ـ[العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم]ـ
المؤلف: الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه: شعيب الأرنؤوط
الناشر: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت
الطبعة: الثالثة، 1415 هـ - 1994 م
عدد الأجزاء: 9
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي](/)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الأول
مؤسسة الرسالة(1/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
1(1/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(1/3)
بسم الله الرحمن الرحيم(1/4)
قالوا في «العواصم» ومصنفه:
1 - «كان مقبلاً على الاشتغال بالحديث، شديد الميل إلى السُّنَّة». الحافظ ابن حجر «إنباء الغمر» 7/ 372
2 - «إن العواصم والقواصم يشتمل على فوائد في أنواع من العلوم، لا توجد في شيء من الكتب، ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله». الشوكاني «البدر الطالع» 2/ 91
3 - «والذي يغلب على الظن أنّ شيوخه لو جمعوا جميعاً في ذاتٍ واحدةٍ لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا، ولو قلت: إن اليمن لم تنجب مثله، لم أبعد عن الصواب». الشوكاني «البدر الطالع» 2/ 92
4 - «كان فريد العصر، ونادرة الدهر، خاتمة النُّقاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد، بلا خلاف وعناد، رأساً في المعقول والمنقول، إماماً في الفروع والأصول». صدّيق حسن خان «أبجد العلوم» 3/ 190(1/5)
الإمام محمد بن إبراهيم الوزير
وكتابه العواصم والقواصم
بقلم
القاضي الفاضل الأستاذ إسماعيل الأكوع
رئيس الهيئة العامة للآثار ودور الكتب باليمن الشمالي(1/7)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله نحمُده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ باللهِ من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهدِ الله، فهو المهتدي، ومن يُضلِل، فلا هادِيَ له ونصلي ونسلِّم على رسول الله الهادي إلى أقوم طريق، وأوضح سبيل، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإني لا أجد -وأنا أتحدثُ عن الإمام الجليل محمد بن إبراهيم الوزير، رحمه الله- عبارةً تصفُ علماء السنة المجتهدين في اليمن وهو في مقدمتهم أدق وأشمل من كلمة شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله وهو يترجم للإمام تفسه في كتابه " البدر الطالع " مشيراً إلى جهل علماء المسلميين خارج اليمن بمكانة علماء السنة في اليمن، وعُلُوِّ منازلهم، وطول باعهم، ورسوخ أقدامهم في ميادين الاجتهاد وهذا نصُّها:
"ولا ريب أن علماء الطوائف لا يُكثرُون العناية بأهل هذه الديار (اليمن) لاعتقادهم في الزيدية ما لا مقتضى له إلا مجرد التقليد لمن لم يطَّلِع على الأحوال، فإن في ديار الزيدية من أئمة الكتاب والسنة عدداً(1/9)
يُجاوِز الوصف، يتقيِّدونَ بالعمل بنصوص الأدلة، ويعتمدون على ما صحَّ في الأمهات الحديثية، وما يلتحق بها مِن دواوين الإسلام المشتملة على سنة سيد الأنام، ولا يرفعون إلى التقليد رأساً، لا يشوبون دينَهم بشيء من البدع التي لا يخلو أهلُ مذهب من المذاهب من شيء منها. بل هُم على نمط السلف الصالح في العمل بما يدل عليه كتابُ الله، وما صحَّ من سنة رسول الله مع كثرة اشتغالهم بالعلوم التي هي آلات علم الكتاب والسنة من نحوٍ وصرفٍ وبيانٍ وأصولٍ ولغةٍ، وعدم إخلالهم بما عدا ذلك من العلوم العقلية. ولو لم يكن لهم مِن المزية إلا التقيدُ بنصوصِ الكتاب والسنة، وطرح التقليد، فإن هذه خصيصة خصَّ اللهُ بها أهل هذه الديار في هذه الأزمنة الأخيرة، ولا تُوجد في غيرهم إلا نادراً" (1).
أما سببُ تفرد اليمن بظهور علماء مجتهدين ملتزمين بالعملِ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم غير ميِّالين إلى أيِّ مذهب من المذاهب الإسلامية المعروفة، فيرجِعُ إلى أن المذهب الزيدي في أصل عقيدته يدعو إلى الاجتهاد، فلم يَحجُرْ على أتباعه حريةَ التفكير، ولا قيَّدهم بالتزام نصوصه وآرائه، ولكنه أطلق لهم العِنَانَ، وترك لهم الخِيار بعد أن جعل بات الاجتهاد مفتوحاً لمن حذق علومه واستوفى شروطه؛ فكان هذا حافزاً لمن وهبه اللهُ ذكاءً وفِطنة، ورزقه فهماً وبصيرة أن يعملَ بما أوصله إليه اجتهادُه من أدلة الكتاب والسنة، فكان الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أبرزَ منْ بلغ أقصى درجاتِ الاجتهاد المطلق، وكذلك الحسن بن أحمد الجلال (1014 - 1084) وصالح بن مهدي المَقْبلي (1038 - 1108) ومحمد بن إسماعيل الأمير (1099 - 1182) ومحمد
__________
(1) البدر الطالع 2/ 83.(1/10)
ابن علي الشوكاني (1173 - 1250)، رحمهم الله جميعاً على تفاوتٍ فيما بينهم.
ولم أخص هؤلاء بالذكر إلا لأنهم نَعَوْا على العلماء المقلدين جمودَهم، وحثُّوا المسلمين على العمل بالكتاب والسنة، فهذا شيخ الإسلام الشوكاني يستطردُ في ترجمته للإمام الوزير استنكاره على العلماء المقلدين، فيقول: " وإني لأكثر التعجب من جماعة من أكابر العلماء المتأخرين الموجودين في القرن الرابع وما بَعده، كيف يقفونَ على تقليد عالم من العلماء، ويُقدمونه على كتاب الله وسنة رسوله مع كونهم قد عرفوا من علم اللسان ما يكفي فيم فهم الكتاب والسنة بعضه؟ فإن الرجل إذا عرف من لغة العرب ما يكون به فاهماً لما يسمعه منها، صار كأحد الصحابة الذين كانوا في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن صار كذلك، وجب علبه التمسكُ بما جاء به رسولُ الله ععلى الله عليه وآله وسلم، وترك التعويل على محض الآراء. فكيف بمنْ وقف على دقائق اللغة وجلائلها إفراداً وتركيباً وإعراباً وبناء؟، وصار في الدقائق النحوية والصرفية والأسرار البيانية، والحقائق الأصولية بمقام لا يخفى عليه مِن لسان العرب خافية، ولا يَشذُّ عنه منها شاذة ولا فاذة، وصار عارفاً بما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في تفسير كتاب الله، وما صحَّ عن علماء الصحابة والتابعين، ومنْ بعدهم إلى زمنه، وأتعب نفسه في سماع دواوين السنة التي صنفتها أئمة هذا الشأن في قديم الأزمان وفيما بعده فمن كان بهذه المثابة فكيف يسوغ له أن يعدل عن آية صريحةٍ، أو حديث صحيحٍ إلى رأي رآه أحدُ المجتهدين؟ حتى كأنه أحدُ الأغتام الذين لا يعرفون من رسوم الشريعة رسماً. فيالله العجب، إذا كانت نهايةُ العالم كبدايته؛ وآخر أمره كأوله، فقل لي: أيُّ فائدةٍ لتضييع الأوقات في المعارف العلمية؟ فإن قول(1/11)
إمامه الذي يُقلِّده هو ما كان يفهمه قبل أن يشتغل بشيء من العلوم سواه كما نُشاهده في المقتصرين على علم الفقه، فإنهم يفهمونه، بل يصيرون فيه من التحقيق إلى غاية لا يخفى عليه منه شيء، ويدرسون فيه، ويُفتون به وهم لا يعرفون سواه، بل لا يُميزون بينَ الفاعل والمفعول (1).
ثم خَلَصَ شيخ الإسلام إلى هذه النصيحة: " والذي أدينُ الله به أنه لا رُخصةَ لمن علِمَ من لغة العرب ما يفهم به كتاب الله بعد أن يُقيم لسانه بشيء من علم النحو والصرف وشطرٍ من مهمات كليات أصول الفقه في ترك العمل بما يفهمه من آيات الكتاب العزيز، ثم إذا انضم إلى ذلك الاطلاعُ على كتب السنة المطهرة التي جمعها الأئمة المعتبرون، وعملَ بها المتقدمون والمتأخرون، كالصحيحين وما يلتحقُ بهما مما التزم فيه مصنفوه الصحة، أو جمعوا فيه بينَ الصحيح وغيره مع البيانِ لما هو صحيح، ولما هو حسن، ولما هو ضعيف، وجب العملُ بما كان كذلك من السنة، ولا يَحِل التمسكُ بما يُخالفه من الرأي، سواء كان قائله واحداً أو جماعة أو الجمهور، فلم يأت في هذه الشريعة الغراء ما يدل على وجوب التمسك بالآراء المتجردة عن معارضة الكتاب والسنة فكيف بما كان منها كذلك، بل الذي جاءنا في كتاب الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا". إلى آخر ما أورده في الحث على العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحدهما (2) ".
مولد الإمام الوزير:
وُلِدَ على المشهور الصحيح في رجب سنة 775 بهجرة الظَهْرَاوين
__________
(1) المصدر نفسه 2/ 84.
(2) المصدر نفسه 2/ 85.(1/12)
من شَظب (1) بيد أن المؤرخ عبد الوهاب بن عبد الرحمن البُرَيهي ذكر في تاريخه -وهو يترجم له- ما لفظه: " قلت: قرأتُ تاريخ مولده منقولاً من خطه، قال: مولدي سنة ست وسبعين وسبعمائة " وبمثل هذا روى الإمام شرف الدين في شرح مقدمة كتابه "الأثمار في فقه الأئمة الأطهار" حينما تعرض لذكر محمد بن إبراهيم الوزير استطراداً (2) فقال: " ورأيتُ لابن أخيه وأنا أدركتُ آخر مدته في أول وقت طلبي، رأيت له ترجمة لهذا بخطِّه؛ قال فيها: ولِدَ رحمه الله في شهر رجب الفرد -كما وجدته بخطه- في سنة ست وسبعين وسبعمائة بهجرة الظهْرَاويْن بشَظَب، وهو جبل عالٍ باليمن ".
قلت: وإذا كانت هذه الترجمة التي اعتمد عليها الإمامُ شرف الدين هي التي بين أيدينا اليوم، فهي ليست لابن أخيه؛ وإنما هي لابن ابن أخيه محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير وقد ورد فيها ما لفظه: " مولده -رضي الله عنه ورحمه- في شهر رجب الأصب مِن سنة خمس وسبعين وسبعمائة بهجرة الظَهْرَاوين من شَظَب، وهو جبل عالٍ باليمن، هكذا نقلتُه من خطه رضي الله عنه، وحفظتُه من غيره من الأهل ".
__________
(1) شظب: جبل من بلد بني حجاج من ناحية السُودَة شمال غرب صنعاء على مسافة (100) كيلو متر تقديراً وقد خربت هجرة الظهراوين ولم يبق إلا اطلالُها، وانظر في ذلك كتابنا "هجر العلم ومعاقله في اليمن".
(2) ذكره الإمام شرف الدين بعد أن ذكر أبا محمد الحسن بن أحمد الهَمْداني صاحب "الإكليل" ونشوان بن سعيد الحميرى صاحب "شمس العلوم" وشنع عليهم فقدح فيهم للتحذير من الانخداع بكلامهم، وعدم الالتفات إلى ما يدعون إليه، ونسب إلى الإمام محمد بن إبراهيم الوزير أشياء لم يذكرها سواه من علماء اليمن حتى خصومه الذين اختلفوا معه، وانتقدوه، واعترضوا عليه. والسبب في ذلك أنه كان -كأخيه العلامة الهادي بن ابراهيم- مؤيداً للإمام المنصور علي ابن الإمام صلاح الدين الذي تغلب على الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى جد الإمام شرف الدين، وألف فيه كتاباً أسماه " الحسام المشهور في الذب عن سيرة الإمام المنصور ".(1/13)
أما ما ذكره السخاوي في " الضوء اللامع " بأنه وُلدَ تقريباً سنة 765 فلا صحةَ لذلك، وقد فَنَّد هذا الوهم شيخ الإسلام الإمام الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمته حيث قال: " وهذا التقريب بعيد والصواب الأول " (أي سنة 775).
نشأته ودراسته وشيوخه:
نشأ في هجرة الظهراوين بين أهله الذين آثروا طلبَ العلم على ما سواه، وانقطعوا له، واشتغلوا به درساً وتدريساً وتأليفاً، فأخذ يسيرُ على منهجهم، ويقتفي أثرَ من سبقه منهم، متبعاً خطاهم، وملتزماً بمسلكهم، فحفظ القرآن الكريم وجوده واستظهره، وحقظ متون كتب الطلب من نحوٍ وصرفٍ ومعانٍ وبيان وفقه وأصول، ثم أخذ في قراءة شروَحها المختصرة، ورحل إلى صعدة.
فأخذ عن أخيه الأكبر العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير في جميع الفنون تحقيقاً، واستفاد منه كثيراً حتى في علم الأدب.
وأخذ عن القاضي العلامة محمد بن حمزة بن مظفر، وكان المشارَ إليه في علوم العربية واللغة والتفسير.
وقرأ علم الأصول على القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدَّوَّاري.
ثم رحل إلى صنعاء، فأخذ عن القاضي علي بن أبي الخير " شرح الأصول " وهو معتمد الزيدية في اليمن، " والخلاصة " للرصاص، "والغياصة الجامعة لمعاني الخلاصة" للقاضي محمد بن يحيى بن حنش، وتذكرة الشيخ ابن متَّويه، وسمع عليه " مختصر المنتهى " في علم الأصول لابن الحاجب، كما قرأ هذا المختصر على السيد جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم، ولما سمِعَه عليه، بهَرَهُ ما رأى من صفاء ذهنه، وحُسن نظره وألمعيته وبلاغته وفطنته وبراعته، وكان يُطنِبُ في الثناء عليه، ويرشد طلبة العلم إليه.(1/14)
وأخذ أيضاً عن شيوخ آخرين.
أما ما قرأه لنفسه من سائر العلوم، فشيء كثير لا يأتي عليه الحصرُ.
وكان عمدة قراءته التي أفنى فيها عنفوان شبابه -كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه الفضائل- علم أصول الفقه وعلم أصول الدين (علم لطيف الكلام) فقد جود فيهما غايةَ التجويد؛ وفحص وحقق وبحث، وبلغ الغاية القصوى، واطَّلع من أقوال أهل الفنين على ما لا يكادُ يعرفه إلا مثلُه، كما يُحدثنا هو نفسه في كتابه " العواصم والقواصم " الذي نقدم له بقوله: " وقد وهبتُ أيام شبابي وزمانَ اكتسابي لكدوره علم الكلام والجدال والنظر في مقالات أهل الضلال حتى عرفتُ قولَ من قال:
لقد طُفتُ في تلك المعاهد كلها ... وسيَّرتُ طرفي بَيْن تلك المعالِمِ
وسبب إيثاري لذلك، وسلوكي تلك المسالك أن أول ما قرع سمعي، ورسخ في طبعي وجوب النظر والقول بأن من قلد في الاعتقاد كفر، فاستغرقتُ في ذلك حدة نظري وباكورة عمري. وما زلت أرى كل فرقة من المتكلمين تداوي أقوالاً مريضة؛ وتقوي أجنحة مهيضة، فلم أحصلْ على طائل، وتمثلت فيهم بقول القائل:
كل يداوي سقيماً من معايبه ... فمن لنا بصحيحٍ ما به سقم
تحوُّله إلى علوم الكتاب والسنة:
فرجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله، وقلت: " لا بد أن تكون فيهما براهين وردود على مخالفي الإسلام، وتعليم وإرشاد لمن اتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، فتدبرت ذلك، وانشرح صدري، وصلح أمري وزال ما كنتُ به مبتلى ".(1/15)
ثم يقول: " هذا وإني لما رَتَبْتُ رُتوب (1) الكعب في مجالسة العلماء السادة، وثبت ثبوتَ القُطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفت شمالي من يميني مشمراً في طلب معرفة ديني أتنقل في رتبة الشيوخ من قُدوة إلى قُدوة وأتوقَّل (2) في مدارس العلوم من ربوة إلى ربوة ولم يزل يَرَاعي للطائف الفوائد نواطف (3) وبناني للطف المعارف قواطف لم يكن حتماً أن يرجعَ طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسيراً، ولم يجب قطعاً أن يعودَ جناحُ طلبي للفوائد مهيضاً كسيراً، ولم يكن بِدْعاً أن تنسمتُ من أعطارها روائح، وتبصرتُ من أنوارها لوائح أشربت قلبي محبةَ الحديث النبوي، والعلم المصطفوي، فكنتُ ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيدِ ما تعفى من رسومه، ورأيتُ أولى ما اشتغلتُ به ما تعيَّن فرض كفايته بعدَ الارتفاع، وتضيّق وقت القيام به بعدَ الاتساعِ من الذب عنه، والمحاماة عليه، والحثَّ على اتباعه، والدعاء إليه، فإنه علْمُ الصدر الأول، والذي عليه بعدَ القرآن المُعوِّلُ، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة {لتبين للناس} وهو الذي قال الله فيه تصريحاً {إنْ هُو إلا وَحْي يوحى} وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين، حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمَّعة " إنِّي أُوتيتُ القُرآنَ ومِثلَه مَعه " (4).
لذلك فقد رسخ هذا الإمامُ في علوم القرآن والسنة حتى فاق أقرانه، وزاحم شيوخَه وتخطاهم، وبلغ مِن علوم الاجتهادِ ما لم يبلُغْه أحدٌ منهم.
__________
(1) في القاموس رتب رتوباً ثبت ولم يتحرك.
(2) في القاموس: وقل في الجبل: صعد.
(3) أي أن أقلامة لم تزل سائلة بلطائف الفوائد.
(4) الروض الباسم 5.(1/16)
اجتهاده:
كان -رحمه الله- من أبرز علماء اليمن المجتهدين على الإطلاق، وقد وصف العلامة أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه "الفضائل" مكانة اجتهاده وعلو منزلته بقوله: " وله في علوم الاجتهاد المَحلُّ الأعلى، والقدح المُعَلى، وبلغ مبلغ الأوائل، بل زاد، واستدرك، واختار وصنف، وألف وأفادَ وجمع وقيد، وبنا وشيد، وكان اجتهادُه اجتهاداً كاملاً مطلقاً، لا كاجتهاد بعض المتأخرين، فإن ذلك إنما يُسمَّى ترجيحاً لأدلة بعض الأئمة المستنبطين على بعض، لا ابتداء اجتهاد واستخراج للحكم عما عُرفَ من غير معترف انتهاض ذلك الدليل عليه بعدَ معرفته للحكم نفسه وللدليل، ولكيفية الدلالة، وانتفاء المعارض، وشروط الاستدلال في العقليات والسمعيات، والتبحر في علم الرواية، ومعرفة الرجال وأحوالهم في النقد (1) والاعتدال والوفيات والأنساب والشيوخ، والتعمق في علم الأصولين والعربية، والتوغل في معرفة الكتاب العزيز، والاطلاع السديد على تفسيره، وكلام المفسرين. ولم يكن بهذه الصفة بغير شك ولا مِرية غيرُ هذا السيد الإمام الأكبر النقيد في هذا الشأن الذي شَهِدَ له بذلك جميعُ أهل الزمان من الأقارب والأباعد، والمخالف له في الاعتقاد والمساعد، ولقد كان آية في زمانه لم يأت الزمانُ بمثلها.
وأما تلك المقاماتُ العالية، والاستخراجاتُ الأصلية من الأدلة الكلية مثل ما صنعه في استخراجاته واختياراته في مسائل الاجتهاد، فهم عن ذلك بمراحل؛ وكيف يكون ذلك؟ وهم يغلطونَ في أسماء الرجال المشهورين، وتلتبِسُ عليهم أزمانُهم، ويُصحِّفُون من أسماء كبارهم، ومن
__________
(1) في الأصل التقيد.(1/17)
جَهلَ الاسم كيف يعرف الحال؟ وكثيراً ما يضبِطون ألفاظاً في متون الحديث (1) مصحفة تصحيفاً يُفسد المعنى، ولا يُعرف منه المراد، ولا يَصِح معه ظن، ولا يصدق عنده اعتقاد. وهو الخبيرُ الخِرِّيتُ الماهِر من (2) ذلك المقصد، وبما تدورُ عليه من معرفة التخصيص والنسخ أعرفُ وأقعد، والترجيح عند التعارض وغير ذلك من الأحكام المترتبة على ذلك وله القوة والمَلَكَةُ في تقوية بعض الأدلة بالطريق التي يقويها على اختلاف أنواع ذلك بوجه صريحٍ، وتصرفٍ صحيح، ولفظ فصيح، وحجة لازمة وأدلة جازمة عقلية ونقلية، وفي تضعيف بعض الأدلة مثل ذلك لا يتبع في ذلك إلا محض الدليل، ولا يكتفي فيه بمجرد أنه قيل كما عليه أكثر الناس تساهلاً وعدم تمكن واقتدار.
وأمره في التفسير لكلام رب العزة كذلك في معرفته نفسه، ثم معرفته قراءته، ومعرفة المفسرين والنقلة عنهم، ومعرفة أحوال الجميع، ومعرفة أسباب النزول وزمانه ومكانه، ومعرفة الألفاظ، وكثيراً مما يتعلق بالتفسير وآيات الأحكام، وتنبني عليه قواعد شرع الإسلام مما يطولُ ذكرُه.
ثم قال: "وإنما الغرض التعريفُ أن حال هذا الرجل -رحمه الله- ليس كحالِ غيره، وأن اجتهادَه كاجتهاد أئمة المذاهب، لا كالمخرجين (3) ومجتهدي المذاهب، ولا كالمرجحين الذين لا يُرجِّحون بغير المعقول، ويشق عليهم معرفة الآثار النقلية، والاطلاعُ على الإسنادات، ومعرفة الرجال، وَيعْسرُ عليهم الأخذُ من لطائف أدلةِ الكتاب والسنة ومعرفتها ومعرفة أنواع الحديث ومراتبه وأقسامه من الصحة والحسن ونحوها التي
__________
(1) في نسخة الأحاديث.
(2) في نسخة في.
(3) كأبي طالب والمؤيد بالله الهارونيين.(1/18)
عليها مدارُ الاجتهاد والترجيح والانتقاد، وليس لِغيره مثلُ هذه الأهلية، ولا أعطاهم الله -سبحانه- مثل هذه العطية" (1).
وما أصدق ما قاله شيخ الإسلام الشوكاني رحمه الله فيه حيث يقول: " والذي يَغْلِبُ على الظن أن شيوخه لو جُمِعُوا في ذاتٍ واحدة، لم يَبْلُغْ علمُهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا، ثم يقول: بعدَ كلام طويل: " ولو قلتُ: إن اليمنَ لم تُنْجِبْ مثلَه لم أُبعِدْ عن الصواب " (2).
ولما بلغ من العلم هذه الدرجة العليا، وبخاصة في علوم القرآنِ والسنة التي بَرزَ فيها، وأقبل على العمل بكتاب الله، وما صَح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الاجتهاد، ومندِّداً بعلماء عصره الذين التزموا بالتقليد، لم يرُق لهم خروجُه على ما أَلفوهُ من التقليد ودعوته لهم إلى نبذه، والرجوع إلى العمل بكتاب الله وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم، فناصبوه العداء، وشنعوا عليه، وشكَّكوا في دعوته، وصدُّوا الناسَ عن سلوكِ هذا المنهج القويم، والذي تَصَدَّرَ هذه المعارضة هو شيخُه العلامة جمالُ الدين علي (3) بن محمد بن أبي القاسم، فقد جرت بينَه وبينَ تلميذه منازعة في مسائل كما ذكر صاحب " الفضائل " وقال: " وكان مِن شيخه طَرَفٌ من الحَيف في السؤالات، وتحويلٌ لما يرويه الإمام محمد بن إبراهيم على صفة أنه يأخذ من كلامه مفهوماً لم يقصده، أو قد صرَّح بنفيه والإجماعُ منعقد على عدم اعتبار مفهومٍ وقع التصريحُ بخلافه، وما كان ذلك إلا لمكان دعوى الاجتهاد ".
__________
(1) الفضائل.
(2) البدر الطالع 2/ 92.
(3) هو مؤلف تجريد الكشاف، ويقال: إن له تفسيراً حافلاً في ثمان مجلدات. مولده سنة 769 ووفاته سنة 837.(1/19)
ثم قال: "وترسَّل السيدُ جمال برسالةٍ حكى فيها كلام الإمام محمد بن إبراهيم، وأجابه على حسب ما حكاه وطلح في موضع التطليح، وساقه مساقَ العلماء، وعلى منهاح الاستدلال والجدل الكامل في أحسن مساق وأوفى عبارة".
وقال محمد (1) بن عبد الله بن الهادي في ترجمته للإمام محمد بن إبراهيم: " وقد نسب -أي جمالُ الدين علي بن محمد بن القاسم في رسالته إلى محمد بن إبراهيم- القول بالرؤية، وبقدَمِ القرآن، ولمخالفته أهل البيت، وقد بناها على مجرَّد التوهمات الواهية والتخيلات الباردة ". وقال شيخ الإسلام الشوكاني في " البدر الطالع " في ترجمة علي بن محمد بن أبي القاسم المذكور: " ولكنه لما اجتهد السيد محمد بن إبراهيم، ورفض التقليد، وتبحر في المعارف، قام عليه صاحبُ الترجمة في جملة القائمين عليه، وترسل عليه برسالة تَدُلُّ على عدم إنصافه، ومزيد تعصبه سامحه الله ".
مع أن جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم كان من المعجبين بتلميذه الإمام محمد بن إبراهيم، وكان يحُثُّ طلبة العلم على الأخذ عنه، وُيثني على علمه ونبوغه كما وصف ذلك أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه " الفضائل " بقوله: ولقد حكى لنا السيدُ الإمام علي بن أبي القاسم -وكان من أجل مشايخه سئل عنه- وكان في نفسه عليه ما يقع في نفوس العلماء فقال: "هو أذكى الناس قلباً، وأزكاهم لُباً كأنَّ فؤاده جذوةُ نار تتوقد ذكاءاً، وغيرُه أكبرُ منه سناً ومثله وأصغر من علماء زمانه المصنفين لم يبلغوا هذا المحل، إنما غايةُ اجتهادهم أن يقولوا: هذا أولى، لأنه حاظر، والحظر أقدم من
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير كان عالماً مبرزاً في علوم العربية، وله معرفة قوية بالأنساب وله خط جميل.
مولده بصعدة في شعبان سنة 810 ووفاته في حدة سنة 897.(1/20)
الإباحة، أو عام ومعارِضُه خاص، أو مطلق ومعارضه مُقَيَّد ونحو ذلك" (1).
ورغم هذا الثناء والتقدير من شيخه، فإنه قد تحوَّل من مادح إلى قادح، ومن صديق إلى كاشح، ومن مُعجبٍ به وبعلمه ونبوغه إلى مسفِّهٍ له، ومنفرٍ للناس عنه مما آلم الإمام الوزير وأحزنه، فقال معاتباً شيخه:
عَرَفْتَ قدْرِي ثُم أنكَرتَهُ ... فما عدا بالله مما بدا؟
في كل يوم لك بي موقف ... أَسرَفْتَ بالقَوْل بسُوء البَدَا
أمْسِ الثنَا واليومَ سوءُ الأذى! ... يا لَيْتَ شِعري كيف تضحي غدَا؟
يَا شيْبة العتْرةِ في وَقْتهِ ... ومَنْصِبَ التعْلِيمِ والاقْتدَا
قَد خلَعَ العِلْمُ رداء الهُدَى ... علَيْكَ، والشيْبُ رِداءَ الرَّدَى
فَصُنْ رِدَائَيكَ وطَهرْهُما ... عَنَ دنسِ الإسْراف والإعتدَا
وقد ردَّ الإمام محمد بن إبراهيم الوزير على رسالة شيخه بكتابه " العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم " الذي يُعد ذخيرةً نفيسةً في عالم المؤلفات الإسلامية لم يَسْبِقْ لأحد في المتقدمين، ولا في المتأخرين أن ألف في موضوعه مثله.
وقد وصف ما حدث له مِن علماء زمانه المتمسكين بالمذهب، والمجاهرين بمعاداته لتمسكه بالسنة النبوية بقوله " وإني لما تمسكتُ بعروة السنن الوثيقة، وسلكتُ سنَن الطريقة العتيقة، تناولتني الألسنةُ البذيئة من أعداء السنة النبوية، ونسبوني إلى دعوى في العلم كبيرة، وأمورٍ غير ذلك كثيرة حرصاً على ألا يُتَبَّع (2) ما دعوتُ إليه من العمل بسنة سيد المرسلين،
__________
(1) الفضائل.
(2) وهذا هو ما جرى للإمام المقبلي، فقد حُورب حتى اضطر إلى بيع بيته وماله، وهاجر بأهله إلى مكة المكرمة. وجرت وقائع مماثلة للبدر محمد بن إسماعيل الأمير، ولشيخ الإسلام الشوكاني، وقد ذكر ما حدث له في كتابه " أدب الطلب ".(1/21)
والخلفاء الراشدين، والسلف الصالحين، فصبرت على الأذى، وعلمتُ أن الناس ما زالوا هكذا:
ما سَلِمَ اللهُ من بريَّته ... ولا نبيُّ الهُدى فَكيف أنا! (1)
وقد اعترض عليه شيخُه المذكور برسالة وصفها الإمام ابنُ الوزير بقوله: " إلاّ أنه لما كثر الكلامُ وطال، واتسع مجال القيل والقال جاءتني رسالة محبَّرة، واعتراضات محررة، مشتملة على الزواجر والعظات، والتنبيه بالكلم المُوقِظَات، زعم صاحبها أنه من الناصحين المحبين، وأنه أدَّى بها ما عليه لي من حق الأقربين، وأَهلاً بمن أبدى النصيحة، فقد جاء الترغيب إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة، وليس بضائرٍ إن شاء الله ما يَعْرِضُ في ذلك من الجدال مهما وُزِنَ بميزان الاعتدال، لأنه حينئذ يدخل في السنن، ويتناوله أمر {وَجَادِلهُم بالتِي هِيَ أحْسَنُ} (2) وقد أجاد من قال، وأحسن:
وجدالُ أَهلِ العِلْمِ لَيْس بِضائِرٍ ... مَا بَيْنَ غَالبِهِم إلى المَغْلُوبِ
وعقب الإمام ابن الوزير على ما ورد في هذه الرسالة بقوله: بيد أنها لم تَضعْ تاجَ المرح والاختيال، وتستعملْ ميزان العدل في الاستدلال، بل خُلِطَت مِن سِيما المختالين بشوب، ومالت من التعنت في الحجاج إلى صوب، فجاءتني تمشي الخطَرَا، وتميس في محافِل الخطَرا، مفضوضةً لم تُختم، مشهورةً لم تكتم، متبرجةً قد كشفت حجابَها، وطرحت نِقابها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر حتى مضت أيدي الابتذال
__________
(1) قبله:
ولَيس يَخْلُو الزمانُ مِنْ شُغلٍ ... فيه ولا مِنْ خيانةٍ وَخنَا
(2) النحل 125.(1/22)
نضارتَها، وافتضت أفكارُ الرجال بكارتها، وخيرُ النصائح الخفي وخيرُ النُّصاح الحفى، وخيرُ الكتاب المختوم، وخير العتاب المكتوم.
ثم إني تأملت فصولها، وتدبرت أصولها، فوجدتها مشتملة على القدحِ تارةً فيما نُقِلَ عني من الكلام، وتارةً في كثير من قواعد العلماء الأعلام، وتارة في سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام فرأيتُ ما يَخُصُّنِي غير جديرٍ بصرف العناية إليه، ولا كثير يستحق الإقبال بالجواب عليه.
وأما ما يختصُّ بالسنن النبوية، والقواعِد الإسلامية مثلَ قدحه في صحة الرجوع إلى الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، والآثار الصحابية، ونحو ذلك من القواعد الأصولية، فإني رأيتُ القدحَ فيها ليس أمراً هيّناً، والذب عنها لازماً متعيناً، فتعرضتُ لجواب ما اشتملت عليه من نقض تلك القواعد الكبار التي قال بها الجِلَّةُ من العلماء الأخيار (1).
وقد قصدتُ وجه اللهِ تعالى في الذب عن السنن النبوية، والقواعد الدينية، وليس يضرني وقوفُ أهل المعرفة على ما لي من التقصير، ومعرفتهم أن باعي في هذا الميدان قصير، لاعترافي بأني لست من نُقَّاد هذا الشأن، ولا مِن فرسان هذا الميدان، لكني لم أجد من الأصحاب من تصدَّى لجواب هذه الرسالة لما يجُرُّ إليه ذلك من سوء القالة، فتصديتُ لذلك من غير إحسان ولا إعجاب، وَمَنْ عَدِمَ الماءَ تيممَ بالتراب، عالماً بأني لو كنت باريَ قوسها ونبالِها، وعنترةَ فوارسها ونزالها، فلن يخلو كلامي من الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي من الكدر عند النقاد. فالكلامُ الذي لا يأتيه
__________
(1) الروض الباسم 1/ 9 و10.(1/23)
الباطل من بين يديه ولا من خلفه هو كلامُ الله الحكيم، وكلامُ من شهد بعصمتِهِ القرآن الكريم؛ وكُلُّ كلام بعدَ ذلك، فله خطأ وصواب، وقِشر ولُباب. ولو أن العلماء رضي الله عنهم تركوا الذبَّ عن الحق خوفاً من كلام الخلق، لكانوا قد أضاعوا كثيراً، وخافوا حقيراً، وأكثر ما يخافُ الخائفُ في ذلك أن يَكِلَّ حسامُهُ في معْتَرَكِ المناظرة، وينبو ويعثر جوادُهُ في مجال المحاجة ويكبو، فالأمر في ذلك قريب إن أخطأ فمن الذي عُصِمَ؟ وإن خُطِّىء فمن الذي ما وُصِمَ؟ والقاصد لوجه الله تعالى لا يخافُ أن يُنقد عليه خللٌ في كلامه، ولا يهابُ أن يُدل على بطلان قوله، بل يُحِبُّ الحقَّ من حيث أتاه، ويقبل الهُدى ممن أهداه، بل المخاشنةُ بالحق والنصيحة أحبُّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك مَنْ صَدَقَكَ لا من صدَّقك. وفي نوابغ الحكمة: عليك بمن ينذر الإبسال والإبلاس، واياك ومن يقولُ: لا بَاسَ وَلا تَاس.
ثم إن الجواب لما تم -بحمد الله تعالى- اشتمل على علوم كثيرة، وفوائد غزيرة أثرية ونظرية، ودقيقة وجلية، وجدلية وأدبية، وكلُّها رياض للعارفين نضِرة، وفراديسُ عند المحققين مُزْهِرَة، لكني وضعته وأنا قوي النشاط، متوفر الداعية، ثائر الغَيرة، فاستكثرتُ من الاحتجاج رغبةً في
قطع اللجاج، فربما كانت المسألة في كتب العلماء رضي الله عنهم مذكورة غيرَ محتج عليها بأكثر من حجة واحدة، فأحتج عليها بعشر حُجج؛ وتارة بعشرينَ حُجة، وتارة بثلاثين حُجة، وكذلك قد يتعنَّت صاحبُ الرسالة، ويُظهِرُ العُجْبَ مما قاله فأحبُّ أن يظهر به ضعفُ اختياره، وعظيم اغتراره، فاستكثر من إيراد الإشكالات عليه حتى يتضِحَ له خروج الحق من يديه، فربما أوردتُ عليه في بعض المسائل أكثر من(1/24)
مئتي إشكال على مقدار نصف ورقة" (1).
وهذا هو ما أشار إليه شيخ الإسلام الشوكاني في معْرِضِ كلامه عن " العواصم والقواصم " في أثناء ترجمته لمؤلفه، فإنه قال: " ومن أراد أن يعرف حالَه -أي حال الإمام محمد بن إبراهيم الوزير- ومقدار علمه، فعليه بمطالعة مصنفاته، فإنها شاهدُ عدلٍ على علو طبقته، فإنه يسرد في المسألة الواحدة من الوجوه ما يبْهَرُ لُبَّ مطالعه، ويعرف بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا الإمام كما يفعله في " العواصم والقواصم " فإنه يورد كلامَ شيخه السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه، ثم ينسفه نسفاً بإيراد ما يُزَيِّفُهُ من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالم الكبير في قوته استخراج البعض منها" (2).
رحلته إلى تعز
رحل الإمام ابن الوزير إلى تعز إلى الإمام نفيس الدين سليمان بن إبراهيم العلوي الحنفي، وبعث أخوه العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير رسالة منه إلى الإمام نفيس الدين يصف علم أخيه جاء فيها ما يلي:
" وأما محمد أخي، فإنه لما أخذ من علم الحديث، جذب إليه القلوب ورقَّقها، ودعا إلى طائفةٍ من العلماء (3) ... وشوّقها، وهو بحمد الله ممن جَوَّد في علم الكلام وصنف، وبرَّز فيه وشنَّف، وجالس في نقله الأفاضل، ومارس في العلم فأفحم كل مناضل إلاّ أنه نزل إليكم، ففاضت
__________
(1) الروض الباسم 1/ 11 و12.
(2) البدر الطالع 2/ 90.
(3) لم تظهر الكلمة في الأصل.(1/25)
بركاتُكُم على أحواله وأقواله، وصار في هذا الفن لا يُجارى، وكأنَّه لقنه هذا العلمَ شيخُ بخارى (1) مع إجادته في الفنين العظيمين: علمِ الكلام وعلمِ الأصول: فاعترضه بعضُ الأصحابِ الأكابر، وهي من ذوي الدفاتر والمحابر، فصنف كتابه الكبير في الرد على المعترض. ولما صنفه تراشقته الألسنُ، وتغامزت به الأعين، وتوغَّرت عليه الصدور، وقال الناسُ فيه مقالاً، وأغضب فيه رجال رجالاً، فتصفحتُ كتابَه الكبير، فلم أره أتى بما فيه ضراً (2) ... الله هجراً، ولكنه سلك عندهم طريقاً وعراً، وأظهر مِن خلافهم أمراً إمرا، وجاء فيه مما لا يعتاد في جهتهم من الذبِّ عن علم الحديث وحملته ومن سلك مسلكه كان بين الناس غريباً، ووجب أن يتخذ من الصبر مجناً صليباً ". انتهى.
وقد أخذ الإمام الوزير عن الإمام نفيس الدين العلوي وأجازه بما لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله حمداً يُوافي نعمه، ويُكافىء مزيده، لا نحصي ثناء عليه، والصلاة والسلامُ على رسوله سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذرياته وأصهاره وأنصاره كلما ذكرهم الذاكرون، وَغَفَلَ عن ذكرهم الغافلون.
وبعد، فإنه شرفني الله تعالى، ورحل إلي، وقدِمَ على إلى بلدي مدينة تعز المحروس مستقر المملكة اليمنية الرسولية عَمَرَهَا الله بالعلم الشريف سَيِّدُنَا الإمام حقاً، والمجتهدُ صدقاً، الفائقُ على أقرانه من
__________
(1) الإمام محمد بن إسماعيل البخارى رحمه الله.
(2) أكلت الأرَضة مكان الفراغ.(1/26)
الأغصان النبوية، والأفنان المصطفوية، المؤيَّد بالتأييد الإلهي، المختارُ لله تعالى، والموفِّق في اجتهاده، جمال العترة النبوية محمدُ بنُ إبراهيم بن علي ابن المرتضى بن المفضل بن منصور بن محمد العفيف، بن المفضل الحسني السني بحمد الله تعالى وسمع من لفظي، وقرأ علي ثُلُثَ كتاب "الجمع بين الصحيحين" صحيحي البخاري ومسلم رحمة الله عليهما جَمْع الإمام الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن حُميد الأزدي الحُميدي الأندلسي الظاهري المذهب من كبار تلامذة ابن حزم، مولده في سنة عشرين وأربعمائة. أجمع العلماء أنه لم يكن في العلماء له نظير في براهينه وعفته وورعه. وتوفي سابع عشر من ذي الحجة سنة 488. وأجزته باقي الكتاب لأهليته لذلك ودينه وأمانته وعلمه وبراعته، وسمع معه ما ذكرتُهُ الفقيهُ الصالحُ النبيه صالحُ بن قاسم بن سليمان بن محمد الحنبلي ثم المَعمري القادم معه، وآخرون من بلادنا.
وأخبرتُهُم أني قرأته على شيخي الإمام الحافظ المحقق المجتهد المقدم على مقرئي كتاب الله تعالى أبي الحسن موفق بن علي بن أبي بكر ابن محمد بن شداد المقري الهَمْدَاني، ومولده سنة 694، ووفاته في شهر شوال سنة 771، قال: أنا الشيخُ الإمامُ الحافظ المجتهد أبو العباس شهابُ الدين أحمد بن أبي الخير بن منصور بن أبي الخير الشماخي السعدي، ومولده في سنة 657، ووفاته سنة 729 قال: أنا والدي الإمام الحافظ المجتهد أبو الخير، مولده في سنة 611، ووفاته في 673، قال: أخبرنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي بن عبد العزيز الفَشَلي، قال: أنا الإمام برهان الدين أبو الفرج نصر بن علي الحصري البغدادي عرف بالبرهان بروايته عن أبي الفتح عبد الباقي بن أحمد الحنفي عرف بابن البطيّ بروايته عن الحميدي.(1/27)
وأرويه عن والدي الإمام الحافظ أبي اسحاق برهان الدين إبراهيم بن عمر العلوي الحنفي إجازة منه لي في سنة 752 قال: أنا الإمام أحمد بن أبي الخير بسنده قال والدي رحمه الله. وأخبرنا الإمام الحافظ أبو الحجاج يوسف بن عبد الرحمن المِزي، والشيخ الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي وغيرهما، قالا: أخبرنا الشيخُ المسندُ علي بن أحمد البخاري، عن الإمام أبي محمد بن أبي بكر بن أبي القاسم بروايته عن الإمام الحافظ أبي القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي بروايته عن المصنف الحميدي.
وأرويه عن والدي، عن الذهبي قال: قرأته على أبي الفهم بن أحمد السلمي قال: أنا أبو محمد بن قُدَامَة (ح) قال الذهبي: وقرأت على أبي سعيد الحلبي، عن عبد اللطيف بن يوسف قالا: أنا أبو الفتح محمد ابن عبد الباقي عن الحميدي. وأجزته وصاحبَه جميعَ رواية صحيح الإمام الحافظ، المجتهد المقلِّد، المتبع لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجامع الصحيح المسند من أمور سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه ومغازيه أبي عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجُعْفي رحمه الله تعالى، وأخبرته أني قرأته جميعاً على الشيخ الصالح العابد الناسك شرف الدين أبي عمران موسى بن مُرّ بن رماح الغزولي الحنفي الدمشقي الزُبَيْدي منسوب إلى القبيلة المعروفة رحمه الله، وقد قَدِمَ علينا ديارنا إلى تعز المحروس من البلاد اليمنية في خامس ربيع الأول سنة 795 وتم ذلك في ثلاثة وعشرين مجلساً آخرُها يوم الخميس ثاني وعشرين شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، ومولده في سنة 741 وتوفي عندنا في تعز المحروس في المدرسة المجاهدية في ليلة الأحد من شهر جمادى الأولى سنة 795 وكأنه لم يصل إلينا إلا لنأخذ طريقَ(1/28)
الحجاز عنه محققة فلله الحمد. ووالدي رحمه الله وآخرون قالوا: أخبرنا بالجامع الصحيح المذكور الذي هو أصح الكُتُبِ بعدَ القرآن العزيز عند جماهير العلماء الشيخ الصالحُ الكبيرُ ملحق الأصاغر بالأكابر والأحفاد بالأجداد بعد أن استدعي به إلى مدينة دمشق المحروسة أبو العباس أحمد ابن أبي طالب نعمة بن أبي النِعَم بن علي بن حسن بن بيان عُرف بابن الشِّحِنة الحجار وهو المُعَمّرُ الذي أجمع علماءُ مصر والشام على الأخذ عنه لقرب سنده، وعلوِّ مشايخه، ومولده سنة 624، وفاته في خامس وعشرين صفر من سنة 730 وبلغ عمره 106 رحمه الله تعالى، قال: أنا الشيخ الصالح الحسين بن المبارك بن عمران بن المُسلم الزَبيدي بفتح الزاي، ومات في صفر سنة 631، ومولده في سنة 545، قال: أنا الشيخ الصالح أبو الوقت عبد الأول بن علي بن شعيب الصوفي الهروي السِّجزي ولد في سابع ذي القعدة في سنة 458 وماتت في ذي القعدة سنة 553 قال: أنا الشيخ الفقيه أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل بن الحكم الداوودي الشافعي، ولد في شهر ربيع الآخر سنة 364. ومات في شوال سنة 469 قال: أخبرنا الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه الحموي السرخَسِي، ومولده في سنة 293 ومات في ذي القعدة (1) لليلتين بقيتا منه سنة 381 قال: أنا الشيخ الصالح محمد بن يوسف بن مطر الفربري بفَربرْ، وولد في سنة 231 ومات سنة 320 قال: أنا الشيخ الإمامُ الحافظُ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري الجُعفي مولاهم، ومولده بعد صلاة الجمعة لثلاث عشرة خلت من شوال سنة 194، وتوفي
__________
(1) كذا الأصل وفي سير أعلام النبلاء 16/ 493: ذي الحجة.(1/29)
في ليلة السبت هي ليلة الفطر بعدَ صلاة العشاء وذلك سنة 256.
قلت: فبيني وبين البخاري سبعة رجال وللمجاز له ثمانية رجال، وهذا غايةُ العلو في وقتنا، قال مشايخنا: ليس على وجه الأرض أعلى من هذا السند، وإنما كان كذلك، لأن كلاً من المشايخ عُمر مائة أو قريباً منها أو زيادة عليها.
قلتُ (1): هو كما قال النفيسُ العلوي فإني قد وقفت على إجازه الفقيه العالم المحدث شهاب الدين أحمد بن سليمان الأوزري الصَعدي للإمام الأعظم أمير المؤمنين الناصر لدين الله محمد بن علي بن محمد بن علي ابن منصور بن يحيى بن منصور بن المفضَّل كتب الحديث فوجدتُ هذه الإجازة أعلى إسناداً وأقدم ميلاداً، فإن بينَ الفقيه الأوزري وبين البخاري أحدَ عشرَ رجلاً، وللمجاز له اثنى عشر رجلاً، وطريق الفقيه أحمد الأوزري -نفع الله به- طريق الفقهاء بني مُطَيْر، وقد حققتُ ذلك، فوجدته كذلك، وكذلك وقفت على إجازة الأوزري -رحمه الله- لحي السيد العلامة جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم الهادوي رحمه الله تعالى، فوجدتُ بينَ الفقيه الأوزري وبين البخاري أحد عشر رجلاً، وبين المجاز له وبين البخاري اثني عشر رجلاً وهذا سندٌ صحيح منه إلى البخاري والله أعلم.
قال: ولي في الحجاز مشايخ كثيرون.
وأجزته أيضاً رواية صحيح مسلم بن الحجّاج بن مسلم بن الورد ابن شاهنشاه القشيري، ورواية سنن الإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السِّجستاني، ورواية جامع الإمام أبي عيسى بن محمد بن عيسى بن سورة
__________
(1) القائل هو محمد بن عبد الله بن الهادي الوزير.(1/30)
ابن سلمة من الضحاك الترمذي، وكتابه الشمائل، ورواية سنن الإمام أبي عبد الرحمن النسائي، وصحيح أبي حاتِم بن حبان، وابن خُزيمة، ومسند الشافعي، وأبي حنيفة، وغير ذلك. وسمع من لفظي " الأربعين " للإمام الحافظ القطب أبي زكريا يحيى بن شرف النووي في مجلس واحد وأجزته بحق سماعه لذلك من لفظه هو وصاحبه صالح المذكور بروايتي لها قراءة على شيخي الإمام موفق الدين علي بن أبي بكر بن محمد بن شداد بروايته عن جبريل عن الحريري عن المؤلف، وأجزت الشريف المذكور رواية جميع ما أرويه من سائر العلوم الدينية، فليروِ ذلك عني موفقاً مسدداً بتاريخ يوم الثلاثاء ثامن شهر ذي القعدة سنة 806 وكان ذلك في منزلي من مدينة تعز المحروس حرسها الله تعالى.
وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى سليمان بن إبراهيم بن عمر بن علي العلوي الحنفي خادم السنة النبوية، لطف الله به وغفر له وتاب عليه وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وحسبُنا اللهُ ونعم الوكيلُ.
رحلته إلى مكة المشرفة
كما رحل إلى مكة المكرمة مرتين، إحداهما سنة 807 هـ، فأخذ فيها على قاضي القضاة محمد بن عبد الله بن ظهيرة الشافعي، فلما رأى مكانته العلمية وجلال قدره، وعِظَمَ محله، قال له: ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى الإمام الشافعي، فأجاب عليه: وقال: سبحان الله أيها القاضي إنه لو كان يجوز لي التقليد، لم أعدل عن تقليد الإمام القاسم بن إبراهيم أو حفيده الهادي.
وأخذ في مكة عن الشيخ نجم الدين محمد بن أبي الخير القُرَشي(1/31)
الشافعي، والشيخ زين الدين محمد بن أحمد الطبري، والشيخ محمد بن أحمد بن إبراهيم المعروف بأبي اليُمن الشافعي، والشيخ علي بن مسعود ابن علي بن عبد المعطي الأنصاري المالكي، والشيخ المُعمَّر أبي الخير بن الحسين بن الزين بن محمد بن محمد القطب القسطلاني المكي، والشيخ علي بن أحمد بن سلامة السلمي المكي الشافعي، وجار الله بن صالح الشيباني، والشريف أحمد بن علي الحُسَيني الشهير بالفاسي، فهؤلاء الثمانية وعلى رأسها ابن ظهيرة كانوا أشهر علماء مكة في ذلك الوقت، وقد أجازوا للسيد محمد كل ما يجوز لهم روايتُهُ من كتب الفقه والحديث والتفسير والسير واللغة والعربية والمعاني والبيان والأصول الفقهية، وكتب الكلام على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم وذلك بشروط الإجازات المعروفة المشهورة (1) وكانت هذه الإجازات في مكة المشرفة في أيام الحج المفضلة سنة 807 هـ.
