفتح بن أبي الفوارس قوله في " الميزان " 3/ 221: فيه نظر. وانظر " تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة " 1/ 347 لابن عراق.
(2) انظر " ميزان الاعتدال " 3/ 625 - 626.
(3) انظر " ميزان الاعتدال " 3/ 180 و399، و4/ 282، و" الكامل " 6/ 2103 لابن عدي، و" تنزيه الشريعة " 1/ 344، و" المجروحين والضعفاء " 2/ 230، و" اللآلي المصنوعة "1/ 301، و" الفوائد المجموعة " ص 332 - 333، و" الجامع الكبير " 1/ 7 للسيوطي.
(4) في " الميزان " 3/ 488، و4/ 282 انظر " تاريخ بغداد " 14/ 36، و" تنزيه الشريعة " 1/ 342.(2/381)
أبوكِ، وتخرج بخلافته يومَ القيامة رايةٌ من دُرَّةٍ" فانظر إلى أمورٍ ثلاثة:
أوَّلُها: معنى هذا الحديث على مذهبهم غيرُ محال ولا ممتنع.
وثانيها: أنَّ رَاوِيَه ثقة، لكنه أغربه وشذَّبه، ولم يُتَابَعْ عليه.
وثالثها: أن الذهبيَّ سمَّى هذا الحديث طامة لا تتطيَّبُ مع ثقة راويه وإمكانِ صحته، فلو قال في حق علي مثل هذا لم يَشُك المغرب من (1) عوائدهم عند الغضب مما بان لهم أنَّه كذب أنَّه يُبْغِضُ علياً عليه السلامُ، وبمثل هذا ينفي بغضَه لعلي حين يقع منه شيءٌ من هذا مما يظنُّه مكذوباً من مناقبه عليه السلامُ، كما يُزَيِّفُ مثلَ ذلك في فضائل القرآن العظيم، وفي معجزاتِ النبي الكريم، فتأمَّلْ ذلك، فقد كان يكفيه ألطفُ من هذه العبارة في نفي هذا وأمثالِهِ من مناقب أبي بكر، لكنَّه يشتد غضبُهم مِن الكذب الواضح عندهم على حَسَبِ اجتهادهم.
ومثل ما روى محمدُ بنُ عبد الله بن إبراهيم بن ثابت أبو بكر البغدادي عن البراء مرفوعاً: " في أعلى عِلِّيينَ قُبَّةٌ معلَّقة بالقُدرة تخترِقُها رياحُ الرحمة، لها أربعةُ آلاف باب، كلما اشتاقَ أبو بكر إلى الجنة، فتح له منها بابٌ ".
قال الدارقطني: كان دجالاً.
وقال الخطيب: كان يضعُ الحديثَ، وعدُّوا هذا من موضوعاته (2).
__________
(1) في (ب): عن.
(2) قال الخطيب في " تاريخه " 5/ 441 بعد أن أورد الحديث من طريق أبي بكر الأشناني الذي قال عنه: كان كذاباً يضع الحديث عن يحيى بن معين، عن عبد الله بن إدريس الأودي، عن شعبة بن الحجاج، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن =(2/382)
ومثل ما روي عن أبي سعيدٍ مرفوعاً: " لما عُرِجَ بي إلى السماء ما مَرَرْتُ بسماءٍ إلا ووجدتُ فيها مكتوباً: محمد رسولُ الله، وأبو بكر الصديق مِن خلفي ".
قال الذهبي (1): هو باطل، وعن ابن عباس مثله وهو أيضاً باطل، وعن أبي هريرة أيضاًً مثله (2) وفيه رَجُلٌ مُتَّهم بالكذب.
ومثل ما روي عن الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم (3) جعلتَ أبا بكر رفيقي في الغارِ، فاجعله رفيقي في الجنة " من رواية محمد بن الوليد بن أبان القلانسي البغدادي مولى بني هاشم.
قال ابنُ عدي (4): كان يضع الحديث. وقال ابن أبي عَروبة: كذاب.
__________
= البراء، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من ركب هذا الحديث على مثل هذا الإسناد، فما أبقى من اطراح الحشمة والجرأة على الكذب شيئاً، ونعوذ بالله من الخذلان، ونسأله العصمة عن تزيين الشيطان إنه ولي ذلك، والقادر عليه. ثم نقل عن الدارقطني قوله في أبي بكر الأشناني (محمد ابن عبد الله بن إبراهيم بن ثابت): كذاب دجال. وانظر " الميزان " 3/ 605 - 606، و" اللآلي المصنوعة " 1/ 292.
(1) في " الميزان " 3/ 609 - 610 في ترجمة محمد بن عبد الله بن يوسف المهري، وهذا الحديث رواه الخطيب في " تاريخه " 5/ 444 - 445 من حديث أبي سعيد، وابن عباس، وأبي هريرة، والبزار (2482) من حديث ابن عمر، وابن عدي 4/ 1507 من حديث أبي هريرة، وأورده ابن الجوزي في " الموضوعات "، وقال: عبد الله بن إبراهيم الغفاري يضع الحديث، وشيخه فيه -عبد الرحمن بن زيد بن أسلم- ضعيف باتفاق، وقد حاول الحافظ السيوطي في " اللآلي " 1/ 296 - 297 أن يشد من أزر هذا الحديث، ويحسنه، فلم يصنع شيئاً، فإن كل ما ذكره لا ينهض للاستدلال على صحة مدعاه.
(2) في (ب): مثله أيضاًً.
(3) في (ب) و (ش): اللهم كما.
(4) في " الكامل " 6/ 2287، ونصه: يضع الحديث ويوصله، ويسرق، ويقلب الأسانيد والمتون، وانظر " ميزان الاعتدال " 4/ 59 - 60.(2/383)
ومثل ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاًً: " إن لله عَلَماً من نور مكتوبٌ فيه: لا إله إلاَّ اللهُ محمد رسولُ الله أبو بكر الصِّدِّيق ".
قال الذهبي: هو موضوع.
ومثل ما روي عن أنس مرفوعاًً: " انفلقت في يدي تُفاحةٌ عن حوراء، فقالت: أنا للمقتولِ ظلماً عثمان " قال الذهبي (1): وهذا كذب.
ومثل ما روى عمر بن الخطاب أنَّه قال: حدثني سيدا شَبابِ أهلِ الجنة عن أبيهما المرتضى، عن جدِّهما المصطفي أنَّه قال: " عمَرُ نُورُ الإسلام في الدنيا، وسراجُ أهل الجنة في الجنة "، وأوصى أن يجعلَ ذلك في كفنه على صدره فوضع فلما أصبحوا، وجدوه على قبره، وفيه: صَدَق الحسنُ والحسين، وصَدَقَ أبوهما، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ذكره الحافظُ المحدِّثُ أبو الخطاب عمر بن حسن المعروف بابنِ دحية الكلبي في كتابه " العَلَم المشهور " في جملة أحاديث موضوعة وأخبار مصنوعة، وهو مِن حفاظ الحديث على أنَّه متكلم عليه، وموصوم بالمجازفة، كذا قال الذهبي في ترجمته في كتابيه (2) " التذكرة " (3) و" الميزان " (4).
وقال الذهبي (5): إسحاق بنُ محمد بن إسحاق السُّوسي ذاك
__________
(1) في " الميزان " 4/ 385 في ترجمة يحيى بن شبيب اليماني.
(2) في (ب): كتابه.
(3) 4/ 1420 - 1422.
(4) 3/ 186 - 189، وترجمه أيضاً الذهبي في " السير " 23/ 389 - 395، وأرخ وفاته سنة ثلاث وثلاثين وست مئة.
(5) سقطت من (ب).(2/384)
الجاهل الذي أتى بالموضوعاتِ في فضل معاوية، فهو المُتَّهَم بها، أو شيوخه المجهولون (1).
وقال الذهبي في ترجمة السري بن عاصم (2): وهَّاه ابنُ عدي، وكذَّبه ابنُ خِراشٍ، قال الذهبي: ومن مصائبه أنَّه أتى بحديث متنه " رأيتُ حولَ العرش وردةً مكتوب فيها: محمَّدٌ رسولُ الله أبو بكر الصديق ".
وقال في ترجمة سعيد بن جَمْهَان: وثقه ابن معين، وقال أبو حاتم: لا يحتج به (3)، هو راوي " الخلافة بعدي ثلاثون سنة" حسنه الترمذي، وهذا
__________
(1) هذه الترجمة موضعها في " الميزان " 4/ 199 بعد ترجمة إسحاق بن محمد البيروتي، ولكنها سقطت من المطبوع فتستدرك من " لسان الميزان " 1/ 374.
(2) " الميزان " 2/ 117.
(3) " الميزان ": 2/ 131، وتمام كلامه فيه: روى عن حشرج بن نباتة، وعبد الوارث، قال أبو داود: ثقة، وقوم يضعفونه، وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به.
قلت: وحديثه أخرجه أبو داود (4646) و (4647)، والترمذي (2226)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 4/ 313، وأحمد في " المسند " 5/ 220 - 221، وفي " فضائل الصحابة " (789) و (790) و (1027)، وابن أبي عاصم 2/ 562، والطبراني في " الكبير " (13) و (136) و (6442)، والطيالسي (1107)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 341 من طرقٍ عن سعيد بن جمهان، عن سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم تكون بعد ذلك ملكاً " وزاد غير واحد من مخرجيه: قال سفينة: أمسك عليك أبا بكر سنتين، وعمر عشراً، وعثمان اثنتي عشرة، وعلياً ستاً.
وسعيد بن جمهان وثقه ابن معين، وأحمد، وأبو داود، وابن حبان، وقال النسائي: لا بأس به، وقال البخاري: في حديثه عجائب، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقيل للإمام أحمد: إن يحيى بن سعيد لم يرضه، فقال: باطل وغضب، وقال: ما قال هذا أحد غير علي بن المديني، ما سمعت يحيى يتكلم فيه بشيء وقال الساجي: لا يتابع على حديثه، فمثله يكون حسن الحديث، وقد حسن الترمذي حديثه هذا، وصححه ابن حبان (1534) و (1535)، والحاكم 3/ 71 و145، ووافقه الذهبي، وقال ابن أبي عاصم: حديثه ثابت من جهة النقل، وللحديث شاهد من حديث أبي بكرة الثقفي عند البيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 342، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وآخر من حديث جابر عند الواحدي في تفسيره " الوسيط " 3/ 126/2، وفيه من لا يعرف، فهما على ضعفهما يتقوى بهما حديث سفينة ويصح.(2/385)
كالنَّصِّ على خِلافة الثلاثة.
وقال (1) سعيدُ بن محمد الجرْمِي: روى عنه البخاري (2) وهو ثقة، لكنه شيعي.
وقال ابنُ معين: صدوق.
ولما روى أحمد بنُ بكر البَالِسِي (3) حديث " مَنْ أبغضَ عمر، فقد أبغضني " قال الأزديُّ: كان يضعُ الحديثَ (4).
وكذبوا إسماعيلَ بنَ يحيى بن عُبيد الله من ذرية أبي بكر، وقالوا: لا تَحِلُّ الروايةُ عنه، ولم يتشيَّعْ (5).
وعكس هذا: وهو تصحيحهم لما يُبَاينُ مذهبهم إذا رواه الثقات.
قال الذهبي في ترجمة زيد بنِ وهب (6)، وهو ممن اتفقوا على الاحتجاجِ بحديثه في الصحاح، قال: هو مِن جِلَّةِ التابعين وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به إِلا ما كان مِن يعقوب الفسوي، فإنه قال في تاريخه (7): في حديثه خَللٌ كثير. ولم يُصِبِ الفسوي.
ثم إنَّه ساق من روايته قولَ عمر: يا حُذَيفةُ باللهِ أنا من المنافقين (8)؟
__________
(1) في " الميزان " 2/ 157.
(2) ومسلم أيضاًً كما في " الميزان " و" التهذيب " 4/ 76.
(3) بفتع الباء، وكسر اللام: نسبة إلى بالس، مدينة مشهورة بين الرَّقَّة وحلب على عشرين فرسخاً من حلب، وقد تحرفت في الأصول الثلاثة إلى الباليني.
(4) " ميزان الاعتدال " 1/ 86، وانظر " لسان الميزان " 1/ 140 - 141.
(5) " ميزان الاعتدال " 1/ 253 - 254.
(6) في " الميزان ": 2/ 107.
(7) 2/ 768 - 770.
(8) أخرجه من طريق ابن نمير، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن =(2/386)
قال: وهذا محال (1) أخافُ أن يكونَ كذباً.
قال: ومما يُستَدَلُ به على ضعفِ حديثه روايتُهُ عن حذيفة: إن خرج الدجال، تبعه مَنْ كان تحت راية عثمان (2).
ومِن خَلَلِ روايته قولُه: حدثنا واللهِ أبو ذر بالرَّبَذَةِ قال: كنتُ مع
النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستقبلَنَا أُحد. الحديثَ (3).
__________
= وهب ... وهذا سند صحيح، رجاله رجال الصحيح.
(1) قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 404: هذا تعنت زائد، وما بمثل هذا تضعف الأثبات، ولا ترد الأحاديث الصحيحة، فهذا صدر عن عمر عند غلبة الخوف، وعدم أمن المكر فلا يلتفت إلى هذه الوساوس الفاسدة في تضعيف الثقات.
(2) أورده من حديث ابن نمير، حدثنا محمد بن الصلت، حدثنا منصور بن أبي الأسود، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة. وهذا سند رجاله رجال الصحيح ما عدا منصور بن أبي الأسود فإنه صدوق، روى حديثه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
(3) وتمامه: فقال: يا أبا ذر، ما أحِبُّ أن أحداً ذلك لي ذهباً يأتي عليه ليلة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده لدين، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا -وأومأ بيده-، ثم قال: يا أبا ذر، قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله. قال: إن الأكثرين هم الأقلون لا من قال بالمال هكذا وهكذا، لم قال: مكانك لا تبرَحْ حتى أرجع إليك. وانطلق حتى غاب عني، فسمعت صوتاً فتخوفت أن يكون قد عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأردت أن أذهب، ثم تذكرت قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تبرح " فمكثت، فأقبل، فقلت: يا رسول الله، سمعت صوتاً فخشيت أن يكون قد عرض لك، فأردت أن آتيك، ذكرث قولك: " لا تبرح " فقمت. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ذلك جبريلُ أتاني فأخبرني: أنَّه من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة " فقلت: يا رسول الله، وإن زنى وإن سرق؟ قال: " وإن زنى وإن سرق ".
قال الأعمش: قلت لزيد بن وهب: بلغني أنَّه أبو الدرداء. قال: أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة. أخرجه الفسوي في " تاريخه " من طريق عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، حدثنا الأعمش، حدثنا زيد بن وهب، حدثنا -والله- أبو ذر بالربذة، فذكره، وأخرجه البخاري في " صحيحه " (6268) من طريق عمر بن حفص بهذا الإسناد، وأخرجه مسلم (94) في الزكاة: باب الترغب في الصدقة من طرقٍ عن أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن أبي ذر، وله طرق أخرى عن زيد بن وهب به. انظرها في " تحفة الأشراف " 9/ 161 - 163.(2/387)
فهذا الذي استنكره الفسويُّ من حديثه، ما سُبِقَ إليه، ولو فتحنا هذه الوساوسَ على أنفسنا، رددنا كثيراً من السُّنن الثابتة بالوهم الفاسد، ولا نفَتَح علينا في زيد بن وهب خاصة بابُ الاعتزال، فردُّوا حديثَه الثابتَ عن ابنِ مسعود حديث الصادق المصدوق (1).
وزيدٌ سيدٌ جليلُ القدر، هاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقُبِضَ وزيدٌ في الطريق، وروى عن عمر، وعثمان، وعلي والسابقين، وحدث عنه خلقٌ، ووثقه ابن معين وغيره حتى إن الأعمشَ قال: إذا حدَّثَك زيد بن وهب عن أحد، فكأنك سمعتَه من الذي أخبرك عنه.
وذكر الذهبيُّ في ترجمة إبراهيم بن يعقوب (2): أن ابْنَ عديٍّ، قال في ترجمة إسماعيل بن أبان الورَّاق (3) لما قال فيه إبراهيمُ بن يعقوب الجوزجاني: كان مائلاً عن الحقِّ: لم يكن يكذِبُ، والجوزجاني كان مائلاً إلى مذهب أهلِ دمشق في التَّحَامُلِ على علي رضي الله عنه (4)، فقولُه في إسماعيل بن أبان: كان مائلاً عن الحق يعني ما عليه الكوفيون من
__________
(1) أخرجه البخاري (3208) و (3332) و (6594) و (7454)، ومسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجة (76)، والنسائي في التفسير في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 7/ 29، وأحمد 1/ 382 و414 و430 من طرقٍ كثيرة عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن ابن مسعود.
(2) في " الميزان " 1/ 75 - 76. وقد علق الحافظ ابن حجر على قول الجوزجاني في إسماعيل هذا في " مقدمة الفتح " ص 390، فقال: الجوزجاني كان ناصبياً منحرفاً عن علي، فهو ضد الشيعي المنحرف عن عثمان، والصواب موالاتهما جميعاً، ولا ينبغي أن يسمع قول مبتدع في مبتدع.
(3) في " الكامل " 1/ 304.
(4) كان هذا في وقتٍ ما ثم عُدِمَ ولله الحمد، كما يقول الإمام الذهبي، فليس فيهم الآن أحد ينتحل هذا المذهب الردىء.(2/388)
التشيع (1).
وقال (2) في بشر بن حرب البزار: منكرُ الحديث جداً، ثم ساق له حديث: " الخليفة بعدي أبو بكرٍ وعُمَرُ، ثم يقعُ الاختلافُ "، قال: باطل.
وضعف الذهبي (3) جعفر بن عبد الواحد قال (4): ومن بلاياه حديثه عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريره بحديث (5): " أصحابي كالنجوم " ومن هذا القبيل في ترجمة الحُسين بنِ عبدِ الرحمان (6)، وخالد بن إسماعيل المخزومي (7)، وخالد بن أنس (8)، وعبد الله بن داود (9)، وعبد الله بن محمد بن ربيعة (10).
وروى الذهبي في ترجمة سعيد بن خُثَيم الهلالي (11) قيل لابن معين فيه: هو شيعي؟ قال: وشيعي (12) ثقة.
__________
(1) وتمام كلام ابن عدي: وأما الصدق، فهو صدوق في الرواية. قلت: وإسماعيل بن أبان هذا من رجال " التهذيب "، روى له البخاري في " صحيحه "، ووثقه أحمد، وأبو داود، وابن معين، ومطيَّن، والنسائي، والدارقطني، وابن شاهين، وابن حبان، وأبو حاتم، وعلي بن المديني، وانظر " تهذيب الكمال " 3/ 5 - 10.
(2) في " الميزان " 1/ 315، وانظر " المجروحين والضعفاء " 1/ 191 - 192.
(3) في " الميزان " 1/ 412 - 413، وانظر " الكامل " 2/ 576 - 578.
(4) في (ب): وقال.
(5) في (ب): حديث.
(6) 1/ 539 - 540.
(7) 1/ 627.
(8) 1/ 627.
(9) 2/ 415
(10) 2/ 488.
(11) 2/ 133، وهو من رجال " التهذيب " قال الحافظ في " التقريب ": صدوق، رمي بالتشيع له أغاليط.
(12) " قال: وشيعي " ساقطة من (ب).(2/389)
وقال (1): سلام بن مسكين: أحد الثقات لكنه يرمى بالقدَرِ، وقال أبو داود: كان يذهب إلى القدر.
وقال في ترجمة سلم بن ميمون الزاهد الخواص (2): غلب عليه الصلاح حتى غفل عن حفظ الحديث فلا يحتج به، روى أن أعرابياً بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أجل، فقال له علي: يا أعرابي، إن مات النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ يقضيك؟ قال: لا أدري، قال: فأتهِ فَسَلْه (3)، فقال: " يقضيك أبو بكر " وذكر الحديثَ، وآخره: " إِذا أنا مِت وأبو بكر وعمر وعثمان، فإن استطعت أن تموت، فمت ".
قال العقيلي: حدث بمناكير لا يتابع عليها، وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه.
وذكر (4)، أن أحمد بن حنبل وثق سليمان بن قَرْم، وكان غالياً في التشيع. فلم يمنعهم غُلُوُّهُ في التشيع مِن توثيقه، ولا مِن رواية توثيق مَنْ وَثَّقَهُ، وقال ابن عدي (5): أحاديثُهُ حسان، هو (6) خيرٌ من سُليمان ابنِ أرقم بكثير.
قلت: ولم يكن ابنُ أرقم من الشيعة.
وقال الذهبيُّ في ترجمة عبد الرحمانِ بنِ أبي حاتم الرازي (7):
__________
(1) 2/ 181، وقد احتج به البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن غير الترمذي.
(2) 2/ 186 - 187.
(3) في (ب): فاسأله.
(4) أي الذهبي في " الميزان " 2/ 219.
(5) في " الكامل " 3/ 1105 - 1108.
(6) في (ب): وهو.
(7) " الميزان " 2/ 587 - 588.(2/390)
الحافظُ الثبتُ ابنُ الحافظ الثبت ... إلى قوله: وما ذكرتهُ لولا ذِكْرُ أبي الفضل السليماني له، فبئس ما صَنَعَ، فإنه ذكر أسامي الشيعة المحدِّثين الذين (1) يُقَدِّمُونَ علياً على عثمان: الأعمشَ، النعمانَ بنَ ثابت، شعبةَ ابن الحجاج، عبدَ الرزاق، عبدَ الله بن موسى، عبدَ الرحمان بن أبي حَاتم. انتهى.
فقد ردَّ الذهبيُّ على السليماني ذكرَ هؤلاء بالطعن في روايتهم لأجل التشيع.
وقال (2) في عبد الرحمان بن [مالك بن] مغول عن الدارقطني: متروك. وعن أبي داود: كذاب يضع الحديث، ثم روى من طريقه حديث " لا يُبْغِضُ أبا بكر وعمر مؤمن ولا يُحبهما منافق ". قال الذهبي: وقد رواه معلَّى بن هِلال كذّاب.
قلتُ: وذكر في ترجمةِ عبدِ الرحمان بن محمد بنِ أحمد بنِ فَضالَة (3) أنَّه حافظٌ، صاحبُ حديث، لكنه رافضي جلي. فلم يمنعه رفضُهُ مِن مدحه بأنه حافظٌ صاحبُ حديث.
وقال (4) في عبدِ الرحمان ابنِ أبي الموال (5): ثقةٌ مشهورٌ، خرج مع محمد بن عبد الله (6). قال ابن عدي (7): هو مستقيمُ الحديثٍ،
__________
(1) في (أ) و (ج): الذي.
(2) 2/ 584 - 585.
(3) 2/ 587، وقد تحرف فيه " جلي " إلى " جبل ".
(4) 2/ 592 - 593.
(5) ويقال: الموالي أيضاًً، وهو في (ب) كذلك.
(6) ابن حسن بن السَّيِّد الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي الحسني المدني، الأمير الواثب على المنصور هو وأخوه إبراهيم سنة (145) هـ. انظر " سير أعلام النبلاء " 6/ 210 - 218.
(7) " الكامل " 4/ 1616 - 1617.(2/391)
والذي أنكروا عليه حديثَ الاستخارة وقد رواه غيرُ واحد من الصحابة.
قلت: وأخرجه البخاريُّ (1) عنه، وهو مِن رجال البخاري (2) والأربعة.
وقال ابنُ خراش: صدوق.
وقال غيرُه: ضربه المنصورُ ضرباً شديداً ليدُلَّهُ على محمد بنِ عبد الله، وحبسه، وكان مِن شيعتهم.
وقال الذهبي في " الكاشف " (3): ثقة.
وقال الذهبي في ترجمة الصَّقْرِ بنِ عبد الرحمان: حَدَّثَ عن أنسٍ بحديثٍ كذبٍ: " قم يا أنس فافتح لأبي بكر، وبشره بالخِلافة من بعدي " وكذا في عمر وعثمان.
__________
(1) رقم (1162) في التهجد: باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى من طريق قتيبة بن سعيد، عن عبد الرحمن بن أبي الموال، حدثنا محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: " إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فليركَعْ ركعتين من غير الفريضة، لم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبه أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: في عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به، قال: ويسمي حاجته ". وهو من طرقٍ عن عبد الرحمن بن أبي الموال به عند أحمد 3/ 344، والبخاري في " صحيحه " (6382) و (7390)، وفي " الأدب المفرد " (293)، وأبي داود (1538)، والترمذي (480)، والنسائي 6/ 80، وابن ماجة (1383)، والبيهقي في " السنن " 3/ 52، وفي " الأسماء والصفات " ص 124 - 125، وانظر " صحيح ابن حبان " (888) بتحقيقنا.
(2) من قوله " عنه " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) 2/ 188.(2/392)
وقال بعضهم: هو صدوق. قال الذهبي: من أين جاءه الصدق (1).
وُيوجد مثلُ هذا في كتاب " ميزان الاعتدال في نقد الرِّجال " للذهبي، تركتُ ذكره للاختصار فليُنظر في تراجم عبدِ الله بن محمد بن سعيدٍ (2)، وعبد الله بن واقد أبي قتادة الحراني (3)، وموسى بنِ جعفر الأنصاري (4)، وموسى بنِ جعفر الكاظم (5)، وموسى بنِ عبد الرحمان الثقفي الصنعاني (6)، وموسى بنِ عيسى بن عبد الله (7)، وموسى بن محمد بن عطاء (8) الدمياطي البلقاوي المقدسي الواعظ (9)، ونُعَيم بنِ حَمَّاد الخُزاعي (10)، ونوحِ بن طلحة من أولاد أبي بكر الصديق (11)، ونوحِ بن أبي مريم (12) من المتعصِّبين لمذهب السنة، وهارون بنِ أحمد (13) في ترجمته حديثٌ عجيب، وهشامِ بنِ حسان (14) وهشامِ بن عمار (15)، وعامر بنِ صالح بن عبد الله مِن ذُرِّيَّةِ الزبير بن العوام (16)، وإسماعيل بنِ يحيى مِن ذرية أبي بكرٍ الصديق (17)، ويحيى بنِ شبيب اليماني (18)، والحسنِ بن علي بن زكريا ابن صالح (19)، ومحمد بنِ أحمد بن عياض بن أبي ظبية (20)، وعمرَ بنِ
__________
(1) " ميزان الاعتدال " 2/ 317.
(2) 2/ 491.
(3) 2/ 517 - 519.
(4) 4/ 201.
(5) 4/ 201 - 202.
(6) 4/ 211 - 212.
(7) 4/ 216.
(8) تحرف في الأصول إلى " حماد ".
(9) 4/ 219.
(10) 4/ 267 - 270.
(11) 4/ 278.
(12) 4/ 279 - 280.
(13) 4/ 282.
(14) 4/ 295 - 298.
(15) 4/ 302 - 304.
(16) 2/ 360.
(17) 1/ 253 - 254.
(18) 4/ 385.
(19) 1/ 506 - 509.
(20) 3/ 465، وتحرف فيه: " ابن أبي ظبية " إلى " عن أبي ظبية ".(2/393)
حمزة (1) بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (2)، وفليح بنِ سليمان (3).
وفي باب السجود من " مجمع الزوائد " (4) للهيثمي عن ابن عباس عنه - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ لَمْ يَلْزِقْ أنفَه مَعَ جَبْهَتهِ بالأرْض إذَا سَجَدَ، لَمْ تَجُزْ صَلاَتُهُ " رواه الطبراني في " الكبير " و" الأوسط ".
قال الهيثمي: ورجاله موثَّقُونَ وإن كان في بعضهم اختلافٌ من أجل التشيع. انتهي بحروفه.
وقال الذهبي (5). محمدُ بنُ حمزة بن عمر بن إبراهيم العلوي، كان جَدُّه زيدياً مِن العلماء، وأما هو، فرافِضِي. فدلَّ على تنزيههم للزيدية من الرّفض، ومعرفتهم لذلك.
وقال في ترجمة معبدٍ الجُهَني (6): إنَّه تابعي صدوق في نفسه، لكنه سَنَّ سنة سيئة، فكان أوَّلَ مَنْ تَكلم في القدر.
ونحو هذا لا يُحْصَرُ، يعرِفُه بالضرورة منْ طالع كتبهم في علم الرجال.
وقد وثَّقوا مِن الشيعة: أبانَ بن تغلب (م 4)، وأحمدَ بنَ محمد بن
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) 3/ 192.
(3) 3/ 365 - 366.
(4) 2/ 126، وهو في " الطبراني " برقم (11917).
(5) " ميزان الاعتدال " 3/ 529.
(6) 4/ 141.(2/394)
أحمد أبو منصور (1)، وأحمدَ بن محمد بنِ الحسين بن فاذشاه صاحب الطبراني (2)، وعبد الله بن الحسن (4) وابنَه محمد (د س ت)؛ وأحمدَ ابنَ محمد بن سعيد بن عقدة (3)، وأحمدَ بن المُفَضَّل (د س)، وإسماعيل بن أبان الأزدي شيخ البخاري (خ ت)، وإسماعيلَ بنَ زكريا الخلقاني الكوفي، حديثُه في كتب الجماعة (ع)، وإسماعيل بنَ عبد الرحمان السُّدِّي (م 4)، وإسماعيل بن موسى الفزاري الكوفي ابن بنت السُّدي (د ت ق)، وبهزَ بنَ أسد (ع)، وقال الذهبي فيه: إمام حجة، وتليدَ بنَ سليمان (ت) أثنى (4) عليه أحمد، وثعلبةَ بنَ يزيد الحمَّاني (عس)، وجابرَ بن يزيد الجعفي (د ت ق)، وثقه غيرُ واحدٍ منهم (5)، وجعفرَ بنَ زياد الأحمر (د ت س)، وجعفَر بن سُليمان الضُّبَعي (م 4)، وَجُمَيْعَ بنَ عمير (6)، والحارثَ بن حَصيرة (بخ)، والحارثَ بن عبد الله
__________
(1) الصيرفي، قال الخطيب: رافضي، وسماعه صحيح. " ميزان الاعتدال " 1/ 132.
(2) في " الميزان " 1/ 136: سماعه صحيح، لكنه شيعي معتزلي رديء المذهب.
(3) في " الميزان " 1/ 136 - 138: أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ أبو العباس، محدث الكوفة، شيعي متوسط، ضعفه غير واحد، وقواه آخرون، قال ابن عدي 1/ 209: صاحب معرفة، وحفظ وتقدم في هذه الصنعة، رأيت مشايخ بغداد يسيئون الثناء عليه، لولا أني شرطت أن أذكر كل من تكلم فيه لم أذكره للذي كان فيه من الفضل والمعرفة، وقد ترجمه الذهبي أيضاًً في " تذكرة الحفاظ " 3/ 839 - 842، و" سير أعلام النبلاء " 15/ 340 - 355.
(4) في " التهذيب " 1/ 509 - 510 تضعيفه عن غير واحدٍ من الأئمة، ولذا قال الحافظ في " التقريب ": ضعيف.
(5) وضعفه آخرون، قال الإمام الذهبي في " الكاشف " 1/ 177 - 178: جابر بن يزيد الجعفي عن أبي الطفيل والشعبي، وعنه شعبة والسفيانان، من أكبر علماء الشيعة، وثقه شعبة فشذ، وتركه الحفاظ، قال أبو داود: ليس في كتابي له شيء سوى حديث السهو. وقال الحافظ في " القريب ": ضعيف.
(6) قال البخاري: فيه نظر، وقال ابن حبان: يضع الحديث، وقال ابن نمير: كان من أكذب الناس. " ميزان الاعتدال " 1/ 421.(2/395)
الأعور (1)، وحَبَّةَ بن جُوين من الغُلاة وثَّقه العجلي وحدَه (2)، والحسنَ بنَ صالح بن حي (م 4) وقال الذهبي: كان مِن الأعلامِ العُبَّادِ، وخالدَ بنَ مخلد القطواني الكوفي (ع) مِن رجال البخاري وسائر الجماعة (3) وفي ترجمته قال الذهبي ما لفظه: قال الجوزجاني: كان شتَّاماً معلناً بسوء مذهبه، وكان أبو نُعيم الفَضْلُ بنُ دُكين (ع)، كوفيَّ المذهب يعني يتشيَّع، وهو أحدُ شيوخ البخاري، ورجالِ الجماعةِ كُلِّهم، وعبيدَ الله بن موسى العبسي (ع) أسوأ مذهباً -
قال الذهبيُّ: وكذلك عبدُ الرزاق (ع) وعدَّة.
قلت: قال ابنُ سعد في عُبيد الله بن موسى: كان مُفْرِطَ التشيع، وقال: كان شيعياً محترقاً، ومع هذا حديثه متفق على صحته، لأنَّه ممن خرَّج عنه البخاريُّ ومسلمٌ وسائرُ الجماعة.
وقال الذهبيُّ: كان ذا زهدٍ وعبادة وإتقان.
__________
(1) قال الذهبي في " السير " 4/ 152: هو العلامة الإمام أبو زهير الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد الهمداني الكوفي صاحب علي وابن مسعود. كان فقيهاً، كثير العلم على لين في حديثه، وقال في " الميزان " 1/ 435: من كبار علماء التابعين على ضعف فيه، وقال الحافظ في " التقريب ": في حديثه ضعف.
(2) وفي ترجمة حارثة بن مضرب من " التهذيب " 2/ 167 أن أحمد وثقه.
(3) في " مقدمة الفتح " ص 400: خالد بن مخلد القطواني الكوفي، أبو الهيثم من كبار شيوخ البخاري روى عنه، وروى عن واحدٍ عنه، قال العجلي: ثقة فيه تشيع، وقال ابن سعد: كان متشيعاً مفرطاً، وقال صالح جزرة: ثقة إلا أنَّه كان متهماً بالغلو في التشيع، وقال أحمد بن حنبل: له مناكير، وقال أبو داود: صدوق إلا أنَّه يتشيع، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. قلت (القائل ابن حجر): أما التشيع، فقد قدمنا أنَّه إذا كان ثبت الأخذ، والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه، وأما المناكير فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه، وأوردها في " كامله " 3/ 904 - 907، وليس فيها شيء مما أخرجه له البخاري، بل لم أر له عنده من أفراده سوى حديث واحد، وهو حديث أبي هريرة " من عادى لي ولياً " الحديث، وروى له الباقون سوى أبي داود.(2/396)
- وعبدَ الحميد بن جعفر (م 4)، ومنصور بن أبي الأسود (د ت س)، وهارونَ بن سعد العِجلي (م)، وهاشمَ بن البَرِيدِ (د س ق)، ويحيى بنَ الجزار (م 4)، ويحيى بن عبد الله أبو حجيَّة الكندي الأجلح السَّبيعي (ع) يذكر مرة باسمه ومرة بلقبه، وعمر بن إبراهيم العلوي الزيدي (1)، وقد مر (2) عبدُ الرزاق بن همَّام الإمام، وعبدُ الرحمان ابن أبي الموالي (خ 4) الخارج مع محمد بن عبد الله، وأبو معاوية الضرير محمد بن خازم (ع) -
قال الحاكم: احتجَّا به، وقد اشتهر عنه الغُلُوُّ، قال الذهبي: أي: غلو التشيع، وقد وثقه العِجلي.
وعدي بن ثابت (ع) متفق عليه في كتب الجماعة. وقد قال ابنُ معين: شيعي مفرط. وقال الدارقطني: رافضي غال.
وممَّن أثنوا عليه لِصحَّة الحديث من المعتزلة: أحمدُ بنُ يوسف ابن (3) يعقوب بن البُهلول (4)، وإسماعيلُ بنُ علي بن سعد السَّمان (5)،
__________
(1) في " الميزان " 3/ 181: وكان مشاركاً في علوم، وهو فقير متقنع خَير ديّن على بدعته، توفي سنة (539) هـ. وقال السمعاني فيما نقله عنه الذهبي في " السير " 20/رقم الترجمة (86): شيخ كبير، له معرفة بالفقه، والحديث، واللغة، والتفسير، والنحو، وله التصانيف في النحو، وهو فقير قانع باليسير، سمعته يقول: أنا زيدي المذهب، ولكني أفتي على مذهب السلطان، يعني مذهب أبي حنيفة.
(2) وقد مر: ساقط من (ب).
(3) يوسف بن: ساقط من (ب).
(4) ذكره في " الميزان " 1/ 165 - 166، ووصفه بالاتقان، وصحة السماع، وأرخ وفاته سنة (378) هـ.
(5) وصفه في " الميزان " 1/ 239 بقوله: صدوق، لكنه معتزلي جلد، وهو مترجم في " السير " 18/رقم الترجمة (26)، وفي " تذكرة الحفاظ " 3/ 1121 - 1123، وكانت وفاته سنة (443) هـ، وقيل: سبعٍ، وقيل: خمس وأربعين، وقد أورده ابن تغري بردي في وفيات سنة ثلاث وأربعين، وأورده ابن كثير في وفيات سنة خمس وأربعين.(2/397)
وثورُ بن يزيد الكَلاعي (خ 4)، وحسانُ بن عطية (ع)، والحسنُ بن أحمد أبو علي الفارسي النحوي صاحبُ التصانيف، وحمزةُ بن نجيح (بخ) (1)، وقتادة بنُ دِعامة (ع)، وعبدُ الله بن أبي لَبيد (خ م د س ق)، وعبدُ الله بنُ أبي نجيح (ع) وفي ترجمته نسبةُ الاعتزالِ إلى زكريا بنِ إسحاق (ع)، وشبلِ بنِ عباد (خ د س)، وابنِ أبي ذئب (ع)، وسيفِ بن سليمان (خ م د س ق) وكُلُّهُمْ من أئمة الحديث. انتهى، وعبدُ الأعلى بنُ عبد الأعلى الشامي (ع)، وعبدُ الرحمان بن إسحاق القرشيُّ المدني (م 4)، وهِبةُ الله بن المبارك بن الدَّواتي (2)، وهشامُ بن عمار (خ 4) شيخ البخاري، والهبة بنُ حميد، ومحمودُ الزمخشري، وعليُّ بن محمد بن أقضى القَضاة (3)، وعليُّ بنُ محمد بن الحسن بن يزداد (4) وخلق سواهم (5). وقد أثبتُّ على من ذكرتُه علامَةَ (6)
__________
(1) في " التهذيب " 3/ 34: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: ضعيف، قلت: يكتب حديثه؟ فقال: رضا، وقال الآجري عن أبي داود: ثقة، وقال الأزدي: ضعيف، وذكره ابن حبان في الثفات، وقال: كان قدرياً.
(2) في " الميزان " 4/ 292: كان يتهم بالرفض والاعتزال، وكان قد جمع مئتي دينار، فأخذت منه في الحمام، وكان يظهر الفقر، فبقي متحسراً عليها، وترك من كان يصله الإحسان إليه، وقل: كان تاركاً للجمعة أيضاً. مات سنة إحدى عشرة وخمس مئة.
(3) هو الإمام العلامة أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي الشافعي صاحب التصانيف الحسان في الفقه، والتفسير، وأصول الفقه، والأدب، المتوفى سنة (450) هـ. حدث عنه أبو بكر الخطيب، ووثقه، اتهمه بالاعتزال أبو عمرو بن الصلاح، والإمام الذهبي في " الميزان " 3/ 155، وقال الحافظ في " لسان الميزان " 4/ 260 ولا ينبغي أن يطلق عليه اسم الاعتزال. مترجم في " السير " 18/رقم الترجمة (29).
(4) تحرف في الأصول إلى " برداق "، وعلي بن محمد هذا مترجم في " السير " 18/رقم الترجمة (100).
(5) وانظر " مقدمة الفتح " ص 459 - 464، و" تدريب الراوي " 1/ 328 - 329، فقد سردا أسماء من رمي ببدعة ممن خرج حديثهم الشيخان أو أحدهما.
(6) وانظر تفسير هذه العلامات في " تهذيب الكمال " 1/ 149 - 150 للحافظ المزي، طبع مؤسسة الرسالة.(2/398)
من خَرَّج حديثَه من أئمة دواوينِ الإسلام ومَنْ لم أُخرج له علامةً، فهو مذكور في " الميزان ".
الحادي عشر: تحريهم لِلصدق في كتب الجرح والتعديل، وعدم المداهنة، فقد تكلَّمُوا في تضعيف الأصدقاء والقرابات مثل نوح بنِ أبي مريم، وابن أبي داود (1)، ووالد علي بن المديني (2) بل في منْ يعظمونه وهو حقيقٌ بالتعظيم كالإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله ضعَّفَهُ بعضهم من جهة حفظه (3)، وصَدَعُوا بذلك في التصانيفِ مع أن الملوك حنفية في هذه الأعصار في مصر والشام وهم مستمرون في ذلك، وتجد المحدِّث الشافعي إذا تعرَّض لذكر الشافعي في كتب الرِّجال لم يُعظِّمْهُ في معرفة الحديث ورجاله وعِلَلِه كما يُعظم غيره بل يُوردون في تعديله عباراتٍ فيها لين مثل (4): لا بأسَ به، وثقة ونحو ذلك، ويخُصُّونَ مَنْ هُوَ دونه بما هو أرفعُ من ذلك مثل: إمامٌ حُجَّة لا يُسأَلُ عن مثله، وقد كان الشافعي يُوثِّقُ ابنَ أبي يحيى أحدَ شيوخه في الحديث وأصفق (5) الأكثرون على تضعيفه، وكذَّبه جماعة، وعَمِلَ أصحابُ الحديث من أصحابِ الشافعي على تضعيفه، وعدمِ المبالاة بتوثيقِ الشافعي له.
__________
(1) هو عبد الله بن سليمان بن الأشعث السجستاني ابن صاحب السنن. مترجم في " السير " 13/ 221 - 237.
(2) هو عبد الله بن جعفر بن نجيح، قال الإمام الذهبي في " الميزان " 2/ 401: متفق على ضعفه.
(3) ولم يُصب في ذلك، فقد شهد له بالحفظ أمير المؤمنين في الحديث الإمام الحافظ شعبة بن الحجاج الواسطي كما في " الخيرات الحسان " ص 34.
(4) ساقطة من (ب).
(5) يقال: أصفقوا على الأمر: اجتمعوا عليه، وأصفقواعلى الرجل كذلك، قال زهير:
رأيتُ بني آلِ امرِىء القَيْسِ أصْفَقُوا ... علينا، وقَالُوا: إنَّنا نَحْنُ أكثر(2/399)
الثاني عشر: تعديلُهم لأعدائهم من غلاة الروافض، وكم في " الصحيحين " مِن رافضي سَبَّابٍ للصحابة، غالٍ في الرفض، كما مرَّ تعدادُ بعضِهم، ونقل ذلك من كتبهم وهم يعلمون ذلك، ويذكرون مذهَبه في كتبهم في الرجال، ويُصَرِّحونَ بأنه ثقةٌ حُجَّةٌ مأمونٌ في الحديث، والعدلُ على العدو من أبلغ أمارات الإِنصاف.
الثالث عشر: روايتُهم لِفَضَائل علي عليه السلامُ، وفضائِل أهلِ البيت في أيَّامِ بني أمية وهو عليه السَّلامُ -حاشاه من ذلك- يُلْعَنُ على المنابِرِ، ولا يروي فضائِلَه إلاَّ مَنْ خاطر بروحه.
الرابع عشر: روايةُ مساوىء معاوية، والأحاديث الواردة بذمه (1) وذَمِّ صِبية بني أمية وهي في تواريخهم وكتبهم، وبيان المكذوب مِن فضائله، وأنه لم يَصِحَّ منها شيء. رواه الذهبي عن إسحاق بنِ راهويه، وبيان كُل ذلك رووه في زمنِ بني أمية بدليل اتصالِ إسناده، وبذلك تأوَّلوا حديثَ أبي هريرة في قوله: حفظتُ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جِرابين، أما أحدهما فبثثتُه في الناسِ، وأما الآخر فلو أبثه (2) لَقُطِعَ هذا البُلْعُومُ (3)، قالوا: هُوَ ما كان عنده من ذمِّ أمراءِ بني أمية الذين كان معاصراً لهم، وكذلك صَرَّحُوا بتأويلِ حديث عمرو بنِ العاص بذلك حيث قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
__________
(1) وكلها غير صحيحة.
(2) في (ب): بثثته.
(3) أخرجه البخاري في " صحيحه " (120) في العلم: باب حفظ العلم من طريق ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين، فأمَّا أحدهما، فبثثته، وأمَّا الآخر فلو بثثته، قطع هذا البلعوم. وانظر " السير " 2/ 596. وحديث البخاري (7058) في الفتن: باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء ".(2/400)
جهاراً غيرَ سِرار: " إنَّ آلَ أبي فُلانٍ لَيْسُوا بأَوْليائي إِنَّما أَوْليائي المُتَّقونَ " (1) فسَّروه بآل أبي العاص، منهم الحكمُ طريدُ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ممَّن فسره بذلك القاضي عِياض في شرح مسلم، وكذلك النواوي في شرح مسلم (2) أيضاًً، وكذلك ابنُ حجر في مقدمة شرح البخاري، وسيأتي ذلك مستوفى قريباً، ويأتي تمام لهذا في ترجمة مروان والوليد في الأوهام الآتية إن شاء اللهُ تعالى.
وكذلك ذكر الرازيُّ (3) عن ابن عباس أن الشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية، وأنَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى بني أمية يتداولون مِنْبَرَهُ، فَقَصَّ رؤياه على أبي بكر وعمر سِرّاً، فتسمَّعهم الحكمُ، فأفشى سِرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنفاه لأجل ذلك، هذا مختصر مما ذكره الرازي، وروى الترمذي ما يشهد لذلك كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه البخاري (5990) في الأدب: باب تبل الرحم ببلالها، ومسلم (215) في الإيمان: باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم.
(2) 3/ 88، ونصّه: قال القاضي عِياض رضيَ الله عنه: قيل: إنَّ المكنيّ عنه ها هنا الحكم بن أبي العاص. والله أعلم.
(3) في تفسيره 20/ 237، ونسبة هذا القول إلى ابن عباس لا تصح، فقد رواه ابن جرير في تفسيره 15/ 77 من طريق محمد بن الحسن بن زبالة، حدَّثنا عبد المهيمن بن عباس ابن سهل بن سعد حدَّثني أبي عن جدي، وهذا سند ضعيف جداً، فإنَّ محمد بن الحسن بن زبالة متروك، وشيخه ضعيف، وقد صحَّ عن ابن عباس أنها شجرة الزقوم، قال البخاري في " صحيحه " (4716) حدَّثنا علي بن عبد الله، حدَّثنا سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} قال: هي رؤيا عين أُريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} شجرة الزقوم.
قال الحافظ في " الفتح " 8/ 399: هذا هو الصحيح، وذكره ابن أبي حاتم عن بضعة عشر نفساً من التابعين، وضعف الرواية السابقة التي تنص على أنها الحكم بن أبي العاص.(2/401)
الخامس عشر: أنَّ حديثَهم أقوى مِن الرأي ولو لم نقبلْه، لقبلنا الرأيَ، وإنما قُلنا: إِنَّها أقوى مِن الرأي لوجهين:
أحدُهما: أنَّ الظنَّ المستفاد منه أقوى مِن الظن عن الرأي، وذلك لِقلة مقدماته، وكثرةِ مقدمات الرأي، فالرأيُ يتوقَّف على ظَنِّ صحته في الجملة، وظنِّ صحة النصِّ في الأصل، وظنِّ أن الحُكْمَ الثابت في الأصل مُعَلَّلٌ، وظنِّ أن عِلَّته متعدية غيرُ قاصرة جملة، وظنِّ أنها موجودةٌ في الفرع، وظنِّ أنَّها غيرُ مخصّصة، وظنِّ عَدَم النصّ المانع من القياس، وظنِّ عدم العلة المعارضة لها. فأما أحاديث المتأولين فإنَّها تتوقَّفُ على ظنِّ قبولِ المتأوِّل وصدقه، وظنِّ عدم المعارض والناسخ والمخصِّصِ على الاحتياط وإلاَّ، ففيه نظر، ليس هذا موضِعَ ذكره.
وثانيهما: أن الأدلةَ الدالة على قبول المتأولين أقوى من الأدلة الدالة على القياسِ، فلم يستدِلُّوا على القياس من القرآن إلاَّ بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والاحتجاج بها ضعيف جداً (1).
المسألة الثانية: قبولُ كافرِ التأويل. وليس في الأحاديث المُعْتَمَدِ عليها مَنْ هو عندنا كافِرُ تأويل بحمد الله تعالى، ولكني أذكر الحُجَجَ في ذلك لمن أحبَّ أن ينظر فيه، والمسألةُ محلُّ نظر، وأما مَنْ قبلهم، فقد احتجَّ على قبولهم بجميع ما تقدَّم إلاَّ أشياءَ يسيرةً، فهي تختصُّ فساقَ التأويل، وذلك لا يخفى على العارفِ المتأمل، ولْنَذْكُر من ذلك وجوهاً ثلاثة:
الأول: الإجماعُ (2) رواه خمسة ثقات: الإمامُ يحيى بنُ حمزة،
__________
(1) انظر " المحصول " 2/ 2/37 - 51.
(2) سقطت من (ب).(2/402)
والمؤيَّد، والمنصورُ، والقاضي زيد، والفقيهُ عبدُ الله بن زيد، أما الإمام يحيى بنُ حمزة، فروى ذلك في موضعين من " الانتصار ":
أحدُهما: في باب الأذان قال ما لفظه: وأما كفارُ التأويل، -وهم (1) المجبرة والمُشَبِّهة والروافض والخوارج-، فهؤلاء اختلف أهلُ القبلة في كفرهم، والمختارُ أنهم ليسوا بكفارٍ، لأن الأدلةَ بكفرهم تحتملُ احتمالاتٍ كثيرة، وعلى الجملة فمن حكم بإسلامهم أو بكفرهم قضى بصحة أذانِهم، وقبولِ شهادتهم. انتهى.
وعدم التكفير لهؤلاء كُلِّهم هو اختيارُ شيخ المعتزلة أبي الحسين، وشيخِ الأشعرية الفخر الرازي وأصحابهما، ذكره الشيخ مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى "، وهو اختيارُ القدماء كما أشار إليه محمدُ بنُ منصور الكوفي (2) في كتابه " الجملة والألفة " (3).
وثانيهما: في كتاب الشهادات قال عليه السلامُ ما لفظه: ومَنْ كفر المجبرة والمشبهة، قَبِلَ أخبارَهم، وأجاز شهادتَهم على المسلمين وعلى بعضهم، وناكحوهم وقبروهم في مقابر المسلمين، وتوارثوا هم والمسلمون.
وأما المنصورُ بالله عليه السلام فلفظه في " المهذب ": نعم، ذلك
__________
(1) سقطت من (ب) وفي (أ) فهم.
(2) هو أبو جعفر محمد بن منصور بن يزيد المرادي الزيدي المفسر الفقيه المتوفى سنة (290) هـ، وقد تقدم التعريف به ص 53 من هذا الجزء، وانظر أيضاً " تاريخ التراث العربي " 3/ 333 - 334 لسزكين، و" فهرس مخطوطات المكتبة الغربية " بالجامع الكبير بصنعاء ص 54 و55 و57 و77 و78.
(3) في " تاريخ التراث ": " الألفة والجملة ".(2/403)
لأنه قال فيه ما لفظه: وقد ذكر أهلُ التحصيل من العلماء جوازَ قبول المخالفين في الاعتقادات، وروى عنهم المحققون بغير مناكرة في ذلك، ذكره عليه السلامُ في كتاب الشهادات من " المهذب "، وقد تقدم الكلام في أنَّ هذا يُفيدُ الإجماعَ عند الكلام (1) على رواية الإجماعِ على قبول فساق التأويل، فخُذه من هناك.
وأما المؤيَّدُ بالله عليه السلام، فإنه قال: والأظهرُ عند أصحابنا قبولُ كافِر التأويل (2) وقد تقدَّم نقلُه، وبيانُ الوجه في أنَّه يُفيدُ إِجماع علماء العترة (3) عليهم السلامُ.
وأما روايةُ القاضي زيد، فقد تقدمت وهي صحيحة صريحة.
وأما الفقيهُ عبدُ الله بن زيد، فقال: اختلفوا في قبول الكافر والفاسق من جهة التأويل، والمختارُ: أنَّهُ يقبل خبرهما متى كانا عَدْلَيْنِ في مذهبهما، وهو قولُ طائفة من العلماء، والذي يَدُلُّ على صحة قولنا أنَّ الصحابة أجمعت على ذلك.
فإن قلتَ: قد رُوي الخلافُ من غير شك، فكيف يمكن الإصغاءُ إلى رواية هذا الإجماع؟
قلتُ: الجواب من وجوه:
الأول: معارضة، وذلك أن (4) السَّيِّد قد حكم بأنَّ راوي الإجماعِ مُقدَّم على راوي الخلاف، واحتجَّ على ذلك بحجتين:
__________
(1) " عند الكلام " ساقط من (ب).
(2) من قوله: " فخذ من هناك " إلى هنا سقط من (ب).
(3) في (ب): إجماع العلماء علماء الأمة.
(4) في (ب): بأن.(2/404)
أحدُهما: أن المثبِتَ أولى من النافي.
والثانية: أنَّ راويَ الإجماع ناقلٌ عن حكم الأصل، والناقِلُ أولى، وقد بيَّنا فسادَ ما ذكره فيما تقدَّم (1)، وإنما أردنا بهذا أن يحتجَّ عليه بما هو صحيحٌ على أصله.
الثاني: أنَّ شروطَ التعارض عزيزة كما ذكرها في الفرق بين النسخ والبداء (2) وبيانُه في مسألتنا أنَّه يقعُ الإجماعُ من أهل عصر والخلافُ بينَ أهل عصر آخر، فإن كان الإجماعُ متقدماً، فالخلافُ وقع ممَّن لم (3) يعلم بالإجماعِ، وإن كان الإجماعُ متأخراً، فذلك ظاهر.
الثالث: أن أقلَّ أحوالِ مدَّعِي الإِجماعِ أن يعرف أنَّهُ قولُ الجماهير، وأنه لا يُعرف في ذلك خلافاً حتى لا يُنسب المختار لهذا القول إلى الشذوذ.
فإن قيل: فقد روى الإمامُ الخلافَ في " المعيار " فتناقض.
قلنا: شرطُ التناقض عزيز، إذ لا يَصِحُّ مع إمكان الجمع، والجمعُ ممكن وذلك أن يكون الخلافُ الذي في "المعيار" منسوباً إلى أهل
__________
(1) " فيما تقدم " سقط من (ب).
(2) والقول بالبداء -وهو أن الله سبحانه وتعالى يغير ما يريد تبعاً لتغير علمه، وأنَّه يأمر بالشيء ثم يأمر بخلافه- هو اعتقاد الكيسانية أتباع المختار بن عبيد الثقفي، الذين ظهروا عقب مقتل الحسين رضي الله عنه، وقد قال الشهرستاني في " الملل والنحل " 1/ 149: وإنَّما صار المختار إلى اختيار القول بالبداء، لأنَّه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال: إمَّا بوحي يوحى إليه، وإمَّا برسالة من قِبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء، وحدوث حادثة، فإن وافق كونه قوله، جعله دليلاً على صدق دعواه، وإن لم يوافق، قال: قد بدا لربكم. وإن ذلك بلا شك ضلال مبين، وفساد في الاعتقاد.
(3) سقطت من (ب).(2/405)
عصر، والإجماعُ الذي رواه في " الانتصار " منسوباً إلى أهل عصرٍ آخر، وذلك كثير في مسائل الإجماع.
فان قيل: فقد روى قاضي القضاةِ الإجماعُ، فتعارضا.
وقال ابنُ الحاجب: إِن كافرَ التأويلِ، كالكافر عند المكفِّرِ.
قلنا: لا يتعارضان لوجوه:
الأول: قد عُلِمَ الخلاف بغير شك، كما قال أبو الحسين، وقد تقدم تقريرُه حيث تقدم كلام أبي الحسين.
الثاني: هؤلاء خمسة، والترجيح يَحْصُلُ بزيادة وأحمد، فكيف بأربعة.
الثالث: أنهم أورعُ لتنزههم عن البِدعة، فبان الرجحان، وارتقع التعارض بحمد الله، وأما كلامُ ابن الحاجب، فقد تقدَّم جوابُه حيث ظن السيد أنَّه (1) حكاية للإجماع على ردِّه، وكلام الإمام يحيى بن حمزة يَرُدُّ عليه دعواه، ويُعارضه، وترجح عليه بما ذكرناه.
الحجة الثانية: القياسُ على فاسق التأويل، وقد ذكرها في " الجوهرة " وهي قوية.
الحجة الثالثة: ظن وجود النص، وتحريم العمل بالرأي وبالعموم مع ظنِّ النصِّ والمُخَصِّصِ إجماعاً -وهي قوية- ونحوها من الحجج المتقدمة (2) على جوازِ قبولِ فاسقِ التأويل مما يَصِحُّ الاحتجاجُ به في كافر
__________
(1) في (ب): بأن.
(2) انظر الصفحات 356 - 373.(2/406)
التأويل، فتأملها هناك، فقد ذكرتُ فيما تَقَدَّمَ اثنتين وثلاثين حجة مِن الحجج الدالة على قبولِ الفساق المتأولين وأكثرُها حجج على قبولِ الكفار المتأولين ما يَخْرُج منها إلَّا النادِرُ، وذِكرُها يؤدِّي إلى التطويلِ من غير حاجة، لأني قد ذكرتُ أني لا أعلَمُ أني معتمد على كافِر تأويلٍ في الحديث.
قال السيدُ -أيَّده اللهُ-: وأمَّا إذا عارض روايةَ فساقِ التأويل روايةُ العدل الصالح المنزّه مِن فسق التأويل، فالإِجماعُ على ترجيح روايةِ العدل الصالح ممَّن يَقْبَلُ رواية فُسَّاقِ التأويل منفردين، وممَّن لا يقبلهم.
أقول: قد طالعتُ كثيراً من كتب الأصول والفروع لِطلب معرفة الإجماع هذا الذي ادَّعاه السيِّد على تقديم روايةِ العدل في التصريح والتأويل على رواية العدلِ في التصريح، الفاسق في التأويل، فلم أَجِدْ أحداً ذكرها فيما طالعتُ، والذي لم أُطَالِعْ أكثرُ مما طالعت، ولكن الكُتَبَ التي طالعتُ هي الكتبُ المتداولة، فلا أدري السيد -أيَّده الله تعالى- نقل هذا الإجماعَ عن أحدٍ من العلماء الثقات، أو وجده في شيء مِن المصنفات، فله المِنَّةُ بالإرشاد إلى ذلك، أو قال ذلك مِن طريق الفهم والحَدْسِ، فليس ذلك من طرق الإجماع. وللإِجماعِ طُرقٌ معروفة لا تخفى على السيدَ -أيده الله تعالى- فيجِب عليه أن يُفيدنا طريقاً إلى معرفة هذا الإِجماع. ثم إنَّه يرد على دعواه للإِجماع إشكالات:
الإِشكالُ الأول: أن المنصور بالله عليه السلام قد ذكر في كتاب " الصفوة " ما يقتضي الإجماعُ على التسوية بين العدلِ في التصريح والتأويل، والعدلِ في التصريح، الفاسق التأويل، فقال عليه السلام في حكاية إجماع الصحابة على ذلك ما لفظه: أما أنَّهم أجمعوا، فذلك مِن(2/407)
ظاهر (1) أحوالهم لمن تَصَفَّحَ أخبارَهم، واقتصَّ آثارهم، وذلك أن الفتنة لما وقعت فيهم، وتفرَّقوا فِرقاً، وصاروا أحزاباً، وانتهي الأمرُ بينهم إلى القتل والقتال، كان بعضُهم يروي عن بعض بغير (2) مناكرة بينهم في ذلك بل اعتماد أحدهم على ما يرويه عمن يُوافقه، كاعتماده على روايته عمَّن يُخالفه. فنصَّ عليه السَّلامُ على أن اعتمادَ الصحابة على حديث المخالف كاعتمادهم على حديث الموافق، وأطلق القولَ في ذلك، ولم يُقيِّدْهُ بحال الانفرادِ دونَ حال التعارض، وسيأتي ما هو أَعْظَمُ من ذلك من كلامه عليه السلام.
وكذلك الشيخُ أحمد بن محمد الرَّصَّاص، فإنه حكى الإِجماعَ على مثل ذلك، فقال في كتاب " الجوهرة ": إن الفتنة لما وقعت في الصحابة كان بعضُهم يُحَدِّثُ عن بعض، ويُسْنِدُ الرجل إلى من يُخالفه، كما يُسند إلى من يُوالفه (3) من غير نكير، وكذلك الفقهاء بأسرهم، فإنَّ السَّيِّد أبا طالب حكى عنهم في كتاب " المجزىء " أنهم قالُوا: إن المعلومَ مِن حال الصحابة أنهم كانوا يُراعون في قبول الحديث والشهادة الإسلامَ الذي هو إظهار الشهادتين، والتنزّه عمَّا يُوجِبُ الجرحَ مِن أفعال الجوارِح ... إلى قوله عليه السلام (4): وكانوا مجمعين على التسوية بين الكلِّ ممن هذه حالُه في قبول شهادته، وحديثه مع العلم باختلافهم في المذاهب. فنصَّ عليه السلامُ على أن الفقهاء حَكَوُا العلمَ بإجماع الصحابة على التسوية بين المتأوِّل في فسقه والعدل في باب الرواية والشهادة فهذا إجماعٌ ثبت بخلاف
__________
(1) في (ب): فذلك ظاهر من.
(2) في (ش): من غير.
(3) في (ب): يوافقه.
(4) من قوله: " الذي هو إظهار " إلى هنا ساقط من (ب).(2/408)
دعوى السيد، لكنه ثبت مِن طَرِيق (1) الظواهر دونَ النصوص، ولا شَكَّ أن الظواهِرَ معمول بها، وسواء كانت مِن كلام الله، أو مِن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كلامِ العلماء رضي الله عنهم، وقد أجمعتِ الأمة على جواز العمل على ظاهر كلامهم، وإنَّما المُحَرَّمُ مخالفة الظاهر بغير دليل، فينبغي أنَّ السَّيِّد يُبَيِّنُ لنا مستندَه في إجماعه الذي ادَّعاه حتى نَعْرِفَ أهو أرجحُ مِن هذا فنقدِّمَه، فلعلَّه نصٌّ، والنصُّ مقدم على الظاهر، أو مروي مِن طرق أكثرَ من هذه، أو عن علماء أعدلَ من هؤلاء، والله سبحانه أعلم.
الإِشكالُ الثاني: قال المنصورُ بالله عليه السلام في كتاب " صفوة الاختيار" -بعد ذكر (2) تشدُّد الخوارج في تحريم الكذب، وقوله: إنَّه كفر- ما لفظه: فإذا كان الأمرُ كما ترى كان مَنْ يقول: مَنْ كذب كفر، روايتُه أولى مِن رواية مَنْ يقول: من كَذَبَ فسق، لأن الإنسانَ قد يتجاسر على الفسق، ولا يتجاسر على الكفر. انتهي بلفظه وهو صريح في مخالفة دعوى السيد للإجماع.
وكذلك الحاكم أبو سعدٍ، فإنه قال في " شرح العيون " ما لفظه: وعلى هذا ما رُوِي عن بعضهم أنَّه سُئِل عن شهادة الخوارج، فقال: شهادة من يكْفُرُ بكذبه أولى مِن شهادة من لا يَرى ذلك.
وكذلك الشيخُ أحمد الرصَّاص، فإنه قال في " جوهرته " حاكياً عن غيره: ولأن مَنْ يقول: من كذب كفر أولى بالقبول مِنْ قولِ مَنْ لا يرى ذلك وإن كان مخطئاً في قوله هذا، لأنَّه يبعد الظن لكذبه، ويقرب صدقه. انتهى.
__________
(1) في (ب): قبيل.
(2) في (ش) ذكره.(2/409)
واتفق أئمةُ الحديث على أن الحديثَ الصحيح أولى بالقبول عند التعارض مِن الحديث الحسن، وصحَّحُوا حديثَ جماعةٍ من المبتدعة، وحسَّنُوا حديثَ جماعةٍ من أهل الحق والسنة، وهذا يقتضي القطعَ بأنَّهم قد (1) يُقَدِّمُونَ المبتدَع الثقةَ الحافظَ على مَنْ هوَ دونه مِن أهل السنة في الحفظ والإتقان، وكُلُّ هذا تصريح بأن الترجيحَ في باب الرواية إنما هو باعتبار قُوَّةِ الظنِّ، لا باعتبار كثرة الفضل في الراوي، فحيث يكونُ الظنُّ أقوى برواية فاسق التأويل لكثرة العدد، أو للعلم بحال جميعِ رجال السند، أو غير ذلك من الأسباب المثيرة لقوة الظن لا تَصِحُّ دعوى الإجماع على رَدِّ رواية المتأوِّل الراجحة في الظن (2)، وكيف يدعي الإجماعَ، وهذا الإِمامَ المنصور بالله عليه السلام يُصَرِّحُ بالخلاف، ويُقدِّمُ رواية الخارجي الذي يُكفِّر أميرَ المؤمنين علياً عليه السلامُ على روايةِ العدل، ويصرح بأنها أولى، وكيف يَصِحُّ دعوى الإجماع، والخلافُ محكي في " الجوهرة " التي هي مِدْرَسُ علماءِ الزيدية، ولم نعلم أنَّ أحداً أنكر ذلك على صاحب " الجوهرة " من أهل التعاليق عليها، وقد نقَّحوا ما فيها، وحقَّقُوه، واعترضوا فيما (3) يُمْكِن أن يعترض فيه (4) مما هو أقَلُّ مِن هذا، وكذا الحاكمُ على ما قدمناه ولم يعترض.
الإِشكالُ الثالث: أن العلماءَ قد ذكروا في كتب أصول الفقه أن الترجيحَ إنما يقع بما يتعلَّقُ بالرواية مما يُقويها، ويَدُلُّ على الصدق فيها، ولهذا نص (5) المنصورُ بالله، وأبو طالب عليهما السلام، وأبو
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) من قوله: " لا تصح " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ب): ما فيها.
(4) سقطت من (ب).
(5) في (ب): قال.(2/410)
الحسين، والحاكمُ رضي الله عنهما وغيرُهم من المصنفين في الأصولِ على أن روايةَ العالمِ لا تَرْجُحُ على رواية العامي إذا كان العلم مما لا يتعلَّقُ بالرواية، وكذلك إذا كانت الرواية باللفظ، ولم ينقلوا الخلاف في هذا إلا عن عيسى بنِ أبان، فإنَّه رَجَّحَ روايةَ العالمِ والأعلم.
قال المنصورُ بالله: ومنهم منْ قال: لا يُرَجَّحُ به، وهو الذي كان شيخنا رحمه الله يذهب إليه ونحن نختاره، والدليلُ على صحته أن كونه أعلمَ بغير ما يرويه لا تعلُّق له بروايته، وما لا يتعلق بروايته لا يجب الترجيحُ به.
وقال عليه السلامُ في مسألة تعارضِ المرسل والمسند ما لفظُه: ومدارُ الأمرِ في هذه المسألة وما شاكلها على الظن، فما قوي معه الظَّنُّ، كان مرجحاً. انتهى.
فهذا نصُّه عليه السلام على أن ما لا يتعلق بالرواية من الفضائل والمرجحات في غير الرواية لا يكونُ مرجحاً في الرواية، وكلامُ السيدِ أبي طالب وغيره من المصنفين في الأصول مثل هذا، لو قلنا كلامَهم في هذا، لطال الكلامُ.
وَمِنْ ذلك ما نصَّ عليه الإمامان أبو طالب والمنصور بالله عليهما السلامُ وغيرهما من المصنفين في الأصول على أنَّه لا يرجح خَبَرُ الذكرِ على الأُنثى، ولا الحرُّ على العبد إذا اسْتووْا في الحفظ والعدالة، فهذا مع النصوص على تفضيل الذكور على الإناث في باب الشهادة (1)، ومع النَّصِّ النبوي على نُقصان عقولِ النساء (2) والإشارة الظاهرة إلى ذلك في
__________
(1) في (ب): الشهادات.
(2) في الحديث الذي رواه البخاري (304) ومسلم (80) من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه مسلم (79) و (80) من حديث ابن عمر وحديث أبي هريرة.(2/411)
قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282].
فإن قلتَ: فما الوجهُ في المساواة بَيْنَ الذكرِ والأنثى، وقد ظهر في الكتابِ والسُّنَّةِ تفضيلُ الرِّجال على النساء.
قلتُ: الوجهُ في ذلك أنَّ الأئمة (1) والعلماء عليهم السلام لم يُساووا بينهما على الإطلاق، فيكونوا قد خالفوا ما فهموا مِن الكتاب والسنة، وإنما سَاوَوْا بينهما في باب الرواية فقط، وسبب مساواتهم بينهما في الرواية أنَّهم فهموا أن عمودَ الرواية هو قوةُ الظن، ومتى قدرنا استواءَ الذكر والأنثى في الضبط والورع، لم يكن خبرُ أحدِهما أقوى في الظن متى كانت أخصَّ بالأمر، والدليلُ على ذلك ما اشتهر من تقديمِ الصحابة لخبر عائشة في الجنابة على خبرِ أبي هريرة (2)، ومِن رجوع الصحابة إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما هُنَّ أخَصُّ به وأعرفُ مِن أمر الحيض، ومباشرةِ الحائض والغسلِ مِن التقاء الختانين، والقبلةِ للصائم، وإصباحِ الصائم جنباً (3) وغيرِ ذلك. فلما فَهِمَ الأئمة والعلماء أن الصحابة اعتبروا قوةَ الظن لم يرجحوا أحد الخبرين المنسوبين (4) في الظَّنِّ، وإن كان أحدُ الراويين أكثرَ علماً وفضلاً، مهما
__________
(1) لفظ " الأئمة " والواو ساقط من (ب).
(2) تقدم تخريجه في الصفحة 62 من هذا الجزء.
(3) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في " شرح السنة " للبغوي رقم (240) و (243) و (244) و (245) و (248) و (251) و (252) و (253) و (254) و (255) و (316) و (317) و (318) و (320) و (321) و (322) و (323) و (324) و (325) و (326) و (327) و (328) و (329) و (1748) و (1749) و (1750) و (1751).
(4) في (ب): المتوسطين.(2/412)
لم يكن علمُه وفضلُه مرجحاً لِظنِّ صدقه.
وقد ذكر هذا المعنى السَّيِّد أبو طالب عليه السلامُ، فقال بعد ذكر شيء من كلامه: فإن قال قائلٌ: ولمَ قلتُم: إن قوة الظن معتبرة في باب الأخبار، قيل له: الذي يَدُلُّ على ذلك وجوه:
منها: ما قد علمنا من حالِ الصحابة أنَّهم كانوا يطلبون في أخبار الآحاد التي يعملون بها قوةَ الظَّنِّ، ويلتمسون ما يُؤدي إليها باستحلافِ الراوي مرة كما رُوِيَ عن أمير المؤمنبن علي صلواتُ الله عليه (1)، وبتطلّب مخبرٍ ثانٍ، فيُضاف إلى الأول، كما روي عن أبي بكر أنَّه طَلَبَ عند رواية المغيرة بن شعبة ما رواه في أمر الجدة ثانياً إليه حتى أخبره محمدُ بنُ مسلمة بمثل خبر (2)، وكطلب عمر عند روايةِ أبي موسى الأشعري خبر الاستئذان مَنْ يشهد معه لما رواه (3). وسلوك هذه الطريقة معلوم من جماعتهم إلى قوله:
ومنهم أنَّه لا خلاف في ترجيح الخبر (4) بكون راويه أضبطَ للقصة التي ورد الخبرُ فيها مِن غيره، ولهذا كانت الصحابةُ تَرْجِعُ إلى أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في تعرُّفِ أحواله التي عُرِفَ أنَّهن يَعْرِفْنَ منها ما لا يَعْرِفُه الأجانبُ، ولذلك رجَّحوا خبرَ عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُصبحُ جنباً وهو صائم، على خبر أبي هريرة (5)، ولهذا قالت عائشة حين سُئِلَتْ: هل كان
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 284.
(2) تقدم في الجزء الأول الصفحة 294.
(3) انظر الخبر بطوله في البخاري (6245)، ومسلم (2153)، والموطأ 2/ 963 - 964.
(4) ساقطة من (ب).
(5) تقدم الكلام على ذلك.(2/413)
رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ على الخُفَّيْنِ بعد نزولِ المائدة؟ سَلُوا علياً عن هذا، فإنّه كان لا يُفَارِقه في سفرٍ ولا حضر (1). وإذا ثبت أن مزية الضبط كانت معتبرةً في ذلك، إذ لا فائدةَ في اعتبار حالِ الضبط لما يرويه إلا حصول (2) قوة الظن عند خبره. انتهي كلامه عليه السلام. وبتمام هذا الكلام ثم الإشكال الثالث.
فإذا عرفت هذه القَاعدة، فالإِنصاف أن تقولَ: لا يخلو المبتدع إما أن تكون بدعتُه القولَ بالإرجاءِ أو غيرِه، إِن كانت بدعتُه القول بالإرجاء، فإن استويا في جميع وجوه الترجيح إِلا أنَّ أحدَهما مرجىء، وأحدهما وعيدي رجح خبر الوعيدي على خبر المرجىء، لأنهما اختلفا في أمر يُوجِبُ تفاوتَ الظنِّ المعتبر في الأخبار، فإنَّه لا شَكَّ مع الاستواء في وجوه الترجيح أن من يخاف العذابَ على ذلك الذنبِ بعينه وعلى غيره مِن الذنوب أبعدُ من الذنب ممن لا يخاف العذابَ عليه، وإنما يخاف مِن ذنب الكُفر. وإن لم يستويا في وجوهِ الترجيح مثل أن يكونَ الراوي للخبر جماعةً من المبتدعة مشهورين بالحفظ (3) والإتقان الجيد، ويُخالفهم عدلٌ متنزّه مِن البدع إلاَّ أنَّه منحط عن مرتبتهم في الضبط والحفظ، ومتفرِّدٌ لم يُتابعه غيرُه على ما روى، فها هنا تختلِفُ الظنونُ، ولا يجري القولُ على
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 96، ومسلم (276)، وابن أبي شية 1/ 177، والنسائي 1/ 84، وابن ماجة (552)، وعبد الرزاق (789) من طرق عن الحكم بن عتيبة، عن القاسم بن مخيمرة، عن شريح بن هانىء قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: سل عليّاً، فإنه أعلم بهذا مني، كان يسافر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فسألت عليّاً، فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة ". وانظر حديث جرير في " سير أعلام النبلاء " 2/ 523.
(2) سقطت من (ب).
(3) في (ب): في الحفظ.(2/414)
قانون، بل كُلُّ أحدٍ مكلفٌ بما يقوى في ظنه، ولكل ناظرٍ نظرُهُ.
وأما إن كان المبتدعُ مبتدعاً بغيرِ الإِرجاء مما ليس بكفر، فلا يخلو إما (1) أن يستويا في جميع وجوهِ الترجيح إلا فسقَ التأويل، أو (2) يختلفا، إن اختلفا في وجوه الترجيح، فالقولُ في ذلك لا يستمر على طريقةٍ واحدةٍ، فقد يكون المتنزِّه عن فسق التأويل أولى بالقبول لِقوة الظَّنِّ بصدقه، وهذا هو الأكثرُ، وقد يكونُ فاسقُ التأويل أولى بالقبولِ لقوة الظن، وقد يكونُ قولُه أقوى في الظن في بعضِ الأحوال لبعض الأسباب الموجبة لذلك، فقد نصَّ المنصورُ بالله عليه السلام على أن قولَ مَنْ يرى أن الكذبَ كُفْرٌ أولى بالقبول ممن لا يرى ذلك، وروى ذلك صاحبُ " الجوهرة " وحكاه الحاكمُ في " شرح العيون " عن بعض أهلِ العلم. ونصُّ المنصور بالله عليه السلامُ في الخبرين إذا تعارضا على أنَّ العملَ على الظن الأقوى هو الواجبُ بهذا اللفظ، وذلك لأن المَرْجِعَ بالترجيح إلى قُوَّةِ الظن لا إلى تفضيل الراوي، فليس المبتدع يُساوي المتنزه من البدعة، ولا كرامة له، وقد نَصُّوا على الإجماع على الترجيح بالضبط، وشِدَّةِ الحفظ، روى الإجماعَ على ذلك أبو طالب عليه السلامُ، وقد قدمنا كلامَه، والمنصورُ بالله عليه السلام، فإنه ذكر الترجيحَ بكون الراوي أكثرَ حفظاً وضبطاً حتى قال عليه السلام: وهذا مما وَقَعَ الإجماعُ عليه برواية شيخنا رحمه الله، وكذلك أبو الحسين نَصَّ على الترجيح بكون أحدِ الراويين أضبطَ، ثم قال: وقد يُسْتَدَلُّ على كونه أضبطَ بكونه أكثرَ اشتغالاً بالحديث، وأشدَّ انقطاعاً إليه، وبِقِلَّهِ ما يقع في حديثهِ مِن الخلل في
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): و.(2/415)
المعنى واللفظ.
قلتُ: فالترجيحُ بمرجِّحٍ مُجْمَعٍ على أنَّه مرجِّحٌ، ومجمعٍ على الإجماعِ على الترجيح به، أولى من الترجيح بالنزاهة عن البِدعة، لأنه غيرُ مجمع على الترجيح به، أو متنازع في الإجماعِ على الترجيح به، وكذلك منْ يرى أن الواجبَ حكايةُ اللفظ، وأن الروايةَ بالمعنى حرامٌ، فإنَّ روايتَه أقوى من رواية مَنْ يرى جوازَ الحكاية بالمعنى متى استويا في جميع وجوهِ الترجيح إلا في هذا.
فإن قلتَ: وما مثالُ تلك الصورةِ التي يكون الظنُّ مرجحاً لِخبرِ المبتدع فيها؟
قلتُ: لذلك صُوَرٌ كثيرة:
فمنها: أنا نعلم أن المبتدعَ لو كان حافظاً لِكتاب مِن الكتب عن ظهر قلبه، إما القرآنُ الكريم، أو مِن كتب الحديث، أو اللغة، أو النحو، أو الفقه، أو غير ذلك، وكان معروفاً بالتجويد فيه، والإتقان له، معروفاً بأنه يُعيده كُلَّ ليلةٍ أوْ كُلَّ أسبوعٍ أو نحو ذلك عن ظهر قلبه، مشهوراً بالتدريس فيه، منقطعاً في الاشتغال به، مُجَرَّباً في سرعة الجواب، وإصابة مَحَزِّ الصَّوابِ إذا سُئِلَ عن شيء من مسائله وألفاظه، وما يتعلق بضبطه، مختبراً حين يُعارض في ذلك بالتبريز على الأقران، والتجويد عند (1) الامتحان، فإنَّكَ متى عرفتَه بهذه الصفة، وتمكَّنَتْ في نفسِك هذه المعرفةُ، وأخبرك عن مسألة في كتابه هذا الذي اشتهر بحفظه، وجَوَّدَ في نقله بلفظه، ثم عارضه رَجُلٌ من أهل العدل والتوحيد في تلك المسألة،
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى " عن ".(2/416)
ولم يكن لهذا العَدْلِي مثلُ عنايته، ولا انتهى في التحقيق إلى مثل نهايته، بل قد سَمِعَ الكتابَ مرة، ولم يحفظه عن ظهر قلبه، ولم يُكَرِّرْ فيه النظرَ، فإن قولَ المبتدع يكونُ أقربَ إلى الظن، وأقوى في الذهن عند كل منصف، ولهذا، فإنا لو قدرنا أن عابداً مِن أهل العدل والتوحيدِ قرأ القرآن مرةً: واحدةً على بعض أهلِ العدل، ولم يحفظه عن ظهر قلبه، ولم يُكثر من تلاوته، ثم تنازعَ في إعرابِ آية هو وابنُ شداد المقرىء المشهور شيخ ابن النساخ رحمه الله، لم يَشُكَّ عاقِلٌ في أنَّ روايةَ ابنِ شداد أقربُ إلى الصواب، وأرجحُ في الظنون.
وبعدُ، فالترجيحُ غيرُ التفضيل، وقد قال المؤيَّدُ بالله عليه السلامُ في كتاب " الزيادات " ما لفظه: والأقوى عندي أن تقليدَ المقتصِد في الفتاوى أولى لِفراغه دون السَّابِقِ، لأنَّه في شغل عن النظرِ والمطالعة. فنص عليه السلامُ على ترجيح تقليدِ غيرِ الأئمة السابقين على تقليدِهِم لأجل مرجح لا يتعلق بالتفضيل، فالأئمةُ الدعاة أفضلُ من السادة بالإِجماع.
وقد تكلَّم الإمام يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ في تقليد الصحابة وقال: إنه لا يجوزُ تقليدُهم في هذه الأزمانِ الأخيرةِ، مع تجويزه عليه السلامُ تقليدَ الميت ترجيحاً منه عليه السَّلام لتقليدِ المتأخرين، لجمعهم العلومَ، وتبحرهم فيها، وادَّعى عليه السلامُ الإجماعَ على ذلك، وكذلك الجوينيُّ ادعى الإِجماعَ على ذلك، لكن (1) قال شارح " البرهان " (2): إن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) لمؤلفه العلاّمة المتفنن أبي عبد الله محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري المالكي المتوفى سنة 536 هـ، قال القاضي عياض في " المدارك ": هو آخر المتكلمين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه، ورتبة الاجتهاد، ودقة النظر. مترجم في " السير " 20/رقم الترجمة (64).(2/417)
المجمع عليه أنَّه لا يجوزُ التزامُ مذهبٍ واحد منهم، لأنَّه ليس لِواحد منهم مِن النصوص على الحوادث ما يكفي الملتزم لمذهبه، ويُغنيه عن الانتقال عن مذهبه، لا لقصور في علمهم، وهذا هو الصوابُ إن شاء الله تعالى، وإنما القصد حكاية مذهب (1) الإِمام عليه السلامُ، وأنه قد يقع من بعض أهل العلم ترجيحٌ لبعض المذاهب والأخبار من غير تفضيلٍ لأهل المذاهب والأخبارِ الراجحة عنده على أهل المذاهب (2) والأخبار المرجوحة.
وهذا (3) المؤيَّد بالله عليه السلامُ يَنُصُّ على ضعف مذهب الهادي عليه السلامُ في بعض المواضع، وليس يعتقِدُ أنَّه أفضل منه.
وأعظمُ مِن هذا ما ذكره الإِمامُ المؤيَّدُ بالله يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ مِن أن العالِمَ بالفن قد يكون أعرفَ بفنه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مثل العالِم في أصولِ الدِّين العالم المُبرِّزِ في دقيقه، وكذلك العالم بالمنطق المتوغِّل في لطيفه، وكذلك سائرُ الفنون التي لم يُمارِسْها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يكن هذا العالِمُ أفضَلَ مِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا أعْرَفَ بالدين الذي ذلك الفنُّ وصلة إلى معرفته وطريق إلى العلم به (4).
__________
(1) ساقط من (ب).
(2) من قوله: " والأخبار .. " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) تحرف في (ب) إِلى "هو".
(4) في هامش (أ) ما نصه: لعلَّ مراد الإمام باصطلاحات أهل الفن، لا بالمعلوم نفسه، هذا بناء على أنَّ التدقيق في الفنون ليست عين العلم، وإنَّما هي صناعة كصناعة الحداد والنجار، فكما يصح أن يُقال: هذا النجار أحسن صناعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكذا هذا، فأمَّا مفهوم مسمَّى العلم -وهو العلم المأخوذ عن الله ورسوله، وعن التدبر في آياته- فلا يتصور أن يكون أحد فيه أعرف من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل لا يتوجه هذا القول بغير هذا التأويل أو نحوه، وإلا فهو من عظيم الخطأ.(2/418)
فهذا قولُ الإمام يحيى بنِ حمزة عليه السلام فكيف يُنكرُ ترجيحُ رواية (1) بعضِ المبتدعة على رواية بعضِ أهل العدل والتوحيد لبعض القرائِنِ المقوية لذلك، وينسب القائلُ لذلك إلى مخالفةِ الإِجماع. هذا على تقدير اتفاقِ هذا، وباللهِ العظيم الرحمن الرحيم ما أعلمُ أنَّ هذا قد كان مني أبداً.
فهذا الكلامُ أن اختلفا في وجوه الترجيح.
وأما إذا استويا فيه، واستوى الظَّنُّ الحاصِلُ في خبريهما إلا أن هذا مبتدع، وهذا متنزِّهٌ عن البدعة، فعلى كلامِ المنصور بالله لا يُرَجَّحُ المتنزه على المبتدع، لأن الظن مستوٍ، وقد نَصَّ على أن المعتبر هو الظَّنُّ، واختلافُ مرتبتيهما عند الله فيما لا يتعلق بالرواية غيرُ مؤثر، كما أن العالِم والعامي عنده عليه السلامُ سواء عنده في الرواية، وإن اختلفت مراتِبُهما عند الله، وكما نَصَّ عليه السلامُ أن الخارجي أولى بالقبول مِن المتنزه عن هذه البدعة، فهذا على مقتضى عموم قوله. وقد اختلفوا فيما أُخِذَ من عموم كلام العالم: هل يكون تجريحاً؟ فمنهم من قال: ليس بتجريح، وهو قوي، لأن التجريح ما لم يُؤخذ مِن قوله، ومنهم من قال: هو تجريح واختاره السيدُ أبو طالب في كتابه " المجزىء "، وهو تجريح صحيح لا أعلم فيه نزاعاً، والله سبحانه أعلم.
والمختار عندي أن المتنزه من البدعة أولى عند استواء الظنون، وذلك لأنَّ الحجة على قبول العدل المتنزِّه عن البدع أقوى من الحجة على قبولِ المبتدع العدلِ في دينه، والحجج هي الأصولُ، ومدلولاتُها هي
__________
(1) ساقطة من (ب).(2/419)
الفروع، وإذا كان الأصلُ أقوى، كان الفرعُ أقوى.
فإن قلتَ: إنَّه يلزمُ مِن كون خبر العدل المتنزه أقوى أن الظَّنَّ لصدقه أقوى.
قلتُ: ليس كذلك بل اللازمُ أن الظن للتكليف بقبوله أقوى، فقد يختلِفُ ظَنُّ التكليف وَظَنُّ الصدق، ألا تَرَى أنَّه لو غلب على ظَنِّكَ أن جماعةً من الفساق المصرحين أصدقُ مِن رجل عدل في ظاهره لم يَحِلَّ لك العملُ بالظن الأقوى لما ظننت أن العملَ بغيره هو الذي كلَّفك اللهُ تعالى، فهذا في مخالفة التكليف لِلظَّنِّ الراجح فضلاً عن الشك المستوي الطرفين، ولو أنَّ الشرع ورد برد المبتدع المتأوِّل لم يقبل حديثه، وإن أفاد الظَّنَّ الراجح، لكن الشرع وَرَدَ بقبوله عندنا (1) وروداً خفياً يَنْقُصُ عن مرتبة ورودِ الشرع بقبول المتنزِّه عن البدع، فكان أقوى من الظن للتكليف بخبرِ المبتدع، وإن لم يكن أحدُهُما في الظن أقربَ إلى الصدق من الآخر، وهذا في غاية القوة عندي، ولكني لا أعلم أنَّه إجماعٌ كما ذكر السيدُ أيَّدَهُ الله، ولنتكلم بَعْدَ هذَا في إنصافٍ وخصيصتين، فقد كنتُ ذكرت ذلك في بعض تعاليقي في فوائد تَعَلَّقُ بهذا الشأن.
الإنصاف: لا يشك مَنْ أنصف مِن نفسه، وترك العصبية في رأيه أن هذه الأمةَ المرحومة قد تقسَّمَتِ الفضائلَ، وانتدبت كُلُّ طائفةٍ منها لإتقان عمل فاضل.
فأهلُ الأدب أتقنوا الإعرابَ، وَأتَوْا في جميع أنواعه بما يأخذ بمجامع الألباب.
__________
(1) ساقطة من (ب).(2/420)
وأهْلُ القراءات حَفِظُوا الحروفَ القرآنية وبيَّنُوا المتواتر والصحيح والشاذ في إعراب الآي السماوية.
وأهلُ الحديث ضَبطُوا الآثارَ والسنن، وأوضحوا أحوالَ الرجال، وبَيَّنُوا العِلَلَ.
والفقهاء أوعبوا الكلامَ على الحوادث، وأفادوا معرفةَ اختلاف الأمة وإجماعها.
وأهلُ الأصول ذَلَّلُوا سُبُل الاجتهاد، ومهَّدوا كيفيةَ الاستنباط.
وكذلِكَ سائرُ أهلِ الفنون المفيدة، والعلومِ النفيسة، وكل أبدع وأجادَ، وأحسن وأفاد، وأكمل ما تعرض له وزاد، وممن ذكر هذا المعنى الإمام المؤيَّد ُ بالله في كتابه في " إثبات النبوات " والشيخ الصالح السهروردي صاحب " عوارف المعارف ".
فإذا عرفتَ هذا، فلا يَعْزُبُ عنك معرفة خصيصتين:
الخصيصةُ الأولى: أنَّ أهل البيت عليهم السلامُ اختصوا مِن هذه الفضائل بأشرفِ إقسامها، وأطولِ أعلامها، وذلك لأنهم كانوا على ما كان عليه السلفُ الصالحُ مِن الصحابة والتابعين مِن الاشتغال بجهادِ أعداء الله، وبذلِ النفوسِ في مرضات الله مع الإعراضِ عن زهرة الدنيا، وتركِ المتشابهات (1) والاقتصاد في المأكول والملبوس، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيامِ بالفرائض والنوافل في أفضلِ أوقاتها على أتمِّ هيئاتها، وتلاوةِ القرآن العظيم، والتهجد به آناءَ الليل والنهار، والتحري
__________
(1) في (ب): المشابهات.(2/421)
والخوفِ من الله تعالى، والدعاءِ إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وبذلِ النصيحة للناس وتعليمِهم معالِمَ الهدى، والاقتصارِ في العلم على ما اقتصر عليه أهلُ بيتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين، وعلى ما اقتصر عليه أصحابُه المشهودُ لهم في كتابِ الله بأنَّهم خيرُ أمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس، وعلى ما اقتصر عليه التابعون الذين شَهِدَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأنهم من (1) خيرِ القرون، فإن جميعَ هؤلاء ما تشاغلوا بالإكثارِ من التواليف والتفاريع وجمع الحديث الكثير.
وقد قال العلماء رضي الله عنهم: إن طريقة السلف أسلمُ وطريقة الخلف أعلم (2)، والأفضلُ للمسلم الاقتداءُ بالسلف، فإنَّهم كانوا على طريقةٍ قد رآهم عَليها (3) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأقرَّهم عليها، وواللهِ ما يَعْدِلُ السلامة شيء، فنسأل اللهَ السلامة، ولا شكَّ أن عنايَتَهم بعدَ تحصيل ما لا بُدَّ منه من العلم إنما كانت بالجهاد، وافتقادِ العامة، والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظةِ على أورادهم في التهجد، وقيامِ الليل، ومناقشةِ النفوس وتهذيبها، وذلك أفضلُ مما كان عليه كثيرٌ من المحدثين والفقهاء من الإخلال بكثيرٍ من هذه الفضائل الجليلة، والنعوتِ الجميلة التي وردت نصوصُ الآيات القرآنية في وصف المؤمنين بذكرها، ولم يشتغِل السلفُ الصالحون بغيرها، والذي كانوا عليه أولى مِن الإخلال به بسبب الاشتغال بجمع العلم الزائد على الكفاية، وقد نَصَّ الإمامُ المنصور بالله عليه السلام على مثل هذا الكلام في كتاب " المهذب "، واحتج
__________
(1) ساقطة من (ب) و (ج).
(2) قالوا هذه الكلمة في صفات الله وبشيء من التبصر يتبين أن طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم كما هو مسطور في مقدمة " أقاويل الثقات ".
(3) تحرفت في (ب) إلى: رآها عليهم.(2/422)
بفعلِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفعل السلف الصالح، وللهِ دَرُّهُ ما أحسنَ استخراجه للفوائد من أفعال السلف الصالح وأحوالِهم رضي الله عنهم.
ولقد كان الواحدُ مِن جلَّةِ الصحابة لا يروي إلا مئتي حديث أو ثلاث مئة حديث، بل أكثرُهُم لا يُجاوز روايتهم هذا إلا بالقليل (1)، وكثيرٌ منهم يروي أقلَّ مِن هذا بكثيرٍ، ولم يتَّسِعْ منهم في الرواية مثلُ أبي هريرة، وعائشةَ، وعبدِ الله بن عمرو بن العاص، وقد انحصرت روايةُ المحدثين عن علي عليه السلام في خمس مئة حديث وستة وثمانين حديثاً (2)، ورواية أهلِ البيت عليهم السَّلامُ لا تزيدُ على ذلك (3) فيما أحْسِبُ، فإن أحاديثَ مجموع زيدِ بنِ علي (4)، وأحاديثَ الجامعين للهادي عليه السلام لا يستند منها إلى علي عليه السلامُ أكثر من هذا القدر فيما أحسب، والله تعالى أعلم.
وقد روى سفيان الثوري عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي عليه السَّلام أنَّه قال: ما كتبنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا القرآنَ وما في
__________
(1) في (ب): بقليل.
(2) عدة ما في " مسند أحمد " من مرويات أمير المؤمنين علي رضي الله عنه (819) حديثاً بالمكرر.
(3) في (ب): هذا.
(4) وقد شكك أهل العلم في صحة نسبته إلى الإمام زيد عليه السلام، لأنَّه من رواية أبي خالد عمرو بن خالد الواسطي، وهو كذاب وضاع عند الأئمة المرجوع إليهم في هذا الفن، كما في " التهذيب " 8/ 27، و" الميزان " 3/ 257 - 258، على أنَّه مشتمل على أحاديث موضوعة لا تصح نسبتها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أقاويل للإمام علي لم تثبت عنه، ولو كان للإمام زيد لاشتهر وعرف من طريق تلامذته الكثيرين، ولما انفرد بروايته كذاب لا يوثق به. وهذه الطعون على وجاهتها قد تولى الإجابة عنها الشيخ أبو زهرة -رحمه الله- في كتابه " الإمام زيد " ص 233 - 258 فراجعه لزاماً.(2/423)
هذه الصحيفة (1). فهذا مع أنَّه عليه السلامُ بحرُ العلم الزخار، والمخصوص به (2) من بين الصحابة الأخيار، فلم (3) يشتغِل بنشر علمه وكتابته وتأليفه والتدريس فيه مع فراغه في أيامِ الخُلَفَاءِ الثلاثة، بل اشتغل بما كانوا عليه في زمان رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن التلاوة والعبادة، ومراقبة النفوس، وخشونة العيش، وخشونة الملبس كما ذلك معروفٌ من سيرته عليه السلام وما ذلك إِلا إيثاراً لترك ما يزيدُ على الكفاية من العلم، وكراهةِ دعاء الناس إلى ما لا يحتاجون إليه في أمرِ الدين، واقتداءً برسول الله -صلى الله عليه وسلم - حين أقام عشرَ سنين قبلَ الهجرة، وقبل الشغل بالجهاد، ومعه أصحابُه من السابقين الأولين، فلم يشتغل عليه السَّلامُ في تلك المدة بغير التلاوة، وملازمة الذكر، ولم يأمُرْ مَنْ آمن به بأكثرَ من ذلك، ولم يُلزمهم بعد معرفة ما يجب عليهم معرفتُه من أمر الإِسلام بالتدرب في النظر والمناظرة، ولا بتقدير الحوادث، وتقدير سائل يسأل عنها، وتحرير الجواب عنه متى سأل عنها ونحو ذلك مما اشتغل به المتأخرون عما كان عليه المتقدمون، بل صحَّ عنه صلوات الله عليه النهي عن السُّؤال عن (4) الحرام حتى ينص عليه، وفي الحديث الصحيح " إنَّما أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُم كَثْرةُ مَسَائِلِهِم واختلافهم على أنْبِيَائِهِم " (5)، وقد قيل: إنَّه (6) السؤال المذمُومُ في النهي عن كثرة القيلِ والقالِ بكثرة السؤال بقرينة تخصيص النهي بالكثرة.
ومثلُ حالِ عليٍّ عليه السلامُ كانت أحوالُ أهلِ بيته عليهم السلام
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 241.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ب): ولم.
(4) " عن " لم ترد في (ب).
(5) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 219.
(6) في (ب): إن.(2/424)
كالحسنين، وزينِ العابدين، والباقرِ، والصادقِ وسائرِ مَنْ عاصرهم لم يكتب أحدٌ منهم في علم الحديث عشرةَ أجزاء ولا نصف ذلك ولا ما يُقاربه، وليست الدرجاتُ العلية تُنَالُ في الآخرة بكثرةِ الرواية، وسَعَةِ الحفظ، وجمع الطُّرُقِ والأجزاء، وضبط مشكلات الأسماء مع إهمال ما هُوَ أهَمُّ مِن هذَا (1) من أمورِ الدين وصلاحِ المسلمين، وقد صحَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر أويساً القَرني: " أنَّه يشفع في مثل ربيعة ومضر " (2) وجاء في فضله ما لم يحضرني الآنَ مع أن بعضُ أهل الحديث من أهل الحفظ الواسع، والاطلاعِ التام على معرفة الرِّجال ذكر أنَّه لم يُرو عن أويس حديثٌ قَطُّ، ولقد كان السلفُ يقِلُّونَ الرواية جداً، فعن أبي عمرو الشيباني (3) قال: كنت أجلس إلى ابنِ مسعود حولاً لا يقولُ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - استقلَّته الرِّعْدَة، وقال: هكذا أو نحو هذا أو هذَا، مع أنَّ ابنَ مسعود كان من أوعية العلم، وأعيانِ علماء
__________
(1) " من هذا " ساقط من (ب).
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 12/ 153، والحاكم في " المستدرك " 3/ 405 من طريقين عن هشام، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ... ، فذكره، وإسناده ضعيف لإرساله. وقد روى مسلم في " صحيحه " (2542) من حديث عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن رجلاً يأتيكم من اليمن يُقال له: أويس، لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض، فدعا الله، فأذهبه عنه. إلاَّ موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم " وفي رواية: " إنَّ خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم " وزادَ في رواية: " لو أقسم على الله لأبرَّه " وقد ترجمَ له الذهبي في " السير " 4/رقم الترجمة (5)، فقال: هو القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، أبو عمرو أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرادي اليماني، وقرن: بطن من مراد، وفد على عمر، وروى قليلاً عنه، وعن علي.
روى عنه يُسَيْرُ بن عمرو، وعبدُ الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عبد رب الدمشقي وغيرهم حكاياتٍ يسيرة، ما روى شيئاً مسنداً، ولا تهيأ أن يحكم عليه بلين، وقد كان من أولياء الله المتّقين، ومن عباده المخلصين.
(3) واسمه سعد بن إياس، مجمع على ثقته، أخرج حديثه الجماعة.(2/425)
الصحابة وأجل الأصحاب والتلامذة، فلم تَزِدْ مروياتُهُ على ثمانِ مئة حديث وثمانية وأربعين حديثاً (1).
وكذلك أضرابُه من السابقين الأولين ونبلاء الأنصار والمهاجرين.
هذا أبو ذر الغِفاري الذي ما أظلَّتِ الخضراءُ أصدقَ لهجةً منه (2) روى مئتي حديثٍ وثمانين حديثاًً.
وهذا سلمان الفارسي الذي قال فيه علي عليه السلام: " إنَّه أدرك العلمَ الأولَ والعلمَ الثاني " (3) روى ستين حديثاًً.
وهذا أبو عبيدة بن الجراح أمينُ الأمة (4) روى أربعة عشر حديثاً.
وأمثال هؤلاء السادة النجباء، والأعلام العلماء الذين نَصَّ المصطفى عليه السلام على أنَّ غيرَهم: " لو أنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً ما بَلَغَ مُدَّ أحَدِهم ولا نَصِيفَهُ " (5).
ولقد روى أبو أسامة عن سفيان الثوري أحدِ أقطابِ الحديث التي تدور رحاه عليها أنَّه قال: ليس طلبُ الحديثِ مِن عِدَّةِ الموتِ، لكنه عِلْمٌ يتشاغلُ به الرجلُ (6).
__________
(1) عدة ما في " المسند " من الأحاديث التي رواها ابن مسعود (1099) حديثاًً بالمكرر.
(2) حديث قوي بشواهده. انظر تخريجه في " السير " 2/ 59 في ترجمة أبي ذر جندب ابن جنادة رضي الله عنه.
(3) ذكره الإمام الذهبي في " السير " 1/ 543 في ترجمة سلمان رضي الله عنه، وذكرت هناك أنَّه مخرج في " طبقات ابن سعد " 4/ 1/61، و" حلية الأولياء " 1/ 187.
(4) ثبث ذلك من وجوه عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " وانظر تخريجه في " السير " 1/ 9 في ترجمة أبي عبيدة.
(5) صحيح، وهو مخرج في الجزء الأول الصفحة 180.
(6) أورده الإمام الذهبي في " السير " 7/ 255 في ترجمة سفيان، وقال بإثره: قلت: =(2/426)
قال بعضُ حفاط الحديث: صدق -واللهِ- سفيانُ، فإن طلبَ الحديث شيء غيرُ الحديث، وطلب الحديث اسمٌ عرفي لأمورٍ زائدة على تحصيل ماهية الحديثِ، وكثيرٌ منها مَرَاقٍ إلى العلم، وأكثرُها أمور يَشْغَف بها المحدِّثُ من تحصيل النُّسَخِ المَلِيحَةِ، وتطلُّبِ العالي، وتكثيرِ الشيوخ، والفرحِ بالألقاب والثناء، وتمنِّي العمر الطويل ليروي، وحبّ التفرد إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا للأعمال الرّبّانيّة، فإن كان طلبُ الحديث النبوي محفوفاً بهذه الآفات، فمتى خلاصُك منها إلى الإخلاص؟، ومتى كان علم الآثار مدخولاً، فما ظَنُّك بعلم المنطقِ والجَدَلِ وحكمة الأوائلِ التي تَسْلُبُ الإيمانَ، وتورِث الشُّكُوكَ والحَيْرَةَ. انتهى (1).
قلتُ: فالذي اشتغل به أهلُ البيت عليهم السلام هو الذي روي فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " العِلْم ثَلَاثةٌ، وَمَا سِوى ذلِكَ، فَهوَ فَضْلٌ: آيَة مُحْكَمَة، وَسُنَّةٌ قَائمَةٌ، أوْ فَرِيْضَةٌ عَادِلَة " رواه أبو داود في سننه (2) وهذا هو
__________
= يقول هذا مع قوله للخريبي: ليس شيء أنفع للنَّاس من الحديث! وقال أبو داود: سمعت الثوري يقول: ما أخاف على شيء أن يُدخلني النار إلاَّ الحديث، وعن سفيان قال: وددتُ أني قرأت القرآن، ووقفت عنده لم أتجاوزه إلى غيره، وعن سفيان قال: وددت أن علمي نسخ من صدري، ألستُ أريد أن أسأل غداً عن كل حديث رويته: أيشٍ أردت به؟ قال يحيى القطان: كان الثوري قد غلبت عليه شهوة الحديث، ما أخاف عليه إلاَّ من حبه للحديث.
قلت (القائل الذهبي): حب ذات الحديث، والعمل به لله مطلوب من زاد المعاد، وحب روايته وعواليه والتكثر بمعرفته وفهمه مذموم مخوف، فهو الذي خاف منه سفيان والقطان وأهل المراقبة، فإن كثيراً من ذلك وبال على المحدث. وانظر " شرف أصحاب الحديث " ص 123 - 140.
(1) وانظر ما قاله الإمام الذهبي في " زغل العلم " ص 27 - 33.
(2) (2885)، ورواه ابن ماجة (54)، والحاكم 4/ 332 من حديث عبد الله بن عمرو، وفي سنده عندهم عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وعبد الرحمن بن رافع، وهما ضعيفان.(2/427)
العلم الذي لا ينبغي لأحدٍ أن يشتغل بعدَهَ بغيره عن الجهاد والأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأمثالِ ذلك مما نطقت بالحثِّ عليه الآياتُ القرآنية، والآثارُ النبوية، فإنه ليس في القرآن مِن الأمرِ بطلب العلم الزائدِ على الكفاية مثل ما فيه مِن الثناء على الخاشعين في الصلاة، المعرضين عن اللغو، الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس الذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلوبُهم، وإذا سَمِعُوا وعيدَه اقشعرَّتْ جلودُهم، وكذلك الحديثُ فإن في " الصحيحين " والسُّننِ الثلاث و" المُوطأ " ثمانيةً وستين حديثاً في الحثِّ على الجهادِ، وفيها في الحث على طلب العِلْمِ ثمانية أحاديث، وذلك يدل على أن أمرَ الجهاد بعد تحصيل ما لا بُدَّ منه من العلم أهمُّ أمورِ الدين. فانظر بعين الإنصاف إلى أئمة العِترة الطاهرة، ونجومِ العلم الزاهرة كيف سَلِمَتْ علومُهم مِن كُلِّ شينٍ، وخَلَصَتْ مِنْ كل عيب، ولم يَشبْ تصانِيفَهم شيءٌ مِن غُلُوِّ (1) المتكلمين، ولا حَطَّ مِن قدر شيعتهم المتعبدين شيءٌ مِن بدع المتصوفين، ولا ظهر في أدلتهم على مذاهبهم شيءٌ مِن تكلف المتعصبين، ولا استمالَتْهُم عَن المِنهاج السَّوِيِّ شُبَهُ المشبِّهين، تنزَّهُوا عن غلو الإماميةِ الجُهَّالِ، وعَمَايَةِ النَّواصِبِ الضُّلال، وهَفَواتِ أهلِ الحديث والاعتزالِ، فهم النُّمْرُقَة الوسطى، والمَحَجَّةُ البَيْضَاءُ، والحُجَّةُ الغراء، وسفينةُ النجاة، والعِصْمَةُ مِن الأهواء (2) بعدَ أبيهم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وعليهم أجمعين.
تكميل: من حَصَّل ما فيه كفايةٌ مِن العلم، ولم يتشاغل بما كان عليه السَّلَفُ الصالح من الجهاد وإصلاحِ أمر المسلمين، فالأولى له
__________
(1) في (ش) علوم.
(2) هذا غلو في المدح وتجاوز في الإطراء لا عهد لنا بمثله عند المصنف.(2/428)
الاشتغالُ بالعلم، ولا يتوغُّل إلاَّ في علومِ الكتاب والسنّة، وأخبارِ الصحابة، والنحو والمعاني واللغة، وأصولِ الفقه واللغة (1) ونحوِها مما يُؤمَنُ الخَطَرُ مع التوغُّلِ فيه، ويقطع بالسلامة في النَّظَرِ في دقائق معانيه.
الخصيصة الثانية: تقديمُ كلامِ أهل كُلِّ فَنٍّ على كلام غيرهم في ذلك الفن الذي اختصُّوا به، وقطعُوا أعمارَهم فيه، فإنَّك متى نظرتَ وأنصفتَ، وجدتَ لِكُلِّ أهل فَنٍّ من المعرفةِ به، والضبطِ له، والتسهيل لجمع مسائِله، والتقييدِ لشوارد فوائِده، والإِحاطةِ بغرائبه، والتذليل لما يَصْعُبُ على طالبه ما لم يُشاركْهُمْ فيه غيرُهم ممن هو أفضل منهم مِن أئمة الدين، وكُبراء المسلمين، ألا ترى أنَّه ليس لأِحَدٍ من أئمة العِترة وأئمة الفقهاء في اللغة ما لِلجوهري، والأصْمعي، وأبي عبيدة وأضرابهم، ولا في الإعراب مِثل ما لسيبويه، والكِسائي وأصحابِهما ولا في المعاني والبيان مثل ما لِلسَّكاكي، وعبدِ القاهر وأضرابِهما، ولا في غريبِ الحديث مثل " فائق الزمخشري "، و" نهاية ابنِ الأثير "، ولا في علم الحروف مثل " الشاطبية " و" شروحها " ولا في لطائف المعاني القرآنية مثل " الكشاف " و" البحر المحيط " و" جامع القرطبي "، ولا في المختلِف والمؤتلِف في ضبط أسماء الرُّواة مثل " الإكمال " للأمير ابن ماكولا، ولا في تاريخ الزمان مثل " تاريخ محمد بن جرير الطبري "، وعز الدين بن الأثير، ولا في تاريخ الرجال مثل " تهذيب " أبي الحجَّاح المِزِّي، وكتاب " الفلكي " (2)، ولا
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) أورد الذهبي في " السير " 17/ 502، فقال: الحافط الأوحد، أبو الفضل علي بن الحسين بن أحممد بن الحسين الهمداني، عُرِف بالفلكي، قال شيرويه: سمع عامة مشايخ همذان، والعراق، وخراسان. حدث عن ابن رزقويه، وأبي الحسين بن بشران، والقاضي أبي =(2/429)
في معرفة الأيام النبوية مثل ابنِ إسحاق، وابنِ هشام، والواقدِي ولا في معرفةِ أخبارِ الصحابة وأحوالِ السَّلَفِ مثل " الاستيعابِ " لأبي عُمَرَ بنِ عبد البر، و" أُسْدِ الغابة " لابن الأثير، ولا في أصولِ الفقه مثل " معتمد أبي الحسين "، و" محصولِ الرازي " على دواهي في غُضون فوائده، ولا في إعرابِ القرآن المجيد مثل " المُجيد " (1) إلى أضعافِ هذه المؤلفات مما يُقاربها، أو يساويها، أو يزيد في الإجادة والإفادة عليها.
فإذا تحققتَ أنَّ المرجعَ في علوم القرآن الكريم قراءته وإعرابِه.
ولغتِه، ومعانيه ودقائقِه، وشروحِ قصصه إلى غيرِ أئمة أهلِ الدين المتبوعين المقلَّدين مِن أهل البيت عليهم السَّلامُ، وأئمة الفقهاء رضي الله عنهم، وعَرَفْتَ أنَّك لو اقتصرتَ على مؤلفاتِ أئمة العِترة، وأئمة الفقهاء لما وجَدْتَ فيها من التحقيق ما يُوازي تحقيقَ أولئك المصنفين الذين لا يُوازِنُونَ أئمة العِترة فضلاً وأثراً في الدين، فإن ابن الأثير الوزير لا يُوازي يحيى بنَ الحسين الهادي إلى الحق عليه السَّلامُ في ورعه وعلمه وجهاده وتقواه، ودعائه للعباد إلى الله، وإن لم يكن له عليه السلامُ مُصَنَّفٌ في غريب الحديث والأثر مثل " النهاية "، لأنَّه اشتغل بما هو أَهَمُّ مِن ذلك، وكذلك
__________
= بكر الحيري. وكان حافظاً متقناً يحسن هذا الشأن جيداً جيداً، صنف الكتب، منها الطبقات الملقب بـ " المنتهى في معرفة الرجال " في ألف جزء. قلت: وسماه في " العبر ": " المنتهى في الكمال في معرفة الرِّجال "، وفي " الأنساب " و" طبقات الإسنوي " و" كشف الظنون ": " منتهى الكمال في معرفة الرجال " مات في نيسابور سنة سبع وعشرين وأربع مئة كهلاً.
(1) لمؤلفه العلاّمة المتفنن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن أبي القاسم السَّفَاقُسي المالكي المتوفى سنة (742) هـ، وهو من أجل كتب الأعاريب وأكثرها فائدة، جرده من " البحر المحيط " لأبي حيان، وفي المكتبة الظاهرية بدمشق المحروسة مجلد نفيس منه.
مترجم في " الدرر الكامنة " 1/ 55 - 56، و" الوافي بالوفيات " 6/ 138 - 139، و" بغية الوعاة " 1/ 425، و" الديباج المذهب " 1/ 279.(2/430)
أئمةُ الفقهاء، فإنه ليس للشافعي ولا غيره في غريب الحديث مثل " النهاية " ولا ما يُدانيها مع أنَّه أعلمُ مِن ابن الأثير، وأفضلُ، وأورعُ، وأنبلُ.
فإذا عرفتَ أن المرجعَ بالمعرفة التامة في الفنون العلمية إلى أهلها، المختصِّين بمعرفتها (1)، المنقطعين في تحقيقها، المستغرقين في تجويدِها، المشغولين بها عن غيرها، المصنِّفين فيها الكُتُبَ الحافِلَة، والتواليفَ الممتعة، وكذلك، فتحقق أيضاًً أنَّ المرجعَ في معرفة الحديثِ صحيحهِ وموضوعهِ، وموصولِه ومقطوعِه، وموقوفِه ومرفوعه، ومُدْرَجِه ومُعْضَلِهِ، ومُسْندِه ومرسَلِه، ومقلوبِه ومُعَلَلِه، ومضطرِباته وبلاغاته، وشواهده ومتابعاته، وتواريخِ رجالهِ وأحوالهم، والكلامِ في جرحهم وتعديلهِم وتضعيفِهم وتليينهم إلى غير ذلك مِن علومه الغزيرة، وفوائِدِه العزيزَةِ هو إلى علماءِ الحديث الذين قطعُوا أعمارَهم في الرِّحْلَةِ إلى أقطارِ الدنيا لجمع شوارِدِه، ولقاء مشايخه حتى أخذ الواحِدُ منهم عن ألوفٍ من الشيوخ، وبلغ الحافظ منهم ما لا تكاد تحتملُه العقولُ، هذا السَّمعانيُّ (2) كانَ له سبعة آلاف شيخ، وهذا البخاريُّ كان يحفظ ثلاث مئةِ ألفِ حديثٍ (3).
__________
(1) في (ب): بها.
(2) هو الإمام الحافظ الكبير الأوحد الثقة محدِّث خراسان، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني المروزي، صاحب " الأنساب " وغيره من المصنفات الكثيرة المتوفَّى سنة 562 هـ. وذكر ابن خلِّكان وغيره أن عدد شيوخه يزيد على أربعة آلاف، وقال ابن النجار: سمعت من يذكر أن عدد شيوخ أبي سعد سبعة آلاف، وهذا غير بعيد إذا كان كل من حكى عنه حكاية يُعدُّ شيخاً له. وكتابه " التحبير"، وهو في معجم شيوحه، قد طبع في بغداد سنة 1975 م في مجلدين بتحقيق منيرة ناجي سالم، وقد اشتمل على (1193) ترجمة.
(3) أورده الإمام الذهبي في " السير " 12/ 415 في ترجمة محمد بن إسماعيل من طريق محمد القومسي عن محمد بن خميرويه، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مئة ألف حديث صحيح ومئتي ألف حديث غير صحيح.(2/431)
ولقد قال ابن المديني: ما نعلمُ أحدَاً من لدن آدمَ كَتَبَ مِن الحديث ما كتب يحيى بنُ معين.
وقال يحيى بن معين: كتبتُ بيدي ألفَ ألفِ حديثٍ.
وقد ذكر السَّيِّد الإمام المؤيَّدُ بالله عليه السلام في كتابه " إثبات النبوات " من الثناء على المحدِّثين بتجويد المعرفة والإتقان للحديث ما يشهد بما ذكرتُه وبمعرفته عليه السلام بمحلهم المُنيف، وأن المعوَّلَ عليهم في هذا العلم الشريف، وذكر أخوه السَّيِّد الإمامُ أبو طالبٍ عليه السلام في " شرح البالغ المدرك " أن أحمد بن حنبل كان يحفظ خمسَ مئةِ ألف حديث (1).
وكذلك عَمِلَ هذان السيدان الإمامان بمقتضى ذلك، فأخذا الحديثَ عن أئمته النحارير، وحُفاظه المشاهير، كما هو مشهور معروف (2) عنهما في أسانيدِهما عنهم في كتابيهما الحافِلَيْنِ " شرح التجريد " للمؤيد و" شرح التحرير " لأبي طالب، وكذلك في " أمالي " السيد أبي طالب، وقد أكثر المويَّدُ من الرواية عن الحافظ ابن المقرىء، وأبو طالب عن الحافظِ ابن عَدِي، وما زال الإنصافُ شِعَار كُلِّ فاضلٍ ومجوِّدٍ، وسجيةَ كُلِّ عارف ومحقق.
قال أبو داود الخفافُ: أملى علينا إسحاقُ بنُ راهويه مِن حفظه أحدَ
__________
(1) ونقل الإمام الذهبي في " السير " 11/ 187 في ترجمة الإمام أحمد قول أبي زرعة لعبد الله بن أحمد: أبوك يحفظ ألف ألف حديث، فقيل له: ما يدريك؟ قال: ذاكرته، فأخدت عليه الأبواب. قال الذهبي بإثره: فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله، وكانوا يعدون في ذلك المكرر، والأثر، وفتوى التابعي، وما فسّر، ونحو ذلك، وإلاَّ فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك.
(2) في (ب): معروف مشهور.(2/432)
عشر ألفَ حديثِ، ثم قرأها علينا، فما زاد حرفاً، ولا نَقصَ حرفاً (1) وحتى إن الذُّهلي (2) طلب هذا الشأنَ في الحرمَيْنِ والشام، ومصر، والعراق والرّي، وخُراسان، واليمن، والجزيرة.
وحتَّى قال ابنُ المؤمَّل في حق الفضل الشعراني (3): كنا نقول: ما بقي بَلَدٌ لم يدخله الفضلُ الشعراني في طلب الحديث (4) إلاَّ الأندلسَ، إلى ما لا يُحصى من أمثالِ ذلك.
وكم عسى أن يذْكُرَ الذَّاكِرُ، أو يُحصيَ الحاسِبُ، وقد جمع الفلكيُّ (5) في معرفة رجال الحديث ألفَ جُزء، وجمع أبو الحجَّاج المِزِّي في معرفة رجال " الصحيحين " و" السنن " الأربع مئتين وخمسين جُزْءاً تشتمل على التعريف بما لهم مِن العناية في حِفظه وضبطه، وجمعه وإتقانه.
__________
(1) أوردها بأطول مما هنا الذهبي في " السير " 11/ 373 في ترجمة إسحاق بن راهويه. وقال الذهبي بعد أن أورد غيرَ ما خبرٍ ينبىء عن واسع حفظه: قد كان مع حفظه إماماً في التفسير، رأساً في الفقه، من أئمة الاجتهاد.
(2) هو محمد بن يحيى بن خالد بن فارس بن ذؤيب، الإمام العلاّمة الحافظ البارع شيخ الإسلام، وعالم أهل المشرق، وإمام أهل الحديث بخراسان، أبو عبد الله الذهلي مولاهم النيسابوري المتوفى 258 هـ. وللإمام البخاري معه كائنه في مسألة اللفظ، بسطها الإمام الذهبي في " السير " في ترجمة محمد بن إسماعيل 12/ 453 - 463.
(3) هو الإمام الحافظ المحدّث الجوال المكثر، أبو محمد الفضل بن محمد بن المسيب ابن موسى بن زهير بن يزيد الخراساني النيسابوري الشعراني، عُرف بذلك لكونه كان يرسل شعره، المتوفى سنة 282 هـ، قال الحاكم: لم أرَ خلافاً بين الأئمة الذين سمعوا منه في ثقته وصدقه، رضوان الله عليه، والخبر الذي ذكره المؤلف أورده الإمام الذهبي في " السير" 13/ 319 في ترجمته.
(4) " طلب الحديث " ساقط من (ب).
(5) تقدم التعريف به في الصفحة 429 ت 2.(2/433)
فإذا عرفتَ هذا، قلا تعتقد أن تفضيلَ أئمة العِترة عليهم السَّلامُ، وأئمة الفقهاء رضي الله عنهم يمنع مِن القول بأنَّ أَهْلَ الحديثِ أكثرُ ضبطاً للحديث، وكشفاً للمشكل، وتمييزاً للصحيح من الضعيفِ، وفصلاً للمشهورِ عن الغريب، فكما كان المرجعُ في القرآن حروفاً وإعراباً ونحواً ولغة إلى القراء والنحاة واللغويين، ولم يقتضِ ذلك تفضيلاً لهم على الأئمة والفقهاء، فكذلك المرجعُ في علوم الحديثِ إلى المحدّثين وإن كانوا في الفضل عن درجةِ العِترة ناقصين، وليس ذلك لِقلةٍ في علوم العِترة عليهم السلامُ، ولكن لأنَّهم لم يشتغلوا بالتصنيف إيثاراً لما هو أَهَمُّ منه من الجهادِ، وإصلاحِ أمورِ العامة، وكذلك أئمة (1) الفقهاء، فإنَّهم اشتغلوا بما هُوَ أَهَمُّ مِن ذلك من معرفة الحلال والحرام، وتعليمِ الناس وإفتائهم، ولهذا فإنَّ مسندَ الشافعي غيرُ معتمد عند الشافعية لِقلة حديثه، واشتماله على كثيرٍ من الأحاديثِ الواهيةِ والأسانيدِ الضعيفة، وكذلك مسندُ أبي حنيفة (2).
وقال الزمخشري (3) في تفسيرِ قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُم اللَّهُ} [المائدة: 4]: إن فائده قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} أن يكونَ من يُعَلِّمُ الجوارح تحريراً في علمه، مُدَرَّباً فيه، موصوفاً بالتكليب (4)، وفيه فائدةٌ جليلة، وهو أن على كُلِّ آخِذٍ علماً أن
__________
(1) ساقطة من (ج).
(2) هذا ذهول عجيب من المؤلف رحمه الله، فالشافعية والحنفية يعتمدون ما في المسندين، وينقلون عنهما، ويحتجّون بما فيهما إن صحَّ السند إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وكتب التخريج من كلا المذهبين خير شاهد على ذلك.
(3) " الكشاف " 1/ 594.
(4) في (ب): بالكلب.(2/434)
لا يأخُذَه إلَّا مِنْ أقتل (1) أهلِه علماً، وأنحرهم دِراية، وأغوصِهم على لطائفه وحقائقه، وإن احتاج إلى أن يَضْرِبَ إليه أكبادَ الإبل، فكم آخذٍ عن غيرِ متقن قد ضيَّع أيامَه، وعضَّ عند لقاء النحارير أنامله. انتهى.
وللزمخشري أيضاًً كلام، مشهور، في الاعتراف بالقصور في علم الرواية، كتبه إلى الحافظ السَّلَفي (2)، وقد طلب السِّلَفِي (2) منه الإِجازة، وفيه أن روايتَه حديثةُ الميلاد، ضعيفةُ الإسناد، وهو كلامٌ بليغ مشهور عن نصِّ الزمخشري رحمه الله، ولم يَشِنْهُ لِما فيه من الإنصافِ، ولولا خوفُ التطويل لذكرتُه بطوله (3)، وفيه أكبرُ شهادةٍ لوجوب الرجوع إلى أئمةِ الحديث في علمهم.
وقد أجمعت الأمةُ على الرجوع إلى تصانيفِ أهلِ الفنون، فنجِدُ العلماءَ يرجعونَ إلى " صحاح " الجوهري في تفسير الألفاظ اللغوية، والنحاة يرجعون إلى تصانيف أهلِ العربية، والقُرَّاء يرجعون إلى " الشاطبية " ونحوها من غير نكيرٍ في ذلك، فمن أراد قراءةَ المنطق، وقرأ في كتب الفلاسفة، لم يُتَّهَمْ بالخروج من الإِسلام، ومن (4) قرأ في العربية واعتمد على تواليف طاهرٍ وابنِ الحاجِب، لم يُتَّهَمْ برأي الأشاعرة.
ولهذا أيضاً فإنَّ السيدين المؤيَّد وأبا طالب عليهما السلام درساً على أبي العباس فِقه العِترة، ودرساً على المعتزلة ما يختصُّون بتجويده مِن علم
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى: قبل، وفي (ش) من قبل أجلّ.
(2) لقد وهم المؤلف وهماً مبيناً، فكتب " السمعاني " في الموضعين، والصواب ما أثبت، كما في " وفيات الأعيان " 5/ 170 - 171، و" معجم الأدباء " 19/ 132 - 133، و" أزهار الرياض " 3/ 283 - 289. والسلفي: هو الإِمام العلاّمة المحدث الحافظ المفتي المعمَّر أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد الأصبهاني الجَرواني المتوفَّى سنة 576 هـ. مترجم في " السير" 21/ 5 - 39.
(3) انظره في الموارد المتقدمة.
(4) في (ب): فمن.(2/435)
الكلام والأصول، ورويا الحديثَ عن أئمة المخالفين في الاعتقاد وقد أوضحتُ ذلك في غير هذا الموضع، وهو بَيِّنٌ في " أمالي " السَّيِّد أبي طالب، و" شرح التجريد " للمؤيد، وأكبرُ شيوخ أبي طالب ابنُ عدي صاحب كتاب " الكامل " في الجرح والتعديل، وأكبرُ شيوخ المؤيد ابنُ (1) المقرىء، وكلا هذين الشيخين على مذهب المحدثين في الاعتقاد، وإنما أهْلُ الحديثِ كَقُرَّاءِ كتابِ الله أوعيةٌ لعلم السمع، خلقهم اللهُ تعالى لحفظه، وحَبّبَ إليهم ضبطَه، كما حَفِظَ كُلَّ نوع كل من العلوم، ومصالِح الدين والدنيا بقومٍ خلقهم له، ولا يَضُرُّ الحديث غلطُ حملتِهِ في العقائد كما لا يَضُرُّ القرآنَ غلطُ القراء في ذلك، فإنما هُمْ أوعيةٌ والعيبُ المختص بالوعاء لا يسوي إلى المحفوظ فيه من الأُمور النفيسة، فإن الكاغدَ والجلدَ أوعيةُ القرآن والسنن، وقد يكونُ فيها الغاليَ والرخيصَ، والسالمَ مِن العيوب والمعيب، وكثرةُ المحبة للقدح في حَملَةِ العلم النبوي والولع بذلك مِن سوء الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك يكونُ وسيلةً إلى بُطلان حديثِهِ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّه إذا بَطَلَ حديثُ أهلِ العِنايةِ بالحديثِ، فحديثُ غيرهم أبطلُ، كما أنَّه إذا قُدِحَ في حفظ النحاة واللغويين للعربية، كان قدحاً فيها مطلقاً، إذ لا يُرجى لها طريقٌ غيرُ طريقهم، ومن هنا قال الحاكمُ أبو عبد الله مُحِبٌّ أهلِ البيت، ورأسُ التشيع في عصره، فقال في خطبة كتابه " علوم الحديث " (2) ما لفظه: ليس شيء أثقلَ على أهل الإلحاد، ولا أبغضَ إليهم مِن سماع الحديث وَمِنْ روايته بإسناده، وعلى هذا عَهِدْنا (3) في أسفارنا وأوطاننا كُلَّ من يُنْسَبُ إلى نوعٍ من الإلحاد والبِدَعِ
__________
(1) ساقطة من (ب)، وفي (ج) و (ش): اسمه محمد بن إبراهيم بن المقرىء.
(2) ص 4.
(3) في (ب): شهدنا.(2/436)
لاَ ينْظُرُ إلى الطائفة المنصورة إلا بِعَيْنِ الحَقَارَة، ويُسَميها الحشوية. انتهى.
وبيانُ ذلك أن المحدثين اسمٌ لأهل العناية بحفظ الحديث مِن أهل كلِّ مذهب كما مرَّ بيانُهُ في المرجح العاشر لقبول أهلِ التأويلِ (1)، وذكرتُ هناك المحدِّثين من الشيعة والمعتزلة، وليس المحدثون أسماء تَخْتَصُّ بمن خالف في الاعتقاد كالأشعريَّةِ والجبرية، ولكن المحدثين اسمٌ لمن ذكرنا من الفِرَقِ كُلِّهِم، كالقرَّاء والنُّحاة والأصوليين، فلذلك قلنا: إنَّ الحديثَ إذا قُدِحَ في صحته مِن طريقهم، كان قدحاً فيه مطلقاً مِن كل طريق، لأن أئمة الرواية من العِترة والشيعة هُمْ من أهل الحديث كما ذكره صاحب " الشفاء " عن الجُرجاني في حرب البُغاة من غيرِ إمام، ولم يقل: إن القدح المختص بالمحدثين المخالفين هو الذي يبطل الحديثَ، ولكنَّه يكون تحكماً، وتركُ المبتدعة المتأولة جميعاًً لا يُمكن كما تقدَّم بيانُهُ في الكلام على ذلك.
وإذا تأملتَ كلامَ السَّيِّد أبي طالب في " المجزىء "، عرفت إنصافَه، فإنه لا يذكر المعتزلةَ إِلا بمشايخنا يقول: قال شيخُنَا فلان، وقال الشيخانِ أبو علي وأبو هاشم، وإذا ذكر المسألةَ، لم يذكر فيها خلافاً لأحدٍ من العِترة قَطُّ فيما علمتُ، لأنهم لم يتكلموا في الفن، لا جهلاً به، ولا عدمَ معرفة له، ولكن مثل ما لم يتكلم فيه عليٌّ عليه السلامُ وغيرُه من السلف الصالح، فلم يُتهم أبو طالب بالميلِ عن العِترة، والانحرافِ عنهم، والقول بأن المعتزلة أعرفُ بالأصوليين منهم، ولكن المعتزلة أكثرُ فيهما تصنيفاً وخوضاً، وإقبالاً عليهما، واشتغالاً. وكذلك لا يلزم النحويّ إذا رجح كلامَ النحاة في أن " لدى " ظرف لا حرف على كلام
__________
(1) انظر الصفحة 307.(2/437)
الهادِي عليه السلام أنها حرف أن يكونَ مُفَضِّلاً لهم عليه السلام، وقد رَجَّحُوا حديثَ أبي رافع في زواج ميمونَةَ على حدِيثِ ابنِ عباس، لأنَّه كان السفيرَ، فكان أخصَّ، لا لأنَّهُ أفضلُ من ابن عباس (1).
وفي " النبلاء " (2) عن شُعبة، عن الأعمشِ، عن أبي وائل، عن عبدِ الله بنِ مسعود أنَّه قال: لَقَدْ عَلِمَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أنِّي أقرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ وَلَسْتُ بِخَيْرِهم. روي هذا عن ابن مسعود من غير وجه، وهو صريح في المعنى الذي قصدتُهُ.
وقد ذكر الإمامُ المؤيَّدُ بالله عنه وعمن تقدَّمه في تأليفه في كتاب " إثبات النبوات " أموراً كثيرة مما يؤيَّدُ أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصدقَه ومعجزاتِهِ وكراماتِهِ وخصائصَه حتى ذكر ما اختصت به أُمَّتُهُ مِن العلوم الجمَّة، ثم ذكر الثناء الحَسَنَ على أهل كُلِّ فن بما (3) يختص بهم حتى قال: ثم تأمل نقل أصحابِ الحديث للحديث وضبطَهم له، واختصاصَهم منه بما لم يختصَّ به أحدٌ من الأمم. انتهى بحروفه.
وكذلك محمدُ بنُ إبراهيم إذا قرأ في كتب المحدثين، لم يكن من الإنصاف أن يُتَّهَمَ بأنه يُفضِّلُهُم على أئمة الإسلامِ من أهل البيت عليها السلام، فأما تهمته بأنه جبري، أو مشبِّه، فليس ينبغي أن يُقال: ليس هذا من الإنصافِ، لأن هذا مِن المحرمات المغلَّظِ تحريمها، والكبائرِ الملعون مرتكبها، وفي الحديثِ الصحيح الثابتِ من غير طريق وعن غير واحدٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا قَالَ المُسْلِمُ لِأخيهِ: يَا كَافِرُ
__________
(1) انظر " شرح السنة " 7/ 250 - 253.
(2) 1/ 474، والخبر في البخاري (5000) من طريق عمر بن حفص، حدَّثنا أبي، حدَّثنا الأعمش بهذا الإسناد.
(3) في (ب): ما.(2/438)
فَقَدْ بَاءَ بِهَا أحَدُهُما " (1)، وفي الحديث الصحيح: " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " (2)، وفي الحديث الصحيح: " لا يَتِمُّ إيمَانُ أحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " (3).
ولقد يَحِقُّ على المرء المسلمِ أنْ يَزُمَّ لسانَه، ويعْلَمَ أنَّ الله سائلُه عن قوله، ومحاسِبٌ له عليه، ومقتصٌّ لِخصومه منه. فَرَحِمَ الله امرءاً قَصَّر مِن لسانه، واشتغل بشأنِه، وأقبل على تلاوة قرآنه، واستقلَّ مِن الجناية على إخوانِه.
__________
(1) أخرجه من حديث ابن عمر: مالك 2/ 984، والبخاري (6104)، ومسلم (60)، والترمذي (2639)، وأبو داود (4687).
وأخرجه من حديث أبي ذر البخاريُّ (6045).
وأخرجه من حديث أبي هريرة البخاريُّ (6103).
وقوله: " فقد باء بها أحدهما " أي: التزمه، ورجع به، قال الله عز وجل: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} أي: لزمهم ورجعوا به. قال البغوي في " شرح السنة " 13/ 132: وهذا فيمن كفر أخاه خالياً من التأويل، أما المتأول فخارج عنه.
(2) أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: البخاريُّ (10)، ومسلم (40)، وأبو داود (2481)، والنسائي 8/ 105.
وأخرجه من حديث أبي موسى الأشعري: البخاريُّ (11)، ومسلم (42)، والترمذي (2506)، والنسائي 8/ 106 - 107.
وأخرجه من حديث جابر مسلمٌ (41).
وأخرجه من حديث أبي هريرة: النسائي 8/ 104 - 105، والترمذي (2629)، وقال: حسن صحيح، وصححه ابن حِبَّان (180)، والحاكم 1/ 10، ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه من حديث أنس بن مالك بلفظ " لا يؤمن أحدكم .. ": أحمد 3/ 176، 206، 251، 272، 289، والبخاري (13)، ومسلم (45)، والنسائي 8/ 115، 125، والدارمي 2/ 307، وابن ماجة (66)، وابن حبان (234).
وأخرجه ابن حبان (235) من طريق ابن أبي عدي، عن حسين المعلم، عن قتادة، عن أنس بلفظ: " لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحبُّ لنفسه من الخير "، وهو في البخاري (13)، ومسلم (45) (72)، وأحمد 3/ 206 من طريق حسين المعلم به، إلاَّ أنّه عندهم بلفظ " لا يؤمن "، ولفظ المصنف " لا يتم " لم أقف عليه، وهو بمعنى رواية ابن حبان.(2/439)
تمَّ بعونه تعالى الجزء الثاني مِن العواصم والقواصم
ويليه
الجزءُ الثالثُ وأولُهُ: قال: واعلم مَتَّع اللهُ ببقائك أنكم قَبِلْتُم روايةَ فسقة التأويلِ ....(2/440)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الثالث
مؤسسة الرسالة(3/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
3(3/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(3/3)
قال: واعلمَ -مَتَعَ اللهُ ببقائكَ- أنَّكم قَبِلْتم روايةَ فَسَقَةِ التَأويل المعارضَة لِروايةِ الهادي والقاسم وأشباهِهما من الأئَّمة المطهَّرين.
أقول: هذا الكلامُ الذي صَدَرَ من السيدَ -أيده اللهُ- دعوى مجرَّدة عن البَيِّنَةِ، وهو من القبيل الَّذِي شكوتُه منه -أيَّده اللهُ- في أوَّلِ جوابي هذا عليه، وقد ثَبَّتُ (1) هناك أنَّ النُّقَّادَ يَعيبون رَمْيَ (2) الخصمِ بالأقوالِ من غير إيرادِ نصِّه وحِكاية لفظه. وللتَّعارُضِ شروطٌ غزيرةُ الوجود، وهي مُبيَّنَةٌ في الكتبِ الأُصوليَّة، فلا حاجة إلى التَّطويل بإيرإدِها، إذ لا تعْزُبُ عن معارِفِ السَّيِّد.
والجوابُ عن هذا لا يَتَّجِهُ حتَّى يُبيِّنَ السيدُ تلك الأحاديث التي رواها أهلُ البيت، وعارضَتْها (3) روايةُ غيرهم ممَّنْ صَحَّ جَرْحُهُ، فمتى بيَّنَ ذلك، توجَّه الجوابُ عليه، وما أظنُه إلا توهَّمَ أنَّ مخالفَة بعضِهم في بعضِ المسائِلِ يقتضي ترجيحَ روايةِ أولئك المجاريحِ على روايتهم عليهم السَلامُ، وليس الأمرُ كذلك.
__________
(1) في (ش): " في أول جوابي عليه هناك أن ".
(2) في (ش): " قول "، وهو خطأ.
(3) في (ش): " وعارضها ".(3/5)
وقد ذكر السَّيَدُ مسائل أربعاً، قال السيد -أيَّده الله- قد اشتهر عنِّي المخالَفَةُ فيها. والكلامُ على تلك المسائلِ ينقسِمُ قسمين:
أحدُهما: في نُصرةِ مذهبي فيها (1)، وبيانِ أنِّي لم أُخالِفْ فيها إجماع العِترة وبيانِ الحُجج، ووجهِ التَّرجيح، وهذا ممَّا ليس بمُهمّ. وقد وعدتُ في خُطبة هذا الكتاب بالإضرابِ عن إجابة ما يَخُصُّنِي إلا ما تَخلَّلَ من ذلك في ضمن الكلام على هذه القواعد الكبارِ، وذلك لأنَّ الخَوْضَ في المسائل الظَنِّيَة الفروعية على جهة المنازَعةِ في بيانِ المحِقّ مِن المبطل لا يشتغِلُ به مُحَصِّلٌ، لأنَّ الأمرَ قريبٌ فيما كلُّ فيه مُسامحٌ أو مُصيب.
والقسم الثَّاني: قولُ السَّيِّد: إنِّي قد قَبِلْتُ روايةَ فَسَقَةِ التَّأويلِ المعارضَةِ لرواية الهادي والقاسم، وأشباهِهما مِنَ الأئمة المُطَهَّرِينَ، وقد خَتَمَ السيد الكلامَ في مسألة المتأوِّلين بهذه النُّكتةِ، وأَمَرَني أمراً جازماً أن أَعْلَمَها، وتَكُونَ على بالٍ منِّي، فأحببتُ أن أُبَرِّىء نفسي ممَّا ادعاه عليَّ مِنْ غيرِ تعرُّضٍ لترجيح مذهبي، ولا تصحيح اختياري (2).
وأنا أَقتصِرُ على ذكر (3) مسألةِ الجهرِ والإخفاتِ، لأنَّها أعظمُ مَا يُشَنّعُ (4) بهِ المعترضون، ولأنَّ بعضَ أهلِ البيت -عليهمُ السَّلامُ- رَوَى فيها أحاديثَ تَدُلُّ على الجهرِ.
وأمَّا وضعُ اليمنى على اليُسرى والتَّأمين، فلم أعلم أنَّ أحداً مِن أهل البيت -عليهم السلامُ- روى في المنع من ذلك حديثاً نَصّاً، ولا روى
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): " لاختياري ".
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): "شنع".(3/6)
السيدُ في كتابه شيئاً من ذلك، بل روى محمدُ بنُ منصور الكوفي (1) حديثَ وائل (2) في ذلك في " علومِ آل محمد"، ولم يُضعفْهُ، ولا روى له
__________
(1) تقدمت ترجمته في 2/ 403.
(2) أخرجه مسلم (401)، وأبو عوانة 2/ 97، وأحمد 4/ 317، وأبو داوود (723)، والبيهقي 2/ 28 من طريق محمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل، عن علقمة بن وائل (وقع في " سنن أبي داوود ": وائل بن علقمة، وهو خطأ، نبه عليه المزي في " تحفة الأشراف " 9/ 92) ومولى لهم أنهما حدثاه عن أبيه وائل بن حجر أنَّه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ...
وأخرجه أحمد 4/ 318، وأبو داوود (727)، والنسائي 2/ 126، والدارمي 1/ 314، وابن الجارود في " المنتقى " (208)، والبيهقي 2/ 27 - 28 و138 من طرق عن زائدة بن قدامة، عن عاصم بن كليب أخبرني أبي أن وائل بن حجر الحضرمي أخبره قال: قلت: لأنظرن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف يصلي، فنظرت إليه حين قام، فكبر ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرسغ، والساعد ... وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وصححه ابن خزيمة (480)، وابن حبان (485).
وانظر طرقاً أخرى له عن وائل بن حجر في " المسند " 4/ 316 و318 و319، وابن خزيمة (477) و (478)، والدارقطني 1/ 286، والبغوي (569)، والبيهقي 2/ 28، وابن حبان (447)، وابن ماجة (810)، وأبي داوود (726)، والنسائي 2/ 125 - 126، وابن الجارود (202)، وابن أبي شيبة 1/ 390.
تنبيه: روى الحديث ابنُ خزيمة في " صحيحه " (479)، وأبو الشيخ في " طبقات المحدثين بأصبهان " لوحة 125 من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. فقوله: " على صدره " زيادة انفرد بها مؤمل بن إسماعيل من بين أصحاب الثوري، وهو سيىء الحفظ، وأصحاب عاصم الذين رووا هذا الحديث عنه لم يذكروا هذه اللفظة، فهي شاذة.
وروى أبو داوود (759) من طريق أبي توبة، عن الهيثم بن حميد، عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاووس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة. سليمان بن موسى: هو الدمشقي الأشدق، في حديثه بعض لين، وخلط قبل موته بقليل، ثم هو مرسل.
وروى البيهقي 2/ 30 من طريق محمد بن حجر الحضرمي عن سعيد بن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، عن أمه، عن وائل بن حجر قال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أو حين نهض إلى المسجد، فدخل المحراب، ثم رفع يديه بالتكبير، ثم وضع يمناه على يسراه على صدره.
فال ابن التركماني: محمد بن حجر بن عبد الجبار بن وائل، عن عمه سعيد له مناكير، قاله =(3/7)
معارضاً، ذكره في حَقِّ الصَّلاة، والتَّغليس بالفجر في جُملة ما جمعه لِلعمل به على مذهبِ أهل البيت، وسمَّاه " علوم آل محمد "، وروى الأميرُ شَرَفُ الدين الحسينُ بنُ محمد الهادي (1) نسباً ومذهباً في ذلك حديثَ علي السلام (2)،
__________
= الذهبي، وأم عبد الجبار هي أم يحيى لم أعرف حالها ولا اسمها.
وقول الشيخ ناصر الألباني في " صفة الصلاة " ص 79: " وضعهما على الصدر هو الذي ثبت في السنة " فيه ما فيه. قال الإمام ابن القيم في " بدائع الفوائد " 3/ 91: واختلف في موضع الوضع، فعنه (أي: عن الإمام أحمد): فوق السرة، وعنه: تحتها، وعنه: أبو طالب سألت أحمد بن حنبل أين يضع يده إذا كان يصلي؟ قال: على السرة أو أسفل، وكل ذلك واسع عنده إن وضع فوق السرة، أو عليها، أو تحتها.
(1) في (ش): " الهادوي "، وقد تقدمت ترجمته في الجزء الأول ص 283.
(2) أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد " المسند " 1/ 110، وابن أبي شيبة 1/ 391، وأبو داوود (756)، والدارقطني 1/ 286، والبيهقي 2/ 31 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة الواسطي، عن زياد بن زيد السوائي، عن أبي جحيفة، عن علي رضي الله عنه قال: من السنة وضع الكف على الكف في الصلاة تحت السرة. وإسناده ضعيف لضعف عبد الرحمن بن إسحاق.
ورواه أبو داوود (757) من طريق ابن جرير الضبي، عن أبيه قال: رأيت علياً رضي الله عنه يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة.
ورواه البيهقي 2/ 29 - 30 من طريق ابن جرير عن أبيه أنه كان شديد اللزوم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كان علي رضي الله عنه إذا قام إلى الصلاة فكبر، ضرب بيده اليمنى على رسغه الأيسر، فلا يزال كذلك حتى يركع إلا أن يحك جلداً أو يصلح ثوبه، فإذا سلم سلم عن يمينه: سلام عليكم، ثم يلتفت عن شماله، فيحرك شفتيه، فلا ندري ما يقول، ثم يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا نعبد إلا إياه، ثم يقبل على القوم بوجهه، فلا يبالي عن يمينه انصرف أو عن شماله. وحسَّن إسناده مع أن ابن جرير -واسمه غزوان- لم يوثقه غير ابن حبان، وكذا أبوه.
ورواه ابن أبي شيبة 1/ 390 من طريق ابن جرير، عن أبيه قال: كان عليّ إذا قام في الصلاة وضع يمينه على رسغ يساره، ولا يزال كذلك حتى يركع متى ما ركع إلا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده.
وعلقه البخاري 3/ 71 في أول كتاب العمل في الصلاة، ولفظه: ووضع علي رضي الله عنه كفه على رصغه الأيسر إلا أن يحك جلداً أو يصلح ثوباً.
وروى الطبري 30/ 325، والحاكم 2/ 325، والبيهقي 2/ 29 و30 - 31 من طريق حماد بن سلمة، عن عاصم الجحدري، عن عقبة بن ظبيان، عن علي رضي الله عنه (فصل =(3/8)
وحديث أبي هريرة (1) في وضع اليدِ على اليد تحتَ السُرَّة في الصلاة ولم يُضعِّفْهُما، ولا روى لهما مُعارِضاً، بل قال: إنَّ أحدَهما بلفظ الوضع، والآخر بلفظِ الَأخْذِ، والمتعارِضان إذا لم يُمكنِ التَّرجيحُ فيهما، سقطا، وقد نَبَّهَ على الجوابِ بقوله: إذا ثم يُمكنِ الترجيح، فإنَّه ممكن، وأيضاًً فلا بُدَّ مِنْ تعذُّرِ الجمع بالتَّأويل، وهو أيضاً ممكن.
وأمَّا قولُه: يُمكن أنَّ المرادَ بهما التطبيقُ في الركوع فسَهْوٌ، وغفلةٌ عن روايته فيهما معاً أن ذلك تَحْت السُّرة.
وفي هذه السُّنَّةِ اثنان وعشرون حديثاً، حديثُ وائل واحدٌ منها.
وعن عليٍّ عليه السَّلامُ ثلاثةٌ منها مرفوعة، وأثرٌ موقوف روى أحدَهما أحمدُ وأبو داود، وروى الآخرَ (2) الحاكمُ والدَّارقطنيُّ والبيهقي والرَّافعي (3)، وقال الحاكم -على تشيُّعهِ- إنَّه أحسنُ شيءٍ كل في الباب.
الثالث: عنه، يأتي ختاماً لها.
الرابعُ: عن طاووس (4).
__________
= لربك وانحر) قال: هو وضع يمينك على شمالك في الصلاة. وعاصم الجحدري: هو ابن الحجاج أبو المجشر المقرىء، لم يوثقه غير ابن حبان، وكذا عقبة بن ظبيان. وقال التركماني 2/ 30: في سنده ومتنه اضطراب.
ورواه ابن أبي شيبة 1/ 390 من طريق عاصم الجحدري، به.
(1) أخرجه أبو داوود (756)، والدارقطني 1/ 284 من طريقين عن عبد الواحد بن زياد، عن عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، عن سيار أبي الحكم، عن أبي وائل قال: قال أبو هريرة: وضع الكف على الكف في الصلاة من السنة. وإسناده ضعيف كسابقه.
(2) سقطت من (ش).
(3) انظر " فتح العزيز شرح الوجيز " 3/ 281.
(4) رواه أبو داوود (759) من طريق أبي توبة، حدثنا الهيثم بن حميد، عن ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى الدمشقي، عن طاووس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يده اليمنى على يده اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة. ورجاله ثقات غير سليمان بن موسى الدمشقي ففيه لين، وخلط قبل موته بقليل، ثم هو مرسل.(3/9)
الخامسُ: عن قبِيصَةَ بنِ هُلْبٍ، عن أبيه (1).
السَّادسُ: عن جابرِ بنِ عبد اللهِ (2).
السَّابعُ: عن الحارثِ بنِ غطيف (3).
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 226 و227، وابن أبي شيبة 1/ 390، والترمذي (252) وابن ماجه (709)، والدارقطني 1/ 285 من طرق عن سماك، عن قبيصة بن هُلْب، عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤمنا، فيأخذ شماله بيمينه. وقال الترمذي: حديث حسن، وهو كما قال. وزاد أحمد في رواية " يضع هذه على صدره " وصف يحيى -وهو ابن سعيد القطان شيخ أحمد في هذا الحديث- اليمنى على اليسرى فوق المفصل.
وهُلْب: ضبطه المحدثون بضم الهاء وسكون اللام، وضبطه اللغويون بفتح الهاء وكسر اللام بوزن كتف، وهو الذي نص عليه ابن دريد في " الاشتقاق " ص 482، وعلله بأن " الهلب " بالضم هو الشعر، وقال: والهلب رجل كان أصلع، فسمح النبي - صلى الله عليه وسلم - يده على رأسه، فنبت شعره، فسمي الهلب، ورجح صاحب القاموس قول أهل اللغة، وخالفه شارحه، فرجح قول المحدثين، وقال: لأنَّه من باب تسمية العادل بالعدل مبالغة خصوصاًً وقد ثبت النقل، وهم العمدة.
(2) أخرجه الدارقطني 1/ 287 من طريق يحيى بن معين، عن محمد بن الحسن الواسطي، عن الحجاج بن أبي زينب، عن أبي سفيان، عن جابر قال: مَرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل وَضَعَ شمالَه على يمينِه، فأخذ يمينَه، فوضعها على شمالِه.
(3) أخرجه أحمد 4/ 105 و5/ 290، وابن أبي شيبة 1/ 390 من طرق عن معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف، عن الحارث بن غطيف أو غطيف بن الحارث: مهما رأيت ما نسيت من الأشياء لم أنس أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعاً يمينه على شماله في الصلاة وسنده قوي.
وفي " الإصابة " 1/ 287: الحارث بن غطيف -بالمعجمة مصغراً- السكوني الشامي، روى حديثه معاوية بن صالح، عن يونس بن سيف عنه اختلف فيه، فقال أبو صالح، وحماد بن خالد، عن معاوية، به: لم أنسَ أني ...
أخرجه البغوي وسمويه، وقال عبد الرحمن بن مهدي، وزيد بن الحباب، عن معاوية كذلك إلا أنهما قالا: غطيف بن الحارث أو الحارث بن غطيف على الشك.
أخرجه ابن أبي شيبة، وابن السكن، ورواه ابن وهب ورشدين بن سعد، عن معاوية كرواية أبي صالح بلا شك، لكن زاد بين يونس والحارث أبا راشد الحبراني.
أخرجه ابن مندة، والباوردي، وابن شاهين. قال ابن مندة: ذكر أبي راشد فيه زيادة.(3/10)
الثَّامنُ: عن شَدَّاد بنِ شُرَحْبِيل (1).
التَّاسعُ: عن ابنِ عباس (2).
العاشر: عن يعلى بن مُرَّةَ (3).
__________
(1) أخرجه البزار (522)، والطبراني في " الكبير " (7111) من طريق حيوة بن شريح الحمصي، حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا حبيب بن صالح، حدثنا عياش بن مؤنس، عن شداد بن شرحبيل الأنصاري قال: مهما نسيت، فإني لم أنسَ أني رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يصلي ويده اليمنى على يده اليسرى قابضاً عليها.
وعياش بن مؤنس: ذكره البخاري في " التاريخ الكبير " 7/ 47، وابن أبي حاتم 7/ 5، وكناه الثاني بأبي معاذ، وقال: روى عن شداد بن شرحبيل الأنصاري، وسمع منه نمران بن مخمر، وروى عنه حبيب بن صالح، سمعت أبي يقول ذلك، وذكره ابن حبان في " الثقات " 5/ 271، وباقي رجاله ثقات.
وشداد بن شرحبيل ذكره أبو القاسم عبد الصمد فيمن نزل حمص من الصحابة، قال ابن حبان: سكن الشام، له صحبة، وقال ابن مندة: حمصي له صحبة، وقال الحافظ في " الإصابة " 2/ 139 بعد أن نسب الحديث إلى ابن أبي عاصم، وابن السكن، والطبراني، والإسماعيلي من طريق بقية، حدثنا حبيب بن صالح، به: رواه جماعة عن بقية، فأدخلوا بين عياش وشداد رجلاً، وفي رواية الإسماعيلي ومن وافقه عن عياش، عمن حدثه عن شداد.
(2) أخرجه الطبراني في " الكبير " (11485)، وابن حبان (885) من طريقين عن حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل فطورنا، وأن نمسك أيماننا على شمائلنا في صلاتنا ". وهذا سند قوي على شرط مسلم، وصححه الضياء المقدسي في " المختارة " 63/ 10/2.
وأخرجه الطبراني أيضاًً (10851) من طريق محمد بن أبي يعقوب الكرماني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نعجل الإفطار، وأن نؤخر السحور، وأن نضرب بأيماننا على شمائلنا ". وهذا سند صحيح على شرط البخاري.
وأخرجه الطيالسي (2654)، والدارقطني 1/ 284، والبيهقي 4/ 238 من طريق طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي، عن عطاء، عن ابن عباس. وطلحة بن عمرو: ضعيف، لكن يتقوى بالطريقين السالفين.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " 22/ (676) من طريق عبد الرحمن بن مسلمة الرازي، حدثنا أبو زهير عبد الرحمن بن مغراء، عن عمر بن عبد الله بن يعلى، عن أبيه، عن =(3/11)
الحادي عشر: عن أبي الدَّرداء مرفوعاًً.
الثاني عشر: عنه موقوفاً (1).
الثالث عشر: عن عُقبة بنِ أبي عائشة موقوفاً (2).
الرابع عشر: عن علي موقوفاً رواه البخاريُّ في أبواب قيامِ اللَّيل، وأبو داود والمِزِّي (3).
الخامس عشر: عن ابنِ مسعود (4).
__________
= جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثة يحبها الله عز وجل: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، وضرب اليدين إحداهما بالأخرى في الصلاة ".
وعمر بن عبد الله: ضعيف، وكذا أبوه. وذكره الهيثمي في " المجمع " 2/ 105 و 4/ 155، ونسبه في الأول إلى الطبراني في " الكبير "، وفي الثاني إلى الطبراني في " الأوسط "، وأعلَّه بعمر بن عبد الله.
(1) رواه الطبراني مرفوعاً وموقوفاً بلفط: " ثلاث من أخلاق النبوة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمين على الشمال في الصلاة ". قال الهيثمي في " المجمع " 2/ 105: والموقوف صحيح، والمرفوع في رجاله من لم أجد من ترجمه.
قلت: ورواه موقوفاً ابن أبي شيبة 1/ 390 من طريق وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الأعمش، عن مجاهد، عن مورق العجلي، عن أبي الدرداء قال: من أخلاق النبيين وضع اليمين على الشمال في الصلاة. وهذا سند صحيح. وهو في حكم المرفوع، لأن مثله لا يقال بالرأي.
(2) عقبة بن أبي عائشة يروي ذلك عن الصحابي عبد الله بن جابر الأنصاري البياضي، فقد أخرج الطبراني في " الكبير "، وابن أبي عاصم من طريق هشام بن عمار، حدثنا عبد الله بن أبي سفيان من أهل المدينة وهو من ثقاتهم، قال: سمعت جدِّي عقبة بن أبي عائشة يقول: رأيت جابر بن عبد الله البياضي صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واضعاً إحدى يديه على الأخرى في الصلاة. انظر " أسد الغابة " 3/ 192 و" الإصابة " 2/ 277. وعقبة بن أبي عائشة لم يرو عنه غير عبد الله بن أبي سفيان، ولم يوثقه أحد. انظر " الجرح والتعديل " 6/ 315.
(3) انظر الصفحة 4 ت (2).
(4) أخرجه أبو داوود (755)، والنسائي 2/ 126، وابن ماجه (811)، والدارقطني 1/ 286، والبيهقي 2/ 28 من طرق عن هشيم بن بشير، أنبأنا الحجاج بن أبي زينب السلمي، عن أبي عثمان النهدي، عن عبد الله بن مسعود، قال: رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وضعتُ شمالي على =(3/12)
السادس عشر: عن ابنِ الزُّبير (1).
السابع عشر: عن سهل بنِ سعد (2).
الثامن عشر: عن معاذ (3).
التاسع عشر: عن أبي هريرة (4).
__________
= يميني في الصلاة، فأخذ بيميني فوضعها على شمالي. وسنده حسن كما قال الحافظ في " الفتح ".
وأخرج الدارقطني 1/ 283 من طريق إسماعيل بن أبان الوراق، حدثني مندل، عن ابن أبي ليلى، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ شماله بيمينه في الصلاة.
(1) أخرجه أبو داوود (754) من طريق نصر بن علي، أخبرنا أبو أحمد، عن العلاء بن صالح، عن زرعة بن عبد الرحمن قال: سمعت ابن الزبير يقول: صف القدمين، ووضع اليد على اليد من السنة. وسنده حسن في الشواهد. أبو أحمد: هو محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي مولاهم.
(2) أخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 159، ومن طريقة البخاري (740)، والبغوي (568)، والبيهقي 2/ 28 عن أبي حازم، عن سهل بن سعد الساعدي أنَّه قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله: كان الناس يؤمرون: هذا حكمه الرفع، لأنَّه محمول على الآمر لهم بذلك هو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ونقل الزرقاني في " شرح الموطأ " 1/ 286 عن ابن عبد البر قوله: لم يأتِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه (أي: في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة) خلاف، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في " الموطأ " ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره.
قلت: وانظر التعليق رقم (3) من الجزء الأول من هذا الكتاب ص 275.
(3) أخرجه الطبراني في " الكبير " 20/ (139) من طريق الخصيب بن جحدر، عن النعمان بن نعيم، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ بن جبل قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في صلاته رفع يديه قبالة أذنيه، فإذا كبر أرسلها ثم سكت، وربما رأيته يضع يمينه على يساره ... والخصيب بن جحدر: كذبه شعبة بن الحجاج، ويحى القطان، وبه أعلَّه الهيثمي في " المجمع " 2/ 102 و135.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة (5) ت (1).(3/13)
الموفي عشرين عن ابن عمر (1).
الحادي والعشرون: عن الحسن البصري مرسلاً (2).
الثاني والعشرون: عن عليٍّ عليه السلام في الصِّيام من مجموعِ زيد ابن عليٍّ (3) عليه السلامُ، وجملتُها في " العلوم " و" الشفاء" و" الكتب الستة " و" مجمع الزوائد " (4)، وما علمُت أنَّه روى أحدٌ مِنْ أهل البيتِ وشِيعَتهم حديثاًً واحداً في النَّهْي عن وضع الكفِّ على الكَفّ في الصَّلاةِ حَتَّى نكونَ قَدَّمْنَا (5) عليه واحدا وعشرين حديثاً من روايتهم ورواية غيرهم، فلم يكُنِ العَمَلُ في هذهِ المسائلِ يقتضي ترجيحَ حديث المجاريح على حديثِ أهل البيت عليهُم السَّلامُ، لكن السَّيد ادَّعى في
__________
(1) أخرجه الطبراني في " الصغير " (679)، والبيهقي 2/ 29 من طريق يحيى بن سعيد بن سالم القداح، حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن أبيه، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنا معشر الأنبياء أمرنا بثلاث: بتعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة ".
وأورده الهيثمي في " المجمع " 3/ 155، وزاد نسبته إلى الطبراني في " الأوسط " وقال:
وفيه يحيى بن سعيد بن سالم القداح، وهو ضعيف. وقال البيهقي: تفرد به عبد المجيد، وإنما يعرف بطلحة بن عمرو، وليس بالقوي عن عطاء، عن ابن عباس، ومرة عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الصحيح عن محمد بن أبان الأنصاري، عن عائشة رضي الله عنها قالت: ثلاث من النبوة .. ، فذكرهن من قولها.
قلت: محمد بن أبان: قال البخاري: لا يعرف سماعه من عائشة.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة 1/ 390 من طريق وكيع، عن يونس بن ميمون، عن الحسن قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كأني أنظر إلى أحبار بني إسرائيل واضعي أيمانهم على شمائلهم في الصلاة ".
(3) في الصفحة 183 ونصه: زيد بن علي، عى أبيه، عن جده، عن علي رضي الله عنه قال: ثلاث من أخلاق الأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع الكف على الكف تحت السرة.
(4) انظر 2/ 104 - 105 و3/ 155.
(5) في (ب): " تقدمنا ".(3/14)
هذه المسائل (1) دعوتين.
الدعوى الأُولى: ادَّعَى أنَّ أحاديثَ الفقهاءِ متعارضَة في وضع اليَدِ على اليد، ونصَّ السَّيِّد على ما يتحيَّرُ العاقل في صدوره مِن مثله (2)، وذلك أنَّه ذكر في كتابه أنَّ وائل بن حُجْرٍ فاسِقٌ مجروحٌ، فلمَّا وصل السيد إلى مسألة وضعِ اليُمنى على اليُسرى، ذكر تعارُضَ الأخبارِ في ذلك، وأنَّ في حديث وائلٍ أنَّ الوضع يكونُ على الصُّدُورِ (3)، وفي حديث عليٍّ، وأبي هريرة أنَّ الوضع تحت السُّرَّة، فعارضَ بينَ رواية أمير المؤمنين مع أبي هُريرة الحافِظ الأمينِ، وبَيْنَ روايةِ وائل الذي نصَّ على أنَّه عِنْدَهُ مِنَ المجروحين الفاسقين، فأينَ كانَ عقلُ السَّيِّدِ -أيده اللهُ- حتَّى اعتقَد أنَّ حديث وائل -مع اعتقاده فيه- يُعارِضُ حديثَ أمير المؤمنين عليه السَّلامِ، وأبي هريرة رضي الله عنه حتَّى يجِبَ طَرْح حديثهمَا منْ أَجْلِ حديثِ وائلٍ؟ وهذا يَدُلُّ على أن السيد كتب رسالتَه وهو لا يدري ما يكتب إمَّا لتعصُّبٍ شديدٍ، أو غيرِ ذلك.
الدعوى الثانية: ادَّعى أنَّ العُمُومَ يعارِضُ الخصوصَ إذا جُهِلَ التاريخُ، كما ذهبت إليه. الحنفِيَّةُ، وهذه مسألةُ خلافٍ، الذي عليه جماهير العلماء، والذي عليه عَمَلُهُم هو تقديمُ الخَاصِّ عِنْدَ جَهْلِ التَّارِيخِ، وقد ذكر الشَّيْخُ أبو الحسين البصري أنَّه الَّذي عليه علماءُ الأمصار (4)، ولا شكٌّ
__________
(1) في (ش): " المسألة ".
(2) في (ش): ما يتحير عقل العاقل في عقله عن مثله.
(3) في (ش): الصدر.
(4) " المعتمد " 1/ 259، ونص كلامه: فأما إذا لم يعرف التاريخ بينهما (أي: بين الخاص والعام) فعند أصحاب الشافعي أن الخاص منهما يخص العام، وهذا سديد على أصولهم، لأنه ليس للخاص مع العام إلا أن يقارنه، أو يتأخر عنه، أو يتقدمه، وقد بان وجوب خروج ما تناوله الخاص من العام في الأحوال الثلاثة، وأيضاً، فإن فقهاء الأنصار في هذه الأعصار يخصون أعمَّ الخبرين بأخصهما مع فقد علمهم بالتاريخ.(3/15)
أنَّ العمل بالخاصِّ أَرْجح، أمَّا إنْ قُلنا: إنَّه خاصٌّ، وإنَّ الخاصَّ يُقدَّمُ (1)، فظاهر، وأما إن لم نَقُلْ بذلك، فلأنَّ الخصوصيةَ من وجوهِ التَّرجيح، فكانَ العملُ به أرجحَ، لأنه ُ أخصُّ بالحكم، وقوَّى هذا ابنُ رشد في " نهايته " (2) في اشتراط النِّصاب في الحُبوب.
وبالجملة فَذكْرُ الحُججِ في هذه المسألَةِ على الاستقصاء يَطُولُ، لكنا نكتفي في ذلك بكلام مُخْتَصَرٍ، فنقول للسيدِ: هل تدَّعي التَّعارضَ في ذلك على سبيِلِ القطع، أوعلى سبيلِ الظن؟ إن قلتَ: على سبيلِ القطع، فَهَلُمَّ الدَّليل، وعلينا القَبُولُ أو الجوابُ، ولكِنَهُ يَلْزَمُك على الكُلِّ تأثيمُ الجِلَّة من علماء الإسلام الّذين قَضَوْا بتقديمِ الخاصِّ على العَامِّ، وإن قلت: إنَّهما متعارضانِ على سبيل الظَّنِّ، فما معنى المراسلة والمناظرة في مسألةٍ اجتهاديَّةٍ ظنِّيةٍ على سبيل الإنكار والتَعَسُّفِ، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً أنكر على مَنْ قضى بتقديم الخاصِّ على العامِّ عند جَهْلِ التَّاريخ منذ صُنِّفَ أُصولُ الفقْهِ، وعُرِف الكلامُ في مسائل الخلاف. فلو سَكَتَ السَّيِّدُ عن النَكير في ذلك، لَوسِعَهُ مَا وَسِعَ أمَّةَ محمَّد - صلى الله عليه وسلم - في مقدار سِتِّ مِئَةِ سنةٍ، وإنَّما ذَكَرَ هذه النُكْتَةَ في تقديم معارضة العامِّ للخاصِّ (3) عِنْدَ جهل التَّاريخ، لأنَّه فَهِمَ أنَّهُ لا حُجَّةَ لَهُ في المنِع من وضع اليُمنى على اليُسرى، ومِنَ التأمين إلا ذلك، فإنه إنما عارض جميعُ ما تقدَّم بحديثِ " اسْكُنُوا في الصَّلاَةِ " (4).
__________
(1) في (ش): مقدم.
(2) اسمه الكامل " بداية المجتهد ونهاية المقتصد ": ونصه فيه 1/ 265: ولكن حمل الجمهور عندي الخصوص على العموم هو من باب ترجيح الخصوص على العموم في الجزء الذي تعارضا فيه، فإن العموم فيه ظاهر، والخصوص فيه نص.
(3) في (ب): الخاص.
(4) أخرجه مسلم (430) في الصلاة: باب الأمر بالسكون في الصلاة، والنهي عن =(3/16)
والجوابُ عنه: أنَّ المرادَ ممَّا لم تُشْرَعْ فيه الحَرَكةُ، وإلا لَزِمَ تحريمُ الركوع والسُّجودِ فيها، وهو موافق على رفع المُسَبِّحةِ في التَّشهُّد إشارَة إلى التَّوحيد، وعلى الالتفاتِ عِنْدَ التَّسليم، لكونه مشروعاً، فكذلك (1) كل حَرَكَةٍ مشروعَةٍ، ومنه حَرَكَةُ اللِّسانِ والشفتين عِنْد القراءَةِ، والذكر الذي يجب بإجماعٍ أو خلافٍ، أو لا يجب بإجماعٍ أو خلافٍ.
وكذلك إنَّما يُعارَضُ أحاديثُ (2) التأمين مع كثرتها بعموم النَّهْي عَنِ الكَلام في الصَّلاة، والمرادُ به أيضاً الكلامُ الَّذي لم يُشْرَع وفاقاً؛ لأنَ الصَّلاةَ على النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وآله وذكرَ اسْمِه - صلى الله عليه وسلم - لا يُفْسِدُ؛ لأنهُ مشروع.
والأحاديثُ في التأمين كثيرةٌ، الذي حضرني الآن منها خمسةَ عَشَر حديثاً، أَكْتَفِي بالإشارةِ إلى مواضِعِها، منها " مجمعُ الزوائد "، و" اكتب السِّتةِ "، و" المنتقى " (3)، وكتبُ أهلِ البيت "علوم آل
__________
= الإشارة باليد ورفعها عند السلام، والنسائي 3/ 4 في السهو، باب: السلام بالأيدي في الصلاة، وأحمد 5/ 86 و93 من طرق عن جابر بن سمرة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " ما لي أراكُم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمُس، اسكنوا في الصلاة ".
وقوله: " رافعي أيديكم " أي: في السلام، كما جاء مبيناً في رواية: كنا إذا صلينا وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: السلام عليكم بأيدينا يميناً وشمالاً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال أقوام يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشُّمُس، لا يسكن أحدهم، ويشير بيده على فخذه، ثم يسلم على صاحبه عن يمينه وعن شماله.
(1) في (ب): وكذلك.
(2) في (ش): " حديث " وهو خطأ.
(3) " منتقى الأخبار" تأليف شيخ الحنابلة علامة عصره أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر الحراني المعروف بابن تيمية جد شيخ الإسلام، المتوفى سنة 652 هـ. وكتابه هذا يشتمل على جملة من الأحاديث النبوية التي يرجع أصول الأحكام إليها، ويعتمد علماء الإسلام عليها، انتقاها من صحيحي البخاري ومسلم، و " مسند " الإمام أحمد، و" جامع " أبي عيسى الترمذي، و" سنن " أبي داوود، والنسائي، وابن ماجة، واستغنى بالعزو إلى هذه المصادر عن الإطالة بذكر أسانيدها، وقد شرحه شرحاً =(3/17)
محمد"، و" مجموع زيد ".
فمنها عن علي عليه السَّلامُ مرفوعاً، رواه ابن ماجه (1) بإسناد حسن.
ومنها عنه عليه السلامُ موقوفاً، رواه محمد بنُ منصور في " علوم آل محمد " في باب الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وأحسِبُه في " مجموع زيد " في القُنوت وعن أبي هريرة ثلاثة أحاديث (2)، وثلاثة عن وائل (3)،
__________
= حافلاً الإمام المجتهد قاضي قضاة اليمن محمد بن علي بن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 هـ، وسماه " نيل الأوطار "، وهو مطبوع متداول.
(1) في " سننه " برقم (854) من طريق ابن أبي ليلى، عن سلمة بن كهيل، عن حُجَيَّة بن عدي، عن علي قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قال: " ولا الضالين " قال: " آمين ". قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 56: ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ضعفه الجمهور، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وباقي رجاله ثقات.
(2) أخرج مالك 1/ 87، ومن طريقه البخاري (870)، ومسلم (410)، وأبو داوود (935)، والترمذي (250)، والنسائي 2/ 144، والبيهقي 2/ 55، وأحمد 2/ 459 عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه ". وله طرق أخرى عند البخاري (6402)، ومسلم (410) (73) و (74) و (75) و (76)، والدارمي 1/ 284، وابن ماجه (846) و (851) و (852)، وأحمد 2/ 233 و270 و312 و440، وابن الجارود (190)، وابن حبان (1795) بتحقيقنا.
وأخرج الدارقطني 1/ 335، والبيهقي 8/ 52 من طريق الزبيدي، عن الزهري، عن سعيد، وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من قراءة أم القرآن، رفع صوته، وقال: " آمين ". قال الدارقطني: إسناده حسن، وصححه ابن حبان (1797) والحاكم 1/ 223، ووافقه الذهبي.
وأخرج النسائي 2/ 134 من طريق عبد الله بن عبد الحكم، عن شعيب، عن الليث، عن خالد، عن أبي هلال، عن نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: آمين، فقال الناس: آمين ... وإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وإسناده صحيح، وصححه ابن خزيمة (499)، وابن حبان (1792).
(3) أخرجه أحمد 4/ 316 - 317، وأبو داوود (932)، والترمذي (248)، والدارمي =(3/18)
وبقيتها عن معاذ (1)، وسلمانَ (2)، .......................
__________
= 1/ 284، والدارقطني 1/ 334، وابن أبي شيبة 2/ 425، والبيهقي 2/ 57، والبغوي (586) من طرق عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن حُجر بن العنبس، عن وائل بن حجر قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقال: " آمين " ومدَّ بها صوته.
ولفظ أي داوود: ورفع بها صوته، وإسناده صحيح، وقد تابع سفيان على ذلك اثنان.
وأخرجه الطيالسي (401)، وأحمد 4/ 316، والبيهقي 2/ 57، والطبراني في " الكبير " 22/ (109) و (110) و (112) من طريق شعبة به إلا أنَّه قال: وأخفي بها صوته. وقد خطأ النقاد رواية شعبة هذه، وجزموا بأن رواية سفيان أصح.
وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " (1796) من طريقين عن شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن وائل أنَّه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين.
وأخرجه أبو داوود (933)، والترمذي (249)، وابن أبي شيبة 1/ 299، والطبراني 22/ (114) عن العلاء بن صالح (وأخطأ أبو داوود فسماه علي بن صالح) الأسدي، عن سلمة بن كهيل، عن حجر بن عنبس، عن وائل قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجهر بآمين، وسلم عن يمينه، وعن شماله حتى رأيت بياض خده. وهذا سند صحيح، وصححه البيهقي في " معرفة السنن والآثار "، والحافظ في " تلخيص الحبير " 1/ 236.
وأخرجه أحمد 4/ 318، والبيهقي 2/ 58 من طريقين عن زيد بن معاوية، عن أبي إسحاق، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه ... وفيه: " فقال: آمين، يجهر بها ".
وأخرجه ابن ماجه (855) من طريق أبي إسحاق، به، ولفظه: " فلمَّا قال: (ولا الضالين) قال: " آمين "، فسمعناها.
وأخرجه الدارقطني 1/ 334 - 335 أيضاً من طريقه بلفظ: " قال: آمين، مدَّ بها صوته ".
وأخرجه النسائي 2/ 145 من طريق يونس، عن أبي إسحاق به. وفيه: " ولما قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: آمين، فسمعته وأنا خلفه ".
وأخرجه أحمد 4/ 315 من طريق عبد القدوس، أخبرنا الحجاج، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه أنَّه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: آمين.
(1) ذكره الهيثمي في " المجمع " 2/ 112 - 113 مطولاً، ونسبه للطبراني، وحسن إسناده، وفيه: " إن اليهود قوم سئموا دينهم وهم قوم حسد، ولم يحسدوا المسلمين على أفضل من ثلاث: رد السلام، وإقامة الصفوف، وقولهم خلف إمامهم في المكتوبة: " آمين ".
(2) في الطبراني (6136) من طريق سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان أن بلالاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبقني بآمين ". قال الهيثمي في " المجمع " 2/ 113: ورجاله =(3/19)
......................... وَسَمُرَة (1)، وعائِشَةَ (2)، وأمَّ سَلمَة (3)، وأمِّ الحُصَيْن (4)، وعَنِ ابْنِ شِهابٍ مُرْسلٌ.
وذكر الحاكمُ أنَّه جَمَعَهُ في بابٍ مفردٍ، ولم يُعَارضْ بحديثٍ واحدٍ لا صحيح، ولا ضَعيفٍ، لا مِنْ رِوايَةِ أَهْلِ البيت، ولا شِيعَتِهِمْ، ولا أَهْلِ الحَدِيث.
ولَنَا أنْ نُجِيبَ على معارضَتِها بالعُموم (5) بترجيح الخاصِّ كما
__________
= موثقون. ورواه أبو داوود (937)، والبيهقي من حديث بلال أنَّه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(1) أخرجه الطبراني في " الكبير " (6891) من طريق رواد بن الجراح، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، يجبكم الله ". وإسناده ضعيف رواد ابن الجراح، اختلط بأخرة، وسعيد بن بشير: ضعيف، لكن رواه مسلم (404)، والنسائي 3/ 96 - 97، وأبو داوود (972) من حديث أبي موسى الأشعري ضمن حديث مطول. وفيه: " فإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقولوا: آمين، يجبكم الله ".
(2) أخرجه ابن ماجه (856) من طريق إسحاق بن منصور، أخبرنا عبد الصمد بن عبد الوارث، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا سهل بن أبي صالح، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين ". قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 56: هذا إسناد صحيح احتج مسلم بجميع رواته.
وأخرجه أحمد 6/ 135، والبيهقي 2/ 56 من طريق آخر بأطول مما هنا، وصححه ابن خزيمة (1585).
(3) لم أقف عليه من حديثها.
(4) أخرجه الطبراني في " الكبير " 25/ (383) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي، عن أبي إسحاق، عن ابن أم الحصين، عن جدته أم الحصين بنت إسحاق الأحمسية أنها كانت تصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في صف من النساء، فسمعته يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} قال: " آمين " حتى سمعته وأنا في صف النساء ... إسماعيل بن مسلم المكي: ضعيف. وأورده الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 371 من مسند إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن هارون الأعور، عن إسماعيل بن مسلم المكي، به. ونسبه لإسحاق الحافظ في " المطالب العالية " 1/ 123.
(5) أي: عموم النهي عن الكلام.(3/20)
تقدَّم، وبدعوى التَّأَخُّرِ، والاستدلالِ عليه بقول عليٍّ والصَّحابةِ بعدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وروايتهم وتعليمهم، ولم يكونوا يفعلون مِثْل ذَلكَ في المنسوخات مثل شرب الخمر، والصلاة إلى بيتِ المقدس، ونحو ذلك.
وأنا أقتصِر على هذا القدرِ في مسألة التَّأمين، ووضع اليُمنى على اليُسرى على سبيل الإيماءِ والإشارةِ الخَفِيَّة، وإنَّما اقتصرت على ذلك؛ لأنِّ بعضَ أَهْلِ البَيْتِ عليهمُ السَلامُ يُخالفُ في ذلك، ويروي مثلَ أحاديثِ الفُقَهاءِ في (1) جوازهما، فلو رَجَّحْتُ تلكَ الأحاديثَ، لكُنْتُ عند العامَّةِ (2) قد رَجَّحْتُ. (3) خَبَر بعْضِ أهل البيتِ على بَعْضٍ، وهذا سهْلٌ، وأعني بالعامَةِ هنا أكثرَ (4) القُراء، لا الحرَّاثينَ.
وأمَّا مسأَلَةُ الجَهْرِ والإِخفاتِ، فإنَّ العامَة تعتقِدُ أنَي قد رجَّحْت فيها خبرَ المتأوِّلينَ المُخْتَلَفِ في جَرْحِهِم على خَبَرِ العِتْرَةِ الطَّاهِرين بغَيْرِ شَكٍّ، فينبغي أن أبيِّن عَدَمَ ذلِكَ، وأنا أُوردُ في دفعِ ذلك اثني عشرَ وَجْهاً إنْ شاء الله تعالى.
الوجهُ الأوَّلُ: أنِّي أجْهَرُ بالبسملة على مذهب زيدِ بنِ علي، والهادي عليهما (5) السَّلام، وغيرِهما من العِترة الكِرام، لأنّي (6) أُسْمعُ
__________
(1) زاد في (ش) بين في ومثل: " معهما "، وكتب بجانبها " ظ "، أي: ظاهر الكلام يستلزم هذه الزيادة.
(2) جملة " عند العامة " سقطت من (ش).
(3) " قد رجحت " ساقطة من (ب).
(4) " هنا أكثر " ساقطة من (ب).
(5) في (ب): " عليهم ".
(6) في (ش): " فإني ".(3/21)
نفسي، وأُسْمِعُ منْ بِجَنْبِي، وقد قال زيدُ بن عليٍّ: مَنْ أسمع أُذُنَيْهِ فَلَمْ يُخَافِتْ (1).
ومذهبُ الهادي عليه السلام أنَّ أقَلَّ الجَهْرِ أنْ يُسْمِعَ الإنسانُ مَنْ بِجَنْبِهِ، وذلك أيضاً أقل المخافتة، فمَنْ فَعَلَهُ، فقد أَخَذَ بالإجماعِ (2) مِنْ أَهْلِ المذْهبِ وَمَنْ يُوافِقُهمُ على قولهِمْ هذا؛ لَأنَ القائِل بأنَّ السنَةَ المخافَتَة، يقول: هذه مخافتةٌ، والقائل بأنَّ الجَهْرَ السُّنَّةَ، يقول: هذا جهر.
فإنْ قُلْتَ: كيفَ يَصِح عند أهلِ المذهب أن يكونَ المتكلِّم جاهِرَاً مخافِتَاً في حالةٍ واحِدَةٍ.
قلت: لأنَّ الجهرَ والمُخافَتَةَ مِنَ الأُمورِ الإضَافِيَّةِ دونَ الحقيقَةِ، والأمورُ الإضافِيةُ يَجوز فيها ما صورَتُه صورةُ المناقَضَةِ، وليس في معناه مناقضةٌ، وذلك مثلُ القَبْلِيَّة والبَعْدِيَّةِ، فإنَّهما لما لَمْ يكونا مِنَ الأعراضِ الحقيقيَّة جازَ في الشَّيْءِ أنْ يكونَ قَبْلاً وبَعداً بالنظرِ إلى زمانين أو مكانين، فاليومُ قَبْلُ بالنَّظَرِ إلى غدٍ، وبَعْدُ بالنظر إلى أمس، بخلاف السواد والبياض، فإنَّهما عَرضَان حقيقيَّان، فلا يجوز في الشَّيْء أن يكونَ أبيض بالنظر إلى أمرٍ، وأسودَ بالنظر إلى أمرٍ آخر.
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ الجَهْرَ والإخفات ليسا مِنَ الأمور الحقيقيةِ الثبوتيَّة، وإنما هما اسمانِ إضافيان، ونعتان لفظيَّان، كالصِّغَرِ والكِبَرِ، والكَثْرَة، والقِلَّةِ، فالمتكلِّمُ المُسْمِعُ مَنْ بِجَنْبِهِ جاهرٌ بالنظر إلى منْ لم يُسْمِعْ
__________
(1) في (ب) و (ش): " ما خافت من أسمع أذنيه ".
(2) في (ش): " الإجماع ".(3/22)
من بِجَنْبِهِ، وهو أيضاً مُخافِت بالنظر إلى منْ رفعَ صوتَهُ رَفْعاً قوياً فوق هذا المقْدارِ. وهذا الجواب كافٍ، لو أحببتُ الاقتصارَ عليه، لأجزأني، لكنِّي أحِبُّ الزِّيادة عليه، لِيَتبَيَّنَ للنَّاظِر في هذا الكلامِ أنَّ وُجُوة المَحَامِلِ كثيرةٌ لمَنْ أحبَّها، وأبوابَ الظَّنِّ الجميل واسعةٌ لمَنْ يطلُبُها، لكن السيد -أيَّدَهُ الله- لم يَسْلُكْ هذا المسلكَ في رسالته، فإنه بلغني أنه يَنْسُبُنِي (1) إلى القولِ بترك البَسْملَةِ بالمرة، فليتَهُ اعْتَدَلَ، فترك الحَمْلَ على السلامَةِ، والقولَ بِمَا لَمْ يَكُنْ، وما أقول فيه إلا ما قالت عائِشةُ في ابن عمر: ما كَذَبَ ولكِنَّه وَهِل (2).
الوجه الثاني: سلَّمنا تسليمَ جَدَلٍ أنَّا نُخَافِتُ، فإنَّه لا يلزَمُ منه ترجيحُ غير (3) أهلِ البيتِ عليهمُ السلام، فكيف يلزم مِنْهُ ترجيحُ الفَسَقةِ عليهم؟ وهذا يلزَمُ منه أنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أهْل البيت، فَهُوَ فاسِقٌ تصريح أو تأويلٍ، وهذا خلافُ إجتماعَيِ العتْرَةِ والُأمَّة، وخلافُ المعلومِ مِنَ الأدلة والخبرة، وبِكُلِّ تقدير، فإنَّ ما ذكرَهُ غيرُ لازم، وذلِكَ لأنَّ الأحاديثَ الَّتي رَواها بعضُ أهلِ البيت عليهمُ السلام يمْكِنُ أن تكونَ منسوخَةً، كما ذهب إليه بعضُ أهلِ العلم، وذلِكَ هو الظَّاهِرُ مِنْ حديث سعيد بنِ جُبَيْرٍ، ففيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان يَجْهَرُ ببسم الله الرحمنِ الرحيم، وكان مُسَيْلِمَةُ يُدعى رحمانَ اليَمَامةِ، فقال أهلُ مكَّةَ: إنما يدعو لرحمان (4) اليمامة، فأمر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بإخفائها، فما جهر بها حتَّى مات.
__________
(1) في (ب): " نسبني ".
(2) أي: غلط ونَسِيَ، وحديثها عند مسلم (932)، والنسائي 4/ 17، وأبي داوود (3129). وفي رواية: أما إنَّه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ. وانظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " ص 102 - 103 للزركشي.
(3) سقطت من (ش).
(4) في (ش): رحمان.(3/23)
رواه أبو داود في " المراسيل " (1) عن سعيد بن جبير، والمرسلُ عندنا مقبولٌ، وقد أثنى يحيى بنُ معينٍ (2) على مرسلاتِ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، وقال: هي أحبُّ إليَّ مِنْ مرسلاتِ عطاء، رواه الترمذيُّ. قال في كتاب " الغاية ": وقد رُوِيَ الحديثُ مسنداً أيضاًً.
فإن قلت: قد زالت العلَّةُ، فيزول الحُكْمُ؟
قلت: قد زالَتِ العِلَّةُ في زمانه - صلى الله عليه وسلم - بعد فتح مَكةَ، واستمرَّ الحُكْمُ كما استمر في غُسل يوم الجُمَعَةِ (3)، والسَّعْي (4)، والطَّوافِ (5) بعدَ زوال
__________
(1) رقم (34) باب: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، بتحقيقنا، وفي سنده شريك بن عبد الله، وهو سيىء الحفظ، فالحديث مع كونه مرسلاً سنده ضعيف.
على أنَّه لم يرد في هذا المرسل أن ذلك كان في الصلاة.
وقول صاحب الغاية: " وقد روي الحديث مسنداً " لم أقف عليه، ولا إخال ذلك يصح.
(2) هذا وهم من المؤلف، فإن الذي أثنى عليها هو يحيى بن سعيد القطان، وليس يحيى بن معين. روى ذلك عنه علي بن عبد الله المديني كما في " علل الترمذي " الملحق بالجزء الخامس من جامعه 5/ 754 الذي نقل عنه المؤلف، و" شرح العلل " 1/ 274 لابن رجب.
وفي " التهذيب " 4/ 14 من ترجمة سعيد بن جبير: وقال ابن أبي خيثمة: رأيتُ في كتاب علي -يعني ابن المديني-: قال يحيى بن سعيد: مرسلات سعيد بن جبير أحب إليَّ من مرسلات عطاء ومجاهد.
(3) انظر " شرح السنة " 2/ 160 - 165، و" سنن أبي داوود " (352) و (353).
(4) أخرج البخاري (1649)، والنسائي 5/ 242 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: إنما سعى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة ليري المشركين قوته. وانظر " جامع الأصول " 3/ 186 - 189.
(5) في " صحيح البخاري " (1602) في الحج، باب: كيف كان بدء الرَّمَل من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم وقد وهنهم حمى يثرب، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين، ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم. والرمل: هو الإسراع، وهو شبيه بالهرولة. وانظر " جامع الأصول " 3/ 162 - 163. =(3/24)
العِلَّةِ، بل لعل العِلَّة زالت بَعْدَ الهِجْرَهَ مِنْ مَكةَ إلى المدينَةِ، فأمَّا بعد الفَتْح، فَبِغَيْر شَكٍّ.
وقد طُعِنَ في هذا الحديث بِأمْرٍ عقليٍّ، وهو أن الرحمنَ مذكورٌ في الفَاتِحَةِ، ولم يُخَافِتْ بها، فما تعني حينئذٍ المخافَتَةُ بالبسملَةِ؟ ويُمْكِنُ الجوابُ على ذلك بأنَّ (1) الرحمن في الفاتحة وقع صَِفَةً لِربِّ العالمين، وموصوفاً بِمَلِكِ يَوْمِ الدين، فكان أبعدَ منَ الشُبْهَةِ وأكثرَ تَمَيُّزَاً، وأقلَّ لَبْساً، أو غيرَ ذلك، واللهُ أعْلَمُ، وأيضاً فالأنظارُ المحتَمَلَةُ لا تُرَدُّ بها الآثارُ كما لا تُرَدُّ بها الشرَائعُ. فإذا تقرَّر هذا، فَمِنَ الجائزِ أني أذهبُ إلى النسْخِ، وَمَن اعْتَقدَ في خبرٍ أنَّه منسوخ، لم يَصِح أنْ يُرَجِّحَ بَيْنَهُ وبين النَاسخ عند أهلِ المعرفة؛ لأني قد قَبِلْتُ الذي روى المنسوخَ، وصدقْتهُ، لكِنَّه ثبت لي مِنْ غير طريقِهِ أنَّ ما رواه منسوخٌ، فقبلتُ الرِّوايَتَيْنِ معاً (2) إذ (3) كانتا عَنْ ثَقتَيْنِ عَدْلَيْنِ، وعَمِلْتُ بمقتضى الأدلَّةِ في العمل بالناسخ وتركِ المنْسوخِ، وقد أجمع المحقِّقُونَ من الأمةِ والعِتْرَةِ على أنَّ المنسوخَ يُتْركُ، وإن كانَ الَّذِي رواه أفضلَ الأمَّةِ وأعلمَهَا متى كانت طريقة النَّاسِخِ صحيحةً، وإن كانت دونَ درجَةِ المنسوخِ في الصِّحَّة متى كانا ظنِّييْنِ معاً (4).
__________
= وفي البخاري أيضاً (1605) من حديث عمر قال للركن: أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - استلمك، ما استلمتك، فاستلمه، ثم قال: مالنا وللرَّمَل، إنما كنا رائينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال: شيء صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا نحب أن نتركه.
(1) من قوله: " الرحمن " إلى هنا سقط من (ب).
(2) سقطت من (ش).
(3) في (أ) و (ج): " إذا "، وفي (ب): " أن "، والمثبت من (ش).
(4) سقطت من (ش).(3/25)
وقال بعض أهل العلمِ: يُقدَّمُ النَّاسخُ وإن كان ظَنِّيَّا على المنسوخ، وإن كان قطعياً، واحتجَّ على ذلك بأنَّ المنسوخَ من القطعي هو (1) أمرٌ مظنونٌ، وهو دوامُ العمل به واستمرارُه، والدَّليل على أنَّ دوامَهُ مظنونٌ بتجويزُ النَّسْخِ عليْه، وتحريمُ العملِ به على العالِمِ حتَّى يطلُبَ النَّاسِخَ، فلا يجِدُهُ، فلو كان الدَّوام معلوماً، لاستحال مع العِلْمِ به تجويزُ النَّسخِ، ولَكَان طَلَبُ النَّاسِخ عَبَثاً، وإنَّما المقطوعُ بهِ ثبوتُه فيما مضى لم يُنْسَخْ، فيحتاجُ إلى ناسخٍ قاطعٍ.
وبعدُ، فليسَ يَصْلُحُ أن يكونَ الأمرُ المنسوخُ بالناسِخِ القطعيِّ مقطوعاً به؛ لأنَّه لو كان كذلك، لأدَّى إلى تعارُضِ الأدِلَّةِ القاطِعَةِ، وهو محالٌ، فإذا ثبتَ أنَّ المنسوخَ هو الدوامُ والاستمرارُ، وأنَّ ذلِكَ القَدْرَ مظنونٌ في القطعيِّ وغيره، وثبتَ أنَّ النَّسْخَ عليه مُجَوَّز مُحتَملٌ قَبْلَ (2) ورودِ الناسِخِ الظَّنِّيَ، فلا شَكَّ أنَّ النَّاسِخ الظَّنِّيِّ إذا ورد، اقتضى رُجحان النَسخِ ومرجوحية عَدَمِ النَّسْخِ، فكيف يقال في المرجوحِ الَّذي ليس بِمظْنونِ الثُّبوتِ: إِنَّهُ مقطوعٌ (3) بثبوتهِ، وليس براجح ولا مساوٍ، بل مرجوحٌ موهومٌ، وبعد ثبوت كونهِ مرجوحاً موهوماً، كيف يَصِحُّ في النظَرِ التَمَسُّكُ به، وتركُ ناسخِهِ المظنون الثبوتِ الرَّاجِحِ الصِّحَّةِ، ولو صَحَّ قولُ القائل: إنَّ المنسوخَ القطعيَّ معلومُ الثُّبوتِ، وإنَّ الظنِّيِّ لا يعارِضُ العلم، لكانَ يَجِبُ أنْ يقطع على كَذِبِ مَنْ روى النَّاسِخَ، لأن مَنْ أخبر بأنَّ المعلومَ الثبوتِ غير ثابتٍ، وَجَب القطعُ بتكذيبِهِ، وهذا ما لم يَقُلْ به قائلٌ.
__________
(1) في (ش): " وهو".
(2) سقطت من (ش).
(3) في (ش): " إنَّه ليس مقطوع ".(3/26)
فإذا عرفتَ أنَّ الخلافَ بَيْنَ العُلَماءِ قد وَقَعَ في تقديم النَّاسِخِ الظنيِّ على المنسوخ القطعيِّ، وأنَّ حُجَّتهُم في القوة كما ترى، فكيف بتقديم الناسِخِ الظَّني على المنسوخ الظنَيِّ؟ ولو أنَّا استفتينا يحيى بن الحسين عليه السلام (1) وسائِرَ الأئمة الأعلامِ في تقديم الناسِخِ مِنْ رواية غيرهم مِن الثقات على المنْسوخِ من (2) روايتهم مع صحَّة النَّاسخ على شرط الأئمة وأهلِ العلم، ما اختلفَ منهُمُ اثنانِ في تجويز هذا، بل وإيجابه، وأين هذا من باب التَّرجيح؟ ولعلَّ مَنْ له أدنى مَعْرِفَةٍ بالأصولِ، لا يَشُكُّ في أنَّ الأصوليِّينَ أفردوا للنَّسْخِ باباً وللتَّرجيح (3) باباً، لأنَّهما أمرانِ مختلفانِ متغايرانِ، وبابانِ مفترقان متباعدان.
الوجه الثالث: سلمنا عدمَ النسْخِ، فإنَّا نُجِيزُ الأمرَيْن معاً، ونقول كما قال ابن أبي ليلى (4)، وإسحاق، والحكم: مَنْ شَاءَ جَهَرَ، ومن شاء
__________
(1) لعله السيد يحيى بن علي بن الحسين مصنف " الياقوتة " و" الجوهرة "، فقد جاء في هامش " البدر الطالع " 2/ 331 ما نصه: في تاريخ المولى العلامة الحافظ أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الجنداري -حفظه الله- ما لفظه: في سنة (739) توفي السَّيِّد العلامة المجتهد يحيى بن الحسين بن يحيى بن علي صاحب " اللمع " ابن الحسين صاحب " الياقوتة " و" جوهرة آل محمد " و" اللباب " وغيرها من المؤلفات، وكان علامة وَرِعاً لا تأخذه في الله لومة لائم، ولم يقل بإمامة الإمام يحيى فيما يروى، وله تحصيلات وتقريرات في مذهب الهادي، عاش نيفاً وستين سنة، ودفن بجامع صنعاء بجنب الإمام أحمد بن المطهر.
(2) من قوله: " رواية غيرهم " إلى هنا سقط من (ش).
(3) من قوله: " ولعلَّ " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) هو مفتي الكوفة وقاضيها الإمام أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي المتوفى سنة 148 هـ، كان نظير الإمام أبي حنيفة في الفقه، إلا أنَّه في الحديث سيىء الحفظ، كثير الخطأ، خرج حديثه أصحابُ السنن.
والحكم: هو الإمام الكبير، عالم أهل الكوفة، أبو محمد الحكم بن عتيبة الكندي مولاهم الكوفي المتوفى سنة 115 هـ، ثقة، أخرج حديثه الشيخان وأصحاب السنن، وإسحاق: هو الإمام الكبير شيخ المشرق سيد الحفاظ أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي المعروف بابن راهويه المتوفى سنة 238 هـ، وهو أحد أئمة =(3/27)
خافت، وَكُلٌّ واسِعٌ.
وليس هذا بترجيحِ بعضِ الأحاديثِ على بعض، بل هذا استعمالٌ للجميع منها؛ لأنَّها لم تُعارض، والدَّليل على أنها لم تُعَارَضْ: أنَّ بعضَها ورد بأنه عليه السلام جَهَرَ، وبعضَها ورد بأنَّه خافت، فجاز أن يكونَ ذلك وارداً على التَّخيير، كما أنَّه يجوز بالإجماعِ أن يقولَ عليه السلام: من شاء جهر، ومن شاء خافَتَ، فلمَّا جاز ذلك وأمكن (1)، جاز الاقتداءُ بكُلِّ واحدٍ من الفعلين الثُّبوتيَّيْن، إذ لا يتعيَّن أحدُهما إلا مَعَ المعارضَةِ المحْضة، والمعارضَةُ المَحْضَةُ لا تَصِحُّ بين الأفعالِ المتجرِّدةِ عَنِ الأقوالِ، وإنَّما تكونُ بَيْن الأقوالِ، أوْ بَيْن فعلٍ وقولٍ، وبيانُ ذلِكَ
__________
= المسلمين، وعلماء الدين، اجتمع له الحديث، والفقه، والصدق، والورع، والزهد، روى له الجماعة سوى ابن ماجة. وقال أحمد بن حفص شيخ ابن عدي: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً.
قال شعيب: وهكذا يكون عظماء الرِّجال في اتساع صدورهم، وتقدير جهود غيرهم، والإشادة بفضلهم، فإن اختلاف الأئمة المجتهدين في فهم نصوص الكتاب والسنة وما تدل عليه ظاهرة طبيعية في شريعة الإسلام، لأن أكثر نصوصه ظنية الدلالة، وهذا الاختلاف مما أراده الله تعالى ورضيه، فهو رحمة وتوسعة ومجال للتنافس والإبداع. ولقد كان من أثره هذا التراث الضخم الذي تحفل به المكات الإسلامية من المؤلفات المتنوعة. واختلافهم في القرآن إنما هو في بعض ما استنبط منه من أحكام نتيجة للخلاف في فهمه، لخفاء في دلالته بسب من الأسباب، كالاشتراك في لفظه، والتخصيص في عامه، أو التقييد في مطلقه، أو ورود نسخ عليه، أو غير ذلك من الأسباب المبينة في مظانها. واختلافهم في السنة لا يقتصر على اختلافهم فيما تدل عليه الأحاديث وما يراد منها، كما هو الحال في آي القرآن، بل يتجاوز ذلك، فيختلفون في الحكم على الحديث صحة وضعفاً، فيرى بعضهم صحيحاًً ما يراه الآخر ضعيفاً، إلى غير ذلك من أسباب الاختلاف الكثيرة التي بينها العلماء في مؤلفاتهم، وأما الآيات التي وردت في ذم الخلاف، والنهي عنه، والتحذير منه، فالمراد منه الخلاف المذموم الذي ينجم عنه التعصب والحقد وطعن الخصم في عرضه ودينه والافتئات عليه بما هو منه بريء.
(1) جملة " ذلك وأمكن جاز " ساقطة من (ب).(3/28)
مذكورٌ في الأصول.
وقد نَصَّ حيٌّ الفقيهُ العلامَّة عليُّ بنُ عبدِ اللهِ في تعليقهِ على " الجوهرة " على ثُبُوتِ الجَهْرِ والمخافَتَةِ معاً عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، وقال ما لفظه: " اعلم أنَّ الإنصافَ في هذه المسْألَةِ هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجْهَرُ في البَعْضِ، ويُخافِتُ في البعض " (1). ذكره في الكلام فيما تَعُمُّ به البلوى مِنْ أخبار الآحاد، فإذا ثبتَ أن الأمْرَيْنِ كانا مِنْهُ عليه السلامُ مِنْ غيرِ تعارُض، دَلَّ على جواز الأمرَيْنِ، ولا شكَّ أنهُ قد ورد في بعض الأقوال ما يقتضي المعارَضَةَ، ولكن لم يثبُتْ عندي صحَّةُ ذلك القولِ المرويِّ على ما أعْتَبِرُهُ في شروط خَبَرِ الواحدِ ممَّا اعْتَبرَهُ غيري من نُجوم الأئِمَّةِ، وعلماءِ الأمَّةِ.
فإن قيل (2): في هذا ترجيحُ التَّسوِيَةِ بينَ الجَهْرِ وَبَيْنَ الإخْفاتِ على قوْلِ جماهير العِتْرةِ عليهمُ السَّلام أنَّ المشروعَ هُوَ الجَهْرُ دُونَ الإِخفاتِ (3).
قلنا: الجوابُ من وجهين.
أَحَدُهُما: أن ذلك ليس بِخِلافٍ لإجْمَاعهِمْ، لأنهُ قد رُوي ذلِكَ عَنْ أميرِ المؤمنين عليه السَّلامُ، فإن رِوَايَةَ الجهرِ والإخفات مشهورةٌ عَنْهُ عليه السَّلامُ، وليسا قولين، فنقول: إن أحدَهُمَا قديمٌ، والآخَرَ جديدٌ (4)، بل
__________
(1) أحاديث الإسرار أولى بالتقديم لثبوتها وصحة سندها، وأما أحاديث الجهر فلا توازيها في الصحة والثبوت.
(2) في (ب): " قلت ".
(3) من قوله: " على قول جماهير " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) في (ب): " حديث ".(3/29)
هُما فِعلانِ يَصِحُّ نسبَتُهما إليه عليه السَّلام منْ غَيْرِ رجُوعٍ عن أحَدِهمَا، وهذا هو الظَّاهر، ومَنْ قَالَ: إِنَّهُ قد رَجَعَ عن أحَدِهِمَا، احتاجَ إلى دليلٍ على ما ادَّعاهُ.
وثانيهما: إنَّما كلامُنا في التَّرجيحِ في الرِّوايةِ الذي ادَّعاه السَّيدُ، وأمَّا التَّرجيحُ في المذهب، فقد تركنا الخَوْضَ فيه، لأنَّهم -عليهمُ السَّلام- مجمعون على جوازِهِ، وما زالوا عليه في قديمِ الزَمانِ وحديثه، هذا النَّاصِرُ عليه السَّلامُ اشترط الخوفَ في جوازِ قَصْرِ الصَّلاة في السَفَرِ (1)، وخالف
__________
(1) وعزاه النووي في " شرح مسلم " 5/ 195 إلى بعض السلف، ونصه فيه: ثم مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والجمهور أنَّه يجوز القصر في كل سفر مباح، وشرط بعض السلف كونه سفر خوف، وبعضهم كونه سفر حج أو عمرة أو غزو، وبعضهم كونه سفر طاعة.
وليس في قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} متمسك لمن شرط الخوف في القصر، لأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، لا في قصر العدد، لما علم من تقدم شرعية قصر العدد، وكما يدل عليه آخر الآية.
ولو سلم أنها في قصر العدد في صلاة السفر، فالقيد في قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} اتفاقي لا احترازي، فعن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله سبحانه وتعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أمن الناس؟ قال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ". أخرجه الشافعي في " مسنده " 1/ 311، وأحمد (174) و (244) و (245)، ومسلم (686)، والطبري (10310) و (10312)، والبيهقي 3/ 134 و140.
قال ابن القيم في " زاد المعاد " 1/ 466 بتحقيقنا: والآية أشكلت على عمر وغيره، فسأل عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله، وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنَّه نوع تخصيص للمفهوم أو رفع له. وقد يقال: إن الآية اقتضت قصراً يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنُقصان ركعتين، وقُيِّدَ ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوف، فإذا وُجِدَ الأمران، أُبيحَ القصران، فيصلون صلاة الخوف مقصورة عددُها وأركانها، وإن انتفي الأمران، فكانوا آمنين مقيمين، انتفي القصران، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وُجِد أحدُ السببين، ترتب عليه قصره وحده، فإذا وُجِدَ الخوف والإقامة، قُصرت =(3/30)
المشهورَ مِنْ مذاهبِ (1) آبائِهِ عليهمُ السَّلامُ لِدليل اقْتَضى ذلِكَ.
وقال القاسم عليه السَّلام: إنَّ الوُضوءَ واجبٌ على كل مَنْ قَامَ إلى الصَّلاة ِ، وإنْ كانَ على وضوءٍ (2)، وخالفَ المشهورَ مِنْ مذاهبِ آبائهِ
__________
= الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإن وجد السفر والأمن، قُصر العددُ واستوفي الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قَصرٍ، وليس بالقصر المطلق، وقد تُسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تُسمى تامة باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية.
(1) في (ش): " مذهب ".
(2) ومستنده في ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .. } وللعلماء في المراد بهذه الآية قولان:
أحدهما: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فاغسلوا، فصار " الحدث " مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. انظر الآثار في " جامع البيان " (11300) و (11301) و (11302) و (11303) و (11304) وما بعدها.
والثاني: أن الكلام على إطلاقه من غير إضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة محدثاًً أو غير محدث. وهذا مروي عن علي رضي الله عنه، وعكرمة، وابن سيرين انظر الآثار في " جامع البيان " (11322) و (11323) و (11324) ونقل عنهم استمرار الوجوب.
ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنة، وهو ما روى بريدة بن الحصيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال له عمر: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، فقال: " عمداً صنعته يا عمر ". أخرجه أحمد 5/ 350، ومسلم (277)، وأبو داوود (172)، والترمذي (61)، والنسائي 1/ 86، وابن ماجة (510)، والطبري (11330)، والبيهقي 1/ 162 و271، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم أنَّه يصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم يحدث، وكان بعضهم يتوضأ لكل صلاة استحباباً وارادة الفضل.
قلت: ويمكن حمل الآية على ظاهرها من غير نسخ، ويكون الأمر في حق المحدثين على الوجوب، وفي حق غيرهم على الندب.
قال الإمام أبو جعفر الطري 10/ 19 بعد أن ذكر أقوال أهل التأويل في معنى الآية: وأول الأقوال في ذلك عندنا بالصواب قول من قال: إن الله عنى بقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة غير أنَّه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم =(3/31)
عليهمُ السَّلامُ في ذلك، كما ذكره الأميرُ الحسينُ في " الشفاء "، فإنَّه حكى قوْلَهُ هذا، وقال: إنَّهُ محجوجٌ بإجماعِ أهْلِهِ عليهمُ السَّلامُ، أو كما قال.
ومن ذلك: قولُ السيدِ أبي العبَّاسِ رحمه اللهُ: إِنَّ شرطَ صِحَّةِ الإمامَةِ أنْ يكونَ الإمام (1) معصوماً، وقولُه: إن قول الإمام حُجَّةٌ كقولِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، حكى ذلك عنه الإِمامُ يحيى بن حمزة في كتاب " الانتصار "،
__________
= إلى صلاته بعد حدث كان منه ناقض طهارته، وقبل إحداث الوضوء منه، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته، ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد ليعلم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة إنما كان منه أخذاً بالفضل، وإيثاراً منه لأحد الأمرين إلى الله، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربه، لا على أن ذلك كان عليه فرضاً واجباً.
قلت: وقوله: " كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة " محمول على غالب أحيانه، فربما صلى أكثر من صلاة بوضوء واحد، فقد أخرج البخاري (215) من حديث سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر، حتى إذا كنا بالصهباء، صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر، فلمَّا صلى دعا بالأطعمة، فلم يؤت إلا بالسويق، فأكلنا وشربنا، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المغرب، فمضمض، ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
وجمهور أهل العلم على استحباب الوضوء لكل صلاة لما روى أحمد 2/ 259 من طريق أبي عبيدة الحداد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء، أو مع كل وضوء سواك، ولأخرت عشاء الآخرة إلى ثلث الليل" وإسناده حسن.
وأخرج البخاري (214) وغيره عن عمرو بن عامر، عن أنس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ عند كل صلاة، قلت (القائل عمرو بن عامر): كيف كنتم تصنعون؟ قال: يجزىء أحدنا الوضوء ما لم يحدث. ولفظ النسائي: عن عمرو أنَّه سأل أنساً: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ لكل صلاة؟ قال: نعم. ولابن ماجة: وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.
وروى أحمد 5/ 225، وأبو داوود (48) بسند حسن عن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أُمِرَ بالوضوء لكُلِّ صلاة طاهراً كان أو غير طاهر، فلمَّا شقَّ ذلك عليه، أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلا من حدث.
(1) ساقطة من (ب).(3/32)
وعبدُ اللهِ بنُ زيدٍ (1) في كتاب " المَحَجَّة البَيْضَاء " (2)، والفقيهُ يوسفُ بنُ أحمد بن عثمانَ (3) في كتاب " نورُ الأبصار ".
وَمِنْ ذلك: قولُ السّيِّد الإمامِ المؤيَّدِ باللهِ عليه السلام: إِنَّ العَقْدَ والاختيارَ هو طريقُ الإمامَةِ دُوْنَ الدَّعْوة، والخُروجِ. حكاهُ عنهُ الإِمامُ في " الانتصار ".
ومن ذلك: قولُ المؤيَّدِ باللهِ عليه السلامُ: إنَّ التَّقليدَ في معرفَةِ اللهِ تعالى جائزٌ، والعلمَ بالدَّلِيلِ غيرُ واجبٍ. نصَّ عليه المؤيَّدُ في موضعين من كتابِ " الزِّيادَاتِ " (4)، واحتجَّ عليه، وصرَّح به تصريحاً يَستحيلُ تأويلُهُ إلَّا على مُقتَضَى مذاهب الباطنيَّةِ في التَّأويل، وحكى ذلك القاضي شرفُ الدين حسن بن محمد النَّحوي عن المؤيَّدِ باللهِ في تعليقه على " الزِّيادات "، ولم يتأوَّلْه، وحكى ذلك الإمام يحيى في " الانتصار " عن
__________
(1) ترجمه صاحب " العقود اللؤلؤية " 1/ 71، فقال: هو الفقيه العالم أبو محمد عبد الله بن زيد بن مهدي العريقي ... كان فقيهاً، دقيق النظر، ثاقب الفطنة، اتضح له في بعض المسائل ما لم يتضح لغيره، فلم يقلد فيها إمامه، فأنكر عليه علماء وقته، إذ لم يُطيقوا الإنكار على غيره ممن يقول بقوله كأحمد وداود .. ، وكانوا يعظمونه، ويُثنون عليه، وكان مشهوراً بالعلم والصلاح، ومصنفاته تدل على غزارة علمه، وجودة نقله، وله عدة مصنفات في الفقه والأصول، وكان جيد الفقه. توفي سنة 640 هـ معتكفاً.
وفي " هدية العارفين " 5/ 460: عبد الله بن زيد بن مهدي حسام الدين العريقي، من علماء الزيدية توفي سنة 640، قال صاحب " قلادة النحر ": كان محدثاً فقيهاًً، له تصانيف في الفقه والأصول.
(2) " البيضاء " ساقطة من (ش).
(3) هو يوسف بن أحمد بن محمد بن عثمان اليمني الزيدي صاحب التصانيف الشهيرة، قال الشوكاني في " البدر الطالع " 2/ 350: كان مستقراً بهجرة العين من ثلا، والطلبة يرحلون إليه من جميع أقطار اليمن، فيأخذون عنه في جميع العلوم الشرعية ... توفي في جمادى الآخرة سنة 832 هـ.
(4) منه نسخة مخطوطة بالجامع الكبير بصنعاء. انظر " الفهرس " ص 259.(3/33)
المؤيَّد ِ بالله عليه السَّلامُ، ولم يتأوَّلْهُ، ولم يَزَلْ قدماءُ العِتْرَةِ عليهمُ السَّلام يُخَالِفُونَ الجماهير من آبائِهِمْ متَى أوجبَ الدَّليلُ ذلِكَ.
وقد قال المؤيَّدُ بالله عليه السلامُ في غيرِ مسألةٍ: وأخافُ أنْ يكونَ قولُ يحيى في هذِهِ المسألةِ مخالِفَاً للإجماعِ.
وقال م (1) في قولِ القاسم عليه السَّلامِ بتقديمِ التَّوَجُّه قبل التكبير: إنَّه أوَّلُ من قال به، وإنَّ مَنْ قَبْلَهُ مِن العِترة وغيرهم خالفوه في ذلك.
وكذلك استمرَّ عَمَلُ المتأخِّرينَ مِنْ أهلِ البيتِ عليهمُ السلام ُ على ما ذكرته مِن مخالفةِ الجماهيرِ، فقال الأميرُ الحسينُ بن مُحَمَدٍ في كتاب " الشفاء ": إِنَّ صلاة الجُمُعَةِ خَلْفَ الفاسِقِ جَائِزَةٌ، واحتجَّ على ذلك، وقال: إنَّه لا يُحْفَظُ عن أحدٍ من أهلِ البيت أنَّه يقولُ به، ولكنَّه لا يُعْلَم أنَّهمْ أجمعوا على تحريم ذلك، أو كما قال، وتابعه على هذا الاختيار الإمامُ محمَّدُ بنُ المطهرِ.
وكذلك الإِمامُ المهديُّ علي بنُ مُحَمَّد عليه السلامُ قد ذهبَ إلى جوازِ لباسِ الحريرِ (2) للمُجَاهِدِينَ في غير وقتِ الحربِ، وكان الجُنْدُ
__________
(1) في (ش): المؤيد.
(2) أي: البلدي، لا النباتي، فإن الأول هو المحرم لبسه بالنسبة للذكور إلا عند الحاجة، فقد روي البخاري (2919) و (5839)، ومسلم (2076) (25) من طريق قتادة عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لعبد الرحمن بن عوف، والزبير في قميص من حرير من حِكَّة كانت بهما. وفي رواية: شكوا إلى النبي -يعني: القمل- فأرخص لهما في الحرير، فرأيته عليهما في غزاة.
قال الطبري فيما نقله عنه الحافظ في " الفتح " 10/ 295: فيه دلالة على أن النهي عن لبس الحرير لا يدخل فيه من كانت به علة يخففها لبس الحرير. قال الحافظ: ويلحق بذلك ما يقي من الحر والبرد حيث لا يوجد غيره.
وقال الإمام الشوكاني في " نيل الأوطار " 2/ 81: والحديث يدل على جواز لبس الحرير =(3/34)
يَلْبَسونه عِنْدَهُ عليه السَّلامُ في مُدَّةِ أيَّامِهِ المباركَةِ، فلمْ يُنْكِرْ ذلك عليهم.
وذهب عليه السَّلامُ أيضاًً إلى جوازِ رَمْي البُغَاةِ مِنْ أهلِ الإِسلامِ بالمَنْجَنِيقِ.
وكُلُّ ذلك خِلَافُ المشهورِ مِنْ مذاهبِ آبائهِ عليهمُ السَّلامُ، وكذلك الإمامُ النَّاصر عليه السَّلام قد استجازَ ذلِكَ كُلَّه، وذهبَ إليه، وزادَ عليه جوازَ المِزْمَارِ مَعَ الطُّبُولِ لِمَصْلَحَةِ الجِهَادِ والتَّرْغِيب فيه. وهذا القبيلُ كثيرٌ لا سبيل إلى استقصائِهِ، فلم يَزَلْ أهلُ العلمِ مِنَ الخَلَفِ والسَّلَفِ يَشِذُّون بمذاهبَ تُخَالِفُ مذاهِبَ الجَمَاهيرِ، ولهذا ذهبَ العلماءُ أنَّ الإجماعَ لا ينعقدُ إذا لم يبقَ مِنَ العُلَمَاءِ إلا واحِدٌ، ومنْهُمْ مَنْ قَالَ: يكون إجماعاً ظَنِّيَّاً عُرْفِيّاً، لا حقيقيّاً، وقيل (1): يكونُ حُجَّةً، ولا يكون إجماعاًً، فلولا جوازُ
__________
= لعذر الحكة والقمل عند الجمهور، وقد خالف في ذلك مالك، والحديث حجة عليه، ويقاس غيرهما من الحاجات عليهما.
وبوب البخاري عليه في الجهاد، باب: الحرير في الحرب، قال الحافظ في " الفتح " 6/ 101: وأما تقييده بالحرب، فكأنه أخذه من قوله في رواية همام " فرأيته عليهما في غزاة "، ووقع في رواية أبي داود: " في السفر من حكة "، وقد ترجم (أي: البخاري) له في اللباس، ما يرخص للرجال من الحرير للحكة. وجعل الطبري جوازه في الغزو مستنبطاً من جوازه للحكة. فقال: دلت الرخصة في لبسه بسبب الحكة أن من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكة كدفع سلاح العدو ونحو ذلك، فإنه يجوز، وقد تبع الترمذي البخاري فترجم له: باب ما جاء في لبس الحرير في الحرب. ثم المشهور عن القائلين بالجواز أنَّه لا يختص بالسفر، وقد اختلف السلف في لباسه، فمنع مالك وأبو حنيفة مطلقاًً، وقال الشافعي، وأبو يوسف بالجواز للضرورة، وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنَّه يستحب في الحرب، وقال المهلب: لباسه في الحرب لإرهاب العدو، وهو مثل الرخصة في الاختيال في الحرب.
قلت: وفي " الدر المختار " وحاشيته 6/ 351 و357: وقال الصاحبان أبو يوسف ومحمد: يحل لبس الحرير في الحرب. قال ابن عابدين: وظاهر التقييد بحالة الحرب أن المراد وقت الاشتغال بها، لكن في القهستاني: وعن محمد: لا بأس للجندي إذا تأهب للحرب بلبس الحرير وإن لم يحضره العدو، ولكن لا يصلي فيه إلا أن يخاف العدو.
(1) في (ش): " وقد ".(3/35)
شذوذِ العالِمِ بالاختيار، ما رَسَمْتُ هذِهِ المسألَةَ، وقد تقدَّم ذِكْرُ تَفَرُّدِ عَلِيٍّ عليه السلام بجواز بيع أمِّ الوَلَدِ (1)، وقد ذَكَرَ الأميرُ شمسُ الدِّينِ أنَّ لِعَلِيٍّ عليه السلامُ ما لو يُفْتي بهِ غَيْرُهُ مِنْ أهلِ الأعصارِ المتأخِّرَةِ لنُسِبَ إلى الجَهْلَ.
وقد ذكر السُّبْكي (2) في " طبقاته " ما شذَّ بِهِ كلُّ عالِم مِمَّنْ ذكره، فصارَ جواز الشُّذوذِ مُجْمعَاً عليه لِشُهْرَتِهِ، وَعَدَمِ الِإنكارِ، فَمُحَرِّمُهُ أقربُ إلى مُخَالَفَةِ الإجماعِ منه إلى مُتَابِعِهِ (3)، وَمَنْ عقَدَ الإجماعَ مع مخَالَفَةِ الوَاحدِ، لم يجْعلْهُ إجماعاً قطعياً، ولا أثَّمَ ذلِكَ الواحِدَ.
فإن قُلْتَ: وما المُوجِبُ للشُّذوذ وموافقة الجماهير أولى؟
قلتُ: الموجبُ دليلٌ هو عند المخالِفِ أرجحُ من مُوَافَقَتِهِمْ، وموافَقَتُهُمْ حسَنَةٌ، لكنْ إذا حصل ما هو أحْسَنُ مِنْهَا، كانَ أوْلَى، مثلُ ما إِنَّ العَمَلَ بالحديثِ حَسَن، لكِنْ إذا حصل (4) العَمَلُ بالقرآنِ، وَلَمْ يُمْكِنِ الجَمْعُ، كان أحْسَن.
فإنْ قلْتُ: فكيف يَجُوزُ للعالِمِ مِنْ أهلِ البيتِ عليهمُ السَّلامُ أنْ يُخَالِفَ إجماعَ أهْلِهِ، أو يُخَالِفَ إجماعَ الأمَّةِ؟
__________
(1) انظر 1/ 292.
(2) هو قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي الشافعي ولد سنة 727 هـ، وتوفي سنة 771 هـ وكتابه " الطبقات " ترجم فيه لأعلام الشافعية، رتبه على سبع طبقات، عقد لأهل كل مئة سنة طبقة، ويتخلل الترجمة فوائد حديثية وفقهية وتاريخية وأدبية، وكثيراً ما يذكر في الترجمة الآراء التي ينفرد بها صاحب الترجمة. وقد طبع الكتاب طبعة متقنة محررة بتحقيق الأستاذين الفاضلين: محمود محمد الطناحي، وعبد الفتاح حلو في عشرة أجزاء، سنة 1964 م بمطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه بمصر.
(3) في (ب): متابعته.
(4) من قوله "ما هو" إلى هنا ساقط من (ش).(3/36)
قلت: الجوابُ عن هذا بعْدَ تسليم كَوْنهِ إجماعاً واضحٌ عنْدَ مَنْ لَهُ أدنى تمييزٍ، وذلك لأنَّ هذِهِ الإجماعاتُ التي في المسائِلِ إجماعاتٌ ظَنيَّةٌ، والدَّليلُ الظَّنِّي يجوز مُخَالَفَتُهُ لأِرْجحَ منه، وإنْ كانَ ذلك الدَّليلُ مِنَ الكِتابِ والسُنَّةِ، مع أنَّ مَنْ أنكر أنَّهما حُجَّةٌ كَفَرَ، فكيف بإجماعَيِ الُأمَّةِ والعِتْرَةِ اللَذَيْنِ منْ أَنْكَرَ كوْنَهمَا حُجَّةً، لم يُكَفرْ، وَلَمْ يُفَسَّقْ؛ هذا في مَنْ أنكر القَطْعِيَّ مِنْهُما والظَّنِّيَّ، وإنَّما فَسَّقُوا مَنْ خَالَفَ إجماع الُأمَّةِ القَطْعِيَّ، لا مَنْ قال: إنَّه (1) لَيْسَ بِحُجَّةٍ، فلا يقَعُ في هذا وَهْمٌ، فأمَّا الإجْمَاعُ الظَّنِّيُّ، فلم يَقُلْ أحدُ: إنَّ مُخَالِفَهُ يَفْسُقُ، دع عنك مُنْكِرَهُ، بل قال بعض العُلماء: إنَّ الإجْمَاع الظنِّيَّ: ليس بحُجَّةٍ البَتَّةَ، وَلَمْ أعلمْ أنَّ في أهل العلم مَنْ خَرَجَ على المُخَالفِ في الإجماع الظَّنِّيِّ.
وقد نصَّ الإمام يحيى في "المعيار" أنَّ الخبَرَ الظَّنِّيَّ يُقَدَّمُ على الإِجماعِ إذا لم يثبُتْ أنَّ أهل الإجماعِ قد عَلِمُوا بِهِ، وَخَالفُوهُ بعد العلْمِ به (2)، فإنْ خالَفُوهُ بعدَ العِلْمِ بهِ، قُدِّمَ الإجماعُ.
فإذا عَرَفْت هذِه الجُمْلَةَ، تَبَيَّنَ لك سُهُولَةُ أمْرِ المخالفة في الفروعِ، وأنَّ المُخَالِف لو خالف الإجماعُيْنِ -إجماعَ الأمَّةِ والعِتْرَةِ- على (3) هذه الصِّفَةِ، لم يستَحِقَّ الِإنكار والتَّأثيم، سواءٌ قال: إنَّهما إذا كانا ظَنِّيَّيْن، فلا حُجَّةَ فيهما، أو قال: بأنَّهما حُجَّةٌ، ولكن حَصَلَ ما هو أرْجَحُ مِنْهمَا، فكيفَ بِمنْ لم يُخَالِفْ إجماعاً البتَّة؟
وبعدُ، فالخلاف لأهلِ البيتِ عليهم السَّلامُ في هذه المسألة يَسِيرٌ
__________
(1) في (ب): إن.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ش): مع.(3/37)
جداً؛ لأنَّه خلافٌ لجماهيرِهِمْ في أمرٍ غيرِ واجبٍ عِنْدَهمْ، وذلك لأنَّ مذهبَ جماهيرِ العِترة مِنَ المُتَقَدِّمينَ والمتأخِّرين أنَّ الجهر بالبسملة (1) والفاتِحَةِ في الصَّلَاةِ غَيْرُ واجبٍ. وقد ذكر ذلك الأمير الحسينُ في "الشِّفاء".
فالمخافِتُ (2) تاركٌ لِسُنَّةٍ عندَ جماميرِ العِترة، ولا إثمَ عليه، ولا حرجَ، ومَنْ كانَ عِنْدَ جماهيرِهِمْ غيرَ عاصي (3)، فالإنكارُ عليهِ عِنْدَهمْ مِنَ المعاصي.
هذا كُلُّهُ على تسليمِ ما ادَّعاهُ الخَصْمُ مِنَ المُخَافَتَةِ، وَلَسْتُ -بِحَمْدِ اللهِ- أُخَافِتُ، بَلْ أجْهَرُ عَلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ والهادي عَلَيْهِمَا السَّلام كما تَقَدَّمَ ذلِكَ، فهذا الكَلَامُ انسَحَبَ عليَّ مِنَ الكلاَمِ على جوازِ الأمرين: الجَهرِ والإِخفاتِ، وقد طال، وهو مُفيدٌ إن شاء الله تعالى.
الوجه الرابع: سلَّمنا أنا لَمْ نقلْ بجوازِ الجَهْرِ والإخفات معاً، وأنَّا (4) قلنا بأنَّ السُّنَّةَ الإِخفاتُ، فإنَّه يُمْكِن أنْ نَحْمِلَ أحاديثَ الجَهْرِ على معنى صحيحٍ، ونَجْمَع بَيْنَ الأحاديث، ولا نطرحَ أحاديثَ أهلِ البيتِ عليهم السَّلامُ، فإنَّ طرحَ أَحَدِ الحديثين لا يجوزُ إلاَّ بعد تَعَذُّرِ الجَمْعِ بينهما؛ لأنَّ الجمْعَ أولى بالاتِّفاقِ إنْ كان إليه سَبيل.
وقد ذكَرَ مَنْ تَقدَّمَ مِنْ أهلِ العلم الجمعَ بينَ الأحاديثِ في هذه المسألَةِ، وقال: إنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جهر بها لِيُعْلِمَ الناسَ أنها تُقرأ سرَّاً،
__________
(1) في (ب): في البسملة.
(2) في (ب) و (ش): فالمخالف.
(3) كذا الأصول بإثبات الياء، والجادة حذفها، وما هنا له وجه.
(4) في (ش): وإن.(3/38)
كما ثبت في " الصَّحيحين " (1) أنَّه كان يُسْمعُهُم الآيَةَ أَحْيَاناً في صَلاةِ النَّهارِ، وكما ثبتَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ جَهَرَ بالتَّوَجُّهِ للتَّعْليمِ (2) معَ الإجماعِ علَى أنَّ التَّوَجُّهَ ممَّا لا يُجْهَرُ بِهِ.
وقد يَحْتَمِلُ أنَّه جَهَرَ بِها لبيانِ جوازِ الجَهْرِ، لا لبيان استحبابهِ، كما جَهَرَ في صلاة النَّهارِ، وإذا كان هذا محتَملاً، لم تُعَارَضِ الأحاديث، وإذا لم تُعارَضْ، لَمْ يَحِلَّ التَّرجيحُ والعملُ بالبَعْضِ دونَ البَعْضِ.
فإنْ قُلْتَ: فهلاَّ جَعَلْت التَأويلَ للإخفاتِ؟ وقلتَ كما قال أهلُ الجَهْرِ: إنَّه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَهَر (3)، ولكِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ لما يُعتادُ مِنْ رَفْع المأمومينَ لأصواتِهِمْ بعد تكبيرةِ الإِحرام، وذلكَ وقتُ البَسْمَلَةِ.
قلت: الجَوَابُ مِنْ وَجْهيْنِ.
الأول: أنَّ هذا الاحتمال يضعف في الرَّكْعَة الثانِيَةِ، وعِنْدَ قراءةِ السُّورَة بعد الفَاتِحَةِ، ويلزمُ منهُ التباسُ أوَّلِ الفاتِحَةِ.
__________
(1) أخرجه البخاري (759) و (762) و (776) و (778) و (779)، ومسلم (451) من طرق عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا، فيقَرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً، وكان يطول الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح. وللنسائي من حديث البراء: كنا نصلي خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة (512) من حديث أنس نحوه، لكن قال بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.
(2) أخرجه مسلم في " صحيحه " (399) (52) من طريق محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك.
(3) في (ب): " جهرا "، وفي (ج): " جهره "، وهو خطأ.(3/39)
والثَّاني: أنَّ فيه حُكمَاً على الرُّواة بالكذِب والوَهْم (1) مِنْ غيرِ تَعَمُّدٍ، فإنَّهم قالواْ لَمْ يَكُنْ يجهَرُ في بعضِ الطُّرُقِ الصِّحاحِ، ولو كان الأمر كما ذكَرْتَ، لكان الواجبُ عليهم أنْ يُورِدُوا لفظاً يصدُق ويدُلُّ على الشَّكِّ، مثل أن يقولوا: إنَّ أصواتَ المُكَبِّرين كانت تمنَعُنا من تَحَقُّقِ جَهْرِهِ بالبَسْمَلةِ، فلا ندري هل جَهَرَ أم لا؟ وبهذا تَعْرِفُ أنَّ تأويلَ الجَهْرِ أولى؛ لأنَّ فيه تصديق جميعِ الرُّواةِ، وحملَهُمُ الجَميع عَلى عدم الوَهْمِ، فكان أقوى، لأنَّ الوَهْمَ خلافُ الظَّاهر، وهو آخِرُ مراتبِ التَّأويل كما سيأتي، وليسَ بعدَ الحُكْم بِه إلَّا الحكمُ بتَعَمُّدِ الكَذِبِ، بل لا يصحُّ (2) القطع (3) بالوهْمِ إلا في المسائل القطعيَّةِ بعد انسدادِ بابِ التَّأويل، وسوف يأتي ما في ذلِكَ مِنَ الشَّرائِطِ العزيزة.
الوجه الخامس: أنَّهُ لا يلزَمُ القول بالتَّرجيح إلاَّ بعدَ أنْ يدَّعيَ كُلُّ واحدٍ مِنَ الفريقين أنَّ حديثَه صحيح، أو يدُلُّ دليلٌ على أنَّهُ يَدَّعِي ذلِكَ ويعتقدُه، وإنْ لم يُصَرِّحْ بذلك، لكنَّا لَمْ نعلمْ ذلِكَ في أحاديثِ أَهْلِ البَيْتِ عليهم السَّلام، فإنَّ كثيراً مِنْ أحاديثِ الجَهْرِ المَرْوِيةِ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طريقٍ أهلِ البيت عليهمُ السَّلامُ، وبعضُها ثَبَتَ من طريقهم (4) لكنَّهُمْ لَمْ يحتجُّوا به منفرداً، وُيصَرِّحُوا بأنَّه مُسْتَندُهمْ في العَمَلِ، بَلِ احْتَجُّوا على ذلك ببعضِ تلك (5) الأحاديث وبالقياس وبالاجتهاد، وهذا النَّوْعُ شبيهٌ بالنَّوْعِ المُسمَّى بالمتابَعَاتِ والشَّواهِدِ (6)، وهو أحدُ أنواع علوم الحديث،
__________
(1) في (ب): بالوهم والكذب.
(2) في (أ) و (ج): " بل يصح " وهو خطأ.
(3) في (ب): الحكم.
(4) في (ب): طريق.
(5) ساقطة من (ب).
(6) انظر التعليق رقم (1) من الجزء الثاني ص 95 من هذا الكتاب.(3/40)
وَلَمْ أعلم بأنَّ أحدَاً قال: بأنَّها حُجَّةٌ، والدَّليلُ على أنها ليست بِحجةٍ أنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ العالِمُ اعتمد العُمُومَ، أَوِ (1) القياسَ، أو الاجْتِهَاد، ثُمَّ تقَوَّى بِالخَبرِ على جِهَةِ الاستئناس والزِّيادة في الظَّن، وَلَوْ لَمْ يَكنْ معه إلا الخَبرُ، لم يَعْتمِد عليه، وقد يُصَرِّحُ (2) بهذا كثيرٌ مِنْ أَهْل العلم في احتجاجِهِمْ لمذاهِبِهِم.
وكذلِكَ العَكْسُ مِن هذا قد يَحتجُّ العالِمُ بالخَبَرِ والقياسِ، ويكونُ مُعْتَمدَه الخَبرُ، وإيرادُه للقياسِ على سبيل إلاستظهار، ونظير ذلكَ أنَّ الحاكم إذا حَكَمَ بشهادَةِ رَجُلَيْنِ، كان الحُكْم تعديلاً لَهُمَا، ولو حكَم بشهادَةِ ثلاثة، كان تعديلًا لاثنينِ مِنْهُم، لجواز أَنْ يكونَ لَمْ يَعْلَمْ عدالَةَ الثالث، ولكِنْ تَقَوى بِهَا، وكذلِكَ العَالِمُ (3) إذا قال قولاً، واحتجَّ بِحجةٍ مُنْفَرِدَةٍ دلَّ على صِحتِها عِنْدَهُ، وإذا احتجَّ بحُجَّتين، احتمل (4) أنْ تكونا صَحِيحَتَيْنِ مَعَاً، وأَنْ تكون إحداهُمَا صَحِيحَةً، والأخرى ضَعِيفَةً عنده، لكن تقوَّى بها. فإذا لم يَثْبُتْ عَن الهادي أنَّه قال بِصحَّةِ الحديث، لم يَصِحَّ أنْ يعْمَلَ بِهِ، وإن لم يُعارضه حديث آخر، فكيفَ إذا عَارَضَهُ حديث صَحِيحٌ على شروطِ الأئمة، فَعَمِلْنَا بِهِ، كيف يجوز أَنْ يُقَالَ: إنَّا قد ذهَبْنَا إلى ترجيح فُسَّاقِ التَّأويلِ علَى الهَادِي عليه السَلامُ؟ وَمَتَى صحَّحَ الهادي الخَبَرَ بنصٍّ أو ظاهِرٍ مِنْ كلامِه عليه الكلام حتى يَثْبتَ ما هُوَ فَرْعٌ على هذا مِنَ التَّرجِيح؟
الوجه السادس: أنَّ الهادي عليه السَّلامُ لما ذكر المسألة، احتجَّ
__________
(1) في (ب): " والقياس ".
(2) في (ش): صرح.
(3) ساقطة من (ب).
(4) ساقطة من (ب).(3/41)
فيها بأنَّ " بسم اللهِ الرَّحمن الرحيم " مِنَ القرآن، والقرآنُ يُجْهَرُ بِه، وجعل هذه الحُجَّة عُمدتهُ، وصدَّرها في احتجاجِهِ في المسألة، ثمَّ روى بعدَها حديثين لم يَدُلَّ عليه السَّلامُ على صِحَّةِ واحد مِنْهُما عندَه بنصٍّ، ولا عموم، ولا منطوقٍ، ولا مَفْهُومٍ، ولا تَبَيَّن لنا ذلك مِنْ غيره عليه السلام كما نُبيِّنُ ذلك، أمَّا أحدُهما: فإنَّه رواهُ بلفظ التمريض والبلوغِ دونَ لفظِ القطْعِ والثبات، فقال: بلغَنَا عنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَقُلْ: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا قال: صَحَّ لنَا عنْ رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أيضاً نوعٌ من أنواع الحديثِ يُسَمَّى البلاغات، وليس يُحكمُ بصحته؛ لأن عبارة البُلُوغِ تَصْدُقُ، سواءٌ كانَ الحديث (1) صحيحاًً أو ضعيفاً؛ لأنَّ الصحيحَ قد بُلِّغَ، والضعيف قَدْ بُلغَ.
ولهذا كان القول الصحيحُ المختارُ مِنَ الثَّلاثَةِ الأقْوالِ في تعاليقِ البُخاري (2) أن ما رواهُ بصيغَةِ التمريض لم يُقْبلْ، وما رواه بصيغة الجَزْمِ قُبِلَ (3).
__________
(1) سقطت من (ش).
(2) الحديث المعلق له صور: منها أن يحذف الراوي جميع السند، فيقول مثلاً: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنها أن يحذف إلا الصحابي، أو إلا الصحابي والتابعي، ومنها أن يحذف من حدَّثه، ويضيفه إلى من فوقَه.
والأحاديث المعلقة في " صحيح البخاري " كثيرة جداً تجاوزت 1300 تعليقاً، وأكثرها مخرج في أصول متونه، وما لم يخرجه فقد قام الحافظ ابن حجر بوصله.
(3) هذه القاعده أغلبية لا كلية، فقد علق البخاري حديث عائشة: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله على كل أحيانه " بصيغة الجزم، مع أنَّه لا يصح على شرطه، بل على شرط غيره، فخبر عائشة هذا أخرجه مسلم في " صحيحه ". وذكر أيضاًً بصيغة الجزم حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الله أحق أن يستحيى منه من الناس "، وهو ليس من شرطه قطعاً، ولهذا لما علق في النكاح شيئاً من حديث جد بهز لم يجزم به، بل قال: ويُذكر عن معاوية بن حيدة.
وقال في (باب: العرض في الزكاة): وقال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل =(3/42)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميس أو ليس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخيرٌ لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. رجاله ثقات إلا أن طاووساً لم يسمع من معاذ، فهو منقطع.
وعلق حديث جابر في كتاب العلم بصيغة الجزم، فقال: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.
وعلقه في كتاب التوحيد بصيغة التمريض، فقال: ويُذكر عن جابر، عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان ".
وقد قال الحافظ: جزم به حيث ذكر الارتحال فقط، لأن الإسناد حسن وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به، لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب، فإنه يحتاج إلى تأمل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طرق مختلف فيها ولو اعتضد.
وما علق بصيغة التمريض، منها ما هو صحيح على شرطه، وقد أورده في موضع آخر من " جامعه "، ففيه 1/ 44 في المواقيت، باب: ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعاً: ويذكر عن أبي موسى قال: كنا نتناوب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند صلاة العشاء فأعتم بها، وقد رواه موصولاً (567) في باب: فضل العشاء .. ، ولفظه فيه: فكان يتناوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم.
وقال في كتاب الطب 10/ 76، باب: الرقي بفاتحة الكتاب: ويذكر عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم أسنده (5737) في الباب الذي بعده من حديث ابن أبي مليكة عن ابن عباس في قصة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ".
ومما أورده بصيغة التمريض، ولم يورده في موضع آخر من كتابه، وهو صحيح، ما جاء في كتاب الأذان من " صحيحه " 2/ 204: ويُذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم في " صحيحه " (438) من طريق أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأي في أصحابه تأخراً، فقال لهم: " تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم ... ".
وجاء في كتاب الصلاة 2/ 255: ويذكر عن عبد الله بن السائب قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - (المؤمنون) في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى أو هارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة، فركع. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (455) في الصلاة، باب: القراءة في الصبح، من طرق عن عبد الله بن السائب.
وبهذا يتبين لك أن ما صححه المؤلف في هذه المسألة غير صحيح، وأن تعاليق البخاري لا يتم الحكمُ على المروي منها بشيء من الصحة ولا الحسن ولا الضعف إلا بعد الكشف والفحص عن حال ما علقه. =(3/43)
وليس هذا النَّوعُ يدخُلُ في المراسيلِ، ولا يرتقي إلى مرتَبَتِهَا، فإنَّ كثيراً مِنْ عُلماءِ الأصولِ نَصُّوا على أن المُرْسَلَ هُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نصَّ عليه المنصور بالله عليه السلام في موضعين من " صفوته " (1) وكذلِكَ أبو الحسين في " معتمده " (2)، ونص عليه في " الجوهرة "، وأَقرَّهُ الفقيهُ العلاَّمة عليُّ بنُ عَبْدِ اللهِ، ولمْ يعترِضْهُ في تعليقه، بل أقَرَّهُ، وقال: الكلام كما ذكر (3)، واختلفوا في العنعنة.
وأمَّا البُلوغُ والرِّوايَةُ بلفظِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، فَلَمْ أَعْلَمْ أنَّ أحداً ذكرهما في المراسيلِ، ولا فيما يَجِبُ قَبُولُه مِنْ أخبارِ الثِّقات، وإنْ ذَكَرَ ذلكَ ذاكرٌ مِنْ غَيْر دليلٍ، لمْ يُقْبَلْ منهُ تقليداً حتى يَدلَّ عليهِ، وهذا الكلام مُتَّجِهُ إلا أَنْ يُعْرَف مِنْ بعضِ العلماءِ أنَّهُ لا يقولُ ذلكَ إلا فيما صحَّ لَهُ، ولا يقولُه في حديثٍ ضعيفٍ ألبتة عمل به، ولكِنا لمْ نَعْلَمْ هذا مِنَ الهادي عليه
__________
= وهذه الأمثلة وغيرها أيضاًً تدلُّ على أن استعمال صيغة ما لم يسم فاعله قد يكون لمعنى غير التمريض، كاختصار السند، أو الاقتصار على بعضه، أو إيراد الحديث بالمعنى، وغير ذلك من الوجوه، وهذا شائع ذائع في كتب المتقدمين من الأئمة كالشافعي في " الأم "، فإنه يذكر في أحاديث كثيرة بصيغة التمريض، وهي في الصحيحين أو أحدهما، وكذلك البغوي في " شرح السنة " حين يطوي السند، يورد الحديث بصيغة التمريض، وكثير مما جاء كذلك صحيح، ولم يتنبه لهذا بعض من ينتحل الحديث في عصرنا، فضعف حديث عمر في التراويح الذي فيه أنَّه صلاها عشرين، لأن الشافعي صدره بقوله: " ورُوِيَ "، وفي النص الذي نقله عن الإمام الشافعي من طريق المزني ما ينبه الغافل، فقد جاء بإثره كما نقله هو: " وهو أحبُّ إليَّ "، فكيف يكون هذا العدد الذي جاء في حديث عمر أحبَّ إليه، وهو ضعيف في نظره كما زعم هذا القائل، وغير خافٍ على صغار الطلبة أن الشافعي رحمه الله لا يعتد بالحديث الضعيف.
(1) ألفه في أصول الفقه، وسماه " صفوة الاختيار "، والمنصور بالله -واسمه عبد الله ابن حمزة- تقدم التعريف به في 1/ 286.
(2) لم أجده في المطبوع من " معتمد أبي الحسين ".
(3) في (ب): " ذكروا ".(3/44)
السلامُ، ولا من غيرهِ مِنْ علماءِ الإسلام.
إذا تقرَّرَ هذا، فلا شَكَّ أنَّ أَرْفَعَ المراتِبِ في رفع الالتباسِ أنْ يقولَ العالِمُ: صح لنا عَنْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُبَينُ طريقَ الحصةِ.
المرتبة الثانيةُ: أن يقول: صَحَّ لنا، ولا يُبَين طريقَ الصحةِ.
المرتبة الثالثَةُ: أن يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، هكذا على الجزم منْ دونِ تصريحٍ بِالصِّحةِ.
المرتبةُ الرابِعَةُ: أنْ يقول: مذهبي كذا وكذا، وحُجَّتي على ذلك قولُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو ما بَلَغَنِي في ذلك عَنِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ يَذْكُرُ الحديثَ مُصَرحاً أنَّه حُجَّتُهُ ومُعْتمدُه.
فَهذِهِ مراتبُ أربع، وفيها خلاف كُلُّها، لكنِ المرتبةُ الأولى لم يُخَالِفْ فيها إلَّا البَغْدَادِيَّةُ، وكلامُهم مهجورٌ مدفوعٌ بالإجماعِ قبلَ خلافِهم، ولكن لا يَتَّجِة الإنكارُ على من خالفَ الحديث الصَّحيحَ؛ لجوازِ أن يكونَ خالَفَهُ لِما هُوَ أَرْجحُ منهُ.
وأمَا المراتِبُ الثلاث المتأخِّرةُ، فلا سبيل إلى الإنكار على مَنْ لم يَقْبلْها، والخلافُ فيها شائِعٌ بين العُلَمَاءِ، فأمَّا إذا نَزَلَت الرواية عن هذِهِ المراتب الأربع، مثل أن (1) يَحْكِي العالِم مَذْهَبَهُ وحجتَهُ عليه، ثم يقولُ بعد ذلك: وبلغنا عنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعلمُ أن أحداً يقول: إنَّ هذا طريقٌ للمجتهد إلى معرفَةِ صِحةِ الحَديثِ.
قال الإِمامُ يحيى بنُ حَمْزَة في " المعيار" في طرق (2) صِحةِ
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): طريق.(3/45)
الحديثِ: وأمَّا رابعاً، فالعَمَلُ علَى خَبَرِه، فإنَّه يكون تعديلاً إذا كان لا مُحْتَمَلَ لهُ إلا العَمَل عليه، فإنِ احتملَ غيره لم يكن تعديلاً. انتهى كلامُه عليه السلامُ.
وهو مثل الذي ذكرتُه، فلِله الحَمْد، ولهذا لم يَقُلْ (1) أَحَد مِنْ أهل النقل: إن كُتُبَ المسانِيدِ صحيحة عِنْد مصنِّفيها، مثل مَسانيد الشافِعِيِّ، وأبي حنيفةَ، وأحْمَدَ بنِ حَنْبَل وغيرهم، لمَّا كانت عبارتُهم (2) لا تقتضي دعْوى الصِّحة عِنْدَهم، ولكن أَخْبَرُوا بما سَمعُوا، وَبَلَغَهُم عَنْ ثِقَةٍ وغيره، ولهذا أَعْرَضَ أربابُ الصِّحاح، ونُقَّادُ الحَدِيثِ عَنْ بلاغات " الموطَّأ "، ولم يقولوا بصحَّتِها على جلالَةِ مَالكٍ عندهم، وإجماعهم على أمانَتِهِ وتقدُّمِه في الحِفْظِ والاحتياط في الحديثِ والرِّجالِ، فإنهُمْ لا يختلفون أنه رأسُ أئمةِ الحديثِ، وأوثقُ نَقَلَةِ (3) الأخْبَارِ وحملَةِ الآثارِ، وَهُو الَّذي أَقَلَّ مِن الرواية، وأَطَابَ، وَبَلَغَ الغايَةَ القُصوى في تَحَري الصدْقِ والصوابِ، فلَمْ يقْبَلُوا بَلاَغَاتِه، ولا التفتوا إلى ما مَرَّضَهُ مِنْ رواياتِهِ.
خاتِمَةُ أقصى ما في البابِ أنْ يثبُتَ عِنْدَك (4) أنَّ بلاغاتِ بَعْضِ الأئِمَّة حجةٌ مِنْ غَيْرِ أنْ ينُصَ ذلِكَ الإمامُ على ذلك، ولا يَدُلَّ عَلَيْهِ بظاهرٍ، ولا مفهومٍ، ولا يُبَيّنُ أنَّه حُجَّتُه، لكن هذا يكون مذهباً لَكَ، لا لذلكَ الإمامِ، ولا لِغيْرِهِ، ولو أَنَّ بعضَ المتأخِّرين خالفَ بعضَ الأئِمَّةِ في صحَّةِ حديث، لم يستحقَّ الإنكار، فكيف إذا (5) خَالَفَ بعضَ أَهْلَ عَصْرِه؟
__________
(1) في (ش): ينقل.
(2) في (ش): عباراتهم.
(3) في (ب): أئمة.
(4) جملة " أن يثبت عندك " ساقطة من (ش).
(5) في (أ) و (ج): إلا إذا.(3/46)
وقُصارى الأمْر أن يثبُتَ عَنْ بَعْضِ الأئمَّةِ أنَّ هذهِ طَريق إلى صحة الحديث، فهذا مما لا يقطَعُ الخلاف، كما نَصوا أنَّ الإرسال طريق إلى ذلِكَ، ولم يمنَعْ ذلكَ مِنْ تحريم رَد المراسيل على المُجْتَهدين، فَهذا هُوَ الكلامُ على الحديث الأوَّلِ، وقد تَبَيَّن بِهِ أن الهادي عليه السلام لم يدَّعِ صحَّتَه ألبتَّةَ.
وأمَّا الحديث الثاني، فإنه عليه السلام رواه عن أبيه، عن جَده، عن أبي بكر بنِ أبي أُوَيسٍ، عنِ الحُسين بنِ عبد الله بن ضُمَيرة، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عليٍّ عليه السلام، وفيه وجهان:
الوجهُ الأوَّلُ: أنَّا لا نعْرِفُ عَدالَةَ الحسينِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ ضُميْرةَ، ولا عدالَةَ أبيه، ولا جَدِّه.
فإنْ قُلْتَ: روايةُ الهادي عليه السلام تقتضي عدالتَهُم.
قلتُ: روايةُ العالِمِ لا تدُلُّ على توْثيقِ مَنْ زوَى عَنْهُ على الأصَح المشْهورِ، خلافاً لبعض أصحاب الشافعي، ذكره ابنُ الصَّلاح في كتابه " العلوم " (1)، والإمامُ يحيى بنُ حمزةَ في كتابه " المعيار "، فقد روى الثَّقاتُ العُدولُ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابعينَ عَنْ معاوية، والمغيرةَ، وعمرو بن العاص، وروى عليٌّ بنَ الحسينِ عليه السلامُ عَنْ مَرْوَان بنِ الحَكَمِ، ولم يكن ذلك مِنْهم تعديلاً لِهؤلاءِ، وسيأتي بيانُ من رُوِيَ عنهم في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ص 120، ونص كلامه: إذا روى العدل عن رجل وسماه، لم يجعل روايته عنه تعديلاً منه له عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم.
وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: يجعل ذلك تعديلاً منه له، لأن ذلك يتضمن التعديل .. والصحيح هو الأول، لأنَّه يجوز أن يروي عن غير عدل، فلم يتضمن روايته عنه تعديله، وانظر "تنقيح الأنظار" للمؤلف مع " توضيحه " للصنعاني 1/ 319 - 323.(3/47)
الوجه الثاني: أنَّ أهْلَ الحديثِ الذين (1) نَصَّ أئمةُ العِترةِ على قبُولهم قدَحُوا في الحُسينِ بنِ عبدِ الله بن ضمَيْرَةَ هذا، وضعَّفُوه في كُتُبِ الجَرْحِ والتعديل، ولم يذكروا له تعديلاً قطُّ، وهذِه ألفاظهم في ذلك:
قالوا: هو أبو ضَمْرَة الحسينُ بنُ [عبد الله] أبي ضميرة (2) الحِمْيَري المدَني، كذَّبه مالك، وقال أبو حاتِم: متروكُ الحديثِ، كَذَّاب، وقال أحمد: لا يساوي شيئاً، وقال ابن معين: ليس بثقة، ولا مأمون، وقال البخاري: منْكَرُ الحَدِيثِ، ضعيف، وقال أبو زُرعة: ليس بشيء، اضْرِبْ على حدِيثه (3).
فهذا الرجُل مجروحٌ بِمَرَّةِ، مَقْدُوحٌ فيه كما ترى، وجرحُ مالكٍ لَهُ قويٌ لاختصاصه به، فإنَّ بَلَدَهُما واحدةٌ، وزمنَهُما واحد، فهما مَدَنِيَّانِ معاً، وابن أبي ضُميرة شيخُ أبي بكر بنِ أبي أُويس، وأبو بكر هذا: هو ابنُ أختِ مالكٍ. فهذا يدُلُّ على أنَّهم مختلطون، وأهلُ بلدٍ واحدٍ، وزمانٍ واحد. والقاسِمُ عليه السلامُ لم يدْرِكِ ابْنَ أبي ضميرة، ولا صَحِبَه، ولا جاوَرَهُ، وإنَّما رَوَى عَمَّن روى عنه، فلا يكون في هذا تعديل لَهُ، ولو فرضنا أنَّه تعديلٌ عِنْدَ بعضِ الشَّافِعيَةِ، لم يلزَمْنا مذهبُ بعضِ (4) الشافِعِيةِ.
__________
(1) في (ش): الذي.
(2) " الحسين بن أبي ضميرة " ساقط من (ش).
(3) نقل المؤلف هذه الترجمة من " ميزان الاعتدال " 1/ 538. وانظر ترجمته في " تاريخ البخاري " 2/ 388 - 389، و" الضعفاء الصغير " ص 33، و" الجرح والتعديل " 3/ 57 - 58، و" المجروحين والضعفاء " 1/ 244 لابن حبان، و" الضعفاء " 1/ 246 - 247 للعقيلي، و" لسان الميزان " 2/ 289 - 290.
(4) ساقطة من (ب).(3/48)
وعلى تقدير صحة مذهبِهِم، فالجَرْحُ المعَيَنُ (1) مُقَدَّم على التَعْدِيل، والمعدِّل محمولٌ على عَدَمِ الاطِّلاع على ذلك، وعلى العَمَلِ بالظَّاهِرِ، كما هُوَ مَذْهَبُ أَهْل البَيْتِ وغيرهم، بَل الظَاهرُ أنَّ الجَرْح المطلق مُقَدَّمٌ عندهم عليهم السلامُ، أو عند كثيرٍ منهُم، فكيف الجَرْحُ المُعَيَّنُ؟ وأمَّا أبو بكر بن أبي أويس (2) الذي يروي عنه القاسِمُ عليه السلامُ (3)، وهو الراوي عن ابن أبي ضميرة، فهو ثِقَة حُجَّة (4) عِنْدَ الجماهيرِ، ولا أَعْلَمُ فيه مقالاً إلاَّ ما قالَهُ الأزدي، فإنَّه قال: كان يَضَعُ الحديث، قال الذَّهبي (5) في قول الأزدي هذا: وهذِهِ زَلَّةٌ قبِيحَةٌ. انتهى.
فمن كان يُقَدِّم الجرح مُطلقاً، لَزِمَه جرْحُه، وهذا مقتضى اختيارِ السَّيدِ في رسالته، فيزدادُ الحديث ضعْفَاً على ضَعْفِهِ، لكن السيدَ قَدِ التزَمَ ما يوجبُ عليه التَّشكيك في ثُبوتِ هذا الجَرْحِ والتَّعديلِ، بل ما يُوجب عليه التَّشكيك في كونِ الهادي عليه السَّلامُ روى هذا الحديث في الأحكام، بل ما يوجب عليه التشكيكَ في كونِ ابن أبي أويس، وابنِ أبي
__________
(1) أي: المفسر كما في ترجمة ابن أبي ضميرة. وانظر التفصيل في هذه المسألة في " تنقيح الأنظار " للمؤلف، وشرحه للصنعاني 2/ 158 - 167.
(2) تقدمت ترجمته في 2/ 339.
(3) من قوله: " أو عند " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) ساقطة من (ب).
(5) في " ميزان الاعتدال " 2/ 538. والأزدي: هو الحافظ أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بريدة الأزدي الموصلي، نزيل بغداد، المتوفى سنة 374 هـ. قال الخطيب: في حديثه غرائب ومناكير، وكان حافظاً، صنف كتباً في علوم الحديث، وسألت البرقاني عنه، فضعفه، حدثني النجيب عبد الغفار الأرموي قال: رأيت أهل الموصل يوهنونه، ولا يعدونه شيئاً.
قلت: وله مصنف كبير في الضعفاء. قال الإمام الذهبي: وعليه فيه مؤاخذات، فإنه ضعف جماعة بلا دليل، بل قد يكون غيره قد وثقهم. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 16/ 347 - 350.(3/49)
ضَمْيَرَةَ مخلوقين أو غيْر مخلوقين، كما مر تقريرُ ذلك في المسألة الأولى.
الوجه السابع: أنَّ الخبَرَ إذا وَرَدَ في شَيْءٍ، ظهر في الأصل ظُهوراً عامَّاً، وقضتِ العادَةُ في ذلك الأمْرِ أنْ يُنْقَل نقلاً عامَّاً، ثُمَّ ورَدَ ذلك الخَبَر وُرُودَاً خاصَّاً، فإنه لا يُقْبَلُ، وقد ذكر هذا عدَد كثير من علماءِ الأصول وأهلِ علم النظرِ، منهم المنصورُ بالله عليه السلامُ، فإنه قال في كتاب " الصَّفْوَة " ما لفظه: قال شيخُنا رحمه الله: فأمَّا إذا ورد الخَبَرُ بشيْءٍ ظهر في الأصل ظهوراً عاماً، والعادةُ جارية فيما ظهر ذلك الظُّهور (1) أن يُنقل نقلاً عاماً، ثم ورد ذلك خاصَّاً، فإنه لا يُقْبَل. قال عليه السلامُ: وهو الذي نختارُه، وقد خالف ذلك أبو علي (2)، وقال: إنَّه يُقْبَلُ.
قال عليه السلامُ: ومثَال المَسْأَلَةِ: الجَهْرُ بـ (بِسْمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم).
قال عليه السَّلامُ: والدَّليلُ على ما ذهبنا إليه، أن كُلَّ أَمْرَيْنِ استويا في الظُّهور، وكان الدَّاعي إلى نقل أَحَدِهِما كالداعي إلى نقل الآخر، فإنهُ يجبُ أن يستويَ نقلهما، لأنَّ ما دعا إلى نقل أَحَدهِمَا هو بِعَيْنِهِ يدعو إلى نقلِ الآخر، لولا ذلك، لجوَّزْنَا أن يكون امرؤ القيس قد عُورِضَ بقصائدَ تَبْرزُ على شعره في الفصاحَةِ والجَزَالَةِ (3)، ولم يُنْقَلْ إلينا، ولجَوََّزْنَا أن تكون قد عُورِضتَ مُعْجزاتُه - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - بما هو أَبْهَرُ مِنْها، وإنَّما لم يُنْقَل إلينا، وكذلك القرآن الكريم، كُنا نُجَوِّز معارضتَه على هذا القول على ما هو مُساوٍ لَهُ في النظْمِ والفصاحة، أو مُبَرِّزُ عليه، وإن لم يُنْقل على
__________
(1) في (ب): لظهور.
(2) هو الجبائي محمد بن عبد الوهاب البصري شيخ المعتزلة، تقدم التعريف به في 2/ 318.
(3) تحرفت في (ش) إلى: " الحوالة ".(3/50)
حَدِّ نقله، وكلُّ ذلِك لا يجوز؛ لأن كل ما دعا إلى نقل أَحَدِهِمَا بعينه يدعو إلى نقلِ الآخرِ، ولا وَجْهَ يُوجِبُ نقلَ أحدهما دون الآخر مع الاستواء، فوجب أن يُقتضى بفساده -إلى قوله عليه السلام-: فإذا لم يُنْقَلْ إلينا أَحَدٌ الأمرين مع استوائِهمَا في باب الدَواعي إلى نقلهما، علِمْنَا بذلك أنهُما لم يَسْتَوِيَا في الظهور في الأصل. انتهى كلامُه عليه السلام.
ولما عَرَفَ المنصور بالله (1) أنَّهُ يلزَمُ مِنْ هذا القطْع بأنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمْ يَكُنْ يجهر بالتَسْمِيَة (2) مثلَ جَهْرِه بالفاتحة، إذن لاستوى نقلُهما، فلمَّا نُقِل الجَهْرُ بالفاتِحَة تواتُراً و (3) إجماعاًً، والجهْر بالبسملة ظنَّاً وآحاداً، علمنا بذلك عدم استوائهِما في زمانه عليه السلامُ، فيجبُ رد حديثِ مَنْ نَقَل ما يقتضي (4) استمرارُه عليه السلامُ على حالَة واحِدَة، فَحينَ رأى المنصور (5) عليه السلامُ هذا السؤال وارداً -ولم يكنِ القَوْلُ بإخفاء البَسْمَلةِ مذهبَهُ- أشار إلى الجواب، فقال عليه السلام: فأما الجهر بالتَسمية والفاتِحَةِ، فقد عللَ شيخُنا رحمه الله تعذُّر استوائِهِمَا في ظهورِ النقل بِعلةٍ ظاهِرَة، وهي أنهما لم يستويا في الأصل، لأن النبِي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالتَّسمية حالَ اشتغال المسلمين بالتكبيرة، فبعضُهم يسْمَعُه يجهر، وبعضُهم لا يسمعُه مِنْ رَهَجِ (6) التكْبيرِ، وليس كذلك الفاتِحَةُ. انتهى
__________
(1) جملة " ولما عرف المنصور بالله " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): بالبسملة.
(3) الواو ساقطة من (ب).
(4) في (ب): يقضي.
(5) في (ش): المنصور بالله.
(6) أي: انتشار أصواتهم بالتكبير، وارتفاعها، وأصل الرهج: الغبار، وأرهج الغبار: أثاره، ومن المجاز: ولَه بالشر لهج، وله فيه رهج، وأرهجوا في الكلام والصخب. وفي (ج) و (ش): وهج.(3/51)
كلامُه عليه السَّلامُ.
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في هذا الجواب الذي ذكره عليه السَّلامُ، فهو جوابٌ معروفٌ مُتَداوَلُ بين الأصوليِّين، فمنهم من قوَّاه، وهؤلاء نظروا إلى الجَهْر بعد التَكبيرة الأولى، ومنهم مَنِ اسْتضعفه، وهؤلاء نظروا إلى الجهر أوَّلَ الرَّكعة الثَّانية، وفي أول السورة بعد الفاتحة.
وَقَدِ اعتذر الشيخُ أبو الحُسين عن هذا بأن القارىء يبتدىء القراءَةَ بصوتٍ ضعيف، وفيه نَظَرٌ لوجهين.
أحدهما: أنَّه كان يلزمُ التّواتُر في التسمية عند قراءة السورة بعد الفاتحة، لأنها تكون بعد قوة صوت القارىء.
وثانيهما: كان يلزمُه أن لا يتواتَرَ الجهرُ بأولِ الفاتِحَة، لأنَّه يكون عند ضعفِ صوته، وأيضاًً فقد اشتركا في الجهر الذي يسمعهُ من بعده من المؤتمِّين سيَّما في الركعة الثانية، والحامِلُ على التَّبليغِ هو السماع، لا شدَّةُ الصَوتِ وخِفَّتُه، وقوَّتُه وضعفُه، بحيث لو كان ضعفُ صوته مستمراً، لنُقلَ أنَّه جَهَرَ.
وقد ذكر عن الفقيه علي بنِ عبد الله هذين الوجهين في الجواب في تعليقه على " الجوهرة "، وضعَّفَهُما.
إذا تقرر هذا، فهذه عِلةٌ مانعة مِنْ صِحَّة أحاديثِ الجهر، فَمَنْ ترك العمَلَ بها لهذه العِلة، لم يستحِق الإنكارَ عندَ أحدٍ من الأئِمَّة الأطهار، ولا عندَ غيرهم من عُلماءِ الأقطار، ولا يُنْسَبُ إلى تقديم الفُسَّاق على إمامي الأئِمَّة: الهادي والقاسم عليهما السَّلامُ.
الوجه الثامن: أنَّ هذِهِ الأحاديثَ الواردَةَ في هذه المسأَلَةِ هِيَ مِنَ(3/52)
الأحاديث الوارِدَةِ فيما تَعُمُّ به البلوى، مثل أحاديث الوضوءِ ممَّا مسَّتِ النَّار (1)،
__________
(1) أخرج مسلم (352)، وأبو داود (194)، والترمذي (79)، والنسائي 1/ 105 - 106 من حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " توضؤوا مما مست النار "، وفي رواية الترمذي: فقال له ابن عباس: يا أبا هريرة، أنتوضأ من الدهن، أنتوضأ من الحميم؟ فقال أبو هريرة: يا ابن أخي، إذا سمعت حديثاًً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا تضرب له مثلاً. وانظر تعليق الشيخ أحمد شاكر، رحمة الله عليه.
وأخرجه مسلم أيضاً (353) من حديث عائشة.
وأخرجه أبو داود (195)، والنسائي 1/ 107 من حديث أم حبيبة.
وأخرجه النسائي 1/ 106 - 107 من حديث أبي أيوب الأنصاري، ومن حديث أبي طلحة، ومن حديث زيد بن ثابت.
قال الحازمي في " الناسخ والمنسوخ " ص 47: وقد اختلف أهل العلم في هذا الباب، فبعضهم ذهب إلى الوضوء مما مست النار، وممن ذهب إلى ذلك ابن عمر، وأبو طلحة وأنس بن مالك، وأبو موسى، وعائشة، وزيد بن ثابت، وأبو هريرة، وأبو عزة الهذلي، وعمر بن عبد العزيز، وأبو مجلز لاحق بن حميد، وأبو قلابة، ويحيى بن يعمر، والحسن البصري، والزهري.
وذهب أكثر أهل العلم وفقهاء الأمصار إلى ترك الوضوء مما مست النار، وراوه آخر الأمرين من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وممن لم ير منه وضوءاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وعامر بن ربيعة، وأُبي بن كعب، وأبو أمامة، وأبو الدرداء، والمغيرة بن شعبة، وجابر بن عبد الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، ومن التابعين عبيدة السلماني، وسالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، ومن معهما من فقهاء أهل المدينة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأصحابه، وأهل الحجاز عامتهم، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وأهل الكوفة، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق.
والدليل على النسخ حديث جابر بن عبد الله: كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ترك الوضوء مما غيرت النار. أخرجه أبو داود (192)، والنسائي 1/ 108، وابن الجارود في " المنتقى " (24)، والبيهقي 1/ 155 - 156، وإسناده صحيح. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان وغيرهما. ورواه أحمد 3/ 374 - 375 من حديث جابر مطولاً، وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل وأكل القوم معه، ثم نهض، فصلى بنا العصر، وما مس ماء، ولا أحد من القوم.
وحديث عمرو بن أمية الضمري أنَّه رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تخير من كتف شاة، فأكل منها، فدعي إلى الصلاة، فقام وطرح السكين، وصلى ولم يتوضأ. أخرجه البخاري (208) و (675) و (2923) و (5408) و (5422) و (5462)، ومسلم (355)، والترمذي (1837).
وحديث ميمونة أن النبيض - صلى الله عليه وسلم - أكل عندها كتفاً، ثم صلى ولم يتوضأ. أخرجه البخاري (210)، ومسلم (356). =(3/53)
والغُسُلِ مِن التقاءِ الخِتَانَيْنِ (1) ونحوهما، وَقَدِ اختلف العلَمَاءُ كثيراً في خَبَرِ الواحد إذا كان فيما تَعُمُّ به البَلْوى هل يُقْبَلُ أم لا (2)؟، ولم
__________
= وحديث ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة، وصلى ولم يتوضأ. أخرجه مالك 1/ 25، والبخاري (207) و (5404) و (5405)، ومسلم (435)، وأبو داود (187)، والنسائي 1/ 108.
وأخرج أحمد 1/ 366 من طريقين عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن يوسف أن سليمان بن يسار أخبره أنَّه سمع ابن عباس - ورأي أبا هريرة يتوضأ، فقال: أتدري مما أتوضأ؟ قال: لا، قال: من أثوار أقط أكلُتها، قال ابن عباس: ما أبالي مما توضأت، أشهد لرأيت رسوِل الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف لحم، ثم قام إلى الصلاة وما توضأ. قال: وسليمان حاضر ذلك منهما جميعاًً. وسنده صحيح.
وقال الإمام النووي: كان الخلاف فيه معروفاً بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنَّه لا وضوء مما مسَّت النار.
وجمع الإمام الخطابي بين الأحاديث بأن أحاديث الأمر محمولة على الاستحباب، لا على الوجوب.
(1) انظر حديث أبي موسى في وجوب الاغتسال من التقاء الختانين في مسلم (349)، و" الموطأ " 1/ 46، والترمذي (108) و (109).
وحديث أبي هريرة في البخاري (291)، ومسلم (348)، وأبي داود (216)، والنسائي 1/ 110 و111، والطحاوي 1/ 56، والطيالسي (2449)، وأحمد 2/ 234 و347 و393 و470 - 471 و520، وانظر " فتح الباري " 1/ 396 - 398.
(2) خبر الواحد فيما تعم به البلوى، أي: يحتاج إليه الناس حاجة متأكدة مع كثرة تكرره لا يثبت به وجوب إلا إذا اشتهر أو تلقته الأمة بالقبول عند عامة الحنفية، وقالوا: إن عدم انتشاره وذيوعه يورث شكلاً، ولهذا لما سلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على رأس الركعتين ساهياً، وقال له ذو اليدين -دون سائر الحاضرين-: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ توقف في قبول خبره، وظن أنه مخطىء، فلمَّا وافقه الحاضرون، عمل بقوله.
والأكثرون على قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى إِذا صح إسناده دونما اشتراط اشتهاره وتلقي الأمة له بالقبول لإطلاق النصوص الدالة على وجوب العمل بالخبر، واتفاق الصحابة على العمل به في ذلك، ولأن شروط البيوع، والأنكحة، وما يعرض في الصلاة، والوضوء من الخارج من السبيلين، والمشي مع الجنازة، وبيع رباع مكة وإجارتها ووجوب الوتر ونحوه أثبته المخالف بخبر الواحد، وهو مما تعم به البلوى.
وانظر التفصيل في " المعتمد" 2/ 167 - 169، و" المحصول " 2/ 1/632 - 636، و" العدة في أصول الفقه " لأبي يعلى 3/ 855 و" فواتح الرحموت " 2/ 128 - 131، و" سلم الوصول لشرح نهاية السول " 3/ 170 - 173، و" تيسير التحرير " 3/ 112 - 115.(3/54)
يتكلَّمْ في هذه المسأَلَةِ القاسم والهادي عليهما السلام وأمثالهما من مُتَقَدمي الأئِمة، وأكثَرُ مَنْ تكلم فيها ووسع القولَ علماءُ الأصول، منهمُ السيدُ أبو طالب في كتاب " المجزىء "، فإنَّه تكلم في المسألة، ووسعَ القول، وذكر حُجَجَ الفَريقَيْنِ، ثُمَّ قال: وفيما ذكرناه تنبيه على طريق النَّظَرِ في المسألَة، فأشار عليه السَّلامُ إلى جواز الأمْريْنِ. وقال في أوَّل المسألة: ذهب بعضهم إلى أنَّ خبرَ الواحِدِ لا يُقْبَلُ فيه -يعني فيما تعُمُّ به البَلْوى- وإنَّما يُقْبَلُ مَا يَشيعُ نَقْلُه، ويجبُ العلمُ (1) به، وهو قول أكثَرِ أصحابِ أبي حنيفَة، وإليه ذهب شيخُنا أبو عبد الله، وحكاه عن أبي الحسنِ الكرْخي (2). وطريقُ نصْرَةِ القول الأولِ ما ذكره شيخُنا أبو عبد الله واعتمده، فإنه بَلَغَ في نصْرَةِ هذه المسألة نهاية ما في الوُسْع، فغايةُ أمرِ غَيْرِه مِمنْ ينْصُر هذه المسألة أنْ يفهم كلامَه، وما رواه فيها (3) استدلالاً وانفصالاً عَنِ الأسئلة والمُعارَضَاتِ. انتهى كلامه عليه السلام.
والقصد بإيرادِهِ بيانُ أنهُ كلامُ مَنْ يجوز للمختارِ أن يختارَ ذلِكَ، ولا يَحْرَجُ فيه. فإذا ثبت هذا، كانَ منَ الجائِز أنْ يترك العمَلَ بخبر الواحد في هذِهِ المسأَلَةِ، لأنَّها مِمَّا تعُمُّ به البلوى، لا لأنَّ الفُساقَ أرجَحُ عنْذنَا مِنْ أَئِمَّةِ التقْوَى، فيجبُ على هذا أن لو كان الجَهْرُ بالبَسْمَلَةِ واجباً، أن يتواتر
__________
(1) في (ب): " العمل "، وهو خطأ.
(2) هو الشيخ الإمام الزاهد مفتي العراق، شيخ الحنفية، أبو الحسن، عبيد الله بن الحسين بن دلال البغدادي الكرخي الفقيه، انتهت إليه رئاسة الحنفية بعد أبي خازم، وانتشرت تلامذته في البلاد، واشتهر اسمه، وبعد صيته، وكان من العلماء العباد ذا تهجد، وتأله، وزهد تام، ووقع في النفوس. من كبار تلامذته أبو بكر الرازي صاحب " أحكام القرآن ". صنف " المختصر"، وشرح " الجامع الصغير " وشرح " الجامع الكبير". وكان مولده سنة 260 هـ، ومات سنة 340 هـ. مترجم في " السير " 15/ 427.
(3) ساقطة من (ب).(3/55)
ذلِكَ، وهذا إنما يَرِدُ على الأحاديث التي أوردها السَّيِّدُ، فأمَّا الأحاديثُ التي فيها أنَّه عليه السلام كان يجْهَرُ، أو كان يُخَافتُ، فلا يَرِدُ هذا عليه، لأنهُ لا يَمْتَنِعُ تواتُرُ الجَهْرِ والإِخفاتِ عنه عليه السَّلامُ فِعْلاً لا قَوْلاً، فقد صنف علماءُ الأثر في ذلك كتباً منفردهَ، وادعَوُا التواتُر في الجانِبَيْنِ.
أما مَنْ ذَهَبَ إلى الإِخفات، فَقَدِ ادَّعى تواتُرَ ذَلِكَ في مَسْجِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإتصال عَمَل الأئمةِ والمصلين فيه منْذُ تُوُفَيَ عليه السلام إلى زَمَنِ مالك، فإنَ مالكا أدْركَ الناسَ على ذلك، ولم يُنْقَلْ أنَّ أحداً أكْرهَ الناسَ على تغيير شَيْءٍ في الصَّلاةِ، ولا نهاهُمْ عَنِ الجَهْرِ بعد أنْ كانوا عليه، مع ما رُويَ في ذَلِكَ مِنَ الأحاديث (1) الصَّحيحَةِ الكَثِيرَةِ التي أجْمَعَ علَمَاءُ النَقْلِ على صِحَّتِهَا وَقُوَّتها (2)،
__________
(1) في (ب): الأخبار.
(2) روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهم كانوا يفتتحون الصلاة بـ (الحمد لله رب العالمين). أخرجه البخاري (743) في صفة الصلاة، باب: ما يقول بعد التكبير، وأخرجه الترمذي (246) وعنده " القراءة " بدل " الصلاة " وزاد: عثمان، وأخرجه مسلم (399) بلفظ: " صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم "، وأخرجه أحمد 3/ 264، والطحاوي 1/ 202، والدارقطني 1/ 315، وقالوا فيه: " فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم "، وأخرجه ابن حبان في " صحيحه " (1794) بتحقيقنا، وزاد: " ويجهرون بالحمد لله رب العالمين "، وفي لفظ النسائي 2/ 135، وابن حبان (1790)، والبغوي (582): " فلم أسمع أحداً منهم يَجْهَرُ ببسم الله الرحمن الرحيم "، وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في " مسنده ": (2881): " فكانوا يستفتحون القراءة فيما يجهر به بالحمد لله رب العالمين "، وفي لفظ للطبراني في " معجمه الكبير" (739)، وابن خزيمة (498)، والطحاوي 1/ 203: " وكانوا يسرون ببسم الله الرحمن الرحيم " ورجال هذه الروايات كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيح كما قال الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 326 - 327.
ولأحمد 4/ 85، والترمذي (244)، والنسائي 2/ 135 من طريق قيس بن عَبايَة، عن ابن عبد الله بن مفضل (واسمه يزيد كما جاء مصرحاً به في رواية أحمد 4/ 85) قال: سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال لي: أي بني، مُحْدَث، إياك =(3/56)
مع ما يَشْهَدُ (1) لِذَلِكَ مِنْ وُجُوبِ التَوَاترِ في الجَهْرِ لو (2) كان صحيحاًً مستمراً كما قررَهُ المنصور وأبو طالب، واختارَتْه (3) الحنَفيَّةُ.
__________
= والحدث، قد صليتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع أبي بكر، ومع عمر، ومع عثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت، فقل: (الحمد لله رب العالمين). وحسنه الترمذي، وقد حقق القول فيه الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 232 - 233، وأيد تحسين الترمذي له.
وأخرج مسلم (498) من طريق بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بـ (الحمد لله رب العالمين).
قال الزيلعي: وهذا ظاهر في عدم الجهر بالبسملة، وتأويله على إرادة اسم السورة يتوقف على أن السورة كانت تسمى عندهم بهذه الجملة، فلا يعدل عن حقيقة اللفظ وظاهره إلى مجازه إلا بدليل.
ثم قال 1/ 334 - 335: ومما يدل على أن البسملة ليست آية من السورة، فلا يجهر بها: ما رواه البخاري في " صحيحه " (4474) من حديث أبي سعيد بن المعلى قال: " كنت أصلِّي في المسجد، فدعاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم أُجبه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: ألم يَقُل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} ثم قال لي: لأعلمنَّك سورةً هي أعظم السُّوَر في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، ثم أخذ بيدي، فلمَّا أراد أن يخرج، قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن؟ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ". قال الزيلعي: فأخبر أنها السبع المثاني، ولو كانت البسملة آية منها لكانت ثمانياً، لأنها سبع آيات بدون البسملة، ومن جعل البسملة منها إما أن يقول: هي بعض آية، أو يجعل قوله {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخرها آية واحدة.
ومما يدل أيضاًً على أن البسملة ليست من السورة ما أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له وهي {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} انتهى. قال الترمذي: حديث حسن، ورواه أحمد في " مسنده "، وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم في " مستدركه "، وصححه، وعباس الجشمي، يقال: إنَّه عباس بن عبد الله، ذكره ابن حبان في " الثقات "، ولم يتكلم فيه أحد فيما علمنا، ووجه الحجة منه أن هذه السورة ثلاثون آية بدون البسملة بلا خلاف بين العادين، وأيضاًً فافتتاحه بقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} دليل على أن البسملة ليست منها.
(1) في (ب): شهد.
(2) في (ش): ولو.
(3) في (ب): واختاره.(3/57)
وأما الجَهْرُ بِالبَسْمَلَة، فقد رُوَيتْ فيه أحاديث كثيرة، وصَنَّفَ في ذلِكَ غَيْرُ واحدٍ مِنَ الحُفَّاط تصانِيفَ مُفْرَدةً، وقد جَمَعَ الحافظ الكبير أبو بكر بنِ الخطيبِ (1) أحاديثَ الجَهْرِ في ثلاثةِ أجزاء (2).
إذا عرفت هذا، فدعوى التَّواتُر في ثُبوتِ الجَهْرِ والإِخفات غيرُ مُسْتَنْكَرٍ عَقْلاً ولا نَقْلاً، أما العَقْلُ فلأنَه تَواتُر فيما تَعُمُّ بِه البَلْوى، ويجب في العادَة ظُهورُه وشُهْرَتُه، وأما النقْل فلأنَ الرُّوَاة (3) في الجانِبَيْنِ عددٌ
__________
(1) هو الحافظ الكبير العلامة الناقد أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي البغدادي، صاحب التصانيف الكثيرة النافعة المتوفى سنة 463 هـ.
قال ابن ماكولا: كان أبو بكر آخر الأعيان ممن شاهدناه معرفة، وحفظاً، وإتقاناً، وضبطاً لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتفنناً في علله وأسانيده، وعلماً بصحيحه وغريبه، وفرده ومنكره ومطروحه، ولم يكن للبغداديين بعد أبي الحسن الدارقطني مثله. مرجم في " السير " 18/ 270 - 297.
(2) أوردها الإمام الحافظ الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 341 - 358، وتكلم على كل حديث منها، وأبان عن درجته بما تقتضيه الصناعة الحديثية، ثم لخص كلامه بقوله: وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عدمهما أو عدم أحدهما، وكيف تكون صحيحة، وليست مخرجة في شيء من الصحيح، ولا المسانيد ولا السنن المشهورة، وفي روايتها الكذابون والضعفاء والمجاهيل الذين لا يوجدون في التواريخ، ولا في كتب الجرح والتعديل كعمر بن شمر، وجابر الجعفي، وحصين بن علي الأصبهاني الملقب بجراب الكذب، وعمر بن هارون البلخي، وعيسى بن ميمون المدني وآخرون أضربنا عن ذكرهم ...
ثم نقل عن صاحب " التنقيح " قوله: وهذه الأحاديث التي استدل بها على الجهر بالبسملة في الجملة لا يحسن بمن له علم بالنقل أن يعارض بها الأحاديث الصحيحة، ولولا أن يعرض للمتفقه شبهة عند سماعها، فيظنها صحيحة، لكان الإضراب عن ذكرها أولى، ويكفي في ضعفها إعراض المصنفين للمسانيد والسنن عن جمهورها، وقد ذكر الدارقطني منها طرفاً في " سننه " فبين ضعف بعضها، وسكت عن بعضها، وقد حكى لنا مشايخنا أن الدارقطني لما ورد مصر، سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر، فصنف فيه جزءاً، فأتاه بعض المالكية، فأقسم عليه أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال: كل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجهر فليس بصحيح، وأما عن الصحابة، فمنه صحيح وضعيف، ثم تجرد الإمام أبو بكر الخطيب لجمع أحاديث الجهر، فأزرى على علمه بتغطية ما ظن أنَّه لا ينكشف، وقد بينا عللها وخللها.
وانظر " شرح السنة " 2/ 53 - 57 للبغوي، و" الناسخ والمنسوخ " ص 79 - 82 للحازمي.
(3) في (ب): الرواية.(3/58)
كثيرٌ، وجمٌ غَفِير.
الوجه التاسع: سلَّمنا سلامَةَ هذا الحديثِ منْ جميعِ هذِهِ المَطَاعِنِ، فإنَّه حديث مُرْسَل، وكَذلِكَ أكْثَرُ ما يرويه الأصحاب في هذا البابِ هُوَ مِنْ قبيل المراسيلِ، لكِنْ لنَا أنْ نُنَازعَ في قبولِ المراسِيلِ، وفي المسْأَلَةِ خلافٌ ظاهرٌ، قديمٌ وحديثٌ، ولا أَعْرِف كتاباًً في الأصول الفِقْهِيَّةِ إلاَّ وفيه ذِكْرُ الخلافِ في هذِهِ المَسْأَلَة، وَلَمْ يَزَلِ الفَريقان منْ القابلين للمِرَاسِيلِ والرَّادِّينَ يَسْتَعْملونَ ما ذهبوا إليه مِنْ قَبولٍ ورَدٍّ من غير نَكيرٍ.
فالإِنكارُ عَلى مَنْ ذهبَ إلى أَحَدِ المَذْهَبَيْن خلافٌ (1) لِمَا عليه علماءُ الإسْلامِ مِنَ السَّلَفِ والخَلَفِ.
فإذا جازَ أَنْ نَكونَ مِمنْ يَردُّ المَرَاسِيل، لَمْ يَكُنْ في (2) عَمَلِنَا (3) بالمسْنَدِ تقديمٌ لِرِوايَة فُسَّاقِ (4) التأْويلِ على الهادي والقاسم عليهما السلامُ، وإنما فيهِ تقديمٌ لِرِوَايَةِ الثِّقاتِ مِنَ المتَأَوِّلينَ وغيرِهِم على رِوَايَةِ المجاهيلِ الذين بَيْنَ الهادي والقاسم، وبَيْنَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِمن لم يعْلَم مَنْ هوَ، ولا ما حَالُهُ، وهذا وَجْهٌ ظاهِرٌ.
فإنْ قيل في عَدَمِ القَبولِ لمرْسَلِ الهادي عليه السلام سوءُ ظَنٍّ بِهِ وتُهْمَةٌ لَهُ بالتَّقْصِيرِ والتَّسَاهُلِ.
قلنا: حاشى يحيى بنِ الحسَيْنِ مِنْ سُوءِ الظنَ والتُّهْمَةِ بالتَقْصِيرِ، ولكِنَّه غيرُ خافٍ على أهل العلم أنَّ المجتهدَ قد يبني قَبُولَ الحديثِ على
__________
(1) في (ش): خلافاً.
(2) ساقطة من (ب).
(3) تحرفت في (ش) إلى: علمنا.
(4) في (ش): رواية فاسق.(3/59)
مَذْهَبٍ لَهُ مُخْتَلَفٍ فيه، فيكون العالِمُ الرَّاوي للحديث (1) غيرَ مُقَصِّرٍ؛ لأنَّه بنى روايَتَهُ على ما هو عندَهُ حَقٌّ وصوابٌ، بَلِ العَمَلُ بذلِكَ الحديثِ هُوَ الواجِبُ علَيْهِ بإجماعِ الأمَّةِ، فكيف يكون مُقَصِّراً أو مَلُوماً (2) بأَدَاءِ ما أَوْجَبَه اللهُ عليه وكَلَّفَهُ بِهِ؟ وأمَّا غَيْرُهُ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، فلا يجوزُ له تقليدُه في قَبُولِ الحَدِيث إذا كان قَبُوله ينْبَنِي على قاعِدَةٍ مُخْتلَفٍ في صحَّتِها حتى يتَّفِقَ مذهَبُهُما في تلك القَاعِدةِ.
فمثالُ (3) ذلكَ: أنَّ العُلَمَاءَ مختلفونَ في قَبُولِ المَجَاهِيلِ كما قدَّمْنَا ذلِك (4) وقد قال عبدُ الله بنُ زَيْدٍ: هو مَذْهَبُنَا، وتوقَّفَ فيه السيدُ أبو طالب عليه السَلام، وذهبت إليها الحنفِيَةُ بأَسْرِهَا (5)، وليس القولُ بِهِ مِنَ القَبَائِح التي تنَزَّهَ عَنْهَا الهادي والقاسمُ عليهما السَّلامُ، فليس يمْنَعُ أن يَذْهَبَا إلى جوازه، فَيُرْسِلان بَعْضَ الأحاديثِ عَنْ مَجْهُولٍ، وهذا جائِزٌ لهما ولغَيْرِهِمَا لا مانِعَ مِنْهُ، لا عَقْلاً ولا سَمْعَاً، لكِنْ مَنْ كان لا يَقْبَل المجْهُولَ، كانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِع مِنْ قَبُولِ المُرْسَلِ إذا أَرْسَلَهُ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ مَذْهَبَه في هذِهِ المَسْأَلةِ، وكذلِكَ غيرُ هذِهِ المَسْأَلَةِ مِنْ مَسَائِلِ الخِلاَفِ في هذا البَابِ، مثلُ حديث المُدَلِّسِ، فإنه مقبولٌ عِنْدنَا، لا أَعْلَم فيه خِلافاً عندَ أَصْحَابِنَا، وفيه خلاف (6)، فَلَوْ ذهبَ ذَاهِبٌ إلى أنهُ غَيْرُ مقبولٍ، كانَ لَهُ أنْ
__________
(1) في (ج): المحدث.