ولما انقطع الإمام محمد بنُ إبراهيم الوزير للكتاب والسنة، واشتغل بعلومهما، وامتلأت جوانِحُه بحُبِّهما أنشأ سنة 808 قصيدة دالية طويلة يفخر ويعتز بتمسكه بهما وحدَهما، وبحبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ظَلت عَواذِلُه تَروح وَتَغْتدي ... وَتعيد تعنِيفَ المُحِبِّ وتَبْتَدِي
واللوْمُ لَا يَثني المحِبَّ عَنِ الهَوَى ... ويَزيدُ تَوليعَ الفُؤَادِ المُعمَدِ
إنَّ المُحِبَّ عن المَلامَةِ في الهوَى ... في شَاغِل لولا اللوائِمُ يَغْتَدي
ألهى المُحِبَّ عن الملام وَصَدِّه ... بينَ الجوَانِحِ لوعَةٌ لم تَبْردِ
وَخُفوقُ قلْبٍ لا يقرُّ قَرَارُه ... وسُفُوحُ دمعٍ صَوْبُه لَمْ يَجْمَدِ
__________
(1) طبقات الزيدية الكبرى، ترجمته الخاصة بقلم محمد بن عبد الله بن الهادي الوزير.(1/32)
قُلْ للعذُولِ: أفِقْ فلسْت بمُنتَهٍ ... عَنْ حُبِّ أكمَل مَنْ تحلى فابعَدِ
لو لُمتنِي في الغَوْر لَمْ أشتقْ إلى ... شطيهِ أو في نَجْدِهِمْ لَم أُنجِدِ
أوْ كان لَوْمُكَ في التصَابِي مَا صَبا ... قَلبي، ولا غلبَ الغَرَام تجلدِي
أو لمْتَنِي في اللهو لَم أطْرب إلى ... نغمِ الغناءِ مِن الغَرِيضِ ومَعْبدِ
أوْ لُمْتني في المَال لَم يَسْتَهْوني ... نظَرُ اللُّجَيْنِ ؤلاَ نُضَار العسْجَد
أوْ لُمْتنِي فِي غَيْرِ حُبَّ مُحَمدٍ ... لَحَسبْتَ أنكَ بالنصِيحَة مُرْشِدِي
أو لَو أريت مَحَبة مثلاً لَهُ ... لِلمُهتدِي والمُرْتَجي والمُجْتدي
يهْديه أوْ يُجْديه أو يُغنِيه عَنْ ... نُور الرسُولِ الصادعِ المُتوقدِ
هَيهات ما ابْتهج الوُجودُ بِمثلِهِ ... فَدعِ اللجاجَ فَمِثلُه لمْ يُوجَدِ
يَا صَاحبى على الصبابَة في الهَوى ... منْ مِنْكُمَا في حُب أحْمد مُسْعِدِي؟
حَسبِي بأني قدْ شُهِرتُ بحُبِّهِ ... شَرَفاً بِبُرْدَتِه الجَميلة أرتدِي
لِي باسْمِه وَبِحُبهِ وبقُرْبِهِ ... ذِمَمٌ عظَامٌ قَدْ شَدَدْتُ بها يدي
وَمحمد أوْفى الخَلائقِ ذمةً ... فلْتَبْلُغَنَّ بِي الأمانِي في غَدِ
يا قلْبُ لا تَسْتبعِدَنَّ لقَاءَه ... ثِقْ باللقَاءِ وبالْوَفَا فكَأنْ قدِ
يا حَبذَا يَوْمُ القيامَة شُهْرتي ... بيْنَ الخلائق في المَقَام الأحْمَدِ
بِمَحَبتي سُنَنَ الرسُولِ وإنَّني ... فيهَا عَصَيْتُ مُعَنِّفِي ومُفَندي
وَتركْت فيهَا جِيرَتِي وَعشيرَتي ... ومَحَل أترَابِي وَموضِع مولدِي
فَلأَشكُوَن علَيه شكوى موجِعٍ ... مُتَظلًمٍ مُتَجرم مسْتنْجِدِ
مما لقيتُ مِنَ المتاعِبِ والأذَى ... في حبه من ظَالِمِي وحُسَّدي
وأقولُ: أنْجدْ صادِقاً في حُبه ... منْ يُنجِدُ المَظلُومَ إن لم يُنجدِ؟
إني أحِب محَمداً فَوْق الورى ... وَبِهِ كَمَا فَعلَ الأوائِلُ أقتَدِي
فقَدْ انْقَضَتْ خَيْرُ القُرونِ وَلمْ يَكنْ ... فِيهِم بغَيْرِ مُحَمد منْ يهْتدي
وأُحِب آلَ مُحَمدٍ نَفسي الفِدى ... لهُم فما أحدٌ كآل مُحمَّدِ(1/33)
همْ بابُ حِطة والسفِينَةُ والهُدَى ... فِيهم، وهم للظالِمِينَ بِمَرْصدِ
وَهم النجومُ لِخير مُتعبدِ ... وهُمُ الرجُومُ لكل مَنْ لم يعبُدِ
وهمُ الأمانُ لِكُل مَنْ تَحْت السمَا ... وَجزَاءُ أحْمدَ ودهُمْ فتوددِ
والقَوْم والقرآنُ فاعرِفْ فضْلَهم ... ثَقَلانِ للثَّقلين نصُّ مُحَمدِ
وَلَهُم فَضائلُ لست أُحصِي عَدهَا ... منْ رَام عدَّ الشُّهبِ لم تَتعَدد
وَكَفى لَهُم شَرَفاً وَمَجْدَاً باذِخَاً ... شرعُ الصلاةِ لَهُم بكلِّ تشُّهدِ
سَنوا متَاَبعةَ النَّبي، وَلم يَكنْ ... لَهُمُ غرَام بِالمَذاهِبِ عَنْ يَدِ
قَدْ خَالَفُوا آباءهُمْ جهَراً وَلم ... يتقَيَّدُوا إلا بسنة أحْمَد
أو لَم يَشِعْ مَا بَين آلِ مُحمدٍ ... ذكرُ الخِلاف لِمُغْوِرِين ومُنْجِدِ
قَدْ خَالَفَ الهادي بنوهُ لصلْبهِ ... مَع قربهم كمُحَمدٍ وكأحمَد
والسيدَانِ على اتباعِ نصُوصِهِ ... قدْ خَالَفا ما نصَّه بتعَمدِ
بَلْ حرم الجُمْهُورُ مِنْ سادَاتهمْ ... تَقلِيد موْتَاهُم بِغَيْر تَردُّد
ذَا مَذْهَبُ الجمْهور فيما قَالَه ... يَحيى بنُ حَمزة وهوَ أوثقُ مُسندِ
وكذا ابن زيدٍ قال ذَاك وغيْره ... وهُو اختِيارُ الناطق المُتَشَددِ
واسْأل كتاب العِقدِ (1) عما قُلت والـ ... ـمجزي (2) وسائِلْ منْ بَدَا لَكَ وَانشُدِ
وانظُرْ إلى إنصَاف أهل البَيتِ لَم ... يَغْلُوا وَلَم يتعَصبُوا في مَقصدِ
بَلْ خالَفُوا آباءَهُمْ وَتَبَينوا ... وَجْه الصوابِ تَحَرياً لِلأرشَدِ
وَأنا اقتَدَيتُ بهم فأنكر قُدْوتِي ... من طُغمة (3) الغوغاءِ كُل مُبلَّد
قَالوا: نقَلدُهمْ وإنْ مَاتُوا عَلَى ... رأي المؤيدِ ذِي العُلُوم الأوحدِ
قلنا لهم: لَسنا نَعيبُ عَلَيْكُمُ ... مَنْ قلَّدَ الأموَاتَ فَهْوَ مؤَيَّدُ
__________
(1) هو ليحيى القرشي.
(2) هو للسيد أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني.
(3) هكذا وردت الكلمة في الأصل وفي نسخة ضمخة.(1/34)
همْ قَلدُوهمْ واقتَديتُ بهِمْ وَكَمْ ... بَينَ المُقَلد فِي الهَوَى والمُقتدِي؟
مَنْ قَلَّدَ النُّعمانَ أمْسَى شَارباً ... لمُثَلَّثٍ نَجِسٍ خَبِيثٍ مُزبِدِ
وَلَوِ اقْتَدَى بأبي حنيفَةَ لَم يكُن ... إلاَّ إماماً خاشعاً في المَسْجِدِ
ومَنِ اهتدَى فَقدِ اهْتدَى نصاً وإجـ ... ـماعاً وليسَ كذاك من لم يَقْتَدِ
والكُل مُخْتَارٌ لأِقوَم منهَجٍ ... فِيمَا تَحراة وأعذب مورِد
والكُلُّ إخْوانٌ وَدِينٌ وَاحِدٌ ... كُلٌّ مُصِيب في الفُرُوع وَمُهتَدِي
هذي الفرُوع وفي الأصُولِ عَقِيدتي ... مَا لا يُخَالِفُ فيهِ كُلُّ مُوَحِّدِ
دِيني كأهلِ البيت ديناً قيماً ... متَنَزَّهاً عَنْ كلِّ مُعتَقدٍ رَدِي
لكننِي أرضى العتِيقَ (1) وأحتمي ... مِن كلِّ قولٍ حَادِثٍ متَجَددِ
إنَّ السَّلامةَ في العَتِيقِ وإنَّهُ ... كَالشمسِ واضِحةً لِعَينِ المُهتدِي
وَيشُكُّ فيه ذوو الجهالَةِ والعَمَى ... والشمسُ لا تَبدُو لِعَينِ الأرمَدِ
ويصد عَنهُ منْ يصعد (2) فِكرَهُ ... في الغَامِضاتِ وعِلمِ كُلِّ مُسوَّدِ
ما كان للإسلام وقت مُحَمدٍ ... دَرْس سِوَى القُرآن لِلمُتَعَبِّدِ
وَدَعَائِمُ الإسلام كانَت وَقته ... خَمساً يُعَدِّدُها لِكُلِّ مُشهدِ
فَلأيِّ شيءٍ كان من لم يَعْتَمِدْ ... دَرْسَ الأدِلَّة كافِراً كَالمُلحِدِ
مَا عِندهمْ فِي كلِّ برٍ عَابِدٍ ... مُتألِّهٍ متَفَرِّدٍ متجَرِّدِ
لا يعرفُ الأعرَاض لا لَفظاً ولا ... مَعنى يُكفِّرُ كالذي لَم يسْجُدِ؟
كلاَّ، وَرَبِّ مُحمد مَا دِينهُ ... يَقْضِي بِكُفْر التائِب المتَهجِّدِ
إلا الذي تَركَ الشرَائِع جَاحِداً ... لِلدِّينِ كالمُرْتَدِّ والمُتَهَوِّدِ
قَالوا: الأدِلَّة لَيس تخْفَى جُمْلَةً ... قُلْنَا لَهُم: ذا قَوْل مَنْ لَم يَنْقُدِ
__________
(1) المراد بالعتيق هنا أقوال أهل البيت المتقدمة على ما تضمنه (الجامع الكافي) والله أعلم. طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين.
(2) هكذا وردت الكلمة وفي نسخة يضغد.(1/35)
إنْ كانَ لِلإسْلام عَشرُ دَعَائِمٍ ... فانقُصْ مِنَ العَشرِ الدَّعَائِم أوْ زدِ
تَجِدِ الزِّيَادَة في الدَّلِيلِ مُحَالَةً ... والنَّقص لِلبُرهَانِ أعظمُ مُفسِدِ
يا لائِمي في مذْهَبي باللهِ قُلْ ... لِم زِدتَ فِي الإسلام مَا لَم يُعهَدِ
ما لِلسنينَ قَضَت ولَم ينْطِق بِذَا ... خيرُ البَرِيِّةِ مَرةً فَي مَشهَدِ؟
أوَ لَم يكنْ أوْلَى بِتَبيينِ الهُدَى ... وَالمُشكِلاتِ ِلأَحْمَرٍ ولأسْودِ
مَا كان أحْمَدُ في المِرا مُتَدَرِّباً ... كلاَّ، وَلا للمُشكِلاتِ بِمُورِدِ
بَلْ كَان يَأمُرُ بِالجِهَادِ لكُلِّ مَنْ ... جَحَدَ الدليل وكُلِّ بَاغٍ مُعْتدِ
حتى اسْتَقَامَ الدِّينُ وانتعَشَ الهُدَى ... بالمَشْرَفِيةِ والقَنَا المتَقَصدِ
قَامَت شَرِيعَتُهُ لِكلِّ مُجَرّبٍ ... ماضِي المَضارِب لا يَكِلُّ مُجَلّدِ
وكذَاكَ أهلُ البيت مَا زَالُوا علَى ... منهَاجِه مِنْ قَائِمٍ أوْ سيِّدِ
واقْرَ المُهَذبَ تَلْقَ ما أطْلَقتُهُ ... قَدْ نَصَّهُ المَنصُورُ (1) غَيْرَ مُقَيَّدِ
وَاقْرَأ كِتَابَ الجَامع الكَافِي (2) عَلَى ... نَهْجِ الأوائِل إنَّه يُروِي الصَّدِي
إذ لَم يَكنْ سَلفٌ سِوَى أرْبابِهِ ... لِلمُدَّعِي لِولاَءِ عِتْرةِ أحْمَدِ
وَكذلِكَ الرسِيُّ دَانَ وإنَّهُ ... هُو فِي نُجُومِ الآل مِثلُ الفَرْقَدِ
وَكذَا المُؤَيَّدُ (3) قال ذَاك مُصَرِّحاً ... وَأرى ابْنَ حمْزَةَ فيهِ لَمْ يَتَردَّدِ
وَكذاكَ يحيى (4) نَجْمُ آلِ مُفَضَّلِ ... أعني ابْنَ منْضورٍ كَرِيم المَحْتدِ
قدْ قَال ذاكَ ولمْ يَزلْ بلزُومهِ ... يُوصِي، وَمِن شِعْرٍ لَهُ في المَقْصِدِ
يَكْفِيكَ مِنْ جِهَةِ العقِيدَةِ مُسْلِمٌ ... وَمن الإضافةِ حَيْدَرِيٌّ أحْمَدِي
وكَذاكَ شَيَّدَ ذَا سُلالَةُ قَاسِمِ ... يحيى الأخير الحِبْرُ أي مُشَيّدِ
وكذا إبنُ زيدٍ (5) في المَحَجَّةِ نَصُّه ... رأسُ التشيعِ قدوةُ المسترشِدِ
__________
(1) هو عبد الله بن حمزة.
(2) هو لمحمد بن علي العلوي.
(3) المؤيد الهاروني.
(4) يحيى بن منصور من اعلام آل الوزير.
(5) القاضي عبد الله بن زيد العنسي المتوفي سنة 667.(1/36)
وإمام (1) بغداد تَوَدَّدَ أَنَّهُ ... لَم يَعرِفِ التدقِيقَ أيَّ تَوَدُّدِ
وابنُ الخَطِيب (2) وَحُجَّة الإسلامِ (3) قَدْ ... خَمَدَا وَنَارُ ذَكاهُمَا لَمْ تَخْمُدِ
تَابَا وَلكنْ بَعدَ أَن سَلاَّ عَلَى الـ ... إسلامِ سيفاً مَا أرَاهُ يُغْمَدِ
وَبِذَا اكْتَفَى آلُ الرسُولِ ومَنْ ثَوَى ... عنْد الحَجونِ وفي بقِيعِ الغَرْقَدِ
وَكذَا الصحَابَةُ والذِينَ يَلُونَهُمْ ... سَلْ كُل تارِيخٍ بذَاكَ وَمُسْنَدِ
وَكذَلِكَ الفقَهَاءُ قالوا وَامتحِنْ ... قَوْلي وسَل كُتُبَ الترَاجِمِ وانْقُدِ
مَا كنْتُ بِدْعاً في الذِي قَدْ قُلتُهُ ... يا لائمي فَدَعِ الغَوَاية تَرْشُدِ
وإذَا أبَيْتَ وكُنتَ لا تَدري فقُمْ ... عنْ مَجْلِسِ العُلَمَا وَقِفْ بِالمِربَدِ
فَلأجْهَرَنَّ بِما عَلِمتُ فإنْ أعِشْ ... أنصَحْ وإن أقضِي فغَيرُ مُخَلَّدِ
هذَا ومَا اختَرْت العتيق لِحيرتي ... في الغَامِضَاتِ، ولا لِفَرْطِ تَبلُّدِ
فأنَا الذِي أفْنَيتُ شرْخَ شَبيبَتِي ... في بَحثِ كُلِّ مُحَقق وَمُجَوِّدِ
والإفتِخَارُ مَذَمَّةٌ منِّي فسَلْ ... عَنِي المَشَايخَ فَالمَشَايِخُ شُهَّدِي
وإذَا أتتْكَ مَذمتِي مِنْ نَاقِصٍ ... فَافهم فَتِلكَ كنَايَةُ عَنْ سُؤدُدي
وإذَا شككتَ بأنَّ تِلك فَضِيلةٌ ... فاسْتَقْرِ -وَيْحَكَ- وَصفَ كُلِّ مُحَسَّدِ
فلِحُسَّدِي مَا في الضَّمَائِر مِنهُمُ ... أبَداً وَلي مَا هُمْ عَلَيهِ حُسَّدِي
وقد انتقده شيخُه علي بن محمد بن أبي القاسم على ما ورد فيها متحاملاً عليه، ومشنِّعاً به، فَرَدَّ عليه الهادي بن إبراهيم الوزير مدافعاً ومحتملاً ومتأولاً لأخيه، ومصححاً لشيخه أوهامه وظنونَه في أخيه، وسمى رده " الجواب الناطق بالحق اليقين الشافي لصدور المتقين " وقال بعدَ الخطبة: وبعد: فإني لما وقفتُ على ما ذكره السيدُ الإمام العلامة جمالُ
__________
(1) أبو القاسم البلخي.
(2) الإمام الرازي.
(3) الإمام الغزالي.(1/37)
الإسلام، رباني العِترة الكرام، وسلالة الأئمة الأعلام عليُّ بن محمد بن أبي القاسم، أبقاه الله غُرَّةً شادِخة في الأنام، وذِروة باذِخَةً على مرور الأيام في جوابه على تلميذه وولدِه الصَّنو محمد بنِ إبراهيم (الوزير) في نقضه لما انتزعه مِن قصيدته التي أشار فيها إلى عقيدته، وجدته -أيده الله- قد نسب إلى محمد في بعض ما ذكره ما لم يَقُلْه، وَفَهِمَ من أبياته ما لم يقصده، وقد أطلق المحققون من الأصوليين أن الفهم شرطُ التكليف، وإليه ذهب بعضُ القائلين بجواز التكليف بالمستحيل، وقد نصَّ على ذلك ابن الحاجب في " منتهى السول " فكيف لا يشترط ذلك في جواز كمال التكليف، ومن حق الجواب أن يكون لِما ورد عليه مطابقاً، ولما سيق من أجله موافقاً، وأن لا يؤاخذ بمفهوم الخطاب، ولا يقطع بوهمٍ يُخالِفُ الصواب، فإن مِن حق الناقض لكلام غيرِه أن يفهمه أولاً، ويعرف ما قصد به ثانياً، ويتحقق معنى مقالته، ويتبين فحوى عبارته، فأما لو جمَعَ لخصمه بَيْنَ عدم الفهم لقصده، والمؤاخذة له بظاهر قوله، كان كمن رمى فأشوى، وخَبَطَ خَبْطَ عشوا. ثم إن نَسَب إليه قولاً لم يعرفه، وحمَّله ذنباً لم يقترِفْه، كان ذلك زيادةً في الإقصا، وخلافاً لِما بِهِ الله تعالى وَصَّى، قال تعالى: {وَإذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا}، وقال تعالى: {قُلْ أمَرَ ربِّي بالقِسْطِ}، وقال تعالى: {وَلاَ يَجْرِمِنكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ لِلتَّقوى} إلى أمثالها من الآيات.
وكانت قصيدة محمد قد اشتملت على أشياء أجبتها، وكلامات نقضتها بكلام جُمْلي (1) لأن الشعر لا يحتمل أكثر من ذلك. ولما عدل السيد أيده الله إلى نقضها بكلامه، وأفاض عليها سَجْلا من علمه، وكان
__________
(1) سيأتي جواب الهادي في قصيدته عقب هذا.(1/38)
في شيء من ذلك ما ذكرته، رأيت أن أذكر ما ذكره السيد العلامة جمال الدين من الأبيات وأعقبها بما نقضها به أيده الله من الإشارات، ثم أذكر من كلام محمد ما يشهد له بالنزاهة عن القول الباطل، وأرسم من الوساطة بالحق ما يميز بين الحالي والعاطل، وأحمل كلام السيد جمال الدين أيَّده الله على السلامة في جميع أحواله وأنظم ما صدر منه في سلك الفوائد المنتزعة من علومه وأقواله غير أن الأوهام قد تقع، وماء اليقين لصداء النفوس ينقع، والله الهادي إلى الصواب، والموفق لإصابة الحق في المبتدأ والجواب.
ومن أمثلة اعتراضات علي بن محمد بن أبي القاسم على الإمام محمد بن إبراهيم الوزير ما رواه الهادي بن إبراهيم بقوله: قال السيد جمال الدين: ثم إنه قال -يعني محمداً- هو على دين أهل البيت، وأهل البيت ينزهون الله تعالى من شُبه المحدثات ومن قبائح العباد ومن إخلاف الوعيد ويرون أن من خالفهم في هذه المسائل ضال مخطىء، ثم اختلفوا في كفره فأكثرهم كَفَّره، ومنهم من توقف في كفره، وقطع بخطئه فإذا كان هذا اعتقادَهم وصاحبُ هذا الشعر يزعم أنه يُوافقهم، فكيف يقدم رواية هؤلاء الذين هم فساقُ تأويل، أو كفار تأويل على رواية أهل التوحيد والعدل (1)، ولم يقل أحد من هذه الأمة بهذا، والمخالف لنا منهم يقول: إنهم أهلُ الحق، ونحن على الباطل فلذلك قدم روايتهم. واعلم أنه لا بد من أحد أمرين: إما أن تُرَد رواية هؤلاء المبتدعين القائلين بالجبر والتشبيه عند معارضة أهل التوحيد والعدل، وإما أن نقول: بأن الحق معهم، والنافي للتشبيه والجبر هو المبتدع.
الجواب: أن هذه الجملة التي أوردها السيد جمال الدين مفتقرة إلى
__________
(1) التعديل في نسخة أخرى.(1/39)
إقامة البرهان، وإلا كانت دعوى بغير بيان، لأنه نسب إلى محمدٍ جميع أقاويل الجبرية، وعزا إليه القول بمذاهبهم الفرية، وعدد منها ما أعتقد براءة محمد منه جملة وتفصيلاً وتحقيقاًً وتأويلاً، فحال السيد في هذه المقالات التي ذكرها وإلى محمد نسبها، إما أن يكون علمها من محمد علماً يقيناً، أو يكون وهمها فيها ظناً وتخميناً، فإن كان الأول أظهر ما عنده في ذلك حتى يعرف الصحيح من السقيم، ويتضح المعوج من المستقيم.
فأما مجرد البهت الصراح، فلا يليق بذوي الصلاح.
وقول السيد: وصاحب هذا الشعر يزعم أنه يُوافقهم، فكيف يقدم رواية فساق التأويل وكفار التأويل على رواية أهل التوحيد والتعديل؟ قد تقدم الكلام في جواز رواية فاسق التأويل وكافره بما لا فائدة في إعادته، وأما أن محمداً يقدمها على رواية أهل التوحيد والعدل، فليس الأمر كما ذكره السيد جمال الدين، بل ما من مسألة أخذ بها محمد في الفروع إلاَّ ولها قائل من أهل البيت عليهم السلام، وجملتها فيما علمت ست مسائل:
أولها: التوجه بعد التكبير قال به المؤيد في جماعة من أهل البيت، وفيهم يحيى بن حمزة.
وثانيها: تربيع التكبير في أول الأذان قال به طائفة من أئمة العترة، وهم زيد بن علي، والنفس الزكية، والباقر، والصادق في رواية، وأحمد بن عيسى، والناصر الكبير، والمؤيد بالله، ويحيى بن حمزة.
وثالثها: الإسرار ببسم الله الرحمن الرحيم في الجهريات، فعند الناصر والمؤيد بالله أن الجهر والمخافتة هيئة لا تفسد الصلاة، وقال زيد ابن علي وأبو عبد الله الداعي: إن الجهر سنة يوجب تركه سجود السَّهو،(1/40)
وبه قال المنصور بالله في من ترك الجهر في الصلاة في القراءة المجهور بها قال: أكثر ما يجب عندنا سجود السهو. قال المؤيد بالله: يجب الجهر ببسم الله الرَّحمن الرحيم في الصلاه الجهرية فإن ترك الجهر، لم تبطل صلاته.
ورابعها: التشهد المروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو " التحيات لله والصلوات الطيبات " الخ. وهي رواية المنتخب، وبه قال المؤيد بالله وغيره من أهل البيت عليهم السلام، وقال القاسم والمؤيد بالله: أي تشهد يتشهد به المصلي مما ورد به الأثر، فهو جائز، وهي تشهدات أربعة كلها مأثورة.
وخامسها: القنوت بعد القراءة وقبل الركوع، وبهذا قال زيد بن علي، وأحمد بن عيسى والباقّر وغيرهم وهو اختيار الإمام يحيى بن حمزه.
وسادسها: وضع اليد على اليد قوق السُّرَة، ومذهب الشافعي على الصدر.
فهذه جملة المسائل التي ذكر أن محمداً خالف بها إجماع أهل البيت عليهم السلام، وأنه قدم فيها رواية أهل التشبيه والجبر على رواية أهل التوحيد والعدل، وما من مسألة من هذه المسائل إلاَّ وقد قال بها من ذكرناه من عيون أئمه الزيدية والعترة النبوية.
وأما غيرها من مسائل الاعتقاد فما علمت أن محمداً خالف فيها مذهب الزيدية وأئمة العترة النبوية.
كما أجاب على أخيه محمد بقصيدة مماثلة في الوزن والروي يثني عليه، ويحثه على الرجوع إلى المذهب الزيدي والتمسك به وهذا نصها:
عَجِلَتْ عَوَاذِلُه وَلَم تَتَأيِّد ... وَجَنَتْ عَلَيْهِ جِنَايَة المُتَعَمِّدِ(1/41)
ما سُرْعَةُ العَذْلِ المُعوَّج نَهْجُه ... مِنْ سُنة العدْلِ القَوِيم الموْرِد
شيآن ما أعيا الأنام سواهما ... لوم البري وتهمة المتودد
وأخُو الهُدَى مسْدُودَةٌ أسْماعُهُ ... لا يَرْعوي لمقامِ كلِّ مُسَددِ
سدِّدْ كلامك في إصابةِ رَأيِهِ ... أو لا يقع في مَسْمَع مُتَبَدِّد
يا عاذلي فِي حُبِّ آل مُحَمَّدٍ ... دَعْ ما تَقولُ فأنت غيْرُ مُحمدِ
لو كُنْتَ تعْذلُ في مَحَبَّةِ غَيْرهِمْ ... لَعَلِمْتُ أنكَ بالنصيحَةِ مُرْشِدِي
أأحبهم وأُحِبَّ غَيْرَ طَرِيقهِم ... هذا المُحالُ منَ المقَالِ الأبعد
منْ مال عنْهُم لم يَكن مِنْهُم، وسلْ ... أَهل المعَارف والطريقِ الأرشَد
أَنَا منْهُم في فِعْلِهمْ وَمقالِهِمْ ... يَا شَاهدَ اللهِ المُهيْمِن فَاشْهدِ
حبي لَهُم فَرْضٌ وحُبي جدّهُم ... مَجْد وَصَلْتُ فريضَتي بِتَهجْدِ
لا رَيْبَ في حُبِّ النبي لِمُسْلِمٍ ... إذْ كانَ ذلِك أصْل دين محَمدِ
فاخصص بحبك آله متقربا ... بهم إليه وحبهم فتزود
لم يسأل الرحمن إلا وِدَّهم ... أجراً على الإبلاغ منه لأحمد
ما ذاكَ إلا أن حُبَّ مُحَمَّدِ ... شرْع لَه في الناسكِ المُتعبدِ
جَمَعَ الطوائِفَ حُبه وَتَفرَّقوا ... في حُبِّ عتْرته بِغيْر تَرَددِ
فاجْعَل وِدادَك حُبَّ ما افترقُوا تُصِبْ ... نَهْجاً مُعَبدةً بغيرِ مُعبدِ
ومُحَمَّد وافي إليَّ نظَامَهُ ... كالدْرِ في عُنُق الغَزَال الأغْيَدِ
رتب محاسنه بِرِقَّه شوقِ منْ ... أهداه في طَلَب الحدِيث المُسْندِ
وأفادَ عين كماله وجمالِه ... مَرْهى، ولما تكتحل بالإثمد
ما كانَ أحوج ذا الكمال إلى الذي ... فيه من العيب اتقاء الحُسَّدِ
لما تَنَحَّى عن محجَّة أهلِه ... ومشى على الطُّرقات مشي الأصْيدِ
أأخي وقُوَّة ناظرِي ومُشارِكي ... في أصله ومحله والمَولِد
أَخَوَانِ إلا أنَّ هذا قد عَتَا ... كبراً وهذا في الشباب الأمْلَدِ(1/42)
ولد صغيرٌ في حَدَاثَةِ سِنِّه ... وأخ كبيرٌ في العلا والسؤْدُدِ
أربَى عليَّ براعةً وبلاغةً ... وأكل مِذودُه المفوَّه مذودي
قد زادني علماً فتلكَ وسِيلَةٌ ... لِلرَّاغبين فإنْ تَجِدهَا فَاْزدد
وأفادني مِنْ علمه وبيانه ... حُسنَ الإفادةِ فاستفدْه وأسنِدِ
أبنيَّ إن ناديتُه لِتلطفٍ ... وأخَيَّ إن ناجيتُه لِتَجَلُّدِ
مالي أراك وأنتَ صفوةُ سادةٍ ... طابت شمائلهم لطيب المحْتدِ
تمتازُ عنهم في مآخذ علمهم ... وهُمُ الذين علومُهم تُروي الصَّدي
اخذُوا مباني علمهم وأصولَه ... عَنْ أهلهم مِن سيدٍ عن سيِّد
سند عن الهادي وعن آبائه ... لا عن كلام مُسَدَّدٍ بنِ مُسَرهد
سند عن الآباء والأجدداد في ... أحكامهم وفنونهم والمفرد
وكذاك في التجريد والتحرير والتـ ... ـعليق والمجموع ثُم المرشدِ
لهم من التصنيف ألفُ مصنّفٍ ... ما ببنَ علم سابق ومجدّد
قد قلتَ في الأبيات قولاً صادقا ... ولقد صدقتَ وكنت غيرَ مُفَندِ
هُمْ باب حطةَ والسفينةُ والهدى ... فيهم وهُمْ للظالمين بمرصدِ
وهم الأمان لكلِّ من تحت السما ... وجزاء أحمد ودُهُم فَتَوَدَّدِ
والقوم والقرآن فاعْرِفْ قدرهُم ... ثقلانِ للثقلين نص محمد
وَكَفَى لَهُم شرفاً ومجداً باذِخاً ... فرضُ الصلاة لهم بكل تَشهدِ
هذا مقالُك في القصيدِ وإنَّه ... محْضُ الصوابِ وعِصمة المسترشِد
فأتِم قولَك بالمصيرِ إليهم ... في كُلِّ قولٍ يا محمد تهتدي
فهُم الأمان كما ذكرت ونهجُهم ... نهحُ البُلوغِ إلى تمام المَقصِدِ
مالي أراك تقولُ فيهم هكذا ... وبغيرِ مذهبهم تدينُ وتقتدي
أو ليس هم حجج الإله على الورى ... والفلك في بحر الضلالِ المزبد
ما كان أحسن حسن فهمك ترتقي ... درجاتِ علمهم إلى المتصعِّد(1/43)
حتى إذا استوريت زندَ علومِهم ... وأردتَ تزند ما بدا لكَ فازند
بَعْدَ النهاية في العلوم ودرسها ... وإحاطةِ المتوغل المتجرد
ولأنت فرع باسق مِن دوحةٍ ... شَرُفَتْ بحيدرة الوصيِّ وأحمد
متردد بينَ النبوة والهدى ... مِن أهله ناهيك من متردد
فأعِد هداك اللهُ نظرة وامقٍ ... في علمهم تلقَ الرشادَ لمرشد
وتوسَّمِ العلمَ الذي في كتبهم ... تجدِ الدراية والهدايةَ عن يد
وذكرت سنة أحمد وحديثه ... يا حبّذا سننُ النبي محمد
أورد مسائلها ورد في مائها ... يا حبذاك لِوارد ولمُورِد
لسنا نقولُ: بأن سنة أحمدٍ ... متروكةٌ وحديثه لم يُوجَدِ
بلْ سُنَّةُ المختار معمول بها ... وحديثه شف النضار المسجدِ
ومقالُهم في سنة وجماعة ... قول رديء ليس بالمتمخد
سبوا الوصي وأظهروها سنةً ... لبني الدُنا من مغورين ومنجد
وكذاك سموْا حين صالح شَبَّرَ ... ابنَ التي عُرِفَت بأكل الأكبُدِ
عامَ الجماعة واستمروا هكذا ... حتى تملك عصره المستنجد
أعني به عمراً فأنكر بدعةً ... ونظيرُه في عدله لم يُوجَدِ
ونقول في كتب الحديث محاسن ... مِن سنة المختار لما نقصد
لكن نُرَجِّح ما رواه أهلُنا ... سفنُ النجاة وأهلُ ذاك المسجد
ونقول: مذهبهم أصحُّ رواية ... وأمتّ في متن الحديث المسند
فبِهِم على كُل الأكابر نبتدي ... وإليهم أبداً نروح ونغتدي
وَبهديهم في كل سمتٍ نهتدي ... وبقولهم في كل أمرٍ نقتدي
وبفعلهم في كل مجد نحتذي ... وبعلمهم في كُل وقت نجتدي
وإذا تعارض عندنا قولٌ لهم ... ولغيرهم قول وإن هو واحدي
مِلنا إلى القول الذي قالوا به ... لتوثق في حفظهم وتشدد(1/44)
وتصلّب في دينهم وتنزه ... وتورع في كسبهم وتزهد
ولما روينا فيهم عن أحمد ... حسبي به للمقتدي والمهتدي
فاليوم عِصمتنا بهم وبحبهم ... وهم الأئمة والأدلة في غد
نشروا العلومَ وأيدوا دينَ الهدى ... علماً بهادٍ فيهم ومؤيد
وَمَضوْا على سنن الجهاد وَرسمه ... ما بين مقتول وبين مشرد
ومخلد في حبسه ومطرد ... عن أهله ومصلب ومقيد
من في البرية يا محمد مثلهم ... في فضلهم وجهادهم والسؤدُد
وذكرتَ تصحيح الخلاف وأنهم ... قد خالفوا آباءهم بتعمد
فصدقتَ فيما قلتَه وحكيتَه ... وقع الخلافُ وليس ذاك بمفسِدِ
إنَّ الصحابة ماج فيما بينَهم ... شرعُ الخلاف وهم صحابةُ أحمد
وكذا الأئمة بعدَهم لما تزَلْ ... آراؤهم في العلمِ ذات تبدُّدِ
والحقُّ تصويبُ الخلاف وما ترى الـ ... إجماع إلا في نوادر شرد
وذكرتَ أن الموت يقطع في الهدى ... تقليدَ صاحبه لكل مقلد
وحكيتَ ذلك مذهبَ الجمهور عن ... علمائهم بينت كالمستشهدِ
فخلاف ذلك ظاهرٌ متعارف ... في كتبنا وبكتبهم فاستورد
قد نصَّ بيضاويهم في شرحه ... تجويز تقليد الإمام المُلْحَد
وكذاكَ في المعيار جوزه وقد ... أفتى به حسنٌ سليلُ محمد
قالوا جميعاً للضرورة: إنه ... لم يبق مجتهد فطُفْ وتفقد
قالوا: والا أي فائدة لنا ... في درس علم الشافعي وأحمد
وكذاك درس علومِ آل محمد ... كم دارس لعلومهم متفرد؟
فاذا تبين أن تقليدَ الورى ... حق لمهدي وهادٍ قد هُدِي
وأصبتَ فيما قلت من تصويب أهـ ... ـلِ العلم في فنِّ الخلاف الأمجد
فن الفروع فإنه لا بأس في ... سَعةِ الخلاف به لكل مجرد(1/45)
وذكرت قولك في الكلام ومالهم ... فيه من القول الغريبِ الموجد
فلقد ذكرت من العلوم أجلَّها ... قدراً وأعظمها لكل مُوَحِّدِ
فن به شَهدَ الكتاب وصحة الـ ... ألباب ليس لِفَضْلِهِ من مَجْحَدِ
راضته أفكار الأفاضلِ واغتدى ... كالدُّرِّ بين زبرجد وزُمرد
ما فيه مِن عيب سوى أن دققوا ... لِدفاع قولِ الفيلسوفِ المُلْحِد
لولا صناعتُهم وحسنُ كلامهم ... نزعت يدُ الحربا لسان الأسود
وصدقت أن محمداً في صحبه ... لم يعرفوا تلك العبادة عن يد
ماذا أرادَ محمد منها وجِبْـ ... ـريلٌ لديه كل حينٍ في الندي؟
حمَّاد عجْرَد لم يكن في وقته ... ابداً، ولا سمعوا هناك بعجرد
وابن الروندي وابن سينا أحدثا ... بعدَ النبوة في الزمان الأقرد
ما كان في وقت النبي مدقق ... منهم فيحتاجُ البيان لملحد
لكن علي قد أبان بنهجه ... هذي الدقائق فاستبنها واقصدِ
هُوَ أوَّل المتكلمين وقولُه ... قبس كنارِ القابس المستوقد
فاتبع مقالتَه فإن شيوخَنَا ... اتباعُه فيها أصبها تُرْشَد
ماذا أردتَ بانتقاصِ مشايِخ ... هم أصلتوا في العلم كل مهند
لولا سيوفُ كلامهم وعلومهم ... لم ينتقض تاج الغواة الجحد
نقضوا به شبه الفلاسفة الأولى ... دانُوا تأفلاك وقول أنكد
فنريهم القمر المنير من الهدى ... ويروننا وجهَ السُّها والفرقد
فهناك أمسينا بأحسن ليلة ... وهناك قد باتوا بليلة أنقد
وأدلة التوحيد ليسَ شعاعُها ... يخفي على مَنْ لم يكن بالأرمد
ولهم مسالك في العبارة بعضها ... يُشفي به قلبُ العليل المعمد
والبعضُ منها ليس بالمرضي في ... قولِ الهُداة من النصاب الأحمد
ولنا مِن الماء السلاسل صفوه ... والآجن المنبوذُ للمستورد(1/46)
فاشرب مِن الماء الزلال ألذَّه ... ودعِ الكُدورة في شواطي المورد
وشكوتَ من ألم البُغاة ولم تَجِدْ ... ذا سؤدُد الا أصيب بحسد
لا زلتَ باسبطَ الكرام محسَّدا ... فالناقصُ المسكين غير محسد
قال السيد جمال الدين: ومن مخالفة إجماعهم ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " في الفاتحة، ومن مخالفة إجماعهم القولُ بالرؤية، ومن مخالفة إجماعهم تركُ " حي على خير العمل ".
الجواب على هذه الثلاث المسائل، أما ترك بسم الله الرحمن الرحيم، فلم يقل محمد بتركها، وأكثر ما سمعته يذكر في البسملة الإسرار بها، قال: وهو يحتاط في ذلك فيجعل الإسرار بها بحيث يسمع من بجنبه، وذلك أقل الجهر، وقد قال زيد بن علي: ما خافت من أسمع أذنيه، فأما الترك رأساً، فليس من القبيل الذي نسبه إلى محمد، إذ لم يقل به محمد. ومثله أبقاه الله لا يعجل بنسبة شيء إلى أحد إلا بعد معرفته وتحقيقه وإلا كان خلافَ الصواب، وهو لا يليقُ بمثله، وإنما يليق بالعالم المتقي التثبت في الرواية، وحسن الرد من بعد الهداية، ومسألة الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم غير مسألة الترك، ولكل واحدة منهما كلام لا يحتمِلُهُ الموضع.
وأما مسألة مخالفة إجماع العترة بالقول بالرؤية، فهذا شيء لم أعرفه، ولم أسمعه من محمد لا في قول ولا في كتاب وأنا أنزهه عن هذه المقالة ومعي خطه بأن إعتقاده في العقائد الكلامية والمسائل الإلهية اعتقاد أهل البيت عليهم السلام وأنه غيرُ مخالف في واحدة من هذه المسائل، ويدل على ذلك من شعره قوله من جملة أبياته: -
هذي الفروع وفي العقيدة مذهبي ... ما لا يخالِفُ فيه كُلُّ موحد(1/47)
ديني كأهلِ البيت ديناً قيماً ... متنزهاً عن كل معتقد ردي
وكيف يقول بالرؤية بعد هذه المقالة، أو يضاف إليه ذلك، ومذهبُ أهل البيت واعتقادهم أن الرؤية على الله تعالى غيرُ جائزة معقولة ولا غير معقولة وكيف يصرح محمد ها هنا بأنه يتنزه في عقيدته عن كل معتقد ردي؟، ويُضاف إليه اعتقاد مخالفة العترة بالقول بالرؤية وهذه هي المصادمة بنفسها.
وأما مخالفة إجماعهم بترك حي على خير العمل، فهذا من الطراز الأول، وهو التقول على محمد ما لم يقله، والنسبة إليه ما لم يصدر عنه ولم يكن منه، وقد سمعتُهُ يؤذنُ غير مرة، ويذكر (حي على خير العمل)، وأكثر ما يصنعه في الأذان التربيع في أوله كما هو مذهب طائفة من العترة وساداتهم، وذكر محمد أنه وجد في سنن البيهقي وهي السنن الكبيرة رواية حي على خير العمل أثبتها البيهقي، وصححها، وذكر هذا في معرض التصحيح للأذان بـ (حي على خير العمل) وهو على ذلك قبل أن يقف على سنن البيهقي، فكيفَ نَسب إليه السيد جمال الدين ما لم يصح عنه، وأكثر ما يتمسك به السيد في إضافة هذه الأقاويل رواية أحادية لم تبلغ حد التواتر، فيحصل له طريق موصلة إلى العلم. وقد روى القاضي محمد ابن عبد الله بن أبي النجم في كتاب الفصول ما لفظه: وعن القاسم عليه السلام أنه قال الأذان بغير (حي على خير العمل) معناه جائز، وهذه رواية شاذة لم تسمع عن غيره، وهي رواية غريبة، ولو صدر مثل هذه الرواية عن غيره، لأنكرناها ولكن رواية العدل مقبولة.(1/48)
بين الوزير والمهدي
حينما تُوفِّي الإمام الناصر صلاحُ الدين محمد بن علي بن محمد في ذي القعدة سنة (793) سارع ابنُهُ الإمامُ المنصور علي بن صلاح، فدعا إلى نفسه بالإمامة، ودعا في ذات الوقت إلى نفسه الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، فانحاز الإمام محمدُ بنُ إبراهيم الوزير، وأخوه العلامة الهادي بن إبراهيم وغيرهما من علماء صَعْدَة إلى جانب الإمام علي بن صلاح مما أضعف جانبَ الإمام المهدي الذي خسر المعركة في حربه مع علي بن صلاح، وانتهي به الأمر إلى أن اعتُقِلَ وسُجِن في صنعاء، فبقي في نفس المهدي شيء على الإمام محمد بن إبراهيم الوزير لم تْمْحُهُ السِّنون:
وَقَدْ يَنْبُتُ المَرْعى عَلَى دِمن الثَّرى ... وَتَبْقَى حَزازاتُ النُّفُوس كَمَا هيا
وقد انتقل ما في نفس المهدي من كرهٍ للإمام الوزير إلى حفيده الإمام شرف الدين الذي شنع على الإمام الوزير، ونسب إليه أشياء لم يقل بها أحدٌ غيره كما تقدم بيانُ ذلك في بداية هذه الترجمة.
ولما فَرَّ المهدي مِن السجنِ ذهب إلى ثُلاء وأقام هنالك فترةً طويلة، فرحل إليه الإمامُ محمد بن إبراهيم الوزير، ووقف معه مدةَ يُسائله ويُراجعه ويُباحثه كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في (تاريخ آل الوزير) ومن جملة ذلك أنَّه وجه إليه خمسة وعشرين سؤالاً في مسألة الإمامة، وأن المهدي لم يجب عليها، فكتب إليه محمد بن إبراهيم الوزير هذه القصيدة:
أعالِمَنَا هَلْ لِلسُّؤَالِ جوَابُ ... وهَلْ يَرْوِيَ الظمآنَ منك عُبَابُ (1)
__________
(1) في نسخة: وهل ينهل العطشان منك عباب؟(1/49)
وَهَلْ يكشفُ الظلْماء منْكَ بَصَائِرٌ ... يَدُلُّ عليها سُنَّةٌ وكِتَابُ
وَهلْ حَسنٌ مِنِّي إذَا كنْتُ سائِلاً ... أمِ البَحْثُ يَا بَحْرَ العُلُومِ يُعابُ
وَهلْ جَاء في شَرْعِ التنَاصُف أنَّه ... يُكَدِّرُ مِن صافي الوِدادِ شَرابُ
وَهَلْ قَدْ سعَى بَينِي وبَيْنَكَ جَاهِلٌ ... ظَنينٌ يُريكَ الماءَ وهوَ سَرابُ
وَهلْ غَرَّكُمْ في الخُمُولُ فَإنَّمَا ... أنَا السَّيْفُ خُبْراً والخُمُول قِرابُ
وَهَلْ يُزْدَرَى بِالسَّيْف مِنْ أجْل غِمْدِه ... ويُحْقَرُ من وهنِ المَحَلِّ عُقَابُ
وَهَل لِكَثيرِ الشَّوْقِ وَالوجد رَاحِمٌ ... وهَلْ للمساكينِ الضِّعافِ صَحابُ
وَهلْ عَائِدٌ في الدَّهر ودُّكَ عامِراً ... فها هُوَ ذَا يابْنَ الكِرامِ خَرَابُ
وَهلْ مُثمِرٌ حَوْكي مُلاءَ رقَائِقٍ ... تَهُزُّ صِلابَ الصَّخْرِ وَهِيَ صِلاَبُ
وَهلْ عَاطِفٌ لِلودِّ مِنكَ تَلَطُّفٌ ... وَهَلْ قَاطِعٌ للهَجْرِ مِنْكَ عِتابٌ
وهلْ لِمَجَلاَّتي إذَا لَم تُجِلَّهَا ... رُجُوعٌ إلى مَنْ خَطَّها وإيابُ
وَهَلْ لِسَلامِي مِنْكَ رَدٌّ فإنَّه ... يَخُصُّكَ مِني ما اسْتَهَلَّ سَحَابٌ
ولما صنف الإمام محمد بن إبراهيم الوزير كتابه "قبول البشرى في تيسير اليُسرى" ضمنه ما يجوز من الرُّخَص وما لا يجوز، وما يكره وما يستحب، وأقوال أهل العلم في ذلك، فرد عليه الإمامُ المهدي بكتابه " القمر النوار في الرد على المرخصين في الملاهي والمزمار " وكان الإمام المهدي كثير التحامل على الإمام ابن الوزير على غير ذنب سوى أنه كان يأخذ بكتاب الله ورسوله ويعتصم بهما ويفهمها على طريقة السلف الصالح، ولا يعتد بقول من يخالفهما كائناً من كان ذلك القائل حتى قال فيه المهدي من قصيدة:
هذي مقالة من زلَّت به القدم ... عن منهج الحق أو في قلبه مرض
وقال أحمد بن عبد الله الوزير يَصِفُ ما جرى بينَ العالِميْنِ(1/50)
المذكورين: " ولما ظهر لحي الإمام المهدي من سيدي عز الدين الانعزال، وسرى الأمرُ في المراجعة إلى بعض مسائل الكلام، انجرت بينهما المراسلةُ، ووقعت بينهما المراماةُ والمناضلةُ في المنثور والمنظوم، وكُلُّ ذلك موجودٌ في كتبه، وأشعاره حتى أزِف التّرحالُ، ودنا الانتقالُ، وتحول الحال، فاعتذر كُلُّ من صاحِبه، وقبل أعذاره، وأوضح اعتذارَه، وكان ذلك في سنة 839 " أي قبل وفاتهما بسنة واحدة.
بين الوزير والمؤيَّد
ذكر أحمد بنُ عبد الله الوزير في الفضائل في ترجمة محمد بن إبراهيم الوزير ما لفظه: " ووقف -رضي الله عنه- في فَللَّة (1) مدة مع حي الإمام علي بن المؤيد على جهة الاختبار، ورافقه إلى بعض بلاد الأهنوم، ولم يكن بينَه وبينَه شيء من المصنفات إلا شيء يسير وقع فيه عتابٌ سهل، وكتب فيه حي سيدي عز الدين أبياتاً حسنة رقيقة من محاسن الشعر وأجودِهِ قافية منصوبةَ الروي وهي:
وَلَوْ شِئْتُ أبكيتُ العُيُونَ مُعاتباً ... وَألْهَبْتُ نِيران القُلُوبِ دَقَائِقَا
وَلَكنني أصْبَحتُ ِللهِ طَالباً ... وأصْبَحْنَ مِنِّي التُّرُّهَاتُ طَوَالِقَا
فإن أنْصفَ الأصْحَابُ لَم أُلْفَ فَارِحاً ... وإنْ أعتَبُوا لَمْ يُصْبِحِ الصَّدْرُ ضَائِقَا
وَمَنْ كَمُلَتْ فِيهِ النُّهي لا يَسُرُّهُ ... سُرُورٌ ولا خَافَ الحُتُوفَ الطَّوَارِقَا
فَصِلْنِي أو اقْطَعْنِي فَعِنْدِي خلِيقَةٌ ... يَضِيعُ رديّاً مِن صَدِيقي وَرَانِقَا (2)
__________
(1) فللَّة: هجرة مشهورة في جُمَاعة من أعمال صَعْدة نكتب بلامين وتنطق بلام واحدة مشدَّدة.
(2) في نسخة تضيع رديّاً من صديقي ورائقاً.(1/51)
ولي نَفْسُ حُرٍّ لَيس أكثرُ هَمِّهَا ... مُلاطَفَةً تُرضي عَلَيَّ الخلاَئقَا
وَلولا الرَّجَا أنْ أرضِيَ اللهَ لَم أكُنْ ... عَلى أرْضِ منْ يجْفُو أشيمُ البَوارِقا
ولكِن ذُلِّي في رضَى اللهِ عِزَّةٌ ... وإنْ كُنْتُ فيهِ لِلسْلُوِّ مفَارِقا
وَما لِي إلا الصَّبرُ في الدَّهرِ جُنَّة ... وإن شّيَّبَ الصَّبْرُ الشَّوى والمفَارِقَا
وما نَحْن إلا في مجازٍ فلا ترِدْ ... مَجازاً إذا مَا كُنْت تَبْغِي الحَقَائِقا
وَقائِلةٍ عشْ بالسُّلُوِّ مُمَتَّعَاً ... وَنل بِكتسابِ الأصْدِقاءِ مُرافِقا
فقلْتُ لها: لا عَيْشَ لي في سِوى التُّقى ... ولا صَاحِب في النَّاس إلا مُخَالِفَا
وَأينَ الصَّفا هيهات مِنْ عَيشٍ طالبٍ؟ ... غَدَا لأهاويل المَماتِ مُرَاهِقَا
وللخِزي في يوْم الجَزَا مُتَرقِّباً ... وللصَّبْرِ في دار الفناءِ مُعَانِقَا
فَلُوْمِى رُوَيداً إنني غَيرُ جَازِعٍ ... وعَزْمِي سِواي إنَّنِي لسْتُ مَائِقا
بينه وَبَيْنَ أخيه
لم تنقطع الصلةُ القويَّةُ بَيْنَ الأخوينِ الشقيقين الإمام محمد بن إبراهيم الوزير، والعلامة الهادي بن إبراهيم الوزير على ما بينَهُمَا مِن خلاف في العقيدة، فالهادي كان عالماً جليلاً مبرزاً في علوم كثيرة لا سيما علم أصول الدين، ملتزماً بالمذهب الزيدي، وكان يريد لأخيه محمد أن يسلك مسلكه، لكنه مشى في طريق آخر، فقد مال إلى علوم السنة، وجرى بينَه وبين علماء عصره المتمذهبين صراعٌ كبير سبق ايضاحُهُ فيما تقدم.
وتفرقت الديارُ بَيْنَ الأخوين إلا أنهُما كانا يتبادلان الرسائلَ، ويتطارحان الشعر، فمن ذلك قصيدةٌ قالها الهادي بن إبراهيم الوزير مهنئاً أخاه بعودته سالماً بعدَ أن حُصِرَ عن الحج للمرة الثالثة سنة 818 ورجع من (حَلْي ابن يعقوب) بعد أن بلغه وقوعُ خلافٍ بين الأشراف -أشرافِ مكة-(1/52)
وقيام الأتراك بعزل الحسن بن عجلان، وتولية بعضِ أهله، فكر حاجٌّ اليمن راجعاً إلى بلاده، ولم نعثر من هذه القصيدة إلا على مطلعها وهو قولُه:
إذا فاتَ حَج البَيْتِ في ذلك المجْرَى ... فَقَدْ كتبَ اللهُ المَثُوبةَ وَالأجْرا
فأجاب عليه محمد بن إبراهيم بقصيدة منها:
تبَارَكَ مَنْ أعْطَى مُحَمداً الاسْرَا ... وَاحْصَرَه في عام عُمْرَتهِ قَسْرَا
فسُرَّ بذاكَ المُشْركونَ لِجَهلهمْ ... وعزَّ علَى قَوْمٍ وقَدْ شَهِدُوا بَدْرَا
ومنها:
فَلِلهِ مَنْ أهْدَى إلَيَّ نِظامهُ ... لِيبردَ مِنِّي وَعظُهُ كبِدَاً حَراً
أشَارَ إلى زُهْرِ المَوَاعظِ ناظِماً ... لَها نظْمَ أَفْلاكِ السما الأنْجُمَ الزُّهْرَا
فَلَم أرَ شِعراً في الشعَائِر قَبْلَهُ ... وَلا مِثْلَه شِعْراً يَتِيهُ عَلَى الشِّعْرَى
وَلوْ لم يَكُنْ فِيهَا سِوَى بيتَها الَّذِي ... أرَى مَلَكاً ألْقاهُ في سِرِّهِ سِرَّا
أذاقكمُ فَقراً إلَيْه لِتعْلمُوا .... بأنَّ الغِنَا المَقْصُودَ أنْ تَطْعَمُوا الفَقْرَا
فَمَن لَمْ يَذُقْ هذا الغِنَا في حيَاتِهِ ... فَقَدْ عَاشَ مِسْكِيناً وإن مَلَكَ الأمْرَا(1/53)
ومنها:
وَمَا امتَحَن اللهُ الكلِيمَ بفِعْلِهِ ... وَخِدْمتِهِ للشَّاءِ في مَدينٍ عَشْرَا
لِيَقضِيَ مِنْ مَهْرِ الزَّوَاجَة حَقَّه ... وَلكِنْ لِيَقْضِي لِلمُكاَلَمَة المهْرَا
وَمَا (1) كان إبْرَاهِيمُ في المَنْجنِيقِ والـ ... ـلظَى عَادِماً لُطْفاً وَلا نَاقِصَاً قَدْرَاً
وَلَا ظَمِئَتْ في الوادِ هَاجرُ وابْنُهَا ... هوَانَاً على منْ يَمْلِك السُّحْبَ والقَطْرَا
وَلَا بِيعَ بالبَخْسِ المُكَرْم يُوسُفُ ... لِيُمْلَكَ لَكِن حُكْمُهُ لِيَلِي مِصْرَا
وفِيمَا رَأَى يَعْقُوبُ مِنْ فَقْدِ يُوسُفٍ ... مَواعِظُ تَشْفِي مِنْ مُلاحِظِهَا الصَّدْرَا
وكتب الإمام محمدُ بنُ إبراهيم الوزير إلى أخيه هذه القصيدة يحثُّه على الابتعاد مِن مجالسة الحكام.
يَا سِبْطَ إبْرَاهِيمَ لا تَنْسَ ما ... كَانَ عَليْهِ بالتَّحَلِّي أبُوكْ
فَإنَّ آباءك لوْ شَاهَدُوا ... بَعْضَ الَّذي تَفْعَلُهُ أنَّبُوكْ
مَا لك لا تَسْلُكُ نَهْجَاً وقَدْ ... سَنَّ لنَا فِيهِ أَبُوكْ السُّلُوكْ
وَأهْلُنَا من قبْلِنَا طالَمَا ... عَاشُوا وهُمْ فِيهِ لِحَرْبٍ سلوكْ
فانْهَضْ إلى أوْطَانهِمْ شاخِصَاً ... وَارْمُكْ بِهَا إمَّا أَردْتَ الرُّمُوكْ (2)
__________
(1) في نسخة: ولا كان.
(2) الرموك: الإقامة الدائمة.(1/54)
فَوَقْفَةُ في مَسْجدٍ سَاعَةً ... خَيرٌ لنَا منْ مُلْكِ ملْكِ المُلوكْ
هذَا وإنْ كُنْتَ آمْرءاً عَاشِقَاً ... لِلمُلْكِ لا تَنْفَع لَدَيكَ الصُّكُوكْ
وإنَّمَا تنفعُ مَنْ قَلْبُهُ ... لا يعْتَرِيهِ في المُلُوك الشُّكوكْ
واعْلَم بأن العِزَّ والزُّهدَ ... والفَضْلَ وَأهْلَ المُلُوكِ طُرَّاً هَلُوكْ
وابعَدْ عن المُلْكِ وَأرْبَابهِ ... وإن هُمُ يَوْمَاً لهُ أَهَّلُوكْ
ولا تُطِعْهُمْ يا شقِيقي وَلَوْ ... وليتهم في أمْرِهِمْ أوْ وَلُوكْ
وَلا تُضِعْ يَا سَيِّدِي حُلَّةً ... وحِليَةً قَدْ صَاغهَا أَوَّلُوكْ
لا تنْظُرَنْ يَوماً إلى قَائِمٍ ... وَانْظُرْ إلى مَا قَالَه نَاصِحُوكْ
وعَاصهِمْ إنْ كُنْت ذَا هِمةٍ ... لَهُم وطاوعْهُمْ إذَا نَاصَحُوكْ
وقد أجاب عليه الهادي مؤيداً رأي أخيه الأصغر، وممتثلاً نصيحته مع أنه أكبرُ منه بسبعة عشرَ عاماً.
فَارِقْ بني الدُّنيا وإنْ أكْرَمُوك ... وارفُضْ بني المُلْكِ وَإنْ قَرَّبُوكْ
يوماً إذَا ما أنْتَ أرْضَيْتهُمْ ... مَلُّوك أو أسْخَطتَهُمْ عَاتبُوكْ
ومِثْلُ خَطَّ فوْقَ ماءٍ إذَا ... عَاتبْتَهُمْ، والويْلُ إن عاتَبُوكْ
وإنْ هُمُ أعْلَوْكَ في رُتْبةٍ ... فَإنَّما في هوَّةٍ كَبْكبوكْ
إنْ قَطَعُوا عَنْك عطَايَاهُمْ ... أوْ قَطَعُوا أملاكَهُمْ عَذَّبُوكْ
لَهُم علَيْكَ الحَقُّ فِيهَا سَوا ... أعْتبْتهُمْ في الأمرِ أوْ أعْتَبُوكْ
وَلَا يغُرَّنْكَ أنْ ثَوَّبوكْ ... وإنما فيما أرى ثَيبوكْ
فابعَدْ عَنِ القَوْم فَلوْ جِئْتَهُمْ ... طِفْلاً وَخَالطتهم شَيَّبُوكْ
ولا تَحَملْ لهُم رَايةً ... في الحَرْب لوْ أنَّهُمْ حَاربُوكْ
فإنمَا تحْمِلُ في مثلِ ما ... أمَّ بها المختارُ غزوةْ تَبُوكْ
وَاقْنَعْ من الدُّنْيا بِمَرْقُوعَةٍ ... لَوْ أنهَا مَوْضُوعَةٌ في مُسُوكْ
فارْغَبْ عَنِ المُلْكِ وأرْبَابِهِ ... وَإنْ هُم في شَأنهِ رَغَّبُوكْ(1/55)
وَكلْ حَلالاً خَشِنَاً وَاتَّدِمْ ... شُكراً، وَكُنْ لِلدهر مِمن يَلُوك
وَجَالِسِ الزُّهَّاد وَانْهدْ إلى الـ ... ـعبادِ واقْصِدْهُمْ وإن جَانَبُوكْ
فَإنَّ بَعْضَ الفُضلا كَان في ... جَزيرَةٍ يَعْبدُ رَبَّ المُلُوكْ
وَكَانَ لا يأكُلُ في عُمرهِ الـ ... ـمَحمُود إلاَّ مِن لُحُوم السَّموكْ
وَلَيستِ الدُّنيا بمحمودَةٍ ... هيهَاتَ مَا فيها لَنا منْ سُلُوكْ
والزُّهْدُ منها ثوْبُ عزٍ لمَن ... يلْبسُهُ جوَّده مَنْ يَحُوكْ
لكَِّنه عزُّ فتىً لابسٍ ... في ذلِكَ الثوب الشَّريف المحُوكْ
وقَدْ أتَى يَا وَلدِي منْك لي ... نظْمٌ هُوَ الدُّرُّ الَّذي في السُّلُوكْ
كَأنَّهُ الشَّمْسُ ولكِنَّهَا ... طَالِعةٌ ما إنْ لها مِن دُلُوكْ
هُوَ اليقينُ الحقُّ مَا خالطتْ ... قلْبِي فِيما قُلْت فيه الشْكُوك
ما أوْضحَ النَّهْجَ الذي جئتَه ... وأوْضَح المَسْلَك لا فُضَّ فُوكْ
واعْلمْ بأنِِّي يابْن أمِّي عَلى النـ ... ـهجِ الَّذِي نَوَّرَهُ سَابقُوكْ
وكلُّ حَالٍ غير هذَا وإن ... قِيلَ بِه لا يَرْتضيهِ أخُوكْ
وَلَسْتُ بالراضي بهَا حَاجَةٌ ... أحسن فيها رفضها والتُّروكْ
تِلْكَ التي من وصف أصحابِها ... حماقةُ الروم وكِبرُ التُروكْ
ولما مَرِضَ الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في الأقهوم من جبل عيال يزيد، طلب منه الهادي بن إبرإهيم أن يكتُبَ له بخطِّ يده ما يُطمئنه على تماثله للشقاء فكتب إليه:
طَلَبتَ تقرِير خطِّي كي تَقَرَّ بهِ ... قلْباً وَعَيْنَاً وأحشاءاً وَأشْجَانا
وفي الأنامِل ضَعْفُ غيرُ مكتبة ... وَرَعْشَةٌ لمْ تَدَعْ لِلخَطِّ تبيانَا
أضْحَتْ عَوَامِلُ خَطَّي بَعْدَ قُوَّتِهَا ... وهُنَّ أضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أرْكَانا
وَقدْ كَتَبْتُ عَلَى عجْزٍ وَتعْتَعةٍ ... هذي القَوافيَ لِلمطلُوبِ عُنوانا(1/56)
وَلَوْ غَدَا ابنُ هلالٍ والعميدُ وَمَنْ ... زان الجزيرة تجويداً وإتقانا
مترجمين لما في القَلْبِ مَا وَجَدُوا ... إلى بَيَانِ الَّذِي في القلب إمكانا
وَقَدْ وَقَفْتُ على الأبياتِ جامعَةً ... وَداً ولُطْفَاً وإعجازاً وإحسانا
وَلَيسَ في قُدرتي وَصفٌ لِمَوْقعِهَا ... وَلَو تَحَوَّلْتُ في الإحْسَانِ حَسَّانا
وقد أجابه الهادي بن إبراهيم الوزير مهنئاً له بشفائه فقال: -
بُشرى بعافية العُلُوم كلامِها ... وحديثِهَا وحلالِها وحرامِها
وأصولهَا وفروعِها وبيانِها ... وبديعهَا وغريبها ونظامِها
لمحمدٍ شفيت وزالَ سقامُها ... وبهِ شفاء الداء من أسقامها
لما ألمَّ بجسمه ألمٌ سَرَى ... مِنْه إلى الأرواحِ في أجسامِها
وشفاه مِن آلامه ربُّ السما ... فشفى عُلُومَ الدِّينِ مِن آلامها
حمداً لمن أولاك بَرْدَ سَلاَمة ... وَحَباكَ مِن تُحَفِ الهُدَى بسلامِها
اللهَ أحْمَدُ قَدْ شَفَى لِي مُهْجَةً ... هَامَتْ وَحُقَّ لَهَا عظيمُ هُيَامِهَا
لِمحمد عِزِّ الهُدى وهو الَّذي ... قَدْ حَلَّ في العَلْيَاءِ فَوْقَ سَنامِهَا
هذا الَّذِي أحيا العُلُومَ وَذَا الذِي ... أحيا التِّلاوَة فَهوَ بدرُ ظَلامِهَا
الله قلَّدني بذلك نِعْمَة ... عُظْمَى ينوءُ الشُّكرُ تَحْتَ مَصَامها
لا يهتدي الدُّعْموص طرقَ رمالِهَا ... أبداً ولا التِّسماحُ في قمقامِهَا
لو أن عدناناً حبتني كُلُّها ... بِبيَانِ منطقها وحسْنِ كلامِهَا
ما كُنْتُ أبلُغُ شكرَهَا مِن نِعْمَةٍ ... لوْ كانَتِ الأشجارُ مِن أقلامِهَا
فاللهُ يُوزِعُنا جَمِيعاً شُكرَها ... ويزيدُنا حَمدَاً على إتمامهَا
إني أقولُ مقالَةً قَدْ قالَهَا ... عُمَرٌ بِبَطْحا مَكَّةٍ وَإكَامِهَا
مَعَ حُسْنِ خَاتِمَةٍ أفُضُّ خِتَامَهَا ... وَرِضَاه عَنِّي يا لَطِيبِ خِتَامِها(1/57)
بينه وبين المقري
ولما اطلع الإمامُ العلامة شرفُ الدين إسماعيل بن أبي بكر المقري الشافعي على " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " مختصر " العواصم والقواصم " كتب إلى مؤلفه رحمه الله ما يلي: ولقد وقف المملوكُ على " الروض الباسم " فما هو إلا الحسامُ القاصم، لقد وقع من القلوب موقع الماءِ من الصادي والنَّجح من الغادي، والراحة من المعمور، والصلة من المجهور (1) ولقد نصرتَ الحديثَ على الكلام، والحلالَ على الحرام، وأوضحت الصراطَ المستقيم، وأشرت إلى النَّهْجِ السليم (2)، ولم تترك شبهة إلا فضحتها، ولا حُجَّةً إلا أوضحتها، ولا زائِغاً إلا قومته، ولا جاهلاً إلا علمته، ولا ركناً للباطِل إلا خفضته، ولا عقداً لمبتدع إلا نقضته، ولقد صدقت الله في النية (3) في الرغبة إليه، ووهبت نفسك لله، وتوكلتَ عليه، فالحمد للهِ الذي أقر عين السنة بمكانه، وأدالها على البدع وأهلها ببرهانه (4)، فلقد أظهر مِن الحق ما ودَّ كثير من الناس أن يكتمه، وأيد دين الأمة الأمية (5) بما علمه الله وألهمه فعض على الجذل، وسيجعل الله لك بعد عسر يسراً، وإنا لا ندري لعل الله يُحدث بعد ذلك أمراً، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، وفتح لمن أراد له الدخول بابه.
إذا الله سَنَّى حَلَّ عَقْدٍ تَيَسَّرا.
__________
(1) في نسخة من المخمور والصلد من المهجور.
(2) في نسخة وبينت المنهج السليم.
(3) في نسخة في الرغبة إليه.
(4) في نسخة وأذالها على المبتدع وأهله.
(5) في نسخة الحنفية.(1/58)
ومن وقف على ما أفحمتَ به ذلك المعتدي (1) من الحق الذي استحلفت فيه بالإعجاز والتحدي علم أن بينه وبينَ النفثات النبوية أسباباً (2) شريفة لا تُحل عقودها، ولا تُضاع حقوقها، ورحماً بلها ببلالها، وبادر إلى صلتها ووصالها، لقد أبقى نوراً في وجه الزمان، وسروراً في قلوب أهل الإيمان، وقلدت جيدَ السنة منة وأي منة، أصبح شخصُك ملموحاً بأعين البصائر، وحديثُك (3) ملتقطاً بأسماع الضمائر والمنة. في ذلك المصنف على عامة أهل الملة وخاصة أعيان هذه النحلة، فحق على الكل أن يعرفوا حقه إن كانت لهم أفهام تقدره حق قدره، وأن يستضيئوا بنوره إن كانت لهم أبصار تثبت للنور فجره، وأرى لهم أن يكتبوا (4) أنفاسه إن كانت الأنفاس مما يكتب سمع الدعاء (5) إلى الفلاح فوثب، وقلب الله قلبه إلى الحق فانقلب من غير ترهيب استفزه، ولا ترغيب هزه، ولا محاسدة اعترته ولا مناظرة غيرته بل توفيق مِن الله (6) إلهي، وإلهام سماوي سهل عليه مفارقةَ العادة وما نشأ عليه بدءاً وإعادة، وإن أمراً هذا أوله، فعواقبه عن النجاح مسفرة، وقصداً هذا مبتلؤه، فمغارسُه مثمرة.
وإني لأرجو الله حَتَّى كأَنَّنِي ... أَرى بجميلِ الظَّنِّ ما اللهُ صانِعُ
ومن جواب محمد بن إبراهيم الوزير عليه: -
ومِنْ عَجَبٍ لم أقضِه مِنه أنَّه ... توهَّمني في العلم سامي المراتب
__________
(1) في نسخة المتعدي.
(2) في نسخة أنساباً.
(3) في نسخة ودرك.
(4) في نسخة وأن يكبتوا أنفاسه إن كانت الأنفاس مما يكبت.
(5) في نسخة النداء.
(6) في نسخة توفيق الهي.(1/59)
أغرك أنَّي قد ذُكرتُ وإنَّما ... ذكرتُ لأني مِن جبال المغارب
وقد عَدِمَت فيها البصائرُ والنهي ... فطيَّب ذِكري (1) موْتُ كُلِّ الأطايِبِ
ولَو عدمت وُرْقُ الحَمَائِم لم يَكُنْ ... بمستبعَدٍ تشبيبنا (2) بالنَّواعِبِ
وألبست تأليفي العَواصِمَ بالثنا ... جمالاً أطاب الشكر مِن آل طالِب
وما فيه منْ حُسن سوى أنه شجا ... روافِض صحبِ المصطفي والنواصِب
وما كان تأليفي له عن تضلُّع ... مِن العلم يشفي الصدرَ من كُلِّ طالب
ولكنني والحمدُ لله منصف ... أذُبُّ بجهدي عن صحاح مذاهبي
فلا تَتَوهَّمني بِعِلْمٍ مُحققاً ... فإنَّك ما جربت كُلَّ التَّجارِب
توهمت ناراً بالتخيُّل حينما (3) ... دجا الليلُ وامتدت ذيولُ الغياهِب
رويداً خليلي لا يَغُرَّك إنَّما ... رأيت التي تُدعى بنار الحُباحِبِ
وما كُلُّ نار نارُ موسى لِمهتدٍ ... ولا كُلُّ بَرقٍ في الثقال الهَوَاضِبِ
نصحتُك لا أني تواضعْتُ فَانْتَفعْ ... بِنُصْحي فما أرضى خِداعاً لِصاحب
ولا زِلْتَ يا خيْر الأفاضِل باقياً ... رضيع لبان للعُلا والمَناقِب
مرحلة التدريس
ولما تَصَدَّرَ للتدريسِ، أقبل عليه طلبةُ العلمِ مِن كل مكانٍ، لينهلوا مِن علومه الواسعة، ومعارفه المتنوعة، وقد سأله بعضُ إخوانه القراءَة عليه في بعض كتبَ المنطق فأجاب عليه بقوله كما في " تاريخ الوجيه العطاب ":
يا طَالِبَ العِلْم والتَّحْقِيقِ في الدِّين ... والبَحْثِ عنْ كُلِّ مكْنُونٍ ومخْزونِ
__________
(1) في نسخة فطبت بذكري.
(2) في نسخة تشبيهنا.
(3) في نسخة حيثما.(1/60)
أهلاً وَسَهْلاً عَسَى مَنْ رَامَ تبْصِرةً ... منِّي وهدياً إلى الخَيراتِ تهديني
لكِنْ أطعْنِي وأنْصِفْ في الدَّلِيلِ مَعِي ... فَمنْ يُقلِّدُ فيهِ لا يُوَاتيني
أمرتَ أن تطلُبَ الدِّين الحَنيفَ وَلوْ ... بالصِّين أو بالأقاصي مِن فِلِسْطينِ
والعِلْمُ عَقلٌ وَنقْلٌ ليسَ غَيرهما ... والعقلُ فيكَ وَليسَ العَقْلُ في الصِّينِ
أُمرت أن أطلبَ العِلمَ الشريفَ وَلَو ... بالصِّين إن كان عِلمُ الدِّين في الصِّينِ
إلى أن يقول ناصحاً له أن ينصرف عنه إلى ما هو أنفع وأجدى:
إن البَصَائِرَ كالأبصارِ لَيسَ تَرَى الـ ... ـخَفِيَّ جدّاً سِوى رجْمٍ وَتَظْنينِ
لِذا تَخالف أهْلُ العَقْلِ واضَّطربُوا ... فيهِ كَعَادَتِهِمْ في كل مظنونِ
قَليتُ في العلم مِن بعد الرُّسوخ به ... واعتضْتُ بالذِّكرِ منه غيرَ مغْبُونِ
مَا فِيهِ إلا عِباراتٌ مُزخْرفةٌ ... أتى بِهِنَّ ابنُ حَزْمٍ بالتَّبايينِ
كمْ منْ فتىً منطقي الذِّهن ما خطَرتْ ... بالبالِ منه اصْطلاحاتُ القَوانينِ
وَكمْ فَتىً منطِقي كافِر نَجِس ... كالكلْبِ بلْ هُوَ شَرُّ منه في الهُونِ
يرى وَساوِسَ أهلِ الكفْرِ منقبةً ... فهماً ويسْخرُ من طه وياسِينِ
كذلِكَ الرُّسلُ لم يُعْنَوا بذاك إلى الـ ... ـمحمد مِن سليلِ الماء والطِّينِ
بَلِ اكتفوا بالذي في العقْلِ مَعْ نظرٍ ... سَهْلٍ بغيرِ شيوخ كالأسَاطينِ
معَ اعتراضِ شَياطينِ الخُصُومِ لَهُم ... وَشُهرة الطِّين في كُلِّ الأحايينِ
وَرُبَّمَا كانَ في التدقيق مَفْسَدَةٌ ... لِلقلب أو لافتراق الناسِ في الدِّينِ
مثل الغلو بأفعالِ الخوارجِ كالـ ... ـوِصَالِ والاختصا خوفاً من العَيْنِ(1/61)
واللهُ أعلمُ والرسلُ الأكارم من ... شيوخ جبة (1) قطعاً غير تخمين (2)
ولا شك أنَّه قد حصر اهتمامه في المقام الأول بنشر علوم الكتاب والسنة، وتدريسها لطلبة العلم، ولكنه لما ظهر أمره، وبَعُدَ صيتُهُ واشتهر علمُه بين الناس، خاف على نفسه من فتنة الشهرة، وحُبِّ الدنيا، فعزف عن المضي في هذا الطريق، ورجع لمحاسبة نفسه على ما أسلف:
ولما عُوتِبَ على انقطاعه من مجالس التدريس أجاب عليهم بقوله:
لامني الأهلُ والأحِبَّةُ طُرّاً ... في اعتزالي مَجَالِس التَّدريسِ
قُلْتُ لا تَعذُِلُوا فَمَا ذَاكَ مِنِّي ... رغبةً عَنْ علُومِ تِلك الدُّرُوسِ
غَيْرَ أنَّ الرِّيَاضَ تأوي الأفاعي ... وجِوَارُ الحَيَّاتِ غيرُ أنيسِ
غَيْرَ أني خَبَرْتُ كُلَّ جليسٍ ... فَوَجدْتُ الكتَابَ خَيْرَ جَلِيسِ
هي رِيَاضُ الجِنَانِ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ... وَسَنَاهَا يُزْرِي بنُورِ الشُّمُوسِ
حَبَّذَا العِلْمُ لَوْ أمِنْتَ وَصَاحَبـ ... ـتَ إماماً في العِلْمِ كالقَامُوسِ
فَدَعُوني فَقَد رَضِيتُ كِتَابِي ... عِوَضاً لي عَنْ أنْس كُلِّ أنيسِ (3)
وقد وصف محمد بن عبد الله بن الهادي الوزير حاله قائلاً: ثم إنه بعد ذلك انتصب لنشر هذه العلوم، وتصدر برهةً من الزمان، وهُرِع إليه الطلبة من كل مكان، فاستناروا بمعارفه، واقتبسوا من فوائده، فظهر أمره، وَبعُد صيته. فلما رأى أن في هذا طرفاً من الدنيا والرئاسة قدع نفسَه وقمعها، ومنعها مما تشوَّفت إليه وردعها، ثم أقبلَ على الله بكليته، فلزم العبادَة والأذكار،
__________
(1) شيوخ جُبَّه المراد بهم المعتزليان أبو علي، وأبو هاشم الجبائي نسبة إلى جُبّة بضم الجيم وتشديد الموحدة قرية بالعراق.
(2) ترجيح أساليب القرآن 40 - 42.
(3) ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان 40.(1/62)
وقيامَ الليل وصيام النهار، وتأديب النفس وإذلالَها للملك الجبار، فألجمها بلجامِ الزُهد، وجرها بعِنان التقوى، وأخزاها (1) في ميدان الورع، وساقها بسوط الصبر، وأدخلها اصطبل الخلوة، وربطها إلى جدار التوكل، وعلفها الجوعَ، وسقاها الدموعَ، وألبسها سرابيلَ الذل والخضوع، وتوّجها بتاج التبتل والخشوع، ولم يبق نوع من أنواع الرياضة، ولا طريق من طرق السلوك إلاّ سلك بها مسلكه، وشرع بها في جناحه، وكلفها تحمل أعبائه.
ولقد كان يخصِفُ نَعلَه، ويكتسِبُ لأهله، وربما تظاهر بأنواع التصرفات والحرف كحرف الفدادين والجفاة، ويلبَسُ الصُّوفَ الخشن، ويُفطِرُ على قرص الشعير بلا إدام، ويقصِدُ بذلك رياضة نفسه وتحقيرها وتصغيرها، وردعها، وتعريفها بمنزلتها عنده، ثم يقول: ومِن رقائق أشعاره في بُعْده من الناس وانقطاعه أبيات كان كتب بها إلى المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى في عقب دعوته: -
أعَاذِل دَعْني أُرِي مُهْجَتِي ... أزُوفَ الرَّحيل ولُبْسَ الكَفَنْ
وأدْفِنُ نَفْسِي قَبْلَ المَماتِ ... في البَيْتِ أو في كُهُوفِ القِنَنْ
فإنْ كُنْتَ مقتدياً بالحُسَيْنِ ... فَلِي قُدْوةٌ بأخيهِ الحَسَنْ
فَقدْ حَمِدَ المصطَفي فِعْلَهُ ... لإطْفَائِهِ لِنيَارِ المِحنْ
وَلَوْ كانَ في فِعْلِه مُخْطِئاً ... لَمَا كانَ لِلمَدْحِ مَعْنىً حَسَنْ
وأقبل ما في حَدِيث الرَّسُولِ ... من ذِكْرِ مَوْجِ بِحَارِ الفِتَنْ
فإنَّ السَّلامَةَ في الاعتِزَالِ ... جَاءت بِذَا، مُسْنَداتُ السُّنَنْ
__________
(1) في نسخة وأجراها.(1/63)
وفي دَرْسِ آي الكِتَابِ العَزِيزِ ... وَتَرجيعِهَا لِيهِيجَ الحَزَنْ
وَدَرْسِ الصَّحيح من المُسْنَدَات ... إلى المُرْسَلِ العَاقِبِ المُؤْتَمَنْ
ومحو الذُّنوبِ بِدَمْع يَصُوب ... على مَا مضَى في قَدِيم الزَّمَنْ
وأمسِ الرسوم مَحتْها الغيُومُ ... وأنسى الحبيبَ وأنسى الوَطَنْ
وَأنْسَى الدِّيارَ وسُكَّانَهَا ... ومَا كَانَ لي فيهمُ مِنْ شَجَنْ
وأبكي بِشَجْوٍ عَلَى مُهْجَتِي ... بُكاءَ الحَمَائِم فَوْقَ الفَننْ
فإنِّي رَأيْتُ الوَرَى ظَاعِنيـ ... ـنَ نَحْوَ البِلَى ما لَهُمْ مِنْ سَكنْ
فأيْقَنْتُ أني بِلا مِرْيَةٍ ... غداً ظَاعِنٌ مِثْل مَنْ قَدْ ظَعَنْ
سَأجْعل ذِكْر البِلَى في القُنُوت ... مَكانَ ادِّكار اللِّوا والدِّمَنْ
وأورد من كلامه في الزهد قوله:
أيّها السائر إلى ديار الموتى قد سارتِ الدُّنيا وما تدري والراكب لسفينة البقاء، أما علمت أنَّها إلى الفناء تجري؟ أنتَ المغتر بمدة العُمُر وهي قصيرة، والمُفتن في أنواع الهوى بغير بصيرة، عجباً من اختلاف أحوالك وأطوارك، وتقلباتك وأسفارك، أما أسفار دنياك، فتشفق فيها من عبدٍ عاجز أن يَنْهَب طِمرك، وأما سفرك إلى أُخراك، فتأمن فيه مِن ربِّ قادرٍ أن يقصِفَ عمرك، ما أخوفك في موضع السلامة، وآمنك في موضع المخافة، أما خوفك، فحيث ينجو الغني بفلوسه، والفقير ببؤسه، والمترفِّق برفقائه، والقوي بقوته، وأما أمنُك، فحيث ارتعدت فرائصُ الملوك القواهر، ولم يدفع عنهم الحصون ولا العساكر ضَلَّةً لرأيك، فأستيقظ، وضيعةً لعمرك فاستحفظ.
يَا مُولَعاً بوِصَالِ عَيْشٍ نَاعِمِ ... سَتُصَدُّ عَنْهُ رَاضِياً أوْ كارِهَا
إن المَنِيَّة تُزْعِجُ الأحْرَارَ عَنْ ... أوْطَانِهمْ والطَّيْرَ عنْ أوْكَارِهَا(1/64)
فقطع حبائل الأمل ورجاه. واعلم أنك إن لم تمت فجأة مرضت فجأة، فاستعن على ترقيق قلبك وخشوعه، واحتسب (1) طرفَكَ ودموعه بتصور حال خروج الروح من الجسد، والمفارقة للأهل والولد، والسَّفَر الذي ليس بعدَهُ إياب إلى المنزل الذي وساده الحجرُ، وفراشُهُ التراب حيث لا أهل ولا أصحاب، ولا أنس ولا أتراب، هيهاتَ ما في الترابِ من تِرب، ولا في الشراب من شَرب. إن آخر قضاء الإخوان لحقوقكَ، وأول قطيعتهم لك وعقوقك هيلُهُم للتراب على قبرك عند الدفن، وإدرارهم من الدمع ما سحَّ به الجفن، ثم كلما رَمَّ جسمُكَ في لحدك، وأكل الترابُ من جلدك، رمَّت عندهم حبائلُ ودِّك، وامّحت رسومُ عهدك. وإلى هذا أشار من يقول في بعض الفصول: صدق المثل: (لا صَدِيقَ لميت لو كان يصدق مات حين يموتُ) فما اشتغالُكَ بما لا ينفعك في معاشك، ولا معادك، ولا يُبصرك (2) في اقترابك ولا ابتعادك، اصْحَبْ صاحباً لا تحتاج معه إلى سواه، وهُمّ عملاً واحداً لا تكلف نفسك إلا اياه، لعل قلبَكَ بذلك الصاحب يأنس، ونفسَكَ من غير ذلك العمل تيأس، إنَّكَ إن جلوت بالخلوة فؤادك، وقصرت على الخير مرادَكَ، وكحلت عينيك سُهَادَكَ، واتخذت الله في كل أمر عمادَك، وشفعت بالدموع لمردود وجهك الذي لا حياء في ديباجته، ورفعت إلى الله يديك مرتعشاً من هيبته وجلالته، وشفعت ذلك بإطالة السجود والناس هُجود، وبالإلحاحِ في طلب القبول والناس غفول، رَجَعتْ لك رعاية تأخذ بضبُعَيْك عند السقطات، وتُنقذك من ورطتك عند الورطات، لعلهم إن عَلِمُوا بحبه، يرعون حق ودِّهِ لقلبه، ويسمحون طول بُعده منهم بحسن وصله وقربه، فييأس الحساد من حنينه، ويستريحُ من عظيم كربه بإراحة
__________
(1) في نسخة: واستحلب شؤون طرفك.
(2) في نسخة: ولا ينصرك.(1/65)
القلب وسلوانه، إن لم يُفِدْ مودة من ربه. ومن كلام له رضي الله عنه: إخواني قَطِّعُوا مراثر الآمال، فإن الأمر قريب، واستكثروا من صالح الأعمال، فإن السفر بعيد، وسرحوا أبصاركم في مواطن الأهوال، فإن الأمر جليل، وقلِّبوا أفكاركم في عواقب الأحوال، فإن اللُّبث قليل، واهتدوا بنور القرآن في ظلمة الحيرات، وانتفعوا بقول الرحمن (فاستبقوا الخيرات) ألا أدلكم على طبيب هذه النفوس ومطلقكلم من هذه الحبوس، عليكم بالقرآن، فإنه الطبيب الآسي، عليكم بالقرآن فإنه الكريم المواسي، ارتعوا في رياض حواميمه، انتفعوا ببيان طواسيمه، اقتدوا بأعلام مصابيحه، استقوا بغمام مجاديحه إلى قوله:
"انظروا إلى معجز لا ينالُهُ طاقاتُ العباد، وجديدٍ لا يَخْلَقُ على الترداد، وأسلوبٍ يتعالى عن الإِقواء والسِّناد، وغريبٍ لا يُمَاثلُهُ ما في الأنجاد، وعربي جاء به أفصح من نطق بالضاد، تحدّى به مَهَرَةَ الكلام فأسكتهم، وأردى به فرسانَ البيان، فكبتهم أظهر به عجزهم، وأبطل به عُزَّاهُم وعِزَّهُم، وتلاه في مجامع محافلهم المشهودة بمسالفهم، وأوحاه في مسامع جحافلهم المرفودة بمصاقعهم، فقالوا مرة: ساحر كذاب، وتارة شاعر مرتاب، تَاللهِ لهم أكذب وأشعر، وأعرفُ بأساليب الكلام وأسحر، راضوا فنون البلاغة وملكوها، وارتضعوا أضاريب البلاغة ولاكوها، وخاضوا أودية الشعر وغماره، ومارسوا أعمارهم كهولة وأغماره فما بالهم وهذه الفرية على من لا يُحسن إقامة بيت من أوزانه، ولا يدري بأفنانهم في ميدان عروضه وميزانه، وأعجب من هذه رميهم له بالخيانة وهو في ألسنتهم يُدعى الأمين وبهتهم له بالخيانة وهو في بيوتهم مُصاصة المُصاصة في النسب العربي المبين، معروف البشارة في باديتهم ومَكَّتِهم،(1/66)
مشهور العدالة في بطحائهم وبَكَّتهم .. إلى كلام طويل حذفناه اختصاراً (1).
وقد ابتعد الإمام الوزير عن الناس حتى عن أهله؛ ومال إلى الزهد والورع، واشتغل بالذكر والعبادة كما ذكر أحمد بن عبد الله الوزير في كتابه " الفضائل " وملازمة الخلوات والأماكن الخالية، كمسجد وهب (2)، ومسجد نُقُم، ومسجد الروية، ومسجد الأخضر، وفي المنازل العالية على سطح الجامع ينقطِعُ في بعض هذه الأماكن ثلاثة أشهر: رجب وشعبان ورمضان، ويعتذِرُ عن موافقة أهله وأرحامه، ويسألهم إسقاط الحق من الزيارة وعن غيره.
كما كان يذهب إلى المفاوز، وشِعاف الجبال، وبطون الأودية،
وأقام بعضَ الوقت في رأس قُلة بني مسلم (3) (جبل سَحَمَّر) ووصف حاله بقوله:
فَحِيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونهُ ... أشمَّ منيفٍ بالغَمامِ مُؤَزَّرُ
وَحِيناً بشعْبِ بَطْنِ وَادٍ كأنَّهُ ... حَشَا قلم تُمْسِي به الطَّيْرُ تصفرُ
أُجَاورُ في أرَجائِهِ البُومَ وَالقَطَا ... فَجِيراتُها لِلمَرْء أولى وأجْدَرُ
هُنَالِكَ يصْفُو لي مِن العيشِ وِرْدُهُ ... وإلا فَوِرْدُ العَيْشِ رَنْقُ مُكَدَّرُ
فإن يَبِسَتْ ثَمَّ المراعي وأجْدَبَتْ ... فروضُ العُلاَ والعلم والدين أخْضَرُ
ولا عَار أن ينجو كريمٌ بنفسه ... ولَكِنَّ عاراً عجزُهُ حين يُنصر
فَقَدْ هَاجَرَ المختارُ قبلي وَصحْبُهُ ... وفرَّ إلى أرض النجاشيّ جَعفَرُ
__________
(1) ليت المترجم أثبتها كاملة.
(2) مسجد وهب بن منبه في العرضي الأعلى جنوب باب اليمن.
(3) جبل مشهور في عزلة بني مِسْلِم من أعمال يريم وما يزال في أعلى هذا الجبل بقية مسجد يدعى مدرسة ابن الوزير نسبة إليه.(1/67)
شعره
له شعر كثير في أغراض شتى وأكثره في مدح علم الحديث ومدح أهله، وقد تقدم شيء من ذلك ومن شعره قوله:
إن كان حبي حديثَ المصطفي زللاً ... مني فما الذنبُ إلا من مصنفه
وإن يَكُنْ حبه ديناً لِمعترف ... فذاك هَمِّي وديني في تعرفه
ومذهبي مذهبُ الحَقِّ اليَقين فمَا ... يُحَوِّل الحال إلا من تشوفه
وذاك مذهبُ أهلِ البيت إنَّهم ... نَصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في تَصَرُّفِهِ
نَصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في الفروعِ فما ... لَوْمُ الذي لام إلا مِن تعَسُّفهِ
فما قفوتُ سوى أعلام منهجه ... ولا تلوتُ سوى آياتِ مصحفه
أما الأصولُ فقولي فيه قولُهم ... لا يبتغي القلب حيفاً عن تحنفه
ففي المَجَازاتِ أمضي نحو معلمه ... وفي المجازَات أبقى وسطَ موقفه
فإن سعيتُ فسعيي حَوْلَ كعبتِه ... وإن وقفتُ ففي وَادِي مُعرّفه
وحقِّ حبي له أنِّي به كَلِفٌ ... يُغنيني الطبعُ فيه عن تكلُّفه
هذا الذىِ كَثُرَ العُذُّالُ فيه فما ... تّعَجَّبَ القَلْبُ إلا مِن معنفه
ما الذنب إلاَّ وقوفي بين أظهرهم ... كالماء ما الأجن إلاَّ من تفوقه
والمندلُ الرطب في أوطانِه حَطَبٌ ... واستقر صرفَ الليالي في تصرفه
يستأهِلُ القَلْبُ ما يلقاه ما بَقِيَتْ ... لَهُ عَلاقَةُ توليعٍ بمألفِهِ (1)
وله أيضا:
إذَا فُتِّحَتْ أبوابُ رحمةِ رَبِّنا ... صَغُرْن لديها موبقات الجرائِمِ
وإنْ هي لم تُفْتَحْ ولم يَسْمَحِ الخطا ... فَعدّ مِن الهُلاَّك أهل العزائم
__________
(1) في نسخة:
تأهل القلبُ ما يلقاه ما بقيت ... له علائق تغريه بمألفه(1/68)
وما الربحُ والخُسران إلا لِحكمة ... بها جَفَّت الأقلامُ قبلَ الخواتم
كما حجب الأبصارَ عن كُنْهِ ذاته ... لِذَا حَجَب الأسرارَ عن كل عَالِم
فَقُلْ لِجميع الخائضينَ رُويدَكم ... فليسَ بسرِّ الرَّبِّ فيكم بِعالمِ
فهذا مرامٌ شَطَّ مَرْمَى العُقُولِ في ... مداه فما في سُبْلِهِ غيرُ نادِم
بعض ما مدح به الإمام ابن الوزير من نثر وشعر:
أثنى بعض العلماء على الإمام ابن الوزير فقد وصفه الأديب البارع وجيه الدين عبد الرحمن بن أبي بكر العطاب في تاريخه بقوله: الإمام الحافظ أبو عبد الله شيخ العلوم وإمامها ومن في يديه زمامها قُلِّد فيها وما قلَّد، وألفي جيد الزمان عاطلاً فطوقه بالمحاسن وقلد، صَنَّف في سائر فنونها وألف كتباً تقدم فيها وما تخلف، وله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - الباع المديد والشأو البعيد الذي ما عليه مزيد، وله شعر تحسده زهر النجوم، وتود لو أنها في سلكه المنظوم.
وقال القاضي أحمد بن صالح بن أبي الرحال في كتابه (مطلع البدور) في وصفه: المحيط بالعلوم من خلفها وأمامها والحري بأن يُدعى إمامها وابن إمامها كان سبَّاق غايات وصاحب آيات وعنايات بلغ من العلوم الأقاصي، واقتداها بالنواصي فما أجد على قصوري عبارة عن طوله ولا أجد في قولي سعة لذكر فعله وقوله " وقد تقدم ما أثنى به عليه أحمد بن عبد الله الوزير في تاريخ آل الوزير والإمام الشوكاني في البدر الطالع.
ومدحه الشاعر شهاب الدين أحمد بن قاسم الشامي بقوله:
ألمَّ بمحمودِ السجايا محمد ... يُعنك وإن ضاقت عليكَ المسالِكُ
فتقتبس الأنوارُ مِن روض علمه ... وتُلتمَسُ الأزهارُ وهي ضواحك(1/69)
هو البحرُ علماً بل هو البدرُ طلعةً ... هو القطرُ جوداً وهو للمجد مالك
كفاه كتابُ اللهِ والسنة التي ... أتانا بها مَنْ صدقته الملائكُ
ففاضت له مِن حضرة القدس نُكتة ... من العلم سراً فيضُها متدَاركُ
فأشرق منها طورُ سنين بهجةً ... ونوراً تعاطته النجومُ السوامِكُ
فما شاطىء الوادي المقدسِ مِن طُوى ... ولا نوره إلا عليه يباركُ
ولم يَتَّبِعْ نعمانَهم وابنَ حنبل ... ولا ما يقولُ الشافعي ومالكُ
وأعلامَ أهلِ البيتِ ردَّ علومَهم ... وما زالَ يحكي ضعفَها وهو ضاحِكُ
وما ذاك إنكار لِمشهورِ فُضلهم ... ولكنَّه في منهجِ الحَقِّ سَالِكُ
وأما رجَالُ الاعتزالِ فإنَّه ... لِما صنفوه في الأصولين تَارِكُ
إذا كانَ ذاك العلمُ منهم فعقلُه ... لتلك العقول العالمات مشارِكُ
هنيئاً لقوم قلَّدوه لأنَّه ... أنار المعالي وهي سُودٌ حوالِكُ
كأني بهم في جّنَّةِ الخُلد حولَه ... لهم سُرُرٌ مرفوعةٌ وأرائِكُ
فهذا الذي أحيا شَرِيعةَ جَدِّه ... وأحيا به من في الضَّلالَةِ هالِكُ
فَلَوْ قَلَّدُوه الأمر كَانَ خليفةً ... وقلتَ له الدنيا وتلك الممالِكُ
وقصَّر كسرى عن مداه وقيصرٌ ... وهرموزهم، والنردَسَين (1) وبابكُ
وسار وتاجُ المُلك مِن فوق رأسه ... كذا سارَ عيسى وهو لله ناسِكُ
وحوليه مِن آل النبيِّ عِصابةٌ ... ترق للقياها الجبالُُ البوارِك
يدورُ عليها من جديد سحائب ... بوارِقُها تلك السيوفُ البوائِكُ
فيا لك مِن أقمار ليلٍ تقلنسَت ... كواكِب إلا أنَّهن برائِكُ
يشُقُّون قَلْبَ الجيشِ والموتُ شاهد ... فيمضون قسراً والقنا متشابِكُ
غُيوث ولكِنْ حين لا يسمَحُ الحيا ... ليوث ولكِن حينَ تحمى المعارِكُ
__________
(1) في نسخة: والنردشير.(1/70)
أولئك أهلُ البيت أثنى بمدحهم ... وتطهيرهم مَن للسَّمواتِ سامِك
فيابن رسولِ الله لستُ ببالغ ... ثناءَكَ إلاَّ أنَّني متبارِكُ
فَخُذْها بعفوٍ منك واسْتُرْ عيوبَها ... ولا يهتِكنْ تلك الستارة هاتِكُ (1)
وهذه أبيات كتبها العلامة العارف البارع يحيى بن رويك الطويلي، وكان مقيماً في تعز، يمدح الإمام محمد بن إبراهيم الوزير:
أَراك تَلُوم ولا أَرْعَوي ... فَخَلِّ الهديرَ وخَلِّ الدوي
كلامُك في الحق لم تعدُه (2) ... فيدخل في سَمْعِ صّبٍّ جَوِي
وأنتَ الحكيمُ وأنتَ الرشيد ... فدَعْ عنك لَومَ السفيهِ الغوي
تملَّك قلبي حُبُّ الحبيب ... وصارَ على عرشه مستوي
وما زالَ ينشرُ فيَّ السَّقَام ... غرامٌ عليه فؤادي طوي
وما ضَحِكَ البرقُ إلا بكَيتُ ... بُكاً ما شَفَى لي قَلباً دوِي
يلوحُ فيمطر مِن أعيني ... دموعاً كَوَبْل السحابِ الروي
وأتبعه مِن حنيني ومن ... زفيري رعداً شديدَ الدوي
وُيوقد في الغيم ناراً بها ... يذوبُ فؤاديَ أو ينشَوِي
لَهَا لهباتٌ يبيت الظلام ... يجفَل عنهن أو ينزَوي
وقد طَارَ عَنْ وكر جفني الكَرَا ... فَلَيسَ إليه لَه مِن أوي
وساهرني البرق حتّى الصباح ... كما ساهَر الخِلِّ خِلٌّ نوي
ويظهر لي كلما شمته ... تَضَرُّب من جُنَّ أو من حَوِي
كأن الذي بي من لوعة ... به فهو يقلق أو يلتوي
تَصَوَّب مِن صَوبِ صنعاء لي ... فَشَبَّ الهوى مِن فؤادي الهوي
__________
(1) من ترجمته لمحمد بن عبد الله بن الهادي الوزير.
(2) في نسخة: ملامك في الجو لم يَعُدُه.(1/71)
وذكرني مَن ثوى ثم من ... أناس لهم في فؤادي ثوي
مهماتُ قلبي ادِّكارهم ... يؤلفها البارقُ الأسنوي
أحن إليهم حنينَ النياق ... وأثغوا غراماً ثُغاء الشوي
ولا سيما عزِّ دينِ الهدى ... وقطبِ رحا الشرفِ الهادوي
محمد المرتدي بالكمال ... وسالك كل صراط سوي
وإنسان عين بني المرتضى ... ودُرَّة عقدهم اللؤلؤي
وبحر المعارف ذاك الذي ... غدا البحر في جنبه كالطوي
ورافع أعلام علم الحديث ... وناصب عرش الهدى المنهوي
وناشر سنة خيرِ الأنام ... وقد كان منثسورها منطوي
ومُحييها وبإحيائها ... جلا ذهب المذهب اليحيوي
تجرد في بعث مقبورها ... وإنقاذ ما كان فيها ثوي
وما زال يفتي بها في أزال ... ويخدمها خدمةَ المقتوي
ويسفك في نصر أعلامها ... بصُمِّ اليراع دِمَاء الدوي
فروضتُها الآن مخضرَّةٌ ... تَرِفُّ من الرِّيِّ بعد الذُّوي
ومرتعها قد غدا مُعْشِبَاً ... ومن بعد صفرته قد حوي
فلِلهِ دَرُّكَ من سَيِّدٍ ... على كُلِّ مكرمة محتوي
ودَرُّ جحا حجةٍ أشبهُوك ... مِن هادويٍ وَمِن مهدوي
هُمُ مثلُ أحرفِ بيت القصيد ... وأنتَ لهم مثلُ حرف الروي
إليكم أحِنُّ حنيناً إذا ... ظما كَادَ ضلعي به يَشْتَوِي
وأذكركم فيكادُ الفؤاد ... يذوبُ مِن الشَّوقِ أو ينشوِي
فقلبي كليمُ بموسى الفِراق ... وحُبِّي برؤيتكم موسوي
أحبُّكم يا بني أحمدٍ ... وَحُبُّكم أسُّ ديني القوي
أًحِبُّكم مثل حُبِّ المسيـ ... ـح دان به الراهب العيسوي(1/72)
أوفيكم حَقَّ حبي ولا ... أُدنِّسُه بغُلُو الغَوِي
وأهوى على البُعدِ لُقياكم ... ولُقياكم خَيْرُ شيء هوي
وأعلم أنكم كالوُكور ... ونحنُ طيورٌ إليها أوي
عَطِشْتُ إلى لَثْمِ أقدامِكُم ... فيا ليتَ شعري متى أرتوي
فلا زلتُم يا بني أحمد ... كهوفاً إليها اللحاق الضوي
مؤلفاته
اشتغل بالتأليف منذ سِن مبكرة، فهو قد صنف " العواصم والقواصم " ولما يَبْلُغ الثلاثينَ سنة، ولم ينقطع عن التأليف حتى قرب وفاته:
1 - إيثار الحق على الخلق في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته على مناهج الرسل والسلف. صنفه سنة 837 هـ وهو آخر مؤلفائه.
2 - البرهان القاطع في معرفة الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع فرغ من تأليفه في رجب سنة 801 هـ وقد طبع، وقال يحيى بن الحسين: وله كتاب البرهان في أصول الأديان قرر فيه الاستدلال بالظنيات في الأصول وهو خلافُ الجمهور ولعلَّه هو البرهان القاطع.
3 - التأديب الملكوتي وهو مختصر، وفيه عجائب وغرائب، قال صلاح ابن أحمد بن عبد الله الوزير: لم أجد هذا الكتاب في الخزانة، وإنما وجدتُ منه وريقاتٍ يسيرة من مُسَوَّدَتِهِ زادت الأسف عليه.
4 - تحرير الكلام في مسألة الرؤية وما دار بَيْنَ المعتزلة والأشعرية.
5 - التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية لأخيه الهادي بن إبراهيم الوزير.(1/73)
6 - ترجيحُ أساليب القرآن على أساليب اليونان في أصول الأديان وقد طبع.
7 - تنقيح الأنظار في علوم الآثار وهو كتاب جليلُ القدر، جمع فيه علومَ الحديث وزاد فيه ما يحتاج إليه طالبُ الحديث مِن علم أصول الفقه، وأفاد فيه التعريف لمذهب الزيدية، وهو يُغني عن كتاب العلوم للحاكم، صنفه سنة 813 هـ وشرحه البدر محمد بن إسماعيل الأمير، وسماه " توضيح الأفكار على تنقيح الأنظار " في مجلدين وقد طبع.
8 - الحسام المشهور في الذب عن دولة الإمام المنصور.
9 - حصر آيات الأحكام، وقال يحيى بن الحسين في " طبقاته ": وكتاب في آيات الأحكام قدر مائتين وست وثلاثين آية.
10 - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم في أربع مجلدات، وهو الذي تقوم مؤسسة الرسالة بنشره وقد اختصره في مجلد وسماه " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " وقد فرغ من تأليف المختصر يوم الأربعاء الثالث من شهر شعبان سنة 817 هـ. وقد طبع مرتين.
11 - قبولُ البشرى في تيسير اليُسرى، مجلد لطيف ضمنه ما يجوزُ من الرخص وما لا يجوز، وما يكره وما يستحب، وأقوالُ أهل العلم في ذلك.
12 - كتاب في التفسير من الكلام النبوي ذكره في " إيثار الحق على الخلق " وقال: جمع فيه ما في جامع الأصول، ومجمع الزوائد، والمستدرك للحاكم. وقال صلاح ابن أحمد بن عبد الله الوزير: ولم يُوجد هذا الكتاب.(1/74)
13 - نصر الأعيان على شر العميان كتبه رداً على أبي العلاء المعري وقال فيه ما لفظه: وقد ولع بعض أهل الجهل والغرة بإنشاد الأبيات المنسوبة إلى ضرير المعرة، وهي أحقر من أن تسطَّر، وأهون من أن تُذكر، ولم يشعر هذا المسكينُ أن قائلها أراد بها القدحَ في الإسلام من الرأس، وهدم الفروع بهدم الرأس، وليس فيها أثارَةٌ من علم، فيستفاد بيانُها، ولا إشارة إلى شبهة فيوضح بطلانها، وإنما سلك قائلها مسلك سفهاء الفاسقين والزنادقة المارقين وما لا يَعْجِزُ عن مثله إلا الأراذلُ مِن ذم الأفاضل بتقبيح ما لهم من الحسنات، وتسميتها بالأسماء المستقبحات، تارة ببعض الشبهات، وتارة بمجرد التهويل في العبارات، كما فعل صاحب الأبيات. وصدَّر الكتابَ المذكور بهذه الأبيات:
مَا شَأْنُ مَنْ لمْ يدْرِ بالإسْلامِ ... والخَوْضِ في مُتشابِه الأحْكامِ
لَوْ كُنْتَ تدْرِي مَا دروْا مَا فَاهَ بِالْـ ... ـعَوْرَاءِ فُوكَ، ولا صَمَمْت صَمَام
لَكِنْ جَمَعْتَ إلى عَمَاكَ تَعَامِياً ... وَعُمُومَةً فَجمعْتَ كُلَّ ظَلامِ
فَاخْسَأ فَمَالك بالعُلوم دِرَايَةً ... القَوْلُ فِيهَا ما تقُول حَذَام
ما أذْكَرَ العُمْيَانَ للأعْيَانِ بَلْ ... ما أذْكر الأنعَامَ للأعلامِ
وإذَا سَخِرْتَ بِهمْ فلَيْسَ بِضَائِرٍ ... إنْ هَرَّ كَلْبٌ في بُدُورِ تَمَامِ
مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلأنبياءِ مُعَظماً ... لَمْ يَدْرِ قَدْرَ أَئِمَّةِ الإسْلامِ
لَمْ تَدْرِ تَغْلِبُ وَائل أَهجَوْتَهَا؟ ... أمْ بُلْتَ تحْت المَوْجِ وهي طَوامِي
وقال محمد بن عبد الله بن الهادي: وقد أحببتُ ذكر هذه الأبيات لما فيها مِن الذب عن أئمة الاسلام.
14 - كتاب الأمر بالعزلة في آخر الزمان.(1/75)
15 - مجمع الحقائق والرقائق في ممادح رب الخلائق وقال فيه بيتين:
ولي فيك دِيوان سَقَيْتُ فنونَه ... دُموعي فأضحى رَوْضُه مُتفنّنا
وكنتُ امرءاً أهوى البَرَاهِينَ في الثَّنا ... فرصعتُه فِيها فَجَاء مُبرْهَنَا
16 - مختصر في علم المعاني والبيان.
17 - رسالة في عدم اشتراط الإمام الأعظم في صلاة الجمعة.
18 - كتاب في علم المعاملة.
19 - ديوان شعره.
20 - رياض الأبصار في ذكر الأئمة الأقمار والعلماء الأبرار (1).
وأما المسائل والردود على أصحاب الأفكار المُبَدَّعة، فلا يأتي عليها العد ولا يُستطاع على ما تضمنه الرد.
وفاته
توفي رحمه الله يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من المحرم غرة سنة (840) (2) وقد بلغ من العمر أربعة وستين سنة ونصف السنة بمرض الطاعون الذي انتشر في اليمن في سنة (839) وسنة (840 هـ) وقد دفن في الرويات (مسجد الروية) المعروف اليوم بمسجد فروة بن مسيك قبلي مصلى العيد
__________
(1) ذكره إسماعيل باشا البغدادي في هدية العارفين 2/ 191 وقال: إنه يوجد منه نسختان في مكتبة المدرسة السابقة بطهران.