(2) في (ش): وملوماً.
(3) في (ج): ومثال.
(4) انظر 1/ 372 وما بعدها.
(5) فيه نظر، بينته في التعليق في 1/ 319، فارجع إليه.
(6) الذي رجحه علماء الحديث أن الموصوف بالتدليس إذا صرح بالسماع ممن روى عنه يقبل حديثه، وما رواه بلفظ محتمل لم يصرح فيه بالسماع لا يقبل. انظر التفصيل في " تنقيح الأنظار " للمؤلف وشرحه للصنعاني 1/ 346 - 376، وفي بيان المدلسين وطبقاتهم تواليف، =(3/60)
لا يَقْبَلَ المُرْسَل مِمَّنْ يَقْبَلُ المُدَلِّسَ، واللهُ سبحانهُ أَعْلمُ.
الوجه العاشر: سلَّمنا أنَّ المُرْسَلَ حجَّةٌ إذا لَمْ يُعَارِضْهُ المُسْنَدُ، أمَّا مَعْ مُعارَضَةُ المُسْنَدِ (1) لَهُ، فَلَنَا أَنْ نُرَجِّحَ المسْنَدَ على المُرْسَلِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ جماعةٍ وافِرَة مِنْ أهلِ العلْمِ.
وقد نصَ الإِمامُ يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ في كتابِ " المعيار " على تَرجيحِ المُسْنَدِ على المُرْسَلِ، واحتجَّ على ذلكَ بأنَ المُسند مُجْمَعٌ على قَبُولهِ، والمُرْسلُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وقد أشار الشَّيخُ الحسنُ بن مُحَمد الرصاص في كتابِهِ " الفائق "، وحفيدُه أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ في كتابهِ " الغُرر " إلى تفصيل حَسَن في ذلِكَ، وهو تفصيل المُسْندِ المَعْروفِ رجالُ إسنادِه الذي ادعى مُسْنِدُهُ عَدَالَةَ رُوَاتِهِ، وَوَثَّقَهم. وقال في "الجوهرة" ما لفظه: والصَحِيحُ أنَّ الخَبرَيْن فيما بَعْدَ التَّابِعين، أو في زَمَانِنَا هذا مَتَى وَرَدَ أو كان المُسْندُ معْلُومَاً، ورِجَاله غيْرَ مغمورين، ولا مُلْتَبِسي العَدَالَةِ والضبْطِ، فإن المُسْنَدَ أوْلى بِلا مِرْيَةٍ، لأنَّ المُرْسِلَ حيثُ أَرْسَلَ لا بُدَّ لَهُ مِنْ سَنَدٍ إنْ لَمْ يُشَاهِدْ رَسولَ اللهُ - صلى الله عليه وسلم -، ولا سَمِعَ مِنْهُ، ولكِنْ يَتَطَرقُ (2) إلى المُرْسِلِ مِن السهْوِ والذهُول عَنْ حالِ ما يَروي عَنْهُ ما لَمْ يَتَطَرقْ إلى المُسْنِدِ الَّذي قَدْ أبدى صفحَتَهُ، فكان أولى، وحسن الظنِّ بِمَنْ أَرْسلَ، وإنْ كانَ يُوجِبُ قبُولَ رِوَايَتهِ، إلاَّ أنَّ الظَّن في المسندِ صارَ أقوى لما ذكرنا، فكان أرجَحَ، والعلماءُ مُجْمِعُون على
__________
= منها " التبيين في أسماء المدلسين " لابن العجمي، و" طبقات المدلسين " لابن حجر، و" التأنيس بشرح منظومة التدليس " للغماري، و" أسماء المدلسين " للسيوطي، و" جامع التحصيل "، وكلها مطبوعة.
(1) جملة " أما مع معارضة المسند " ساقطة من (ج).
(2) في (ج): ينظر.(3/61)
قَبُولِ المُسْنَدِ، وكثيرٌ دَفَعَ المُرْسَلَ، والظُّن يَقْوَى لأقَلّ (1) مِنْ هذِهِ الوجُوه. انتهى كلام صاحبِ " الجوهرة ".
وقد قرَّره الفقيهُ علي بنُ عبدِ الله في تعليقه غايةَ التَّقرير، وَلَمْ يَزِدْ في شرحه على أن قال: إنَّه كما ذكر، فالذي يختار هذا، لم يَأْتِ ببديعٍ، ولا ذَهَبَ إلى غريبٍ، بلِ اختارَ القَوْلَ المَنْصُورَ في مَدْرَسِ الزيْدِيَّةِ في أُصُولِ الفِقْهِ في هذِهِ الأعْصَارِ.
وقد ردَّ المنصورُ باللهِ عليه السَّلام على مَنْ رَجَّح المُرْسَلَ على المُسْنَدِ، ذكر ذلك في " الصَّفْوَةِ ".
وكذلِكَ الشَيخ أبو الحسَيْنِ في " المعتمد " (2)، والحاكم في " شرح العيون ".
فأين تقديمُنا لِرِوَاية فُسَّاقِ التَّأْويل على رِوَايَةِ الهَادي، والتقديمُ إنَّمَا يصحُّ لو كانت روايةُ الهادي عليه السَّلام مسْنَدَةً، وهو عليه السَّلام مُدَّعٍ لصحَّتِها، مُعَدِّلٌ لروَاتِها، فحينَئِذٍ إذا عَمِلْنَا (3) بِرِواية غَيْرِهِ، كنَّا قَدْ رَجَّحْنا تصحيحَ غَيْرِهِ على تصحيحه، وأمَّا إذا رجَّحْنا حَدِيثَ غَيْرِهِ عَلَى (4) ما أرْسَلَهُ لأجْلِ مَنْ بيْنَه وبينَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - ممَّنْ لَمْ يَنُصَّ عليه السلام على عَدَالَتهِ، ولا يلزَمُنا العَمَل بِرِوَايته، فإنَّا لا نكونُ قد رجَّحْنَا قَبولَ الفسَّاقِ على قَبولهِ، والفرقُ بينَ هذا الوَجْهِ والذي قَبْله أنَّ الَّذي قَبْلَهُ في رَدِّ المُرْسَلِ منْ أصلِهِ، وهذا في ردِّه إذا عارَضَهُ المُسْنَدُ على تسليم أنَّهُ حجَّةٌ لو لم يُعارَضْ.
__________
(1) في (ج): " لأقوى "، وهو خطأ.
(2) 2/ 180 - 181.
(3) في (ب) و (ش): " علمنا "، وهو خطأ.
(4) من " تصحيحه " إلى هنا ساقط من (ج).(3/62)
الوجه الحادي عشر: أنَّ هذا كُلهُ بناءٌ على أنَّا ما تَمَسَّكْنَا في المسأَلَةِ إلأَ بحديثِ فاسِقِ التَّأْويلِ، وهذا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فإن أحاديث الإخْفَاتِ قد رواها أَهْلُ العَدْلِ والتَّوْحيدِ منْ أَهْل البَيْت وغيرُهم، كالأميرِ الحُسَيْنِ، والقاضي زيدٍ، وَلَمْ يَطْعَنُوا فيها، وإنَّما تعرَّضُوا للجواب عَنْها بالتَرجيح والتأويل، وقد ذكر روايتَها المنصورُ باللهِ عليه السلامُ، ولهذا تَعَرَّض لتأويلِهَا، ولو لم تكن ثابتةً عندَهُ، لم يتأوَّلْها، وقد ذكرنا قول الفقيه علي بنِ عبد الله في تعليق " الجوهرة " إنَّ الإِنصاف، أنَّ المخافتة كانت مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كما كان الجَهْرُ منْهُ، فَهذِهِ روايةٌ مِنْ عالِمٍ مِنْ (1) أهْلِ العَدْلِ والتَّوْحِيدِ، بل مِن رؤوس شِيعَةِ البَيْتِ عليهمُ السَّلامُ، بلْ هذِهِ دَعْوى لِلْعِلْم بِثُبوت المخافَتَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
وبالجُمْلَة فإنَّ رِوَايَةَ أحاديثِ الإخفات في كُتُبنَا مشهورَةٌ على حَدِّ شُهْرةِ أحاديثِ الجَهْرِ، لأنَّ مَنْ تَكَلَّمَ في هذِهِ المسألة تكَلَّمَ بأَدِلَّةِ الفريقين مِنَ الشِّيعَةِ، والشَّافِعيةِ، والمعتزلةِ وغيرهم، فَمنْ أينَ للسيدِ أنَّ أحاديث الإخفات ما وَرَدَتْ إلَّا مِنْ طريقِ فُسَّاقِ التَأويلِ وكفَارِه حَتَّى يقطع عَلَيْنَا حِينَ تَوَهَّمَ أنَّا عَملْنَا (2) بِهَا أنَّا قَدْ قدَّمنا رِوَايَةَ فُسَّاقِ التَّأويلِ على رِوايةِ (3) أئِمَّةِ الهُدى؟ وأكثَرُ ما في البابِ أنْ يَكونَ السيدُ لَمْ يَعْرفْ لأحاديث الإخفات طريقاً عَنْ أهْلِ العَدْلِ، فإذا لم يَعْرِفِ الطَّريقَ في نَفْسِهِ، انتفتِ الطَّريقُ في نَفْسِ الأمر.
الوجه الثَّاني عشر: أنَّ السيدَ نَصَّ على أنَّا نُرَجِّحُ فُسَّاق التَّأويلِ عَلَى
__________
(1) " عالم من " ساقط من (ب)، وفي (ج): عالم.
(2) في (ب): علمنا.
(3) ساقطة من (ب).(3/63)
الهادي والقاسمِ عليهما السَّلامُ، وأقصى ما في البابِ أنهما -عليهما السَّلام- ادَّعَيَا صِحَّةَ حديثٍ مُسْنَد، وتَعْدِيلَ رُوَاتِهِ، ثُمَّ إنَّا قَدَّمْنَا بعضَ الأحاديث عَلَى ذلِكَ الحَديثِ لأمْرٍ يتعلَّقُ بغيرِهِما منْ رجالِ إسنادِه، فهذا يكونُ ترجيحاً على مَنْ رَوَيَا عَنْهُ، لا ترجيحاً عَلَيْهمَا. فَمِنْ أين للسَّيِّد أنَّا رجَّحْنَا عليهما، لولا مَحبَّةُ التَّشنيعِ، وذكرُ ما يَخْبُث سماعه، ويفحُشُ ذِكْرُهُ مِنَ العبارات المهُولةِ، وإنَّما يصدُق كلامُه لو كانا -عليهما السلام- سَمِعَا منْ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بغير واسِطَةٍ، وعارَضَهما فاسقُ تَأْويلٍ (1)، وكنَّا أيضاً سَمعْنَا عَنْهُما وَعَنْ فَاسِقِ التأْوِيلِ بغير واسطة (2)، ثُمَّ رجَّحْنا فاسِقَ التَّأْوِيلِ، فحينئذٍ يصدق كلام السَّيِّدِ لكِنْ " لوْ " غيرُ مُثْمِرَةٍ للصِّدْقِ، واللهُ أَعْلَمُ.
وبعدُ، فإنَّا قَدْ ذكرنا فيما تقدَّمَ كلامَ المنصورِ باللهِ عليه السلامُ في تقديمِ رِوايةِ الخارجِيِّ، وترجيح حديثه لاعتقادِهِ أنَّ الكَذِبَ [كفر (3)] على رِوَايَةِ العَدْلِ الصَّحيحِ الاعتقادِ، وقد نَصَّ ذلِكَ المنصورُ باللهِ عليه السلام، والحاكم في " شرح العيون " حكايةً عَنْ غَيْرِه، وصاحبُ " الجوهرة "، ولم يُنْكِرْ ذلِكَ أَحَدٌ.
وقد ذكرنا قولَ المؤيَّد بالله في " الزِّيادات " إنَّ تقليدَ غَيْرِ الأئِمَّةِ عليهمُ السلامُ أرجح مِنْ تقليدهم، وبيَّنَّا ما في ذلِكَ مِنْ دَعْوَى الإجماع، وفرَّقنا بين الترجيحِ والتَّفصيلِ بِمَا لا (4) مَزِيدَ عَلَيْهِ، فتأمَّلْهُ في مَكَانهِ (5)
__________
(1) في (ش): التأويل.
(2) من قوله: " وعارضهما فاسق " إلى هنا سقط من (ب)
(3) زيادة لا بد منها أخلت بها الأصول، وانظر 2/ 409.
(4) في (ب): " بالا "، وهو خطأ.
(5) في (ب): " حكاية "، وهو خطأ.(3/64)
تَعْرِفْ أنه لَوْ كان منَّا ما لَمْ يَكُنْ منْ دعْوى السيد لمْ يَكُنْ في ذلكَ ما يُوجِبُ الإنْكارَ، ولا كان ذلِكَ خروجاً عَنْ مذاهبِ الأئِمَّة الأطهار، وليس القَصْد بِهذا الوَجْهِ الاعترافَ بتقديمِ رِوايَةِ غَيْرِ الأئِمةِ (1) عَلَى رِوايَتهمْ، ولكن فيه إلزامُ السَّيِّد تَخْطِئَة منْ جوَّز ذلِكَ منْهُم كالمنصور باللهِ وغَيْرِهِ.
فإنْ قُلْتَ: فَهذا الكلَامُ إنَّما هو فيما رَوَى الهادي عليه السَلامُ مِنْ ذَيْنِك الحديثين في الجَهْر، فَهلاَّ تكلَّمْتَ على سائِرِ الأحاديث التي ذكرها القاضي زيد في ذلك؟
قلتُ: خشيتُ (2) التَّطويل والإملالَ، ففي تلك الأحاديثِ كلامٌ طويلٌ، وهذِهِ الوُجُوهُ تعُمُّ تلكَ الأحاديثَ أيضاًً، ولو بسطتُ القوْلَ، لذكرتُ ما يَخُصُّ تلكَ الأحاديثِ على انفرادها، وفي هذا كفايةٌ وتعريفٌ لكثرة المحَامِل (3) على السَّلامَةِ لِمنْ أرادَها، وسَعَةِ الطُّرُقِ إلى الظَّنِّ الجميل لِمنْ أحبَّها، وبتمام هذا الكلامِ تَمَّ الجواب (4) على المسألة الثَّالِثَة، ولله الحَمْدُ والمنَّةُ.
قال: المسألةُ الثانِيةُ: إنْ قيلَ: الصَحيح منْ حديثِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أخرج البخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود، وكذلك أصحابُ الصِّحاح، وهي معروفَةٌ عِنْدَ المُحَدِّثين والفقهاء، وفي بعضها خلافٌ، فأمَّا ما رُوي في غَيْرِ تِلْكَ الكُتُبِ، فَلَيْسَ بصحيحٍ، إلى قوله: أمَّا هذا الفصل، فزعم القائِلُ به أنَّ مُؤلِّفَ (5) الصِّحاح أعرفُ الناسِ به، وقد تعرَّضُوا لحَصْرِ
__________
(1) في (ب): رواية.
(2) في (ش): خشية.
(3) في (ب): الحامل.
(4) في (ش): الكلام.
(5) في (ش): مؤلفة.(3/65)
الصَّحيحِ، فما لم يذكُرُوه فهو غَيرُ صَحِيحٍ عندَهُم، وما كان غيرَ صحيحٍ عندَهم، وَجَبَ أن نَحْكُمَ بأنَّه غيرُ صَحيح، وذلِكَ لمعرفتهم (1) واطِّلاعِهم. وهذا القولُ في غاية الفَسَادِ، والسيِّد عِزُّ الدِّين -مَتَعَ اللهُ ببقائِهِ المسلمينَ- لا يقولُ بِهِ في غَالِبِ ظَنِّي، وإلاَّ لَزِمَهُ نَفْي " حَيَّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ " في الأذان، وإنَّما حَكيته، لأنِّي كنت أَفْهَمُه مِنْ حيّ الفقيهِ الصَّالحِ المُحَدِّث أحمد بنِ سليمان الأوزريّ رحمه الله فَهْمَاً لا نصَّاً مِنْهُ، وأن ما يَذْهَبُ إليه هذا المفهومُ حكايةً عنْ مَشَايخِهِ مِنْ مُحَدِّثي الفُقَهاءِ.
أقول: كلام السَيِّد جمال الدين في هذه المسألة قد (2) تقدَّم الجوابُ على أكثَرِهِ، وقد رَأيْتُ أَنْ أذكُرَ مِنْهُ ما تَمَسُّ الحَاجَة إلى ذِكْرِهِ مِنْ دونِ استقصاءٍ، فإنَّ التَّكْرَارَ غَيْرُ مُفيدٍ ولا مَقْصُودٍ، وقد ذَكَرَ السَّيدُ عن المُحَدِّثين ما لم يَذْهَبُوا إِلَيْهِ مِنَ القوْلِ بِضَعْفِ ما ليس في الصِّحاح، وفي الحقيقَةِ أنَّهُ لا يلزَمُ جوابُ كَلَامِ السَّيِّدِ هذا، لَأنَّهُ اعتراضٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ، واحتجاجٌ على غَيْرِ خَصْمٍ، ولكنْ لا بدَّ مِنْ ذكرِ إشكالاتٍ يَسِيرَةٍ عَلَى ما ذَكَرَهُ.
الإِشكال الأول: أنَّ المحدِّثينَ قد نصُّوا على عَكْسِ ما ذَكَرَهُ السيد، وظَهَر ذلِكَ عَنْهُم ظُهورَاً لا يكادُ يَخْفى على مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِعِلْم الحديثِ، ومِنَ المشهُورِ المستفيضِ عَنِ البُخارِيِّ أنَّه قال: إنَّه اختارَ حدِيثَه مِنْ مِئَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ صحيحٍ، مَعْ أنَّ صَحيحَه لا يَشْتمِلُ إلاَّ عَلَى قَدْرِ سِتَّة آلافِ حَدِيثٍ (3)، فَمَنْ نَصَّ على أنَّه أَخْرَجَ سِتَّةَ آلافِ حَدِيثٍ مِنْ مِئَةِ
__________
(1) في (ب): لمعرفته.
(2) في (ب): وقد.
(3) كذا قال هنا، وقال في " تنقيح الأنظار " نقلاً عن الحافظ العراقي 1/ 56: إن عدد أحاديثه بالمكرر سبعة آلاف ومئتان وخمسة وسبعون حديثاًً، والصواب أن عددها بالمكرر (7563) حديثاً، كما في فتح الباري الطبعة السلفية، بترقيم المرحوم الأستاذ فؤاد عبد الباقي.(3/66)
أَلْفِ حَدِيثٍ صحيحٍ، كيف يذهبُ إلى أنَّ ما ليس في كتابه، فليس بصحيحٍ، أو يقال: إنَّه تعرَّض لِحَصْرِ الصَّحِيحِ (1)؟
وقد روى النَّواوي في " شرح مسلم " (2) عن الحافظ الكبير أبي زُرْعَةَ الرازي (3) أنَّه ذكر " صحيح مسلم "، وأنكر عليه، وقال: يُطرِّقُ (4) لأهْلِ البِدَعِ علينا، فيَجِدُونَ السبيلَ بأنْ يقولُوا إذا احتجَّ عَلَيْهِمْ بحديثٍ: ليس هذا في الصَّحيحِ.
قال سعيد بن عمرو (5): فلمَّا رَجَعْتُ إلى نَيْسابورَ، ذكرتُ لمسلمٍ
__________
(1) قال أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري: كنا عند إسحاق بن راهويه، فقال: لو جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع " الجامع الصحيح ".
وروى الإسماعيلي عنه قال: لم أخرج في هذا الكتاب إلا صحيحاً، وما تركت من الصحيح أكثر. قال الإسماعيلي: لأنَّه لو أخرج كل صحيح عنده لجمع في الباب الواحد حديث جماعة من الصحابة، ولذكر طريق كل واحد منهم إذا صحت، فيصير كتاباًً كبيراً جداً.
وقال أبو أحمد بن عدي: سمعت الحسن بن حسين البزار يقول: سمعت إبراهيم بن معقل النسفي يقول: سمعت البخاري يقول: ما أدخلت في كتاب " الجامع " إلا ما صح، وتركت من الصحيح حتى لا يطول. " هدي الساري " ص 7.
(2) 1/ 25 - 26.
(3) هو الإمام الحافظ محدث الري أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم بن يزيد القرشي المخزومي المتوفى سنة 264 هـ. كان من أفراد الدهر حفظاً وذكاء وديناً وإخلاصاً وعملاً. قال إسحاق بن راهويه: كل حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي ليس له أصل، وشهد له بالإمامة صاحبه أبو حاتم الرازي، وكان يحدث عنه فيقول: حدثني أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم ابن يزيد القرشي، وما خلَّف بعده مثلَه علماً وفهْماً وصيانة وحذقاً، وهذا ما لا يرتاب فيه، ولا أعلم من المشرق والمغرب من كان يفهم في هذا الشأن مثله، ولقد كان من هذا الأمر بسبيل.
قال الإمام الذهبي: يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والمخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنه جراح. مترجم في " السير " 13/ 65 - 85.
قلت: وكلامه الذي نقله المصنف عنه من " شرح مسلم " للنووي، موجود في كتابه " الضعفاء " 2/ 675 - 677.
(4) في (ج): وقد تطرق.
(5) هو الإمام الحافظ الجوال، أبو عثمان سعيد بن عمرو بن عمار الأزدي البرذعي، =(3/67)
إنكارَ أبي زرْعَةَ، فقال: إنَّما قلت: صحيحٌ (1).
قال سعيدٌ: وقَدِمَ مُسْلِمٌ بَعْدَ ذلِكَ الرَّيَ، فبلغني أنَّه خَرَجَ إلى الحافِظِ أبي عَبْدِ اللهِ [محمد بن] مُسْلم بنِ وارَة (2)، فجفاه وعاتَبَهُ على هذا الكتابِ، وقال له نحواً مِمَّا قال لي أبو زُرْعَةَ مِنْ تطريقِهِ للمبتدِعَةِ عَلَيْنَا أن يقولوا ما تقدَّمَ، فأجاب، فقال (3): إنَّما أخرجتُ هذا الكتابَ، وقلت: هو صحيحٌ، وَلَمْ أَقُلْ إنَّ ما لَمْ أُخَرِّجْهُ في هذا الكتاب فَهو ضَعيفٌ، فَقبِلَ عُذْرَهُ وحدَّثَهُ. انتهى.
قلتُ: فانظر إلى هذيْنِ الحَافِظَيْن الكبيرين: أبي زُرْعَةَ، وابنِ وارة كيف اشتدَّ نكيرُهُما على مُسْلمٍ لما توَهَّمَا أنَّه ادَّعى حَصْر الحديث الصَّحِيح حَتَى صرَّح بالبراءَةِ مِنْ ذلِكَ، حَتَّى إنَّ ابنَ وارَة جفاهُ، وامتنَعَ مِنْ تحديثِهِ، حَتَّى بَيَّنَ أَمْرَ ذلِكَ، ثُمَّ حدَّثَهُ بَعْدَ المَعْرِفَةِ ببراءَتِهِ مِنْ ذلِكَ (4).
فكيفَ يُنْسَبُ إلى هُؤلاءِ القَوْلُ بانحصار الصَّحِيح (5) في هذِه
__________
= المتوفى سنة 292 هـ. وصنف كتاباًً ضمنه أجوبة شيخه أبي زرعة مع أجوبة قليلة لبعض الأئمة الذين كانوا في مجلس أبي زرعة، وضم إليه كتاب " الضعفاء " لأبي زرعة، وقد طبع بتحقيق الدكتور سعدي الهاشمي مع دراسة مستفيضة عن أبي زرعة وجهوده في السنة النبوية في ثلاثة أجزاء. مترجم في " السير " 14/ 77 - 78.
(1) في هامش (ش): " أي: ولم أنف الصحة عن غيره ".
(2) هو الإمام الحافظ المجود، أبو عبد الله، محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله بن وارة الرازي، ارتحل إلى الآفاق، وحدث عن خلق كثير، وكان يضرب به المثل في الحفظ.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: ثلاثة من علماء الزمان بالحديث اتفقوا بالري لم يكن في الأرض مثلهم في وقتهم، فذكر ابن وارة، وأبا حاتم، وابا زرعة. توفي سنة 270 هـ. مترجم في " السير " 13/ 28.
(3) في (ب): وقال.
(4) من قوله: " ثم حدثه " إلى هنا ساقط من (ب).
(5) في (ب) و (ج): الحديث الصحيح.(3/68)
الكُتُب، وقد ذكَروا ذلك في عُلُومِ الحَدِيثِ، مِمَّنْ ذَكَرَهُ منهم: ابنُ الصَّلاحِ (1)، و (2) زين الدِّين العِراقي في كتابه " التَّبْصِرَة " (3)، والحاكم أبو عبد الله في " علوم الحديث " (4) له، وفي " المستدرك " قال في خطبة " المستدرك " (5): ولم يدَّعِ ذلك البخارِيُّ ولا مُسْلِمٌ، ونقل عنه أبو السَّعادات في مقدِّمة " جامِعِه " (6) أنَّ الصَّحيحَ عَشْرَةُ أقسامٍ، حديثُ البخاري ومسلم قِسْمٌ واحِدٌ منها، ونَصَّ على أنَّهما لم يجمعاه، وعدَّه ابنُ الصلاحِ، وزينُ الدِّين سبعةَ أقسام، حديث البخاري ومسلم منها ثلاثة (7).
وبعدُ، فالتَّطويلُ في هذا لا يليقُ، فأهل الجبْرَةِ يَعْلَمُون (8) بالضَّرُورَةِ أنَّ هذا ليس مذهباً لأهْلِ الحَدِيثِ، فلَمْ يَزَلْ علماءُ الحديثِ يُصَنِّفُونَ ويصحِّحُونَ ويستدركُونَ عَلَى صاحِبَي الصَّحِيحِ ما تركاهُ، وهُو على شَرْطِهِمَا.
__________
(1) في " مقدمته " ص 15 - 16.
(2) سقطت الواو من (ب).
(3) 1/ 43.
(4) لم أجد في المطبوع من " علوم الحديث " ما قاله المصنف، وأغلب الظن أنَّه وهم، وهو موجود في كتاب " المدخل إلى الإكليل " ص 33 - 50 للحاكم، ونقله عنه أبو السعادات في " جامع الأصول ".
(5) " المستدرك " 1/ 2.
(6) انظر " جامع الأصول " 1/ 160 - 174 الطبعة الشامية تحقيق صاحبنا المحدث الشيخ عبد القادر الأرنؤوط.
(7) الأول: ما اتفقا على إخراجه، والثاني: ما انفرد به البخاري، والثالث: ما انفرد به مسلم، والرابع: صحيح على شرطهما ولم يخرجاه، والخامس: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه، والسادس: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه، والسابع: صحيح عند غيرهما وليس على شرط واحد منهما. انظر " مقدمةُ ابن الصلاح " ص 23 - 24، و" التبصرة والتذكرة " 1/ 64 - 68.
(8) في (ب): " يعملون "، وهو خطأ.(3/69)
وقد صنَّف في هذا المعنى غير واحدٍ منِ الحُفَّاظ، مِنْهم الحافظ أبو عبد الله الحاكمِ الشِّيعيُّ (1) مَذْهَبَاً، فإنَّه صنَفَ كتابَ " المستدرك على الصَّحِيحَيْنِ "، وَهو كتابٌ كَبِيرٌ، وقد ذكره ابنُ الصَلاح في كتابه " العلوم " (2)، وذكر أنَّه اشتمل على صحيحٍ كثير.
وذكر الذَّهبِيُّ في " النُّبلاء " (3) أنَّ فيه قدر الثُّلُثِ على شَرْطِ البُخَّارِيِّ ومسلمٍ، وقدر الرُّبعِ صحيحٌ، ولكِنْ على غير شرطهما، والباقي (4) مما فيه نظر، وفيه قَدْر مئةِ حديثٍ باطلة، أو كما قال.
والمصنِّفونَ للصِّحَاحِ مِنَ المحدِّثينَ عَدَدٌ كثير، وليسَ همْ هؤلاء
__________
(1) انظر لزاماً " طبقات الشافعية " للسبكي 4/ 161 - 171.
(2) ص 16 و18.
(3) 17/ 175 بتحقيقنا مع صاحبنا الأستاذ نعيم العرقسوسي، وقد رواه المصنف عنه بالمعنى، ونصه بعد أن نقل عن أبي سعد الماليني قوله: طالعت " المستدرك " على الشيخين الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره، فلم أرَ فيه حديثاًً على شرطهما: قلت: هذه مكابرة وغلو، وليست رتبة أبي سعد أن يحكم بهذا، بل في " المستدرك " شيء كثير على شرط أحدهما، ولعل مجموع ذلك ثلث الكتاب، بل أقل، فإن في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما، وفي الباطن لها علل خفية مؤثرة، وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيد، وذلك نحو ربعه، وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها، كنت قد أفردت منها جزءاً، وحديث الطير بالنسبة إِليها سماء، وبكل حال فهو كتاب مفيد قد اختصرتُهُ ويعوز عملاً وتحريراً.
قلت: وبين من مقالة الذهبي هذه أنَّه رحمه الله لم يعتن بالمختصر اعتناءً تاماً، فلم يتفحص الأسانيد تفحصاً دقيقاً، وإنما تكلم عليها بحسب ما تيسر له، ولذا فاته أن يتكلم على عدد غير قليل من الأحاديث صححها الحاكم وهي غير صحيحة، أو ذكر أنها على شرط الشيخين أو على شرط أحدهما، وهي ليست كذلك كما يتحقق ذلك من له خبرة بأسانيد الحاكم، وممارسة لها، ونظر فيها، ولذا لا بد من دراسة الأسانيد جميعها، والحكم عليها بما يليق بحال كل إسناد المأخوذ من صفات رواته من الصحة، أو الحسن، أو الضعف، أو الوضع، وهذا النهج ينبغي أن يتبع في كتب السنن، والمسانيد، والمعاجم، والمصنفات، و" صحيح ابن خزيمة "، و" صحيح ابن حبان " و" منتقى ابن الجارود".
(4) تحرف في (ش) إلى: والثاني.(3/70)
السِّتَّة (1)، ولا هُؤلاءِ نصفُهم ولا رُبعهم ولا ما يُقارِبُ هذا القَدر، وفيهم مَنْ لم يَسْمَعْ أكثرُ النَّاس باسمِه، وَمَنْ أحبَّ مَعْرِفَةَ ذلِكَ، فلْيُطالِعْ كُتُبَ الرِّجَالَ. وقد استفاضَ بينَ عُلَمَاء الحَدِيثِ قديماً وحديثاًً الاحتجاجُ بمَا صحَّحَهُ غيرُ هؤلاء، كالحافِظِ البرقاني (2)، وإمامِ الأئِمَّةِ ابنِ خُزيْمَة (3)، والحافظِ الكبيرِ ابنِ حِبَّان (4)، ..........................
__________
(1) هذا صحيح بالنسبة للشيخين البخاري ومسلم رحمهما الله، أما بالنسبة لأصحاب السنن الأربعة فلا، لأنهم لم يلتزموا الصحة في كل حديث دونوه في كتبهم، ففيها الصحيح والحسن، وهو كثير، والضعيف والمنكر، وهو قليل، فلا يمكن إدراجهم في جملة من صنف في الصحاح، وليس هذا مما يخفي على المصنف رحمه الله، وقد بين ذلك بياناً شافياً في كتابه العظيم " تنقيح الأنظار ".
(2) هو الإمام العلامة الحافظ الثبت، شيخ الفقهاء والمحدثين، أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب البرقاني الشافعي، قال عنه الخطيب البغدادي: كان ثقة، ورعاً، ثبتاً، فهماً، لم نرَ في شيوخنا أثبت منه، عارفاً بالفقه، له حظ من علم العربية، كثير الحديث، صنف مسنداً ضمنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري ومسلم، وجمع حديث سفيان الثوري، وأيوب، وشعبة، وعبيد الله بن عمر، وعبد الملك بن عمير، وبيان بن بشر، ومطر الوراق وغيرهم، ولم يقطع التصنيف إلى حين وفاته. مات سنة 425 هـ. انظر ترجمته في " السير " 17/ 464 - 468.
(3) هو الحافظ الحجة الفقيه شيخ الإسلام، إمام الأئمة، أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة النيسابوري الشافعي صاحب التصانيف المتوفى سنة 311 هـ، وُلد سنة ثلاث وعشرين ومئتين، وعُني في حداثته بالحديث والفقه، حتى صار يُضرب به المثل في سعة العلم والإتقان. قال أبو علي: كان ابن خزيمة يحفظ الفقهيات من حديثه كما يحفظ القارىء السورة، له مصنفات كثيرة، من أعظمها " صحيحه "، وقد طبع منه الموجود -وهو الربع الأول من الكتاب- في أربعة أجزاء بتحقيق محمد مصطفي الأعظمي. انظر ترجمته في " السير " 14/ 365 - 382.
(4) هو الحافظ الإمام العلامة المجود شيخ خراسان أبي حاتم محمد بن حبان البستي المتوفى سنة 354 هـ. كان مكثراً من الحديث والرحلة والشيوخ عالماً بالمتون والأسانيد، إمام عصره في معرفة الحديث رواية ودراية، صنف تصانيف لم يسبق إليها، من أعظمها وأجودها " التقاسيم والأنواع "، وهو كتاب جليل القدر، عظيم الفائدة، حرره أدق تحرير، وحقق أسانيده ورجاله، وعلل ما احتاج إلى تعليل من نصوص الأحاديث وأسانيدها، وتوثق من صحة كل حديث اختاره على شرطه الذي التزمه. وقد رتَّبَه على أبوابِ الفقه الأمير علاء الدين علي بن =(3/71)
.......... والحاكِم ابن البَيِّع (1)، والدَّارقُطني (2)، والبيهقي (3)،
__________
= بلبان الفارسي المتوفى سنة 739 هـ، وقد توليتُ بتوفيقِ اللهِ وعونه تحقيقه، وضبطه وتخريج أحاديثه، والحكم عليها، ونجز منه خمسة مجلدات كبار، وهي توازي ثلث الكتاب طبع مؤسسة الرسالة، يسر الله لي إكمالَه وإتمامَه.
(1) ضبطه السمعاني في " الأنساب " 2/ 370: بفتح الباء الموحدة، وكسر الياء المشددة آخر الحروف، وفي آخرها العين المهملة، هذه اللفظة لمن يتولى البياعة والتوسط في الخانات بين البائع والمشتري من التجار للأمتعة.
قلت: واسم الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم بن الحكم الضبي النيسابوري، ولد سنة 321 هـ، وتوفي سنة 405 هـ. وكتابه " المستدرك " بحاجة إلى تحقيق جديد متقن. انظر ترجمته في " السير " 17/ 162 - 177.
(2) هو الإمام الحافظ المجود أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي البغدادي المقرىء المحدِّث، من أهل محلة دار القطن ببغداد. وُلد سنة 306 هـ، وتوفي سنة 385 هـ.
قال الإمام الذهبي: كان من بحور العلم، ومن أئمة الدنيا، انتهى إليه الحفظ ومعرفة علل الحديث ورجاله مع التقدم في القراءات وطرقها، وقوة المشاركة في الفقه والاختلاف والمغازي وأيام الناس وغير ذلك. انظر ترجمته في " السير " 16/ 449 - 461.
وله مؤلفات كثيرة في علوم الحديث والقراءات، منها كتاب " السنن " طبع في الهند، وفي مصر مع تعليقات حافلة عليه للمحدث الجليل أبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي وكتاب " العلل " وهو كتاب عظيم في بابه لم يسبق إليه، طبع منه ثلاثة أجزاء بتحقيق الدكتور محفوظ عبد الرحمن، نشر دار طيبة في الرياض، ومما طبع من تآليفه " أحاديث الصفات "، و" أحاديث النزول "، و" الإلزامات والتتبع "، و" الضعفاء والمتروكون "، و" سؤالات الحاكم النيسابوري "، وسؤالات حمزة بن يوسف السهمي وغيره من المشايخ.
(3) هو الحافظ العلامة الثبت الفقيه أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي بن موسى البيهقي، وُلد سنة 384، وتوفي سنة 458 هـ. كان من كبار أصحاب الحاكم، ويزيد عليه بأنواع من العلوم، كتب الحديث وحفظه من صباه، وتفقه، وبرع، وارتحل إلى العراق والجبال والحجاز، ثم صنف، وتواليفه تقارب ألف جزء مما لم يسبقه إليه أحد، جمع بين علم الحديث والفقه، وبيان علل الحديث، ووجه الجمع بين الأحاديث.
قال الإمام الذهبي: وبورك له في علمه، وصنف التصانيف النافعة، ولم يكن عنده " سنن النسائي "، ولا " سنن ابن ماجة "، ولا " جامع مع أبي عيسى "، وكان عنده عن الحاكم وقر بعير أو نحو ذلك. مترجم في " السير " 18/ 163 - 170.
وقال أيضاًً: تصانيف البيهقي عظيمة القدر، غزيرة الفوائد، قل مَنْ جَوَّد تواليفه مثله، فينبغي للعالم أن يعتني بها لاسيما كتابه " السنن الكبير ".
قلت: وقد طبع في الهند بمطبعة دائرة المعارف النظامية في حيدر آباد سنة 1344 هـ - =(3/72)
وعبدِ الحَقِّ (1)، وعبدِ الغَنِيِّ المقْدِسِي (2)، والشَّيخ تَقِيِّ الدِّين (3)، وابن سيدِ النَّاس (4)
__________
= 1355 هـ في عشر مجلدات كبار، وبأسفله " الجوهر النقي " للحافظ علاء الدين بن علي بن عثمان المارديني الشهير بابن التركماني المتوفى سنة 745 هـ. وقد طبع " الجوهر النقي ". بمجلد ضخم مفرداً، وهو كتاب نفيس، ينبىء عن جلالة قدر مؤلفه، وبراعة نقده، وسعة اطلاعه، ورسوخ قدمه في هذا الفن.
(1) هو الإمام الحافظ البارع المجود العلامة أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي الأندلسي الإشبيلي صاحب " الأحكام الكبرى " المتوفى سنة 581 هـ. مترجم في " السير " 21/ 198 - 202.
(2) هو الإمام العالم الحافظ الكبير تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، ثم الدمشقي المنشأ، الصالحي الحنبلي، صاحب التصانيف الكثيرة، المتوفى سنة 600 هـ.
قال ضياء الدين المقدسي: كان شيخنا الحافظ لا يكاد يسأل عن حديث إلا ذكره وبينه، وذكر صحته أو سقمه، ولا يسألُ عن رجل إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني، ويذكر نسبه، فكان أمير المؤمنين في الحديث، وقال له رجل من أصحابه: إن رجلاً حلف بالطلاق أنك تحفظ مئة ألف حديث، فقال: لو أكثر لصدق. وقد صنف عدة مصنفات، منها " الكمال في أسماء الرِّجال " أول مصنف جمع فيه رجال الكتب الستة: البخاري، ومسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه. وهو الأصل الذي بنى عليه الحافظ المتقن جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزي، المتوفى سنة 742 هـ كتابه العظيم " تهذيب الكمال في أسماء الرجال "، وزاد عليه زيادات كبيرة بحيث غدا التهذيب يوازي ثلاثة أضعاف كتاب " الكمال "، وقد باشرت مؤسسة الرسالة بطبعه، وقد نجز منه عشرة مجلدات، يسر الله إكماله وإتمامه. مترجم في " السير " 21/ 443 - 471.
(3) في (أ) و (ب) و (ج): " تقي الناس "، وفي (ش): " تقي الدين الناس "، والصواب ما أثبتنا. وهو الإمام المحدث الفقيه محمد بن علي بن وهب المعروف بابن دقيق العيد المتوفى سنة 702 هـ. وقد تقدمت ترجمته في 1/ 209.
(4) هو الإمام الحافظ فتح الدين أبو الفتح محمد بن محمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس الشافعي اليعمري الأندلسي الإشبيلي المصري، المتوفى سنة 734 هـ.
قال الحافظ ابن كثير: اشتغل بالعلم، فبرع وساد أقرانه في علوم شتى من الحديث، والفقه، والنحو، وعلم السير، والتاريخ وغير ذلك، وقد جمع سيرة حسنة في مجلدين، وقد حرَّر، وحبر، وأجاد، ولم يسلم من بعض الانتقاد، وله الشعر والنثر الفائق، وحسن التصنيف والترصيف، والتعبير وجودة البديهة، وحسن الطوية، والعقيدة السلفية، والاقتداء بالأحاديث النبوية، وتُذكر عنه شؤون أُخر، الله يتولاه فيها، ولم يكن بمصر في مجموعه مثلُه في حفظ =(3/73)
والنواوي (1)، ومنْ لا يأتي عليه العَدُّ، ولا أعلمُ عَنْ أحدٍ منهم شيئاً من هذا إلاَّ روايةً شاذّة لَمْ تَصحَّ فيما أعلمُ عَنْ أبي داوود، فقال: في " سننه " شيئاً من هذا، ولو صَحَّ هذا عنه، لاحتمَلَ أن مُرَادَهُ أنَّه حَصَرَ الحديثَ الصَّحيح الذي يعرِفُهُ، ويدُلُّ على ذلك أنَّه قَدِ اشتهر عنه من غير وجه أنَّه قال: إنَّه يذكر في كل باب أصَحَّ ما يعرفه في ذَلكَ البابِ، هكذا رواه الحافظُ الحازميُّ (2) بهذا اللفْظِ، وهو (3) واضحٌ في بيانِ مَقْصِدِهِ، فَالمُقَيَّد يُفَسِّرُ
__________
= الأسانيد، والمتون، والعلل، والفقه، والملح، والأشعار، والحكايات. انظر " شذرات الذهب " 6/ 108 - 109.
(1) هو الإمام الحافظ الفقيه الزاهد القدوة، محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري الحزامي الحوراني الدمشقي، صاحب التصانيف النافعة. ولد في نوى من قرى حوران سنة 631 هـ، وقدم دمشق سنة 649 هـ لطلب العلم، فنزل بالمدرسة الرواحية، وكان يقرأ كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه في الحديث، والفقه، والعربية، والأصول، وتاريخ الرجال شرحاً وتصحيحاً، ودام على ذلك نحو عشر سنين حتى فاق الأقران، وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل، ثم أخذ في التصنيف في حدود الستين وست مئة، وإلى أن مات رحمه الله بنوى عند أهلة سنة 676 هـ.
قال الإمام الذهبي: كان مع تبحره في العلم وسعة معرفته بالحديث، والفقه، واللغة وغير ذلك بما قد سارت به الركبان رأساً في الزهد، وقدوة في الورع، عديم المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قانعاً باليسير، راضياً عن الله، والله عنه راضٍ. مترجم في " تذكرة الحفاظ " 4/ 1470 - 1474.
(2) هو الإمام الحافظ، الحجة الناقد، النسابة البارع، أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن موسى الحازمي الهَمَذاني، وُلد سنة 548 هـ، وتوفي سنة 584 هـ وله ست وثلاثون سنة.
قال ابن النجار في " تاريخه ": كان الحازمي من الأئمة الحفاظ العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله، ألف كتاب " الناسخ والمنسوخ "، وكتاب " عجالة المبتدىء في النسب "، وكتاب " المؤتلف والمختلف " في أسماء البلدان، وأسند أحاديث " المهذب "، وكان ثقة، حجة، نبيلاً، زاهداً، عابداً، ورعاً، ملازماً للخلوة والتصنيف، وبث العلم.
قلت: وكتابه " الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار " كتاب عظيم في بابه، لم يؤلف مثله، وهو دال على إمامة مؤلفه في الفقه والحديث. مترجم في " السير " 21/ 167 - 172.
(3) في (ب): وهذا.(3/74)
المُطْلق في الحقيقة اللُّغَوِيَّةِ، والحقيقةِ العُرْفِيَّةِ، فوجبَ المصيرُ إلى ذَلِكَ، وارتفع الإِشكالُ.
وقال النَّواوي: إنَّ أبا داوود لم يَسْتَوْعِبِ الصَّحيح مِنْ أحاديثِ الأحكامِ ولا مُعْظَمَهُ، وذلك ظاهر، بل معرفتُه ضَرُورِيَّةٌ لِمن لَهُ أدنى اطِّلاعٍ. انتهى.
فانظر إلى النَّواوي كيف ادَّعى العلم الضَّرُورِيً لِمنْ لَهُ أدنى اطِّلاعٍ، على أنَّ السُّنَنَ غيرُ جامِعَةٍ لأحاديثِ الأحكام الصَّحيحَةِ ولا لمُعْظَمِها أيضاًً، وقد ذكرَ أهلُ الحديث أنَّهم إذا قالوا: هذا حديثٌ ضعيفٌ، فمرادُهُم: إسنادُه ضعيفٌ، لجوازِ أن يكونَ هذا الحديثُ في نَفْسِهِ صحيحاًً بغيرِ ذلِكَ الإسنادِ، لكِنْ لَمْ يَعْرِفُوا الإسنادَ الصَّحيحَ، وهذا أَوْضَحُ دليل على عَدَمِ دَعْواهُم لحَصْر الصَّحيحِ، ثمَّ إنَّ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْسَعُ مِنْ أنْ يَحْصُرَهُ عالِمٌ بحيث يقطع على أنَّه لم يبْقَ حديثٌ إلاَّ وقد عَلِمَهُ، وقد قدَّمنا عَنْ أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام أنَّه كان يَسْتَحْلِفُ بَعْضَ الرُّواةِ، فإذا حلَفَ لَهُ صدَّقه (1)، فهذا دليلٌ عَلَى أنَّه -عليه السلام- لَمْ يَعْتقِدْ أنَّه قدْ أحاطَ بالحديث، فهذا، وهو عند طوائفِ الشِّيعَةِ وكثيرٍ مِنَ المعتزلَةِ، أوْ أكثرهم أَعْلَمُ الأمَّةِ بدليلِ أنَّه أقضاهم بالنَّصِّ، فكيفَ بغَيْرِه؟!.
وقد رُوي عن الشَّافعِي أنَّه قال: عِلْمانِ لا يَجْمَعُهُما أَحَدٌ، ولا يُحِيطُ بِهِما أَحَدٌ (2): عِلْمُ الحديثِ، وعِلْمُ اللُّغَة.
وفي هذا القدرِ كفايَةٌ في التَّعريف ببراءَةِ أهْلِ الحديث مِمَّا رَماهُمْ بهِ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 284.
(2) جملة " ولا يحيط بهما أحد " ساقطة من (ب).(3/75)
السَّيدُ أيَّدَهُ اللهُ.
الإِشكال الثاني: أنَّ السيدَ -أيدَهُ اللهُ- قال: إنَّما حكى هذا القوْلَ، لأنَهُ كان يَفْهَمُهُ مِنَ الأوزري، فنقول: نَقْلُ المَذْهَبِ بِمُجَرَّد الفَهْم والحَدْسِ لا يصِحُّ، وَلنَقْل المَذَاهِبِ شُروط معْتَبَرَةٌ عِنْدَ العُلماءِ، لَمْ يذكُرِ السَّيِّدُ منها شيئاً.
الإشكال الثالث: سلَّمنا للسيدِ أنَّ ذلكَ مَذْهَبُ الأوزريِّ، فمِنْ أين لَهُ أنه (1) مذهبُ مشايِخِهِ، وقد أجمعَ العُلَمَاءُ والعُقَلاءُ على أنَّه لا يُنْسَبُ مذهبُ التِّلميذِ إلى الشَّيخِ، وقد عَدَّ العلماءُ طُرُق نَقْلِ المذاهبِ، فلم يذكروا فيها أن ما ذهبَ إليه التَلميذُ، فَهُوَ مذهبُ شَيْخِهِ، وقد قرأ كثيرٌ مِنْ أَهْلِ العَدْلِ والتَّوحيدِ على المخالِفِينَ في العقائد، ولم يَلْزَم اتّفاقهم فيها، وقد قرأ غيرُ واحدٍ من أَئِمَّة العِتْرَةِ عليهم السلام على من يُخالِفُهمْ في العقيدة، منْ أعظمهم الإِمام (2) المنصورُ بالله علمِه السّلامُ، فقد أَخَذَ عَنِ الحافِظِ أبي الحُسينِ يحيى بنِ الحسنِ الأسدِيَ الحَلَبِي (3)، وقرأ السَّيِّد أبو طالب على الحافِظِ ابنِ عديٍ، وروى عنه " أماليه "، وعامَّةُ أحاديثِ المؤيَّد في " شرح التَّجريد " عن الحافِظ ابن المقرىء (4). وابنُ عَدِيٍّ مِنْ كبار أَئِمَّةِ الحَدِيثِ حِفْظَاً وَمَذْهَبَاً.
__________
(1) في (ج): أن ذلك.
(2) ساقط من (ج).
(3) هو يحيى بن الحسن بن الحسين بن علي بن محمد، المعروف بابن البطريق، من فقهاء الإمامية من أهل الحلة (في العراق)، سكن بغداد، ونزل بواسط، وكان في حلب سنة 596 هـ، له عدة تصانيف. توفي سنة 600 هـ. مترجم في " لسان الميزان " 6/ 247، و" روضات الجنات " ص 739.
(4) هو الشيخ الحافظ، الجَوَّال، الصدوق، مسند الوقت، أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم بن زاذان الأصبهاني ابن المقرىء، صاحب المعجم والرحلة الواسعة، المتوفى سنة 381 هـ. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 16/ 398 - 402.(3/76)
وبعدُ، فالأوزَرِيُّ كان زَيْدِيَّ العَقِيدَةِ، صَحِيحَ المَذْهَبِ، فلو كان بينَ اعتقادِه واعتقادِ مشايخِه مُلازَمَةٌ، لوجَبَ أن نُحْسِنَ الظَّنَّ بهم في العَقِيدَةِ.
الإِشكال الرابع: أنَّ هذا المفهومَ مِن الأوْزَري إنْ كان حَسناً، فلا معنى لإبطالِهِ، وإنْ كان قبيحاً، فَنِسْبتُهُ إليه لِمُجَرَّدِ الفَهْمِ والحَدْسِ مِنْ قبِيلِ سوءِ الظَّنِّ المُحَرَّم.
الإِشكال الخامسُ: سلمْنَا أنَّ هذا مَذْهَبُ شيخ الأوزريِّ ابنِ مطير، فكيف يَنْسُبه السَّيِّدُ إلى طائِفَةِ المُحَدِّثين؟ وما الرابِطَةُ بين مذهب رَجُلٍ منْ بيت حسين، وبين مَذْهَبِ مَشَايخِ الحديث في جميع أقطارِ الإسلام؟
الإشكال السَّادسُ: سلَّمنا أنه يلزمُهُم، فَقَد صرَّح السَّيِّدُ في كتابه أنَّه يغْلِبُ على ظَنِّهِ أنَّ مُحمَّدَ بنِ إبراهيم لا يَذْهَبُ إلى ذلك، فما معنى التَرسُّل عليه في مذْهَبٍ لم يَذْهَبْ إليه؟ وهل هذا إلا تَوسيعٌ لدَائِرَةِ الجِدَالِ، وتَمَحُّل في المِرَاء واللَّجَاجِ، وكان اللائِقُ أنَّ السيدَ يترسلُ في هذا على الأوزري الذي فَهِمَهُ مِنْه، فقد عاصَرهُ، وقرأ عليه. لكِنَّه لم تتَوفَّرِ الدَّواعي إلا على مُحمدِ بنِ إبراهيم، وإنْ كان الذَّنْبُ (1) لغيرِه، وما أحسنَ قَوْلَ بعضهم (2):
وحمَّلْتَني ذنبَ (3) امرىءٍ وتَرَكْتَه ... كَذِي العُرِّ يُكْوَى غَيْرُهُ وهو رَاتِعُ
__________
(1) في (ش): الدائرة.
(2) هو النابغة الذبياني زياد بن معاوية، وهو في " ديوانه " ص 48، و" اللسان ": (عرر).
(3) في (أ) و (ج): " داء "، ورواية الديوان:
حملت عليَّ ذنبه وتركته =(3/77)
الإِشكال السابع: قال السيدُ: أمَّا هذا الفَصْلُ، فزعَمَ القائِل بِهِ أنَّ مُؤلِّفَ الصِّحَاحِ أَعْرَفُ النَّاسِ بهِ، وهذا (1) عجيبٌ، فإنَّ السيِّدَ قد أَقَرَّ أنََّهُ لمْ ينقُلْ هذا المذهبَ بالنصِّ، وإنَّما نقله بالفهْمِ والحدْسِ، فكيف نَسَبَ إليهم الاحتجاجَ عَلَى ذلكَ بِهذِهِ الحُجَّةَ الَّتي ذكرها، وزعم أنَّهم زعموها كما ذكر؟
الإشكال الثامن: أنَّ السَّيِّدَ وصف الأوزريَّ، ومدحه بأنَّه المُحَدِّثَ الضابِطَ، فكيف استحقَّ المدحَ على التَّحديِث (2) بهذِه الكُتُبِ والضبْطِ لَهَا، وهِي عند السيدِ مِنْ رِوايَة الكُفَّارِ والفُسَّاقِ المُصَرِّحِينَ، والمُحَدِّثُ بِهَا عنده رَاكنٌ إلى الظَّالمين، مُتَبعٌ سَبِيلَ المُفْسِدِين؟ ثُم إنَّ السيد قال: لا نُسَلِّم أنَّ أصحابَ الحديثِ أرادوا حَصْرَ الحديثِ الصَّحيحِ، وهذا عجيبٌ، فإنْ كانوا ما أرادوا ذلِكَ وكُنْتَ تَظُنُّ أنِّي لَمْ أَقُلْ بِهِ، فما ذَنبي حَتَّى تَرسَّلَ عليَّ في هذا؟ واللهُ المستعان.
قال: وأمَّا الفَصْلُ الأوَّلُ، وهو أن كل ما في هذه الكُتُبِ مِنْ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَهُو صحيح، ففيه مَوْضِعَان.
الأوَّل: في حِكَايَةِ المَذْهَبِ.
والثاني: في الدَليلَ.
أمَا الأوَّلُ، فقد ذَهَبَ قومٌ إلى أنَّ كُلَّ ما في هذه الكتُبِ مِنْ حديثِ
رسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَهُوَ صَحِيحٌ، وزَعَمُوا أنه إجماعُ، وهذا عِنْدَنا غيرُ
__________
= والعُر -بضم العين-: القروح، قال ابن دريد: من رواه بالفتح فقط غلط، لأن الجرب لا يكوى منه.
(1) في (ش): وهو.
(2) في (ش): البحث.(3/78)
لازِم، ومِمَّن قال به: ابنُ الصَّلاَحِ، وحكى عن إجماع الفُقَهاءِ أنَّهم أفتوا مَنْ حَلَفَ بِطَلاَقِ امْرَأتهِ إنْ لم يَكُنْ ما بَيْن دَفَتَيْ " صحيح البخاري " قاله رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ امْرَأتهُ لا تَطْلُق (1).
أقول: الجواب عَنِ السيِّدِ في هذا مِنْ وُجُوهٍ.
الوجه الأول: أنَّهُ حَكى الخلاَف في هذِهِ المَسْألَةِ عَنِ ابْنِ الصَّلاحِ، وعَنْ بَعْضِ النَاسِ، ولم يحْكِ عَنِّي أنِّي خَالَفْتُ فيها، فما ذَنْبي حَتَّى يَتَرَسَّل عَلَيَّ في هذِهِ المسأَلَةِ؟ وَلَوْ أنَّه سلكَ في رسالته مسالكِ العلَمَاءِ، تصَبَرَ حتَّى يَقِفَ لي على نَصٍّ، فينقلُ نَصِّي في ذلِكَ، ثم يَنقُضُه بَعْدَ معرِفَتهِ.
الوجه الثاني: أنَّ السيدَ غَلِطَ على ابنِ الصَّلاحِ، ولم يَنْقُلْ عنه مَذْهَبَه، ولا قرِيبَاً منهُ، فإنَّ السيِّدَ جَزَم بِكَلامِهِ عَنِ ابنِ الصَّلاح أنَّه يقولُ بِصِحَّةِ ما في هذِهِ الكتُبِ السَتَّةِ، وأنَّه يدَّعي إجماعَ الأمَّة على ذلِك، ولم يَقُلِ الرَّجُلُ بِذلِكَ، وقد نَصَّ في كتابه " علوم الحديث " على عكس ذلِك، فقال في كتابه " علوم الحديث ": إنَّ في " البخاري " ما ليس بصحيحٍ، بل قال: إنَّ كَوْنَ ذلِكَ فيه معلومٌ قطعاً بهذا الَّلفْظِ، وذكر مِن ذلك: حديث " الفَخِذَ عَوْرَةٌ " (2)، وحديث "الله أَحَقُ أَنْ يُسْتحيى
__________
(1) انظر " مقدمة ابن الصلاح " ص 22 - 23.
(2) حديث " الفخذ عورة " علقه البخاري في " صحيحه " 1/ 478 في الصلاة، باب (12) ما يُذكر في الفخذ، ولفظه: باب ما يذكر في الفخذ: ويروى عن ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الفخذ عورة ".
قلت: وحديث ابن عباس وصله الترمذي (2798) و (2799)، والحاكم 4/ 181، وفي سنده أبو يحيى القتات، وهو ضعيف.
وحديث جرهد وصله الترمذي (2799)، وحسنه، وصححه ابن حبان (353)، والحاكم 4/ 108 مع أن في سنده مجهولاً. =(3/79)
مِنْه " (1)، فإنَّ هذا قَطْعَاً ليْسَ مِنْ شرْطِهِ، ولهذا لم يُوردْه (2) الحُمَيْدِيُّ في " جمعه بين الصَّحيحين "، فاعلم ذلكَ، فإنَّهُ مُهِمٌ خافٍ (3). هذا لَفْظُ ابنِ الصلاحِ، وقد تَأَوَّل ابنُ الصَّلاح كلامَ مَنْ قالَ بصِحَّةِ جَمِيعِ ما في " البخاري " على المُراد بمقاصِدِ الكتَابِ وموضوعِهِ ومُتُونِ الأبواب بهذا اللفْظ. فالسيدُ نَصَّ على رجُلٍ واحدٍ مِنَ المحدِّثين، فانكشَفَ أنَّه يقولُ بعكس ما قالَ السيدُ، فكيف بمَنْ لَمْ يَنُصَّ عليه السيِّدُ؟
قال (4): وليت شعري، كيف كان هذا الإجماعُ؟ أكان بِأَنْ طافَ
__________
= وحديث محمد بن جحش وصله أحمد 5/ 290، والبخاري في " التاريخ " 1/ 13، والحاكم في " المستدرك " 4/ 180 من طريق إسماعيل بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي كثير مولى محمد بن جحش عنه. قال الحافظ: رجاله رجال الصحيح غير أبي كثير مولى محمد بن جحش، روى عنه جماعة، لكن لم أجد فيه تصريحاً بتعديل. قلت: فمثله يكون حسن الحديث بنفسه، فكيف في الشواهد كما هنا.
وفي الباب عن علي رضي الله عنه عند أبي داود (3140)، وابن ماجه (1460)، والحاكم 4/ 180. وسنده ضعيف، وهذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً، فتقوى وتصلح للاحتجاج.
(1) علقه البخاري 1/ 385 باب: من اغتسل عُرياناً وحده في الخلوة، ومن تستر، فالتستر أفضل: وقال بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الله أحق أن يستحيى من الناس ". وقد وصله أحمد في " مسنده " 3/ 5، وأبو داود (4017)، والترمذي (2796)، والنسائي في عشرة النساء كما في " التحفة " 8/ 428، وابن ماجه (1920) من طرق عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إِلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك "، قلت: يا نبيَّ الله، أرأيت إذا كان القوم بعضهم في بعض، قال: " إن استطعت أن لا يرينها أحد فلا يرينها "، قلت: يا رسول الله أرأيت إذا كان أحدنا خالياً، قال: " فاللهُ أحق أنْ يُستحيى منه من الناسِ ". وحسنه الترمذي، وهو كما قال، فإن بهز بن حكيم صدوق مشهور، وثقه غير واحد، ولينه بعضهم، وقال ابن عدي: أرجو أنَّه لا بأس به، ولم أر له حديثاً منكراً. وصححه الحاكم 4/ 179 - 180، ووافقه الذهبي.
(2) في (ش): يروه.
(3) انظر " علوم الحديث " ص 22 - 23.
(4) في (ش): قال السيد.(3/80)
هذا السائِلُ جميع البِقَاعِ، أَمْ بِأَنْ جُمِع لَهُ علماءُ (1) الأمَّةِ في صَعِيدٍ واحِدٍ وأذَّنَ فيهم بِهذا السُّؤالِ، وأجابُوهُ جميعاًً بأنَّ أمرأَتَهُ له حَلاَلٌ؟ وأيُّ إجماع صحيح بِغَيْرِ عُلماءِ أَهْلِ البَيْتِ الأطهار، وشِيعَتهِم الأخيارِ؟
أقول: في كلامِ السيدِ هذا مباحثُ.
البحث الأول: أنَّهُ أثبت في كلامِهِ أنَّ سائِلاً سأَلَ الأمَّة، والرجُلُ لَمْ يقْلْ: إن أَحَدَاً سألَ الأمَةَ، وإنَّما قال: لو أنَّ رَجُلاً سَأَل الفُقهَاءَ، فَلَوْ كان يلزمُهُ ثبوتُ ما بَعْدَ "لو" مِنَ الكَلامِ المُقَيَّدِ، لَلَزِمَ ثُبوتُ الشرَكَاء لله تعالى عنْ ذلِكَ عُلُوَّاً كبيرَاً لِقَوْلهِ تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَكما أن مَعْنَى الآية لكنهما (2) لم يَفْسدا، فلم يَكُنْ مَعَهُ آلهةٌ، فكذا معنى ذاك الكلامِ، لكِنَّه لم يَسْألِ الفُقَهَاءَ، فَلَمْ يُفْتُوهُ.
وبعدُ، فغيرُ خافٍ على السيدِ أنَّ "لو" تفيدُ امتناعَ الشيْءِ لامتناع غيرِه، فكيف رَكَّبَ هذا السؤالَ علَى هذا الكلامِ؟
البحث الثاني: أنَّ كلامَ السَّيد هذا يلزمه زيادةَ شروطٍ في روايةِ الإجماع لم نَعْلَمْ أنَّ أحداً اشترطها.
أحدها: أنَّه يحبُّ في راوي الإجماعِ أنْ يَطُوفَ جميعُ البِقَاعِ، أو يُجْمَعَ لَهُ علماءُ الأمَّةِ في صَعِيدٍ واحِدٍ.
الثَّاني: أن يُؤذِّن فيهم بالحادثَةِ.
الثالثُ: أن يُجِيبُونَ جَميعَاً، ولا يكونُ فيهمْ مَنْ سَكَتَ في تِلْك الحَالِ، وأجاب فيما بعد، أو روى مَذْهبَه بواسطة، وهذا كُلُّهُ مُجَرَّدُ
__________
(1) كذا في جميع النسخ، وفي (أ): " جميع "، وكتب فوقها " علماء "، وكُتب في الهامش: " تبديل " جميع " بـ " علماء " غلط ظاهر، وإنما هو جميع الأمَّة كما يدلُّ عليه الجواب، سيَّما البحث الرابع ".
(2) في (ب): إنهما.(3/81)
تَشْنِيعٍ مِن السيدِ وتهويلٌ في العبَارَهَ لا (1) طائِلَ تحْتَهُ.
البحثُ الثَّالِثُ: أن السَّيِّدَ قدِ ادَّعَى في كتابه إجماعاتٍ كثيرةً، ولم يحْصُلْ فيها شيْءٌ مِنْ هذِهِ الشَّرائِطِ (2).
البحثُ الرَّابعُ: أنَّ السيد ادَّعى على الرجُلِ في أَوَّلِ كلامِهِ أنَّه ادَّعى إجماعَ الفقهاءِ، ثُم ألزَمَهُ هُنا أنْ يَجْمَع لَهُ الأمَّةَ في صَعِيدٍ واحِدٍ، وكم بَيْنَ الفُقَهَاء والأمَّةِ، فلَعلَّ الفقهاءَ لا يكونون جزءاً مِنْ أَلْفِ جُزْءٍ مِن الأمَّةِ، ولا ما يُقارِبُ ذلِكَ، فَلو اسْتَمَرَّ السيِّدُ في التَّشنيعِ عَلى حالٍ واحِدَةٍ، لألْزَمَ الرَّجُلَ أنْ يَجْمَعَ لُهُ الفُقَهَاءَ في صعيدٍ واحدٍ.
البحث الخامس: وأيُّ إجماعٍ صحيحٍ بغير علماء (3) أهلِ البيتِ وشِيعتهِم؟ ومِنْ أينَ يلزَمُه (4) هذا، وأَنْتَ إنَّما رَويتَ عَنْهُ أنَّه إنَّما ادَّعى إجماعَ الفقَهاءِ؟
البحثُ السَّادِسُ: أنَّه ادَّعى إجماع العُلمَاءِ، فقال ما لفظه: أجمعَ أَهْلُ العِلْمِ الفقهاءُ وغيرُهُم أنَّ رَجُلاً لو حَلف بالطَّلاقِ أنَّ جميعَ ما في " البخاري " مِمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ صح عنه: أنَّه لا يحنَثُ، والمرأةُ بِحَالهَا في حِبَالَتِهِ، وهذا خِلَاف ما نَقَلَهُ السيدُ عنه، فإنهُ إنَّما نقَلَ عنه إجماعَ الفقهَاءِ فقط، ولا شَك أنَّ كلامَ أبي نَصْرٍ هذا يقتضي أنَّه ادعى إجماعَ أَهْلِ البَيْتِ عليهمُ السَّلامُ على ذلِك، ولكنه لا يستَحِقُّ الإنكارَ والتَّكْذِيبَ، لَأنَّهُ يجوزُ عَليْكَ أَنْ لا تعْرِفَ بَعْضَ إجماعَاتِهِمْ عَلَيْهِمُ السّلامُ،
__________
(1) في (ش): ولا.
(2) في (ش): الشروط.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ش): لزمه.(3/82)
وَيعْرِفُهَا غَيْرُك (1)، ألَا تَرى أنَّ المنصورَ بالله، والإمامَ يحيى بن حَمْزةَ، والقاضي زيداً (2)، وعبدَ اللهِ بن زيدٍ وغيرهم مِمَّنْ قَدَّمنا قَدِ ادَّعَوُا الإجْمَاع على قَبُول (3) المُتَأَوِّلين، ولم تَعْلَمْهُ أنت، ولم يلزم تكذيبُهم في دعواهم لعدَمِ عِلْمِك بِصِحَّة ما ادَّعَوا، وكذلِك هذا.
البحث السابع: أنَّك إمَّا أنْ تُنْكِر الإجماعَ السُّكُوتيَّ أم لا، إنْ أنكرْتَهُ، لَزِمَكَ تأثيمُ أكثَرِ الأمَّة والأئِمَّةِ، فإنَّهم يقولون بصِحَّةِ الاحتجاج بِهِ (4)، وقد ذكره المنصورُ بالله عليه السَّلامُ في " الصَّفوة " وغيرُه من العلماء، وأَكثرُ الإجماعات المروِيةِ، أو كُلُّها لا تكون إلاَّ بِهِ، وإنْ لم تُنْكِرِ الإجماعَ السُّكُوتيَّ، فالظَّاهرُ مِنْ إجماعِ أَهْلِ البَيْتِ وشيعَتِهِمُ القَوْلُ بمَا قالَهُ الفُقَهاءْ مِنْ صِحَّةِ هذِهِ الكُتُب إلاَّ ما ظهرَ القدْحُ فيه، ولا بُدَّ مِنْ هذا الاستثناء عندهم (5) كما سوف نُبَيِّنُ ذلِك، وإنَّما قال: إنَّ الظَاهِرَ إجماعُهم عَلَى ذلِكَ، لَأنَّ الاحتجاج بصحيحِ هذِهِ الكُتُبِ ظاهِر في مُصَنَّفاتِهِم، شائعٌ في بِلَادِهِم.
__________
(1) " ويعرفها غيرك " ساقطة من (ش).
(2) في الأصول: " زيد "، و" القاضي زيد " ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ب).
(4) الإجماع السكوتي: هو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقولٍ وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر، فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار. وفيه مذاهب، أحدها: أنَّه ليس بإجماع، ولا حجة، والثاني: أنَّه إجماع وحجة بعد انقراض عصرهم.
والثالث: أنَّه ليس بإجماع، ولكنه حجة. انطر تفصيل المسألة في " المستصفي " 1/ 191 - 192، و" المحصول " 2/ 1/215 - 222، و" كشف الأسرار " 3/ 228، و" شرح مسلم الثبوت " 2/ 232 - 235، و" تيسير التحرير " 3/ 246 - 250، و" التقرير والتحبير " 3/ 101 - 106، و" نهاية السول " 3/ 294 - 297، و" إرشاد الفحول " ص 84 - 86، و" حاشية العطار على جمع الجوامع " 2/ 221 - 228.
(5) في (ش): " عندهم وعند غيرهم ".(3/83)
وقد رَوَى عنهمُ الإِمامُ أحمد بن سُليمانَ في " أصول الأحكام "، والمنصورُ بالله في كثيرٍ مِنْ مُصَنَّفَاتهِ، والأمير الحسين، وصاحِبُ " الكشَّافِ " وغيرُهم (1)، وشاع ذلِكَ وتكرَّرَ، فلم يُنْكَرْ على طول المُدَّةِ، فلا نعلمُ كَذِبَ منِ ادَّعى الإجماعَ السُّكُوتيَّ على ذلِكَ. وأقصى ما في الباب أَنْ يُنْقَلَ إنكارٌ لِذلِك مِنْ بعضِ العُلماءِ في بَعْض الأعصارِ، فذلِكَ النَّقْلُ في نَفْسِهِ ظَنِّيٌّ نادِرٌ، واعتبارُ القدحِ بالنَّادِرِ الظَّنيِّ في عصرٍ مخصوصٍ لا يقدَحُ في إجماعِ أَهْل عصرٍ آخر، فلا يُؤمنُ صِدْقُ مُدَّعي هذا الإجماعَ على اعتبارِ كثيرٍ مِنْ أهلِ العلم في الطَّريق إلى مَعْرِفَةِ الإجماعِ، وقد رأينا العُلمَاءَ والأئِمَّة يثْبِتونَ الإجماعَ السُّكُوتيَّ بِمِثْلِ هذا، وبِأَقَلَّ منْ هذا.
البحث الثامن: أقصى ما في الباب أنَّه ظهر للسَّيِّد غَلَطُ هذا (2) الرَّجُلِ الَّذي ادَّعى الإجماعَ، فقد يغلَطُ كثيرٌ مِنَ العْلماءِ في مِثْل ذلِكَ، ولا يكادُ يسْلمُ أحمدٌ مِمَّنْ يتعرَّضُ لدعوى الإجماعِ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ غالباً إلاَّ في الأمورِ المعلومَةِ المتواترَةِ، وقد تطابق علماءُ الاعتزالِ وكثيرٌ مِنَ الفُقهاءِ على دعوى القطع بأنَّ الصَّحابَةَ أجمعت على تقديم أبي بكرٍ في الخِلَافَةِ، وادَّعوُا القَطْعَ بأنَّ عليَّاً عليه السلام قال بذلك، فردَّ عليهمُ العُلماءُ ذلِكَ بالعبارات الحَسنةِ، ولم يُلْزِمُوهُم أنْ يكونوا (3) الصَّحابَةُ قد جُمِعُوا لهم في صعيد واحدٍ ونحو ذلك.
__________
(1) في (ب): وغيرهم من.
(2) ساقط من (ب).
(3) كذا الأصل، وهو جار على حد قول الشاعر:
يلومونني في حُبِّ سالم إخوتي ... وجلدة بين العين والأنف سالم
والمطرد في مثل هذا حذف الواو.(3/84)
البحث التاسع: يتفضَّلُ السَّيِّدُ ويخبرُنا مَنِ الذي يقولُ مِنْ أهلِ البَيْتِ بطلاقِ زوجة هذا الحَالفِ بصحَّةِ حدِيثِ البُخَارِيِّ، وينقلُ ألفاظَ أَهْلِ البيتِ ونصوصَهُمْ في ذلِكَ، فإنْ لَمْ يجِدْ نصَّاً، ولكِنِ ادَّعى عليهم أن زوجة هذا الحالف تَطْلُق، فليس تصديقُه مِنْ غيرِ دليلٍ أولى منْ تصديق هذا الَّذي ادَّعى الإجماعَ.
البحث العاشر: أنَّ الظَّاهِرَ إجماعُهم عليهم السَّلامُ على ذلِكَ، وإجماعُ غيرهم، لأنَّ المعروفَ في كتب الفِقْهِ أنَّ مَنْ حلف بالطَّلاقِ على صِحَّة أَمْرٍ، وهو يظُنَّ صِحَّتهُ، ولم يَنْكشِفْ بُطلانُهْ، لم يَحْنثْ، لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الزَّوجيَّة، ولا تَطْلُق الزَّوجَةُ بِمُجَرَّدِ الاحتمال المرجُوحِ، كما لو ظَنَّ في طائِرٍ أنَّه غُرابٌ، فحلف بالطَّلاق أنَّه غرابٌ، ثمَّ غابَ عَنْ بصرِهِ، ولم يتَمَكَّنْ مِنْ أخذِ اليقين في ذلِكَ، فإنَّ زوجته لا تَطْلُق، وكذا لو علَّق الطَّلاق بدُخول امرأتِهِ الدَّارَ، وجُوِّز أنَّها قد دخلت، وهُوَ يَظنُّ أنها لم تدخلْ، فإن زوجته لا تطلُق، بل لا يَبْعُدُ أن هذا إجماعُ في مَنْ حَلَف على ما لا يَظُنُّ صِحَّتَهُ، ولهذا تأوَّلَ النَّواوي (1) هذا الكلام بأنَّه لا يُستَحَبُّ الاحتياطُ لِمَنْ حَلَفَ بِطَلاقِ زوجَتِهِ أنَّ حديثَ كتابِ البخاريِّ صحيحٌ، ولا يحنَثُ ظاهراً ولا باطناً، لأن الأمَّةَ تَلَقتْهُ بالقبول، فَهُوَ معلومُ الصِّحَّة بطريقٍ نَظَرِيٍّ. انتهى كلام النواوي.
قلتُ: وكذلِكَ حديثُ غَيْرِ البخَارِيِّ، وغير هذِهِ الصِّحاحِ مِنْ أحاديثِ الثِّقات، فإنَّ الحالفَ عَلَى صِحَّتِه لا يحنَثُ، ولا يستَحبُّ أن يحتاطَ، لَأنَّ ظاهِرَهُ الصِّحَّةُ، وإنَّما يُسْتَحبُّ الاحتياطُ مَعَ الشَّكِّ المتساوي الطَّرَفَيْنِ أوِ الرُّجحانِ الضَّعيفِ الذي يَمْرَضُ مَعَهُ القلبُ، ألا تَرَى أنَّ
__________
(1) في " شرح مسلم " 1/ 21.(3/85)
الإِنسانَ لا يحتاط في غسْلِ ثَوْبِهِ إلاَّ مَعَ ذلِكَ؟ وكذلِكَ في إسلام زوجَتِهِ، وحِلِّ طَعَامِهِ، وما لا يأتي عَلَيْهِ العَدُّ.
البحث الحادي عشر: أنَّ بين دَفَّتي " البُخَارِيِّ " ما ليس مِنْ كَلَامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قطْعَاً، وذلِكَ مثل (1) كلامِ العُلماءَ والأبوابِ والأسَانِيدِ، وحكايةِ أفعالِهِ عليه السَّلام بلفظِ الصَّحابِيِّ أو غيرهِ، فإنْ كانَ الحَالِفُ مُمَيِّزَاً، حُمِلَتْ يمينُه على العُرْفِ في ذلك، ولم تَطْلُقْ زوجته، وإنْ كان الحالف يُمَيِّزُ (2) وأراد ظاهِرَ كلامِه، ولم يُرِدْ ما فِيهِ الحديث، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، والله أَعْلَمُ.
البحث الثاني عشر: ما (3) ذكره النَّواوي في " شرح مسلم " (4)، فإنَّه قال: إنَّ بعضَ الحُفَّاظِ قَدِ استدركوا علَى البُخَارِيِّ ومسلمٍ في مواضِعَ أخَلاَّ بشرطِهِمَا (5) فيها، ونزلَتْ عَنْ دَرَجَةِ ما الْتَزَمَاهُ.
وقد ألَّفَ الإِمامُ الحافِظُ أبو الحسن عليُّ بن عمر الدَّارقطني في بيان ذلِكَ كتابَهُ المسمَّى " بالاستدراكات والتَّتُّبع " (6)، وذلك في مائتي حديثٍ
__________
(1) في (ب): ومثل ذلك.
(2) في (ش): غير مميز.
(3) في (ب): ممَّا.
(4) 1/ 27.
(5) في (ب): بشرطيهما.
(6) طبع الكتاب بتحقيق مقبل بن هادي الوادعي، بمطبعة المدني بمصر، وتوزعه دار الخلفاء للكتاب الإسلامي بالكويت. وجاء عدد الأحاديث المنتقدة 218 حديثاً، وقد أورد الحافظ ابن حجر في كتابه " هدي الساري " الأحاديث التي انتقدها الدارقطني حديثاًً حديثاًً، ثم ساق ما حضره من الجواب عن ذلك، وقد انتهى إلى أن تلك الانتقادات ليست كلها قادحة، بل أكثرها الجوابُ عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف.(3/86)
مِمَّا في الكتابين، ولأبي مسعود الدِّمشقيِّ (1) أيضاًً عليهما استدراك، ولأبي علي الغسَّاني الجَيَّاني (2) في ذلِكَ كتابُه " تقييد المُهْمَلِ " في جُزْءِ العِلَلِ مِنْهُ استدراكٌ أكثَرُهُ على الرُّواة عَنْهُما، وفيه ما يلزَمُهُمَا.
قال النواوي: وقد أُجيبَ (3) عَنْ كل ذلكَ أو أكثَرِهِ، وستراهُ في موضعه إنْ شاء الله إلى قوله وما قدح فيه بعضُ الحُفَّاظِ، فَهُوَ مستثْنَى مِمَّا ذكرناه لِعَدَم الإجماعِ على تلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وما ذلِك إلاَّ في مواضِعَ قليلةٍ سَنُنَبِّهُ (4) على ما وقع منها في هذا الكتابِ إن شاء الله تعالى (5).
وكلام النَّواوي هذا لازمٌ فيما في " الصَّحيحين " مِنَ الأحاديث التي لا يَقْبَلُ أهلُ البيتِ عليهمُ السَّلامُ رُوَاتِها متى تَبيَّنَ وتحقَّقَ ذلكَ، مَعْ أنَّا لا نُنْكِرُ بعضَ ذلِكَ، وكذلِكَ ما تعارض معارضَةً مَحْضَةً، ولم يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ، وكذلِكَ ما أخرجه البُخاريُّ تعليقاً بصيغَةِ التَّمريضِ، أو بصيغَةِ الجَزْمِ،
__________
(1) هو الحافظ المجود البارع أبو مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي، مصنف كتاب " أطراف الصحيحين "، وأحد من برز في العلم، سافر الكثير، وروى قليلاً على سبيل المذاكرة، لأنَّه مات كهلاً في رجب سنة أربع مئة. قال الإمام الذهبي: وقفت على جزء فيه أحاديث معللة لأبي مسعود يقضي بإمامته. مترجم في " السير " 17/ 227 - 231.
(2) هو الإمام الحافظ، الحجة الناقد، أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الأندلسي الجياني، شيخ الأندلس في وقته، وصاحب رحلتهم، وأضبط الناس لكتاب، وأتقنهم لرواية مع الحظ الوافر من الأدب، والنسب، ومعرفة الرجال، ولد سنة 427 هـ وتوفي سنة 498 هـ، مترجم في " السير " 19/ 148 - 151.
وكتابه " تقييد المهمل وتمييز المشكل " جيد في بابه، كثير الفائدة، يقع في عشرة أجزاء بمجلدين، لم يطبع بعد، وعندنا منه نسخة مصورة عن أصل جيد عليه سماع تاريخه سنة 548 هـ.
(3) في (ج) و (ش): " أجبت "، والمثبت هو الموافق للمطبوع من " شرح مسلم " 1/ 26.
(4) في (ج): سنبيِّنُه.
(5) " شرح مسلم " 1/ 20.(3/87)
وإنْ كانَ الصَّحيحُ أنَّ المجزومَ بِهِ مِنْ ذلِكَ (1) مقبول، لكِنْ لا يرتقي بِهِ إلى مَرْتبة الصَحيح مِنَ المُسْنَدِ المُجْمعِ على تَلَقَيه بالقَبُول.
وقد ذكر هذا الاستثناءَ لِهذهِ الأشياء الحافظ ابن حجر في شرح كتابه " المختصر " (2) في عُلومِ الحَديثِ، وفي مُقَدِّمَةِ شَرح " صحيح البُخَارِيِّ " (3)، وأوضحَ ذلِكَ غايَةَ الإِيضاحِ، وكل هذا يجوز فيهِ أَنْ يحنَثَ باطِنَاً لا ظاهِرَاً، وَيُسْتَحَبُّ فيه الاحتياط لِمَنْ شَكَّ أو ضَعُفَ ظَنُّ الصحة عنده، وليس في هذا قَدْحٌ على راوي الإجماعِ كما زَعَمَ السَّيِّدُ، لَأنَّ ذلِكَ لم يَدَّعِ أنَّ الحالِفَ لا يحنَثُ باطِنَاً ولا يحتاطُ، وإنَّما ادَّعَى أنَّ زوجتَهُ لا تطْلُقُ، وهذا صحيحٌ لم يعْتَرَضْ.
البحث الثالث عشر: أنَّه لا طريقَ إلى العِلْمِ بِأنَّ الحديثَ المُتَلَقَّى بالقَبُول هوَ بِنَفْسِهِ لفظُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما يقْطَعُ على أنَّه (4) مَعْنَىً لفظه عِنْدَ مَنْ يقولُ: إنَّ التَلقّي بالقَبُولِ يوجِبُ القَطْعَ بالصِّحَّةِ، وإنَّما قلت
بذلِك، لَأنَّه يجوزُ أن يكون الصَّحابِيُّ أو غيرُه قد روى الحديث بالمعنى، ولا وَجْهَ للقطعِ بارتفاعِ هذا الاحتمالِ، فإنْ كان الحالِفُ قَصَدَ أنَّ الحديثَ لفظُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - استُحِبَّ لَهُ الاحتياطُ، ولم يَرْتَقِ إلى تلك المَرْتَبَةِ، وإنْ (5) قصدَ أنه حديثُه، أو معنى حَدِيثِه (6)، كان كما ذكره العلماءُ.
__________
(1) " من ذلك " ساقطة من (ب).
(2) انظر " نزهة النظر شرح نخبة الفكر " ص 26 - 27.
(3) انظر " هدي الساري " ص 346.
(4) في (ب): يقطع بأنه.
(5) في (ب): فإن.
(6) " أو معنى حديثه " سقطت من (ش).(3/88)
البحث الرابع عشر: أنَّ السيدَ أَنْكرَ طَرِيقَ (1)، مَعْرِفَة إجماع الفقَهاءِ على ذلِكَ، وقسمها قسميْنِ، لم يَجْعَلْ لهُمَا ثالِثاً.
أحدهما: أنْ يَطُوفَ المُدَّعي لَهُما جميعَ البقَاع.
وثانيهما: أنْ تُجْمَعَ لَهُ الأمَّةُ في صعيدٍ واحدٍٍ.
فأحببتُ أن أُرِيَ السيد طريقاً ثالِثَةً، وهي أنَّه قد ثبت عَنْ كثير مِنْ أَهْلِ البيتِ وغيرهم جوازُ نِسْبَةِ المذْهبِ إلى العُلماء بالتَخريج، فما المانعُ مِنْ أنَّ الرجُل يعرف مِنْ قواعدِ الفُقهاء ما يقتضي ذلك؟
قال: والذي يذهبُ إليه عُلماؤنا، ونجري على أُصولهِمْ أن في أخبار هذِهِ الكُتُبِ الصحيحَ والمعلولَ والمردود والمقبولَ.
أقول: الجوابُ على ما ذَكَرَهُ في هذا أنْ نقولَ: ما مُرادُك بأنَّ ذلِكَ فيها؟ هل (2) كثيرٌ مساوٍ للصحيح، أو أكثرُ منه، أو قريبٌ منه، أو مرادُك أنه نادر؟.
فإنْ أردتَ أنُّه كثيرٌ، فأرِنَا الدَّليلَ على دعواك حتى نُرِيَكَ الجوابَ عليها، فإنَّ الجوابَ لا يَصْلُحُ إلَّا بعدَ الابتداءِ، والانتصافُ لا يليقُ إلا بَعْدَ الاعتداء، ومُجَرَّدُ الدَّعوى مقدورٌ لِكُلِّ مُحقٍّ ومُبْطلٍ.
وإِنْ أردت أنَّ ذلِكَ فيها نادرٌ قليلٌ بالنَّظَرِ إلى ما فيها مِن الصَّحيحِ، فذلِكَ صحيحٌ عِنْدَ أهْلِ البَيْتِ عليهم السلام، وعِنْدَ المُحَقِّقِين منْ أهلِ الحديث أيضاًً، وقد تقدَّم كلامُ النَّواوي في " شرح مسلم " وفيه النَّصُّ على
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) ساقطة من (ب).(3/89)
ذلِكَ، فإنَّه ذَكَرَ أنَّهَا قد صُنِّفَتْ (1) في الاعتراضِ على الصَّحيحينِ مصنَّفات، منها كتابُ " الاستدراكات والتَّتَبُّع " للدَّارقطني، وكتابُ أبي مسعودٍ الدِّمشقِى، وكتابُ أبي علي (2) الغسانِيِّ الجَيَّاني.
وقد رَوى البخاريُّ حديث الأسود عن عائِشَةَ أنَّ بَرِيرة عَتَقَتْ، وكان زوجُها حُرَّاً، فخيَّرها رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - (3).
قال البخاري: وقولُ ابنِ عباس: " رأيتُه عبداً " أصحُّ، فبيَّن بهذا ضعفَ الحديث الذي روي في الصحيح.
وكذا قد ضعَّفَ هذا البيهَقِيُّ، فقال: إِنَّ قَوْلَهُ: " وكان حُرَّاً " مدرجٌ،
__________
(1) في (ب): أن قد صنفت.
(2) ساقطة من (ب).
(3) أخرجه البخاري (6751) من طريق شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: اشتريتُ بريرةَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اشتريها، فإنَّ الولاء لمن أعتَقَ " واهدي لها شاة، فقال: هو لها صدقة ولنا هدية " قال الحكم: وكان زوجها حراً. وقول الحكم مرسل، وقال ابن عباس: رأيته عبداً.
قال الحافظ: وقوله: " قال الحكم: وكان زوجها حراً ": هو موصول إلى الحكم بالإسناد المذكور، ووقع في رواية الإسماعيلي من رواية أبي الوليد، عن شعبة مدرجاً في الحديث، ولم يقل الحكم ذلك من قبل نفسه، فسيأتي في الباب الذي يليه من طريق منصور، عن إبراهيم أن الأسود قاله أيضاًً، فهو سلف الحكم فيه.
وقوله: " وقول الحكم مرسل " أي: ليس بمسند إلى عائشة راوية الخبر، فيكون في حكم المتصل المرفوع.
وقوله: " وقال ابن عباس: رأيته عبداً ": زاد في الباب الذي يليه (6754): وقول الأسود منقطع، أي: لم يصله بذكر عائشة فيه، وقول ابن عباس أصح، لأنَّه ذكر أنَّه رآه، وقد صح أنَّه حضر القصة وشاهدها، فيترجح قوله على قول من لم يشهدها، فإن الأسود لم يدخل المدينة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الحكم (وهو ابن عتيبة) فولد بعد ذلك بدهر طويل.
وقول ابن عباس: رأيت زوج بريرة عبداً: أخرجه البخاري (5280) و (5281) و (5282) و (5283) من طرق عن عكرمة، عن ابن عباس.(3/90)
أدرجه سفيان في الحديثِ، فأوهم أنه عنْ عائِشَةَ، وإنَّما هُو مِنْ قولِ الأسودِ نفسه، كما فصَّلَهُ أبو عَوَانة، وقد روى القاسمُ، وعُرْوةُ، ومجاهدُ، وعمرةُ (1) عَنْهَا أنَّه كانَ عبداً (2).
وكذلِكَ أبو البركات ابنُ تيمية ضعَّف ما رواهُ البخاريُّ، وكذلِكَ ابنُ الجوزي. ذكره ابن تيمية في " المنتقى " (3)، وابن الجوزي في " التحقيق " (4).
وكذلِكَ ضَعَّفوا ما رَوَاهُ البُخاريُّ ومسلم عَنِ ابنِ عبَاس أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَ ميمُونَة وهو مُحْرِم (5)، ورجَّحوا ما رواه التّرمذِيُّ عن أبي رافعٍ، وأبو داوود، ومسلم عن ميمونةَ أنَّه كان حَلالاً (6).
__________
(1) تحرف في الأصول إلى " عمر "، والتصويب من " سنن البيهقي ".
(2) انظر " سنن البيهقي " 7/ 223 - 225.
(3) انظر " المنتقى " مع شرحه " نيل الأوطار " 6/ 292 - 293.
(4) نص كلامه في النسخة المصورة عندنا، بعد أن أخرج حديث عروة، عن عائشة: كان زوج بريرة عبداً ... وحديث الأسود عنها: كان زوج بريرة حراً: الحديثان صحيحان، ولكن قد قال البخاري: قول الأسود منقطع، ثم إن رواية عروة عن عائشة -وهي خالته- والقاسم عنها -وهي عمته- أولى من البعيد. وهذه النسخة نفيسة بخط أحمد بن عبد الدائم بن نعمة المقدسي، وقد فرغ من كتابتها سنة 624 هـ، وعندنا أيضاً تنقيحه للإمام الذهبي بخطه رحمه الله.
(5) أخرجه البخاري (1837) و (4258) و (4259) و (5114)، ومسلم (1410).
وفي الباب عن عائشة عند الطحاوي في " شرح معاني الآثار " 2/ 269، وصححه ابن حبان (1271).
وعن أبي هريرة عند الطحاوي أيضاً 2/ 270، وسنده حسن.
(6) حديث أبي رافع أخرجه الترمذي (841) من طريق قتيبة، عن حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما. قال الترمذي: هذا حديث حسن ولا نعلم أحداً أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة. =(3/91)
وكذلك ضعَّفوا ما رواهُ مسلمٌ عن أسامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه دخل البيتَ، ولَمْ يُصَلِّ فيه (1)، ورجَّحُوا عليه ما رواه البخاريُّ، ومسلمٌ عن بلال أنَّه صلَّى فيه (2).
__________
= وقد رواه مالك 1/ 384 - وهو أضبط عن مطر الوراق وأحفظ- عن ربيعة، عن سليمان بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... مرسلاً.
وحديث ميمونة أخرجه أبو داود (1843)، ومسلم (1411) من طريقين عن يزيد بن الأصم بن أخي ميمونة، عن ميمونة قالت: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان بسرف.
وانظر لزاماً " شرح معاني الآثار " 2/ 270 - 273، والتعليق على " نصب الراية " 3/ 172.
(1) هو في " صحيح مسلم " (1330) في الحج، باب: استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره، والصلاة فيها، والدعاء في نواحيها كلها، من طريق ابن جريج قال: قلت لعطاء: أسمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف، ولم تؤمروا بدخوله، قال: لم يكن ينهي عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل البيت، دعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ فيه حتى خرج، فلمَّا خرج ركع في قبُل البيت ركعتين، وقال: هذه القبلة. قلت له: ما نواحيها؟ أفي زواياها؟ قال: بل في كل قبلة من البيت.
ورواه مسلم أيضاًً (1331) من طريق همام، حدثنا عطاء، عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وفيها ست سَوَارٍ، فقام عند ساريةٍ، فدعا ولم يُصَلِّ.
وأخرجه البخاري (1601) من طريق أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس ... وفيه: فدخل البيت، وكبر في نواحيه، ولم يصل فيه.
(2) أخرجه البخاري (504) و (505) و (1599)، ومسلم (1329)، ومالك 1/ 398 عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو، وأسامة، وبلال، وعثمان بن طلحة الحجَبي، فأغلقها عليه، ثم مكث فيها. قال ابن عمر: فسألت بلالاً حين خرج: ما صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: جعل عمودين عن يساره، وعموداً عن يمينه، وثلاث أعمدة وراءه، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة، ثم صلى.
قال الحافظ في " الفتح " 3/ 468: وقد يقدم إثبات بلال على نفي غيره لأمرين: أحدهما: أنَّه لم يكن (أي: ابن عباس) مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يومئذ، وإنما أسند نفيه تارة لأسامة، وتارة لأخيه الفضل مع أنَّه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة. وقد روى أحمد 1/ 210 من طريق ابن عباس، عن أخيه الفضل نفي الصلاة فيها، فيحتمل أن يكون تلقاه عن أسامة، فإنه كان معه كما تقدم ... وابن عباس روى عن أسامة نفي الصلاة فيها عند مسلم (1330)، وقد وقع إثبات صلاته فيها عن أسامة من رواية ابن عمر، عن أسامة عند أحمد =(3/92)
وكذلك ضعَّفُوا ما روى مسلمٌ (1) منْ طريقِ عِكْرِمَةَ بنِ عَمَّار أنَّ أبا سفيان طلب مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلامه أَنْ يُزَوِّجَهُ أُمَّ حبيبةَ، حَتَّى قال ابنُ
__________
= 5/ 204 وغيره، فتعارضت الرواية في ذلك عنه، فتترجح رواية بلال من جهة أنَّه مثبت وغيره ناف، ومن جهة أنَّه لم يختلف عليه في الإثبات، واختلف على من نفي.
وقال النووي وغيره: يجمع بين إثبات بلال ونفي أسامة بأنهم لما دخلوا الكلعبة، اشتغلوا بالدعاء، فرأي أسامة النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو، فاشتغل أسامة بالدعاء في ناحية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في ناحية، ثم صلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فرآه بلال لقربه منه، ولم يره أسامة لبعده عنه واشتغاله، ولأن بإغلاق الباب تكون الظلمة مع احتمال أن يحجبه عنه بعض الأعمدة، فنفاها عملاً بظنه.
(1) رقم (2501) في فضائل الصحابة، باب: من فضائل أبي سفيان بن حرب رضي الله عنه من طريق النضر بن محمد اليمامي، حدثنا عكرمة، حدثنا أبو زميل، حدثني ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان، ولا يقاعدونه، فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا نبي الله، ثلاثاً أعْطِنيهنَّ، قال: " نعم "، قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجُكها، قال: " نعم " قال: ومعاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: " نعم "، قال: وتؤمِّرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: " نعم ".
قال أبو زميل: ولولا أنه طلب ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ما أعطاه ذلك، لأنَّه لم يكن يسأل شيئاً إلا قال: نعم.
قلت: قد انتقد أهل العلم هذا الحديث من جهة متنه، ومن جهة إسناده، أما جهة متنه فقد اتفق أهل العلم على أن أم حبيبة -واسمها رملة بنت صخر- كانت تحت عبيد الله بن جحش، وولدت له، وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر، وثبتت أم حبيبة على دينها، فبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوجه إياها وأصدقها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة آلاف درهم، وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان سنة ثمان إلى المدينة، فدخل عليها، فثنت بساط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما عام الفتح، وبين الهجرة والفتح عدة سنين، وأما إمارة أبي سفيان، فلم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - ولاّه على شيء.
وأما من جهة السند، فإن عكرمة -وهو ابن عمار العجلي- مختلف فيه، ضعفه يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: ليست أحاديثه بصحاح، وقال الإمام أحمد: عكرمة مضطرب الحديث عن غير إياس بن سلمة، وقال أبو حاتم: عكرمة هذا صدوق، وربما وهم، وربما دلس، ووثقه ابن معين، وأبو داوود، وقال النسائي: ليس به بأس إلا في حديث يحيى بن أبي كثير، ووصفه ابن معين بأنه أمي. وقال الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3/ 93: وفي " صحيح مسلم " قد ساق له أصلاً منكراً عن أبي زميل سماك الحنفي، عن ابن عباس في الثلاثة التي =(3/93)
حزم: إنَّه حديث موضوعٌ، وضعه عكرمة، لأنَّ المعلومَ أنَّه - صلى الله عليه وسلم - تزَوَّجَها قبل إسلامِ أبي سفيان.
وردَّ عليه ابنُ كثير بأشياءَ جَمَعَها في جُزْءٍ مُفْرَدٍ، وصَحَّح أنَّ أبا سفيان سأل النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يزَوِّجَه عَزَّةَ أُخت أمِّ حبيبة، واستعان بأُم (1) حبيبة، فقد ثبَتَ (2) في " صحيح البُخاري " و" مسلم " (3) أنها عرضت أختها على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " إنَّهَا لا تَحِلُّ لِي "، ولكِنْ غَلِطَ الرَّاوي في اسمَ عَزَّةَ (4).
وأمثالُ هذا كثيرَةٌ ظاهِرَةٌ عنهم، ولكِنْ لا بُدَّ مِنْ ذكر فائِدَة تشتمل على التَّعريف بِمَا قُدِحَ بهِ على البخاريِّ ومسلمٍ على سبيلِ الجُمْلَةِ، لئَلاَّ يتوهَّمَ مَنْ لا خِبْرَةَ لَهُ أنَّ في رُواةِ كتابَيْهِما المعتَمدَيْنِ مَنْ هُوَ مَجروحٌ يتعمَّدُ المعاصي، أو ضعيفٌ بمَرَّة لا يَحِلُّ الاعتماد عليه في التَّحليل والتَّحريم.
فأقول: المضعَّف عليهما نوعان.
__________
= طلبها أبو سفيان ...
وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب، ولم يكن له كتاب.
(1) في (ب): أم.
(2) في (ش): صح.
(3) هو في البخاري (5107) في النكاح، باب: وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف، ومسلم (1449) (16) في الرضاع، باب: تحريم الربيبة وأخت المرأة، من طريق ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة.
(4) لكن يرد هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم، وأجابه إلى ما سأل، فلو كان المسؤول أن يزوجه أختها، لقال: إنها لا تحل لي، كما قال ذلك لأم حبيبة. قال ابن القيم في " جلاء الأفهام " ص 129: ولولا هذا لكان هذا التأويل من أحسن التأويلات. وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله- في " جلاء الأفهام " ما أجاب به غير واحد من أهل العلم عن الإشكال الموجود في هذا الحديث، ولم يرتضها كلها، وقال: الصواب أن الحديث غير محفوظ، بل وقع فيه تخليط.(3/94)
النوع الأول: المعلولُ، ومثالُه: أن يرفَعَ الحديثَ بعضُ الثِّقات، ويقفَهُ الباقون، أو يُسْنِدَه ويُرْسِلُوه، أو نحو ذلك مِن العِلَل، وهذا النَّوع ممَّا يقدَحُ في الصحةِ عند المحدِّثين، ولا يقدَحُ في الرَّاوي، ولا يقدَحُ عند الأصوليّين في الصحة ولا في الرَّاوي، والذي في كُتُبِ أهل البيتِ عليهم السلام أنَّه لا يقدح بهذا النَّوعِ.
مثالُ ذلك، حديثُ البخاريِّ عَنِ الشِّعبي، عن جابرٍ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تُنْكحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتهَا " (1). هذا الحديث رواه ثِقَات، لكِنِ المشهورُ أنَّ الشِّعْبِيَّ رواهُ عَنْ أبي هُريرة، لا عن جابرٍ، فرِوَايَةُ البُخاري له مِنْ طريقِ جابرٍ غيرُ صحِيحَةٍ عندهم لهذِهِ العلَّةِ، لأنَّ الذي يَغْلِبُ عَلَى الظن أن الشِّعبيّ لو كان يحفَظُه عن أبي هريرةَ وجابرٍ معاً، ما رواه الحُفَّاظُ الثِّقَاتُ عن أبي هريرة وَحْدَهُ.
فهذا وأمثالُه مِمَّا يقدحون بِهِ أَمْرُهُ قريب (2) عندنا، لأنَّه إنَّما يدُلُّ علَى أنَّ الثِّقَةَ وَهم في رِوَايَته، والوَهْمُ جائِزٌ على الثِّقات، ولا يقدح بِمُطْلَقِهِ إجماعاً، بل إذا كان حِفْظُه أكثرَ قُبِلَ إجماعاً، ذكره عبد الله بن زيد في " الدُّرر "، لأن ارتفاعَهُ عَنِ البَشَير غَيْرُ مقدورٍ لهم، وإنَّما اختلف العُلماء فيما يقدَحُ به منه.
فقال جمهورُ الأصوليّين: إذا غلب الوَهْمُ على حديثه، وكان أكْثَرَ مِنَ الصَّواب أوِ اسْتَوَيَا حتَّى يَبْطُلُ ظَنُّ إصابَتِه، ولا يُمْكِنُ ترجيحُها، فهُنا يَبْطلُ الاحتجاجُ به إجماعاً.
__________
(1) تقدم تخريجه في 2/ 54 - 55.
(2) في (ش): " قريباً "، هو خطأ.(3/95)
وقال بعضُهم: لا بُدَّ مِنْ كثرة وَهْمِهِ وزيادَتِه على صَوَابِهِ، وَإِنِ استويا (1) قُبِلَ لِعُمُوم الَأدِلَّة الموجِبَةِ لقبُوله، وعَدَمِ انتهاض الاستواءِ لتخصيصِ العُموماتِ، واختاره الإمامُ المنصور بالله في " الصفوة "، وعبد الله بن زيد في " الدرر ".
وأمَّا المحدِّثُون، فالظاهِرُ منهم أنَّ المُحَدِّثَ متى كَثُرَ وهمُه، ودخل في حيِّزِ الكثْرَة، بطل الاحتجاجُ به، وإنْ كان صوابُه أكثر، وإنَّما يحتجُّون بِمَنْ قلَّ وَهْمُه وَنَدَرَ، فافْهمْ ذلِكَ.
ومِنْهُمْ مَنْ يغلو غُلُوَّاً منكراً، فيُضَعِّفُ الرَّاوي بالوهم النَّادِرِ، وهذا مخالِفٌ للإجماع، غيرُ مُمْكِنٌ اعتبارُه، ولا ملتفت إلى قائِلهِ، ومثل هذا لا يُعَدَّ مذهباً، وإنَّما هُوَ جَهْلٌ مَحْضٌ، والله أعلمُ.
النوع الثاني: مما يقدح (2) عليهما بِهِ الرِّوايةُ عَنْ بعضِ مَنِ اختلف في جَرْحِهِ وتعديلِهِ.
وقد ذكر النَّواوي ذلِكَ، وذكر الجوابَ عليه، وأنا أورِدُ كلامهُ بلفظه. قال في " شرح مسلم " (3): فصل: عابَ عائِبونَ مُسْلمَاً بِرِوايَتِه في " صحيحِه " عنْ جماعَةٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ والمُتَوَسِّطين الواقعين في الدرجةِ الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح، ولا عيبَ عليه في ذلك، بل جوابُه من أوجُهٍ، ذكرها الشَّيخُ أبو عمرو بنِ الصَّلاحِ (4).
__________
(1) من قوله: " حتى يبطل " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): قدح.
(3) 1/ 25.
(4) في كتابه " صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط " انظر ص 94.(3/96)
أحدها: أن يكونَ ذلِكَ في مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، ثقَةٌ عِنْدَهُ، ولا يقال: الجرحُ مُقَدَّمٌ على التَّعديلِ، لأنَّ ذلِكَ فيما إذا كان الجرحُ ثابِتَاً مُفَسَّراً، وإلاَّ فلا يقْبَلُ الجَرْحُ إذا لم يكنْ كذلِكَ.
وقد قال الإمامُ الحافظُ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتجَّ البُخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود [به] منْ جماعةٍ عُلِمَ الطَّعْنُ فيهم منْ غيرهم مَحْمُولٌ عَلَى أنَّه لم يثبتِ الطَّعْن المؤثِّر مفسَّر السَّببِ. انتهى كلام النواوي.
قال شيخ الإِسلامُ عُمَرُ بنُ رسلان البُلْقيني في كتابه " علوم الحديث " (1): ولا يلزمُ ذلِكَ لجوازِ أنْ يكونَ لم يثبُت عِنْدَهُمُ الجَرْحُ، وإن فُسِّرَ هذا هو الأقربُ، فإنَّ المذكورين ما مِنْ شَخْصٍ منهم إلا وَنُسِبَ إلى (2) أشياءَ مفَسَّرَة مِنْ كَذِبٍ وغيره، يَعْرِفُ ذلِكَ مَنْ راجَعَ كُتُبَ القَوْمِ، ولكِنَّها لَمْ تثبُتْ عند مَنْ أَخَذَ بحديثهِمْ، ووثَّقَهم، وروى عنهم. انتهى.
قلتُ: وهذا بَيّنٌ وقد بسطتُ الدَّليل عليه في علوم الحديث (3).
رجعنا إلى كلام النَّواوي رحمه الله.
الثَّاني: أنْ يكونَ ذَلِكَ واقعاً في المُتَابَعَاتِ، والشَّواهد، وقد اعتذر الحاكِمُ أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجِهِ عَنْ جماعةٍ ليسُوا مِنْ شَرْطِ الصَّحيح، منهم مَطَرُ بن الوَرَّاق (4)،
__________
(1) المسمى بـ " محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح " وقد تقدم التعريف به 1/ 310 وكلامه هذا في الصفحة 221 منه.
(2) في (ب): إليه.
(3) انظر " توضيح الأفكار " 2/ 133 - 161.
(4) هو مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء الخراساني السلمي. قال يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: صالح، وقال البزار: ليس به بأس، وقال العجلي: بصري صدوق، وقال مرة: لا بأس به وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال: ربما أخطأ، وقال النسائي: =(3/97)
وبقيَّةُ (1) بن الوليد (2)، ومحمَّد بنُ إسحاق بنِ يسار (3)، وعبدُ الله
__________
= ليس بالقوي، وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث، وضعفه غير واحد في عطاء خاصة، وذكره الذهبي في " من تكلم فيه وهو موثق " ص 175، وقال: صدوق مشهور، ضعف في عطاء، وقال في " الميزان " بعد أن نقل قول عثمان بن دحية في مطر: لا يساوي دستجة بقل: فهذا غلو من عثمان، فمطر من رجال مسلم، حسن الحديث، وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف.
(1) تحرفت في (ش) إلى: وثقه.
(2) هو بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي الحميري، قال الذهبي في " أسماء من تكلم فيه وهو موثق " ص 54: من وعاة العلم، مختلف في الاحتجاج به، وبعضهم قبله على كثرة مناكيره عن الثقات، وقال النسائي: إذا قال: حدثنا أو أخبرنا، فهو ثقة، وإذا قال: عن فلان، فلا يؤخذ عنه، لأنَّه لا يدري عمن أخذه، خرج له مسلم في الشواهد. قلت: وروى له البخاري تعليقاً، وقال ابن عدي: يخالف في بعض روايته الثقات، وإذا روى عن أهل الشام، فهو ثبت، وإذا روى عن غيرهم خلط، وإذا روى عن المجهولين، فالعهدة منهم لا منه. وقال الذهبي في " الميزان ": قال أبو الحسن بن القطان: بقية يدلس عن الضعفاء، ويستبيح ذلك، وهذا -إن صح- مفسد لعدالته. قلت (القائل الذهبي): نعم والله صح هذا عنه أنَّه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم، وعن جماعة كبار فعله، وهذه بلية منهم، ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد، وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنَّه تعمد الكذب، وهذا أمثل ما يُعتذر به عنهم. وانظر " جامع التحصيل " ص 114.
(3) العلامة، الحافظ، الأخباري، صاحب السيرة النبوية. قال الذهبي في " السير " 7/ 39: قد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأشياء، منها تشيعه ونسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه، وقال في " ميزان الاعتدال " 3/ 475: فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به أئمة. وقال البخاري: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق، وذكر عن سفيان أنَّه ما رأي أحداً يتهمه، وقال يونس بن بكير: سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المحدثين لحفظه. وقال أبو زرعة الدمشقي: ابن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخد عنه، منهم سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد، وروى عنه القدماء يزيد بن أبي حبيب، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقاً وخيراً مع مدح ابن شهاب له، وقد ذاكرت دحيماً قول مالك، فرأي أن ذلك ليس للحديث، وإنما هو لأنَّه اتّهم بالقدر.
قلت: الذي عليه المحققون من الأئمة في هذا الفن تقوية حديث ابن إسحاق والاحتجاج به إذا صرح فيه بالسماع دون ما رواه بالعنعنة.(3/98)
بنُ عمر العمري (1)، والنُّعمان بن راشد (2)، وأخرج مسلمٌ عنهم في الشَّواهد في أشباه لهم كثيرين.
الثالِثُ: أن يكونَ ضَعْفُ الضَّعِيفِ الَّذي احتجَّ بِهِ طَرَأَ بَعْدَ أخذهِ عَنْهُ باختلاطٍ حَدَثَ عليه، غيرِ قادحٍ فيما رواه مِنْ قَبْلُ في زمنِ استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمان بن وهب (3) ابن أخي عبدِ الله بن وهب، فذكر
__________
(1) هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أخو عبيد الله، ضعيف لسوء حفظه، يكتب حديثه ولا يحتج به، فهو يصلح للمتابعات والشواهد.
(2) هو الجزري الرقي مولى بني أمية، ضعفه يحيى القطان، وابن معين، وأبو داود، والنسائي، والعقيلي، وقال أحمد: مضطرب الحديث، وقال البخاري، وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير، وهو في الأصل صدوق، وقال ابن عدي: احتمله الناس، وفي رواية عن ابن معين: ثقة، ومع ذلك فقد ذكره الذهبي في " من تكلم فيه وهو موثق " ص 184، وقال: حسن الحديث، وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق سيئ الحفظ.
(3) هو الحافظ العالم المحدث أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري، الملقب ببحشل ابن أخي عالم مصر عبد الله بن وهب المتوفى سنة 264 هـ.
وثقه محمد بن عبد الله بن الحكم، وعبد الملك بن شعب بن الليث، وكان أبو الطاهر ابن السرح يحسن القول فيه، وسأل أصحاب الحديث عنه هارون بن سعيد الأيلي، فقال لهم: إنما يسأل أبو عبيد الله عنا، ليس نحن نسأل عنه، وهو الذي كان يستملي لنا عند عمه، وهو الذي كان يقرأ لنا على عمه.
قال ابن أبي حاتم 2/ 60: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، ثم قال: كتبنا عنه، وأمره يستقيم، ثم خلط بعد، ثم جاءني خبره أنَّه رجع عن التخليط، قال: وسئل أبي عنه بعد ذلك، فقال: كان صدوقاً.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة -وأتاه بعض رفقائي فحكى عن عبيد الله بن وهب أنه رجع عن تلك الأحاديث- فقال أبو زرعة: إن رجوعه مما يحسن حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك.
وقيل لابن خزيمة: لم رويت عنه وتركت سفيان بن وكيع، فقال: لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهري، عن أنس: " إذا حضر العشاء "، فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع، فإن وراقه أدخل عليه أحاديث فرواها، وكلمناه، فلم يرجع عنها، فاستخرت الله، وتركت الرواية عنه. وقال: ابن عدي: ومن ضعفه أنكر عليه أحاديث وكثرة روايته عن =(3/99)
الحاكم أبو عبد الله (1) أنَّه اختُلِطَ بَعْدَ الخمسين ومئتين بعدَ خروجِ مسلم مِنْ مِصْر، وهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة (2)،
__________
= عمه، وحرملة أكثر رواية عن عمه منه، وكل ما أنكروه عليه فمحتمل، وإن لم يروه عن عمه غيره، لعله خصه به.
وقال الإمام الذهبي في " السير " 12/ 323: قلت: كان من أبناء التسعين رحمه الله، وقد روى ألوفاً من الحديث على الصحة، فخمسة أحاديث منكرة في جنب ذلك ليست بموجبة لتركه. نعم، ولا هو في القوة كيونس بن عبد الأعلى، وبندار.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد صح رجوع أحمد عن هذه الأحاديث التي أنكرت عليه، لأجل ذلك اعتمده ابن خزيمة من المتقدمين، وابن القطان من المتأخرين.
(1) نص كلام الحاكم عند مغلطاي في كتابه " إكمال تهذيب الكمال " 1/الورقة 18 قال أبو عبد الله الحاكم: قلت لأبي عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: إن مسلماً حدث عن ابن أخي ابن وهب، فقال: إن ابن أخي ابن وهب ابتلي بعد خروج مسلم من مصر، ونحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين، وذلك بعد خروج مسلم، والدليل عليه أحاديث جمعت عليه بمصر لا يكاد يقبلها العقل، وأهل الصنعة من تأملها منهم، علم أنها مختلقة أدخلت عليه، فقبلها، فما يُشبه حال مسلم معه إلا حال المتقدمين من أصحاب ابن أبي عروبة، إنهم أخذوا عنه قبل الاختلاط، وكانوا فيه على أصلهم الصحيح، فكذلك مسلم أخذ عنه قبل تغيره واختلاطه.
فهذا النقل يبين أن الحاكم لم يقل ذلك، وإنما نقله عن محمد بن يعقوب الحافظ الثقة أبو العباس الأصم النيسابوري، المترجم في " تذكرة الحفاظ " 3/ 860 - 863.
(2) تحرف في الأصول كلها إلى " عروة ". وسعيد بن أبي عروبة -واسم أبي عروبة مِهران- العدوي مولى بني يشكر أبو النضر البصري، من كبار الأئمة، وثقه الأئمة كلهم، واحتج به الشيخان، وكان قد اختلط سنة خمس وأربعين ومئة، ومات سنة 156، وقيل: سنة 157.
وممن سمع منه قبل اختلاطه: عبد الله بن المبارك، ويزيد بن زريع، وشعيب بن إسحاق، ويزيد بن هارون، وعبدة بن سليمان، وشعيب بن إسحاق، وعبد الأعلى السامي، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن بشر، ومحمد بن بكر البرساني، وعيسى بن يونس، وعبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، وروح بن عبادة، وأسباط بن محمد، وسفيان بن حبيب، وسرَّار بن مجشر، ومصعب بن ماهان، وحماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، والثوري، وشعبة، وأبو أسامة، والأعمش.
وممن سمع منه بعد الاختلاط: الفضل بن دكين، ووكيع، والمعافى بن عمران، ومحمد بن جعفر الملقب بغندر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن أبي عدي، وعبد =(3/100)
وعبد الرزَّاق (1)، وغيرهما مِمَّنِ اختُلِط آخراً، ولم يمنع ذَلِكَ مِنْ صِحَّة
__________
= الرحمن بن مهدي، وعمرو بن الهيثم أبو قطن. انظر " الكواكب النيرات " مع تعليق المحقق ص 190 - 212.
قال الحافظ في " هدي الساري " ص 406: لم يخرج له البخاري عن غير قتادة سوى حديث واحد أورده في كتاب اللباس، من طريق عبد الأعلى عنه، قال: سمعت النضر بن أنس يحدث عن قتادة، عن ابن عباس، فذكر حديث: " من صور صورة "، وقد وافقه على إخراج مسلم، ورواه أيضاً من حديث هشام، عن قتادة، عن النضر، وأمَّا ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثره من رواية من سمع منه قبل الاختلاط. وأخرج عمن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً كمحمد بن عبد الله الأنصاري، وروح بن عبادة، وابن أبي عدي، فإذا أخرج من حديث هؤلاء انتقى منه ما توافقوا عليه ... واحتج به الباقون.
(1) قال أحمد: أتيناه قبل المئتين، وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع، وقال أيضاً: من سمع منه بعدما عمي، فليس بشيء، وما كان في كتبه، فهو صحيح، وما ليس في كتبه، فإنه كان يُلقن فيتلقن. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة، كتبوا عنه أحاديث مناكير.
قلت: وممن سَمِعَ منه بأخرة: إبراهيم بن منصور الرمادي، وأحمد بن محمد بن شبويه، وإسحاق بن إبراهيم الدبري، ومحمد بن حماد الطِّهراني.
قال إبراهيم الحربي: مات عبد الرزاق وللدبري ست أو سبع سنين، وكذا قال الذهبي: اعتنى به أبوه، فأسمعه من عبد الرزاق تصانيفه وله سبع سنين، ونحوه قول ابن عدي: إنه استصغر فيه، وقال ابن الصلاح: وقد وجدت فيما روي عن الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق أحاديث استنكرتها جداً، فأحلت أمرها على ذلك، فإن سماع الدبري متأخر جداً. ومع ذلك فقد احتج به وأبو عوانة في " صحيحه ".
قلت: حديث عبد الرزاق عند الشيخين من جهة إسحاق بن راهويه، وإسحاق بن منصور الكوسج، ومحمود بن غيلان، عنه.
وعند البخاري فقط من جهة علي بن المديني، وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي، وعبد الله بن محمد المسندي، ومحمد بن يحيى الذهلي، ويحيى بن جعفر البيكندي، ويحيى بن موسى البلخي الملقب خت عنه.
وعند مسلم فقط من جهة أحمد بن حنبل، وأحمد بن يوسف السلمي، وحجاج بن يوسف الشاعر، والحسن بن علي الخلال، وسلمة بن شبيب، وعبد بن حميد، وعمرو بن محمد الناقد، ومحمد بن رافع، ومحمد بن مهران، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَني، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم. انظر " التقييد والإيضاح " ص 407 - 408، و" التبصرة والتذكرة " 3/ 270، و" الباعث الحثيث " ص 152، و" فتح المغيث " 3/ 376 - 377، و" هدي الساري " ص 419 - 420، و" الكواكب النيرات " ص 281. =(3/101)
الاحتجاج في الصَّحيحَيْن بما أُخِذَ عنهم قَبْلَ ذلِكَ.
الرابع: أن يعلو (1) بالشَّخْصِ الضَّعيفِ إسنادُه، وهو عِنْدَهُ مِنْ
رواية الثِّقَات [نازِل]، فيقتصِرُ على العالي، ولا يُطَوِّل (2) بإضافةِ النَّازل
مُكْتَفِيَاً بمعرِفَةِ أَهْلِ الشَّأْنِ [في] ذلك، وهذا العُذْر (3) قد رَوينَاهُ عنه
تَنْصِيصَاً، وَهُوَ خلافُ حالِهِ فيما رواه عَنِ الثِّقاتِ أوَّلاً، ثُمَّ أتبعهم بِمَنْ (4)
دونَهُم متابَعَةً، وكأنَّ ذلِكَ وَقَعَ منه بحسبِ حُصولِ باعثِ النَّشاط وغيبته،
روينا عَنْ سعيد بن عمرو أنَّه حضر أبا زرعة، وذكر " صحيح مسلم "
__________
= وكذا كان العقيلي يصحح روايته، وأدخلها في الصحيح الذي ألفه، وأكثر عنه الطبراني، وقال الحاكم: قلت للدارقطني: أيدخل في الصحيح؟ قال: أي والله.
قال الحافظ العراقي وغيره: وكأن من احتج به لم يبالِ بتغير عبد الرزاق لكونه إنما حدثه من كتبه لا من حفظه. ونحوه قول ابن كثير: من يكون اعتماده في حديثه على حفظه وضبطه ينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن، وأما إذا كان الاعتماد على كتابه وضبطه، فلا.
وقال الحافظ ابن حجر: المناكير الواقعة في حديث الدبري إنما سببها أنَّه سمع من عبد الرزاق بعد اختلاطه، فما يوجد من حديث الدبري عن عبد الرزاق في مصنفات عبد الرزاق، فلا يلحق الدبري منه تبعة إلا إن صحف وحرَّف، وقد جمع القاضي محمد بن أحمد بن مفرج القرطبي الحروف التي أخطأ فيها الدبري، وصحفها في " مصنف عبد الرزاق "، وإنما الكلام في الأحاديث التي عند الدبري في غير التصانيف، فهي التي فيها المناكير، وذلك لأجل سماعه منه في حال اختلاطه.
فهذه النقول تدل دلالة واضحة على أن تغير عبد الرزاق بعد العمى لا يؤثر في مصنفاته، لأنها دونت قبل أن يتغير، وسماع الدبري اعتماده على الكتاب لا على الحفظ. وقد ذهل عن هذا من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا، فضعف حديثاًً أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "، وحجته في ذلك أنَّه لا يدري هل حدَّث به عبد الرزاق قبل التغير أم لا!!
(1) تحرفت في الأصول إلى: " يعلق "، والتصويب من " شرح مسلم " للنووي، و" صيانة صحيح مسلم " لابن الصلاح.
(2) في الأصول: " يكون "، والتصويب من " شرح مسلم " و" صيانة صحيح مسلم ".
(3) في (ج): " القدر "، وليس بشيء.
(4) في (أ) و (ج): " لمن "، ولفظ ابن الصلاح: وهو على خلاف حاله فيما رواه أولاً عن الثقات، ثم أتبعه بالمتابعة عمن هو دونهم.(3/102)
وإنكار (1) أبي زُرعة عليه روايَتَهُ عَنْ أسباط بن (2) نَصْر، وقطنُ بن نُسَيْر (3)، وأحمد بن عيسى المصري (4) إلى قوله، فقال: إنَّما أدخلتُ من حديث أسباطَ وقَطنٍ وأحمد ما قد رواه الثِّقَاتُ عَنْ شُيوخهم، إلاَّ أنَّه رُبَّما وَقعَ (5) إليَّ عنهم (6) بارتَفاعٍ، ويكون عندي برِوَايةٍ أوثقَ منهم بنُزُولٍ، فأَقْتصِرُ عَلَى ذلِكَ، وأصلُ الحديث معروف مِنْ رِوَايَة الثِّقَاتِ إلى قوله: فَهذا مَقامٌ وَعِرٌ، وقد مهدتُهُ بواضحٍ مِنَ القَوْل لم أَرَهُ مجتمعاً في مؤلَّفٍ وللهِ الحَمْدُ، انتهى كلام النَّواوي.
وفيه ما يَدُلُّ على أنَّهُ لا يعترض على حُفَّاظ الحديث إذا رَوَوْا حديثاً
__________
(1) في (ب): و" أنكر"، وليس بشيء.
(2) ساقطة من (ب). وأسباط بن نصر هو أبو يوسف الهَمْدَاني، ويقال: أبو نصر، قال الحافظ: صدوق، كثير الخطأ، يُغرب، روى له البخاري في " الأدب المفرد "، ومسلم في " صحيحه "، وأصحاب السنن الأربعة. وانظر " تهذيب الكمال " 2/ 357 - 359 طبع مؤسسة الرسالة.
(3) " نُسَير " بضم النون، وفتح السين، وسكون الباء، وقد تحرف في الأصول إلى "بشر". قال الحافظ في " التقريب ": قطن بن نُسير أبو عباد البصري العُبَري الذراع: صدوق يخطىء (م د س).
(4) قال الحافظ في " هدى الساري " ص 387: أحمد بن عيسى التستري المصري: عاب أبو زرعة على مسلم تخريج حديثه، ولم يبين سبب ذلك، وقد احتج به النسائي مع تعنته، وقال الخطيب: لم أر لمن تكلم فيه حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه. قلت (القائل ابن حجر): وقع التصريح به في " صحيح البخاري " في رواية أبي ذر الهروي، وذلك في ثلاثة مواضع: أحدها: حديثه عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: إن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - الطواف. وقد تابعه عليه عنده أصبغ، عن ابن وهب. ثانيها: حديثه عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه في المواقيت مقروناً بسفيان بن عيينة، عن الزهري. وثالثها: هذا الإسناد في الإهلال من ذي الحليفة بمتابعة ابن المبارك، عن يونس. وقد أخرج مسلم الحديثين الأخيرين عن حرملة، عن ابن وهب، فما أخرج له البخاري شيئاً تفرد به. ووقع في البخاري عدة مواضع غير هذه يقول فيها: حدثنا أحمد عن ابن وهب، ولا ينسبه ...
(5) في (أ) و (ب) و (ج): " رفع "، وهو خطأ.
(6) في (ب): منهم.(3/103)
عَنْ بعض الضُّعفاء، وادَّعَوا صِحتَهُ حَتَّى يُعْلَمَ أنَّه لا جابرَ لِذلكَ الضَّعْفِ مِن الشَّواهد والمتَابَعَاتِ، ومعرِفَة هذا عزيزةٌ لا تَحْصُلُ إلاَّ للمَهَرةِ مِنَ الحُفَّاطِ، وأهْلِ الدِّرْيَةِ التَّامَّةِ بهذا الفَنِّ.
وقد رُئيَ عِنْدَ بَعْضِ (1) الحُفَّاظِ الجزءُ النَّيِّفُ والعشرون من مسند أبي بكر، فقيل له: ما هذا، وأحاديثُ أبي بكرٍ الصِّحاحُ لا تزيد على خمسين، أو لا تكون خمسين حديثاًً؟ فقال: إنَّ الحديث يكونُ معي مِنْ مئَةِ طريقٍ، أو كما قال.
ولقد صنَّف الحافظُ العلامةُ محمد بنُ جريرٍ الطبري (2) كتاباً في طرق حديث الطير (3) في فضائل علي عليه السَّلامُ لمَّا سمع رجلاً يقول: إنه
__________
(1) ساقطه من (ش).
(2) هو الإمام العلم الحافظ المجتهد المتفنن أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري من أهل آمل طبرستان، صاحب التصانيف البديعة السائرة، المتوفى سنة 310 هـ.
قال الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتاريخهم، وله كتاب التفسير لم يصنف مثله، وكتاب سماه " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه، ولكنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قلت: وكتاب " تهذيب الآثار " طبع منه ثلاثة أجزاء بتحقيق الأستاذ الكبير شيخ العربية في هذا العصر محمود محمد شاكر، حفظه الله ورعاه، وأمدَّ في حياته ليتم تحقيق ما تبقى من أجزاء من " جامع البيان " للإمام الطبري، وهو -كما يقول أخوه العلامة المحدث أحمد شاكر رحمه الله في مقدمة الجزء الأول- فيما أعلم خيرُ من يستطيع أن يحمل هذا العبءَ، وأن يقوم بهذا العمل حقَّ القيام أو قريباً من ذلك، لا أعرف أحداً غيره له أهلاً. وانظر ترجمة الطبري في " السير " 14/ 267 - 282.
(3) هذا وهم من المؤلف -رحمه الله- والصواب: حديث غديرخم، وفيه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي رضي الله عنه: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه " =(3/104)
ضعيف. قال الذَّهبيُّ: وقفتُ علَى هذا الكتاب، فاندهشتُ لكثرَةِ ما فيه مِنَ الطُّرُقِ.
ومِن الغَرَائِب (1) في هذا المعنى أنَّ كثيراً منْ أهلِ الحديث يعتقد في حديث " الأعمالُ بالنِّيَّاتِ " (2) أنَّهُ حديث غريبٌ ما رواه إلاَّ عمر بن الخطاب، مِمَّن نصَّ على ذلك: الحافظ أبو بكر أحمدُ بنُ عمرو (3) البزَّار (4) في " مسنده "، فإنَّه ذكر أنه لا يَصِحُّ إلا مِنْ حديث عُمرَ.
قال حافظُ العصر ابنُ حجر: وكأنَّه أراد بهذا اللَّفظِ والسَياقِ، وإلا
__________
= كما في " تذكرة الحفاظ " 2/ 713، و" السير " 14/ 277، ولفظ الأخير: قلت: جمع طرق حديث غديرخم في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. وقد تقدم تخريج الحديث في 1/ 369 - 370.
وأما حديث الطير فلا يصح. روى الذهبي في " السير " في ترجمة الحاكم 17/ 168 من طريق أبي نعيم الحداد، سمعت الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ، سمعت أبا عبد الرحمن الشاذياخي الحاكم يقول: كنا في مجلس السَّيِّد أبي الحسن، فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير، فقال: لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الذهبي: فهذه حكاية قوية، فما باله (يعني الحاكم) أخرج حديث الطير في " المستدرك ".
(1) في (ش): الغرب.
(2) متفق عليه من حديث عمر، وقد خرجته في أكثر من موضع.
(3) تحرف في (أ) و (ج) و (ش) إلى " عمر "، وجاء في (ب): عبد.
(4) هو الشيخ الإمام الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار، صاحب " المسند " الكبير الذي تكلم على أسانيده، المتوفى سنة 292 هـ في الرملة، ولم يطبع مسنده، ومنه أجزاء في المكتبات العامة، وقد نشرت مؤسسة الرسالة " زوائده على الكتب الستة " للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807 هـ في أربعة مجلدات، بتحقيق الشيخ العلامة حبيب الرحمن الأعظمي. انظر ترجمة البزار في " السير " 13/ 554 - 557، وانظر آثاره في " تاريخ التراث " لسزكين 1/ 316.
فائدة حديثية: قال الحافظ ابن حجر في " النكت " 2/ 708: من مظان الأحاديث الأفراد مسند أي بكر البزار، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه، وتبعه أبو القاسم الطبراني في " المعجم الأوسط "، ثم الدارقطني في كتاب الأفراد، وهو ينبىء عن اطلاع بالغ، ويقع عليهم التعقبُ فيه كثيراً بحسب اتساع الباع وضيقه، أو الاستحضار وعدمه.
وأعجب من ذلك أن يكون المتابع عند ذلك الحافظ نفسه، فقد تتبع العلامة مغلطاي =(3/105)
فقد روينا معناهُ من حديثِ أنسٍ، وعُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ، وأبي ذَرٍّ، وأبي الدَرْداء، وأبي أُمَامَة، وصُهَيْب، وسهل بنِ سعدٍ، والنَّوَّاس بن سمعان، وغيرهم، وروينا بلفظِ حديثِ عُمَرَ مِنْ حديثِ عليِّ بن أبي طالب، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هريرة، وأنس، وابن مسعود. انتهى، لكن مِن وجوهٍ ضعيفةٍ، قاله ابن حجر في " علوم الحديث " (1).
__________
= على الطبراني ذلك في جزء مفرد.
وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق، أو حيث يكون المتابع ممن يعتبر به لاحتمال أن يريدوا شيئاً من ذلك لإطلاقهم، والذي يرد على الطبراني، ثم الدارقطني من ذلك أقوى مما يرد على البزار، لأن البزار حيث يحكم بالتفرد إنما ينفي علمه، فيقول: لا نعلمه يروى عن فلان إلا من حديث فلان، وأما غيره، فيعبر بقوله: لم يروه عن فلان إلا فلان، وهو وإن كان يلحق بعبارة البزار على تأويل، فالظاهر من الإطلاق خلافه.
(1) لم أجد هذا الذي نقله عن الحافظ، لا في " النكت "، ولا في " شرح النخبة "، وإليك نصه في " الفتح " 1/ 11: ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنَّه في " الموطأ " مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك (قلت: وهم الحافظ رحمه الله في هذا التوهيم، فقد أخرجه مالك في " الموطأ " برقم (983) برواية محمد بن الحسن، وهو فيه أيضاًً برواية القعنبي، رواه عنه البغوي في (شرح السنة (1)) وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردوداً لكونه فرداً، لأنَّه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد، وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي، والنسائي، والبزار، وابن السكن، وحمزة بن محمد الكتاني، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنَّه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال، لكن بقيدين، أحدهما: الصحة، لأنَّه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني، وأبو القاسم ابن مندة، وغيرهما. ثانيهما: السياق، لأنَّه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة، وأم سلمة عند مسلم: " يبعثون على نياتهم "، وحديث ابن عباس: " ولكن جهاد ونية "، وحديث أبي موسى: " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليهما، وحديث ابن مسعود: " رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " أخرجه أحمد، وحديث عبادة: "من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى" أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره. وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد ...(3/106)
فبهذا لا يقطعُ على راوي الحديثِ أنَّه يعتقدُ عَدَالَةَ بعضِ الضُّعفاء إذا صحَّحَ حديثَ بعضِهم، ولكن لا نقول أيضاً بِصحَّة الحديثِ قطعاً إذا علمنا بجِرْحِ الرَّاوي له، وَلَمْ نعلمْ ما يَجْبُرُهُ مِنَ المتابعاتِ، بل نقول: إنَّ هذه المسألة مَحَلُّ نَظَرٍ، والذي يقوى عندي وجوبُ العَمَلِ بذلِكَ، لأنَّ القَدْحَ بذلِكَ مُحْتَمَلٌ، والثِّقَةُ العَارِفُ إذا قال: إنَّ الحديثَ صحيحٌ عنده، وجَزَمَ بذلِكَ، وَجَبَ قَبولُهُ بالَأدِلَّةِ العقليَّة والسَّمْعِيَّة الدالَّةِ على قَبُولِ خَبَر الوَاحِدِ، ولم يَكُنْ ذلِك تقليداً له، إلاَّ أَنْ يَظُنَّ أو يجوز أنَّه بنى دعواه لذلكَ على اجتهادٍ، ولو كان مُجَرَّدُ الاحتمال المرجوح يَقْدَحُ، لطرحنا جميعَ أحاديثِ الثِّقات لاحتمالِ الوَهْمِ والخطأ في الرواية بالمعنى، بلِ احْتِمال تَعَمُّدِ الكَذِبِ.
نعم، الظَّاهِرُ أنَّ البخاري ومسلماً بَنَيَا على شروط الحديث المعتبَرَة عند جُمهورِ أَهْلِ هذا الشَّأنِ إلاَّ في المواضِعِ التي استثناها الحُفَّاظُ، وهي ما انْتُقِدَ عليهما.
قلت: ومجموعُه يكونُ في موضعين.
الأول: ما ثَبَتَ عن بعض الحُفَّاط أنه خالفهما، أو أحدَهُما في صِحَّتِه.
والثاني: ما كان متعارضَاً، لا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ إحدى الرِّوايتين، ويدخل في الَأوَّلِ ما اختلفا فيه، وما جاءَ بِغَيْرِ صريحِ السَّماعِ منْ رِوَايَةِ المدلِّسين، وإنَّما أخرجا هذا الجنس بحسب اجتهادهما وتحرِّيهما، لأنَّ تَرْكَهُ كُلَّهُ مفسدهٌ بينَةٌ، إذ كان الغالبُ علَى الظنِّ صِحة أكثرِهِ، ورُبمَا اطلعنا على شواهِدَ وتوابعَ تُوجبُ تخريج ما أخرجا منه، لكِنَّ ذلِكَ على طريقَةِ الاجتهاد منهما، ولا يَجِبُ، بَلْ لا يجوزُ للمجتهدِ أنْ يُقَلِّدَ أحداً فيما(3/107)
يجتَهِدُ فيه، وانْ كانا أهلاً للتَّقلِيدِ رحمهما الله، فطلبُ العِلْمِ غيرُ طَلَبِ التَّقليدِ، ولكُلِّ مَقامٍ مَقَالٌ.
وقد ذكر ابن حجر في مقدمة " شرح البخاري " مما انتقد عليه مئة حديث وعشرة أحاديث غير عنعنة مَنْ يُدَلِّسُ، ولم يستقْصِ ذلك (1).
قال: والضَّابِطُ في ذلِكَ أنَّ ما صححهُ أئِمَّتُنا، فهو صحيحُ، وما رَدُّوه أو طَعَنوا في رُواته مردود (2)، مثل خَبَرِ الرُّؤية عَنْ قيسِ بن أبي حازم، عن جريرِ بن عبد الله (3)، وإنَّما كان ما ردُّوه وجرَّحوا رُوَاتِهِ مردُودَاً، ومن (4) جرَّحُوه مجْرُوحاً لوجهين:
أحدهما: أنَّ أئِمَّتنَا عُدُولٌ لِصِحةِ اعتقادِهِم، واستقامَةِ أعمالهمْ، والقطعُ أنَّهُ إذا جرَحَ الراويَ جَمَاعةٌ عُدُولٌ، فإن جَرْحَهُم مقبولٌ، لأنَّ الجارجَ يُقَدَّم (5) علَى المُعَدِّل.
__________
(1) انظر " المقدمة " ص 348 - 383.
(2) " مردود " سقطت من (أ) و (ب) و (ج)، وقد ألحقت في (ش)، وكتب بجانبها: " صح ".
(3) أخرجه أحمد 4/ 360 و362 و365، والبخاري (554) و (573) و (4851) و (7434) و (7435) و (7436)، ومسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2675)، وابن ماجه (177)، والحميدي (799)، والطبراني (2224) و (2225) و (2226) و (2227) و (2228) و (2229) و (2232) و (2233) و (2234) و (2235) و (2236) و (2237) و (2288) و (2292)، وابن مندة في " الإيمان " (791) و (792) و (793) و (794) و (795) و (796) و (797) و (798) و (799) و (800) و (801) و (815)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 168 و169، واللالكائي (825) و (826) و (827) و (829)، وابن أبي عاصم في " السنة " (443) و (444) و (445) و (446) و (447) و (448) و (449) و (450) و (451)، والآجري ص 257 - 259.
(4) في (ب): أو من.
(5) في (ش): مقدَّم.(3/108)
الثاني: أنَّها إذا تعارَضَتْ رِوَايةُ العَدْل الَّذي لَيْسَ على بِدْعةٍ، وروايةُ المبتدعِ، قُدِّمَتْ رِوَايَة العَدْلِ الذي ليس على بِدْعةٍ، وهذا مُجْمَعٌ عليه.
أقول: الجوابُ عَلَى هذا مِنْ وَجْهَيْن.
الأوَّلُ: إمَّا أنْ يريدَ ما أَجْمَعُوا على رَدِّهِ إجماعاً مَعْلُوماً، فهو مردودٌ مثل خبَرِ الفَاسِقِ والكَافِرِ المُصَرِّحين، أو يريدَ أنَّ ما اختلفوا فيه فهُوَ مردودُ، مِثْلُ خبَرِ أهْلِ التَّأويلِ على تسليم أنَّهُمْ لَمْ يُجْمعُوا على قَبُولهِم.
القسم الأول: مسلمٌ؛ لأنَّ إجماعهمُ المعلومَ عليهم السَّلامُ عندنا حجَّةٌ، وقولَهم إلى الحق أوضحُ مَحجةٍ، ولكنَّا لم نخالِفْ في هذا، فإنَّا نَرُدُّ منْ رَدُّوا، و (1) نُجَرِّحُ منْ جَرَّحُوا، وتحت هذا الجنس نوعان:
أحدُهما: ما قطعوا بَرِدِّهِ لثُبوت جَرْحِ التَّصريح في راويه (2).
وثانيهما: ما قطعوا بردِّهِ أو تأويلِه لمخالَفَةِ دلالةِ العُقولِ الضَّرورِيَّة، أوِ القاطِعةِ المُجْمَعِ عليهما إن صحَّ الإجماعُ القاطِعُ، وصحَّ القطعُ في غير الضَّروريات ونتائجها، وكلا النَّوعين عندي مردودٌ مرذولٌ غيرُ صحيح ولا مقبولٍ، وقد بيَّنتُ هذا في كتابي " المبتدا " الذي أجابه السيد بنَصٍّ لا يحتملُ التَّأويل، ولم أَزَلْ بِحمدِ اللهِ مُتمسَّكاً بأهلِ البَيْتِ عليهم السَّلامُ سرَّاً وجهراً، مُفْتَنَّاً في إظهار عقيدتي في ذلِكَ نظماً ونثراً، فَمِنْ قولي قديماً في ذلِكَ:
إنْ كانَ حُبِّي (3) حَدِيثَ المُصْطفي زَلَلاً ... مِنِّي فما الذَّنْبُ إلاَّ مِنْ مُصَنِّفِهِ
__________
(1) الواو ساقطة من (ب).
(2) في (ش): رواته.
(3) في (ش): حب.(3/109)
وَإِنْ يكُنْ حبهُ دِيناً (1) لمعْتَرِفٍ ... فَذاكَ هَمِّي وديني (2) في تعَرُّفهِ
وَمَذْهَبِي مذْهَبُ الحق اليقينِ، فَمَا ... تَحَوَّلَ الحَالُ إلا مِنْ تَشَوُّفِهِ
وذاكَ مذْهَبُ أَهْلِ البَيْتِ إنَّهُمُ ... نَصُّوا بِتَصْوِيبِ كُلٍّ في تَصَرُّفهِ
نصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في الفُروع، فَمَا ... لوْمُ الذي لامَ إلاَّ مِنْ تَعَسُّفِهِ
فَمَا قَفَوْتُ سِوَى أعْلامِ مَنْهَجِه ... ولا تَلَوْتُ سِوَى آياتِ مُصْحَفِهِ
أمَّا الأصولُ، فَقَوْلي فيه قوْلُهُمُ ... لا يبْتَغِي القلْبُ حَيْفاً عنْ (3) تَحَنُّفِهِ
ففِي المَجَازاتِ أَمْضي نَحْوَ مَعْلَمِهِ ... وفي المَحَارَاتِ أَبْقَى وَسْط مَوْقِفهِ
فإنْ سَعيتُ فسعْيي حَوْلَ (4) كَعْبَتِه ... وإنْ وَقَفْتُ، فَفِي وَادي مُعَرَّفِهِ
وحقِّ حُبي لهُ إني به (5) كَلِفٌ ... يُغنيني الطَّبعُ فيه عن تكلُّفِهِ
هذا الَّذي كَثُرَ العُذَّال فيه فما ... تعجَّبَ القَلْبُ إلاَّ مِنْ معنِّفِهِ
ما الذَّنْبُ إلاَّ وقوفي بين أظهرهِمْ ... كالماءِ مَا الَأجْنُ إلاَّ مِنْ تَوَقُفِهِ
والمنْدلُ الرَّطبُ في أوطانه حَطَبٌ ... واستقْر صرفَ اللَّيالي في تصَرُّفهِ
يستأْهِلُ القلبُ ما يلقاه ما بَقِيَتْ ... له علائِقُ تُغريه (6) بمألفِهِ (7)
وَمِنْ قولي في هذا المعنى:
لامَنِي الأهْلُ والأحِبّةُ طُرَّاً ... لاعتزالي مَجَالِسَ التَّدْرِيسِ
أَشْفَقُوا أَنْ أكونَ فَارَقْتُهَا مِنْ ... رغْبَةٍ عنْ دُرُوسِ عِلْمِ الرُّسُوسِ
قلت: لا تَعْذِلُوا، فَمَا ذاكَ مِنِّي ... رَغْبَةً عَنْ عُلُومِ تِلْك الدُّرُوسِ
__________
(1) في (ش): ذنباً.