(2) وتوفي في اليوم نفسه الإمام المنصور علي بن صلاح الدين، كما توفي الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في اليوم الثاني عشر من صفر من السنة نفسها، أي: بعد نصف شهر من وفاتهما فقط، وكانت ولادة المهدي والإمام محمد بن إبراهيم الوزير في سنة 775 هـ.(1/76)
بجوار جدار المسجد. ولشمس الحور بنت أخيه الهادي بن إبراهيم الوزير فيه قولها من أبياتِ:
رَحِمَ اللهُ أعظماً دفنُوها ... بالرّويات عن يمين المُصَلَّى
وقال يحيى بن الحسين في طبقاته: وروي أن الوزير حسن باشا (الوالي العثماني في اليمن من غرة ذي الحِجة سنة 988 - 1013) لما عمر المسجد الذي بفروة وجدده، وعمر قبة أكيدة البناء الباقي إلى الآن، وجد قبر السيد جنب المواثر على حاله فأبقاه مكانه (1).
خلاصة القول
يتضح مما سبق أن الإمام محمد بن إبراهيم الوزير قد التزم بالعمل بنصوصِ الكتاب، وصحيح السنة في كل أمرٍ من أمور الدين، ودافع عن السُّنة وأهلها دفاعاً مشهوداً، وأبلى في ذلك بلاء حسناً، وله أقوالٌ كثيرة في ذلك منها قولُه من قصيدة دالية سبق ذكرها:
يا حَبَّذا يَوْمُ القيَامَةِ شُهْرَتي ... بَينَ الخلائقِ في المَقام الأحمدِ
لِمحبتي سُنَنَ الرَّسولِ وأنَّني ... فيها عَصَيْتُ مُعَنِفِّي ومُفَنِّدي
وتركتُ فِيهَا جيرتي وعَشيرتَي ... وَمَحل أتْرَابي وَمَوْضِعَ مَولدِي
إلى أن يقول:
إني أُحِبُّ محمداً فَوْقَ الوَرى ... وبه كما فَعَلَ الأوائِلُ أقتدي
فقد انقضت خيرُ القرون ولم يكن ... فيهم بِغيرِ محمد مَن يهتدي
__________
(1) قبره معروف إلى اليوم في المكان نفسه في مقصورة ملحقة بالمسجد المذكور، وبجواره قبر رئيس العلماء أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الله الكبسي المتوفي سنة 1316.(1/77)
إلا أنه هناك بعضَ قضايا أصولية تردد في تحديدِ موقفه منها؛ وكان يجنح أحياناً في بداية أمره إلى معتقدات الزيدية، كما جاء في قوله من القصيدة السابقة إذا لم تكن مقحمة على صاحبها:
هذي الفروع وفي الأصول عقيدتي ... ما لا يُخالف فيه كُلُّ مُوحِّدِ
ديني كأهل البيت دِيناً قيماً ... متنزهاً عن كل معتقدٍ ردي
لكنني أرضي العتيقَ وأحتمي ... من كل قولٍ حادث متجدِّدِ
والعتيق أقوال أهلِ البيت المتقدمة على ما تضمنه " الجامع الكافي " كما جاء في ترجمته في طبقات الزيدية ليحيى بن الحسين بن القاسم، ويقول في أهل البيت:
وأُحِبُّ آل محمد نفسي الفِدا ... لَهُمُ فما أحدٌ كآل محمدِ
هُمْ بَابُ حِطَّة والسفينة والهدى ... فِيهم، وهُمْ للظالمين بمَرْصَدِ
وهُمُ النجومُ لِخير متعبِّد ... وهُمُ الرجومُ لِكل من لم يعبد
وهُم الأمانُ لِكل من تحت السما ... وجزاءُ أحمد ودُّهم فتودَّدِ
والقوم والقرآن فاعرف فضلَهم ... ثقلانِ للثقلين نَصُّ محمدِ
ولهم فضائلُ لستُ أُحصي عدَّها ... من رام عدَّ الشهب لم تتعدد
وكفي لهم شرفاً ومجداً باذخا ... شرعُ الصلاة لهم بكل تَشَهُّدِ
وذكر في مقدمة " الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم " (1) ما لفظه: "وأصلي وأسلم صلاة دائمة النما، تملأ، ما بين الأرض والسما وما بينهما عليه وعلى آله الكرما الثقل المذكور مع القرآن (2) أئمة الإسلام،
__________
(1) صفحة 3.
(2) إشارة إلى ما ورد في كتب الشيعة " إني تركت فيكم ثقلين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وعترتي أهل بيتي " كما جاء في تعليق الأستاذ محب الدين الخطيب على الروض الباسم، أما عند أهل السنة فهو كتاب الله وسنتى.(1/78)
وأركان الإيمان المتوجين بتاج: {قُلْ لا أَسْاَلُكُم عَلَيْهِ أَجْراً إلاَّ المَودَّةَ في القُرْبَى} (1) الشاهد بمناقبهم كتاب " ذخائر العقبى " (2).
فهو هنا قد التزم بمقولات الزيدية، وسلك في ذلك مسلك علمائها، وقصد بأهلِ البيت ما يقصِدونه من أنهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولاده في اليمن (3) ناسياً أن كثيراً من أولاده قد سكنوا في غير اليمن مِن ديار المسلمين، وتمذهبوا بمذاهب تلك الديار، ففيهم الحنبلي والحنفي والمالكي، والشافعي، كما أن منهم أيضاً من اعتنق مذهب الإمامية الاثني عشرية، وكذلك فإن الإسماعيلية بفرقتيها المستعلية والنزارية تَدَّعي أنها تسير على منهج أهلِ البيت وإن مؤسسيها هُم من أعيان أهل البيت، وهؤلاء جميعاً يختلفون كثيراً في عقائدهم عن عقائد الزيدية.
كذلك فإن الإمام الوزير التزم ببعض شعائر الزيدية كالقول بـ: حي على خير العمل في الآذان، وقد تفرد بهذه الرواية أخوه العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير حينما رد على جمال الدين علي بن محمد بن أبي القاسم لإنكاره على أخيه بأنه خالف الزيدية، وأنكر صحة القول بـ: حي على خير العمل.
__________
(1) سورة الشورى آية 23 وقال سعيد بن جبير: قربى آل محمد صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: عجلت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: " إلا أن تصلوا ما بيني وما بينكم من القرابة ". تعليق الأستاذ الخطيب.
(2) كتاب (ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربى) لمحب الدين أحمد بن عبد الله الطبري المتوفي 694 هـ تعليق الأستاذ الخطيب.
(3) هذا مع التسليم بأن الآية خاصة بهم وإلا فنساء النبي داخلات فيها بدليل موقعها من الآيات التي تبدأ بقوله تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيراً} وتنتهي بقوله: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيراً} فقد جاء ذكر أهل البيت في سياق مخاطبة الله لهن.(1/79)
وأنا في شك مما نسب إليه من تمسكه بعقائد الزيدية أصولاً وفروعاً إذ لو كان الأمر كذلك لما كان هناك مسوغ لمحاربته حرباً لا هوادة فيها في زمانه وبعد زمانه من بعض علماء المذهب الزيدي. حتى من أقرب الناس إليه. وإذا كان قد ورد شيء يدل على انتمائه إلى الزيدية في كلامه على فرض صحة ثبوته فإنما كان ذلك في بداية أمره.
ومهما يكن مما نسب إليه، فإنه كان ملتزماً بالسنة أصولاً وفروعاً كما هو معروف عنه في مؤلفاته كلها، فهو يقول في مقدمة الروض الباسم (1):
" ولم يكن بدعاً أن تنسمت من أعطارها روائح، وتبصرت من أنوارها لوائح، أشربت قلبي محبةَ الحديث النبوي، والعلم المصطفوي، فكنت ممن يرى الحظ الأسنى في خدمة علومه، وتمهيد ما تعفَّى من رسومه، ورأيتُ أولى ما اشتغلت به ما تعين فرض كفايته بعد الارتفاع وتضيق وقت القيام به بعد الاتساع من الذب عنه، والمحاماة عليه، والحث على إتباعه والدعاء إليه، فإنه علم الصدر الأول، والذى عليه بعدَ القرآن المُعَوَّل، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة {لتبين للناس}.
وهو الذي قال الله فيه تصريحاً {إن هُو الا وحي يوحى}، وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين؛ حيث قال في التوبيخ لكل مترف إمَّعة: " إني أوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه " (2). وهو العلم الذي لم يشارك القرآن سواه في الإجماع على كفر جاحدِ المعلوم من لفظه ومعناه، وهو العلم الذي إذا تجاثت الخصوم للركب، وتفاوتت العلوم في الرتب أصمت مرنان نوافله كل مناضل، وأصمت برهان معارفه كُل فاضل، وهو العلم الذي
__________
(1) ص 5.
(2) وهذا الحديث يؤكد أن الرواية الصحيحة لحديث: " إني تركت فيكم ثقلين إنما هي بلفظ كتابي وسنتي ".(1/80)
ورثه المصطفي المختار والصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار، وهو العلم الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية حسناته في أمة الرسول عليه السلام، وهو العلم الذي صانه الله عن عبارة الفلاسفة، وتقيدت عن سلوك مناهجه، فهي راسفة في الأغلال آسفة، وهو العلم الذي جلّى الإسلام به في ميدان الحجة وصلّى، وتجمل بديباج ملابسه من صام لله وصلى، وهو العلم الفاصل حين تلجلَجُ الألسنةُ بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوع عمر بن الخطاب، وهو العلم الذي تفجرت منه بحارُ العلوم الفقهية، والأحكام الشرعية، وتزينت بجواهره التفاسيرُ القرآنية، والشواهدُ النحوية، والدقائق الوعظية. وهو العلم الذي يُميز اللهُ به الخبيثَ من الطيب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريب، وهو العلم الذي يسلك بصاحبه نهج السلامة، ويوصله إلى دار الكرامة، والسارب في رياض حدائقه، الشارب من حِياض حقائقه، عالم بالسنة، ولابس من كل صوف جُنَّة، وسالك منهاج الحق إلى الجَنة، وهو العلم الذي يرجع إليه الأصولي وإن برز في علمه، والفقيه وإن برز في ذكائه وفهمه، والنحوي وإن برز في تجويد لفظه، واللغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصر، والصوفي والمفسر، كلهم إليه راجعون ولرياضه منتجعون" (1).
وإذا تأملنا هذا الكلام، وأمعنا فيه فإننا نراه قد نقض ما سبقه، بل نسفه نسفاً.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
__________
(1) ص 5، 6.(1/81)
التعريف بالعواصم والقواصم
هذا هو الكتاب العظيم الذي تقوم دار البشير بنشره، ويتولى تحقيقه وتخريج نصوصه والتعليق عليه الأخ الأستاذ العلامة شعيب الأرنؤوط، قد اعتمدت في التعريف به، وبما اشتمل عليه من أبحاث على ما كتبه محمد ابن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم الوزير في ترجمته له، وقد أوجز ما اشتمل عليه من أبحاث فيما يلي:
ذكر في المجلد الأول الخطبة، وفيها الإشارة إلى سنة الله في إقامة الحجج، ومقام الرفق، ومقام الشدة في ذلك، وفيها شيء من مناقب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم مناقب أهل بيته، ثم مناقب أصحابه رضي الله عنهم، ثم مناقب أمته، ثم ترجيح عدم التكفير لأهل التأويل منهم، وذكر كثير مما جاء في ذلك كتاباً وسنة.
ثم الإشارة إلى أقربِ الطُّرقِ إلى معرفة الله تعالى والاكتفاء بالجُمَل وكيفية التعلم لذلك من كتاب الله تعالى، وذكر أقرب الأشياء إلى قطع الوسواس والشكوك، ثم في ذكر النهي عن التفكير (1) والاختلاف والفرق
__________
(1) في نسخة التفكر.(1/82)
بينَ المراء المنهي عنه، والجدال بالتي هي أحسن، والحث على الصلح بين المسلمين والتأليف حسب الإمكان، ثم ذكر الموجب لتأليف هذا الكتاب والعذر في التصدي، ثم في الشروع في الجواب.
والذي اشتمل عليه من المسائل العلمية هذا المجلد مسألتان:
المسألة الأولى: الكلامُ في صعوبة الاجتهاد في العلم أو سهولته وذكر شرائط الاجتهاد عند الفريقين المعسرين والميسرين، والرد على من زعم أنه قد صار متعذراً على الإطلاق، وفي ذلك عشرون تنبيهاً تشتمل على بيان غلط من أوهم تعذره، أو شكك في ذلك، ودعا الناس إلى الإعراض عن طلبه.
ثم الكلام فيما يكفي المجتهدين من معرفة الأخبار النبوبة، ومعرفة طرق التصحيح والجرح والتعديل .. وما يؤدي إليه القول بتعذر الاجتهاد، وخلو دار الإسلام ممن يعرف معنى كلام الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحيح حديثه من عموم الضلالات وأنواع الجهالات، وتعذر معرفة جواز التقليد حينئذ، وارتفاع التكليف بتفاصيل الشريعة المطهرة المحفوظة صانها الله عن ذلك. وفي آخر ذلك تمام الكلام في الجرح والتعديل وفي أئمة الحديث الذين أخذ ذلك عنهم، واتصلت الروايةُ بهم، ثم الكلام في معرفة الصحابة رضي الله عنهم، وحكم المجهول منهم، ومعرفة ما يكون المسلم به صحابياً.
ثم القول في معرفة ما يحتاج إليه المجتهدُ من التفسير، ثم معرفة الناسخ والمنسوخ، وحصر المنسوخات وذكرها بأعيانها مع تمييز ما أجمع على نسخه مما اختلف فيه بأوجز عبارة، ثم ذكر اجتهاد الصحابة، وعدد منْ عُرِف بالاجتهاد منهم وفيه الذَبّ عن أبي هريرة (رضي الله عنه) وعن(1/83)
أمثاله من السلف وبيان صدقهم والردِّ على من اتهمهم بتعمد الكذب. ثم ذكر الحسن البصري، وأبي حنيفة رضي الله عنهما مناقبهما، واجتهادهما والرد على من قدح فيه، ثم الرد على من قال: إنه لا مجتهد بعدَ الإمامِ الشافعي رضي الله عنه، وما يُؤدي ذلك إليه من تجهيل كبار الأئمة وأحبار الأمة في مقدار ستمائة سنة، وذكر خلائق من المجتهدين في هذه القرون وتسمية كثير منهم.
المسألة الثانية: القول في قبول أهل التأويل في الرواية من أنواع المبتدعة إذا عُرِفَ صدقُهم وحفظهم، وذكر الاختلاف في ذلك، وتقصي الأدلة فيه، وفي ذلك فصلان:
الفصل الأول في ذكر من قال: إن قبولهم باطل قطعاً لا ظناً، وذكر أدلته وإبطالها، وذكر ما يلزمه من دعوى القطع في ذلك من اللوازم الصعبة، والإشكالات الجمّة التي بلغت مئتي إشكال أو أكثر، وفي آخر ذلك ذكر ما يَخُصُّ المرجئة ثم الجبرية من ذلك وما يؤدي إليه القولُ بأن المسألة قطعية.
الفصل الثاني في ذكر الأدلة على قبول المتأولين، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى قبولُ فاسق التأويل، وفيها ذكر الاجماع على قبولهم من اثني عشر طريقاً فمن الأئمة المنصور بالله عبد الله بن حمزة، والإمام المؤيد بالله أحمد بن الحسين، وأخوه يحيى بن الحسين الحسنيين الهارونيين، والإمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة، والأمير الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى الهادي إلى الحق، والقاضي زيد بن محمد، والفقيه العلامة عبد الله بن زيد صاحب الإرشاد، والحاكم المعتزلي صاحب العيون والسفينة والتفسير، والشيخ أحمد بن محمد الرصاص،(1/84)
وجده الشيخ العلامة المتكلم الحسن بن محمد الرصاص، والشيخ الإمام أبو عمر عثمان بن عمر بن أبي بكر المعروف بابن الحاجب.
ثم ألحق -رحمه الله- تعالى ما يدل على صحة رواية هؤلاء للإجماع، وما اعترضت به هذه الرواية والجواب عنه، ثم شهرة خلاف المتأخرين في ذلك على تقدير التسليم أن إجماع القدماء لم يصح، وذكر نصوص أهل البيت خاصة على قبول فسّاق التأويل، ونقل ذلك من تصانيفهم المشهورة الموجودة المتداولة، ثم ذكر الحجج العقلية في ذلك ومن ذكرها منهم وتأييدها بالأدلة السمعية إلى أن تمت اثنتان وثلاثون حجة.
ثم ذكر خمسة عشر مرجحاً لقبولهم على ردهم وما فيه من الاحتياط والورع.
ثم ذكر المسألة الثانية من هذا الفصل الثاني، وهي قبولُ كفار التأويل عند مَنْ يقول به، ورواية الإجماع فيه من خمس طرق عن المنصور بالله، والمؤيَّد بالله يحيى بن حمزة، والفقيه عبد الله بن زيد، والقاضي زيد بن محمد، والإحالة بأكثر الأدلة إلى الأدلة على المسألة الأولى، وبيان أن هذه المسألة محل نظر واجتهاد.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- فائدة في حكم حديث فسَّاق أهل التأويل إذا عارض رواية أهل العدل وماهية شرط التعارض.
ثم ذكر -رحمه الله- خصيصتين: أولهما في فضل أهل البيت، والثانية في تقديم أهلِ كُلِّ فن في فنهم ومعرفة حَقِّ تجويدهم فيه، وعنايتهم فيه، ثم بيان التنزه عن تقديم فساق التأويل على أئمة الإسلام وأن ذلك لم يكن منه -رحمه الله- قط، وأن الخصم قد وقع فيه من حيث لم يشعر.(1/85)
ثم بيان القول في العموم والخصوص إذا تعارضا، وطرف من الكلام في مسألة الجهر بالبسملة والإخفات، ثم بيان أن البخاري ومسلماً وأهل السنن الأربع لم يتعرَّضوا لحصر الحديث الصحيح، ولا ادَّعوا ذلك، بل صَرَّحُوا بنقيضه، ثم بيان حكم ما ادعى من الإجماع الظني على صحته من حديث البخاري ومسلم، وما خرج عن دعوى الاجماع الظني من حديثهما ومن لم يقل بهذا الإجماع من جماهير العلماء والمحدثين. ثم ذكر ترجيح الذي ليس بمجتهد لبعض مذاهب العلماء لموافقتهما للأخبار الصحاح، وما يرد على ذلك، والرد على من منعه.
ثم ذكر التزام مذهب معين في التقَليد، وهل يجب ذلك، وما المختار فيه؟.
ثم الكلام في حديث المحاربين لأمير المؤمنين علي عليه السلام وإفراد الكلام عليهم من دون أهل التأويل.
ثم ذكر -رحمه الله- أربعة عشر وَهْماً من سبعة وعشرين وهْمَاً:
الأول منها قولُ المحدثين بعصمة الصحابة وأن كبائرهم صغائر.
الثاني: أنهم يُجيزون الكبائر على الأنبياء صلوات الله عليهم.
الثالث: أن مروان بن الحكم ليس هو طريدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بل طريدُه الحكم.
الرابع: في حكم مروان.
الخامس: أن الزنا صح من المُغيرة بن شعبة.
السادس: في تعيين جَرْحه بذلك أو جرْح الشهود عليه به.(1/86)
السابع: أن الشهود الثلاثة إن لم يكونوا قاذفين، وجب جرحُ المغيرة بالزنا الذي أخبروا به.
الثامن: في مناقضته في الثناء على أبي بكر، وذم من قعد عن نصرة علي عليه السلام، لأنه كان من القاعدين عن نصرته.
ثم إنه ذكر -رحمه الله- كلاماً في الوليد بن عقبة، وفيه الرد على من زعم أنه من رواة الكتب الصحاح.
ثم ذكر كلاماً في عبد الله بن عَمْرو بن العاص وأبي موسى، وجوَّد الكلام على الأحاديث التي فيها ذكر القوم الذين يُؤتى بهم يومَ القيامة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيذهب بهم إلى النار فيقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أصحابي فيقال له: إِنك لا تدري ما أحدثوه بعدك.
فهذا ما تضمنه المجلد الأول من العواصم.
وأما المجلد الثاني، ففيه تنزيه إمام السنة أبي عبد الله أحمد بن حنبل عن القول بالتشبيه والتجسيم، وتنزيه أئمة الحديث مطلقاً، وذكر بعض من روى عنه أئمة أهل البيت، وأئمة الحديث ممن يختلف في قبوله وفي توثيقه، وبيان نزاهة الإمام أحمد عن التشبيه، وبيان مذهبه ومذهب أهل الأثر في ذلك في فصل طويل أودعه رحمه الله كتاب الوظائف في ذلك، وزاد عليه زيادة في آخره مفيدة.
ثم إنه رحمه الله ألحقه بما يُناسبه من مقالات أهل الجُمَل من أهل البيت، ثم بيان كيفية الاحتجاج على التوحيد والنبوات وسائر ما يحتاج إليه من أصول الدين، وأخذ ذلك من كتاب الله عز وجل، وكلام علماء(1/87)
الإسلام من جميع الفرق، وكيفية التعلم لذلك من كتاب الله تعالى وأخذه منه.
ثم ذكر -رحمه الله- مباحث في دليل الأكوان، وأورد عليهم فيه معارضات ومناقضات لم يسبق إلى مثلها وذكر أبياتاً له صادية (1) وشرح شيئاً منها.
ثم الرد على من نسب الإمام مالكاً -رحمه الله- وأمثالَه من أئمة الفقه والحديث إلى البَلَه والجمود لعدم محارستهم علم الكلام والمعقولات، وجَوَّد الرد على من زعم ذلك في نحو أربعة عشر وجهاً، وبين ما يرجع إليه التارك لعلم الكلام في مقامين: أحدُهما: مقام النظر في معرفة الله لتحصل قوة اليقين بذلك، وثانيهما: مقام الرد على الفلاسفة والمبتدعة عند الحاجة إلى ذلك.
ثم ذكر رحمه الله تعالى مذهب الفرقة الثانية من أهل الأثر وهم الجامعون بين الآثر والنظر وعلوم المعقولات والمنقولات، وأورد مختصراً لابن تَيمية في ذلك وذكر أدلة الفِرَق في التكفير وعدمه لأهل التأويل، وضمنه أيضاً كلام الإمام المنصور بالله في تعذر معرفة إجماع أهل البيت بعد تفرقهم في البلاد الشاسعة، وذكر جماعة لا يعرفون، ولا تُعرف مذاهبهم من خلفاء ودعاة وغيرهم ممن في بلاد الغرب الأقصى وبلاد اليمامة وغيرهما.
ثم أورد بعد هذا ترجمة الإمام أحمد بن حنبل مستوفاة من كتاب النبلاء للذهبي الشافعي.
__________
(1) في نسخة هادية.(1/88)
ثم الكلام على مسألة القرآن وتجويدها، والدلالة على عدم تكفير المختلفين فيها، وذكر قول من قال من قدماء أهل البيت: إن القرآن ليس بمخلوق، كقول جمهور أهلِ الحديث، وما ذكره محمد بن منصور الكوفي الزيدي في ذلك، وفي الجُمَل وترك التكفير، ونقله لذلك من جملة أهل البيت وقدماء المعتزلة.
ثم تكلَّم -رحمه الله- في مسألة الرؤية وفي عرض ذلك الذب عن الإمام الشافعي، والرد على من قدح في اعتقاده، وضمن مسألة الرؤية قواعد كباراً كلامية، وبسط القول في معنى الجسم والكلام على تضعيف أدلة المتكلمين في تماثل الأجسام، وتضعيف القول بأن المعدوم شيء وما يلزم من قال بذلك.
ثم تكلم -رحمه الله- بعد هذه المقدمات في فصلين في الرؤية أحدهما في إمكانها وإحالتها، وثانيهما فيما ورد من السَمع في أنها تقع في الآخرة عند أهل السنة، وذكر أدلة الفريقين مستوفاة بألفاظهم، ثم الذب عن البخاري محمد بن إسماعيل صاحب الصحيح، والرد على من ألزمه الجَبر ببعض ما في كتابه الصحيح.
ثم ذكر ستة أوهام تتعلق بمن اعتقد الإيمانَ، ولم ينطِقْ به، وهل التلفظُ بالشهادتين بعدَ الاعتقاد شرط في صحة إلإسلام أو واجب مستقل متأخر مثل الصوم والصلاة والحج؟ ثم الرد على من زعم أن المخالفين كفار تصريح، ثم بيان القدر الضروري في وجوب شكر المنعم، وطرف من الكلام في التحسين والتقبيح بالعقل، وذكر حجة من لا يقول به على أن الله تعالى واجب الصدق محال عليه أن يتصف بصفة النقص عند جميع أهل الإسلام.(1/89)
ثم ذكر -رحمه الله- في المجلد الثالث من هذا الكتاب الرد على من زعم أن أئمة السنة الأثبات ينكرون أن لنا أفعالاً وتصرفات، واستخرج من ذلك أنهم كفارُ تصريح لإنكارهم في زعمهم العلومَ الضروريات، وأن هذا مجرد دعوى عليهم من غير بينة، وأنهم مجمعون على إثبات الاختيار ونفي الإجبار، وأن بيان ذلك يظهر من طريقين: أحدهما: النقل لذلك عن المعتزلة والشيعة، فإنه يوجد في كلامهم عند حاجتهم إليه في إلزام الأشعرية لبعض المناقضات، والطريق الثانية: النقل عن أئمة أهل السنة ومتكلميهم، وذكر نصوصهم المتواترة الصريحة من كتبهم الشهيرة. وذكر الفرق بين المحبة والإرادة والرضى والمشيئة، وإن الفرق بينهما في اللغة واضح، فالمحبة والرضى نقيض الكراهة، والإرادة والمشيئة معناهما واحد، وهو ما يقع الفعل به على وجه دون وجه على تفصيل قد ذكره واستدل عليه، وأطِال الحجة فيه وأدلة الفريقين من المعتزلة والأشعرية مستوفاة العقلية والسمعية.
ثم أورد تأويل المعتزلة لآيات المشيئة، وهو قولهم: إن الله لو شاء أن يكره العصاة على الطاعة لفعل، لأنه لو كان يعلم لهم لطفاً إذا فعله لهم أطاعوه، لوجب عليه فعل ذلك، لأنه تعالى لا يخل بالواجب، وقد ألزمهم علماءُ الإسلام تعجيز الرب سبحانه عن هداية عاصٍ واحد على وجه الاختيار وهم يلتزمونه في المعنى، لأنه صريح مذهبهم إلا أنهم يقولون: إنه لا يستلزم اسم العجز، لأن اللطف بهم محال، والمحال ليس بشيء، والقادر لا يوصف بالقدرة على لا شيء.
وأجاب -رضي الله عنه- عن هذا السؤال بأن الإحالة ممنوعة، ومع تقدير تسليمها، فيلزمهم قبحُ التكليف لأن إزاحة أعذار المكلفين عندهم(1/90)
واجبة، ولذلك أوجبوا اللطف على الله تعالى، وخالفهم في ذلك قدماء أهلِ البيت عليهم السلام، كما نقله في أوائل هذا الجزء عنهم، وعن غيرهم، وجلة من المتأخرين منهم السيد العلامة الإمام أبو عبد الله مصنف " الجامع الكافي " والإمام يحيى بن حمزة وغيرهم.
ثم ذكر الكلام على القضاء والقدر، وما ورد من النهي في الخوض فيه، وبيان مرتبة ذلك من الصحة، وبيان معناه، وأن الوارد في ذلك عموم وخصوص، فالعموم مثل قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} وغير هذه الآية، والخصوص عشرة أحاديث عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وثوبان، وأبي الدرداء، وعن ثوبان أيضاًً، وعن ابن مسعود، وأنس، وأبي هريرة، وعن ابن عباس أيضاً، وأبي رجاء العطاردي (1)، وليس فيها شيء متفق على صحته، ولا خرَّج البخاري ومسلم منهما شيئاً، لكن خرَّج أحمد بن حنبل منها حديثاً من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهي طريق مختلف فيها اختلافاً كبيراً، وهي تصلح مع الشواهد، وخرَّج الترمذي منها حديثاً عن أبي هريرة وقال: غريب لكن خرَّج البزار له إسنادين آخرين. قال الهيثمي: رجال أحدهما رجال الصحيح غيرَ رجل واحد، وخرج الطبراني في المعجمين الأوسط والكبير حديثَ ابن عباس في ذلك، وقال الحاكم: صحيح على شرطيهما، وهذا عارض، والعود أحمد.
ثم ذكر -رحمه الله- ما قاله العلماء وأهل اللغة في تفسير القضاء والقدر على اختلاف مذاهبهم وأدلتهم وأفهامهم، وغلط من زعم أن معنى القدر
__________
(1) في نسخة العطاري. وهي تحريف.(1/91)
والقضاء معنى الإجبار والقهر للعبد على ما قضاه، وليس كذلك وذكر أن كثيراً من أهل السنة فسروا القضاء والقدر بعلم الغيب السابق، منهم القاضي عياض في شرحه لمسلم، والنووي في شرحه له، وابن بطال في شرح البخاري وغيرهم.
ثم ذكر -رحمه الله تعالى- أن الأحاديثَ التي وردت في وجوب الإيمان به أكثر من سبعين حديثاً، وأنها قد كثرت كثرة توجبُ التواتر، وذكر أيضاًً بعدها نحو مائة وخمسين حديثاً، في صحة ذلك فيما ليس فيه ذكرُ وجوب الإيمان به، وكل رواتها رجال الصحيح، وتكلم على حديث " القدرية مجوس هذه الأمة " وأنه ضعيف عند المؤيَّد بالله من أئمة الزيدية وعند المحدثين. قال رحمه الله: وأما قول الحاكم أبي عبد الله: إنه صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر فشره منه بالتصحيح، فإنه لم يصح ذلك، وتصحيح كل ضعيف على شروط معدومة غير ممكن، فإن فسر القدر بالعلم، فالمذموم منْ نفاه، وإن فسر بالجبر والإكراه، فالمذموم من أثبته، ثم ذكر فائدة العمل مع القدر جواباً على من قدح في أحاديث الأقدار من المبتدعة، وأن الفائدة في العمل مع القدر مثل الفائدة في العمل مع سبق العلم، إذ كل منهما غيرُ مزيل للقدرة، ولا مؤثر فيها، ولو كان شيء من ذلك يؤثر فيها، لما تعلق جميع ذلك بأفعال الله، وجوَّد الكلام في ذلك، وشنَّع الكلام على من وعر إليه المسالك.
ثم ذكر أفعال العباد، وأنه لا خلاف بينَ المسلمين أن للعباد أفعالاً مضافة إليهم يسمون بها مطيعين وعصاة، ويثابون على حسنها، ويستحقون العقاب على قُبحها، وأن الله تعالى قد أقام الحجة عليهم، وأن له سبحانه الحجة البالغة لا عليه، وأن عقابَه لمن عاقبه منهم عدل منه(1/92)
لا جور فيه ولا ظلم، وأن ذلك معلوم ضرورة من الدين، وأن الإجماع منعقد على أن أفعال العباد اختيارية لا اضطرارية، وأن الفرق بين حركة المختار وحركة المفلوج والمسحوب ضروري إلا من لا يُعتد به في الإجماع من سقط المتاع (1) الذين لم يرجعوا إلى تحقيق في النظر، ولا إلى حسن في الاتباع، ولا لهم في ذلك سلف ماض ولا خلف باق، وهم الجبرية الخالصة الذين لا يثبتون للعبد قدرة أصلاً.
ثم ذكر أن فِرَق المعتزلة عشرون، وفرق الأشعرية أربع فرق، وأن الفرقة الثالثة من الأشعرية أهل الكسب وهم الجمهورُ منهم. قال رحمه الله: وقد طال اللجاجُ بينهم وبينَ المعتزلة وبعض الأشعرية أيضاً: هل الكسبُ معقول أو غيرُ معقول؟، وذكر أن المشنعين على أهل الكسب من الأشعرية هم إمام الحرمين وأصحابه، ومن المعتزلة أبو هاشم وأصحابه. قال: والإنصاف يقتضي أنه معقول كما عقله الشيخُ مختار المعتزلي في كتابه "المجتبى" وغيره، فإن معنى قول المشنعين: إنه غيرُ معقول أنه مستحيل تصورُهُ في الذهن وتفهمه، فإذا استحال ذلك استحالَ الحكْم عليه بالبُطلان أو الصحة. قال: وهذا غلو في العصبية وليس كذلك، ولا في معناه شيء من الغموض والدقة، فإن الكسب هو فِعلُ العبد بعينه الذي هو فعلُ الطاعات والمعاصي والمباحات وسائر التصرفات، وإنما اختاروا تسميةَ فعل العبد بالكسب دونَ الفعل، ومعناهما واحد عندهم، لأن الكسب يختصُّ بفعل العبد دونَ فعل الرب سبحانه ولا يجوزُ أن يُسمَّى الربُّ تعالى كاسباً بخلاف الفعل، فإنه مشترك إلى آخر كلامه. وهو كلامٌ طويل مفيد.
ثم الرد على من نسب إلى أهل السنة إنهم يقولون بتكليف ما لا
__________
(1) كجهم بن صفوان وأتباعه من نفاة الاختيار.(1/93)
يُطاق، وإنه لم يذهب إلى هذا المذهب إلا الأقل من أهل الكلام منهم كالرازى والسُبكي صاحب " جمع الجوامع " دون حملة العلم الشريف النبوى الذي كلامه -رحمه الله- فيهم وذبُّه عنهم، ثم الرد على من زعم أنهم يخالفون في القدر الضروري من القول بجواز التعذيب بغير ذنب أو الإيلام لغير حكمة، وأن المحققين منهم لا يجوزون ذلك، وتكلم في ذلك عموماً وخصوصاً، فأما الخصوص، ففي مسألتين: الأولى: مسألة الأطفال، وأن المعتزلة والشيعة ينسبون إليهم القول بأن أطفال المشركين في النار بذنوب آبائهم، ويجزمون بذلك هكذا من غير استثناء قال: وهذا تقصيرٌ كبير في معرفة مذاهبهم، ولهم في ذلك أقوالٌ ذكرها في هذا المجلد.
المسألة الثانية: مما يتوهم مخالفتهم فيه تعذيبُ الميت ببكاء أهله عليه، وأن البخارى في الصحيح والخطابي فيما رواه عنه ابن الأثير والنووي تأوَّلوا ذلك على أن الميت أوصى بالبكاء عليه كما كانت عادة العرب في ذلك، وذكر تأويلين آخرين حذفتهما اختصاراً.
وأما العموم، فقال رحمه الله: إنها كلمة إجماع من أهل السنة ونقله عن نص الإمام الشافعي والزنجاني والذهبي، فهذا ما تضمنه المجلد الثالث من العواصم وهو ميدان الصراع بين الفريقين فمن أراد معرفة المذهبين معرفة تامةً وهو من أهل النظر والفهم والإنصاف فليقف عليه، وإنما طولت في ذلك -وإن كان كالخارج عن المقصود- رجاء أن يقف على هذه الترجمة من لا يشتفي بها، فيدعوه النشاط والرغبة إلى الوقوف على الكتاب، ولم آت على ترتيب ما اشتمل عليه هذا المجلد ما أتيت على ما اشتمل عليه أخواه فليعرف ذلك الواقف عليه.
وأما المجلدُ الرابع من الكتاب، فجملة ما فيه سبعةُ أوهام بعدَ ثلاثين(1/94)
وهماً فيما قبلَه. ثم بعد السبعة الأوهام القدح على المحدثين برواية ما يُوهم التجسيمَ، وما يُوهم الجبر، وما يُوهم الإرجاء، وما يُوهم نسبة ما لا يجوز إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ثم الجواب عن المحدثين.
فأما الوهم الأول فتقدم، والثاني فيه تحقيق الخلاف في التحسين والتقبيح العقليين، وفيه تفصيل غريب جيد، والوهم الثالث والثلاثون في الكلام على إمامة الجائر مطولاً مجرداً، وفيه فصول:
الفصل الأول في بيان أن الباغي هو الخارج على أئمة العدل دون الخارج على أئمة الجور، في مذهب الفقهاء وسائر علماء الإسلام، وذكر في الوجه الرابع منه الإجماع على أن المقاتلين لأمير المؤمنين عليه السلام في صِفِّين والجمل بُغاة عليه ظالمون له، ونص أهل الحديث على ذلك وسائر فقهاء الإسلام، وفيه حكم قاتل علي عليه السلام، ونقل البيهقي أن قتل قاتله كان لكفره عند الشافعية، وما ورد في قاتله من حديث، وكلام أهل السنة وكذا ما ورد عنهم في أمثاله، وحكم الفاسق الصدوق، ثم القول في حكم قاتل الحسين، ثم ذكر يزيد الشقي وما ورد في ذمه من الحديث ومن كلام السلف، ودعوى الإجماع على الإنكار عليه، والإغلاظ في ذمه والإجماع على التصويب لمن حاربه.
ثم ذكر -رحمه الله- تعالى فصلاً ثانياً في بيان أن من جوَّز إمامة الجائر للضرورة كأكل الميتة، فإنه استثنى من ذلك من فَحُشَ جورُه كالحجاج بن يوسف، ويزيدَ بن معاوية، ثم عاد إلى ذكر قتل الحسين عليه السلام والإجماع على تحريمه وتعظيمه، وذكر ما روي عن الغزالي من تحريم لعن كل كافر أو فاسق معين. والجواب على ذلك مستقصى في ذكر كلام الشيعة، وأهل الحديث في ذلك مطولاً مجوداً، وفيه فوائد ونكت وأحاديث في قدر ثلاث(1/95)
كراريس، ثم عاد إلى الموضع الثالث وذكر موضع الخلاف بيننا وبين الفقهاء في شروط الإمامة وأنهم لم يُخالفونا إلا في النسب، فمذهبهم فيه كمذهب المعتزلة، وإنما خالفوا في مسألة ثانية تعلق بالنظر في المصالح كما بسطه من موضعه من هذا الجزء الرابع، ثم ذكر -رحمه الله تعالى- ثمرة الخلاف وما تنتجه الضرورات، ثم ما ورد من طاعة أولي الأمر وإن جاروا، وأخذ الولاية عن بعضهم، وذكر من عقد له ثم جار، وبين من تغلب من غير عقد وكان جائراً.
ثم ذكر محمد بن شهاب الزهري: وإن بعض الأصحاب من أهل المذهب ادعى أنه ما روى أحد من أهل البيت حديثه وهو غلط، وقد روى عنه الإمام أحمد بن سليمان وغيره من أئمة أهل البيت كما قد ذكروه في موضعه، وعقبه بذكر من خالط الملوك من أهل العلم وما حُكم الموالاة؟ وما هي الموالاة المجمع عليها؟ وما يجوز من المخالطة لهم وما شرط الجواز. وفي ضمن ذلك بيان القدر المحرم من ذكر الدنيا وما يستثنى من ذلك وما يدخل منه في المستحب، ثم القول في إعانة الظلمة والعصاة، وما يسمى إعانة قطعاً أو ظناً وما لا يسمى إعانة. ثم ذكر ترجمة الزهري مستوعبة، وما قدح به عليه، وعدد جميعَ ما روي من الحديث وما الذي تفرَّد بروايته، ثم قصة يحيى بن عبد الله بن الحسن عليهم السلام، ومن شَهِدَ عليه بالرق، وأنه ليس فيهم أحد من الثقات، ولا ثبت أنهم شهدوا بذلك مختارين من غير إكراه. ثم ذكر أبا البختري وهب بن وهب، وأنه مجمع على جرحه، ثم إبطال قياس أهل التأويل على الخطابية، ثم الجواب على من قدح على المحدثين برواية ما يُوهِمُ التجسيم والجبر والإرجاء ونسبة ما لا يجوز على الأنبياء، وفيه المنعُ من العلم بكذب ما رواه أهل الصحاح، وبيان المرجحات للمنع من ذلك، ثم بيان شواهد ما(1/96)
فيها من القرآن الكريم، ثم بيان مراتب التأويل وعالم المثال، وتأثير السحر في الرؤية، والجواب الجُملي في ذلك.
ثم بين معارضات بذكر تأويلات بعيدة قبلها الأصحاب، ولم يقطعوا بكذب ما أولت به مع ركتها وانحطاطها عن رتبة الصواب عند النظار من العلماء، ثم ذكر الأحاديث التي عينها المعترض، وقطع بكذبها، والجواب عنها بورود مثلها أو نحوها في القرآن ومثل تأويلها في تأويل المعتزلة للقرآن، وجملتها ستة أحاديث الأول: الحديث الذي فيه ذكر مجىء الله تعالى يوم القيامة، والثاني: فيه ذكر الكشف عن الساق ووضع القدم والضحك وتأويل ذلك، الثالث: حديث جرير في الرؤية، الرابع: محاجة آدم وموسى، الخامس: قصة موسى مع ملك الموت، السادس: خروج الموحدين من النار. والجواب عن ذلك مطولاً مجرداً، وذكر فيه فوائد أصولية وقرآنية وحديثية قدر نصف المجلد المذكور، وذكر -رحمه الله- أن أحاديث الرجاء بلغت قدر أربع مائة حديث وثمانين حديثاًً وذكر كثيراً من آيات الوعد والوعيد، وختم ذلك بقدر ثلاثين حديثاً في الوعيد بعد ذكر نيف وعشرين آية من القرآن الكريم. أعاد اللهُ علينا مِن بركته وفضله العميم ثم إنه رحمه الله تعالى ختم كتابه بهذه الأبيات:
جمعتُ كتابي رَاجياً لِقَبُولهِ ... مِنَ اللهِ فالمرجوُّ منه قريبُ
رجوتُ بِنَصْرِ المصطفي وحَدِيثِه ... تُكَفِّرُ لي يومَ الحِسَابِ ذُنوبُ
ومَنْ يتشَفَّعْ بالحبيبِ مُحَمَّدٍ ... إلى اللهِ في أمر فَلَيْسَ يخِيبُ
فيا حافظي علم الحَديثِ ليَ اشْفعُوا ... إلى اللهِ فالرَّبُ الكَرِيمُ يُجيبُ
لَعَلَّ كِتابي أنْ يكونَ مُذَكِّراً ... لَكُمْ بالدُّعا لِلعَبْد حِين يَغِيبُ
ولا سَيَّما بعدَ المماتِ عَسَى به ... يُبَلُّ غَلِيلٌ أوْ يُكَفِّرُ حوبُ(1/97)
ولا تُغْفِلُوني إن بَلِيتُ بودِّكم ... وإن بَلِيت مني العظام تشيب
ومهما رأيتُم من كتابي قُصُوَرَه ... فستراً وغفراً فالقُصُورُ مَعِيبُ
وَلكِنَّ عُذْرِي واضِحٌ وهو أنَّنِي ... مِن الخلْقِ أُخْطِي تَارَةً وأُصِيبُ
وقد ينْثنِي الصَمْصَامُ وهُو مُجرَّدٌ ... وينكسِرُ المُرَّان وهو صَليبُ
وَلكِنَّنِي أْرْجُو إذا حََّل دارَكُم ... حَلَى منه وِرْدٌ بالأجاجِ مَشُوبُ
يكون أُجَاجاً دُونَكُم فإذَا انتهَى ... إلَيكُم تلَقَّى طيبَكُم فيَطِيبُ
ولما أكمل الإمام محمد بن إبراهيم الوزير كتابه " العواصم والقواصم " ختمه بقصيدته اللامية المشهورة والتي ختم بها أيضاًً " الروض الباسم ".
عليكَ بأصحابِ الحَديثِ الأفاضِلِ ... تجِدْ عِنْدَهُم كُلَّ الهُدَى والفَضائِلِ
أَحِنُّ إليهِمْ كُلَّمَا هَبَّتِ الصَّبَا ... وأَدعُو إلَيْهِمْ في الضُّحى والأصائِلِ
ولما وقف أخوه العلامة الهادي بن إبراهيم الوزير رحمه الله على هذا الكتاب وعلى هذه الأبيات تلقى ذلك بالقبول، وقال مجيباً لأخيه، فما أحسن ما يقول:
وقفتُ على سِمْطٍ من الدُّرٍ فَاضِل ... تَرقُّ له شوقاً قلوبُ الأفاضِلِ
لِمُتَّبعٍ منهاجَ أحمدَ جَدَّه ... وحامي حِمَى أقوالِهِ غير ناكل
بديعِ المعاني في بديع نظامِهِ ... وثِيقِ المَبَانِي في فُنُونِ المَسائِلِ
إذا لَزِمَتْ يُمناه نَصْلَ يَراعِهِ ... سَجَدْنَ لهُ طَوعاً جباه المناصلِ
وإن خَاضَ في بَحْرِ الكَلام تَزَيَّنتْ ... بِجَوْهَرِهِ عنق الرِّقابِ العَوَاطِلِ
تَبَارَى وقوم في الجدال فأصبحوا ... وإن لجَّجوا من علمهم في جداول
أسمتُ عيونَ الفكرِ في رَوْضِ قَوْلهِ ... فأنشدتُ بيتَ الأبطحي المُواصِل
أعوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مِنْ كُلِّ طاعِنِ ... عَلَينَا بِشَكٍّ أوْ مُلِحٍ بِبَاطِلِ(1/98)
وثنَيَّتُ لمّا أن تَصفَّحْتُ نظْمَهُ ... بِقَوْلِ فَصيحٍ نَابِهِ القَوْلِ فَاضِل
يَرُومُ أنَاسٌ يَلْحَقُونَ بِشأوِهِ ... وَأيْن الثُّريا مِن يدِ المُتَطَاوِلِ؟
وثلَّثت بالبيتِ الشهير وإنه ... لدُرَّةُ عقد المفردات الكوَاملِ
وقد زادني حباً لِنَفْسِي أنَّنِي ... بَغِيضٌ إلى كُلِّ امرىءٍ غَيْرِ طَائِلِ
علامَ افتراقُ النَّاسِ في الدِّين إنَّه ... لأمْرٌ جلي ظَاهِرٌ غَيْرُ خَامِلِ
عليكَ بمَا كَان النَّبِيُّ مُحمَّدٌ ... علَيه وَدَع مَا شِئتَ مِنْ قَولِ قَائِلِ
هُو المَسلكُ المَرضِي والمَذهَبُ الَّذِي ... عَليْهِ مَضَى خَيْرُ القُرُونِ الأوائِلِ
فَدِنْ بالذِي دَانَ النَّبِيُ وَصحبُهُ ... مِن الدِّينِ، واترُك غيرَهُم في بَلابلِ
هُمُ الشَّامَة الغَرَّا وهُم سَادَة الوَرَى ... وَهُمْ بَهجَةُ الدُنيا ونُورُ القَبائلِ
وأرفَعُ مَا تدلي به مِنْ فضَائِلٍ ... على الخَلقِ أدنَى مَا لَهُم مِنْ فَوَاضِلِ
إذَا أنت لم تسلُك مسالك رُشدِهم ... وَتُمسِكُ مِنْ أقوَالهِم بِالوَصائلِ
فَقَدْ فَاتك الحَظُّ السِّنِيُّ وَلم تكُنْ ... إلى الحَقِّ فِي نَهْج السَّبِيلِ بِوَاصلِ
رَضيتَ بِدينِ المُصطفي ووصِيِّه ... وأصحابِهِ أهْل النُّهي والفَوَاضَلِ
همُ قادةُ القاداتِ بَعْدَ نَبِيِّهِم ... إلى مَشرَعِ الحَقِّ الرّّوِي (1) السلاسِل
إلى السُّنَّةِ البيضَاءِ والمِلَّةِ التي ... عَليها مَثارُ النَّقعِ مِنْ كُلِّ صَائِلِ
وَلَكنَّها عَزَّت بِدَعوَةِ أحمَد ... وَقَامَتْ بِبُرْهانٍ مِن الحَقِّ فاضِلِ
مؤيَّدة في حَربِهَا بِمَلائِكٍ ... مُشَيَّدَةٍ في أمْرِها بِعَواسِل
عِصَابَة جِبرِيل الأمينِ جُنُودُها ... تَحُفُّ بِهَا في خَيلِهَا في قنابِلِ (2)
أقَامَت مَعَ الرَّايَات حَتَّى كَأنَّهَا ... مِنَ الجَيشِ إلا أنَّها لَم تُقَاتِلِ
ولَم يعْجِزِ الصِّدِّيقُ بَعَدَ وَفَاتِهِ ... عَنِ الحَرْبِ بَلْ شَادَ الهُدَى بِجَحَافِل
__________
(1) في نسخة السوي.
(2) القنابل جمع القنبل أو القنبلة: طائفة من الناس ومن الخيل.(1/99)
وتَابَعَهُ الفارُوقُ فَاشْتَدَّ رُكْنُهُ ... وسَار بِهِم في الحقِّ سِيرَة عَادِلِ
وتمَّم ذو النُّورَينِ سَعْياً مُبَارَكاَ ... وَعَمَّ جَمِيعَ المُسْلِمِينَ بِنَائِلِ
وَقامَ بِأعْبَاءِ الخلافَةِ بَعدَهُم ... عَلِيٌّ فأمسَى الدِّينُ رَاسِي الكَلاكلِ
عَلَيكَ بهَدْي القَوم تنْجُ مِنَ الرَّدَى ... وتَعلُو بِهِم في الفَوزِ أعلى المنَازِلِ
وختم الهادي بن إبراهيم الوزير رحمه الله هذه القصيدة العظيمة بما يلي: كتب هذه الأسطر الفقيرُ إلى رحمة الله ورضوانه الهادي بن إبراهيم ابن علي بن المرتضى أرضاه الله بعفوه حامداً له، ومصلياً على نبيه ومسلماً ومُرَضياً على آله وصحبه " ربنا اغفر لنا ولإخواننا الَّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعلْ في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم ".
صنعاء في 19 رجب سنة 1404
الموافق 19 نيسان سنة 1984
إسماعيل بن علي الأكوع
غفر الله له ولوالديه(1/100)
ترجمة المؤلف بقلم الأستاذ إبراهيم الوزير
المجدّد الإسلامي، المصلح المجتهد المطلق، الحجّة الإمام
محمد بن إبراهيم الوزير
(775 - 840 هـ)
" تبَحَّرَ في جميع العلوم، وفاق الأقرانَ، واشتهر صيتُه، وبَعُدَ ذِكْرُه، وطار عِلْمُه في الأقطار.
لو قُلْتُ: إنَّ اليمنَ لم تُنْجبْ مثله لا أبعد عن الصواب وفي هذا الوصف ما لا يحتاج معه إلى غيره ... "
الإمام: محمد بن علي الشوكاني.
نسبه:
هو الإمامُ المجتهد المطلَق، المفَسِّرُ الحافِظُ، المُحَدِّثُ العلامة المُتْقِنُ الأصوليُّ الفقيه المُتَكَلِّمُ الحُجَّةُ، " محمد بن إبراهيم بن علي بن المرتَضى، بن المفضَّل، بن منصور، بن محمد العفيف، بن المفضَّل، ابن الحجاج، بن علي بن يحيى، بن القاسم، بن يوسف، بن يحيى المنصور، بن أحمد الناصر، بن يحيى، بن الحُسين بن القاسم، بن إبراهيم، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن الحسن، بن الحسن السِّبْط، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " اشتهر بابن الوزير " اليمني " الصنعاني.(1/101)
مولده .. ووفاته:
وُلِدَ في شهر رجب عام 775 هـ " بهجر الظهراوين من شظب " وتوفي في 27 محرم عام 840 هـ عن 65 عاماً.
أساتذته:
في اللغة العربية: الهادي بنُ إبراهيم الوزير، ومحمدُ بنُ حمزة بن مظفر.
في علم الكلام: عليُّ بنُ عبد الله بن أبي الخير اليمني.
في علم أصولِ الفقه: عليُّ بن محمد بن أبي القاسم.
في علم التفسيرِ: عليُّ بنُ محمد بن أبي القاسم.
في علم الفروع: عبدُ اللهِ بن حسن الدواري وغيره من مشايخ صعدة.
في علم الحديث: عليُّ بنُ عبد الله بن ظهيرة بمكة المكرمة وفي غيرها نفيس الدين العلوي، ومن شيوخه: الناصرُ بنُ الإمام المطهر الحسني، ودرس على جماعة عدة.
تلامذته:
وقد تلمذ له الكثيرون مِن العلماء، وتسابقوا على ورود مَشْرَعِهِ الصافي، والمَوْرِدُ العذبُ كثيرُ الزِّحام، ونذكر من مشهوري تلاميذه:
محمدُ بن عبد الله بن الهادي الوزير، والإمام الناصر صلاح الدين محمد بن علي بن محمد، وعبدَ الله بن محمد بن المُطَهّر، وعبدَ الله بن محمد بن سليمان الحمزي.(1/102)
مؤلفاته:
1 - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، وهو أعظم كتبه، وأفضلها، تقوم بنشره دار البشير لأول مرة.
2 - البرهان القاطع في إثبات الصانع وجميع ما جاءت به الشرائع .. مطبوع
3 - التأديب الملكوتي .. مخطوط
4 - التحفة الصفية في شرح الأبيات الصوفية .. مخطوط
5 - الأمر بالعزلة في آخر الزمان .. مخطوط
6 - إيثار الحق على الخلق .. مطبوع
7 - ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان .. مطبوع
8 - تنقيح الأنظار في علوم الآثار .. مطبوع
9 - الحسام المشهور .. مخطوط
10 - واضحة المناهج وفاضحة الفوالج .. مخطوط
11 - حصر آيات الأحكام الشرعية .. مخطوط
12 - الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم .. مطبوع
13 - قبول البُشرى بالتيسير لليُسرى .. مخطوط
14 - القواعد .. مخطوط
15 - مجمع الحقائق والرقائق في ممادح رب الخلائق .. طبع مختارات منه
16 - نصر الأعيان .. طبع مختارات منه
17 - التفسير النبوي .. مخطوط
ثناء العلماء عليه:
ترجم له الإمام الشوكاني، والسخاوي، والحافظ ابن حجر(1/103)
العسقلاني، وصاحب مطالع البدور، والوجيه العطاب اليمني، والشريف الفاسي المالكي في كتابه " العقد الثمين ".
يقول عنه الشوكاني: " هو الإمامُ الكبيرُ، المجتهد المطلق، المعروف بابن الوزير .. قرأ على أكابرِ مشايخ "صنعاء"، "وصعدة"، وسائر المدن اليمنية و"مكة"، وتبحر في جميع العلوم، وفاق الأقرانَ، واشتهر صيتُه، وبَعُدَ ذكرُه، وطار علمُه في الأقطار " ..
ويصل الشوكاني إلى تلخيص رأيه فيه، فيقول:
" والحاصل أنه رجل عرفه الأكابرُ، وَجَهِلَه الأصاغرُ، وليس ذلك مختصاً بعصره، بل هو كايْن فيما بعدَه مِن العصور إلى عصرنا هذا، ولو قلتُ: إن اليمن لم تُنجِبْ مثلَه، لم أُبْعِدْ عن الصواب، وفي هذا الوصف ما لا يحتاح معه إلى غيره ".
وقال صاحب " مطالع البدور": " ترجم له الطوائفُ، وأقر له الموالف والمخالف ".
مكانته العلمية:
يقول عنه الشوكاني: " إن صاحب الترجمة لما ارتحل إلى " مكة "، وقرأ علمَ الحديث على شيخه " ابن ظهيرة " قال له: أي ابن ظهيرة:
" ما أحسن يا مولانا لو انتسبت إلى الإمام الشافعي، أو أبي حنيفة.
فَغضِبَ " ابنُ الوزير " وقال: " لو احتجتُ إلى هذه النسب، أو التقليدات ما اخترتُ غيرَ الإمام القاسم بن إبراهيم، أو حفيده الهادي ".
ثم قال الشوكاني: "إنه ممن يَقْصُرُ القلمُ عن التعريف بحاله وكيف(1/104)
يُمْكِنُ شرحُ حال من يُزاحم أئمة المذاهب الأربعة فمن بعدهم من الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم .. ويُضايق أئمة الأشعرية والمعتزلة في مقالاتهم، ويتكلَّم في الحديث بكلام أئمته المعتبرين مع إحاطته بحفظ غالب المتون، ومعرفة رجال الأسانيد شخصاً وحالاً، وزماناً ومكاناً .. وتبحره في جميع العلوم العقلية والنقلية على حد يَقْصُرُ عنه الوصفُ. ومن رام أن يَعْرِفَ حاله ومقدارَ علمه، فعليه بمطالعة مصنفاتِه، فإنها شاهد عدلٍ على علو طبقته، فإنه يسْرُدُ في المسألة الواحدةِ من الوجوه ما يبهر لُبِّ مطالِعه، وُيعَرِّفه بقصر باعه بالنسبة إلى علم هذا " الإمام " كما يفعله " في العواصم والقواصم "، فإنه يورد كلامَ شيخه السيد العلامة علي بن محمد بن أبي القاسم في رسالته التي اعترض بها عليه، ثم ينسفه نسفاً بإيراد ما يُزيفه به من الحجج الكثيرة التي لا يجد العالمُ الكبيرُ في قوته استخراج البعض منها، وهو في أربعة مجلدات يشتمِلُ على فوائد في أنواعٍ من العلوم لا توجد في شيء من الكتب. ولو خرج هذا الكتاب إلى غير الديار اليمنية لكان من مفاخر اليمن وأهله ولكن أبى ذلك لهم ما جبلوا عليه من غمط محاسن بعضهم لبعض ودفن مناقب أفاضلهم" ..
وقال عن مكانته العلمية أيضاًً: " إنه إذا تكلَّم في مسألة لا يحتاج بعدَه الناظر إلى النظر في غيره من أي علم كان " ..
نثره وشعره:
يقول الإمام الشوكاني عنه: " كلامه لا يُشبه كلامَ أهلِ عصره ولا كلام مَنْ بعده، بل هو من نمط كلامِ ابن حزم، وابن تيمية، وقد يأتي في كثير من المباحث بفوائدَ لم يأت بها غيرُه كائناً مَنْ كان ".(1/105)
وديوان شعره مجلد، وشعره غالبه في التوسلات والرقائق، وتقييد الشوارد العلمية والمجاوبة لمن امتحن به من أهل عصره، فإن له معهم قلاقلَ وزلازلَ، وكانوا يثورون عليه ثورةً بعدَ ثورة، وينظمون في الاعتراض عليه القصائدَ، وأفضى ذلك إلى أن اعترض عليه شيخُه المتقدم ذكرُه برسالة مستقلَّةٍ فأجابه بما تقدم، " فكان يُجاوبهم ويصاولُهم، ويُحاولهم فيقهرهم بالحجة، ولم يكن في زمنه مَنْ يقوم له لِكونه في طبقة ليس فيها أحدُ من شيوخه فضلاً عن معارضيه .. والذي يغلب على الظن أن شيوخَه لو جُمِعُوا جميعاً في ذاتٍ واحدة لم يبلغ علمهم إلى مقدار علمه، وناهيك بهذا " ..
صور من نثره:
قال يصف الرسولَ والرسالة في مقدمة كتابه " الروض الباسم ":
" أما بعد، فإن الله لما اختار محمداً صلى الله عليه وآله وسلم رسولاً أميناً، ومعلماً مبيناً، واختار له ديناً قويماً، وهداه صراطاً مستقيماً ارتضاه لجميع البشر إماماً، وجعله للشرائع النبوية ختاماً، وأقسم في كتابه الكريم تبجيلاً له وتعظيماً، فقال عز قائلاً كريماً: {فلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حرَجَاً مِمَّا قَضَيْت وَيسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .. ثم إنَّه عز وجل أثار أشواقَ العارفين إلى الاقتداء برسوله بكثرة الثناءِ عليهم في تنزيله مثل قوله في التعظيم لهم والتبجيل: {الَّذِينَ يَتَّبِعونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يجِدُونَه مكتُوباً عِنْدَهُم في التَّورَاةِ والإنْجِيلِ} .. إلى غير ذلك من الآيات الكريمة .. الشاهدة لمتبعيه بالطريقةِ القويمة. فلما وعت هذه الآياتُ آذان العارفين وتأملتها قلوبُ الصادقين، حَرَصُوا على الاقتداء به في أفعاله، والاستماع منه في أقواله،(1/106)
فكانوا له أتبعَ من الظَّل، وأطوعَ من النعل، فعلمهم أركانَ الإسلام وشرائعَه وفرائضَه ونوافله، وكان بهم رؤوفاً رحيماً، وعلى تعليمهم حريصاً أميناً. كلما وصفه ربُّ العالمين حيث قال في كتابه المبين: {لَقَدْ جَاءكم رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم عَزِيزٌ عَليِهِ ما عَنتُّم حَرِيصٌ عَليْكُم بِالمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} فلم يزل عليه الصلاةُ والسلامُ يُرشدهم إلى أفضل الأعمال، ويهديهم إلى أحسنِ الأخلاق، ويلزمهم ما في النجاةَ والفوزَ في الآخرة، والسلامة والغبطة في الدنيا من لزوم الواجب والمسنون، ومجانبة المكروه وترك الفضول، فلم يترك خيراً قَطُّ إلا أمرهم به ففعلوه، ودعاهم إليه فأجابوه، حتى لم يكن في زمأنه شيء مِن أعمال البر متروكاً، ولا منهج من مناهج الخير إلا مسلوكاً .. فلما تَمَّ ما أراد اللهُ تعالى برسوله من هداية أهلِ الإسلام، وبلغ إلى الأنام جميعاً ما عنده من الأحكام من العقائد والآداب والحلال والحرام، أنزل الله في ذلك تنصيصاً وتبييناً: {اليوْمَ أَكمَلْتُ لَكُم دِينَكُم وَأَتمَمْتُ عَلَيْكُم نِعْمَتِي وَرضِيتُ لَكُمُ الإسلامَ دِينا} .. فكمل الدينُ في ذلك الزمان، ووضحت الحجةُ والبرهان، ودحضت وساوس المشتبهين، وانحسمت قوادِمُ المبطلين، إذ لا حجة على الله بعدَ الرسل لأحدٍ من العالمين بنصِّ كتابه المبين.
وقال يَصِفُ أحاديثَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
" فإنَّه علمُ الصدرِ الأوّل، والذي عليه بعد القرآن المعوَّل، وهو لعلوم الإسلام أصل وأساس، وهو المفسر للقرآن بشهادة لتبين للناس.
وهو الذي قال الله فيه تصريحاً: {إنْ هُو إلا وَحْيٌ يُوحى} وهو الذي وصفه الصادق الأمين بمماثلة القرآن المبين حيث قال في التوبيخ لِكُلِّ مترف إمَّعه: " إنِّي أوتيتُ القُرآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ " وهو العلم الذي لم يشارك القرآن(1/107)
سواه في الإجماع على كفر جاحد المعلوم من لفظه ومعناه، وهو العلمُ الذي إذا تجاثت الخصومُ للركب، وتفاوتت العلومُ في الرتب، أصْمَتْ مرنانُ نوافله كُلِّ مناضل، وأصمت برهانُ معارفة كُلِّ فاضل وهو العلم الذي ورثه المصطفي المختار، والصحابة الأبرار، والتابعون الأخيار. وهو العلمُ الفائضة بركاته على جميع أقاليم الإسلام، الباقية حسناتُه في أمة الرسولِ عليه السلامُ، وهو العلم الذي صانه اللهُ عن عبارات الفلاسفة، وتقيدت عن سلوك مناهجه، فهي راسفة في الفلا آسفة، وهو العلم الذي جلّى الإسلامُ به في ميدانِ الحجة، وصلَّى، وتجمل بديباج ملابسه من صام لله وصَلى، وهو العلمُ الفاصل حين تلجلج الألسنةُ بالخطاب، الشاهد له بالفضل رجوعَ عمر بن الخطاب، وهو العلمُ الذي تفجَّرت منه بحارُ العلوم الفقهية، والأحكام الشرعية، وتزينت بجواهره التفاسيرُ القرآنية، والشواهد النحوية، والدقائقُ الوعظية، وهو العلم الذي يميزُ اللهُ به الخبيثَ من الطيب، ولا يرغم إلا المبتدع المتريِّب، وهو العلمُ الذي يسلك بصاحبه نهج السلامة ويوصله إلى دار الكرامة. والسارب في رياض حدائقه، الشارب من حياض حقائقه، عالم بالسنة ولابس من كل صوف جُنة، وسالك منهاح الحق إلى الجَنة، وهو العلم الذي يَرْجِعُ إليه الأصولي، وإن برز في علمه، والفقيه وإن برز في ذكائه وفهمه، والنحوي وإن برز في تجويد لفظه. واللغوي وإن اتسع في حفظه، والواعظ المبصر، والصوفي والمفسر كلهم إليه راجعون، ولرياضه منتجعون " ..
إن أسلوب محمد بن إبراهيم الوزير في الكتابة وإن كان يهتم بأناقة الجملة إلا أنها غنية بالمعاني، فسجعه غيرُ متكلف يسيرُ في سُهولة ويُسر، ممتلئاً بالمعاني العظيمة، معبراً عما يُريد دون حشو أو تكلف ..(1/108)
إن أسلوب الكتابة في القرن الثامن الهجري كان يرزح تحتَ المحسنات البديعية، والحلى اللفظية حى إن أغلب الإنتاج الفكري كان حينذاك خِلْواً من المعاني، متكلفاً لا يدل إلا على خواء الأفكارِ ..
ولقد أدرك الإمام الشوكاني في القرن الثالث عشر الهجري بحاسته المرهفة مدى تَرَدِّي الأسلوب الكتابي في المحسنات اللفظية، وما تَجُرُّه على المضمون والمحتوى من فراغ معنوي متكلِّف حين قال عبارته الناقدة البصيرة ببلاغة التعبير عن التكلف في الشعر ولا نرى التكلف في النثر إلا موثراً على روعة الأسلوب الكتابي تماماً كما هو الحال في الشعر: " وإنَّ من لا يَعْرفُ محاسنَ الشعر إلا بالنكات البديعية المتكلفة خلاف ما ذكرنا، فهو غيرُ مصيب، فإن غالب أشعارِ المتأخرين إنما صارت بمكان من السماجة لتكلُّفِهِم ذلك ". كما أنه أدرك عمق أسلوب محمد بن إبراهيم الوزير: فعلى الركم من اعتماده السجع إلا أنه غَيرُ متكلف، ويتميَّزُ بوضوح المعنى، وموافقة المضمون للشكل في سهولة ويسر، ولذلك رأينا الإمام الشوكاني يقول في ترجمته عن أسلوب محمد بن إبراهيم الكلامي بأن " كلامه لا يُشبه كلام أهلِ عصره، ولا كلام مَن بعده ".
صورة من شعره:
قال:
العِلمُ ميراثُ النَّبيِّ كذا أََتَى ... في النَّصِّ والعلماءُ هُمْ وُرَّاثُهُ
فإذَا أَرَدْتَ حقيقَةً تَدْري لِمن ... وراثه فكرتَ ما مِيرَاثُهُ
ما وَرَّثَ المُخْتَارُ غَيْرَ حَديثِهِ ... فِينَا وَذاكَ متاعُه وأثَاثُه
فَلَنا الحَديثُ وِرَاثَةً نَبَوِيَّة ... وَلِكُلِّ مُحدِث بدعة إحداثُه(1/109)
وقال:
فحيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونَه ... أَشَمَّ مُنيفٍ بالغَمامِ مُؤَزَّرُ
وَحيناً بِشِعْب بَطْنِ وَادٍ كَأَنَّهُ ... حَشَا قَلَمٍ تُمْسِي به الطَّيرُ تَصْفِرُ
إذا التفَتَ السَّارِي به نَحْوَ قُلَّةٍ ... تَوَهَّمَهَا مِنْ طُولِهَا تَتَأخَّرُ
أجَاوِرُ في أَرْجَائِه البُومَ وَالقطا ... فَجِيرتها للمرء أَوْلَى وَأَجْدَرُ
هُنَالِكَ يَصْفُو لِي مِن العَيْش وِرْدَهُ ... وإلا فَوِرْدُ العيشِ رَنْقٌ مُكدَّرُ
فإنْ يَبسَت ثَمَّ المَرَاعِي وَأَجْدَبَتْ ... فَرَوْضُ العُلا والعِلم والدِّين أَخْضَرُ
ولا عَارَ أن يَنْجُو كرِيمٌ بنَفْسِه ... وَلكِنَّ عَاراً عجزُه حِينَ يُبْصِرُ
فَقَدْ هَاجَرَ المُخْتَارُ قَبْلِي وَصَحْبُه ... وَفرَّ إلى أرض النجاشيِّ جَعْفَرُ
معالم شخصيته وتفكيره:
إنَّ محمدَ بن إبراهيم الوزير يُمَثِّلُ الشخصيةَ المسلمة التي تلقت معالِمَ تفكيرها عن القرآن والسنة النبوية، فهو تَلميذ لكتاب الله وسنة رسوله لا لشيء سواهما ..
لقد اتجه مباشرة إلى النبيع الصافي ليستضيء بالنور الإلهي، ويضيء للأمة الطريق.
لقد وجد محمدُ بنُ إبراهيم الوزير الأمة الإسلامية دولاً ممزقة، وفرقاً متناحرة، وشيعاً ومذاهب، يُكفِّرُ بعضُها بعضاً، فاتجه أولَّ ما اتجه إلى تفكير الأمة ليرى هل يحمِلُ وحدة أم فرقة .. ؟
وفي بحثه الواسع رأى أن في قمة التفكير الذي أدى إلى الفرقة والانقسام يأتي دورُ التفكير الفلسفي الذي صاغته أهواءُ البشر بعيداً عن الاهتداء لفظاً ومعنى بالنور الإلهي الذي لا يّضِلُّ من اهتدى به ولا يشقى ..(1/110)
لقد رأى محمد بنُ إبراهيم في "علم الكلام" الذي نشأ كأثرٍ مباشر وقوي للفكر اليوناني بحوثاً لا طائِلَ تحتَهَا وخروجاً بالأداة العقلية عن قدراتها.
إن علم الكلام هو مضيعة للوقت، وليست أساليبُه ومناهجُهُ بالطريق الموصلة إلى الأدلة الحاسمة في الشعاب الفكرية المتعددة التي سلكها علمُ الكلام .. لقد كان أحدَ الأسباب لتمزُّق الأمَّة الواحدة وتناحرها، وتكفير بعضها بعضا .. !
إن التيه الفلسفيَّ الذي سلكه من قبل فلاسفةُ اليونان قد أوضح بصفة حاسمة عدم استطاعته الإفضاء إلى أدلةٍ حاسمة لا سبيل إلى الشك فيها، وليس في قدراته بما لا يشك فيه ذو تفكير سليم الإحاطة بما هو أكبرُ منه، وأجلُ وأعظمُ.
بل إنه زاد السر غموضاً، وأتى له الانطلاق إلى ما وراء قدراته المحدودة إِلا ما شاء الله .. {وما أُوتِيتُم من العِلْمِ إلا قَلِيلاً} ..
ولكن أساليب القرآن أساليبُ رسل الله وأنبيائه قد أخذت بيدِ الإنسان إلى الإيمانِ، وأخرجته من ظلمات الشك، ولم تدعه يمضي إلى ما هو خارج عن حدوده، فيضيع نفسه ووقته عبثاً، وقد يترتب على أشياء لم يهضم فهمها تَماماً أحكام متناقضة تُمَزِّقُ وحدته إلى فرق وأحزاب وشيع .. بل على العكس من ذلك أخذت بيده ليتجه إلى فهم سنن الله، والاستفادة منها.
إن المهم هو معرفة واجب الوجود ذو الكمال المطلق عن طريق معرفة آثار قدرته اللامتناهية في عالم الغيب والشهادة، ومعرفة سننه التي تسير وفق(1/111)
قوانينها الكون للاستفادة منها، وزيادة المعرفة بها، إذ لا يمكن لأي أداة أن تستخدم فوق طاقتها، ولكن المجال الأجدى هو في اكتشاف سنن الله، والسير بمقتضاها في طريق الحق والخير ..
إن العلم الحديث، وتقدم الإنسان الفكري قد جعل حداً للضياع الفلسفي التائه، فقد نقل الفلسفة من الميتافيزيقيا -علم ما وراء الطبيعة- إلى الطبيعة نفسها -عالم الشهادة- تفسير وفهم أسبابها ومسبباتها والاستفادة منها إنها الاستجابة للصوت القرآني:
{وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَاتِ ومَا في الأرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ في ذلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (1) ..
وعلى رأسِ الأزمِنَةِ الحديثة جاء بيكون -الأول والثاني- أبو الفلسفة الحديثة يقرران ما توصل إليه الفكر الإسلامي الخالص المتتلمذ على القرآن ذلك الاتجاه الذي يقود الفكر الإنساني إلى الطبيعة -عالم الشهادة- والتفكير في سنن الله في مخلوقاته لاستخلاص حقائقِ السنن التي تسير وفقها الكائناتُ، ولقد وضع بيكون منهجَ الفهم اليقيني على أسس ثلاثة:
* الشك .. ويعني به " عدمَ الحكم ".
* التجربة .. ويعني بها " منهج الاختبار ".
* استخلاص النتائج .. ويعني به " الحكم على الشيء ".
وهكذا ارتبط التأمل الفكري بالمجال العملى والتطبيقي، واستفاد
الإنسانُ بهذه النقلة المنجزات الرائعة في التقدم الهائل السريع في كل
__________
(1) الجاثية: 13.(1/112)
مجالات الاستفادة مما سَخَّرَ الله للإنسان هذا الكائن المكرم ..
ووجد الانسان في:
* انظروا ماذا في السموات والأرض.
* أفلا تعقلون ..
* أفلا تتفكرون ..
* يا أولي الألباب ..
* لآيات لأولي النُّهى ..
* {وهو الذي خلَقَ لَكُمْ ما فِي الأرْضِ جميعاً} .. {وسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّموَات وَمَا فِي الأَرْضِ جَميعاً منه} ..
وجد الإنسان في ذلك آفاقاً لا نهائية لمجالات التقدم الرائع المذهل. إن الفلسفة التائهة لا يُمكن أن تصل إلا إلى متناقضات متعددة أما معرفة الحق سبحانه، فيستطيع العقل السليم أن يصل إليها عن طريق آياته المعجزة في هذا الكون، فإذا أرادت العقول أن تُقحم أداتَها المحدودة في اللامحدود، فلن تربح إلا عَنَاءَ السفر على حد تعبير " ابن ابي الحديد " ..
إن أسلوبَ الإنسان يرْسُفُ في الضعف والهوى، ولم يترك الله الإنسان لضعفه وهواه، فبعث إليه الأنبياء معهم الهدى والنور، لذلك فإن الأسلوب الإلهي هو الحجةُ البالغة، والدليل الحاسم المُتَّسِق مع نظرة الإنسان التي لا يبتعد الإنسانُ عنها إلا مكابرة أو عناداً.
هكذا رأى محمد بن إبراهيم الوزير أن كتاب ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان هو الصيحةُ في وجه الأفكار الفلسفية التي لم يكن من نتيجتها:(1/113)
إلا الفرق المتعددة، المكفرة بعضها بعضا.
وإلا ضياع الوقت فيما ليس له علاقة بسلوك الفرد والجماعة في الحياة ..
وبكتابه " إيثار الحق على الخلق " أراد أن يسلك بالأمة الطريق الواحد .. الذي لا تتعدد عنده السبل. وبكتبه كلها كان يهدف إلى مقاصد الإسلام:
* وحدة الأمة الفكرية وترك ما لا يُجدي.
* وحدة الأمة على كتاب الله، واعتصامها به، وإبعادها عن مواطن الفرقة والاختلاف، وتيه الأفكار فيما لا طائل تحته ..
ويبين لها مدى الابتعاد عن منطق الحق عندما تعمد إلى التكفير والتفسيق باللازم.
وينهاها عن التحجُّر والغلو والتقليد وتصعيبِ الاجتهاد، فعلوم الاجتهاد ليست مقصودة لذاتها، وليست بحاجة إلى جعلها علوماً بذاتها تتبارى العقول في توسيعها وإيجاد أسرار وألغاز شكلية ولفظية لا فائدة من ورائها.
إن هذِه العلوم وسيلة لاستقامة الفهم الصحيح وليست بحاجة إلى تطويل وتعقيد لفظي ومعنوي، بل إلى تيسير وتوضيح، وبيان وتبسيط، ووضوح تام.
وهذا العقل نورُ من الله ليتجه مباشرة إلى نبع الهداية الإلهية في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ مِن بين يديه ولا من خلفه، وإلى الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام.
وسيجد صراطاً مستقيماً ...(1/114)
وسيجد هدى وبياناً ونوراً ...
وسيجد طمأنينةً في الحياة، وسلاماً في الضمير، وخيراً في دنياه وأخراه ..
وفي هذا الصدد، فإنه قد قَلَّلَ مِن شأن المعتزلة التي أرادت أحياناً رغم إخلاصها وإيمانها العميق المستنير، أن تجعل العقلَ أكبر من طاقته في عالم الغيب، فإذا كان العقلُ يستطيع أن يتبين بدليلٍ قاطع وحاسم معرفة خالقه، فإنه لا يستطيع تجاوزَ ذلك، فالمحدود لا يُحيط باللامحدود، والمعتزلة والفرق الكلامية قد خاضت آفاقاً أكبر مِن طاقتها وليست ذات نفع عملي للإنسان في دنياه وأخراه، وقد حاوَلَ الإمام، التوفيق بين الفرق الإسلامية فبين لها أن خلافَهَا في الغالب خلاف مصطلحات، ويتعلق بالألفاظ أكثر من تعلقه بالمعاني، ودعا إلى تحريم كل ما من شأنه تمزيق وحدة الأمة فيما لا طائل تحته. كما أن الإمام " محمد بن إبراهيم " في كتابه العظيم " العواصم والقواصم " قد دافع عن السنة دفاعاً لم يُؤلِّف مثلُهُ في بابه وهو على حق في ذلك، لأن السنة النبوية وهي قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره مبينة وموضحة لما جاء في كتاب الله الكريم من النصوص العامة والمطلقة والمجملة بمقتضى النص القرآني {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} الذي أوكل إليه ذلك، دالة على معاني القرآن، هادية إلى طرق تطبيقه. وهي والقرآن شيئآن متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، والمسلم الذي رضي بالله رباً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً والإسلام ديناً لا يسعه إلا الأخذ بالسنة الصحيحة الثابتة، والرجوع إليها عند الخلاف، والرضى بها، والتسليم لها، وطرح ما سواها، وعدم الاعتداد بقول أحد كائناً من كان إذا كان يخالفها أو يتأولها على غير وجهها.(1/115)
وقد أبدع المؤلف -رحمه الله- في هذا المجال، وأتى فيه بما يعجز عنه غيره من أهل العلم إلا أنه رحمه الله قد ترخَّص في الأخذ ببعض معايير النقد، وهي مؤوفة، وغيرها أصح منها وأسد، ولا يضيره ذلك أو بعض من شأنه، فإنه رحمه الله من أهل الاجتهاد، وخطؤه مأجور عليه إن شاء الله، وما منا إلا مَنْ رَدَّ أو رُدَّ عليه إلا صاحب العظمة صلى الله عليه وسلم. فلا بد من تمحيص تلك المعايير، وإخضاعها للموازين العلمية الدقيقة التي وضعها الجهابذة النقاد من أهل العلم -وهي مقاييس شهد بصحتها الأعداء قبل الأصدقاء- ويحكم عليها بما يليق بحالها.
وخلاصة هذه الدراسة أن محمد بنَ إبراهيم الوزير قد نَهَجَ في طريق الحق والوضوح وبين:
أولاًً: أن كل ما لا مجالَ للعقل فيه من الغيبيات، فلا ينبغي أن يتكلف العقل الخوض فيه، أو اعتساف تأويله حتى يكونَ لديه إمكانية ذلك، لأنه إما أن يخطىء الحقيقة، أو يتيه عنها، وهو مع ذلك لا فائدة تُرجى من الجدال النظري البحت الذي لا صلة له بمجالات الحياة العملية.
إن موضوع علم الكلام ومتاهاته لا تُفِيدُ يقيناً، بل إنها تجعلهم يدورون فيما لا طائل تحته في بعد عن التفكير السليم.
ثانياً: وَقد عَمِلَ على توجيه الأمة إلى منطق القرآن، وإلى العمل الذي رسم منهجه القرآن، وبين للأمة أسبابَ الاختلاف، ومن أبرز النتائج، والمعالم التى وضحها ما يلي:
أ- لا تكفير ولا تفسيق باللازم، فقد كانوا يكفرون ويفسقون بعضَهم بعضاً بلازم كلامِهِم ولو لم يقولوه.(1/116)
ب- دافع عن أئمة السنة، وبين خدماتهم الجليلة للحديث، والمقاييس العلمية التي وضعوها وبحوثهم وتراجمهم وتواريخهم في خدمة السنة، وهممهم العالية، ونفي عنهم ما يتهمون به بسبب ما يثبته فيه البعض من مدلول آرائهم في حرية الاختيار والعدل والخروج على الظلمة، فهم لا يقولون بالجبر ولا بمهادنة الظلمة، بل إنهم على منهج الكتاب والسنة في هداية الإنسان إلى النجدين، ومن ثم منحه القدرة على المضي فيما يختاره، وما يترتب على ذلك من مسؤولية عادلة أمام المحيط بكل شيء علماً وكذلك وضح رأيهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتقييد مبدأ السمع والطاعة فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ..
جـ- بَيّن وأكد أن النبعَ الصافي للإسلام هو الكتابُ وصحيحُ السنة وما عدا ذلك، فمضيعة للعقل ومتاهات تخبط غير مجدية سبب خلافات ومنازعات لأنها أهواء لا نتيجةَ لها غير ذلك.
إذ المطلوبُ مِن المسلم هو الإيمان، وعملُ الصالحات، والتزام الحق، والصبر على تنفيذ هذا المنهج الإلهي بالدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتفهم سنن الله، والتفكير في السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما تفكير المستكشف لآيات اللهِ المُتَبين لها، وبالاختصار المضي على الصراط المستقيم لخير الإنسان نفسه في الدنيا والآخرة {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثوَابَ الدُّنيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنيا والآخِرَةِ} .. {رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} .. لا أن يذهب الفكر فيما من شأنه مضيعة الوقت، وما لا طائلَ تحته في لعبة فكرية صبيانية تنتهي بصرخة في واد.(1/117)
د- ولم يجد محمد بنُ إبراهيم الوزير وهو يعمل لِما يراه وُيؤمِنُ به طريقاً لتوحيد الأهواء المتفرقة، والصفوف المتناحرة الطريقَ ممهداً وسهلاً، بل لقد حاربه النفعيون ممن يجد في أفكاره خطراً على امتيازاتهم على الناس، وحاربه من يَخْشَوْنَ الدعوةَ الجامعة غير المفرقة، فقال في وجههم صائحاً:
يا لاَئمِي كُفَّ عَنْ لَوْمِي فَمُعْتقَدِي ... قَوْلُ النبِيِّ وَهَمِّي في تَعَرُّفِهِ
فَمَا قَفَوْتُ سِوَى آياتِ مَنْهَجِهِ ... وَلا تَلَوْتُ سِوَى آيَاتِ مُصْحفِهِ
وعاتب أخاه من قصيدةٍ حزينة:
ظَلَّت عَوَاذِلُهُ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي ... وتُعِيدُ تعْنِيفَ المُحِبِّ وَتَبْتَدِي
يَا صَاحِبيَّ على الصَّبابَةِ والهَوَى ... مَنْ مِنكُمَا في حُبِّ " أَحْمَدَ " مُسعِدِي
حَسْبِي بَأنّي قَدْ سَهِرْتُ بحُبِّهِ ... شَرَفَاً ببُردَتِهِ الجميلةِ أَرْتَدِي
لي باسْمِهِ وبِحُبِهِ وَبقُرْبهِ ... ذِمَمٌ عظَامٌ قدْ شَدَدْتُ بهَا يَدِي
وَمُحَمَّدٌ أوفي الخَلائِقِ ذِمَّةً ... فَلَيَبْلُغْنَّ بي الأمَاني في غَدِي
يَا قَلبُ لا تَسْتَبْعِدَنَّ لِقَاءَهُ ... ثِقْ بِاللِّقَاءِ وبالوَفَا فَكَأنْ قدِ
يَا حَبَّذا يوْمُ القِيَامَةِ شُهْرَتي ... بَيْنَ الخلائِقِ في المَقَامِ الأحْمَدِي
بِمَحَبَّتِي سُنَنَ الشَّفِيعِ وَأنَّنِي ... فِيهَا عَصّيتُ مُعَنِّفِي وَمُفَنِّدِي
وترَكْتُ فِيهَا جيرَتِي وَعَشِيرَتي ... وَمكانَ أَترَابِي وَموْضِعَ مَوْلدِي
فَلأشكُوَنَّ عَلَيْهِ شَكوَى مُوجَعٍ ... مُتَظَلِّم مُتجَرِّم مُسْتنِجدِ
وأقُولُ أنْجِدْ صَادِقَاً في حُبِّه ... منْ يُنْجِدِ المظلومَ إن لم تُنْجِدِ
إنِّي أحِبُّ مُحَمَّداً فَوْقَ الوَرَى ... وبهِ كَمَا فَعَلَ الأوائِلُ أقْتَدِي
فَقدِ انْقضَتْ خَيْرُ القُرونِ ولَمْ يكنْ ... فِيهِمْ لِغَيرِ مُحَمَّدٍ مَنْ يَهتَدِي(1/118)
ويصف حالته هائماً في جبال عالية، وبواد خالية وعلى الرغم من ذلك أمسك بقلمه يُدافع عن الحق منشداً في حزن وألم وتوجع:
فحيناً بِطَوْدٍ تُمْطِرُ السُّحْبُ دُونَه ... إلى آخر الأبيات الحزينة ..
انقطاعه عن الناس:
يقول الشوكاني: " إنه بعدَ هذا أقبل على العبادة، وتمشيخ وتوحش في الفلوات، وانقطع عن الناس، ولم يبق له شغلة بغير ذلك، وتأسَّف على ما مضى من عمره في تلك المعارك التي جرت بينَه وبينَ معاصريه مع أنه في جميعها مشغول بالتصنيف، والتدريس، والذب عن السنة والدفع عن أعراض أكابر العلماء، وأفاضل الأمة، والمناضلة لأهل البدع، ونشر علم الحديث وسائر العلوم الشرعية في أرض لم يألف أهلُها ذلك لا سيما في تلك الأيام، فله أجرُ العلماء العاملين، وأجرُ المجاهدين المجتهدين " ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، ربنا إنك غفور رحيم.(1/119)
مقَدمَة التَحقيق
بقلم
الأستاذ شعيب الأرنؤوط(1/121)
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدُه، ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بِهِ من شُرورِ أنفُسِنا وَمِن سَيِّئاتِ أعمالنا، من يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِل، فلا هاديَ لَه.
وأَشهَدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحْدَه لا شريكَ لَهُ، وأشهَدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70 - 71].(1/123)
وبعد: فالحمدُ لله حَمْداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيرضَى، على ما وفقنا إليه مِن تحقيق هذا السِّفْرِ النفِيسِ، وضَبْطِ نُصُوصِهِ، وتَخْرِيجِ أَحَادِيثِه، والتَّعْليقِ عَليْهِ على نحوٍ نَرْجُو أَنْ نَكُونَ قَدْ وُفِّقنَا إلَيْه، ويحوزَ إعْجابَ القُرَّاء الأكَارِمِ، ويَحْظَى بِتَقْدِيرهِمْ.
فَهُوَ كتَابٌ عَظيمٌ في بَابِه، لم يُؤلِّفْ مثْلُهُ فِيمَا نعْلَمُ، ضَمَّنَهُ المُؤَلِّفُ رَحِمه الله بحوثاً قَيِّمة في عُلومٍ مختلِفَةٍ تُنْبيء عَنْ صِحَّة ذِهْن، وحَافِظةٍ واعيةٍ، واطِّلاعٍ وَاسِعٍ، وقُدْرَةٍ فائِقةٍ على تقريرِ الأدِلَّةِ، والبَرَاهِينِ المُسْتَنْبَطةِ مِنْ كتابِ الله وسُنَّة رسولِه - صلى الله عليه وسلم - بأُسلُوبٍ يَتَّسِمُ بالوضوحِ والجَزالَةِ، وتبحُّرٍ في جَميعِ العُلُومِ العقلِيَّةِ والنَّقلِيَّة على حدٍّ يَقْصُرُ عنه الوَصْفُ، وتَجَرُّدٍ كَاملٍ من العَصبية والهوى والتقليد.
ألَّفه رَحِمَه الله بَعْدَ أن انقَطَع للكتَاب والسُّنةِ، واستَغل بِعُلُومهما، وامتلأت جَوانِحُه بجبهما، وتضلع من مختلف العلوم حتى فاق أقرانَه، وزاحَمَ شُيوخَه، وتَخطَّاهُم، وبلغ درجة الاجتهاد المطلق.
فهُو -كما يقول الإمامُ الشوكاني رحمه الله-: " مِمن يَقْصُرُ القلمُ عن التعريفِ بحاله، وكيْفَ يُمْكنُ شَرْحُ حالِ منْ يُزَاحِمُ أئمةَ المذاهِبِ الأربعة فَمَنْ بَعْدَهُم منَ الأئمة المجتهدين في اجتهاداتهم، ويُضَايقُ أَئِمَّة الأشعَرِيَّة والمُعتَزِلَةِ في مقالاتهم، ويَتَكَلَّمُ في الحديث بكلامِ أَئِمَّتِه المعتبرين، مَعَ إحاطةٍ بحفظِ غَالِبِ المُتُونِ، ومعرفةِ رجال الأسانيد شخصاً وحالاً وزماناً ومكاناً ".
وَيَلْمَحُ القارىءُ في كتابه هذا حُبَّهُ لِلحديثِ النَّبوي الشريفِ، وَمُنَاصَرة أهله، والاعتداد بِهِ، وأنه هُو والقرآنَ الكريمَ الطريقُ الأمثلُ(1/124)
لِمعرفة الحق مِنْ بَيْنِ أقوالِ المختلفينَ، ولا بِدْعَ في ذلِكَ، فإنه قدْ صَرَّحَ في مختصره أنَّه قَدْ أُشرِبَ قَلْبُه مَحَبَّة الحديثِ النبويِّ والعِلْم المُصطفوي، وأنه يرى الحَظَّ الأسنى في خدمة علومِه، وإحياءِ ما دَرَسَ مِن آثارِه، وأنَّ أولى ما يُشتَغَلُ به هو الذبُّ عنه، والمحاماةُ عليه والحَثُّ على اتباعِه، والدُّعاء إليه، لأنَّه عِلْمُ الصَّدْرِ الأوَّل، والَّذي عليه بَعْدَ القرآن المُعَوَّلُ، وهُو لِعلوم القُرآن أصْلٌ وأسَاسٌ، وهُو المُفَسِّرُ لِلقُرآنِ بشهادَة {لِتُبَيِّنَ للنَّاسِ}.
وإن القارىء لِهذا السِّفْرِ النَّفيسِ سيرى فيه:
1 - أصالَة المَنْهَجِ المُتَمثِّل في الكتَابِ والسُّنَّةِ، وفَهْمِهما على النَّحوِ الَّذي فَهمَهُ السَّلفُ الصَّالِحُ المَشْهُودُ لهم بالفضْل والخيريَّةِ على لِسَانِ خَيْرِ البَرِيَّةِ.
2 - وُضُوحَ الفِكرة وجزالَةَ الأسلُوبِ والقُدْرَةَ على الإبَانَةِ، وقُوَّةَ العَارِضَةِ، والاستيفاءَ في الاستدلالِ بما لا يَخطُرُ على بالٍ، فإنَّه يَسْرُدُ في المسألةِ الواحِدَةِ من الوُجُوه ما يَبْهَرُ لُبِّ مُطالِعِه، ويُعَرِّفُه بِقِصَرِ باعِه بالنِّسبة لِعِلمِ هذا الإمَام، فهو يُوردُ كَلامَ شيخه في رسَالته التي اعْترضَ بها عليه بنَصِّهِ وفَصَّه، ثم يَنْسِفُه نسْفاً، بإيراد ما يُزَيِّفُه بهِ مِن الحُجَجِ الكثيرةِ، التي لا يجِدُ العالِمُ الكبِيرُ في قُوَّته استخراجَ البعضِ منها.
3 - البصَرَ التَّامَّ بأقاويلِ أهلِ العلْم من الطَّوائف الإسلامية واختلافِهم في أمَهَات المسائِل، وعرض أدِلَّتهم بدِقة وأمانَةٍ، وترجيح ما اسْتَبَانَ لَهُ صَوابُه بالحجة والبُرهان، مشفوعة بلسانٍ عفٍّ، وأسلوبٍ مُهَذَّبٍ، وقَولٍ لَيِّنٍ.
4 - الحافِظَةَ النَّادِرَةَ المُواتية التي تُمِدُّهُ بما يَشَاءُ مِن نصوصِ الكِتَاب والسُّنَّةِ(1/125)
وأَقاويلِ أهْلِ العلْمِ في المسألةِ التي يَعْرِضَ لها، ويَبْحثُ فيها بما لا يَكادُ يَظْفرُ بِه البَاحِث عندَ غيْرِهِ مِنْ أهْلِ العِلْم.
5 - الجمعَ بَيْنَ الرِّوايَةِ والدِّراية، وقلما تجتمعانِ لأحدٍ، وبَصَرَاً تامَّاً في مُخْتَلِف الفنوفِ بحيث يُعَدُّ إماماً في كل فَنٍّ مِنْها.
فهو يُعَُّد بحقٍّ في زُمرة أولئك المُفكِّرينَ المُصلِحِينَ الذِين استنارَتْ بأَفْكارِهِمْ المبثوثةِ في تَفاريقِ مُؤلَّفَاتِهم عُقُولُ مُعاصِريهم، ومَنْ أتى بَعْدَهُم إلى يَوْمِنَا هذا، وتنَوَّرتْ قلوبُهم، وانجلَى ما لَصِقَ بمرآتها مِنْ صدَإ الشَّكِّ والجُمُود، وانحَلَّ ما انعَقدَ في أذهانِهِم منْ شُبَهِ الزَّيغِ والارتياب.
وبَعْد، فقد كنت رأيت أن أكتب مقدمة مطولة، أعرف فيها بالمؤلف وما تضمنه كتابه مِنْ بحوثٍ وآراء لَوْلا أن قامَ فضيلة القَاضي إسماعيلُ الأكوعُ مشكوراً بتزويدِنا بمقدمته الضَّافِيَة الماتِعة التي أوفت على الغايَةِ ولم تدَعْ زيادةً لمستزيد، وأَهْلُ مَكَّة أَدْرَى بِشِعَابِهَا، فاقتصرتُ في كلمتي هذه على وصف الأصولِ المعتمدة، وعملي في الكتاب.
وصف النسخ المعتمدة في التحقيق:
لقد تحصَّلَ لنا وقت الشروع في التحقيق أكثرُ مِنْ نسخةٍ، وهاك وصفَها:
1 - نسخة نفيسَةٌ متقنَةٌ، جيدةُ الضبط، حسنةُ الخط، وهي مقابَلَةُ، ومُحَلاَّةٌ بحواشٍ قيِّمة تُنبىء عن كون ناسخها مِن أهل العلم والفضل. وهي المرموز لها بـ (أ).
الموجودُ منها الأولُ والثاني والثالثُ، وتَنْقُصُ المجلدَ الرابع(1/126)
والأخيرَ، وقد كُتِبَ الأولُ منها بعدَ وفاةِ المصنف رحمه الله بقليل.
المجلد الأول: عددُ صفحاته (532) صفحة، في كل صفحة أربعة وعشرون سطراً، كل سطر فيه ثلاث عشرة كلمة تقريباًَ، ينتهي بالوهم الرابع عشر الذي ختمه بقول الشاعر:
أقِلُّوا عَلَيْهِمْ لا أبَا لأبِيكُمُ ... مِنَ الَّلؤم أِوْ سّدُّوا المَكَانَ الَّذِي سَدُّوا
وجاء في الصفحة الأخيرة منه ما نصه: بلغ قِصاصةً وسماعاً ومقابلةً حسبَ الطاقة والإمكانِ في مواقِفَ آخرُها يوم السبت سابعَ شهر صفر أحد شهور سنة (854) ولله الحمدُ والمنة، وكتب ذلك العبدُ الفقير لله محمد ابن عبد الله بن المنادي، عفا الله عنه.
وقوله: بلغ قِصاصة. من اقتص الحديث: إذا رواه على وجهه، كأنه تتبع أثره فأورده على قصة.
وقد ألحق به فهرس جامع مفصل بخط مغاير للأصل.
المجلد الثاني: ويبدأ بالكلام على الوهم الخامس عشر، وينتهي بالكلام على الوهم السابع والعشرين.
وعدد صفحاته (444) صفحة، ولم يَرِدْ فيه شيء عن الناسخ، ولا تاريخ النسخ، ويغلب على الظن أن ناسخ المجلد الأول هو ناسخ هذا المجلد، فهما يجريان في كل شيء على نسق واحد، وألحق به فهرس مفصل كالأول.
المجلد الثالث: ويبدأ بالكلام على الوهم الثامن والعشرين، وهو فيما ينسب إلى أئمة السنة من الإنكار منهم لأفعال العباد وتصرفاتهم،(1/127)
والجواب عن ذلك وينتهي بالكلام على التحسين والتقبيح، وقول الأشعرية فيه.
وعدد صفحاته (527) صفحة.
وجاء في آخره ما نصه: انتهي تحريرُ هذا الجزء الثالثِ من العواصم بحمد الله ومَنِّه في يوم الخميس لعلَّه سابع شهر ذي الحجة الحرام سنة ثمانية عشر وثلاث مئة وألف، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقْد أُلحِقَ به فهرس مُفَصْلٌ أيضاًَ.
2 - نسخة ثانية، والموجود منها مجلدان، ورمزنا لها بـ (ب)،
وهي نسخة جيدة مضبوطة ومنقوطة، ومقابلة يغلب عليها الصّحة، ووقع فيها قليل من الخطأ نبهنا عليه في غير ما مَوْضِعٍ من الكتاب.
وعددُ صفحات الأول منها (476) صفحة، في كل صفحة (29) سطراً، في كل سطر 14 كلمة تقريباً، ينتهي بانتهاء الكلام على الوهم الرابع عشر.
وفي صفحة العنوان عدة تمليكات إحداها مؤرخة سنة 1131 هـ والثانية سنة 1133 هـ والثالثة 1193 هـ، والرابعة 1210 هـ.
وهذا المجلد مصور عن الأصل الموجود في مكتبة محمد بن عبد الرحمن العُبيكان الخاصة بالرياض 413 م/42 قام بتصويره وإرساله إلينا قسم المخطوطات بجامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
وجاء في آخره ما نصه: تم بعون الله وحسن توفيقه نهارَ الإثنين،(1/128)
ليلة أحد وعشرين من شهر شعبان سنة تسع وستين وألف، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعدد صفحات الثاني منها (320) صفحة، ويبدأ بالوهم الخامس عشر، قال: إن التشبيه مستفيض، وينتهي بانتهاء الكلام على الوهم السابع والعشرين في شكر المنعم هل يجب عقلاً أو سمعاً، وهو كسابقه في عدد الأسطر والكلمات والخط، فهما من بابة واحدة، إلا أنه غفل من تاريخ النسخ.
وجاء في آخره ما نصه: كمل المجلد الثاني، وهو النصف الأول من العواصم والقواصم بحمد الله ومنِّه وإعانته، ويتلوه في أول النصف الآخر الوهم الثامن والعشرون وهذا المجلد قد تفضَّل بإرساله الأستاذُ المِفضال إبراهيم الوزير فورَ علمه بأن مؤسسة الرسالة عازمة على تحقيقه ونشره.
3 - نسخة ثالثة، ومنها مجلدان الأول والثاني، وهي نسخة مجوَّدة ومنقوطة ومضبوطة بالشكل، وقد رمزنا لها بـ (ج) إلا أنها لا ترقى إلى نسخة (أ) و (ب) ففيها غيرُ ما خطأ وتحريف.
وعدد صفحات الأول منها (378) صفحة في كل صفحة (29) سطراً، وفي كل سطر (18) كلمة تقريباً.
وينتهي هدا المجلد بانتهاء الوهم الرابع عشر.
وجاء في آخره: تم الجزء الأول من العواصم بحمد الله ومنِّه، وتيسيره، فله الحمد على ذلك كثيراً كما ينبغي له، وكما هو له أهل، وذلك غرةَ شهر جُمادى الآخر الذي هو مِن سنة أربع بعدَ ألفٍ بيد أفقرِ عباد الله وأحوجِهم إليه عبدِ الرحمن بن محمد بن بسمان الشمسي الحراري(1/129)
عامله الله بلطفه ورأفته، وذلك في محروس مدينة صنعاء تقبَّل الله ذلك ... غفر الله لمالكه وكاتبه وعفا عنهم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعدد صفحات المجلد الثاني (308) صفحات، وأسطر صفحاته كالأول، ويبدأ بالوهم الخامس عشر، وينتهي بانتهاء الكلام على الوهم السابع والعشرين.
وقد كتبه كاتب المجلد الأول، فقد جاء في آخره: تم الجزءُ الثاني بحمد الله ومنِّه وطوله، فله الحمد كثيراً حمداً يبلغ رضاه ويزيد، وينيلنا من فضله الإلهام إلى طاعته، فقد وعد مع حمده وشكره بالمزيد، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم أنبيائه وأصفيائه من العبيد وسلم، عليه وعلى آله وصحبه أجمعين صلاة دائمة لا تفنى ولا تبيد، وسلم كثيراً.
وكان تمام زبر هذا الكتاب المبارك في سلخ شهر رجب الأصم، الذي هو من شهور سنة أربع بعد ألف من الهجرة الطاهرة على صاحبها أفضل السلام، بيد من استؤجر في الكتابة المعرّض باسمه رجاء دعوة مستجابة أفقر عباد الله وأحوجهم إليه عبد الرحمن بن محمد بن بسمان ابن .... بن أحمد بن علي بن عمران العبشمي نسباً، الشافعي مذهباً، عفا الله عنه، وعن والديه، وغفر لهم ولمن دعا لهم بالمغفرة والرضوان، وألهمنا لما يرضي، غفر لمالكه، وتقبل منا ومنه.
4 - نسخة رابعة: الموجود منها المجلد الرابع، وبه تكمل النسخة الأولى التي تقدم وصفها، فهو يبدأ بالوهم الثاني والثلاثين، وينتهي بانتهاء(1/130)
الكتاب، وقد رمزنا له بـ (د).
وعدد صفحاته (153) صفحة، عدد أسطر صفحاته تتراوح ما بين (28) سطراً و (56) سطراً، وكلمات السطر ما بين (20) كلمة و (25) كلمة، وخطه نسخي معتاد يجري على نسق مطرد، وجاء في آخره: وكان الفراغ من رقمه يوم الثلاثاء تاسع شهر رجب سنة ألف من الهجرة النبوية على مهجرها أفضل الصلاة والتسليم.
5 - نسخة خامسة: خزائنية نفيسة الموجود منها المجلد الثاني وقد رمزنا لها بـ (هـ) وعدد أوراقه 177 ورقة، في كل صفحة منها 25 سطراً، وعدد الكلمات في كل سطر 17 كلمة تقريباً.
وقد جاء في صفحة الغلاف ما نصه:
الجزء الثاني من العواصم والقواصم تصنيف السيد السند الإمام العلامة المحدث الأصولي النحوى المفسر المتكلم البليغ الحجة السني الصوفي فريد العصر ونادرة الدهر، وخاتمة النقاد، وحامل لواء الإسناد، وبقية أهل الاجتهاد عز الدين محيي سنة سيد المرسلين أبي عبد الله محمد ابن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المفضل الحسني القاسمي الهادوي رحمه الله تعالى رحمة الأبرار وأسكنه دار القرار.
حرر هذا الكتاب المعظم برسم المجلس السامي المكرم الملحوظ بعين السعادة المخصوص بمحبة العلم والعلماء السادة عمر آغا بن محمد ... زاده خازندار الحضرة العالية الوزيرية الحسينية حرس الله مهجته بالإيمان ونور قلبه بشموس العرفان.
ويبدأ هذا المجلد بالوهم الخامس عشر، وأوله: قال: إن التشبيه مستفيض عن أحمد بن حنبل وقصد بذلك القدح في كتب الحديث لكونه(1/131)
من رجالهم .... وينتهي بنهاية الوهم السادس والعشرين.
وجاء في آخره ما نصه: تم المجلد الثاني من كتاب العواصم بحمد الله تعالى يوم الثلاثاء سادس عشر شهر رجب الأصب من شهور سنة ثلاث بعد الألف من الهجرة النبوية على مهجرها أفضل الصلاة والسلام، والحمد لله رب العالمين أتم الحمد وأكمله وأفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وصف النسخ الموجودة في اليمن بقلم العلامة الفاضل القاضي إسماعيل الأكوع.
توجدُ في خزانتي الجامعِ الكبيرِ بصنعاء عددٌ من نسخِ العواصمِ والقواصمِ، ولكنه لا توجدُ فيها نسخةٌ كاملةٌ بقلم كاتبًٍ واحدٍ من أولها إلى آخرِها، وهي كلُّها مكتوبةٌ بعدَ الألفِ، ففي الخزانةِ الغربيةِ.
الجزءُ الأولُ، أوله " رب عونك يا كريم الحمد لله الحي القيوم إنصافاً .. الخ وآخرُه: ومن العجائبِ أنَّ من ذمَّ الحديث وأهلَه من المعتزلةِ وأهلِ الكلام لم يستغن عنهم، وإن حادَ عن التصريحِ بالروايةِ عنهم.
مكتوبةً بخطٍّ جميلٍ بتاريخ يوم السبت 24 شهر ربيع سنة 1082 هـ.
المداخل الرئيسية بالمدادِ الأسود بالقلمِ العريضِ المقوى بالمدادِ الأحمر، والصفحاتُ محجوبةٌ بالمدادِ الأحمر خطاً واحداً.
155 ورقة 32 س 30×20 سم.