(2) في (ش): ذنبي.
(3) في (ش): من.
(4) في (ب): نحو.
(5) في (ب): له.
(6) في (ش): توليع.
(7) تقدمت هذه الأبيات في مقدمة العلامة الأكوع 1/ 68.(3/110)
هِيْ ريَاضُ الجِنَانِ مِنْ غيْرِ شَكٍّ ... وسَنَاها يُزْري بِنُورِ الشُّمُوسِ
غيرَ أنَّ الريَاضَ مَأوَى الَأفاعِي ... وجِوارُ الحيَّات غَيْرُ أَنِيسِ
حَبَّذا العِلْمُ لو أَمنْتُ وصاحَبْـ ... ـتُ إمَاماً في العلْمِ كالْقَامُوسِ
غيرَ أنِّي خبرْتُ كلَّ جَلِيسٍ ... فوجَدْتُ الكتَابَ خَيْرَ جليسِ
فَدَعُوني فَقَدْ رضِيتُ كِتابي ... عِوَضَاً لي عنْ أُنْسِ كُلِّ أَنِيسِ
ولمَّا لَمْ أَسْلمْ مِنَ القيلِ والقال بعدَ الفِرَارِ والاعتزال، أعجبني أن أَصلَ هذهِ الأبيات بقولِ مَنْ قال:
لِوْ تُرِكْنَا وذاك كُنّا ظَفِرْنا ... مِنْ أمانيِّنا بِعِلْقِ نفِيسِ
غيرَ أنَّ الزَّمَانَ -أَعْني بَنيهِ- ... حَسَدُونا على حيَاةِ النُّفُوسِ (1)
وَمِنْ قولي في ذلِكَ وَهُو في الكتابِ الذي تعرض السيدُ أيَّدهُ اللهُ لجوابه:
وأُحِبُّ (2) آلَ محَمَّدٍ نفسي الفِدَا ... لَهُمُ فما آحَدٌ كآل مُحَمَّدِ
هُمْ بابُ حطَّةَ والسَّفِينَةُ والهُدى ... فِيهِم وَهُمْ للظَّالِمينَ بِمَرْصَدِ
وَهُمُ النُّجُومُ لخيِّرٍ مُتعبِّدٍ ... وهُمُ الرُّجُوم لِكُلِّ مَنْ لمْ يَعْبُدِ (3)
__________
(1) الأبيات في " ترجيح أساليب القرآن " ص 54 للمؤلف، وزاد فيه: وهذان البيتان زادهما قائلهما على قول بعض العارفين:
إن صحبنا الملوك تاهُوا علينا ... واستَبدُّوا بالرأيِ دونَ الجليسِ
أَوْ صحبنا التِّجَار عُدْنا إلى اللو ... مِ وصِرنا إلى حسابِ الفُلوس
فَلَزمْنا البيوتَ نستعملُ الحِبـ ... ـر ونطلي به وجوه الطُّروس
ونناجي العلوم في كل فنِّ ... عِوضاً عن منادمات الكؤوس
وقنعنا بما به قَسمَ الـ ... ـهُ ولم نكترث بهمٍّ وبوسي
(2) في (ج): " وحب "، وهو خطأ.
(3) البيت ساقط من (ب).(3/111)
وَهُمُ الَأمَانُ لِكل مَنْ تَحْت السمَا ... وجزاءُ أَحْمَد وُدُّهُمْ فَتَوَدَّدِ
والقومُ والفرقانُ فاعرف قَدْرَهُم ... ثقلانِ للثَقَلَيْن نصُّ مُحَمد
وكفَى لَهُمْ شَرَفَاً ومجْداً باذِخَاً ... شرعُ الصَلاَةِ لهُمْ بِكُلِّ تَشَهدِ
وَلَهُمْ فضَائِلُ لَسْتُ أُحْصِي عَدهَا ... منْ رامَ عد الشُهْبِ لَمْ تَتَعَددِ
ديني كأهلِ البيْتِ دِينَاً قيمَاً ... مُتَنَزِّهَاً عَنْ كُلِّ مُعْتَقَدٍ رَدِي (1)
ولي في ذلك أبياتٌ قد فاتتني، لكِنِّي أحفظُ منها قولي:
ها إنَّها حَدَّثَتْ أُمُو ... رٌ عُمِّيَتْ فيها المَعالِمْ
فالجَاهِلُ السَّفْسَافُ في ... أَمْشاجِها بالظَّن راجمْ
لكِنني لا أَرْتضِي ... إلَّا مَقالات الفَوَاطِمْ
لا سِيَّما عَلاَّمَتَيْ ... ساداتنَا يحيى وقاسمْ
ولي في هذا المنظومُ والمنثورُ (2) ما لا يتَّسِعُ لهُ هذا المسطورُ، ولكنَّهُ قد فاتني؛ لَأنَي لَمْ أتوهَّمْ أنَّني أحتاج إلى الاستشهادِ بِهِ، ولا ظَنَنْتُ أَنِّي أُتَّهَمُ بِبُغض المذهب وأهلِه، لأنِّي في جميع أحوالي أعطرُ بذكرِهم صُدُورَ المحافِل، وأُزَيَنُ بالَثَّناء عليهم وُجُوهَ الرسائل، فالعجب منْ توجيهِ السيِّد إليَّ التَّعريف بأنَّ ما رَدُّوه فهو مَرْدودٌ، كأنِّي خرجتُ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ المسدودِ، يا هذا، إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوا ما عَرَفْت، فخلِّ الِإفراطَ في التَّشْنِيع، وحُلَّ رِبَاطَ التَّسْمِيعِ:
__________
(1) تقدمت الأبيات ضمن قصيدة مطولة في مقدمة العلامة الأكوع ص 32 - 37. وفيها يقول بعد البيت " وكفى لهم شرفاً .... ":
سَنُّوا مُتابعة النبيَّ ولم يكنْ ... لهم غرامٌ بالمذاهبِ عن يدِ
قد خالَفُوا آباءهم جهْراً ولم ... يتقَيَّدوا إلا بسُنَّةِ أحمدِ
(2) في (ب): المنظوم المنثور.(3/112)
جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضَاً رُمْحَهُ ... إنَّ بني عَمِّك فيهم رِمَاح (1)
القسم الثاني: المتشابه: ما اختلفوا في ردِّه، مثل خبرِ المتأوِّلين على تسليم عَدَمِ إجماعهم على قَبُولهم، فَهذا مِمَّا ليس للسَيدِ أنْ يقول: إنَّه مردود؛ لأنَّ هذا خلافُ إجماعهم على كُلِّ تقدير، أمَّا إنْ قَدَّرنا أنَّهم أجمعوا على قَبُوله، فلا شَكَّ أنَّ المردودَ هُوَ قَوْلُ منْ رَدَّ عليهم، وشذَّ عنهم، ولم يَرْجِعْ إليهم، وأما إن قدَّرنا أنَّه لم يصحَّ لَهُمْ إجماعُ في ذلِكَ، فلا شَكَّ أنَّ المخالفَ في ذلِكَ غَيْرُ مُنْكرٍ على القائل، ولا مُجَرِّحٍ في رَدِّ تلك الأحاديث على من اعتقد صِحتَها، وقد روى في تفسيره مِنْ ذلِكَ أحاديثَ، وحكم بصحَّتها، وجزمَ بنسبتها إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال في آخر تفسير (2) سورة الزمر في تفسير قوله تعالى: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ما لفظه: جاء في الحَدِيثِ الصَّحِيح ما يُوافِقُ الآية، مِنْ ذلكَ؛ ما أخرجه البُخارِي ومسلمٌ منْ حديث أبي هريرة " يَقْبِضُ اللهُ الَأرْضَ يَوْم القِيَامةِ، ويَطْوِي السمَاءَ بِيَمِينهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَّا الملِكُ، أَيْن مُلُوكُ الَأرْضِ " (3).
__________
(1) البيت لِحجْلِ بن نضلة أحد بني عمرو، بن عبد قيس، بن معن بن أعصر، في " البيان والتبيين " 3/ 340. و" المؤتلف والمختلف " ص 82، و" دلائل الإعجاز " ص 326. وقد استشهد به أهل البلاغة لتنزيل غير المنكر للشيء منزلة المنكر له إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار.
(2) في (ب): في تفسير آخر.
(3) أخرجه البخاري (7382)، ومسلم (2148)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 71 من طريق يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (4812)، وابن خزيمة ص 71 من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وفيه " السماوات ".
وأخرجه البخاري (7413)، والدارمي 2/ 325، وابن خزيمة ص 71، وابن أبي عاصم (549) من طريق أبي اليمان الحكم بن نافع، عن شعيب بن أبي حمزة، عن =(3/113)
وأخرجا مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَطْوِي الله عَزَّ وَجَلَّ السَماواتِ يَوْمَ القيامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَ بِيَدِه اليُمْنَى " (1). وهذا مثلُ الآية على التَّمثيل والتَّخييل. انتهى.
وقال قبلَ هذا: وقال ابن عباس: الَأرْضُ والسماوات كلُّها بِيَمِينِهِ.
وقال سعيد بن جبير: السَّماوات قَبْضَة، والأرْض قَبْضَةٌ. انتهى بحروفه. وفيه التَّصْريحُ بتصحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ، إذ لا طريقَ لَهُ إلى تَصْحِيحِ هذِهِ الأخبار إلاَّ ذلِكَ، لتصريحه (2) بتعذُّر معرفة (3) ذلِكَ في عَصْرِه، وفيه الرِّواية عَنْ أبي هريرة، وتصحيحه حديثَه، وفيه تصحيحُ مثل هذا منَ المتشابه، وقد وَهِمَ في إيهامِهِ أنَّ الرِّوايَةَ " يطْوِي السمَاءَ " مِنْ دون جَمعٍ، فإنَّ الرِّوايَة " السماوات " رواه البخاري في التفسير، وفي التَّوحيد (4)، ذكره المزِّيُّ في ترجمة عبد الرحمان بن خالد، عنِ الزُّهري،
__________
= الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (6519) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن أبي سلمة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
ونقل ابن خزيمة في " التوحيد " ص 71 عن محمد بن يحيى الذهلي أن الحديثين محفوظان يعني عن سعيد وأبي سلمة.
قال الحافظ في " الفتح " 13/ 367: وصنيع البخاري يقتضي ذلك، وإن كان الذي تقتضيه القواعد ترجيح رواية شعيب لكثرة من تابعه، لكن يونس كان من خواص الزهري الملازمين له.
(1) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (3788)، وأبو داود (4732)، وابن أبي عاصم (547) من طرق عن عمر بن حمزة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر.
وأخرجه البخاري (7412) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ: " إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه " وانظر " الفتح " 13/ 397 - 398.
(2) في (ش): للتصريح.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في الأصول: " ومالك في التوحيد "، وهو خطأ، فالحديث لم يروه مالك، =(3/114)
عن أبي سلمة، عن أبي هُريرةَ، وابنِ الأثير في " جامعه " (1)، وقصَّر في ترك رِوَايَةِ ابنِ مسعود، وابنِ عباس، ورواية ابن مسعودِ في البخاري ومسلم (2)، وابن عباس في " الترمذي " (3)، وقال: حسنٌ غريبٌ
__________
= والصواب حذف " مالك " كما في " تحفة الأشراف " للمزي 11/ 34 الذي نقل عنه المؤلف رحمه الله، ونصه فيه: حديث " ويقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه " الحديث البخاري في التفسير (4812) عن سعيد بن عفير، عن الليث، عن عبد الرحمن بن خالد، به، وفي التوحيد (7413) تعليقاً عقيب حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
(1) 2/ 342، لكن جاء فيه " السماء " على الإفراد، وهو خطأ من الناسخ، فإن الحديث باللفظ الذي ذكره ابن الأثير، ونسبه للبخاري في " جامع الأصول " جاء في البخاري بلفظ الجمع كما قال المؤلف.
وابن الأثير هذا: هو الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ثم الموصلي المتوفى سنة 606 هـ، وكتابه " جامع الأصول " كتاب فذ في بابه، جمع فيه أحاديث الأصول الستة المعتمدة عند الفقهاء والمحدثين: " موطأ مالك "، و" صحيح البخاري "، و" صحيح مسلم "، و" سنن أبي داود "، و" جامع الترمذي "، و" سنن النسائي ". واعتمد في النقل من كتابي البخاري ومسلم على " الجمع بين الصحيحين " لأبي عبد الله الحميدي، وأما باقي الكتب الأربعة، فقد نقلها من الأصول التي قرأها وسمعها، وعلى نسخ أخرى غير مسموعة له. وقد عوَّل في المحافظة على ألفاظ البخاري ومسلم أكثر من غيرهما من باقي الأئمة، اللهم إلا أن يكون في غيرهما زيادة أو بيان أو بسط، فإنه يذكرها كما يتتبع الزيادات من جميع الأمهات، ويضيفها إلى مواطنها.
وقد طبع في مصر والشام، والطبعة الشامية تمتاز عن الطبعة المصرية بتحقيق النص وتخريج الأحاديث وصنع الفهارس.
(2) أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7451) و (7513)، ومسلم (2786). وهو في " مسند أحمد " 1/ 429 و457، و" سنن الترمذي " (3238) و (3239)، وفي " السنة " لابن أبي عاصم (549)، و" التوحيد " لابن خزيمة ص 76 - 77، و" الشريعة " للآجري ص 318، و" جامع البيان " للطبري 24/ 27، و" الأسماء والصفات " للبيهقي ص 334.
(3) أخرجه الترمذي (3240) من حديث محمد بن الصلت، عن أبي كدينة، عن عطاء ابن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس. وفي قوله: " حسن غريب صحيح " نظر، فإن عطاء بن السائب كان قد اختلط، وراويه عنه -وهو أبو كدينة يحيى بن المهلب البجلي- لم =(3/115)
صحيحٌ، والمعنى متقاربٌ، ورواية البخاري " السماوات " في التفسير أولى من رواية " السَّماء " في التوحيد، لأنها زيادةٌ ومطابقة للقرآن ولسائِرِ الأحاديث الصَّحيحَة.
ونسب المِزِّي رواية " السماوات " بالجمع في حديث أبي هريرة إلى البخاري ومسلم معاً في ترجمة يونس، عن الزهري، عن ابن المُسيِّبِ، عن أبي هريرة، من " الأطراف " (1) وفيه تسامح، والذي في " البخاري ": " السماوات " في التفسير، وهي روايةُ عبد الرحمان بن خالد عن الزُّهري، والأخرى روايةُ يونس بن يزيد عنه في التوحيد والرِّقاق معاً، وليونس منكراتٌ دونَ عبدِ الرحمان، ويدلُّ على وهم يونس عن الزُّهري في هذا الحديث، أنَّه رواه عنه عن (2) ابن المسيب عن أبي هريرة، وعبد الرحمان بن خالد بن مسافر رواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال البخارِيُّ: وكذلك رواه شعيب، والزبيدي، وإسحاق بن يحيى.
وقد كان يونُس يَغْلَطُ فيما يرويه مِن حفظه فدلَّ على أنَّ رِوَايَةَ عبد الرحمان: " السماوات " أصحُّ؛ لموافقَةِ القُرْآن وسائرِ الأخبارِ، ولظُهُورِ عدمِ حفظِ يونس هذا الحديث خُصُوصاً.
الوجه الثاني: مِنَ الجواب أنَّ كَلامَ السيدِ حُجَّةٌ عليه لا له؛ لأنَّا قد
__________
= يذكروه فيمن روى عنه قبل الاختلاط.
وأخرجه الطبري 24/ 18، وابن خزيمة ص 78، وابن أبي عاصم (545) من طريق محمد بن الصلت، به.
(1) 10/ 61 - 62.
(2) ساقطة من (ش).(3/116)
بيَّنَّا فيما تقدم أنهم قد أجمعوا على صِحة الرجُوعِ إلى هذِهِ الكُتب، وأن ذلك قد شاع فيما بينهم منْ غيْر نكيرٍ، وهذا إجماعُ ظَنَيٌّ سكوتي، وقد كنتُ علَّقْتُ إشكالاتٍ ترد على السَّيِّد في كلامهِ في هذا الموضِع وغيره في هذه المسألة، ثم إنَّي ترجَّح لي الاختصارُ وذكْر ما تَمسُّ إليه الحاجة.
قال: لأن روايتهم لا تخلو مِنْ ضعفٍ، وإنما تُقْبل عنْد عدم المعارِضِ (1).
أقول: هذا قَصْرٌ للعدالَةِ على الأئِمَّة عليهم السلام، وهذا غُلُوٌّ لم يُسْبَقِ السَيِّدُ إليه (2)، ولو كان ما ذكره صحيحاًً، لوجَبَ في الشُّهودِ أن يكونوا أئمةً، وهذا يؤدِّي إلى وجوب أربَعَةِ أئِمَّة في شهادة الزِّنى (3)، وإمامَيْنِ في الشهادة على الأموال.
فإن قال: هذا تشنيعٌ لم يَقْصِدْه.
قلت: فلْيحْفَظْ لِسَانَه عمَّا يقتضي ذلِكَ، ويتنكَّبْ عن هذِهِ المسالِكِ، فإنَّ الواجبَ على العاقلِ أن يَزُمَّ لِسَانه، وَيزِنَ كلامَهُ، وقَدِ اشتمل كلامُه على ثلاثِ دعاوي:
إحداها: ما تقدَّمَ منْ قصر العدالَةِ على الأئمَّةِ.
الدعوى الثَّانية: أنَّ الضَّعْفَ لا يَدْخُلُ في حديث الأئِمَّة، والجوابُ عليه أنَّ حديث الأئِمَّة مشحونٌ بحديثِ مَنْ ضعفتَ (4)، فلَزِمَ أن يدْخُلَه الضَّعيف بالضَّرورة والمقدِّمتان (5) ضرورِيَّتان عنْدَ البَحْث.
__________
(1) في (ش): التعارض.
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ش): في الشهادة على الزنى.
(4) في (ش): ضعف.
(5) في (ب): " المقدمتان " بدون واو.(3/117)
الدعوى الثالثة: أنَّ الضعيفَ مقبولٌ عنْدَ عَدَمِ المعارِض، وهذا مُجرَّدُ دَعوى مِنْ غيرِ دليل، وهو مكثرٍ مِنْ أمثال هذا، حتى كِدتُ لا أستنكرُهُ منه.
قال: لأنَّها روايةٌ عَمَّنْ لا تُعْلَمُ عدالَتُه ولا نزاهَتُه عَنْ فِسْقِ التَّأويلِ.
أقول: هذه دعوى على الأمَّةِ بالجهلِ بذلكَ، وهي غيرُ مقبولَةٍ، فإن ادَّعى أنَّهُ جاهِلٌ بذلِكَ، ولم يَدَّعِ ذلكَ على غيرِه، فهذا مُسَلمٌ ولا يَضُرُّ تسليمُه، وقد تقدَّم منه مثلُ هذا في المسأَلَه الأولى، وتقدَّم الجوابُ عليه، فخذهُ مِن هناك.
قال: هذا إذا كان النَّاظِرُ في الحديث مجتهداً، أمَّا إذا كان غير بالِغٍ رُتْبَةَ الاجتهاد، فليس له أن يُرَجِّح بهذا الحديثِ قولاً، ويجعَلَهُ مختارَهُ، وإنْ كان الخبرُ نَصَّاً في ظاهِرِ الحال، لأنَّ التَّرجيحَ بالخبر إنَّما يكونُ بعد معْرِفَةِ كَوْنهِ صحيحاًًعنِ الرَّسُولِ، ولا يكونُ صحيحاً حتى يكونَ رَاوِيهِ عَدْلاً، والعدالَةُ غيرُ حاصلَةٍ كما سنذكره.
أقول: هذا الكلام كلُه (1) قِشْرٌ ليس فيه لُبابٌ، ومجرَّدُ دعوى لا تفْتَقِرُ إلى جوابٍ، لأنَّه بناه على دعْوى عدَمِ العدالةِ وجعل الاستدلالَ عليها حَوَالَة، فالواجبُ (2) تأخيرُ الجوَابِ حتَّى يأتيَ ما وعد به منَ الدّلالَةِ.
قال: ولأنه لا يُرجّحُ بالخَبرِ حتَّى يعلمَ أنَّه غيرُ (3) منسوخ، ولا مُخَصص، ولا مُعارَضٍ بمَا هُوَ أقوى مِنْ إجماعٍ أو غَيْرِهِ.
أقول: هذا الذي ذكره لا يجبُ على المجتهدِ عنْدَ أحدٍ مِن أهلِ
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): فالجواب.
(3) ساقطة من (ب).(3/118)
البيت عليهم السَّلامُ، ولا عِنْدَ أحدٍ من جماهيرِ أهل (1) الإسلام، وهو مذهبٌ شاذٌّ مهجورٌ، قَدْ رَدَّ عليه العلماء الجمهور، وقد مَرَّ تقريرُ الدليل على بُطلانه، وأنه لا سبيلَ إلى العلم بعدم الناسخ والمُعارِض والمُخَصص، وإنما اختلَفَ العُلَماءُ في وُجُوب الظن لعدم تِلْك الأمور في حقِّ المجتهدِ فقط، ولا أعلمُ أن أحداً شرط ذلِكَ فيٍ ترجيح المُقَلِّدِ، ولا سبق السَّيِّد أحد إلى ذِكْر هذا، وإنما اختلفَ العُلَمَاءُ، هل يجب الترجيح على المقلدِ فيما يفيد الظَّن؟ ولم يختلفوا في جوازِ ذلِك وحسنه، وإنما اختلفوا في وجوبه معَ اتِّفاقهم على أنَّه زيادَةُ في التحري، فلا يخلو السيد إما أنْ يُقِرَّ بأن (2) الترجيح به يفيد الظن. أو لا إنْ قال: إنَّه لا يفيد الظن فذلك مدفوع، لأنَّ الظنَ يحْصُلُ بخبر الثقةِ منْ غيرِ تَوَقُّفٍ على العِلم بفقدِ المعارِض والنَاسخ والمخَصَصِ، ووجودُ (3) الظنّ عِنْد خَبَرِ الثِّقَةِ ضَرُورِي، ولو كان ظن مدلولِ الخبَر النبَوي يتوقفُ على ذلكَ، لتوقف (4) الظَنُّ على ذلِكَ في سائر الأخبار، فكانَ يجبُ إذا أَخْبَرَنَا ثقة بوقوعِ مَطرٍ، أو قُدُومِ غائِب، أو نفْعِ دَوَاءٍ، أَلاَّ نَظنَ صِحتهُ حَتَّى نَطْلُب المعَارِضَ والمُخَصِّصَ، بل يلزمُ إذا أفتى المفتي، ألاَّ تُقْبَلَ فتواهُ حتَّى نَطْلب معارِضَها مِنْ غَيْرِه، وكذلِكَ إذا سمعنا المؤذِّنَ أنا لا نَظُنُّ صدقَهُ، ولا نأْخُذ بخبَرِه حَتَّى نطلبَ المُعارِضَ، وكذلِكَ إذا شَهِدَ الشَّاهدانِ.
وإما أنْ يُسَلِّمَ السيِّدُ أن الظنُّ يحصُلُ بالخَبرِ الصحيح، فالدليل على وُجوبِ الترجيح به وجهان:
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): أن.
(3) في (ج): ووجوب.
(4) في (ب): لتوقف على.(3/119)
الوجهُ الأولُ: أنَّ مخالَفتَهُ قبل طَلبَ المعارِض وغيرِه تقتضي المضرَّة المظنونَة، ودفْعُها واجِبٌ، والطلَب يحتاجُ إلى مُهْلةٍ، ففي تلك المهلَةِ إمَّا أنْ يُوجبَ مخالفَتَهُ، أو يُوجبَ العَمَلَ به، الثاني: هُو المطلوبُ، والأول يقتضي تحريمَ دفعِ المضَرةِ المظنُونَةِ (1) عَنِ النَفْسِ، وهذا عكسُ المعقول، وقبيح بالضَّرُورة.
وبعد، فإن الدليل على وُجُوبِ العمل بخبرِ الواحد قائِم قَبْلَ الطلبِ لهذِه الأمور، وقبل الظنِّ لعدمها، كما هو قائِمٌ بَعْدَ ذلِكَ.
فإنْ قلتَ: فَهذا يقتضي عَدمَ إيجابِ البَحْثِ عَنِ المُعَارِضِ والنَّاسخِ والمخصِّصِ في حقِّ المجتهدِ.
قلت: هو كذلِكَ، وفي المسأَلةِ خلافٌ مشهورٌ، وظاهرُ حديثِ معاذٍ يقتضي عدَم إيجابِ الطَّلَبِ، وقد مَرَّ كلام الشيخ أبي الحسين في ذلك حين ذكرتُ حديث معاذٍ (2)، والاستدلال به على أنَّ الإحاطَةَ بالأخبار لا تجبُ على المجتهد، وذلِك في المسألة الأولى، فإنْ دل الدليل على تخصيص المجتَهِدِ بِوُجُوبِ الطلَبِ، فهو خاصٌّ به، وإن لَمْ يدُل دليل على ذلِكَ، فالمسألَةُ نَظَريَّةٌ ولا اعتراضَ فيها على مَنِ (3) اختارَ أحدَ المذهَبَيْنِ.
قال: ولأن الترجيح بالأخبار اجتهاد؛ لَأنَّه يَفْتقِرُ إلى أصعبِ عُلُومِ الاجتهادِ، وهو معرِفَةُ الناسخِ والمنسوخ وغيرِ ذلِكَ، والفَرْضُ أنَّ هذا الناظِرَ مقلدٌ.
أقول: هذا الاحتجاج ضعيف بمَرَّةٍ، لأنَّه لا رابطَةَ عقلية بَيْنَ
__________
(1) " المظنونة " ساقطة من (ب).
(2) انظر 1/ 258.
(3) في (ب): ما.(3/120)
الاجتهاد وبيْنَ بعض علومِهِ، سواءٌ كان أصعبَها أو أيسرَها، فليسَ بعضُ شرائط الشيْء إذا تَصَعبَ، كان ذلك الشيْءُ المشروطُ، ألا تَرى أنه لا يُقال: إن الطهور في الماء الشديدٍ البَرْدِ هوَ الصَّلاةُ، لأنَّه أصعبُ شروطِها، ولا يُقالُ: المشي إلى مَكة المشرفَةِ هوَ الحَجُ، وكَذلِك مَعْرِفَةُ الأخبار لا يقال فيها: إنَّها اجتهاد، لأنَّها أصعبُ علومِ الاجتهاد (1)؟ وهذِهِ الحُجَّةُ غلطية أو غِلاطية؛ لَأنَّ الاجتهادَ المذكورَ في الدَّعوى إمَّا أَنْ يرادَ بِه الاجتهادُ في العِلْم العرْفي، فذلِكَ غلَطٌ واضِحٌ، والدَّليل على ذلِكَ أنَّ مُجَرَّدَ التَّرجيحِ بالأخبار (2) معْ فَرْضِ التَقليد، إما أنْ يكونَ صحيحاًً كما نَصَّ عليه المُؤَيَّدُ بالله، فلا شُبْهَة في (3) أنه لَيْسَ باجتهاد، لَأن الفرضَ وقُوعُه مِنْ غيرِ مجتهدٍ، والاجتهادُ لا يَقعُ منْ غيرِ مجتهدٍ.
وأما إنْ كان الترجيحُ بالأخبار باطلاً مِنْ غير المجتهدٍ كما زعمَ السَّيدُ، فإن الترجيح حينئذٍ يكونُ اجتهاداً حقيقيّاً، لكنَ الترجيح الصحيح إذا لم يَكُنِ اجْتِهاداً، فالترجيح الباطِلُ أولى وأحرى أن لا يكونَ اجتهاداً.
وأمَّا إنْ أرادَ بالاجتهاد المذكور في الدعوى الاجتهادَ اللغَوِيٌ، فمُسَلمٌ أنَّ الترجيحَ بالأخبارِ اجتهادٌ لُغَوِيٌّ، كما أن الصَّلاةَ اجتهادٌ لُغوي، لكن الاستدلال به في هذه المسألة يوهِم أن المُتَكلمَ به أراد الاجتهادَ الاصطلاحِي، وهذه مغالطَةٌ ظاهِرَة.
قال: فهل يستنتج العَقِيمُ، ويُسْتَفْتَى مَنْ ليس بعليمٍ؟
أقول: الجواب على هذا مِنْ وجوهٍ.
__________
(1) من قوله: " لأنها " إلى هنا سقط من (ب).
(2) من قوله: " لا يقال فيها " إلى هنا ساقط من (ج).
(3) " في " ساقطة من (ج).(3/121)
الوجه الأول: أن كلامَ السيد في المسألة الأولى دالٌّ دِلَالَة واضِحَة على أنَّه يَدَّعِي أنَّه غير مجتهِدٍ، بل يدعي أنَّه لا مجتهدَ في الزَّمان، ثُمَّ إنَّهُ لما بلغَ في كتابه إلى الجَهْرِ والإِخفات بالتسْمِيَةِ إلى (1) التَّأمين، ووضع اليمنى على اليُسرى، أَخذ يُرَجِّحُ بالأخبار، ويسبحُ في بحرِها الزَّخَّارِ، مع اعترافِهِ أنه منَ المقلِّدين، وغُلُوِّه في القَوْلِ بعدمِ المجتهدين، فما بَالُهُ -أيَّدَهُ اللهُ- أنتج وهو عقيمٌ، وأفتى وليس بعليم، وقد قال الحكيم (2):
لا تَنْهَ عَنْ خُلُق وتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عارٌ عليْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ
الوجه الثاني: أن نَقول: ما مُرَادك بهذا الإنتاج، هل إنتاجُ الاستدلال الذي لا يَصِحُّ إلا مِنَ المجتهدين، أو ادعاءُ الترجيحِ الذي ادعى خَصْمُك أنَّه يَصحُ مِنَ المقلدين إنْ كانَ الأول، فليسَ فيه نزاع، وإنْ كان الثاني، فليس يَبْطل بِمُجَرد الإسجاع، فَهَلُمَّ الدليل، وتَنَحَّ عَن (3) التَّعويلِ على مُجَرَّدِ التَّهويلِ.
__________
(1) في (ب): وإلى.
(2) المشهور أن هذا البيت لأبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو العلامة الفاضل قاضي البصرة، المتوفى سنة تسع وستين هـ. انظر ملحقات "ديوانه" 130. جزم بذلك اللخمي في " شرح أبيات الجمل ".
ونسبه سيبويه 3/ 41 - 42، وتبعه ابن يعيش 7/ 24 للأخطل، وليس هو في ديوانه.
ونسبه أبو عبيد القاسم بن سلام في " أمثاله " ص 93، والآمدي في " المؤتلف والمختلف " ص 273، والأصبهاني في " الأغاني " 12/ 156، والبحتري في " حماسته " ص 174، والزمخشري في " المستقصى " 2/ 260 إلى المتوكل بن عبد الله الليثي من شعراء الإسلام، من أهل الكوفة، وكان في عصر معاوية ويزيد، ومدحهما. ونسبه الحاتمي لسابق البربري، ونقل السيوطي عن " تاريخ ابن عساكر" إنَّه للطرماح، وهو غير منسوب في الطبري 1/ 569، و" المقتضب " 2/ 26. وانظر " خزانة الأدب " 8/ 564 الشاهد (671).
(3) في (ب): على.(3/122)
الوجه الثالث: أنْ نقولَ: ما قصدُك " ويُستفتى مَنْ ليْس بعَلِيم "؟ هل قصدُكَ السجْعُ في الكلام، أو (1) الإفحامُ للخصمِ والإلْزَامُ؟ إنْ كانَ الأول، فالبُلَغَاءُ لا يستطيبون مِنَ الأسجاع مواردَها إذا كانت تنْقُضُ مِن المذاهب قواعِدَها، فهي تصلُحُ زينَةً للحُجَجِ الصحيحة، فمتى أفسدَتْها، كانت عِنْدَ البُلغاء قبيحةً، لكن سَجْعَ السيِّدِ هذا يهْدِمُ قواعدَه، ويخالِفُ مقاصِدَه، لأنَّه هُوَ الذي أجاز للْمُقَلِّدِ العقيمِ أنْ يُفْتِىِ وليس بعليم، وفي نُصْرَةِ هذا المَذْهبِ أنشأ هذِهِ الرِّسَالَة، وأعادَ وأبدا في نُصْرَةِ هذِهِ المقالَةِ وإنْ كان السَّيِّدُ قال ذلِكَ الكَلاَمُ عَلَى سبيلِ الإفحام لِخَصْمه والإلزام، فقد عادَ الإلزامُ أيضَاً إِلَيْه، وخَرَجَ الاحتجاجُ مِنْ يديه؛ لأنَّه الَّذي قضى بفقد المُجْتَهِدِينَ، وحَكَمَ بمرتَبَةِ الفتْيَا للمُقلِّدِينَ، واقتبس النَّارَ مِنَ الماءِ، والأنوارَ مِنَ الظَّلْمَاءِ، وأنتج العقيمَ، واستغنى عنِ العُلماءِ بمَنْ ليس بعليمٍ، وخَبَطَ مِنَ المناقَضَةِ في ليلٍ بهيم، وسَلَكَ مِنَ المماراة في صراط غير مستقيم، فبطلت حُجَّتُهُ واضْمَحَلَّتْ، وجاء المثَلُ: " رَمَتْني بِدَائِهَا وانْسَلَّتْ " (2)، وقد أجمعَ العلماءُ قديماً وحديثاًً أنَّ التَّقليدَ ليس بِعِلْم، والمقلِّد ليس بعالِمٍ، فكيف تصدَّرَ السَّيِّدُ للتَّدريس والفتوى والمناظَرَةِ والتَّصنيف، وأنْكر على محمد بن إبراهيم التَّرجيح بالأخبار؟ زاعماً أنَّ ذلِكَ يؤدِّي إلى أنْ ينتجَ العقيم، ويُفتي مَنْ ليس بعلمٍ، مُصَدِّرَاً
__________
(1) في (ب): و.
(2) وأصل المثل أن سعد بن زيد بن مناة بن تميم كان تزوج رهم بنت الخزرج بن تيم الله بن رفيدة بن كلب بن وبرة، وكانت من أجمل النساء، فولدت له مالك بن سعد، وكان ضرائرها إذا سابَبْنَها، يَقُلْنَ لها يا عفلاءُ، فشكتْ ذلك إلى أمها، فقالت لها: إذا ساببنك، فابدئيهن بعَفال سُبيت، فأرسلتها مثلاً، فسابتها بعد ذلك امرأة من ضرائرها، فقالت لها رهم: يا عفلاء، فقالت ضرتها: رمتني بدائها وانسَلَّت، فأرسلتها مثلاً، وبنو مالك بن سعد يقال لهم بنو العفيلى لهذا السبب. يضرب لمن يعير بعيبه غيره. انظر " أمثال أبي عبيد " ص 92، و" المستقصى " 2/ 103، و" اللسان ": عفل.(3/123)
لكلامه بـ " كيف " الإنكارية، مُصَوِّراً لِذلِك في أبعد المجالاتِ العادِيَّةِ، وهو وِلادَة العقيم الذي لا تَصِحُ ولا تستقيمُ، وهذا يقتضي أنَّه هُوَ العَقِيمُ الولود والظِّئْرُ الودود، فليت هذا المجالَ صَدَرَ مِنْهُ في نادرٍ مِنَ الأحوالِ، وما ذاك إلاَّ أنَّه لما غفَلَ أن هذا منْ عُيوبِهِ، وتوهَّم أنَّ هذا مِنْ عُيوبِ صديقِه، أكثَرَ عليه مِنَ الصِّياح، وناحَ بِهِ أشَدَّ النُّواح، وزَيَّنَ الكلامَ في عيْبِ الصَّدِيقِ وَسَجَعَهُ، وما أدري ما جرَّأةُ على ذَلِكَ وَشَجَّعه:
وَلمْ تَزَلْ قِلَّةُ الإنْصَافِ قَاطِعَةً ... بَيْنَ الرِّجَال (1) وَلَوْ كَانُوا ذَوِي رِحمِ
قال: وأنَا أضْرِبُ لهذا مثالاً بعَوْنِ اللهِ تعالى، فأقول: أمَّا كلامُ المؤيد بالله، فمرادُه: إذا قدَّرنا مقلداً عارِفَاً بالتَّرجيح في خبرين صحيحَيْنِ قد ظهر عدالَةُ رُوَاتِهِمَا واستواؤهم، أو في آيتين، فيرجَّحُ بينهما، إلى آخر كلامه.
أقول: في كلام السيدِ هذا أنظار.
النظر الأول: أنه تعرَّض لتفسير كلامِ المؤيَّد باللهِ مِنْ غيرِ غَرَابَةٍ في ألفاظِهِ ولا تَجَوُّز ولا اشتراك، ولا قصورٍ في عبارته، فنقول للسيِّدِ: ما مرادُك بتفسير كلام المؤّيدِ؟ هل تقريره أو تأويله؟ إنْ كان الَأوَّلُ، فحبَّذا، ومَنْ لَنَا بِذَا؟ وإنْ كانَ الثَّاني، فَلِكلامِ المؤيّدِ دُهورٌ طويلَةٌ، وقرونٌ عديدَةٌ، وقد مَرَّ عليه مَنْ هُوَ أَغضُّ مِنَ السيِّد بالنواجِذِ على الحقائق، وأغوصُ منْهُ على جواهِرِ اللَّطائف في بحار الدَّقائق، فلم يُنْقَلْ عَنْ أحدٍ أنَّه تعرَّض لذلِك، وأقربُ من فيه للسَّيِّدِ قدوَة، وَلَهُ بِهِ أُسْوَة القاضي شرفُ الدِّين، فإنَّه ذكر كلامَ المؤيّدِ في تعليقه على الزِّيادات، وقرَّره على
__________
(1) في (ش): الأنام.(3/124)
ظاهِرِهِ، وقال: هذا مذهبُ المؤيد بالله عليه السلام، مع أنَّه -رحمَهُ اللهُ- كان في هذا الفَنِّ أرسخَ قَدَماً، وأَشْمخَ عِلْمَاً، وأنا أورِدُ كلامَ المُؤيَّد بالله في الزِّيادات، لِتَعْلَمَ أنَّه ظاهرٌ، ولا يحتاج إلى شرحٍ وتأويلٍ صحيحٍ لا يفتقر إلى تمريض وتعليل. قال عليه السلام ما لفظه: فصل فيما يجبُ على العامي المستفتي، وما يكون الاشتغال به أولى مِنَ العلوم عندي أنَّ التَّنقير والبحث واجبٌ على العاميِّ، فإنْ كانَ مِمَّنْ لهُ رُشْد، وثبت له وجهُ القُوَّة بين المسألَتَيْنِ، أَخَذَ بأقواهما عنده، وإن لم يكن له رشد، فلا بُدَّ أنْ يَنْظُرَ في الترجيج بين العُلماء، ويطلُبَ ذلِكَ، إلى آخرِ كلامِهِ عليه السلام في هذا الفصل، وهذا (1) هُوَ الَّذي ذهبتُ إليه قد نَصَّ المؤيَّد بالله عليه السلام، وكذلِكَ نصَّ عليه الإمامُ الدَّاعي يحيى بنُ المُحْسِنِ (2)، فقال ما لفظه: مَن انتهى في العلْمِ إلى حالةٍ (3) تُمَكِّنُهُ الترجيحَ بين الأقوال، وجبَ عليه استعمالَ نَظَرِهِ في التَرجيح، وإنْ لَمْ يبْلُغْ دَرَجَةَ الاجتهاد. تمَّ كلامُ الإمامَ الدَّاعي بلفظِهِ.
والعجبُ مِنَ السيدِ أنَّه يحتالُ على مُخَالَفَتي للَأئِمَّة، وإن وافَقْتُ النُّصوصَ، ويتمحَّلُ ما يُخرجُني إلى أطراف العامَّة، وإن توسطتُ في عقد الخُصوص، وقد ظهر أنِّي موافِقٌ للمؤيَّد بالله والداعي إلى الله في مذهَبِهِمَا، وكفى بِهِمَا سلفاً صالحاً، مع أنه قد وافَقَهُما على ذَلِكَ غيرُهما
__________
(1) " هذا " لم ترد في (ب).
(2) في " أعلام الزركلي " نقلاً عن " أنباء الزمن في تاريخ اليمن " حوادث سنة 614 و636، و" إتحاف المرشدين " 58: يحيى بن المحسن بن محفوظ بن محمد بن يحيى من ذرية الهادي كان قيامه بصعدة سنة 614 بعد وفاة الإمام عبد الله بن حمزة، وتلقب بالمعتضد بالله، ولم يتم أمره، لأن القوة كانت للأشراف بني حمزة، وكان من العلماء، صنف المقنع في أصول الفقه، توفي سنة 636 هـ.
(3) في (ش): حال.(3/125)
مِنَ العُلماءِ، منهم النَّواوي، وابن الصلاح وغَيْرُهما، وقد ذكر ذلك النواوي في " شرح المهذب " (1)، وذكره شيخ النواوي العلامةُ عِزُّ الدينِ بنِ عَبْدِ السَلام في كتابه " قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (2)، وتعجَّبَ مِنْ مُنْكِرِهِ مِنْ أهل التَّقليد بكلِّ عَجَبٍ، ولا حاجة إلى نقل كلامِهِم مع وُجودِ كلامِ المؤيَّد والدَّاعي عليهما السلام. والسيِّدُ مُدَّعٍ في ظاهرِ حالِهِ أنَّه موافِقٌ للجمهورِ، وأنَّ مذهبَ خَصْمِهِ شاذٌ مهجورٌ، فيجبُ منه أن يُرِيَنَا مَنْ وافَقَه على قوله بتحريمِ الترجيح بالأخبار (3)، وَلَوْ مِنَ الجُمهورِ واحداً، ومن العالَم (4) عالِمَاً.
النظر الثاني: أنَّ السيدَ في كلامه هذا قد أجاز التَّرجيح بالأخبار لبعضِ المُقَلِّدين بعد أنْ كان قال: إنَّ ذلِكَ يُوجِبُ كونَ المُرَجِّح بها مِن المجتهدين، وهذِه مناقَضَةٌ ظاهِرَة.
النَّظر الثالث: أنِّي لَمْ أُوجِبِ الترجيح بالأخبار على جميع المكلَّفين مِنَ العامَة مِنَ العبيد والنِّساء والزُّراع والصُّنَّاع والبُلَدَاءِ، وإنَّما أصل (5) كلامي في كتابي الذي أجابَه السَّيِّدُ أنَّه يِجوز لي العملُ بالحديث الَّذي
__________
(1) انظر " شرح المهذب " 1/ 42 - 45.
(2) 2/ 135 - 136، والعز بن عبد السلام هو شيخ الإسلام، وسلطان العلماء، وأحد الأئمة الأعلام، عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي الدمشقي، المتوفى سنة 660 هـ.
قال الذهبي في " العبر " 3/ 299: برع في الفقه، والأصول، والعربية، ودرس وأفتى، وصنف، وبلغ رتبة الاجتهاد، وانتهت إليه رئاسة المذهب مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين. له ترجمة حافلة في " طبقات ابن السبكي " 8/ 209 - 255.
(3) " بالأخبار " ساقطة من (ب).
(4) في (ش): العلماء.
(5) في (ب): وصل.(3/126)
عرفتُ صِحَّتهُ، وغَلَبَ عَلَى ظَنِّي قوَّةُ المذهبِ الذي هو نصَّ فيه، ثم أتبعتُه بِذِكْرِ التَّرجيح في المذاهب، وأنَّ مذهبنا جوازه، وذكرتٌ ما فيه منَ الاحتياط للإجماعِ على حُسْنِ فِعْلِهِ، والاختلافِ في حُسْنِ تَرْكهِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ مُرادي بالترجيح بالأخبار الترجيحُ مِنَ المميِّزين الذين يُمْكِنُهم ذلك، لأنَّ السَّامِعَ للحديث بعد معْرفَةِ الاختلاف بين العُلماء في الحادِثَةِ، إمَّا أنْ يفيدَه سماعُ الحديث ظنَّاً لقوَّة أحدِ (1) المذاهب أو لا، إنْ لم يحصل لَهُ ظَنٌّ، فليس سماعُه للحديث ترجيحاً بالإجماعِ، ولا عمَلُه (2) بمقتضاه مِنْ غَيْرِ ظَنٍّ لقوَّته ترجيح، وكلامي إنَّما هو في التَّرجيح بالحديث، لا في العمل عِنْدَ سماعِهِ على جهة الاتِّفاقِ والشَّهْوة.
وأمَّا إنْ حصل له عند سماعه ظنٌّ قويٌّ يفيدُهُ أنَّ بعضُ المذاهب قويٌّ وبعضُها ضعيفٌ، فإنَّ ذلكَ يُوجِبُ التَّرجيح لمَا تقَدَّمَ.
النَّظر الرابع: أنْ نَقُولَ للسيد: أخبرنا عَنْ هذه المسأَلَةِ، هل هِيَ عندك قطعيّة أو ظنِّيَّةٌ؟ وإن كانت ظنِّيَةً، فما معنى التَّرسُّلِ على من قال بها، والتَّشنيع في ذلك؟ وإنْ كانت قطعيَّةً، فأين الأدلَّة ُ القاطِعَةُ، والبراهين السَّاطِعةُ؟ وما بالكَ تُورِدُ الكلامَ مكشوفَ العَوْرَةِ من لِبَاسِ الأدلة ِ، عاطِلَ العُنُقِ مِنْ حِلْيَةِ الحُجَّةِ؟ ثُمَّ إنَّها إنْ كانت عنذك قطعيَّةً، لَزِمَكَ تأثيمُ المؤيَّدِ باللهِ، وتأثيمُ المخالِفين لكَ من سائِرِ عُلماءِ الإسلام.
النظر الخامس: أنَّه وعد بضربِ مَثَلٍ، ولم يأتِ بما يَصْلُحُ أن يُسَمَّى مثلاً مضروباً عِنْدَ البُلغاءِ، والله أعلمُ.
__________
(1) " أحد " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): علمه.(3/127)
قال: فأمَّا (1) أن يكون لَهُ في كُل مسأَلَةٍ أن يُرَجَّحَ ويخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ كان قلَّده، فالصَّحيحُ أنَّ عليه التزامَ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، ذَكرَهُ المنصورُ بالله، والشيخ الحسن، والشيخُ أحمد بن محمد، واحتجَّ لهم بوجوه.
أحدُها: بالإجماع وهو أنَّه لا يُعْلَمُ أحد مِنَ المقلِّدين يَتَردَّدُ بَيْنَ مذاهِبِ عُلمَاءِ الإِسلام المتقدِّمين منهُم والمتأخِّرين، ففي مسألة يقلِّدُ أبا بكرٍ، وفي أُخرى عمر، وفي ثالِثَةٍ ابنَ عبَّاس، وفي رابعة ابنَ مسعودٍ، وهَلُمَّ جَرَّاً، ولا منْ يكون مقلِّداً لطاووس، وعطاء، وللحَسَن، والشّعبي، ولابن المسيِّب، ولغيرهم مِمَّن وراءَهم، فقلَّد في كُلِّ مسألة إماماً في أبوابِ الفقهِ ومسائِلِهِ جميعاً، ولا مَنْ يكون حَنَفِيَّاً في مسألة، شافِعِيَّاً في أخرى، مالكيَّاً حنبليَّاً هادويَّاً ناصرِيَّاً في مسألة مسألة هذا ما وَقعَ ولا عُلِمَ به، ولو وقع في زماننا، لأنكرَهُ النَّاسُ.
أقول: ضَعْفُ كلامِ السيِّدِ في هذا يتبيَّنُ بأنظار.
النظر الأول: أنَّه مَنَعَ مِنْ جوازِ التَّرجيح للمقلِّدِ في كُلِّ مسألة، وظنَّ أن المنصور، والشَّيخ الحَسَنَ منعا مِنْ ذلك لإيجابِهِمَا التزامَ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، وليس كما توهَّم السيدُ، فبينَ المسألتيْنِ فرقٌ واضحٌ، لَأنَّ المنصور عليه السَّلامُ إنَّما أوجب التزامَ مذهبِ الأعلمِ الأفضلِ، لَأنَّ الظَّنَّ بِصِحَّةِ قولهِ أقوى، قال المنصور (2) عليه السَّلامُ ما لفظه: ومتى اتَّفق أهل العلمِ والاجتهادِ في الفتوى، وَجَبَ على المستفتي قَبُولها بلا خلافٍ في ذلِكَ، وَإِن اختلفوا، وجبَ عليه عندَنا الاجتهادُ في أعلمِهِم وأديَنِهِمْ، وطلبُ الأمارَاتِ على ذلِكَ، لأنَّ ذلِكَ يُمْكِنُه وَهُو مُقَوٍّ لظنِّه، وقد تقرَّر وجوبُ
__________
(1) في (ش): وإما.
(2) في (ب): المنصور بالله.(3/128)
طَلَبِ الظن الأقوى لِمَنْ يمكنُهُ العلمُ، وأنَّه لا يجوز العدولُ عنه إلى الظن الأضعفِ مع التَّمَكُّنِ منَ الظن الأقوى، إلى آخِرِ كلامِه عليه السلام.
ومَنْ نَظرَ في كلامِهِ هذا، ظهرَ لَه أنَّه أكثرُ مناسبةً لكلامي؛ لَأني تمسَّكْتُ بما نصَّ على وُجوبه من اتِّباع الظَّنُّ الأقوى، وتحريم العمل بالظن الضَّعيفِ، وأنا وافقتُ المنصورَ عليه السلامُ في المعنى، والسَّيِّدُ وافقه في الصُّورَةِ، وتوهَّم أنَّ الموافقَةَ في الصُّورَةِ أرجحُ مِنَ الموافَقَةِ في المعنى، وهذا غلط واضِحٌ، فإنَّ المُوافَقةَ الصُّوريَّة لم يَردِ التَّعبُّدُ بها إلا مُتابَعَةً للموافقةِ المعنَويَّة، والموافَقةُ المعنويَّةُ هي المقصودَةُ، ومثالُ ذلِك أنَّ الواحِدَ مِنَّا لو تزوَّج تِسْعَ نساءٍ على الجمع، لكانَ مُوافِقَاً للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الصُّورة، ولكنَّه لمَّا كانَ مُخالِفَاً في المعنى، حَرُمَ ذلِكَ، وكذلكَ المرأةُ لو سترت مِنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَة، وكَشَفَتْ ما عدا ذلك، لكانت موافقةً للنَّبِي عليه السَّلامُ في الصُورَة؛ لكِنها مخالِفَةٌ له في المعنى، وأمثالُ هذا كثيرةٌ (1)، وقد يغترُّ كثيرٌ مِنَ المقلِّدين بالصُّورة.
النَّظر الثاني: أنَّا نُبَيِّنُ أنَّ مذهبَ المنصُورِ بالله عليه السلام هوَ مَا ذكرنا بطريقة التَّخريج (2) الصَّحيحَةِ الواضِحَةِ التي نَصَّ على صِحَّتِها الأئِمَّةُ.
فنقول: قَدْ بَيَنَّا الدَّليلَ فيما تقدَّم، على أنَّ السَّامِعَ للحديثِ الصَّحيح مِنَ الثِّقة المُرْضِيِّ إنْ لم يَحْصُلْ لَهُ به ظَنٌ، لم يجب عليه التَّرجيحُ به، وإنْ حَصَلَ لَهُ مِنْه (3) ظَنٌّ راجِحٌ، وجب عليه العمَلُ به. وقد
__________
(1) في (ش): كثير.
(2) في (ش): الترجيح.
(3) " منه " ساقطة من (ش).(3/129)
نَصَّ المنصورُ بالله عليه السلامُ على أن العَمَلَ بالظن الرَّاجِحِ واجبٌ، والعمل بالظن الضَّعيفِ حرامٌ، فدلَّ على ما قلناهُ بعُمومِ قوله وظاهرِ لفظِه، والتَّخريج مِن العموم هو أرفَعُ درجاتِ التَّخريج وأصحُّها.
فإن قلتَ: عمومُ كلامِه يقتضىِ وُجوبَ الالتزام (1) أيضاً.
قُلْتُ: هذا لا يَصِحُّ لوجهين.
أحَدُهما: أنه مُعَلَّلٌ بعلَّةٍ تقتضي تخصيصَه في هذه المسألة، وتُوجبُ فسادَ التَّمسُّكِ به في هذه الصُّورة، والتخريجُ على هذه الصورَةِ لا يجوز.
الثاني: أنَّا لو سلَّمنا أنَّه عمومٌ سالِمٌ مِنْ هذه السَّائِبَةِ، لم يصحّ التَّخريج (2) منه مع وُجودِ العُموم الذي تمسكنا به، لأنَّهما تعارضا، وأحدُهما معلَّلٌ بِمَا يقتضي عدمَ التَّخصيص، والثاني غيرُ مُعَلَّلٍ، والمعلَّلُ أرجحُ، ومَع الرُّجحانِ لا يبقى ظَنٌ لمذهب العالِمِ، فلا يَحِلُّ نسبةُ المذهب إليه مِنْ غيرِ عِلْمٍ ولا ظَنٍّ، والله أعلمُ.
النظر الثالث: أنِّي أذهبُ إلى ما ذهب إليه المنصُورُ بالله عليه السلام مِنْ وُجوب التزامِ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ في مسائِلِ الخلافِ متى غَلَبَ على ظَنِّ المقلِّدِ أنَّه أعلمُ وأورَعُ، ولا أرى خلافَ ذلِكَ، وليس قولي يناقِضُ هذِهِ الجُمْلَةَ؛ لَأنَّهَا عمومٌ معلَّلٌ بالرُّجحان، وخصِّصَت منها صورَة حَتَّى يظلَّ ذلِكَ الرُّجْحَان، بل حين انعكس، فصارَ الرَّاجِحُ مِنْ ذلِكَ
مرجوحاً، والقويُّ ضعيفاً، وتخصيصُ العموم ليس بمناقَضَةٍ، فبانَ لكَ بهذا أنِّي قد وافقتُ المنصورَ والجمهورَ أوَّلاً وآخِراً، ودُرْت مع الحق
__________
(1) في (ب): التزام.
(2) في (ب): " التحريم "، وهو خطأ.(3/130)
كيفما (1) دار، وعملتُ بما يُوافِق نُصوصَ الأئمَّة الأطهار، وأدلَّةِ النُّقَّاد مِنَ النُّظَّارِ.
النَّظر الرابع: أن السيد أراد أن يَنْصُرَ الإِمامَ المنصور بالله عليه السلام ويحتجَّ لَهُ، فاحتجَّ له بما يتنزَّهُ المنصورُعليه السلامُ منْ بناءِ مذهَبهِ عليه، واستنادِ أخبارِهِ (2) إليه، واتِّهامُ السَّيِّدِ أنَّ ذلِك هُوَ حُجَّةُ المنصور كالجناية على عُلومهِ الزَّاخِرَةِ، وأنظارِه الثَّاقِبَةِ، ولو أنَّ السيدَ أورد حُجَّةَ المنصور بنفسه التي ارتضاها لدليله، واختارها لمذهبه، كان أليقَ
بالَأدَبِ، وأوفقَ عِنْدَ ذَوي الَأرَبِ، والمنصورُ عليه السلام غَنِيٌّ عنِ احتجاج الغَيْرِ لمذهبه بالحجَجِ الواهِيَةِ وبيانُ هذِهِ الجُمْلَةِ (3) يحصلُ بإيراد كلامِ السَّيِّد وبيانِ جوابه.
قال السَّيَد أيَّده الله في الاحتجاج للمنصُورِ على وجوبِ الالتزامِ، ويحتجُّ لهم بوجوهٍ أحدها: بالإجماعِ، وهُو أنَّه لا يعلم أحداً مِنَ المقلِّدين يتردَّدُ بين علماءِ الإِسلام المتقدِّمين منهم والمتأخِّرين.
فأقولُ: الاغترارُ بهذِه الشُّبْهَةِ، وادِّعاءُ الإِجماع في هذِهِ الصُّورة هَفْوَةٌ عظيمَةٌ، وزلَّة كبيرةٌ، وقد وَهِمَ السيد فيها ثلاثَةَ أوهامٍ.
الوهم الأول: أنَّه عَوَّلَ على إجماعِ العامَّة المقلِّدين، وليس يُعْتَبَرُ بهم مع المجتهدين، فكيف بهم منفردين؟ وفي الحديث الصحيح المتَّفَقِ عليه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ لا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعَاً يَنْتَزِعُهُ،
__________
(1) في (ب): كما.
(2) في (ش): اختياره.
(3) في (ش): المسألة.(3/131)
ولكِنْ يَقْبضُ العلْمَ بِقَبْضِ (1) العُلَمَاءِ، حَتَّى إذا لَمْ يُبْقِ عَالِمَاً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسَاً جُهَّالاً، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (2)، فهذا الحديثُ يقضي (3) بأنَّ العامَّة قَدْ يجتمعونَ على الضَّلالَةِ والإضلالِ.
الوهم الثاني: أنا لو سلَّمنا أنَّ إجماعُهم صحيحٌ، لما دلَّ على مذهبه بفحوى ولا تصريحٍ، فإنَّ فِعْلَ الأمة دليلٌ على الجواز، لا على الوجوب (4)، وإنَّما يُسْتدَلُّ على الوجوب بأقوالهم، وكذلِك فِعْلُ النَّبِيِّ عليه السلامُ على القول المنصور في الأصول، وإنَّما وقع فيه خلافٌ لمَّا أَمَرَ اللهُ تعالى بالتَّأسِّي به واتَّباعِه في مُحْكَمِ القرآن، فأمَّا الأمة، فلا قائلَ بأنَّ إجماعَها على الفِعْلِ يَدُلُّ على وُجوبه، ومَنْ قال بذلك، احتاجَ إلى دليلٍ، وإنَّما جاء الدَّليلُ بعصمة الأمة عَنْ فِعْلِ الحرام، لا بعصمتها مِنْ فعلِ المُباح، فَمَا المانِعُ مِنْ إباحة ما فَعَلَتْ، كما أنَّ تركَها للشَّيْءِ لا يَدُلُّ على تحريمه، ولا يمنع مِنْ إباحَة ما تَرَكَتْ.
الوهم الثالث: وَهم أنَّ المقَلِّدِينَ مُجمعون على الالتزام، وذلِكَ
__________
(1) جملة " العلم يقبض " ساقطة من (ب).
(2) أخرجه البخاري (100) و (7307)، ومسلم (2673) من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ...
وقوله: " لم يُبْقِ عالماً ": بضم الياء، وكسر القاف، هي رواية الأصيلي، وضبط بفتح الياء والقاف، و" عالم " بالرفع. وفي رواية مسلم: " حتى إذا لم يترك عالماً ".
وهو في " المسند " 2/ 162 و190، والترمذي (2652)، وابن ماجه (52).
وكان تحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك في حجة الوداع، كما رواه أحمد 5/ 266، والطبراني (7867) و (7875) و (7906) من حديث أبي أمامة قال: لما كان في حجة الوداع قال: " خذوا العلم قبل أن يقبض أو يرفع "، فقال أعرابي: كيف يرفع؟ فقال: " ألا إن ذهاب العلم ذهاب حملته " ثلاث مرات.
(3) في (ب) و (ش): يقتضي.
(4) في (ب): الواجب.(3/132)
غَيْرُ صحيحٍ، بَلِ الأكثرُ منهم غيرُ ملتزم (1)، إن لم يكونوا كلُّهم غيرَ ملتزمين، وسيأتي بيانُ هذا قريباً.
تنبيه: فلو أنَّ السيدَ احتجَّ بتقريرِ عُلماءِ الأمَّةِ للمقلِّدين على ذلِك، لَكَانَ أقرب، وإنْ كان لا يَسْلَمُ من هذين الوهمين الأخيرين، فوهمانِ خيرٌ مِنْ ثلاثَةٍ، وبعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعض، وحينئذٍ يتبيَّنُ ضعْفُ ما توهَّمَ السَّيِّدُ مِنَ الاحتجاجِ بِهذا الإجماعِ على وجوبِ الالتزام.
النظر الخامس: أنَّ السيدَ ادَّعى أنَّ التَّنَقُّلَ في المذاهب (2) ما وقع البتَّة (3)، ولا عَلِمَ بِهِ، وأنَّ أحداً مِنَ المقلِّدينَ ما عَلِمَ أنَّه كان هادويّاً في مسألة، ناصريّاً في مسألة، ولا شافعيَّاً في مسألةٍ، حنفيَّاً في مسألة، وهذا منَ السَّيِّدِ إمَّا غفلَة كبيرَة، وإمَّا جَحْدٌ للضَّرُورةِ، فإنَّ أكثرَ أَهْلِ الزَمَانِ غيْرُ ملتزمِينَ لمذهب إمامٍ مُعيَّنٍ، وَقَدِ اشْتهر مذهبُ النَّاصِرِ في طلاقِ البِدْعةِ في بلاد الزَّيْدِيَّة اليمنيَّة، مع اشتهارهم بعدم التزامِ مذهبِ النَّاصِر، والعملُ بهذا ظاهِرٌ مِنْ كثيرٍ من المفتين والمستفتين، وكذلك العَمَلُ بمذهَبِ المؤيَّدِ بالله في كثيرٍ من البُيوع مشهورٌ عِنْدَ كثيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّمييزِ
ليس بِمُلْتَزِمٍ لمذهب المؤيَّد ِ.
والشَّافِعيَّةُ كذلِكَ لا يَقِفُونَ على مذهبِ الشَّافعيِّ في كثيرٍ من المسائلِ، حتَّى إنَّهم على غير مذهبه في الَأذان المتكرِّرِ كُلَّ يومٍ، فإنَّ مذهَبَهُ الجديد أنَّه لا يقال (4) فيه: الصَّلاة ُ خير مِن النَّوْمِ، والقولُ القديمُ
__________
(1) في (ب): الملتزم.
(2) في (ش): المذهب.
(3) في (ب): ما وقع في المذاهب البتة.
(4) في (ش): " أن يقال " وهو خطأ.(3/133)
عندهُم لا يجوز العملُ به (1)، وإنَّما عَمِلُوا في هذه المسألة بقول غيرهِ، ترجيحاً لمذهَبِ غيره لموافقة الحديث الوارد في ذلِكَ (2)، وهكذا عَمِلَتِ الشَّافِعِيَّةُ في مسائِلَ كثيرَةٍ خالف الشَّافِعِيُّ فيها (3) النصوص النبوية (4)، وقد
__________
(1) واستثنى جماعة من الشافعية نحو عشرين مسألة أو أكثر، فقالوا: يفتى فيها بالقديم. انظرها في " المجموع " 1/ 66 - 67.
(2) هو حديث صحيح أخرجه من حديث أبي محذورة: أحمد 3/ 408 - 409، وأبو داود (500) و (501) و (504)، والنسائي 2/ 3 - 4 و7، وعبد الرزاق (1779)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/ 134، والبيهقي 1/ 394 و417، والدارقطني 1/ 234 و235، وصححه ابن خزيمة (385).
وفي الباب عن أنس عند الدارقطني 1/ 243، والبيهقي 1/ 423، وصححه ابن خزيمة (386).
وعن ابن عمر عند الدارقطني 1/ 243، والبيهقي 1/ 423، وسنده حسن كما قال الحافظ في " تلخيص الحبير" 1/ 201.
ونقل السبكي في رسالته " معنى قول المطلبي " ص 100 عن إمام الحرمين قوله في النهاية عن الصيدلاني، عن بعض أصحابنا المحققين: القطع باستحباب التثويب (أي: قول المؤذن في الفجر: الصلاة خير من النوم)، وقال: نحن نعلمُ على قطع أنَّه لو بلغه -يعني الشافعي- الحديث على خلاف ما اعتقده، وصحَّ على شرطه، لرجع إلى موافقة الحديث.
(3) في (ب): فيها الشافعي فيها.
(4) في " رسالة قول المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي " ص 100: وفي " المهذب ": في الغسل من غسل الميت أن الشافعي قال في البويطي: أن صح الحديث، قُلنا به.
وفي " البحر " في الاشتراط عن الشافعي في الجديد: إن صح حديث ضباعة، قلت به.
ورجح جماعة من أصحابنا أن وقت المغرب موسع والصوم عن الميت كذلك، ولأجله قال الماوردي: إن الصلاة الوسطى العصر مع نص الشافعي على أنها الصبح، وقال في وطء الحائض: فيه وجوب دينار أو نصف دينار. روى هذا الحديثَ الشافعي، وكان إسناده ضعيفاً، فقال: إن صح، قلت به.
وقال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلا ويذهب عليه سنة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعرف عنه، فمهما قلت من قول، أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو قولي، وجعل يردد هذا الكلام.
وفي " شرح السنة " 9/ 127 قال الشافعي: فإن كان يثبت حديث بروع بنت واشق، فلا حجة في قول أحد دون النبي - صلى الله عليه وسلم - ...(3/134)
ذكر ذلك النَّواوي في " شرح المهذب " وغيره.
وقد يَعْملُونَ بغيرِ مَذْهبهِ لغيرِ ترجيحٍ، فيُصلُّونَ الجُمُعَةِ قبل بُلوغِ عددهم إلى الأربعين، ذكر هذا المعنى أبو بكر بن الخياط في فتاويه التي سأله عنها حيُّ الفقيهُ علي بن عبد الله رحمه الله.
وكذلك الحنفيةُ لا يقفون على مذهب أبي حنيفة في المياه، ولا يكادُ يتهيَّأُ ذلك لهم في أسفارهم وكثير من أحوالهم، ولم نعلمْ أحداً في هذه الأعصار محافظاً على مذهب الهادي عليه السلامُ، ملتزمَاً له في جميع رُخَصه وشدائده.
وبعدُ، فالقطعُ بأنَّ ذلك ما كان مِنْ قبيل دعوى علمِ الغيب، فليس يعلم جميع أفعال (1) العامة مِنَ الأمَة إلاَّ الله، ثمَّ إن فيهم مَنْ يفعلُ الكبائر، فَمِنْ أينَ عَلِمَ نزاهَتهم عن ذلك؟
فقولُ السَّيِّدِ: إنَّه ما وقع التَّنقُّل في المذاهب مِنْ أحدٍ مِنَ المقلِّدين، هكذا على الإِطلاق من غير استثناء لأحدٍ مِنَ العامَّة، ولا منْ أهل التَّساهد، ولا مِن المتقدِّمين، ولا منَ المتأخِّرين، خَلْعٌ لعُرْوَة (2) المراعاة كعادات أهل العناد، وغلوٌّ لم (3) يبلغه أحدٌ مِنْ أهل اللَّجاج.
النظر السادس: قول السَّيِّد: إنَّ هذا لو وقع في زماننا، لأنكره النَّاس، عجيب أيضاً، لأنَّه إمَّا أن (4) يريدَ أنَّ هذه حُجَّة إجماعيَّةٌ، وهو الظَّاهر مِنْ كلامه، فهذا لا يصحُّ لأمور.
__________
(1) في (ش): أفعال جميع.
(2) في (ب): " العروة "، وهو خطأ.
(3) تحرف في (ب) إلى: علوم.
(4) " أن " ساقطة من (ب).(3/135)
أحدها: أنَّ المعلومَ أنَّه واقعٌ، وما أنكره النَّاس، بل هُو الذي عليه الناس.
وثانيها: أنَّه لو كان غيرَ واقع، لكان قوله: " لو وقع (1)، لأنكره النَّاسُ " دعوى على النَّاس.
وثالثها: أنَّه في عُلالةٍ مِنْ كيفيَّة العلم بإجماعِ العُلماء، فكيف بإجماع الناس؟
ورابعها: أنَّه ادَّعى جهْل أهلِ زمانِنَا، ثم احتجَّ بإجماعهم، وإنَّما يحتج بإجماعِ المجتهدين.
النظر السابع: أنَّ السيِّدَ جاوزَ حدَّ العادة في الغُلُوِّ، حتَّى ادَّعى على الإجماعِ على ما المعلومُ انعقادُ الإجماع على نقيضه، وذلك أنَّه ادَّعى الإجماعَ على الالتزام في زمن الصحابة والتَّابعين، واحتجَّ على ذلك بأنَّه لم يعلم أنَّ أحداً كان يقلد أبا (2) بكر في مسألةٍ، وعُمَرَ في مسألة، وابنَ عبَّس في مسألة، وابنَ مسعود في مسألة.
فأقول: بَلِ المعلومُ بالضرورة أنه ما كانت العامة في زمن الصَّحابة متحزِّبَةً أحزاباً، متفرِّقةً فرقاً عَلَوِيَّة، وبكريَّة، وعمريَّة (3)، وعثمانيَّة، وعمَّارية ومُعاذية، نسبة إلى عليٍّ، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعمار، ومعاذ، ونقول للسيِّد: أخْبِرْنَا عَنِ العامة وقت الصحابة، هل كانوا ملتزمين لمذهبِ إمام واحد لا يستفتون سواه، ولا يَرْجِعُونَ إلى غيره؟ فهذا يقتضي أنَّه ما كان في الصَّحابة إلا مفتٍ واحد.
__________
(1) جملة: " لكان قوله لو وقع " ساقطة من (ب).
(2) في (ب): " أبي "، وهو خطأ.
(3) في (ب): وعمرية وبكرية.(3/136)
فإن قلت: إنَّ العامَّة كانوا متفرِّقين فِرَقَاً، مثل افتراق النَّاس في هذه الأعصار الأخيرة، فأيُّ البواطل تَرْتَكبُ على هذا؟ أتقول (1) بأنَّ كُلَّ مفتٍ مِنَ الصحابة كان له أتباعٌ؟ فهذا يُفْضي في تشعُّب مذاهبهم إلى غاية الاتِّساع، فقد نُقِلَتِ الفُتيا عن أكثرَ من مئة نفسٍ من الصحابة قد ذكرهم غيرُ واحدٍ من العلماء، ولولا خشيةُ الإطالة لذكرتهم بأسمائهم على الاستقصاء، أو ترتكِبُ القولَ بالتزام العامة لمذهب جماعة مخصوصين بغير دليل على التخصيص، وكل هذا لا مُلْجِىءَ إليه ولا حامِلَ عليه، وقد عُلِمَ بالضرورة أنَّ العامِّيّ في زمنهم كان يَفْزَعُ في الفتوى إلى مَنْ أَحَبَّ منهم مِن غير نكيرِ في ذلك، وهذا من الأمورِ المعلومة، وقد احتج الشَّيخُ أبو الحسين بهذا على أنه لا يجب الالتزامُ، وادَّعى أنَّه إجماعُ مِنَ الصحابة، ذكر ذلك المنصورُ بالله في كتاب " الصفوة "، وكذلك ذكره ابنُ عبدِ السلام في " قواعده " (2)، واحتجَّ به على جواز تقليدِ المفضولِ، وجوَّد تحريرَه، وليس يُناقضُ ما ذهبتُ إليه من إيجاب الترجيح عند اختلاف العلماء، وقوَّة الظنِّ أن قولَ أحدِهم أصحُّ، لأنه لم يظهرِ الإجماع على (3) هذه الصورة الخاصة.
قال: الوجه الثاني: أنَّه لا يتميَّزُ على هذا الوجهِ المجتهدُ مِنَ المقلِّدِ، فإنَّه إذا رجح في كل مسألة، وعمل بما (4) يترجح له، فهذا شأن المجتهدين، وكونُه قد قال به قائل شرطٌ في حقِّ المجتهد أيضاً.
أقول: هذا الوجه أضعفُ مِما قبله، وهو لا يؤدِّي إلى ما ذكره،
__________
(1) في (ب): القول.
(2) 2/ 135.
(3) في (ب): على الإجماع على.
(4) في (ب): ما.(3/137)
والفرق بينهما واضحٌ، وهو أنَّ المقلِّدَ ليس له أن (1) يستقلَّ بالقول، وإنَّما هو تبَعٌ لغيره، فلو لم يكن لغيره قولٌ البتَّة، لم يعمل بما (2) ترجح (3) له، وقد رام السَّيدُ أنْ يُبْطِلَ هذا الفرقَ، فركب الصعبَ والذَّلولَ، وخالف المنقول والمقبول، والتزم أنَّه لا يَحِلُّ الاجتهادُ لمجتهدٍ حتى يسبقَه غيرُه إلى اجتهاده، وهذا معلومُ البطلان لوجوه.
أحدها: أنَّه يلزمه ألاَّ يصحَّ اجتهادُ خير الأمَّةِ مِنَ الصَّدر الأوَّلِ الذين ابتكروا الكلام في الحوادث، وسبقوا إلى الاجتهاد في المسائل.
وثانيها: أنَّ الأمَّة مجمعةُ قديماً وحديثاًً على عدم اشتراط هذا، وإنَّما الشرط أنْ لا يكونَ في المسألة إجماعٌ ثابتٌ مِنْ طريقٍ صحيحةٍ قطعيَّةٍ أو ظنية غيرِ معارضة بما هو أرجحُ منها، ومِنَ العلماء من لم يقبل الإجماع حتى تكونَ طريقُ نقله معلومةً متواترةً، فأمَا إذا لم يكن في المسألة إجماعٌ ولا خلافٌ، فلا قائلَ بتحريمِ الاجتهاد فيها.
وثالثها: أنَّه يلزم السيِّدُ أنَّ الحادثة إذا حدثت، وليس فيها نصٌّ لمن تقدم سقط (4) عَنِ الأُمَّة التَّكليف فيها، ولم يجب عليهم في ذلك اجتهادٌ ولا تقليدٌ، لأنَّه لا نصَّ لمن تقدَّم، فيجوزُ تقَليدُه عند من يستجيزُ ذلك، ولا يجوز الاجتهادُ أيضاًً على رأي السيد، فلزم من ذلك العملُ بالإِباحة من غير اجتهادٍ ولا تقليدٍ، وتكليفُ ما لا يُطاقُ مِن معرفة مرادِ الله من غير اجتهادٍ ولا تقليد، وكلُّ هذا خلافُ الإجماع، فهذه هي الحُجَّةُ الثَّانية التي
__________
(1) " أن " ساقطة من (ب).
(2) في (ب): لما.
(3) في (ش): يترجح.
(4) في (ش): أن يسقط.(3/138)
أَنتصرُ بها لمذهب المنصورِ بالله عليه السَّلامُ.
قال: الثالثة أنَّه يلزم مِنْ ذلك التَّناقض كما لو كان مجتهدٌ يحملُ الأمر على الوجوب، فيُوجب العمرة بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ويوجب ركعتي المَقَام بقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] وكان مجتهدٌ آخر يَحْملُ الأمرَ على النَّدب، ويقضي في هاتين المسألتين بالنَّدب وعدم الوجوب، فيأتي مقلِّدٌ فيقولُ: أنا أرجِّح (1) مذهبَ أحدهما في مسألة وأختاره، وأرجِّحُ مذهبَ الآخر في الأخرى وأختاره، فيكون هذا قائلاً: إنَّ الأمر يقتضي الوجوب، وإنَّ الأمر لا يقتضي الوجوبَ، اللهُمَّ إلاَّ أنْ يحصُلَ مرجِّح ظاهرُ القوَّة يُصْرَفُ به الأمرُ من (2) حقيقته إلى مجازه، وهذا يحتاج إلى اطِّلاعٍ في العلوم، وعضٍّ عليها بالنَّواجذِ، وركوبِ أخطارٍ، وارتحالٍ، وتنقُّلٍ في الأقطار.
أقول: الجوابُ عليه في هذا يَتمُّ إن شاء الله تعالى بذكر أنظار.
النَّظر الأول: أنَّ السيدَ استدلَّ، ثم استثنى، والاستثناءُ لا يصح في البرهانِ والإسلام، وكلُّ ما لا يتجزَّأ ولا ينقسم، ولا خلافَ في هذا بين العُقلاء، وإنَّما يصحُّ الاستثناءُ في ذواتِ الأجزاء، كقول القائل: عليَّ لفلانٍ عشرةٌ إلا درهماً، وقام القومُ إلا زيداً، وأمَّا القول بأنَّ الأمر صحيحٌ أو باطلٌ بدليل كذا وكذا، إلا أن يكونَ كذا وكذا، فهذا فاسدٌ قطعاً، لأنَّه بمنزلة أن يقول: هو صحيحٌ إلاَّ أنْ لا يصحَّ، وباطلُ إلاَّ أن لا يبْطُل، بدليلِ أنَّ الاستثناءَ ممَّا لا جُزْءَ له لا يكون معناه إلا التردُّدَ والاحتمال، ولا
__________
(1) في (ب): " رجح " وهو خطأ.
(2) في (ب): عن.(3/139)
شكَّ أنَّ الاحتمال يمنع الاحتجاجَ والاستدلالَ، ولهذا قال العلماء: لا يصحُّ استثناءُ الكُلِّ من الكُلِّ، كقولك: له عليَّ عشرةٌ إلاَّ عشرة؛ لأنَّه مناقضةٌ، فكذلك الاستثناء في البُرهان مناقضة.
النظر الثاني: أنَّ ما جاز في ذلك على المقلِّدِ جاز على المجتهد؛ لأنَّهما مكلّفان عاقلان، والمناقَضَةُ لا تَحِلُّ لمكلف، مجتهداً كان أو مقلداً، ولا يُعْصَمُ منها مكلَّفٌ أيضاًً، فهي محرَمة عليهما، مجوزة فيهما، فما الفرقُ بينهما.
النظرُ الثالثُ: أنَّه (1) جعلَ القرينةَ الدَّالة على صرف الأمرِ مِنَ الحقيقةِ إلى المجاز ممَّا يحتاج إلى اطِّلاع في العلوم، وعضٍّ عليها بالنَّواجذ، والأمرُ أهون ممَّا ذكره؛ وذلك لأنَّ النَّاظر في المسألة الَّتي ذكرها السيدُ إنْ كان ليس له معرفة بأنَّ الأمر يقتضي الوجوبَ أو النَّدبَ، ولا مذهبَ له في ذلك، لم يكن لَهُ أن يرجِّحَ بذلك، وكيف يرجِّحُ بما لا يَعْرِفُ، وإن كانَ مِمَّنْ يعرف هذه المسألة، ويختار فيها أحد القولين، فالعدولُ عَنِ الظَّاهر في الأمر إلى المجاز أمرٌ قريب تُغني فيه الإشارة عَنِ التَّهويل بتلك العبارة، وإنَّما هو معرفة القرينة الدالَّة على الوجوب أو الندب، فقرينةُ الوجوبِ الوعيدُ على ترك المأمور به، وقرينةُ النَّدبِ الإذنُ في تركه، ونحو ذلك مِنْ خصائصِ الوجوب والنَّدْبِ الواضحة. فما هذا (2) التَّهويلُ بذكر الأخطار، والتِّجوال في الأقطار!!
__________
(1) في (ش): أن.
(2) في (أ): " مما في هذا "، وكذلك كانت في (ش)، ثم أصلحت " مما " إلى " فما "، ودمجت " في "، ويغلب على الظن أن الإمام الشوكاني رحمه الله هو الذي صحح ذلك.(3/140)
النَّظر الرابع: أنَّ كلامَه في هذا الفصل يستلزِمُ اشتراطَ السَّفرِ والخطرِ في صِحَّة الاجتهاد؛ لَأنَّه إذا وجب ذلك في معرفة القرينة الصَّارِفةِ للأمر مِن الحقيقة إِلى المجاز، فكيف بالاجتهادِ في جميع العُلوم كُلِّها (1) دِقِّها وجِلِّها؟ بل كلامُه يستلزمُ أنَّ كُلَّ مسألة اجتهادِيةً تحتاج إلى السَّفر، وتفتقر إلى الخَطرِ، وهذا يُفْضِي (2) إلى أن يشترط في الاجتهادِ منْ طَيِّ المراحل والمجاهل، والتَّطوافِ على المفاوزِ والمناهل ما لا يكادُ يُمكِنُ إلا مع القدرة على الطَّيران، أوِ (3) الركوب على بساطِ سليمان، وما زال أهلُ العلم يذكرون شروطَ الاجتهاد، فما ذكر أحدٌ (4) مِنْهُمْ تطوافَ البلاد، ولا ركوبَ الأخطار في تَقَحُّمِ الأغوار والأنجاد، كيفَ إلا مسألة ظنِّيَّة وأمَارة فروعية، فما الحاملُ على هذا الغلوِّ (5) الفظيع والتَّحامل الشَّنيع؟
النظر الخامس: أنَّ السَّيِّد أيَّده الله إما أنْ يكونَ يَعْرِفُ هذه القرينةَ الَّتي هَوَّلَ معرفتها أوْ لا، إن لم يكن يعرِفها، فكيف يحكم على ما لا يَعْرِفُ؟! والحكمُ على الشَّيْء بالسُّهولة أو الصُّعوبة فرعٌ على معرفته، وإن كان يعرف هذه القرينة، فكلامُه يدلُّ على أنَّه مِنْ أهلِ الاطِّلاع على العلوم، والعضِّ عليها بالنواجذ، لأنَّه قد نصَّ على أن معرفة هذه القرينة يحتاجُ إلى ذلك، لكِنِ السَّيِّدُ قدْ وَعَّرَ مسالِكَ العلوم (6)، وبعَّدَها، وتوقَّف في إمكانها، ومَنْ كان مِنْ أهل العلوم والعضِّ عليها بالنَّواجذ، فهو مجتهدٌ
__________
(1) " كلها " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): " يقتضي ".
(3) في (ب) و (ش): و.
(4) تحرف في (ج) إلى " أحداً ".
(5) في (ش): الأمر.
(6) من قوله: " والعض عليها " إلى هنا ساقط من (ب).(3/141)
بغير شَكٍّ وأيضاًً فما علمنا -مع المجاورة- أنَّه قَدِ ارتكب الأخطار، ولا طاف الأقطار. وبالجملة، فقد قدَّمْتُ قريباً أنَّ البُلغاء لا يسترحون إلى الأسجاع إلاَّ إذا حَلَّوْا بجواهرها لباتِ الحقائقِ وصدورَها، وسيَّرُوا في أفلاكِ قوارعها شموسَ الدَّلائل وبُدورَها، فأمَّا إذا لم تُصاحِبْ صِدْقَاً ولا حقَّاً، فما هي إلا كبقلة الحمقا (1)، لا تُثْمِرُ ولا تَبقى، ولا تستَحِقُّ أن تُزْرَعَ، ولا أن تُسقى.
قال: الموضع الثَّاني في الدَّليلِ (2) على أنَّ في أخبار هذه الكتب المسمَّاة بالصِّحاح ما هو غيرُ صحيحٍ إلى آخر كلامه في هذا الفصل، وهو مشتمل على الطَّعن في كتب الحديث بذكر ما فيها من حديث المحاربين أميرَ المؤمنين عليَّاً عليه السلامُ، وإنَّما لم أُورِدْهُ كلَّه هنا؛ لأنَّه قد تقدَّم جوابُ أكثرِه في مسألة قبول أنواعِ أهل التَّأويل، وتقدَّم هُناك نصوصُ كثيرٍ مِنْ أهلِ البيت على قَبُولهِمْ، بل على دعوى الإجماع منهم، ومِنْ غيرهم على ذلك، ولم أعلم أحداً قبلي بَسَطَ في هذه المسألة ما (3) بسطتُ، فراجعه فيما تقدَّم، ولم يبقَ هنا إلا تَتِمَّةً يسيرة، وأنا أتتبَّعُ ما لم يتقدَّم
جوابُه وأبيَنُه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) في " مجمع الأمثال " للميداني ص 226: أحمق من رِجْلَة، وهي البقلة التي تسميها العامة الحمقاء، وإنما حمَّقوها، لأنها تنبت في مجاري السيول، فيمر السيلُ بها، فيقتلعها. وفي " المستقصى " 1/ 81: أحمق من رِجْلَة: هي البقلة الحمقاء، وهي تنبت في مسيل الماء، فيقلعها السيل. والرِّجلة: المسيل، فسميت باسمه. وفي " زهر الأكم " 2/ 134: أحمقُ من رِجْلَة: الرِّجلة -بكسر الراء وسكون الجيم-: ضرب من النبات معروف ينبت في حميل السيل، فيقتلعه، فيوصف لذلك بالحمق. ويقال له: بقلة الحمقاء، والبقلة اللينة، والبقلة المباركة. وقيل: إن البقلة المباركة هي الهندباء. وقولهم: " بقلة الحمقاء " أضيف فيه الموصوف إلى الصفة في الظاهر، كقولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى.
(2) في " الدليل " ساقطة من (ب).
(3) في (ش): مثل ما.(3/142)
فأقولُ: الجواب على ما ذكره من وجوه:
الوجه الأول: أنَّا قد بيَّنَّا مِنْ نَصِّ أهل البيت عليهم السلامُ على قبولِ الخوارج، بل مَنِ ادعى معرفة الإجماع على ذلك مِنَ العِترة والأمَّة مِمَّن لا سبيل إلى تكذبيه، كالإمامِ المنصور بالله، والمؤيَّد ِ بالله، ويحيى بنِ حمزة، والأميرِ الحسين بنِ محمدٍ، وغيرهم منْ عُلماء الشِّيعة.
والخوارج شَرُّ من عادى أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنَّهم كفَّرُوه وأخرجوه من الإسلام، صانه اللهُ عن ذلكَ، فينبغي أن يعلم أنَّهم إنما قدَحُوا في أحاديث جماعةٍ قليلةٍ منَ البُغاة عليه (1) لأمرٍ آخرَ غيرِ بغيهم المعلوم الذي شاركهم فيه الخوارج، وذلك أجنبي (2) مِن القدحِ بالأمر المشتَرك بينهم وبين الخوارِج، فافهمه، وافْهَمْ أنَّ المخالفين لعليٍّ عليه السَّلام ثلاثةِ أصناف كما ورد في وصفه عليه السَّلام بقتال (3) المارقين والنَّاكثينَ والقاسِطين، فقد صرَّح أئمةُ الزَّيديَّةَ بقَبولِ المارقينَ والنَّاكثين، بَلِ ادعوا الإجماع على ذلك، وصرَّح الأميرُ الحسين في " شفاء الأوام " بدعوى الإجماع على قبول البُغاة على عليٍّ عليه السَّلامُ وَهُمْ عبارةٌ عَنِ القاسطينَ معاوية وأصحابه، والَّذي ذكره الأميرُ الحسين عن أهل البيت هو مذهبُ المحدِّثين، لكنِ الزَّيديَّةُ استثنَوْا مِنْ هذا الإطلاقِ قدرَ أربعةٍ أو خمسةٍ لا سوى، لأمرٍ وَقَعَ النِّزاعُ فيه بينَهم وبَيْن المحدِّثين، وهو قرائِنُ رُوِيتْ عنهم مِنَ الأقوالِ والأفعال تُعارِضُ ما ادَّعوْهُ وأظهروه منَ التَّأويل في البغي، ويدلُّ على تعمُّد البغي مع العلم بقُبْحِهِ وتحريمه، وهذا القدرُ ممَّا
__________
(1) " عليه " ساقطة من (ب).
(2) في (ش): آخر.
(3) تحرف في (ج): فقال.(3/143)
يمكِنُ وقوعُ اختلاف الظُّنون فيه، وفي أنَّ صاحِبَه مظنونُ الصدق أو مظنونُ الكَذِبِ، أو أنَّا متعبِّدون بردِّه وإن لم نظنَّ كَذِبَهُ، أو بقبوله وإن لم نَظُنَّ صدقه.
وقد اعترف أهلُ الحديث بأجمعهم أنَّ المحاربين لعليٍّ عليه السَّلام معاويةَ وجميع مَنْ تَبِعهُ بُغَاةٌ عليه، وأنَّه صاحبُ الحَقِّ، نقل ذلك عنهم غيرُ واحد منهم مثل القرطبي (1) في " تذكرته " (2) كما سيأتي في الوهم الثالثِ والثلاثين مِنَ المجلَّدِ الرَّابعِ، ولم يَبْقَ الخلافُ بينهم وبَيْنَ غيرهم إلاَّ في أمرين.
أحدهما: أنَّ مدار الرِّواية على ظنِّ الصِّدق، لا على الموافقة في العقائد ونحوها، أو على الموافقة في العقائد (3)، وإن لم يحصل ظَنُّ الصِّدق، وهذا الأمرُ قد تقدَّم مستوفى في مسألة المتأوِّلين.
وثانيهما: في أيِّ الأمرين أرجح: العملُ بظاهرِ دعوى التَّأويل، أو الحكمُ بالتعمُّد للقرائن الخاصة؟ وفي تراجم معاوية، وعمرو، والمغيرة من " النبلاء " (4) شيءٌ كثير، موضعُه معروف، فلا حاجةَ إلى نقله، وإنَّما ذكَرْتُ تراجمهم في " النبلاء "، لأنَّه مِن تصانيف أهل السُّنَّةِ، وهم لا يُتَّهمون في ذلك، وَمِنْ أعظمه أحاديثُ " تَقْتُلُكَ يا عَمَّارُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ " (5)
__________
(1) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرْح الأنصاري الخزرجي القرطبي، صاحب التفسير العظيم المتداول، المتوفى سنة 671 هـ. مترجم في " شذرات الذهب " 5/ 335.
(2) ص 555 - 557.
(3) جملة " أو على الموافقة في العقائد " ساقطة من (ب).
(4) انظر " سير أعلام النبلاء " 3/ 119 و3/ 54 و3/ 215 بتحقيقنا.
(5) تقدم تخريجه 2/ 170.(3/144)
فإنَّه حديثٌ متَّفقٌ على صحَّته وشهرته في ذلك العصر، وإنَّه ما قدح فيه مِنَ القُدماء أحدٌ، بل قال الذَّهبي في ترجمة عمار مِنَ " النُّبلاء " (1): إنَّه حديثٌ متواتر، فأمَّا معاويَةُ، فتأوّله بتأويلِ باطلٍ أنَّ علياً وأصحابه هُمُ الَّذين قتلوه وجاءوا به حتى ألقَوهُ بين رماحنا، رواه أحمد في مسند عمرو بن العاص (2)، وقد أجاب عبدُ الله بنُ عمرو بأنَّه يلزمُ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتلُ عمِّه حَمْزَةَ، وشهداء بَدْرٍ وأحد، فَأَفْحَمَهُ (3).
وأمَّا عمرو، فلم يتأوَّلْهُ، وفزِعَ فزعاً شديداً كما فَزِعَ عندَ موته (4).
فمَن نظر إلى القرائن الخاصَّة المقوِّية لِعدم التَّأويل رجَّحها، وأقواها
__________
(1) 1/ 421.
(2) أخرجه أحمد 4/ 199 من طريق عبد الرزاق، وهو في " مصنفه " (20427) عن معمر، عن ابن طاووس، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، قال: لما قتل عمار، دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال: قتل عمار، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تقتله الفئة الباغية " فقام عمرو بن العاص فزعاً يرجع حتى دخل على معاوية، فقال له معاوية: ما شأنك؟ قال: قُتل عمار، فقال معاوية. قد قُتل عمار، فماذا؟ قال عمرو: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتله الفئة الباغية " فقال له معاوية: دحضت في بولك، أو نحنُ قتلناه؟ إنما قتله علي وأصحابه، جاؤوا به حتى ألقوه بين رماحنا، أو قال: بين سيوفنا. قلت: وإسناده صحيح. وقوله: " دحضت في بولك " أي: زللت وزلقت.
وأخرج أحمد 2/ 164 و206، وابن سعد في " الطبقات " 3/ 253 من طريق يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، حدثني أسود بن مسعود، عن حنظلة بن خويلد العنبري قال: بينما نحن عند معاوية إذ جاءه رجلان يختصمان في رأس عمار، يقول كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال عبد الله بن عمرو: ليطب به أحدكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتله الفئة الباغية "، قال: فقال معاوية: ألا تغني عنا مجنونك يا عمرو، فما بالك معنا؟ قال: إن أبي شكاني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " أطعْ أباك حيّاً ولا تعصه " فأنا معكم ولست أقاتل. وإسناده صحيح. و" تغني ": من الإغناء، يريد ألاَّ تصرفه عنا وتكفه.
(3) نقل المناوي في " فيض القدير " 6/ 366 عن القرطبي: أن الذي أجاب معاوية هو علي، وقال ابن دحية: وهذا من علي إلزام مفحم لا جواب عنه، ولا اعتراضَ عليه.
(4) انظر " صحيح مسلم " (121) كتاب الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله، وفيه يقول عمرو: ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها.(3/145)
قتلُ عمار، وتَقَوَّى بِمَا اشتهر عَنِ الصحابة وغيرهم مِنَ الرَّدِّ عند أدنى ريبة.
فَمنْ ذَلك (1) أن أبا بكر وعمرَ رضي الله عنهما لم يقبلا حديثي المغيرة في سهم الجَدَّة، ودِيَة الجنين (2) حتى شهد له محمد بن مسلمة فيهما معاً، وذلك أيضاً قبل إحداث المغيرة، ولم ينكر أحدٌ عليهما.
وأمَّا عُمَرُ رضي الله عنه، فقد أكثر مِنْ ذلك، حتى توقَّف في حديثِ عمَّار بنِ ياسر في التَّيَمُّم (3)، ولم يعمل بهِ لنسيانِهِ لهُ، وكان حاضراً، وقلّتِ الرِّواية في أيَّامه خوفاً من عقوبته (4).
__________
(1) " فمن ذلك " سقط من (ش).
(2) تقدم تخريجهما في 1/ 294 - 295.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 450.
(4) في " تذكرة الحفاظ " 1/ 7 في ترجمة عمر رضي الله عنه: وقد روى شعبة وغيره، عن بيان، عن الشعبي، عن قرظة بن كعب، قال: لما سيَّرنا عمرُ إلى العراقِ مشى معنا عمر، وقال: أتدرون لم شيّعتكم؟ قالوا: نعم تكرمة لنا، قال: ومع ذلك إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل، فلا تصدوهم بالأحاديث، فتشفرهم، جردوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم، فلمَّا قدم قرظة بن كعب، قالوا: حدثنا، فقال: نهانا عمر رضي الله عنه.
وروى الدراوردي عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وقلت له: أكنت تحدث في زمان عمر هكذا، فقال: لو كنتُ أحدثُ في زمان عمر مثل ما أحدثكم، لضربني بمخفقته.
وروى معن بن عيسى، عن مالك، عن عبد الله بن إدريس، عن شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه أن عمر حبس ثلاثة: ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا مسعود الأنصاري، فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وأخرج أبو زرعة في " تاريخ دمشق " 1/ 544 من طريق محمد بن زرعة الرعيني، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركَنَّ الحديثَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لألحقنك بأرض دوس. وقال لكعب: لتتركن الأحاديث أو لألحقنك بأرض القردة. وهذا سند صحيح.(3/146)
ومن نظر في سيرةِ أميرِ المؤمنين علي عليه السلام، عَلِمَ أنَّه لم يَسِرْ فيهم سِيرَةَ الكُفَّار، ولولا تأويلُهم عنده لكفَّرهم حين كذَّبوا ما عَلِموا منَ الدين، وهي مِنْ أقوى ما تمسَّكوا به، وهي من أقوى أدلَّة الزَيديَّة على من قال: إن النَّصَّ جليٌّ في إمامة عليٍّ عليه السَّلامُ، فتأمل ذلك.
وكذا مَنْ نظر إلى ظواهر من الأحاديث النَّبوية في لزوم الظَّاهر وترك العمل بالظَّنِّ فيما يتعلَّق بالسَّرائر، رجح القبول في بعضِ الأحاديث، مثل حديث أبي سعيد الخدري، قال بَعَثَ عليٌّ عليه السَّلامُ بِذُهَيْبَةٍ مِنَ اليمنِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقسمها بَيْنَ أربعةٍ، فقال رجلٌ: يا رسول الله اتَّقِ اللهَ، فقال: " ويلك، أَو (1) لَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأرْضِ أنْ يتَّقِي الله؟ " ثم ولَّى الرَّجُلُ، فقال خالدُ بنُ الوليد: ألا أضرِبُ عنقه يا رسولَ الله؟ قال: لا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكونَ يُصَلِّي "، قال خالدٌ: وكم من مصلٍ يقولُ بلسانه ما ليسَ في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ (2) قُلُوبِ النَّاسِ، ولا أَشُقَّ بُطُونَهُمْ " (3). رواه البخاري ومسلمٌ وله شواهدُ كثيرةٌ في معناه.
منها أنَّ مَنْ أقرَّ بالزِّنى، ثم أنكر، قُبِلَ منه (4)، وفي كثيرٍ مِن
__________
(1) في (ب): و.
(2) سقطت من (ب).
(3) أخرجه البخاري (4351) في المغازي، باب: بعث علي بن أبي طالب عليه السلام وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، وسلم (1064) في الزكاة، باب: ذكر الخوارج وصفتهم.
وقوله: " بذهيبة ": هو تصغير ذهبة، وكأنه أنثها على معنى الطائفة أو الجملة، وقال الخطابي: على معنى القطعة، وفيه نظر، لأنها كانت تبراً، وقد يؤنث الذهب في بعض اللغات، وفي معظم النسخ من مسلم " بذهبة " بفتحتين بغير تصغير. " فتح الباري " 8/ 68.
(4) انظر " شرح السنة " الحديث (2584) و10/ 291.(3/147)
الأخبار لا يُقْبَلُ إقرارُه حَتَّى يُقِرَّ أربعَ مَرَّات (1).
ومنها سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ماعزٍ، هَلْ بِهِ جنونٌ لرفعِ الاحتمال البعيد (2).
ومنها حُكْمُ اللهِ تعالى على القَذَفَةِ، وإنْ كثُروا (3) بالفسقِ وجرح العدالة (4).
ومنها حُكْمُ عُمَرَ بذلك، وتقريرُ الصَّحابة على قَذَفةِ المغيرة مع قوَّة الظن بصدقهم (5)، وقَبِل دعواه لِنِكَاحِ السِّرِّ.
فَمَنْ قَبلهُمْ، نَظَرَ إلى هذه الأمور وإلى أنَّ التَّعمُّدَ والتأويل مِنْ أعمالِ القلوب وخفِّيات السَّرائر، فَعَمِلَ بما ظهر منهم من دعوى التَّأويلِ، وإنْ لم يَصدُقوا في الباطنِ، كما هو ظاهرُ سيرةِ عليٍّ عليه السلامُ فيهم، وتقوَّى على ذلك في الرواية أنَّ مدارَها على ظَنِّ الصِّدق، وتقوّى على ظَنِّ
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (6825) في المحاربين، باب: سؤال الإمام المقر: هل أحصنت، ومسلم 3/ 1318 رقم الحديث الخاص (16).
وأخرجه من حديث جابر بن سمرة مسلم (1292).
وأخرجه من حديث ابن عباس مسلم (1693).
وأخرجه من حديث بريدة مسلم (1695).
وأخرجه من حديث جابر بن عبد الله البخاري (6820)، ومسلم 3/ 1318. وأبو داوود (4430).
وفي الباب عن يزيد بن نعيم بن هزال، عن أبيه، عند أبي داوود (4377)، و (4419)، والنسائي في الرجم من " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 9/ 34، وأحمد 5/ 217.
(2) انظر التعليق السابق.
(3) في (ب): أكثروا.
(4) انظر الآية (23) من سورة النور.
(5) انظر " مصنف ابن أبي شيبة " 10/ 92 - 93، و" شرح معاني الآثار " للطحاوي 4/ 153، و" سنن البيهقي " 8/ 334، و" مستدرك الحاكم " 3/ 448 - 449.(3/148)
الصِّدق فيهم بأنَّهم لم يَرْووا حديثاً منكراً حتى ما رُوِيَ أنَّ أحداً منهم روى (1) شيئاً من أحاديث الرَّجاء (2)، ولم ينفردوا بشيءٍ، وأقلُّوا الرِّوايةَ، ولم يُكثروا مع طولِ مُدَّتهم ومخالطتهم وتمكُّنهم، ولم يرووا حديثاًً واحداً فيه نَصٌّ نبويٌّ على إصابتهم في حربهم، وفي دعاويهم، ولا على خطأ عليٍّ عليه السَّلامُ في شيءٍ من الأشياء، مع توفُّر الدواعي إلى ذلك، وطول المدَّة.
فأمَّا ما رواهُ بعضُ البغدادية مِنَ المعتزلة عنهم، وعن أبي هُريرة، وأنسٍ وغيرِهما مِنَ الكِبار والتَّابعين منْ تعمد الكذب، فذلك ما لم يَصِحَّ ولا يُقارِبُ الصحة، ولا يَشْتَغِلُ بمثله أهلُ التَّحصيلِ مِنْ أئِمَّة النَّقل، هذا مع ما رَوَوْهُ مِنْ عموماتِ الثَّناء على أهلِ ذلك العصرِ من الكِتاب والسُّنَّة وقبولِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ أسلم في عصره قَبْلَ اختباره، ولم يكتفوا بهذا غيرَ ناظرين إلى قرائنِ الصِّدقِ الخاصة (3)، ولذلك قال أبو داود في " سننه " (4) وقد روى حديثاًً عن معاوية، ثم قال: ولم يكن معاويةُ يُتَّهَم في الحديث، ولم يُنْكِرْ هذا القولَ عليه أحدٌ مِنْ أئمة الحديث، ولا رفعوه عن مثل هذا
__________
(1) في (ش): حتى إن أحداً منهم ما روى.
(2) في (ب): " الرِّجال "، وهو خطأ.
(3) في (ش): والخاصة.
(4) (4129) من طريق هناد بن السري، عن وكيع، عن أبي المعتمر، عن ابن سيرين، عن معاوية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تركبوا الخزَّ ولا النِّمار ". قال: وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والخز: الحرير الخالص، والنمار جمع نمر، والمشهور في جمعه النمور، وفي " القاموس " تصريح بأن النمار في معنى النمور صحيح، والمراد جلود النمار.
وقوله: " قال ": فاعل " قال " إما أن يكون ابن سيرين راويه عن معاوية، أو إلى أبي داوود.
والنهي عن ركوب جلد النمور إما لأنَّه لا يطهر بالدباغ، وإما لما فيه من الزينة والخيلاء.(3/149)
القول، بل حكم أهلُ الحديث بالتَّتبُّع التّام، والبحثِ الطويل، والنَّظرِ في الشَّواهد والتوابع والقرائن، وجمعِ الطرق أنَّ أهلَ العصرِ النَّبويِّ وتابعيهم وتابعي تابعيهم لم يكن فيهم من تَعَمَّد وَضْعَ الحديثِ زوراً إلى أيَّام بني العَبَّاس، وظهر ذلِكَ وظهر أهلُه، وقد نصَّ المنصورُ بالله عليه السَّلامُ على مثل كلامهم في أنَّه لا يُسألُ عن عدالة الثَّلاثَة القُرونِ الأُوَل، وأنَّ ذلك معلومٌ عندَ العلماء، بل صحَّت الأحاديثُ الكثيرةُ في ذلك بلفظ: " خَيْرُكُم القَرْنُ الَّذينَ بُعِثْتُ فيهِمْ، ثُم الذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الذين يَلُونهُمْ، ثُمَّ يَفْشُو الكذِبُ مِنْ بَعْدُ " (1)، واعتضَدَ هذا بِخِبْرة أهلِ الحديث لذلك وتتبُّعِهم (2) لِمَا صحت روايتهُ عَنْ أهلِ ذلك العصرِ محقِّهم ومبطِلِهم، والنظر فيما رَووْهُ وفي شواهده، وكُلُّ أهلِ فنٍّ أعرفُ بفنِّهم كما ذكرته فيما تقدَّم منْ هذا الكتاب.
ولهذه الأمورُ ترى كثيراً مِنْ أئمَّة العِترة وشيعتهم والسَّلَفِ يروون أحاديث هؤلاء كما يرويها أهلُ الحديث، منهم أبو عبد الرحمان النسائي في " سُننه " مع بغضه لمعاوية (3)، وكلامه عليه، حتَّى قُتِلَ في دمشق بسبب كلامهِ عليه، ومع ذلِكَ روى عنه في " سننه " غيْرَ حديثٍ، وكذا
__________
(1) تقدم تخريجه في 1/ 182 - 183 و376 - 377.
(2) في (ب): وتبعتهم.
(3) ليس ثمت نص عن النسائي يدل على بغضه لمعاوية، والذي أثر عنه أنَّه لما فارق مصر وخرج إلى دمشق، سئل بها عن معاوية بن أبي سفيان، وما روي من فضائله، فقال: ألا يرضى معاوية رأساً برأس حتى يفضّلَ ...
قال مؤرخ الشام الحافظ أبو القاسم بن عساكر: وهذه الحكاية لا تدُلُّ على سوء اعتقاد أبي عبد الرحمن في معاوية بن أبي سفيان، وإنما تدل على الكف بذكره بكل حال.
ثم روى ابن عساكر بإسناده عن أبي الحسن علي بن محمد القابسي، قال: سمعت أبا علي الحسن بن أبي هلال يقول: سئل أبو عبد الرحمن النسائي عن معاوية بن أبي سفيان صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: الإسلام كدار لها باب، فباب الإسلام الصحابة، فمن آذى =(3/150)
الحاكمُ، وابنُ منده وغيرهم مِنَ الشِّيعة، وأظهرُ مِنْ ذلِك روايةُ الأميرِ (1) الحسينِ بن محمد الحسني الهادوي إمامِ الزَّيْدِيَّة في علم الحديث فإنَّه افتتح كتابه " شفاء الأوام " بحديثين من رواية المغيرة، ولم يَرْوِ أوَّلَ منهما، ولم يذكر لهما شاهداً مِنْ غير طريق المغيرة، وصرَّح بأنَّهما من رواية المغيرة، ولم يعتَذِرْ عن ذلِكَ، ولا أنكره عليه أحدٌ من أهله، ولا أهلَ مذهبه.
وروى محمدُ بن منصورٍ الكوفيُّ محبُّ أهل البيتِ، ومصنِّفُ علومِهم في كتابه " علوم آل محمد " وتُعْرَفُ بأمالي أحمد بن عيسى بن زيد عليهم السَّلامُ حديثَ وائلِ بنِ حُجر في وضعِ الأكُفِّ على الأكُفِّ (2).
ذكره في حق الصلاة، والتَّغليس بالفجر بَعْدَ أوقات الصلاة، ولم يضَعِّفْه، ولا تأوَّلَهُ، ولا ذكر له معارضاً، ولا أنَّه حُجَّةُ منْ لا خلاَقَ (3) لَهُ مِنْ أعداءِ العِترة، بل أدخله في كتابه الذي سَمَّاه " علوم آل محمد "، ولم يُدْخِلْ فيه إلاَّ أدلَّتهم الصَّحيحة عندَهم وعلى أصولهم، ولذلك قال الأميرُ الحسين في كتاب الوصايا من " شفاء الأوام " ما لفظه: فأمَّا الفاسق من جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءتَه في النكاح كما تقدَّم، ونقْبَلُ خَبَرهُ الذي نجعلُه أصلاً في الأحكام الشرعيَّة لإجماع الصَّحابة رضي الله عنهم على قبول البُغاة على أمير المؤمنين وإجماعهم حجة. انتهي بحروفه.
__________
= الصحابة إنما أراد الإسلام، كمن نقر الباب إنما يريد الدخول، قال: فمن أراد معاوية، فإنما أراد الصحابة.
وقد أفصح عن السبب الذي حفزه إلى تأليفه كتاب " خصائص علي " بقوله: دخلت إلى دمشق، والمنحرف عن علي بها كثير، فصنفتُ كتابَ " الخصائص " رجاء أن يهديهم الله.
(1) لفظة " الأمير " ساقطة من (ب).
(2) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 3 - 5.
(3) في (ب): " خلاف "، وهو خطأ.(3/151)
وقد روى الإمامانِ المنصورُ بالله، والمؤيَّد (1) يحيى بن حمزة حديث معاوية في " الأربعين الودعانية " (2)، وشرحاه، وهو (32) منها، وقبلا الودعاني مصنِّف الأربعين مع تخريجه (3) لحديث معاوية فيما اختاره للأُمَّة في خُطَبِها ومواعِظها، ولم يستخرجا له من روايته حديثَ معاوية أنَّه ناصِبِيُّ منافق، بَلِ اعتمدا (4) عليه في قبولِ الخطب الأربعين.
__________
(1) في (ب): المؤيد بالله.
(2) جمع قاضي المَوْصل أبي نصر محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان الموصلي، المتوفى سنة 494 هـ.
قال السلفي فيما نقله عنه الذهبي في " السير " 19/ 166 و167: قرأت عليه " الأربعين " جمعه، ثم تبين لي حينَ تصفحتُ كتابَه تخليطٌ عظيمٌ يدلُّ على كذبه، وتركيبه الأسانيد على المتون.
وقال ابن ناصر: رأيته ولم أسمع منه، لأنَّه كان متهماً بالكذب، وكتابه في " الأربعين " سرقه من زيد بن رفاعة، وزيد وضعه أيضاً، وكان كذاباً، ألف بين كلمات قد قالها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين كلمات من كلام لقمان والحكماء وغيرهم، وطول الأحاديث.
وقال ابن الجوزي في " المنتظم " 9/ 127: قدم بغداد في سنة ثلاث وسبعين ومعه جزء فيه أربعون حديثاً عن عمه أبي الفتح، وهي التي وضعها زيد بن رفاعة الهاشمي، وجعل لها خطبة، فسرقها أبو الفتح بن ودعان عم أبي نصر هذا، وحذف خطبتها، وركب على كل حديث شيخاً إلى شيخ الذي روى عنه ابن رفاعة.
وقال الذهبي في " الميزان " 3/ 657: محمد بن علي بن ودعان القاضي صاحب تلك الأربعين الودعانية الموضوعة، ذمه أبو طاهر السلفي، وأدركه وسمع منه، وقال: هالك متهم بالكذب.
وقال ابن حجر في " لسان الميزان " 5/ 306: وقد سئل المزي عن " الأربعين الودعانية "، فأجاب بما ملخصه: لا يصح منها على هذا النسق بهذه الأسانيد شيء، وإنما يصح منها ألفاط يسيرة بأسانيد معروفة يحتاج في تتبعها إلى فراغ، وهي مع ذلك مسروقة، سرقها ابن ودعان من زيد بن رفاعة، وقيل: زيد بن عبد الله بن مسعود بن رفاعة الهاشمي، وهو الذي وضع رسائل إخوان الصفا فيما يقال، وكان جاهلاً بالحديث، وسرقها منه ابن ودعان، فركبها بأسانيد، فتارة يروي عن رجل، عن شيخ ابن رفاعة، وتارة يدخل اثنين وعامتهم مجهولون، ومنهم من يشك بوجوده، والحاصل أنها فضيحة مُفْتعَلَةٌ، وكذبة مؤتفكة.
(3) في (ب): " تحريمه "، وهو تحريف.
(4) في (ب): اعتمد.(3/152)
فأما الإمامُ (1) يحيى بنُ حمزة فنص (2) على صِحَّتها في خطبةِ شرحه لها، ولم يستثنِ حديثَ معاوية في خطبة شرحه (3)، ولا في شرح حديث معاوية، وذكر -مع مبالغته في تصحيحها- أنَّه اعتمد في ذلك على مصنِّفها، فهذا أكثرُ تساهلاً في التصحيح من المحدثين بالضرورة التي يعلمها أهلُ هذا الشَّأْنِ.
ومنَ المشهور في كتب الحديث أنَّ عليَّ بن الحسين عليه السلام روى عن مروانِ بنِ الحكم، وابنُ عباسٍ، وأبو سعيدٍ، وابنُ المسيِّب رَوَوْا عن معاويةَ وأمثالهم، ولو لم يرْوُوا عنهم، لم يتَّصِل السَّندُ إليهم.
وكذلك روى الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام (4) في كتابه " المنتخب " حديثَ عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، وهو عمرو بنُ شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد اختلف في الضمير في " جَدِّهِ " على من يعود (5).
وقد قال أحمد في " المسند ": حدثنا يزيد، حدثنا همَّامٌ، عن قتادة، أو عن ابن سيرين، عن عبد الله بن عمرو بنِ العاص، قال: كنتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء أبو بكر، فقال: " بَشِّرْهُ (6) بالجنة "، ثمَّ عمر، ثمَّ، عثمان كذلك، فقلت: وأَيْنَ أنا؟ قال: " مَعَ أبِيكَ " (7)،
__________
(1) في (ب): فالإمام.
(2) في (ب): نص.
(3) سقط من (ب).
(4) في (ب): عليه السلام يحيى بن الحسين.
(5) والصحيح أنَّه يعود إلى جده الأعلى عبد الله بن عمرو، وقد تقدم بيان ذلك في 2/ 340 - 341.
(6) في (ب): بشراً.
(7) هو في " المسند " 2/ 165، وذكره الهيثمي في " مجمع الزوائد " 9/ 56 مطولاً، =(3/153)
رجالُه رجال البخاريِّ ومسلم لولا أنّ قتادة مُدَلِّسٌ، ويُرجى لعمرو التَّوبة، لقوله عند موته كما نُوَضِّحهُ.
الوجهُ الثاني من الجواب: وذلكَ أنَّ حُفَّاظ الحديث، وأَئِمَّةَ النَّقل لم يقتصِروا على تدوينِ الصحيح المُجْمعِ على صحته عند جميع فِرَق الإسلام بحيث يقطعون على تخطئة المخالف فيه، بل قصدوا إلى تدوين القسمين معاً، أحدهما: المقطوعُ بصحَّته، وثانيهما: الصَّحيحُ المبنيُّ على اجتهادهم الذي يُمْكِنُ الخلافُ فيه، بل دوَّنوا قسمين آخرين أضعف مِنْ هذا القسم المختَلَفِ في صِحَّته.
أحدهما: الأحاديثُ الحسانُ التي تَقْوى بكثرةِ رواتِها، ولا تقوى ما انفرد به أحدُهم.
وثانيها: الشَّواذُ، والمنكراتُ، وأحاديثُ المجاهيل والضُّعفاء، ليستفادَ مِن روايتها إمَّا تواترٌ أو ظنٌّ فيما لم يُعَارِضْه حديثٌ صحيحٌ، ثمَّ اعتبروا في الجميع ظنَّ الصِّدق حتَّى كان الحافظ الرَّقيقُ الدِّين المُجرَّب الصِّدق أقوى عندَهم مِنَ العابِدِ الزَّاهد السَّيئ الحفظِ المجرَّب الوهم، الفاحشِ الخطأ، الكثيرِ الغفلة، حتى ذكروا أنَّ الكَذِبَ في الحديث أكثرُ قدحاً في الرِّواية من الكُفر، ولذلك وَثِقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بدليله الدِّيلي يَوْمَ هاجَرَ، وكان دليلُه كافراً (1).
__________
= وقال: رواه الطبراني، واللفظ له، وأحمد باختصار بأسانيد، وبعض رجال الطبراني، وأحمد رجال الصحيح.
(1) أخرج البخاري (2263) في الإجازة، باب: استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام، من طريق إبراهيم بن موسى، عن هشام، عن معمر، عن ابنِ شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة رضي الله عنها: واستأجَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل، ثم من بني عبد بن عدي هادياً خِرِّيتاً -والخِرِّيتُ: الماهر بالهداية- قد =(3/154)
ووثِقَ بعهدِ سُراقة الذي لَحِقَهُ يومَ هاجر، فدعا عليه حتَّى أعطاه عهدَه ألاَّ أخبر بِهِ (1)، وقد مضى من هذا طرفٌ صالح، وسيأتي مستوفى في الوهم الثالث والثلاثين.
وإنَّما قَصَدُوا ما ذكرناه في جمع الحديث وحفظه، لأنَّه أعدلُ الأمور في اجتهادهم، فإنَّهم لو اقتصروا على حفظ المجمع على صحّته وتدوينه للمسلمين دون ما عداه، خافوا أن يضيعَ جمهورُ الحديثِ النَّبويّ، وهذا تساهلٌ في جسيمِ أمرِ الإسلام، ومعظم قواعدِ الدِّينِ، وإن دوَّنوا حديثَ الكذَّابين، وخلطوا الصَّحيحَ بالسَّقيم، أدخلوا في السُّنَّة النبوية ما هي عنه بَرِيَّة، فسلكوا مناهِجَ التَّحرِّي في التَّوسُّط والتَّقَوِّي بالنَّظر في حديث الرَّاوي، وما يَنْفَرِدُ به، وما يُتَابَعُ عليه، وما يُنْكَرُ مِن حديثه، وتتَّبعوا ذلك وأمعنوا فيه، وهو المُسمَّى بالاعتبار في عُلومهم، وبلغوا في ذلِكَ مبلغاً عظيماً أعْجَزَ مَنْ قبلهم مِنَ الأُمَم حتَّى عُدَّ في معجزاتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ومِن آياته، كما ذكره (2) السيد الإمامُ المؤيَّد بالله في كتابه في النبوات، وذكره الجاحظُ (3) قبلَه.
__________
= غمَسَ يمينَ حلف في آل العاص بن وائل، وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه، فدفَعَا إليه راحلتيهما، وواعداه غارَ ثور بعد ثلاثِ ليال، فأتاهُما براحلتيهما صبيحةَ ليالٍ ثلاثٍ، فارتحلا، وانطلَقَ معهما عامرُ بنُ فُهيرة، والدليلُ الدَّيليُّ، فأخذَ بهم أسفلَ مكة وهو طريقُ الساحل.
وأخرجه البخاري (2264) و (3905) من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، بهذا الإسناد.
(1) خبر سراقة أخرجه البخاري (3906)، ومسلم (2009)، وأحمد 1/ 2 - 3، ويعقوب بن سفيان في " المعرفة والتاريخ " 1/ 239 - 241، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/ 483 - 484.
(2) في (ب): ذكر.
(3) هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني بالولاء الليثي، الملقب بالجاحظ، كبير أئمة الأدب، ورئيس الفرقة الجاحظية من المعتزلة، وصاحب التصانيف في كل فن، =(3/155)
وقد رُويَ عن أبي حنيفة قبولُ الفاسِقِ المتعمِّد إذا كان معروفاً بالصِّدق.
وقال الإمام المنصور بالله بذلِك في الشَّهادة، وهي أقوى مِنَ الرِّواية حيث لا يُوجَدُ العدولُ، وعلَّل ذلِك بأنَّ اعتبارَ العدول حيث لا يوجدون يُؤدِّي إلى ضَياع الأموالِ، والعدالةُ الكاملةُ إنَّما شُرِعتْ لحفظها، فيجبُ أن نعتبرَ ما كان أقربَ إلى حفظها الَّذي هُوَ المقصودُ الأوَّلُ، فاعتبر أهل الصدق واحتجَّ بقوله تعالى: {أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْض} [المائدة: 106]. وهذا عارضٌ، القصدُ به التَّعريفُ بمذاهب أهل الرواية، وعُرفِهِم فيها، وأنَّهم قصدوا أن يُدَوِّنوا لأهلِ الإِسلام ما يقبلونه كلُّهم أو يقبلُه بعضُهم، وإن شذَّ، ولذلك روى المحدِّثون المراسيلَ في كتبٍ مفردَةٍ (1) لمن يقبلها، وإن كانوا لا يقبلونها، وروى من يقبل المراسيلَ مثل مالكٍ الأحاديثَ المسنَدَةَ بأسانيدها لمن يشترطُ الإسناد، ونحو ذلك.
__________
= مولده بالبصرة سنة 163 هـ، ووفاته فيها سنة 255 هـ.
قال الأزهري في مقدمة " تهذيب اللغة ": وممن تكلم في اللغات بما حضره لسانُه، وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم الجاحظ، وكان أوتي بسطة في القول وبياناً عذباً في الخطاب، ومجالاً في الفنون، غير أن أهل العلم كذبوه، وعن الصدق دفعوه.
وقال ابن حزم في " الفصل ": كان أحد المجان الضلال، غلب عليه الهزل، ومع ذلك فإنا ما رأينا له في كتبه تعمد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإن كان كثير الإيراد لكذب غيره.
وقال الإمام الذهبي: كفانا الجاحظُ المؤونة، فما روى من الحديث إلا النزر اليسير، ولا هو بمتهم في الحديث، بلى في النفس من حكاياته ولهجته، فربما جازف، وتلطخُه بغير بدعة أمرٌ واضح، ولكنه أخباري علامة، صاحب فنون، وأدب باهر، وذكاء بين، عفا الله عنه. مترجم في " السير " 11/ 526 - 530.
(1) من ذلك كتاب " المراسيل " لأبي داود السجستاني صاحب " السنن "، وقد حققته ودفعته إلى الطبع، وسيصدر قريباً إن شاء الله تعالى.(3/156)
قالوا: وأمَّا توقُّفُ مَنْ تَوَقَّفَ منَ الصَّحابة في بعض الأحاديث، فلقرائنَ أوجبت الرِّيبةَ بالتَّفَرُّد، وذلك هُوَ المُسَمَّى بالإعلال في علوم الحديث، كحديث عمَّار في التيمُّم، فإنَّه ذكر فيه أنَّ عمر كان معه في الواقعة، فلم يذكر ذلكَ عُمرُ معه، مع أنَّها واقعة لا يكاد يُنسى مثلُها، فتعارضَ عليه نسيانُه وغفلَتُه عمَّا لا يكادُ ينسى، وصِدقُ عَمَّارٍ وأمانتُه، فوقف في حقِّ نفسه، وأذن لعمَّار في روايةِ ذلك لِغيره ليعلموا به.
وقد روى النَّسائي (1) حديثاً في التَّخيير بين رأي عمرو ورأي الجماعة في ذلك، يعني في التيمُّم للجُنُبِ عِنْدَ عدمِ الماء، أو تعذُّرِ استعماله.
الوجه الثالث: أنَّ المحدثين حين رَأَوُا اختلاف الناس في مَنْ يُقْبَلُ ولا يُقبل مع اختلافهم فيما يُجْرَحُ به، وما لا يُجْرَحُ به، أوجبوا بيانَ الإِسناد والتَّصريحَ بأسماءِ الرُّواة، وترك التَّدليس والإِرسال في كُلِّ ما ادَّعَوْا صِحَّتهُ، ليتمكَّنَ كُلُّ أحدٍ مِن الأمَّة مِنَ النَّظر في الحديث، وفي صِحَّته، حتَّى يكونَ على بصيرةٍ في الموافقة على التَّصحيح أو المخالفة، أو الموافقة على التَّضعيف أو المخالفة فيه، فزال المحذورُ مِنْ روايتهم عمَّن حارب أميرَ المؤمنين عليه السَّلام، لأنّهم قد بيَّنوا ما روَوْهُ عنهم، وصرَّحوا بأسمائهم، ولم يقولوا: صحَّ لنا حديث كذا عمَّن نَثِقُ به، بل نصُّوا على
__________
(1) في " سننه " 1/ 170 - 171 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى، فقال أبو موسى: أولم تسمع قول عمار لعمر بعثني ... وفيه: فقال عبد الله: أولم تر عمرَ لم يقنع بقول عمار.
قال السندي تعليقاً على قوله: " أولم تر عمر .. ": قيل: لأنَّه أخبر عن شيء حضره معه ولم يذكره، فجوز عليه الوهم كما جوز عليه النسيان. قلت: فتبع ابن مسعود عمر في ذلك، فلعلَّ مَنْ ترك الأخذَ بظاهر حديث عمار تَبعَ ابن مسعود، وبناؤهم على تجويز الوهم عليه لا على التكذيب، والله تعالى أعلم.(3/157)
أنَّ من قال: حدَّثني الثِّقة، ولم يسَمِّه أنَّه لا يقبل، لجواز أن يكون ذلِكَ الثِّقَةُ عنده مِمَّن لو صرَّح باسمه لخولِفَ في توثيقه (1)؛ لأنَّه صح وثبت أنَّ التَّوثيق مِمَّا يقع فيه الاختلافُ الكثير، والخصمُ مسلِّم أنَّ أئِمَّة الزَّيديَّة، والحنفيّة، والمالكية، وكثير مِن التَّابعين يروون الأحاديث المرسلة، ويقولون بوجوب قبولهم فيما أرسلوه، ولا شَكَّ أنَّ المرسِلَ على تسليم أنَّه لا يُرسِلُ إلاَّ ما صحَّ عنده إنَّما يبني (2) صحَّة الحديث عنده على اجتهاده، وأنه لم يبين طريقَهُ في اجتهاده في تصحيح ذلِكَ الحديث المرسل، حتى يتمكّن المخالِفُ لَهُ مِنْ موافقته على بصيرة، أو مخالفته كذلك، فالاعتراض على مَنْ فعل ذلك مِنَ المُرْسِلِيْنَ، أَو مَنْ قَبِلَه منهم أصعبُ وألزمُ للخصم مِنَ الاعتراضِ على من بيَّن مستَنَدَهُ لمَنْ يقبله، ولمن لا يقبلُه، وأبعد مِنَ الرِّيبة ومِنْ كُلِّ وسيلة إليها، حَتَّى تركوا لذلك المراسيل، والمقاطيع، والتَّعاليق إلاَّ ما دلَّ الدَّليل على صِحَّته مِنْ ذلك، بل أوضحُ من هذا أنَّهم بيَّنُوا في كتب الرِّجال جميعَ ما صَحَّ مِنْ مناقم الشِّيعة على أولئك، وحكموا بصحَّة الصحيح منه، فانظر ذلك في " النبلاء " وغيره، وما غرَّك منْ أَوْضَح لك مستندَهُ، وأبدى لك صفحتَه، ولا ضرَّك مَنْ مكَّنك
__________
(1) قال ابن الصلاح في " مقدمته " ص 120: لا يجزىء التعديل على الإبهام من غير تسمية المعدل، فإذا قال: حدثني الثقة أو نحو ذلك مقتصراً عليه لم يكتف به فيما ذكره الخطيب الحافظ، والصيرفي الفقيه وغيرهما خلافاً لمن اكتفي بذلك، وذلك لأنَّه قد يكونُ ثقةً عنده وغيرُه قد اطَّلَعَ على جَرْحِهِ بما هو جارحٌ عنده، أو بالإجماع، فيحتاج إلى أن يسميَه حتى يعرف، بل إضرابُهُ عن تسميته مريبٌ يوقعُ في القلوب فيه تَرَدُّداً.
فإن كان القائلُ لذلك عالماًً، أجزأ ذلك في حقِّ مَن يوافقُهُ في مذهَبِهِ على ما اختارَهُ بعضُ المحققين.
وذكر الخطيبُ الحافظُ أن العالم إذا قال: كل مَنْ رويتُ عنه، فهو ثقةٌ وإن لم أُسمِّه، ثم روَى عمَّن لم يسمِّه، فإنه يكون مزكياً له غيرُ أنا لا نعمل بتزكيته هذه، وهذا على ما قدَّمناه، والله أعلم. وانظر " توضيحَ الأفكار " 2/ 167 - 172.
(2) في (ب) و (ج): ينبني.(3/158)
مِن النظر فيما ادَّعى صحَّته لتُوافِقَه على بصيرة، أو تخالفه على بصيرة (1)، ولو أرادوا خديعةَ المسلمين في ذلك، لجرَّدوا دعوى صِحَّة الحديث عن بيان الرُّواة وتسميتهم، وتركوا الناس بذلك في عمياء لا دليل بها، وظلماءَ لا نُورَ فيها، ولم يشحنوا الصَّحاح بأحاديث: "إنَّهُمْ ما زَالوا بعْدَكَ مُرْتَدِّينَ علَى أدْبارِهِمْ فأقولُ: سُحْقَاً لمَنْ بَدَّل بعدي، وأقول كما قال العَبْد الصَّالحُ" (2).
فالحمدُ لله الَّذي بيَّن بِهِمُ الطريق إلى حُسْن الاختيار، ومكَّن بحميدِ سعيهم أهلَ الاجتهاد مِنَ الاستبصار، ولولاهم لكانَتِ الأحاديثُ كلُّها مرسلَةً، ولجوَّزنا أنها عمَّن لا يُرتضى مِنَ المختلف فيهم، ومن محاربي أميرِ المؤمنين، ومِن المجاهيل، وسيأتي في الوهم الثالث والثلاثين أَوَّل المجلد الرابع إن شاء الله تعالى بيانُ مذاهبهما في هؤلاء المُشَارِ إليهم على التفصيل إن شاء الله تعالى، وزيادة البيان لاعتمادهم على قُوة الظنِّ للصِّدق في باب الرِّواية وتقويتها بما لها من الشَّواهد والتَّوابع، وتمييزهم لذلك مِنَ المنكرات، والغرائِب، والشَّواذِّ.
الوجه الرابع: أنَّ اعتراضَ كتبِ الحديث الصَّحاح بأنَّ فيها ما ليس بصحيح عندَ غيرهم، عمَلُ منْ لم يعْرِفْ ما معنى الصحيح عند أهله، وذلك أنَّ أكثر الصَّحيحِ عندهم ممَّا يَصِحُّ الاختلافُ فيه، بل ما زال علماءُ
__________
(1) عبارة "أو تخالفه على بصيرة" ساقطة من (ب).
(2) انظر حديث سهل بن سعد عند البخاري (7050)، ومسلم (2290) و (2291)، و" مسند أحمد" 5/ 333.
وحديث أبي هريرة عند مالك 1/ 28 - 29؛ ومسلم (249).
وحديث ابن عباس عند البخاري (3349) و (3447) و (4626) و (6526)، ومسلم (2860) (58)، والطيالسي (2638).(3/159)
النَّقل يختلفون في التصحيح، فهو مثلُ مذاهب العلماء في الفُروع الاجتهاديَّة والمضطربات الظنية، ألا ترى أنَّ حُكْمَهمْ بأنّ الرجُل حافظٌ، أو سيىءُ الحفظ، أو صدوقٌ، لا يصحُّ أن يُبنى إلاَّ على الظَّنِّ والاجتهاد؟ ولذلِكَ كان قبُولُ المرسل مِمَّنِ أرسله ضعيفاً عندهم، لأنَّه على الحقيقة تقليدٌ له في تصحيح ما ظن صحته، وتقليدُ العلماء بعضهم لبعض مما (1) يبنى عليه الاجتهادُ لا يجوز كما أوضحته في علوم الحديث (2).
وقد مرَّ الجوابُ على السيد حين زعم أنَّ جميعَ ما في الصَّحيح مُجْمَعٌ على صحته عندَ المحدِّثين، وكيفَ يصحُ ذلك والبخاري يخالِفُ مسلماً في تصحيح ما اكتفي فيه بالمُعَاصرَةِ (3)، وفي كثيرٍ من رجاله، ومسلم كذلك يُخَالِفُ البخاريَّ في بعض رجاله؟
وقد ذكر ابن حجر في مقدمة "شرح البخاري" ما اعترض على البخاري، وخُولفَ في تصحيحه مِمَّا في صحيحه، فذكر أكثَرَ مِنْ مئة حديثٍ، وذكر أيضاً مَنْ خُولِفَ البخاريُّ في توثيقه من رجاله، فذكر خلقاً كثيراً، وذكر ما يسوغُ مخالفتُه فيه من قواعده، كمخالفته في تصحيح حديث عِكرِمَة، فقد خالفه في ذلك مالِكٌ، ومسلمٌ صاحبُه، وجِلَّة مِنْ أئمَّة التَّابعين لا يأتي عليهمُ العَدُّ. وكذلِكَ قبولُ العَنْعنَةِ عَنْ بعضِ المدلِّسين في بعض المواضع، وهذا معلومٌ من مذاهب المحدِّثين بالضرورة لمَنْ بحث، ولذلك ترى الحاكم ابنَ البَيِّع أحدٌ أئِمَّة الشيعة، وأئمة الحديث يُنَاقِشُ الشيخين في كتابه "المستدرك"، ويذكر علَّتهما في ترك
__________
(1) في (ش): فيما.
(2) انظر "التنقيح" مع "التوضيح" 1/ 304 و309.
(3) والخلاف بين البخاري ومسلم في هذا إنما هو في الحديث المروي بالعنعنة، أما ما كان بنحو حدثنا، فهو ومسلم سواء فيه.(3/160)
بعض الأحاديث، وُيبَيِّنُ أنَّها علَّةٌ ضعيفةٌ أو منقوضةٌ.
والاختلافُ في تصحيح الأحاديث بين أئمَّة الحديث سُنَّةٌ ماضيةٌ، كاختلاف الفُقهاء في الفُروع، بل هي (1) سُنَّةُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى في مرويَّات الصحابة، فقد توقَّف عُمرُ رضي الله عنه في حديث أبي موسى في الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد (2)، وفي حديث عمار لنسيانه له مع حضوره للقصَّة، وهي من أدلَّة المحدِّثين على الردِّ بالإعلال.
وقال أميرُ المؤمنين عليه السلامُ: ومن اتَّهَمْتُهْ استحلفتُه (3)، فأجاز التُّهمةَ للبعض في ذلك العصر، وقبول المتهم بعد التقوِّي بيمينِه، وهو حُجة على مدارِ الرواية على ظَن الصدق، لا على البراءة مِنَ التهمة، وهو حديثٌ ثابتٌ عنه عليه السلام.
وكذلك الاختلافُ في تعديل الشُّهود، والرُّواة، وما يُجَرَّحون به، وما لا يُجَرَّحُون ممَّا اشتملت عليه كُتُبُ هذا الفَنِّ يستلزم بالضَّرورة الاختلافَ الكثير (4) في التَّصحيح، وتلخيصُ هذا الوجه أنْ نقول: قولُك
__________
(1) في (ب): هو.
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 963 - 964، والبخاري (2062) و (6245) و (7353)، ومسلم (2153)، والترمذي (2691)، وأبو داود (5180) و (5181) و (5182) و (5183) و (5184) أن أبا موسى الأشعري استأذن على عُمَر بنِ الخطاب رضي الله عنه، فلم يؤذن له -وكأنه كان مشغولاً- فرجع أبو موسى، ففرَغَ عمر فقال: ألم أسْمَعْ صوتَ عبدِ اللهِ بن قيسٍ؟ ائذنوا له، قيل: قد رَجَعَ، فدعاه، فقال: كنَّا نُؤمر بذلك، فقال: تأتيني على ذلك بالبيِّنة، فانطلَقَ إلى مجالس الأنصار، فسألهم، فقالوا: لا يَشهَد لك على هذا إلا أصغُرنا أبو سعيد الخُدْري، فذهبَ بأبي سعيدٍ الخُدْري، فقال عمر: خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ألهاني الصَّفْقُ بالأسواقِ، يعني الخروج إلى التجارة. وانظر "فتح الباري" 11/ 27 - 30.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 284.
(4) في (ش): الكبير.(3/161)
فيها غير صحيحٍ، تعني عندهم أو عندَ غيرهم الأول ممنوع، والثَّاني مُسَلَّمٌ ولا يضُرُّ تسليمُه، فإذا كان الخلافُ بين أئمَّةِ الحديث في التَّصحيح شائعاً كثيراً، فما ينكر منَ اختلافهم هم والشِّيعة في بعض الأحاديث الظِّنِّيّة؟ وأنتم أيُّها المتكلِّمون لا تزالون مختلفينَ في العقليّات القطعيّة، ويزعم كُلٌّ منكم أنَّه بنى خلافَه على البراهين اليقينيّة، فذلك هو الَّذي يستلزم التَّكاذبَ الصَّريح، وأمَّا مواضِعُ الظُّنون مِنَ الرِّواية والفروع، فمجالُ الخلاف فيها مُتَّسِعٌ، ومنهجُه متَّضِحٌ، والأمرُ في ذلك قريبٌ، وكُلُّ مجتهدٍ هنالك مصيبٌ أو آخِذٌ مِنَ الأجرِ بنصيبٍ، بل الاختلافُ في هذا المقام مِنْ ضرورات الطَّبائع الذي استمرَّت به العوائد والشَّرائع (1) حتَّى حكاه الله، فقال عَنِ الملائكة المقرَّبين والأنبياء المعصومين، أمَّا الملائكة، فقد قال تعالى حاكياً عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (2) [ص: 69]، وصَحَّ في الحديث اختصامُهم في حُكْمِ الذي قتل مئةَ نفسٍ، ثمَّ سأل أعلمَ أَهْلِ الأرضِ، فأمره بالتَّوبة والهجرة عن أرضه، الحديث (3)، وغير ذلك.
واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَينَهُم بِالحَقِّ}
[الزمر: 69] هَلْ هُمُ الملائكةُ؟ لأنهم أقربُ مذكور (4). ونزل: {لَوْ
يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] في خيرِ النَّاسِ.
وأمَّا الأنبياءُ، فحكى الله تعالى الخلافَ بَيْنَ داود وسليمانَ في حكم
__________
(1) في (ش): في الشرائع.
(2) تقدم تخريجه في 1/ 218.
(3) تقدم تخريجه في 1/ 219 و314 و2/ 275.
(4) تقدم الكلام فيه في 1/ 219.(3/162)
الغَنَمِ الَّتي نفشت في الحرث (1)، وبيْنَ موسى والخَضِرِ في سورة الكهف [60 - 82]، وصحَّ في الحديث ذكر الاختلاف بين موسى وآدم عليهما السَّلام (2)، وذلك اختلافٌ مِنْ غيرِ تعادٍ، ولا تكاذُبٌ، بل مثل اختلاف أهلِ البيت عليهم السَّلامُ، وكذلك اختلافُ علماء الحديث فيما بينَهم، واختلافُهُم هم وغيرهم في أنّ هذا الحديثَ صحيح أم لا، أو (3) هذا الرَّجُلُ ثقةٌ أو حافظٌ أم لا.
وبَعْدَ هذه القواعدِ أذكرُ لك ما يُصدِّقُها مِنْ بيانِ أحاديثِ معاوية الَّتي في الكتب السِّتَّة لِتَعْرِفَ ثلاثة أشياء: عَدَمَ انفراده فيما روى، وقلَّةَ ذلِك، وَعَدَم نكارته.
فأقول: جملةُ ما في الجامعين " البخاري " و" مسلم " من حديثه ثلاثةَ عشرَ حديثاً، اتَّفقا منها على أربعةٍ، وانفرد البخاريُّ بأربعةٍ، ومسلمٌ بخمسةٍ، وجملةُ ما رُوِيَ فيهما (4) وفي السُّنَنِ الأربع من حديثه خمسةُ أقسام.
القسمُ الأول: ما يتعلَّقُ بأحكامِ التَّحليل والتَّحريم المشهورة مِنْ روايةِ الثِّقات، ومذاهبِ (5) الجماهيرِ، وفي هذا القِسْم أحاديث.
الحديث الأول: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء (6)، رواه عنه
__________
(1) في الآية 78 و79 من سورة الأنبياء.
(2) تقدم تخريجه في 1/ 218.
(3) في (ب): و.
(4) في (ب): "فيها"، وهو خطأ.
(5) في (ش): "ورواية".
(6) هو في البخاري برقم (3468) و (3488) و (5932) و (5938)، ومسلم (2127) أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف سمع معاوية بن أبي سفيان عامَ حجَّ وهو على المنبر، وتناولَ قُصَّةً من شعَرٍ كانت في يد حَرَسِىٍّ، يقول: يا أهلَ المدينة، أين علماؤكم؟ سَمعْتُ رسول الله =(3/163)
البخاريُّ ومسلم وغيرهُما، وهو مشهورٌ من روايةِ الثقات، رواه مسلمٌ عن جابر، ورواه البخاريُّ ومسلمٌ عن أسماءَ بنتِ أبي بكر، ورَوَوْهُ كلُّهم عن عاثِشَة، وهو مذهبُ جماهيرِ العلماء.
الحديث الثاني: "لا تَزَالُ طائفَةٌ منْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلى الحَقِّ" (1) رواه البخاريُّ ومسلمٌ عنه، وهو حديثٌ مشهورٌ عَنِ الثِّقات، رواه مسلم عن
__________
= - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن مثل هذه، ويقول: "إنما هَكلَتْ بنو إسرائيل حين اتَّخَذ هذه نِساؤُهم".
وأخرجه أحمد 4/ 97 - 98، وأبو داود (4167)، والترمذي (2781)، والنسائي 8/ 144 - 145.
وحديث جابر عند مسلم (2126)، وأخرجه أحمد 3/ 296 و387.
وحديث أسماء بنت أبي بكر عند البخاري (5935) و (5936) و (5941)، ومسلم (2122). وأخرجه النسائي 8/ 145، وابن ماجه (1988)، وأحمد 6/ 345 و346 و353.
وحديث عائشة عند البخاري (5205) و (5934)، ومسلم (2123)، وأحمد 6/ 111، والنسائي 8/ 146.
(1) هو في البخاري (3641) و (7312) و (7460)، ومسلم 3/ 1524. وأخرجه أحمد 4/ 101، والطبراني 19/ (801) و (840) و (869) و (870) و (893) و (899) و (905) و (906) و (917).
وحديث سعد عند مسلم (1925)، ولفظه: "لا يزال أهلُ الغرْبِ ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة".
وحديث ثوبان عند مسلم (1920)، والترمذي (2230)، وابن ماجه (10)، وليس في "سنن أبي داود".
وحديث معاوية بن قُرة، عن أبيه عند الترمذي (2192)، وأخرجه ابن ماجه (6)، وأحمد 3/ 436 و5/ 34 و35، وابن حبان (61).
وحديث عمران عند أبي داود (2484). وأخرجه أحمد 4/ 437، والحاكم 4/ 450. وصححه ووافقه الذهبي.
وفي الباب عن المغيرة بن شعبة عند البخاري (3640) و (7311) و (7459)، ومسلم (1921)، وعن جابر بن سمرة عند مسلم (174)، وعن جابر بن عبد الله عند مسلم (1923)، وعن عقبة بن عامر عند مسلم أيضاً (1924)، وعن أبي هريرة عند ابن ماجه (7)، وعن عمر بن الخطاب عند الحاكم 4/ 449 وصححه، والدارمي 2/ 213.(3/164)
سعد بنِ أبي وقَّاص، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي عن ثوبان، والترمذيُّ عن معاوية بن قُرَّة، وأبو داوود عن عِمْرانَ بنِ حُصين، ومعناه مجمعٌ عليه.
الحديثُ الثالث: النَّهي عن الركعتين بَعْدَ العصر (1)، رواه البخاريُّ عنه، والنَّهي عن التنَفُّلِ بَعْدَ العصرِ مشهورٌ عَنِ الثقات، رواه البخاري، ومسلم وأبو داوود، والنسائيُّ عن أم سلمة في النَّهي عَنِ الرَّكعتين بعد العصر (2)، وفي مسلم عن عُمَرَ أنَّه كان يضرب على ذلِكَ، وهو مذهبُ جماعةِ العلماء.
__________
(1) هو في البخاري برقم (587) و (3766)، ولفظه: إنكم لتصلُّون صلاة لقد صحبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما رأيناه يُصليها، ولقد نهي عنهما، يعني الركعتين بعد العصر. وأخرجه أحمد 4/ 99، والطبراني في "الكبير" 19/ (714) و (760) و (766) و (818).
(2) أخرجه البخاري (1233) و (4370)، ومسلم (834)، والدارمي 1/ 334، وأبو داود (1273)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 302 - 303 من طرق عن عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن كريب مولى ابن عباس أن عبد الله بن عباس، وعبد الرحمن بن أزهر، والمسور بن مخرمة أرسلوه إلى عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: اقرأ عليها السلام منا جميعاً، وسلها عن الركعتين بعد العصر، وقل: إنَّا أُخبرنا أنك تصلينهما، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي عنهما. قال ابن عباس: وكنت أضرب مع عمر بن الخطاب الناس عليها. قال كريب: فدخلت عليها وبلّغتها ما أرسلوني به، فقالت: سل أمَّ سلمة، فخرجتُ إليهم، فأخبرتُهم بقولها، فردُّوني إلى أُمِّ سلمة بمثل ما أرسلوني به إلى عائشة، فقالَتْ أُمُّ سلمة: سمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عنهما، ثم رأيته يصليهما، أما حين صلاّهما، فإنَّه صَلَّى العصر، ثم دخل وعندي نسوة من بني حرام من الأنصار، فصلاهما، فأرسلت إليه الجارية، فقلت: قومي بجنبه، فقولي له: تقول أم سلمة: يا رسول الله، إني أسمعك تنهي عن هاتين الركعتين وأراك تصليهما؟ فإن أشار بيده فاستأخري عنه. قال: ففعلتِ الجاريةُ، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، فلمَّا انصرف قال: "يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، إنَّه أتاني ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان".
وفي رواية عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أم سلمة عند الطحاوي من الزيادة: "فقلت أمرت بهما؟ فقال: لا ولكن كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلت عنهما، فصليتهما الآن" وله من وجه آخر عنها: لم أره صلاهما قبل ولا بعد. =(3/165)
الحديثُ الرابع: النَّهي عن الإلحافِ في المسألة (1)، رواه مسلم
__________
= والنهي عن الصلاة بعد العصر ثابت من حديث أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ذر، وأبي بصرة الغفاري. انظرها مخرجة في "جامع الأصول" 5/ 259 - 264.
تنبيه: عزا المصنف حديث أم سلمة إلى النسائي، ولم أجده بعد البحث الشديد فيه، ولم ينسبه المزي في "تحفة الأشراف" 13/ 29 - 30 إليه، فيغلب على الظن أنَّه وهم في ذلك.
(1) هو في "صحيح مسلم" (1038). وأخرجه أيضاً النسائي 5/ 97 - 98، وأحمد 4/ 98، والطبراني في "المعجم الكبير" 19/ (808)، والحميدي (604)، والبيهقي 4/ 196. ولفظه: " لا تُلْحِفُوا في المسألة، فوالله لا يسألني أحدٌ منكم شيئاً، فتخرجُ له مسألتُه منِّي شيئاً، وأنا له كارهٌ، فيُبارَكَ له فيما أَعطيتُه".
وحديث ابن عمر عند البخاري (1474)، ومسلم (1040)، والنسائي 5/ 94، وأحمد 2/ 15 و88. ولفظه: "لا تزالُ المسألة بأحدكم حتى يلقى الله، وليس في وجهه مزعة لحم".
وحديث سمرة عند الترمذي (681)، وأبي داود (1639)، والنسائي 5/ 100، وأحمد 5/ 10 و22. ولفظه: "المسائل كدوح يكدح بها الرجلُ وجهَه، فمن شاءَ أبقى على وجهِه، ومن شاءَ تركَ، إلا أن يسألَ الرجلُ ذا سلطانٍ، أو في أمرٍ لا يَجِدُ منه بدّاً" قال الترمذي: حسن صحيح.
وحديث عائذ بن عمرو عند النسائي 5/ 94 - 95، وعند أحمد 5/ 65، ولفظه: "لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحدٌ إلى أحدٍ يسألُه شيئاً".
وحديث الزبير عند البخاري (1471) و (2075) و (2373). وهو عند ابن ماجه أيضاً (1836). ولفظه: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكفُ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه".
وحديث أبي هريرة عند البخاري (1470) و (1480) و (2074) و (2374)، ومسلم (1042)، ومالك 2/ 998 - 999، والترمذي (680)، والنسائي 5/ 93. ولفظه بمعنى لفظ حديث الزبير.
وحديث ثوبان عند أبي داود (1643)، والنسائي 5/ 96، وهو عند ابن ماجه أيضاً (1837)، وأحمد 5/ 281. ولفظه: "من تكفَّل لي أن لا يسأل الناسَ شيئاً وأتكفل له الجنة" فقال ثوبان: أنا.
وحديث عبد الله بن أبي بكر (عن أبيه) مرسلاً عند مالك 2/ 100، ولفظه: "إن الرجلَ ليسألُني ما لا يصلح لي، ولا له، فإن منعته، كرهتُ المنع، وإن أعطيتُه، أعطيتُه ما لا =(3/166)
عنه، وهو مشهورٌ مِنْ رواية الثِّقات مُجْمَعٌ على صحة (1) معناه، رواه مسلم، والبخاري والنَّسائيُّ عَنِ ابنِ عُمَرَ، وأبو داوود، والنَّسائيُّ، والتّرمذيُّ عَنْ سَمُرَه، والنَّسائي عن عائذِ بنِ عمرو، والبخاريُّ عن الزبير، والبخاريُّ، ومسلمٌ ومالكٌ، والتّرمذي، والنَّسائي عن أبي هريرة، وأبو داوود، والنّسائي عن ثوبان، ومالك في "الموطَّأ" عن عبد الله بن أبي بكر، والبخاريُّ، ومسلمٌ والتِّرمذىُ، والنَّسائيُّ عن حكيمِ بنِ حزام، وأبو داوود، والنّسائيُّ عن ابن الفراسي، عن أبيه.
الحديثُ الخامس: "إنَّ هذا الأمْرَ لا يزالُ في قُرَيْشٍ" (2) رواه
__________
= يصلح لي ولا له".
وحديث حكيم بن حزام عبد البخاري (1472) و (2750) و (3143) و (6441)، ومسلم (1035)، والترمذي (2463)، والنسائي 5/ 60 و101 و102. وهو عند أحمد 3/ 402 ولفظه: "يا حكيم، إنَّ هذا المالَ خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بُورِكَ له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع، اليد العيا خيرٌ من اليد السفلى".
وحديث ابن الفراسي عن أبيه عند أبي داود (1646)، والنسائي 5/ 95، وهو كذلك عند أحمد 4/ 334: أن الفراسي قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسأل يا رسول الله؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا، وإن كنت سائلاً لا بدَّ، فاسألِ الصالحين".
(1) "صحة" ساقطة من (ش).
(2) البخاري (3500) و (7139) ولفظه: "إن هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا كبَّه اللهُ على وجهه، ما أقاموا الدين".
وهو عند أحمد 4/ 94، والنسائي في السير من "الكبرى" كما في "التحفة" 8/ 447، والطبراني 19/ (779) و (780) و (781) و (847).
وحديث ابن عمر عند البخاري (3501) و (7140)، ومسلم (1820)، ولفظه: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي اثنان"، وهو في "المسند" لأحمد 2/ 29 و93 و128.
وحديث جابر في مسلم (1819) ولفظه: "الناس تبع لقريس في الخير والشر".
وحديث أبي هريرة عند البخاري (3495)، ومسلم (1818)، ولفظه: "الناس تبع لقريش في هذا الشأن: مسلمُهم تبعٌ لمسلمهم، وكافرهم تبعٌ لكافرهم". وهو عند أحمد 2/ 243 و261 و319 و395 و433.(3/167)
البخاري عنه، ومعناه ثابتٌ من رواية الثِّقات، ومعناه صحيحٌ، فَعَنِ ابنِ عمر مثل ذلك رواه البخاريُّ، ومسلم، وعن جابرٍ، وأبي هريرة نحوه، رواه مسلم عن جابر، والبخاري، ومسلم عن أبي هُريرة.
الحديثُ السادس: حدُّ شارب الخمر (1) وهو ظاهِرٌ مِنْ رواية غيره، مُجْمَعٌ عليه عند الجماهيرِ، لكِنْ فيه زيادة قتله في الرَّابعة، رواه أبو داوود والتِّرمذي، وابن ماجة، وهذه الزِّيادة معروفةٌ مشهورةٌ، وقد رواها (2)
__________
(1) أبو داود (4482)، والترمذي (1444)، وابن ماجه (2573). ولفظه: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاجلدوهم، ثم إن شربوا فاقتلوهم".
وأخرجه كذلك أحمد 4/ 95 و96 و101، وعبد الرزاق (18587)، وابن حبان (في الموارد) (1519)، والحاكم 4/ 372، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" 3/ 159، وأبو يعلى (346/ 2 - 347/ 1)، والبيهقي 8/ 313، والنسائي في الحدود من "الكبرى" كما في "التحفة" 8/ 439، والطبراني 19/ (767) و (768) و (843) و (844) و (845) و (846).
وحديث أبي هريرة عند أحمد 2/ 280، وأبي داود (4484)، والنسائي 8/ 314، وابن ماجه (2572)، وذكره الترمذي 4/ 49 تعليقاً. وصححه ابن حبان (1517)، والبيهقي 8/ 313، والحاكم 4/ 371، ووافقه الذهبي.
وحديث ابن عمر عند أحمد 2/ 136، وأبي داود (4483)، وأخرجه النسائي 8/ 312، والبيهقي 8/ 313، وصححه الحاكم 4/ 371، ووافقه الذهبي.
وحديث قبيصة -مرسل- عند أبي داود (4485)، وذكره الترمذي 4/ 49 تعليقاً.
وحديث جابر عند النسائي في الحدود من "الكبرى" كما في "التحفة" 2/ 373. وقد ذكره الترمذي 4/ 49 تعليقاً.
وحديث عبد الله بن عمرو عند أحمد 2/ 166 و191 و211 و214، والطحاوي 3/ 159، والحاكم 4/ 372.
وحديث شرحبيل عند أحمد 4/ 234، والحاكم 4/ 372 و373.
وحديث عمرو بن الشريد (عن أبيه) عند أحمد 4/ 388 - 389، والدارمي 2/ 175 - 176، والحاكم 4/ 372، وصححه، ووافقه الذهبي.
وقد توسع العلامة المحدث أحمد شاكر رحمه الله في الكلام على أسانيد هذه الأحاديث وتنقيدها في تعليقه على حديث ابن عمر من "المسند" (6197)، وانتهى إلى أن أكثر هذه الأسانيد صحيحة، وفي بعضها ضعف محتمل مما لا يدع شكاً عند أهل العلم بالحديث في صحة هذا المعنى وثبوته عنه - صلى الله عليه وسلم -. فراجعه فإنه نفيس.
(2) في (ب): رواه.(3/168)
الهادي عليه السلامُ في كتابه "الأحكام"، وممَّن روى ذلك غيرُ معاوية: أبو هريرة، وعَبْدُ الله بنُ عُمَرَ بن الخطاب، وقَبيصَةُ بنُ ذُؤيب، وجابرُ بنُ عبد الله، وعبدُ الله بنُ عمرو بنِ العاص، وشُرحْبيلِ بنُ أوس، وعمرو بنُ الشَّريد مِمَّن سَرَدَهُمُ ابنُ كثيرِ البَصْروِي (1) في "إرشاده" في حدِّ الخمر، وقال: كُلُّها عندَ الإِمام أحمد إلاَّ حديث قَبيصَة، وجابرِ.
قلت: وحديثُ قَبِيصَةَ عند أبي داوود، وحديثُ جابرٍ عند الترمذي، وحديثُ أبي هريرة عند أبي داوود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وحكمه منسوخٌ عند الأكثرِ (2).
الحديث السابع: النَّهي عن لباس الحرير، والذَّهب، وجلودِ السِّباع (3) وله شواهدُ، منها ما رواه النَّسائيُّ في هذا الحديثِ، أنَّه قال
__________
(1) نسبة إلى بُصرى، مدينة تقع شرق جنوبي دمشق، تبعد عنها 70 ميلاً تقريباً، وبها ولد سنة 701 هـ، ثم انتقل إلى دمشق سنة 706 هـ وهو في الخامسة من عمره. وقد مرَّت ترجمته 1/ 333.
(2) انظر "سنن الترمذي" 4/ 48 - 49، و"شرح معاني الآثار" 3/ 160 - 161، و"شرح مسلم" للنووي 5/ 218، و"تهذيب السنن" لابن القيم 6/ 366 - 238، و"فتح الباري" 12/ 78 - 81.
(3) أخرجه أبو داود (4131)، وفيه النهي عنٍ هذه الثلاثة مجتمعة، وفيه أن المقدام أشهده على النهي عنها، فأقره معاوية. ورواه مختصراً النسائي 7/ 176 - 177.
وانظر أبا داود (4239)، والنسائي 8/ 161 و162 و163، وأحمد 4/ 92 و96 و98 و99 و101، والطبراني 19/ (824) و (825) و (826) و (827) و (828) و (829) و (830) و (831) و (832) و (837) و (838) و (876) و (877) و (878).
وحديث علي عند مسلم (2071)، وانظر أبا داود (4043)، وانظر النسائي 2/ 188 و8/ 166، 167 و169، ففيه لفظ الحرير.
وحديث البراء في البخاري (1239) و (5635) و (5650) و (5849) و (5863) و (6222) و (6235)، ومسلم (2066)، والنسائي 4/ 54 و8/ 210، والترمذي (2809)، وابن ماجه (3590)، ولفظه: "أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبع، ونهانا عن سبع ... ، ونهانا عن آنية الفضة و ... والحرير". =(3/169)
وعنده جمعٌ مِنْ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أتعلمونَ أنَّ نَبِيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهب إلا مقطَّعَاً (1)؟ قالوا: اللَّهُمَّ نَعَم، وفي أخرى أنَّه جمعهم، فقال: أَنْشُدُكُم (2)، هل نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ الذَّهب؟ قالوا: نَعَمْ، قال: وأنا أشهدُ، وفي روايةٍ أنَّه جمع نفراً مِنَ الأنصارِ، وفي رواية: منَ المهاجرين والأنصارِ، وكُلُّها عند النَّسائي.
وأمَّا النَّهْيُ عَنِ الحرير، فله شواهدُ كثيرةٌ، منها: عن علي عليه السَّلامُ، ومنها: عن البراءِ، وهما في الصَّحيح، ومنها عن عِمْرَانَ عند أبي داوود، وعن أبي هريرة عند النسائي (3)، والمُرادُ بهذه الشَّواهد في النَّهي عَنِ الذَّهب والحرير مُطلقاً مِنْ غير تقييد بالرِّجال، أمَّا تحريمُه على الرجالِ دُونَ النِّساء، ففيه أحاديثُ أُخَرُ، وبقيَّة حديثه في جلود السِّباع، وله شاهِدٌ في جلودِ السِّباعِ عن أبي (4) المَلِيحِ رواه أبو داوود، والترمذي والنسائيُّ، وفي بعضِه بغيرِ لفظه.
الحديثُ الثامن: حديثُ افتراق الأمَّةِ إلى نَيِّفٍ وسبعين فِرقة، كلُّها في النَّار إلا فِرْقَة واحدة (5)، وفي سنده أيضاً ناصِبِيٌّ، فلم يَصِحَّ عنه.
__________
= وحديث عمران عند أبي داود (4048) والنسائي 8/ 170.
وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي 8/ 170 بلفظ "نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التختم بالذهب"، وأخرجه أيضاً 8/ 192 بلفظ "نهى عن خاتم الذهب".
وحديث أبي المليح عند أبي داود (4132)، والترمذي (1770) و (1771)، والنسائي 7/ 176.
(1) تحرف في (ب) إلى: "منقطعاً".
(2) في (ب): أنشدكم الله تعالى.
(3) من قوله: "وأما النهي" إلى هنا ساقط من (ش).
(4) تحرفت في (ج) إلى: "ابن".
(5) هو في "سنن أبي داود" برقم (4597) من طريقين عن أزهر بن عبد الله الحرازي، =(3/170)
وروى التِّرمذيُّ مثلَه من حديث عبد الله بنِ عمرو بن العاص وقال: حديثٌ غريب، ذكره في الإيمان من طريق الإفريقي، واسمُه عبد الرحمن بن زياد عن (1) عبد الله بن يزيد عنه، وروى ابنُ ماجةَ مثله عن عوفِ بنِ مالكٍ، وأنس، وليس فيها شيْءٌ على شرطِ الصَّحيح، ولذلك
__________
= عن أبي عامر الهوزي، عن معاوية بن أبي سفيان أنَّه قام فينا، فقال: ألا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام فينا، فقال: "ألا إنَّ من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة".
وأخرجه أحمد 4/ 102، والدارمي (2521)، والآجري في "الشريعة" ص 18، والحاكم 1/ 128، والطبراني 19/ (884) و (885)، واللالكائي (150)، وابن أبي عاصم في "السنة" (2) و (65) من طريق أزهر بن عبد الله، بهذا الإسناد.
وأزهر بن عبد الله لم يوثقه غير ابن حبان، والعجلي. وحسن حديثه الذهبي في "الميزان"، إلا أنه قال عنه: ناصبي، ينال من علي رضي الله عنه. وانظر "تهذيب الكمال" 2/ 328 والتعليق عليه.
قال الإمام الخطابي في "معالم السنن" 4/ 295: فيه دلالة علي أن هذه الفرق كلها غير خارجة من الدين، إذ قد جعلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم من أمته. وفيه أن المتأول لا يخرج من الملة وإن أخطأ في تأوله.
وحديث عبد الله بن عمرو عند الترمذي (2641).
وحديث عوف بن مالك عند ابن ماجه (3992)، وابن أبي عاصم (63) من طريق عباد ابن يوسف، حدثني صفوان بن عمرو، عن راشد بن سعد، عن عوف بن مالك يذكره. وهذا سند قوي.
وحديث أنس عند ابن ماجه (3993)، وأحمد 3/ 120 و145، والآجري في "الشريعة" ص 15 و17 من طرق عنه، وكلها ضعيفة، لكنها تتقوى ببعضها وتشتد.
وهذه الأحاديث فيها زيادة: "كلها في النار إلا فرقة واحدة" أو بمعناها. وقد تقدم قول المؤلف في كتابه هذا 1/ 186 الطعن في هذه الزيادة.
وحديث أبي هريرة أخرجه الترمذي برقم (2640). وهو عند أبي داود (4596)، وابن ماجه (3991)، وأحمد 2/ 332، والآجري في "الشريعة" ص 15. ولفظه: "افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة". وسنده حسن، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان (1834)، والحاكم 1/ 128.
(1) تحرفت في (ب) إلى "ابن".(3/171)
لم يخرِّجِ الشيخان شيئاً (1) منها، وصحَّح الترمذيُّ منها حديثَ أبي هريرة من طريق محمد بن عمرو بن علقمة، وليس فيه (2) "كلُّها في النَّار إلا فِرْقَةً واحدةً"، وعن ابن حزمٍ أنَّ هذه الزِّيادة موضوعة، ذكر ذلك صاحبُ "البدر المنير".
الحديث التَّاسع: النَّهي عن سبق الإمام بالرُّكوع والسُّجود (3) رواه عنه أبو داوود، وابن ماجة وهو مُجْمَعٌ عليه، مشهورٌ عَنِ الثِّقات، رواه البخاري ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي عن أبي هريرة، ورواه مالك في "الموطأ" عنه أيضاً، ورواه مسلم، والنسائي عن أنس.
الحديث العاشر: النَّهي عن نِكَاح الشِّغارِ (4) رواه عنه أبو داوود
__________
(1) "شيئاً" ساقطة من (ب).
(2) في (ب) و (ش): فيها.
(3) أخرجه أبو داود (619)، وابن ماجه (963)، وأحمد 4/ 92 و98 والدارمي (1321)، وابن الجارود (324)، وابن خزيمة (1594)، والبيهقي 2/ 92، والبغوي في "شرح السنة" (848)، والطبراني (862) و (863)، من طرق عن محمد بن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُبادروني بالركوعِ ولا بالسجودِ، فمهما أسبقكُم به إذا ركعتُ، تُدْركوني به إذا رفعتُ، ومهما أسبقْكم به إذا سجَدْتُ، تدركوني به إذا رفعتُ، إني قد بَدَّنْتُ". وهذا سند قوي.
وحديث أبي هريرة عند البخاري (691)، ومسلم (427)، وأبي داود (623)، والترمذي (582)، والنسائي 2/ 96، وابن ماجه (961) ولفظه: "أما يخشى أحدُكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعلَ اللهُ رأسَه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار".
وأخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 92 عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن مليح بن عبد الله السعدي عن أبي هريرة قوله ولفظه "الذي يرفع رأسه ويخفضه قبل الإمام، فإنما ناصيته بيد شيطان".
وأخرجه البزار (475) من طريق عبد العزيز بن محمد، عن محمد بن عمرو به مرفوعاًً.
وهو عند ابن ماجه (960) من حديث أبي هريرة قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا أن لا نُبادرَ الإمامَ بالركوع والسجود، وإذا كبَّرَ فكبِّروا، وإذا سجد فاسجدوا.
وفي مسلم (415) بلفظ: "لا تبادروا الإمامَ، إذا كبَّر فكبِّروا، وإذا قال: {ولا الضالين} فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد".
(4) أخرجه أبو داود (2075)، وأحمد 4/ 94، والطبراني 19/ (803). =(3/172)
وهو مشهورٌ متَّفَقٌ على صِحَّته من حديث ابن عمر، وهو عن غيرِ واحدٍ، وهو قولُ الجمهور.
الحديث الحادي عشر: أنَّه توضَّأَ وَضُوءَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ووصف الوضوءَ المعروفَ، وفيه زيادةُ صَبِّ الماءِ على النَّاصِيَةِ. رواه أبو داوود (1)، وقد رواه أبو داوود من حديث أميرِ المؤمنين عليٍّ عليه السَّلامُ.
الحديث الثاني عشر: حُكْمُ مَنْ سَهَا في الصلاة (2). رواه النَّسائي
__________
= وحديث ابن عمر أخرجه البخاري (5112) و (6960)، ومسلم (1415)، والترمذي (1124)، وأبو داود (2074)، وابن ماجه (1183)، والنسائي 6/ 110 و112. ولفظه: "نهي عن الشغار" والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته ليس بينهما صداق.
وفي الباب عن أبي هريرة عند مسلم (1416)، والنسائي 6/ 112.
وعن جابر عند مسلم (1417).
(1) (124) من طريقين عن الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الله بن العلاء، حدثنا أبو الأزهر المغيرة بن فروة، ويزيد بن أبي مالك أن معاوية توضأ للناس كما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ، فلمَّا بلغ رأسه، غَرَق غرْفةً من ماء فتلقاها بشماله حتى وضعها على وسط رأسه حتى قَطَرَ الماء أو كاد يقطرُ، ثم مسح من مقدَّمه إلى مُؤخره، ومن مُؤخره إلى مُقدَّمه.
وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" 1/ 30، والطبراني (886) و (887) و (900)، والبيهقي 1/ 59.
وحديث علي أخرجه أبو داود (111) و (112)، وإسناده صحيح.
(2) أخرجه النسائي 3/ 33، وأحمد 4/ 100، والحازمي في "الاعتبار" ص 113 - 114، والدارقطني 1/ 375، والطبراني 19/ (772) و (773) و (774) و (776) و (777) و (778) و (851)، والبيهقي 2/ 334 - 335. ولفظه: أن معاوية صلَّى أمامَهم، فقامَ في الصلاة وعليه جلوس، فسبَّحَ الناسُ، فتمَّ على قيامِه، ثُمَّ سَجَد سَجدتين وهو جالس بعد أن أتمَّ الصلاة، ثم قعد على المنبر، فقال: إني سمعت رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نسِيَ شيئاً من صلاته فليسجد مثل هاتين السَّجْدَتين". وسنده حسن.
وحديث ثوبان أخرجه أبو داود (1038)، وابن ماجه (1219)، وأحمد 5/ 280، وعبد الرزاق (3533)، والطبراني (1412)، والبيهقي 2/ 337. وهو حسن في الشواهد.
وفي الباب عن ابن مسعود عند مسلم (572) (92)، وأحمد 1/ 424 و438، وأبي داود (1020) و (1021) و (1022)، وابن الجارود (244)، وابن ماجه (1203)، والبيهقي 2/ 342، والنسائي 3/ 28.(3/173)
عنه، وقد رواه أبو داوود مِن حديث ثوبانَ.
الحديث الثالثَ عشر. النَّهيُ عَنِ النِّيَاحة (1). رواه عنه ابن ماجه وهو أشهر من أن تُعَدَّ شواهِدُه.
الحديث الرابعَ عشر: النَّهي عَنِ التَّمادح (2). رواه عنه ابنُ ماجة أيضاًً، وهو مشهورٌ، رواه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داوود عن أبي بكرة، والبخاريُّ، ومسلم عن أبي موسى، والبخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود، والترمذيُّ عن المقداد.
__________
(1) أخرجه أحمد 4/ 101، وابن ماجه (1580)، والطبراني (876) و (877) و (878)، ولفظه: " خطبَ معاوية بحمص، فذكرَ في خُطبتِه أنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النَّوْح ". وفي سنده حريز مولى معاوية وهو مجهول.
وله شاهد من حديث علي عند النسائي 8/ 147، وأحمد 1/ 87 و107 و121 و133 و150 و159، وفي سنده الحارث الأعور، وهو ضعيف.
وآخر من حديث أم عطية عند مسلم (1936)، وأبي داود (3127).
وثالث من حديث أبي مالك الأشعري عند مسلم (934)، والبيهقي 4/ 63.
ورابع من حديث أبي هريرة عند مسلم (67)، والبيهقي 4/ 63.
(2) أخرجه ابن ماجه (3743)، وأحمد 4/ 92 و93، وابن أبي شيبة 9/ 5 - 6، والطبراني 19/ (815) و (817) من طريق شعبة، عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن معبد الجهني، عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إياكم والتمادح فإنه الذَّبْحُ ".
وأخرجه أحمد 4/ 98 - 99 من طريق إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن معبد الجهني، عن معاوية. قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 232: هذا إسناد حسن، معبد مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات.
وحديث أبي بكرة أخرجه البخاري (2662) و (6061) و (6162)، ومسلم (300)، وأبو داود (4805)، وابن ماجه (3744).
وحديث أبي موسى رواه البخاري (2663)، ومسلم (3001).
وحديث المقداد في مسلم (3002)، وأبي داود (4804)، والترمذي (2393)، وابن ماجه (3742)، وأحمد 6/ 5، وابن أبي شيبة 9/ 5. وعزوُه إلى البخاري خطأ من المصنف -رحمه الله- فإنه لم يخرجه. انظر " التحفة " 8/ 501.(3/174)
الحديث الخامسَ عشر: النَّهي عن كُلِّ مسكر (1). رواه عنه ابنُ
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (3389) من طريق علي بن ميمون الرقي عن خالد بن حيان، عن سليمان بن عبد الله بن الزبرقان، عن يعلى بن شداد بن أوس، سمعتُ معاوية يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " كل مسكر حرام على كل مؤمن ". قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 210: وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، كذا قال مع أن سليمان بن عبد الله بن الزبرقان لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في " التقريب ": لين الحديث.
وأخرجه الطبراني 19/ (909) من طريقين عن خالد بن حيان، به.
وفي الباب عن عائشة عند أحمد 6/ 131، وفي " الأشربة " (1) و (2) و (42) والبخاري (242) و (5585) و (5586)، ومسلم (2001)، ومالك 2/ 845، وأبي داود (3682) و (3687)، والترمذي (1863) و (1866)، والنسائي 8/ 298، وابن الجارود (855)، والطحاوي 4/ 216 و217، والدارقطني 4/ 250 و251.
وعن أبي موسى عند البخاري (4343) و (4345)، ومسلم (1833)، وأبي داود (3684)، والنسائي 8/ 298 و299 و300، وابن ماجه (3391)، والطحاوي 4/ 217، وأحمد 4/ 410 و416 و417، وفي " الأشربة " (8) و (11).
وعن ابن عباس عند البخاري (5598)، والنسائي 8/ 300، وأحمد 1/ 274 و289 و350 وفي "الأشربة" (14) و (146) و (194)، والطحاوي 4/ 216، والبزار (2913).
وعن أبي هريرة عند أحمد 2/ 429 وفي " الأشربة " (116) و (197)، والترمذي (1864)، والنسائي 8/ 297، وابن الجارود (858).
وعن عبد الله بن عمر عند مسلم (2003)، والنسائي 8/ 296 و297 و300 و324، وأبي داود (3679)، والترمذي (1861)، والطحاوي 4/ 215 و216، وابن الجارود (857) و (859)، والدارقطني 4/ 248 و249 و250، والطبراني في " الصغير " (143) و (546) و (922)، والبيهقي 8/ 293، وأحمد 2/ 16 و31 و98 و105 و134 و137، وفي " الأشربة " (7) و (26) و (74) و (102) و (103) و (174) و (189) و (195)، والبزار (2915) و (2916) و (2917) و (2918) و (2919).
وعن ابن مسعود عند ابن ماجه (3388) و (2919)، والدارقطني 4/ 250 - 251، وأحمد في " الأشربة " (12).
وعن أنس بن مالك عند أحمد 3/ 112 و119، والبزار (2911) و (2912) و (2920).
وعن عمر بن الخطاب عند أبي يعلى (248)، والطحاوي 4/ 215.
وعن بريدة بن الحصيب عند أحمد 5/ 356.
وعن خوات بن جبير عند الطبراني في " الكبير " (4149)، والدارقطني 4/ 254.
وعن علي بن أبي طالب عند الدارقطني 4/ 250. =(3/175)
ماجة، وهو متواتِرٌ، لا معنى لِذكر شواهده.
الحديثُ السادسَ عشر: كراهةُ رضى الدَّاخِل على القوم بقيامهم له (1). رواه عنه الترمذي، وأبو داوود، وله شواهد عن أنسٍ عندَ
__________
= وعن ميمونة عند أحمد في " المسند " 6/ 333، وفي " الأشربة " (10)، والطبراني 23/ (1063).
وعن زيد بن ثابت عند الطبراني (4880).
وعن قرة بن إياس عند البزار (2914).
وعن قيس بن سعد عند أحمد 3/ 422، والطبراني 18/ (898)، والطحاوي 4/ 217.
وعن أم مغيث عند الطبراني 25/ 177 (433).
وعن أبي سعيد الخدري عند مالك 2/ 485، وأحمد 3/ 63 و66.
وعن جابر بن عبد الله عند أحمد 3/ 343 و361 وفي " الأشربة " (231)، وأبي داود (3681)، والترمذي (1865)، والطحاوي 4/ 217، وابن ماجه (3393)، وابن الجارود (860). وسنده حسن.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص عند أحمد 2/ 158 و167 و179 و185، وفي " الأشربة " (208)، والنسائي 8/ 300، والطحاوي 4/ 217، والدارقطني 4/ 254، والبيهقي 8/ 296، والطبراني في " الصغير " (983)، وسنده حسن.
وعن سعد بن أبي وقاص عند الدارمي 2/ 113، والطحاوي 4/ 216، والدارقطني 4/ 251، وابن الجارود (862)، والنسائي 8/ 301. وصححه ابن حبان (1386).
وعن النعمان بن بشير عند الطحاوي 4/ 217.
وعن أم سلمة عند الطحاوي 4/ 216، وأحمد 6/ 314 وفي " الأشربة " (4).
(1) أخرجه أحمد 4/ 91 و93 و100، والبخاري في " الأدب المفرد " (977)، وابن أبي شيبة 8/ 586، والترمذي (2755)، وأبو داود (5229)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 40، والدولابي في " الكنى " 1/ 95، وأبو نعيم في أخبار أصبهان 1/ 219، والطبراني 19/ (819) و (820) و (821) و (822) من طرق عن حبيب بن الشهيد، عن أبي مجلز لاحق ابن حميد، عن معاوية قال: سمعتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوَّأ مقعده من النار ". بإسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين.
وله طريق آخر بإسناد صحيح عند المخلص في " الفوائد المنتقاة " ورقة 196، والطحاوي 2/ 38 - 39، والخطيب في " تاريخه " 13/ 193.
وحديث أنس رواه الترمذي في " سننه " (2754)، وفي " الشمائل " (328)، وهو في " المسند " 3/ 123، و" مصنف ابن أبي شيبة " 8/ 586، و" الأدب المفرد " للبخاري (946)، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي " ص 63، و" مشكل الآثار " 2/ 39، وأبو يعلى =(3/176)
الترمذي، وعن أبي أمامَةَ عند أبي داوود، وعن أبي بكرةَ، ذكرهن النَّواوي في كتابه " الترخيص في القيام " (1)، فحديث أنس صحيح وفيه كفاية، وحديثُ أبي أمامة في سنده أبو العنبس فيه جهالةٌ، وأبو غالب مُخْتلَفٌ فيه (2)، وحديثُ أبي بكرةَ في سنده مولى آل أبي بُردة، قال
__________
= (3784) وإسناده صحيح على شرط مسلم، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ولفظه: لم يكن شيءٌ: أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له لما يعلمون من كراهيته لذلك.
وحديث أبي أمامة أخرجه ابن أبي شيبة 8/ 585، ومن طريقه أبو داود (5230)، وأحمد 5/ 253 عن عبد الله بن نمير، عن مسعر، عن أبي العنبس سعيد بن كثير، عن أبي العَدَبَّس، عن أبي مرزوق، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يُعَظِّمُ بعضُهم بعضاً ".
وأخرجه ابن ماجه (3836) من طريق وكيع، عن مسعر، عن أبي مرزوق، عن أبي وائل، عن أبي أمامة ... وهو وهم، والصواب رواية ابن أبي شيبة.
وأخرج مسلم في " صحيحه " (413) من حديث أبي الزبير عن جابر أنهم لمَّا صَلُّوا خلفه قعوداً قال: فلمَّا سلم، قال: " إن كدتم آنفاً لتفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود، فلا تفعلوا ".
وحديث أبي بكرة قال النووي في " الترخيص في القيام " ص 66 - 67 رواه أبو موسى الأصبهاني بإسناده بلفظ: " لا يقوم الرجل للرجل من مجلسه ".
وأخرجه أبو داود (4827)، وابن أبي شيبة 8/ 584، وأحمد 5/ 44 و48 بنحوه. وفي سنده أبو عبد الله مولى آل أبي بردة وهو مجهول. وأخطأ المعلق على " المصنف " فنسبه إلى مسلم، وليس فيه.
(1) ص 64 - 73 طبع دار الفكر، وقد تولى تحقيقه من ليس له بهذا العلم أدنى نصيب، فحق لأهل العلم أن ينشدوا فيه وفي أمثاله:
أوردها سعد وسعد مشتمل ... ما هكذا يا سعد تورد الإبل
ومن طرائف تخليطاته أنَّه يأتي إلى لفظ (ح) الموجودة في الأصول التي اعتمدها، والتي يذكرها الرواة دلالة على تحويل السند، فيحذفها، ويكتب مكانها " الحديث "، ثم يتعالم ويكتب في أسفل الصفحة: في الأصول: (ح)!!.
وليس في تعليقاته أية فائدة لطالب العلم، فإنه ينقل تخريج الحديث بالواسطة، ولا يرجع إلى الأصول، مع أنَّه ادَّعى في مقدمته أنَّه نقل عن كتب السنة المعتمدة، وبين مواطن ورود الحديث في مصادره المعتمدة!!
(2) والصواب أنَّه حسن الحديث كما يتبين من " التهذيب ".(3/177)
النواوي: هو مجهول.
الحديث السابعَ عشر: النهي عن تتبع عوراتِ الناس (1). رواه أبو داوود ويشهد لمعناه النهي عن التَّجسُّس، وهو في كتاب الله عزَّ وجَلّ، ومعناه مُجْمَعٌ عليه، وله شواهدُ في التِّرمذي حسناً غريباً، وفي " سُنن أبي داوود " عن أبي بَرْزَةَ الَأسلمي، وعُقْبةَ بن عامر، وزيدٍ بن وهبٍ، وفي " مسلم " عن أبي هريرة.
الحديث الثامنَ عشر: النَّهي عَنِ القِران بَيْنَ الحجِّ والعُمرة (2) رواه
__________
(1) أخرجه أبو داود (4888) من طريقين عن محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري، عن ثور بن يزيد الكلاعي، عن راشد بن سعد، عن معاوية قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنك إن اتَّبَعْتَ عوراتِ الناسِ، أفسدتَهُم أو كِدْتَ أن تُفْسِدَهُم". وسنده قوي، وصححه ابن حبان (1495).
وهو في " الطبراني " 19/ (890) من طريق عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، بهذا الإسناد.
وأخرجه الطبراني 19/ (859) من طريقين عن عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، حدثنا يحيى بن جابر أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه أن أباه حدث أنَّه سمع معاوية بن أبي سفيان يقول: إني سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلاماً نفعني الله به، سمعته يقول: " أعرضوا عن الناس، ألم تر أنك إن اتبعت الريبة في الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم ".
وحديث أبي برزة عند أبي داود (4880).
وحديث عقبة بن عامر عند أبي داود (4891) و (4892).
وحديث زيد بن وهب عند أبي داود أيضاً (4890).
وحديث أبي هريرة عند مسلم (2563)، وهو في " الموطأ " 2/ 1985، والبخاري (6066). وفيه: " ولا تحسسوا ولا تجسسوا ... ".
وفي الباب عن أبي أمامة عند أحمد 6/ 4، وأبي داود (4889)، والحاكم 4/ 378، وسنده حسن.
وعن ابن عمر عبد الترمذي (2033).
(2) أخرجه أبو داود (1794)، وأحمد 4/ 92 و95 و99، والطبراني 19/ (824) و (827) و (828) من طرق عن قتادة، عن أبي شيخ الهنائي خيوان بن خلدة، عن معاوية بن أبي سفيان قال لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كذا وكذا، وعن =(3/178)
عنه أبو داوود، وأحمدُ، ومَدَارُه على أبي شيخ الهُنائي، وفيه اضطراب كثيرٌ في متنه، وسندُه أوضَحَهُ النَّسائي في " سننه "، لأنَّه روى طرفاً من الحديثِ -وهو النَّهي عن لباس الذهب إلا مُقَطَّعَاً- ومنهم من قال: عن أبي شيخ، عن مُعاوية، ومنهم من قال: عنه، عن أبي حيَّان، عن معاوية، وقيل عنه، عن حيَّان، عن معاوية، وقيل فيه: عن ابن عمر بدلاً مِن (1) معاوية ذكره النسائي في " سُننه " (2)، والمِزي في " أطرافه " (3)، وله شواهِدُ عن ابن عمر رواه مالك في " الموطأ " مرفوعاً (4)، وعن عمر، وعثمان رواه مسلم موقوفاًً عليهما (5).
__________
= ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنَّه نهى أن يُقْرَنَ بين الحجِّ والعُمرةِ؟ فقالوا: أما هذا، فلا، فقال: أما إنها معهن، ولكنكم نسيتُم. ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني 19/ (829) من طريق بيهس بن فهدان، عن أبي شيخ الهنائي، قال: كنت عند معاوية ...
(1) في (ش): " عن ". ورواية أي شيخ عن ابن عمر نسبها المزي في الأطراف 6/ 272 إلى النسائي في الزينة من " الكبرى " (65: 7).
(2) 8/ 161 و162 و163.
(3) 8/ 453.
(4) لم أجده في " الموطأ "، ويغلب على الظن أنَّه سبق قلم من المؤلف رحمه الله، فإن الواردَ عنه رضي الله عنهُ خلافُ ذلك، فقد أخرج الترمذي (824) من طريق عبد بن حُميد، أخبرني يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله حدَّثه أنَّه سمع رجلاً من أهل الشام وهو يسألُ عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال عبد الله بن عمر: هي حلال، فقال الشامي: إن أباك قد نهى عنها، فقال عبد الله بن عُمر: أرأيتَ إن كان أبي نَهَى عنها، وصنعها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، أأمْر أبي نَتَّبعُ أم أمْرَ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال الرجُلُ: بل أمرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لقد صنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(5) انظر " صحيح مسلم " (1222) و (1223) و (1226). وانظر " زاد المعاد " 2/ 206 - 211.(3/179)
الحديث التاسعَ عشر: من رواية ابن عباس عنه (1) -ليس له عنه في الكُتُبِ السِّتَّة سواه-: أنَّه قَصَّرَ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمِشْقَصٍ بَعْدَ عُمرته - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: حجَّه (2)، رواه الجماعة إلا التِّرمذي وابن ماجة وهو مشهور.
__________
(1) البخاري (1730)، ومسلم (1246)، وأبو داود (1802) و (1803)، والنسائي 5/ 154 و244 - 245، وأحمد 4/ 95 و96 و97 و98 و102، والحميدي (605)، والطبراني (692) و (693) و (694) و (695) و (696) و (698) من طرق عن ابن عباس، عن معاوية رضي الله عنهم قال: " قَصَّرْتُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص ".
وأخرجه أحمد 4/ 92 من طريق حماد بن سلمة، أخبرنا قيس، عن عطاء، أن معاوية ...
(2) قال الحافظ في " الفتح " 3/ 565: قوله: " قصرت " أي: أخذت من شعر رأسه، وهو يشعر بأن ذلك كان في نسك، إما في جع أو عمرة، وقد ثبت أنَّه حلق في حجته، فتعين أن يكون عمرة، ولا سيما وقد روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة. ولفظه: " قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص وهو على المروة " أو" رأيتُهُ يقصر عنه بمشقص وهو على المروة ". وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة، لكن وقع عند مسلم من طريق أخرى عن طاوس بلفظ: " أما علمت أني قصرت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص وهو على المروة؟ " فقلت له: " لا أعلم هذه إلا حجة عليك " وبين المراد من ذلك في رواية النسائي فقال بدل قوله: " فقلت له لا ... " يقول ابن عباس: " وهذه على معاوية أن ينهى الناس عن المتعة، وقد تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، ولأحمد من وجه آخر عن طاوس، عن ابن عباس قال: " تمتع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات " الحديث. وقال: " وأول من نهى عنها معاوية. قال ابن عباس: فعجبت منه، وقد حدثني أنَّه قصر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمشقص " انتهى. وهذا يدل على أن ابن عباس حمل ذلك على وقوعه في حجة الوداع لقوله لمعاوية: " إن هذه حجة عليك "، إذ لو كان في العمرة، لما كان فيه على معاوية حجة. وأصرح منه ما وقع عند أحمد من طريق قيس بن سعد، عن عطاء: " أنَّ معاوية حدث أنَّه أخذ من أطراف شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام العشر بمشقص معي وهو محرم "، وفي كونه في حجة الوداع نظر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحل حتى بلغ الهدي محلَّه، فكيف يقصر عنه على المروة. وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع، فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قَصَّرَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في عمرة الجعرانة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع كان قارناً، وثبت أنَّه حلق بمنى، وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضاً على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع، لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلماً، إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمانٍ، هذا هو الصحيح. ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متمتعاً، لأن هذا غلط فاحش، فقد تظاهرت الأحاديث في مسلم وغيره أن =(3/180)
ومعناه: جوازُ مُتعة الحجِّ، وهو مُعارِضٌ للحديثِ الأوَّلِ أعني الذي قبله كما يأتي عن ابن عباس، وأيضاً هو سالِمٌ مِنْ عِلَّهَ الاضطراب. وقد رُوِيَ عن عليٍّ عليه السَّلام ُ نحوُه (1) رواه مسلمٌ، وعن عثمان في " مسلم، أيضاًً، وعن سعدِ بنِ أبي وقاص رواه مالك في " الموطأ "، والنّسائي، والترمذي وصحّحه، وعن ابن عباسٍ عن عُمَر رواه النّسائي، وعن ابنِ عمر رواه التِّرمذيُّ، وعن عِمران بنِ حُصين رواه البخاريُّ ومسلم (2).
ولمَّا روى معاويةُ هذا الحديثَ قال ابنُ عباس: هذه على معاوية، يعني: لأنَّه كان ينهى عن مُتْعةِ الحَجِّ، كذا في " سنن التِّرمذي "، و" النسائي " (3).
الحديث الموفي عشرين: روى عن أخته أمِّ حبيبةَ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُصَلِّي في الثَّوب الذي يُجَامِعُها فيه ما لم يَرَ فيه أذىً (4). رواه أبو داوود،
__________
= النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: " إني لبدت رأسي، وقلدتُ هديي، فلا أحل حتى أنحر ".
(1) في (ب): مثله.
(2) حديث علي وعثمان عند مسلم (1223).
وحديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم (1225)، ومالك في " الموطأ " 1/ 344، والنسائي 5/ 152 - 153، والترمذي (823)، وصححه.
وحديث ابن عباس عن عمر عند النسائي 5/ 153.
وحديث ابن عمر عند الترمذي (824).
وحديث عمران بن حصين رواه البخاري (1571) و (4518)، ومسلم (1226)، والنسائي 5/ 155.
(3) انظر " سنن النسائي " 5/ 154، و" المسند " 1/ 292.
(4) رواه أبو داود (366)، والنسائي 1/ 155، وابن ماجه (540)، والدارمي 1/ 319، وأحمد 6/ 325، والطبراني 23/ (405) و (406) و (408)، وابن خزيمة (776)، وابن حبان (237) من طرق عن يزيد بن أبي حبيب، عن سويد بن قيس، عن معاوية بن حُديج، عن معاوية بن أبي سفيان أنَّه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في الثوب الذي يجامع فيه؟ قالت: نعم، إذا لم يكن فيه أذى. وإسناده صحيح =(3/181)
والنسائي، وهذا من مسند أخته أم حبيبة، لا مِن مسنده، ويشهدُ له أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يصلِّي في نعليه ما لم يَرَ فيهما (1) أذىً. رواه أبو داوود عن أبي سعيدٍ الخدري، ورواه البخاري، ومسلم عن سعيد بن يزيد (2)، وحديث " لا يَنْصَرِف منْ صَلاَتِه حَتَّى يَسْمَعَ صوْتَاً أو يَجِدَ رِيحَاً " متَّفق عليه من حديث أبي هريرة، وهو مذهبُ الهادي عليه السَّلامُ أنَّ الطَّهارة المتيقَّنةَ لا تزولُ إلاَّ بحدَثٍ متيقَّنٍ، ولا تزول بالظَّنِّ القويِّ المقاربِ للعلم.
الحديث الحادي والعشرون: روى عن أبيهِ (3) النَّهي لمن أكل الثُّومَ والبَصَلَ عن دخولِ مسجِدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وشواهِدُه أكثر وأشهر مِنْ أن تُذْكَرَ (4).
__________
= وله شاهد من حديث جابر بن سمرة عند أحمد 1/ 89 و97.
وحديث أبي سعيد الخدري رواه أبو داود (650).
وحديث سعيد بن يزيد، سألت أنس بن مالك: أكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي في نعليه؟ قال: نعم. رواه البخاري (386) و (5850)، والنسائي 2/ 74.
وحديث: " لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ". أخرجه مسلم (362)، والترمذي (75)، وأبو داود (177)، وابن ماجه (515)، والنسائي 1/ 99، وأحمد 2/ 330 و414.
وله شاهد من حديث عبد الله بن زيد عند البخاري (137) و (177) و (2056)، ومسلم (361)، وأبو داود (176)، وابن ماجه (513)، وأحمد 4/ 39 و40.
وآخر من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد 3/ 12 و37 و51 و53 و54 و96، وابن ماجه (514).
(1) في (ب): فيها.
(2) تحرف في الأصول إلى " زيد "، وهو أبو مسلمة سعيد بن يزيد بن مسلمة الأزدي، ويقال الطاحي البصري، ثقة روى له الستة.
(3) هذا وهم من المصنف -رحمه الله- فمعاوية في هذا الحديث معاوية بن قرة، وليس معاوية بن أبي سفيان، وأبوه قرة بن إياس بن هلال المزني صحابي، نزل البصرة، وهو جد إياس القاضي.
(4) حديثه هذا أخرجه أبو داود (3827) من طريق عباس العنبري، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن خالد بن ميسرة العطار، عن معاوية بن قرة، عن أبيه أن =(3/182)
الحديثُ الثَّاني والعشرون: حديث: " هذا يَوْمُ عاشُورَاء لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ صَوْمُهُ "، وفي " البخاري "، و" مسلم " عن ابنِ عباس ما يَشْهَدُ لمعناه، حيث قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيماً لَهُ "، وقال: " فَأَنا أحَقُّ بمُوسى " بَعد سؤال اليهودِ عن سبب صومِهم له (1).
القسم الثاني: من أحاديثه ما ورد في الفضائل المشهورة عن غَيْرِهِ، وفيه أحاديث.
الحديثُ الأول: فَضْل إجابة المُؤَذِّنِ، والقولُ كما يقول (2)، رواه
__________
= النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن هاتين الشجرتين، وقال: " من أكلهما، فلا يقربن مسجدنا" وقال: " إن كنتم لا بد آكليها فأميتوهما طبخاً ". وسنده قوي.
وأخرجه أحمد 4/ 19 من طريق أبي عامر عبد الملك العقدي، بهذا الإسناد.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" كما في " التحفة " 8/ 281 عن هارون بن زيد بن أبي الزرقاء، عن أبيه، عن خالد بن ميسرة نحوه.
وفي الباب عن جابر بن عبد الله عبد البخاري (854) و (855) و (5452) و (7359).
وعن أبي هريرة عند مسلم (563).
وعن أنس بن مالك عبد البخاري (856) و (5451)، ومسلم (562).
وعن ابن عمر عند البخاري (853) و (4215) و (4217) و (4218) و (5521) و (5522) ومسلم (561).
وعن أبي سعيد الخدري عند مسلم (565).
وعن علي عند الترمذي (1808) و (1809)، وأبي داود (3828).
(1) رواه البخاري (2003)، ومسلم (1129)، ومالك في " الموطأ " 1/ 299، وعبد الرزاق (7834)، وأحمد 4/ 95 و96 و97 - 98، والحميدي (601)، والطبراني 19/ (708) و (716) و (748) و (749) و (750) و (751) و (752) و (753) و (754) و (806) و (902) من طرق، ولفظه في " الموطأ ": سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لهذا اليوم: " هذا يومُ عاشوراءَ، ولم يُكتبْ عليكم صيامُهُ، وإنا صائمٌ، فمن شاءَ فليَصُمْ، ومن شاء فليُفْطِرْ ".
وحديث ابن عباس رواه البخاري (2004)، ومسلم (1130)، وأبو داود (2444)، وابن ماجه (1734)، والترمذي (754)، والدارمي 2/ 22.
(2) رواه البخاري (612) و (914)، والنسائي 2/ 24 - 25، وفي " عمل اليوم والليلة " (349) و (350) و (351) و (352) و (353)، وأحمد 4/ 92 و93 و95 و98 و100، والدارمي =(3/183)
عنه البخاري وهو مشهور، رواه مسلم عن عُمَرَ بنِ الخطاب، والبخاري، ومسلم، ومالك في " الموطأ "، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي عن أبي سعيد الخدري، ومسلم، وأبو داوود، والترمذي، والنسائي عن عبد الله بن عمرو.
الحديثُ الثاني: " مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرَاً يُفَقِّهْهُ في الذينِ " (1). رواه عنه البخاري ومسلم، وهو حديث مشهور رواه الترمذي عن ابن عباس بسند صحيح، ورواه أبو هريرة فيما ذكره الترمذي، ورواه عمر بن الخطاب، وابنُه عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأنس. ذكره عنهم
__________
= 1/ 272 - 273، وعبد الرزاق (1845) والطبراني (719) و (720) و (721) و (722) و (730) و (731) و (737) و (770) و (771) و (775) و (793) و (802) و (804) و (874) و (927).
وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخرجه مسلم (385)، وأبو داود (527)، والنسائي في " اليوم والليلة " (40).
وحديث أبي سعيد الخدري رواه البخاري (611)، ومسلم (383)، ومالك في " الموطأ " 1/ 67، وأبو داود (524)، والترمذي (208) وقال: حسن صحيح، والنسائي 2/ 23، والدارمي 1/ 272، وأحمد 3/ 5 و53 و78 و90.
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه مسلم (348)، وأبو داود (523)، والترمذي (3614)، والنسائي 2/ 25.
(1) رواه البخاري (71) و (3116) و (3641) و (7312) و (7460)، ومسلم (1037) و (1038)، وأحمد 4/ 92 و93 و95 و96 و98 و99 و101، والدارمي 1/ 74، وابن ماجه (221)، والطحاوي في " مشكل الآثار" 2/ 278 و279 و280. وذكره الترمذي بإثر حديث ابن عباس (2645).
وحديث ابن عباس رواه الترمذي (2645)، وأحمد 1/ 306، والدارمي 1/ 74 و2/ 297.
وحديث أبي هريرة ذكره الترمذي بإثر حديث ابن عباس (2645) بلا سند.
وأخرجه مسنداً أحمد 2/ 234، وابن ماجه (220)، والدارمي 2/ 280.
وحديث عمر، وابنه عبد الله، وعبد الله بن مسعود، وأنس رواها الخطيب البغدادي في " الفقيه والمتفقه " 1/ 2 - 8.(3/184)
الخطيب البغدادي في كتاب " الفقيه والمتفقه " (1).
الحديث الثالث: في فضل حِلَقِ الذِّكر والاجتماعِ عليه (2). رواه مسلم، ومعناه مشهورٌ، وفيه: وما كان أحد بمنزلي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقلَّ حديثاً مِنِّي. وهو في " البخاري " و" مسلم " عن أبي هُريرة، وفي " مسلم، و" الترمذي " عن أبي سعيد الخدري، وأبي هُريرة.
الحديث الرابع: النَّهي عن الغَلوطات (3). رواه عنه أبو داوود.
__________
(1) وهو كتاب جمع فيه مصنفُه نصوص الشارع في الحث على تعلم أحكام القرآن، والسنة، وفي التفقه في نصوصهما، وأن السنة لا تفارق الكتاب، واستنباط الأحكام، وأصول الفقه، وكيفية الاجتهاد، والآداب التي ينبغي للفقيه والمتفقه التخلق بها، والكلام على التقليد وما يسوغ منه، وأدب الجدل ... وقد طبع الكتاب في جزأين بتصحيح الشيخ الفاضل إسماعيل الأنصاري.
(2) رواه مسلم (2701)، وأحمد 4/ 92، والترمذي (3379)، والنسائي 8/ 249، من طريق مرحوم بن عبد العزيز، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي سعيد الخُدْري قال: خَرَجَ معاويةُ على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسَكم؟ قالوا: جلسنا نذكُرُ اللهَ، قال: آللهِ! ما أجلسَكم إلا ذاك؟ قالوا: واللهِ ما أجلسَنا إلا ذاك. قال: أما إني لم أستحلِفْكم تُهمةً لكم، وما كان أحدٌ بمنزلتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقلَّ عنه حديثاًً منِّي، وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ على حَلْقَةٍ من أصحابه، فقال: " ما أجلسَكم؟ " قالوا: جلسنا نذكرُ الله ونَحْمَدُهُ على ما هدانا للإسلام، وَمَنَّ به علينا، قال: " آللهِ ما أجلسكم إلا ذاك "، قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قالَ: " أما إني لم أستحلفكم تُهمة لكم، ولكنه أتاني جبريلُ، فأخبرني أنَّ الله عز وجل يُباهي بكم الملائكة ".
ورواه من حديث أبي هريرة: مسلم (2699)، وأبو داود (4946)، وابن ماجه (225)، والترمذي (2945)، ولم يروه البخاريُّ كما توهَّم المؤلف.
ورواه من حديث أبي هريره، وأبي سعيد الخدري: مسلم (2700)، والترمذي (3378).
(3) رواه أبو داود (3656)، وأحمد 5/ 435.
وحديث أنس رواه البخاري (7293) في الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يفيد، من طريق حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس قال: كنا عند عمر، فقال: نهينا عن التكلف. والقائل هو عمر، وليس أنساً كما ظن المؤلف.
وقول الصحابي: " نهينا أو أمرنا " هو في حكم المرفوع، ولو لم يُضفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. =(3/185)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قال الحافظ في الفتح 13/ 270: هكذا أورده مختصراً. وذكر الحميدي أنَّه جاء في رواية أخرى عن ثابت. عن أنس أن عمر قرأ {فَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: ما الأبُّ؟ ثم قال: ما كُلِّفنا، أو قال: ما أُمرنا بهذا. قلت: هو عند الإسماعيلي من رواية هشام، عن ثابت. وأخرجه من طريق يونس بن عبيد، عن ثابت بلفظ: أنَّ رجلاً سأل عمر بن الخطاب عن قوله: {فَاكِهَةً وَأَبًّا} ما الأبُّ؟ فقال عمر: نُهينا عن التعمقِ والتكلفِ، وهذا أولى أن يكملَ به الحديث الذي أخرجه البخاري، وأولى منه ما أخرجه أبو نعيم في " المستخرج " من طريق أبي مسلم الكجي، عن سليمان بن حرب شيخ البخاري فيه، ولفظه عن أنس: كنا عند عمر وعليه قميص في ظهره أربع رقاع، فقرأ {فَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: هذه الفاكهةُ قد عرفناها، فما الأبُّ؟ ثم قال: مَهْ نُهينا عن التكلفِ!. وقد أخرجه عبدُ بن حميد في " تفسيره " عن سليمان بن حرب، بهذا السند مثله سواء. وأخرجه أيضاًً عن سُلَيمانَ بنِ حرب، عن حمادِ بنِ سلمة بدل حماد بن زيد، وقال بعد قوله: فما الأبُّ؟ ثم قال: يا ابن أُمِّ عمر، إنَّ هذا لهو التكلف، وما عليك أن لا تدريَ ما الأب.
وحديث " هَلَكَ المتنطعونَ " رواه مسلم (2670)، وأبو داود (4608)، وأحمد 1/ 386 من حديث عبد الله بن مسعود، وهو من أفرادِ مسلم، ولم يُخرجه البخاري، فقولُ المصنفِ -رحمه الله- متفقٌ عليه، فيه ما فيه.
قال ابنُ الأثير: " المتنطعون " هم المتعمقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقِهم، مأخوذٌ من النَّطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استُعمل في كُلِّ تعمق قولاً وفعلاً.
وقال النوويُّ: فيه كراهةُ التقعرِ في الكلام بالتشدق، وتكلف الفصاحة، واستعمال وحشي اللغة، ودقائق الإعراب في مخاطبة العوامِّ ونحوهم.
وقال غيره: المرادُ بالحديثِ: الغالون في خوضِهم فيما لا يعنيهم، وقيلَ: المتعنتون في السؤال عن عويصِ المسائل التي ينذُرُ وقوعُها. وقيل: الغالون في عبادتهم بحيثُ تخرجُ عن قوانين الشريعة، ويسترسلُ مع الشيطانِ في الوسوسة.
وقال الحافظُ في " الفتح " 13/ 267 نقلاً عن بعضِ الأئمة: إن البحثَ عما لا يوجدُ فيه نصُّ على قسمين:
أحدهما: أن يبحثَ عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوبٌ، لا مكروه، بل رُبَّما كانَ فَرْضاً على من تَعَيَّنَ عليه منَ المجتهدين.
ثانيهما: أن يدققَ النَّظرُ في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثيلها بفرقٍ ليس له أثرٌ في الشرع مع وجودِ وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمعَ بين متفرقين بوصف طردي مثلاً، فهذا الذي ذمَّه السلفُ، وعليه ينطبق حديثُ ابنِ مسعود رفعه: " هَلَكَ المُتنطِّعون " فرأوا أن فيه تضييعَ الزمان بما لا طائلَ تحتَه.
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصلَ لها في الكتابِ، ولا السنةِ، ولا الإجماعِ =(3/186)
وقال الخطّابي (1): صوابه الأغلوطات، ولا يصِحُّ عنه، في إسناده مجهول، وله شاهدٌ عن أبي هريرة، رواه ابن الأثير في كتاب " جامع الأصول ".
وفي " صحيح البخاري " عن أنس: نُهينَا عَنِ التَّكَلُّف، وهو يشهد لمعناه، وكذلك حديث " هَلَكَ المُتنَطَّعُونَ " يشهد لمعناه (2)، وهو متّفق عليه، وقد كره ذلِكَ أهلُ العلم، بَلْ ثَبَتَ عن كثيرٍ مِنَ الصَّحابة، والسَّلف كراهية الفتوى في المسألة قبل وقوعها، وكان زيدُ بنُ ثابت لا يُفتي حتَّى يحلِف السَّائلُ بالله تعالى أنَّ ما سأل عنه قد وقع، وممَّن ذكر ما ورد من كراهية ذلك، وتقصَّى الآثار: ابنُ السُّني (3) في كتابه.
__________
= وهي نادرةُ الوقوع جداً، فيصرف فيها زماناً كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيَّما إن لزمَ من ذلك إغفالُ التوسع في بيانِ ما يكثر وقوعه.
وأشدُّ من ذلك في كثرة السؤال البحثُ عن أمورٍ غيبيةٍ وَرَدَ الشرعُ بالإيمان بها مع تركِ كيفيتها، ومنها ما لا يكونُ له شاهد في عالم الحسِّ كالسؤالِ من وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدةِ هذه الأمة إلى أمثال ذلك مما لا يُعْرَفُ إلا بالنقلِ الصَّرف، والكثيرٌ منه لم يثبت فيه شيءٌ، فيجبُ الإِيمان به من غير بحث ...
(1) نص كلام الخطابي في " معالم السنن " 4/ 186: والأُغلوطات: واحدها أغلوطة وزنها أُفعولة، من الغلط، كالأُحموقة من الحمق، والأسطورة من السطر، فأما الغُلوطات، فواحدُها غَلوطةٌ، اسم مبني من الغلط كالحَلُوبة، والرَّكُوبة من الحَلْب والرُّكوب. والمعنى: أنه نهى أن يُعترضَ العلماء بصِعَابِ المسائل التي يكثُرُ فيها الغلطُ ليستزلُّوا بها، ويستسقط رأيهم فيها.
(2) من قوله: " وكذلك " إلى هنا سقط من (ب).
(3) هو الحافظُ الثقة أبو بكر أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري المعروف بابن السني صاحب كتاب " عمل اليوم والليلة "، وراوي " سنن النسائي " ومختصره، المتوفى سنة 364 هـ. ولم يذكر المؤلف -رحمه الله- اسم الكتاب الذي ذكر فيه ما ورد من كراهية الفتيا وتقصي الآثار في ذلك، وليس شيء من ذلك في كتابيه " عمل اليوم والليلة " و" المجتبى " مختصر سنن النسائي، ويغلب على الظن أنَّه وهم من المؤلف، وأن الذي ذكر ذلك هو الإِمام الكبير الحافظ أبو محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي المتوفى =(3/187)
الحديث الخامس: حديث " لَيْلةُ القدْرِ لَيْلةُ سَبْعَةٍ وعِشْرِينَ منْ رَمَضَان " (1) رواه عنه أبو داوود، وهو معروفٌ عن غيره، رواه أبو داوود ومسلمٌ، والترمذي عن أُبَيِّ بنِ كعب.
الحديث السادس: فضل حُبِّ الأنصار (2) رواه عنه النسائيُّ، وفضلُهم مشهور بل قُرآني معلوم.
الحديث السابع: حديث " اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا " (3)، وله شاهدٌ في
__________
= سنة 255 هـ في كتابه " السنن "، فقد أوردَ جُملةً كبيرة من الآثار في الأولِ من كتاب " السننِ " ص 52 - 64 تحت باب مَنْ هابَ الفُتيا وكَرِهَ التنطعَ والبدعَ.
(1) رواه أبو داود (1386) من طريق عبيد الله بن معاذ، حدثنا أبي، أخبرنا شعبة، عن قتادة أنَّه سمع مُطَرِّفاً، عن معاوية بن أبي سفيان، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلة القدر قال: " ليلة القدر ليلة سبع وعشرين " وهذا سند صحيح.
وحديث أُبي بن كعب رواه مسلم (762)، وأبو داود (1378)، والترمذي (793) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه أحمد 4/ 96 و100، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 450 من طريق يزيد بن هارون قال: حدثنا يحيى بن سعيد أن سعد بن إبراهيم أخبره عن الحكم بن ميناء أن يزيد بن جارية الأنصاري أخبره أنَّه كان جالساً في نفر من الأنصار فخرج عليهم معاوية، فسألهم عن حديثهم فقالوا: كنا في حديث من حديث الأنصار، فقال معاوية: ألا أزيدكم حديثاً سمعتُه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: بلى يا أميرَ المؤمنينَ، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مَنْ أحَبَّ الأنصار، أحَبَّهُ اللهُ عزَّ وَجلَّ، ومَنْ أبغَضَ الأنصار، أبغَضَه اللهُ عزّ وجَلّ ".
وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 501 و527.
وعن البراء بن عازب عند البخاري (3783)، ومسلم (75)، والترمذي (3900)، وابن ماجه (163).
وعن أنس بن مالك عند البخاري (3784)، ومسلم (74)، والنسائي 8/ 116.
وعنه أيضاً عند البخاري (3785)، ومسلم (2508).
وعن ابن عباس عند الترمذي (3906).
وعن أبي سعيد الخدري عند مسلم (77).
وعن أبي هريرة عند مسلم أيضاً (76).
(3) رواه أبو داود (5132)، والنسائي 5/ 78 من ثلاثة طرق عن سفيان بن عيينة، عن =(3/188)
" البخاري " ومسلم عن أبي موسى، وهو مجمع عليه، ومعناه في القرآن الكريم.
الحديث الثامن: " المؤذِّنُونَ أطْولُ النَّاسِ أعنَاقَاً يوْمَ القيامَةِ " (1) رواه عنه مسلم، وهو مرويٌّ عن عليٍّ عليه السَّلامُ، وعن بلالٍ، وأنسٍ، وزيدِ بنِ أرقم، وعُقبةَ بنِ عامر، وأبي هريرة، وابنِ الزبير، وكُلُّهم عند الهيثمي في " مجمع الزَّوائد " إلاَّ حديثَ علي عليه السَّلام، فذكره أبو خالد في " مجموع زيد بن علي " عليه السلامُ.
الحديث التاسع: حديث " مَنِ الْتَمَسَ رِضَا الله بِسَخط النَّاسِ " (2)
__________
= عمرو بن دينار، عن وهب بن منبه، عن أخيه، عن معاوية: اشفعوا تؤجروا، فإني لأريد الأمر فأُؤخرُه كيما تَشْفَعوا فتؤجروا، فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اشفعُوا تُؤْجَرُوا".
وحديث أبي موسى رواه البخاري (1432) و (6027) و (6028) و (7427)، ومسلم (2627)، وأحمد 4/ 400 و409 و413، وأبو داود (5133)، والنسائي 5/ 77 - 78، والترمذي (2672)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (619) و (620) و (621). وانظر الآية (85) من سورة النساء.
(1) أخرجه مسلم (387)، وابن ماجه (725).
وحديث بلال عند الطبراني في " الكبير " (1080)، والبزار (353).
وحديث أنس عند أحمد 3/ 264، والبزار (354).
وحديث زيد بن أرقم عند الطبراني (5118) و (5119).
وحديث عقبة بن عامر عند الطبراني أيضاً 17/ 282 (777).
وحديث أبي هريرة عند الطبراني في " الأوسط ".
وحديث عبد الله بن الزبير عند الطبراني في " الكبير ". وانظر " مجمع الزوائد " 1/ 326 - 327.
وحديث علي رواه الإمام زيد في " مسنده " ص 86.
(2) حديث صحيح أخرجه ابن المبارك في " الزُّهد " (199)، ومن طريقه الترمذي (2414)، والبغوي (4213)، عن عبد الوهاب بن الورد عن رجل من أهل المدينة، قال: كتبَ معاويةُ إلى عائشة أن اكتبي إليَّ بكتابٍ توصيني فيه، ولا تكثري عليَّ، فكتبت: من عائشة إلى معاوية، سلامٌ عليك، أمَّا بعد، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مَن التمس رِضَا اللهِ بسُخْط النّاس، كفاهُ الله مؤنةَ النّاس، ومَنِ التَمَسَ سُخْطَ اللهِ برِضا النّاس، وكله اللهُ =(3/189)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= إلى النّاس "، والسَّلام.
وهذا سند ضعيف لجهالة الرّجل الذي لم يسم.
وأخرجه ابنُ حبان (277) من طريق الحسن بن سفيان، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، قال: حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا شعبة، عن واقد بن محمد، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " منْ أرْضى اللهَ بسُخْط النّاسِ، كفاهُ اللهُ، ومَنْ اسخط اللهَ برضَا الناس، وَكَلَهُ اللهُ إلى الناس ".
وهذا سند صحيح. إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ثقة، ومن فوقه مِنْ رجال الشَّيخين.
وأخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (501) من طريق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني، والبيهقي في " الزهد الكبير " (885)، ووكيع في " أخبار القضاة " 1/ 38 من طريق الحسن بن مُكرَّم، كلاهما عن عثمان بن عمر بهذا الإسناد.
وأخرجه ابن حبان (276) من طريق الحسن بن سفيان، حدثا عبد الله بن عمر الجعفي، حدثنا عبد الرحمن المحاربي، عن عثمان بن واقد العمري، عن أبيه، عن محمد بن المنكدر، عن عروة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنِ التمسَ رضا اللهِ بسُخطِ الناس، رضِي الله عنه وأرضَى الناسَ عنه، ومنِ التمسَ رِضَا الناس بسُخْط اللهِ، سَخِطَ اللهُ عليه وأسْخط عليه الناس ". وهذا سند حسن. عثمان بن واقد صدوق ربما وهم، وباقي رجاله ثقات. وأخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (499) و (500) وابن عساكر في " تاريخ دمشق " 15/ 278/1 من طريق عثمان بن واقد، به.
وأخرجه البيهقي (887) من طريق محمد بن حمدون النيسابوري، حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزمة، حدثنا النضر بن شُميل، حدثنا شعبة، عن واقد، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، رفعه. وهذا سند صحيح، رجاله كلُّهم ثقات.
وأخرجه البيهقي (884) من طريق إبراهيم بن سليمان الخزاز الكوفي، حدثنا خلاد بن عيسى، حدثنا أسباط عن السدي، عن أبي مالك، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من آثر محامد اللهِ على محامد الناس كفاهُ اللهُ مؤونة الناسِ ".
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 8/ 188 من طريق سهل بن عبد ربه، حدثنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ أرْضى الناسَ بسُخْط اللهِ، وكَلَهُ الله إلى الناس، ومنْ أرضى الناسَ برضا اللهِ، كفاه اللهُ ".
قال أبو نعيم: غريب من حديث هشام بهذا اللَّفظ.
وأخرجه الترمذي بإثر الحديث المرفوع (2414) من طريق محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنها كتبت إلى معاوية، فذكر الحديث بمعناه، ولم يرفعه، وسنده صحيح.
وأخرجه البيهقي (886) من طريق محمد بن إسحاق، ثنا عثمان بن عمر، عن شعبة، =(3/190)
الحديث، رواه الترمذي، وليس من حديثه، لكِنَّه رواه عن عائِشَة، كذا وجدتُه فيمَا علَّقت، وطلبتُ روايةَ معاوية (1) عن عائشة في " أطراف "
__________
= عن واقد، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة موقوفاً.
وأخرجه الحميدي في " مسنده " (266) ومن طريقه البيهقي (881) عن سفيان، عن زكريا بن أبي زائدة، عن عبَّاس بن ذريح، عن الشعبي، قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة أن اكتبي إليَّ بِشيءٍ سمعتِه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فكتبت إليه: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنَّه منْ يعملُ بغير طاعةِ اللهِ، يعودُ حامده من الناس ذامّاً ". وهذا سند رجاله ثقات.
وأخرجه وكيع في " أخبار القضاة " 1/ 38 من طريق السَّريِّ بن عاصم، حدثنا عبد الله بن إدريس الأودي، عن زكريا بن أبي زائدة، عن العباس بن ذريح، عن الشعبي، قال: كتبت عائشة إلى معاوية: أمَّا بعد، فإنه من التمسَ محامدَ الناسِ بمعاصي الله، رَجَعَ حامده من النّاس ذامّاً، والسَّلام.
وأخرجه وكيع في " الزهد " (523)، ومن طريقه أحمد في " الزهد " ص 165 عن زكريا ابن أبي زائدة، عن عامر الشعبي، قال: كتبت عائشة إلى معاوية: أمّا بعدُ، فإنّ العبدَ إذا عمل بمعصيةِ اللهِ، عادَ حامدُه مِنَ النّاسِ ذامّاً.
وأخرجه ابنُ المبارك في " الزهد " (200) عن عنبسة بن سعيد، عن عباس بن ذريح، قال: كتبتْ عائشةُ إلى معاوية ....
وأخرجه ابن أبي شيبة في " المُصَنَّف " 14/ 61 من طريقِ محمدِ بنِ عبد الله الأسدي، عن سفيان، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة، أنّها كتبت إلى معاوية: أوصيك بتقوى الله، فأنَّك إن اتَّقيت الله، كفاكَ النّاسَ، وإن اتّقيت النّاس، لم يُغنوا عنك من الله شيئاً، فعليكَ بتقوى الله.
وأخرجه القضاعي في " مسند الشهاب " (498)، وابن الأعرابي في " معجمه " 82/ 1، والبيهقي (883) من طريق قطبة بن العلاء الغنوي، ثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنّ النيي - صلى الله عليه وسلم - قال: " منْ طلبَ محامدَ النّاسِ بمعاصيِ اللهِ، عادَ حامدُه من الناس ذامّاً ".
وأخرجه البيهقي (882)، والخرائطي في " مساوىء الأخلاق " 2/ 5/2/، والعقيلي في " الضعفاء " 3/ 343، وابن عدي في " الكامل، 6/ 2076، ووكيع في " أخبار القضاة " 1/ 38 بلفظ: " من التمس محامدَ الناسِ بمعاصي الله، عادَ حامدُه من الناس ذامّاً ".
وقطبة بن العلاء، قال البخاري: ليس بالقوي، وقال العقيلي. لا يتابع على حديثه، وقال ابنُ حبّان: كانَ يخطىء، فعدل عن مسلك الاحتجاج به، وأبوه. قال العقيلي: لا يُتابع عليه، ولا يُعرف إلاّ به.
(1) في (ب): رواة الحديث.(3/191)
المزِّيِّ، فلم أَجِدْهَا فيه، ولعلَّ ما كتبته مِنْ ذلك وَهْمٌ، والله أعلم، وهو معنى صحيحٌ، مجمعٌ عليه، لا يحتاجُ إلى روايةٍ ولا شاهدٍ.
الحديث العاشر: تحريم وصل الشعر على النساء، وشواهده مشهورة، ولا أعلمُ فيه خِلاَفَاً على سبيلِ الجُمْلَةِ (1).
الحديث الحادي عشر: " العَيْنَانِ وِكاءُ السَّه " (2)، وهو مروِيٌّ عن عليٍّ عليه السلامُ، رواه أبو داوود عن عليٍّ عليه السَّلامُ، والَّذي عن معاوية هو مذهبٌ معروف عَنِ العُلماء.
القسم الثالث: ما يُوَافِقُ مذهبَ المعترِضِ من حديثه، وفيه أحاديثُ.
الحديثُ الأول: حديث " لا تَنْقَطعُ الهِجْرَةُ " (3) رواه عنه أبو داوود،
__________
(1) تقدم تخريجه في ص 163 - 164.
(2) رواه أحمد 4/ 97 من طريق بكر بن يزيد، والدارمي 1/ 184، والبيهقي 1/ 118 من طريق بقية، والدارقطني 1/ 190 من طريق الوليد بن مسلم، ثلاثتهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن عطية بن قيس الكلاعي، عن معاوية ...
وحديث علي رواه أبو داوود (203)، وابن ماجة (477)، وأحمد 1/ 111، والدارقطني 1/ 161، والبيهقي 1/ 118 من طرق عن بقية بن الوليد، عن الوضين بن عطاء، عن محفوظ بن علقمة، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " العينُ وِكاءُ السَّهِ، فمنْ نامَ فليتوضأْ ". وسنده حسن كما قال ابن الصلاح، والمنذري، والنووي. وبقيةُ صرَّح بالتحديث عند أحمد، فانتفَت شبهةُ تدليسه.
و" السَّه ": قال ابن الأثير: السَّه: حلقةُ الدُّبُر، وهو من الاستِ، وأصلها سته بوزن فرس، وجمعها أستاه كأفراس ... ثم قال: ومعنى الحديث أن الإنسان مهما كان مستيقظاً، كانت استُه كالمشدودة الموكى عليها، فإذا نامَ، انحلَّ وكاؤها، كنى بهذا اللفظ عن الحدث وخروج الريح، وهو من أحسنن الكنايات وألطفها.
(3) رواه أبو داوود (2479)، وأحمد 4/ 99، والدارمي 2/ 239، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 454 من طريق حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي، عن أبي هند البجلي، عن معاوية، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تنقطعُ الهجرةُ حتَّى تنقطعَ التوبةُ، ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها ". وأبو هند البجلي: قال =(3/192)
ولم يَصِحَّ عنه، قال الخطَّابيُّ: في إسناده مقالٌ، وله شاهدٌ عن عبد الله بنِ السَّعدي رواه النَّسائيُّ.
الحديث الثاني: النَّهْي عن لباسِ الذَّهب إلا مُقَطَّعاً (1)، رواه عنه أبو داوود، والنسائي، وله شواهدُ ذكرها النسائي، فإنَّه روى ذلك عن جَمْعٍ مِنْ أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قولُه في حديثه " إلا مُقَطَّعَاً " فرواه النسائي عن عبد الله بن عمر (2) بن الخطاب، وهو مرويٌّ عن جَمْعٍ مِنَ الصّحابة أنَّهُم صدَّقُوا معاويةَ فيه حين رواه، ذكره أحمد في مسند معاوية، وهو
__________
= عبد الحق: ليسَ بالمشهور، وقال ابنُ القطان: مجهول.
وأخرجه أحمد في " مسنده " 1/ 192 من طريق الحكم بن نافع، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر، عن ابن السعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تنقطعُ الهجرةُ ما دام العدوُّ يُقاتلُ ". فقال معاوية، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمرو بن العاص: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ الهجرة خَصْلَتان، إحداهما أن تهجرَ السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى اللهِ ورسوله، ولا تنقطعُ الهجرة ما تقبلت التوبة، ولا تزال التوبة مقبولةً حتى تطلع الشمس من المغرب، فإذا طلعت طُبع على كل قلب بما فيه، وكُفي الناسُ العملَ.
وحديث عبد الله بن السعدي رواه النسائي 7/ 146 و147 من طريقين عن عبد الله بن العلاء بن زبر، عن بُسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عن حسان بن عبد الله الضمري، عن عبد الله بن السعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنقطِعُ الهجرةُ ما قُوتِلَ الكفارُ " وهذا سند صحيح، وله طريق آخر عند أحمد 5/ 270، وسنده حسن.
(1) رواه أبو داوود (4239)، والنسائي 8/ 161 و162. وروى تصديقَ الصحابة لمعاوية: أحمد في " مسنده " 4/ 92 و98 و99.
ورواه أحمد دون قوله: " إلا مقطعاً " في " مسنده " 4/ 96 و101، والنسائي 8/ 162 و163.
وقوله " إلا مقطعاً " قال ابن الأثير: أراد الشيء اليسير منه كالحلقة والشنف ونحو ذلك وكره الكثير الذي هو عادة أهل السرف والخيلاء والكبر.
وقال السندي: أي: مكسراً مقطوعاً، والمراد الشيء اليسير مثل السن والأنف، والله أعلم.
(2) تحرف في (ب) إلى "عمرو".(3/193)
الحديثُ الخامسِ من الجامع من مسنده لابنِ الجوزيِّ، وهو مذهبُ الإمام المنصورِ بالله عليه السلام، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في الحديث السابعِ من القسم الأول (1).
الحديثُ الثالث. عن القاسم بنِ عبدِ الرحمن أبي عبد الرحمن مولى بني أُميَّة، أو يُقال: مولى آل معاوية، ويقال: مولى معاوية، عن معاوية: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ على المنبر قَبْلَ شهرِ رمضان: " الصيامُ يَوْمُ كذا وكَذا، ونَحْنُ مُتَقَدِّمُون، فَمَنْ شَاء فَلْيَتَقَدَّمَ، وَمَنْ شاءَ فليتأخر " (2) رواه ابنُ ماجه في الصوم، قيل: إنَّه لم يسمع من صحابِيِّ إلا مِن أبي أُمامة، وكان أحمدُ بنُ حنبل (3) يحْمِلُ عليه ويتَّهِمُه، وقال: يروي عنه عليٌّ بن يزيد عجائبَ، وما أراها إلا من قِبَلِ القاسِمِ.
وقال ابنُ حبان (4): كان يروي عن أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - المُعْضِلاتِ. ورُوِيَ توثيقُه عن ابنِ معين، والترمذي، وكان يُروى عنه زهدٌ وعبادة، فالله أعلم، والراوي عنه العلاءُ بنُ عبد الرحمن (5): صالح
__________
(1) انظر ص 169 - 170.
(2) رواه ابن ماجه (1647) من طريق العباس بن الوليد الدمشقي، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا الهيثم بن حميد، حدثنا العلاء بن الحارث، عن القاسم أبي عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر يقول ... فذكره.
قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 109: هذا إسناد رجاله موثقون، لكن قيل: إن القاسم بنَ عبد الرحمن أبو عبد الرحمن لم يسمع من أحد من الصحابة سوى أبي أمامة. قاله المزي في " التهذيب "، والذهبي في " الكاشف ". وقد روى البخاري وأصحابُ السنن من حديث أبي هريرة مرفوعاًً " لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين إلا أن يكون رجلاً كان يصومُ صوماً فليصُمْه ". فهذا مخالف لرواية ابن ماجة.
(3) " بن حنبل " ساقطة من (ب).
(4) في " المجروحين والضعفاء " 2/ 212.
(5) هذا خطأ من المؤلف -رحمه الله- صوابُه العلاء بن الحارث بن عبد الوارث =(3/194)
أنكر من حديثه أشياء، وممَّا أنكروا من حديثه: حديثُ النَّهي عن الصومِ إذا انتصف شعبانُ (1)، وفيه خلافٌ وكلامٌ كثيرٌ، وشيخُ ابن ماجه فيه عباسُ بنُ الوليد الدِّمشقي صُوَيْلِحٌ، وقال أبو داوود: أُحَدِّثُ عنه.
القسمُ الرابعُ: ما يتعلَّقُ بالفضائل، مما ليس بمشهور، ولكن له شواهد عن غيرِه، وفيه أحاديثُ.
الأوَّلُ: استلام الأركانِ كُلِّها (2)، وهو مذهبُ الحسن والحسين
__________
= الحضرمي أبو وهب الدمشقي، فإنه هو الذي رواه عن القاسم كما في " سنن ابن ماجه "، والعلاء بن الحارث هذا قال الحافظ في " التقريب " عنه: صدوق، فقيه، لكن رمي بالقدر وقد اختُلِطَ، وهو من رجال مسلم وأصحاب السنن.
(1) أخرجه أحمد 2/ 442، وأبو داوود (2337)، والترمذي (738)، وابن ماجة (1651)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 10/ 239 من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا انتصف شعبان فلا تَصُوموا ".
قال الترمذيُّ: حديثُ أبي هريرة حديث حسن صحيح لا نعرفُه إلا مِنْ هذا الوجه على هذا اللفظ، ومعنى هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن يكون الرجلُ مُفْطراً، فإذا بقيَ من شعبانَ شيء، أَخَذَ في الصوم لحالِ شهر رمضان.
وقد رُوِيَ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُشبه قولَهم حيثُ قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَقَدَّموا شهرَ رمضانَ بصيام إلا أَنْ يُوافقَ ذلك صوماً كان يصومُه أحدُكم ".
وقد دَلَّ في هذا الحديث أن الكراهية على من يتعمَّدُ الصيامَ لحالِ رمضان.
(2) أخرجه عبد الرزاق في " المصنفِ " (8944)، ومن طريقه أحمد 1/ 332، والطبراني في " الكبير " (10631) حدثنا معمر، والثوري، عن عبد الله بن خُثَيْمٍ، عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاويةُ لا يَمُرُّ بركنٍ إلا استَلَمه، فقال ابنُ عباس: إنَّ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ ليستلمَ إلا الحجر واليماني، فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً. وإسناده صحيح.
وأخرجه الترمذي (858) عن محمود بن غيلان، عن عبد الرزاق، به. وقال: حسن صحيح.
ورواه أحمد 1/ 372 من طريق سعيد بن أبي عروبة، والطبراني (10634) من طريق شعبة، كلاهما عن قتادة، عن أبي الطفيل نحوه.(3/195)
عليهما السلامُ، وأنس، وابنِ الزبير، ورواية عن ابنِ عباس، ذكر (1) ذلِكَ أبو عمر (2) بنُ عبدِ البر في " تمهيدِه "، ومن روى أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم الشَّامِيَّيْنِ، فقد علَّل ذلك بأنَّ الحجر مِنَ البيت، فَلَيْسَا رُكْنَي البيت على الحقيقة كما ورد هذا التعليلُ.
الحديث الثاني (3): حديث " طلحة مِمَّن قضى نَحْبَهُ " (4) رواه عنه الترمذيُّ، والطّيالسيُّ، والحديثُ معروف مِنْ رواية طلحة، ومن رواية عائشة، وله شاهد في " مسلم " (5) عن أبي هُريرة.
__________
(1) في (ب): روى.
(2) في (ش) و (ب): " عمرو"، وهو خطأ.
(3) تحرف في (ب) إلى: " الأولى ".
(4) أخرجه الترمذي (3202) و (3740)، وابن ماجه (126) و (127)، وابن سعد في " الطبقات " 3/ 218 من طرق عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن موسى بن طلحة قال: دخلت علي معاوية، فقال: ألا أبشرُكَ؟ قلتُ: بلَى، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " طلحةُ مِمَّن قَضَى نحبَه ". وهذا سند ضعيف، لضعفِ إسحاقَ بنِ يحيى بن طلحة التيمي.
ولم أجدْه في المطبوع من " مسند الطيالسي " مع أن الإمام الذهبي نسبه إليه أيضاًً في " السير " 1/ 28 من حديث معاوية. وإنما رواه الطيالسي (1793) من حديث جابر، وفي سنده الصلت بن دينار، وهو متروك. وهو في " سنن الترمذي " (3740).
وأخرجه الترمذي (3742)، وأبو يعلى (663) من طريق طلحة بن يحيى، عن موسى، وعيسى ابني طلحة، عن أبيهما طلحة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لأعرابيٍّ جاهل: سَلْه عمَّنْ قَضَى نحبَه منْ هُوَ؟ وكانوا لا يجترؤون هم على مسألته، يُوَقِّرونَه، ويهابونَه، فسأله الأعرابيُّ، فأعرض عنه، ثم سألَه، فأعرض عنه، ثم إني اطَّلَعْتُ من بابِ المسجد وعليَّ ثيابٌ خُضْرٌ، فلمَّا رآني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: أيْنَ السائلُ عمَّنْ قَضَى نَحْبَه؟ " قال الأعرابيُّ: أنا يا رسولَ الله، قال: " هذا ممَّنْ قَضى نحبَه ". وقال الترمذي: هذا حسن غريب، وهو كما قال.
وأخرجه الطبراني (217) من طريق آخر عن طلحة.
وحديث عائشة أخرجه ابن سعد 3/ 218، وأبو يعلى في " مسنده " ورقة 232/ 1، وأبو نعيم في الحلية 1/ 88، وفي سنده صالح بن موسى، وهو متروك كما قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 148.
ورواه الحاكم 2/ 415 - 416 من طريق آخر، وفيه إسحاق بن يحيى، وهو ضعيف.
وللحديث شاهد مرسل صحيح عند ابن سعد 3/ 219.
(5) رقم (2417) في فضائل الصحابة: باب من فضائل طلحة والزبير.(3/196)
الحديث الثالث: حديثُ الفصل بَيْنَ الجُمُعَةِ والنّافلة بعدَها بالكلام، أَوِ الخُروجِ منَ المسجدِ (1)، رواه عنه مسلمٌ، وله شواهد (2)، وهو في " مسند ابن أبي شيبة " عن عُمَرَ مِنْ ثلاث طُرُقٍ، وعن ابنِ مسعود من ثلاث طرق، وعن إبراهيم: كانوا يكرهون ذلك، وعن المسيَّب بنِ رافع مثله، ذكرها مخرِّجُ أحاديثِ " الهداية " منَ الحنفية، وله شاهد أيضاَّ عن ابنِ عمر مِن فعل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، رواه البخاريُّ، وهو من أحاديث الفضائل.
الحديث الرابع: " كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أنْ يَغْفِرَهُ إلا الشِّرْكَ باللهِ، وَقَتْلَ المُؤْمِنِ " (3) رواه عنه (4) النّسائيُّ، وله شاهدٌ مِن حديث أبي الدّرداء بنحو لفظه رواه عنه أبو داود، وأمّا بغير لفظه فشواهدُهُ لا تُحْصَى، بلِ القرآن الكريم أصدقُ شاهد لذلك، بل مُغْنٍ عن ذكر ذلِكَ، وسيأتي ما ورد
__________
(1) رواه مسلم (883)، وأبو داوود (1129)، وابن أبي شيبة في " المصنف " 2/ 129 من طرق عن ابن جريج قال: أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخُوار، أن نافع بن جبير أرسلَه إلى السائب ابن أخت نَمرٍ يسألُه عن شيء رآه منه معاويةُ في الصلاة، فقال: نعم، صليتُ معَه الجمعةَ في المقصورة، فلمَّا سَلَّم الإمامُ، قمتُ في مقامي، فصليتُ، فلمَّا دخَلَ، أرسَلَ إليَّ فقال: لا تَعُدْ لِمَا فعلتَ، إذا صليتَ الجُمعةَ فلا تَصِلْها بصلاةٍ حتَّى تكلَّم أو تخرُجَ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَنا بذلك، أن لا توصَلَ صلاةٌ بصلاةٍ حتَّى نتكلَّمَ أو نخرُجَ.
وحديث ابن عمر رواه البخاري (937) و (1165) و (1172) و (1180)، ومسلم (882)، وأبو داوود (1127) و (1128) و (1130) و (1132)، وابن ماجه (1130)، والنسائي 3/ 51، وابن أبي شيبة في " المصنف " 2/ 139.
(2) في (ش): شاهد.
(3) رواه أحمد 4/ 99، والنسائي 7/ 81، والحاكم 4/ 351 وصححه، ووافقه الذهبي مع أن أبا عون أحد رواته لم يُوَثِّقْه غيرُ ابنِ حبان، لكن يتقوى بشاهده من حديث أبي الدرداء.
رواه أبو داوود (4270)، وصححه ابن حبان (51)، والحاكم 4/ 351، ووافقه الذهبي، وهو كما قالوا. وانظر الآية (48) و (93) من سورة النساء.
(4) في (ب): " عند " وهو خطأ،(3/197)
في ذلك في الكلام في مسألة الإِرجاء والرَّجاءَ من آخِرِ هذا الكِتاب إنْ شاء الله تعالى.
القسم الخامس: ما لا يتعلَّق به حُكْمٌ وفيه أحاديث.
الحديث الأول: حديث وفاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّين سنة (1)، رواه مسلم عنه (2)، وقد تابعه على ذلِكَ غيرُ واحدٍ، ولذلك كان أكثرَ الأقوال وأصحّها، ذَكَرَ ما يقتضي ذلِكَ ابنُ الأثيرِ في " جامعه " (3)، وقيل في مُدَّةِ عمره - صلى الله عليه وسلم - غيرُ ذلِكَ.
الثاني: ذكرُ حديثِ كعبٍ الأحبارِ عن أهلِ الكتاب (4).
__________
(1) رواه مسلم (2353)، والترمذي في " السنن " (3653)، وفي " الشمائل " (362)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 434.
وله شواهد من حديث عائشة عند البخاري (4466)، ومسلم (2349)، والترمذي في " السنن " (3654)، و" الشمائل " (363).
ومن حديث ابن عباس عند مسلم (2351)، والترمذي (3652)، و" الشمائل " له (361).
(2) في (ب): عنه مسلم.
(3) أي: في " جامع الأصول ". انظر 11/ 217 - 220، وانظر أيضاً " فتح الباري " 8/ 150 - 151.
(4) علَّقَه البخاري في " صحيحه " (7361) في الاعتصام، باب: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تسألوا أهلَ الكتاب عن شيء، فقال: وقال أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزُّهري، أخبرني حُميد بن عبد الرحمن، سَمِعَ معاويةَ يحدث رَهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعبَ الأحبار، فقال: إنْ كان من أصدقِ هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا - مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
قال الحافظ تعليقاً على قوله: وقال أبو اليمان: كذا عند الجميع، ولم أره بصيغة " حدثنا "، وأبو اليمان من شيوخه، فإما أن يكون أخذه عنه مُذاكرةً، وإما أن يكونَ ترك التصريحَ بقولِه: حدثنا، لكونه أثراً موقوفاً، ويحتمل أن يكون مما فاته سماعه، ثم وجدت الإسماعيلي أخرجه عن عبد الله بن العباس الطيالسي، عن البخاري قال: حدثنا أبو اليمان، ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم، فذكره، فظهر أنَّه مسموع له، وترجحَ الاحتمالُ الثاني، ثم وجدتُه في " التاريخ الصغير " للبخاري، قال: حدثنا أبو اليمان.(3/198)
الثالث: حديث " إنَّمَا أنَا خَازِنٌ، واللهُ الْمُعْطِي " (1) رواه مسلم، وله شاهِدٌ رواه عليٌّ عليه السلامُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولفظه: " لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلاَ يَنْفَعَ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، رواه مسلمٌ مِن حديث عليٍّ عليه السلامُ فيما يُقَالُ في الاعتدال مِنَ الرُّكوع، ومعناه مجمعٌ عليه، وشواهدُهُ لا تُحصى.
الرابع: قولُهُ - صلى الله عليه وسلم - للنّاس: " الصِّيام يَوْمُ كذا " (2) رواه ابن ماجه، ولا ثمرةَ له إلا أنَّه يُستحب للإمام، والقاضي إذا علِمَ أوَّلَ الشَّهْرِ أنْ يُخْبِرَ النَّاسَ، وما زال النَّاسُ على هذا، وهذه سُنَّةٌ مستمرة.
الخامس: حديث " الخَيْرُ عَادَةٌ والشّرُّ لَجَاجَةٌ "، رواه ابن ماجه (3).
__________
(1) رواه البخاريُّ (71) و (3116) و (3641) و (7312) و (7460)، ومسلم (137)، وأحمد 4/ 93 و95 و97 و98.
ورواه أحمد 4/ 101 بلفظ: " إني انا مبلغٌ، والله يهدي، وقاسمٌ، واللهُ يُعطي ... " وقد ثبت أيضاً هذا الدّعاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدْعُو به إذا فرَغ من الصلاة وسلم. رواه البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة.
ورواه ابن ماجه (879) من حديث أبي جحيفة.
أما حديث علي، فليسَ في الباب الذي أشار إليه المصنفُ عند مسلم، إنما رواه مسلم في نفس الباب من حديث أبي سعيد الخدري (477)، وحديث ابن عباس (478)، والدارمي 1/ 301. وأما حديث علي، فأخرجه مسلم (771) مطولاً في صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وفيه: " وإذَا رفَعَ رأسَه مِنَ الركوع، قالَ: اللهُمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ مِلْء السماواتِ، ومِلْء الأرضِ، ومِلء ما شئتَ من شيءٍ بعدُ ".
(2) تقدم تخريجه ص 194.
(3) برقم (221) من طريق هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس أنَّه حدثه قال: سمعتُ معاويةَ بن أبي سفيان يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " الخيرُ عادةٌ، والشرُّ لجاجةٌ، ومن يُردِ اللهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدينِ "، وهذا سند حسن. وصححه ابن حبان (310).
ورواه القُضاعي في " مسند الشهاب " (22)، وأبو نعيم في " الحلية " 5/ 252، وفي " أخبار أصبهان " 1/ 345، والطبراني في " الكبير " 19/ (904) من طرق عن الوليد، به.
وقوله: " الخيرُ عادةٌ " قال المناوي: لعود النفس إليه، وحرصها عليه من أصل الفطرة. =(3/199)
السادس: حديث " لمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلا بَلاَءٌ وَفِتْنَة "، رواه ابن ماجه (1).
السابع: حديث " إنَّما الأعمالُ كالوِعَاءِ إذا طابَ أسْفَلُهُ، طَابَ أَعلاهُ " رواه ابن ماجه (2).
الثامن: سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (3) [التوبة: 34] وفيمَ نزلت، رواه البخاريُّ، والنِّسائي مِنْ طُرُقٍ
__________
= قال الغزالي: من لم يَكُنْ في أصل الفطرة جواداً مثلاً، فيتعود ذلك بالتكلف، ومن لم يخلق متواضعاً يتكلفه إلى أن يتعوَّدَه، وكذلك سائر الصفات يعالج بضدها إلى أن يحصلَ الغرضُ .. وأكثر ما تستعمل العرب العادة في الخير، وفيما يسرُّ وينفعُ.
و" الشر لجاجة ": لما فيه من العوجِ وضيقِ النفس والكرب، واللجاج أكثر ما يستعملُ في المراجعةِ في الشيء المُضِرِّ بشؤمِ الطبعِ بغير تدبُّر عاقبةٍ، وُيسمى فاعلُه لجوجاً، كأنه أخذ من لُجة البحر، وهي أخطرُ ما فيه، فزَجَرَهُم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن عادةِ الشَّرِّ بتسميتها لجاجةً، وميَّزَها عن تَعَوُّدِ الخير بالاسم للفرق.
(1) برقم (4035) من طريق غياث بنِ جعفر الرحبي، أنبأنا الوليدُ بن مسلم، سمعتُ ابن جابر يقول: سمعت أبا عبد ربه يقول: سمعتُ معاوية يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لم يبقَ مِنَ الدُّنيا إلا بَلاءٌ وفِتْنةٌ ". وهذا سند قوي، ابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد.
وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 253: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه ابن حبان (690).
ورواه ابن المبارك في " الزهد " (596)، ومن طريقه أحمد في " المسند " 4/ 94، والطبراني في " الكبير " 19/ (866) عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به. وزاد فيه: " وإنَّمَا مَثَلُ عملِ أحدِكُم كمثلِ الوِعَاء إذا طَابَ أعلاهُ، طابَ أسفلُهُ، وإذا خَبُثَ أعلاه، خَبُثَ أسفلُهُ ".
(2) برقم (4199) من طريق عثمان بن إسماعيل بن عمران الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني أبو عبد رب، قال: سمعت معاوية ...
(3) رواه البخاري (1406) و (4660) والنسائي في التفسير في " الكبرى " كما في التحفة 9/ 163، والطبري (16671) و (16673) و (16674).(3/200)
كلّها من حديث زيد بن وهب، عن أبي ذرٍ أنّه قال: نزلت فينا، وفي أهلِ الكتاب، وخالفه معاويةُ، وقال: إنَّما نزلت في أهلِ الكتاب، وهذا الحديثُ إنَّما ذُكِرَ لسياق قصَّة أبي ذرٍّ، وسبب خروجه من المدينة لمخالفة معاوية له في ذلك، واجتماع النّاس عليه، وليس يَلْتَفِتُ أحدٌ مِنْ أهلِ السُّنَّة إلى ترجيح معاوية على أبي ذرٍّ، ولا يختلفون في ترجيح أبي ذَرٍّ، سيما وقد وافقه ابنُ عباس، وابنُ عمر، وثوبانُ، وأبو هريرة كما ذكره أهلُ كتب الحديث والتَّفسير، وإن كان الواحديُّ (1) أشار إلى اختلاف المفسرين في ذلك مِنْ أجلِ أنّ الآية الّتي قبلها في أهل الكتاب، ولذلك قالوا: إنّها محتملة، وهذا أيضاً غيرُ مرفوعٍ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ويدلُّ على ما ذكرته أنّ البخاريَّ قال: باب قوله عز وجل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] ثمَّ بدأ فيه بحديثِ أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم - " يَكُونُ كَنْزُ أحَدِكمْ يَوْمَ القيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ " (2)، فجعلها في المسلمين، ثم قوّاه وأردفه بحديثِ أبي ذرِّ أنَّ معاوية قال: إِنَّما هِيَ فيهم، فقلت: إنَّها لَفِينا وفيهم.
التاسع: وفي " المسند " من طريق قتادة عن أبي شيخ أنَّ معاوية ذكر أشياء لجَمْعٍ مِنْ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: فقال: أتعلمون أنه نهى عن جمْعٍ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرة؟ قالوا: أمَّا هذه، فلا، قال: إنَّها مَعَهُنَّ.
رواه أحمدُ (3)، وزاد: " ولكِنَّكمْ نَسِيتُمْ " ففي صحته نظرٌ، لما فيه من الاضطراب كما مضى في الحديث الثامن عشر من القسم الأول من حديث معاوية، وإن كان في ذلك النَّهْي عن القرانِ بين الحجِّ العمرة، وهو يقتضي النَّهْيَ عَنِ القِران، لا عن التَّمَتُّع، وهذا محتملٌ، وهو في القِران
__________
(1) في " أسباب النزول " ص 165.
(2) هو في " صحيحه " (4659).
(3) 4/ 92.(3/201)
أظهرُ، فهذا مِنْ جملة اضطراب الرَّاوي في متن الحديث. على أنَّهُ قد رُوي له شواهد مع ضعفها عن رَجُلٍ صحابِيٍّ، وعن ابنِ المسيب، وعن بلالِ ابن الحارث، وعن أبي ذرٍّ موقوفاً عليه، وفي كُلٍّ منها مقالٌ، رواه أبو داود عن ابن المسيِّب، عن رجلٍ من أصحاب النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أتى عُمَرَ، فَشَهِدَ عنده أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الَّذي قُبِضَ فيه ينهى عَنِ العُمرة قبْلَ الحجِّ، وعن حَيْوَةَ عن أبي عيسى الخُراساني سليمان بنِ كيسان، عن عبدِ الله بنِ القاسم، عن ابن المسيب به.
وقد تقدم في الحديثِ التاسعَ في القسم الأوّل أن معاويةَ روى أنّه قَصَّرَ منْ شعر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الودَاعِ بعد عُمرته، مُتَّفَقٌ على صحَّته عنه، رواه الجماعة كلُّهم عنه (1) مِن حديثِ ابنِ عباس عنه، وليس عندهم لابنِ عباس عنه سواه، وهو الحديثُ الذي كان ابنُ عباس يقوله فيه: أمّا هذه فإنَّها على معاوية لا له، لأنَّه كان ينهى عَنْ مُتْعَةِ الحجِّ، وكان ابنُ عبَّاس، وعليٌّ عليه السَّلامُ، وجمهورُ الصَّحابة يُفْتُونَ بها، وكان عمر يُصَرِّحُ أنَّه رَأيٌ منه.
وفي حديث معاوية ذلك دِلالَةٌ على أنَّ التَّمَتُع بالعمرة إلى الحجِّ جائز، وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان متمتِّعاً، وقد مضى أنَّه قولُ جماعةٍ كثيرةٍ مِنَ الصَّحابة، وَمَنْ بعدهم، وفيه تضعيفٌ لحديثه هذا في النَّهْيِ عن جمعٍ بين حجٍّ وعُمرة، فهذا مُنْكَرٌ جِدّاً، مُخالِفٌ لِمَا في الصِّحاح في مُتعة الحجِّ، وأنَّها لِأبَدِ الأبَد مما ذِكْرُه يَطُولُ (2).
__________
(1) عبارة " رواه الجماعة كلُّهم عنه " ساقطة من (ب).
(2) انظر الأحاديث التي فيها الأمرُ بفسخ الحج إلى العمرة وتخريجها في " زاد المعاد " 2/ 178 - 189 بتحقيقنا مع صاحبنا الأستاذ عبد القادر الأرنؤوط.(3/202)
ولما روى الحارثُ بنُ بلال عن أبيه هلال بن الحارث أنّ فَسْخَ الحجِّ إلى العُمرة كان خاصّاً بأصحابِ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال أحمد بنُ حنبل، لا يُعْرَفُ الحارثُ بنُ بلال، ولو عُرف، إِلاّ أنَّ أحدَ عشرَ رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَالِفُونه، أين يَقَعُ الحارثُ منهم ذكره ابنُ تيمية في " المنتقى" (1).
وأما حديثُ معاوية هذا لا أعلمُ أن أحداً منهم صحَّحه، ولا التفت إليه -أعنىِ مِنْ أئِمّة الحديثِ- وإنَّما خَرَّجَ مسلم (2) شيئاً موقوفاً في هذا عن أبي ذرٍّ مِن قوله في معنى حديث بلال بن الحارث، وهو ضعيف أيضاً.
وبقيةُ ما في " المسند " عنه مما لا نكارةَ فيه:
منها: " الإِيمانُ قَيْدُ الفَتْكِ " (3)، و"مَنْ كَذَبَ علَيَّ
__________
(1) انظر " المنتقى " مع شرحه " نيل الأوطار " 5/ 63. وحديث الحارث بن بلال عن أبيه رواه أبو داود (1808)، والنسائي 5/ 179، وأحمد 3/ 469، وهو ضعيف لجهالة الحارث. وانظر " زاد المعاد " 2/ 189 - 194.
(2) في " صحيحه " (1224) قال: كانت المتعةُ في الحجِّ لأصحابِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - خاصة.
قال ابن القيم في " زاد المعاد " 2/ 194: وأما ما رواه مسلم في " صحيحه ": عن أبي ذر، أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة، فهذا إن أريدَ به أصلُ المتعة، فهذا لا يقولُ به أحدٌ من المسلمين، بل المسلمون متفقونَ على جوازِها إلى يومِ القيامة، وإن أريد به متعةُ الفسخ، احتملَ الوجوهَ الثلاثةَ المتقدِّمة. وقال الأثرمُ في " سننه ": وذكر لنا أحمدُ بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي حدثه عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبي ذر في متعةِ الحجِّ كانت لنا خاصة. فقالَ أحمدُ بن حنبل: رَحِمَ اللهُ أبا ذر، هِيَ في كتاب الله عز وجل: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ}.
(3) حديث صحيح بشواهِدِهِ. رواهُ من حديث معاوية: أحمد 4/ 92، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/ 189، والحاكمُ 4/ 352، والطبراني في " الكبير " 19/ (723)، والقضاعي في " مسند الشهاب " (863)، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.
ورواه من حديث أبي هريرة: أبو داود (2769)، والحاكم 2/ 352، وفي سنده عبدُ =(3/203)
مُتَعَمِّداً" (1)، و" مَنْ مَاتَ بِغَيرِ إمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " (2)، و" العَيْنانِ وِكَاءُ السَّهِ " (3)، و" العُمرى جائزة (4)، والنّهْي عن
__________
= الرحمنِ بنُ أبي كريمة والد السدي، وهو مجهول الحال.
ورواه من حديثِ الزبيرِ: أحمدُ 1/ 166 و167، وابن أبي شيبة 15/ 279، وفيه عنعنة الحسن.
ورواه من حديث عمرو بن الحمق: القضاعي في " مسند الشهاب " (164)، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف.
ورواه الطحاويُّ في " مشكل الآثار " رقم (203) بتحقيقِنا، وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 24 والطبراني في " الصغير " (584) من طرق عن السدي -إسماعيل بن عبد الرحمن- عن رفاعة بن شداد الفِتياني، عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أمَّنَ رجلا على دمِه، فقَتلَه، فأنا بريءٌ مِنَ القاتِل وإنْ كانَ المقتولُ كافراً " وهذا سند حسن. وصحَّحَه ابن حبان (1682).
ورواه الطبرانيُّ في " الصغيرِ " (38) من طريقِ هُدبة بن خالد، عن بيان بن بشر، عن رِفاعة، به.
ورواه ابنُ ماجه (2688)، والطحاوي (201) و (202)، وأحمد 5/ 223 و224، والنسائي في " الكبرى " كما في " التُّحفة " 4/ 59 - 60 من طريق عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد الفِتياني قال: لولا كلمةٌ سمعتُها من عمرو بن الحمق الخزاعي لمشيتُ فيها بين رأسِ المختار وجسدِه، سمعتُه يقولُ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ آمن رجلاً على دمِهِ فقتلَه، فإنه يحمل لواء غدْرٍ يوم القيامةِ ". وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات كما قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 172.
والفِتياني -بالفاء والياء-: نسبة إلى بطن من بجيلة من أهلِ اليمن، وقد تَصَحَّفَ في غير ما مصدر إلى " القتباني " بالقاف والباء، وتابعَ الألبانيُّ هؤلاء في " صحيحته " (441) على تصحيفِه، وضبطَهُ بالقاف المكسورة!
(1) رواه أحمد 4/ 100، والطبراني في " الكبير " 19/ (922). قال الهيثمي في " المجمع " 1/ 143: ورجاله ثقات.
ورواه الطحاوي في " مشكل الآثار " (395)، وهو حديث متواتر.
(2) رواه أحمد 4/ 96 من طريق أسود بن عامر، والطبراني 19/ (769) من طريق يحيى الحِمَّاني، كلاهما عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح السمان، عن معاوية رفعه ... وهذا سند حسن.
(3) تقدم تخريجه ص 192.
(4) رواه أحمد 4/ 97 و99، والطبراني 19/ (733) من طرق عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يقول: =(3/204)
الإلحاف (1)، وتكفير الذُّنوب بالمصائب (2)، ولَعَنَ مشققي
__________
= قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " العُمرى جائزةٌ ". وهذا سند حسن.
ورواه الطبراني (734) من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، به.
وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه الجاري (2625)، ومسلم (1626)، وأبو داود (3548)، وأحمد 2/ 429 و489، والنسائي 6/ 277، والبغوي في " شرح السنة " (2197).
وآخر من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه أحمد 3/ 297، و303 و319 و360 و361 و363 - 364 و381 و392، والبخاري (2625) وبإثر الحديث (2626)، ومسلم (1625)، والنسائي 6/ 272 - 273.
وثالث عن سمرة، رواه أحمد 5/ 8 و13 و22، وأبو داود (3549)، والترمذي (1349).
ورابع عن زيد بن ثابت، وخامس عن ابن عباس رواهما النسائي 6/ 271 و272.
قال الإمام البغوي في " شرح السنة " 8/ 293 بتحقيقنا: العُمْرى جائزةٌ بالاتفاق، وهي أن يقول الرجلُ الآخرَ: أعْمَرْتُك هذه الدارَ، أو جعلتُها لكَ عمرك، فقَبِل، فهي كالهبة إذا اتَّصلَ بها القبضُ، ملكلها المعمَر، ونَفَذَ تصرُّفُه فيها، وإذا مات تُورثَ منه، سواءٌ قال: هي لعقبك من بعدك أو لورثتِك، أو لم يقُل، وهو قولُ زيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال عروة بن الزُّبير، وسليمانُ بن يسار، ومجاهد، وإليه ذهبَ الثوريُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأصحاب الرأي. قال حبيبُ بن أبي ثابت: كنَّا عند عبد الله بن عمر، فجاءه أعرابي، فقالَ: إني أعطيتُ بعضَ بنيَّ ناقةً حياتَه، وإنَّها تناتجت، فقال: هيَ له حياتَه وموته، قالَ: فإني تصَدَّقْتُ بها عليه، قال: فذلك أبعدُ لك منها.
وذهب جماعةٌ إلى أنَّه إذا لم يقلْ: هي لعقبك من بعدك، فإذا مات يعودُ إلى الأول، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيُّما رَجُلٍ أعمرَ عُمْرى له ولعقبِه ". وهذا قولُ جابر، ورُوي عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال: إنَّما العُمْرى التي أجازَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأمَّا إذا قال: هيَ لك ما عشت، فإنها ترجعُ إلى صاحبها. قال معمر. وكان الزهري يُفتي به، وهذا قول مالك، ويُحكى عنه أنه قال: العُمرى تمليكُ المنفعةِ دون الرقبة، فهي له مُدة عُمرِه، ولا يُورثُ، وإنْ جَعَلَها له ولعقبه، كانت المنفعةُ ميراثاً عنه.
(1) تقدم تخريجه ص 166 ت 1.
(2) رواه أحمد 4/ 98 من طريق يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن معاوية قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما مِن شيءٍ يُصيبُ المؤمنَ في جسدِه يؤذيه إلا كفَّر اللهُ عنه به من سيئاتِه "، وهذا سند قوي، رجاله رجالُ الشيخين =(3/205)
الكلامُ (1)، و" النّاسُ تَبَعٌ لقريش " (2)، و" إن وَليتَ، فاتَّقِ اللهَ وَاعْدِلْ " (3)، و" إِنَّ هذَا الأمْرَ في قُرَيْشٍ " (4)، وأنه - صلى الله عليه وسلم - مصَّ لسانَ الحَسَنِ، وَلَنْ يَدْخُلَ النار لسانٌ مصَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (5).
__________
= غير طلحة بن يحيى، وهو ابن طلحة بن عُبيد الله التيمي، فإنه من رجال مسلم، وصححه الحاكم 1/ 347 على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! وأورده الهيثمي في " المجمع " 2/ 301، ونسبه لأحمد. وقال: ورجاله رجال الصحيح.
ورواه الطبراني في " الكبير " 19/ (842) من طريق يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، به.
ورواه أيضاً (841) من طريق فروة بن أبي المغراء، حدثنا القاسم بن مالك المزني، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن معاوية. وهذا سند حسن في الشواهد.
وله شاهد من حديث السائب بن خلاد عند أحمد 4/ 56، وسنده ضعيف.
(1) رواه وكيع في " الزهد " (169) و (298)، ومن طريقه: أحمد 4/ 98، ولفظه: لَعَنَ رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم الذين يشققون الكلامَ تشقيقَ الشعر.
ورواه الطبراني 19/ (848)، وفي سنده عندهم جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف.
(2) رواه أحمد 4/ 101 من طريق أبي نعيم، حدثنا عبد الله بن مبشر مولى أم حبيبة، عن زيد بن أبي عتاب، عن معاوية قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يقول: " الناسُ تبَعٌ لقريش في هذا الأمرِ، خِيارُهم في الجاهلية خِيارُهم في الإسلامِ ... ".
وفي الباب عن جابر بن عبد الله عند أحمد 3/ 331، ومسلم (1819).
وعن أبي هريرة عند البخاري (3495)، ومسلم (1818)، والطيالسي (2380)، وأحمد 2/ 242 - 243.
(3) رواه أحمد 4/ 101 من طريق روح، حدثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد سمعت جدي يُحدثُ أن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة يَتْبَعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بها، واشتكى أبو هريرة، فَبَيْنَا هو يوضىءُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، رَفَعَ رأسَهُ إليه مرة أو مرتين، فقال: " يا معاويةُ إن وَلِيتَ أَمْراً، فاتَّقِ اللهَ عز وجل، واعْدِلْ "، قال: فما زلتُ أظنُّ أني مُبتلى بعمل لقول النبي صلى اللهُ عليه وسلم حتى ابتليت.
(4) تقدم تخريجه ص 167.
(5) رواه أحمد 4/ 93 من طريق هاشم بن القاسم، حدثنا حريز، عن عبد الرحمن بن عوف الجرشي، عن معاوية قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُصُّ لسانَه، أو قال: شفته -يعني الحسن بن علي- صلوات الله عليه، وإنه لن يُعَذَّبَ لسانٌ أو شفتان مصَّهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وهذا سند صحيح إن كان حريز هو ابن عثمان كما قيَّده الذهبي في " النبلاء " 3/ 259، وقد تصحف في المطبوع من " المسند " إلى " جرير ".(3/206)
فهذا جميع ما لمُعَاوِيَةَ في الكتب السِّتَّةِ، و" مسند أحمد " حَسْبَ معرفتي، وجملتُها سِتُّون حديثاًً ما صَحَّ عنه وما لَمْ يصِحَّ، المتَّفق على صحَّته عنه أربعة، وهي: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء، وأنَّها لا تزالُ طائفةٌ مِنَ الأُمَّةِ ظاهرين على الحقِّ، وأنَّ صومَ (1) عاشوراء غَيْرُ واجبٍ، وأنّه قصَّر للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن شعره في حِجَّة الوَدَاع، هذا جميعُ ما اتَّفقوا على صحَّته عنه.
وما سواه جميع ما رُوِيَ عنه ممّا لم يتَّفِقُوا على صحَّتِهِ، وإن سقط من ذلِكَ شيءٌ، فهو اليسيرُ، وأرجو أن لا يكونَ فاتني من ذلك شيء (2) إن شاء اللهُ تعالى، وهو أكثرُ الجماعة المذكورين حديثاًً، وهو مُقِلٌّ جداً بالنَّظَرِ إلى طُولِ مدَّته، وكثرة مخالطته، وليس فيما صحَّ عنه بوفاق شيء يُوجِبُ الرِّيبة والتُّهمة، ولا فيما رواه غَيْرُهُ مِنْ أصحابه، فبان أنّ الأمر قريبٌ، مَنْ قبِلَ حدِيثَهم، فلم (3) يقبل منه حديثاً منكراً، ومَنْ لم يَقْبَلْهُ، استغنى بحديثِ غيرهم مِنَ الصَّحابة الَّذين وافقوهم على رواية مثل (4) ما رووه مِمَّنْ ذَكَرْتُ، وَمِمَّن لم أذْكُرْ، فإنِّي لم أسْتَقْصِ، ولا سبيلَ إلى الاستقصاء، فَمَنْ أحبَّ الزِّيادة على ما ذكرتُهُ من معرفة مَنْ وافقهم، فليطالِعْ ذلِكَ في مظانِّه مِن كُتُبِ الحديثِ البسيطة مثل " مجمع الزوائد " للحافظ الهيثمي، فإنه أجمعُ كتابٍ لذلك، ولم أتعرَّض لنقل ما فيه مِنْ ذلكَ، ولا أعلمُ في حديث هؤلاء شيئاً (5) مما يُتَّهم فيه راويه (6) إلا حديثاًً
__________
(1) في (ب): صوم يوم.
(2) في (ج) و (ش): شيء من ذلك.
(3) في (ش): ولم.
(4) " مثل " ساقطة من (ب).
(5) في الأصول " شيء "، وكتب فوقها في نسخة (أ): " شيئاً ظ ".
(6) في (ب) و (ش): رواته.(3/207)
واحداً رُوِيَ عن عمرو بن العاص بغير اللفظ المعروف في الصَّحاح، ولم يصحَّ بذلكَ اللّفظ المنكر، وله به معنى صحيحٌ محتملُ، لكنه لم يصحَّ ذلِك اللفظ كما نوضِّحُه، بل تفسيرُهُ الصَّحيحُ يُنَافي ما ذكره مِن التُّهْمَةِ لَهُ في ذلِك، وذلِكَ ما أخرجه البخاريُّ في الأدب في الباب الرابع عشر منه، وهو باب تُبَلُّ (1) الرَحِمُ ببلالها، ومسلم في كتاب الإيمان، كلاهما من طريق محمد بنِ جعفر غندر، عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيسِ بنِ أبي حازم، عن عمرو بن العاص، قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ جِهاراً غَيْر سِرَارٍ (2) " آلُ أبي فُلانٍ لَيْسوا بأوليائي، إنَّما وَليي اللهُ وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ " (3) خرَّجَاه، قال البخاري: زاد عنبسةُ بن عبدِ الواحد، عن بيان، عن (4) قيس، عن عمرو " لكن (5) لهُمْ رَحِمٌ أبُلُّها بِبَلاَلِهَا " هذا لفظ البخاري، وهو الحديثُ العشرون من مسند عمرو في (6) " جامع ابن الجوزي "، ولفظ أحمد بن حنبل في " المسند " مثل البخاري ومسلم لم يُسم أحدٌ منهم هؤلاء المذكورين، وفي " صحيح البخاري " " آلُ (7) أبي " من غير ذكر شيءٍ بعدَه، وفيه قال عمرو بنُ عباسٍ الراوي في " صحيح البخاري ": عن محمد بنِ جعفر، في (8) نسخة محمد بن جعفر بياض،
__________
(1) في (ش): ما تبل.
(2) ساقطة من (ش).
(3) رواه البخاري (5990)، ومسلم (215)، وأحمد 4/ 203. وقد تقدم في الجزء الثاني ص 401. وانظر " فتح البارى " 10/ 419 - 423، و" شرح مسلم " للنووي 3/ 87 - 88.
(4) تحرفت في (ش) إلى: بن.
(5) في (ش): ولكن.
(6) في (ش): وفي: وهو خطأ.
(7) تحرفت في (ش) إلى: إلى.
(8) في (ش): يحيى، وهو خطأ.(3/208)
يعني بَعْدَ " آل أبي "، وهذا هُو الّذي ذكره القاضي العلاّمة عياض المالكي في كتابه " إكمال المُعْلِم بفوائد شرح مسلم " (1)، وفسَّر ذلك بالحكمِ بن أبي العاص طريدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك العلامةُ النَّواوي في " شرحه " لمسلم، وكذلِكَ العلاَّمة ابن حجر فسر ذلك بآلِ أبي العاص، وقد ثبت أنَّ إبهامَ هؤلاء وقع قبل اتِّصال الحديثِ بالبخاري ومسلم، إن ثبت ذلك الإبهامُ، فإنَّ في " صحيح البخاري " في رواية عمرو بن عباس شيخ البخاريِّ فيه: أنَّ في كتاب محمد بن جعفر غُندر عن (2) شُعبة بياضاً في ذلِكَ الموضع، فيحتمل أنَّ شُعبة الّذي حذف ذلكَ عمداً، ويحتمل أنَّ الذي حذفه مَنْ قَبْلَهُ، وبيَّض لبيان ذلك حين (3) يقع له كما هو عادة المصنِّفين (4) التبييض لمثل ذلِك، بَلِ الظَّاهر أنَّ عمرو بنَ العاص هو
__________
(1) لقد شرح الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد التميمي المازري المتوفى سنة 536 هـ " صحيح مسلم " بكتاب سماه " المُعْلِمَ بفوائد مسلم "، ولكنه لم يُِتمَّه، فجاء القاضي عياض بن موسى اليَحصِبي المتوفى سنة 544، فأتمه بكتابه " إكمال المعلم بفوائد مسلم " وكلاهما لم يُطبع. وانظر نسخهما الخطية في " تاريخ التراث العربي " 1/ 264 - 265 لفؤاد سزكين.
وممن شرح " صحيح مسلم ": الإمام أحمد بن عمر الأنصاري القُرطبي المتوفى سنة 656 هـ المحدث، شيخ صاحب التفسير، وسماه " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم "، ومنه عدة نسخ خطية. انظر "تاريخ التراث العربي" 1/ 266.
وممن شرح " صحيح مسلم " أيضاً: محمد بن خِلْفة بن عمر الأُبي التونسي، المتوفى سنة 827 هـ، ويضم شرحه هذا شروح المازري، والقاضي عياض، والقرطبي -المحدث لا المفسر- والنووي مع زيادات من شيخه ابن عرفة، وسماه " إكمال إكمال المعلم "، وهو مطبوع في سبع مجلدات بالقاهرة سنة 1328.
ولعلامة الهند شبير أحمد الديربندي العثماني المتوفى سنة 1369 هـ شرح حافل طبع منه ثلاث مجلدات ضخمة في دلهي، وتوفي المؤلف قبل إكماله.
(2) في (ب): " بن "، وهو خطأ.
(3) في (ب): حتى.
(4) في (ش): المصنف من.(3/209)
الذي حذفه، فلا عَتْبَ (1) على صاحِبَيِ " الصَّحيح " في إثبات الحديث، فإنَّهما إنَّما (2) أثبتاه لفائدةِ البراءِ من أعداءِ الله، وتخصيص الموالاة لأوليائه كما قال النَّواوي في " شرح مسلم "، وعلي بن خلف بن بطال في " شرح البخاري " على (3) أنّ ابن بطَّال جعل الرواية: " إنَّ آلَ أبي ليْسُوا بِأوْليَائي " بإثبات ضمير المتكلِّم، وحذف " فلان " وذلكَ ظاهرُ المنصوص في " الصَّحيحين "، وهذا لفظه في شرحه، قال (4): قال المهلب: " إنَّ آلَ أبي لَيْسُوا بأوليائي، إنَّما (5) ولِيي الله، وَصَالِحُ المُؤمِنِين "، فأوجب عليه السلامُ الولاية بالدِّين، ونفاها عَنْ أهلِ رَحِمِهِ إذا لم يكونوا منْ أهل دينه، فدلَّ بذلكَ أنَّ النَّسبَ محتاجٌ إلى الولاية الّتي بها (6) تقع الولايةُ بين المتناسبين والأقارب، فإنْ لم يكُنْ دينٌ يجمعهم، لم تكن ولاية، ولا موارثة، ودلَّ هذا أن الرَّحِمَ التي تضمَّن اللهُ أن يَصِلَ مَنْ وصَلَهَا، ويقطعَ منْ قطعها، إنما ذلِكَ إذا كان في الله تعالى وفيما شرع، وأما مَنْ قطعها في الله، وفيما شرع، فقد وصل الله والشَّريعة، واستحقّ صلةَ اللهِ بقَطْعِه مَنْ قَطَعَهُ اللهُ، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فكيف بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَقَوْله: "ولكِنْ لَهُمْ
__________
(1) في (ش) و (ج): عيب.
(2) سقطت من (ب).
(3) في (ب): وعلى.
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ب): وإنما.
(6) كذا الأصول، وقد كتب فوق نسخة (ش): " إلى الدين الذي به "، وأثبت بجانبها " ظ "، وربما يكون ذلك من الإمام الشوكاني صاحب النسخة.(3/210)
رَحِمٌ أبُلُّها بِبِلالِها"، -يعني أصِلُهَا معروفاً- إلى قوله: قال المهلَّبُ: هو الذِي أمر اللهُ به في كتابه فقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، فلمَّا عَصَوْهُ وعاندوه، دعا عليهم قال: " اللهم أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ "، فلمَّا مسَّهُمُ الجوعُ، أرسلوا إليه: فقالوا: يا مُحَمَّد، إنَّكَ أمرت بِصِلَةِ الرَّحِمِ، إنَّ أهلك قد جاعوا، فادْعُ الله لهم، فدعا لهم (1) بعد أن كان دعا عليهم، فوصلُه رَحِمَهُ فيهم بالدُّعاءِ لهم، فذلك ما (2) لا يَقْدَحُ في دينِ الله، ألا ترى صُنْعَهُ عليه السلام فيهم، إذ (3) غَلَبَ عليهم يَوْمَ الفتح كما أطلقهم مِنَ الرِّقِّ الذي توجه إليهم، فسُمُّوا بذلِكَ الطُلقاءَ، ولم ينتهِكْ حريمهم (4)، ولا استباحَ أموالهم، ومنَّ عليهم، فهذا كُلُّهُ مِنَ البلال. انتهى بحروفه.
وقال في تفسير " البلال " مثل ما ذكره ابنُ الأثير في " الجامع " (5) في تفسير الحديث في صِلَةِ الرَّحم من حرف الصَّاد.
ويعضُد ما ذكره ابنُ بَطَّال من تصحيح هذا الرِّواية بهذا المعنى وعَدَمِ الالتفات إلى غيرها ما خرَّجه الحاكم في تفسير سورة الأنفال من حديث إسماعيل بني عُبَيْدِ بنِ رِفاعة، عن أبيه، عن جدِّه رِفاعة، قال: جمع رسول الله قريشاً، قال: " هلْ فِيكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ "، قالوا: فينا ابنُ أختنا، وفينا حلِيفُنا، وفينا مولانا، فقال: "حَلِيفُنَا مِنَّا، وابنُ (6) أُخْتِنَا
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) " ما " ساقطة من (ب).
(3) في (ب): " إذا "، وهو خطأ.
(4) في (ش): حريم.
(5) " جامع الأصول " 6/ 491.
(6) في (ش): ومنا ابن.(3/211)
منَّا، وَموْلانا مِنَّا إنّ أَوْليَائي مِنْكمْ المُتَّقُونَ" (1). قال الحاكم: صحيح الإسناد، فهذا الحديثُ شبيهٌ بذلك، وشاهدٌ له أو هو هو، وهو جديرٌ أن يَدْخُلَ في مناقب آل أبي طالب، فإنَّهُمْ داخلون في المتقين.
وفي " مجمع الزوائد " (2) في فضل قريش أنه رواه البزَّار، وأحمد باختصار، والطبراني بنحو البزَّار بأسانيد، ورجالُ أحمدَ، والبزَّار، وإسناد الطَّبراني ثقاتٌ وفي صالح المؤمنين بالإجماع على كلِّ تفسير، وعلى كلِّ تقدير، بل هُمْ أئمَّةُ المتَّقين ورؤوسُهما وكُبراؤهم وساداتهم. وعن أبي هُريرة مرفوعاًً نحوَ ذلك، رواه (3) الطَّبراني في " الأوسط "، والهيثمي في كتاب " الزهد " (4) في باب جامع في المواعظ، وعن معاذ مرفوعاًً مثلَ ذلِكَ رواه (5) الطبراني، سنده (6) جيد، ذكره الهيثمي (7) بعد ذلِكَ في باب بعدَ باب التَّعرض (8) لنفحات رحمة الله، فكيف أن يكونوا في " الصَّحيحين "
__________
(1) المستدرك 2/ 329 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) انظر " مجمع الزوائد " 10/ 26. ورواه أحمد 4/ 340، والبزار (2780)، والطبراني 5/ (4544) و (4545) و (4546).
(3) ساقطة من (ش).
(4) من " مجمع الزوائد " 10/ 288: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يا بني هاشمٍ، يا بني عبد المطلب، يا صفيةُ عمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يا فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا أعرفَنَّ ما جاءَ الناسُ غداً يحملون الآخرة، وجئتم تحملونَ الدنيا، إنما أوليائي منكم يومَ القيامة المتقون، إنما مثلي ومثلكم كمثلِ رجلٍ مستصبحٍ في قومه أتاهم، فقال: يا قومِ أُتيتُم غُشيتم واصباحاه، أنا النذير والموتُ المغيرُ، والساعة الموعد ". قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه زكريا بن يحيى الوقار، وهو ضعيف.
(5) في (ش): ورواه.
(6) في (ب) و (ش): وسنده.
(7) " الهيثمي " ساقطة من (ب). وهو في " مجمع الزوائد " 10/ 231.
(8) في (ش): التعريض.(3/212)
هُمُ الّذين نُفِيَتْ عنهمُ الوِلَايَة في نصِّ الحديث، وأنَّهم مع نَصِّ الحديث على نفي الولاية عنهم تعمدوا تصحيحَه لذلك، وهم أعلمُ وأتقى لله من ذلِكَ؟
وقال البخاري في تفسير سورة براءة، في باب قوله: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]: حدثني عَبْدُ الله بنُ محمد، قال: حدثني يحيى بنُ معين، قال: حدثنا (1) حجّاج، قال: حدثنا ابنُ جُريْج، قال لي ابنُ أبي مُليكة -وكان بينهما شيءٌ- فغدوتُ على ابن عبَّاس، فقلتُ: أتريدُ أن تُقاتِلَ ابنَ الزُّبير، فَتُحِلَّ حُرُمَ اللهِ؟ فقال: معاذَ الله؛ إنَّ الله كتبَ ابنَ الزبير، وبني أمية مُحِلِّين، وإنِّي والله لا أُحلُّهُ أبداً (2). هكذا في " البخاري " ذم بني أمية مصرَّحٌ غيرُ مُسَتَّرٍ ولا مُأوَّلٍ، لا في " صحيحه "، ولا في " شرحه "، وكتب هذا فيه (3) وخلَّده وأصحّه (4)، ولم يُؤخذ له منه أنّه منصف، بل، ولا سلم (5) معه مِنْ نسبته إلى تعمُّد ما (6) يعلم
__________
(1) في (ش): أخبرنا.
(2) أخرجه البخاري (4665)، وقوله: " وكان بينهما شيء " كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصاراً، ومراده ابن عباس، وابن الزبير، وهو صريح في الرواية التي قبل هذه (4664) حيث قال: قال ابن عباس حين وقع بينه وبين ابن الزبير.
وقوله: " كتب " أي: قدر، وقوله: " محلين " أي: إنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم. قال الحافظ: وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك -وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنما بدأ منه أولاً دفعهم عن نفسه- لأنَّه بعد أن ردَّهم الله عنه، حَصَرَ بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن لإباحته القتال في الحرم، وكان بعضُ الناسِ يُسمي ابنَ الزبير المحل.
وقوله: " لا أُحلُّه أبداً " أي: لا أبيحُ القتال فيه، وهذا مذهبُ ابنِ عباس أنَّه لا يقاتلُ في الحرمِ ولو قُوتلَ فيه.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ج): أوضحه.
(5) في (ش): نسلم.
(6) في (ش): مالا.(3/213)
تحريمه من بُغْضِ عليٍّ وأهل بيته، ورواية الموضوعات في مثالِبِهِم، بل ما سلم من نِسْبَةِ (1) ما لم يَرْوِه البتَّة إلى أنَّه في صحيحِهِ المشهورِ المعلومِ مع وجودِ صحيحه بين الناس، وظهور براءته عمّا رُمِيَ به، ووضوحِ السَّبيل إلى الطَّلب لذلِكَ في صحيحه، واختبار (2) صدق مَنْ رماهُ بذلِكَ أو كَذبه، لكنَّهُ قد كَثُرَ التَّقليدُ لسهولته، وتزيين (3) الشَّيطانِ لهُ، فَصُدِّقَ الكاذِبُ على البخاري مِنْ غيرِ أدنى بحث، ولا أقل عناية، فمِنْ ها هنا وقع الخَللُ، وفشا الجهْلُ، وعُورِضَ الحقُّ بالباطلِ (4)، فاللهُ المستعان.
وكُتب المحدِّثين مشحونةٌ بالتَّصريح بذمِّ بني أميَّة مِنْ دون تستُّر في ذلك ولا تقية، كما أنّها مشحونَةٌ بمناقِبِ العِترة الزَّكيَّة، مع أنهم في بلاد أعداءِ أهل البيت، وكفي لهم شاهداً على تحرِّي الصدق، وقوّة الأمانة بذلك، ففي " سنن الترمذي "، و" أبي داود " عن سفِينَة مولى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه (5) لمَّا روى حَديثَ: " الخِلَافَةُ بَعْدِي ثلاثُون سَنَّة، ثُمَّ يَكُون مُلْكُ " (6) قيل له: إنّ بني أمية يزْعُمونَ أنَّ الخلافَةَ فيهم، فقال: كذبوا بنو (7) الزَّرقاء، بل هُمْ ملوكٌ مِنْ شَرِّ الملوك. هذا لفظُ التّرمذي (8)،
__________
(1) في (ب): نسبته.
(2) في (ش): " واختيار " وهو تصحيف.
(3) في (ش): وتزين.
(4) سقطت من (ب).
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): تكون ملكاً.
(7) في (ب) و (ش): " بني "، وهو خطأ.
(8) (2226)، وهو حديث صحيح بشاهديه، وقد تقدم تخريجه 2/ 385.(3/214)
وقال: حديث حسن، ولفظ أبي داود (1): كَذَبَتْ استاه (2) بني الزرقاء، يعني بني مروان.
وفي " الترمذي " (3) من حديثِ الحسن بنِ عليٍّ عليهما السلامُ، أنَّه - صلى الله عليه وسلم - رأي بني أُمَيّة على منبره، فساءَه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
__________
(1) برقم (4646).
(2) تحرفت في (ش) إلى: " أشباه ".
(3) (3350) من طريق محمود بن غيلان، حدثنا أبو داوود الطيالسي، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني، عن يوسف بن سعد، قال: قامَ رجلٌ إلى الحسن بن علي بعدمَا بايَعَ معاوية، فقال: سَوَّدْت وُجُوهَ المؤمنين، أو يا مُسَوِّدَ وجوهِ المؤمنين، فقال: لا تُؤنِّبْني رَحِمَك اللهُ، فإنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أُرِيَ بني أُمية على منبره، فساءَه ذلك، فنَزَلَت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يا محمدُ، يعني نهراً في الجنة، ونزَلَتْ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يَمْلِكُها بنو أمية يا محمدُ. قال القاسمُ: فعدَدْناها، فإذا هي ألف شهر لا يزيد يومٌ ولا ينقص. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة، وثَّقَهُ يحيى القطان، وابن مهدي. وشيخه يوسف بن سعد -ويقال: يوسف بن مازن-: رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.
وقال ابن كثير في " تاريخه " 6/ 249 بعد أن ذكر كلام الترمذي: فقوله: " إن يوسف هذا مجهول " مشكل، والظاهر أنَّه أراد أنَّه مجهول الحال، فإنه قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد، وقال يحيى بن معين: هو مشهور، وفي رواية عنه قال: هو ثقة، فارتفعت الجهالة عنه مطلقاً، قلتُ: ولكن في شهوده قصة الحسن ومعاوية نظر، وقد يكون أرسلَها عمَّن لا يعتمد عليه، والله أعلم. وقد سألتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي -رحمه الله- عن هذا الحديث، فقال: هو حديث منكر. وأما قول القاسم بن الفضل -رحمه الله-: إنَّه حسب دولة بني أمية، فوجدها ألف شهر، لا تزيد يوماً ولا تنقصه، فهو غريب جداً، وفيه نظر، وذلك لأنَّه لا يمكن إدخال دولة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت ثنتي عشرة سنة، في هذه المدة، لا من حيثُ الصورةُ ولا من حيثُ المعنى، وذلك أنها ممدوحةٌ لأنَّه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.
وهذا الحديث إنما سيق لذمّ دولتِهم، وفي دلالة الحديثِ على الذمِّ نظرٌ، وذلك أنَّه دلَّ على أن ليلة القدَرِ خيرٌ من ألفِ شهر التي هي دولتهم، وليلةُ القدر ليلةٌ خيرة، عظيمةُ المقدار والبركة، كما وصفَها الله تعالى به، فما يلزمُ من تفضيلها على دولتِهم ذمُّ دولتهم، فليتأمَّل هذا، فإنه دقيق يدُلُّ على أن الحديث في صحتِه نظرٌ، لأنَّه إنما سيق لذم أيامِهم، والله تعالى أعلم.(3/215)
الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر] يمْلِكُهَا بعْدَكَ بنُو أُمَيَّة يا محمَّد، فكانت تلك مدَّتَهُم، لم تَزِدْ، ولم تنْقُصْ.
وفي " مسند أحمد بن حنبل " عن عُمَر بن الخطاب، أنَّه وُلدَ [لأخي أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -] غلامٌ، فَسَمَّوْهُ (1) الوليدَ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " سَمَّيْتُمُوه بِأسْمَاءِ فَرَاعنَتِكُمْ، لَيَكُونَنَّ في هذِهِ الأُمَّةِ رجُلٌ يُقَالُ لَهُ الوَليدُ، لَهو أَشَرُّ عَلَى هذِه الأُمَّةِ منْ فِرْعَوْن لِقَوْمهِ " (2).
ورواه الهيثمي الشافعي في " مجمع الزوائد " (3) في باب فتنة الوليد، وقال: رجاله ثقات.
وروى من هذا شيئاً كثيراً في مواضِعَ متفرقة، منها في تفسيرِ قوله
__________
(1) في (ب): " فسمَّاه "، وهو خطأ.
(2) رواه أحمد 1/ 18 من طريق أبي المغيرة، حدثنا ابن عياش، حدثنا الأوزاعي وغيره عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " المسند " (109) إسنادُه ضعيف لانقطاعه، سعيد بن المسيب لم يُدرك عمر إلا صغيراً، فروايته عنه مرسلة إلا رواية صَرَّح فيها إنَّه يذكر فيها يومَ نَعَى عمرُ النعمان بن مقرِّن على المنبر، ثم إن ذكر عمر في الإسناد خطأ، لعلَّه من ابن عياش، وهو إسماعيل بن عياش، قال الحافظ في " القول المسدَّد " ص 15: " وغاية ما ظَهرَ في طريق إسماعيل بن عياش من العلة أنَّ ذكر عمر فيه لم يُتابع عليه، والظاهرُ أنَّه من رواية أُمِّ سلمة، لإطباق معمر، والزبيدي عن الزهري، وبشر بن بكر، والوليد بن مسلم عن الأوزاعي على عدم ذكر عمر فيه ". وهذا أيضاًً ليس بشيء، لأنِّي لم أَجِدْ في الروايات التي ذكرها الحافظ أن ابنَ المسيب روى هذا الحديث عن أم سلمة، فإنَّ كُلَّ الرواياتِ عن ابن أم المسيب: " ولد لأخي أم سلمة ... الخ " ليس فيها: " عن أُمِّ سلمة ". وهذا الحديث مما ادَّعى فيه بعضُ الحفاظ أنَّه موضوع، منهم الحافظ العراقي، وقد أطال الحافظُ ابنُ حجر الردَّ عليه لإثباتِ أنَّ له أصلاً في كتاب " القول المسدَّد " ص 5 - 6 و11 - 16، وفي كثير مما قال تكلفٌ ومحاولةٌ. والظاهرُ عندي ما قلت: إنه ضعيفٌ لانقطاعِهِ.
(3) 7/ 313، ونسبه لأحمد.(3/216)
تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] من حديث عبدِ الله بنِ عمرو بن العاص، عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أَشْقى النَّاسِ ثَلَاثةٌ: عاقِرُ نَاقَةِ ثَمُود، وابْنُ آدَمَ الذي قَتَلَ أَخَاه، وقاتِل عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عنْهُ " (1).