على صفحةِ العنوانِ تمليكاتٌ ليحيى بن إسحاق، ويحيى بن علي ابن عبد الله الردمي، كما يوجدُ عليها تمليكُ الإمامِ يحيى حميد الدين بتاريخ سنة 1340 هـ.(1/132)
رقم النسخة 129 علم الكلام.
الجزءُ الثالثُ:
أولُهُ بعدَ البسملةِ: " الفائدةُ الخامسةُ من الكلامِ على القضاءِ والقدرِ، بيانُ وجوب العمل مع القدرِ وفائدتُهُ ".
آخرُه من أهلِ التأويلِ، فكذلك يلزمُهُ مثل ذلك في الأشعرية، وإلا كان كما قيل:
فعين الرِّضا عن كلِّ ذنبٍ كليلةٌ ... ولكِن عَيْن السُّخط تبدي المساوِيَا
واللهُ سبحانَهُ وتعالَى أعلم. تمَّ الجزءُ الثالثُ من العواصمِ.
بخطٍّ نسخي جيدٍ تاريخهُ يوم 27 محرم الحرام سنة 1123 هـ.
222 ورقة 35 س 29×20 سم.
الجزءُ الرابعُ:
فيه سقطٌ من أولِهِ، ويبدأُ من الورقة 71، وينتهي في الورقةِ 222
بقولِهِ: "إذا عرفت ذلك فغيرُ بعيدٍ أن يتحتمَ على عمر بن عبدِ العزيز ما كان منه من تولي الأمر".
بخط محمد بنِ محمد بن عبد الله بن عامر.
وفي نهايَتهِ قصيدةُ محمد بنِ إبراهيم الوزير.
ظلت عواذله تروح وتغتدي
ثمَّ قصيدةُ الهادي بنِ إبراهيمَ الوزيرِ:
عجلت عواذله ولم تتأيد
في ثلاثِ ورقاتٍ علم الكلام 130.
كما يوجدُ في الخزانةِ الشرقية:(1/133)
الجزءُ الأولُ والثاني مِنَ العواصِمِ والقواصِمِ بخطٍّ مجودٍ مضبوطٍ في 333 ورقة 27 س 30×21 تاريخُ نسخهَا في 12 رجب سنة 1002.
وتوجد نسخةٌ أخرى الجزء الأول والثاني مكرر بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ حديثٍ، غيرِ مؤرخٍ نسخها. 283 ورقة 28 س 37×23.
نسخةٌ أخرى من الجزء الأول.
آخره: من اللوم أو سُدُّوا المكان الذي سَدُّوا.
بخطٍّ نسخيٍّ معتادٍ غيرِ مؤرخٍ.
67 - 235 30 س 29×21.
في أولِ الكتابِ ترجمةُ الصاحبِ بنِ عباد، ثم رسالةٌ تتعلقُ بالعواصم والقواصِِمِ.
نسخةٌ أخرى من الجزءِ الأول مكرر:
آخر المخطوط ولهذا قالَ حاتم:
وإنك إن أعطيت بطنك سؤله ....
الخطُّ نسخيٌّ معتادٌ. مداخلُ البحوثِ بالمدادِ الأسودِ والقلم الكبيرِ، محجوب بالمدادِ الأحمرِ، خطين من وقف الإمامِ يحيى حميدِ الدينِ.
104 ق 30 س 31×22.
الجزءُ الثالثُ:
أولُه. الوهمُ الثامنُ والعشرون. وفقه الله، إنَّ أئمة السنة الأثبات ...
وآخره: على أنَّ الجزاء يخصُّ الكافرينَ لقولّهِ تعالى: {إنَّ الخِزيَ اليَوْمَ والسُوءَ عَلَى الكَافِرِينَ}.
22 - 387 ق 32 س 32×21.(1/134)
في أولِهِ ترجمةُ المؤلفِ من ص 1 - 20 مبتور من آخره.
الجزء الثالث مكرر:
أوله: إن المخالفين بأسرهم قالوا: بقدرة العبدِ. لكن الفلاسفة زعموا أن القدرة .. الخ.
وآخرُهُ: وأبياتُ الرازي المشهورةُ تقضي له، أنه مات من التائبينَ
مِنْ جميع مذاهبِ المُبْطلينَ والحمد للهِ ربِ العالمين.
بخط نسخي حديثٍ، الآيات مكتوبة بالمدادِ الأحمرِ، وكذلك مداخلُ البحوث. تاريخُ الفراغِ منه يوم الخميسِ 19 شعبان سنة 1346، 191 ورقة، 28 س، 35×23.
ولا شكَّ أنه توجدُ من هذا الكتابِ نسخٌ متفرقةٌ في الخزائنِ الخاصةِ:
ففي خزانةِ الوالدِ العلامةِ المعمرِ القاضي أحمدَ بنِ أحمدَ بنِ محمدٍ الجرافي نسخةٌ: الجزءُ الأولُ منها قديمُ النسخِ، وأعتقدُ أنه من أواخر عصرِ المؤلفِ، ففيه في آخره ما لفظُه: فرغ مقابلةً وقراءةً على الوالِدِ صارِمِ الدينِ إبراهيمَ بنِ محمدِ بن عبدِ الله بطريقه، عن والدِهِ سيدي عزِ الدينِ، شيخِ العترةِ الأكرمينَ، وبركةِ أهلِ البيتِ المطهرين، رحمه الله عن المصنفِ ختام المجتهدينَ، وإمامِ المحققين، وحامي حِمى سنة سيد المرسلين أبي عبدِ الله محمدِ بني إبراهيمَ بنِ عليٍّ بني المرتضى، رضي الله عنه وأرضاه وأكرم نزلَه لديه ومثواه.
وكتبهُ العبد الفقير إلى ربه الكريم الهادي بن إبراهيم، وفقه اللهُ ولطفَ به، وكان ذلك في شهرِ الحجةِ الحرامِ أحد شهورِ سنة 897، وللهِ الحمدُ.(1/135)
قلتُ: هذا الهادي هو الهادي الصغيرُ بنُ إبراهيمَ بنِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ الهادي الكبيرِ أخي المؤلف، وكان هذا الجزءُ من خزانة آل الوزيرِ، ففي صفحةِ العنوانِ تمليك بخطّ عبدِ الله بنِ عليٍّ الوزير، هذا لفظه: هذا الكتاب من خزانة الآباءِ رضي الله عنهم قد كانَ خَرَجَ عنها، ثم عادَ إِليها بحمدِ الله تعالى بتاريخِ شهر شوال سنة 1108 وكتبه عبده بنُ عليٍّ عفا اللهُ عنهُ.
وفوقَ العنوانِ صورة مكتوب في الورقة الأولى ما لفظه: من أراد النظر في هذا الكتاب المباركِ، فهو محجور أن يعلق عليه شيئاً من أنظاره، حسبما أراده المصنفُ يعلم ذلك.
كتبه عثمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن أحمدَ بنِ عبدِ اللهِ (الوزيرُ).
ثم صارَ من ممتلكات العلماء آل المجاهِدِ. وعليه تمليك هذا نصه: الحمدُ للهِ، من كتبِ سيدي الوالدِ العلاّمة عزّ الإسلامِ صفي الإمام أحمدَ بن عبد الرحمن بن عبد الله المجاهد -حفظه الله- ذي القعدة الحرامِ سنة 1280 هـ.
ثم تحول إلى العلماءِ آل الجرافي. وهذا التمليكُ: الحمد للهِ مِن كتبِ سيدي الوالدِ المالكِ عزِّ الإسلام القاضي محمد بن أحمد الجرافي عافاه الله تعالى -وصلى اللهُ على سيدنا محمدٍ وآله، كتبه الفقير أحمد بن محمد الجرافي.
كما يوجد في خزانته أيضاً مجلد من العواصِمِ والقواصمِ يحتوي على الجزءِ الثاني والثالثِ، إلا أنه قُدِّم عند التجليدِ الجزء الثالث على الثاني.(1/136)
وهذا المجلد، خطه جيد، وتاريخ نسخه يوم الثلاثاء خامس عشر شهر شوال سنة 1004 هـ، بقلم العلامةِ سعدِ الدين المسوري كتبهُ برسمِ الأديب جارِ اللهِ محمدِ بنِ عبد اللهِ بنِ أميرِ المؤمنينَ، وقد طالعهُ السيدُ العلامةُ محسنُ بنُ عبدِ الكريم بن إسحاق. وفرغَ من مطالعتهِ في شهر صفر سنة 1237 هـ. وقد استعارَهُ من القاضي عبدِ الرحمنِ المجاهدِ. ثم صارَ هذا المجلدُ من خزانةِ الإمامِ المنصورِ القاسمِ بنِ محمد، وانتقلت ملكيته بالإرثِ إلى ابنه الإمامِ المؤيدِ محمد بن القاسم. ثم تحول إلى أخيه الإمام المتوكلِ إسماعيل بنِ القاسمِ.
ثمَّ صارَ في ملكِ أحدِ العلماءِ الاعلام. وتاريخُ ملكيته في شهر ربيع الآخر سنة 1235 هـ، ولكنَّ اسمَ المالِكِ طمس. ثم انتقلت ملكليتُهُ إلى القاضي العلامةِ عبدِ الرحمنِ المجاهِدِ، ثم انتقلَ إلى ملكيةِ القاضي أحمدَ ابن لطف الباري الزبيري بتاريخ شوال سنة 1284 هـ. وملكه أيضاًً القاضي إسماعيل بن محمد بن أحمد حنش. وقد انتقلت ملكيته إلى القاضي العلامةِ محمدِ بنِ أحمد الجرافي. صفحات الجزءِ الثاني 169 ص، وعدد السطور يتراوحُ ما بين 24 إلى 25 سطراً. وصفحات المجلدِ الثالثِ 247 صفحة وعددُ السطور في كلِّ صفحةٍ ما بين 24 إلى 25 سطراً. وأما الجزءُ الرابع من العواصمِ والقواصمِ فهو حديثُ الخطِّ.
انتهي كلام القاضي إسماعيل الأكوع.
عملنا في الكتاب:
1 - لقد اتَّخذنا النسخةَ المصوَّرة عن الأصلِ المحفوظ باستانبول وهي الموموزُ لها بـ (أ) أصلاً لتحقيق الكتابِ، لأنها أكملُ النسخ التي وقعت إلينا وأصحُّها، وَيَنْدُرُ وقُوُع الخطأ فيها، وهو مما لا يخلو منه كتاب مهما(1/137)
تَنوقَ به الناسخُ في تجويده، فقمنا بنسخه، ثم تمت المقابلةُ على الأصل المنسوخ عنه، وعلى بقيةِ الأصول التي في حوزتنا، وأثبتنا الاختلافات الهامة.
2 - ثُمَّ شرعنا في ترقيم النَّصِّ وتفصيله، وتوزيعه، وضبطِ الكلمات الملبسة وأسماء البلدان والأعلام بالشكل كما فعلنا في تحقيقنا لسير أعلام النبلاء، وعُنِينَا بمراجعة الآياتِ المستدل بها وضبطِها بالشَّكْلِ الكامل، وجعلنا رقمَ الآية والسورة بين حاصرتين عند الانتهاء منها في صلب الكتاب، وإذا كانَ في الأصل قراءةٌ لغيرِ حَفْصٍ نسبناها إلى صاحبها مِن القُرَّاء العشر، وذكرنا المصادر المأخوذ عنها.
3 - ثم خرجنا أحاديثَ الكتاب من مصادر السنة المعتمدة، كالصحاح والمسانيد والسنن والمعاجم مما هو متيسّرٌ لنا، وتكلمنا على الأحاديثِ التي لم تَرِدْ في " الصحيحين " أو في أحدهما، فحكمنا على كُلِّ حديث بما يليق بحالهِ المأخوذة من صفات رواته من الصحة أو الحسن أو الضعف، مسترشدين بالمعايير الدقيقة التي وضعها جهابذة هذا الفن وأئمته، وفي الغالب نَذْكُر ما انتهي إلينا من حكمهم على الحديث الذي نحن بصدد تخريجه، وربما يقع بينَنا وبينهم خلاف في الحكم على بعض الأحاديث، فنذكر أحياناً السببَ الحامل على ذلك كما مو مبين في التعليقات.
4 - اقتصرنا على التعريف بالأعلام غيرِ المشاهير، والكتبِ المنقول عنها مما هو غيرُ مطبوع، أو مطبوع، ولكن تداولُه بين الطلبة قليل.
5 - ربما عرض المؤلف مسائل تتعلق بعلم الأصول أو المصطلح أو غيرهما، فلا يبسط القول فيها، ولا يبتُّ فيها برأي، فنذكر القول المختار(1/138)
الذي هو أقرب إلى الصواب، وأبلغ في الحجة، وقد نقوي بعض الآراء في أمهات المسائل التي يعرضها بأدلة لم ترد عنده.
6 - وقد نخالف المؤلف، رحمه الله في بعض ما ذهب إليه من آراء، وما انتهي إليه من أحكام، فنرد قولَه برفق معتمدين على نصوص الكتاب والسنة اللذين هما أصلُ الدين وملاكه، وإليهما المرجع في فصل النزاع في جميع مسائل الخلاف، وذلك مما يسرُّ المصنف إن شاء الله ويرضيه، فإنه رحمه الله كان يدعو إِلى إمعان النظر في الأمور المختلف فيها بين الأئمة، واستعراضها، والاطلاع على حججهم ودلائلهم، والأخذ في كل باب بما هو أقوى دليلاً، وأبلغ في الحجة من غير تعصب لمذهب أو عليه.
7 - وسنقوم عند نهاية الكتاب إن شاء الله بصنع فهارس مفصلة للآيات والأحاديث والشعر والأعلام والكتب مما ييسر الاستفادة من هذا السفر العظيم، والانتفاع به.
8 - ولا بد من الإشادة والتنويه بكل من كانت له يد مشكورة في تيسير إخراج هذا الكتاب بالقول أو بالفعل، نخص منهم بالذكر الأستاذ الفاضل الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية على ما يقدمه لنا من الأصول المصورة لأي كتاب نتولى تحقيقه مما هو موجود في مكتبة الجامعة، وعلى ما يمدنا به من توجيهاته القيمة وآرائه المسددة، والأستاذ الفاضل الدكتور عبد الرحمن العثيمين رئيس مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة الذي بعث إلينا بالأصول المصورة (أ) و (ج) و (د) و (هـ) فور علمه بأننا عازمون على تحقيقه ونشره، والأستاذ الفاضل إبراهيم الوزير الذي كتب كلمة تعريف بالمصنف الذي امتلأ قلبه حباً به -وهو أحد(1/139)
أجداده- وقناعةً بطريقته المثلى في الأخذ بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله الصحيحة، والاعتصام بهما، ونبذ التعصب، وطرح التقليد. والقاضي الفاضل إِسماعيل بن علي الأكوع الذي كتب مقدمة ضافية عرف فيها بالمؤلف وبكتابه العظيم هذا. والأستاذ الفاضل رضوان دعبول صاحب مؤسسة الوسالة الذي آلى على نفسه أن يقوم بنشر الكتب الموسوعية المتخيّرة في العلوم الإسلامية، وإخراجها على نحو يروق ويعجب، ويرضي ويسر. والأستاذ الشاب علي حسن علي الحلبي وغيره ممن يعمل بإشرافي في قسم التحقيق في مؤسسة الرسالة، في هذا الكتاب وغيره.
فإلى هؤلاء جميعاً أزجي خالص شكري وعظيم امتناني، وأرجو الله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة والأجر، وأن يتولاني وإياهم برعايته وتأييده وتوفيقه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1/ 1/1405 هـ
26/ 9/1984 م
شعَيب الأرنؤوط(1/140)
العواصم والقواصم
في
الذَّبِ عن سنة أبي القاسم
تصنيف
الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ(1/167)
بسم الله الرحمن الرحيم
رب عونك يا كريم
الحمدُ لِله الحيِّ القيوم إنصافاً وعدلاً، الكريم العظيم أسماءً وفضلاً، الذي أرشد إلى العدلِ ابتداءً في دار الدنيا بصوادع آياته، وانتهاءً في دار الآخرة بإحضار بيِّناته.
لم يكتفِ هُنالك بعلمه الحقِّ، وعلمِ جميع عبيده، عن إحضارِ كتبه وموازينه وشهودِه، بل لم يكتف -وكفي به شهيداً- بأعدلِ شهود، عن شهادة الأيدي والأرجل والجلود، كما لم يكتفِ في دار التكليف بما فطر لخلقهِ من نورِ العُقولِ، حتى عَضَدَ ذلك النورَ بنورِ الكتاب، ونورِ الرسول، فكان ذلك نوراً على نور، كما وصفه سبحانه في سورة النور (1)، قطعاً لبواطل أعذارِ المُبطلين، وصدعاً لِقواطع (2) شُبهِ المعطَّلين، وفي ذلك يقول سبحانه تنبيهاً على ذلك وتعليلاً: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
__________
(1) في قوله تعالى: { .. نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [35].
(2) في (ب): بقواطع.(1/169)
ولهذا قال رسولُ اللهُ -صلى الله عليه وآله وسلم-: " ما أحدٌ أحبَّ إليه العُذْرُ مِن الله، من أجلِ ذلك أنزل الكتابَ، وأرسل الرُّسُلَ " (1).
ومن الدليل على ذلك: قولُهُ عز وجل في كتابه المبين، في حق من يعلمُ أنه من الكاذبين: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111، والنمل: 64].
ومن ألطف ما أمر بهِ رسولَه الأمين؛ أن يقولَ في خطاب المبطلينَ: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وقد شَحَنَ اللهُ تعالى كتبَه الكريمةَ المطهَّرةَ بكثير من شُبَهِ أعدائه الكفرةِ الفجوة، وأورد شنِيعَ ألفاظِهم وصريحَها، ومنكرَها وقبيحَها، ليردَّ عليهم مقالتهم، ويُعَلِّم المؤمنين معاملتَهم، كما قال في مُحْكَم الآيات: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13]، ولم يمنعْهُ علمُه بعنادِهم، من الاحتجاجِ عليهم، وإرسال (2) خيرِ كتاب ورسول إليهم، بل قال مستنكراً الإضرابَ (3) عن أعدائه من (4) الكافرين: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5].
ومِن أعظمِ ما أنزل الله تعالى في ذلك، قولُه تعالى: {فقُولا لَهُ
__________
(1) أخرجه البخاري (7416) ومسلم (1499) وأحمد 4/ 248 والدارمي 2/ 149 والبغوي (4372) كلهم من طريق عبد الملك بن عمير عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة عن سعد ابن عبادة مرفوعاً. وفي الباب: عن ابن مسعود عند مسلم (2760) (35). وعن الأسود بن سريع عند الطبراني في " الكبير " (836).
(2) في (أ): وإنزال.
(3) في (أ): للإضراب.
(4) ساقطة من (أ).(1/170)
قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، إذ (1) كان هذا بالرفق (2) بفرعونَ الذىِ نصَّ اللهُ تعالى على أنه طغى، وعلى أنه أراه آياتِهِ كُلَّها، فكذب وأبى، ومِنْ ثَمَّ كان اسمُهُ اللطيف الأسنى، ومن (3) أخصَّ أسمائه الحسنى، هذا ما لم يشتدَّ غضبُهُ، نَعوذُ بوجهه الكريم مِن غضبه، ومن مُقَارَفه مُوجبِهِ وسببهِ، ففي مثل تلك الحال يقول ذو العزةِ والجلال: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123].
وفي الحال الأخرى -وهي الغالبة-: {قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية: 14]، {وإذا خَاطبَهُمُ الجاهلُون قالوا سَلاماً} [الفرقان: 63]، {وأن تعفُوا أقْربُ للتقوى} [البقرة: 237]، {ويَدْرَؤنَ بالحَسَنَةِ السَّيِّئةَ} [الرعد: 22]، {ادْفَعْ بالَّتِي هِيَ أحْسَنُ} {المؤمنون: 96، وفصلت: 34]، {وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]، {والَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
ولا دليل على نسخ ذلك وأمثالهِ، مما وردت به السُّنَّة النبوية، وَوُصِفَتْ به الأخلاقُ المصطفوية، إلا توهمُ التعارض، ممن خَفِيَ عليه حُسْنُ اختلافِ الأمرين، عند اختلاف الحالين، كما نصره الإمامُ المهدي (4) في " عقود العِقيان في النَّاسخ والمنسوخِ مِن القرآن " (5).
__________
(1) في (أ): إذا.
(2) في (أ) في الرفق.
(3) سقطت الواو من (أ).
(4) في هامش (أ): محمد بن المطهر بن يحيى، وهو من أئمة اليمن، بويع بالخلافة عند موت والده سنة (690) هـ، وافتتح مواضع، منها: عدن، وله علم واسع غزير، مات في ذي مرمر سنة (728) هـ، انظر البدر الطالع 2/ 271.
(5) ويقع في جزئين، ومنه نسخة خطية نفيسة في خزانة الجامع الكبير بصنعاء، برقم: (58: تفسير).(1/171)
وذلك مِن مقتضى البلاغة عند علماء البيان، حيث يختلِف الحالان، ويفترِق المقامانِ.
ومِنْ ثََمَّ مدح الله تعالى المؤمنين بالعزَّةِ والذِّلة في آيةٍ واحدة (1)، وَقَرنَ الوعدَ بالوعيد، وأنزل الكتابَ والحديدَ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيَّ المَرْحَمَةِ والمَلْحَمَة (2)، وقال الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8 - 9].
ولا شكَّ أن صفة اللُّطف والرفق والرحمة هي الغالبةُ القوية في الكُتب السماوية، والأحوالِ النَّبوية، ومن ثمُّ تمدَّح اللهُ تعالى بأنه وَسِع كُلَّ شيءٍ رحمةً وعلماً، وبأن رحمة الله سبحانه وسعت كُلَّ شيء، وليس في وَعْده لأهل الصلاح بكتابتها؛ التي هي بمعنى إيجابِها لهم ما ينفي سعَتها لِغيرهم، بل هي لهم واجبة، ولغيرهم واسعة، وليس بين أوَّلِ الآية وآخرِها معارضَةٌ، ولم يَرِدْ مثلُ ذلك في الغضب ولا قريبٌ منه، وصحَّ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إنَّ الله تعالى كَتبَ كِتَاباً
__________
(1) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
(2) كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي موسى الأشعري عند مسلم (2355) وأحمد 4/ 395 و404 و407، والطبراني في " الصغير " 1/ 80 ومن حديث حذيفة عند أحمد 5/ 405، والترمذي في " الشمائل " (360)، والبغوي في " شرح السنة " (3631) وانظر " مجمع الزوائد " 8/ 284.(1/172)
ووَضَعَه عِنْدَهُ، فيه: إنَّها غلَبَتْ رَحمتي غضبي، وسبَقتْ رحمتي غضبي " (1). وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: " بَشِّروا ولا تُنَفِّروا " (2)؛ وقال في معرض الزجر والذم: " إنَّ منكم منفِّرين " (3).
والأحاديثُ والآثارُ في ذلك لا تُحصى، ويأتي لذلك تمامٌ في ذكر الداعي إِلى الترغيب والترهيب، في الكلام على سهولة الاجتهاد وتعسُّرِه، وهو يسير، وفي آخرِ الكلام في القدر، في تقدير الشرور، وبيان الحكمة والرحمة فيها وهو كثير مستوفى.
والقصدُ تنبيهُ ذوي الأفهامِ الذين يُغنيهم القليلُ عن التكثير والتطويل. فَزِنِ الأشياء بميزان الاعتدال، وجادِلْهم بالتي هي أحسن كما علَّم ذو الجلال.
__________
(1) أخرجه البخاري (7404) في التوحيد ومسلم (2751) في التوبة، وأحمد 2/ 258 و260 و313 و358 و381 و397 و433 و466، وابن ماجه (4295) في الزهد، والبغوي في " شرح السنة " (4177) و (4178) من طرق عن أبي هريرة، ولفظ مسلم: " لما قضى الله الخلق، كتب في كتابه على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي ".
(2) أخرجه البخاري (69) ومسلم (1734) من حديث أنس، وأخرجه من حديث أبي موسى الأشعرى أحمد 4/ 399 و412، والبخاري (3038) ومسلم (1732) و (1733) وأبو داود (4835) والبغوي (2475).
(3) قطعة من حديث مُطوَّل رواه البخاري (702) في الأذان، و (6110) في الأدب، و (7159) في الأحكام، ومسلم (466)، وأحمد 4/ 118 و119 و5/ 273، والدارمي 1/ 288، وابن ماجه (984)، والبغوي (884) كلهم من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي مسعود الأنصاري، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان، مما يطيل بنا، فما رأيت النبى - صلى الله عليه وسلم - غضب في موعظة قط أشدُ مما غضب يومئذ، ثم قال: " إن منكم منفرين، فأيكم أمَّ الناس فليوجز، فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة ".(1/173)
واعلم أن مِن لطائف الأنظار لذوي الأذهان، أنَّ الله سبحانه لما وضع الميزانَ، وهو ميزانُ المقادير على الصحيح، لا ميزانُ البُرهان، حرَّم الإخسارَ فيه والطُّغيان، فقال سبحانه في سورة الرحمن: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرَّحمن: 7 - 9]. وإذا كان هذا في ميزانِ الدِّرهم والدِّينار، اللذيْنِ هما من جنس الأحجار، وكانِزُهما المانِعُ حقوقَهما متوعَّدٌ بالنار، فما ظنَّك بالإخسار والطُّغيان في ميزان البُرهان، الذي يُعْرَفُ به الدَّيَّان، وتُحفظ به الأديان.
والصَّلاة والسَّلام الأتَمَّانِ الأكملانِ على نبيِّهِ ورسوله وحبيبِه وخليلِه، الذي مدحه الله العظيمُ، ووصفه في الذكر الحكيم بالخُلُق العظيم، وأنَّه بالمؤمنين رؤوف رحيم، المخصوصِ مِن بين الأنبياء بالخمسِ الفضائل (1)، المسموحِ له -يومَ قابَ قوسين أو أدنى- ما زاد على الخمس الفواضِلِ: سَيِّدِ ولدِ آدمَ يوم القيامة في المقامِ المحمود، وحاملِ لواء الحمد في اليوم الموعود، صاحِبِ السَّبع المثاني والكوثرِ (2)، والشفاعةِ
__________
(1) روى البخاري (335) فىِ التيمم، ومسلم (521) في أول المساجد من حديث جابر بن عبد الله مرفوعاً: " أُعطيت خمساً لم يُعطهن أحدٌ قبلي: نصرت بالرعب من مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة ".
(2) مقتبس من قوله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] وقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، وقد فسر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الكوثرَ بأنه نهر في الجنة، حافتاه: الذهب، ومجراه: الدر والياقوت .. ، رواه عن أنسٍ البخاريُّ (6581) وأحمد 3/ 103 و115، والترمذي (3357)، وعن ابن عمر أحمدُ 2/ 112، والدارمي 2/ 337، والترمذي (3358) وابن ماجه (4334) وإسناده صحيح.(1/174)
العُظمى يومَ المحشر، المبعوثِ بالحنيفية السَّمحة (1) إلى الأسودِ والأحمرِ (2)، المنعوتِ بأنَّه خيرُ الناس نِصاباً، الموعودِ -مَنْ أعْرَضَ عن سنته- بالصَّغار عقاباً (3)، الذي لا يُفتح لأحدٍ قبلَه أبوابُ الجنان، ولا ينامُ قلبُه وإن نامت منه العينانِ (4)، الذي وجبت له النبوةُ وآدمُ بين الجسدِ
__________
(1) أخرج أحمد بسند قوى 6/ 116 و233 من حديث عائشة مرفوعاً: " ... أني أرسلت بحنيفية سمحة" وله شاهد من حديث ابن عباس عند أحمد 1/ 236 بلفظ: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي الأديان أحب إلى الله؟ قال: " الحنيفية السمحة " ورجاله ثقات، وعلقه البخاري في " صحيحه " 1/ 93 في الإيمان، باب الدين يسر، ووصله في " الأدب المفرد " (287) وحَسَّن إسناده الحافظ في " الفتح "، وآخر عن أبي أمامة عند أحمد 5/ 226 والطبراني (7868) ولا بأس بإسناده في الشواهد، وثالث عن جابر عند الخطيب في " تاريخه " 7/ 209 وابن النجار في " ذيل تاريخ بغداد " 3/ 5 من المطبوع وسنده ضعيف، ورابع عن حبيب بن أبي ثابت مرسلاً عند ابن سعد في. الطبقات " 1/ 292، فالحديث صحيح بها، ولقد ضعفه الشيخ الألباني في " غاية المرام " (20 و21 و22) فأخطأ.
(2) بهامش (أ) ما نصه: رواه البخاري في ترجمة باب من حديث ابن عمر، وذكره ابن الأثير في الفضائل من حرف الفاء، ويشهد له من كتاب الله تعالى: {سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا} وقوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} تمت من خط المصنف رحمه الله تعالى. وقوله: رواه البخاري في ترجمة باب من حديث ابن عمر. لم نقف عليه في صحيحه، ويغلب على الظن أنه وهم، نعم أورده ابن الأثير في جامع الأصول 8/ 528 - 529 الطبعة الشامية من حديث جابر بن عبد الله، ونسبه إلى البخارى والنسائي ومسلم، وهو عند مسلم (521) في المساجد فقط باللفظ الذي ذكره المصنف، ولفظ البخاري (335) والنسائي 1/ 210: وكان كل يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة. ولفظ مسلم أخرجه أحمد 1/ 250 و301 من حديث ابن عباس، وأخرجه الدارمي 2/ 224، وأحمد 5/ 145 و148 و161 من حديث أبي ذر، وهو في " المسند " 4/ 416 أيضاً من حديث أبي موسى الأشعري.
(3) اقتباس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد اللهُ وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعل الذلةُ والصِّغَار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم " رواه أحمد 2/ 50 و92، وسنده حسن، وجّوَّد إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " (ص 39)، وصححه الحافظ العراقي في " تخريج الإحياء " وحسنه الحافظ في " الفتح " 10/ 32.
(4) في البخاري (1147) ومسلم (738) و" الموطأ " 1/ 120، و" المسند " =(1/175)
والرُّوح (1)، ووعده ربُّه سبحانه أن يُرضِيَه في أمَّته حين فاض لِرحمتهم دَمْعُهُ المسفوح، الذي استخرح لنا شفيعٌ {وأمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} من كنوز فضائله، ونفيسِ خصائصه: قولَه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عباس: " أنَا حبيبُ اللهِ ولا فخر، وأنا حامِلُ لِوَاءِ الحمدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فخر، وأنا أول شَافِع وأوَّل مُشفَّع يومَ القيامة ولا فخر، وأنا أوَّل مََنْ يُحَرِّكُ حِلَقَ الجنةِ، فيفتح الله لي فيُدخلنيها، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر" (2). وحديث. " ولكنَّ صاحبَكم خليلُ الله " (3). وفي حديثِ الخُدْرِي: " أنَا سيِّد وَلَدِ آدمَ وَلا فخر، وبيدي لِواءُ الحمدِ ولا فخر، وما مِن نبيٍّ -آدمَ فمن سِواه- إلا تحتَ لوائي، وأنا أوَّلُ من تنشق عنه الأرضُ ولا فخر " (4). وفي حديث أنس: "أنَا أوَّلُ النَّاسِ خروجاً إذا بُعِثُوا، وأنَا
__________
= 6/ 36 و73 و104، وسنن أبي داود (1341)، والترمذي (439) والنسائي 3/ 234، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: " إن عينيَّ تنام ولا ينام قلبي "، وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد 1/ 220، وعن أبي هريرة 2/ 251 و438، وعن أبي بكرة 5/ 40 و50.
(1) أخرج أحمد 5/ 59 وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 53 وابن الأثير في "أسد الغابة" 5/ 285 من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن منصور بن سعد عن بُديل عن عبد الله بن شقيق عن ميسرة الفجر، قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نبياً؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد " وهذا إسناد صحيح، ورواه ابن سعد في " الطبقات " 7/ 60 من طريق معاذ بن هانىء عن إبراهيم بن طهمان عن بُديل به، وله شاهد عن ابن عباس عند الطبراني (12571) و (12646) والبزار (2364) (زوائده) وانظر " المجمع " 8/ 223.
(2) أخرجه الترمذي (3616) والدارمي 1/ 26 في المقدمة، وفي سنده زمعة بن صالح الجندي، وهو ضعيف، وباقي رجاله ثقات، ولِعُظْمِهِ شواهد ستأتي عند المصنف.
(3) هو قطعة من حديث عند مسلم (2383) والترمذي (3655) وابن ماجه (93) وأحمد 1/ 377 و389 و409 و433 والبغوى في " شرح السنة " (3867) كلهم من طريق أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود.
(4) أخرجه أحمد 3/ 2 والترمذي (3618) وابن ماجه (4308) من حديث أبي سعيد، وهو في " المسند " 1/ 281 و282 و295 و296 من حديث ابن عباس، وفي سندهما علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، لكنْ له شاهد صحيح يتقوى به من حديث =(1/176)
خطيبُهم إذا وَفَدوا، وأنا مُبَشِّرُهم إذا يَئِسُوا، ولِوَاءُ الحمدِ يومئذٍ بيدي، وأنا أكرمُ ولدِ آدمَ على ربِّي ولا فخر" (1). وفي حديث أُبي بنِ كعب: " إذا كَاَن يوم القيامة كنتُ إمامَ النبيين، وخطيبَهم، وصاحبَ شفاعتهم، غيرَ فخر " (2). وفي حديث أبي هُريرة: " أنا سيِّدُ ولدِ آدَمَ، وأوَّلُ شافعٍ، وأوَّلُ مُشَفع، وأوَّلُ مَنْ تنشقُّ عنه الأرضُ، فأُكسى حُلَّةً من حُلَلِ الجَنَّةِ، ثم أقومُ عن يمين العرش، فليس من الخلائق يقومُ ذلك المقامَ غيري " (3). فعليه أفضلُ الصَّلاةِ والسلامِ، على الدَّوام.
وعلى آلهِ الذين أمرَ بمحبتهم، واختصَّهم للمُباهلةِ (4) بهم، وتلا آية التطهير (5) بسببهم، وبشَّر مُحبِّيهم أن يكونوا معه، في درجته يومَ القيامة، وأنذز محاربيهم بالحرب، وبشَّر مسالميهم بالسَّلامة، وشرع الصلاةَ عليهم
__________
= أنس بن مالك عند أحمد 3/ 144، وآخر من حديث عبد الله بن سلام عند ابن حبان (2127).
(1) أخرجه الترمذي (3610) والدارمي 1/ 26 و27، وحسنه الترمذي مع أن فيه ليث ابن أبي سليم وهو ضعيف لسوء حفظه، فلعله حسنه لشواهده.
(2) أخرجه الترمذي (3613) في المناقب، وابن ماجه (4314) في الزهد، وأحمد 5/ 137 و138، وسنده حسن.
(3) أخرجه إلى قوله: " .. وأول من تنشق عنه الأرض .. " مسلم (2278) في الفضائل، وأبو داود (4673) في السنة، وأحمد 2/ 540، وأخرجَ القطعة الأخيرة منه الترمذيُّ (3611) المناقب، وحسنه، مع أن في سنده أبا خالد الدالاني، واسمه يزيد، وهو كثير الخطأ.
(4) قال ابن الأثير في " النهاية ": والمباهلة: الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منَّا. وانظر مباهلةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لوفد نصارى نجران في " تفسير ابن كثير " 2/ 40 - 45 في تفسير الآية (61) من سورة آل عمران.
(5) وهي قوله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} وانظر الأحاديث الواردة في ذلك في " تفسير ابن كثير " 6/ 407 - 411 طبعة الشعب.(1/177)
معه في كُلِّ صلاة، وقَرَنَهُمْ في حديث الثقلين (1) بكتاب الله، ووصى فيهم، وأكَّدَ الوصاة، بقوله: " الله، الله ". خرَّجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي وسِواه: بشراه لذوي قُرباه، إنهما لن يفترقا حتى يلقياه.
ولمَّا أهَبَّ اللهُ سبحانَه لهم أرْوَاحَ الذِّكرِ المحمود في جميعِ الوجود، بذكرهم في الصلواتِ الإلهية، ومع الصلواتِ النبوية، فلازم ذكرهم الصلوات الخمس، والصلاة على خيرِ مَنْ طلعت عليه الشَمس. كان ذلك إعلاناً ممن له الخلقُ والأمرُ، وإعلاماً مِمن لا يُقَدِّرُ لجلاله قَدْرٌ، أنَّهُ أراد أن يَهُبَّ ذكرُهم مَهَبِّ الجَنُوب والقَبُولِ (2)، وأن لا يُنسى فيهم عظيمُ حق الرسول، لا سِيَّما وقد سبق في علمه سبحانه: أن
__________
(1) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - حديث طويل: " ... وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: " وأهل بيتي، أُذَكَّركم الله في أهل بيتي " ثلاثاً، رواه مسلم (2408) وأحمد 4/ 366 و371، والدارمي 2/ 432، والفسوي في " تاريخه " 1/ 537، والطبراني في " الكبير " (5028) و (5040) عن زيد بن أرقم، وعنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي: أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض " رواه الحاكم 3/ 148 وصححه ووافقه الذهبي، والطبراني في " الكببر " (4980) والفسوي في " المعرفة والتاريخ " 1/ 536، وهو صحيح، ورواه الترمذي (3788) وقال: حسن غريب، أي بشواهده، فإن في سنده عطية العوفي، وهو ضعيف، وفي الباب عن زيد بن ثابت عند أحمد 5/ 181 و199 والطبراني في " الكبير " (4921) و (4922) و (4923) وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد 3/ 14 و17 و26 و59، وسنده حسن بالشواهد، وعن جابر عند الترمذي (3786) والطبراني (2678 - 2680) وفيه زيد بن الحسن الأنماطي وهو ضعيف، لكنه يتقوى بشواهده، وانظر " مجمع الزوائد " 9/ 165، وعن حذيفة بن أسيد عند الطبراني في " الكبير" (2683) و (3052) قال الهيمثي في " المجمع " 9/ 165: وفيه زيد بن الحسن الأنماطي، قال أبو حاتم: منكر الحديث، ووثقه ابن جان، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات، وانظر " المجمع " 10/ 363.
(2) في (أ): القَبُول والجَنُوب، والقبُول من الرياح: الصَّبا، لأنها تستدبر الدَّبُور، وتستقبل باب الكعبة، والجَنُوب: ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة.(1/178)
الأشراف لا يزالون مُحَسَّدين (1)، وأن الاختلاف والمعاداة فتنةُ هذه الأمة إلى يوم الدين.
وكذلك، فإنه لمَّا علم ما سيكون من استحلال حُرمَتِهِمُ العظيمة، وسفكِ دمائهم الكريمة، أذِنَ بأنَّه حرب لمن حاربهم، وسِلمٌ (2) لمن سالمهم، وقَرنهم بالكتاب المجيد، ووصَّى فيهم من كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد.
وهذا الكتاب لا يّتَّسِعُ لذكر فضائل ذوي القربى، فعليك أبها السُّنِّي بمطالعتها في كتاب " ذخائر العُقبى " (3)، وأمثالِه من الكتب المجرَّدةِ لذكر فضائلهم المشهورة، ومناقبهم المأثورة، وكراماتِهم المشهودة، وسِيَرِهم المحمودة، وفي تراجم أئِمتَّهِم السَّابقين، في كتب أئِمة الحديث العارفين.
وعلى أصحابِه أجمعين مِن الفقراء المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 8 - 10].
__________
(1) اقتباس من قول الشاعر أنشده الزمخشري في أساس البلاغة
إن العَرانِينَ تلقاها مُحَسَّدَةً ... ولا ترى لِلئام الناسِ حُسَّادا
(2) الواو ساقطة من (أ).
(3) هو للشيخ العلامة أحمد بن عبد الله بن محمد، محب الدين الطبري، المتوفى سنة (694) هـ، وقد طبع في دار الكتب العراقية في بغداد سنة (1967) م.(1/179)
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا (1) الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
{وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
و" مِنْ " ها هنا لِبيان الجنس، لأن لفظةَ "بعضٍ" لا تَصلُحُ مكانَها. فما أكرمَ قوماً ذُكِروا في التَّوراة والإنجيل والقرآن، وَوُصفوا بالسَّبق والهجرة والنُّصْرَة والإيمان، أولئك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين صَدَعتْ مَمادحُ الوحي قرآناً وسُنَّةً، بأنَّهم خيرُ الناس وخيرُ القرون، وخيرُ أُمَّة. ولو لم يَرد من فضائلهم الشريفة، إلا حديثُ " ما بلغَ مُدِّ أحدهم ولا نصيفه " (2).
__________
(1) هي قراءة عبد الله بن كثير المكي، المتوفى سنة (120) هـ وكذلك هي في مصحف أهل مكة وقرأ الباقون: {تَحْتَها} بحذف " مِنْ " ونصب " التاء "، وكذلك هي في جميع المصاحف غير مصحف أهل مكة، انظر " حجة القراءات " (ص: 322) لابن زنجلة، و" زاد المسير " 3/ 491، و" الكشف عن وجوه القراءات " 1/ 505.
(2) حَذَفَ المُصنفَ الجوابَ للعلم به، أي: لكفاهم بذلك فخراً، وهو من بابة قوله تعالى في سورة الرعد، الآية: 32: {ولو أنَّ قرآنا سُيرت به الجبالُ أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً}، انظر " زاد المسير " 4/ 330 بتحقيقنا.
والحديث بتمامه: " لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه " أخرجه البخاري (3674) ومسلم (2540) والترمذي (3860) وأبو داود (4658) وأحمد 3/ 511، وابن أبي عاصم (988) والبغوي (3859) كلهم =(1/180)
ولَمَّا علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم -أنْ سوف تُجهلُ حقوقهم، ويُستحلُّ عقوقُهم- حذَّرَ من ذلك وأنذر، وبالغ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وأكثر. ولو لم يَرد في ذلك إلاَّ قولهُ صلى الله عليه وآله وسلم: " الله، الله في أصحابي، لا تتَّخِذُوهُمْ غرَضَاً بَعْدي منْ أحبَّهم فَبِحُبي أحبَّهم، ومَنْ أبَغَضهم فَببُغضي أبغضهم، ومَنْ آذاهُم، فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى اللهَ، فَيُوشِكُ أن يأخذه " (1).
وقولهُ صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا رأيْتُمُ الَّذِينَ يَسُبُّونَ أصحابي، فَقُولُوا: لعنةُ اللهِ على شَرِّكم " (2).
فيا لَه مِن قصاص ما أنصَفَهُ، وجزاءٍ ما أعدله، فخذها أيها السُّنّي ممن أُوتي الكلم الجوامع، والحجج القواطع.
فَرَضِيَ اللهُ عَن السابقين منهم واللاَّحقين، والمتبوعينَ منهم والتابعين، من أهلِ الحرمين، والهِجْرَتيْنِ، والمسجدَيْنِ، والقبلتين، والكِتابين، والبيعتين (3)، والأربعةِ والعشرة، وأهلِ بدرٍ البررة، والذين
__________
= من حديث أبي سعيد الخدري، ورواه من حديث أبي هريرة مسلمٌ (2541) وابن ماجه (161).
(1) أخرجه أحمد 4/ 87 و5/ 54 و57 والترمذي (3861) في المناقب؛ والبغوي (3860) وأحمد في " فضائل الصحابة " (1) و (2) و (3) و (4) والبخاري في " التاريخ الكبير " 3/ 1/131 والخطيب في " تاريخه " 9/ 123 وأبو نعيم في الحلية 8/ 287 وابن أبي عاصم (992) من حديث عند الله بن مُغَفَّل المزني، وفيه عبد الرحمن بن زياد، لم يوثقه غير ابن حبان على عادته في توثيق المجاهيل، ومع ذلك فقد حَسَّنه الترمذي، وصححه ابن حبان (2284).
(2) أخرجه الترمذي (3866) في المناقب، من طريق النضر بن حماد عن سيف بن عمر عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، والنضر بن حماد ضعيف وكذا شيخه، وقال الترمذي: هذا حديث منكر لا نعرفه من حديث عبيد الله بن عمر إلا من هذا الوجه.
(3) الحرمان: مكة والمدينة، والهجرتان، هجرة الحبشة وهجرة المدينة، =(1/181)
تبوَّؤا الدار والإيمان، وأهلِ العشرين الغزوة والثمان (1). وعن البعوثِ والجنودِ، وأهلِ حِجَّةِ الودَاع والوفود.
وعن الذين جاؤوا منْ بعدهم يقولون: ربَّنا اغْفِرْ لنا ولإخواننا الَّذينَ سبقونا بالإيمان ولا تَجْعَلْ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربَّنا إنك رؤوف رحيم.
فعليك أيُّها السُّنِّي بمطالعة " الرياض النضرة في فضائل العشرة " (2) وأمثاله. ومِنْ أحسنِ ما صُنِّفَ في هذا: كتاب الدارقطني " في ثناء الصحابة على القرابة، وثناءِ القرابة على الصحابة " (3).
وذكرَ الحافظُ العلامةُ ابنُ تيمية: أنَّ الذي روى ما يُناقِض (4) ذلك " يهودي "، أظهر الإسلامَ لتُقْبَلَ أكاذيبُه، ثم وضع تلك الأكاذيبَ، وبثَّها في النَّاس.
فيا غوثاه ممن يَقْبَلُ مجاهيلَ الرواة في انتقاص خَيْرِ أمَّةٍ بنصِّ كتاب الله (5)، وخيرِ القرون بنصِّ رسول الله (6)! فحسبُنا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
__________
= والمسجدان: مسجد مكة ومسجد المدينة، والقبلتان: الكعبة والمسجد الأقصى، والبيعتان: بيعة العقبة وبيعة الرضوان والكتابين: الإنجيل والقرآن.
(1) انظر في التعريف بهذه الغزوات " جوامع السيرة " لابن حزم تحقيق إحسان عباس وناصر الدين الأسد ومراجعة الأستاذ العلامة المحدث الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله.
(2) وهو مطبوع في مصر بعناية جمعية نشر الكتب العربية، سنة (1923) م.
(3) في ظاهرية دمشق قطعة من كتاب للدارقطني موسوم بـ " فضائل الصحابة ومناقبهم " كُتب سنة (614) هـ، انظر " فهرس مخطوطات الظاهرية " علم التاريخ 170.
(4) في (أ): ناقض.
(5) وهو قوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110].
(6) وهو ما رواه البخاري (2651) في الشهادات، ومسلم (2535) والترمذي =(1/182)
ولعلَّ كتابَ الدارقطني هذا مِن أَنفس المصنفات، فإنَّهُ لا يجتمع حُبُّ الأصحاب والآل، إلا في قلوب عقلاء الرجال.
ورضي اللهُ عن هذه الأُمةِ الكريمة، السَّابقةِ على تأَخُّرِها (1)، المرحومةِ الشهداء العُدول، المُشَبَّهين بالملائكة في الشهادة والقبول، الغُرِّ المُحَجَّلين، الشفعاءِ المشفَّعين، الذين أوتوا من الأجر في المُدَّةِ القليلة، مِثْلَ ما أوتيَ منْ قبلهم في الأعمارِ الطويلة، الذين أوجب اللهُ بشهادتهم (2) إحدى الدارين (3) واسْتُحِقَّت الجنةُ خاصةً بشهادة أربعةٍ منهم أو ثلاثةٍ أو اثنين (4)، المرفوع عنهم الخطأُ والإكراهُ والنسيانُ. واستقر بشراهم في
__________
= (2221) وابن حبان (2285) وأحمد 4/ 426 من حديث عمران بن حصين مرفوعاً: " خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم .. " وفي الباب عن عبد الله بن مسعود عند البخاري (2652) ومسلم (2533) وابن ماجه (2362) وأحمد 1/ 375 و417 والخطيب في " تاريخه " 12/ 53، وعن أبي هريرة عند مسلم (2534).
(1) اقتباس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب مِن قبلنا " أخرجه من حديث أبي هريرة البخاريّ (876) ومسلم (855).
(2) في (ب): شهادتهم.
(3) في (أ) فوق كلمة " الدارين ": الجنة أو النار. وأخرج البخاري (1367) و (2642) ومسلم (949) من حديث أنس بن مالك قال: مَرُّوا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: " وجبت " فقال عمر بن الخطاب: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهدا أثنيتم عليه شراً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض " قال الحافظ: أي المخَاطَبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكى ابن التين أن ذلك مخصوص بالصحابة لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف مَن بعدهم، وأخرجه أيضاً الترمذي (1058) والنسائي 4/ 49 وابن ماجه (1491) وأحمد 3/ 186 و197 و245 و281، وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 261 و498 و499 و528 وابن ماجه (1492).
(4) أخرج البخاري في " صحيحه " (2643) في الشهادات من حديث عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة "، قلنا: وثلاثة؟ قال: " وثلاثة " قلت: واثنان؟ قال: " واثنان " ثم لم نسأله عن الواحد.(1/183)
نصوص السُّنةِ والقُرآن بتكفيرِ ذنوبهم بما جرى بينهم في دنياهم من الفتنة (1) والقتال، وسائر المصائب والأوجال، بمشيئة ذي الطول والإفضال بشهادة آية التخوف، ومقبول الأحاديث عند فرسان الاستدلال، المعصومةِ (2) من الاجتماع على الضَّلال (3)، فلا تزالُ طائفةٌ منهم على الحق، حتى يُقاتِل آخِرهُم الدَّجال (4). الموعودين في الكتاب المسطورِ، بالإخراج من الظُّلماتِ إلى النور، المسْتغْفِرِ لهم ملائكةُ الرحمن، بنصوص السُّنة والقرآن، الشاهد لهم بحُبِّ الله مطلق الاتباع، وادخار الدعوة المقبولة، وخير شفيع مطاع، المُنْعَمِ عليهم بلزوم خوفه، المبلِّغ لهم بعدَ الموت إلى الأمان، لشهادته بالإيمان، بدليل تعليقه في القرآن بخوف الرحمن، المبشرين بكونهم نصفَ أهلِ الجنة (5)، بل ثُلُثيهم (6)، مع كثرة من تقدم
__________
(1) في (أ): من القتل والقتال.
(2) في (أ): المعصومين.
(3) أخرج الترمذى (2168) في الفتن: باب في لزوم الجماعة، من حديث ابن عمر مرفوعاًً: " إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة " وفيه سليمان بن سفيان وهو ضعيف، لكنْ له شاهد عند الحاكم 1/ 116 بسند صحيح من حديث ابن عباس، وآخر عن أبي مالك الأشعري عند أبي داود (4253) وإسناده منقطع، وعند ابن أبي عاصم (82) وفيه عنعنة الحسن، وسعيد بن زربي منكر الحديث، وثالث عن أنس بن مالك عند ابن أبي عاصم (83) و (84) وإسناده حسن في الشواهد، ورابع عن أبي مسعود موقوفاً عند ابن أبي عاصم (85) بإسناد جيد، ورواه الطبراني أيضاًً من طريقين إحداهما رجالها ثقات، كما قال الهيثمي في " المجمع " 5/ 219، وانظر ما قاله السخاوي في " المقاصد " (460) فإنه مهم.
(4) أخرج أبو داود (2484) وأحمد 4/ 434 و437 والحاكم 4/ 450 بإسناد صحيح عن عمران بن حصين مرفوعاً: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال ".
(5) أخرج البخاري (6528) ومسلم (377) (221) من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قبة فقال: " أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة "؟ قلنا: نعم، قال: " أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة "؟، قلنا: نعم، قال: " أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة "؟ قلنا: نعم، قال: " والذي نفس محمد بيده، إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ".
(6) أخرجه أبو نعيم في " الحلية " 7/ 101، وفي سنده ضعف، لكن الحديث الآتي بعده يشهد له.(1/184)
من الأُمم عليهم، وقلَّتهم بالنظر اليهم. فأتقن طرق النقاد في حديث: " أمتي منهم ثمانون صَفَّاً " (1)، وحديث: " الثلاث الحَثَيَات، بعد السبعين ألفاً مع كُلِّ ألفٍ سبعون ألفاً " (2). وحديث: " إنَّ ما بين مِصْرَاعينِ مِن باب واحد -من ثمانية أبواب- مِثْلُ ما بَيْنَ مكَّةَ وبُصرى " (3).
عطاءً بغير حساب، ثم إنَّهم يتضاغطون عليه، حتى تكادُ مناكبُهم تزول، فتدبَّر هذا بالمعقول، إن كنت من أهل القبولِ، لِما صحَّ عن الرسول.
فابذلْ جهدَك في نُصحهم، والتأليف بين قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولو بينَ اثنينِ منهم.
وتأمل قول الله تعالى حيثُ يقول: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى
__________
(1) أخرج الترمذي (2546) وابن ماجه (4289) والدارمي 2/ 377 وأحمد 5/ 347 من حديث بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أهل الجنة عشرون ومئة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون من سائر الأمم " وإسناده صحيح، ورواه أحمد 1/ 453 وأبو يعلى 249/ 2 والبزار 1/ 305 كالطبراني في " الكبير " (10398) وفي " الصغير " 1/ 34 وفي " الأوسط " (481) عن ابن مسعود، وله شواهد منها: عن أبي موسى عند الطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وفي سنده سويد بن عبد العزيز، وآخر عن ابن عباس عند الطبراني في " الكبير " (10682) وفيه خالد بن يزيد الدمشقي، وثالث من حديث معاوية بن حيدة عند الطبراني، وفيه حماد بن عيسى الجهني، وانظر " مجمع الزوائد " 10/ 403.