فكيف نتركُ معرفة صِدْقهم وتحرِّيهم مِنْ هذه الأشياء الجليَّة الكثيرة الطَّيِّبة، ونتكلَّف نقيضَ ذلك ممَّا لم يَكُنْ؟
وعلى تقدير ثبوتِ آل فلان في الحديث، فقد تطابقوا على تفسيرهم بآلِ أبي العاص، وهو الحَكَمُ بنُ أبي العاص طريدُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولده، كما جاء صَرِيحاً كثيراً كما يأتي قريباً في هذا الكتاب، وأنَّه قولُ أهلِ السُّنَّة يُصَرِّحُون به لا يكتمونه، فمِمَّن نصَّ على ذلك القاضي عياض في كتابه " إكمال المعلم بفوائد شرح مسلم "، وهو أشهر شروح مسلم، ولم يعترضه في ذلك أحدٌ، بل قرَّره النَّواوي على ذلك (2)، وهما إماما الطَّائفتين العظيمتين: الشَافعية والمالكية، وإماما الحديثِ النَّبوي متناً،
__________
(1) " المجمع " 7/ 14 ولم ينسبه لأحدٍ، وقال: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وذكره السيوطي في " الدر المنثور" 3/ 61 - 62، ونسبَه للطبراني، وهو في " حلية أبي نعيم " 4/ 307 من طريق محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحكيم بن جبير ضعيف.
ورواه البيهقي في " دلائل النبوة" 3/ 12 - 13 من طريق محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن محمد بن خُثيم، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خثيم أبي يزيد، عن عمار بن ياسر قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: " يا أبا تراب " -لما عليه من التراب- فأخبرناه بما كان من أمرنا، فقال: " ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين "؟ قلنا: بلى يا رسولَ الله، فقال: " أُحَيْمر ثمود الذي عَقَرَ الناقةَ، والذي يضربُك يا عليٌّ على هذه "، ووضع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدَه على رأسه " حتى يَبُلَّ منها هذه "، ووَضعَ يده على لحيته. وسنده محتمل للتحسين.
وأورده السيوطيُّ في " الدر المنثور " 8/ 531، وزادَ نسبتَه لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبغوي.
(2) انظر" شرح مسلم " 3/ 87 - 88.(3/217)
وسنداً، وشرحَ غريبٍ، وبيان مجملٍ: وكشف مُشْكِلٍ. وكذلك ذكر ذلك العلامة أحمدُ بنُ علي العسقلاني المعروف بابن حجر في مقدمة " شرحه " للبخاري (1)، وهؤلاء وجوهُ علماءِ السُّنَّةِ وأَئِمَّتهم، وطريق معرفتهم لِذلكَ من كتب (2) المستخرجات على " الصحيحين "، وسائر ما ورد من الأحاديث، فإن أَهْلَ المستخرجات يذكرون أحاديث الصحيح مِنْ غيرِ طريق صاحبه بزيادةِ بيانٍ، وتتمَّةِ نقصٍ، ونحوِ ذلك، وسائرُ الأحاديث تدلُّ على ذلك، فإنَّ السُّنَّة يفسِّرُ بعضُها بعضاً، كما أنَّ القرآن يفسِّرُ بعضُه بعضاً.
وقد ورد في آل أبي العاص مِنَ اللَّعْنِ والذَّمِّ في الأقوال، والنَّفي والطَّرد في الأفعال ما يدلُّ على أنَّهم المتبرَّأُ منهم جهاراً غير سرارٍ (3) كما يأتي، وإنَّما كَتَمَ الذي كتمه تقيَّةً مِنْ عظيمِ المضرَّة كما قال أبو هريرة في الوِعاءِ الذىِ كتمه من حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنَّه لو بثَّه، لقطِعَ هذا البُلعوم (4)، وقد فسَّره شراح الحديث بنحو هذا.
فأمَّا قولُ منْ قالَ: إنَّهم آلُ أبي طالب عليهم السَّلام، فهذا مِنْ أسمج المقالات القبيحة، والصِّحاح مُنزَّهَةٌ وأهلُها عن تدوين مثلِ هذا، وإنَّما هذا تصحيفٌ من بعض النَّواصب، حَمَلَهُ الغيظُ على تزوير ما لا يمضي.
وهَبْك تقُولُ هذا الصُّبْح لَيْلٌ ... أَيَعْمى العَالَمُونَ عَنِ الضِّيَاءِ؟
__________
(1) انظر " فتح الباري " 10/ 419 - 423.
(2) في (ب): طرق.
(3) في (ب): " سراراً " وهو خطأ.
(4) تقدم تخريجه في 2/ 400.(3/218)
وقد قال بعضُ النَّاس ما معناه: إنَّه عليه السلام أرادَ: أولياؤه صالحوا المؤمنين مِنْ آل أبي طالب وغيرِهم، وأنَّه لا يقتصر على تولي آلِ أبي طالبٍ دونَ غيرهم مِنْ صالحي المؤمنين كعادَةِ الرب، وهذا معنى صحيحٌ لو كان إليه حاجةٌ، لكنْ لا حاجة إليه، وفي الحديث زيادةٌ ذكرها البخاريُّ تستلزِمُ القَطْعَ على أنَّهم ليسوا (1) آل أبي طالب، وذلك قولُه في آخره في بعض الرِّوايات " ولكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أبُلُّهَا ببَلاَلِها " وليس يُسْتنْكَرُ أنَّ (2) عمرو ابن العاص يروي هذا في آل أبي العاص بن أمية، وقد صحَّ أنَّه كان يُجاهِرُ معاوية بالثَّناء على أميرِ المؤمنين، وفي " مسند أحمد " بسند صحيح أنَّه جاهر مُعاويَة بحديثِ عمَّار العظيم، وفَزِعَ مِنْ قتله، وقال له معاوية: ما أفزعك؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تقتله (3) الفِئَةُ الباغِيَةُ " (4)، وكذلك ولده عبد الله قال عند معاوية لرجلين يختصمان أيُّهما قاتله: لِيطِبْ (5) أحدُهما به نفساً، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ "، وردَّ على معاويةَ تأويله في ذلك (6).
وأما حديثُ عمرو أنه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليك؟ قال: " عائشةُ "، قلتُ: مِنَ الرِّجال؟ قال: " أبوها " (7)، وهو من
__________
(1) في (ش): غير.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): تقتلك.
(4) رواه أحمد 4/ 197.
(5) في (ش): " ليطيب " وهو خطأ.
(6) رواه أحمد 2/ 164 - 165. وحديث " تقتُلُكَ الفئةُ الباغية " حديث متواتر، تقدم تخريجه 2/ 170.
(7) رواه البخاري (662) و (4358)، ومسلم (2384)، والترمذي (3885)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 154، وفي " فضائل الصحابة " (5)، والحاكم 4/ 12.(3/219)
حديث خالدٍ الحَذاء، عن أبي عثمان النَّهديَ، عن عمرو، وأوَّلَهُ (1) أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّره على جيش ذي السَّلاسل، فليس هُوَ مِنْ هذا القبيل، ويشهدُ له " لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ خلِيلاً، ولكِنْ خُلَّة الإِسْلاَمِ أفْضَلُ " رواه البخاريُّ (2) من حديث ابنِ عباس، ورواه مسلم، والترمذيُّ من حديث ابن مسعود، وفيه " ولكِنْ صاحِبُكُمْ خَليلُ اللهِ "، وفي رواية " وَقَدِ اتَّخَذ اللهُ صاحِبَكُم خَلِيلاً " (3). ورواه مسلم (4) أيضاًً عن جندب بن عبد الله نحو حديث (5) ابن مسعود.
وقد روى الحاكم (6) على تَشَيُّعِهِ عنِ أمِّ سلمة أنَّها لما سمعتِ الصَّرخة على عائشة، قالت: واللهِ لقد كانت أحبَّ النَّاسِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أباها. ذكره الذَّهبيُّ، وقال: إسنادهُ صالح. والحاكم لا يُتَّهَمُ في ذلك، فإنَّه شيعيٌّ، وأمُّ سلمة فأبعدُ مِنَ التُّهمة، فإنَّها ضَرَّةُ عائشة، ولكن ذلكَ في أحبِّ الناس إليه، لا في أحبِّ أهلِه إليه الَّذين هم أحبُّ الناس إليه.
وقد روى التِّرمذيُّ (7) من حديث عائشة أنَّه قيل لها: أيُّ الناس كان أحبُّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فاطمة مِنْ قِبل النِّساء، ومِنَ الرِّجال زوجُها، وإن كان ما علمتُ صوَّاماً قوَّاماً، وكذلك فليكُنِ الإنصافُ رضي الله عنهم.
__________
(1) في (ش): " أوله ".
(2) رواه البخاري (467) و (3656) و (3657) و (6738). وتقدم تخريجه 1/ 176.
(3) في (ب): بدل " خليلاً ": خليل الله، وفي رواية وقد اتخذ الله صاحبكُم.
(4) (538) في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.
(5) " نحو حديث " ساقطة من (ش).
(6) في " المستدرك " 4/ 12 - 13.
(7) رقم (3874) وقال: حديث حسن غريب، ورواه الحاكم 3/ 157، وصححه.(3/220)
وكذلك روى التِّرمذيُّ (1) مثلَه من حديث بُريدة، وذكر الترمذي نحو الجمع الذي ذكرتُه عن إبراهيم -يعني النَّخعي-.
والكلام فيما شجر بين الصحابة ممَّا (2) كثُرَ فيه المِرَاءُ والعصبِيَةُ مع قِلَّة الفائدة في كثيرٍ منه، وفي الحديث " مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَهُوَ مُحِقٌّ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً في رَبَضِ الجَنَّةِ " (3)، وقَدِ اقتصرتُ لأجل ذلك عَنْ كثيرٍ منه رغبةً فيما أعدَّ (4) اللهُ لمنْ تركَ المِرَاءَ بنِيَّةٍ صالحةٍ مَع القطع بأنَّ الحَقَّ مع أميرِ المؤمنينِ عليٍّ عليه السلامُ، وأنَّ مُحَارِبَه بَاغٍ عليه، مُباحُ الدَّم، خارجٌ عَنِ الطَّاعة والجماعة، وقد تقدَّم أو سيأتي أنَّ هذا إجماعُ الأُمَّةِ من رواية أئِمَّة (5) أهل السُّنَّةِ، دَعْ عَنْكَ الشِّيعة.
على أنَّ أحاديثَ هؤلاء الجماعة متميِّزةٌ عن غيرها، فلو قدَّرنا أنَّ حديثَهم نِصْفُ حديثِ الصَّحاح أو أكثره، لم يكن مانعاً من طلب ما في الصِّحاح من حديث الثقات المجمَعِ عليهم، ولا مُسْقِطَاً لوجوب ذلك، بل لو علم المكلَّفُ أنَّ فيها حديثاً واحداً (6) صحيحاًً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه عليه تكليفٌ، وبقيَّتُها أكاذيبُ وأباطيل، لوجب طلبُ (7) ذلك الحديث
__________
(1) (3868) وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو شاهد لحديث عائشة رضي الله عنها.
(2) في (ب): فيما.
(3) رواه من حديث أنس: الترمذي (1993)، وابن ماجه (51)، وفيه سلمة بن وردان، وهو ضعيف، ومع ذلك فقد حسَّنه الترمذي، ولعله لشاهده الذي رواه أبو داود (4800) من حديث أبي أمامة بلفظ: " أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ". وإسناده صحيح.
(4) في (ب): عند.
(5) " أئمة " ساقطة من (ب)، و" أئمة أهل " ساقطة من (ش).
(6) ساقطة من (ب).
(7) ساقطة من (ش).(3/221)
الصحيح، وقد سافر جابر بن عبد الله شهراً في طلب حديثٍ واحدٍ (1)، ولولا (2) عنايةُ أئِمَّة الحديث في حفظ الأسانيد والمتون، ما تميَّز حديثُ هؤلاء من غيره هذا التميُّز (3)، وعُرِفَ ما فيه ممَّا فيه نكارة، وما فيه ممَّا لا نكارَةَ فيه، فكيفَ يُتهمون بالعصبيَّة والإِضلال مع بيانهم لِمَا يتمكَّنُ الخصمُ به مِن الرد على بصيرة، أو القبول على بصيرة؟ وإنَّما يُتَّهمون بالإِضلالِ والغَرَرِ لو كتموا الأسانيدَ، وخَلَطُوا أحاديث (4) المختَلَفِ فيهم بأحاديث المُجْمَع عليهم، كما يصنعُ من يحذف (5) الأسانيد، ولا يذكر صحابيّاً ولا
__________
(1) علقه البخاري في " صحيحه " 1/ 173 في العلم، باب: الخروج في طلب العلم، وهو حديث أخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (970)، وأحمد 3/ 495، وأبو يعلى والخطيب في " الرحلة في طلب الحديث " ص 109 - 111 من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أن جابر بن عبد الله حدثه أنَّه بَلَغَه حديثٌ عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فابتعتُ بعيراً، فشدَدْتُ إليهِ رحلي شهراً، حَتَّى قدِمْتُ الشامَ، فإذا عبدُ الله بن أنيس، فبعثتُ إليه أن جابراً بالباب، فرجَعَ الرسولُ، فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخَرَجَ، فاعتنقني، قلتُ: حديث بلغَني لم أسمعْهُ، خشيت أنْ أموت أو تموتَ، قال: سمعتُ النبيَّ يقول: " يحشرُ الله العبادَ -أو الناسَ- عُراة غُرْلاْ بُهْماً "، قلنا: ما بُهْماً؟ قال: " ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعُهُ منْ بَعُد (أحسبُه قال: كما يسمعه مَنْ قرُب): أنا الملك لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخلُ الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخُلُ النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة " قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عُراة بُهْماً؟ قال: " بالحسنات والسيئات ". وصححه الحاكم 2/ 427 - 428، و4/ 574 - 575، ووافقه الذهبي، وهو حسن فقط، لأن عبد الله بن محمد بن عقيل لا يرقى حديثه إلى الصحة.
وله طريق آخر عند الطبراني في " مسند الشاميين "، وتمام في فوائده فيما ذكر الحافظ في " الفتح " 1/ 174، وفي " تغليق التعليق " 5/ 356 من طريق الحجاج بن دينار، عن محمد بن المنكدر عن جابر ... قال الحافظ: وإسناده صالح.
وله طريق ثالثة عند الخطيب في " الرحلة "، وفي سندها عمر بن الصبح، وهو متروك، وكذبه ابن راهويه، فلا يُفرح بها.
(2) في (ش): لولا.
(3) في (ب) و (ج): التمييز.
(4) في (ب): " الأحاديث "، وهو خطأ.
(5) في (ب): حذف.(3/222)
غيره، فتأمَّل ذلك.
واعلمْ أنَّ هذه الجملة كافيةٌ في الجواب على ما ذكره السيدُ في الموضع الثَّاني مِنَ المسألة الثَّانية، وتتبُّعِ كلامِهِ لفظةً لفظةً كما صنعتُ في جميع أوَّلِ رسالته يَطُولُ من غير طائلٍ، وليس فيه (1) أكثرُ مِنْ بيان ما يردُّ عليه مِنَ الإشكالات، وما في كلامه مِن المناقضات، ومجرَّدُ التَّتبُّعِ للعثرات ليس بمقصودٍ ما لم يكن فيه إيضاحٌ لِحَقِّ، أو دَلَالَةُ على هُدَىً، ولكن (2) لا بُدَّ من التَّنبيه على ما عَظُمَ مِنْ أوهامه أيده الله لأجل ما في معرفتها مِنَ النَّفع والفائده، لا لمجرَّدِ الاعتراض، فلو أردتُ الاستكثار مِنْ ذلِكَ، لاستوفيتُ الجواب على كتابه، وتتبَّعتُ (3) كُلَّ لفظةٍ من خطابه، لكنِّي كرهتُ ذلك لِمَا فيه من تضييعِ الوقت، وقِلَّةِ الجدوى، فلنقتَصِرْ على ذكرِ ما يُفيدُ من أوهامه أيَّدهُ الله.
الوهمُ الأول: قال أيَّده الله: إنَّ المحدِّثين يذهبونَ إلى أنَّ الصحابة لا يجوزُ عليهمُ الكبائِرُ، وأنَّهم إذا فعلوا المعصية الظَّاهرة، عَدُّوها صغِيرَةً. لكِنِ السَّيِّدُ سمَّاهم بغير اسمهم (4)، وهذا وهمٌ فاحش، فإنَّه قد قَدَّمَ أنَّ الصَّحابي عندهم هو مَنْ رأي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، والقولُ بعصمة مَنْ رأي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُنْقَلْ عن أحدٍ مِنَ الأُمَّة أبداً، بل ما نُقِل عن أحدٍ من العُقلاء، وهذه كتبُ المِلَلِ والنِّحَلِ موجودةٌ، والسَّيِّدُ مُطالَبٌ بنقل ذلك عن (5) ألفاظهم ونُصوصهم، وفي أيِّ كُتبهم قالوا ذلك، فأمَّا الذي وجدناه في
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ب): لكن.
(3) في (ش): أو.
(4) في (ب): أسمائهم.
(5) في (ب): من.(3/223)
كتبهم، فغيرُ ذلك، ولكنَّ بعضَهم قد يُطْلِقُ القولَ بعدالة الصَّحابة عموماً، لعُمومِ الثَّناء عليهم في القرآن والسُّنَّة، ثمَّ يَخُصُّون هذا العموم عند ذكر المجاريح المصرّحين مِنَ الصَّحابة، مثل الوليد بن عقبة (1)، وبُسْرِ بن أرطاة (2) كما سيأتي، كما خصَّه الله تعالى ورسولُه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، وحدَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِسْطَحاً (3) وغَيرِه على الإفْكِ، مع أنَّ مِسْطَحَاً بدريٌّ مِنْ خيرِ الصَّحابة، وكذلك حَدَّ عُمَرُ أبا بَكْرَةَ وصاحبيه على قَذْفِهِم للمغيرة، وجرَّحهم في الشَّهادة والرِّواية، وأقرَّته الصَّحابَةُ (4)، وحدَّ منهم جماعة في
__________
(1) انظر ترجمته في " السير " 3/ 412 - 416.
(2) انظر ترجمته في " السير " 3/ 409 - 411.
(3) هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي المهاجري البدري.
روى الإمام أحمد 6/ 35 من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، قالت: لما نزل عُذري، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك وتلا القرآن، فلمَّا نزلَ أمرَ برجلينِ وامرأةٍ فضربوا حدهم. وأخرجه أبو داود (4474) و (4475)، والترمذي (3181)، وابن ماجه (2567)، والنسائي في "الكبرى" كما في " التحفة " 2/ 409. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
ولما نزل القرآنُ في براءةِ الصديقةِ بنتِ الصديق، قال أبو بكر رضي الله عنه -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: واللهِ لا أنفقُ على مسطح شيئاً بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزَلَ الله: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو بكر: بلى واللهِ إني أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي، فَرجَعَ إلى النفقةِ التي كان ينفقُ عليه، وقال: واللهِ لا أنزعها منه أبداً. انظر البخاري (4750). توفي مسطح سنة أربع وثلاثين رضي الله عنه.
(4) في البخاري 5/ 255 في الشهادات، باب: شهادة القاذف، وجلد عمرُ أبا بكرة وشبل بن معبد، ونافعاً بقذف المغيرة، ثم استتابهم، وقال: من تاب، قبلت شهادته.
وَوصَلَهُ الشافعيُّ في " الأم " 7/ 41 قال: سمعتُ الزُّهري يقولُ: زعَمَ أهلُ العراق أن =(3/224)
معاصي التَّصريح مِنْ شُرب الخمر، والزِّنى والسَّرِقة، وهِيَ منْ معاصي التَّصريح والخِسَّةِ.
__________
= شهادةَ المحدود لا تجوزُ، فأشهدُ لأخبرني فلانٌ أن عمرَ بنَ الخطاب قال لأبي بكرة: تُبْ، وأقبل شهادتكَ، قالَ سفيانُ: سَمَّى الزهريُّ الذي أخبره، فحفظته، ثم نسيته، فقال لي عمر بن قيس: هو ابنُ المسيب. قال الشافعي: فقلت له: هل شككت فيما قال؟ قال: لا، قالَ الشافعيُّ: هو ابن المسيبِ بلا شك.
وأخرجَه ابنُ جرير في " جامع البيان " 18/ 76 من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيدِ بنِ المسيب أتم من هذا، ولفظه: أن عمر بن الخطاب ضربَ أبا بكرة، وشبلَ بن معبد، ونافعَ بن الحارث بن كلدة حدَّهم، وقال: منْ أكذبَ نفسه، أجزْتُ شهَادته فيما أستقبلُ، ومنْ لم يفعلْ، لم أُجِرْ شهادته، فأكذب شبلٌ نفسه ونافعٌ، وأبَى أبو بكرة أنْ يفعل. قال الزهريُّ: هو واللهِ سُنة، فاحفظوه.
وأخرجه سليمانُ بنُ كثير، عن الزهريِّ، عن سعيد بنِ المُسَيِّب أنَّ عمر حيث شهد أبو بكرة، ونافع، وشبل على المغيرة، وشَهِدَ زيادٌ على خلافِ شهادتهم، فجلَدَهم عمرُ، واستتابهم، وقال: مَنْ رَجَعَ منكم عن شهادته، قبلتُ شهادته، فأبى أبو بكرة أن يَرْجِعَ. أخرجَهُ عمرُ بنُ شبة في " أخبار البصرة " من هذا الوجه. وساقَ قصة المغيرة هذه من طرقٍ كثيرة، محصلُها أنَّ المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة لعمر، فاتهمه أبو بكرة -وهو نفيع- الثقفي الصحابي المشهور، وكان أبو بكرة، ونافع بن الحارث بن كَلَدَةَ الثقفي، وهو معدودٌ في الصحابة. وشِبْلٌ -بكسر المعجمة، وسكون الموحدة- ابن معبد بن عتيبة بن الحارث البجلي، وهو معدود في المخضرمين، وزياد بن عبيد الذي كان بعد ذلك يقال له: زياد بن أبي سفيان، إخوة من أُمِّ أمهم سُمية مولاة الحارث بن كلدة، فاجتَمعُوا جميعاً فَرَأوُا المغيرةَ مُتبطِّنَ المرأةِ، وكان يقالُ لها: الرقطاءُ أُمُّ جميل بنتُ عمرو بن الأفقم الهلالية، وزوجُها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجشمي، فرحَلُوا إلى عمر، فشكوه، فعزله، وولى أبا موسى الأشعري، وأحضرَ المغيرة، فَشهِدَ عليه الثلاثةُ بالزنى، وأما زيادٌ، فلم يبُتَّ الشهادة، وقال: رأيتُ منظراً قبيحاً، وما أدري أخالطها أم لا، فأمر عمرُ بجلدِ الثلاثة حدَّ القذف، وقال ما قال.
وأخرج القصة الطبراني (7227) في ترجمة شبل بن معبد، والبيهقي 8/ 234 و235 من رواية أبي عثمان النهدي أنَّه شاهدَ ذلك عند عمر، وإسناده صحيح.
ورواه الحاكمُ في " المستدرك " 3/ 448 - 449 من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة مطولاً، وفيها: " فقال زياد: رأيتهما في لِحافٍ، وسمعتُ نفساً عالياً، ولا أدري ما وراء ذلك ".(3/225)
فكيف يقولُ عاقِلٌ مع ذلِكَ: إنَّ عُموم الثَّناء غَيْرُ مخصوص؟ ولكنه خصوص (1) نادِرٌ، فهو فيهم كالشَّعرة السَّوداء في الثَّور الأبيض، فلذا تُرِكَ ذكرُه، وهو معروف في " الاستيعاب " لابن عبد البر وغيرِه مِنْ كتب الصَّحابة.
ولا شك في قَبُول الخُصوص وتقديمِه على العمومِ، فقد صحَّ تخصيص العموم (2) في كلام الله تَعالى، وهو أصدقُ القائلين، ولم يكن في ذلك مناقضةٌ ولا مكاذَبةٌ، بل قد صحَّ ذلك في كتاب الله في هذه المسألة بعينها، فقد أثنى الله سبحانه في كتابه على الصحابة عُموماً، ولم (3) يقدح في كتابِ الله بما يُوجَدُ مِن بعضهم كقوله تعالى (4): {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وكذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرةٍ تَقَصَّاها أبو عمر بنُ عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (5)، ولم يمنع ذلك مِنَ التَّخصيص، وكذلك عموم كلامِ المحدِّثين، فكيف يجوز (6) ذلك، والله تعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، والصِّحاح مشحونَةٌ بذكر مَنْ حدَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منهم في الإِفك، والزِّنى، والسَّرِقة مع خِسَّتِهما (7) كما تقدَّم بيانُه. وقد نصَّ الرَّازي في " محصوله " (8) على أنَّ الصَّحابة عدولٌ
__________
(1) في (ش): ولكن خصوصهم.
(2) عبارة " فقد صَحَّ تخصيصُ العموم " سقطت من (ب).
(3) في (ش): فلم.
(4) عبارة " كقوله تعالى " ساقطة من (ش).
(5) 1/ 3 - 8.
(6) في (ب): يقول.
(7) في (ش): " حسنهما "، وهو خطأ.
(8) 2/ 1/437.(3/226)
عندهم في الظَّاهر ما لم يأتِ له مُعارض. هكذا لفظُه، وهو يُفِيدُ خلافَ ما ذكره السَيِّد، وأنَّ القوم يعتقدون زوالَ عدالةِ الصَّحابي عند ورود ما يَدُلُّ على الجَرْحَ.
وقد حكى ابنُ عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (1) عن جماعة: أن الوليدَ بن عُقبة (2) كان فاسقاً، شِرِّيباً للخمر بهذا اللَّفظ، مع إجماعهم أنَّه صحابي، وقال: إنَّه مِمَّن يُقْطَعُ بسوءِ حاله، وقُبْحِ فعاله، وقال: لم يرْوِ سُنَّةً يُحْتَاج إليه فيها.
وقال في بُسْرِ بنِ أرطاة: قال الدارقطني: كانت له صحبةٌ، ولم تكن له استقامةٌ بَعْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، هو الَّذي قتل طِفْلَيْنِ لعُبَيْد الله بنِ عبَّاسٍ، قال أبو عُمَرَ: وكان ابنُ معين يقولُ: إنَّه رجلُ سوءٍ، قال أبو عمر: ذلك (3) لعظائِمَ ارتكبها في الإِسلامِ، ثمَّ حكى أنَّه أوَّل من سَبَى المسلمات (4).
وذكر أحمدُ بن حنبل أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما يَدْعُ للوليدِ بنِ عُقبة ولم يَمسََّهُ لِسابق عِلْمِهِ فيه، وأنَّه لذلك حُرِمَ بَرَكةَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -. وكذلك الذَّهبي ذكره في " النبلاء " (5)، وذكر شربَه للخمر، ونزولَ القرآنِ بفسقه، وروى في ذلك حديثاًً مسنداً، وقال: إسناده قويٌّ، وسيأتي بيانُ ذلك في ترجمة الوليد.
__________
(1) 3/ 633.
(2) " ابن عقبة " ساقطة من (ش).
(3) في (ب): " ولذلك " وهو خطأ.
(4) " الاستيعاب " 1/ 161 - 170.
(5) 3/ 415، وتمام كلامه بعد قوله: " إسناده قوي ": لكن سياق الآية يدل على أنها في أهل النار.(3/227)
وقال الذهبي في كتابه في (1) " المشتبه " (2): إنَّ لعبدِ الرحمن بن عُدَيْس (3) صحبة وزَلَّة، بهذا اللَّفظ. وهذا عكس ما اعتقده السيِّد، وقد ذكر المحدِّثون منِ ارتدَّ وكفر مِنَ الصَّحابة بعد إسلامه وصُحبته في كتبِ معرفة الصَّحابة، والكفرُ أعظم الكبائر بإجماعِ أهل الإسلام وسائرِ الأديان (4) من (5) اليهود والنَّصارى وأمثالهم.
وقَدِ احتجَّ ابن عبد البر على تخصيص أدلَّةِ تعديلِ الصَّحابة بحديث: " فأَقُولُ: أَصْحَابي، فيقال: إنَّكَ لا تَدري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ " (6)، وذكر أنَّ في هذا أحاديث كثيرة تقصَّاها في " التّمهيد ". ذكر
__________
(1) " في " لم ترد في (ش).
(2) 2/ 488، وهذا الكتابُ يعتمده أهل العلم في ضبط ما يشتبه ويتصحف من الأسماء، والأنساب، والكُنى، والألْقاب مما اتفق وضعاً، واختلف لفظاً، وهو مشتملٌ على فوائد كثيرةٍ في بابه، إلا أنَّ الإمامَ الذهبيَّ رحمه الله بالغَ في اختصاره، وأحال على ضبطِ القلم دون الضبط بالحروف، مما دفعَ بالإمامِ الحافظِ محدث الديار الشامية ومؤرخها شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الدمشقي المتوفَّى سنة 842 هـ إلى سدِّ الخلل الذي فيه في كتابه العظيم " توضيح المشتبه " الذي تتولى نشره لأول مرة مؤسسة الرسالة، وقد صَدَر منه الجزء الأول بتحقيقِ صاحبنا وحبيبنا الشيخ نعيم العرقسوسي مفتتحاً بمقدمةٍ حافلةٍ عرف فيها بالمؤلف وبكتابه وبالمنهج الذي اتبعه في التحقيق.
(3) في (ش): " عدس "، وهو خطأ. في " الإصابة " 2/ 403: عبد الرحمن بن عُدَيس -بمهملتين مصغراً- ابن عمرو بن كلاب بن وهمان أبو محمد البلوي. قال ابن سعد: صحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَسمِعَ منه، وشَهِدَ فتح مصر، وكان فيمن سار إلى عثمان. وقال ابن البرقي والبغوي وغيرهما: كان ممن بايع تحت الشجرة، وَشَهِدَ فتح مصر، واختطَّ بها، وكان من الفرسان، ثم كان رئيسَ الخيل التي سارت من مصر إلى عثمان في الفتنةِ. وقال ابنُ عبد البر: هو كان الأميرَ على الجيش القادمين من مصر إلى المدينةِ الذين حَصَروا عثمان وَقَتَلُوهُ.
قلتُ: وهذه هي الزلةُ التي عَنَاهَا الإمامُ الذهبي -رحمه الله- وهو المشاركة في قتل عثمان رضي الله عنه.
(4) في (ش): أهل الأديان.
(5) " من " سقطت من (ش).
(6) أخرجه البخاري (3349) و (3447) و (4625) و (4626) و (4740) و (6524) =(3/228)
ذلك في ترجمة بُسْرِ بنِ أرطاة في " الاستيعاب " (1).
__________
= و (6525) و (6526)، ومسلم (2860)، والترمذي (2423)، والنسائي 4/ 117، وأحمد 1/ 235 و253، والطيالسي (6638) من حديث ابن عباس قالَ: قام فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطيباً بموعظة فقال: " يا أيُّها الناسُ، إنكم تُحشرون إلى الله حُفَاةً عُراةً غُرْلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإنّ أولَ الخلائقِ يُكْسى يومَ القيامة إبراهيمُ عليه السلام، ألاَ وإنَّه سَيُجاءُ برجالٍ من أمتي، فيُؤخَذُ بهم ذات الشِّمالِ، فأقولُ: يا ربِّ، أصحابي، فيقال: إنك لا تَدري ما أحدثوا بعدَك، فأقول كما قال العبدُ الصالحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال: فيقالُ لي إِنَّهم لم يَزَالُوا مُرتدينَ على أعقابهم منذُ فارقتهم ".
وفي الباب عن ابن مسعود عند البخاري (5055)، وأحمد 1/ 384 و402، وابن ماجه (3057).
قال الحافظ في " الفتح " 11/ 385: قوله: " فيقولُ اللهُ: إنَّكَ لا تَدْري ما أحْدَثُوا بعدَكَ " في حديث أبي هريرة المذكور: " إنَّهم ارتَدُّوا على أدبارهمْ القَهْقرَى "، وزاد في رواية سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أيضاًً: " فيقول: إنَّك لا علمَ لك بما أحدثوا بعدَك، فيقال: إنَّهم قد بَدَّلُوا بعدَك، فأقول: سُحْقاً سُحْقاً " أي: بُعْداً بُعْداً، والتأكيد للمبالغة،
وفي حديث أبي سعيد في "باب صفة النار" أيضاً: " فيقال: إنك لا تَدْري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحْقاً سُحْقاً لمن غَيَّر بعدي "، وزاد في رواية عطاء بن يسار: " فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم "، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه: " لَيرِدَنَّ عليَّ الحوض رجالٌ ممن صحبني ورآني "، وسنده حسن. وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه، وزاد: " فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله أن لا يجعَلَني منهم، قال: لَسْتَ منهم "، وسنده حسن.
وقوله: " قال: فيقالُ: إنَّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابِهم ": وَقَع في رواية الكشميهني: " لن يزالوا "، ووقع في ترجمة مريم من أحاديث الأنبياء، قال الفِرَبْري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قَبيصة قال: هم الذين ارتدُّوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر، يعني حتى قتلوا وماتوا على الكفر، وقد وَصَلَه الإسماعيلي من وجهٍ آخرَ عن قَبيصَة.
وقال الخطابيُّ -ونقلَهُ عنه البغويُّ في " شرح السنة " 15/ 123 - 124 - : لم يرتدَّ من الصحابةِ أحَدٌ، وإنما ارتَدَّ قومٌ من جُفَاةِ الأعراب مِمَّن لا نصرةَ له في الدينِ، وذلك لا يوجبُ قدْحاً في الصحابة المشهورين، ويدلُّ قولُه: " أصيحابي " بالتصغير على قلةِ عددهم. وقالَ غيرُهُ: قيل: هو على ظاهرِهِ من الكفر، والمرادُ بأمتي أمةُ الدعوةِ لا أمة الإجابة. ورجَّحَ بقوله في حديث أبي هريرة " فأقولُ بُعْداً لهم وَسُحْقاً "، ويؤيده كونُهُم خَفِيَ عليه حالُهُم، ولو كانوا من أمةِ الإجابةِ، لعرفَ حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه.
(1) 1/ 159.(3/229)
والسَّبب في وَهْمِ السيدِ -أيَّده الله- في هذه المسألة: أنّه رآهم لا يُفَسِّقُون مَنْ أظهر التَّأويلَ مِمَّن حاربَ أميرَ المؤمنين عليه السّلامُ مِمَّن يَعُدُّونَه صحابِيّاً، ولا شكَّ أنَّهم يقولون ببغيِ مَنْ حاربَ عليّاً عليه السَّلام، كما رواه القرطبي عنهم الجمبع في " تذكرته " (1)، ورواه غيرهُ منهم كما سيأتي.
وأمَّا قولُهم بتأويلهم، فقد مرَّ الكلامُ عليه قريباً، وممَّا يدخلُه التَّأويل بالإجماع: قتالُ المسلمين وبعضِ الأئِمَّة، والبغيُ عليهم، والدخولُ في الفتن كما فعلت الخوارج، والنواصب، والرَّوافض، ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ.
فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ الناس اختلفوا في مَنْ تأوَّل فيما ليس مِنَ المعلوم تحريمُه بالضَّرورة عند الجميعِ على ثلاثةِ أقوال:
القول الأول: أنَّ التّأويل لا يمنع مِنَ التَّأثيم مطلقاً، وسواء كان في الظَّنيَّات أو في القطعيَّات (2)، وهذا مذهبُ الأصَمِّ وغيره.
القول الثاني: على العكس، وهو أنَّ التأويل يُسْقِط الِإثمَ والعِقَابَ، سواءٌ كان في الظَّنيَّات أو في القطعيَّات، إلاّ أنَّه (3) فرَّق بينهما، فإن التِّأويل في القطعيَّات لا يخْرِجُ الفعل عَنِ القبح، ووجوبِ كراهَتِه، وتحريمِ الرِّضى به، ووجوبِ النَّهْي لمرتكبه، ومنعِه منه إنْ أمكنَ ذلك، والتَّأويلُ في الظَّنِّيَّات يُثَابُ فاعله، ويُرضى به، ولا يُنهى عنه، واختلفوا في التَّصويب.
__________
(1) 2/ 545 - 547.
(2) في (ب): القطعيات أو في الظنيات.
(3) في (ش): إذ لا.(3/230)
واعلم أنَّ المحدِّثين ما خالفونا في هذه المسألة إلاَّ في هذا، وأنَّ مذهبنا ومذهبَهم في عدالة الرُّواة واحدٌ إلاَّ (1) قدرَ أربعة أو خمسة، أو قريبٍ مِنْ ذلك، قد ذكرتهم (2) في هذا الكلام المقدَّم.
القول الثالث: مذهبُ الأكثرين مِنَ الأئِمَّة، وجماهيرِ علماءِ الأُمَّةِ، وهو التَّفصيل، والقولُ بأنَّ التَّأويل في القطعيات لا يمنعُ الكفر أو (3) الفِسْق أوِ التَّأثيم، وأمَّا التَّأويل في الظَّنِّيَّات، فيمنع ذلك كلَّه، وُيوجِبُ التَّصويبَ أو المثُوبة، فإذا عرفتَ هذا، تبيَّنَ لك أنَّ القوم ما خالفوا إلا فيما يدخله التَّأويلُ مِنَ الكبائر، وهو ما أمكن أن يَصِحَّ دعوى بعضُ النَّاس جهله، وإنْ كان عند غيره معروفاً.
والفرقُ بَيْنَ ما يدخلُه التَّأويلُ مِن الكبائر، وبَيْنَ جميع الكبائر (4) معلومٌ بالضرورة لِكلِّ عاقلٍ، فإنَّ الشِّرك بالله، وعبادةَ اللاَّت، ونِكَاح الأخوات والأُمَّهات، وتركَ الصَّوم والصلوات من الكبائر (5)، فإنْ كان السَّيِّدُ يعتقدُ في أهل الحديث أنَّ مذهبهُمْ عدالَةُ مَنِ ارتكبَ هذه الفواحش العظام (6)، وكذَّبَ الرُّسلَ الكِرَامَ عليهم السَّلامُ، لكونه رأي النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدُّخول في الإسلام، فهو أجَلُّ مِنْ أن يقولَ بهذا الكلام أو ينسبَه إلى أحدٍ مِنَ الأنام، وإن كان لا يعتقدُ ذلك فيهم، فما هذا الذي أعشى (7) بصر
__________
(1) في (ش): إلا في.
(2) في (ب): فذكرتهم.
(3) في (ش): و.
(4) عبارة: " وبين جميع الكبائر " ساقطة من (ش).
(5) كتب فوق كلمة " الكبائر " في (ش): " التي لا يدخلها التأويل ".
(6) ساقطة من (ش).
(7) في (ب): "أغشى"، وهو تصحيف.(3/231)
بصيرته، وغَشَّى على أضواءِ معرفته، حتَّى تجاسرعلى رَمْيِهمْ بهذه الشَّناعة الَّتي لا يجترىءُ على القولِ بها إلا أهلُ الخلاعَةِ.
وقد قال محمد بن منصور الكوفي (1) في كتابه المعروف " بكتاب أحمد "، يعني أحمد بن عيسى بن زيد عليهم (2) السَّلام: أنَّ أحمدَ بن عيسى قال: فإنْ جَهِلَ الوِلايةَ رَجُلٌ، فلم يتولَّ أميرَ المؤمنين، لم تنقطع (3) بذلك عصمتُه، وإن تبرأ وقد عَلِمَ، انقطعت عنَّا، وكان منا في حَدِّ براءةٍ، يقول: براءة (4) ممَّا دانَ به، وأنكر مِنْ فرضِ الولاية لا براءة يخرج بها مِنْ حدِّ المناكحة، والموارَثةِ، وغير ذلك ممَّا تجري به (5) أحكامُ المسلمين منهم بعضُهم (6) في بعض -إلى قوله- لا (7) على مثل البراءة منَّا مِنْ أهل الشِّرك، واليهود، والنَّصارى، والمجوس. هذا وجهُ البراءة عندنا مِمَّن خالفنا. انتهى بحروفه من آخر المجلد السَّادس من " الجامع الكافي ".
ومعناه لا يَزِيدُ على ما عُلِمَ بالتَّواترِ عن علي عليه السَّلامُ أنّه لم يَسِرْ في أهل صفِّين والجَمَلِ سِيرَة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المشركين، ولا حَكَمَ بسَبْيِ النِّساء والذُّرِّيَّة، ولو كانوا جَحَدُوا ما يُعْلَمُ مِنْ ضَرُورة الدِّين، كان الواجِبُ تكفيرَهم عند جميع المسلمين، فدلَّ على أنَّ فِعْلَهم ممَّا يدخله
__________
(1) تقدمت ترجمته في 2/ 53 و403.
(2) في (ش): عليهما.
(3) في (ب): نقطع.
(4) " براءة " ساقطة من (ب).
(5) " به " ساقطة من (ب).
(6) " بعضهم " ساقطة من (ب).
(7) " لا " ساقطة من (ب).(3/232)
التّأويلُ بشهادة (1) سيرةِ أمير المؤمنين، وهذا هو مضمونُ ما أنكره السيد على المحدثين.
الوهم الثاني: قال: إنَّهم يُجيزون الكبائر على الأنبياء عليهم السلامُ.
وهذا الإطلاقُ تجاهُلٌ لا جهلٌ، لأن السَّيِّد لا يزال يُقْرِىءُ مذهبَهم في هذه المسألة، وأنا أُورِدُ من كتبهم ما يشهد (2) ببطلان هذا القولِ الذي أطلقه السيدُ، ولم يقيِّده.
فمِنْ ذلك ما ذكره الرّازي في " محصوله " (3) فإنَّه قال في هذه المسألة في حكم أفعالِ الأنبياء عليهم السَّلامُ (4) ما لفظه: والَّذي نقولُ به: إنَّه لم يقع منهم ذنبٌ على سبيل القصد لا صغير ولا كبير (5)، وأمَّا السَّهو (6)، فقد يقع منهم بشرط (7) أن يتذكروه (8) في الحال، ويُنَبِّهوا غيرهم على أنَّ ذلك كان سهواً، وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام، ومن أرادَ الاستقصاء، فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء، والله أعلم. انتهى كلامه.
__________
(1) في (ب): " شهادة ".
(2) في (ب): شهد.
(3) 1/ 3/344.
(4) من قوله: " السَّيِّد ولم يقيده " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) جملة "لا صغير ولا كبير" سقطت من (ب).
(6) في (ش): " السهولة "، وهو تحريف.
(7) في (ب): شرط.
(8) في (ب): " يذكروه "، وفي (ش): " يتداركوه ".(3/233)
وقال ابن الحاجب في " المنتهى " (1): الإجماع (2) على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام، والإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخِسَّةِ.
وقال الذهبي في كتاب " النبلاء " (3)، وقد ذكر ما معناه تنزيه النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الأكل مِمَّا ذُبحَ على النُّصُب قبل النُّبُوَّة، فقال في ترجمة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ما لفظه: وما زال المصطفى محفوظاً محروساً قبل الوحي وبعدَه، ولو احتمل جوازُ ذلك، فبالضرورة ندري (4) أنَّه كان يأكل [من] ذبائح قريشٍ قبلَ الوحي، وكانَ ذلك على الإباحة، وإنّما تُوصفُ ذبائحُهُم بالتَّحريم (5) بعد نزول الآية، كما أنَّ الخمرَ كانت على الإباحة الى أن نزل (6) تحريمها بالمدينة بعدَ يومِ أُحُدٍ، والَّذي لا ريبَ فيه أنّه كان معصُوماً قَبْلَ الوحي وبعدَه، وقبلَ الشَّرائع مِنَ الزِّنى قطعاً، ومِنَ الخيانة، والغَدْر، والكَذِبِ، والسكْرِ، والسُّجود لوثَنٍ، والاستقسام بالأزلام، ومِنَ الرذائل، والسَّفَهِ، وبذاء اللسان، وكشف العَوْرَةِ، فلم يكن يطوف عُرياناً، ولا يَقِفُ يوم عرفة مع قومه، بل كان يَقفُ بعرفة.
ومن أحسنِ من تكلَّم في هذا منهم (7) القاضي العلامة عياضُ بنُ موسى بنِ عياض اليَحْصُبي المالكي في كتابه " الشفا في شرف المصطفى "، فإنه أجاد الكلام في هذه المسألة، وليس يتَّسع هذا الجواب
__________
(1) 2/ 22.
(2) في (ش): للإجماع.
(3) 1/ 130.
(4) في (ش): تدري.
(5) " بالتحريم " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): نزول.
(7) في (ش): في هذا المعنى.(3/234)
لذكر جملة كبيرة (1) من كلامه، فإنَّه طوَّله ونوَّعه (2)، واحتجَّ وتأوَّل، حتَّى بلغ كلامه في ذلك ستِّين ورقة أو يزيد قليلاً، أو ينقص قليلاً بحسب اختلافه فيه. ومِنْ كلامه فيه ما لفظُه: أجمع المسلمون على عِصمة الأنبياء مِنَ الفواحش، والكبائرِ الموبقات، ومستندُ الجمهورِ في ذلك الإجماعُ، وهو مذهبُ القاضي أبي بكر، ومنعها غيرُه بدليلِ العقل مع الإجماع، وهو قولُ الكافة، واختاره (3) الأستاذُ أبو إسحاق. وكذلك لا خلافَ أنَّهم معصومون من كِتمان الرِّسالة، والتَّقصيرِ في التَّبليغ، وذكر الإجماع على عصمتهم من الصَّغيرة الَّتي تؤدِّي إلى إزالة الحِشْمَةِ، وتُسْقِطُ المروءة، وتُوجِب الخَسَاسَة، قال: بل يلحق بهذا ما كان مِنْ قبيل المُباحِ، فأدَّى إلى مثله ممَّا يُزري بصاحبه، ويُنَفِّرُ القلوبَ عنه، ثمَّ إنَّ القاضي ذكر في المتن الاختلاف في عصمتهم قَبْلَ النُّبُوَّةِ حتى قال: والصَّحيحُ تنزيههم من كُلِّ عيب، وعصمتُهم من كلِّ ما يُوجِبُ الرَّيْبَ، فكيف والمسألة تصوُّرُها كالممتنع؟ فإنَّ المعاصي، والنَّواهي (4) إنَّما تكون بعد تَقَرُّر (5) الشَّرع، وذكر عصمتهم قبلَ هذا عَنِ الصَّغائر، واختاره، واحتجَّ عليه، وأطال القولَ (6).
إذا عرفتَ هذا، فَلْنَذْكُرِ الذِي أوجب الوهمَ في هذا (7)، بَلِ الَّذِي أوجب التَّسَاهُل فيه، وذلك أمران:
__________
(1) في (ش): كثيرة.
(2) في (ش): نَوَّعه وطوله.
(3) تحرفت في (ب) إلى: " ومنعه ".
(4) في (ش): " المناهي ".
(5) في (ش): تقرير.
(6) انظر " الشفا " 2/ 146 فما بعد.
(7) " في هذا " ساقطة من (ش).(3/235)
أحدُهما: أنَّ بعضَهم يقول: إنَّ (1) المعاصي الدَّالَّة على الخِسَّة قَبْلَ النُّبُوة يمتنع وقوعُها مِنَ الأنبياء عليهم السَّلامُ بدليل السَّمع فقط، ولا يمتنِعُ بدليلِ العقل، ونحن نقولُ -والجمهور منهم-: إنَّها (2) تمتنع عقلاً وسمعاً، فهم موافقون لنا على إمتناعها، ولكن بعضهم استدلُّوا على ذلِكَ بدليلٍ واحدٍ، ونحن وجمهورُهُم استدللنا عليه بدليلين، فهذا لا يقتضي الاختلافَ في تجويزِ الكبائرِ على الإِطلاقِ البتَّة، فأمَّا ما لم يكن مِن صغائِرِ الخِسَّة المنفِّرات، فلا ينبغي أن يكونَ فيه (3) اختلافٌ، لأنَّ وصفه بأنّه كبيرٌ قَبْلَ الشرع خطأ، بل وصفُه بأنّه حرام، ألا ترى أنَّ الخمرَ كان مباحاً؟ فإن ثبت أنَّه حرام، وأنَّهم متعبِّدون بشرع مَنْ قبلنا، فبأدلَّة ظنِّيَّة، فإن قدرنا ثبوتَ ذلكَ بأدلَّةٍ قاطعةٍ، فثبوتُ التَّحريم لا يدلُّ على أنَّ المُحَرّمَ كبيرٌ، فأمَّا الكفرُ وجميعُ ما عَدَّدهُ الذهبي، والقاضي عياض وغيرهما فيما تقدم من المعاصي الدّالة على الخِسَّةِ، وسائر الرذائل، فقد وافقونا على تنزيههم عنها، وأقصى ما في الباب أن يكونوا خالفونا في تجويزِ بعض الكبائرِ على الأنبياء قبل النُّبُوَّة، فهذا لا يُجيزُ الإِطلاقَ الَّذِي رواه السَّيِّدُ عنهم لوجهين.
أَحَدُهُما: أن الخلافَ في بعض الكبائرِ ليس خلافاً في جميعها، ومَنْ لم يفَرِّقْ بينَ البعضِ والكُلِّ، فليس مِنَ العقلاء، فإنَّ العلمَ (4) بالفرق بينهما ضروريٌّ، ومن المعلومِ بالضَّرورة عنهم أنَّهم ما خالفُوا (5) في جميعِ الكبائر، فإنَّ الشَّركَ مِنَ الكبَائِرِ واللواطَ من الكبائر، ونحو ذلك.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب): إنما.
(3) ساقطة من (ب).
(4) في (ش): فالعلم.
(5) في (ب): خالفونا.(3/236)
الوجه الثاني: أنّ الأنبياءَ عليهم السَّلامُ قبل النُّبُوَّةِ لا يُسَمَّوْنَ أنبياءَ على الحقيقة، ولا يُحْكمُ لهم حُكْمٌ من أحكامِ الأنبياء، ألا ترى أنّ كلامَهُم وأفعالَهم قبل النُّبُوَّةِ ليس بِحُجَّةٍ، وأمرهم قبلَها لا يُوجِبُ الطاعة، والشَّاكَّ في صدقهم قبل النُّبُوَّةِ لا يُكْفَرُ؟ فإذا نسب الفقهاءُ إلى الأنبياء جواز أمرٍ قبل النُّبُوَّة، لم يُقَلْ: إنَّ مذهبَهم جوازُه على الأنبياء هكذا على الإِطلاق، ولو كان ذلِكَ يجوز، للزم (1) أن يكون مذهبنا أنّ كلامَ الأنبياء ليس بِحُجَّةٍ، وأنّ مَنْ شَكَّ في صدقهم، فليس (2) بكافر، وأمثال ذلِكَ مِمَّا هو مذهبنا فيهم عليهم السلامُ قبل النُّبُوُّةِ، وبالجملة فمذهبُ القوم ونصوصُهم يَدُل (3) على بُطلان ما أطلقه السَّيِّدُ قطعاً، والله سبحانه أعلم.
الوهم الثّالث: قال السيدُ أيّده الله: ومنهم مروانُ بنُ الحكم، طَرَدَهُ وَلَعَنَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا (4) وهمٌ عظيمٌ، لا يخفى على مَنْ له أدنى أُنْس بِمعرفة الرِّجال أنَّ الذي طرده النبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو الحكمُ ابنُ أبي العاص لا مروان، وهذا معلومٌ بالضرورة (5).
وقد وهِمَ الحاكِمُ في ذلك في " شرح العيون "، وتوفي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابنُ ثمانٍ أو نحوها، فمتى (6) استحقَّ التَّطريد، ولكن (7) نقله أبوه يَوْمَ طُرِد معه.
__________
(1) في (ش): لزم.
(2) في (ش): ليس.
(3) في (ش): تدل.
(4) في (ب): هذا.
(5) في (ب): ضرورة.
(6) في (ش): فمن أين.
(7) في (ب): ولكنه.(3/237)
قال في " النبلاء " (1) في الحكم بن أبي العاص: [قيل]: نفاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لكونه حكاه في مشيته، وفي بعض حركاته، فسبَّه وطرده، وروى في ترجمته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أُريتُ (2) بني الحَكَم (3) يَنْزُونَ على مِنْبَري نزْوَ القِرَدَةِ ". رواه العلاء بإسناده إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - (4). وذكر في " الاستيعاب " (5) أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طردَه مِن المدينة، فنزل الطَّائف، وأنّه عليه السلام كان إذا مشى يتكفَّأ، وكان الحكمُ يحْكِيه، فالتفت إليه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فرآه يفعلُ ذلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فكذلِكَ فلتكن "، فكان الحكمُ مُتخلجاً (6) يرتَعِشُ من يومئذ. فعيَّرَ عبدُ الرحمن بن حسان بن ثابت مروانَ بذلِكَ، فقال يهجوه:
إنَّ اللّعينَ أبُوك، فارْم عِظَامَهُ ... إنْ تَرْمِ تَرْم مُخَلَّجَاً مَجْنُوناً
يُمْسىِ خَميصَ البَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى ... وَيظَلُّ مِنْ عَمَلِ الخَبِيثِ بَطيناً
قال ابن عبد البر: فأمّا قوله: إن اللعين أبوك، فرُوِيَ عن عائشة من طرق ذكرها ابن [أبي] خيثمة وغيرُه، [أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن ما قال] أما أَنْتَ يا مروان، فأشهد أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ أباكَ
__________
(1) 2/ 108.
(2) في (ش): رأيت.
(3) في (ش): الحكم بن أبي العاص.
(4) أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5/ 243 - 244، وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير مصعب بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة. وأورده ابن حجر في " المطالب العالية " 4/ 332، ونسبه لأبي يعلى، ونقل المحقق عن البوصيري قوله: رواتُهُ ثقات.
(5) 1/ 318.
(6) التخلج في المشي مثل التخلع، وتخلج المفلوج في مشيته، أي: تفكك وتمايل.(3/238)
وأنتَ في صُلْبِهِ (1).
وروى بإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ لَعينٌ "، فدخل الحَكَمُ بن أبي العاص (2). وفي هذا
__________
(1) وأخرجه النسائي من طريق علي بن الحسين، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: لما بايَعَ معاوية لابنه، قال مروان: سنةَ أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الآية. فبلغ ذلك عائشة، فقالت: كَذَبَ مروانُ، والله ما هُو بهِ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لعَنَ أبا مروان، ومروانُ في صلبه، فمروانُ فَضَضٌ من لعنةِ الله. وانظر البزار (1624).
وأخرج أحمد 4/ 5، والبزار (1623) من طريق عبد الرزاق، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول -وهو مستندٌ إلى الكعبة-: وربِّ هذا البيت، لقد لَعَنَ اللهُ الحَكَمَ وما وَلَدَ على لسانِ - صلى الله عليه وسلم -. وهذا سند صحيح. وانظر " مجمع الزوائد " 5/ 240 - 241.
(2) ذكره ابنُ عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ، عن أحمد بن زهير، عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بن زياد، عن عثمان بن حكيم قال: حدثنا شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وأخرجه أحمد في " المسند 2/ 163 من طريق ابن نمير، حدثنا عثمان بن حكيم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا جلوساً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذهب عمرو بن العاص يلبسُ ثيابَه ليلحقني، فقال -ونحن عنده-: " ليدخلَنَّ عليكم رجلٌ لعين "، فوالله ما زلتُ وَجِلاً أتَشَوَّفُ داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان، يعني الحكم. وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 112، ونسبه لأحمد، وقال: ورجاله رجال الصحيح.
وذكره أيضاًً 5/ 241 وقال: رواه أحمد، والبزار (1625) إلا أنَّه قال: دخل الحكم بن أبي العاص، والطبراني في " الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح.
والحكم: هو ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وهو عم عثمان بن عفان، وأبو مروان بن الحكم وبنيه من خلفاء بني أمية، أسلم يوم فتح مكة، وسكن المدينة، ثم نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف، ومكث بها حتى أعاده عثمان في خلافته، ومات بها.
قال ابن الأثير في " أسد الغابة " 2/ 38: وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مَعَ حلمِه وإغضائِهِ على ما يكرَهُ ما فَعَلَ به ذلك إلا لأمرٍ عظيمٍ. =(3/239)
ما يشهدُ بمعرفة المحدِّثين بحالِ طريدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد وهم السَّيِّد (1)
في هذا الوهم (2) وهمين:
أحدهما: أنَّ مروانَ هو الطَّريد، وليس كذلك.
وثانيهما: أنَّ طريدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدُ رجال الصحاح (3) الثّقات،
وليس كذلك أيضاً، وليس في كُتُبِ الحديث رواية عنه البتَّة، وجملةُ من
فيها مِمَّنِ اِسْمُهُ الحكم ثلاثة وعشرون رجلاً ليس فيهم الحكم بن أبي
العاص، فليعلم ذلِك أيده الله.
الوهم الرابع: أنَّ مروان بن الحكم عند المحدثين من أهل التَّقوى
والصَّلاح. وليس كذلِكَ، فإنَّهم لا يجهلون ما له مِنَ الأفعال القبيحة،
والمعاصي المهلِكلة، وأنا أُورِدُ من كلامهم ما يدلُّ على ذلِكَ.
قال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال " (4) ما لفظه:
مروان بن الحكم له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحةَ
بسهمٍ، وفعل وفعل. انتهى بلفظه في " الميزان " وذكره في " النبلاء " (5)،
وساق من أخباره حتى قال ما لفظه: وَحَضَر الوقعةَ يَوْمَ الجَمَلِ، فقتل
طلحَةَ، ونجا (6) فليتَه ما نجا (7)، هذا لفظ الذهبي. فلو كان عنده مِنْ أهل
__________
= وقال الحافظ في " الفتح " 13/ 11: وقد وردتْ أحاديثُ في لعنِ الحكم والد مروان
وما ولد. أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد.
(1) ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ب).
(3) في (ش): الصحيح.
(4) 4/ 89.
(5) 3/ 477.
(6) في (ش): فنجا.
(7) في " السير ": لا نُجِّي.(3/240)
الصَّلاح ما تَمنَّى له الهلاك، وكره له النَّجاة، وقد نَصَّ في " الميزان " على (1) أن له أعمالاً مُوبِقَة، وهذا تصريحٌ بفسقه.
وذكر الذهبي في " النبلاء " (2) في ترجمة طلحة من طرقٍ أنَّ مروانَ ابنَ الحَكَمِ قاتل طلحة، ثم قال: قاتلُ طلحة في الوِزْرِ بمنزلة قاتِلِ علي. انتهى.
وروى الذهبي في " النبلاء " عن الحسين بنِ علي عليهما السَّلامُ أن مروان هو الذي قَتَلَ طلحةَ بنَ عُبَيْدِ الله أحدَ العشرة المشهود لهم بالجنة، ذكره في ترجمة طلحة (3).
وقال ابنُ حزم في " أسماء الخلفاء والأئمَّة " (4)، وقد ذكر بعض مساوىء مروان، وهو أوَّلُ مَنْ شَقَّ عصا المسلمين، بلا شبهة، ولا تأويل، وقتل النُّعمان بنَ بشيرٍ أوَّلَ مولودٍ وُلدَ (5) في الإِسلام في الأنصار صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكر (6) أنَّه خرج على ابنِ الزُّبير بَعْدَ أن بايعه على الطَّاعة.
وقال ابن حبان الحافظ في مقدمة " صحيحه " (7) عائذاً بالله أن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) 1/ 35 - 36.
(3) لم أجد هذا الخبر في ترجمة طلحة من " السير ".
(4) انظر الرسالة الخامسة الملحقة بـ " جوامع السيرة " ص 359.
(5) لم ترد في (ش)، ولا في " أسماء الخلفاء".
(6) في (ش): وذلك.
(7) ثم يذكره في مقدمة " صحيحه "، وإنما ذكره بإثر حديث بسرة بنت صفوان من طريق مروان (1114)، ونصه: قال أبو حاتم: عائذ بالله أن نَحْتجَّ بخبرٍ رواهُ مروانُ بنُ الحكم وذووه في شيء من كتبنا، لأنَّا لا نستحلُّ الاحتجاجَ بغيرِ الصحيح من سائر الأخبار، وإنْ وافَقَ ذلك مذهبنا، ولا نعتمد من المذاهبِ على المنتزع من الآثار، وإن خالفَ ذلك قولَ أئمتنا.(3/241)
يحتج بمروان وذويه في شيءٍ من كتبنا.
وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه " الكافي " (1) على مذهب أحمد ابن حنبل في باب صِفَةِ الأئِمَّةِ: في إمامة الفاسق بالأفعال روايتان، إحداهما (2): تصح لقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر " كَيْف أنْتَ إذا كانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلاَةَ .. الحديث " (3) إلى قوله في الاحتجاج على ذلِكَ: وكان الحسنُ والحسينُ يصلِّيان وراءَ مروان (4)، انتهى، وفيه بيان معرفتهم
__________
(1) 1/ 182 - 183. وهذا الكتاب بأجزائه الثلاثة كنت حققته مع صاحبنا الأستاذ الفاضل عبد القادر الأرنؤوط عن أصلين خطيين، وكان يشاركُنَا في تحقيقه العلامةُ الشيخُ عبد القادر الحتاوي الحنبلي الدُّومي رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان من العلماء المتمكنين، قرأ الكثيرَ من كتبِ الفقهِ الحنبلي على شيوخه، وطالعَ الكثيرَ منها بنفسه، وكان مرجع العلماء في معرفه مذهب الإمام أحمد في بلده.
وقد ألف ابن قدامة رحمه الله في الفقه على مذهب أحمد " العمدة "، وهو مختصر صغير، سهلُ العبارة، يَصْلُحُ للمبتدئين، ثم ألَّفَ " المقنع "، وهو أكبر من " العمدة "، جَمَعَ فيه أكثر المسائل عريَّة عن الدليل والتعليلِ، ثم ألَّفَ " الكافي "، وفيه مسائلُ الفقه مقرونةً بأدلتها، ثم ألف " المغني "، وهو في عدة مجلدات ضخام، شرح فيه " مختصر الخرقي "، وقد أرادَ رحمه الله أن يكون هذا الكتاب في فقه المسلمين كافةً، فهو يذكُرُ أقوالَ علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين كالأئمة المتبوعين، ويحكي أدلةَ كُلِّ واحد منهم، وإذا رَجَّحَ مذهب الحنابلة في كثير من المسائل، فهو لا ينتقصُ غيرهم، ولا يحمله التعصبُ على كتمان شيءٍ من أدلتهم، ولا على الطعن فيها، يسر الله لنا إخراج هذه السلسلة إخراجاً متقناً محققاً.
(2) ساقطة من (ش).
(3) أخرجه مسلم في " صحيحه " (648) في المساجد، باب: كراهية الصلاة عن وقتها المختار، وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام، وتمامُها: قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: " صل الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتها معهم فَصَلِّ، فإنها لك نافلةٌ " وصححه ابنُ حبان (484) بتحقيقنا، وانظر تخريجه هناك.
(4) أخرجه الشافعيُّ في " مسنده " 1/ 130: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: كان الحسن، والحسين يصليان خلفَ مروانَ قال: فقال: ما كان يصليان إذا رجعا إلى منازلهما؟ فقال: لا واللهِ ما كانا يزيدان على صلاة الأئمة.
وأخرجه البخاري في " التاريخ الصغير " 1/ 110 من طريق أبي نعيم، حدثنا عبد الرحيم ابن عبد ربه، حدثني شرحبيل أبو سعد قال: رأيتُ الحسن والحسين يُصليانِ خلفَ مروان.(3/242)
لمقدار أهل البيت (1) عليهم السَّلامُ في الفضل، ولموضع أعدائهم مِنَ الفسْقِ، ونحن محتاجون من بيان الأمرين كليهما في هذا المقام.
وقال أبو السعادات ابن الأثير في كتابه " النهاية " (2) في حرف الفاء مع الضاد: قالت عائشة لمروان: وأنت فَضَضٌ مِن لعنةِ الله، أي: قطعةٌ وطائفة منها، ورواه بعضُهم فُظَاظَةٌ مِن لعنة الله بظائين، وهو من (3) الفظيظ، وهو مَاءُ الكَرِشِ، وأنكره الخطابي (4).
وقال الزمخشري: افتضضت الكَرِشَ: اعتصرت ماءَها، كأنَّه عصارةٌ من اللعنة، أو فُعَالَة من الفظيظ: ماءِ الفحل، أي نُطْفَةٌ من اللعنة. انتهى بلفظه من " نهاية ". ابن الأثير.
وممَّن ذكر مروان أبو عمر (5) بن عبد البر في " الاستيعاب " (6)، ولم يذكره بتقوى ولا وصَفَه بدِيَانَة، بل روى عن علي عليه السَّلامُ أنَّه نظر إليه يوماً، فقال: ويلَكَ، وَويلُ أمَّةِ محمّد منك، وَمِنْ بَنيك (7) إذا شابت
__________
(1) في (ش): بيان مقدار معرفتهما لأهل البيت.
(2) 3/ 344، وانظر " الفائق " 4/ 102.
(3) " من " ساقطة من (ش).
(4) نص كلام الخطابي في " غريب الحديث " 2/ 518: وقولها: " فَضَضٌ من لعنةِ الله "، أي: قِطعةٌ وطائفةٌ منها، مأخوذٌ من الفضِّ، وهو كسرُ الشيء وتفريقُ أجزائه، يقال: فضضتُ الشيءَ، فهو فَضضٌ، كما يقالُ: قبضته فهو قبَض، وهدمته فهو هدم، ولهذا سُمي فَلَّ الجيش إذا انهزموا أو انفضوا: فضضَاً، يُقَالُ: رأيتُ فَلَّ الجيش وَفضضَهم، أي: من انفلَّ منهم وانفضَّ من جمعِهم. ورواه أبو عبد الله نِفطويهِ، فقال: فَظَاطة من لعنةٍ، قال: والفظ والفظيظُ: ماء الكرش. قال: ورواه آخرُ فقال: أنت فُضُضٌ، قال: وَفُضُض جمع فَضيض: وهو الماءُ السائل، قالَ أبو سليمان: ولا وجهَ لشيء مما جاء به أبو عبد الله في هذا الحديث، وإنَّما هو على ما رويته لك وفسرتُهُ قبلُ.
(5) تحرف في (ش) إلى: " عمرو".
(6) 3/ 425.
(7) ساقطة من (ب).(3/243)
ذِرَاعُكَ، وكان يُقَال له: خيطُ باطل (1)، وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم لمّا بُويعَ له بالإمارة:
فو اللهِ ما أدْرِي وإنِّي لسائلٌ ... حليلة مَضْرُوبِ القَفَا كَيْفَ يَصْنَعُ
لَحَا اللهُ قَوْمَاً مَلَّكوا خَيْطَ باطِلٍ ... على النّاس يُعْطِي من يشاء ويمنع (2)
وكان أخوه عبد الرّحمن شاعراً محسناً (3)، وكان لا يرى رأيَ مروانَ، وإنّما قال له: مضروبُ القفا، لأنّه ضُرِبَ يوم الدّارِ على قفَاهُ، فَخَرَّ لِفِيه (4).
قلت: وذلك أيضاًً هجوٌ له بالجُبْنِ (5)، وهي كنايةٌ حسنةٌ.
وأنشد ابنُ عبدِ البَرِّ لأخيه عبدِ الرحمنِ يهجوه:
وهَبْتُ نصيبي فيكَ يَا مَرْوُ (6) كُلَّهُ ... لعمروٍ ومروانَ الطَّويلِ وخَالِدِ
فكلُّ ابنِ أمٍّ زائِدٌ غيرُ ناقِصٍ ... وأنتْ ابنُ أمٍّ ناقِصٌ غيرُ زائِدِ
وأنشد لغير أخيه (7) شيئاً في هجوه تركتُه، لأنَّه أقذع فيه، وذكر أنه لم يَرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ورواه عن (8) البخاري.
__________
(1) قال الثعالبي في " ثمار القلوب " ص 76: لقب بذلك، لأنَّه كان طويلاً مضطرباً.
(2) رواية البيت في " الاستيعاب ":
لَحَا اللهُ قوماً أُمَّروا خيط باطلٍ ... على الناسِ يُعطي ما يشاءُ ويمنعُ
(3) وتوفي في حدود السبعين للهجرة. انظر " فوات الوفيات " 2/ 277 - 279.
(4) في (ش): فجرى لقبه به.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): " يا عمرو"، وهو خطأ.
(7) في (ب): وأنشد لغيره.
(8) " عن " ساقطة من (ش)، وفي " تهذيب التهذبب " 10/ 92: قال البخاري: لم يَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم -.(3/244)
هذه (1) الجملة تدلُّك على معرفتهم بسوء (2) حاله وقُبح أفعاله.
فإن قلت: فما الوجه في روايتهم عنه؟
فالجواب من وجهين:
الوجه (3) الأول: إنّ الرِّواية لا تدلُّ على التَّعديل كما ذكره الإمامُ يحيى بنُ حمزة في " المعيار " وابن الصلاح في " العلوم ".
وقد روى زينُ العابدين، وعروةُ بن الزبير (4) عن مروان، ولم يَدُلَّ ذلِكَ على عدالته عندهما، فكذلك روايةُ المحدثين عنه.
وقد ذكر النواوي في " شرح مسلم، أن مسلماً يروي في " الصحيح " عن جماعة من الضعفاء، وبيَّن الوجه في ذلك، وقد قدَّمناه (5)، وروي عن مسلم تنصيصاً التَّصريحُ بذلك، فدلَّ على أنَّهم قد يروون عَمَّن ليس بِثَقَةٍ عندهم (6).
فإن قلتَ: فَمَا عذْرُهُم في ذلك؟
قلت: لهم فيه عُذْرَانِ:
أمّا أحدُهُما: فالرغبة في علوِّ الإسناد؛ وما فيه من التسهيلِ على طلَبَةِ هذا الشَّأن، مع كونِ الحديث معروفاً عند أهل هذا الشَّأنِ بإسنادٍ (7)
__________
(1) في (ش): وهذه.
(2) في (ب): سوء.
(3) ساقطة من (ش) و (ب).
(4) " ابن الزبير" ساقطة من (ش).
(5) انظر ص 97 - 103 من هذا الجزء.
(6) ساقطة من (ش).
(7) من قوله: " وما فيه " إلى هنا سقط من (ش).(3/245)
نازل من طريق الثِّقات، وقد مرَّ تقريرُ هذا، وأنّ النَّواوي روى هذا عن مسلمٍ تنصيصاً، وهو نادِرُ الوُقُوعِ.
العذرُ الثَّاني: وهو كثيرُ الوقوع، أن يكونَ الحديث مرويّاً من طُرُقٍ كثيرة في كلٍّ منها ضعْفٌ، لكن بعضُها يَجْبُرُ بعضاً، ويُقَوِّيه، ويشهدُ له، مع كون بعضِ الرُّواة عدلاً في دينه، صدوقاً في قوله، كثيرَ الوهم، فلم يعتمد عليه وحدَه في التَّصحيح لولا مَا جَبَرَ ضعفَه مِنَ الشَّواهد والمتابعات الّتي يَحْصُلُ من مجموعها قوَّةٌ كبيرةٌ تُوجِبُ الحُكْمَ بِصِحَّةِ الحديث أو حُسْنِهِ، فيذكرون بعضَ طرقه الضَّعيفة، ويتركون بقيَّة الطُّرُق للاختصار والتَّقريب على طلبة العلم.
ويدل على ما ذكرته أنَّ أحاديثَ مروان مشهورَةٌ عَنِ الثِّقات، وهي (1) أحاديث يسيرة، فمنها حديثُ قصة الحُدَيْبِيَة، وحديثُ وفد هَوازِن، وقِصَّةُ سهيل بنِ عمرو هذه رواها (2) البخاري عنه مقروناً بالمِسْوَرِ بنِ مَخْرَمَةَ مع
__________
(1) في (ب): وهي من.
(2) أي: قصة الحديبية، وقصة سهيل بن عمرو، وهي في " صحيحه " برقم (2731) من طريق عبد الرزاق، أخبرنا معمر، أخبرني الزهري، أخبرني عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان، يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه، قالا: خرَجَ رسولُ الله زمن الحديبية ... قال الحافظ في " الفتح " 5/ 323: هذه الروايةُ بالنسبة إلى مروان مرسلة، لأنَّه لا صحبة له، وأما المسورُ فهي بالنسبة إليه أيضاًً مرسلة، لأنَّه لم يحضرِ القصةَ، وقد تقدم في أول الشروط (2711) من طريق أخرى من الزهري، عن عُروةَ أنَّه سمعَ المِسوَر ومروان يُخبران عن أصحاب رسول الله، فذكر بعضَ هذا الحديث، وقد سمع المسور، ومروان جماعة من الصحابة شهدوا هذه القصة كعمر، وعثمان، وعلي، والمغيرة، وأم سلمة، وسهل بن خيف وغيرهم، ووقعَ في نفس هذا الحديث شيء يدل على أنَّه عن عمر ... وقد روى أبو الأسود عن عروة هذه القصة، فلم يذكر المسور، ولا مروان، لكن أرسلها، وهي كذلك في مغازي عُروةَ بنِ الزبير. أخرجها ابنُ عائذ في " المغازي " له بطولها، وأخرجها الحاكمُ في " الإكليل " من طريق أبي الأسود عن عروة أيضاًً مقطعة.
وأما حديثُ وفد هوازِن، فقد أخرجه البخاري (2307) و (2583) و (2607) =(3/246)
شُهرتها، أو تواتُرها عند أهلِ السِّيَر.
ومنها سَبَبُ النزولِ في قوله تعالى: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (1) [النساء: 95] وقد رواه قَبِيصَةُ بنُ ذُؤيبٍ.
__________
= و (2607) و (3131) و (4318) من طريق الليث بن سعد، عن عُقيل، عن ابن شهاب قال: وزَعَمَ عروة أن مروان بن الحكم، والمسورَ بن محزمة أخبراه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام حين جاءه وفدُ هوازن مسلمين، فسألوه أن يردَّ إليهم أموالَهم وسبيَهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أحبُّ الحديث إليَّ أصدقُه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبيَ وإما المالَ، فقد كنتُ استأْنَيْتُ بهم " -وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتظرهم بِضْعَ عشرةَ ليلةً حينَ قَفَل من الطائف- فلمَّا تبيَّن لهم أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - غيرُ رادٍّ إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: نختار سَبْيَنا، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأثنى على الله بما هو أهلُه، ثم قال: " إما بعدُ فإنَّ إخوانَكم قد جاؤونا تائبين، وإني رأيتُ أن أَرُدَّ إليهم سَبْيَهم، فمن أحبَّ منكم أن يُطيِّب بذلك فليفعلْ، ومَن أحَبَّ منكم أنْ يكون على حَظِّه حتى نُعطيَه إيَّاه من أول ما يُفيءُ الله علينا فليفعَلْ "، فقال الناسُ: قدْ طَيبنا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّا لا نَدْري من أذِنَ منكم في ذلك ممن لم يَأْذَن، فارجعوا حتى يرفَعُوا إلينا عُرَفاؤكم أمركُم "، فرجعَ الناسُ، فكلَّمَهم عُرَفاؤهم، ثُمَّ رَجعُوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه أنَّهم قد طيَّبُوا وأَذِنُوا.
(1) أخرج البخاري (4592) من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب قال: حدثني سهلُ بن سعد الساعديُّ أنَّه رأي مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلستُ إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أملى عليه: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فجاءه ابنُ أم مكتوم وهو يُملُّها عليَّ قال: يا رسولَ الله، والله لو أستطيع الجهادَ، لجاهَدْتُ -وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفخذُه على فخذي، فثقُلَت عليَّ حتى خفتُ أن تُرَضَّ فخذي، ثم سُرِّي عنه، فأنزل اللهُ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.
وأخرجه أحمدُ 5/ 184، وابن سعد 4/ 211، والترمذي (3033)، والنسائي 6/ 9 - 10، وابن الجارود (1034) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، به.
وأخرجه البيهقي 9/ 23 من طريق إبراهيم بن سعد، به.
وأخرجه الطبراني (10239)، والنسائي 6/ 9 من طريقين عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، به.
وأما رواية قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت، فأخرجه عبد الرزاق في تفسيره لوحة 48، ومن طريقه أحمد 5/ 148، وابن جرير (10240) عن معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت ...(3/247)
ومنها قراءةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالأعراف بالمغرب (1) وقد اعترض الدارقطني (2) على البخاريِّ روايةَ هذا الحديثِ من طريق مروان، وقال: إنَّه لم يرو (3) من طريقه إلا ابنُ أبي مليكة، قال: وقد رواه أبو الأسود محمد بنُ عبد الرحمن بن نوفل عن (4) عروة، عن زيد بن ثابت، لم يذكر فيه مروانَ بن الحكم قال ذلك عمرو بنُ الحارث، وهو من الأثبات، واختلف عن هشام بن عروة، فقال القطانُ، والليثُ، وحمادُ بنُ سَلَمَةَ وغيرُهُم: إنه عن زيد (5) بن ثابت، أنَّه قال لمروان [مرسلاً].
وقال ابنُ أبي الزِّناد، وأبو (6) ضمرة مثلَ رواية ابن أبي مُليكة، وقد
__________
(1) أخرجه البخاري (764) من طريق أبي عاصم، وأبو داوود (812) من طريق الحسن بن علي، عن عبد الرزاق، والنسائي 2/ 170 عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد بن الحارث، ثلاثتهم عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم قال: قال لي زيد بن ثابت: مالك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ بطُولى الطوليينِ. قالَ: قلت: ما طُولى الطوليين؟ قال: الأعرافُ. لفظ أبي داوود.
(2) نص كلامه في " التتبع " ص 467: قال أبو الحسن: ورواه هشام بن عروة، عن أبيه، واختلف عليه، فقال أبو ضمرة، وابن أبي الزناد، عن هشام، عن أبيه، عن مروان كقول ابن أبي مليكة، وقال يحيى القطان، والليث بن سعد، وحماد بن سلمة وغيرهم: عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زيد أنَّه قال لمروان مرسلاً، وكذلك قال عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة، عن زيد بن ثابت.
وقال الحافظ في " الفتح " 2/ 247: وعند النسائي 2/ 169 - 170 من رواية أبي الأسود عن عروة، عن زيد بن ثابت أنَّه قال لمروان. يا أبا عبد الملك، أتقرأُ في المغرب بـ {قل هو الله أحد} و {إنا أعطيناك الكوثر}. وصَرَّحَ الطحاوي 1/ 211 من هذا الوجه بالإخبار بين عروة وزيد، فكأنَّ عروةَ سَمِعَهُ من مروان، عن زيد، ثم لقي زيداً، فأخبره.
(3) في (ب): يروه.
(4) تحرفت في (ب) إلى: ابن.
(5) تحرفت في الأصول كلها إلى " حماد " وقد كتب في (أ) فوق كلمة " حماد ": ظ زيد بخط المصنف.
(6) تحرف في (ش) إلى: " ابن "، وأبو ضمرة: هو أنس بن عياض الليثي المدني روى له الجماعة.(3/248)
رُوي عن عائشة بإسنادٍ (1) صحيح في " النسائي " (2).
قال ابنُ حجر في " التلخيص " (3): ورواه ابنُ السكن من حديث أبي أيوب بعد أن ذكر طريقيه عن زيد بنِ ثابت، وعن مروان، وذكر أيضاً طريق عائشة، لكن أعلَّها ولم يُبيِّنِ العِلَّة.
ومنها: أثر موقوف عن عُثمانَ في فضلِ الزبير (4)، وهذا لا بأسَ به، لأنَّهم يتسامحون في أحاديث الفضائلِ.
ومنها: قِصَّةُ عثمان في النهي عن مُتْعَة الحَجِّ، ومخالفة عليٍّ (5)،
__________
(1) في (ش): إسناد.
(2) في " سننه " 2/ 170 من طريقين عن ابن أبي حمزة، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرقها في ركعتين. وانظر " زاد المعاد " 1/ 210 - 211.
(3) 1/ 175 - 176.
(4) هو في " صحيح البخاري " (3717) في الفضائل، باب: مناقب الزبير من طريق خالد بن مخلد و"التاريخ الكبير" له 6/ 368 من طريق محمد بن علي، و" مسند أحمد " 1/ 64 من طريق زكريا بن عدي، كلاهما عن علي بنِ مُسْهرٍ، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن مروان -وما إخالُه يُتَّهم علينا- قال: أصابَ عثمان بنَ عفان رضي اللهُ عنه رُعاف شديد سَنَةَ الرُّعاف حتى حبَسَه عن الحجِّ وأوصى، فدخل عليه رجل من قريش قال: استخلِفْ، قال: وقالوه؟ قال: نعم، قال: ومَنْ؟ فسكت، فدخل عليه رجلٌ آخر -أحسبُه الحارث- فقال: استَخلِفْ، فقال عثمان: وقالوا؟ فقال: نعم، قال: ومن هو؟ فسكت، قال: فلعلَّهم قالوا: إنَّه الزبيرُ؟ قال: نعم، قال: أما والذي نقسي بيده، إنه لخيرُهم ما علمتُ، وإن كان لأحَبَّهم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وصححه الحاكم 3/ 363 على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، مع أن البخاري أخرجه كما ترى، فاستدراكه عليه خطأ من الحاكم رحمه الله.
(5) هو في " صحيح البخاري " (1562) من طريق محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن علي بن الحسين، عن مروان بن الحكم قال: شهدتُ عثمان وعليّاً رضي الله عنهما، وعثمان ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما، فلما رأي علي، أهلَّ بهما لَبَّيْك بعمرة وحَجَّة، قال: ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد.
وأخرجه البخاري (1569)، ومسلم (1223) (159) من طريقين عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: اختلف علي وعثمان رضي اللهُ عنهما وهما بعسفان =(3/249)
وهذا (1) مشهور.
ومنها: حديث بُسرة في مس الذَّكر (2)، ورواته بِضْعَةَ عَشَرَ.
ومنها: حديثُه في صلاة الخوف (3)، وقد رواه عُروة.
ومنها: حديث " إنَّ مِنَ الشِّعْر حِكْمَةٌ " (4) رواه البخاري، وأبو داود
__________
= في المتعة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعَك، فلمَّا أن رأي علي ذلك، أَهَلَّ بهما جميعاً.
وأخرجه مسلم (1223) من طريقين عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن قتادة قال: قال عبدُ الله بنُ شقيق: كانَ عثمانُ ينهى عن المتعة، وكان عليّ يأمرُ بها، فقال عثمانُ لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد علمتَ أنا قد تمتعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أجل، ولكنا كُنَّا خائفين. وانظر " زاد المعاد " 2/ 195 وما بعدها، و" الفتح " 3/ 432 - 433.
(1) في (ب): في هذا.
(2) حديث بُسرة حديث صحيح، مخرج في " الموطأ " وغيره، وقد استوفيت تخريجه في " صحيح ابن حبان " (1113) وما بعده، فاطلبه من هناك.
(3) أخرجه أبو داوود (1240) في صلاة الخوف، باب: من قال: يكبرون جميعاً، والنسائي 3/ 173 في صلاة الخوف من طريقين عن أبي الأسود أنَّه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنَّه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، قال مروان: متى؟ فقال: أبو هريرة عام غزوة نجد ...
وأخرجه أبو داوود (1241) من طريق محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير، ومحمد بن الأسود، عن عروة بن الزبير، عن أبي هريرة.
(4) أخرجه البخاري (6145)، وأبو داوود (5010)، وابن ماجة (3755)، والدارمي 2/ 296 - 297، وأحمد 3/ 456 و5/ 125 من طرق عن ابن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام، عن مروان بن الحكم، عن عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، عن أبي بن كعب ...
ورواية الوليد بن محمد الموقّري أخرجها عبد الله بن أحمد في زيادات " المسند " 5/ 126 من طريق سُويد بن سعيد، عن الوليد بن محمد الموقري، عن الزهري قال: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن قال: سمعت عبد الرحمن بن عبد يغوث يقول: سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ... فذكره، ولم يذكر فيه مروان.
ورواية يزيد في هارون، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري ... بإسقاط مروان، ذكرها المزي في " الأطراف " 1/ 31.(3/250)
وابن ماجة من طريقه (1) عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيِّ بن كعب، وقد رواه يزيدُ بنُ هارون، والوليد (2) بن محمد الموقري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزُّهري، عن أبي بكر بن عبد الرَّحمن، أحدِ الفُقهاء السبعة، عن عبد الرحمن بن الأسود بإسقاط مروان، فالظاهر (3) أنَّ أبا بكر سَمِعَهُ من مروان، ومن عبد الرحمن بنِ الأسود معاً؛ لأنَّه لم يُوصَمْ بالتَّدليس، (4)، وهو مدرك لزمان عبد الرحمن بن الأسود، فإنَّه وُلدَ في زمن عمر، وروى عن عائشة وأبي هريرة، فصح الإسناد من غير حاجة إلى مروان.
ومع أنَّ الحديثَ صحيحُ المعنى بالضَّرورة، وله شواهد في " الترمذي " (5) عن ابن مسعود، وفي " أبي داود "، و" الترمذي " (6) عن ابن عباس.
وبالجملة، فلم يَرْوِ مروانُ إلا عن عليٍّ، وعثمانَ، وزيدِ بن ثابت، وأبي هريرة، وبُسرةَ، وعبدِ الرحمن بن الأسود، وقد ذكرت (7) جميعَ ما رَوَى عنهم.
وأما قوله في عبدِ الرحمن بن أبي بكر، هذا الذي أنزلت (8) فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17]، فما أظنُّ البخاري
__________
(1) في (ب): " طريق "، وهو خطأ.
(2) الواو ساقطة من (ش).
(3) في (ش): والظاهر.
(4) وقد صَرَّح بسماعه في رواية عبد الله بن أحمد في زيادات " المسند " كما تقدم.
(5) رقم (2844).
(6) أبو داوود (5011)، والترمزي (2845).
(7) في (ش): ذكر.
(8) في (ش): نزلت.(3/251)
أورده (1) إلا لِبيان كلامِ عائِشة الذي ردَّت عليه، وإلا فهذا مُرْسَلٌ لا يَصِحُّ عند البخاري مع أنَّه ليس فيه حكم شرعِيٌّ، ومع أنَّه لم يرفعه، ولا بيَّن مستنده فيه (2).
وأمَّا عبدُ الرحمن -فعلى تقدير صِحّة هذا- فقد كان مشركاً بِغَيْرِ شكٍّ، ولكنَّه أسلمَ، والإسلامُ يَجُبُّ ما قبله.
الوجه الثاني: أنَّ رواية المحدِّثين عنه -مع تصريحهم بِمَا لَهُ مِنَ الأفعال القبيحةِ- تدُلُّ على ما ذكره الحافظ ابن حجر في " مقدمة شرح البخاري " (3) أنَّ روايتهم كانت قَبْل إحداثه أيَّامَ كان عندَهم في المدينة والياً من جهةِ الخُلفاء قبل أن يَتَوَلَّى الخِلافَةَ، لأنَّ روايتَهم عنه من طريقِ عليِّ بنِ الحسين، وعُرْوَةَ وأمثالِهِما مِمَّن لم يروِ عنه بَعْدَ خلافته وخروجِه من المدينة.
الوَهْمُ الخامسُ: قال السَّيِّدُ: ومنهم المغيرةُ بن شعبة زنى -هكذا رماه السَّيِّدُ بالزنى متوهِّمَاً أنَّ ذلك قد صحَّ منه (4)، ولم يبقَ فيه شَكٌّ، وليس الأمرُ كذلك، فإنَّه لو صحَّ ذلك، لحدَّه عُمَرُ، ولو لم يَحُدَّهُ، وقد صحَّ الزِّنَى منه، لأنكر ذلك على عمرَ أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم
__________
(1) في " صحيحه " (4827) من طريق موسى بن إسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، قال: كان مروان على الحجاز استعمله معاوية، فخطب، فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يبايع له بعد أبيه، فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئاً، فقال: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إنَّ هذا الذي أنزل الله فيه: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي} فقالت عائشة مِنْ وراءِ حجاب: ما أنزلَ اللهُ فينا شيئاً من القرآن إلا أنَّ الله أنزلَ عذري. وانظر " الفتح " 8/ 577، والصفحة 239 تعليق (1) من هذا الجزء.
(2) ساقطة من (ش).
(3) ص 443.
(4) في (ب) و (ش): عنه.(3/252)
يسكتوا عليه على تسليم ما ادَّعاه أنَّها قد صحَّت قِصَّتُهُ.
فإنْ كانَ السيد رماه بالزنى معتقداً لجواز رمي الفَسَقَةِ بالزنى، فليس ذلك يجوزُ من غيرِ طريقٍ صحيحة، وقد عَظَّمَ اللهُ الرَّمي بهذه الفاحشة، ولم يجعل إلى ذلك سبيلاً إلاَّ بَعْدَ كمال نصاب (1) الشهادة، وقد كان الرجُلُ يأتي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيُقِرُّ بالزنى، ويعترِفُ بالفاحشة فيتطلَّبُ (2) النبي - صلى الله عليه وسلم - العُذْرَ (3) له بَعْدَ الإقرارِ والاعتراف، ويقول: " لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، لَعَلَّك لَمَسْتَ " حتَّى لا يجدَ سبيلاً إلى الشَّكِّ، ولا طريقاً إلى الاحتمال، والسيدُ أيَّدَهُ اللهُ عكس ما يلزم من الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورمى المغيرة بالزِّنى من غير مَثْنَوِيَّةٍ (4) ولا حكاية، مع أنَّ المغيرَة مُنْكرٌ لذلك، ومُدَّعٍ للبراءة منه، ولم يتمَّ نصابُ الشَّهادة، وكان القدح على المغيرة بمعاصيه الظَّاهرةِ مِنْ حربِ أميرِ المؤمنين أولى مِنَ الهُجوم على الأمورِ الخفيَّة المحتملة، وقد كان السَّيِّد منع مِنْ إمكان طريقٍ صحيحة إلى ثبوت ما يجب العملُ فيه بخبر الواحد، فليُخْبِرْنَا كيف تيسَّر له العلمُ بصحَّة هذه القصَّة في الجملة، ثم كيف عَلِمَ منها صِحَّةَ الزِّنى عَنِ المغيرة، وأحدُ الشهودِ الأربعة زيادُ بن أبيه، وهو فاسِقٌ تصريح.
فإن قلت: إنّه شهدَ قبل ذلك، فاقْبَلْ مِن المحدثين مثل هذا في الرِّواية عن مروان ونحوه. على أنَّ القصَّةَ في الجملة لم تَثْبُتْ بطريقٍ متَّفَقٍ
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ب): فيطلب.
(3) في (ش): بالعذر.
(4) أي: من غير استثناء، يقال: حَلَفَ فلانٌ يَميناً ليسق فيها ثُنيا ولا ثُنوى ولا ثنية، ولا مثنوية، ولا استثناء، كلُّه واحدٌ، وأصلُ هذا كله من الثني، والكف، والرد، لأنَّ الحالفَ إذا قال: واللهِ لا أفعلُ كذا وكذا إلا أَنْ يشاء اللهُ غيره، فقد ردَّ ما قاله بمشيئة الله غيره.(3/253)
على صحَّتها، وإنَّما رواه سيف بن عمرو المؤرِّخ، وهو مجروحُ العدالة، وأرسلها معه (1) أبو حذيفة البخاري بغير إسناد، ولا أعرف حاله، وأسندها أبو عتَّاب الدَّلال عن أبي كعب صاحب الحرير فيما حكاه الذَّهبي في " النبلاء " (2) وقد تقصَّى طرقها، وإليه المنتهى في هذا الفنِّ، فَأَفِدْنَا مَنْ عدَّل هؤلاء، ومن عدَّل المعدّل حتى انتهى إليك كما ألزمتنا فيما هو دُونَ هذا.
الوهم السادس: قال (3): فإن يُعْتَدَّ بشهادةِ هؤلاء في الجرح، لا في الحدِّ، فالمغيرةُ مجروحٌ، وإن لم يُعْتَدَّ بشهادتهم، فأبو بكرة قاذِفٌ وصاحباه، فلا يَروِي عن واحدٍ منهم الرُّواة.
أقول: إن كان المرادُ جرحَ المغيرة بالبغي فقد مضى، وإن كان بهذا وحدَه، فالجوابُ من وجهين معارضةٌ وتحقيق.
أمَّا الوجة الأول: وهو المعارضة، فذلك بنظائرِ هذا في الشريعة مما لم يقبح أحدٌ من العلماء على أهلِ الاجتهاد شيئاً من أقوالهم فيها مثلُ المتلاعِنيْنِ، فقد وقع اللِّعان في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِه، ولم يكن جَرحاً في المتلاعِنَيْنِ، ولو كان جَرحاً، كان حراماً، ولم يشرعْهُ اللهُ، ولا
__________
(1) في (ش): " مع " وهو تحريف.
(2) 3/ 27 - 28، وسيف بن عمر هو الضبي الكوفي، مصنفُ الفُتوحِ والرِّدة وغير ذلك، ضعَّفَه يحيى بن معين، وقال: فَلْسٌ خيرٌ منه، وقال أبو داوود: ليس بشيءٍ، وقال أبو حاتم: متروك، وقال ابنُ عدي: عامةُ حديثه منكرٌ، وقال الذهبي: هو كالواقدي. وأبو حذيفة البخاري: هو إسحاق بن بشر بن عبد الله بن سالم البخاري مولى بني هاشم، وُلد ببلخ، واستوطن بُخارى، فنسب إليها، وهو صاحب كتاب " المبتدأ "، وكتاب " الفتوح " تُوفي سنة 206 هـ. قال الذهبي في " الميزان " 1/ 184: تركوه، وكذبه علي بن المديني، وقالَ ابنُ حبان: لا يحلُّ حدتُه إلا على جهةِ التعجب، وقال الدارقطني: كذاب، متروك.
(3) في (ب): من قال.(3/254)
أقرَّ عليه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال لهما بعدَ تلاعنهما: " الله يَعْلمُ أنَّ أَحَدَكُما كاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا مِنْ تَائبٍ؟ " وقال لها (1) في الخامسة: " إنَّهَا المُوجِبَةُ لِعَذابِ اللهِ " (2)، نعوذ بالله من ذلك.
وكذلك حُكْمُ المدَّعي والمنكرِ في المنازعات الشرعية، قد يُعْلَمُ كَذِبُ أحدِهِمَا قطعاً، ولا يجب جَرْحُ كُلِّ واحدٍ منهما قطعاً.
الوجه الثاني: التَّحقيق، وبيانُه أنْ نقولَ: توهم السَّيِّدُ أنَّ الشهادةَ على الزِّنى إذا لم يتمَّ نِصَابُها كانت قذفاً، فإمَّا أن يُرِيد أنَّ ذلك كذلك على سبيلِ القطع أو (3) الظن، إن قالَ: إنَّه كذلك على سبيل الظَّنِّ، فقد أصاب؛ لأنَّه ليسَ في المسألة دليلٌ قاطعٌ، وقَدِ اختلف العلماءُ فيها، وللشافعي في المسألة قولانِ، وقال في " نهاية المجتهد " (4) الشهودُ عند مالك إذا كانوا أقلَّ من أربعةٍ قَذَفَةٌ، وعند غيره ليسوا قَذَفَةً، فجعلَ القولَ بأنَّهم ليسوا قذفة هو قول الأكثرين من الفقهاء.
وقال الحاكم في " شرح العيون " ما لفظه (5): ألا ترى أنَّ مَنْ يشهدُ بالزِّنى لا يؤثِّرُ في حاله، ومن قُذِفَ بالزِّنى أثَّر؟ فنصَّ على الفرقِ بين الشهادة والقذفِ، وفي " الصحيحين " (6) من حديثِ أبي هريرة، وزيدِ بنِ
__________
(1) في (ش): لهما.
(2) قطعة من حديث ابن عباس سيأتي تخريجه قريباً.
(3) في (ب): و.
(4) 2/ 441، واسم الكتاب " بداية المجتهد ونهاية المقتصد " لمؤلفه القاضي ابن رشد القرطبي، المتوفى سنة 595 هـ.
(5) " ما لفظه " ساقطة من (ب).
(6) أخرجه البخاري (2314) و (2315) و (2649) و (2695) و (2696) و (2724) و (2725) (6633) و (6634) و (6827) و (6828) و (6831) و (6833) و (6835) و (6836) و (6842) و (6843) و (6859) و (6860) و (7193) و (7194) و (7258) =(3/255)
خَالِدٍ الجُهيني: أنَّ رجلاً من الأعراب قال للنَّبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ ابني كانَ عَسِيفاً على هذا، فزنى بامرأته، الحديثَ، وفيه أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُوجِبْ على المستفتي حدّاً لرميه لامرأة خصمه، وأقره، ولم يُنْكِرْ عليه، لأنَّه لم يقْصِدِ الرَّميَ، بَلَ الفتوى.
وكذلك في حديثِ ابن عَبَّاس (1): أن هلال بن أُميَّةَ قذف أمرأتَه بشريكِ بنِ سحْمَاء عِنْدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - .. الحديثَ، إلى قوله: فنزلت آيةُ اللِّعان. ولم يجب على هلالٍ حدُّ القذف لشريك (2).
وكذلك (3) في هذا الحديث ما معناه أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إنْ جَاءَتْ بهِ عَلَى شبهِ شَرِيكٍ فهُو لَهُ "، فجاءت به كذلك، فقال: " لولا ما مَضى مِنْ كِتَابِ اللهِ، لكَانَ لي فيها شأْنٌ " رواه البخاري، وأبو داود والترمذي، وابنُ ماجه، وأحمد وغيرهم. وذكره في " شفاء الأوام ".
وكذلك شرط ابنُ حزمٍ في الإجماع على حَدِّ القذف أن يجيءَ به صاحبه مجيء (4) القذف، والله سبحانه أعلم.
وكلام النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يدفع أن يُقال: إنَّما سقط الحدُّ لِعدم المطالبة من
__________
= و (7259) و (7260) و (7278) و (7279)، ومسلم (1697) و (1698). وأخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 822، وأبو داوود (4445)، والترمذي (1433)، والنسائي 8/ 240، والدارمي 2/ 177، وابن ماجه (2549). والعسيف: الأجير.
(1) أخرجه البخاري (2671) و (4747) و (5307)، وأبو داوود (2254)، والترمذي (3179)، وابن ماجه (2067)، والبيهقي 7/ 393، وأحمد 1/ 273.
(2) في (ش): هذا حدّاً لشريك.
(3) في (ش): فكذلك.
(4) في (ش): على مجيء.(3/256)
المقذوف؛ ولأنَّه - صلى الله عليه وسلم - لا يجوزُ عليه القَذْفُ المُحَرَّمُ، ولا أقرَّ هلالا على ذلك، ولو كان قذفاً حراماً لم يُقِرَّه عليه، سواء وجب فيه الحدُّ أو لم يجب (1)، والغالبُ أنَّ السيدَ جرح بهذا لمَّا حَفِظ أنَّ مذهبنا أنَّهم قَذَفَةٌ على سبيلِ التّقليد لأهل المذهب، وظنَّ أنَّ أهلَ المذهبِ يقدحون على مَنْ قبلهم بذلك، وليس كذلك، فإنَّه لو لَزِمَ القَدْحُ بمسائلِ الخلاف، لزم الجرحُ لجميع المخالفين، بل الَّذي يذهب إليه أصحابُنا: أنَّ الشاهد قاذِفٌ، ولا يقبلونه لمذهبنا (2) فيه، ولا يلزمُ الغير أن يَرُدَّه كما ردُّوه، ولا يُنْسَبُ إلى مَنْ قَبِلهُ أنَّه يقبل (3) المجاريحَ، فاعرف ذلك.
وإن قال السَّيِّد (4): إنَّ الشاهد قاذِفٌ قطعاً، فذلك لا يَصِحُّ؛ لأنَّ المسألة شرعيَّةٌ لا عقليَّةٌ، وليس فيها نصٌّ قاطعٌ غيرُ محتمِل للتَّخصيص، ولم يبق إلا القياسُ على العام (5)، ولا يصحُّ أن يكون القياسُ فيها (6) قاطِعَاً لوجدان الفروق (7) المانعة مِنْ ذلك، فإنَّ بين الشَّاهدِ والقاذفِ فُروقاً ظاهِرَة، ولا يصحُّ معها القياسُ القطعيُّ، ألا ترى أنَّه يُشترط في الشاهد العدالةُ، ويشترط العددُ المخصوصُ في الشُّهود، ولا يجب في القاذف أن يقذفَ معه غيره فثبت أنَّ الشَّاهدَ غيرُ القاذفِ، وإذا ثَبت أنَّ المسألة ظنيَّةٌ، لم يجز جرحُ الشُّهودِ بذلك؛ لأنَّ الجرح لا يكون إلا بأمرٍ ثبت بالقطع أنَّه
__________
(1) في (ش): يوجب.
(2) في (ب): بمذهبنا.
(3) في (ش): قبل.
(4) ساقط من (ش).
(5) في (ب): " القياس "، وفي (ش): " القاذف ".
(6) في (ش): فيه.
(7) في (ب): فرق.(3/257)
معصيةٌ، ولهذا لا يُجْرحُ مَنْ شَرِبَ المُثَلَّث (1) مع أنَّ جَرْحَ القاذِف الجاهلِ بتحريم القذف أو (2) الواثق بإقامَةِ الشَّهادة إنَّما هو بالنَّصِّ، وإلا فالقياس أنْ لا يُجَرَّحَ حتَّى يتحقق كذِبُه، لكن النَّصُ أقدمُ مِنَ القياس، فيجبُ أن نُقِرَّ النَّصَّ حيث ورد لمخالفته للقياس (3)، ولا يُقاس الشَّاهد على القاذف.
الوهم السابع: توهَّم السَّيِّد أنَّ هؤلاء الشُّهود الثَّلاثة إن لم يكونوا قاذفين، وجب جرحُ المغيرة بالزِّنى الذي أخبروا به، وظنَّ السَيِّد أنَّه لا مخرج مِنْ هذا السُّؤال، وليس كما توهَّم، بل يجوز أن لا يَصْدُقُوا فيما شَهِدُوا به، وأن (4) لا يُجْرَحُوا لِغلطهم في الشَّهادة.
فقد ذكر ابنُ النحوي في " البدر المنير ": أنَّ المغيرَة ادَّعى في تلك المرأة (5) الّتي رمَوْهُ بها أنَّها له زوجة، قال: وكان يرى نكاح السِّرِّ. وروي
__________
(1) هو الشراب الذي طُبخ حتى ذهب ثلثاه، ويسمى الطِّلاء -بكسر المهملة والمد-: وهو الدبس شُبِّهَ بطلاء الإبل، وهو القَطِرَان الذي يُدهن به، فإذا طبخ عصير العنب حتى تمدد أشبه طلاء الإبل، وهو في تلك الحالة غالباً لا يسكر.
وفي البخاري 10/ 62 في الأشربة، باب: الباذق: وَرأي عمرُ، وأبو عبيدة، ومعاذٌ شُربَ الطِّلاءعلى الثُّلْثِ.
قال الحافظ في " الفتح " 10/ 64 بعد أن خرج الآثار: وقد وافق عمر ومن ذكره معه على الحكم المذكور (أي: على جواز شرب الطِّلاء إذا طبخ، فصار على الثلث، ونقص منه الثلثان) أبو موسى، وأبو الدرداء، أخرجهُ النسائي عنهما، وعلي وأبو أمامة، وخالد بن الوليد وغيرهم، أخرجها ابن أبي شيبة وغيره، ومن التابعين ابن المسيب، والحسن، وعكرمة، ومن الفقهاء الثوري، والليث، ومالك، وأحمد، والجمهور، وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر، وكرهه طائفة تورعاً.
(2) في (ب): و.
(3) في (ب): القياس.
(4) " أن " ساقطة من (ب).
(5) في (ش): " الامرأة ".(3/258)
أنه كان يتبسَّمُ عند شهادتهم، فقيل له في ذلك، فقال: إنِّي أَعْجَبُ مِمَّا أريدُ أن أفعلَه بَعْدَ شهادتهم (1)، قيل: وما تفعل؟ قال: أُقيم البَيِّنَة أنَّها زوجتي. ذكره في " البدر المنير "، وذكر أنَّه كان كثيرَ الزواجة وأنَّه أُحصن بثلاثِ مئةِ امرأةٍ، فهذا محتمل.
وليس القصدُ تنزيه المغيرة مِنْ ذلك لأجلِ ورعه وتحرِّيه في أمر (2) الدِّيانة، فإنَّه باغٍ بالإِجماع، وإنَّما القصدُ بيانُ الاحتمال المانع مِنَ الإلزام الَّذي ذكره السَّيِّدُ، والمانع من رمي المغيرة بالزِّنى على الإطلاق والقطع، فإنْ كان السيدُ يريدُ أنَّه مجروحٌ بالبغيِ، فذلك مسلَّمٌ، ولكن بغير الزنى على ما قدَّمنا مِنَ (3) التَّفصيل والخلاف، وإنْ كان يُرِيدُ إثباتَ الزِّنى عنه، ففيه ما ذكرتُه مِنَ الإِشكال، والله أعلم.
الوهم الثامن: أنَّه ذكر في رسالته أنَّ مَنْ قعد عن نُصرة عليٍّ عليه السلام، فهو مجروح، ثمَّ ذكر ها هنا أنَّ أبا بكْرَةَ كان مِنْ فُضلاء الصَّحابة، ولا شكَّ عند أهلِ الخِبرة بالسِّيرِ أنَّ أبا بكرة كان من القاعدين المتشددين في ذلك، وله كلام على المتقاتلين جميعاً فيه نكارةٌ كثيرة (4) لكنَّه كان متأوِّلاً متديِّناً غيرَ مجترىءٍ، والسيد واهم (5) في أحد الموضعين، واللهُ أعلم.
واعلم أنَّ بعضَ الزَّيديَّة قد حاول الجزمَ بتفسيق المتوقِّفين عن عليٍّ عليه السَّلامُ، واحتجَّ بأمرين:
__________
(1) من قوله: " فقيل له " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): من أجل.
(3) في (ش): في.
(4) في (ش): كبيرة.
(5) في (ب): أوهم.(3/259)
أحدُهما: ما رواه السَّيد أبو طالب من طريق الحارث بن حوط، أنَّه سأل عليّاً عليه السَّلامُ عن ابنِ عُمَرَ، فأنشده:
واثُكْلَها قَدْ ثَكِلَتْهُ أَرْوَعَا ... أَبْيَضَ يحمي السّرْبَ أنْ يُرَوَّعا
واستنبط مِنَ الحُكمِ بِثُكْلِهِ الحُكْمَ بِهلاكِه، وَمِنَ الحُكْمِ (1) بهلاكه أنَّه هلاكُ الدِّين والآخرة، والجوابُ من وجهين:
أَحَدُهُما: النِّزاع في صحَّته، فإنَّ الحارثَ بنَ حوطٍ غَيْرُ مَذكور في كتب الرُّواة، ولا عُرِفَ السندُ إليه أيضاًً.
وثانيهما: أنَّه لو صحَّ الإسنادُ في ذلك، لم يَحْسُنْ قبولُه، ولا يحِلُّ، لأنَّ التَّفسيقَ لا يجوز إلاَّ بدليلٍ قاطع، ولا قاطعَ في النقل إلا التواترُ الضروري، وما دونه ظنِّيُّ إلا ما تواتر الإجماعُ القاطعُ على صحَّته مِمَّا دونَ المتواتر، فاختلف فيه: هل يكون قاطعاً؟ والصَّحيح أنَّه لا يكونُ قاطعاً كما قُرِّر (2) في موضعه مِنْ هذا الكتاب، ومن علوم الحديث الذي جمعته.
الوجه الثاني: أنَّه معارَضٌ بالثَّناء مِنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ومن عليٍّ عليه السَّلامُ على ابنِ عمر، ومحمَّدِ بن مسلمة وغيرِهما من المتوقِّفين، لكن عادةُ المخالفين أن لا يقبلوا ما خالفهم.
الثالث: أنَّه غيرُ بَيِّن المعنى (3)، وشرطُ القاطع أن يكونَ غيرَ
__________
(1) من قوله: " بتكله " إلى هنا ساقط من (ش).
(2) في (ش): قرره.
(3) ساقطة من (ب).(3/260)
محتمل، وبيان الاحتمال فيه من وجهين.
أحدهما -وهو أضعفُهما- أنَّه لا يجب صرفُ الهلاك المستنبط منه إلى الهلاكِ في حُكم الآخره إلاَّ متى تواتر أنَّ (1) هذا السُّؤال لعليٍّ عليه السلام، والجواب منه كان في حياة ابنِ عمر، أمَّا إذا أمكن ولو تجويزاً بعيداً أنَّه (2) بعدَ موته جازَ أن يكون (3) أراد ما أراد به قائله الأول مِنَ الثَّناء على الهالك بالموت، والتَّأسُّف عليه. ولسنا نجهلُ أنَّه قد نقل (4) تأخر موتِ ابن عمر (5)، ولكنَّ ذلك غيرُ متواتر ضروري، ولا يَنْفَعُ نقلُ الآحاد في هذا المقام، ولو كان متَّفقاً على صحَّته وشهرته، ومن أجل ذلك النَّقل المشهور قلنا: إنَّ هذا الوجه أضعفُ الوجهين.
وثانيهما: أنَّ هذا القول غيرُ نَصٍّ على فسقه بالضَّرورة، فيجوز حينئذٍ أنَّه نَزَّلَ وَقْفَهُ مَنْزِلَةَ مَوْتِهِ في عدم انتفاعه به (6)، لأنَّه لو مات، لم يزد على أنَّه (7) يفقد منه نصر الحَقِّ، وخِذلان الباطل، فبيَّن عليه السَّلامُ أنّه في فقده له في وقفه مستحِقٌّ أنْ يحزنَ عليه صديقُه، ويثكَلهُ إخوانُه كما قيل ذلك في مثله بعدَ الموت الحقيقيِّ، بَل الموتُ المجازيُّ أحقُّ كما قال الله تعالى في العمى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، فجعل العمى المجازِيَّ أشدَّ، ولذلك نَدِمَ وتاب رحمه الله.
__________
(1) " أن " ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ج).
(3) في (ب): يكون أنه.
(4) " نقل " ساقطة من (ب).
(5) كتب فوقها في (ش): عن موت علي عليه السلام.
(6) ساقطة من (ب).
(7) في (ش): أن.(3/261)
وأمَّا احتجاجُهم على فِسْقِ الواقفيَّة بقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " واخْذُلْ منْ خَذَلَهُ " (1)، فجوابه من الوجهين (2) معاً، أمَّا (3) عَدَم تواتره فظاهر، وأمَّا معناه (4) فقد وَضُحَ (5) في قول عليٍّ عليه السلامُ الَّذي رواه الخُصوم أنّ الواقفين لم ينصروا الحقَّ، ولم يخذُلوا الباطلَ، وذلك أنَّه جعل وقفهم عَن الباطل غيرَ خِذلانٍ له، فكذلك وقفُهم عَنِ الحَقِّ، ولأنّ ذلك هو القدر المتحقِّقُ في معنى الخذل، وما دونَه ظنٌّ، ولا يجوز التَّفسيقُ بالظَّنِّ، والله سبحانه أعلم.
ثم إن الواقفة مِنَ المتأوِّلين، وقد تقدَّم أنَّ فِسْقَ التَّأويل لا يقدح عند العِترة وغيرِهم في باب الرواية.
الوهم التاسع: قال: ومنهم الوليد بنُ عقبة. توهَّم السَّيِّد أنَّه من جملةِ مَنْ لا يجوزُ عليه الكبائرُ مِنَ الصّحابة عند المحدِّثين، وأنَّه عن (6) الفسوق (7) عندهم من المعصومين، وأنه (8) مِنَ المقبولين عند المحدثين، وأنَّه في البراءة عَنِ المعاصي أرفَعُ مرتبة مِنْ سَيِّدِ المرسلين، وهذا وهمٌ ومجازَفَةٌ، وأنا أذكر من كلامهم ما يُمِيطُ هذا الوهمَ إن شاء الله تعالى.
فأقول: قال أبو عمر (9) بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (10) -وقد
__________
(1) تقدم تخريجه في 1/ 369.
(2) في (ش): وجهين.
(3) في (ب): أما مع.
(4) في (ش): معنى.
(5) في (ش): صح.
(6) في (ب): من.
(7) في (ش): الفسق.
(8) في (ش): فإنه.
(9) في (ب): "عمرو"، وهو تحريف.
(10) 3/ 633.(3/262)
ذكر الوليد-: لَهُ أخبارٌ فيها نَكَارَةٌ وشَنَاعة تقطعُ على سُوءِ حاله وقُبْحِ فعاله، وحكي عن أبي عُبيدة، والأصمعي، وابن الكلبي وغيرهم أنَّهم كانوا يقولون: إنَّه (1) كان فاسِقاً، شِرِّيبَ خَمْر، شاعراً كريماً، وأخبارُه في شربه الخمر، ومنادَمته لأهله مشهورةٌ يَسْمُجُ بنا ذكرُها ها هنا. انتهى.
وقال أحمد بن حنبل في الحديث الذي فيه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمسح على رأسه في صغَرِه: إنَّ ذلك لِسَابِقِ علمه فيه، وسيأتي ذكر الحديِث.
وذكر غَيْرُ واحد من شارحي " كتاب الرافعي الكبير" (2)، منهم الحافظ ابن حجر أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قتل عُقْبَةَ بنَ أبي معيط صبراً يَوْمَ بدرٍ بَعْدَ أسرِه كما ذكره الرافعي.
وقال ابن حجر: رواه البيهقيُّ من طريق محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه، عن جَدِّه، عنه - صلى الله عليه وسلم -، وفيه أنَّ عقبة قال: مَنْ للصِّبْيَةِ يا محمد؟ قال: " النَّار ". ورواه الدارقطني في " الافراد "، وزاد فقال: " النَّارُ لَهُمْ ولأبِيهِمْ ". وفي " المراسيل " لأبي داود عن سعيد بن جبير مثلُ كلام الرافعي.
وخرّجه ابن أبي شيبة، ووصله الطبراني في " الأوسط " بذكر ابن عباس (3).
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) وهو المسمى " فتح العزيز على كتاب الوجيز " تأليف الإمام أبي القاسم عبد الكريم ابن محمد القزويني المتوفى سنة 623 هـ، والحافظ ابن حجر لا يُعد من شراحه، وإنما خرج أحاديثه في كتابه " تلخيص الحبير "، وهذا التخريج لخصه من كتاب " البدر المنير " لابن الملقن.
(3) " تلخيص الحبير " 4/ 108، وانظر " مراسيل أبي داود " رقم (337) بتحقيقنا، =(3/263)
قال الذهبي في " النبلاء " (1) في ترجمة الوليد: كان يشربُ الخمرَ، وحُدَّ على شربها، وروى من شعره في شُرْبِها، قال: وهو الذي صلَّى بأصحابه الفجرَ أربعاً وهو سكرانُ، ثمَّ التفت إليهم، وقال: أزيدُكم (2)؟
وقال لأميرِ المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه: أنا أَحَد منك سِناناً، وأَذْرَبُ لِساناً، وأشجع جَنَاناً، فقال (3): اسكت، فإنَّما أنت فاسقٌ، فنزلت: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]، قال الذَّهبي: إسناده قوي (4)، انتهى كلامه.
وذكر الواحدي في كتاب " أسباب النزول " (5) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، ولم يذكر غيره، وروى حديثين في أنَّه الوليد، ومثله ذكر في " وسيط " (6) الواحدي أنَّه الوليد، ولم يذكروا (7) سواه، وكذا في " عين المعاني "،
__________
= و" المصنف " لابن أبي شيبة 14/ 372.
وروى أبو داود (2686) بسند حسن من طريق عمرو بن مرة، عن إبراهيم قال: أراد الضحاك بن قيس أن يستعمل مسروقاً، فقال له عمارة بن عقبة: أتستعمل رجلاً من بقايا قتلة عثمان، فقال له مسروق: حدثنا عبد الله بن مسعود -وكان في أنفسنا موثوق الحديث- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد قتل أبيك قال: من للصبية؟ قال: " النار "، فقد رضيت لك ما رضي لك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(1) 3/ 414.
(2) انظر " صحيح مسلم " (1707) في الحدود، باب: حد الخمر.
(3) في (ش): فقال له.
(4) وزاد: لكن سياق الآية يدل على أنها في أهل النار.
(5) ص 261 - 263.
(6) للإمام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المتوفى سنة 468 هـ ثلاثة تفاسير " الوجيز "، و" الوسيط "، و" البسيط "، وقد طبع منها الوجيز على هامش " التفسير المنير لمعالم التنزيل " للشيخ محمد نووي الجاوي سنة 1305.
(7) في (ش): يذكرا.(3/264)
و" تفسير القرطبي "، لم (1) يذكرا سواه مع توسُّعهما في النَّقل، لا سِيمَّا القرطبي، وكذا في " تفسير عبد الصمد الحنفي "، و" تفسير الرازي " لم يذكرا سواه.
وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب " الاستيعاب ": ولا خلاف بين أهلِ العلمِ بتأويل القرآن فيما علمت أنَّ هذه الآية نزلت في الوليد (2) أفاد ذلكَ كُلَّه شيخُنا النَّفيسُ العلوي أعاد اللهُ من علومه.
وأفاد السَّيِّد أيَّده الله أنَّ ابنَ الجوزي ذكر مِثْلَ ذلك، قال: وهو مِنَ القوم.
أقول: فإذا كان من القوم، فكيف ادَّعيت عليهمُ القولَ بأنَّ الكبائرَ لا تجوزُ على الصحابة؟ فلو كانوا -كما زعمتَ- يعتقدون هذه العقيدة، وكما زعمت في أنَّهم كُفَّارُ تصريحٍ، دأبُهم التَّعمد للأكاذيب في نُصْرَةِ مذاهبهم ما تطابقوا على هذا، فَدَعْ عنك الدَّعاوي الباطلة، والاسترواحَ إلى الأقاويل الواهية.
الوهم العاشر: توهَّم السَّيّدُ أنّ الوليد منَ الرُّواة المعتمدين في الصِّحاح في الحديث عند أبي داود، وليس كما توهَّم أيَّدَهُ اللهُ، وقد ذكر أنّه مذكور في " سنن أبي داود "، ولا أدري: هل قصد السيّدُ أنَّه في " سنن أبي داود " مُعْتَمَدٌ على حديثه، فهذا غلطٌ على الرَّجل إذا (3) اعتقد أنّ مجرّد الرواية عَنِ الفاسق على سبيل التَّقوِّي مع الاعتماد على غيره مِنَ الثِّقات حرامٌ لا تجوز لأحد، فهذه أقبحُ مِنَ الأولى، وقد ذكرنا فيما تقدَّم
__________
(1) في (ش): ولم.
(2) من قوله: " وذكر الواحدي " إلى هنا تقدم عند المؤلف في 2/ 182 - 183.
(3) في (ش): أو.(3/265)
ثبوتَ الرِّواية عن المجروحين في كتب أهلِ البيت عليهم السَّلامُ، ونصَّ الإمام يحيى بن حمزة، وابنُ الصَّلاح وغيرُهما على أنَّ الرِّوايةَ ليست بتعديلٍ.
إذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ أبا داود روى حديثاًً عن جماعة مِن الثِّقات من طُرُقٍ كثيرة، ثمَّ ذكر الوليد بعدَهم على سبيل المتابعة في هذا الحديث الواحد (1) المرويِّ عنِ الثِّقات، وأنا أذكر الحديث الذي رواه أبو داود عن الوليد، وأبيِّن الطُّرُقَ التي اعتمد أبو داود عليها، وأذكر السَّبَبَ في تقوِّي أبي داود برواية الوليد بعد روايةِ الحديث من طرق الثقات. فأقول: بَوَّبَ أبو داود في " سننه " (2) باباً في كراهة الخَلُوقِ للرجال، وذكر ما ورد في ذلك، واستوفي الطُّرُقَ، ولم يقتصِرْ على الطرق (3) الصَّحيحة.
فروى عن عمار بنِ ياسر أنَّه قال: قَدِمْتُ على أهلي [ليلاً]، وقد تَشَقَّقَتْ يداي، فَخَلَّقوني بزعفران، فَغَدَوْت على النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فسَلَّمتُ عليه، فلم يَرُدَّ عليَّ، ولم يُرَحِّبْ بي، وقال: " اذْهبْ فَاغْسِلْ هذَا عَنْكَ "، فذهبتُ فغسلتُهُ، ثم جئتُ، [وقد بقي علي منه رَدْعٌ، فسلمتُ، فلم يَرُدَّ علي، ولم يُرَحِّبْ بي، وقال: " اذْهَب فاغْسِلْ هذا عنك "، فذهبتُ فغسلتُهُ، ثم جئتُ]، فسلمت عليه، فسلَّم عليَّ، ورحَّبَ بي، وقال: "إنَّ الملائِكةَ لا تحْضُرُ جنازَةَ الكافِرِ (4) لخَيْرٍ (5)، ولا المُتَضمِّخِ
__________
(1) " الواحد " ساقط من (ش).
(2) 4/ 402 - 405.
(3) في (ش): الطريق.
(4) في (ب): كافر.
(5) ساقطة من (ش)، ولفظ أبي داود " بخير".(3/266)
بالزَّعْفَرَانِ، ولا الجُنُب"، ورخَّص للجنب إذا نام أو أكَلَ أو شَرِبَ أن يتوضَّأ (1).
وروى عن أبي موسى أنّه قال [قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] " لاَ يَقْبَلُ الله [تعالى] صلاةَ رَجُل في جَسَدهِ شَيْءٌ مِنْ خَلُوقٍ " (2).
وروى عن أنس رضي الله عنه أنّه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَن التَّزَعْفُرِ للرجال (3)، وهذا حديثٌ صحيح أخرجه مسلم في " صحيحه " والترمذي، والنسائي.
وروى عن أنس أيضاًً من طريقٍ أخرى أنَّ رجلاً دخل على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وعليه أثَرُ صُفْرَةٍ، وكان النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - قلَّما يُوَاجِهُ (4) رجلاً في وجهه بشيءٍ يكرهه، فلمّا خرج، قال: " لَوْ أمْرْتُمْ هذا أنْ يَغْسِلَ هذا عنه " (5) وهذا الحديثُ
__________
(1) هو في " سنن أبي داود " (4176)، والزيادة منه من طريق موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد -هو ابن سلمة- أخبرنا عطاء الخراساني، عن يحيى بن يعمر، عن عمار بن ياسر. وعطاء الخراساني: صاحبُ أوهام كثيرة، وُيرسل ويُدَلِّسُ، ويحيى بن يعمر: قال الدارقطني: لم يلق عماراً.
ورواه أبو داود (4177) من طريق ابن جريج أخبرني عمر بن عطاء بن أبي الخوار، سمع يحيى بن يعمر يخبر عن رجل أخبره عن عمار بن ياسر. زعم عمر أن يحيى سمَّى ذلك الرجل فنسي عمر اسمه ...
(2) هو في " سنن أبي داود " (4178) وفي سنده أبو جعفر الرازي، وهو ضعيف، وجداه زيد وزياد لا يعرفان.
(3) أخرجه أبو داود (4179) من طريق مُسَدّد عن حماد بن زيد، وإسماعيل بن إبراهيم، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أنس. وهذا سند صحيح على شرط البخاري.
وأخرجه مسلم (2101)، والترمذي (2815)، والنسائي 5/ 141 من طرق عن حماد بن زيد، وإسماعيل بن إبراهيم، كلاهما عن عبد العزيز بن صهيب، به. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(4) في (ش): يوجه.
(5) هو في " سنن أبي داود " (4182)، وأخرجه الترمذي في " الشمائل " (339)، =(3/267)
أخرجه الترمذي، والنسائي أيضاًً.
وروى عن عمار رضي الله عنه من طريق غير الطريق الأولى أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ثَلاثَةٌ لا تَقْرَبُهُمُ المَلائِكَةُ: جِيفَةُ الكَافِرِ، والمُتَضَمِّخُ بالخَلُوقِ، والجُنُبُ إلّا أنْ يَتَوضَّأ " رواه عنه من طريق الحسن البصري رضي الله عنه (1).
ثمّ بعدَ هذه الطُّرق إلّا طريقَ أنسٍ الثانية، روى عن الوليد أنّه لمّا فتح نَبِيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - مكَّةَ، جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم، فيدعو لهم بالبركة، ويمسح رؤوسهم (2)، قال: فجيء بي (3) إليه، وأنا مُخَلَّقٌ، فلم يمَسَّني من أجل الخَلُوق، هكذا رواه أبو داود (4).
__________
= والنسائي في " عمل اليوم والليلة " (235) و (236)، وفي سنده عندهم سلم بن قيس العلوي وهو ضعيف.
(1) هو في " سنن أبي داود " (4180)، ورجاله ثقَات، لكن الحسن لم يسمع من عمار فهو منقطع.
(2) في (ش): في رؤوسهم.
(3) في (ش): به.
(4) رقم (4181) من طريق أيوب بن محمد الرقي، عن عمر بن أيوب، عن جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن عبد الله الهمداني، عن الوليد بن عقبة.
قال المنذري في " مختصره " 6/ 93: هكذا ذكره أبو داود عن عبد الله الهمداني عن الوليد بن عقبة، وقال فيه غيره: عن أبي موسى الهمداني، عن الوليد بن عقبة.
وقال البخاري: عن عبد الله الهمداني، عن أبي موسى الهمداني، ويقال: الهمذاني، قاله جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، ولا يصح حديثه.
وقال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: إن عبد الله الهمداني هو أبو موسى.
وقال الحاكم أبو أحمد الكرابيسي: وليس يعرف أبو مَوسى الهمداني، ولا عبد الله الهمداني، وقد خُولِفَ في هذا الإسناد.
وقال ابن أبي خيثمة: أبو موسى الهمداني اسمه عبد الله.
وهذا حديث مضطرب الإسناد، ولا يستقيم عن أصحاب التواريخ أن الوليد بن عقبة كان يوم فتح مكة صغيراً، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه ساعياً إلى بني المصطلق، وشكته زوجته إلى =(3/268)
وقد رُوِيَ عن أحمد بنِ حنبل أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَمَسَّهُ (1)، ولم يَدْعُ له بالبركة، ومُنِعَ بركةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لسابق علمه فيه.
وأقول: إنّ النُّقاد من علماء الأثر قد قدحوا في هذا الحديث مع ما فيه مِنَ القدح الظَّاهر بفسقِ الوليد، وقال: إنَّه لا يَصِحُّ لوجوه:
الأول: أنّه قد ثبت أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعث الوليدَ ساعِيَاً إلى بني المُصْطَلِقِ في القصَّة المشهورة، وليس يَصِحُّ فيمن بُعث رسولاً إلى بني المصطلِقِ أن يكون يَوْمَ الفتحِ صبيّاً صغيراً.
الوجه الثاني: أنَّ زوجتَه شكته إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَعِشْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الفتحِ إلاّ يسيراً، فمتى كانت هذه الزوجة.
الوجه الثالث: أنَّه فدى من أُسِرَ يوْمَ بدر.
الوجه الرابعُ: أنّ الزبير وغيره ذكروا أنَّ الوليدَ وعُمارة ابني عُقبة خرجا لِيَرُدَّا أختهما أمَّ كلثوم عَنِ الهجرة، قالوا: وهجرتها كانت في الهُدنَةِ بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَبَيْنَ أهل مكة.
__________
= النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورُوي أنَّه قَدِمَ في فداء من أسر يوم بدر. وقال أبو عمر النمري: وهذا الحديث رواه جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عن أبي موسى الهمداني، ويقال: الهمذاني، كذلك ذكره البخاري على الشك، عن الوليد بن عقبة.
قالوا: وأبو موسى هذا مجهول، والحديث منكر مضطرب لا يصح، ولا يُمكن أن يكون من بعث مصدقاً في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - صبياً يوم الفتح.
ويدل على فساد ما رواه أبو موسى المجهول أن الزبير بن بكار وغيره ذكروا أن الوليد وعمارة ابني عُقبة خرجا ليردَّا أختهما أم كلثوم عن الهجرة، وكانت هجرتها في الهدنة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أهل مكة؛ ومن كان غلاماً مخلقاً يوم الفتح ليس يجيء منه مثل هذا.
وسينقل المؤلف -رحمه الله- كلام المنذري هذا مفرقاً في عدة مواضع قريباً.
(1) في (ش): يمسح.(3/269)
فإن قلتَ: كيف غَفَل أبو داود عن هذا؟
قلتُ: هذا فيه احتمالان:
الأول: أن يكون أُنْسِيَ هذه الأمورَ، وَغَفَلَ عنها على سبيلِ السَّهْوِ دونَ الجهل، وقد يسهو الإنسانُ عمّا يعلم، كما يسهو في صلاته، وغير ذلك، فَطَاحَ تقوِّيه بهذا الحديث، وراجت عليه كما يجري مثلُ ذلِكَ لكثيرٍ مِنْ كبار الحُفَّاظ، والنُّحاة، والمتكلِّمين في كثيرٍ مِنَ المسائل، وكم مِنْ إمامٍ في الفن يَغْلَطُ في مسألة واضحة، وقد (1) تقدمت الإشارة إلى ذلك في المسألة الأولى.
الاحتمال الثاني (2): أن يكون رأي في الحديث أمرين:
أحدهما: أن قريشاً كانوا يأتون بصبيانهم إليه عليه السَّلامُ، فيمسح رؤوسهم (3)، ويدعو لهم، وأنّه أُتِيَ بالوليد، فلم يمسَّهُ، ولم يَدْعُ له (4) هكذا من غير ذكر مكّةَ، وهذا محتمل لا دلالة على بطلانه.
والأمر الثّاني: ما في الحديثِ أنَّ هذه القصة كانت يومَ الفتح، وهذا باطل، لكن ليس يلزمُ من القطع ببطلان هذا أنْ نُبْطلَ الحديثَ كلّه، فَمِن الجائز أن يكونَ الحديثُ مُمْكِنَ الصدق، ولكن الرَّاوي وَهِمَ في ذكر يوم الفتح، وليس الوهمُ في تاريخ القصة يدلُّ على بطلان القصة (5) قطعاً؛ ألا ترى أنّ كثيراً مِنَ المؤرخين يَغْلَطُ في تاريخ القَصَصِ والوفياتِ، فيقول:
__________
(1) " قد " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): " الثالث "، وكتب فوقها " الثاني " على الصواب.
(3) في (ش): برؤوسهم.
(4) في (ب): لأهله.
(5) جملة " يدل على بطلان القصة " ساقطة من (ش).(3/270)
إنّ قتلَ فلان وحربَه (1) كان يومَ فلان، وينكشِفُ غلطُه في التَّاريخ، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلِكَ أنَّ ذلِكَ الرَّجُلَ ما قُتِلَ أصلاً، ولا كان له حربُ البتة. ويقوِّي هذا الاحتمالَ وجوهٌ: -
أحَدُهَا: أنَّ أحمدَ بن حنبل ذكر هذا الحديث مع إجماعهم على أنّه مِنْ أعرف النّاس بعلم الأثر وعِلَلِهِ، وما يتعلَّقُ به، وتكلَّم (2) في وجه امتتاع النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المسح على رأس الوليد.
وروى أحمد بن حنبل أنَّ الوليدَ سلخ يومئذ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَقَذَّرَه، وأن الوليد مُنِعَ بركتَه عليه السلام.
الوجه الثاني: أنّ هذا الحديث من مَثَالِبِ الوليد، ومناقِصِهِ الدَّالةِ على خِسَّتهِ، فهو يَبْعُدُ أنْ يكون كذبه، لأنّه عليه لا له، بل يَبْعُدُ أن يكون مَا رَوَاهُ إلا وهو معروفٌ عند غيره، ولو استطاع كَتْمَهُ لكتمه، ألا ترى أنَّ أحمد بن حنبل روى أنّه سَلَخَ يومئذ وَتَقَذَّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهذا لم يروه الوليد، فدلَّ على أنَّ الحديث مرويٌّ مِنْ غيرِ طريقه، وأظنُّ الوليد إنَّما ذكر هذا الحديث ليعتذر من (3) ذلكَ بما زعمه مِنْ أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما ترك المسحَ عليه إلاّ مِنْ أجل الخَلُوقِ الّذي كان فيه، وهذا العذرُ تمويه لا يمضي لأمرين:
أحدهما: أنَّ الخلوق لم يكن في جسده كلّه، وهو صغيرٌ لا ذنبَ عليه، فيزجره عليه السّلامُ بذلِكَ كما فعل مع عمار.
وثانيهما: أنّه امتنعَ مِنَ الدُّعاء له، كما امتنع مِنْ لَمْسِ جَسَدِهِ،
__________
(1) في (ش): وخروجه.
(2) في (ش): ويتكلم.
(3) في (ش): في.(3/271)
والدُّعاء للصَّبي المُخَلَّقِ لا كراهة فيه (1)، ولا مانِعَ منه.
الوجه الثالث: أنّ راوي الحديثِ عَنِ الوليدِ كان ضعيف الحفظِ، قليلَ الإتقان للحديث، فلعلَّه الذي وَهمَ في ذكر يومِ الفتح، وهذا الراوي هو (2) عبد الله الهَمْدَاني، وفيه كلامٌ مِنَ وجهين:
أَحَدُهُما: أنَّهم تكلّموا فيه، فقال جعفرُ بنُ برقان عن ثابت بنِ الحجاج: لا يَصِحُّ حديثه.
وقال الحاكم أبو أحمد الكرابيسي (3): وليس يُعرف أبو موسى الهمداني ولا عبدُ الله الهمداني، وقد خُولفَ في هذا الإِسنادِ، وهذا حديث مضطرب الإسناد.
وقال الحافظ عبدُ العظيم (4) ما لفظه: قالوا (5): وأبو موسى هذا مجهول.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) هو الإمامُ الحافظُ العلامة الثبت محدثُ خراسان محمد بن محمد بن أحمد بن إسحاق النيسابوري الكرابيسي الحاكم الكبير، صاحب التآليف النافعة في علوم الحديث، ومنها كتاب " الكُنى " الذي لم يؤلف مثله في بابه، ويقع في عدة مجلدات، ولكن لا يعرف له وجود.
(4) هو الحافظ الكبير الإمام الثبت زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي المنذري الشامي الأصل، المصري المولد، والدار، والوفاة، صاحب المؤلفات المتنوعة في الحديث، والفقه، والتاريخ، المولود سنة 581 هـ، والمتوفى سنة 656 هـ.
درس بالجامع المظفري بالقاهرة، ثم ولي مشيخة الدار الكاملية، وانقطع بها ينشر العلم عشرين سنة.
قال الشريف عز الدين الحافظ: كان شيخنا زكي الدين عديمَ النظير في علم الحديث على اختلاف فنونه، عالماً بصحيحه، وسقيمه، ومعلوله، وطرقه متبحراً في معرفة أحكامه، ومعانيه، ومشكله، قيماً بمعرفة غريبه، وإعرابه، واختلاف ألفاظه، إماماً، حجة، ثبتاً، مُتحرّياً فيما يقوله، متثبتاً فيما يرويه. مترجم في " السير " 23/ 319 - 322.
(5) في (ش): قال.(3/272)
وثانيهما: أنّ هذا الحديث مرويٌّ عن عبد الله الهَمْدَاني، وعن أبي موسى الهَمْدَاني، وقد اختلفوا، فقيل: هو رجل واحد اسمُهُ عبدُ الله، وكنيتُهُ أبو موسى، قال ذلك أبو القاسم الدِّمشقي الحافظ (1).
وقال ابنُ أبي خيثمة: أبو موسى الهَمْدَاني اسمُهُ عبد الله، وقيل: هما اثنان، قاله البخاري. قال البخاري: وعبد الله الهمداني روى الحديثَ عن أبي موسى الهمداني (2) وهذا هو (3) الظَّاهرُ، لتقدُّم البخاري في الحفظ، ولأنّه مثبت، ولأنّ احتجاج ابن (4) أبي خيثمة بأنّ اسم أبي موسى عبدُ الله لا يمنعُ من ذلك، ولعلّ ذلك هو الّذي غرّ أبا القاسم الدِّمشقي، ورواية عبد الله عن أبي موسى ترفعُ الإِشكال، والله أعلم.
فإن قلت: فَلِمَ تَقوَّى أبو داود بهذا الحديث مع ما فيه من المطاعن؟
قلت: لأنّه أورد الحديث بإسنادٍ صحيح، وذكر معه ما جاء في الباب مِنْ كُلِّ ضرب مِنْ غَثٍّ وسمين كما هو عادةُ الحُفَّاظ، وأهلِ المسانيد، وقد ثبت أنَّ روايةَ الكافرِ المصرح قد تُفيد الظَّنَّ، فهي تقوى لا محالة، فكأنَّه أراد استقصاء ما يحفظ في الباب من الطرق (5) لذلك، ألا ترى أنّه
__________
(1) هو الإمام العلامة الحافظ الكبير المجود، محدِّث الشام أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله الدمشقي الشافعي صاحب " تاريخ دمشق " في ثمانين مجلدة، المتوفى سنة 571 هـ.
قال الإمام الذهبي: كان فهماً حافظاً، متقناً ذكياً، بصيراً بهذا الشأن، لا يُلحق شأوه، ولا يشق غباره، ولا كان له نظير في زمانه، ومن تصفح تاريخه، علم منزلته في الحفظ. مترجم في " السير" 20/ 554 - 571.
(2) نص كلام البخاري في " التاريخ الكبير " 5/ 224: عبد الله الهمداني، عن أبي موسى الهمداني. قاله جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، لا يصح حديثه.
(3) في (ب): " وهو"، وهو خطأ.
(4) " ابن " سقطت من الأصول غير (ب).
(5) عبارة " في الباب من الطرق " ساقطة من (ش).(3/273)
أورد أحاديثَ البابِ مِنْ عدَّة طرق في (1) كُلٍّ منها كلام، لكنها إذا اجتمعت أخذت حَظّاً منَ القُوَّة.
الطريق الأولىَ: فيها عطاء الخراساني، وقد أخرج له مسلمٌ متابعة، ووثَّقه يحيى (2) بن معين، وقال أبو حاتِم الرازيُّ: لا بأس به صدوق يُحتج به، ووثقه أحمد والعِجلي، ويعقوبُ بن أبي شيبة وغيرهم، وقال الذهبي: كان مِنْ خيار العلماء، وذكر في " الميزان " (3) أنّه كان يَهِمُ، فروى عن ابن المسيِّبِ حديث الّذي وقع بأهله في رمضان على ما رواه ابنُ المسَيِّبِ، فسُئِلَ ابنُ المسيب عمّا روى، فكذَّبه فيه، فذكره لهذا (4) العقيلي في " الضعفاء " (5)، وكذا ضعَّفه لأجلِ الوَهْمِ البخاريُّ، وكان من عبادِ الله الصالحين، والصَّحيح أنّه ثِقَةٌ، وفي حفظَه لين محتمل، ولكن جرحه غيرُهم، فكذَّبه سعيدُ بن المسيّب على جلالته، وقال (6): [ابن حبان] (7): كان رديءَ الحفظ ولا يَعْلَمُ، فبطل الاحتجاج به، قال الذَّهبي: هذا القول من ابن حبان، فيه (8) نظر.
__________
(1) في (ش): وفي.
(2) ثم ترد في (ب)، اقتصر على الكنية.
(3) 3/ 74، ولم يقله الذهبي من قبل نفسه، وإنما نقله عن ابن حبان، ونصه فيه: وقال ابن حبان في " الضعفاء " 1/ 130 - 131: أصله من بلخ ... وكان من خيار عباد الله، غير أنَّه كان رديءَ الحفظ، كثيرَ الوهمِ، يُخطىءُ ولا يعلمُ، فيحمل عنه ...
(4) في (ش): بهذا.
(5) 3/ 405 - 407.
(6) في (ش): " قال "، بلا واو.
(7) زيادة لا بد منها، ولم ترد في جميع الأصول، فإن ما بعد " قال " هو من كلام ابن حبان، وليس من كلام ابن المسيب، وابن الوزير اختصر كلام ابن حبان، ونصه في " الضعفاء ": 2/ 130 - 131، وعنه نقله الذهبي في " الميزان " 3/ 74: وكان من خيار عباد الله غير أنَّه كان رديءَ الحفظ، كثيرَ الوهم يُخطىءُ ولا يعلمُ، فيحمل عنه، فلمَّا كَثُرَ ذلك في روايته، بَطَلَ الاحتجاجُ به. قال الذهبيُّ: فهذا القولُ من ابنِ حِبَّان فيه نظر ...
(8) في (ش): وفيه.(3/274)
الطريق الثانية: عن يحيى بن يعمر (1) عن رجلٍ، عن عمّار، وفي هذه الطَّريق هذا الرَّجل المجهول.
الطريق الثالثة: عَنِ الحسن البصري عن عمار، وهي مُعلَّةٌ بالانقطاع بين الحسن وبين عمار، لأنَّ الحسن لم يَسْمَعْ مِن عمار.
الطريق الرابعة: طريق أبي موسى، وفيها أبو جعفر الرَّازي عيسى ابنُ عبد الله بنِ ماهان، وقد اختلف فيه قولُ علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقال ابن (2) المديني مرة: ثقة، وقال مرة: كان يخلط، وقال أحمدُ بنُ حنبل مرةً: ليس بالقوي، وقال مرّة: صالحُ الحديث (3)، وقال يحيى بن معين مرة: ثقة، وقال مرة: يُكتب حديثُه، إلاّ أنّه يخطىء، وقال أبو زُرعة الرازي، يَهِمُ كثيراً، وقال الفَلاَّس: سيئ الحفظ، وحَكَى (4) الذهبي الاختلاف فيه، وقال: هو صالح الحديث (5).
__________
(1) تحرف في (ش) إلى " معمر ".
(2) تحرف في (ب) إلى " أبي ".
(3) من قوله: " وقال أحمد بن حنبل " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) في (ش): " حكى " بلا واو.
(5) ذكر ذلك في " الميزان " 3/ 319 - 320، وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق، سيىء الحفظ.
قلت: فمثله يصلح للمتابعات والشواهد، وأما ما ينفرد به، فهو ضعيف، ومما انفرد به ولم يُتابع عليه حديث أنس قال: " ما زالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقنتُ في صلاة الصبح حتى فارق الدنيا ". أخرجه أحمد 3/ 162، والدارقطني 2/ 39، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/ 244، والبيهقي 2/ 201 كلهم من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس. وقد صَحَّ عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قَنَتَ شهراً في صلاةِ الفَجْر، ثم تَركَهُ. انظر " شرح السنة " 3/ 118 - 125.(3/275)
فإن قلت: كيف يَصِحُّ اختلاف كلام (1) هؤلاء في الجرج والتّعديل؟
قلت: لأنَّه عندهم لا يتعمَّد الكذب، ولكنه يخطىء (2)، والمخطىء إنَّما يُجرح بالتَّحري والاجتهاد (3)، والاجتهادُ في ذلِكَ يقف على النظر في كثرة خطئه: هل بلغ إلى حدٍّ يُوجب طَرْحَ حديثِهِ الّذي لم ينكشِفْ أنَّه خطأٌ أو لا؟ وما (4) الحدُّ الذي إذا بلغه بَطَلَ حديثُهُ؟ فقال علماء الأصول: إذا كان خطؤُه أكثر مِنْ صوابه، أو مُساوياً له، وقال المنصور بالله، وعبد الله بن زيد: إذا كان أكثر فقط، وإذا كان مساوياً، لم يجب طرْحُ حديثِهِ، وهذا دقيقٌ ضامضٌ يحتمل التَّردُّدَ، وتصحيح العبارة.
فاختلاف (5) أئمَّة الجرحِ مثلُ اجتهاد الفقهاء في دقيق الفقه، فيكون لابن معين قولانِ في الجرح مثل ما يكون للمؤيَّد قولانِ في الفقه.
الطريق الخامسة: عن أنسٍ، وفيها سلم (6) العلوي، وفيه كلام كثير.
قال أبو داود: وليس هو علوياً (7)، كان ينظر في النُّجوم، وَشَهِدَ عند عديِّ بن أرطاة (8) على رؤية الهلال، فلم يُجز شهادته، وقال يحيى بن معين: ثقة، وقال مرة: ضعيف.
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): مخطىء.
(3) " والاجتهاد " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): " وأما " وهو خطأ.
(5) في (ش): واختلاف.
(6) في (ش): " سالم " وهو تحريف.
(7) في (أ) و (ب) و (ش): " علوي "، وكتب فوقها في (أ) " علوياً " على الجادة.
(8) هو عدي بن أرطاة الفَزاري أبو واثلة، أمير من أهل دمشق، كان من العقلاء الشجعان، ولاَّه عمرُ بن عبد العزير على البصرة سنة 99 هـ، فاستمر إلى أن قتله معاوية بن يزيد بن المهلب بواسط في فتنة أبيه يزيد بالعراق سنة 102 هـ. " الأعلام " للزركلي 4/ 219.(3/276)
وقال ابن عدي (1): لم يكن من أولاد عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه، إلاّ أنَّ فريقاً بالبصرة (2) كانوا يُسَمَّوْنَ بني علي، فَنُسِبَ هذا إليه.
وقال ابن حبان (3): كان شُعبة يحمل عليه، فيقول: كان سلْمٌ (4) العلويُّ يرى الهلال قَبْل الناس بيومين، منكر الحديث على قِلته، لا يُحْتَجُّ به إذا وافَقَ الثقات، فكيف إذا انفرد؟!
قلتُ: قولُ ابن حبان: كان شعبةُ يَحْمِلُ عليه يَدُلُّ على أنَّهُ فوق هذه المنزلة الّتي قالها شعبة، وَيَدُلُّ على ذلِكَ تردُّدُ يحيى بن معين في توثيقه، وكأنّه كان صدوقاً في نفسه، لكنّه كان ينظر في النجوم، وكان (5) كثير الخطأ، فَقُدِحَ فيه بهما، واختلفتِ العبارات في القدح فيه، واللهُ أعلم.
الطريق السادسة: طريق الوليد المقدمة، وقد تقدَّم الكلام على ما فيها من الاختلال (6) والاعتدال في أصلها وفرعها.
فذكرُ أبي داود لجميع هذه الطرق المعلولةِ يدل على أنَّه استقصى ما يحْفَظُ في الباب، واعتمد على الطَّريق الصَّحيحة السَّالمة مِنْ هذه المطاعن، وهي الطَّريقُ السابعة الّتي روى فيها حديث أنسٍ الثّابتِ الصَّحيحِ في " مسلمٍ " وغيره.
إذا عَرَفْت هذا، فهذا هو الحديثُ الَّذِي رواه أبو داود عن الوليد لم
__________
(1) في " الكامل " 3/ 1175.
(2) في (ش): في البصرة.
(3) في " المجروحين والضعفاء " 1/ 343.
(4) في (ش): " سالم "، وهو تحريف.
(5) في (ش): كان.
(6) عبارة " من الاختلال " ساقطة من (ش).(3/277)
يروِ عنه سواه، فقد (1) ثبت أنّه روى معناه مِن سِتِّ طُرُقٍ غيرِ طريق الوليد، وقد ذكرتُ فيما تقدّمَ أن الحُفَّاظَ يروون عن بعض الضُّعفاء والمجاريح على جهة المتابعة، فرُبَّما يرى من لا يعرف مَذْهَبَهُمْ وطريقَتَهم ذكر أولئك المجاريح في كتبهم فيظنُّ (2) أنَّ القوم يرون عدالةَ الفُسَّاقِ المصرحين، وأمانَةَ العُصَاة الّذين يعلمون (3) أنَّهم غيرُ مُتَأوِّلين، وليس الأمر كذلك. وما على الحُفَّاط إذا جَهِلَ بعضُ النّاس ما عرفوا، فالمرء عدوُّ (4) ما جهله، والّذي يقتضي الأدبَ والتَّمييز أنْ يتواضَعَ الإِنسانُ لِمَنْ هو أعرفُ منه بالفَنِّ، ولا يتجاسرَ على القدحِ عليه، فإنْ لاح له وجهٌ في القدح، وتبيَّن أنه لازمٌ، تكلّم بما يعلم، ولا حَرَجَ والله أعلم.
الوهم الحادي عشر: ذكر السيِّد أنَّ الوليد مذكورٌ في غير " سُننِ أبي داود " من كتب الحديث، وهذا الوهم أفحشُ مِنَ الذي قبلَه، فإنْ كانَ السيِّدُ يُرِيدُ أنّهُ مذكور في سائر الصحاح بالرِّواية عنه، وتصحيح (5) الحديث مِنْ طريقه، فقد قال بِمَا لا يعلم، ولو توقَّر حتّى يدري، وقدَّر قبل أن يَفْرِيَ، لَعَلِمَ (6) أنّ القومَ ما رَوَوْا عنه حديثاًً واحداً لا أصلاً ولا شاهداً، فإن كان يُريد أنّهُ مذكورٌ فيها غير مروي عنه، فَنَعَمٌ، هو مذكورٌ فيها بأنَّه شَرِبَ الخمر، وحُدَّ في شُربها، وليس مذكوراً (7) فيها بالعدالة، والاستناد إليه
__________
(1) في (ش): وقد.
(2) في (ش): وظن.
(3) تحرف في (ب) إلى: يعملون.
(4) تحرف في (ش) إلى " عدوا ".
(5) في (ش): ويصح.
(6) تحرف في (ب) إلى " العلم ".
(7) في (ش): " مذكور "، وهو خطأ.(3/278)
في الرواية، وأيُّ ذنبٍ له في مجرَّد ذكره، وما وجهُ الاعتراضِ بسطره (1)، وقد ذكر اللهُ في كتابه الكريم أبا لهبٍ وأمرأتَهُ حَمَّالة الحطب.
وقد قال إمامُ أهلِ (2) الحديث ابنُ عبد البر في ترجمة الوليد في كتاب " الاستيعاب " (3) بعد جرحه له: إنَّه لم يَرْوِ سُنَّةً يُحتاجُ فيها إليه بهذا اللفظ، وهو نَصٌّ في موضعِ النِّزاع، وللهِ الحمدُ والمِنَّةُ.
الوهم الثّاني عشر: أنَّ عبدَ الله بنَ عمرٍو كان مع معاوية حتى قُتِلَ عمار، فَلَزِمَ نفسَه من غير توبة.
أقول: أمّا أنْ يُريدَ السيدُ من غير توبةٍ في معلوم اللهِ، ويقطع أنّهُ ما تابَ لا باطناً ولا ظاهراً، فهذا يحتاجُ إلى وحيٍ وتنزيل، أو يُريد من غير أن يتلفَّظ بالتَّوبة ويقول: اللَّهُمَّ إنِّي إليك منَ التَّائبين النَّادمين في الماضي، العازمين على التَّرك في المستقبل، ونحو ذلك مِنَ العبارات، فلا يخلو: إمَّا أن يعتقِدَ أن التَّلَفُّظَ بذلِك مِنْ أركان التَّوبة، فهذا غفلة (4) عظيمة، أو يعتقد أنَّ ذلك واجبٌ على كُلِّ عاصٍ، فهذا أعظم، فما زال النّاسُ يَرْجِعُونَ مِنَ الكُفر إلى الإسلام في زمانِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يأمُرُهُمْ بالتَّلفُّطِ بالتَّوبة، وإنَّما الواجبٌ على العاصي أن يُظْهِرَ قرينةً ظَنِّيِّة تَدُلُّ على ندمِهِ على ما كان منه، وعزمِهِ على مجانبته، وقد تكون تلك (5) القرينةُ مِنْ قوله، وتكون مِنْ فعله، فأمّا التَّوبة نفسُها، فمحلُّها القلبُ، وهي مجموع
__________
(1) في (ش): " بصدده "، وكتب فوقها: " بذكره ".
(2) ساقطة من (ب) و (ش).
(3) 3/ 336.
(4) ساقطة من (ش).
(5) ساقطة من (ش).(3/279)
النَّدم والعزم، وليس يصحُّ ظهُورها في نفسها، إنَّما يجب إظهارُ قرينة ظَنِّيّة تَدُلُّ عليها، وإنَّما قلنا: إنّها تكون ظَنِّيَّةً؛ لأنَّه لا سبيل إلى العلم بتوبته، وإن صرح بذلك، لأنّ التَّوبة مِنْ أفعالِ القُلُوبِ، ومِنَ الجائِزِ أنْ يُظْهِرَ التَّوبة، ويصرِّحَ بها، وليس كذلِكَ عندَ نفسه، وفي باطن أمره، وإذا (1) كان القولُ الصَّريحُ لا يُفيدُ إلا الظَّنَّ، فالفعلُ مع القرائن يُفِيدُ ظنَّ التَّوبة أيضاًً.
مثالُ ذلك رجوع الزبير عن حربِ علي عليه السلامُ حين سَمِعَ الحديثَ " لَتُقَاتِلَنَّهُ وأنْتَ لَهُ ظَالِمٌ " (2) فإنَّهُ (3) لمّا سمعه (4)، ترك الحربَ، ولم يتلفَّظ بالتَّوبةِ (5) والاعتذارِ، فحَكَمَ الأئمَّةُ والعلماءُ بتوبته مِنْ غير أنْ يُنْقَلَ عنه تلفُّظ بالتَّوبة (6) والاستغفار.
__________
(1) في (ب): وإن.
(2) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 15/ 283 - 284 عن يزيد بن هارون، عن شريك بن عبد الله القاضي، عن الأسود بن قيس، حدثني من رأي الزبير يقعص الخيل بالرمح قعصاً، فثوب به علي: يا أبا عبد الله، يا أبا عبد الله، قال: فأقبل حتى التقت أعناقُ دوابِّهما، قال: فقال له علي: أنشدُك بالله، أتذكرُ يومَ أتانا النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أُناجيك، فقال: أتُناجيه، فواللهِ ليقاتلَنَّكَ يوماً وهو لك ظالمٌ، قال: فضربَ وجهَ دابته وانصرفَ. وهذا سند ضعيف. شريك بن عبد الله: سيىء الحفظ، والذي أخبر بالقصة مجهول.
وأخرجه الحاكم 3/ 366 من طريق آخر عن أبي حرب بن أبي الأسود الديلي قال: شهدتُ الزبيرَ خَرَجَ يُريدُ علياً، فقال له علي: أنشدُك الله، هل سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: تقاتلُهُ وأنتَ له ظالمٌ؟ فقال: لم أذكرْ، ثم مَضَى الزبيرُ منصرفاً. وصححه الحاكم، ووافقَهُ الذهبيُّ، مع أن في سنده عبد الله بن محمد بن عبد الملك الرقاشي، وفد قال فيه البخاري وأبو حاتم: فيه نظر، وشيخه فيه عبد الملك بن مسلم لين الحديث. وله طرق أخرى في " المطالب العالية " (4468) و (4469) و (4470)، وكلها ضعيفة.
(3) في (ش): وإنه.
(4) في (ش): سمعها.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): التوبة.(3/280)
وكَذلِكَ عبدُ الله بنُ عمرو تَرَكَ ما كان عليه حين قُتِلَ عمّارُ بن ياسر رضي الله عنه (1)، فظهر أنَّه كان متأوِّلاً شاكّاً، فلمَّا استيقن أنّهم بُغَاةٌ عُصاةٌ، رجع مختاراً إلى الله تعالى مِنْ غير اضطرارٍ، ولا إكراهٍ.
وكذلك عائشة وطلحة قد تمسَّكُوا في توبتهم بما ليس بصريح (2) في التوبة، أمّا طلحةُ فيقول (3): ما رأيت مصرعَ شيخٍ قرشِيٍّ أضلَّ مِنْ مصرعي هذا، وأمّا عائشة، فإنَّها كانت (4) إذا ذكرت ذلك بكت حتى تَبُلَّ خِمَارَهَا (5)، ونحو ذلِكَ، وهذا كُلُّه محتمل، فليس اعترافُ طلحةُ بقُبح فعله يَدُلُّ على صريح التَّوبة، ولا بكاءُ عائِشَةَ بنفسه يدلُّ على أنَّه كان لأجل قبحِ (6) المعصية.
وكذلك أسامَةُ بنُ زيدٍ، فإنّهُ لمَّا قَتَلَ الرجل المسلم، وجاء إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلِك، وَعَظَّمَ (7) ذلِكَ عليه رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَزِدْ أسامةُ على أنْ حلف لا قَتَلَ بَعْدَ ذلِكَ مَنْ قال: لا إلهَ إلا اللهُ (8). وهذا
__________
(1) انظر ص 215 من هذا الجزء.
(2) في (ب): بصحيح ولا صريح.
(3) في (ش): فبقوله.
(4) ساقطة من (ب).
(5) انظر " سير أعلام النبلاء " 2/ 177.
(6) في (ش): كان بقبح.
(7) في (ش): فعظم.
(8) أخرج البخاري (4269)، ومسلم (96) من حديث أسامة بن زيد يقول: بعثَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى الحُرقة، فصبَّحنا القومَ فهزمناهم، ولحقتُ أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم، فلمَّا عَشيناه، قال: لا اله إلا الله، فكفَّ الأنصاريُّ، فطعنتُه برمحي حتى قتلته، فلمَّا قَدِمنا، بَلغْ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " يا أسامةُ، أقتلتهُ بعدما قال: لا إله إلا اللهُ؟ " قلتُ: كان متعوِّذاً، فما زال يُكرِّرُها حتى تَمَنَّيْتُ أني لم أكنْ أسْلَمْت قبلَ ذلك اليومِ.
وأخرج مسلم (97) من حديث جندب بن عبد الله البجلي قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بعثاً مِنَ المسلمين إلى قومٍ من المشركين، وإنهم التَقَوْا، فكان رجلٌ من المشركين إذا شاء أن =(3/281)
إخبارٌ بالعزم، ولم يُخْبِرْ بالنَّدم، ولا بأنَّه فعل ذلِكَ لأجل قبْحِ المعصية، فَمِنَ الجائز أنَّه فعل ذلِكَ لئَلاَّ يغْضَبَ عليه رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهذا وأمثالُه مِنَ التَّجويزات الباردة الّتي لا تقبلُها قُلُوبُ الفُضَلاء، ولا تتمكَّنُ في نفوسِ أهلِ التَّقوى ممّا لا يقدح في توبَةِ التّائبين، فإنّا لو فتحنا هذا البابَ، لم نَحْكُمْ بتوبَةِ أكثَرِ الصَّحابَةِ مِنْ محضِ الكُفر.
وعبد الله بن عمرو كانَ من عُبَّادِ الصَّحابة، وقد كان يقوم اللَّيْل كُلَّه، ويصومُ الدَّهر، ويَخْتِمُ في كُلِّ يومٍ ختمةً حتَّى نهاهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأمره بالرِّفْقِ بنفسه، وقال (1). " صُمْ منْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثاً " (2)، فقال: أنا أقوى مِنْ ذلِك، فما زال يُنَازِلُهُ حتى قال له: "صُمْ يَوْماً وَأفْطِرْ
__________
= يقصد إلى رجل مِنَ المسلمين قَصَدَ له فقتَلَه، وإنَّ رجلاً من المسلمين قَصَدَ غَفْلَتَه، قال: وكُنَّا نُحَدّثُ أنَّه أسامةُ بن زيد، فلمَّا رَفَعَ عليه السيفَ، قال: لا إلهَ إلا اللهُ، فقتَلَه، فجاءَ البشيرُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فأخبره، حتى أخبره خبرَ الرجلِ كيف صنَعَ، فدعاه، فسأله، فقال: " لِمَ قَتَلْتَه "؟ قال: يا رسولَ الله أَوْجَعَ في المسلمين، وقَتَل فُلاناً وفلاناً، وسمَّى له نَفَراً، وإني حَمَلْتُ عليه، فلمَّا رأي السيفَ، قال: لا إله إلا الله، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أقتلتَه؟ " قالَ: نعم، قال: " فكيف تصنعُ بلا إله إلا الله إذا جاءت يومَ القيامةِ؟ " قال: يا رسولَ اللهِ، استغفرْ لي، قال: " وكيف تصنعُ بلا إله إلا اللهُ إذا جاءت يومَ القيامةِ؟ " قال: فجعلَ لا يزيدُه على أن يقول: " كيفَ تَصنعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءت يوم القيامةِ؟ ".
وأورد الذهبي في " السير " 2/ 505 من طريق ابن إسحاق، حدثني محمد بن أسامة بن محمد بن أسامة، عن أبيه، عن جده أسامة، وفيه: فقلت (القائل أسامة): إنِّي أعطي الله عهداً ألا أقتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله أبداً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " بعدي يا أسامةُ؟ " قال: بَعْدَكَ.
ونقل الحافظ في " الفتح " 12/ 196 عن ابن بطال قال: كانت هذه القصة سببَ حلف أسامة أن لا يقاتل مسلماً بعد ذلك، ومن ثم تخلف عن علي في الجمل وصفين.
قلت (القائل ابن حجر): وكذا وقع في رواية الأعمش المذكورة " مسلم (96) " أن سعد بن أبي وقاص كان يقول: لا أقاتل مسلماً حتى يقاتله أسامة.
(1) في (ش): وقال له.
(2) في (ش): ثلاثة أيام.(3/282)
يَوْماً"، فقال (1): أنا أقوى مِنْ ذلِك، فلم يأذن له عليه الصلاةُ والسلامُ في أكثرَ مِنْ ذلِك، وقال: " لا أفْضَلَ مِنْ ذلِكَ " (2).
وأمره عليه السَّلامُ أن يختم في الشَّهر خَتمة، فقال: أنا أقوى مِنْ ذلك، فما زال ينَازِلُهُ حتَّى أمره أن يختم في كُلِّ ثلاثة أيّام ختمة، فقال: أنا أقوى منْ ذلك، فلم يأذن له عليه السلام أن يختم في أقل مِنْ ذلِكَ (3)، وقد مدحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " نِعْمَ الرَّجُل عَبْد اللهِ " (4)، ولم يكن عبدُ اللهِ مِنْ طرازِ معاوية وأتباعِهِ من الدُّنْيَوِيين، وإنَّما كانت مِنْهُ تلك الهفْوَة بسبب البِر بأبيه، فإنّ أباه ذَكَّره أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يُطِيعَهُ (5)، فذكر ذلك، فقال له أبُوه: فأطعني، فأطاعه في مُجَرَّدِ المسايرة لهم من غير أن يُريق دماً، ولا يَسُلَّ سيفاً، ثُمَّ عصمه اللهُ تعالى مِنْ ذلِك، وتداركه بالتَّوبة، فمَنْ
__________
(1) في (ش): فقال له.
(2) أخرجه البخاري (1976)، ومسلم (1159).
(3) أخرجه البخاري (1978) من طريق شعبة، عن مغيرة، سمعت مجاهداً عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " صُمْ مِنَ الشهرِ ثلاثةَ أيامٍ "، قال: أُطيقُ أكثرَ من ذلك، فما زال حتى قال: " صُمْ يوماً وأَفْطرْ يوماً "، فقال: " اقرأ القرآن في كُلِّ شَهْرٍ "، قال: إني أُطيقُ أكثر، فما زالَ حتى قال: " في ثلاثٍ ".
وانظر البخاري (5052)، ومسلماً (1159) (182) ففيه: " فاقرأه في سبع ولا تزد على ذلك ".
(4) أخرجه أحمد في " المسند " 1/ 161 و" فضائل الصحابة " (1743) من طريق وكيع، عن نافع بن عمر، وعبد الجبار بن ورد، عن ابن أبي مليكة قال: قال طلحة بن عبيد الله: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: " نِعْمَ أهلُ البيت عبد الله، وأبو عبد الله، وأم عبد الله ". وهذا سند رجاله ثقات، إلا أنَّه منقطع، فإنَّ ابن أبي مُليكَةَ -واسمه عبد الله بن عبيد بن عبد الله- لم يدركْ طلحةَ، فإنَّ طلحَة قُتِلَ يوم الجمل سنة 36 هـ، وابن أبي مليكة مات سنة 117 فبين وفاتيهما 81 سنة. وعبد الله: هو ابن عمرو بن العاص، وأمُّه ريطةُ بنت منبه بن الحجاج بن عامر السهمية، أسلمت وبايعت.
(5) هو في " المسند " 2/ 164 و206، و" طبقات ابن سعد " 3/ 253، و" مصنف ابن أبي شيبة " 15/ 291 - 292، وفيه: " فأنا معكم ولستُ أقاتل ". وقد تقدم بتمامه.(3/283)
هذِهِ حالُهُ إذا قارف ذنباً على جهة التّأويل، ثم عَلِمَ قُبْحَهُ، فأسرع إلى مفارقة ذنبه، فاستمرَّ على نحيبه حتَّى ماتَ، كيف (1) يقال إنَّه مُصِرٌّ على محضِ الفُسوقِ (2)، خارجٌ من ولاية الله تعالى، ولو قدَّرنا أنّها لم تصحّ توبتُه، بل إنَّه استمرَّ على المعصية، لكان مقبولاً في الرِّواية، فإنّه من المتديِّنين المتأوِّلين، وهو نظيرُ السَّجَّاد ابن طلحة بنِ عُبَيْدِ الله الذي قال فيه عليٌّ عليه السلام: قتله بِرُّهُ بأبيه (3).
الوهم الثالث عشر: قال: ومنهم أبو موسى الأشعري نَزَعَ علياً الّذي ولّاه الله ورسوله، إنَّه على الله لجريءٌ، وأقام معاوية بن أبي سفيان القدري.
أقول: أمّا نزعُهُ لعليٍّ عليه السلامُ فصحيحٌ عنه، وقبيحٌ منه.
وأمَّا قوله: إنَّه أقام معاوية، فوهمٌ فاحشٌ، لا يجهلُه مَنْ لَهُ أدنى
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): الفسق.
(3) هو محمد بن طلحة بن عبيد الله، لُقب بالسَّجَّاد لعبادته وتألهه، وُلد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقُتِلَ يوم الجملِ وهو شابٌ.
قال مصعب الزبيري في " نسبِ قريش " ص 281: وكان طلحةُ أَمرَهُ يوم الجمل أن يتقدمَ باللواء، فتقدمَ ونثل درعه بينَ رجليه، وقام عليها، فجعل كلما حمل عليه رجلٌ، قال: نشدتُك بـ " حم "، فينصرفُ الرجلُ عنه حتى شدَّ عليه رجلٌ من أسد بن خزيمة يقال له: جرير، فنشده محمدٌ بـ " حم "، فلم يَثنِه ذلك، ففي ذلك يقولُ الأسدي:
وأشعثَ قوَّامٍ بآيات ربِّه ... قليلِ الأذَى فيما تَرَى العينُ مُسلِم
ضَمَمتُ إليه بالسِّنانِ قميصَه ... فخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللفَمِ
على غيرِ شيءٍ غيرَ أنْ ليس تابعاً ... علياً ومنْ لا يتْبَع الحقَّ يُظلم
فذكَّرَني حاميم والرمحُ شاجرٌ ... فهَلاَّ تلا حاميمَ قبل التَّقَدُّمِ
فمر به علي رضي الله عنه في القتلى، فقال: السَّجَّاد وربِّ الكعبة، هذا الذي قتله بِرُّ أبيه.(3/284)
تمييزٍ بعلمِ التَّاريخ، فإنَّه خَلَعَ معاويةَ أيضاًً، وكان غرضُه أن يُقيم عَبْدَ الله بنَ عمر بن الخطاب، وقد كان تواطأ على هذا هو وعمرو بن العاص، فغدره عمرو، فلم يَخْلَعْ معاوية وعلياً كما خلعهما أبو موسى، بل قرَّر معاوية، فسبَّه أبو موسى، فقال له: إنَّما مَثلُكَ كمثل (1) الكلب.
وقد اشتهر في التَّاريخ أنَّ علياً عليه السَّلامُ لمَّا حكم أبا موسى كتب إليه معاوية: أما بعد، فإنَّ عمرو بن العاص قد بايعني على ما أُرِيدُ، وأُقْسِمُ بالله لئن بايعتني على ما أُريد (2) لأستعملنَّ أحدَ ابْنَيْكَ على البصرة، والآخرَ على الكوفة، ولا يُغْلقُ دونَك بابٌ، ولا تُقضى دونك حاجة، وقد كتبتُ إليك بخطِّي، فاكتب إليَّ بخط يدك (3)، فكتب إليه: أمَّا بعدُ، فإنَّك كتبت إليَّ في جسيمِ أمرِ الأمَّة، فماذا أقول لربِّي إذا قَدِمْتُ عليه؟ وليس لي فيما عرضتَ عليَّ حاجة (4).
إذا عرفت هذا، فأبو موسى من جملة المتأوِّلين بغير شَكٍّ، وذنبه في هذا دون ذنوب (5) الخوارج لا يمنع مِنْ قبول الرِّواية، فقد كان متعبِّداً متزهِّداً قواماً صوَّاماً، وقد تولَّى البصرة، فلم يخرج منها إلا بستِّ مئة درهم، وكان خراجُها عشرةَ آلافِ ألفٍ وأربعَ مئةِ ألفٍ، وحديثُه في " علوم آل محمد "، مِنْ ذلك في باب الكفّارات في أواخره.
__________
(1) في (ش): مثل.
(2) " على ما أريد " ساقطة من (ب).
(3) في (ش): بخطِّك.
(4) أخرجه ابن سعد في " الطبقات " 4/ 111 - 112 من طريق عفان بن مسلم، وعمرو ابن عاصم الكلابي، ويعقوب بن إسحاق الحضرمي، ثلاثتُهم عن سليمان بن المغيرة، عن حميدِ بني هلال، عن أبي بردة قال: قال أبو موسى ... وهذا سند صحيح.
(5) ساقطة من (ش).(3/285)
وقد روي عن حذيفة أنَّه تكلَّم في نفاقه. رواه الشِّعبي، وقال: حدثناهم بغضب أصحاب محمد فاتخذوه ديناً (1).
وعندي أنَّ هذا لا يقدح في روايته، فحذيفةُ -وإن كان صاحبَ العِلْمِ بالمنافقين- إلا أنَّه -من غير شكٍّ- ما أخذ العلم بالمنافقين إلاَّ مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد (2) قال في أبي موسى: " إنَّهُ مسلمٌ منيبٌ " رواه مالك بن مغول وغيرُه عن ابنِ (3) بريدة، عن أبيه بريدة (4) عنه - صلى الله عليه وسلم - (5).
__________
(1) أخرجه يعقوب بن سفيان في " تاريخه " 2/ 771 ومن طريقِ ابنِ عساكر 538 عن ابن نمير، حدثني أبي، عن الأعمش، عن شقيق قال: كنا مع حذيفة جلوساً، فدخلَ عبدُ الله، وأبو موسى المسجدَ، فقال: أحدُهما منافق، ثم قال: إن أشبهَ الناسِ هَدْياً ودَلاً وسَمْتاً برسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله.
وأورد الإمامُ الذهبيُّ في " السير " 2/ 394 في ترجمة أبي موسى، وعقب عليه بقوله: ما أدري ما وجهُ هذا القولِ، سَمِعَهُ عبد الله بن نمير منه (أي: من الأعمش) ثم يقول الأعمش: حدثناهم بغضبِ أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فاتَّخذوهُ ديناً.
فقولُ المؤلفِ -رحمه الله-: " رواه الشعبي " وهمٌ منه، صوابُه الأعمش.
ثم قال الذهبيُّ: قال عبدُ الله بن إدريس: كانَ الأعمشُ به ديانةٌ من خشيته. قلت (القائل الذهبي): رُمي الأعمشُ بيسير تشيعٍ، فما أدري.
قلت: رجالُ السندِ ثقاتٌ، فإن صَحَّ هذا الخبرُ عن حذيفة، ولا إخالُه يصح، فإنه قد أخْطأَ في حَقَِ هذا الصحابي الجليل الذي استعملَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - هو ومعاذ بن جبل على اليمنِ، وولي للخليفتين عمر وعثمان، وشَهِدَ له فضلاء الصحابة بوفور عقله، واستقامة سيرته، وورَعِه، وفضلِه، على أن قول الأعمش يُفهم منه أن حذيفةَ إنما قالَ ذلك في حالة الغضبِ التي يقول فيها الإنسان كلاماً لا يعتقد أحقيتَه إذ رُوجِعَ حينَ يسكت عنه الغضبُ، ولا يتعلق بما يقالُ في مثل هذه الحالة إلا الذين في قلوبهم مرضٌ.
(2) من قوله: " ورسول الله " إلى هنا ساقط من (ب).
(3) في (ش): " أبي "، وهو تحريف.
(4) " عن أبيه بريدة " ساقطة من (ش).
(5) أخرجه أحمد 5/ 349، والبغوي في " شرح السنة " (1259)، وإسناده صحيح، من طريق عثمان بن عُمر الضبي، حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا مالك بن مِغْول، حدثنا عبد الله بن بريدة، عن أبيه قال: دخلتُ مع رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ ويدي في يده، فإذا رجلٌ =(3/286)
ومن أوضح (1) الأدلَّةِ على هذا (2): أنَّه كان يُفتي، و (3) يقضي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلدتِه في حياته، وبَعْدَ وفاته، وقد ولاَّه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اليَمَنَ، وولَّاه على (4) القضاءِ في اليمن، ولو كان منافقاً لم يُوَلِّه ذلك، ولا يتركُه يُفتي، فقد كانت حال (5) المنافقين معروفةً في زمانه عليه السلامُ، وكانوا أحقرَ منْ أنَّ يُؤتَمَنُوا على قضاء المسلمين، وفتياهم، وولايتهم (6). ولو كان منافقاً، لاغتنم الفُرصة حين حكَّمه عليٌّ عليه السَّلامُ، ولبايع معاويةَ على ما شاء، وقبِلَ (7) منه ذلك العطاء، ولو كان كذلك، لما اختار عبدَ الله بن عمر للخلافة، فعبدُ الله بن عمر كان من أهل التَّحرِّي، والمنافقُ لا يحبُّ إلاَّ أهل الفُسوق والجُرأة.
وقد روى ابن بطَّال في " شرح البخاري " في الكلام على الخوارج:
أنَّ عليَّاً عليه السلام سُئل عنهم: أكفَّارٌ هم؟ فقال: مِنَ الكُفر فرُّوا، قيل له: فمُنافِقُون؟ قال: المنافقون لا يذكرون اللهَ إلاَّ قليلاً، وهم يذكرون
__________
= يُصَلِّي يقول: اللهُمَّ إني أسألُكَ بأنك أنت اللهُ، الواحدُ، الأحدُ، الصمدُ، الذي لم يَلِدْ ولم يُولدْ، ولم يكن له كُفُواً أحدٌ، قال: فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سُئل به أعطى، وإذا دُعِيَ به أجاب " فلمَّا كانت الليلةُ الثانية دخلتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المسجدَ، قال: فإذا ذلك الرجلُ يقرأُ، قال: فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أتُراه مُرائياً " ثلاث مرات، قال: فقال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " بل هو مؤمنٌ منيبٌ، عبدُ اللهِ بن قيس، أو أبو موسى أُوتيَ مِزْماراً من مزامير آل داود " قال: قلتُ: يا نبي الله، ألا أبَشِّرُهُ؟ قال: " بلى "، فبشرتُه، فكان لي أخاً.
(1) في (ش): أصح.
(2) " على هذا " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): أو.
(4) لم ترد في (ش).
(5) في (ش): حالة.
(6) في (ش): وولاتهم.
(7) في (ش): ولقبل.(3/287)
الله ذِكراً كثيراً (1).
وقد ذكر الفقيه حميد (2) في " عمدة المسترشدين ": أن هذا أشهرُ
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في " المصنف " 15/ 332 من طريق يحيى بن آدم، عن مفضل بن مهلهل، عن الشيباني (هو سليمان بن أبي سليمان) عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: كنت عند علي، فسئل عن أهلِ النهرِ أَهُمْ مشركونَ؟ قالَ: مِن الشَّركِ فَرُّوا، قيل: فمنافقونَ هُم؟ قالَ: إنَّ المنافقين لا يَذْكُرون اللهَ إلا قليلاً، قيل له: فما هُم؟ قال: قومٌ بَغَوْا علينا. وهذا سند صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه البيهقي 8/ 174 من طريق حميد بن زنجويه، حدثنا يعلى بن عبيد، حدثنا مسعر، عن عامر بن شقيق، عن شقيق بن سلمة قال: قال رجلٌ: من يتعرف البغلة يوم قُتل المشركون، يعني أهل النهروان، فقال علي بن أبي طالب: من الشركِ فَرُّوا، قال: فالمنافقون، قال: المنافقون لا يذكرونَ اللهَ إلا قليلاً: قال: فما هم؟ قال: قومٌ بَغَوْا علينا، فنُصرنا عليهم. وعامر بن شقيق: فيه لين، لكن يشهد له ما قبله، فيتقوى به.
وأخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (18656) عن معمر، عمَّن سَمِعَ الحسن قال: لما قَتَلَ عليٌّ رضي اللهُ عنه الحروريَّة، قالوا: منْ هؤلاء يا أميرَ المؤمنين؟ أكفارٌ هُم؟ قال: من الكفر فرُّوا، قيل: فمنافقين؟ قال: إنَّ المنافقينَ لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون اللهَ كثيراً، قيل: فما هم؟ قال: قومٌ أصابَتْهم فتنةٌ، فَعَمُوا فِيها وصَمُّوا.
وأخرج ابن أبي شيبة 15/ 256، ومن طريقه البيهقي 8/ 183 عن يزيد بن هارون، عن شريك، عن أبي العنبس، عن أبي البختري قال: سُئل علي عن أهل الجمل قال: قيل: أمشركون هم؟ قال: من الشركِ فرُّوا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟ قال: إخوانُنا بَغوْا علينا.
رضي الله عنه، ما أنصفك في حق خصومك، وما أصلحك، وما أعدلك وما أكرمك.
ملكنا فكان العدلُ منا سجيةً ... ولما ملكتُم سال بالدَّم أبطحُ
(2) هو حُميد بن أحمد المحلي الهمداني، أبو عبد الله حسام الدين، المعروف بالقاضي الشهيد، المتوفى سنة 652 هـ. مؤرخ، فقيه، زيدي، يماني، من أهل صنعاء، كان من كبار أصحاب الإمام المهدي أحمد بن الحسين القاسمي، وحضر معه معركة الحُصَبات بينه وبين المظفر الرسولي يوسف بن عمر، فاستشهد القاضي بها. قتله الأشراف بنو حمزة، له كتب، منها: " الحدائق الوردية في سير الأئمة الزيدية - خ " جزآن، مصوران في معهد المخطوطات، ومنه نسخة في مكتبة الجامع بصنعاء، والمتحف البريطاني (الرقم 3812)، ومنه الأول في الأمبروزيانة، و" محاسن الأزهار في فضائل العترة الأخيار - خ " 140 ورقة منه في مكتبة الجامع بصنعاء، وبالمتحف البريطاني (الرقم 3820) جعله شرحاً لقصيدة من نظم الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة، و" مناهج الأنظار العاصمة من الأخطار - خ " في =(3/288)
الرِّوايتين عنه عليه السلام في عدم تكفير الخوارج.
وذكر ابنُ بطال: أنَّه مرويٌّ عنه مِنْ طُرُقٍ.
وذكر البيهقي (1): أنَّه ردَّ عليهم أموالهم مِنْ طرق، ولم يذكرا (2) قط (3) الرواية الأخرى.
وهذا غايةُ الورع والإنصاف مِنْ أميرِ المؤمنين عليه السَّلامُ، وكذلك فلتكُن المَنَاقِبُ، فإذا تقرَّر نفيُ أميرِ المؤمنين النِّفاق عنهم، فأبو موسى أحقُّ بذلك منهم، فإنَّه لم يُشاركهم في عظائمهم الفاحشة مِنْ حربِ أميرِ المؤمنين، وتكفيرهِ (4)، والإعلانِ بالبراءة منه، والإصرارِ على ذلك، والدُّعاء إليه، وكان مِنَ حُفَّاظ كتاب الله، والذَّاكرين الله كثيراً مع قُبْحِ ما صنع، وكراهتِنا لِمَا صنع، ووُجوب البراءة ممَّا صنع، ولكن ليسَ منْ أساء وأحسن كَمَنْ أساء ولم يُحْسِنْ، وقد مَيَّزَ الله تعالى في كتابه الخالطين (5) بِحُكْمٍ مفردٍ، واختلف أهلُ تفسير القرآن فيهم، بل قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات} [هود: 114]، وليس كلامُنا في تحسينِ ذنبه، وإنَّما كلامُنا في أنَّه مِمَّنْ تُقْبَلُ رِوايتُه مع ذَنْبِهِ لظهور تأويله، وكَثرة حسناتِه مع ذلك الذَّنب، كما ذكره الأئِمَّةُ مِنْ أهلِ البيت، وسائِرِ علماء
__________
= العقائد وعلم الكلام، وفي خزانة محمد بن إسماعيل المطهر بصنعاء. " الأعلام " 2/ 282 - 283. وانظر " فهرس المكتبة الغربية بالجامع الكبير " بصنعاء ص 167 و661 و695.
(1) انظر " سنن البيهقي " 8/ 181 - 183 باب: أهل البغي إذا فاؤوا لم يتبع مدبرهم، ولم يقتل أسيرهم، ولم يجهز على جريحهم، ولم يستمتع بشيء من أموالهم.
(2) في (ش): " يذكر "، وفي (ب): " يذكروا ".
(3) " قط " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): وتكفيره صانه الله عن ذلك.
(5) في (ش): الخالطين في كتابه.(3/289)
الإِسلام في الخوارج، وكثير (1) من أهل البدع؛ لأنَّ مبنى الرِّواية على ظنِّ الصِّدق، وعدم التُّهمة بتعمُّدِ الكَذِبِ ونحو ذلك.
وممَّا يُعْرَفُ به صدقُه وُيمْتَحَنُ به حالُه: تتَبُّع أحاديثه كلِّها، والنَّظرُ فيما فيها كما مرَّ في أحاديثِ معاوية، وهل هي منكراتٌ مشتمِلة على ما لم يَرْوِه غيرُه مِنَ الثِّقات أم لا؟، كما هو عادةُ المحدثين، فاعتبرْ ذلك إنْ شئت، والله الموفق.
ولكن لا يَصْلُحُ لذلك إلا أئِمَّةُ الحديث الَّذين يعرفون ما انفرد به ممَّا رواه غيرُه، فإنْ كنتَ منهم، فانتقد واجتهد، وإن لَمْ تكُنْ منهم، فتعلَّم وتفهَّم تَسْتَفِدْ، وهذا مِنْ علوم الحديث هو النَّوعُ المسمى بالتَّتبُّع والاعتبار، ومِنْ مواضع الغلطِ فيه أن يقدح على الرَّجل بما رُوي عنه ممَّا لم تتحقَّقْ صحَّتُه عنه (2). فاعْرِفْ ذلك.
ولمَّا قَرُبَ موتُه، اجتهد في العبادة اجتهاداً شديداً، فقيل له: لو أمسكتَ ورفقت بنفسك؟ فقال: إنَّ الخيل إذا أُرْسِلَتْ، فَقَارَبَتْ رأسَ مجراها، أخرجت جَميعَ ما عندها، والَّذي بَقِيَ مِنْ أجلي أقلُّ مِنْ ذلك (3).
وبالجملة، فلم نعلم (4) أحداً من المنافقين استمرَّ على الإِسلام مِنْ
__________
(1) سقطت الواو من (ب).
(2) ساقطة من (ش).
(3) أخرجه ابن عساكر في " تاريخ دمشق " ص 534، ونقله الذهبي في " السير " 2/ 393.
(4) ساقطة من (ش).(3/290)
أوَّلِ النُّبُوَّة إلى عام أوطاس (1)، فالمنافقُ يَنجُمُ نفاقُه أيَّامَ ضعفِ الإِسلام، وإنَّما كان كما رُوِيَ عن عليٍّ عليه السلام: صُبغَ في العِلْمِ صبغة، ثمَّ خرج منه، رواه عمرو بن مرة، عن أبي البختري، عن عليٍّ عليه السلام (2)، فخُروجه مِنَ العلم بِمَا فعل مِنْ خلعه لأميرِ المؤمنين، فإنه لا يخلع أمير المؤمنين عالِمٌ. نسألُ اللهَ السلامة والعافية، وربَّما أرادَ حذيفةُ نفاقاً دونَ نفاقٍ، فقد ثبت في " صحيح البخاري " من حديث ابن عمر أنَّ ناساً قالُوا: إنَّا ندخُلُ على سلطاننا (3)، فنقول لهم بخلاف ما نتكلَّمُ به إذا خرجنا مِن عندهم، قال ابنُ عمر: كنَّا نَعُدُّ هذا نفاقاً على عهد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
ويَعْضُدُه (5) ما رواه البخاري أيضاً من حديث أنسٍ: إنَّكم لتعملون
__________
(1) وهو العام الثامن من الهجرة، وكان ذلك بعد فتح مكة، وهي غزوة حنين. وأوطاس وحُنين موضعان بين مكة والمدينة، فسميت الغزوة باسم مكانها، وتُسمى غزوة هَوازن أيضاً، لأنهم الذين أتوا لقتالِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. انظر الخبر عن هذه الغزاة في ابن هشام 2/ 437 - 500، وابن سعد 2/ 149 - 158، و" زاد المعاد " 1/ 3، و" شرح المواهب " 3/ 5 - 28.
(2) أخرجه يعقوب بن سفيان في " تاريخه " 2/ 540 من طريق عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، حدثنا الأعمش، حدثني عمرو بن مرة، عن أبي البختري قال: سُئل علي عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: عن أيِّهم تسألوني؟ قالوا: عن عبد الله، قال: علم القرآن، وعلم السنة، ثم انتهى وكفي به علماً، فقالوا: أخبرنا عن أبي موسى؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: صُبغ في العلم صبغاً، قالوا: أخبرنا عن حذيفة؟ قال: أعلمُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين، قالوا: حدثنا عن أبي ذر؟ قال: وَعَى علماً عجز عنه، قالوا: حدثنا عن سلمان؟ قال: عن لقمان الحكيم تسألوني، عَلِمَ عِلْمَ الأولى والآخرة، بحراً لا يدرك قعره، وهو منّا أهلَ البيت، قالوا: حدثنا عن نفسك؟ قال: كنت إذا سئلتُ أعطيتُ، وإذا سكت ابتدأت.
(3) في (ش): سلاطيننا.
(4) أخرجه البخاري (7178) في الأحكام، باب: ما يكره من ثناء السلطان، وإذا خرج قال غير ذلك.
(5) في (ش): يعضده أيضاً.(3/291)
أعمالاً هي أَدَقُّ في أعينكم مِنَ الشَّعر كُنَّا نَعُدُّها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المُوبِقاتِ (1).
وروى أحمدُ في " المسند " (2) مثلَه عن أبي سعيد الخدري.
وروى الحاكم في آخر التوبة مثله عن عبادة (3)، وفي الفتن نحو ذلك عن ابن مسعود (4) فهذا ونحوُه يدخله احتمالُ التَّأويل بالتقية ونحو ذلك، وتقع فيه الهفوة مع النَّدم والاستغفار مِنَ الأكثرين، والله سبحانه أعلم.
وأمَّا رواية أبي موسى، فمن جملة رواية (5) غيره من أهل التَّأويل، وقد رُوِيَ أنَّه تاب بعد ذلك، ورضي عنه عليه السَّلامُ، ونرجو صحَّة ذلك ببركةِ صُحْبَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
الوهم الرابع عشر: أنَّه قدح على أهل الحديث بقول رسول الله
__________
(1) أخرجه البخاري (6492) في الرقاق، باب: ما يتقى من محقرات الذنوب، وهو في " المسند" 3/ 157.
(2) 3/ 3 من طريق عبد الملك بن عمرو، حدثنا عمار بن راشد، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري.
(3) هو عُبادة بن قرط أو قرص بن عروة بن بجير بن مالك الضبي، نزل البصرة، قال ابن حبان: له صحبة، والصحيح أنَّه ابنُ قرص بالصاد، ذكره البخاري عن علي بن المديني، عن رجل من قومه.
وهو في " المستدرك " 4/ 261 - 262 من طريق عبدان، عن سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي قتادة قال: قال عبادة ... وصححه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه الطيالسي (1353) من طريق قرة وسليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، به.
وأخرجه أحمد 3/ 470 من طريق إسماعيل، عن أيوب، عن حميد بن هلال قال: قال عبادة بن قرط ... وانظر " الإصابة " 2/ 261.
(4) انظر " المستدرك " 4/ 437.
(5) في (ب): روايات.(3/292)
- صلى الله عليه وسلم -: " يُؤْتَى بِقَوْمٍ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُذْهَبُ بِهِمْ ذاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُول: أَصْحَابِي أَصْحَابي " (1)، وبقوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُم} [التوبة: 101]، دلَّتِ الآيةُ على أنَّ فيمن (2) يَعُدُّونَه صحابِيَّاً عدلاًً مَنْ هُوَ كافر مجروح. انتهى كلامه.
أقول: مرادُ السَّيِّد بهذا لا يخلو مِنْ قسمين.
القسم الأول: أنْ يريدَ أنَّ الحديثَ والآيةَ دلاَّ على أنَّ في منْ ظاهِرُهُ العدالة مِنَ الصَّحابة مَنْ هُوَ منافِقٌ مجروحٌ، ولا طريقَ إلى العلم بهِ، فيجبُ تركُ حديث الصَّحابةِ كلِّهم، لَأنَّ فيهم مجروحاً غيرَ معلومٍ، وهذا غيرُ مقصودٍ للسَّيِّد، فإنَّ هذه منْ شُبَهِ الزَّنادقة صان اللهُ السيدَ عن ذكرهم.
القسم الثَّاني: أنْ نقول للسيدِ بما (3) أجمع عليه أهلُ الإسلام مِنَ الرُّجوع إِلى من ظهر صِدْقُه، وإسلامه، وعدالته، وسواء كان في الباطن مسلماً أو كافراً، فإنَّ التكفير (4) بالباطن غيرُ حَسَنٍ، ولا واقع، ولا يجب إلا جرحُ مَنْ ظَهَر جَرْحُه، وتبيَّن عِصيانه، على أنَّ مَنْ أضمر شيئاً، ظهرت عليه لوائحه (5)، وفاحت منه روائحه كما يأتي مبسوطاً بسطاً شافياً في الوهم الثالث والثلاثين في أوَّل المجلّد الرَّابع في الكلام على يزيدِ بن معاوية، وذكر علامات المنافقين، وظهورِ نفاقهم للمؤمنين، وأن مثلَ ذلِكَ لم يخْفَ على الصحابة والتابعين، وقد قال اللهُ تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ
__________
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 228 ت 6.
(2) في النسخ: " من "، والمثبت من (ش).
(3) في (ش): إنما.
(4) في (ب): التكليف.
(5) في (ش): " ولاحت عليه لوائحه "، وكتب فوقها: ونمَّت عليه روائحه.(3/293)
الْقَوْلِ} [محمد: 30]، وأخبرَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بعلاماتِهم مِنَ الغَدْرِ، والكَذِبِ، والحَلِفِ، وبُِغضِ عليٍّ عليه السَّلامُ، وبُغضِ الأنصار، وأنَّهم خُشُبٌ باللَّيل، صُخُبٌ بالنَّهار، لا يَقْرَبُونَ المَسَاجِدَ إلا هَجْراً، ولا يأتون الصَّلاة إلا دَبْراً، مستكبرين، لا يَألفون ولا يُؤلفون (1)، وقد عَرَفت هذا العربُ قبل مجيء العلوم والشَّرائعِ، وقال (2) في ذلك قائلُهم (3):
__________
(1) أخرجه أحمد في " المسند " 2/ 293 من طريق يزيد، والبزار (85) من طريق عبد الرحمن بن مقاتل التستري، كلاهما عن عبد الملك بن قدامة الجمحي، عن إسحاق بن بكر بن أبي الفرات، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن للمنافقين علامات يُعرفون بها، تحيتهم لعنة، وطعامهم نُهبة، وغنيمتهم غلول، ولا يقربون المساجدَ إلا هَجْراً، ولا يأتون الصلاةَ إلا دبْراً، مستكبرين، لا يألفون ولا يؤلفون، خشب بالليل، صُخبٌ بالنهار" وقال يزيد مرة: سخب بالنهار. عبد الله بن قدامة: ضعيف، وشيخه فيه إسحاق بن بكر مجهول، كما قال الذهبي في " الكاشف "، وابن حجر في " التفريب "، فالحديث ضعيف.
وقد أورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 107، ونسبه لأحمد، والبزار، وقال: وفيه عبد الملك بن قدامة الجمحي، وثقه يحيى بن معين وغيره، وضعفه الدارقطني وغيره.
النُّهْبَة -بضم النون، وسكون الهاء، كالنُّهْبى-: الشيء المنهوب.
وقوله: " ولا يقربونَ المساجدَ إلا هجراً " الهجر: الترك والإعراض عن الشيء، أي: أنهم لا يقربون المساجد، بل يهجرونها.
وقوله: " ولا يأتون الصلاة إلا دبراً" دَبراً: يروى بفتح الدال وضمها، وهو منصوب على الظرف، والمعنى: لا يأتون الصلاة إلا بعد فوات وقتها.
" خشب بالليل " أي: ينامون الليل لا يصلون، شَبَّهَهُم في تمددهم نياماً بالخشب المطرحة، ويقال للقتيل: خرَّج كأنه خشبة، وكأنه جذع.
" صُخُب بالنهار": بضم الصاد والخاء، وفي رواية يزيد " سخب " بالسين، والسخب والصخب: الضجة، والصياح، واختلاط الأصوات، والمرادُ رفعُ أصواتِهِم وضجيجهم في المجادلاتِ والخصوماتِ وغير ذلك. قَالَ ابنُ الأثير: أي: إذا جَنَّ عليهم الليلُ، سَقَطُوا نياماً كأنهم خشبٌ، فإذا أصبحوا، تَسَاخبوا على الدنيا شحّاً وحِرْصاً.
(2) في (ش): قال.
(3) هو زهير بن أبي سُلمى المازني، حكيم الشعراء في الجاهلية، ذكره ابن سلام في =(3/294)
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امرىءٍ مِنْ خَلِيقَةٍ ... وإنْ خَالَهَا تخْفَى عَلَى النَّاس تُعْلَمِ
وإنِّما أخبر - صلى الله عليه وسلم - بما حَدَثَ بعدَه، فما معنى قولِ السيّد: إنَّ ذلك يدلُّ على أنَّ في مَنْ يعدُّونه صحابيَّاً عدلاً مَنْ هو منَ المجروحين، فهذا السُّؤالُ -على زعمه- يتوجَّه على مذهب الزَّيديَّة والمعتزلة، وجميعِ الطَّوائف، فإنَّ الآية والحديث يدلان على تجويزِ أنْ يكون في من يعده المعتزلةُ، والزَّيديَّةُ صحابيّاً عدلاً مَنْ هو مجروحٌ، بل هذا يتوجَّهُ على الصحابةِ، حيث قَبِلَ بعضُهم بعضاً قبل قيام القيامة، وقبل تبيُّن هؤلاء الذين يَظْهرُ يوم القيامة جرحُهم، وقد وقع اللِّعان على عهده - صلى الله عليه وسلم -، وقال للمتلاعِنيْنِ: " الله يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كاذِبٌ " (1)، فلم يلزم منْ ذلك إشكالٌ في الإِسلام، ولا تكلَّمَ في حكمهما أئِمَّة السَّلف الأعلام؛ لِسُهولَةِ الأمر في هذه المباحث الظَّنِّيَّةِ، وكذلك المدعي مع المنكر، وسائر المتنازعين المعلوم كذب بعضهم، وإذا كان كلامُه هذا في الصحابة مع أَنَّهم خَيْرُ القرون، فَمَنْ بعدهم أولى بأنْ يظهر يوم القيامة في كُلِّ أهل
__________
= الطبقة الأولى من فحول الشعراء ص 51 و64 مع امرىء القيس، والنابغة، والأعشى، ونقل عن أهل النظر أنَّه كان أحصفَهم شعراً، وأبعدَهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم أمثالاً في شعره. ويقال: كان ينظم القصيدة في شهر، ويهذبها في سنة، فكانت قصائده تُسمى الحوليات، مات سنة 609 م.
والبيت من جاهليته السائرة التي مطلعها:
أمِنْ أُمِّ أوْفَى دِمْنَةٌ لمْ تَكلَّمِ ... بِحَوْمَانَةَ الدَّرَّاجِِ فالمُتَثَلَّمِ
وهي في مدح الحارث بن عوف بن أبي حارثة، وهَرم بن سنان بن أبي حارثة اللذين سعيا في الصلح بين عبس وذبيان.
وهو في " شرح القصائد السبع الطوال " ص 289، و" الجمل " للزجاجي ص 222، و" مغني اللبيب " (531).
و" مِنْ " في قوله: " من خليقة " زائدة، و" خليقة " في موضع رفع اسم " تكن "، وجملة " تخفى " مفعول ثاني " لخالها ".
(1) تقدم تخريجه في هذا الجزء ص 256 ت (1).(3/295)
قرن (1) مجاريحُ كانوا (2) مستورين، فيحرم على كلام السَّيد هذا التَّمسُّك بالظاهر في العدالة (3)، وقد أراد السَّيِّد أن يُجِيبَ عن هذا السُّؤال، فأورد معناه، ثمَّ قال: الجوابُ أنَّه قد ظهر فِسْقُ من ذكرنا وكفرُه، فرجع هذا التَّهويل الكثير إلى الكلام في حديث ثلاثةٍ مُعيَّنين، وكان قد فرغ مِنْ ذكرهم، وكنَّا قد فرغنا منَ الكلام على حديثهم، وبيَّنَّا أنَّ المحدِّثين لم يُدَلِّسُوهم، ولا رَوَوْا عنهم ما يُنْكَرُ في الشَّريعة، ولا يُعْرَفُ إلاَّ منهم، ولا قصدوا في كتبهم الاقتصارَعلى حفظ الحديث المُجمع على صِحَّته بَيْنَ جميعِ طوائفِ الإسلام، ولا حرَّجُوا على أهلِ العلم أن يُخالفوهم في بعضِ ما صحَّحوه بِحُجَّةٍ صحيحةٍ على طرائقِ أهل (4) الاجتهاد، والإنصافِ، وأنَّهم قصدوا حفظَ جميعِ حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أهل الإسلام، ثم بيَّنوا شروطَ الصِّحَّة عندهم، وعند غيرهم في كُتب علوم الحديث، ثمَّ صحَّحُوا كثيراً مِنَ الحديث على قواعِدَ لهم (5) قد قرَّروها (6) في علوم الحديث، وأصولِ الفقه، وكان فيما صحَّحوه ما عرفوا صِحَّته بمجموع (7) شواهد، وقرائن يعرفُها أهلُ الفِراسة في الفَنِّ دُونَ غيرهم، وكان (8) فيما ضعَّفُوه ما عرفوا ضعفَه بِمِثْلِ ذلك، وإنْ كان إسنادُ الَأوَّلِ في ظاهره ضعيفاً، وإسنادُ الثَّاني في ظاهره صحيحاً، وصنَّفُوا في ذلك علمَ العِلَلِ، وظهرت نصيحتُهم للإسلام وأهلِه ببيان الإسنادِ، وتركِ التَّدليس،
__________
(1) في (ش): فن.
(2) " كانوا " ساقطة من (ش).
(3) " في العدالة " ساقطة من (ش).
(4) ساقطة من (ش).
(5) في (ش): قواعدهم.
(6) في (ب): " قد رووها " وهو خطأ.
(7) في (ش): لمجموع.
(8) في (ش): فكان.(3/296)
وتضعيفِ ما وافق مذاهبهم (1) مِنَ الأحاديث الضعيفة، وتصحيحِ ما وافق مذاهب (2) خصومهم مِنَ الأحاديث الصَّحيحة، وتوثيقِ خلائِقَ لا يُحْصَوْنَ مِنْ خصومهم، وجرح مثلهم في الكثرة أو أكثرَ منهم مِنْ أهل مذهبهم، حتَّى تكلَّمَ أبو داوود على ولده، وقال: هو كذَّابٌ (3)، مع أنَّه لم يُعْرَفْ بشيْءٍ مِنْ ذلك، حتَّى قيل: إنَّه أراد في غيرِ الحديث، وكتبُوا قولَه هذا، ولم يكتُموه، ومَنْ حكم عليهم بالتُّهمة لهم قبل الإمكان في النَّظر في مصنَّفاتهم في الجرح والتَّعديل، وكيفيَّة التَّصحيح، فقد ظلمهم، والله يُحِبُّ الإنصافَ، ولقدِ اجتمعت كلمتُهم على تعظيم النََّسائي، وهو من أكابِرِ الشِّيعة، حتَّى قال الذّهبي في كتابه " النُّبلاء " (4): إنَّه أعرفُ بالحديثِ من أبي داوود، والتِّرمذي، ومسلم، وإنَّه جارٍ في مِضمار البخاري، وأبي زرعة. وأعجبُ مِنْ هذا: اعتمادُهم على كتاب " النَّسائي " في الجرح والتعديل، وقَبولُهم منه لجرح جماعةٍ مِنْ أهل مذهبهم، ما ذلك (5) إلا لإِنصافهم حين عرفوا مِنَ النَّسائي -رحمهُ اللهُ- المعرفة التَّامَّةَ بالفن (6)، وأنَّه في جرحه وتعديله مستقيمٌ على صراط العارفين، غيرُ عامل بالأهواء في رُواة حديث سيَّد المرسلين.
وكذلك قد شحنوا الصِّحاح بحديث أهلِ الصِّدق مِنَ الشِّيعة، والمعتزلة كما تقدَّم بيانُه، وذِكْرِ عدد كثيرٍ بأسمائهم مِمَّنْ وثَّقوه مِنْ
__________
(1) في (ش): مذهبهم.
(2) في (ش): مذهب.
(3) قال الإمام الذهبي في " السير " 13/ 231: لعل قول أبيه فيه -إن صح- أراد الكذب في لهجته، لا في الحديث، فإنه حجة فيما ينقله، أو كان يكذب ويوري في كلامه، ومن زعم أنَّه لا يكذب أبداً، فهو أرعن، نسأل الله السلامة من عثرة الشباب، ثم إنَّه شاخ وارعوى، ولزم الصدق والتقى.
(4) 14/ 133.
(5) في (ش): ذاك.
(6) ساقطة من (ب).(3/297)
خُصومهم، ومِمَّن جرَّحوه مِنْ أهل مذهبهم، ولأمْرٍ ما سارت بتصانيفهمُ الرُّكبان، وتلقَّاها بالقَبول أهلُ الإسلام، وقد قدَّمتُ في صدر هذا الكتاب ذكرَ خصيصتين إضافيتين (1)، إحداهما: تقديم (2) كلامِ أهلِ الفُنون في فنونهم، وإجماع الأمَّة على ذلك، وهذا موضعٌ له أيضاًً، فانظره في موضعه.
واللهُ يُحِبُّ الإنصافَ والعدلَ على المُوافق والمُخالف، وما يَضُرُّ المتعصِّبُ إلا نفسَهُ، فإنَّه يسُدُّ (3) على نفسه أبوابَ المعارف الَّتي هي أبوابُ الخيرِ كلِّه، " ومَا دَخَلَ الرِّفْقُ في شَيْءٍ إلاَّ زَانَهُ، ولا دَخَلَ العُنْفُ في شَيْءٍ إلا شانَهُ " كما قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (4).
__________
(1) في الأصول: أيضاً فتبين. وهو تصحيف.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): يفسد.
(4) أخرجه أحمد 6/ 58 و112 و125 و171 و206 و222، ومسلم (2594)، وأبو داود (4808) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانَهُ، ولا يُنزع من شيء إلا شَانَه ".
وأخرجه أحمد 3/ 241 من حديث أنس بن مالك أن اليهود دخلوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: السامُ عليك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم " فقالت عائشة: السامُ عليكم يا إخوانَ القردةِ والخنازير، ولعنةُ الله، وغضبُهُ، فقال: " يا عائشةُ، مَهْ "، فقالت: يا رسول الله، أما سمعتَ ما قالوا؟ قال: " أو ما سمعتِ ما رددتُ عليهم، يا عائشة، لم يدْخلِ الرفق في شيء إلا زانه، ولم ينزع من شيء إلا شانه ".
وأخرجه البخاري (6024)، ومسلم (2165) من حديث عائشة قالت: دخَلَ رهطٌ من اليهود على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: السامُ عليكم، قالت عائشة: ففهمتها، فقلتُ: عليكم السام واللعنة، قالت: فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " مهلاً يا عائشةُ، إنَّ الله يُحِبُّ الرفق في الأمرِ كله "، فقلتُ: يا رسول الله أو لم تَسْمَعْ ما قالوا؟ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " قَدْ قلتُ: وعليكم ".
وأخرج مسلم (2593) من طريق عائشة أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " يا عائشة، إن الله رفيقٌ يُحِبُّ الرفقَ، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العُنْفِ، وما لا يعطي على ما سواه ".(3/298)
ولذلك أثنى عليهم مَنِ اتَّصفَ بالإِمامَة في علم الحديث مِنَ الشِّيعة، والمعتزلة كالحاكم أبي عبد الله، والنّسائي، وابن عقدة (1)، والسَّمَّان (2)، ومَنْ لا يحصى مِنْ هذا الضَّرب، واستمدُّوا مِنْ معارفهم، وسلكوا مسالِكَهُم، وصاروا تلامِذَةً لِمَنْ تقدَّمهم مِنْ عُلماءِ أهلِ السُّنَّة (3) في الحديث، وشيوخاً لمَنْ بعدهم، فعليك أيُّها المنصفُ (4) بمطالعة " علوم الحديث " للحاكم صاحب " المستدرك " على أنَّه منْ كبارِ الشِّيعة، ولا سيما النوع (5) الموفي عشرين منه، والنوع التاسع والأربعين منه أيضاًً.
ومِنَ العجب أنَّ منْ ذمَّ الحديثَ وأهلَه منَ المعتزلةِ، وأهلِ الكلام لم يَسْتَغْنِ عنهم، وإن حَاد عَنِ التَّصريح بالرِّواية عنهم، نزل إلى من يستمدُّ منهم، فأخذ عنه، وعن من لا يقاربهم في الإتقان، وما أَحْسَنَ قولَ القائلِ في نحو هذا:
أقِلُّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... مِنَ اللَّوْمِ أو سُدُّوا المَكَانَ (6) الَّذي سَدُّوا (7)
__________
(1) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن الهمداني، الحافظ، العلامة، أحد أعلام الحديث، ونادرةُ الزمان، وصاحبُ التصانيف على ضعف فيه، وهو المعروفُ بالحافظ ابنِ عُقدةَ، تُوفي سنة 332 هـ. له ترجمة حافلة في " السير " 15/ 340 - 355.
(2) هو الإمام الحافظ البارع المتقن أبو سعد إسماعيل بن علي بن الحسين الرازي السمان، المتوفى سنة 445 هـ. مترجم في " السير " 18/ 55 - 60.
(3) في (ب): من محدثي الشيعة من علماء أهل السنة.
(4) في (أ) و (ب): المصنف.
(5) " النوع " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): " الطريق "، وكتب فوقها: " المكان " على الصواب.
(7) هو للحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي، المتوفى سنة 45 هـ، وهو في " ديوانه " ص 20، و" الكامل " للمبرد 1/ 340، و" الخصائص " لابن جني 1/ 345. وقد تقدم تخريجه في 2/ 104. =(3/299)
الوهمُ الخامس عشر (1): قال: إنّ التشبيهَ مُستفيضٌ عنْ أحمدَ بنِ حَنبل، وقَصَدَ بذلك القَدحَ في كتبِ الحديثِ بكونِهِ من رجالِهم، كما قَدَح فيها بكونِ الشافعيِّ، والبخاريِّ من رجالِهم، فما أفحشَ هذا الجهلَ، وأزراه، وأخسَّهُ، وأجرأَهُ! فيا هذا ليتَكَ عَرَفْتَ عن من يروي أئمتُنا وأئمةُ المُسلمينَ أجمعين مِن أهل البيت المُطَهَّرين الذين خالفتَهم في كلامِك هذا، مع اعتقادِك بجهلٍ (2) أَنَّكَ فيه لهم (3) ناصرٌ، وتابعٌ، ومُوافقٌ، ومُشايعٌ، حتَّى تَعْرِفَ أنَّهم قَدْ أثْنَوْا على من ذَمَمْتَه، ورووا عمن جَرَّحته.
فهذا السيدُ الإمامُ أبو طالبٍ عليه السَّلامُ قد روى عن أحمدَ بنِ حنبل في " أماليه "، وكذلكَ روَى عنه الإمامُ المنصورُ باللهِ عليه السلامُ، وغيرُه من أهلِ البيتِ وشيعتِهم، ولا سيَّما علماءُ الحديثِ من شيعةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام، كالحاكم أبي عبدِ اللهِ صاحبِ " المُستدركِ " على " الصحيحينِ " وأبي عبدِ الرحمن النَّسَائي صاحب " السُّنن "، وابنِ عُقْدَةَ وأمثالهم.
وكذلك رَوَى أهلُ البيتِ في مُصنفاتهم الحديثَ الكثيرَ عن من مذهبُه مذهبُ هؤلاء، فروى السَّيدُ أبو طالبٍ في " أماليه " حديثَ أبي داود (4)
__________
= وذكر أحمد بن عبدة قاضي الري عن أبيه، قال: كنا عند ابن عائشة، فذكر حديثاًً لأبي حنيفة، فقال بعض من حضر: لا نريده، فقال لهم: أما إنكم لو رأيتموه، لأردتموه، وما أعرف له ولكم مثلاً إلا ما قال الشاعر ثم أنشد بيت الحطيئة هذا. انظر " تهذيب الكمال " ورقة 709/ 1.
(1) من هنا يبدأ المجلد الثاني من الأصول الخطية المعتمدة بتجزئة المصنف رحمه الله، وأجزل مثوبته.
(2) في (ش): بجهالتك.
(3) في (ب): لهم فيه.
(4) في (ش): داود في أماليه.(3/300)
صاحبِ " السننِ " عن محمدِ بن عبد الله الأسَديِّ، عن عليِّ بنِ الحسن بن العبد (1)، عن أبي داود.
وخرَّجَ حديثَ ابنِ السُّنِّي (2) عن محمدِ بن عمر الدِّينَوَري، عنه.
وخرَّجَ حديث ابنِ ماجةَ عن أبي الحسنِ علي (3) بن إبراهيم القطَّان عنه.
وحديثَ ابنِ أبي حاتِمٍ عَنِ السيدِ الإمامِ أبي العباسِ، عنه قليلاً، وعن أحمدَ بنِ عبدِ الله الأصْبَهاني عنه كثيراً.
وخَرَّجَ حديثَ عليِّ بنِ موسى الرِّضَى (4) عليه السَّلام من طريقِ
__________
(1) هو أبو الحسن علي بن العبد الوراق سمع أبا داود السجستاني، وعثمان بن خرزاذ الأنطاكي، روى عنه الدارقطني، والحسين بن محمد بن سليمان الكاتب، وابن الثلاج توفي سنة 318 هـ. " تاريخ بغداد " 11/ 382.
وهو أحد رواة السنن عن أبي داود، وتمتاز روايته عن غيره بزيادات في الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ليست موجودة في غيرها من الروايات.
(2) هو أحمد بن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم الدينوري المتوفى سنة 364 هـ.
(3) تحرف في (ش) إلى " عن ".
وهو الإمام الحافظ القدوة شيخ الإسلام أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القزويني القطان عالم قزوين ومحدثها، ارتحل في طلب الحديث، وكتب الكثير، وسمع غير واحد من الأئمة، وروى عن أبي عبد الله بن ماجه سننه، وجمع وصنف وتفنن في العلوم، وثابر على القُرَبِ، وحدَّث عنه غير واحد من الحفاظ، ووصفه أبو يعلى الخليلي في " الإرشاد " بأنه شيخ عالم بجميع العلوم، والتفسير، والفقه، والنحو، واللغة، تُوفي سنة 345 هـ. مترجم في " السير " 15/ 463.
(4) هو الإمام السَّيِّد أبو الحسن علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين الهاشمي العلوي المدني المتوفى سنة 203 هـ.
قال الإمام الذهبي في " السير " 9/ 387 - 388: وكان من العلم والدين والسُّؤْدُدِ =(3/301)
عليِّ بن محمد بن مَهْرُوَيه، وهو مِن رجالِهم.
وخَرَّجَ حديثَ الحسنِ بنِ سُفيانَ النَّسَوي عن محمد بن بَشَّار بُندار عنه.
وخرَّج حديثَ الحارثِ بن محمد بن (1) أبي (2) أُسامةَ (3)، عن محمد بن علي العَبْدَكي، عن محمد بن يَزْدَاد عنه، وعن عبد الله (4) بن محمد بن بدرِ الكَرْخي، عن أحمدَ بنِ يوسُفَ بن خلاَّد عنه.
وخرَّجَ حديثَ شيخِهِ الحافظ أبي أحمدَ عبدِ الله بن عديٍّ بغير (5) واسطة وأكثرَ عنه، وهو أحدُ رجال السُّنةِ حديثاً ومذهباً، وهو صاحب كتابِ
__________
= بمكانٍ، يقال: أفتى وهو شاب في أيام مالك، استدعاه المأمون إليه إلى خراسان، وبالغ في إعظامه، وصيره ولي عهده، فقامت قيامة آل المنصور، فلم تطل أيامه، وتوفي.
قلت: وعلي بن محمد بن مهرويه: أرَّخَ الذهبي وفاته في " تذكرة الحفاظ " 3/ 849 سنة 335 هـ.
(1) " محمد بن " ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ب).
(3) هو الإمام الثقة مسند العراق أبو محمد الحارث بن محمد بن أبي سلمة التميمي البغدادي صاحب المسند الذي لم يرتبه على الصحابة، ولا على الأبواب، وقد جرد زوائده الحافظ ابن حجر، وأدرجَها في " المطالب العالية " وهو مطبوع في أربعة مجلدات بالكويت. تُوفي سنة 282 هـ في عشر المئة.
قلت: قد نقموا عليه، لأنَّه كان يأخذ الأجرة على الرواية، ولا ضَيْرَ عليه في ذلك، فقد كان محتاجاً، فقد روى غنجار وغيره عن محمد بن موسى الرازي قال: سمعت الحارث بن أبي أسامة يقول: لي ست بنات، أصغرهن بنت ستين سنة ما زوجت واحدة منهن، لأنني فقير، وما جاءني إلا فقير، وكَرِهْتُ أن أزيد في عيالي، وها كفني على الوتد من ثلاثين سنة، خفت أن لا يجدوا لي كفناً. وقال محمد بن محمد بن مالك الإسكافي: سألت إبراهيم الحربي عن الحارث بن محمد، وقلت: إنَّه يأخذ الدراهم، فقال: اسمع منه، فإنه ثقة. مترجم في " السير " 13/ 388.
(4) في (ش): وعن أبي عبد الله.
(5) في (ش): من غير.(3/302)
" الكاملِ في الجرحِ والتعديل " (1).
وخرَّجَ حديثَ الذُّهْليِّ عن أبي العَبَّاس، عن أحمد بن سعيد الثَّقَفي، عنه.
وخرَّجَ حديثَ المَحَامِلي (2) عن عبد الله بن محمد الأسَدي عنه.
وَخَرَّجَ حديت يَحيى القَطَّان عن الأسَدي عن المَحَامِلي (3) عنه.
وخرَّجَ حديثَ الأنْبَارِي (4)، عن مُحمدِ بني الحسنِ بن الفضل بن المَأمونِ عنه.
وَخَرَّجَ حديثَ الكُدَيْمي (5) عن محمدِ بن الحسنِ، عن الأنْبَاري، عنه.
__________
(1) وقد طُبع حديثاً في سبع مجلدات.
(2) هو القاضي الإمام المحدث الثقة أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن سعيد بن أبان الضبي البغدادي المحاملي، المتوفى سنة 330 هـ.
روى عن خلق كثير، وصار أسند أهل العراق مع التصدر للإفادة والفتيا ستين سنة. مترجم في " السير " 15/ 258 - 263.
وله أمالٍ تسمى بالمحامليات في عدة أجزاء برواية ابن يحيى البيع، وعدد أحاديثها 533 حديثاً، وقد تولى تحقيقها وتخريج نصوصها صاحبُنا الأستاذُ الفاضل إبراهيم بن إبراهيم طه القيسي، ونال بها درجة الدكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود سنة 1405 هـ.
(3) من قوله: " عن عبد الله " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) هو الإمام الحافظ اللغوي ذو الفنون أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار بن الأنباري المقرىء النحوي، صاحب التصانيف الكثيرة في القراءات، والغريب، والتفسير، والمشكل، والوقف والابتداء. وكان من أفراد الدهر في سعة الحفظ، يروي بأسانيده، ويُملي من حفظه. توفي سنة 328 هـ. مترجم في " السير " 15/ 274 - 277.
(5) هو الحافظ المكثر المُعَمَّرُ أبو العباس محمد بن يونس بن موسى القرشي السَّامي الكُديمي البصري، وهو على اتساع دائرته في الحفظ أحدُ المتروكين، كذبه أبو داود، واتهمه بالوضع: ابنُ حبان، وابنُ عدي، والدارقطنى وغيرُهم، وقال الإمام أحمد: كان حَسَنَ الحديث، حَسَنَ المعرفة، ما وُجِدَ عليه إلا صحبتُه لسليمان الشاذَكوني. توفي سنة 280 هـ، وكان من أبناء المئة. مترجم في " السير " 13/ 302 - 305.(3/303)
وكلُّ هؤلاءِ إلى أمثالٍ لهم كثيرٍ مِنْ حُفَّاطِ الحديثِ، وأئمةِ أهله حِفْظاً واعتقاداً. لكنَّ أحمدَ بن حَنبل بإجماعهم مع طائفةٍ من الشيعةِ وافرةٍ أحفظُهم (1) للحديثِ، وأوثَقُهم فيهِ.
فإنْ كنتَ تَظُنُّ أنَّ جميعُ رجالِ أسانيدِ " أمالي " السادةِ أبي طالبٍ، والمؤيَّد، وأحمدَ بنِ عيسى، وأبي عبد الله الدَّاعي، والمرشدِ بالله، ورجال تفسيرِ المعترضِ الذي جَمَعَ فيه عنْ كُلِّ مَنْ دَبَّ وَدَرَج، أوْثَقُ وأحفظُ من أحمدَ بنِ حنبلٍ، والشافعيِّ، والبُخاريِّ، وأنّهُ ليس فيها إِلاَّ مَنْ هُو أنبلُ مِنْ هؤلاءِ، وأحفظُ، وأعرفُ بالحديثِ، وأوثق فما أحقَّكَ بقولِ المتنبي (2):
ومِثْلُك يُؤْتَى منْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ ... لِيُضْحِكَ رَبَّاتِ الحجال البَوَاكِيَا
وكيف وقد خَرَّجَ هؤلاء الأئمةُ حديثَ جماعةٍ مُتَكَلَّمٍ فيهم كما هو عادةُ حُفَّاظ الحديثِ، فقد خَرَّجَ مالكٌ حديثَ ابن أبي (3) المُخَارق،
__________
(1) في (أ) و (ش): " وأحفظهم "، وهو خطأ.
(2) هو في " ديوانه " بشرح العُكبَرِي 4/ 296. وروايته فيه: " ربات الحِدَاد ". وهو آخر بيت من قصيدة يهجو بها كافوراً، مطلعها:
أُريك الرِّضَا لو أخْفَتِ النفسُ خافيا ... وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا
و" ربات الحجال ": لابسات الحداد، وهي ثياب سود تلبسها النساء ربات الحزن، وهن اللواتي مات أزواجهن.
(3) أبي سقطت من (ب) واسمه عبدُ الكريم بن أبي المخارق. قال يحيى: ليس بشيء، وقال أحمد: قد ضربت على حديثه، هو شبه المتروك، وقال النسائي، والدارقطني: متروك، وقال أبو عمر بن عبد البر: بصري لا يختلفون في ضعفه، إلا أن منهم من يقبله في غير الأحكام خاصّة، ولا يحتج به، وكان مؤدب كتاب، حسنَ السَّمْت، غَرَّ مالكاً منه سَمتُه، ولم يكن من أهل بلده فيعرفه، كما غَرَّ الشافعيَّ من إبراهيم بن أبي يحيى حِذْقُه ونباهتُه، وهو أيضاًً مُجْمَع على ضعفه، ولم يخرج مالك عنه حكماً، بل ترغيباً وفضلاً.
وقال أبو الفتح اليعمري: لكن لم يخرج مالك عنه إلا الثابَت من غير طريقه: "إذا لم =(3/304)
والشافعيُّ حديثَ ابن أبي يَحيى (1)، والزَّنْجي (2)، وأحمد حديثَ عامرِ بنِ صالحٍ (3) وغيرِهِ، وقُدِح (4) في كثيرٍ مِنْ رُواةِ (5) البُخاريِّ ومُسلمٍ.
وكذلِكَ قد رَوَى بعضُ أئمةِ الزَّيدية عليهم السلامُ عن محمد بن محمدِ بن الأشْعثِ الكُوفي (6) المتأخرِ، لا التابعيِّ الثائرِ بدم الحُسين عليه
__________
= تستحِ فاصنع ما شئت"، و" وضع اليمنى على اليُسرى في الصلاة " وقد اعتذر لما تبيَّن أمره، وقال: غَرَّني بكثرةِ بكائه في المسجد أو نحو هذا.
وقد مات هو وعبد الكريم الجزري الحافظ الثقة في عام سبعة وعشرين ومئة، واشتركا في الرواية عن سعيد بن جبير، ومجاهد، والحسن. وروى عنهما الثوري، وابن جريج، ومالك، فقد يَشْتبهَانِ في بعض الروايات.
(1) هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي مولاهم أبو إسحاق المدني. قال الحافظ في " التقريب ": متروك، ومع ذلك فقد روى عنه الشافعي، وأكثر الاحتجاجَ به، وقال: لأن يَخِر إبراهيمُ من بُعْدٍ أحبُّ إليه من أن يكذب، وكان ثقة في الحديث. وانظر تفصيل القول فيه في " تهذيب الكمال " 2/ 184 - 191.
(2) هو مسلم بن خالد بن فروة المخزومي مولاهم الزنجي المكي الفقيه، وصفوه بكثرة الغلط وسوء الحفظ، من رجال " التهذيب ".
(3) هو عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير بن العوام الزبيري أبو الحارث المدني، سكن بغداد. قال الذهبي في " الميزان " 2/ 360: واهٍ، لعل ما رَوَى أحمدُ بن حنبل عن أحد أوهى من هذا، ثم إنَّه سئل عنه، فقال: ثقة، لم يكن يكذب، وقال ابن معين: كذاب، وقال الدارقطني: يترك، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال أبو داود: سمعتُ يحيى بن معين يقول: جُنَّ أحمد يحدث عن عامر بن صالح، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، ما أرى بحديثه بأساً، كان يحيى بن معين يحمل عليه، وأحمد بن حنبل يروي عنه، وقال ابن عدي: عامة حديثه مسروق من الثقات، وأفراد ينفرد بها، وقال الزبير بن بكار: كان عالماًَ بالفقه، والحديث، والنسب، وأيام العرب، وأشعارها، وتُوفي في بغداد في خلافة هارون الرشيد.
(4) في (ش): " وقد خرج "، وليس بشيء.
(5) تحرف في (ش) إلى: الرواة.
(6) هو محمد بن محمد بن الأشعث أبو الحسن الكوفي، قال ابن عدي في " الكامل " 6/ 2303: مُقيمٌ بمصر، كتبت عنه بها، حمله شدة ميله إلى التشيع أن أخرج لنا نسخةً قريباً من ألف حديث عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جده، عن آبائه بخط طري على كاغد جديد، وعامتها مسندة مناكير كلها أو عامتها، فذكرنا روايته هذه =(3/305)
السَّلامُ، وحديثَ داودَ بنِ سُليمان الغازي (1)، وحُسينِ بن علوان الكلْبي (2) وأبي خالدٍ الوَاسِطي (3) ............
__________
= الأحاديث عن موسى هذا لأبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان شيخاً من أهل البيت بمصر، وهو أخو الناصر، وكان أكبر منه، فقال لنا: كان موسى هذا جاري بالمدينة أربعين سنة ما ذكر قَطُّ أنَّ عنده شيئاً من الرواية، لا عَنْ أبيه، ولا عن غيره.
ثم ذكر له عدة أحاديث موضوعة، ثم قال: وهذه النسخة كتبتُها عنه، وهي قريبة من ألف حديث، وكتبت عامتَها عنه، والأحاديث وغيرها مِن المناكير في هذه النسخة، وفيها أخبار مما يُوافق متونُها متونَ أهل الصدق، وكان متّهماً في هذه النسخة، ولم أجد له فيها أصلاً، كان يخرج إلينا بخط طريٍ وكاغَدٍ جديد.
وقال السهمي في " سؤالاته " ص 101: وسألت أبا الحسن الدارقطني عن محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي، فقال: آية من آيات الله، ذلك الكتاب هو وضعه، يعني العلويات.
قال الحافظ في " اللسان " 5/ 362: وقد وقفت على بعض الكتاب المذكور، وسماه السنن، ورتبه على الأبواب كله بسند واحد، وأورد الدارقطني في " غرائب مالك " من روايته حديثاًً، وقال: كان ضعيفاً.
(1) قال الإمام الذهبي في " الميزان " 2/ 8: داود بن سليمان الجرجاني الغازي عن علي بن موسى الرِّضا وغيره، وكذبه يحيى بن معين، ولم يعرفه أبو حاتِم، وبِكُل حال فهو شيخ كذاب، له نسخة موضوعة عن علي بن موسى الرِّضا رواها عنه علي بن محمد بن مهرويه القزويني الصدوق عنه ...
(2) روى عن الأعمش، وهشام بن عروة، كذبه يحيى بن معين، وقال علي بن المديني: ضعيف جداً، وقال أبو حاتم، والنسائي، والدارقطني: متروك الحديث، وقال ابن حبان في " المجروحين " 1/ 244 - 245: كان يضع الحديث على هشام وغيره وضعاً، لا يحل كتابةُ حديثه إلا على جهةِ التعجب، كذبه أحمد رحمه الله، وقد ذكر له عدة أحاديثَ موضوعة، وكذا الإمامُ الذهبي في " الميزان " 1/ 542 - 543، منها " أربعٌ لا يشبعن مِن أربع: أرضٌ مِن مطر، وعينٌ مِن نظر، وأنثى مِن ذكر، وعالمٌ من علم " قال الذهبي: قلت: وكذابٌ مِنْ كَذِبٍ.
(3) هو عمرو بن خالد القرشي، مولى بني هاشم، أصلُه من الكوفة، انتقل إلى واسط، روى عن زيد بن علي بن الحسين نسخة، وجعفر بن محمد بن علي بن الحسين، وفطر بن خليفة، وحبيب بن أبي ثابت، والثوري، وأبي هاشم الرماني وغيرهم.
كذبه غير واحد من الأئمة، وقال أحمد، والنسائي، والدارقطني: متروك، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، ذاهب الحديث، لا يُشتغل به. مترجم في " التهذيب ".(3/306)
...... إلى أمثالٍ لَهُم (1) كثيرين نَظَمَهم (2) أمالي السادةِ المذكورينَ.
وخَرَّجَ الهادي عليه السَّلامُ في الأحكامِ حديثَ حُسينِ بنِ عبدِ الله بن ضمَيْرة فأكثرَ، وحديث أبي هارونَ العَبْدي، واسمُه عُمارةُ بن جُوَين. وكذلك روى القاسمُ عن هذين.
ورَوَى الهادي عليه السَّلامُ في " المنتخب " عن كادحِ بن جعفرٍ (3)، وأبي بكرِ بن أبي شَيبة، وعن عَمرو بنِ شعيب، عن أبيهِ، عن جَدِّه، وعن حُسينِ بنِ عبدِ الله بن عُبَيْدِ الله (4) بنِ العباس وصَحَّحَ حديثَهُ، وعن أبي الزّبيرِ التَّابعي.
وَرَوى الناصر عليه السَّلامُ عن محمد بن عليِّ بن خلف العَطَّار.
وَرَوَى القاسمُ عليه السَّلامُ عن ابنِ أبي أُويس (5) عن حُسينِ بن عبد اللهِ بن ضُميرة وأكثر (6).
__________
(1) في (ش): أمثالهم.
(2) في (ب): تضمنهم.
(3) مترجم في " الجرح والتعديل " 7/ 176 قال أحمد: ليس به بأس، وقال أبو حاتم: كان من العباد، وكان كوفياً، فوقع إلى مصر، فسمع من ابن لهيعة وغيره، وهو صدوق، وذكره ابنُ شاهين في " الثقات " ص 274، وانفرد الأزديُّ بتضعيفه، وقول الصنعاني في " توضمِح الأفكار" 1/ 321: في الميزان رجلان، كل واحد منهما اسمه كادح بن جعفر، سبق قلم منه، فإنه لا يوجد فيه إلا واحد، وهو هذا، وأما الثاني فاسمه كادح بن رحمة.
(4) " بن عبيد الله " سقطت من (ش).
وحسين هذا من رجال " التَّهذيب " روى له الترمذي، وابن ماجه، وهو ضعيف، ضعفه ابن معين وغيره، وقال ابن عدي: أحاديثه يُشبه بعضُها بعضاً، وهو ممن يُكتب حديثه (أي: للمتابعة)، فإني لم أجد في أحاديثه حديثاً منكراً قد جاوز المقدارَ.
(5) تحرف في (أ) إلى " أوس "، وهو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس الأصبحي. وقد تقدم التعريف به 2/ 92 و338.
(6) في (ب): " فاكثر ".(3/307)
وقد أثنى الإِمامُ المنصورُ باللهِ عليه السلامُ على أحمدَ بنِ حنبل في " المجموعِ المَنْصوري " في الدعوة العامة إلى جيلان ودَيْلَمَان، وعلى سائرِ أئمةِ الفقهاءِ الأربعةِ، وصرَّحَ الإِمامُ المنصورُ (1) عليهِ السَّلامُ فيها بصحةِ مُوالاتِه لأهلِ البيتِ عليهمُ السلام، وليسَ تَصِحُّ موالاتُه لَهم مع صحةِ تكفيرِهم لَه وتكفيره لَهُم، فهذا أعظمُ العداوةِ وأشدُّ المُبَاينةِ، وسيأتي لهذا مَزيدُ بيانٍ.
والعجبُ من المعترضِ أنَّه كَفَّرَ الرازيَّ، وقال: إنَّهُ وأصحابَه كُفَّارُ عَمْدٍ وتصريحٍ لا خَطأ ولا تأويلٍ، وبعد ذكرِ (2) ذلكَ أكثرَ من تفسيرِ كلام (3) الله تعالى بكلامِه، وشَحَنَ تفسيره بنقلِه، وتَجَاسَرَ على روايةِ فضائلِ السُّوَرِ الموضوعةِ مع اتفاقِ عُلماء الأثرِ على وضعِها، ومعرفتِه بذلك، فإنَّه ممَّنْ يعرِفُ ما ذكرَ (4) ابن الصَّلاحِ في ذلك (5). ثم مع هذا
__________
(1) " المنصور " ساقطة من (ش).
(2) " ذكر " لم ترد في (ش).
(3) في (ب): كتاب.
(4) في (ب): ذكره.
(5) قال في " المقدمة " ص 90 - 91: ثم إن الواضع ربما صنع كلاماً من عند نفسه، فرواه، وربما أخذ كلاماً لبعض الحكماء أو غيرهم، فوضعه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربما غلط غالط، فوقع في شبه الوضع من غير تعمد، كما وقع لثابت بن موسى الزاهد في حديث: " من كثُرَتْ صلاتُه بالليلِ، حَسُنَ وجهُه بالنهار ". مئال: رُوِّينا عن أبي عصية -وهو نوح بن أبي مريم- أنَّه قيل له: من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، فقال: إني رأيتُ الناسَ قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق، فوضعتُ هذه الأحاديث حُسْبَة، وهكذا حال الحديث الطويل الذي يُروى عن أُبي بن كعب، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضل القرآن سورة فسورة، بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى من اعترف بأنه وجماعة وضعوه، وإن أثر الوضع لبَيِّنٌ عليه، ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم، والله أعلم.
وفي " المنار " لابن القيم ص 113: ومنها ذكر فضائل السور وثواب من قرأ سورة كذا، فلَهُ أجرٌ كذا من أول القرآن إلى آخره، كما ذكر ذلك الثعلبي، والواحدي في أول كل سورة، والزمخشري في آخرها، قال عبد الله بن المبارك: أظن الزنادقة وضعوها.(3/308)
كلِّهِ يَعيبُ على المُحَدِّثينَ قبولَ مثلِ الشافعيِّ، ومالكٍ، وأحمدَ، والبُخاريِّ، وما أعَلَمُ أفحشَ من هذه العصبيةِ، ولا أكثرَ غَفْلةً مِمَّنْ صَدَرَ عَنْهُ، فاللهُ يُلْهِمُه إلى الرجوعِ من ذلكَ، والإنابةِ عَنه، وقد بَلَغني ذلك (1)، والمرجوُّ صحتُه، حَقَّقَهُ الله تعالى، وخَتَم لنا معاً بالحُسنى والموافقةِ على ما يُحِبُّهُ (2) ويرضاه (3).
وقد تحامَلَ هذا المعترِضُ على أئمةِ الفُقهاءِ الأربعةِ، فأثارَ نشاطي إلى بَذلِ الجُهدِ في بيانِ نزاهتِهم عمّا وَصَمَهُم به، ولا سيَّما أحمدُ بنُ حنبل، فإنَّه تَجاسَرَ على تكفيرِه، فأبتدِىءُ بالذبِّ عَنْهُ مع التنبيهِ على عُلُوِّ (4) محلِّه في الإسلامِ، وصِحَّة موالاتِه لأهلِ البيتِ عليهم السَّلام، وأنه (5) جديرٌ بالذَّبِّ عنه والاحترامِ، وذلكَ يَتبينُ بذكرِ أربعةِ فُصولٍ.
الفصلُ الأولُ: في ردِّ كلامِ المعترِضِ على قواعدِ أهل مذهبِهِ خاصةً، وغيرِهم مِنْ عُلماءِ الإسلامِ عامةً.
فأقولُ: إنْ كانَ يُريدُ بما ذَكَرَه القَدْح في روايتِه، فقدْ تَقَدَّمَ القولُ أنَّ ذلك لَا يَقْدَحُ على تقديرِ صحتِه، وأن (6) الصحيح -خاصَّةً على مذاهبِ الزيديةِ- قَبُولُ أهلِ التأويلِ، وإنَّ علماءَ الزيديةِ رَوَوُا الإجماعَ على ذلكَ، وأنَّ مُنتهي القولِ في ذلك أنَّها مسألةٌ ظَنيَّةٌ لا يُعْترَضُ بها أحدٌ، فراجعْ في ذلك ما تَقَدَّمَ، وإِنْ كان يُريدُ القَطْعَ بتكفيرِ هذا الإِمامِ، فذلك لا يَتِمُّ له إلاَّ
__________
(1) في (ب): " ذلك عنه ".
(2) في (أ): يحب.
(3) في (ش): ويرضى.
(4) في (ب): بعلو.
(5) في (ش) لأنه.
(6) في (ش): فإن.(3/309)
بعدَ تواتُرِ ذلك عنه تَواتُراً صَحيحاً في الطَّرفين والوسط غيرَ قابلٍ للمُعارضةِ، والتشكيكِ، بنقلِ ألفاظٍ صَريحةٍ ضروريةِ المَعْنى، لا يُمكِنُ احتمالُها لغيرِ ذلك، وكلُّ هذا ممنوعٌ لعدمِ النقلِ القاطعِ و (1) ثبوتِ المُعارضةِ الراجحةِ.
أما عدمُ النقلِ؛ فلأنَّ الخصم إنَّما ادَّعى الاستفاضةَ فيما بينَ علماءِ (2) الشيعةِ، والجبريةِ، والاستفاضةُ ظنيةٌ لا قطعية، وقد يَستَنِدُ إلى واحدٍ في أوَّلِ الأمرِ كما أَنَّ أحاديثَ الصحاحِ مستفيضةٌ، وشرطُ (3) التواترِ عزيزٌ.
وقد اجتمعتِ (4) المعتزلةُ وغيرُهم على نقلِ إجماعِ الصحابةِ والقرابةِ على إمامة الخُلفاءِ الثلاثةِ فَكَذّبَتْهُمُ (5) الشيعةُ في نقلِهم، ونسبَتْهُم إلى الغَلَطِ، والمعتزلة ومَنْ معَهُم على ذلك على (6) عددٍ يَزيدُ على التواترِ.
فيَجُوزُ أنْ يكونَ نقلُ أهلِ المقالات عن أحمدَ كنقل المُعتزلةِ ومَن وَافَقَهُم عن القرابةِ والصحابةِ عندَ الشيعةِ، ومَعَ التجويزِ يبْطُلُ القطعُ، والوجهُ في وقوعِ الغَلَطِ من الجمعِ الكثيرِ في نقلِ المذاهبِ أنَّها قَدْ تُنْقلُ بالإلزامِ وبالموآخذةِ ببعضِ الظواهرِ وبالسكوتِ، فلا يحصُلُ بها التواترُ؛ لأنَّ شرطَ التواترِ استنادُ المخبرينَ إلى العِلْمِ الضروريِّ، ونَزيدُ على هذا وجوهاً (7):
__________
(1) في (أ): من.
(2) في (ش): العلماء.
(3) في (ش): وشروط.
(4) في (ب) و (ش): أجمعت.
(5) في (ش): وكذبتهم.
(6) سقطت من (ش).
(7) في (ش): ويزيد على هذا وجوه.(3/310)
الوجهُ الأولُ: بيانُ القَدْح في أصلِ هذه الروايةِ، وذلك أنَّ أهلَ العلمِ بمذهبِ أحمدَ بنِ حنبل بَيَّنُوا أنَّ ذلكَ لا يُوجَدُ عَنْهُ إلاَّ في رسالةِ أحمدَ بنِ جعفرٍ الإصْطَخري (1). وقد رواها الذهبيُّ في ترجمةِ أحمدَ من " النبلاء " (2) فقال: أنبؤُونا عن محمدِ بن إسماعيلَ، عن يَحيى بن منْدَه الحافظِ، أخبرنا أبو الوليد الدَّرْبَنْدِيُّ (3) سنةَ أربعينَ وأربعِ مئةٍ، أخبرَنا أبو
__________
(1) نسبة إلى اصطخر، مدينة من كور فارس التي تشمل جميع القسم الشمالي من إقليم فارس تقوم على نهر بلوارعلى بضعة أميال فوق اقترانه بنهر الكر، وعلى مسافة يسيرة غرب بقايا القصور الأخمينية. وذكر الطبري أن فتح اصطخر الأخير كان سنة ثمانٍ وعشرين وسط إمارة عثمان رضي الله عنه على يد الحكم بن أبي العاص، فأما فتحها الأول، ففي أيام عمر رضي الله عنه، قصدها عثمان بن أبي العاص، فالتقى هو وأهلها بِجُور، فاقتتلوا ما شاء الله تعالى، ثم فتح الله عز وجل على المسلمين جور، واصطخر، ودعاهم عثمان إلى الجزية فأذعنوا، وجمع عثمان ما أفاء، فخمَّسَهُ، وبعث بالخمْسِ إلى عمرَ رضي الله عنه، وقَسمَ الباقي في الناس، وعفَّ الجند عن النِّهاب، وأدوا الأمانة، فجمَعَهُم عثمانُ، وقالَ لهم: إن هذا الأمر لا يزالُ مقبلاً وأهله مُعَافَوْنَ مما يكرهون ما لم يَغُلُّوا، فإذا غَلُّوا رأوا ما يكرهون، ثم إن سهرك خلع في آخر إمارة عمر رضي الله عنه، وسَطَا على فارس، ودعاهم إلى النقض، فوجَّه إليه عثمان بن أبي العاص ثانية، وأمَدَّه بالرجال واقتتلوا، وقتل من المشركين مقتلة عظيمة، وولي قتل سهرك الحكمُ بن أبي العاص أخو عثمان بن أبي العاص.
وأحمد بن جعفر هذا ترجم له ابن أبي يعلى في " طبقات الحنابلة " 1/ 24 ترجمة لا تُخرجه عن حَيِّزِ الجهالة، فقد جاء فيها: أحمد بن جعفر بن يعقوب بن عبد الله أبو العباس الإصطخري، روى عن إمامنا أشياء، ثم ذكر رسالته المطولة التي أورد الإمام الذهبي جزءاً منها من طريق المبارك بن علي بن عمر البرمكي، أخبرنا أحمد بن عبد الله المالكي، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يعقوب بن زوران، به.
(2) 11/ 302 - 303.
(3) نسبة إلى دَرْبَنْد، أجل موانىء بحر قزوين، وتسميه العرب: باب الأبواب، قال ياقوت في " معجم البلدان " 2/ 449: وينسب إليه الحسن بن محمد بن علي بن محمد الصوفي البلخي أبو الوليد المعروف بالدَّربَنْدي، وكان قديماً يكنى بأبي قتادة، وكان ممن رَحَلَ في طلب الحديث، وبالغ في جمعه، وأكثرَ غايةَ الإكثار، وكانت رحلته من ما وراء النهر إلى الإسكندرية، وأكثر عنه أبو بكر أحمد بن علي الخطيب في التاريخ، مرة يُصَرَّحُ بذكر، ومرة يدلِّسُ، ويقول: أخبرنا الحسن بن أبي بكر الأشقر، وكان قرأ عليه تاريخ أبي عبد الله غنجار، ولم يكن له كبير معرفة بالحديث غير أنَّه كان مكثراً رحالاً. =(3/311)
بكرٍ محمدُ بن عُبيد (1) اللهِ بن الأسود بدمشقَ، أخبرنا عبدُ الله بنُ محمد بن جعفر النُّهَاوَنْدِيُّ، أخبرنا أبو بكرِ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ بن زوران لفظاً، حدثنا أحمدُ بن جعفر الإصْطَخْري، قال: قالَ أبو عبد الله أحمدُ (2) بنُ حنبلٍ: هذا مذهبُ أهلِ العلمِ والأثرِ، فمَنْ خالَفَ شَيئاً مِنْ ذلكَ أوْ عَابَ أهَلَها، فهو مبتدعٌ، وساقَ عقيدةً قبيحةً فيها (3): أنَّ الله تعالى على العرشِ، وهو مَوْضِعُ قدميه، وأنه كلَّم موسى تكليماً مِن فيه.
قالَ الذهبيُّ: إلى أنْ ذكرَ شيئاً مِنْ هذا الأُنْموذج المُنْكَرِ، والأشياء التي واللهِ ما قَالَها الإمامُ أحمدُ، فقاتَلَ الله وَاضِعَها ...
ثم (4) قالَ الذهبيُّ: فانظرْ إلى جهلِ المحدثينَ كَيْفَ يَروون (5) مثلَ هذهِ الخُرَافةَ وَيسْكُتون عَنْها (6).
قلتُ: في إسنادِها جماعة، ما عَرَفْتُهم، وعنعنةٌ في مواضعَ تحتمِلُ
__________
= وترجم له الذهبي في " تذكرة الحفاظ " 3/ 1155، و" السير " 8/ 297، ونقل عن ابن النجار أنَّه مكثر صدوق، لكنه رديء الحفظ (وفي " السير ": الخط) ولم يكن له كبير معرفة بالحديث، وأرَّخ وفاته سنة 456 هـ.
(1) في (ش): عبد.
(2) " أحمد " لم يرد في (ش).
(3) في (ش): منها.
(4) من قوله: " قال الذهبي " إلى هنا سقط من (ش).
(5) في (أ) يرون.
(6) رحم الله الإمام الذهبي، ورضي عنه، وجزاه عن الإسلام خيراً، فهو بحق كما وصفه تلميذُه الصلاح الصفدي في ترجمته من " الوافي " 2/ 163 بعد أن ذكر أنَّه اجتمع به، وأخذ عنه، وقرأ عليه كثيراً من تصانيفه: ولم أجد عنده جُمودَ المحدِّثين، ولا كَوْدَنَة النَّقَلَة، بل هو فقيهُ النظر، له دِرْيةٌ بأقوالِ الناس ومذاهبِ الأئمة من السَّلَفِ، وأربابِ المقالات، وأعجبني منه ما يُعانيه في تصانيفه من أنَّه لا يتعدى حديثاًً يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن أو ظلام إسناد، أو طعن في رواته، وهذا لم أرَ غيرَه يُراعي هذه الفائدة فيما يُورِدُه.(3/312)
سقوطَ بعضِ المجاريح، وفي إسنادِها عبدُ الله بن محمد بن جعفر، في (1) الرُّواةِ ثلاثةُ كَذَبةٍ مجاريحُ، كلُّهم يُسَمَّى عبدَ اللهِ بن محمد بن جعفر أحدُهم قاضي كنيتُه أبو القاسم. قال الذهبيُّ في " الميزانِ " (2) في ترجمتِهِ: قالَ ابن المُقرىء: رَأيْتُهم يُضَعِّفُونهُ ويُنكرونَ عليه أشياءَ، وقال ابن (3) يونُس: كانَ فَقيهاً على مذهبِ الشافعيِّ، وكانَ يُملي ويجتمع عليهِ الخلقُ، فَخَلَطَ في الآخر (4)، و (5) وضَعَ أحاديثَ على متونٍ معروفةٍ وزادَ في نُسَخٍ مَشهورة، فافتُضِحَ وحُرِقَتِ الكتبُ في وجهِهِ، وقال الحاكمُ، عن (6) الدارقطنيّ: كذابٌ، ألَّفَ كتابَ " سننِ الشافعيّ "، وفيها نحوُ مِئَتَيْ حديثٍ لم يُحَدِّثْ بها الشافعيُّ، قال ابنُ زَبْر ماتَ سنةَ 315.
ومنهم عبدُ اللهِ بنُ محمد بن جعفر بن شَاذَان، شيخٌ لا يُعرَفُ، كَذَّبَهُ ابن الجَوْزيّ.
ومنهُم عبدُ اللهِ بن محمد بن جعفر المخَرَّميّ كَذَّبَهُ الدارَقُطنيُّ والكبارُ، انتهى كلامُ الذهبي في " الميزانِ ".
قلتُ: وقد رُوِيتْ هذه العقيدةُ المنكرةُ عن (7) أهلِ الحديثِ والسنةِ، لا عن أحمدَ، بطريقينِ غيرِ هذه الطريقِ، وكلا الطريقينِ غيرُ صحيحٍ.
__________
(1) في (ش): وفي.
(2) 2/ 495 و498.
(3) تحرف في (ب) إلى: " أبو".
(4) في (ش): الأحرف.
(5) الواو ساقطة من (ش).
(6) " عن " سقطت من (ب).
(7) في (ب): عند.(3/313)
أحدُهما: طريقُ الأشعريِّ عنهم، ذكرَها ابنُ قيْمِ الجَوْزيةِ عَنْهُ في البابِ الأولَ من " حادي الأرواح " (1).
وقالَ الذهبيُّ في ترجمةِ زكريا بن يَحيى المعروفِ بالسَّاجي في الطبقة العاشرةِ من " التذكرة " (2): إن الأشعريَّ أخَذَ عن السَّاجي تحريرَ (3) مقالةِ أهلِ الحديثِ والسلفِ، قالَ الذهبيُّ: قال ابن بَطَّة: حدثنا أحمدُ بن زكريا بن يحيى السَّاجي، قال (4): قال أبي: القولُ في السنةِ الَّتي رأيتُ عَلَيها أهلَ الحديثِ الَّذِين لَقِيتُهم: أنَّ اللهَ عَلَى عرْشِهِ في سمائِهِ يَقْرُبُ (5) من خلقِه كيفَ شَاءَ، وذكرَ سائرَ الاعتقادِ. انتهى.
قال الذهبيُّ في " الميزانِ " (6) في ترجمةِ زكريا بن يحيى السَّاجي راوي (7) هذا الاعتقاد: قال أبو الحسنِ القطان: مختلفٌ فيهِ في الحديثِ، وثَّقه قومٌ وضَعَّفَهُ آخرونَ.
قلت: فسقَطَ الاحتجاجُ بهِ (8)، أمَّا إنْ قُلنا بتقديمِ الجَرحِ فواضحٌ،
__________
(1) ص 11 - 14، وقد نقلها ابن القيم من كتاب " مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين " ص 290 - 297 للإمام أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتوفى سنة 324 هـ.
(2) 2/ 709.
(3) سقطت من (ب).
(4) سقطت من (ب)، وهي أيضاًً ساقطة من المطبوع من " تذكرة الحفاظ ".
(5) في (ب): تقرب.
(6) 2/ 79.
(7) في (ش): " روى "، وهو خطأ.
(8) فيه نظر، فقد انفرد أبو الحسن بن القطان بهذه المقالة، ولم يُتابعه عليها أحد، وقول الإمام الذهبي فيه في " الميزان ": أحد الأثبات، ما علمتُ فيه جرحاً أصلاً، يرد مقالة أبي الحسن بن القطان، ووصفه في " تذكرة الحفاظ " 2/ 709، و" السير " 14/ 197، و" العبر " 2/ 134 بالإمام الثبت الحافظ محدث البصرة، وشيخها، ومفتيها، وأنه من أئمة =(3/314)
وإنْ قُلنا بتقديمِ الراجحِ، فلِعدم وضوحِ الراجح معَ أنَّه ليسَ في روايته إِلاَّ عَمَّن رأي وأدْرَك، وهذهِ عبارهٌ مُحتَمَلةٌ، وقد يكونُ له جماعةُ شيوخٍ مبتدعةٌ، فيُطلِقُ عنهمْ مثلَ هذا، وإنَّما هُوَ عنهم لا سيَّما مع ضعفِه وكم في دَعاوي الإجماعِ نحوُ هذا؟.
الطريقُ الثانيةُ: أَشارَ إليها في البابِ السبعين (1) من هذا الكتابِ المذكورِ (2) لابنِ قَيمِ الجَوزيةِ ذكَرَها عن حرب (3)، و (4) هو ابنُ إسماعيلَ الكِرْماني من أصحاب أحمدَ، ذكره الذهبيُّ في " التذكرة " (5)، فلَمْ يذكرْ
__________
= الحديث، وذكر أن له مصنفاً جليلاً في علل الحديث يدل على تبحره وحفظه.
وقال الحافظ في " لسان الميزان " 2/ 488: ولا يغترَّ أحدٌ بقول ابن القطان، قد جازف بهذه المقالة، وما ضعف زكريا السَّاجي هذا أحدٌ قَط كما أشار إليه المؤلف (يعني الذهبي)، وقد كان مع معرفته بالفقه، والحديث، وتصنيفه في الاختلاف كتابه المشهور، وفي العلل كتابه الآخر، عاليَ الإسناد، سمع من عبيد الله بن معاذ، وأبي الربيع الزهراني، وعبد الواحد بن غياث، وهدبة، وأبي كامل الجحدري، وعبد الأعلى بن حماد، وابن أبي الشوارب وغيرهم من شيوخ مسلم، وحدث عن أبيه يحيى، عن جرير، ورحل من مصر، والحجاز، والكوفة، روى عنه أبو بكر الإسماعيلي، وأبو أحمد بن عدي، وأبو عمرو بن حمدان، وابن السقاء، ويوسف بن يعقوب النجيرمي، وعلي بن يعقوب الوراق وغيرهم، وحدَّث عنه أيضاًً أبو الحسن الأشعري، وأخذ عنه مذاهب أهل الحديث، وذكره ابن أبي حاتم 3/ 106 فقال: كان ثقة، يعرف الحديث والفقه، وله مؤلفات حسان في الرجال، واختلاف العلماء، وأحكام القرآن.
قلت: وبعد أن انتهى أبو الحسن الأشعري من حكاية قول أصحاب الحديث، وأهل السنة في المعتقد، قال: وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول، وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا، ونعم الوكيل، وبه نستعين، وعليه نتوكل، وإليه المصير.
(1) تحرفت في (أ) و (ب) و (ج) إلى " التسعين "، والتصويب من (ش).
(2) ص 287 - 292.
(3) تحرفت في (ش) إلى: حرف.
(4) الواو ساقطة من (ش).
(5) 2/ 613، ووصفه بالفقيه الحافظ، وترجم له أيضاً في " السير " 13/ 244 - 245، وجاء فيه: قال الخلال: كان رجلاً جليلاً، حثني المرُّوذي على الخروج إليه. قلت (القائل الذهبي): مسائل حرب من أنفس كتب الحنابلة، وهو كبير في مجلدين، قيد تاريخ =(3/315)
أنَّ أحداً وثَّقَه، ولو ظَهَرَ الإِسنادُ إليه لظهر من فيهِ من الضعفاءِ، ومَنْ لا يُوثَقُ بهِ.
ويُعارِضُ هذينِ الروايتينِ عن أهلِ السنةِ ما رواه الإمامُ الثقةُ الحجةُ المتفقُ على ثقتِه وأمانتِه (1) يحيى بنُ شرفِ الدين النواوي في " شرحِ مسلمٍ " (2) في تفسيرِ قولهِ تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، كما يأتي قَريباً في الوجهِ الثالثِ، ومَا اشتملَ عليهِ كتابُ " الأسماءِ والصفاتِ " للبيهقي (3)، وهو أنفسُ كتابٍ في هذا المعنى، فَلَوْ صَحَّ التمسكُ في تكفيرِ أئمةِ الإِسلامِ ولَطْخِهم بالرذائلِ بمثل هذه (4) الطريقةِ، لَزِمَ المعترضَ طَرْدُ هذه القاعدةِ الفاسدةِ، وقبولُ ما وجد في كتابِ " الكاملِ المنيرِ " (5) من أنَّ القاسمَ يقولُ: بأنَّ الإمامَ يجِبُ أن يكونَ يعلَمُ
__________
= وفاته عبد الباقي بن قانع في سنة ثمانين ومئتين، قال الذهبي: عُمِّرَ وقاربَ التسعين، وما علمت به بأساً رحمه الله تعالى.
(1) " ثقته وأمانته " سقطت من (ش).
(2) 3/ 19، وسيذكر المصنف نص قريباً.
(3) طبع الكتاب بمطبعة السعادة بمصر سنة 1358 هـ، وعليه تعليقات للشيخ محمد زاهد الكوثري.
وقد ألف الإمام البيهقي كتاباًً في مناقب الإمام أحمد دفع فيه ما نسب إليه بعض أصحابه من الكلمات الموهمة، ومن جملة ما قال فيه نقلاً عن الإمام أبي الفضل التميمي رئيس الحنابلة ببغداد، وابن رئيسها: أنكر أحمد على من قال بالجسم، وقال: إن الأسماء مأخوذة من الشريعة واللغة، وأهل اللغة وضعوا هذا الاسم على ذي طول وعرض وسمك وتركيب وصورة وتأليف، والله سبحانه خارج عن ذلك كله، فلم يجز أن يسمى جسماً لخروجه عن معنى الجسمية، ولم يجىء في الشريعة ذلك، فبطل.
(4) في (ش): " بهذه " وهو خطأ.
(5) تمامه: " الكامل المنير جوانب الخوارج " للقاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم، وهو في الرد على الخوارج الذين طعنوا فيه على أمير المؤمنين، وعنفوا شيعته. منه نسخة خطية في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء في 62 ورقة، كتب بخط نسخي جيد سنة 1352 هـ. انظر " الفهرس " ص 198. =(3/316)
الغيبَ، ومَا نُسِبَ إلى بعضِ كبارِ الأئمةِ من القولِ بأنَّ العرشَ هو الله، لأنَّه عبارةٌ عن الملكِ، والمُلكُ صفةٌ لله، والصفةُ هي الموصوفُ، وأمثالُ ذلك ممَّا لا تَحِلُّ نسبتُه إلى مسلمٍ من المسلمينَ، كيفَ إلى أئمةِ المسلمينَ، وأركانِ الدينِ؟ سلامُ الله عليهم. وبهذا ظَهَر الطعنُ عند أصحابِ أحمدَ بنِ حنبل وغيرِهم في أصلِ هذهِ الروايةِ عن أحمد، ثم عن أهلِ الحديثِ، والحمدُ لله (1).
الوجهُ الثاني: المعارضةُ لذلك بثناءِ الإمام المنصورِ بالله على أحمدَ بنِ حنبل كما تقدَّمَ نصُّه عليه السلامُ على صحة (2) ولايتِه لهم، وذلكَ يَمْنَعُ من (3) أن يُكَفِّروة، ويُكَفِّرَهم، لأنَّ التكفيرَ أعظمُ العداوةِ، ويُؤيِّدُ ذلك ذكرُ أهلِ البيتِ لمذاهبِه (4)، وكذلكَ سائرُ العلماء، واعتدادُهم بخلافِهِ، وعدمُ انعقادٍ الإجماعِ دونَه. ولو كانَ عندَهم كافراً كما ذكرَ المُعْترِضُ، ما حفِظُوا مذاهبَهُ، وألْقَوْها في الدروسِ، كما لم يَفْعَلُوا ذلك
__________
= وجاء في " الأعلام " للزركلي 5/ 171: القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الحسني العلوي، أبو محمد، المعروف بالرسي (169 - 246 هـ): فقيه، شاعر، من أئمة الزيدية، وهو شقيق ابن طباطبا (محمد بن إبراهيم) كان يسكن جبال " قدس " من أطراف المدينة، وأعلن دعوته بعد موت أخيه (سنة 199 هـ) ومات في الرس (وهو جبل أسود بالقرب من ذي الحليفة على ستة أميال من المدينة) له 23 رسالة - خ في " الإمامة "، و" الرد على ابن المقفع - ط " مع ترجمة إلى الإيطالية، و" سياسة النفس "، و" العدل والتوحيد "، و" الناسخ والمنسوخ " وأمثال ذلك، ذكره المرزباني في الشعراء، ولم يشر إلى إمامته أو كتبه. وأورد له شعراً جيداً. منه أبيات آخرها:
إذا أكدى جنى وطنٍ ... فلي في الأرضِ منعرج
وقال: من ولده حسين بن الحسن بن القاسم الزيدي صاحب اليمن.
(1) في (ب): ولله الحمد.
(2) " صحة " سقطت من (ش).
(3) " من " سقطت من (ب) و (ش).
(4) في (ب): لمذهبه.(3/317)
في مذاهبِ الباطنيةِ ونحوِهم، وقد صرَّح بتنزيهِهِ من ذلكَ علاّمةُ المعتزلةِ عبدُ الحميدِ بنُ أبي الحديدِ في شرحِهِ " لنهجِ البلاغة " (1) فقال ما لفظُه: أمَّا (2) أحمدُ بنُ حنبل -رحمه اللهُ تعالى- فلَمْ يَثْبُتْ عَنه (3) تَشبيهٌ ولا تَجسيمٌ أصلاً، وإِنَّما كانَ يقولُ بتركِ التأويلِ فَقَط، ويُطْلِق ما أطلَقة الكِتابُ والسنةُ، ولا يَخُوضُ في تأويلهِ، ويقفُ على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّه} [آل عمران: 7]، وأَكثرُ المحققينَ من أصحابِهِ على هذا القول، انتهى بحروفه. وفيه الترحمُ عليه وتنزيهُ المحققينَ من أصحابِه أيضاًً عن ذلك. وهذه أصدقُ شَهادةٍ، وأبعدُ روايةٍ عن كلِّ رِيْبَةٍ، ذكرَهُ في النوعِ الثاني في الفصلِ الرابعِ من شَرحِ خُطبةِ عليٍّ عليه السلام التي (4) أولُها: " الحمدُ لله الذي بَطَنَ (5) خَفِيَّاتِ الأُمورِ، ودَلَّتْ عليهِ أعلامُ الظُّهورِ "، إلى قوله عليه السَّلامُ: " فَهُوَ الَّذِي يَشْهَدُ له أعلامُ الوجودِ على إِقْرارِ قلبِ ذي الجُحُودِ، تعالَى اللهُ عمَّا يقول المشَبِّهُونَ بهِ والجاحدونَ لَهُ عُلُوّاً كبيراً ".
وكذلك ذكر الشيخُ مختارٌ المعتزليُّ -في كتابِه " المُجتبى " في الكلامِ (6) في التكفيرِ-: أنَّ تكفيرَ المشبهةِ قولُ شيوخِ المعتزلة، إِلَّا أبا الحُسينِ، وأنَّ تكفيرَهُم قول أكثرِ أهلِ السنةِ والأشْعَريَّةِ، وهذا (7) معَ
__________
(1) 3/ 229.
(2) في (ب): فأما.
(3) في (ش): عليه.
(4) في (ش): " الذي "، وهو خطأ.
(5) في (أ) و (ش): " نطق "، وهو تحريف.
(6) " في الكلام " سقطت من (ب).
(7) في (ش): فهذا.(3/318)
العلمِ بتعظيمهِم (1) لأحمدَ بنِ حنبلٍ، واختصاصهم به يدُلُّ على أَنَّهُ عِندَهُم غيرُ مُجَسِّمٍ ولا (2) مشبّهٍ، ولله الحمدُ.
ومنَ العجبِ أنَّ المعترِضَ لا يزالُ يُقْرِىء (3) مذاهبَه، فكيف استحَلَّ ذلكَ مع اعتقاده لكفرِه، وإذا كانت الروايةُ عنه مُحَرَّمةً، فكذلكَ تقليدُه والاعتدادُ بِهِ في الإجماع، وذِكْرُ خلافِه معَ العلماءِ في الفروعِ يُوهِمُ ذلكَ، فبانَ بهذا أنَّ المعترِضَ مُمارٍ غيرُ متدينٍ ولا طالبٍ معرفةَ حقٍّ ولا تَعريفَه، نسألُ الله السلامةَ. فهذا الوجهُ ممَّا يدُلُّ على تنزيهِ أحمَد عنِ الكُفْرِ من نقل أئمةِ الزيديةِ (4) وعلمائِهم.
الوجهُ الثالثُ: المعارضةُ لذلكَ من روايةِ الحنابلةِ وأهلِ الحديثِ، فمنْ ذلكَ -وهو أوضحُهُ-: أنَّ الذهبيَّ عَدَّ مصنفاتِ أحمدَ في " النبلاء " (5) فذكرَ منها كتابَ " نفي التشبيه " مجلد، ومنها مسألةُ الإِيمانِ، صنَّف فيها، قال أبو داودَ: سمعتُه يقول: الإيمانُ يَزيدُ وينقُصُ، البرُّ كلُّه من الإِيمانِ.
ومن ذلكَ أنَّ النواويَّ ذكرَ حديثَ: " يَومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ " في " شرحِ مُسلمٍ " (6)، فقالَ ما لفظُهُ: اعلمْ أنَّ لأهلِ العلمِ في أحاديثِ الصفاتِ وآياتِ الصفاتِ قولينِ:
أحدُهما - وهوَ مذهَبُ معظمِ السلفِ أو كُلِّهم: أنَّهُ لا يُتَكلَّمُ في
__________
(1) في (أ) و (ب): لتعظيمهم.
(2) " لا " سقطت من (ب).
(3) في (ش): يقرأ.
(4) في (ب) و (ش): الزيدية والمعتزلة.
(5) 11/ 327 - 331.
(6) 3/ 19.(3/319)
معناها، بل يقولُونَ: يَجِبُ علينا أنْ نؤمِنَ بها ونعتقدَ لها معنى يَليقُ بجلالِ اللهِ تَعالَى مع اعتقادِنا الجازِم أنَّهُ ليس كمثلِهِ شيءٌ، وأنَّهُ (1) مُنَزَّهٌ عنِ التجسيم، وعن سائرِ صفاتِ المخلوقِ، وهذا القولُ هو مذهبُ جماعةٍ منَ المتكلمينَ، واختارَه جماعةٌ من محققيهم، وهو أسلمُ.
القولُ الثاني -وهو مذهبُ (2) مُعظمِ المتكلمين-: أنَّها تُتأوَّلُ، وإنَّما يَسوغُ تأويلُها لِعارفٍ بلسانِ العربِ وقواعدِ الأصولِ والفروعِ، ذي رياضةٍ في العلمِ. انتهى.
وفيهِ الشهادةُ ببراءةِ (3) أحمدَ والمحدثينَ ممَّا في " رسالةِ الإِصْطَخري " التي نصَّ الذهبيُّ أنَّها خُرافةٌ موضوعةٌ، وقال (4): قاتلَ اللهُ واضعَها، وبراءةِ (5) المحدثينَ ممَّا لَطَّخَهُم به الأشعريُّ والسَّاجي.
ومما يُقَوِّي ذلك غايةَ القُوةِ ما يأتي (6) إِنْ شاءَ اللهُ في ترجمةِ أحمدَ في أمرِ المِحْنَةِ وأنَّه (7) حُبِسَ وامتُحِنَ، فضُرِبَ (8) بسببِ امتناعِه من القولِ بخلقِ القرآنِ وكان المأمونُ والمعتصمُ والواثقُ -وهم خلفاءُ عصرهِ- على رأي المُعتزلةِ فَلَوْ كَانَ مُجَسِّماً، لأظهرَ ذلك كما أظهرَ القول بأنَّ القرآنَ غَيْرُ مخلوقٍ مَع تكفيرِهم لَهُ بذلك، ولو أظهرَ التجسيمَ لذُكِرَ ذلك، وضُرِبَ
__________
(1) في (أ): فإنه.
(2) سقطت من (ش).
(3) في (ش): بنزاهة.
(4) تحرفت في (أ) إلى: وقد.
(5) في (ش): ونزاهة.
(6) " يأتي " سقطت من (أ).
(7) في (ش): فإنه.
(8) في (ب): " وضرب "، وسقطت من (ش).(3/320)
عَلَيهِ، فإنَّهُ أعظمُ من مسألةِ القرآنِ.
وأيضاً قد (1) كانُوا في مناظرتِهم لَهُ يُلْزِمُونه التجسيمَ والتشبيهَ، وهو لا يَلْتَزِمُه. كما يأتي في المِحنةِ، فلو كانَ مُتظاهراً به، لَمَا احتاجُوا إلى إلزامِه، ولصَرَّحَ به (2) كما صَرَّحَ بأنَّ القرآنَ غَيرُ مخلوقٍ، وناظرَ عَلَيْهِ معَ التعذيبِ الذي هُوَ أشدُّ من القَتل وفي (3) هذا أعظمُ براءةٍ لَهُ ولأئمةِ الحديث من التُّهمة (4) بالتشبيهِ، فتأمَّلْهُ (5).
وقالَ شيخ الحنابلةِ بالاتفاقِ (6) أبو محمدٍ عبدُ الله بن أحمد بن محمد بن قُدامة المقدسيُّ في خطبة كتابه " الكافي " (7) الذي جَمَعَهُ على مذهبِ أحمدَ ما لفظه: " الحمدُ للهِ الواحدِ القَهَّارِ "، إلى قوله: " الذِي امتنعَ عَنْ تمثيلِ الأفكارِ، وارتفعَ عَنِ الوصفِ بالحدِّ والمقدارِ " إلى آخر كلامه، وهذا الكتابُ من أجلِّ كتبِ الحنابلةِ المعتَمدة عندَهم، فكيفَ تَرَاهم يَفْتَتحونَه بنَقِيضِ (8) مذهبِهم ومذهبِ إمامِهِم.
وفي شرحِ " جمعِ الجوامع ": ونقلَ صاحبُ الخصالِ من الحنابلةِ عن أحمدَ، أنَّهُ قالَ: من قالَ: جسمٌ لا كالأجسامِ كَفَرَ، مع اختلافِ أئمةِ الزيدية والمعتزلة في تكفيرِ منْ قالَ بهذه المقالةِ كما سيأتي (9) حتى قال ابن
__________
(1) في (ب) و (ش): فقد.
(2) " به " سقطت من (ب).
(3) " في " سقطت من (ش).
(4) " من التهمة " ساقطة من (ش).
(5) في (ش): فتأمل.
(6) سقطت من (ش).
(7) 1/ 1، وتقدم التعريف به في ص 238 من هذا الجزء.
(8) في (ش): بنقض.
(9) في (ب): كما سيأتي إن شاء الله تعالى.(3/321)
أبي الحديد في " شرحه " (1): إِن أمر المخالفين في ذلك سهلٌ، لأنَّهُ (2) خلافٌ في (3) عِبارةٍ، ذكرَهُ في شرحِ الخُطبةِ المذكورةِ قبلُ، وأجْلَي من هذا ما (4) في خُطَبِ ابنِ الجَوْزي منَ التنْزِيهِ ونفيِ التشبيهِ، وابنُ الجوزيِّ من أئمةِ الحنابلة بالاتفاق، وخطبُه ومواعظُه (5) عُمدَتُهم في جُمُعاتِهِم ومَحَافِلِهم، وأنَا أُورِدُ مِنها ما يَشْهَدُ بصحةِ ما ذكرتُه، فمِنْ ذلك قوله في كتابِ " المُدْهِشِ " (6) في قولهِ تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ}:
أول: لَيس لَهُ مبتدأ، آخر: جلَّ عن مُنتهي [ظاهر بالدليل باطن بالحجاب] يُثْبِتُهُ العقلُ، ولا يُدرِكُه الحِسُّ، كلُّ مخلوقٍ محصورٌ بحدٍّ، مأسورٌ في سُورِ قُطْرٍ (7)، والخالقُ بائنٌ مبايِنٌ يُعْرَفُ بعدمِ مألوفِ التعريفِ، ارتفَعَتْ لعدمِ الشِّبْهِ (8) الشُّبَه، إنَّما يَقَعُ الإشكَالُ في وصفِ مَنْ لَه أشكالٌ، وإنَّما تُضْرَبُ الأمثالُ لِمَنْ لَه أمثالٌ، فأمَّا مَنْ لَم يَزَلْ وَلاَ يزالُ (9)، فما للحِسِّ معه مجالٌ، عظَمَتُه عَظُمَتْ عَن نيلِ كفِّ الخيالِ، كيفَ يُقَالُ: كَيْفَ والكَيْف في حَقِّهِ مُحالٌ؟ أنَّى تَتَخايَلُهُ الأوْهَامُ وهي
__________
(1) 3/ 228.
(2) تحرفت في (ج) إلى " لا ".
(3) سقطت من (ش).
(4) في (ش): ما جاء.
(5) وهو -وإن كان كما قال الذهبي في " السير " 21/ 367 رأساً في التذكير بلا مدافعة، يقول النظم الرائق، والنثر الفائق بديهاً، ويُسهبُ، وُيعجبُ، ويُطربُ، ويطنبُ، لم يأتِ قبلَه ولا بعدَه مثلُه - يُكثر في تصانيفه الوعظية من إيراد الأحاديث الموضوعة، وما يُقاربها مما لا تَصح نسبتُه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(6) ص 137.
(7) في (ب): بسور قطر.
(8) في (ش): التشبيه.
(9) في (ش): يزول.(3/322)
صنعتُه؟ كيف تحدُّهُ العقولُ وهي فِعْلُه؟ كيف تَحويهِ الأماكِن وهي وَضْعُه؟ انقطَع سيرُ الفِكْرِ، وقفَ سُلوكُ الذِّهن، بَطَلَتْ إشارة الوَهمِ، عَجز لطفُ الوصفِ، غشِيَتْ عين (1) العَقْلِ، خَرِسَ لسانُ الحِسّ، لا طَوْرَ للقدَمِ في طَورِ القِدَمِ، عَزَّ المَرْقَى (2)، فَيئِسَ المُرْتَقَى (3)، بَحرٌ لا يَتَمكَّنُ مِنْهُ غَائِصُ، ليلٌ لا يَبِصُّ (4) للعينِ (5) فيه كوكبٌ.
مَرامٌ شَطٌّ مَرمَى العَقْلِ فِيهِ ... فدُون مَدَاهُ بِيدٌ لَا تبيدُ
جادَّةُ التَّسليمِ سليمةٌ، وادي النٌقْلِ بلاقِعُ، انْزِلْ عَنْ عُلُوّ علوّ الشبيه، ولا تعل قُلَلَ أباطيلِ التَّعْطِيلِ، فالوادي بينَ الجبلينِ. ما عَرَفَهُ مَنْ كَيَّفَه، ولا وحَّدَهُ مَنْ مَثَّلَه، ولا عَبَدَهُ من شَبَّهَة، المشبِّه أعْشى، والمُعَطِّل أَعْمى، مما يتنزه عنه مم؟ فيما (6) يجبُ نَفْيُهُ فيمَ؟ جَلَّ وجوبُ وجودِهِ عن رجمِ " لَعَلَّ "، سبقَ الزمانُ، فلا يُقالُ: " كان "، أبرزَ عرائسَ الموجوداتِ من كِنِّ " كُنْ "، بثَّ الحكمَ، فلَمْ يعارَضْ بـ " لِمْ "، تَعالى عن بَعْضيَّهِ " من "، وتقدّسَ عن ظرفيَّة " في "، وتنزَّه عن شِبِه (7) " كأنَّ "، ويعَظُّم عن نقصِ " لَوْ أن "، وعَزَّ (8) عَنْ عَيبِ " إلَّا أَنْ "، وسمَا كمالُه عَنْ تَدَارُكِ " لكنّ ".
__________
(1) تحرفت في (ب) إلى " عن ".
(2) في (ش): المرتقى.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في " المدهش ": يبين.
(5) في (ش): العين.
(6) في (ب): مما.
(7) في (ش): شبيه.
(8) " عز " سقطت من (ش).(3/323)
وقال في كتاب " اللطف ": لا بِصفَةِ الأول علم له مبتدأ، ولا بالآخر (1) صار له مُنتهى، ولا مِنَ الظَّاهِرِ فهم له شبح، ولا مِنَ الباطن تعطَّل له وصفٌ، خرست في حظيرة القُدس صولة " لِمْ "، وكفَّتْ لِهَيْبَةِ الحقِّ كفٌّ " كيف "، وعَشِيَت لجلال العزِّ عين الفكر، فأقدام الطَّلَبِ واقفةٌ على جمر التَّسليم، جل عن أشباهٍ وأمثال، وتقدَّس أن تُضرب له الأمثال (2)، فإِنَّما يقع الاشتباه (3) والإشكال في حقِّ مَنْ له أشكال، المشبِّهُ مُلَوَّثٌ بدم التَّجسيم، والمعطِّلُ نجس بسرجين الجُحود، و (4) نصيبُ المُحِق لبن خالصٌ هو التَنزيه، لا يقال: " لِمَ " لفعله، ولا " متى " لِكونه، ولا " قيم " لِذاته، ولا " كيف " لوصفه، ولا " ممَّ " مما يدخل في وحدانيَّته. من طَالَعَ مِرآةَ صمديَّتهُ (5)، دلَّتْه صقالتها على التنزيه، وعلمَ أنَّه لا ينطبع فيها شَبَحُ التشريك (6)، ولا خيال التشبيه تفكَّروا في آلاء الله، ولا تتفكَّرُوا في الله، إذا استقبل الرَّمِد الرَّيح، فقد تعرَّض لزيادة الرَّمَدِ.
وقال في كتاب (7) " تلبيس إبليس " (8) ما لفظه: ونبغ أبو عبدِ الله
__________
(1) في (ب): بآخر،
(2) في (ب): مثال.
(3) في (ش): الأشباه.
(4) الواو ساقطة من (ش).
(5) في (ش): صمدانيته.
(6) ساقطة من (ج).
(7) ساقطه من (ش).
(8) ص 84. وجاء في "سير الذهبي" 11/ 523: محمد بن كرام السجستاني المبتدع شيخ الكرامية، كان زاهداً، عابداً، ربانياً، بعيدَ الصيت، كثيرَ الأصحاب، ولكنه يروي الواهيات كما قال ابن حبان: خُذل حتى التقط من المذاهب أرداها، ومن الأحاديث أوهاها، ثم جالس الجويباري، وابن تميم، ولعلهما قد وضعا مئة ألف حديث، وأخذ التقشف عن أحمد بن حرب. =(3/324)
محمد بن كَرَّام، فاختار من المذاهب أردأها، ومن الأحاديث أضعفَها، ومال إلى التشبيه وأجاز حلولَ الحوادث في ذات الله تعالى، انتهى كلام إمام الحنابلة ابن الجوزي.
وقال الشيخ العالم شهاب الدين أحمد بن عمر الأنصاري الشافعي في كتابه المسمى " مُغني المُحَدِّثِ في الأسفار عن حمل الأسفارِ " ما لفظه: وثانيها ما يُنقل عن أحمدَ رحمه الله مِنْ شوب عقيدته السليمة بالتجسيم، حاشاه من ذلك، ولم يصحّ ذلك عنه بطريق منَ الطُّرق، ولا نَقَلَ عنه الآخذون عنه، والمؤلِّفون في مذهبه شيئاً من ذلك، وقد روينا عَنِ الإمام أبي الفرج ابن الجوزي، والعالم ابن قُدامَة الحنبليَّين المحدثَيْنِ إنكارَ ذلك غاية الإنكار، بل لم يشتهر أحدٌ من الحنابلة بذلك (1)، ولم يُعرف عنه، إلا بعض متأخريهم يُوجدُ في بعض (2) كلامه شيْءٌ لم يبْلُغْ رتبة التَّصريحِ، والله أعلم.
وقال الذهبي في كتابه " زغَل العلوم " (3)، وفد ذكر الحنابلَة وما يُنقم عليهم ما لفظه: والعُلمَاءُ يتكلُّمون في عقيدتهم، ويرمونهم بالتّجسيم، وبأنه يلزمُهُم، وهم بريئون من ذلك إلا النادِرَ. انتهى.
__________
= كان يقول: " الإيمانُ هو نطقُ اللسانِ بالتوحيدِ، مجرد عن عقد قلب، وعمل جوارح، وقال خلق من الأتباع له: بأن الباري جسمٌ لا كالأجسام، وأن النبي تجوز منه الكبائر سوى الكذب، وقد سُجنَ ابنُ كرام، ثم نُفي، وكان ناشفاً، عابداًَ، قليل العلم. قال الحاكم: مكث في سجنِ نَيْسابورَ ثماني سنين، ومات بأرض بيتِ المقدس سنة خمس وخمسين ومئتين. وكانت الكراميةُ كثيرين بخُراسان، ولهم تصانيفُ، ثم قَلُّوا وتلاشوْا نعوذ بالله من أهل الأهواء.
(1) " بذلك " ساقطة من (ش).
(2) ساقطة من (ش).
(3) ص 39.(3/325)
وهذا في حقِّ المدَّعين أنَّهم على مذهبه، لا في حقه، فإن لم ينسِبُوا ذلك إليه على جِهة الرِّواية عنه، فلا إشكالَ، وإن نسبوا مذاهبَهم إليه على جهة الرَّواية لها عنه، فلا شكَّ أنَّ رواية الجمِّ الغفيرِ عنه للتنزيه أولى مِن رواية النادرِ للتشبيه، كما ذلك مقتضى الأدلة عقلاً وسمعاً في الظَّنيَّات الَّتي يُمْكِنُ العملُ فيها بالتَّرجيح، فأمّا التكفيرُ القطعيُّ، فلا يَلْتَفِت إليه مع مثل (1) هذا الاختلافِ في النَّقل مُميِّزٌ (2).
وقال الذهبي في آخر الطبقة الرابعة من " تذكرته " (3)، وهي أول المئة الثانية إلى الخمسين ومئة: وفي هذا الزمان ظهر بالبصرةِ عمرو بن عُبَيْدِ العابد، وواصل بنُ عطاء الغزَّال، ودَعَوْا إلى الاعتزال، [والقول بالقدر] وظهر بخراسان الجَهْم بن صفوان، ودعا إلى تعطيل الرَّب عزّ وجل، وخلقِ القرآن، وظهر في خراسان في قبالته مقاتِل بنُ سليمان المفسِّر، وبالغ في إثباتِ الصِّفات حتّى جَسَّمَ، وقام على هؤلاء علماءُ التَّابعين وأئمَّةُ السلَفِ، وحذروا مِنْ بدعتهم، انتهى وله أمثالُه. ولعلماء الحديثِ، وأهلِ الجرح والتعديل منهم من (4) التصريح بِذَمِّ المجسمة، والوَصْمِ لهم مِن الحنابلة وسواهم، وما علمتُ أحداً منهم نَسبَ إلى أحمدَ بنِ حنبل منْ ذلك شيئاً، لا مِنْ أَهْلِ السنة منهم مِن (5) الشافعية، والحنفية، والمالكية، ولا منْ أهل علم الكلام الجامعين بين العلمين: العقلي والنقلي، وأهل الاطّلاع التَّامِّ على معرفة الرِّجال. ومن أراد
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): بتنزيهه.
(3) ص 159.
(4) ساقطة من (ش).
(5) " من " ساقطة من (ش).(3/326)
معرفة براءتِهم الجميع مِنْ ذلك، فليطالِعْ كتاب " الأسماء والصفات " للبيهقي رحمه الله، فإنه نقل عنهم منَ التأويل لِما يوهِمُ البعضُ منه التشبيه، ما يشهد لهم بذلك (1)، ولولا خشية الإطالة، لنقلتُ منه هنا (2) شيئاً كثيراً، وينبغي أن نذكرَ منه كلامَهم في تأويل الصُّورةِ ونَحْوها ممَّا استدل به المعترضُ على كذب الرُّواة، وبطلان الصَّحاح، ولكن نؤخِّرُ ذلك إلى وقت ذكرِ كلام المعترض في ذلك، ونُضَمِّن الجوابَ عليه إن شاء الله تعالى، ولنختم هذا الفصل بتنبيهين.
أحدهما: أنَّ الحامل لِمَنْ روى التشبيه (3) عن أحمد وغيْره مِنْ أئمة (4) السنة (5) هو ما يوجد في عباراتِهِمْ مِنْ تقريرِ الآيات والآثار (6) وإمرارها (7) مِنْ غيرِ تأويلٍ، وقد مرَّ أنَّ ذلك لا يستلزم اعتقادهم (8) التَّشبيه، ولذلك يُوجَدُ ذلك في عبارات بعض (9) أئمَّة الزيدية، والمعتزلة، ولا (10) يُكفِّرُونَّهم بذلك، ولا ينسِبُونَهم إلى صريح التَّشبيه، ولا يُعارِضُون مَنْ رَوى ذلك عنهم بنقل صحيح، و (11) في " علوم آل محمد " المعروف عند الزَّيديّة بأمالي أحمد بن عيسى، وهو تأليفُ محمد
__________
(1) في (ب): لذلك.
(2) في (ب) هنا منه، و" هنا " ساقطة من (ش).
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ب): أهل.
(5) في (ش): السنة التشبيه.
(6) " والآثار " سقطت من (ب).
(7) في (ش): " وإبرازها "، وهو خطأ.
(8) في (ش): اعتقاداتهم.
(9) ساقطة من (ش).
(10) في (ش): فلا.
(11) الواو ساقطة من (ش).(3/327)
ابن منصور: أنَّ الله سبحانه وتعالى لا ينتقل عَنْ مكانِه في تأويل نزول الرَّبِّ سبحانه إلى سماءِ الدُّنيا يومَ عرفة في كتاب " الحج ".
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبَهاني الشِّيعي (1) في الجزء الثاني (2) من " مقاتل الطالبيين " (3) في أخبار أبي السرايا في ذكر من خرج مع أبي السرايا: حدثني أحمد بن سعيد، حدثني محمد بن (4) منصور، قال: سمعتُ القاسم بن إبراهيم، ونحن في منزل الحسنيين (5)، يقال له: الودينة يقول: انتهى إليّ نَعْيُ أخي محمد وأنا بالمغرب، فتنحَّيْت (6)، فأرقتُ من عينَّى سجلاً أو سَجلين، ثم رثيتُه بقصيدَةٍ، على أنَّه كان يقول بشيءٍ مِنَ (7) التشبيه، ثمَّ قرأها عليّ مِنْ رقعته، فكتبتُها، وهي:
يا دارُ دَارَ غُرُورٍ (8) لا وَفاء لها ... حَيْثُ الحَوادِثُ بالمكرُوهِ تَسْتَبِقُ
أَتْرَحْتِ أَهْلَكِ منْ كدٍّ وَمنْ أَسفٍ ... بِمَشْرَع شُرْبُهُ التَّصْرِيفُ والرَّنَقُ
__________
(1) في (أ): " السبيعي "، وهو تحريف.
وأبو الفرج: هو علي بن الحسين الأموي الأصبهاني الكاتب الأخباري، روى عن مطيَّن فمن بعده. كان أديباً، نسابة، علامة، شاعراً، كثيرَ التصانيف. قال الذهبي: من العجائب أنه مرواني يتشيع، توفي في ذي الحجة، سنة ست وخمسين وثلاث مئة، وله اثنتان وسبعون سنة. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 16/ 201 - 203.
(2) " الجزء الثاني " سقطت من (ب).
(3) وقد طبع هذا الكتاب في طهران سنة 1307 هـ، ثم طبع في مصر سنة 1368 هـ.
(4) " محمد بن " ساقطة من (ب).