(2) لفظ الحديث بتمامه: " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً لا حساب عليهم، ولا عذاب، مع كل ألفٍ سبعون ألفاً، وثلاث حثيات من حثيات ربي " أخرجه أحمد 5/ 268 والترمذي (2439) وابن ماجه (4286) وابن أبي عاصم (589) عن أبي أمامة، وفي سنده إسماعيل بن عياش، وهو صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذا منها، فهو صحيح، وله طريق آخر عند ابن أبي عاصم (588) وأحمد 5/ 250 بسند صحيح، وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 359 وعن أبي بكر عند أحمد أيضاًً (22) وفي سنده مجهول، وعن ثوبان عنده أيضاً 5/ 280 و281 والطبراني في " الكبير " (1413) وسنده حسن، وانظر " مجمع الزوائد " 1/ 407 و410.
(3) هو قطعة من حديث الشفاعة الطويل، رواه البخاري (4712) ومسلم (194) وأحمد 2/ 435 والترمذي (2436) والبغوي (4332) من حديث أبي هريرة.(1/185)
بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]. وأمثالَها مِن كتاب الله تعالى، كما يأتي قريباً. وقولَه في حَقِّ البُغاة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] وقولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقِّهم أيضاًً: " إنَّ ابْنِي هذَا سَيِّدٌَ، وَأرْجُو أنْ يُصْلحَ اللهُ بهِ بَيْنَ فِئَتيْنِ عَظِيمَتيْنِ مِنَ المُسْلِمِيْنَ " (1).
وإذا نقلتَ مذاهبَهم، فاتَّق الله في الغَلَطِ عليهم، ونسبةِ ما لم يقولوه إليهم، واستحضر عندَ كتابتك ما يبقى بعدَك: قولَه عز وجلْ: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} [يس: 12].
وَلا تَكتُبْ بِكفِّكَ غَيْرَ شَيءٍ ... يَسُرُّك في القِيَامَةِ أنْ تَرَاهُ
واطَّرِحْ قوْلَ مَنْ كفَّرهم بغيرِ دليل شرعي متواترٍ قطعي، إن كنتَ ممن يسمع ويَعي، وحَقِّقِ النظر في شروطِ هذه الصورة، تَعْلَمْ أنها لا تكونُ إلا في المعلوم مِن الدين بالضرورة، كما سيأتي تحقيقُ ذلك، عند سلوكِ هذه المسالك، وإيَّاكَ والْاغَتِرَارَ بـ " كُلُّهَا هَالِكَةٌ، إلاَّ وَاحِدَةً " (2) فإنها زيادةٌ فاسدة، غيرُ صحيحةِ القاعدة لا يُؤْمَنُ أن تكونَ مِن دسيسِ الملاحَدِة.
وعن ابن حزم (3): أنها موضوعة، غير موقوفة ولا مرفوعة، وكذلك جميعُ ما ورد في ذم القَدَرِية والمرجئة والأشعرية، فإنها أحاديث ضعيفةٌ غيرُ
__________
(1) رواه البخاري (2704) والترمذي (3775) وأبو داود (4662) والنسائي 3/ 107 والبغوي (3934) وأحمد في " المسند " 5/ 37 و49 وفي " فضائل الصحابة " (1354) وعبد الرزاق في " المصنف " (20981) والطبراني في " الكبير " (2588) من حديث أبي بكرة.
(2) وللعلامة المقبلي رحمه الله تنقيدٌ على كلام المؤلف هذا في كتابه " العَلَم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ " ص 414 فارجع إليه.
(3) هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي المتوفى سنة (456) هـ وهو صاحب " المحلى " و" الفِصَل " و" الأحكام " وغيرها من التواليف الجيدة.(1/186)
قوية. ذكر ذلك الحافظُ زينُ الدين، أبو حفص، عُمَرُ بنُ بَدر المَوْصِلي (1) في كتابه: " المغني عن الحفظ من الكتاب، بقولهم: لم يصح شيء في هذا الباب " (2). ونقل عنه الإمام الحافظ العلامة: ابن النحوي (3) الشافعي، في كتاب له، اختصرَ فيه -كتاب الحافظ زين الدين- وفي كليهما نقلٌ عن المحدثين، حيث قالا بقولهم: " لم يصح شيءٌ في هذا الباب ". فالضمير في " قولهم " راجع إلى أهل الفن -بغير شك- وهما من أئِمَّة هذا الشأن، وفرسان هذا الميدان.
وأين هذه الأحاديث من الدليل الذي شرطناه، وأين هو من مُلاءمَةِ كتاب الله، وسنةِ رسول الله، عليه أفضلُ السلام والصلاة: قال الله سبحانه: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] وقال: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] وقال تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286].
وصح في تفسيرها: أن الله تعالى قال: " قد فعلت " من حديث
__________
(1) المولود بالموصل سنة (557) هـ، وله في الحديث والرجال مؤلفات تنبىء عن كونه عالماً بهدا الفن منها: " الجمع بين الصحيحين " و" استنباط المعين في العلل والتاريخ لابن معين " وغيرهما، توفي بدمشق سنة (622) هـ، " شذرات الذهب " 5/ 101.
(2) ص 19، وقد طُبع في القاهرة سنة (1342) هـ، بتعليق العلامة المتفنن الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله، وهو ملخص من " موضوعات " ابن الجوزي، وللعلماء عليه وعلى أصله الذي أخذه منه مؤاخذات وتنقيدات، وقد تعقبه السيد حسام الدين القدسي، في كتاب سماه " انتقاد المغني وبيان أنْ لا غنى عن الحفظ والكتاب " طبع في مطبعة الترقي وقدم له العلامة الشيخ الكوثري رحمه الله بدمشق سنة (1343) هـ.
(3) هو عمر بن علي بن أحمد الأنصاري الشافعي، المعروف بابن الملقن، من أكابر العلماء، توفي سنة (804) هـ، " ذيل تذكرة الحفاظ " (197 و369) و" الضوء اللامع " 6/ 100.(1/187)
ابن عباس (1)، ومِن حديث أبي هريرة (2)؛ ولفظ أبي هريرة قال: " نعم "، والأول: لفظ ابن عباس. خَرَّجهما مسلم، وخرج الترمذي: حديثَ ابنِ عباس، وأشار إلى حديثِ أبي هريرة. وسيأتي الكلامُ على طرقهما -إن شاء الله تعالى- في مسألة الأفعال.
وقال في قتل المؤمن، مع التغليظ فيه: {وَما كَانَ لِمؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَاً إلا خَطَئاً ... } إلى قوله: {وَمَنْ يقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّداً ... } [النساء: 92 - 93] وقال تعالى في قتلِ الصيد: {فَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ... } [المائدة: 95].
وممَّا يُقارِبُ هذه الآياتِ، ويشهد لمعناها: قولُه تعالى: {لا يُكلِّفُ اللهُ نفْسَاً إلا وُسْعَها ... } [البقرة: 286]، وفي آية: {لا نُكَلِّف نفساً ... } [الأنعام: 152]، بالنون. وفي آية: {إلا ما آتاها} [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله: {وَمَا جَعَل عَلَيْكُم في الدِّين مِن حَرَجٍ ... } [الحج: 78]. وإلاحتراز مما دَقَّ وتَعَسَّر، ليس في وُسْعِ أكثرِ البشر.
وأما قولُه تعالى: {أن تَحْبَطَ أعمالُكم وأنتُم لا تشْعُرُون} [الحجرات: 2] فالظاهر أن التقدير: لا تشعرون بإحباطها، لا بالذَّنْب
__________
(1) رواه مسلم (126) وأحمد 1/ 233 والحاكم 2/ 286 والترمذي (2992) وابن جرير (6457) وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 1/ 374 وزاد نسبته للنسائي وابن المنذر والبيهقي في " الأسماء والصفات ".
(2) رواه مسلم (125) وأحمد 2/ 412 وابن جرير (6456) والبيهقي في " الشعب " 1/ 221 وذكره السيوطي في الدر 1/ 374 وزاد نسبته لأبي داود في " ناسخه " وابن المنذر، وابن أبي حاتم.(1/188)
في فِعكلم، لأن المفعولَ إذا حُذف، قُدِّر من جنس الفعل المذكور، والفعل المذكور -هنا- قولُه: أن تحبط. فافهم ذلك.
وأما رسولُ الله، عليه أَفْضُلُ السَّلام والصلاة، فإنَّه شرع بينَ المسلمين المؤاخاة، وغلَّظ في المهاجرة والمنافاة، والتكفير والمعاداة، فَكَفَّرَ مَنْ كَفَّرَ أخاه.
فرحم اللهُ من اعتبر، وأََنصف في النظر، والرحمةُ -إن شاء الله- إلى مَنْ بذل الجهْدَ حين تعثَّر، فيما وجب من دقائق النظر أقربُ منها إلى مَنْ أفطر أو قَصَّر، لمشقة السَّفر.
فَمِنَ البعيدِ أَن يُسمح لهذا أَمر مقدور، ويكون ذاك فيما يقدر عليه غيرَ معذور. وقد بشر (1) رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما ثبت في " الصحيحين " (2) بالمغفرة في كل خميس واثنين لجميع أهل الشهادثين، إلا المتهاجِرين.
وقالَ: " بِحَسْبِ امْرىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْقِرَ أخَاهُ " (3). حيث كان لا يعلم ما أَخفي قلبُه من تقواه، فإن التفاوت العظيم هو في تقوى القلب الذي لا يراه.
وأَيَّدَ ما ورد من العفو عن المخطىء منهم: ما صححه غيرُ واحد مِن أََئمةِ الرواة.
__________
(1) في (أ): نبه.
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلمٌ (2565) والترمذي (2023) وأحمد 2/ 329 وابن ماجه (1740) ومالك 2/ 908، ولم يخرجه البخاري في " صحيحه " إنما أخرجه في " الأدب المفرد " (411).
(3) رواه مسلم (2564) وأبو داود (4882) والترمذي (1927) وابن ماجه (4213) من حديث أبي هريرة.(1/189)
فمِن المتواترات في ذلك، حديثُ: "منْ كذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتبؤَّأْ مَقْعدهُ من النَّارِ" (1). فشَرَط التعمد في الكذب عليه، الذي هو أعظمُ المفاسد، وإحدى الكبائر.
وهذا الحديثُ - قال زينُ الدين في كتابه في " علوم الحديث " (2):
رواه بعضُ المحدثين، عن نيف وأربعين مِن الصحابة، فيهم العشرةُ رضي الله عنهم. وبعضُهم عن نيف وستين، وصَنَّف المزِّي (3) في طُرُقهِ: جزئين، فرواه عن مئة صحابي واثنين. وروي عن بعض المحدثين: أنَّه رواه مئتان من الصحابة.
وعلى الجملة إنه متواتر، وبعدَ التواتر يستوي كَثْرَة العدد وقِلَّتُه، إذ
__________
(1) رواه البخاري (108) ومسلم (5) عن أنس، ورواه غيرهما عن الجم الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وليراجع تخريجه في " الجامع الصغير " للسيوطي و" نظم المتناثر " ومقدمة " الموضوعات الكبرى " لعلي القاري.
(2) الموسوم بـ " شرح الألفيه " 2/ 275 - 277، وزاد بعد قوله: رواه مئتان من الصحابة قوله: وأنا أستبعد وقوع ذلك، وزين الدين لقبٌ للحافظ العراقي، واسمه: عبد الرحيم بن الحسين، توفي سنة 806 هـ، وله في المصطلح أيضاً " التقييد والإيضاح لما أطلق وأغلق من مقدمة ابن الصلاح "، وهو صاحب " المغني " في تخريج أحاديث " إحياء علوم الدين " ويجب على كل من يقرأ كتاب " الإحياء " أن ينظر في تخريج الحافظ العراقي هذا، فإن في الإحياء كثيراً من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وما لا أصل له.
(3) هو الإمام الحافظ النقاد جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف القضاعي ثم الكلبي الدمشقي المزي صاحب التواليف العظيمة في الرجال والحديث المتوفى سنة (742) هـ، وقد باشرت مؤسسة الرسالة بطبع كتابه الموعب في تراجم رجال الكتب الستة المسمى بـ " تهذيب الكمال " وقد صدر منه أربعة مجلدات، بتحقيق الدكتور بشار عواد، وبمراجعتي وتخريج أحاديثه والنية متجهة إلى إخراج بقية الأجزاء تباعاً بأسرع وقت، يَسَّر الله الأسباب وأزال العوائق، وكتابه العظيم " تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف " قد تمَّ طبعُه بثلاثة عشر مجلداً بإشراف الأستاذ الفاضل عبد الصمد شرف الدين، وقد جوده غاية التجويد، ويسره للباحثين وطلبة العلم، فجزاه الله خيراً.(1/190)
العلمُ الضروري لا تتفاوت قوته (1).
وَمِن ذلك حديثُ زيدِ بن ثابت (2) مرفوعاً: " اللهُمَّ ما صلَّيتُ منْ صلاة، فعلى مَنْ صَلَّيْتُ، وما لَعنْتُ مِنْ لعْنةٍ، فَعلى منْ لعَنْتُ " (3). مختصر من حديث فيه طول رواه أَحمد والحاكم. وهذا يَدُلّ على قبولِ هذه النية، ممن نواها فأخطأ، والله أَعلم.
وَمِن أَحسن ما يُحتج به في ذلك: حديثُ الذي أوصى أن يُحْرَقَ، ثم يُسْحَقَ، ثم يُذرى في البحر والبَرِّ، فإن الله إن قدَر عليه، عَذبَه عذاباً لا يُعذِّبُه أحداً من العالمين. والحديث متواتر (4)، وقد أدركته الرحمةُ مع جهله بقدرة اللهِ، وشكِّهِ في المعاد بخوفه (5) وتأويله.
__________
(1) الفقرة من قوله: وعلى الجملة .. إلى قوله: لا تتفاوت قوته. كانت في الأصل بعد قوله: والله أعلم. فنقلناها إلى هنا، لأنها ذات صلة بحديث: " من كذب عليَّ متعمداً " المتواتر.
(2) في (أ) و (ب): زيد بن أرقم، وهو خطأ، والصواب ما أثبتنا.
(3) أخرجه أحمد 5/ 191 والحاكم 1/ 517 والطبراني في " الكبير " (4803) من طريق أبي المغيرة عن أبي بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن أبي الدرداء عن زيد بن ثابت، وصححه الحاكم فتعقبه الذهبي بقوله: أبو بكر ضعيف، فأين الصحة؟ وفي " التقريب ": ضعيف، كان قد سرق بيته فاختلط، ورواه الطبراني في " الكبير " (4932) من طريق عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح به، وعبد الله بن صالح هو كاتب الليث، سيىء الحفظ، وباقي رجاله ثقات.
(4) رواه من حديث أبي سعيد الخدريِّ البخاريِّ (3478) و (6481) و (7508) ومسلم (2757) وأحمد 3/ 13 و17 و69 و77، ورواه من حديث حذيفة البخاريُّ (3451) و (6480) وأحمد 5/ 395، ورواه من حديث أبي هريرة أحمدُ 2/ 269 و340 ومالك 1/ 240 ومسلم (2756) والنسائي 4/ 112، 113 وابن ماجه (4255) والبغوي (4183) و (4184)، وأخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 398 وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري أحمدُ 4/ 118 و5/ 383، وهو في " المسند " 5/ 407 من حديث حذيفة وأبي مسعود معاً، وأخرجه من حديث معاوية بن حيدة أحمدُ 4/ 447 و5/ 3، 4 والدارمي 2/ 330.
(5) في (أ): لخوفه.(1/191)
واتفقوا على تصحيح: " إنَّ الله تجاوزَ لُأمتي ما حدَّثت به أَنْفُسَها، ما لم يعملوا به، أَو يتكلَّمُوا " من حديث أبي هريرة، وعائشة (1). فما لم يعلموه، ولم يتعمَّدُوه أولى.
وكذلك اتفقوا على صحة حديث: " فلم يعنف أَحداً مِنَ الطائفتين " وقد أَخطأت إحداهُما في صلاة العصر -التي مَنْ فاتته حَبطَ عملُه- رواه البخاري (2).
ومن المشهور في ذلك: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الله تجاوزَ لي عن أُمَّتِي الخطأَ والنسيانَ وما استُكرِهُوا عليه ". وله طرقٌ كثيرة، عرفتُ منها سَبعاً:
الطريقُ الأولى: عن ابن عباس رضي الله عنهما. رواه ابن حبان في " صحيحه " والحاكم في " مستدركه " وقال: على شرط الشيخين،
__________
(1) رواه من حديث أبي هريرة البخاريُّ (2528) و (5269) و (6664) ومسلم (127) والترمذي (1183) وأبو داود (2209) والنسائي 6/ 156، 157 وابن ماجه (2044) وأحمد 2/ 425 و474 و481 و491 و255 و393، ورواه من حديث عائشةَ العقيليُّ في " الضعفاء " كما في " الجامع الكبير " (1/ 164)، ورواه الطبراني في " الكبير " عن عمران بن حصين 18/ 316 وأورده الهيثمي في " المجمع " 6/ 250 ونسبه للطبراني وقال: فيه المسعودي، وقد اختلط وبقية رجاله رجال الصحيح.
(2) رواه البخاري (964) و (4119) وهو في صحيح مسلم " (1770) ولفظه عند البخاري عن ابن عمر قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لنا لما رجع من الأحزاب: " لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضَهم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلى حتى نأتيها، وقال بعضهم: بل نصلي، لم يُرَد منا ذلك. فَذُكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يعنف واحداً منهم، وقوله: " لا يصلين أحدٌ العصر " في رواية مسلم: " الظهر " ورجَّح الحافظُ في " الفتح " 7/ 408 و409 روايةَ البخاري.
والجملة المعترضة التي ذكرها المصنف ضمن الحديث، وهي " من فاتته حبط عمله " هي جزء من حديث رواه البخاري (553) و (594) وأحمد 5/ 349 و350 و357 و360 والنسائي 1/ 236 والبغوي (369) والبيهقي 1/ 444 من حديث بريدة مرفوعاً: " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ".(1/192)
وابن ماجه في " سننه "، والدارقطني، والبيهقي، والطبراني (1).
قال البيهقي: جود إسناده بِشرُ بنُ بكر، وهو من الثقات ولفظها: " إن اللهَ تجاوزَ عن أُمَّتي، الخطأَ والنسيانَ .. " الحديث - لا رفع ولا وضع، فاعرف ذلك.
وهذه روايةُ بشر بن بكر عن الأوزاعي، وروايةُ الوليد بن مسلم عنه بلفظ: " الوضع "، وقد رجح البيهقي والطبراني: رواية بشر.
الطريق الثانية: عن عبد اللهِ بن عمر رضي الله عنهما بمثله، رواه العُقيلي، والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح غريب (2).
الطريق الثالثة: عن عُقبة بنِ عامرٍ، وفي إسناده: ابنُ لَهيعة، وهو ممن يُسْتَشْهَدُ بحديثه (3).
__________
(1) رواه ابن ماجة (2045) من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس، قال البوصيري في " الزوائد " ورقة 131: هذا إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع، قال المزي في " الأطراف " رواه بشر بن بكر التنيسي عن الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس، وليس ببعيد أن يكون السقط من صنعة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس تدليس التسوية، ورواية بشر بن بكر التنسيي المتصلة أخرجها بن حبان في "صحيحه" (1498) والحاكم في "المستدرك " 2/ 198 وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي " ورواه البيهقي 7/ 356 والطبراني في " الصغير " 1/ 27 والدارقطني ص 497، والطحاوي في شرح معاني الآثار 2/ 56.
(2) هو في الضعفاء للعقيلي، في ترجمة محمد بن المصفي لوحة: 402، وفي الحلية لأبي نعيم: 6/ 352، وأعله غير واحد بمحمد بن المصفي، وفي " التقريب ": صدوق له أوهام، وكان يدلس.
(3) رواه البيهقي 7/ 357 من طريق يعقوب بن سفيان: حدثنا محمد بن المصفي، حدثنا الوليد، حدثنا ابن لهيعة، عن موسى بن وردان، عن عقبة بن عامر، وانظر " تلخيص الحبير " 1/ 282 وقول المصنف في ابن لهيعة: وهو ممن يستشهد بحديثه. أي: أنه لين إذا انفرد، وذلك أنه احترقت كتبه، فَسَاءَ حفظُه فضعف بسبب ذلك، وإذا روى عنه أحد العبادلة وهم: =(1/193)
الطريق الرابعة: عن أبي ذر (1)، وليس في إسنادِه إلا شهرُ بن حَوْشَبه. والصحيح: توثيقُه.
وقال ابنُ النحوى في " البدر المنير " (2): " تركوه " فأخطأ، بل قوَّى أمرَهُ: البخاري، وابن معين، ويعقوب بن شيبة، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن عبد الله العِجلي، والفسوي (3)، وأبو حاتِم، وأبو زُرعة. ولم يحتجَّ من جَرحَه بما يقوم بمثله حُجَّةٌ، وأكثر ما قيل فيه: شيء مستند إلى رواية " عبَّاد بن منصور " (4) وهو متكلَّم فيه أكثر من شهر، ومخالف لشهر في الاعتقاد، وذلك مِن موجبات العداوة والتُّهمة، فلا تُقْبلُ عليه خصوصاً في حقِّ القدماء، وحَدُّهم: رأس ثلاث مئة سنة. وهو من رجال السنن الأربع، ومسلم متابعة.
__________
= عبد الله بن وهب، وعبد الله بن يزيد المقرىء، وعبد الله بن المبارك، فحديثه صحيح، لأنهم رووا عنه قبل احتراق كتبه.
(1) رواه ابن ماجه (2043) من طريق أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر، وأبو بكر الهذلي متروك الحديث كما في " التقريب "، وقال البوصيري في " زوائده " ورقة 131: هذا إسناد ضعيف لاتِّفَاقِهم على ضعف أبي بكر الهذلي، فقول المصنف: وليس في إسناده إلا شهر بن حوشب. فيه ما فيه، على أن شهراً لا يرقى إلى درجة التوثيق، وإنما يصلح حديثه للاستشهاد والاعتضاد.
(2) وهو كتاب كبير يقع في سبع مجلدات، خرَّج فيه أحاديث كتاب " فتح العزيز شرح الوجيز " للإمام أبي القاسم الرافعي، وقد لخصه الحافظ ابن حجر في قدر ثلث حجمه مع الالتزام بتحصيل مقاصده، وأضاف إليه فوائد وزوائد من كتب أخرى، وأسماه " التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير " وقد طبع هذا التلخيص في مجلد واحد في الهند، ثم طبع في المدينة المنورة بعناية عبد الله هاشم اليماني المدني سنة 1964 هـ، وهو بحاجة إلى تحقيق جديد متين يناسب مكانة المؤلف وقيمة الكتاب.
(3) هو يعقوب في سفيان، ونص كلامه في تاريخه 2/ 426: وشهر بن حوشب وإن قال ابن عون: إن شهراً قد تركوه، فهو ثقة.
(4) في " ميزان الذهبي " 2/ 284 و" تهذيب ابن حجر " 4/ 372: قال يحيى القطان عن عباد بن منصور: حججت مع شهر بن حوشب فسرق عيبتي.(1/194)
وقد ضعفه النَّسائي، وشُعبة، بألفاظ تقتضي أنه حسنُ الحديث، ولم يَقُل: إنهم تركوه، إلا ابنُ عون وحده، وذلك مردودٌ عليه. فإذا كان مثلُ أحمدَ والبخاري وسائر مَنْ ذكرنا يُقوونه، فَمَنِ النَّاسُ في هذا العلم بَعْدَهُم؟! ومن الذين (1) يعودُ الضميرُ في " تركوه " إليهم؟!
الطريق الخامسة: عن أم الدرداء [عن أبي الدرداء] (2)، وفيها شهرٌ أيضاً (3).
الطريق السادسة: عن ثوبان، رواه الطبراني (4) وفيها " يزيد بن ربيعة الرَّحبي الدمشقي " قال البخاري: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: متروك، لكن قال ابن عدي: أَرجو أنه لا بأْسَ به.
وقال أَبو مُسْهِر، كان فقيها لا يُتهم، ولكن أََخشى عليه سوءَ الحفظِ والوهم، فحديثُ مِثْلِ هذا مما يُسْتَشْهَدُ به، ويقوى مع غيره، وإن لم يُحْتَجُّ به منفرداً.
وقد اقتصر في " البدر المنير " على ذِكر جَرْحِه، فما أَنْضفَ.
الطريق السابعة: عن الحسن البصري مرسلاً، ومسنداً (5).
__________
(1) في (ب): الذي.
(2) سقطت من (أ) و (ب).
(3) رواه الطبراني من طريق إسماعيل بن عياش عن أبي بكر الهذلي عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، وأبو بكر الهذلي متروك كما تقدم.
(4) رقم (1430).
(5) رواه ابن عدي في " الكامل " 2/ 573 من طريق جعفر بن جسر بن فرقد: حدثني أبي عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعاً، رفع الله عن هذه الأمة ثلاثاً: الخطأ والنسيان والأمر يُكرهون عليه، وعده ابن عدي من منكرات جعفر هذا، قال: ولم أر للمتكلمين في الرجال فيه قولاً، ولا أدري لم غفلوا عنه، ولعله إنما هو من قِبَل أبيه، فإن أباه =(1/195)
فالمرسل: صحيح عنه، رواه أَحمد بن حنبل، وسعيد بن منصور، وابن الجوزي في " تحقيقه ".
واستنكر أحمد رَفْعه في هذا الطريق، حتى قال: كَأنَّهُ موضوع.
قلت: كأَنَّهُ عنى بالرفع هنا الإسناد، وهو خلاف عُرْف المحدثين.
ورواه عن الحسن، مسنداً موصولاً بأبي بكرة، مرفوعاًً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: جعفرُ بن جسر بن فَرْقَد عن أبيه، وهما ضعيفان. قال ابنُ عدي: البلاءُ فيه منْ جعفر، لا مِنْ جسر.
وجاءَ في هذه الطريق " لفظُ الرفع "، وهي ضعيفة، وتقدَّم أَن رواية " الوضع " أيضاً مُعَلَّة مَرْجُوحة.
وإنما الصحيحُ ما تقدم، وهو لفظ " التجاوز " دونَهما، كما مضى على ذلك ابن النحوي لِكثرةِ غلط الأكثرين في ذلك. وذَكر أَن النواويَّ حسَّنه في " الروضة " (1) في الطلاق بهذا اللفظ. وليس كذلك (2). قلت: وكذلك الأُصوليون، قد رووه بلفظ: " رُفع عن أُمتي ... ". وبَنَوْا على هذه اللفظة خلافاً: المرفوعُ ما يكون تقديره؟ لأن نفس الخطأ والنسيان والإكراه غيرُ مرفوع بالضرورة.
__________
= قد تكلم فيه بعض من تقدم لأني لم أر جعفراً يروي عن غير ابيه. وانظر، " التلخيص الحبير " 1/ 228.
(1) " روضة الطالبين " 8/ 193، بتحقيقي مع الزميل الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، طبع المكتب الإسلامي.
(2) " الروضة " كتاب الطلاق، 8/ 193 ونصه: " قلت: قد رجح الرافعي في كتابه " المحرر " أيضاً عدم الحنث في الطلاق واليمين جميعاً، وهو المختار، للحديث الحسن: " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".(1/196)
فمنهم من قال: يكون مجملاً.
ومنهم من قال: يقدر أعم الأشياء، لأن تقدير غيره تخصيص بلا دليل، وذلك تحَكُّم، فيقدر: أن المرفوعَ حُكمُ هذه الأشياء، فَيَعُمُّ أحكامَ الدنيا والآخرة، إلا ما خصه الدليل.
ومنهم: مَنْ خَصَّه بأحكام الآخرة لِكثرة مخصّصاته في أحكامِ الدنيا في الجِنايات ونحوِها. وهو الصحيح في نظير هذه المسألة عندهم، وهما متقاربان. ولكنَّهم فرقوا بينهما في الكلام عليهما: بأنه إن ثبت عُرْفٌ يسْبِقُ الفهمُ إليه، تَعَين، مثل: تحريم الميتة والأمهات والحرير، فإن الفهم يسبِقُ إلى أن المحرَّم من الميتة: أَكْلُها، ومِنَ الأُم: نكاحُها، ومن الحرير: لباسُه، ونحو ذلك، وإن لم يَثْبُت عُرْفٌ، لزم التعميمُ، لأنه السابق إلى الأفهام حينئذ. والله أعلم.
ويقوي صحة هذا الحديث -مع ما تقدم من مفهومات كتاب الله، وصحيح السُّنن- ما رواه الحاكمُ، في تفسير سورة التكاثر، من " المستدرك "، فقال: " حدثنا أبو العباس محمدُ بنُ يعقوب، حدثنا محمد بنُ سِنان القزَّاز، حدثنا محمد بن بكر البرساني، حدثنا جعفرُ بن برْقان، قال: سمعتُ يزيدَ بن الأصم، يُحَدِّث عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما أخشى عليكم الفقْرَ، ولكن أخشى عليكم التَّكَاثُرَ، وما أخشى عليكم الخطأَ، ولكن أخشى عليكم التعمد " (1). ثم قال: وهذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
__________
(1) رواه الحاكم 2/ 534، وأحمد 2/ 308 و539 وصححه ابن حبان (2489) وذكره الهيثمي في " المجمع " 3/ 121 و10/ 236 وقال في الموضعين: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وإسناده صحيح.(1/197)
قلت: ولم يذكر المزي في ترجمة: يزيد بن الأصم، عن أبي هريرة، أحداً من الستة أخرجه.
وروى أحمد في " المسند "، من حديث مَعْقِل بنِ يسار، قال: أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم - أَن أقضيَ بين قوم، فقلتُ: ما أحْسِنُ أن أقضِيَ يا رسولَ الله، قال: " الله مع القاضي ما لم يَحِفْ عمداً " (1). إسناده عندي حسن. والله أعلم.
وينبني على هذا مسألة، وهي أنه قد ثبت بالتواتر الأمْرُ بحَرْبِ " الخوارج " وذمِّهم، وتأثيمهم، وتسميتهم: موارق من الإسلام (2).
فَمَن أخرجهم مِن الإسلام، ومِن الأُمة؛ لم يحتج إلى كلام، ولم يتعارض عنده الأمران، وكذلك: من لم يسلِّم أنهم مِن أَهل الخطأ، وجوز أنهم عاندوا، ولو في بعض الأوقات، واعْتَقَدَ أن تنْزِيهَهُم من ذلك، دعوى لعلم الغيب، وبناء على تصديقهم فيما أظهروه، وهو مُحَرَّمٌ ممنوعٌ شرعاً. فكل كافر يَدَّعي ذلك، وعلام الغيوب يُكذِّبهُم. وهذا قوي جداً.
وَمنْ أدخلهم في الأُمة، وكفَّرَهم، خَصَّصَ رواية الرفع في الحديث -قطعاً- في الدنيا والآخرة، لكنَّها لم تصح، لكونها معللة مَرْجُوحة -كما تقدم في طريق ابن عباس- ولا شكَّ أن رواية التجاوز: أَصَحُّها، لأنها من (3) طريق بِشر بنِ بكر، عن ابن عباس. وإسناد حديثه أَصَحُّها، ثم هي مطابقة للقرآن في الدلالة على أن المراد أحكامُ الآخِرة،
__________
(1) رواه أحمد في " مسنده " 5/ 26، وإسناده حسن كما قال المصنف.
(2) انظر هذه الصفات كلها في " صحيح مسلم " 2/ 746 - 750.
(3) في (أ) و (ب): في.(1/198)
وذلك أَن لفظ كتاب الله تعالى: {لا جُنَاحَ عليكم} [البقرة: 236] كما تقدم بيانه. والجُناح: هو الإثم في اللغة. وكذا قوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] في كون شرط التعمد، حيث ورد. وإنما وَرد قيداً في الوعيد، وهذه أصرحُ الآيات، وبقية الآيات كالشواهد لها، ثم هو القَدَرُ المتحقق.
وتخصيصُ -هؤلاء الخوارج- بعدم العفو في الآخرة، مثلُ تخصيص المخطىء من اليهود والنصارى.
والوجه فيه أن الله تعالى أقام عليهم الحُجَّة، وعَلِمَ منهم التعمد -ولو في بعض الأوقات-: إما في الابتداء، ثم عاقبهم، وسلبهم الطاقة، كقوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وإما في أثناء المناظرة والنظر، يدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]. وقوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15] وقوله -في بعضهم، بعد ذكر الآيات-: {جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]. وقوله -في آخرين-: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]. قُرِىءَ: " يكذبونك " بالتشديد والتخفيف معاً (1).
__________
(1) قرأ نافع والكسائي: {يكْذبُونك} بالتخفيف وتسكين الكاف، والمعنى: لا يُلْفُونَكَ كاذباً، أو لا يُكَذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آيات الله ويتعرضون لعقوباته، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة وابن عامر: {يُكذِّبُونَكَ} بالتشديد وفتح الكاف، قال ابن عباس: لا يسمونك كذاباً، ولكنهم ينكرون آيات الله بألسنتهم، وقلوبهم موقنة أنها من عند الله، انظر " حجة القراءات " 246 - 249 و" زاد المسير " 3/ 28 - 30.(1/199)
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144].
وأما مفهومُ قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75]. فلأن التحريفَ شأنُ بعضهم -بغير شك-، ولَيْس كلُّ متعمدٍ للكفر -من العوام والبُلداء- يُحسنُ (1) ما يخفي من ذلك، وخصوصاًَ وذنب الخوارج قَتْلُ المؤمنين، واستحلالهم وتكفيرُهم. وكل ذلك مغَلَّظ في الشرع، ولا (2) يُقاس عليه غيرُه، كما يأتي بيانهُ، في مسألة الوعيد، في آخر الكتاب.
وأما قوله في أهل الكتاب: {بل أكثرُهم لا يؤمنون} [البقرة: 100] وقوله تعالى: {نبذ فريقٌ من الذين أُوتوا الكتاب كتاب اللهِ وراءَ ظهورِهم كأنَّهم لا يعلمون} [البقرة: 101]، ونحوها فلأنه قد آمن منهم أمة، كما قال تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الكتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ} [آل عمران: 113].
وإما (3) بإعراضهم عن الرجوع إلى كتاب الله، وتدبره -كما أمر سبحانه-.
وبالجملة: فقد قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ
__________
(1) في (ب): يُحِسُّ.
(2) سقطت " لا " من: " ب " ..
(3) في هامش (أ) ما نصه: هذا عطف على قوله: إما في الابتداء وإما في أثناء المناظرة. من خط المصنف رحمه الله.(1/200)
نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فهُوَ لهُ قرينٌ} [الزُخرف: 36] فنعوذ بالله من اتخاذه ظِهرياً، وتركه نَسْياً مَنْسياً.
والجواب: على مَنْ سأَلَ هذا السؤالَ (1) كجواب موسى على فرعون، حيث قال: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 51 - 52].
وسيأتي في الكتاب شروطُ القطع بالتكفير والتفسيق. وإنما ذكرتُ هذه النُّبذةَ اليسيرة في المقدمة، لأنها معظمُ مقاصد الكتاب.
وبَعْدُ: فإني ما زِلْتُ مشغوفاً بِدرْك الحقائق مشغولاً بطلب المعارف، مُؤثِراً الطلب لملازمة الأكابر، ومطالعةِ الدَّفاتر، والبحثِ عن حقائق مذاهب المخالفين، والتَّفتيشِ عن تلخيص أَعذارِ الغالطين، مُحسِّناً في ذلك للنِّيَّة، متحرِّياً فيه لطريق الإنصاف السَّوية، متضرعاً إلى اللهِ تَضَرُّعَ مضطرٍ محتار (2)، غريقٍ في بحار الأَنْظار، طريح في مهاوي الأفكار، قد وهبتُ أيامَ شبابي وَلَذَّاتي، وزمان اكتسابي ونشاطي، لِكُدُورةِ علمِ الكلام والجِدال، والنَّظرِ فىِ مقالاتِ أهل الضَّلال، حتى عرفتُ صحةَ قولِ مَنْ قَالَ:
لَقَدْ طُفْتُ في تِلْكَ المعَاهِدِ كُلِّها ... وسيَّرْتُ طَرْفي بينَ تِلْكَ المعالم
فلم أرَ إلّا وَاضِعَا كفَّ حَائِرٍ ... على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادم (3)
__________
(1) في هامش (أ) ما نصه: يعني مَن قال: ما الوجه في تخصيص بعض المبتدعة بتواتر عدم العفو عنهم، كالخوارج، فقد تواتر النص عليهم. من خط المؤلف رحمه الله.
(2) الجادة أن يقال: حائر، إلا أن السجع هو الذي حمل المصنف على ارتكاب هذا الخطأ.
(3) في ترجمة ابن سينا من " وفيات الأعيان " 2/ 161: وينسب إليه البيتان اللذان =(1/201)
وبسبب إيثاري لذلك، وسلوكي تلك المسالك، أنَّ أولَ ما قرعَ سمعي، ورسخَ في طَبْعِي: وجوبُ النظرِ والقول بأن من قلَّدَ في الاعتقاد، فقد كفر، فاستغرقت في ذلك حدَّةَ نظري، وباكورةَ عمري، وما زلت أرى كُل فرقة من المتكلمين تُداوي أقوالاً مريضة، وتُقَوِّي أجنحة مهيضة، فلَمْ أحْصِّل على طائل، وَتَمَثلْت فيهم بقول القائل:
كُل يُدَاوِي سَقِيماً مِن مَقَالَتِهِ ... فَمنْ لَنَا بِصَحِيحِ مَا بِهِ سَقَمُ
فرجعت إلى كتاب الله، وسُنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقلت: لا بد أن يكون فيها بَراهِينُ، وردُود على مخالفي الإسلام، وتعليم وإرشاد لمن اتَّبَعَ الرسولَ -عليه أفضلُ الصلاة والسلام-.
فتدبرتُ ذلك، فوجدت الشِّفاءَ كُله: دِقه وجِله، وانشرحَ صدري، وَصَلُحَ أمري، وزال ما كنت به مُبتلى، وانشدتُ مُتمَثِّلاً:
فألْقَتْ عَصَاهَا واسْتقَرتْ بها النَّوى ... كما قَرَّ عيناً بالإيَاب المُسَافِرُ (1)
وعرفتُ بالتجربة (2): صحةَ ما رواه علي -عليه السلام- عن
__________
= ذكرهما الشهرستاني في أول كتابه " نهاية الإقدام " وفي 4/ 275 في ترجمة الشهرستاني: وذكر في أول كتاب " نهاية الإقدام " بيتين وهما: لقد طفت ... الخ ولم يذكر لمن هذان البيتان، وقال غيره: هما لأبي بكر محمد بن باجه المعروف بابن الصائغ الأندلسي.
(1) في " اللسان ": عصا، يضرب البيت مثلاً لكل من وافقه شيء فأقام عليه، وأصله أن امرأة كانت لا تستقر على زوج، فكانت كلما تزوجها رجل لم تواته، ولم تكشف عن رأسها، ولم تلق خمارها، وكان ذلك علامة إبائها وأنها لا تريده، ثم تزوجها رجل فرضيت به، وألقت خمارها، وكشفت قناعها.
والبيت في " البيان والتبيين " 3/ 40 منسوب لمُضرِّس بن ربعي في لقيط الأسدي، كان معاصراً للفرزدق، ونسبه الآمدي لمُعقِّر بن حمار البارقي، وقال ابن بري: هو لعبد ربه السُّلمي، ويقال: لسليم بن ثمامة الحنفي.
(2) كأنه يريد صحة معنى ما رواه علي وتطابقه في الواقع، وهذا حق لا ريب فيه، ولا =(1/202)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنهُ قال في كتاب الله تعالى: " من التمسَ الهُدَى من غيره، ضَلَّ " (1).
فأمَّا كتابُ اللهِ تعالى، فإن نظرتَ في إعجازه، في بلاغته وأسلوبه، أو فيما اشتمل عليه من أخبار غيوبه، عرفت بالضرورة (2) العادية (3) عَجْز جميعِ المخلوقين -من الجن والإنس أجمعين- عن الإتيان بمثله، أو سورةٍ من مثلِهِ. وما أوضحَ قولَه تعالى في ذلك: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].
وإن نظرتَ فيما اشتمل عليه، من المنع عن المفاسد، والأمر بالمصالح، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، علمتَ بالبرهان -إن كنتَ مِن عارفيه-، وبالقرآن -إن كنت مِن متدبِّريه- صِدْقَ قولِ من أنزله سبحانه: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212].
__________
= يعني أن الحديث ثبتت صحته بالتجربة، فإن التجربة لا تثبت بها صحة الحديث، فكم من كلام صحيح ومطابق للواقع ولا تصح نسبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فباب الرواية يعتمد على اتصال السند، وثقة الرواة، وانتفاء الشذوذ والعلة، وهذا الحديث لم يستوف الشروط الآنفة الذكر، فإن راويه عن علي رضي الله عنه ضعيف لا يحتج به كما ستعرف من التعليق الآتي.
(1) رواه الترمذي (2908) والدارمي 2/ 435 والبغوي 4/ 439 وفي سنده الحارث بن عبد الله الأعور، والجمهور على توهينه، قال الحافظ ابن كثير في " فضائل القرآن " 15: وقصارى هذا الحديث أن يكون من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد وهم بعضهم في رفعه، وهو كلام حسن صحيح.
(2) في (ب): بالضرورية.
(3) الجادة أن يقال: المعتادة، لأن العادي في اللغة هو: القديم، قال ابن الأثير: وفي حديث قس: " وإذا شجرة عادية " أي: قديمة، كأنها نسبت إلى عاد، وهم قوم هود النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكل قديم ينسبونه إلى عاد، وإن لم يدركهم، ومنه كتاب علي إلى معاوية: لم يمنعنا قديم عزنا وعادي طولنا أن خلطناكم بأنفسنا.(1/203)
وقد جمع -سبحانه- في هذه الآية الشريفة -لمن تأملها-: بينَ الوجوه الثلاثة المتقدمة، فأشار إلى الأول، وهو العجز عن مثله، بقوله: {وما يستطيعون}، وإلى الثاني، وهو جهلُهُم بالغيب الذي فيه، بقوله: {إنهم عن السمع لمعزولون}، وإلى الثالث، وهو أنَّهُ لا يصدر منهم ما فيه الإرشاد إلى الخير، والمنع عن الشر، بقوله: {وما يَنْبغي لهم}.
وهذا الوجهُ الثالث، لم يتعرَّضْ أحدٌ لذكره -فيما علمتُ- وقد نبَّهَ الله -سبحانه- عليه، في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: 91]. لأن كتاب موسى -عليه السلام- غيرُ معجز، من جهة البلاغة، ولا يَعْرفُ المخاطبون -المحتجُّ عليهم ذلك- ما فيه من العيوب، معرفةً ضرورية بالتواترت لبُعْدهِمْ عن المعرفة الظنيَّة؛ كيف الضرورية؟!، ولكنَّهم يعلمون جملةً بالتواتر: أنه مُشْتَملٌ على المنع من المفاسد، والأمْرِ بالمصالح، وهذا لا يكون من شيطان، لأنه نقيضٌ قصده، ولا سيما وفيه: سبٌّ الشياطين، ولعنهم، ووعيدُهُم، ولا يكون من ملكٍ ولا من صالح، لأن الكذِبَ على العالم، وإلزامهم المشاقِّ العظيمة، من غير ثواب، مما يُناقِضُ معنى المُلْكِ، ومعنى الصلاح.
فمنْ فعَل مثل ذلك، فهو شيطان، فكيف نفرِضُ أنه ملك أو صالحٌ؟! هذا خلافٌ، والضرورة المانعةُ عن صدور هذا عن الشياطين عاديةٌ لا أوليةٌ.
وكثيرٌ مِنَ النُّظار لا يعرف الضروريَّ العادي، ويغلَطُ فيه لإمكان خلافه بالنظَرِ إلى مجرد الإمكان. ولم يَعْلم أن العلمَ فيه إنما يتعلق بعدم وقوع الممكن، لا بعدم إمكانِه، كما أنَّا نعلم عند دخول منازلنا: أن الله(1/204)
تعالى لم يقلِبِ الأرض ياقوتةً خضراء، مع قُدرته -سبحانه- على ذلك، ولا حوَّل قوة الحديد إلى الزجاج، وضعفَ الزجاج إلى الحديد، وحلاوة العسل إلى الصبِرِ، ومرارة الصَّبِر إلى العسل.
ومن جَوَّزَ مثل هذَا، أو شكَّ فيه؛ فقَد شكَّ في أحد العلوم الضروريات، وخرج إلى المقالات السُّوفسطائيات (1). وهذا لا ينبني على معرفةِ عدلِ الله وحكمته، لاشتراك مَن يعرفُ ذلك ومَنْ يجهله فيه، وقد احتج الله تعالى في القرآن الكريم بالعلم العَادي، في قوله تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة: 18] فإن تعذيبَ الحبيب بذنبه -مع حُبِّه- ممن لا يتألم بذنبه؛ لا يقع عادةً ضرورة، وإن كان مقدوراً، وهي حجة في مسألة الداعي، وحجة مفحمة للأشعرية، في نفي الدواعي والأسباب عن أفعال الله تعالى (2). ومن ذلك: قوله تعالى: {لَفَسَدَتَا} (3) [الأنبياء: 22] ونحو ذلك كثير في كتاب الله تعالى.
وربما توقف العلمُ الضروريُّ على تذكُّر وتفكُّرٍ في مقدمات ضرورية؛ مثل: علم الحساب، فإنَك متى أردت أنْ تَعْرِف نصف خمسة وسبعة مضاعفة سبعة أضعاف؛ احتجت إلى فكرة، تضطرُّ بعدَها إلى معرفة الصواب. ويختلفُ الناسُ في ذلك اختلافاً كثيراً، ويكون فيهم منْ
__________
(1) الكلمة يونانية، تعني المغالطة واستخدام القياس المركب من الوهميات. والسوفسطائية: فرقة تنكر الحسيات والبدهيات وغيرها، الواحد سوفسطائي.
(2) لفد فصل القول في هذه المسألة شيخ الإسلام، ابن تيمية رحمه الله في كتابه " أقوم ما قيل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل " الموجود ضمن " مجموع الفتاوى " (8/ 81 - 158) فراجعه فإنه غاية في النفاسة والتحقيق.
(3) انظر لزاماً في تفسير هذه الآية " منهاج السنة " 2/ 73 لشيخ الإسلام، و" شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز ص 19 بتحقيقنا.(1/205)
يَفْهَمُهُ من غير فكرة؛ كما يفهم كلُّ أحد نصفَ العشرة، إما لفرط ذكائه، وإما لشدة رياضته في علم الحساب، وكذلك سائرُ المعارف، على ما يأتي تحقيقه (1)، إن شاء الله تعالى. فتأمل هذه النكتة.
وان رجعت إلى ما أرشد إليه كتابُ الله تعالى مِن البراهين القاطعة، والأنوارِ الساطعة، وجدْتَهُ مشحوناً من ذلك بأشفاهُ وأكفاهُ وأوفاه. وذلك ما اختارهُ لخليلهِ إبراهيم -صلى الله عليه- حين طلب أن يَطْمَئنَ قلبُهُ، ولكليمه موسى حين أراد أن يُفْحِمَ خصمَه، وهو النَظرُ في المعجزات المعلومة، والتواتر فيها يقومُ مقامَ المشاهدة، والآيةُ في قصةِ إبراهيمَ معروفة. وفي قصة موسى -عليه السلام- قولهُ تعالى، في حكاية موسى لفرعون، لَما اشتدَّ كُفْرُ فرعون وتفاقمَ، ولم يُسَلِّم له ما أشار إليه من الاحتجاج بخلق المخلوقات، فرجع موسى بعد ذلك إلى أفحمِ الحُجَحِ، وأقطعها للشَّغَب، فقال: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 30 - 34].
فالنظرُ في المعجزات الواضحات، والخوارق الباهرات، كان إيمان عامةِ أهلِ الأسلام، في زمن الرَّسُول عليه السلام، وبه كان إيمان السَّحَرة في زمن موسى عليه السلام، الذين حصل لَهم مِن اليقين في ساعةٍ واحدةٍ، حتى صبَرُوا على مرارةِ القَتْل، وفراق الحياة ما لم يحصل لكثيرٍ من النُّظارِ في الكلام، في عِدَّة أعوام.
فمن أحَبَّ برْد اليقين، وثلَج الصُّدور، تدبر ما في كتاب الله تعالى
__________
(1) في (ب): بيانه.(1/206)
من ذلك، وَمِن ردود الأنبياء على الكفار، فإِنْ أحَبَّ الزيادَةَ؛ ضمَّ إلى ذلك النظر في المصنفات في ذلك: "كالشفاء" (1) للقاضي عياض، و" أعلام النبوة " من كتاب " البداية والنهاية " لابن كثير وأمثالهما.
وكذلك قراءةُ سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعرفة أوصافِه، وقرائنِ أحوالِهِ، فإِنَّها تُفيدُ العلم الضروري العادِيَّ وَحْدَها، فإذا انْضمَّت إلى المُعْجِزِ؛ مَحَت الوسواسَ وأطفأته؛ كما يُطفىء الماءُ النارَ.
وممنْ ذكر ذلكَ، واقتصر عليه، وما قصَّرَ فيه الرازي في كتابِهِ " الأربعين في أصول الدين ". وقد أخذتُ كلامَهُ وزدتُ عليه أكثر منه، وجعلتُهُ مُصَنفاً مُسْتَقلاً، سميتُهُ: " البرهان القاطع في معرفة الصانع، وجميع ما جاءت به الشرائع " (2)، وهذه طريقُ المحدثين، بل طريقُ السابقين الأولين، وجميعِ التابعين، وسائرِ عوام المسلمين.
ولمَّا كتبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هرَقْل، جمع من وَجَد من العرب، وكان فيهم أبو سفيان، فسألَهُ عن القرائن التي تَدلُّ على صِدقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما كان عليه جميعُ الأنبياء، من أصالةِ النسب، وصدقِ اللهجة، والوفاء بالعهد، وعدمِ الغَدْرِ، ونحو ذلك. وقطع بنبوته وظهوره، لأجل ذلك. وهو حديث عظيم؛ ينفعُ في التصديق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. رواه
__________
(1) هو كتاب جيد في بابه لا نظير له فيما أعلم في التعريف بحقوق المصطفي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أن مؤلفه رحمه الله لم يتحرَّ فيه الصحة من الأخبار، فأدرج فيه غير قليل من الأحاديث الضعيفة، فينبغي التنبه لها، والتحرز منها، ولا سيما المذكور منها في معجزاته - صلى الله عليه وسلم -، ويحسن الرجوع إلى " تخريج " أحاديثه للجلال السيوطي، و" شرح " العلامة القاري، و" شرح " الشهاب الخفاجي.
(2) وقد طبع في مصر بالمطبعه السلفية سنة 1349 هـ، ومنه نسخة خطية في خزانة الجامع الكبير بصنعاء برقم (مجموع 96 - 52 - 62).(1/207)
البخاري (1)، من حديث ابن عباس. وليس فيه ذكرُ المعجزات، ولا سأل عنها قيصر. وقد بسطْتُ الحُجَّة في هذا؛ في غير هذا الموضع.
وليت المبطلينَ لهذه الطريقة، والْمُكَفِّرين لِمَنْ تَمسَك بهذه العروةِ الوثيقة؛ أتَوْا بما يجْبُر الكُلومَ، ويُحَيِّرُ الخُصُوم، وإنما أثاروا غُبار اللَّجاج، وشَبُّوا نيرانَ الحِجاج. فأتوا بما يُمْكنُ الخصمُ أن يُعَارِضَهُ بنحوه، أو يُنْكِرَ الحجةَ فيه. فَدَوَّنوا وسواسَ الشيطانِ، وما يُورِثُ الحيرةَ على أهْل الإيمانِ، وراموا الاحتجاجَ على مبادىءِ الأدلةِ القوية الفطرية بما هو أدقُّ منها؛ مِن الأساليب النظرية الخفية. حتى ذهب كثير من المعتزلةِ إلى أن بعد العلم بالله، وأنَّهُ صانع العالم، وأنَّه مُتَّصف بصفات الكمال؛ نحتاج إلى دليل آخر يدلُّ على أنه موجود، وأنا قبل ذلك، نجَوِّزُ أنَهُ -مع إيجاده للعالم وكماله في صفاته وأسمائه- معدوم. ثم لا بد لهم من الانتهاء إلى دعوى الضرورةِ، أو سكون النفس في أمور لا تزيدُ في الوضوح على مبادىء الأدلة؛ التي أشار إليها السمعُ، واكتفى بها السَّلَفُ.