(5) في (ب) و (ج): الحسنين.
(6) في (ب): " فنحيتُ ".
(7) " بشيء من " ساقطة من (ش).
(8) " غرور " ساقطة من (ش).(3/328)
فأيُّ عَيْشِكِ إلاَّ وَهْوَ منتقِلٌ ... وأيُّ شَمْلِكِ إلاَّ وهْوَ مُفْترِقُ
إلى آخرها، وقد قال في خُطبة كتابه: إنَّه لا يذكر مَنْ عَدَل عن مذاهبِ أسلافه، وروى نحو ذلك صاحبُ كتاب " الجامع الكافي " في مذهب الزيدية عن محمد بنِ منصورٍ عَنِ القاسم عليه السلام ُ كما سيأتي مبسوطاً، ويأتي تأويلُه عندهم بأنه (1) كان لا يقولُ بخلقِ القرآن، وسيأتي أن القاسِمَ عليه السلامُ كان مع ذلك يُعَظِّمُة، ويرضى عنه، ويترحَّمُ عليه.
وفي " الحدائِق الوردية في مناقب أئمة (2) الزيدية " (3) أن القاسِمَ كان مِنْ عُماله، وأنَّه كان يُقال: أَعْظِمْ بإمامٍ القاسم بنُ إبراهيم مِنْ عُمَّاله عليهم السلامُ أجمعين (4).
وبهذا تَعْرِفُ أنَّ الأوائِلَ مِنْ كُلِّ فرقةٍ كانوا على مذهب أئمة الأثَرِ، ولكن المتعصبين يتأوَّلون لأئِمتهم أحسن التَّأويل، ولأئِمة السُّنة أقبحَه، وبهذا تعرفُ عَصَبِية مَن فعل ذلك، فتأمَّلُه تجده كثيراً (5)، فالله المستعانُ.
التنبيه الثاني: ينبغي التأمُّلُ لَهُ، وذلك أنَّه قد يقع التَّساهلُ في نقل المذاهبِ مِنْ أهلِ كُتب المِلَلِ والنِّحَلِ، وسببُ ذلك أنَّه قد يذهبُ بعضُ الناس إلى أنَّ الإلزامَ مذْهَبٌ، فَيُلْزِمُ خصمَه مذهباً لا يلتزمُه الخصمُ، ويعتقد لزومَه قطعاً، ويستحِلُّ بذلك (6) نسبتَه إلى خصمه مذهباً، وروايته
__________
(1) في (ش): أنه.
(2) ساقطة من (ش).
(3) لمؤلفه حميد بن أحمد بن عبد الواحد المحلي اليمني الوادعي. توجد نسخة منه في مكتبة الجامع الكبير بصنعاء. انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية " ص 661.
(4) في (ب): سلام الله عليهم أجمعين.
(5) في (ش): ذلك.
(6) في (ب): لذلك.(3/329)
عنه قولاً، وقد يُفرِّع على ذلك تكفيره وتكذيبَه ونحو ذلك، وقد فعل المعترضُ شيئاً كثيراً مِنْ ذلك، مثل روايته عَنِ الأشعرية جميعاً أنَّهم يذهبُون إلى القول بأنَّ الله تعالى يُثيبُ على معصيتِه، ويُعَاقِبُ على طاعته، وقد مضى بيانُ أنَّه ما ذهبَ أحدٌ إلى ذلك مِنَ المسلمين، ولا مِنَ المشركين، وإنَّما يلزم ذلك من يقول: إنَّ أفعال اللهِ سبحانه لا تُعَلَّلُ، وإنَّه لا داعي له سبحانه إلى شَيْءٍ منها، والقولُ بهذا قولُ طائِفَةٍ مِنْ غلاة متكلميهم، وقد أوَّلُوا كلامَهم، ولم يساعدوا (1) إلى هذا الِإلزام، وقالوا: هو (2) محال لاستلزامه المحالَ، وهو خلفُ وعدِه سبحانه (3)، وكذبُ خبره سبحانه (4) عن ذلك، وفي النَّاس من ينسِبُ إلى الطَّائفة العظيمةِ مذهبَ رجل مِنْ غُلاتهم، وإن رَدُّوا كلامه، وكَفَّروا قائِلَهُ كما فعل المعترضُ بنسبة تكليفِ ما لا يُطاق إلى أهلِ الحديث وطوائفِ أهل السُّنّةِ، وكما فعل في مسألة الأطفال وغيرِها، وسيأتي بيانُ ذلك.
ومِنَ النَّاس من يجمع بَيْنَ الأمرين، فيُلْزِمُ بعض الطَّائفة أمراً لم تقُلْ به، ثمَّ يتقوَّى لَهُ صِحَّةُ إلزامِه، فينسبه إليه (5) ثم ينسِبهُ إلى أهل مذهبه، وهذه جُرْأَةٌ عظيمةٌ، وذلك كما فعل ابنُ السيّد البطَلْيوسِي، فإنّه قال في كتابه " سقط الزند " (6): إنَّ المعتزلة تذهبُ إلى أنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ الغَيْبَ،
__________
(1) في (ب): ولو ساعدوا.
(2) في (ب): هذا.
(3) في (ش): سبحانه عن ذلك.
(4) في (ش): وكذبه تعالى.
(5) " فينسبه إليه " ساقطة من (ش).
(6) أي في " شرح سقط الزند "، فإن " سقط الزند " ديوان شعر لأبي العلاء المعري، وهو مطبوع ضمن شروح " سقط الزند "، قال ابن خَلِّكان: وهو أجودُ من شرح أبي العلاء صاحِب الديوان الذي سماه " ضوء السقط "، وليس هذا الشرح خاصاً بسقط الزند، بل ضم =(3/330)
وأصلُ هذا إلزام لأبي الحسين المعتزلي، حيث قال: بأن المعدومَ ليس بشيء، وأنَّ عِلْم الله به يتعلَّقُ بأنَّه سيوجد (1)، فألزمه الرَّازي ذلك، وذلك (2) مِنَ البَطَلْيُوسِي وَهْمٌ فاحشٌ نشأ مِنْ سماعِه بأنَّ المعتزلة تُنْكِرُ القدر، فظنَّ (3) أن المعتزلة تُنْكِرُ العِلْمَ السَابِقَ، وهذا بناء منه على أنهم يُفَسرُون القَدَرَ (4) بالعلم، وليس كذلك، وإنَّما يُفَسِّرون القدر الذي ينفونه بِمَا يوجِبُ الاضطرارَ، وينفي الاختيارَ، والقدرُ المفسَّرُ بذلك مُتَّفقٌ على نفيه عِنْدَ أهل السُّنة أيضاً كما سيأتي بيانُه (5) في الوهم الثامن والعشرين (6).
الفصل الثاني: في تحقيق مذهبِ أحمدَ بنِ حنبل وأمثالِه مِنْ أئِمَّة الحديث، وهُم طائفتان.
__________
= البطليوسي إليه طائفة أخرى من شعر أبي العلاء بعضها من لزوم ما لا يلزم، وبعضها الآخر من سائر دواوينه، وانفرد من بين شارحين بترتيب السقط على حروف المعجم.
وابن السَّيِّد البطليوسي: هو العلامة أبو محمد عبد الله بن محمد بن السَّيِّد النحوي، كان عالماً بالآداب واللغات متبحراً فيهما، مقدماً في معرفتهما وإتقانهما، سكن مدينة بلنسية، وكان الطلبة يجتمعون إليه، ويقرؤون عليه، ويقتبسون منه، وكان حسن التعليم، جيد التفهيم، ثقة، ضابطاً، ألف كتباً نافعة ممتعة غاية في الجودة، طبع غير واحد منها. مات في بلنسية التي اتخذها موطناً له، فألف معظم كتبه فيها في رجب سنة إحدى وعشرين وخمس مئة. مترجم في " السير" 19/ 532 - 533.
والبطليوسي -بفتح الباء الموحدة، والطاء المهملة، وسكون اللام، وفتح الياء، وسكون الواو-: نسبة إلى بطليوس، مدينة كبيرة بالأندلس، من أعمال ماردة على نهر آنة غربي قرطبة، وكانت عاصمة بني الأفطس التجيبيين في عهد ملوك الطوائف.
(1) في (ب): " سيوجب "، وهو خطأ.
(2) في (ش): فذلك.
(3) في (ش): وظن.
(4) في (ش): القدرة.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب) و (ش): " والعشرون " وهو خطأ.(3/331)
الطائفة الأولى: أهلُ الحديث، والأثر، وأتباعُ السُّنن والسَّلف الذين (1) ينهون عَنِ الخوض في علم الكلام، ولا يحتجُّون على مذهبهم إلاَّ بما عرَفتْهُ عقولُهم مِنْ غير تقليدٍ ممَّا علَّمَهُ الله تعالى رُسُلَهُ وسائر عبادِهِ مِن الأدِلة، وكيفية الاستدلال، ولا ينظرون إلاَّ فيما أمرهم أن ينظروا فيه، كما أنَّ طلبةَ علمِ النظر يتعلمون مِنْ كُتُب (2) شيوخهم مِنْ غير تقليد، فكذلك (3) أهلُ الأثر ينظرون مِنْ غير تقليدٍ في كتاب الله، ويَسْتَدِلُّونَ بذلك، وبِمَا جرى مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه، وسلفِ الأمَّة المُجْمَعِ على صلاحهم منَ الاستدلال به على الله تعالى، وعلى نُبُوة أنبيائه مثلما حكى الله تعالى عن موسى عليه السلام في الاستدلال على فرعونَ في مجادلتهما، قال الله تعالى: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} [الشعراء: 30 - 32] الآيات، وهي صريحةٌ في الاستدلال على الله سبحانه، وعلى صحّة النُّبُوَّةِ معا (4)؛ لأنها في الردِّ على فرعون في قوله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِين} [الشعراء: 23]، كما هو صريحٌ في أوَّلِ الآية، فكذلك (5) في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين} [يس: 77]، وقوله في الاحتجاج بمعجز القرآن الكريم: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
__________
(1) في (ش): الذي.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): وكذلك.
(4) ساقطة من (ب).
(5) في (ش): وكذلك.(3/332)
وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 23 - 24].
قالوا: فإذا القدر منَ الأدلَّة تَطَابقَ على صِحته العَقْل (1) والسَّمعُ الَّذي هو النَّص والإجماعُ، والتمسُّك به أسلم (2)، والتَمسُّك بالطُرق المبتدَعة على أساليب أهلِ الفلسفة تُوقِعُ في الحَيْرَةِ، وتجرُ إلى البدعة، ويتولُّدُ منه تقرير قواعد غلطية (3) تُخَالِفُ فِطَرَ العُقول، ونُصوصَ المنقولِ.
فهولاء كتابُهُمُ القرآنُ، وتفسيرُهُمُ الأخبارُ، والآثار، ولا يَكَادُ يُوجد لهم كتاب في العقيدة، فإنْ وُجِدَ، فالَّذي فيه إنما هو بمعنى الوصيَّة المحضةِ بالرُّجوع إلى الكتاب والسُنَّة، وهم لا يَعنونَ بالرُّجوع إليهما (4) نفيَ النَّظر، وتركَ العقل، والاستدلالِ البَتّة، وقد صَرَّحوا بالنظر والاستدلال العقلي كما ذكره صاحب " الوظائف " (5)، والزنجاني في قصيدته الرائية، وفي شرحها، وهي القصيدة الشهيرة التي أولها:
تَمسَّكْ بِحَبْلِ اللهِ واتَّبع الأثَرْ
كما أنَّه قد صرَّح بذم الكلام خلقٌ مِمَّن خاض في لُجَجه، وبَرَّزَ في حججه كما يأتي ذكرُه إن شاء اللهُ تعالى.
__________
(1) في (ش): صحة الفعل، وهو خطأ.
(2) عبارة " والتمسك به أسلم " ساقطة من (ش).
(3) في (ب): " غليظة "، وهو تحريف.
(4) في (ش): إليها.
(5) في (ش): الوصائف.
وفي " كشف الظنون " 2/ 2015: الوظائف في المنطق لشمس الدين محمد بن موسى المغربي المتوفى سنة 683 هـ. وانظر " العبر " 3/ 354.(3/333)
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {بَادِيَ الرَّأي} [هود: 27] (1): "أي بمجرد ما دعوتَهم استجابوا لك من غير نظر" (2)، و (3) هذا الَّذي ذمُّوهم به هو عين ما يمدحون به فإنَّ الحَقّ الظَّاهِر لا يحتاج إلى رَوِيّةٍ، ولا فكر، ولا نظر، بل يجبُ اتِّباعُه والانقيادُ إليه متى ظهر، ولِهذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادِحَاً الصِّدِّيق (4): " ما دعَوْتُ أَحَداً إلى الإسْلامِ إلاَّ كَانَتْ لَهُ كَبْوَة غيرَ أبي بكرٍ، فإنّه لَمْ يَتَلَعْثَمْ " (5).
وإنَّما يُنكرون مِنْ عِلْمِ النَّظَرِ أمرين:
أحدهما: القولُ بأنَّ النَّظر فيما أمر اللهُ تعالى بالنظر فيه، وجرت به عادةُ السَّلف غَيْرُ مفيدٍ للعلم، إلاَّ أنَّ يُرَدَّ إلى ما ابتدع من طريق المتكلمين، بل هو عندهم كافٍ شافٍ (6)، وإن خالف طرائقَ المتكلمين (7).
وثانيهما: أنَّهم يُنكرون القولَ بتعيُّنِ طرائقِ المنطقيِّين والمتكلِّمين للمعرفة، وتجهيلِ مَنْ لم يَعْرِفَها، وتكفيرِه، فَهُمْ في إنكار عِلْمِ الكلام،
__________
(1) 2/ 442.
(2) في (ش): تطرق.
(3) الواو ساقطة من (ش).
(4) في (ش): للصديق.
(5) وأورده السيوطي في " الجامع الكبير " لوحة 706، ونسبة للديلمي من حديث ابن مسعود. ولا يصح، فإن ما تفرد به الديلمي يكون في حيز الضعيف. وأخرجه من حديث ابن عباس، أبو نعيم في " أخبار أصبهان " 2/ 325 بلفظ: " ما كلمت في الإسلام أحداً إلا أبى عليَّ، وراجعني الكلام إلا ابن أبي قحافة، فإنِّي لم أكلِّمه في شيء إلا قَبِلَه، واستقام عليه ".
وفي سنده سعد بن طريف الإسكاف وهو متروك، وقال ابن حبان: يضع الحديث.
(6) في (ش): شافٍ كافٍ.
(7) من "بل هو" إلى هنا ساقط من (ب).(3/334)
وأساليبِ النُّظَّار (1) أَقَلُّ غُلُوَّاً مِنْ أهلِ المعارف الضَّروريَّة مِنْ علماء الكلام، لأنَّ هذه (2) الطائفة (3) من المتكلِّمين زعموا أنَّ العلمَ بالله تعالى ضروريٌّ غير محتاجٍ إلى النّظَر، وهم -مع ذلك- يُبِالغونَ في نفيِ التَّشبيه بأجمعهم. وقد تقدَّم حكايةُ النَّواوي لذلك عنهم في ذكر براءةِ أحمدَ بنِ حنبل مِنْ ذلك، وعلى هذه الطريقةِ كان أئِمَّةُ العِتْرَة القُدَماء، وأئمَّةُ الفقهاء الأربعة، وجماهيرُ حُفَّاط الحديث، وأئِمَّة الفقه، والتفسير، وعلوم الشَّريعة. ولذلك لا نجدُ لهم في علم الكلامِ ذكراً بنفيٍ ولا بإثبات (4).
فهؤلاء الإقدامُ على تكفيرهم كالإقدامِ على تكفير أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم بإحسان، إذ لا مستند لمَنْ يكفِّرُهم إلاَّ عَدَمُ خوضهم في الكلام، وعَدَمُ تصريحهم بتأويل المتشابه، وهذه العلَّة حاصلةٌ في الصحابة والتَّابعين، وذنبُ المكفر لهذه الطَّائفة من المسلمين (5) هو ذنبُ الخوارج، بل أقبحُ، لأنَّ أصلَ مذهب الخوارج تكفيرُ المسلمين بالذنوب، وإن غَلِطُوا فيما يعتقدونه ذنباً، وأصل هولاء تكفير المسلمين بسبب الإِيمانِ الصَّادر عن غيرِ تحريرٍ لطرائقهم في الاستدلالِ، وهذا يَعُمُّ الصحابة، والتَّابعين، والصَّالحين، وقد ورد في الخوارج بسببِ تكفيرِ المسلمين مِنَ التَّشديد ما لم يرِدْ في غيرهم، فنعوذُ بالله من غضب الله.
وقد نصر هذا القولَ الفقيهُ العلاَّمَة المحدِّثُ محمدُ بن منصورٍ الكوفي (6) الشيعيُّ محبُّ آل محمدِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم،
__________
(1) في (ش): الناظر.
(2) في (ش): هذا.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ب): إثبات.
(5) " من المسلمين " ساقطة من (ب).
(6) تقدم التعريف به في 2/ 403، وانظر " تاريخ التراث العربي " 3/ 333 - 335.(3/335)
وصنَّف فيه كتابَه المعروف بكتاب " الجملة والألفة "، ونقل فيه عن قدماء أئمة أهل البيت عليهم السَّلامُ الذين عاصرهم، كأحمد بن عيسى، والحسن بن يحيى، والقاسم عليهم السلامُ فأطال وأطاب وأفاد وأجاد (1)، وسيأتي مِنْ ذلك قطعة وافرة في (2) آخِرِ الكلام في مسألة القرآن، وهي خاتمةُ الكلام في الصِّفات، ويأتي بعضُه في مسألة (3) نفوذ (4) إرادة الله (5) تعالى، وقد جمعتُ فيه أيضاًً كتاباً لطيفاً سميتُه " ترجيح أساليب القرآن لأهل الإيمان على أساليب اليونان في أصول الأديان وبيان أن (6) ذلك إجماعُ الأعيان ".
وممَّن نصر (7) ذلك: الغزالي في كتابه " الكشف والتبيين في غرور الخلق أجمعين " (8)، مع أنَّه من أئمة المتكلمين لولا أنَّه خالف السنة (9) في نسبة الغرور إلى الخلق (10) أجمعين، فقال ما لفظه: وفرقةٌ أخرى اشتغلوا بعلم الكلام، والمجادلة، والردِّ على المخالفين، وتتبع مناقضاتهم، فاستكثروا منَ المقالات (11) المختلفة، واشتغلوا بتعليم الطريق في مناظرة أولئك وإفحامهم، ولكنَّهم على فرقتين: الأولى مُضلة
__________
(1) ساقطة من (أ)، وفي (ش): وأجاد وأفاد.
(2) " في " لم ترد في (ب) و (ش).
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ج): بقول.
(5) في (ش): الإرادة لله.
(6) " أن " ساقطة من (أ).
(7) في (أ): " انظر "، وهو خطأ.
(8) ص 214 - 215، وهو ملحق بكتاب " تنبيه المغترين " للشعراني.
(9) في (ش): النسبة.
(10) " إلى الخلق " ساقطة من (أ).
(11) في " الكشف والتبيين ": من علم المقولات.(3/336)
ضالة (1)، والأخرى مُحِقَّةٌ.
أمَّا غرور الفرقة الضالة، فلغفلتها عن ضلالتِها، وظنِّها بنفسها النَّجاة، وهم فِرَقٌ كثيرة، يُكَفِّرُ بعضُهم بعضاً، وإنَّما ضلُوا من حيث إنهم لم يُحْكِمُوا (2) شرائطَ الأدلة، ومنهاجها (3)، فرأوا الشبهة دليلاً، والدليل شبهة (4).
وأما غُرور الفرقة المحقة فمن (5) حيث إنهم ظنُّوا (6) بالجدل أنَّه أَهَمُّ الأمور، وأفضلُ القربَاتِ في دين الله، وزعمت أنَّه لا يَتمُّ لأحدٍ دينُه ما لم يَفْحَصْ، ولم يبحث، وأنَّ من صَدَّقَ اللهَ من غير بحثٍ وتحريرِ دليلٍ، فليس بمؤمنٍ، أو ليس بكامل (7)، ولا مُقرَّب عند الله، ولم يلتفتوا إلى القرن الأوَّل، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهد لهم بأنهم خَيْرُ الخلقِ، ولم يطلب منهمُ الدَّليل، وروى أبو أمامة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم " ما ضَلَّ قَوْمٌ قَط إلا أُوتُوا الجَدَلَ " (8). انتهى.
__________
(1) في " الكشف ": ضالة مضلة.
(2) في (ج) " يحكوا "، وهو خطأ، وفي " الكشف ": لم يحكموا الشروط.
(3) في (أ): ومنها فرقة حمقاء.
(4) " والدليل شبهة " ساقطة من (ش).
(5) في (ش): من.
(6) في (أ): طلبوا.
(7) في " الكشف ": فليس بمؤمن ولا بكامل.
(8) أخرجه أحمد 5/ 252 و256، والترمذي (3253)، وابن ماجة (48)، والطبري 25/ 88، واللالكائي (177) من طرق عن حجاج بن دينار، عن أبي غالب (وقد تحرف في " سنن ابن ماجة " إلى أبي طالب)، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ضل قوم بعد هُدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجَدَل " ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} وسنده حسنٌ، وقال الترمذيُّ: حسن صحيح. وصحَّحه الحاكم 2/ 447 - 448، ووافقه الذهبي، ونقل المُناويُّ في " فيض القدير " 5/ 453 عن القاضي: أن المراد =(3/337)
وفيه إيهامُ قبح (1) الجدل مطلقاً، وليس كذلك، فإنّ الجدل عَنِ الحقِّ مما وصف اللهُ به أنبياءَه وأولياءه، وأمر به رسولَه - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحِكمَةِ والمَوْعظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون} [العنكبوت: 46]. إنَّما القبيح المِراءُ، وهو ما يَغْلِبُ على الظَّنِّ أنَّه يُهِيجُ الشَّرِّ، ولا يَقْصِدُ به (2) صاحبه إلاَّ حظَّ نفسه في غلبة الخُصوم. وقد يَشْتَمِلُ الجَدَلُ على ألفاظٍ بشعة، فلا بقْبُحُ مع الحاجةِ إليها، وحسْنِ (3) القصد فيها، كما قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود: 13]، وكما حكى من أقوالِ الكفار، كقول أهل الكتابين: إنَّ عزيراً ابنُ الله، وإنّ المسيح ابن الله، وإن الله ثالثُ ثلاثة، وإنَّ الله فقيرٌ، تعالى عمَّا يقولون عُلُوَّاً كبيراً.
وقال شيخُ الإِسلام، ناصِر السنةِ، أبو إسماعيل، عبد الله بن محمد الأنصاري الحنبلي في كتابه الشهير بـ " منازلِ السائرين إلى اللهِ تعالى " (4) في باب المعرفة: إنَّ الدرجة الأولى منها (5) معرفةُ النعوت والصِّفات التي
__________
= التعصبُ لترويج المذاهب الكاسدة، والعقائد الزائفة، لا المناظرة لإظهار الحقِّ، واستكشاف الحال، واستعلام ما ليس معلوماً عنده، أو تعليم غيره ما عنده، لأنَّه فرضُ كفاية خارج عما نطق به الحديث.
(1) تحرف في (أ) إلى: إبهام فتح.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش): ولحسن.
(4) 3/ 345 مع شرحه " مدارج السالكين " للعلامة ابن القيم. وانظر ترجمة أبي إسماعيل الأنصاري في " السير " 18/ 503 - 518.
(5) في (ش): فيها.(3/338)
وردت أساميها بالرسالة، وظَهَرَتْ شواهدُها في الصَّنعة بتبصيرِ النُّورِ الدائم في السِّرِّ، وطيبِ حياة العقل لزرع الفكرِ، وحياةِ القلب: بحسن النظرِ بين التَعظيم وحسنِ الاعتبار، وهي (1) معرفةُ العامة التي لا تنعقِدُ شرائطُ اليقين إلاَّ بها، وهي على ثلاثة أركان: إثبات الصفة (2) باسمها من غير تشبيه، ونفي التشبيه عنها (3) من غير تعطيل، والإياسُ مِن إدراكِ كُنهها (4)، ومن ابتغاء تأويلها (5).
وهذه جملة شرحُها في الكلامِ الآتي بعدَها في الوظائف (6) إن شاء الله تعالى وهذا أخصر كلام وجدتُه من كلام الطائفة الأولى من المحدثين وهم جمهورهم، والظاهر أن صاحبَه (7) أخفى نفسه، إمّا لِتَخْلُصَ له نيَّته فيه لنصيحة (8) المسلمين أو لِيَسْلَمَ من ألسنة المتكلِّمين (9)، وقد نقلته جميعَه بألفاظه إلا القليل (10)، وأنا أنَبِّهُ على ذلك (11) القليل غالباً، كما زِدْت (12) فيه زيادات يسيرة قد نبهت (13) عليها، وإذا تأملتَه وتأملتَ ما ذكره
__________
(1) في (ب): وهو.
(2) في (أ) و (ش): " الصنعة "، وهو تحريف.
(3) من قوله: " من غير تشبيه " إلى هنا ساقط من (ب).
(4) في (ش): إدراكها.
(5) في (أ): " انتفائها "، وهو خطأ.
(6) في (ش): " الوصائف "، وهو تحريف.
(7) ساقطة من (ش).
(8) في (ش): " لفضيحة "، وهو تحريف قبيح.
(9) في (أ): المسلمين.
(10) " إلا القليل " ساقطة من (ش).
(11) في (ش): وإن فات.
(12) في (أ): وزدت.
(13) في النسخ: ونبهت.(3/339)
ابنُ تيمية وسائرُ متكلمي أهل (1) السنة في مسألَتي الصِّفات والأفعال، وجدتَ الجميع كالشرح لما روي عن عليٍّ عليه السلامُ أنَّه قال (2): التوحيد: أن لا توهّمه، والعدل: أن لا تَتَّهِمَهُ، فيا له مِن كلامٍ ما أبلغه، وأوجزه، وأجمعَه، وأنفعَه، فإنه لا يَضُرُّ تقريرُ الظواهر معه، ولا ينفعُ التعمق (3) في النظر والتأويل إلا به، إليه يفيء الغالي، وبه يلحق التالي، وما يَعْقِلُها إلا العالمونَ، وهو ثمرةُ شجرة الكتب المبسوطات، ودُرَّةٌ صدفِ التآليف المطولات، ولُبابُ قشرِ العبارات (4) المختلفات، ولا يلزم معه شنَاعَاتُ الجبر والتشبيه، ولا ينفع دونَه دعاوي العدلِ والتنزيه، فشُدَّ عليه يديك (5)، وأَلْقِمْ به الحَجَرَ كُلَّ معترضٍ عليك.
قال المصنِّفُ (6) بعد الخطبة: وها أنا أُرَتِّبُ ذلك على بابين: بابٍ في بيانِ حقيقة مذهب السَّلف في الآي والأخبار، وباب في البرهان على أنَّ الحقَّ في ذلك مذهبُ السّلَفِ.
الباب الأول: اعلم أنَّ مذهب السَّلف أنّ كُلَّ من بلغه حديثٌ من أحاديث الصِّفات، يجب عليه فيه سبعةُ أمور: التَّقديسُ، ثمَّ التَّصديقُ، ثمَّ الاعترافُ بالعجز، ثمَّ السُّكوتُ، ثم الإمساكُ، ثم الكَفُّ، ثم التَّسليمُ.
أمّا التقديسُ، فتنزيهُ الله تعالى عن مشابهةِ المخلوقات جميعها.
__________
(1) " أهل " ساقطة من (ش).
(2) " أنَّه قال " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): التعميق.
(4) من قوله: " التالي " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (أ) و (ج): بذلك.
(6) هذا الكلام من هنا وإلى الصفحة 387 منقول عن " الجام العوام " للإمام الغزالي باختصار وتصرف في بعض الألفاظ.(3/340)
وأمَّا التَّصديقُ، فهو الإيمانُ بأنَّ ما ذكره حق (1) على الوجه الذي قاله وأرادَه.
وأما الاعترافُ بالعجز، فهو أن يُقِرَّ بأنّ معرفةَ (2) مراده عليه السَّلامُ ليس مِنْ شأنِهِ.
وأمّا السُّكوتُ: فهو أن لا يسألَ عن معناه، ولا يخوضَ فيه، ويَعْلَمَ أنّ سؤالَه عنه بدعةٌ، وأنَّهُ في خوضه فيه مُخَاطِرٌ بِدِينِهِ، وأنه يُوشِكُ أن يكفر لو خاض فيه، وهو لا يشعُرُ.
وأمّا الإِمساكُ: فلا يتصرَّفُ في تلك الألفاطِ بالتَّصريفِ، والتبديل، والزيادةِ فيه، والنُّقصانِ منه، والجمعِ والتفريق، بل لا يَنْطقُ إلاَّ بذلك اللفظ، وعلى ذلك الوجه.
وأما الكَفُّ: فإنَّهُ يَكُفُّ باطِنَه عَني البحث عنه، والتَّفَكُّرِ فيه.
وأمّا التَّسلِيمُ: فأن لا يَعْتَقِدَ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابِهِ وتابعيهم تُهْمَةً، ولا يُوَجِّهَ إليهم ظِنَّة، لقيامِ الدليل على صدقه - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفتِهِ بما يجوزُ على الله تعالى مِمّا لا يجوز، وعدالةِ الصَّحابة وتابعيهم، وثناءِ الله تعالى عليهم في كتابه العزيز، وشهادتِهِ لهم بأنَّهم خيرُ القرون بَعْدَه.
فهذه سَبْعُ وظائف اعتقد كافةُ السلفِ وجوبَها، فلنشرحها بعون الله تعالى.
الوظيفة الأولى: التقديس: وهو أنَّهُ إذا سَمِعَ ذكرَ اليدِ في كتاب الله
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (أ): " معرفة الله تعالى " وهو خطأ.(3/341)
تعالى، وفي سُنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يَحْمِلْ ذلِكَ على الجارحةِ المركَّبة مِنَ اللّحْم، والدَّم، والعظم، والعَصَب في الجسم المخصوص، ولا على اليَدِ المستعارة مِنْ نحو القُدْرَةِ، والنِّعمة، وما أشبهه، وأن يعتقِدَ أنّ اليَدَ صِفَةٌ لذي الجلال والإكرام، لا تتكيَّف للمخلوق، ولا يعْلَم كنهُ حقيقتها (1)، وليس عليه في ذلِكَ تكليف أصلاً، وكذلِكَ سائر صفاتِ الله تعالى الواردة في كتابه، وعلى لسانِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى قوله: فإن خَطَرَ له أنّه لم يرد هذا المعنى، فما المعنى؟ فينبغي أن يَعْلَمَ أنَّ ذلِكَ لم يُؤْمَرْ به، بل أُمِرَ أن لا يخوضَ فيه، فإنه ليس على قدر طاقته، وأنّ ذلِكَ ليس بِعُشِّكَ فادْرُجْ (2)، واشْتَغِلْ بعبادتِكَ أو حِرْفَتِك (3)، واسْكتْ، فقد خفَّفَ الله عنك.
الوظيفة الثانية: الإِيمانُ والتصديق: وهو أن يَعْلَمَ قطعاً أنّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في وصف الله تعالى بذلك صَادِقٌ (4) وليقل: آمنّا وَصدَّقْنَا.
__________
(1) قال ابن القيم في " المدارج " 3/ 359 تعليقاً على قول الهروي: " والإياس من إدراك كنهها وابتغاء تأويلها " يعني أن العقل قد يئس من تعرف كُنه الصفة وكيفيتها، فإنه لا يَعْلَمُ كيفَ الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف: " بلا كيف "، أي: بلا كيف يعقله البشر، فإن مَنْ لا تُعلمُ حقيقةُ ذاتِهِ وماهيتُهُ كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته؟ ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، وصرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم، فكيف يطمع العقلُ المخلوق المحصور المحدود في معرفة كيفية من له الكمال كله، والجمال كله، والعلمُ كله، والقدرةُ كلها، والعظمة كلها، والكبرياء كُلُّها.
(2) اقتباس من المثل: " ليس هذا بعشِّكِ فادْرُجي " وفسره الأصمعي وغيره كما في " فصل المقال " ص 403: أي: ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق، فدعه، وقد يضرب مثلاً للرجل ينزل المنزل لا يصلح له.
وقال الميداني في " مجمع الأمثال " 2/ 181 أي: ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق، فدعيه، يقال: درج أي: مشى ومضى، يُضرب لمن يرفع نفسه فوق قدره.
(3) في (ش): بحرفتك.
(4) في (ب): " صادقاً "، وهو خطأ.(3/342)
فإن قيل: التصديقُ لا يكونُ إلا بَعْدَ التَّفَهُّمِ، وهذه الألفاظُ إذا لم يَفْهَمِ العبْدُ معانِيَهَا، كيف يعتقِدُ صِدْقَ قائِلِهَا فيها؟
والجوابُ: أنَّ التصديقَ بالأمور الجُمْلِيَّةِ ليس بمحالٍ، كالتصديقِ بالله تعالى، وملائكَتِهِ، وكتبه، ورسلِهِ مِن غيرِ تفصيل، ويُمْكِن أن يُفْهَم مِنْ هذِهِ الألفاظِ أُمورٌ جُمْلِيَّةٌ غَيْرُ مفصَّلةٍ، كما لو قال قائل: في البيت حيوانٌ، أمكنَ أن يصدق دون (1) أن يعرفَ أنَّه إنسانٌ، أو فرس، أو غيره، بل لو قال: في البيت شيءٌ، أمكن تصديقُهُ، وإن لم يعرف ما ذلِكَ الشيءُ، فكذلِكَ الاستواءُ على العرشِ، فُهِمَ على الجملةِ، وأمكن التصديقُ به قَبْلَ أن يُعرف (2) معنى الاستواء، يعني على التفصيل.
فإن قيل: فقد قال اللهُ تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل: 43].
فالجواب: أنَّه أمر (3) بسؤالهم فيما يُطِيقُونَهَ، وأمّا ما لا يطيقونه ولا يعلمونه، فقد قال الله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، و {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101].
قلت: وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، وقال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].
قال الشيخ: ولكن تقديسَه سبحانه ينبغي أن يكون مُفَصَّلاً، وهو نفي
__________
(1) في (ش): من دون.
(2) من قوله: " تصديقه " إلى هنا ساقط من (ش).
(3) في (ش): أمرهم.(3/343)
مشابهة المخلوقات جميعها (1).
قلت: يعني أنّه لا يلزم من الوقف في تفسير آياتِ الصِّفات عَدَمُ الجزمِ بأنّ الله تعالى لا يمَاثِلُ شيئاً منَ المخلوقات، وذلِكَ لأن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] من المُحْكَمَاتِ.
وقد ترك الشيخ سؤالاً مشهوراً للمتكلمين، وهو: أنَّه يجب في حكمة الله أن لا يُخَاطبَنَا بما لا نَعْرِفُ معناه، وقد أُجِيبَ عن ذلك بأمورٍ كثيرة تأتي إن شاء اللهُ تعالى في آخر هذا الكتابِ عندَ الكلام على التَّأويل، فلا نطولُ بذكره ها هُنا، ومِنْ أخصرها وأحلاها أنَّهم إن أرادوا أنّ الله تعالى لا يُخَاطبُنَا بما لا نفهم منه شيئاً البتة، لا جملةً ولا تفصيلاً، فمسلَّمٌ ولا يَضُرُّ تسليمه؛ لأنّا لم نحتج إلى القولِ به، وإن أرادوا أنّه لا يجوز أن يُخَاطِبَنا بما لا نفهمه تفصيلاً، وإن فهمناه جملةً فممنوع (2)، فإنه قد ورد في كتاب الله تعالى مِمَّا يجب علينا الإيمانُ به، ذكر ما لا يُفْهَمُ إلا جملةً، وذلِكَ أمورٌ عديدة.
منها: معرفتُهُ سبحانه والإِيمانُ به، ولا يَصِحُّ إلا جملةً، كما قال تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110].
ومنها: ملائكتُه، وكتُُُبه، ورسُلُه على العموم، والدار الآخرة، ولو لم يصحَّ ذلك، لم يصح إيمان العجمي ببلاغة القرآن وإعجازه، ولا إيمان (3) العاميِّ بالمتشابه، ولوجب على عوامِّ المسلمين أن يكونوا منَ الرَّاسخين، وعلى الرَّاسخين أن لا يتوقَّفُوا في معنى شيءٍ مِنْ كتاب ربِّ
__________
(1) في (ش): جميعاً.
(2) في (ش): ممنوع.
(3) في (ب): والإيمان.(3/344)
العالمين، وكلُّ ذلِكَ خلافُ المعلوم.
الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجزِ عن معرفةِ حقيقة هذه المعاني، فإنَّه إنِ (1) ادَّعى ذلِكَ، كذب. وهذا معنى قولِ مالكٍ رحمه الله: الكيفيَّةُ مجهولة، يعْني: التفصيلُ المرادُ به غير معلوم.
قلت: العَجْزُ عن المعرفة التفصيلية في ذاتِ الله وصفاته (2) ضروري؛ لأنَّ كلَّ ما لَمْ يُشَاهَدْ، ولا مثْلَ له في المشهوداتِ، استحال تصوُّره في الذَّهن، وما استحال تصوُّره، استحال أن يُعْرفَ إلاَّ على سبيل الجملة، ولو (3) لم نعرف النُّورَ أو غيره، وسمعنا ذكرَه، ما أمكن تصوُّرُه، ولو تصوَّره متصوِّرٌ مِنْ غيرِ معرفة، وقع في الخطأ، ولذلِك لا يُمْكِنُ تعريفُ الصغير لَذَّة النَّكاح على التَّفصيل، وَمَنْ قال له: إنَّه حُلْوٌ كالسُكَّرِ على جهة التَّقريب له، أخطأ، فكيف لا يجب الاعترافُ (4) بالعجز (5) وهو ضروري؟
قال الشيخ: الوظيفة الرابعة: السُّكوت؛ لأنَّهم بالسُّؤال متعرِّضُون لمَا لا يُطِيقونه، وخائِضُون فيما ليس هُمْ أهلاً له، فإنْ سأل السَّائل، جاهلاً، زاده جوابُهُ جهلاً، وربما ورَّطه (6) في الكُفْرِ مِنْ حيث لا يشعر، وإنْ سألَ عالماًً، عَجَزَ عن تفهيمه (7)، لِقصور فهمه هو، فالعامَّةُ والخاصَّةُ
__________
(1) " إن " ساقطة من (ب).
(2) " وصفاته " ساقطة من (ش).
(3) في (ش): "فلو"، وفي (ج): ولم يعرف.
(4) عبارة " لا يجب الاعتراف " ساقطة من (ش)، وفي (ب): لا يعترف.
(5) في (ش): العجز.
(6) في (ش): وسطه.
(7) في (ش): تفهمه.(3/345)
عاجزون عن معرفة كيفيَّة الأمور الإِلهية، قاصِرُونَ عن إدراكها، فَمنْ فعل ذلك، وجب على السُّلطانِ زجْرُه، ومنعُهُ، وضربه بالدِّرَّة، كما فعل عُمَرُ رضي الله عنه بِمَنْ يسألُ عَنِ الآياتِ المتشابهة (1)، وكما فَعلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الإنكار على قوم رآهم يخوضُونَ في القدر، ويسألون عنه فقال: " أبِهذا أُمِرْتُمْ؟ " (2) وقال عليه السَّلام: "إنَّمَا أهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكمْ كَثْرَةُ
__________
(1) أخرج الدارمي في " سننه " 1/ 54، والآجري في " الشريعة " ص 73، واللالكائي (1138) من طريقين عن حماد بن زيد، حدثنا يزيد بن حازم، عن سليمان بن يسار أن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ بن عسل قَدِمَ المدينة وكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فبعث إليه، وقد أَعَدَّ له عراجين النخل، فلمَّا دخل عليه جلس، فقال له عمر رضي الله عنه: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله صُبيغ، فقال عمر رضي الله عنه: وأنا عبد الله عمر، ثم أهوى إليه، فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجَّه، فجعل الدمُ يسيل على وجهه، فقال: حسبُك يا أميرَ المؤمنينَ، فقد واللهِ ذَهَبَ الذي كنتُ أَجِدُ في رأسي. وانظر " الإصابة " 2/ 191.
(2) أخرجه ابن ماجه (85)، وأحمد 2/ 178 من طريقين عن أبي معاوية، حدثنا داوود بن أبي هند، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: خرجَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم والناسُ يتكلمون في القَدَرِ، قال: وكأنما تَفَقَّأ في وجهه حَبُّ الرُّمَّان من الغضب، قال: فقال لهم: " ما لكم تَضْربون كتاب الله بعضَه ببعضٍ؟ بهذا هَلَك منْ كان قبلكُم " قال: فما غبَطْتُ نفسي بمجلس فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أشْهَدْه، بما غبَطتُ نفسي بذلك المجلس، أَنَّي لم أَشْهَدْه. وصحح إسنادَه البوصيريُّ في " الزوائد " ورقة 7، والصواب أنَّه حسن. وانظر " شرح السنة " 1/ 260 - 262.
وأخرجه أحمد 2/ 181 عن أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: لقد جلستُ أنا وأخي مجلساً ما أُحِبُّ أن لي به حُمْر النَّعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخةٌ من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلوس عند باب من أبوابه، فَكرِهْنا أن نُفرِّقَ بينَهم، فجلسنا حجرةً، إذْ ذكروا آية من القرآن، فتمارَوْا فيها، حتى ارتفعت أصواتُهم، فخرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُغْضباً قد احمَّر وجهُه، يرميهم بالتُّراب، ويقول: " مهلاً يا قوم، بهذا أُهْلِكت الأمَمُ من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكُتُب بعضَها ببعضٍ، إن القرآن لم ينزلْ يُكذِّب بعضُه بعضاً، بل يُصَدَّقُ بعضُه بعضاً، فما عَرَفْتُم منه، فاعملوا به، وما جهلتُم منه، فردُّوه إلى عالِمِه ".
وقوله: " حُمْر النَّعَمِ " النَّعَم -بفتح النون والعين-: الإبل، والحمرُ: جمع أحمر، والبعير الأحمر: الذي لونه مثل لون الزعفران إذا صُبغَ به الثوبُ، وقيل: بعير أحمر: إذا لم =(3/346)
مسَائِلِهِمْ" (1).
قلتُ: الحديثِ الثاني متَّفَقٌ على صحَّته، والأول جاء بأسانيد كثيرة (2) مجموعها يقضي بقوتها (3) كما يأتي عند ذكر القدر في مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى.
قال الشّيْخُ: الوظيفة الخامسة: الإمساكُ عَنِ التَّصَرُّفِ في الألفاظِ الواردة.
وشرحُ ذلكَ: أنَّهُ يجبُ الجُمودُ على ألفاظِ هذِه الأخبار، والإمساكُ عَنِ التَّصَرُّفِ فيها من أربعة أوجه: التَّفسير، والتَّأويل، والتَّصرُّف، والتَّفريع.
__________
= يخالط حمرتَه شيء، والإبل الحمر أصبر الإبل على الهواجر، والعرب تقولُ: خيرُ الإبل حمرها، وصُهبها، ومنه قول بعضهم: ما أحب أن لي بمعاربض الكلم حُمْرَ النِّعَم. " لسان العرب ": حمر.
وأخرجه عبد الرزاق (20367)، ومن طريقه أحمد 2/ 185، والبخاري في " أفعال العباد " ص 43، والبغوي في " شرح السنة " (121) والآجري في الشريعة ص 67 - 68 عن معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده قال: سَمِعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوماً يتدارؤون، قال الرمادي: يتمارَوْن، فقال: " إنَّما هَلَكَ من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضه ببعض، وإنما نَزلَ كتابُ الله عزَّ وجَلَّ يُصَدِّقُ بعضُه بعضاً، فلا تكذِّبوا بعضَه ببعض، فما علمتُم منه فقولوه، وما جهلتُم فَكلوه إلى عالِمه ".
وأخرجه مختصراً أحمد 2/ 191، ومسلم (2666)، من طريقين عن حماد بن زيد، عن أبي عمران الجَوْني قال: كتب إليَّ عبد الله بن رباح يُحدِّث عن عبد الله بن عمرو، قال: هجَّرتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً، فإنا لجُلُوس إذِ اختلفَ رجلان في آيةٍ، فارتفعتْ أصواتُهُما، فقال: "إنما هَلَكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب".
(1) تقدم تخريجه 1/ 219، وأزيد عليه هنا أنه: صححه ابن حبان (18) بتحقيقنا، واستوفيت تخريجه هناك.
(2) في (ش): كثيرة كثرة.
(3) في (ش): بقوتها ثبوتها.(3/347)
أمّا التَّفسيرُ: فأعني به تبديلَ اللّفْظِ بلغةٍ أُخرى يقوم مقامَها بالعربية (1) أو يُؤَدِّي معناها بالفارسية أو (2) التُّركية، بل لا يجوز النطقُ إلا باللفظِ الوارِدِ، لأن منْ ألفاظ العربيّةِ ما لا يوجَد له فارسيةٌ مُطابقةٌ، ومنها ما يُوجدُ له فارسيةٌ مُطابقة، لكنْ ما جَرَتِ عادةُ الفرس باستعمالها في المعاني الّتي جَرَتْ عادةُ العرب باستعمالها فيها، ومنها ما يكون مشتركاً في العربيَّة، و (3) لا يكون في العَجَمِيَّةِ كذلِكَ، ثمَّ إذا انقسمت هذه الأشياء إلى ما يجوز، وما لا يجوز، وليس إدراك التمييز بينها (4)، ولا الوقوف على دقائق التّمييز بينها، ولا الوقوف على دقائق (5) التفاوت (6) جلياً سهلاً (7) يسيراً، بل يَكْثُرُ فيه الإِشكالُ، ولا يتميزُ محل التَّفاوت عن مَحَلِّ التَّعادل، فَحَسْم الباب احتياطاً -إذ لا حاجَةَ ولا ضرورةَ إلى التَّأويل- أوْلى منْ فتح الباب، وإقحام (8) الخلقِ وَرْطَةَ الخطر.
فليت شعري: أيُّ الأمرين أحزمُ، وأحوط، وأسلمُ، والمتصرّف فيه ذاتُ الله وصفاته، وما عندي أنَّ عاقلاً متديِّناً يخفى عليه أنَّ هذا الأمرَ مُخْطِرٌ (9)، وأن الخَطَرَ في الصِّفات الإلهية يجبُ اجتنابُهُ، وقد أوجبَ الشَّرعُ على الموطوءة العِدَّة لِبَراءة الرَّحم، والحذر مِنْ خلطِ الأنسابِ
__________
(1) في (ش): باللغة العربية.
(2) "أو" سقطت من (ش).
(3) الواو ساقطة من (ش).
(4) في (ش): منها، وفي (ج): بينهما.
(5) من " التمييز " إلى هنا ساقط من (ش).
(6) من " بينها " إلى هنا ساقط من (ج).
(7) ساقطة من (ج).
(8) في (ش): واقتحام.
(9) في (ش): حطر.(3/348)
احتياطاً لحكم الوراثة (1)، والولاية وما يترتَّبُ على النّسَبِ، فقالوا مع ذلك: تجبُ العِدَّةُ على العقيم، والآيسة، والصَّغيرة، وعِنْدَ العَزْل؛ لأنَّ باطِنَ الأرحام إنَّما يَطَّلِعُ عليها علاَّمُ الغُيوب، فلو فتحنا بابَ النَّظر في التَّأويل، كُنَّا راكبين مَتْنَ الخطر، فكما أن إيِجابَ العِدَّةِ حُكْمٌ شرعيٌّ يَثبتُ (2) بالاجتهاد ويترجَّح (3) طريقُهُ بالأولى، فنعلم أن هذا الاحتياط في الخَبَر عَنِ الله تعالى، وَعَنْ صفاته أهمُّ وأوْلَى مِنَ الاحتياطِ في العِدَّةِ، و (4) في كلِّ ما احتاط الفقهاءُ فيه مِنْ هذا القبيل.
وأمّا التَّصَرُّف الثَّاني: وهو بالتَّصرف بالتَّأويل، وهو بيانُ معناه بعدَ إزالة ظاهرِه، فهذا إمّا أن يَقَعَ مِنَ العامِّيِّ مع نفسه، أو مِنَ العالِمِ مع العامِّيِّ، أو مِنَ العالِمِ مع نفسه، بينَه وبَيْنَ ربه، فهذه ثلاثةُ مواضع.
الأول: تأويلُ العامِّيِّ على سبيلِ الاستقلال بنفسه، فهو حرامٌ، يُشْبِهُ خوضَ البحرِ المغرقِ (5) مِمَّن لا يُحْسِنُ السَّباحة، فلا شكَّ في تحريمه، وبَحْرُ معرفة ذاتِ الله وصفاته أبعدُ غوراً، وأكثرُ معاطِبَ ومهالك من بحر الماء.
الموضع الثاني: أن يكونَ ذلِكَ مِنَ العالِمِ مع العامِّيِّ، وهو أيضاً ممنوع، ومثاله: إنْ بحَّرَ الغواصُ (6) مع نفسِهِ عاجزاً عَنِ السِّباحَةِ، مضطربَ القلب والبدنِ، وذلك حرامٌ، لأنَّهُ يعرِّضه لخطرِ الهلاك، فإنَّه لا
__________
(1) في (ش): الورثة.
(2) في (ش): ثبت.
(3) في (ش): وترجح ويترجح.
(4) من قوله: "الخبر" إلى هنا ساقط من (ش).
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): الغوامض، وهو خطأ.(3/349)
يقوى على حفظه في لُجَّةِ البحر، لقلَّة علمهِ بِعُمْقِ البحر، وتماسيحه وقُروشِهِ، وإن قَدَرَ على حفظه بالقُرْبِ مِنَ السَّاحل، إلى قوله: وفي معنى العامي: الأديبُ، والنَّحويُّ، والمُفَسِّر، والفقيهُ، والمتكلم.
قلت: في " صحيح البخاري " (1) عن عليٍّ رضوان الله عليه: لا تُحَدِّثوا النّاسَ بما لا تَحْتَمِلُهُ عُقُولُهُم، أتُحِبُونَ أن يُكذَّبَ اللهُ ورسولُهُ؟!
وصحَّ أيضاً عن معاذ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهاه أنْ يُخْبِرَ بالخبر الحقِّ الذي أخبره (2) به - صلى الله عليه وسلم - مِنْ نَجَاةِ مَنْ مات يشهدُ أن لا إله إلا الله مُخْلِصاً بها قلبُه (3)، وجاءَ النَّهي عَنِ الخبر بمثل ذلِكَ كثيراً؛ وذلك لأجل المصلحة،
__________
(1) رقم (127) في العلم، باب: من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، ولفظه: " حَدِّثوا الناسَ بما يَعْرفُونَ، أتحبون أنْ يُكَذَّبَ الله ورسولُه".
قال الحافظ: والمراد بقوله: " بما يعرفون " أي: يفهمون، وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له في آخره: " ودعوا ما ينكرون "، أي: يشْتَبِهُ عليهم فهمُه، وكذا رواه أبو نعيم في " المستخرج "، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قولُ ابن مسعود: " ما أنت محدثاً قوماً حديثاًَ لا تبلغه عقولُهُم إلا كان لبعضهم فتنة "، رواه مسلم 1/ 11 في مقدمة " صحيحها " وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن أنَّه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العُرنيين، لأنَّه اتَّخَذهَا وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي. وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غيرُ مراد، فالإِمساكُ عنه عند منْ يخشى عليه الأخذ بظاهرِهِ مطلوبٌ.
(2) في (ش): أخبر.
(3) أخرجه البخاري (128) و (129)، ومسلم (30) (48) عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم -ومعاذٌ رديفُه على الرَّحْل- قال: " يا معاذَ بن جَبَلٍ "، قال: لبيْك يا رسولَ اللهِ وسَعْدَيْك، قال: " يا معاذٌ "، قال: لبيْكَ يا رسولَ الله وسَعْدَيْكَ "ثلاثاً"، قال: " ما من أحدٍ يَشْهَدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبِه إلا حَرَّمَهُ اللهُ على النارِ "، قال: يا رسولَ اللهِ، أفلا أُخْبرُ به الناسَ، فَيَسْتَبْشِروا؟ قال: " إذاً يتَّكلُوا "، وأخبر بها معاذ عند موتِهِ تَأثُّماً. =(3/350)
فلا يمتنع كَتْمُ شيءٍ مِنَ الحقِّ الَّذي لا تَعَلَّقُ المصلحةُ بظهوره، ولا تَمَسُّ الحاجةُ إليه (1)، بل في قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، ما يدُلُّ على أنَّ جهل بعضِ العُلوم أولى، ويدلُّ على هذا مفهومُ قوله تعالى: {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيه} [الزخرف: 63]، وقوله: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، ومنه منعُ الملائكة مِمّا عُلَّمَهُ آدمُ مِنْ علم الأسماءِ، ومنعُ موسى مِمّا عُلّمَهُ الخَضِرُ مِنْ علمِ التّأويل، وفي الصحيح " أنَّ الخَضِرَ قال لموسى: إِنَّك على عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، فلا ينبغي لي أنْ أعْلَمَهُ، وإنِّي على علمٍ من عِلْمِ الله، لا ينبغي لَكَ أنْ تعلمَهُ " (2).
قال الشيخُ: الموضعُ الثالث: تأويلُ العالِمِ مع نفسِه في سِرِّ قلبه بينَه وبَيْنَ ربِّه، وذلك لا يخلو مِنْ ثلاثةِ أوجه:
إما أن يكونَ الذي انقدح في سِرَّه هو المرادُ به مقطوعاً به، أو مشكوكاً فيه، أو مظنوناً ظنّاً غالِباً، فالمقطوعُ به معدومٌ؛ لأن معرفته مِنْ
__________
= قلت: ظاهره غير مراد، لأن الأدلة من الكتاب والسنة متضافرةٌ على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون، ثم يخرجون من النار بالشفاعة، فتأوله العلماء فيمن قرن ذلك بالأعمال الصالحة، أو قالها تائباً، ثم مات على ذلك، أو أن ذلك خرج مخرج الغالب، إذ الغالبُ أنَّ الموحد يعمل الطاعة، ويجتنب المعصية، أو أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها.
والقول بأن ذلك كان قبل نزول الفرائض فيه نظر، لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم في " صحيحه " (31)، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى عند أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبو هريرة. وانظر " تحقيق كلمة الإخلاص " للحافظ ابن رجب، طبع المكتب الإسلامي.
(1) " إليه " ساقطة من (ش).
(2) أخرجه البخاري في " صحيحه " (4726) من طريق ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب رفعه .. ولفظه: " إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلَمَه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمَه .. ".(3/351)
قِبَل (1) الله تعالى، أو مِن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك غيرُ موجودٍ، وإنْ كان مشكوكاً فيه، فَلْيَجْتَنِبْهُ، ولا يَحْكُمَنَّ على مرادِ الله تعالى، ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - باحتمالِ معارضة (2) مثلِه مِن غيرِ ترجيحٍ، بَلِ الواجبُ على الشَّاكِّ (3) التَّوقُّفُ.
وإنْ كان مظنوناً، فإنَّ الظنَّ إذا انقدح في النَّفس، فلا يَدْخُلُ تحتَ الاختيارِ دَفْعُهُ، فإنَّ للظَّنِّ أسباباً ضرورية لا يُمْكِنُ دفعُها، ولا تُكَلَّفُ النَّفسُ إلا وُسْعَهَا، لكن عليه وظيفتان:
أَحَدَهُما: أن لا يدَعَ نفسَه تطمئنُّ إليه، ولا ينبغي أن يَحْكُمَ مع نفسه بموجب ظَنِّه، لنهيِ الله تعالى عَنْ ذلك فيما هو دُونَ هذا، فكيف بهذا (4) الأمر العظيم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنّ} [الحجرات: 12] الآية.
قلت: لو احتجَّ بالأحاديثِ المتضمِّنة للنَّهي عَنِ التَّفسير بالرَّأي، كان أصرح، وأسانيدُها تقوى بانضمامِ بعضها إلى بعضٍ، وخرج منها العملياتُ بإجماعِ الصَّحابة الظني السُّكوتيِّ التَّقريريِّ، حيث قرَّروا الصَّدِّيقَ رضي الله عنه على قوله في الكَلاَلَة: أقول فيها برأيي (5)، بل يمكن
__________
(1) في (ش): قبيل.
(2) في النسخ: " تعارضه "، والمثبت من (ش).
(3) عبارة " الواجب على الشاك " ساقطة من (ج).
(4) في (ش): هذا.
(5) أخرجه الطبري في " جامع البيان " (8745) و (8746) و (8747)، والبيهقي 6/ 223 - 224 من طرق عن عاصم الأحول، عن الشعبي قال: قال أبو بكر: إني رأيت في الكلالة رأياً -فإن كان صواباً، فمن الله وحده لا شريك له، وإنْ يكُ خطأ، فمني ومن الشيطان، والله منه بريء- أن الكلالة ما خلا الولد والوالد.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 756، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والدارمى، وابن المنذر.(3/352)
أن لا يكونَ كلامُ الصِّدِّيق تفسيراً، ولذلك قال: " برأيي " حتى يكون بريئاً مِنَ الخبر عَنِ الله تعالى في مُراده، وإنَّما قَصَدوا العملَ لأجل الضرورة فيه، لا الخبر عن الله تعالى، لأن الخبر عنه بالرّأي بمنزلة النُّبُوَّةِ بالرّأي، والوحيِ بالرأي، فالعمل يتفرَّع على الظن، ويترتَّبُ عليه؛ لأنَّ في مخالفة الظَّنَ بالعمل مَضَرَّةً مظنونةً، وركوبُ مثل ذلك قبيحٌ بفطرةِ العقول (1)، وشواهدِ المنقول، وفي الصَّحيح أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم: " أَرأيْتُمْ لَوْ أَنْذَرْتُكُمُ الجَيْشَ " (2) الحديثَ، فهم (3) عاملون بالظَّنِّ، غيرُ مخبرين عَنْ مُرادِ اللهِ، وذلك لا يتناقض، بل قد صحَّ إنّ ما سمَّاه أبو بكر رأياً هو معنى الكَلالةِ في اللُّغَةِ، وليس ذلك بِرأْيٍ على الحقيقة، لكِنَّهُ -لِشدَّةِ ورعه واحتياطه- سمَّاه رأياً، حيث تَمَسَّكَ بالظاهر مِنْ غير نصٍّ ثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال الشيخ: الثانية: أنَّه إنْ ذَكَرَه، لم يطلق القول بأنَّ المراد منه كذا وكذا، لأنَّه حكم بما لا يَعلم، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: 36].
ولا يجوز التَّحدُّثُ به مع الخلق؛ لأنَّهُ قادرٌ على تركه، وهو في ذكره
__________
(1) في (ش): العقل.
(2) أخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وأنذِرْ عشيرتَكَ الأقربين}، صَعِدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصفا، فجعل يُنادي: " يا بني فِهر، يا بني عدي " -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجلُ إذا لم يستطع أن يخْرُج، أرسلَ رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريشٌ، فقال: " أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغيرَ عليكم، أكنتم مُصَدِّقيِّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبْنا عليك إلا صِدْقاً، قال: " فإني نذيزٌ لكم بين يدي عذاب شديد "، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}.
(3) في (ش): وهم.(3/353)
متصرِّفٌ في ذات الله تعالى بالظنِّ، أو في مراده بكلامه، وفيه حظر، وإباحةُ ذلك لا تعرف إلاَّ بالنَّصِّ أو الإجماع، ولم يَرِدْ شيءٌ من ذلك، بل ورد قوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم}.
فإن قيل: يدلُّ على جواز الظَّنِّ ثلاثة أمورٍ:
الأوَّل: الدَّليل الذي دلَّ على إباحة الصِّدق، وهو صادق، فإنَّه لا يُخْبِرُ إلا عن ظَنِّهِ، وهو ظانٌّ.
الثّاني: أقاويل المفسِّرينَ في القرآن بالظَّنَ، إذ كلُّ ما قالوه غير مسموعٍ مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل مُستنبَطٌ بالاجتهاد ولذلك كَثُرتِ الأقاويلُ فيه، وتعارضت.
والثَّالث: إجماعُ التابعين على نقل الأخبارِ المتشابهةِ (1) الَّتي نقلها أجِلاَّء الصَّحابة، ولم تتواتر، وما اشتملت عليه الصِّحاحُ مِنَ الذي نقله العدلُ عَنِ العدلِ، فإنَّهم جوَّزوا روايتَه، ولا يَحْصُلُ بقولِ العدلِ إلا الظَّنُّ.
فالجوابُ (2) عن الأول: أن المُباحٍ صدق لا (3) يُخشى فيه ضررٌ، وبث هذه الظُنونِ لا يخلو عَنْ ضررٍ، لأنَّه يحكم (4) في صفاتِ اللهِ تعالى بغير علم، وهو خطر، فالنُّفوس نافِرَةٌ عَنْ أشكال الظَّواهر، فإذا وجدتَ مستروحاً مِنَ المعنى -ولو مظنوناً- أخْلَدْت إليه، ورُبَّما يكونُ غلطاً،
__________
(1) في (ش): " عن المتشابه "، وهو خطأ.
(2) في (ب): والجواب.
(3) في (ش): ولا.
(4) في (ب): تحكم.(3/354)
فيكون قد اعتقد في صفاتِ الله ما هو باطل، أو حكمَ عليه في كلامه بِمَا لم يُرِدْهُ.
قلت: لو احتجَّ الشَّيخُ هنا بالنُّصوص الواردة في النَّهي عن تفسير القرآن بالرأي، لكان جيِّداً، لأنها تقتضي ظنَّ التحريم في هذا الموضع دون سائِرِ المواضع المظنُونَة، فإنْ كان الظَّنُّ حجة، كان التَّمسُّكُ بها أولى لخصوصها بهذا الموضع، ورفعها للعمومات الدالةِ على أنَّ الظن حُجَّةً، فلا مانعَ من ورود (1) السمع بمنع الظَّنِّ لمصلحةٍ، كما منع من الرجم، والحكمِ بالزنى بشهادة أقل مِنْ أربعة، مع حُصول الظَّنِّ بشهادة الواحد، وهذا الوجه جيِّدٌ في الجواب في المواضع الثَّلاثة الَّتي ذكرها الشَيخُ.
قال رحمه الله تعالى: وأما الجواب على الثاني -وهو أقاويلُ المفسرين- فإنَّا لا نسلِّمُ ذلك فيما هو مِن صفات الله تعالى.
قلت: أو في صفاته مِمَّنْ يستحِلُّ ذلك، ويقلُّ وجودُه في المتقدِّمين، وَيكثُرُ في المتأخِّرين، ومستحلُّ ذلك بعضُ الأُمَّة، ولا حُجةَ في قولِ البعضِ، ولا يَصِحُّ منه شيءٌ عَنِ الصَّحابة وكُبراء التَّابعين.
قال الشَّيخ: بل لعلَّ ذلك في الأحكام الفقهية، أو في حكايات أحوالِ الأنبياء عليهم السَّلام، والكفارِ، والمواعظِ، والأمثالِ، وما لا (2) يُعْلَم خَطَرُ الخطأ فيه.
وأمَّا الجوابُ عن إجماع التّابعين على نقل الأخبار المتشابهة الّتي نقلها أجلاَّءُ الصَّحابة رضي الله عنهم، فقد قال قائلون (3): لا يجوز أن يُعْتَمَدَ
__________
(1) في (ش)، " ما ورد " مكان " من ورود ".
(2) في (ش): لم.
(3) ساقطة من (ش).(3/355)
في هذا البابِ إلاَّ على ما ورد في القرآن، أو تواترَ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمَّا أخبار (1) الآحاد، فلا يُشْتَغَلُ بتأويلها عند من يميلُ إلى التَّأويل، ولا روايتها عند من يعتمد على الرواية بالمظنون؛ لأنَّ ذلك حُكْم واعتمادٌ عليه، وما ذكره ليس ببعيد، لكنه مخالفٌ لظاهر ما دَرَجَ عليه السَّلَفُ رضي الله عنهم، فإنَّهم قَبِلُوا هذه الأخبار مِنَ العدول، ورَوَوْهَا وصحَّحُوها.
فالجواب (2): من وجهين:
أحدهما: أن التَّابعين قد عَرَفُوا مِنْ أدلَّة الشَّرع أنَّه لا يجوز اتِّهام العَدْلِ بالكذب، لا سيَّما في صفات الله تعالى.
قلت: وقد يمتنع حَمْلُ الرَّاوي على السهْوِ في ذلك بقرائنَ ضروريَّةٍ لا يُمْكِنُ التعبير عنها، لا سِيَّما عند تكرُّرِ ذلك منه، أو سؤاله عنه، وعدم تردُّدِه عندَ موجباتِ التَّردُّدِ مِنْ سماعه للخوض في ذلك، والاختلافِ الشديد بسبب روايته.
قال الشيخ: فإذا روى الصدِّيق رضي الله عنه خبراً، وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كذا، فَرَدُّ ذلك تكذيبٌ له، ونسبة (3) له إلى الوضع أو السَّهو، فقَبِلُوه، وقالوا: قال أبو بكر: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكذا التَّابعون. فالآن إذا ثَبَتَ عنهم بأدلَّة الشَّرع أنّه لا سبيلَ إلى اتِّهام العدلِ التَّقِيِّ مِنَ الصَّحابة، فَمنْ أينَ يَجِبُ أن لا تُتهم ظنونُ الآحادِ، وأن يُنزل الظَّنُّ منزلةَ نقلِ العدل عن العدل، مع أنَّ بعضَ الظن إثْمٌ؟ فإذا قال لهم الرسول: ما أخْبَرَكُمُ العدلُ، فصدِّقوه، وانقُلُوه، واظهِرُوه، ولم يقل:
__________
(1) في (ش): الأخبار.
(2) في (ش): والجواب.
(3) في (ش): ونسبته.(3/356)
ارْوُوا عَنْ ظُنونكم، وضمائِركم، ونفوسِكم ما قالَتْهُ، وليس هذا في معنى المنصوص (1)، فلهذا نقولُ: ما روي عن غيرِ العدل مِنْ هذا الجنسِ ينبغي أن نُعْرِضَ عنه، ولا يُروى، ونحتاط (2) فيه أكثر مِمَّا نحتاط في المواعظ والأمثالِ، وما يجري مجراها.
قلت: بل أكثر ممَّا يُحتاط في أحكام التَّحليل والتَّحريم.
والفرق بينَ خبرِ الواحد وسائرِ الظنون مجمعٌ عليه، فالأمَّةُ مُجْمِعَةٌ على أنَّ النص الذي يجبُ العملُ به، ولم يُعَلَّ (3) بما يَقْدَحُ فيه مانِعٌ مِنَ الظَّنِّ الناشىء عن الاجتهاد، ومقدَّمٌ عليه.
ومنْ ها هنا وجب اعتبارُ الشهاداتِ حيث لا تُعْتَبرُ الظنون، فيحكُم الحاكمُ في الحقوق بشهادةِ عدلين، ولا يحكم بقيامِ قرينتين ظنيَتين، وفي حدِّ الزنى بشهادة أربعةٍ عدول لا بظهور (4) أربع (5) قرائن ظَنية.
ومُنتهي الأمرِ أن الشَّرع منع بعض الظنون، وأباح بعضها، وذلك تفصيل لِمَا أشارَ إليه سبحانه وتعالى في قوله: {إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ} [الحجرات: 12].
ثمَّ قال الشيخُ: الجواب الثاني: أنَّ تلك الأخبارَ رواها الصَّحابة، لأنَّهم سمعوها مِنْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقيناً، فما نَقَلُوا إلا ما تَيَقَّنُوه، وكذلك
__________
(1) في (ش): النصوص.
(2) في (ش): ولا تحتاط.
(3) في (ش): يعمل.
(4) من " بشهادة عدلين " إلى هنا ساقط من (ش).
(5) في (ش): " أربعة "، وهو خطأ.(3/357)
التابعون، فإنهم عَلِمُوا (1) أنَّ الصحابة رَوَوْا ذلك، فَرَوَوْهُ عنهم، وما قالوا: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بل قالوا: قال فلانٌ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، فكانوا صادقين، ولم يُهْمِلُوا روايتَه لاشتمالِ كُلِّ حديثٍ عَلَى فَوائِدَ لا نَقِفُ على حقيقتها.
قلتُ: ونطلب (2) التَّوابعَ والشَّواهد، لعلها تَوَاتَر، كما قد كان (3) ذلك، فأنَّى يُساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس.
قلت: ولأنَّ العقول كما تحكم بالاحتياطِ في الخَبرِ عن ذات الله تعالى وصفاته ومرادِه في كتابه، وُيمنع (4) إطلاق ظنونِ الخلق (5) على كثرتها وتعارضِها لِمَا يَشْتَمِلُ ذلك عليه مِنَ المفسدة، فإنَّها -أيضاًً- تحكم بأنَّ ردَّ أخبارِ الثقات الذين لم تلحقْهُمُ التُّهمة بوجهٍ مِنَ الوُجوه أشدُّ مفسدة مِنْ ذلك، ولا سيَّما والقرآن شاهدٌ لأخبارهم في ذلك، إمَّا تفصيلاً، أو جملةً، فالتَّفصيلُ حيث تَوَارَدُ الأخبارُ والآياتُ على صِفَةٍ واحدة، والجملةُ حيث يَرِدُ الأثرُ بوصفٍ وردَ القرآن بنحوه، لا بمثلهِ، وأيضاً فمجموعُهَا يتواتر، ولو في المعنى الجُملِيِّ، كما قيل في شجاعة علي عليه السّلام، وجودِ حاتم.
قال الشَّيخ: وهذا تمامُ الكَفِّ عن التَّأويل والخوض فيه.
__________
(1) في (ش): عالمون.
(2) في (ج): ونطبع.
(3) في (ب): قد كان قدمنا.
(4) في (ش): ويمتنع.
(5) من قوله: " كما تحكم " إلى هنا ساقط من (ب).(3/358)
التَّصرُّف الثالث: الذي (1) يجبُ الإِمساكُ عنه: التصريفُ، وشرحه: أنَّه إذا ورد قولُه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [السجدة: 4]، فلا ينبغي أن يُقال: مستوٍ ويستوي، لأنَّ في تغيير التَصاريف ما يُؤثِّرُ في تغيير الدلالات والاحتمال (2)، فليجتنب التصرف كما يجتنب الزيادة، فإن تحتَ الزيادة نقصاناً وزيادة.
قلت: وعلى هذه القاعدة، فلا يُقال: إن الله تعالى مُرِيدٌ للقبائح، بل يُقتصر على أنَّه لو شاء ما عُصِيَ، وأنَّه (3) لو شاء، لهدى الخلق أجمعين من غير تأويلٍ لذلك، ونحوه ممَّا ورد به السَّمعُ المعلوم، فإن مخالفةَ عبارات السَّمع تحتمِلُ أمرين:
إما تغييرَ المعاني، وهو واضح ها هنا، فإنّ قولنا: " ما شاء اللهُ كان " مدحٌ عظيم لَا يَصْدُقُ إلا على ربِّ العِزة جلَّ وعَزَّ، ولا يُشارِكه فيه غيرُه البتَّة، فكيف يستلزمُ وصفه بأنه مريدٌ للقبائح، وهذه صفةٌ يشتركُ فيها جميعُ أهل العجز والنقص مِنَ الخلق، ويختصُّ بها مفردةً أهلُ الخسَّةِ مِن الخلق، وما (4) أفحشَ ما رامت المبتدعةُ مِنْ إلزام أهلِ السُّنَّةِ مثلَ ذلك، وقطعهم بأنَّ من قال: " ما شاء الله كان " مثلُ مَنْ قال: " إنَّه (5) مريد للقبائح " وسيأتي بيانُ بطلان ذلك في مسألة الإِرادة، فمِنْ ثمَّ منعنا مِنَ الرواية بالمعنى في القطعيَّات، وخصوصاً في الأسماء والصِّفات، وإنِ اعتقدَ المعترض أنَّها سواء، وإن قلنا: إنَّ ذلك لا يجوز إلا لعالم بما
__________
(1) في (ب): إنه.
(2) في (ش): والاحتمالات.
(3) " أنَّه " ساقطة من (ش).
(4) في (ش): فما.
(5) في (ش): بأنه.(3/359)
يُحيل (1) المعاني؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ من الخائضين حسنُ الرَّأي في نفسه، فقد يعتقد بعضُ النَّاسِ أنَّه مِنَ العارفين بذلك، وليس منهم، فيجبُ سَدُّ هذا الباب، كما اختاره مالكٌ وغَيْره في تحريمِ رواية الحديث بالمعنى (2)، وإن لم يتعلَّق بصفاتِ الله تعالى، فكيفَ إذا تعلَّق بذلك؟
وثانيهما: سُوءُ الأدبِ على تسليم عدمِ تغيير المعنى، فقد تَحْرُمُ بعضُ العبارات، كما لا يُقال في الدعاء: يا ربَّ الكلابِ والخنازير على الإفراد، بل يَجِبُ التعظيمُ أو التَّعميمُ، فالتعظيم مثل: يا ربَّ العرش الكريم، والتَّعميم مثل: يا ربَّ كُلِّ شيء، كما ورد السَّمعُ بذلك، ولذلك ورد وصفه تعالى بأنَّ بيده الخيرَ وهُو على كُلِّ شيءٍ قدير، فدخل الشَّرُّ في التَّعميم، ولم يُذكر بالتَّخصيص، فيقال: بيدِهِ الشَّرُّ وهو على كل شيء قديرٌ (3)، ولذلك قال العلماء: لا يُفْرَدُ (4) الضَّارُّ عَنِ النَّافع في أسمائه الحسنى، لأنَّه تعالى نافع، بِعَيْنِ (5) ما هو به ضار، مثالُه: مضرَّتُه
__________
(1) في (ش): يحل.
(2) في " الكفاية " للخطيب ص 188: قال مالك بن أنس: كُلُّ حديث للنبي - صلى الله عليه وسلم - يُؤدِّى على لفظه وعلى ما رُويَ، وما كان عن غيره، فلا بأس إذا أصابَ المعنى، وفيه: قال أشهب: سألتُ مالكاً عن الأحاديث يُقدَّمُ فيها ويؤخر، والمعنى واحد؟ فقال: أما ما كان منها من قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإني أكره ذلك، وأكره أن يُزاد فيها، ويُنقص منها، وما كان من قول غيرِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أرى بذلك بأساً إذا كان المعنى واحداً.
وفيه: عن معن سألت مالكاً عن معنى الحديث، فقال: أما حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدِّه كما سمعته، وأما غير ذلك، فلا بأس بالمعنى.
وقال السخاوي في " شرح الألفية " 2/ 243: وقيل: لا تجوز له الرواية بالمعنى مطلقاً، قاله طائفة من المحدثين، والفقهاء، والأصولين من الشافعية وغيرهم. قال القرطبي: وهو الصحيح من مذهب مالك.
(3) من قوله: " فدخل الشر " إلى هنا ساقط من (ش).
(4) " لا يفرد " ساقطة من (ج).
(5) في (ش): " يعني "، وهو خطأ.(3/360)
للظالم، فإنَّها عَيْنُ منفعته للمظلوم، ولهذه الأسرارِ وجب الاقتصارُ على ما ورد به السمع، وحرم التَّصرف فيه، والله أعلمُ.
قال الشيخ: التصرفُ الرابع الذي يجبُ الإمساكُ عنه: القياسُ والتفريع، مثل: أن يَرِدَ لفظ اليدِ، فلا يجوز (1) إثباتُ الكفِّ (2) والساعد استدلالاً بأن هذا مِنْ لوازمِ اليَدِ.
فأهمُّ المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله تعالى وصفاته، وأحق المواضع بإلجام اللِّسان، وتقييده (3) عَنِ الجريان ما عَظُمَ فيه الخَطَرُ، وأيُّ خطرٍ أعظم من الكفر؟
قلتُ: والأصلُ في هذا وأمثاله ما ثبت من طريق الحسنِ بنِ علي عليهما السَّلامُ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " دع ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ " (4) وما في معناه.
قال الشَّيخ: الوظيفة السادسةُ في الكفِّ بعد الإمساك للِّسان، وأعني بالكفِّ: كفَّ الباطن عَنِ التفَكرِ في هذه الأمور، فذلك واجبٌ عليه، وهذه أثقلُ الوظائفِ، وهي واجبة كما وجب على العاقلِ أن لا يخوضَ غَمْرَةَ البحرِ اتِّكالاً على عادته في السِّباحة، فإنَّ معاطب البحر كثيرة، ومهالِكَه جمَّة، ويتفكَّرُ في أنَّه -وإن فاتته نفائسُ البحر وجواهرُه- فلم تفُته إلاَّ زياداتٌ وتوسعات (5) في المعيشة، وهو مستغنٍ عنها، وإن
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ش): مثل الكف.
(3) في (ج): ويفسده.
(4) حديث صحيح، تقدم تخريجه في 2/ 371.
(5) في (ش): وتوسعة.(3/361)
غرِقَ أو التقمه التمساحُ، فاته (1) أصل الحياة.
قلت: وللإمامِ المؤيَّدِ بالله عليه السَّلامُ نَحْوُ هذا الكلامِ في آخر كتابه " الزِّيادات " (2) ذكره في (3) التحذير في (4) الزِّيادة على قدرِ (5) الحاجة في هذه الأمور.
قال الشيخ: فإن قيل: فإن لم ينْصَرِفْ قَلْبُهُ عن التفكر؟
فالجواب: أنَّ طريقه أن يَشْغَلَ نفسه بعبادة اللهِ تعالى، وبالصَّلاة، والقرآن، والذكر، فإن لم يَقْدِرْ، فبعلمٍ آخر لا يُناتسِبُ هذا الجنس من فقهٍ أو غيره، فإن لم يُمْكنْه، فَبِحِرْفَةٍ أو صناعة، ولو الحِراثة أو الحياكة، فإن لم يقدر، فليحدِّثْ نفسه بهولِ القيامة، والحشرِ، والنَّشرِ، والحساب (6)، فكلُّ ذلك خيرٌ له مِنَ الخوض في هذا البحر البعيد عُمْقُهُ، العظيم خَطَره وضَرَرُهُ، بل لو اشتغل الإنسانُ بالعادات (7) البدنية، كان أسلم له مِنْ أنْ يخوضَ في البحث عن تأويلِ صفات الله تعالى، فإنَّ ذلك عاقِبَتُه الفسقُ، وهذا عاقبتُه الشِّرْكُ، و {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و116].
فإنْ قيل: إنَّ (8) الإِنسانَ لا تركَنُ نفسُه إلى الاعتقادات الدِّينيَّة إلاَّ
__________
(1) في (ش): فاتته.
(2) في (ش): في الزيادات.
(3) في (أ): من.
(4) في (ش): "من"، وهي ساقطة من (ج).
(5) في (أ): قدم، وهو خطأ.
(6) " والحساب " ساقطة من (ش).
(7) في (ش): بالعبادات، وهو خطأ.
(8) في (ش): إن هذا.(3/362)
بدليل، فهل يُجوز أنْ يُذْكَرَ له الدليلُ (1)؟ فإن جوَّزتَ ذلك، فقد رخّصت له في التَّفكُّرِ والنَّظر، وأيُّ فرق بينَ النَّظرِ وبَيْن غيره؟ وإن منعته (2)، فكيف تمنعُهُ ولا يتِمُّ إيمانُه إلاَّ به؟
فالجواب: إنَّه يجوز له أن يسمع الدَّليلَ على معرفةِ الخالق سبحانه ووحدانيَّته، وعلى صِدقِ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى اليوم الآخرِ، ولكن بشرطين:
أحدُهما: أن لا يُزادَ على أدلَّة القرآن والسُّنَّةِ، ولا يُسْلَكَ به طريقةُ المتكلِّمين وتشطيحاتهم.
والآخر: أن لا يُماريَ فيه إلاَّ مراءً ظاهراً، ولا يتفكَّرَ فيه إلاَّ تفكُّراً سهلاً جليَّاً، ولا يُمْعِنَ في التَّفكُّر، ولا يُوغِلَ فيه غايةَ الإِيغال، وأدلَّةُ هذه الأمور الأربعة ما ذُكِرَ في القُرآن.
أمَّا الدليل على معرفة الخالق سبحانه، فمثل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31].
وقوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق: 6 - 10].
__________
(1) في (ش): دليل.
(2) " وإن منعته " ساقطة من (ب).(3/363)
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 24 - 31].
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا -إلى قوله- وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 6 - 16].
وأمثال هذه الآيات -وهِيَ قريبٌ (1) من خمس مئة آية- ينبغي للخلق أن يعرفوا جلالَ الله وعظمته بقوله الصادِقِ المعجز، لا بقولِ المتكلمين: إِنَّ الأعراضَ حادثةٌ، وإنَّ الجواهر لا تخلو مِنَ الأعراض الحادثة، فهي حادثة، ثم الحادثة (2) تفتقِرُ إلى مُحْدِثٍ، فإِنَّ تلك التقسيمات والمقدمات الرسمية تُشَوِّشُ قُلوب المؤمنين، لا سيما وهي صادرةٌ مِنْ غَيْرِ مَلِيٍّ بالدين (3)، ولا مضطلع بحملِ شريعة سيِّد المرسلين والأولين والآخرين صلَّى الله عليه وعلى آله أجمعين. والدِّلالات الشَّرعيّةُ الصَّادرةُ عَنِ الله اللَّطيفِ الخبير، وعن رسوله البشيرِ النَّذيرِ تُقْنِعُ وتُسَكِّنُ النُّفُوسَ، وتَغْرِسُ في القلوب الاعتقاداتِ الصَّحيحةَ الجازِمةَ، ولقد بَعُدَ عَنِ التوفيق مَنْ سلك طريقة (4) المتكلِّمين، وأعرض عن كتاب ربِّ العالمين.
وأما الدليل على وحدانيته سبحانه، فيُقنع فيه بما في القرآن مِنْ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
__________
(1) في " ش ": قريبة.
(2) " ثم الحادثة " ساقطة من (ب).
(3) في (ش): الذين، وهو تحريف.
(4) في (ش): بطريقة.(3/364)
وبقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (1) [الإسراء: 42]، وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2) [المؤمنون: 91].
وأمَّا صِدْقُ رسوله صلى الله عليه وسلم، فَيُسْتَدَلُّ عليه بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ
__________
(1) في تفسير الآية قولان معروفان للمفسرين. أحدهما: أن قوله: {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أي: بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له. والثاني: بالممانعة والمغالبة، والأول هو الصحيح المنقول عن السلف كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير، ولم يذكر غيره. انظر " درء تعارض العقل والنقل " 9/ 350 - 351.
(2) قال ابن أبي العز شارح الطحاوية ص 39 - 40: فتأمَّلْ هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحَقَّ لا بُدَّ أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع، ويدفع عنه الضُّرَّ، فلو كان معه سبحانه إلهٌ آخر يشركُه في ملكه، لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قَدَرَ على قهرِ ذلك الشريك، وتفرُّده بالمُلك، والإلهية دونَه، فَعَل، وإن لم يَقدر على ذلك، انفرد بخلقه، وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوكُ الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه إذا لم يقدر المنفردُ منهم على قهرِ الآخر والعلو عليه، فلا بُدَّ من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهَبَ كلُّ إله بخلقِهِ وسلطانِهِ.
وإما أن يعلوَ بعضُهُم على بعضٍ.
واما أن يكونوا تحت قهرِ ملكٍ واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحدَه هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجهٍ.
وانتظامُ أمير العالم كُله، وإحكامُ أمره، من أدلِّ دليل على أن مدبِّره إله واحد، وملك واحد، وربٌّ واحد، لا إله للخلقِ غيرُه، ولا ربَّ لهم سواه، كما قد دَلَّ دليلُ التمانع على أن خالق العالَمِ واحدٌ، لا ربَّ غيره، فلا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيلُ أن يكون للعالم ربَّان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان.
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقرٌ في الفِطَر، معلوم بصريح العقل بُطلانه، فكذا تبْطل إلهيةُ اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثَبَتَ واستقرَّ في الفِطَر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة ملزمة لتوحيد الإلهية.(3/365)
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وبقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
وبقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وأمثاله.
وأمَّا اليوم الآخر: فَيُسْتَدَلُّ عليه بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].
وبقوله عزَّ وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40].
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 5 - 6] وأمثالُ ذلك في القرآن كثير.
فهذه أدلَّة قاطعة جليَّة (1)، تسْبِقُ إلى الأفهام (2) ببَادي الرَّأي، وأوَّلِ النَّظرِ، وَيشتَرِكُ كافَّةُ الخلق في دِرْكِهَا، ولأجل ذَلك كانت هَادِيةً نافعةً، فأدلَّة القرآن والسنَّة مثلُ الغذَاءِ، يَنْتَفِعُ به كُل إنسان، وأدلّة المتكلمين مثلُ الداءِ: يتضرر به كل إنسان، بل أدلَّة القرآنِ والسنَّة كالماء الَّذي ينتفِعُ به الصَّبيُّ الرضيعُ، والرجُلُ القويُّ، وأدلة المتكلِّمين كالسُّمِّ الذي يضرُّ كُلَّ
__________
(1) في (ش): جليلة.
(2) في (ش): أفهام.(3/366)
أحدٍ، ولهذا قلنا: إِنَّ أدلَّة القرآن جليَّةٌ سابقة إلى الأفهام، ألا ترى أنَّ (1) منْ قدر على الابتداءِ، فهو على الإعادة أقدر {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وأن التَّدبيرَ لا ينتظمُ في دارٍ واحدة بمدبرَيْنِ، فكيف ينتظِم في جميع العالم؟ وأن من خلق عَلِمَ ثُمَّ خَلَقَ (2)، كما قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فهذه أدلَّةٌ تجري مجرى الماء الَّذِي جعل الله منه كلَّ شيْءٍ حيّ، وما أحدثه المتكلِّمُون وراء ذلك من تنقيرٍ، وسؤالٍ، وإلزامٍ، وتوجيه إشكال، ثمَّ اشتغال بحلِّه، فهو بدعةٌ، وضررُه في حقِّ عمومٍ الخلق بَيِّنٌ بالمشاهدة (3) والتجرِبة، وما أثار مِن الفتن (4) بَين الخلق منذ نَبَغَ المتكلمون، وفشا صناعةُ الكلام، مع سلامة العصر الأول مِنَ الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين (5) عن ذلك، ويدلُّ عليه أيضاًً: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَه بأجمعهم ما سلكوا في المُحَاجَّةِ مسلكَ المتكلِّمين في تقسيماتهم وتشطيحاتهم، لا لعجز منهم عن ذلك، ولو علموا (6) أنَّه نافع، لأطنبُوا فيه، ولخاضوا في تحرِّي الأدلَّة خوضاً يَزِيدُ على خوضهم في مسائلِ الفرائضِ، ولقد صدق أبو يوسفُ رحمه الله تعالى في قوله: مَن (7) طلب الدينَ بالكلام (8) تزندق.
__________
(1) " أن " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): علمه.
(3) ساقطة من (ش).
(4) في (ت): وأما آثار الفتن.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ش): ولو علمه الله تعالى.
(7) ساقطة من (ش).
(8) في (ش): في الكلام.(3/367)
فإن قيل: إنَّما أمسك الصحابةُ رضي الله عنهم عن ذلك لِعدم الحاجة، فإِن البدع إِنَّما نَبَغَتْ من بعدهم، فَعظُمَتْ حاجةُ المتأخِّرين إليه، ومعرفةُ الكلام راجعة إلى معرفةِ معالجة المرضى بالبدع، فلمَّا قلَّت في زمانهم (1) أمراضُ البدع، قلَّت عنايتُهم بجمع (2) طرق المعالجة.
فالجوابُ من وجهين:
أحَدُهُما: أنَّهم في مسائل الفرائِض ما اقتصروا على شأن حكم الوقائع، بل وضعوا المسائلَ، وفرضُوا فيها ما تنقضي الدُّهُورُ ولا يَقَعُ مِثْلُهَا، لأنَّ ذلك ممَّا أمكن وقوعُه، فصنَّفوا حكمه ورتبوه (3) قبلَ وقوعه، إذ ظنَّوا أنَّه لا ضررَ في الخوض فيه، وفي بيانِ حكم الواقعة قبل وقوعها، وكانت (4) العنايةُ بإزالةِ البدعِ ونزعها من النفوس أهمَّ (5)، إلاَّ أنَّهم ثم يتخِذُوا ذلك صناعةً، لعلمهم (6) أنَّ الاستضرارَ بالخوض فيه أكثرُ مِن الانتفاع، ولولا (7) أنَّهم كانوا قد حذَّروا مِنْ ذلك، لما فَهِمُوا تحريمَ الخوضِ فيه، وقصَةُ عمر مع صَبيغ بن عَسَلِ معروفة (8)، وقصة الخوارج، وذكر الفرق عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وتحذيره منها مشهورٌ غيرُ منكرٍ.
الجوابُ الثاني: أنَّهم كانوا محتاجين إلى محاجَّةِ اليهودِ والنصارى في إثبات النبوَّة نُبُوَّة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإلى إثبات الإلهية مع عَبَدَةِ الأصنام،
__________
(1) في (ش): أزمانهم.
(2) في (ش): بجميع.
(3) في (ش): ورتبوا.
(4) في (ش): فكانت.
(5) ساقطة من (ش).
(6) في (ب): لعملهم، وهو خطأ.
(7) في (ش): ولو.
(8) تقدم تخريجها في هذا الجزء ص 346 ت (1).(3/368)
وإلى إثباتِ البعث مع منكريه، فما ركبوا ظهر الحِجَاجِ في وضع المقاييسِ العقلية، وترتيب المقدِّمات، وتحرير طُرُق (1) المجادلات، كلُّ ذلك لعلمهم بأنَّ ذلك مثارُ الشرِّ، ومنبعُ الفتنة، بَلِ اقتبسوا -رضي الله عنهم- أدلةَ (2) القُرآن، فمن أقنعه ذلك خَلَّوْهُ، ومن لم يقْنَعْ به، قتلوه، وعدلوا إلى السيف والسِّنان، لأنَّه ليس بَعْدَ بيانِ الله تعالى بيان، على أنَّا نُنْصفُ الخَصْمَ، ولا نُنكِرُ أنَّ حاجة المعالجة تَزيدُ بزيادةِ المرض، فإنَّ لِطُولِ الزَّمان، وبُعْدِ العهد عن عصر النُّبُوَّة تأثيراً في إثارة الإشكالات (3)، وإنَّ للعلاج طريقين:
أحدهما: البيانُ والبرهانُ، وإلى أن يصلح واحد، قد (4) فسد إثنان فصلاحه بالإضافة إلى الأكياسِ، وهو فسادٌ بالإضافة إلى البُلْهِ، وما أقَلَّ الأكياسَ، وما أكْثَرَ البُلْهَ، والعنايةُ بالأكثر أولى.
الطريق الثاني: طريقُ الكفِّ، والسُّكوت، والعُدول إلى الدِّرَّة، والسوط، والسيف، وذلك ممَّا يَنْفعُ الأكثرين، وإنْ كان لا يُقْنِعُ الأقلِّين، وآيةُ إقناعه أن (5) مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الكافر من الإماء والعبيد تراهم يُسلمون تحتَ ظلالِ السيوف (6)، ثمَّ يستمرون عليه حتَّى يصيرَ طوعاً ما كان كَرهاً في البداية، ويصير اعتقاداً جزماً ما كان في الابتدإء إِمْرَاً (7) وَشَكَّاً، وذلك بمشاهدة أهلِ الدِّين، والمؤانسةِ بهم، وسماعِ كلامِ الله تعالى، ورؤيةِ
__________
(1) ساقطة من (ش).
(2) في (ش): بأدلة.
(3) في (ش): المشكلات.
(4) في (ش): فقد.
(5) ساقطة من (ب).
(6) في (ب): السيف.
(7) أي: عجباً منكراً.(3/369)
الصَّالحين، وقرائنَ مِنْ هذا الجنس تُناسِبُ طباعَهم مناسبةً أشدَّ مِنْ مناسبة الجدل والدّليل.
فإذا كان كلُّ واحدٍ من العِلاجَيْنِ يُناسِبُ قوماً دونَ قوم، وجبَ ترجيحُ الأنفعِ في الأكثر، والمعاصرون لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المؤيَّدِ بروح القدس، المكاشَفِ مِنَ الله سبحانه بالوحي بأسرارِ عباده وبواطنهم أعرفُ بالأصوبِ والأصلحِ قطعاً، فسلوكُ سبيلِهم -إذن لا محالة- أفضلُ وأصوبُ وأعدلُ.
الوظيفةُ السابعة: التسليمُ لِقولِ الله تعالى، ولحديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأصحابه، وتابعيهم النَّاقلين إلينا شريعتَه عليه السَّلام، وأن لا نَتَّهِمَ منهم أحداً، لثبوت عدالتهم في سائرِ لوازِم الشريعة، فإنَّهم نقلوها عن معْدِنِ النبوة، وعُنصرِ الرِّسالة، ولنعلمَ أنَّ البيانَ لا يجوزُ تأخيره عِنْدَ الحاجة، وقد بيَّن لهم - صلى الله عليه وسلم - جميعَ ما أرسله الله تعالى به، حتى قال فلان: عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُم كُلَّ شيْءٍ حتى الخراءة، فقال الصَّحابي: أجل، وذكر الحديث (1)، وحتى قال عليه السلامُ في خُطبة الوداع: " إِنَّ الزّمانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السماوات والأرْضَ: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أرْبَعَةٌ حُرُمٌ: [ثلاثةٌ مُتَوالِياتٌ] ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّةِ، والمُحَرَّم، ورَجَبُ [مُضَرَ] الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ " (2). هذا فيما لا يضُرُّ جهله،
__________
(1) أخرجه أحمد 5/ 437، ومسلم (262)، وأبو داود (7)، والترمذي (16) وابن ماجه (316)، والنسائي 1/ 38 و44 من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: قيل له: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كُلَّ شَيْءٍ حتى الخِراءة، قال: فقال: أجَلْ، لقد نهانا أن نستقبلَ القبلةَ لغائطٍ أوْ بولٍ، أو أن نستنجى باليمينِ، أو أن نستنجي بأقلَّ من ثلاثةِ أحجارٍ، أو أن نستنجيَ برجيع أو بعظم.
(2) أخرجه البخاري (3197) و (4406) و (5550) و (7447)، ومسلم (1679)، وأبو داود (1947)، وأحمد 5/ 37 و73 من حديث أبي بكرة.(3/370)
كيف في أمر التوحيد؟ فلو عَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الحاجة داعيةٌ إلى تأويل صفات الله، وأنَّه يلزمُ الخلقَ كيفيَّةُ معرفتها، لَمَا وَسِعَهُ إِلاَّ البيانُ، وفي عَدَمِ ذلك دليلٌ على كَذِب مُدَّعيه، فلا يرفع أحدٌ طَرْفَه إلى كيفيّة معرفة صفات الله من قِبَلِ عقله إِلاَّ غضَّه الدَّهَشُ والحيرة، فانقلب إليه البصر خاسئاً وهو حسيرٌ، فهذا ما يجبُ على المسلمين أن يُؤمنوا به جُملةً، وأنْ يُحيطوا به تفصيلاً، فهذه هي الوظائفُ السَّبْعُ الواجبةُ على الخلق في الآي والأخبارِ، وهي مذهبُ السَّلف، والآن فنقيمُ الدَّليل على أنَّ الحقَّ هو مذهبُ السَّلفِ دونَ المتكلِّمين.
الباب الثاني: في إقامة البرهان على أنَّ الحقَّ هو مذهبُ السَّلفِ، وعليه برهانان: عقليٌّ وسمعيٌّ، أمَّا العقليُّ، فمعنيان: كليٌّ وتفصيليٌّ، أمَّا البُرهانُ الكليُّ، فينكشفُ بتسليمِ أربعةِ أصول هي مسلَّمَةٌ عندَ كُلِّ عاقل.
الأول: أنَّ أعرفَ الخلقِ بصلاحِ أحوالِ العبادِ هُوَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّ جميع ما يَنْفَعُ في الآخرة أو يَضُرُّ لا سبيلَ إلى معرفته بالتَّجرِبَةِ كَمَا عُرِفَ الطِّبُّ بالتَّجرِبَةِ، إذ لا مجالَ للعلومِ التَّجرِيبية إلا بما يشاهد (1) على سبيل التَّكررِ، ومَنِ الَّذِي رجع مِنْ ذلك العالَم، فأدرك بالمشاهدة ما نفع وضرَّ، فأخبر عنه، ولا يُدْرَكُ بقياس العقل، فإنَّ العقولَ قاصرةٌ عَنْ ذلك، والعقلاءُ بأجمعهم معترفون بأنَّ العقل لا يَهْدِي إلى ما (2) بعد الموت، ولا يُرْشِدُ إلى وجه ضررِ المعاصي، ونفعِ الطاعات، لا سيَّما على سبيل التَّفصيل والتَّحديد، كما وردت الشَّرائع، فأقرَّوا بجملتهم أنَّ ذلك لا يُدْرَكُ
__________
(1) في (ش): بشاهد.
(2) " إلى ما " ساقطة من (ش).(3/371)
إلاَّ بنور النُّبُوَّة، وهي قوَّةٌ وراء قوَّةِ العقل، يُدرك بها مِنْ أمرِ الغَيْبِ في الماضي والمستقبل أمورٌ، لا على طريق التَّعريفِ بالأسرارِ العقلية، ونذكر ها هنا خبرَ المبعث، وشقَّ جبريل لقلبه عليهما السلام، وغسلَه بماءِ زمزمَ، وحشوَه السَّكينَة والحكمَةَ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فَكأنَّما أشَاهِدُ الأمْرَ مُشاهَدةً " (1).
__________
(1) انظر حديث أنس بن مالك عند مسلم (162) (261) في الإيمان، باب: الإسراء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحمد 3/ 121 و149 و288، والبيهقي في " دلائل النبوة " 1/ 146 - 147، ولفظ مسلم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل - صلى الله عليه وسلم - وهو يلعبُ مع الغلْمان، فأخذَهُ فَصَرَعَهُ، فَشَقَّ عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقةً، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غَسله في طستٍ من ذهب بماءِ زَمْزَمَ، ثم لأمهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يَسْعَوْنَ إلى أمِّهِ (يعني ظِئْرَه) فقالوا: إن محمداً قد قُتِلَ، فاستقبلوه وهو منتقعُ اللونِ. قال أنسٌ: وقد كنتُ أرى أثَرَ ذلك المخيطِ في صدره.
وأخرجه ابن هشام في " السيرة " 1/ 175 عن ابن إسحاق، حدثني ثور بن يزيد، عن بعض أهل العلم، ولا أحسبه إلا عن خالد بن معدان الكلاعي أن نفراً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: " نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبُشرى أخي عيسى، ورأت أمِّي حينَ حملت بي أنَّه خرج منها نور أضاء لها قصورَ الشام، واستُرْضِعْتُ في بني سعد بن بكر، فبينا أنا مع أخٍ لي خلفَ بيوتنا نرعى بَهْماً لنا، إذ أتاني رجلان عليهما ثيابٌ بيضٌ بطَسْت من ذهبٍ مملوءةٍ ثلجاً، ثم أخذاني، فشقَّا بطني، واستخرجا قلبي، فشقاه، فاستخرجا منه علقةً سوداءَ، فَطَرَحاها، ثم غَسَلاَ قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه، ثم قال أحدُهما لصاحبه: زِنْهُ بعشرة من أمَّته، فوزنني بهم، فوزنتُهم، لم قال: زِنْهُ بمئة من أُمته، فوزنني بهم فوزنتُهم، ثم قال: زِنْهُ بألفٍ من أمتِه، فوزنني بهم، فَوزنتُهم، فقالَ: دعْهُ عنك، فواللهِ لو وزنته بأمته لوزَنَها ".
وأخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " 1/ 145 - 146 من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، به.
وأورده ابنُ كثير في " البداية " 2/ 256 عن ابن إسحاق، وقال: وهذا إسناد جَيِّدٌ قوِيٌّ.
وأخرج أحمد 4/ 184، والحاكم 2/ 154، وأبو نعيم الحافظ في " دلائل النبوة " من طرق عن بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد السلمي أنَّه حدثهم أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كيف كان أول شأنك يا رسول الله قال: " كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر، فانطلقت أنا وابنٌ لها في بَهْم لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت: يا أخى اذهبْ فأتنا بزادٍ من عند أمنا، فانطلق أخي، ومكثت عند =(3/372)
قلتُ: وقولُه - صلى الله عليه وسلم - في حديث الرؤيا واختصام الملأ الأعلى: " فَعَلِمْتُ ما في السَّمَاواتِ والأرْضِ " (1).
قال: وهذا مِمّا اتَّفق عليه الأوائلُ مِنَ الحُكماء، فضلاً عَنِ الأولياءِ من الحُكماء الرَّاسخين، القاصرين نظرهم على الاقتباسِ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، المعترفين بقصورِ كُلِّ قوَّةٍ سوى هذه القوة.
الأصل الثاني: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - بلّغَ (2) الخَلْقَ ما أُوحِيَ إليه من صلاحِ العبادِ
__________
= البَهم، فأقبل طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني، فأخذاني، فبطحاني إلى القفا، فشَقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدُهما لصاحبه -قال يزيد في حديثه-: ائتني بماء ثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: اتني بماء برد، فغسلا به قلبي، ثم قال: ائتني بالسَّكينة، فذراها في قلبي، ثم قال أحدُهما لصاحبه: حصه (أي: خِطْهُ)، فَحَاصَه، وَخَتَمَ عليه بخاتم النبوة، وقال حيوة في حديثه: حصه فحصه وأختم عليه بخاتم النبوة، فقال أحدْهُما لصاحبه: اجعلْه في كَفَةٍ، واجعل ألفاً من أمته في كفة، فإذا أنا أنْظُرُ إلى الألفِ فوقي، أشفق أن يَخِرَّ عليَّ بعضهم، فقال: لو أنَّ أمته وزنت به، لمالَ بهم، ثم انطلقا وتركاني، وفرِقْت فَرَقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي، فأخبرتُها بالذي لقيته، فأشفقت على أن يكون أُلبس بي، قالت: أعيذُك باللهِ، فرحلت بعيراً لها، فجعلتني -وقال يزيد: فحملتني- على الرَّحْلِ، وركبتْ خلفي حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: أوأديت أمانتي وذمتي؟ وحدثتها بالذي لقيت فلم يرعها ذلك، فقالت: إني رأيت خرج مني نوراً أضاءت منه قصور الشام.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وقال الهيثمي في " المجمع " 8/ 282 بعد أن نسبه لأحمد: وإسنادُه حسنٌ، وله شواهد تُقَوِّيه.
وفي الباب عن حليمة عند ابن هشام في " السيرة " 1/ 171 - 175، وأبي يعلى 333/ 2 - 334/ 1، والطبراني 24/ 212، وأبي نعيم في " دلائل النبوة " (94)، وكذا البيهقي 1/ 132 - 136، وابن حبان (2094)، ورجاله ثقات.
وعن أُبي بن كعب عند عبد الله في زوائد المسند 5/ 139، وانظر " مجمع الزوائد " 8/ 223.
وعن شداد بن أوس عند أبي يعلى، وابن عساكر، وأبي نعيم.
(1) هو حديث صحيح، تقدم تخريجه 1/ 218.
(2) في (ش): أبلغ.(3/373)
فيِ مَعادهم ومَعاشهم، وأنَّه ما كتمَ شيئاً مِنَ الوحي، ولا طواه عَنِ الخلق، فإِنَّه لم يُبْعَثْ إِلاَّ لذلك، فلذلك كان رحمةً للعالمين، ولم يكن مُتَّهَماً فيه، كيف، واللهُ تعالى يقول: {وَمَا هُوَ عَلَى الغَيْبِ بِظَنِين} (1) [التكوير: 24]، وعُلِمَ ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - علماً ضرورياًً في سائِرِ أحواله مِن حرصه على (2) إصلاح الخلق، وشغفِه بإرشادهم إلى صلاح مَعادهم ومَعاشهم، ما ترك شيئاً مِمَّا يقرِّبُهُم إلى الجَنة، ويرضي الله، إِلاَّ دلَّهم عليه، وأمرهم به، وحثّهم عليه، ولا شيئاً مِمَّا يقربُهم إلى النَّار وإلى (3) سَخَطِ الله، إِلاَّ حذَّرهم منه، ونَهاهم، وذلك في العلم والعمل (4) جميعاًً.
الأصلُ الثالث: أَنَّ أعرفَ النَّاس بمعاني كلامه، وأحراهم بالوقوف على كُنهه، ودرْكِ أسراره، هُمُ الَّذِين شاهدوا الوحي والتَّنزيل، وعاصروه وصَحِبُوه، بل لازموه آناءَ الليل والنهار، مستمرِّين لِفَهْمِ معاني كلامه، وَتَلَقِّيه بالعمل به أوَّلاً، والنَّقلِ إلى من بَعْدَهم ثانياً، والتَّقرُّب إلى الله تعالى بسماعه وفهمه وحفظه ونشره.
فليت شعري أيُّها المتكلمون، تتَّهمونَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإخفائه، وكِتمانه عنهم (5)، حاشا منصحت النُّبوَّةِ عن ذلك، أم (6) تتهمون أولئك
__________
(1) بالظاء، وهي قراءةُ ابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، وقرأ الباقون (بضنين) بالضاد، قالَ ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمتَّهَمٍ على ما يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليسَ ببخيل عليكم بعلم ما غاب عنكم مما ينفعكم. انظر " زاد المسير " 9/ 44 بتحقيقنا.
(2) في (ش): على سائر أحوال الخلق من الإصلاح.
(3) " إلى " ساقطة من (ش).
(4) في (ب): العمل والعلم.
(5) " عنهم " ساقطة من (ش).
(6) في (ش): أو.(3/374)
الأكابرَ في فِهم كلامه، وإدراك مقاصدِه، أو تَتَّهمونهم في إخفائه وسَتْره بعد الفَهْمِ، أو تتَّهمونهم في معاندته من حيث العمل، ومخالفته على سبيل المكابرة مع الاعتراف بتفهُّمه وتكليفه، فهذه الأمور لا يَتَّسِعُ لعاقل (1) ظنها.
الأصلُ الرابع: أنَّهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دَعَوا الخَلْقَ إلى البحث، والتفتيشِ (2)، والتَّنقير، والتَّأويل، والتَّعرض (3) لمثل هذه الأمور، بل بالغوا في زجر مَنْ خاض فيه، وسأل عنه على سبيل ما سنذكره عنهم. فلو كان ذلك مِنَ الدِّين، أو مِنْ مدارك علوم الدِّين، لأقبلوا عليه ليلاً ونهاراً، ودعَوْا إليه أولادَهم وأهليهم، ولَشَمَّروا عن ساقِ الجَدِّ في تأسيسِ أُصوله، وشرحِ فُروعه وقوانينه تشميراً أبلغَ مِنْ تشميرهم في تمهيد قواعدِ الفرائضِ والمواريثِ، وتمثيلهم لذلك، وسؤالِ بعضهم المباهلة فيها، وتقاسمهم فيها (4)، ويَناظرهم عليها، ونذكر ها هنا تمثيلَ عليٍّ، وزيدٍ رضي الله عنهما للجَدِّ والأخوة، وقولَهم في الكلالة، وقولَهم في الجَدِّ، إلى سائر ذلك، فيعلم بالضرورة مِنْ هذه الأُصول أنَّ الحَقَّ ما قالوه، والصوابَ ما أرادوه، ولا سِيَّما وقد أثنى عليهم صلوات الله عليه، فقال: " خَيْرُ الناسِ قرْني، ثمَّ الذين يَلونَهُمْ، ثُمَّ الذين يَلُونَهُمْ " (5).
البرهان الثاني: وهو التَّفصيلي، وهو أنْ نقول: ادَّعينا أنَّ الحقَّ هو
__________
(1) في (ب): تسع لعاقل.
(2) في (أ): " والتنفيس " وهو تحريف.
(3) في (ش): والتعريض.
(4) في (أ) و (ب): " تقاسيمهم فيها "، وهي ساقطة من (ش).
(5) تقدم تخريجه في 1/ 182 و377.(3/375)
مذهبُ السلَفِ، وأنَّ مذهبهم (1) هو توظيفُ الوظائف السَّبع، وقد ذكرنا بُرهان كُلِّ وظيفة منها، فَمَنْ خالَفَ، فليت شعري، أَيُخَالِف في قولنا الأول: إِنه يجبُ تقديسُ الله وتنزيهه عَنِ المخلوقات ومشابهتها، أم في قولنا الثاني: إِنه يجبُ عليه التَصديق والإِيمان بما قاله الرَسولُ - صلى الله عليه وسلم - على المعنى الذي أراده؟ أم في قولنا الثالث: إنَّه يجبُ عليه الاعترافُ بالعجز عن كُنْهِ ذات الله تعالى وصفاته؟ أم في قولنا الرَّابع: إِنه يجبُ عليه السُّكُوتُ عَنِ السُّؤال، والخوض فيما وراء طاقته؟. أم في قولنا الخامس: إنه يجبُ عليه إمساكُ اللِّسانِ عن تعبير الظَّواهر بالزِّيادة والنُّقصان؟ أم في قولنا السَّادس: إنَّه يجب عليه كفُّ القلبِ عَن التَفَكُّر فيه مع عجزه عنه، وقد قال لهم (2) عليه السلام: " تَفَكَّرُوا في خَلْقِ الله وَلَا تَفَكَّروا في ذاتِ اللهِ " (3)؟ أم في قولنا السابع: إِنه يجبُ عليه التسليم لله تعالى، ولرسوله
__________
(1) " أن مذهبهم " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): علي.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في " العرش " فيما ذكره السخاوي في " المقاصد الحسنة " ص 159، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 420 عن ابن عباس قوله بلفظ: " تفَكَّروا في كُلِّ شيء ولا تفكَّروا في اللهِ ". وفي سنده عاصم بن علي، وأبوه، وهما ضعيفان، وعطاء بن السائب، وهو مختلط.
وأخرجه أبو نعيم في " الحلية " 6/ 66 - 67 عن عبد الله بن سلام مرفوعاً بلفظ: " لا تفكَّروا في الله، وتفكروا في خلقِ الله ... " وفي سنده عبد الجليل بن عطية، وشهر بن حوشب، وكلاهما ضعيف.
وأخرجه اللالكائي في " السنة " (927)، والبيهقي في " الشعب " من حديث ابن عمر مرفوعاًً: " تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله عز وجل " وفي سنده الوازع بن نافع، وهو متروك، وبعضهم اتهمه.
وفي الباب عن أبي هريرة عند ابن النجار في " ذيل تاريخ بغداد " 10/ 192/1 وفيه مجاهيل ومن هو متهم بالوضع.
ومع هذه الأسانيد الشديدة الضعف شبه الموضوعة، فقد ذهب إلى تحسين متنه بعضُ من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا في " صحيحته " (1788).(3/376)
- صلى الله عليه وسلم -، ولأصحابه النَّاقلين عنه لوازم الشَّريعة.
فهذه الأمور بيانُها برهانُها، ولا يَقْدِرُ أحد على جَحدها، وإن كان كارهاً، إن كان من أهل التَّمييز، فضلاً عَنِ العُقلاء العلماء، فهذه هي البراهين العقلية.
النمط الثاني: البرهان السمعي على ذلك، وطريقه أن نقول: الدليلُ على أنَّ الحق هو مذهبُ السلف: أنَّ نقيضَه بدعةٌ، والبدعةُ مذمومةٌ، وضلالة، والخوضُ في التأويل بدعة، فكان نقيضُه -وهو (1) الكف عن ذلِك- سنَّة محمودة، فهذه ثلاثة أصول:
أحدها: أنَّ البحث والتفتيش والسُّؤال عن هذه الأمور بدعة.
الثاني: أنَّ كل بدعةٍ مذمومةٌ.
الثالث: أنَّ البدعة إذا كانت مذمومة كان نقيضُها -وهو (2) السُّنَّة القويمةُ- محمودةً، ولا يُمْكنُ النِّزاعُ في شيْء من هذه الأصولِ، وإذا (3) سُلِّمَ، أنتج (4) أنَّ الحقَّ مذهبُ السلَفِ.
فإن قيل: لِمَ تُنكرون على من يمنعُ كونَ البدعة مذمومة، أو يمنع (5) كونَ البحثِ والتفتيش بدعة، فَيُنَازع في الأصلين الأولين، ولا يُنازع في الثَّالث لظهوره؟
فالجواب (6) أن نقول: الدليلُ على إثباتِ الأصلِ الأولِ: اتفاقُ
__________
(1) في (ش): هو.
(2) في (ش): كانت نقيضتها وهي.
(3) في (ش): فإذا.
(4) في (ش): أبيح، وهو تصحيف.
(5) في (ش): يمتنع، وهو خطأ.
(6) في (ش): والجواب.(3/377)
الأمَّة قاطبةً على ذمِّ البدعة، وزجرِ المبتدع، وتعييرِ من يُعْرَفُ بالبدعة، وهذا مفهومٌ على الضرورة مِنَ الشَّرع، وذلك غير واقعٍ في محل الظن، وذَمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البدعة عُلِمَ بالتَّواتر بمجموع أخبارِ آحاد تُفِيدُ العلمَ القطعيَّ جملتُها، وإِن كان الاحتمالُ يتطرق إلى آحادها، وذلك كَعِلْمنَا بشجاعةِ عليٍّ عليه السلام، وسخاءِ حاتِم، وحُبِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عائشة رضي الله عنها، وبِمَا جرى مجراه، فإنَّه عُلِمَ قطعاً بأخبارِ آحادٍ بلغت في الكثرة مبلغاً لا يحتمل كَذِبُ ناقِلِها، وإِن لم تكن آحادُ تلك الأحاديث متواترةً مثل ما رُوِيَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال (1): " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدي، عَضُّوا عَلَيْها بالنوَاجذ، وإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأمُورِ، فَإِنَّ كل مُحْدَثٍ بِدْعَةٌ، وَكل بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ " (2).
__________
(1) " أنَّه قال " ساقطة من (ش).
(2) أخرجه أحمد 4/ 126 - 127، وأبو داود (4607)، والآجري في " الشريعة " ص 46، وابن أبي عاصم (32) و (57) من طريق الوليد بن مسلم، حدثنا ثور بن يزيد، حدثني خالد بن معدان، حدثني عبد الرحمن بن عمرو السلمي، وحجر بن حجر الكلاعي قالا: أتينا العرباض بن سارية، وهو ممن نزل فيه: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} فسلمنا، وقلنا: أتيناك زائرين وعائدين ومقتبسين، فقال العرباض: صَلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا، فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسولَ الله كأن هذه موعظةٌ مُودِّع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: " أُوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن عَبْداً حَبشياً، فإنه منْ يعِشْ منكم بعدي فسيَرَى اختلافاً كثيراً، فعليكُم بسُنَّتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالة ".
وصححه ابن حبان (5)، وأخرجه الترمذي (2676)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 69، وابن أبي عاصم (54)، وابن ماجه (44)، والدارمي 1/ 44، والآجري (47) من طرق عن ثور بن يزيد، به. إلا أنهم لم يذكروا حجر بن حجر، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم 1/ 95، ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن ماجه (43) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، والآجري ص 47 من طريق أسد بن موسى، كلاهما عن معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن =(3/378)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " اتَّبعوا ولا تَبْتَدِعُوا، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قبلَكمْ لمَّا ابْتَدَعُوا في دِينِهِمْ، وَتَرَكُوا سُنَنَ أَنْبيَائِهِمْ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا " (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ماتَ صَاحِبُ بِدْعَةٍ، فقَدْ فُتِحَ عَلى الإسلامِ فَتْحٌ " (2).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ مَشَى إلى صَاحِبِ بِدْعَةٍ لِيُوَقِّرَه، فَقَدْ أَعَان عَلى هَدْمِ الإِسْلاَمِ " (3).
__________
= عمرو السلمي، عن العرباض ...
وأخرجه ابن أبي عاصم (27)، والبيهقي 6/ 541، والترمذي (2676) من طريق بقية، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو، عن العرباض.
(1) أخرجه الدارمي 1/ 69، وابن وضاح ص 10، والطبراني في " الكبير " (8770) من طرق عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عبد الله بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. وأورده الهيثمي في " المجمع " 1/ 181، ونسبه للطبراني، وقال: ورجاله رجال الصحيح.
(2) أخرجه الخطيب في " تاريخه " 4/ 158 - 159 من حديث أنس بن مالك، وفيه أحمد بن روح، وهو مجهول، وشيخه فيه عمرو بن مرزوق كان يحيى القطان لا يرضاه في الحديث.
وأخرجه أيضاً من طريق آخر فيه محمد بن عمر بن خلف الوراق، وهو ضعيف جداً، وشيخه فيه محمد بن السري يروي المناكير والبلايا.
(3) أخرجه أبو نعيم 5/ 218 من حديث عبد الله بن بسر، وفي سنده أحمد بن معاوية، قال ابن عدي: حَدَّث بأباطيلَ، وكان يسرقُ الحديث.
وأخرجه ابن عدي في " الكامل " 2/ 498، وفي سنده بهلول بن عبيد الكندي، قال أبو حاتم: ضعيف الحديث ذاهب، وقال أبو زرعة: ليس بشيء، وقال ابن حبان: يسرق الحديث، وقال ابن عدي: ليس بذاك.
وأخرجه أيضاً ابن عدي 2/ 736 من حديث عائشة، وفيه هشام بن خالد الأزرق: قال الذهبي: من ثقات الدماشقة، لكن يروج عليه، وشيخه فيه الحسن بن يحيى الخشني قال ابن معين: ليس بشيء، وقال دُحيم: لا بأسَ به، وقال أبو حاتم: صدوق سيىء الحفظ، وقال النسائي: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك.
وأخرجه من حديث معاذ بن جبل: الطبراني في " الكبير " 20/ 96 من طريق بقية بن الوليد، حدثنا ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل رفعه. بقية: ضعيف، وخالد بن معدان: لم يسمع من معاذ.(3/379)
وقال عليه السلام: " مَنْ أعرض عن صَاحِبِ بدْعةً بُغضا له في اللهِ، ملأ اللهُ قلْبه أمناً وإيماناً، ومَنِ انتهر صَاحِبَ بدعةٍ، رفع الله له مئة درجة، ومَنْ سلَّم على صاحب بدعة أو لَقِيَهُ بالبشرى، فَقَد استخفَّ بمَا نُزِّلَ (1) على محمد - صلى الله عليه وسلم - (2).
" إِنَّ الله لا يَقْبَلُ لِصاحِبِ بِدْعَةٍ صَرْفَاً ولا عَدْلاً، ويَخْرُجُ مِنَ الإِسلامِ كما يَخْرُجُ السَّهْمُ من الرَّمِيَّة، أو كما يخْرُجُ الشَّعْرُ من العَجِينِ " (3).
قلتُ: هذه الأحاديث غرائبُ أو مناكير، إِلاَّ الأوَّلَ، وفي كُتب الأئمَّة السِّتّة وغيرِهم مِنْ حُفَّاظ الإِسلام ما يغني عنها، ويَزيدُ عليها.
قال الشَّيخ: فهذا وأمثالُه ممَّا تجاوزَ حدَّ الحصر أفاد علماً ضرورياًً بِكَوْنِ البدعةِ مذمومة.
فإن قيل: لا نسلم أنَّ كُلَّ بدعة مذمومة، ولكن ما دليلُ الأصلِ الثاني، وهو أنَّ هذا بدعة؟ والبدعة عبارة عن كلِّ مُحْدَثٍ، فلم قال الشَّافعي رحمه الله: إنَّ الجماعة في التَّراويح بِدْعَةٌ، وهي بدعة حسنة (4)؟ وخوضُ الفقهاء في تفاريع المسائل، ومناظرتهم فيها مع ما
__________
(1) في (ش): أنزل الله.
(2) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 8/ 200 من طريق الحسين بن خالد، عن عبد العزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر رفعه. والحسين بن خالد: قال ابن معين: ليس بثقة، وقال ابن عدي: عامة حديثه عن الضعفاء.
وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 10/ 264 من طريق الحسين بن خالد، به. وقال: تفرد بروايةِ هذا الحديث الحسينُ بن خالد، وهو أبو الجنيد، وغيرُه أوثق منه.
(3) أخرجه ابن ماجة (49) من حديث حذيفة مرفوعاً، وفي سنده محمد بن محصن العكاشي، كذبه ابن معين، وأبو حاتم، وابن حبان، والدارقطني، وأحمد.
(4) في (ب): مستحسنة.(3/380)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= قال الشافعي: البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمودٌ، وما خالف السنة، فهو مذموم.
قال الحافظ في " الفتح " 13/ 253: أخرجه أبو نعيم بمعناه من طريق إبراهيم بن الجنيد عن الشافعي، وجاء عن الشافعي أيضاً ما أخرجه البيهقي في " مناقبه " 1/ 468 - 469 قال: المحدثات ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً، أو سنة، أو أثراً، أو إجماعاً، فهذه بدعة الضلال، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئاً من ذلك، فهذه محدثة غير مذمومة. وأورده شيخ الإسلام في " درء تعارض العقل " 1/ 249، وقال: رواه البيهقي بإسناده الصحيح في " المدخل ".
وروى سعيد بن منصور بإسناد صحيح، عن مجاهد، عن ابن عمر إنه قال إنها (أي: صلاة الضحى) لمحدثة، وإنها لمن أحسن ما أحدثوا.
وروى ابن أبي شيبة 2/ 406 بإسناد صحيح عن الحكم بن الأعرج، عن الأعرج قال: سألت ابن عمر عن صلاة الضحى، فقال: بدعة، ونعمت البدعة.
وروى عبد الرزاق (4868) بإسناد صحيح عن سالم، عن أبيه قال: لقد قتل عثمان، وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئاً أحب إلي منها.
وقال ابن الأثير في " النهاية " 1/ 106: وفي حديث عمر رضي الله عنه في قيام رمضان: " نعمت البدعة هذه " البدعة بدعتان: بدعة هُدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهو في حيِّز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحضَّ عليه الله أو رسوله، فهو في حيز المدح. وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل له في ذلك ثواباً، فقال: " من سنَّ سنَّة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها "، وقال في ضده: " ومن سنَّ سنة سيئة، كان عليه وزرُها، ووزر من عمل بها " وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه: " نعمت البدعة هذه " لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، سمَّاها بدعة ومدحها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسنها لهم، وإنما صلاها ليالي، ثم تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر رضي الله عنه جمع الناس عليها، وندبهم إليها، فبهذا سمَّاها بدعةً، وهي على الحقيقة سنَّة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي "، وقوله: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وعلى هذا التأويل يُحمل الحديث الآخر: " كل مُحدثةٍ بدعة " إنما يريدُ ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة، وأكثر ما يستعمل المبتدع عُرفاً في الذَّمِّ.
وقال ابن رجب في " جامع العلوم والحكم " ص 252 تعليقاً على قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وكل بدعة ضلالة ": والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعاً، وإن كان بدعة لغة ...(3/381)
أبدعوه من نقضٍ وكسر، وفساد وضع، وتركيب، وفنون مجادلة، وإلزام، كلُّ ذلك مُبدعٌ لم يُرْوَ عن الصحابة شيءٌ من ذلك، فدلّ أنَّ البدعة المذمومة ما رفع سُنَّةً مأثورة، ولا نُسلِّمُ أن هذا رافعٌ لسنَّة مأثورةٍ، ولكنَّه مُحدثٌ ما خاض فيه الأوَّلون، إمَّا لاشتغالهم بما هو أهمُّ منه، وإما لسلامة القلوب في العصر الأول عن الشكوك والتَّردُّدات، فاستغنوا عن الخوض فيه، وخاض فيه من بعدهم، لحدوث الأهواء، والبدع، ومسيس الحاجة إلى إبطالها، وإفحام منتحليها (1).
والجواب: أنَّ ما ذكره أنَّ البدعة المذمومة كل مُحدَثٍ رفع سُنَّة قديمة هو الحق، وهذه بدعة رفعت سنة قديمة، إذ كان سنة الصحابة رضي الله عنهم المنع من الخوض فيه، وزجرَ من سأل عنه، والمبالغة في منعه، ففتحُ باب السؤال عن هذه المسائل، والخوضُ في غمرة هذه المشكلات على خلاف ما تواتر عنهم، بدعةٌ، وقد صحَّ ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم بتواتر النَّقل عن التابعين من نقلة الآثار، وسير السلف صحة لا يتطرق إليها ريب، ولا يتخالجها (2) شكٌّ، كما تواتر خوضهم في مسائل الفرائض، ومشاوراتهم (3) في أحكام الوقائع الفقهية العملية، وحصل العلم به أيضاً بأخبار آحاد لا يتطرق الشك إلى مجموعها، وإن تطرق الاحتمال إلى آحادها كما ذكرنا في ذم البدعة، وكما نقل عن عمر رضي الله عنه إلى قول الشيخ: فإذن، قد عُرِفَ على القطع أنَّ هذه بدعة
__________
= وقال الحافظ في " الفتح " 3/ 253: المحدثات -بفتح الدال- جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث، وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع، فليس ببدعة.
(1) في (ش): منتحلها.
(2) في (ش): يتخالها.
(3) في (ب): ومشاورتهم.(3/382)
مخالفة لسنة السلف، لا كخوض الفقهاء في التفاريع، فإنَّ ذلك -وإن كان محدثاً- فليس فيما نقل عن السلف زجرٌ عن الخوض فيه، بل نقل عنهم الإمعان في الخوض في مسائل الفرائض، فعرف جواز الخوض فيه.
وأما ما أُبدع من فنون المجادلات، فهو بدعةٌ مذمومةٌ عند أهل التحصيل، وذلك أن ما يشوِّشُهُ الجدل (1) أكثرُ مما يمهِّده، وما يفسدُهُ أكثر ممَّا يصلحه، والجدل يضاهي (2) ضرب الشجرة بالمدَقَّة من الحديد رجاء تقويتها، وهو يكسر (3) أجزاءها ويفسدها، والمشاهدة تكفيك في هذا بياناً، وناهيك بالعيان برهاناً، فَقِسْ (4) عقيدة أهل الدين، والصلاح والتقى من عوام الناس، فضلاً عن خواصِّهم بعقيدة المتكلمين والمتجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ، لا تحركه الصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس عقيدته بتقسيمات (5) الجدل كخيطٍ مُرسل في الهواء تُفيئه الريحُ مرة هكذا، ومرة هكذا.
قلت: إنما يعني (6) هذا الجنس الخاصَّ من العامة، وهم أهل التقوى، والصلاح، والتمييز إذا شكك عليهم في جنسٍ مخصوصٍ من العقائد، وهو المعلوم من الدين بالضرورة من ثبوت الرب سبحانه، وصفات الكمال له، وثبوت (7) النبوة، ونحو ذلك، ولم يُرد أنَّ جميع العوام لا يشكون في دقائق العقائد، فإنهم لم يثبتوها أوَّلاً، فكيف لا
__________
(1) في (ج): الجدال.
(2) في (ش): أيضاً هي.
(3) في (ش): وهي تكسر.
(4) في (ج): ففسر.
(5) في (ش): تقسيمان.
(6) في (ب): معنى.
(7) " ثبوت " ساقطة من (ش).(3/383)
يشكون فيها ثانياً؟
قال الشيخ: وقد ذهب إلى تحريم الكلام، وذمه أئمة الدين، وهم عمدة الإسلام والمسلمين، منهم الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وجميع أهل الحديث.
قال الشافعي رضي الله عنه: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك، خير من أن يلقاه بشيءٍ من الكلام (1).
وقال: حكمي في أهل الكلام أن يُضربوا بالجريد، ويطاف عليهم في العشائر والقبائل، ويقال (2): هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام.
وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبداً، ولا تكاد ترى أحداً ممن نظر في الكلام إلا وفي (3) قلبه دَغَلٌ.
__________
(1) الخبر في " آداب الشافعي ومناقبه " ص 182 و187، و" تاريخ ابن عساكر " 4/ 405/1، وذكره البيهقي في " مناقب الشافعي " 1/ 453 - 454 عن يونس بن عبد الأعلى قالا: أتيت الشافعي بعد ما كلم حفصاً الفرد، فقال: غبت عنَّا يا أبا موسى، لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء، والله ما توهمتُه قط، ولأن يبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله خير من أن يبتليه الله بالكلام. وعلق عليه البيهقي بقوله: إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراد بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وذم أهله غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليلٌ على مراده، ثم نقل عن أبي الوليد بن الجارود قوله: دخل حفص الفرد على الشافعي، فكلمه، ثم خرج إلينا الشافعي، فقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تِهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حُرِّفَ مما عليه هذا الرجل وأصحابه، وكان يقول بخلق القرآن.
ثم قال: وهذه الروايات تدلُّ على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم، وفيما لم يذكرها هنا، وكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده، وقد تكلَّم فيه، وناظر من ناظر فيه، وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه.
(2) " ويقال " ساقطة من (ش).
(3) " في " ساقطة من (ش).(3/384)
وقال مالك: أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه، أيدع دينه كل يوم لدين جديد، يعني: أن أقوال المتكلمين تتقاوم.
وقال: لا يجوز شهادة أهل البدع والأهواء. فقال بعض أصحابه في تأويل كلامه: إنه أراد بأهل الأهواء: أهل الكلام على أيِّ مذهبٍ كانوا.
وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق (1).
وقال الحسن: لا تُجالسُوا أهل الأهواء، ولا تُجادلوهم، ولا تسمعوا منهم.
وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم فيه (2) من التشديد.
قلت: ونقل محمد بن منصور الكوفي (3) نحو (4) هذا عن الإمام القاسم (5) بن إبراهيم وغيره من قدماء أهل البيت عليهم السلام، ذكره في كتاب " الجملة والألفة "، ونقله عنه (6) السيد الشريف العلامة أبو عبد الله الحسني في كتابه " الجامع الكافي "، ونقلتُ منه كثيراً في مسألة القرآن من (7) هذا الكتاب، وهو نقلٌ مفيد.
__________
(1) كتب فوقها في (ش): " أي بالكلام ". وتقدم قول الإمام أبي يوسف.
(2) ساقطة من (ش).
(3) في (ش) " الكرخي "، وهو تحريف.
(4) في (ش): مثل.
(5) في (ج): " القائم " وهو تحريف.
(6) في (ش): عن.
(7) في (ش): في.(3/385)
قال الشيخ: فصل: ولعلك تقول: الكف عن السؤال، والإمساك عن الجواب من أين يغني؟ وقد شاع في البلاد هذه الاختلافات، فظهرت التعصبات، فكيف سبيل هذه المسائل؟.
فإن (1) الجواب في كل مسألة يسأل عنها: ما قال مالك رحمه الله في مسألة الاستواء، إذ (2) قال: الاستواءُ معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة (3)، لينحسم سبيل الفتنة، ولا يقتحم ورطة الخطر، لأنا لا ندري ما الذي أراده الله تعالى، ولم نكلف نحن ولا أنت أيها السائل معرفة ذلك، ومن لم يقنع بما ذكرناه، لم يزده الإكثار إلا تحيُّراً، فهذه صفة مذهب السلف، ولا عدول لأحدٍ عنه، ولا بدل (4) منه إلى قول الشيخ (5).
فصل: ولعلك تقول: لا أنكر حصول التصديق الجازم في قلوب العوام بهذه (6) الأسباب، ولكن ليس ذلك من المعرفة في شيء، وقد كُلِّفَ الناس المعرفة الحقيقية دون اعتقادٍ هو من جنس الجهل، لا يميز فيه الباطل عن الحق.
__________
(1) في (ش): قلنا.
(2) في (ش): " إذا " وهو خطأ.
(3) أورده اللالكائي 3/ 398، وإليهقي في " الأسماء والصفات " ص 408، وابن حجر في " الفتح " 13/ 406، وجوَّد ابن حجر أحد أسانيده.
(4) في (ش): ولا بُدَّ له.
(5) من قوله: " ولعلك تقولُ: الكف ... " إلى هنا ساقط من (ج).
(6) في (ش): لهذه.(3/386)
فالجواب (1): أنَّ هذا غلط ممَّن ذهب إليه، بل سعادة الخلق أن (2) يعتقدوا الشيء على ما هو عليه اعتقاداً جازماً لجبلَّة (3) قلوبهم على موافقة الحق، لأنه ليس المطلوبُ الدليل المفيد، بل الفائدة هي حقيقة الحق على ما هي عليه، ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوِّدانه، ويُنصِّرانه، ويُمجسانه " (4)، فمن اعتقد حقيقة الحق في الله تعالى، وفي صفاته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فهو سعيدٌ، وإن لم يكن ذلك بدليل مجرد كلامي، ولم يكلف الله عبادة إلا ذلك، وذلك معلوم، على الضرورة بجملة أخبارٍ متواترة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في توارد (5) الأعراب عليه، وعرضِه الإيمان عليهم، وقبوله ذلك (6)، وانصرافهم إلى رعاية الإبل والمواشي من غير تكليفه إياهم التفكر في المعجزه، ووجه دلالتها، في حدوث العالم، وإثباث محدثه، وسائر الصفات، بل الأكثر من أجلاف العرب لم يفهموا ذلك، ولم يدركوه بعد طول المدة، بل كان الواحد منهم يُحلِّفُه عليه السلام فيقول: [أنشدك] بالله آلله أرسلك
__________
(1) في (ش): والجواب.
(2) في (ش): في أن.
(3) في (ب) و (ش): بجبلة.
(4) أخرجه من حديث أبي هريرة: مالك 1/ 241، وأحمد 2/ 223 و282 و346 و393 و410، والبخاري (1358) و (1359) و (1385) و (4775) و (6599)، ومسلم (2658)، وأبو داوود (4714)، والترمذي (2139)، والحميدي (1113)، والطيالسي (2359)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 162، والبغوي (84)، وعبد الرزاق (20087)، والخطيب في " تاريخه " 3/ 308 و7/ 355، وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 26.
(5) في (ش): نواد.
(6) في (ش): وقبولهم ذلك منهم.(3/387)
رسولاً؟، فيقول: " اللهُ الله أرسلني رسولاً " (1)، فكان (2) يصدقه (3) بيمينه وينصرف، ويقول الآخر إذا قدم عليه، ونظر إليه: والله ما هذا وجه كذاب (4)، وأمثال ذلك مما لا يحصى، بل كان يُسلِمُ في غزوةٍ واحدةٍ في عصر الصحابة آلاف، لا يفهم الأكثرون منهم أدلة الكلام، ومن كان يفهم، فيحتاج أن يترك صناعته، ويختلف إلى مُعلِّمِهِ مُدَّةً، ولم ينقل قط شيءٌ من ذلك. فعلم (5) علماً ضرورياً أن الله تعالى لم يكلف الخلق الإيمان والتصديق على طريقة المتكلمين.
__________
(1) أخرج البخاري (63)، ومسلم (12)، والترمذي (619)، والنسائي 4/ 123 - 124، وأبو داوود (486) من حديث أنس بن مالك قال: بينما نحن جلوس مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، دخل رجلٌ على جمل، فأناخه في المسجد، ثم عقله، ثم قال لهم: أيكم محمد - والنبي - صلى الله عليه وسلم - متكيء بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكىء، فقال له الرجل: ابن عبد المطلب، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أجبتُك، فقال الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني سائلك فمشدِّدٌ عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك. فقال: " سل عما بدا لك "، فقال: أسألُك بربِّك ورب من قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ فقال: " اللهم، نعم "، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة، قال: " اللهم، نعم " قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: " اللهم، نعم "، قال: أنشدك بالله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا، فتقسمها على فقرائنا؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم، نعم "، فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضِمامُ بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
(2) في (ش): وكان.
(3) في (أ): " يصدق "، وفي (ش) و (ج): " تصديقه ".
(4) أخرج أحمد 5/ 451، والترمذي (2487)، والدارمي 1/ 340، وابن ماجه (1334) و (3251) من طريق عوف بن أبي جميلة، عن زرارة بن أوفى، عن عبد الله بن سلام، قال: لما قَدِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: انجفل الناس عليه، فكنت فيمن انجفَلَ، فلما تبينت وجهه، عرفتُ أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء سمعته يقول: " أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلُّوا والناسُ نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلام ". وصححه الحاكم 3/ 13، ووافقه الذهبي، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الحاكم 4/ 129.
وقوله: " انجفل الناس عليه " أي: ذهبوا إليه مسرعين.
(5) في (ش): فعلمنا.(3/388)
قلت: فهذا من السمع، ومن النظر: أنَّ (1) الدليل كالطريق، والوسيلة إلى الاعتقاد الصحيح، فمن حصل الاعتقاد الصحيح، لم يجب التشاغل بالطريق، مثل سائر الوسائل، خصوصاً إذا خيف من الاشتغال بالوسيلة فوات الأمر المتوسل إليه بالقرائن والتجارب (2)، وربما انتهى الأمر إلى تحريم الخوض في ذلك، حيت يغلب على الظن أن فيه مضرة مظنونة للاتفاق على أن دفع المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، وسيأتي لهذا مزيد بيان وتحقيق إن شاء الله تعالى.
ثم المتكلمون هنا (3) مختلفون، فمنهم من يخلع رِبْقَةَ المراعاة لأحوال السلف، ويصرح بتكفير العامة، فيقعُ في الحديث المتفق على صحته: " إذا قال المُسلم لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدُهُمَا " (4).
وهؤلاء قسمان: منهم من يعتقد هذا ولا يُظهرُهُ، ومنهم من يظهره، والطائفة الأخرى: منهم الذين يراعون ظاهر أحوال السلف، فيقعون في المناقضة، لأنهم يجيبون بأن الأدلة جليَّةٌ، تعرف بالفطرة مع أدنى تأمل، وجوابهم هذا يستلزم إمَّا الاستغناء عن علم الكلام -وهو المقصودُ- وإما دعوى أن أدلة علم الكلام كذلك، وهو باطل بالضرورة، والتجربة تدل على ذلك، فإنا نُحضر أذكى العامة، بل أذكى علماء الفنون غير الكلام، فلا يستطيعُ فهم أدلتهم بالفطرة في المدة اليسيرة، وقد ذكرت فيما مضى ما ذكره الرازي في " المحصول " في دفع هذا بقوله: إنه يستحيل أن يكون العلم بالبرهان جملياً، قال: لأن البرهان إذا تركب من عشر مقدمات،
__________
(1) في (أ): إلى أن.
(2) في (ش): والتجارب فيها.
(3) في (أ): ها هنا.
(4) تقدم تخريجه 2/ 439.(3/389)
فيستحيل ممن علم تسعاً، وقلَّد في العاشرة أن يكون عالماً، ويستحيل ممَّن علم العشر المقدمات أن يزيد فيها، وهذا الذي ذكره ضروري، وهو يمحو تخيُّلهم في الجواب بالمرة (1).
قال الشيخ: فإن قيل: بم يميز المقلد بين نفسه، وبين اليهودي المقلِّد؟
فالجواب: أن المقلد لا يعرف التقليد، ولا يعرف أنه مقلد من (2) يعتقد في نفسه أنه محق عارف، ولا شك في معتقده (3)، ولا يحتاج في نفسه إلى التمييز، لقطعه (4) بأن (5) خصمه مُبطِلٌ وهو محق، ولعله - أيضاً- مستظهر بقرائن وأدلة ظاهرةٍ يرى نفسه مخصوصاً بها، ومميزاً بسببها عن خصمه، وإن كان اليهودي يرى نفسه مثل ذلك، فإنَّ ذلك لا يشوش على المحق اعتقاده، كما أن العارف الناظر يزعم أنه يميز نفسه عن (6) اليهودي بالدليل، واليهودي (7) المتكلم الناظر يزعم أنه مميز عنه بالدليل، فدعواه تلك لا تُشككُ الناظر العارف، فكذلك لا يُشكك المقلد القاطع، ويكفيه في الإيمان أن لا تشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه، فهل رأيت عامياً قط قد اغتمَّ وحزن من حيث تعسَّر عليه الفرقُ بين تقليده وتقليد اليهودي؟ بل لا يخطر ذلك ببال العوام، وإن خطر ببالهم وشوفهُوا به، ضحكوا من قائله، وقالوا: ما هذا إلا هذيان،
__________
(1) " بالمرة " ساقطة من (ش).
(2) في (ش): بل من.
(3) قوله: " ولا شك في معتقده " ساقط من (أ).
(4) في (ش): بقطعه.
(5) في (ج): لأن.
(6) في (ش): مميز عنه.
(7) في (ش): فاليهودي.(3/390)
وكأن بين الحق والباطل مساواةٌ حتى تحتاج إلى الفارق، الفرق أنه على الباطل وأنا على الحق، وأنا متيقن لذلك، غير شاك فيه، فكيف أطلب الفرق حيت يكون الفرق معلوماً قطعاً من غير طلب؟ فهذه حالة المقلِّدين الموقنين، وهذا إشكالٌ لا يقع لليهودي المبطل، لقطعه بمذهبه مع نفسه، فكيف يقع للمقلد المسلم الذي وافق اعتقاده ما هو عند الله تعالى؟ فظهر بهذا على القطع أنَّ اعتقاداتهم جازمة، وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك. انتهى كلامه رحمه الله.
وأقول: إن الله تعالى قد فطر الخلق على معرفته، كما قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، وأوضح ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وزاده بياناً بقوله: " كل مولود يولد على الفطرة " (1)، واتفق الكل على صحته، وهذه الفطرة تقتضي الإيمان بنفسها، وترجحه على ما ينافيه، سواءٌ كانت علماً ضرورياً، كما قاله أهل المعارف من المعتزلة، أو نظرياً (2) جلياً كما يقوله الجمهور، أو يقيناً ظنياً يقتضي من سكون النفس ما يقتضيه النظر، فمن قبلها، ولم يعارضها بما هو دونها من شُبَهِ (3) المبطلين، أثابه الله الزيادة في إيمانه، ومن عصى بعنادٍ، أو تقليدٍ لأبويه أو شيوخه، استحق العقوبة، كما قال تعالى: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة} [الأنعام: 110]، وكما قال تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 211]، وقد أوجبت المعتزلة الخاطر على الله تعالى، وهو زيادة على الفطرة، فكيف لا يفترق
__________
(1) تقدم تخريجه في ص 48.
(2) في (ش): نظراً.
(3) تحرفت في (ب) و (ش) إلى " سنة ".(3/391)