وتحصُل بكثرة الإصغاء إلى الشُّبهِ شُكُوكٌ تشْبهُ شُكُوكَ المُوسْوَسين في الطَّهارة. ويمكن فيما انْتَهوْا إليه ما يمكن في مبادىء الأدلة مِن الشَّك، أو دعوى الضرورة. وهذا يقوِّي كلامَ أهل المعارف، وطرائق السلف، كما يأتي مبسوطاً، إنْ شاء الله تعالى.
وربما أنكرَ هذا؛ مَنْ شَرَعَ في تعَلُّمِ الكلامِ، ولم يُحقِّقْ، ولم يَعْرف مقاصدَهُم فَيُصَدِّق.
__________
(1) أخرجه بطوله في " صحيحه " برقم (6) في بدء الوحي، وانظر أطرافه في: (51) و (2681) و (2804) و (2941) و (2978) و (3174) و (4553) و (5980) و (6260) و (7196) و (7541) منه.(1/208)
وعلى الجُملَة، إنهم جَعلوا ميزان عِلْمهم الذي يتميزُ به عن الجهل، واعتقاد التقليد، وعن الضروريات التي لا تستحق أن تُطلب بالنظر و (1) التَعَلمِ، هو جوازُ ورود الشكِ، وطُرؤ الشُبْهة عليه في الحال، وفي الاستقبال. وأنتَ إذَا حققت النظر، وجدتَ ما كان على هذه الصِّفةِ، خارجاً عن العلم المتميز عن غيره بالجزم والقطع، لأنَّ كل ما جوزت أن ينكشف بطلانُه في وقت من الأوقات، جوزت أن ينكشف بطلانه (2) الآن، إذ لا أثر للأوقات في البطلان. وكلما جوزت أن ينكشِفَ بطلانُهُ الآن، لم يكن علماً جازماً، ولا كان بينَه وبينَ الظن الغالب الراجح فَرقٌ ألبتة.
إنهم يُسمُّون الوساوِس -في حقِّ المحدثين، ومَنْ لم يعرف الكلام من سَائر علماء المسلمين، وعامةِ المؤمنين-: شَكاً وجهالة، ويجعلونه في حق أنفسهم فارقاً بين الضرورة والدِّلالة (3).
وقد ذكر الشيخُ تقي الدين (4)، في " شرح العمدة ". أن في الفرق بينهما إشكالاً. ولما يَزد على هذه الإشارة، وقد أوجز وأبلغ.
وَقَوْلُهُم: إنْ قدِحَ في أركان الدليل؛ فهو شك يجبُ إزالتُهُ وإلا فهو وسواس مُطَّرح، زخرفةٌ لا تحقيق فيها، فإن الشك في الشيء إنما ينشأُ من
__________
(1) في (ب): أو.
(2) من قوله: " في وقت " إلى هنا، لم يرد في (ب).
(3) في (ب): الدلالة والضرورة.
(4) هو الإمام المحدث الفقيه محمد بن علي بن وهب بن مطيع، المعروف بابن دقيق العيد، صاحب المصنفات النافعة الماتعة التي تنبىء عن كونه بلغ رتبة الاجتهاد في العلوم الشرعية، وقد طبع منها " شرح العمدة " و" الاقتراح " و" الإلمام " وغيرها. توفي سنة اثنتين وسبع مئة، انظر ترجمته في " تذكرة الحفاظ " (1481) و" طبقات السبكي " 9/ 207 - 249 و" فوات الوفيات " 3/ 442.(1/209)
الشك في أحد أركان الدليل. والطمأنية بجميع أركان الدليل تستلزم بالضرورة الطُمأنينة بالنتيجة. وكيف يحصل الشك في أن الدراهم في الصندوق، وهو النتيجة المعتقدة، مع الطمأنينة بركني الدليل ومقدمتيه، وهما القطعُ بكون الدراهم في الصُّرة، وكل صُرَّة في الصُّنْدوق. وهذا خَلْفٌ (1) مِن الكلام، وغلاط (2) مِن أهلِ الكلام.
ولكنَّ هذا شيء لم يُكلف الله المسلمين بإتقانه؛ بإجماع المتكلمينَ والمحدثين وجميع المسلمين، لخروجه عن مقدوراتهم بالضرورة، وكل أحد يجدُ ذلك من نفسه، ولم يسلم منه الأنبياء! صلوات الله عليهم وقد يكون امتحاناً من الله تعالى وقد يكون عقوبةً -والعياذ بالله من ذلك- وقد يكون سببُه من الشيْطَان -نعوذ بالله منه-. قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] ولذلك وَردَ في الصحيح من غير طريق -كما يأتي- الأمْرُ عند ذلك بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، أعاذنا الله منه.
وهذا لا يخرُجُ من الإيمان -كما يأتي تحقيقُهُ- بل ولا يخْرجُ مِن مطلق العلم اللغوي، فإنَّ الظن الراجح المطابق يُسمَّى علماً في كتاب اللهِ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهبُ أبي القاسم البلخي الكعبي (3)،
__________
(1) الخلْفُ: الرديء من القول، يقال: هذا خلْف من القول: أي: رديء، وفي المثل: سكت ألفاً ونطق خَلْفاً، يقال للرجل يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ.
(2) الجادة أن يقال في جمع الغلط: أغلاط، وقال ابن سيده: وقد رأيت ابن جني قد جمعه على غلاط ولا أدري وجه ذلك.
(3) هو شيخ المعتزلة الأستاذ أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي الخراساني، صاحب التصانيف، المتوفى سنة (327) هـ، انظر ترجمته في " سير أعلام النبلاء " 15/ 255.(1/210)
ومن تابعه على ذلك. رواه عنه: الإمامُ المؤَيد بالله (1)، في آخر كتاب " الزيادات " واختاره -عليه السلام-.
والمختار عندهم: كفاية الجُمل، وأوائل الأدلة لعامة المسلمين، مع السلامة من الشك والشبهة والحيرة، وذلك وسطٌ بين المذهبين، وخيرُ الأمور أوساطُها، لا تفريطُها، ولا إفراطُها.
وسيأتي هذا مبسوطاً بأدلة الفريقين، وإنَّما قدمتُ هذا؛ لأنَّ من الناس منْ يكتفي بالنظر في مقدمة الكتاب.
ومن حُجَّة " المؤيد بالله " ومن قال بقوله: إنه قد وَرَدَ في الحديث: زيادة الإيمان ونقصانه، حتى ينتهي إلى أدنى أدنى من مثقال ذَرَّة (2)، وذلك متواترٌ، ومجمع عليه عند أهل السُّنة.
والعلمُ الاصطلاحي، لا يصِحُّ فيه التَّفاوت، وقِسْمتُهم له إلى ضروري واستدلالي، مختَلَفٌ فيه، والصحيح أنه لا يكون حيث يَثبُتُ إلا ضرورياً، وحين تزولُ عنه الضرورَةُ، تزول عنه صِفةُ العلم الاصطلاحي.
والوجه في ذلك؛ أنهُ لا بد من انتهائه إلى مقدمتين ضرورتين، ومتى انتهي إلى ذلك، فنتيجةُ كل مُقدمتين ضروريتين، ضرورية مثلُهما. وهذا
__________
(1) هو أحممد بن الحسين بن هارون الأقطع من أبناء زيد بن الحسن إمام من أئمة الزيدية مولده في آمل بطبرستان، ودعوته الأولى سنة 380 هـ بويع له بالديلم، ولقب بالسيد المؤيد بالله، ومدة ملكه عشرون سنة توفي سنة 421 هـ.
ومن " الزيادات " نسخة بالجامع الكبير في صنعاء انظر الفهرس ص 259.
(2) في حديث أنس الذي أخرجه البخاري (7510) في التوحيد، ومسلم (193) (326) في الإيمان، وفيه: " انطلق، فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار ".(1/211)
يُوجب أنْ تكونَ المقدمات كلها ضرورية، وكونُ المقدمات كذلك، يوجب أنْ تكون النتائج كذلك.
والله تعالى له حكمةٌ بالغةٌ في عدم وضوح أمور (1) الآخرة لكل أحد إلى حدِّ الضرورة، على جهة الاستمرار، لِما فيه من بطلان الامتحان؛ الذي أخبر سبحانه أنه له مراد، قال الله تعالى في الساعة: {أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، وقال {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية [الحج: 52]. وأمثال هذا لا يُحصى، وسيأتي لهذا مزيدُ بَيان، والمُقَدمةُ لا تتسع لأكثرَ من هذا.
واليقينُ التام، وانتفاءُ الوسواس؛ هو الغالبُ على أنبياء الله -سبحانه- وأوليائِه، وحصولُه مَوْهِبَةٌ من الله تعالى، تقف على أسباب يُوفَّقُون لعملها، كالثواب المتوقف على العمل سواء. ويَندُرُ خلافُ ذلك منهم، لحكمة الله تعالى، لو لم يكن إلا لتأسي المؤمنين بهم، وعدم انكسارِ نفوسهم، كما ورد في الصحيح: " نحنُ أحقُّ بالشَّكِ مِن إبراهيم " (2).
__________
(1) في (ب): الأمور.
(2) رواه الخاري (3372) و (3375) و (3387) و (4537) و (4694) و (6992) ومسلم (151) في الإيمان وفي الفضائل، وابن ماجة (4026) والبغوي (63) وأحمد 2/ 326 والطبري (5973) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسُف لأجبت الداعي " وتفسير الشك بالمعنى الذي قاله المصنف هو مذهب الإمام أبي جعفر الطبري في " تفسيره " 5/ 419، واستدل بذلك لما أخرجه هو وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والحاكم من طريق عبد العزيز الماجشون عن محمد بن المنكدر عن ابن عباس، =(1/212)
ومعنى الشكِّ هنا: هو الوسواسُ الذي لا يدخل دفعه تحت القدرة، وليس معناه الشك المستويَ الطرفين قطعاً. وقد جاء مثل ذلك؛ في موسى الكليم -عليه السلام-، في قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 67 - 68]. فيا من جَرحُ وَسْوَاسهِ لا يُؤسى، أما يُعزِّيك: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}؟! ويا مَن يُداوي بالكلام قلبَه الكلِيم، لا تعدِلْ عن المرهم الذي صنعه الحكيم، لخليله إبراهيم، وهو النظرُ في المعجزات، المعلومُ حُدُوثها، وأنَّه لا بُدَّ لها من مُحْدث مختار؛ بالعلوم الضروريات، عند النظر بالفطرة الأولى (1)، والإخبات، والخلوصِ من شوائب العادات. فإن تعَذَّرَ ذلك -
__________
= قال: أرجى آية في القرآن هذه الآية: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} قال ابن عباس: هذا لما يعرض في الصدور، ويوسوس به الشيطان، فرضي الله من إبراهيم عليه السلام بأن قال: بلى، ومن طريق معمر عن قتادة عن ابن عباس: نحوه، ومن طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس نحوه، وهذه طرق يشد بعضها بعضاً، وإلى ذلك جنح عطاء، فروى ابنُ أبي حاتم وابن جرير من طريق ابن جريج قال: سألت عطاء عن هذه الآية، قال: دخل قلب إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوب الناس، فقال ذلك.
وقال ابن عطية: ومحمل قول ابن عباس: إنها أرجى آية، لما فيها من الإدلال على الله، وسؤال الإحياء في الدنيا، أو لأن الإيمان يكفي فيه الإجمال ولا يحتاج إلى تنقير وبحث، قال: ومحمل قول عطاء: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، أي: من طلب المعاينة، قال: وأما الحديث، فمبني على نفي الشك، والمراد بالشك فيه: الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك المصطلح عليه -وهو التوقف بين الأمرين من غير مزية لأحد عن الآخر- فهو منفي عن الخليل قطعاً؛ لأنه يبعد وقوعه ممن رسخ الإيمان في قلبه، فكيف بمن آتاه اللهُ النبوة، قال: وأيضاً فإن السؤال لما وقع بكيف، دل على حالِ شيءٍ موجود مقرر عند السائل والمسؤول، كما تقول: كيف علم فلان؟، فكيف -في الآية- سؤالٌ عن هيئة الإحياء، لا عن نفس الإحياء، فإنه ثابت مقرر. وقال ابن الجوزي: إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث، فقال: أنا أحق أن أسال ما سأل إبراهيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى، ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك.
(1) في (أ): " الأولة ".(1/213)
بهذه الطريقة، وما قدمناه من النظر في كتاب الله، وقرائن أحوال أنبياء الله -فليس لليقين- بعدَ ذلك- إلا اللجوءُ (1) والتضرُّعُ إلى الله أن يَهَبَه مِنْ عِنده، ويشرح له صدْرَ عبدِهِ. وإن طال في ذلك الطلبُ، وقُوسيَ النَّصَبُ، فإن مراماً طلبَه الكليمُ والخليلُ، لجديرٌ بالطَّلَب الطويل:
مَرامٌ شَطَّ مَرْمَى العَقْلِ فيه ... فَدُونَ مَداهُ بيْدٌ لا تَبِيدُ
بل الدعاءُ، والتضرع، والخضوعُ مُقَدَّم: على النظر في المعجزات، وقرائِنِ الأحوالِ والأمارات. وكفي في ذلك إماماً بالخليل - عليه السلام- فإنَّه حين طلب الطمأنينة؛ رجع إلى مولاه وتضرع إليه ودعاه. وقد أفردتُ في ذلك مصنفاً، سميته: " ترجيحُ دلائلِ القرآن على دلائل اليونان " (2).
وكما أن ذلك سببُ اليقين، فسببُ الشَّكِّ والكفر: هو النظرُ في المتشابهات، التي لم يُحِطِ البشرُ بها عِلماً، ولا عرفوا تأويلَها، كما أشار إليه القرآن العظيم، في قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39]. وما أعظم نفْعها للمتأملين، وما يعقِلُها إلا العالمون، هي أثقابُ الدُّر دقاق، وفهْمُك حبل؛ فما يصحُّ النظمُ.
ثم إني بعدَ الفراغ من ذلك الاضطراب بمعرفة الصواب، والاهتداء بنور السُنَّة والكتاب نظرتُ في أهمِّ أمور الدين، فإذا هو بذلُ الجهد في نصيحة المسلمين كما جاء في " الصحيح ": " الدِّينُ النَصيحة " (3) الحديثَ.
__________
(1) في (أ): " اللجأ ".
(2) وهو مطبوع، ومنه نسخة خطية في خزانة الجامع الكبير في صنعاء، ضمن مجموع (119) تقع في ثلاث وأربعين ورقة، انظر " فهرس مخطوطات المكتبة الغربية " 770.
(3) رواه مسلم (55) وأبو داود (4944) والنسائي 7/ 156 وأحمد 4/ 102 و103 =(1/214)
ومِن أهمَ ما ورد: تحذيرُهم من التباغض والاختلاف وأسبابِ ذلك، وأن تُحِبَّ لهم ما تُحِبُّ لنفسك، قال الله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32] وقال تعالى: في آل عِمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 102 - 103]. وقال تعالى -بعدها بآيةٍ واحدة-: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105].
ونَقَمَ على مَنْ قَبلنا عدم رجوعِهم إلى ما أنْزِلَ إليهم من الكتب، والعلم الذي فيها، فقال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113]. ومثلُه قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران: 19]. يعْني الكتابَ، ولذلك
__________
= والحميدي (837) والبغوي (3514) وأبو عوانة 1/ 37 والخطيب في " تاريخه " 14/ 207 والطبراني في " الكبير " (1260 - 1268) كلهم من حديث تميم الداري، ورواه النسائي 7/ 157 والترمذي (1926) وأحمد 2/ 297 وأبو نعيم 6/ 242 و7/ 142 عن أبي هريرة، ورواه عن ابن عمر الدارميُّ 2/ 311 والبزار (62) وعن ابن عباس أحمدُ 1/ 351 والبزار 61 كما في " زوائده " وعلقه البخاري (1/ 137) ولفظه عند مسلم: " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة لله ولكتابه ولنبيه ولأئمة المسلمين وعامتهم ".(1/215)
وَصَفَهُ بالمجيء. وقال بعدَه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19] إلى قوله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20].
وعن جُنْدُب قال: قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقْرَؤُوا القرآنَ ما ائْتَلَفت عَليْهِ قلُوبُكمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فقُوموا عَنْهُ " رواهُ البخاري ومسلم والنسائي (1).
وروى البخاري والنسَائي من حديث ابنِ مسعود قالَ: سَمِعْتُ رجلاً قرأ آيةً، وسَمعْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ خلافَها، فَجِئْتُ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُهُ؛ فعرفت في وجهه الكراهيَة. فقال: " كِلاكُما مُحْسِن، ولا تختلِفوا فإنَّ مَنْ قبلَكم اختلفوا فهلَكُوا ". انفردَ به البخاريُّ دونَ مسلم (2)، وللجماعةِ معناه
__________
(1) أخرجه البخاري (5060) و (5061) و (7364) و (7365) ومسلم (2667) وهو في " سنن النسائي الكبرى " في فضائل القرآن، كما في " تحفة الأشراف " 2/ 444 وأخرجه الإمام أحمد في " المسند " 4/ 313 والبغوي في " شرح السنة " (1224) وأبو يعلى في " مسنده " 87/ 2 والطبراني في " الكبير " (1673) و (1674) و (1675) والخطيب في " تاريخه " 4/ 228، ومعنى الحديث: اقرؤوا القرآن ما اجتمعت عليه قلوبكم، فإدا اختلفتم في فهم معانيه، فتفرقوا لئلا يتمادى بكم الاختلاف إلى الشر، قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون النهي خاصاً بزمنه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يكون ذلك سبباً لنزول ما يسوؤهم، كما في قوله تعالى: {لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم} ويحتمل أن يكون المعنى: اقرؤوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه، وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهة يقتضي المنازعة الداعية للافتراق، فاتركوا القراءة، وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي للفرقة، وهي كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فاحذروهم ".
(2) رواه البخاري (2410) و (3408) و (3414) و (3476) و (4813) و (5063) و (6517) و (6518) و (7428) و (7477) وأحمد 1/ 393 و405 و412 والبغوي (1229) والنسائي في فضائل القرآن من " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 7/ 152.(1/216)
مِن حديث عمرَ بنِ الخطاب في قصته مع هِشام بن حكيم (1). وله طرق عن ثمانيةَ عشر صحابياً (2).
وفيه حجة واضحة على أن الاختلاف في الأفعال مع التصويب ليس هو الاختلافَ المنهيُّ عنه. ألا تراهُ صوَّبهما في اختلافهما في القراءة، وقالَ: " كلاكُما محسن " وإنما حرَّم عليهم المماراة في ذلك، على وجه تقبيح كل واحدٍ منهما لقراءة الآخر؛ لأن ذلك مفضٍ إلى العداوة، وافتراق كلمة الإسلام. وإلى هذا أشار القرآن الكريم، حيث قال: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] أي قُوَّتكم.
فثبتَ تحريمُ ذلك، وما يؤدي إليه، بالكتاب والسُّنةِ. وما يَعْقلُها إلا العالمون.
ويُوَضحُ ذلكَ من كتاب الله، ما حكاهُ اللهُ تعالى: من اختلاف سليمان وداود -عليهما السلام- مع الثناء عليهما، حيث قال: {ففهَّمناها
__________
(1) رواه البخاري (2419) و (4992) و (5041) و (6936) و (7550) ومسلم (818) وأبو داود (1457) والنسائي (2/ 150) والترمذي (2943)، ومالك 1/ 201 وأحمد 1/ 40 و42 - 43 والطبري (15) والبغوي (1226) والشافعي في " الرسالة " (273) والطيالسي (9) من طرق عن عبد الرحمن بن عبد القارىء أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثم أمهلت حتى انصرف ثم لبَّبته بردائه، فجئت به رسوله الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أقرأ " فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هكذا أنزلت " ثم قال لي: " اقرأ " فقرأت، فقال: " هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه " وزاد السيوطي في " الدر المنثور" 5/ 62 نسبته لابن حبان والبيهقي.
(2) انظر " فتح البارى " 9/ 26.(1/217)
سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا} [الأنبياء: 79]. وكذلك اختلافُ موسى وهارون، وموسى والخضِر (1)، ومخالفةُ علم كُلِّ واحدٍ منهما لِعِلْم الآخر، وموسى وآدم؛ في حديث أبي هريرة (2). متفق عليه. بل قال الله: {لو كان فِيهما آلِهة إلا اللهُ لَفَسدَتا} [الأنبياء: 22]، وأمثالها؛ مما يَدُلُّ على لزوم الاختلاف.
بل جاء اختصامُ الملإِ الأعلى في القرآن، في " ص " (3)، وتفسيره في الحديث (4)، ومنه خصومتُهم في الذي قتلَ مئةً، ثم
__________
(1) رواه البخاري (122) و (3401) و (4725) و (4726) ومسلم (2380) والترمذي (3149) وأحمد 5/ 117 و118 و120 عن ابن عباس، وهو حديث طويل.
(2) ونصه: " احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم أنت أبونا، وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى اصطفاك اللهُ بكلامه، وخط لك التوراة بيده، تلومني على أمرٍ قدره الله عليِّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدمُ موسى، فحج آدم موسى ". رواه البخاري (3409) و (4736) و (4738) و (6614) و (7515) ومسلم (2652) وأبو داود (4701) والترمذي (2134) وابن ماجه (80) وأحمد 2/ 248 و264 و268 و287 و314 و392 و448 و464 والبغوي (68) وعبد الرزاق (20068) والآجري في " الشريعة " (18 و301 و324) والدولابي في " الأسماء والكنى " 1/ 144 والخطيب في " تاريخه " 4/ 349 و5/ 103 و7/ 104 والبيهقي في " الأسماء والصفات " 190 والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 10/ 122، وذكره السيوطي في " الدر المنثور" 1/ 54 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
(3) في الآية: 69، وهي قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
(4) هو قطعة من حديث مطول رواه البغوي في " شرح السنة " (924) بطوله، وأخرجه الدارمي مختصراً 2/ 136 كلاهما من حديث عبد الرحمن بن عائش، وعبد الرحمن بن عائش مختلفٌ في صحبته، ويقوي صحبته أنه صرح في رواية الدارمي بسماعه هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخرجه أحمد 4/ 66 من حديث عبد الرحمن بن عائش عن بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه أحمد أيضًا 5/ 243 والترمذي (3233) عن عبد الرحمن بن عائش عن مالك بن يُخامر، عن معاذ بن جبل، وإسناده صحيح، وأخرجه الترمذي (3232) وأبو يعلى =(1/218)
تابَ (1)، وخصومتهم في الدرجات والكفارات، ورجع الضمير إليهم في قوله: {قُضِيَ بينهم بالحق} [الزمر: 75] على الظاهر (2) والله أعلم.
وَخَرَّجَا معاً من حديث أبي هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّما هلك مَنْ كان قبلكم كثرةُ مسائِلهم، واختلافُهم على أنبيائهم " (3). وقد نَبَّهَ الله -سبحانه- على ذلك، في كتابه الكريم، حيث ذَمَّهم به في قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة: 113].
ولم أبذلْ جهدي فيما جمعت في (4) كتابي هذا طَمعاً فيما لم يحصل بكتب الله المُنزلة على المرسلين من اجتَماع كلمةِ المُنْصِفين والمعاندين على الحق اليقين، وقد قال تعالى في كتابه المبين لسَيِّد ولد آدم أجمعين:
__________
= (677) و (678). وأحمد 1/ 368 من طريق معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس، ورواه البغوي (925) عن ثوبان، ورواه الطبراني في " الكبير " (938) عن أبي رافع مولى رسول الله وانظر " المجمع " 1/ 237، وأخرجه الخطيب في " تاريخه " 8/ 152 عن أبي عبيدة بن الجراح.
(1) هو في " صحيح البخاري " (3470) وسلم (2766) من حديث أبي سعيد الخدري.
(2) اختلف المفسرون في عود الضمير في قوله تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} هل هو للملائكة أو إلى العباد؟ فأكثرهم على عوده للعباد، والمعنى: وقضي بين العباد كلهم، بإدخال بعضهم الجنة وبعضهم النار، وقال بعضهم -واستظهره أبو حيان وهو ما ذهب إليه المؤلف هنا-: إنه يعود إلى الملائكة، وثوابهم -وإن كانوا كلهم معصومين- يكون على حسب تفاضل أعمالهم، فيختلف تفاضل مراتبهم، فإقامة كل في منزلته حسب عمله هو القضاء بينهم بالحق. وانظر " روح المعاني " 24/ 37 للآلوسي.
(3) رواه البخاري (7288) ومسلم (1337) والترمذي (2679) والنسائي 5/ 110 وأحمد 2/ 247 و258 و313 و428 و447 - 448 و457 و467 و482 و495 و503 و508 و517 وابن ماجه (2) والبغوي (98).
(4) في (ب): من.(1/219)
{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ} [النمل: 81] {وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآَيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} [الروم: 58 - 60]. بل حكى الله -تعالى- أنَّ آيات كتابه المُسَمَّى: شفاءً ونوراً، يزيدُهم عمى ونفوراً، بَلْ حصرَهم في ذلك، وَقَصَرهم عليه حيثُ قالَ، تَذكيراً وتحذيراً: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41].
فإنْ قيلَ: هل السُّكُوتُ عن المُبتدعة لازم؛ خوفاً من التفرق، والزيادة في أسبابه، لحديث جُنْدُب المقدم " اقْرَؤُوا القُرآنَ ما ائْتلَفَتْ علَيْهِ قلُوبُكُمْ فإذا اخْتَلَفْتمْ فَقُومُوا عَنْه " خرَّجاه كما مضى (1).
قلْنا: أمَّا بيانُ بِدَعِهِم، وَكَفُّ شَرِّهم على الوجهِ المَشْروع؛ فواجبٌ، أو مستحبٌ، لِما ثَبتَ مِن النصوصِ الصحيحةِ، في تصويبِ عليٍّ -عليه السلام- في حربِ الخوارج (2). وأجمعت الأُمةُ على ذلك، مع ظهور التأويلِ منهم، والإجماعِ عليه.
وأما المِراء -الذي يظنُّ فيه المفسدة، دون المصلحة- فلا خير فيه، وقد فرَّق القرآن بينَه وبين الجدال، بالتي هي أحسنُ، فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال {ولَا تكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ} [آل عمران: 60] والله سبحانه أعلم.
__________
(1) انظر صفحة (216).
(2) انظر " فتح الباري " 12/ 283 - 290 في استتابة المرتدين و" شرح النووي على مسلم " 7/ 166 - 168 و" المغني 8/ 104 - 107 لابن قدامة.(1/220)
هذا وإني لَمَّا نشأتُ بيْنَ كَراسي العُلماء الأكابر، وتربيتُ بَيْنَ عيون أهل البصائر، وَرَتَبْتُ رُتُوبَ الكَعْب في مجالسةِ فُضلاءِ السادة، وثبتُّ ثبوتَ القُطب في مجالس العلم والإفادة، ولم أزل منذ عرفتُ شِمالي من يميني، مشمراً في طلبِ معرفةِ ديني، أتنقَّل (1) في تربية الشيوخ من قُدوة إلى قُدوة، وأتوقل (2) في مدارس العلوم من ربْوَةٍ إلى ربْوَة، وَأمُتُّ إِلى الأصول النبوية بعروق مباركة، وآمُلُ في دعواتهم لِذُرِّيَّاتهِم أن تَشمَلَني منها بَرَكة.
ولم يَزَل يَرَاعِي بلطائف الفوائد نواطِفَ، وبناني للطف المعارف قَواطف. لم يكن -حتماً- أن يرجِعَ طرف نظري عن المعارف خاسئاً حسِيراً، ولم يجب -قطعاً- أن يعودَ جناحُ طلبي للفوائد مهيضاً كَسِيراً، ولم يكن بِدْعاً أن أتَنسَّم من أعطارها روائح، وأتَبصَّرَ من أنوارها لوائح.
وإنَّ جماعةً نَسبوني إلى دعوى كبيرةٍ، وأُمور كثيرةٍ، فاعْتَذَرْتُهم فما عذروا، بل لاموا وعذَلوا، وجاروا وما عَدَلُوا، فصبرْت على الأذى، وعلمتُ أن الناس ما زالوا هكذا.
إلا أنَّه لمَّا كَثُرَ الكلامُ وطالَ، واتَّسعَ القيلُ والقال، جاءتني "رسالة " مُحبَّرة، واعتراضاتٌ مُحرَّرة، مشتملة على الزواجر والعظات، والتنبيه بالكلم المُوقظات، وأهلاً بمنْ أهدى النصيحَةَ، فقد جاء الترغيبُ إلى ذلك في الأحاديث الصحيحة (3)، وليس بضائرٍ -إن شاء الله- ما
__________
(1) في (ب): انتقل.
(2) يقال: توقل في الجبل إذا صَعْد فيه.
(3) أي: الترغيب في النصيحة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الدين النصيحة ... " وقد تقدم تخريجه ص (214 - 215).(1/221)
يَعْرِضُ في ذلك من الجدال، مهما وُزنَ بميزان الاعتدال.
وجِدالُ أهلِ العلْم لَيْسَ بضَائِرٍ ... مَا بَيْنَ غالِبِهِمْ إلى المَغْلُوبِ
بَيْد أنَّها لم تضع تاجَ المَرَحِ والاختيال، وتستعمِلُ ميزان العدل في الاستدلال، بل خالطها من سيما المُحْتالين شَوْبٌ، ومالت من التَّعَنُّتِ في الجدَال إلى صوبٍ، فجاءتني تمشي الخطرى (1) وتميس في محافل الخطَرا (2)، مفضوضة لم تُغتم، مشهورة لم تكتم، متبرجة قد كشفت حجابَها، وَمَزَّقت نِقَابَها، وطافت على الأكابر، وطاشت إلى الأصاغر، وَتَرَقَّت إلى قصير الإمامة، ومحل الزَّعامة، حتى مصَّتْ أيدي الابتذال نضارَتَها، واقتضَّت أفكار الرجالِ بكارتَها، وإن خيرَ النصائح الخفي، وخير النُّصَّاح الحَفِي.
ثُم إني تَأملْتُ فُصُولَها، وتَدبَّرْتُ أصولَها، فوجدتُها مشتملة على القدحِ تارةً فيما نقل عني مِن الكلام، وتارة في كثير من قواعد أهلِ البيت - عليهم السلام- وغيرهم من علماء الإسلام. فرأيتُ ما يَخصني غيرَ جدير بصرف العناية إِليه، ولا كبير يستحق الإقبال بالجواب عليه، إذ كان ذلك مما يتعلق بالمسائل الفرعية، والمسالك الفقهية.
وأما ما يختص بالقواعد الإسلامية -التي أجمعت على صِحَّتها العِتْرةُ الزَّكية، مثل تصحيح الرجوع إلى الآيات القرآنية، والأخبار النبوية، والآثار الصحابية، ونحو ذلك منَ القواعد الأصولية -فرأيتُ القدحَ فيها
__________
(1) أي: تمشي مشية المعجب بنفسه، من قولهم: خطر في مشيته: إذا رفع يديه ووضعهما.
(2) الخطرا جمح خطير كأمير: الشريف من الرجال، العظيم القدر والمنزلة.(1/222)
ليس أمراً هَيِّناً، والذبِّ عنها لازماً متعيناً، فتعرضتُ لجواب ما اشتملت عليه مِنْ نقضِ تلكَ القواعد الكبار، التي قالَ بها الجِلَّةُ مِنَ الأئمة الأطهار، والعلماءِ الأخيار، مضمناً له النداء الصريح ببراءتي عن مخالفة أهل البيت -عليهم السلام- في تلك القواعد العظام، غير متعرضٍ لجواب ما يَخُصُّني في هذه الرسالة المذكورة، إلا أنْ يتخلل شيءٌ مِنْ ذلك؛ -في معْرِضِ الكلام- على هذه القواعد المشهورة.
وقد قَصَدْت وجهَ الله تعالى في الذبِّ عن السنن النبوية، والقواعد الدينية، وليس يَضُرُّني وقوفُ أهل المعرفة على ما لي منَ التقصير، ومعرفتهُم أنّ باعيَ في [هذا] الميدان قصير، لاعترافي أني لستُ مِنْ نُقَّاد هذا الشَّان، وإقراري أني لستُ مِنْ فُرْسَان هذا الميدان، لكنِّي لم أجد من الأصحاب مَنْ يتصدَّى لجواب هذه الرسالة، لمَا يَجُرُّ إليه ذلك منَ القالة.
فتصدَّيتُ لذلك مِن غيرِ إحسان، ولا إعجاب، ومنْ عدمَ الماء تيمم التراب، عالماًً بأني لو كنت باريَ قوسهَا ونبالها، وعنترة فوارسها ونزالها.
فلا يخلو كلامي مِنَ الخطأ عند الانتقاد، ولا يصفو جوابي منَ الغلط عند النُّقاد، فالكلامُ الذي لا يأتيه الباطل مِنْ بين يديه، ولا مِنْ خَلْفِهِ؛ هو كلامُ الله في كتابه العزيز الكريم، وكلامُ مَنْ شهد بعصمته الذِّكرُ الحكيم. وكُلُّ كلام بعد ذلك، فله خطأٌ وصواب، وقِشْرٌ ولُباب.
ولو أن العلماء -رضيَ الله عنهم- تركوا الذَّبَّ عن الحق؛ خوفاً مِنْ كلام الخلق، لكانوا قد أضاعُوا كثيراً، وخافوا حقيراً.
ومن قَصدَ وَجهَ الله -تعالى- في عملٍ من أعمال البِرِّ والتُّقى، لم يَحْسُنْ منه أن يترُكه، لِمَا يجوزُ عليه في ذلك مِنَ الخطا، وأقصى ما يخاف أن يَكِلَّ حُسامُهُ في معترك المناظرة، وَينْبُوَ، ويعْثُر جوادُهُ في مجال(1/223)
المجادلة ويَكبُو، فالأمر في ذلك قريب؛ إنْ أخطأ، فَمَن الذي عُصمَ، وإن خُطىءَ فمَن الذي ما وُصِم. والقاصد لوجه الله لا يخافُ أن يُنقد عليه خَلَلٌ في كلامه، ولا يهاب أن يُدلَّ على بطلان قوله، بل يحب الحق من حيث أتاه، ويقبل الهُدى ممن أهداه، بل المخاشنة بالحق والنصيحة، أحبُّ إليه من المداهنة على الأقوال القبيحة، وصديقك من أصْدَقَكَ لا من صَدَّقَك، وفي نوابغ الكلِمِ، وبدائع الحكَم، عليك بمن يُنذر الإبسالَ والإبلاس، وإياك ومَنْ يقول: لا باسَ ولا تاس.
فإن وقف على كلامي ذكي لا يسْتقويه، أو جافٍ يَسْخرُ منه وَيسْتَزْريه، فالأولى بالذكي أن يحفظ لي جنَاحَ الذُّلِّ من الرحمة، ويشكرَ اللهَ على أن فَضَّلهُ عليَّ بالحكمة، وأما الآخر الزَّاري، وزَنْد الجهالةِ الواري؛ فإن العلاج لِترقيق طبعه الجامد، هو الضرب في الحديد البارد، ولذلك أمَرَ اللهُ بالإعراض عن الجاهلين، وَمدَح به عبادَهُ الصالحين.
ثم إني ترددتُ في كيفية الجواب منَ الإيجاز والإطناب، إذ كان في كلٍّ منهما محامد، ولكلٍ فيهما مقاصد، ففي الإيجاز تأليفُ النفوس الأوابد، وفي الإطناب توسيعُ دائرة الفوائد.
وصَدَّني عن التوسيع والتكثير خشية التنفير والتأخير. أما التنفير، فلأنه يُمِلُّ الكاتبَ والمكتوبَ إليه، والمتطلع إلى رؤية الجواب، والوقوف عليه، مع أنَّ القليل يكفي المنصفَ، والكثير لا يكفي المُتعَسِّف، وضوء البرق المنير يدُلُ على النور الغزير.
وأما التأخير: فلأن التوسيع يحتاج إلى تمهيل عرائس الأفكار، حتى يستكمل الزينة، ومطالعة نفائس الأسْفار الحافلة بالأنظار الرصينة، والآثار(1/224)
المتينة. فهذا البحر -وهو الزَّخّار- يحتاجُ مِنَ السُّحبِ إلى مدَدٍ، والبدرُ -وهو النَّوَّار- يفتقر مِنَ الشمسِ إلى يَد. ومِنْ أين يتأتَّى ذلك، أو يتهيأ لي، وأنا في بَوادٍ خَوالي، وجبالٍ عوالي (1)، فَتَمَصَّصْتُ مِنْ بلل أفكاري بَرَضا، وما أكفي ذلك وأرضى، إذا كان طيباً محضاً.
سامحاً بالقَليلِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ... رُبَّمَا أقْنَعَ القَلِيلُ وأرْضى
ولكن هيهات لذاك، لا محيص لي عن أوفر نصيب من طَف الصَّاع، ولا يد لي منَ الانخداع بداعيةِ الطِّباع.
وقد سَلكتُ -في هذا الجواب- مسَالكَ (2) الجدليِّينَ، فيما يُلْزِمُ الخصم على أصوله، ولم أتَعَرَّض في بعضه لبيان المختار عندي، وذلك لأجل التقية من ذوي الجهل والعصبية، فليتنبه الواقفُ عليه على ذلك، فلا يجْعلْ ما أجَبْتُ به الخصم مذهباً لي، ثم إني قد اختصرتُ هذا الكتاب في كتاب لطيف سَمَيْتهُ: " الروضَ الباسم " (3). وهو أقلُّ تَقِيَّة مِن هذا، ولن يخلو، فالله تعالى المستعان.
" إنَّ هذا الدينَ بَدأ غريباً، وَسيعُودُ غريباً كما بدأ، فطُوبى للغرباء "
رواهُ مسلم، من حديث ابن عمر، ومِن حديث أبي هريرة معاً، وصححه الترمذيُّ من حديث ابن مسعود، وَحسَّنه مِنْ حديث عمرو بن عوف بنحوه، ورواه ابنُ ماجة مِنْ حديث أنس، ونحوه مِنْ حديث معاذ (4).
__________
(1) في هامش (أ) ما نصه: لأن الرسالة التي أجابها بهذا الكتاب، جاءته وهو مقيم ببادية خالية عن الكتب التي يحتاج المجيب إلى مطالعتها.
(2) في (أ): مسلك.
(3) وهو في مجلد لطيف، طبع بالمطبعة المنيرية، ثم صورته دار المعرفة سنة 1399 هـ.
(4) رواه من حديث أبي هريرة مسلمٌ (145) وابن ماجه (3986) وأحمد 2/ 389 =(1/225)
ثم وَجدتُ شيخَ الإسلام الأنصاري (1): قد روى مِنْ طريق أهل البيت عن عليٍّ -عليه السلام- عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " طلبُ الحق غُربة " (2)
__________
= بلفظ: " بدأ الإسلام غريباً، وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء " ورواه مسلمُ (146) عن ابن عمر بلفظ: " إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرزُ بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها " ورواه الترمذي (2629) عن عبد الله بن مسعود وقال: هذا صحيح غريب، ورواه أيضاً (2630) والطبراني في " الكبير " (10081) والبغوي (64) وابن ماجه (3988) والدارمي 2/ 311 و312 وأحمد 1/ 398 من حديث عمرو بن عوف، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، كذا قال، مع أن في إسناده كثير بن عبد الله وهو ضعيف، لكنه قوي بشواهده، ورواه ابن ماجه (3987) عن أنس بن مالك وإسناده حسن، ورواه أحمد 1/ 184 عن سعد بن أبي وقاص وإسناده صحيح، ورواه أحمد 2/ 177 و222 عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ آخر انظر " مجمع الزوائد " 7/ 278 و10/ 258، ورواه أحمد 4/ 73 عن عبد الرحمن بن سنة. ورواه الطبراني في " الكبير " (5866) وفي " الصغير " 1/ 104 والدولابي في " الكنى " 1/ 192 و193 عن سهل بن سعد الساعدي، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 278: ورجاله رجال الصحيح غير بكر بن سليم وهو ثقة، ورواه الطبراني في " الكبير " (11074) عن ابن عباس، وأورده الهيثمي في " المجمع " 7/ 309 ونسبه للطبراني في " الأوسط " و" الكبير " وقال: وفيه ليث بن أبي سليم وهو مدلس، كذا قال ولا نعلم أحداً من الأئمة المتقدمين وصفه بالتدليس سواه وإنما ضعفوه لسوء حفظه، ويغلب على الطن أنه وهم في ذلك ثم رأيت الحافظ ابن حجر تعقب الهيثمي في زوائده على مسند البزار ورقة 297 تعليقاً على قوله في المجمع 3/ 27 و5/ 189 على ليث: ثقة ولكن مدلس، فقال: ما علمت أحداً صرح بأنه ثقة ولا وصفه بالتدليس، وانظر " نظم المتناثر " للكتاني ص 34 و35، وقد شرح هذا الحديث شرحاً موسعاً ثلاثة من الأئمة الأعلام: شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام الأصولي النظار أبو إسحاق الشاطبي " صاحب " الموافقات "، والحافظ الفقيه ابن رجب الحنبلي، ولكل واحدٍ مشربٌ في شرحه، وهي جديرة بأن تنشر في كتاب واحد، ولعلنا فاعلون إن شاء الله.
(1) هو أبو إسماعيل عبد الله بن محمد بن علي الهروي الحنبلي الصوفي، المتوفى سنة (481) هـ، وهو صاحب كتاب " منازل السائرين " الذي شرحه الإمام ابن القيم في ثلاث مجلدات ضخام، وقد تعقبه رحمه الله في غير ما موضع، ونقده في أكثر من مسألة جانب فيها الصواب.
(2) هذا الحديث رواه الهروي في " ذم الكلام " وهو غير مطبوع، ورواه ابن عساكر في " التاريخ " 5/ 161، في ترجمة حمزة بن محمد الجعفري، ففال: أخبرنا أبو القاسم عبد الواحد بن أحمد الهاشمي الصوفي، حدثنا أحمد بن منصور بن يوسف الواعظ الصوفي قال: =(1/226)
وهذه كلمة حق، وحكمة جاءت من مَعْدِنِها. فنسألُ الله أن يَجْبُرَ غُرْبَتنا فيه بسطوع أنواره، وظهور خوافيه، إنه جَوَاد كريم. وهذا حينَ أشرع في الجواب، والله الهادي إلى الصواب.
قال: " أما المسألة الأولى، وهي: سهولةُ تَرقِّي مَرْتبَة الاجتهاد.
فأقولُ: الاجتهاد مبني على أصول:
منها: معرفةُ صحيح الأخبارِ.
ومنها: معرفةُ التفسير المحتاج إليه من الكتاب والسُّنة.
ومنها: معرفةُ الناسخ والمنسوخِ.
ومنها: رسوخ في علوم الاجتهاد أيُّ رُسُوخٍ، وكُلٌّ منها صعبٌ شديد، مدركُهُ بعيد ".
أقول: الكلام في المحاضرات والمراسلات والمناظرات والمحاورات وإن تفاوتت مراتبُهُ، وطالت مساحبُهُ، وتباينت تراكيبُهُ، وتنوَّعت أساليبُهُ، واستنَّت فرسانُهُ في ميادينه الرحيبة، وافتنَّت نُقادُهُ في أساليبهِ العجيبَةِ، فمسالِكُهُ المستجادة: أربعةُ مسالك، ولا يليق التعدي إلى وراء ذلك.
__________
= سمعت أبا محمد جعفر بن محمد الصوفي يقول: سمعت الجنيد بن محمد الصوفي يقول: سمعت السري بن المغلس السقطي الصوفي عن معروف الكرخي الصوفي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب مرفوعاًً وفي إسناده من لا يعرف وأورده السيوطي في " الجامع الكبير " 1/ 567 وزاد نسبته إلى الديلمي والرافعي في " تاريخه "، وذكره الذهبي في " ميزانه " 3/ 107 وحكم عليه بالوضع، وأقره الحافظ في " اللسان " 4/ 187 والمناوي في " الفيض " 4/ 269.(1/227)
المسلك الأوَّل: الدعاءُ إلى الحق بالحِكمة البُرْهانية، والأدلة القطعية، وهي أجلُّ المراتب، وأرفعُها، وأقطعُها للتشغيب، وأنفعُها، وعليها المدارُ في القطعي من علم المعقول، وعلم المنقول.
المسلك الثاني: الجدلية: وهي عبارة عن أقْيِسَةٍ مؤلَّفةٍ مِنْ مقدمات مشهورة؛ غير يقينية. وهي قضايا يُحْكَم بها لاعتراف الناس لمصلحةٍ عامة، أو رِقَّةٍ، أو حَمِيُّة، أو عادات، أو آداب. ولو خُلِّيَ الإِنسانُ ونفسُهُ -مع قطع النظر عمّا وراء العقل- لم يحكم بها، مثل قول البرَهْمي (1): " كشفُ العورة مذموم ". وقول الفلسفي: " تعذيب العاصي قبيح ". مستندين في ذلك إلى مجرد العادة، والرِّقَّة، وقد تصْدُقُ وتَكْذِبُ، والغرض منَ الجدل إقْنَاعُ القاصر عن درْكِ البُرهان، وإلزام الخَصم، هكذا ذكَرَهُ علماءُ هذا الفنِّ.
المَسْلك الثالث: الخطابية. قال المنطقيون: وهي قياساتٌ مؤَلَّفَةٌ مِنْ مقدماتٍ مقبولةٍ مِنْ شخص معتقد، أو مظنونة، وهي قضايا تُؤْخذ ممن يُعْتَقَد فيه مزيد عقل أو دين، كالموجودات من أهل العلم والزهد، أو مظنونات منْ سائر القرائن، مثل: فلان يطوف بالليل فهو سارق. والغرض مِن الخطابية، ترغيبُ السامع فيما ينفعه مِن تهذيب الأخلاق، وأمر الدين.
المسلك الرابع: الوعظية، وهي نوعان: التأليف والترغيب، والتخويف والترهيب، ولكلٍّ منهما مكانٌ يليق به، وحال يَصْلُح له، وَمِنْ ثَمَّ اختلَف السمعُ في ذلك؛ ففي موضعٍ يقولُ: {وقُولا لَهُ قَولاً لَيِّناً}
__________
(1) البرهمي واحد البراهمة: وهم طائفة من مجوس الهند لا يجوزون على الله تعالى بعث الأنبياء، ويحرمون لحوم الحيوان.(1/228)
[طه: 44]، {فَبِمَا رَحْمَةٍ منَ اللهِ ... } [آل عمران: 159]. وفي موضع: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، {قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18]. ومنْ ثمَّ مدح المؤمنين بالذِّلة في موضع، وبالعزَّةِ في موضع.
أما النوعُ الأول: وهو نوعُ التأليف والترغيب، فهو الدعاء إلى الحقِّ بالملاطفة، وَضرْبِ الأمثالِ، وحُسْن الخُلُقِ، ولِين القولِ، وحسنِ التَّصَرُّفِ في جَذب القلوب، وتَمييل النفوس. وهذا النوع أشهرُ مِنْ أن يُبَيَّنَ بِمثَال، وسوف يأتي في التنبيه السابع ذِكْرُ طرَفٍ يسيرٍ منْ أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المَرْويَّة في هذا المعنى.
وأما النوع الثاني: وهو نوع التخويف والترهيب؛ وهو الدعاء إلى الحق بذكر الزواجر، وكشفِ غطاء المداهنة مع المخاطَب. وقد وردَ ذلك وروداً كثيراً، في السُّنةِ النبوية، والآثارِ الصحابية، وأخبار العِتْرةِ الزكية.
بل ورَد في كتاب الله تعالى، قال اللهُ -سبحانه- حاكياً عن كليمه موسى -عليه السلام-: {فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} [القصص: 18].
ومنْ ذلكَ قولُ يوسف لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا} [يوسف: 77] لَمَّا نسَبُوهُ إلى السَّرقة.
ومنَ الأحاديث الواردة في ذلك قولُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَر -رضي الله عنه-: " إنَّك امرءٌ فيكَ جاهلية " (1) رواهُ البخاريُّ. ومنه:
__________
(1) أخرج البخاري في صحيحه (30) و (2545) و (6050)، ومسلم (1661) =(1/229)
حديثُ سَلَمة بن الأكوع، الثابت في صحيح مسلم أنَّ رجلاً أكَلَ بشِمالِهِ عند رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: " كُلْ بيمينك " فقالَ: لا أستطيعُ. فقالَ: " لا استَطعْتَ " مَا مَنعهُ إلا الكبْرُ، قالَ: فما رَفعَها إلى فِيه (1). وهذا الرجلُ صحابيٌّ منْ أهلِ الإسلام، وهو بُسْر بن راعي العِير الأشجعي. ذكره النووي (2). ومِنْ ذلكَ الحديث: " مَنْ سمعَ رجلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً في المسجدِ، فليقُلْ: لا رَدَّهَا الله علَيْكَ، فإنَّ المساجدَ لم تُبْنَ لِهَذا ". رواهُ مسلمٌ (3) عن أبي هريرة. وروى مسلمٌ أيضاًً عن بُريدة: أنَّ رَجلًا نشد في المسجد، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لَا وَجَدْتَ " (4). ومنه الحديث: " إذَا رَأيْتُمْ مَنْ يبِيعُ أو يبْتَاعُ في المَسْجِدِ، فَقولُوا: لَا أرْبَحَ الله تجارتك " (5)
__________
= من طريق المعرور بن سويد، قال: لقيت أبا ذر بالرَّبذَة وعليه حُلة وعلى غلامه حُلَّة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلاً، فعيّرته بأمه، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا أبا ذر أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتوهم فأعينوهم عليه " ورواه أحمد 5/ 158 و161، وأبو داود (5157) والترمذي (1945) والبغوي (2402).
(1) هو في صحيح مسلم (2021) في الأشربة: باب آداب الطعام والشراب.
(2) في كتابه الأذكار ص 262، وقد ورد اسمه مصرحاً به في رواية الدارمي 2/ 97، وعبد بن حميد، وابن حبان، والطبراني (6235) من طريق عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبصر بسر بن راعي العير يأكل بشماله ... قال الحافظ في الإصابة 1/ 148 تعليقاً على قوله " ما منعه إلا الكبر ": واستدل عياض في شرح مسلم على أنه كان منافقاً، وزيفه النووي في شرحه متمسكاً بأن ابن منده وأبا نعيم وابن ماكولا وغيرهم ذكروه في الصحابة. وفي هذا الاستدلال نظر، لأن كل من ذكره لم يذكر له مستنداً إلا هذا الحديث، فالاحتمال قائم، ويمكن الجمع أنه كان في تلك الحالة لم يسلم ثم أسلم بعد ذلك.
(3) (568) في المساجد: باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، ورواه أبو داود (473) وأحمد 2/ 349 و420، وابن ماجه (767) وابن خزيمة (1302).
(4) رواه مسلم (569) وابن ماجه (765) والطيالسي (804) وابن خزيمة (1301).
(5) رواه الترمذي (1321) والدارمي 1/ 326، وابن الجارود (562) وابن السني (551) والبيهقي 2/ 447 وإسناده قوي، وصححه ابن خزيمة (1307) وابن حبان (312) والحاكم 2/ 56، ووافقه الذهبي.(1/230)
رواهُ الترمذيُّ عن أبي هريرة، وقال: حديث حسن. وهذه الأخبارُ عامةٌ في ناشدٍ الضَّالَّةِ، والبائع، والمبتاع، كائناً مَنْ كان.
وقد ذكرَ النواويُّ فصلاً في كتاب " الأذكار " (1)، في أنه يجوز للآمرِ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ، وكُل مُؤَدِّب، أن يقول لمن يُخاطبه في ذلك: ويلك، ويا ضَعِيفَ الحال، ويا قليلَ النظر لنفسه، أو يا ظالِمَ نفسه، وأورد في ذلك أحاديثَ.
منها: حديثُ عَديِّ بنِ حاتِم، الثابت في صحيح مسلم (2): أنَّ رجلاً خطب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَنْ يُطع اللهَ ورسولَه، فَقد رشد، ومَنْ يَعْصهِما، فَقد غَوى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بِئْسَ الخَطِيبُ أنْت؛ قُلْ: ومَنْ يعْصِ الله ورسوله " (3).
وروى فيه حديثَ جابرِ بنِ عبد الله: أن عبْداً لحاطِبٍ جاء يشكو حَاطِباً، فقال: يا رسُولَ الله ليدخلنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كذبْتَ، لا يدْخُلها فإنَّهُ شهِد بدراً والحُديبية " رواهُ مسلمٌ في الصحيح (4).
__________
(1) ص (304).
(2) (870) وأخرجه أبو داود (4960) والنسائي 6/ 80، وأحمد 4/ 256 و379 والطبراني 17/ 98، والطيالسي (1026) والبيهقي 3/ 216.
(3) وهذا النهي موجه لغير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - هذا القول كما في حديث ابن مسعود في خطبة النكاح: " ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه " رواه أبو داود، وفي حديث أنس " ومن يعصهما فقد غوى " وهما صحيحان، وقال السندي في حاشية النسائي: قال الشيخ عز الدين: من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يجوز له الجمع في الضمير بينه وبين ربه تعالى، وذلك ممتنع على غيره، قال: وإنما يمتنع من غيره دونه، لأن غيره إذا جمع أوهم إطلاق التسوية،
بخلافه هو، فإن منصبه لا يتطرق إليه إيهام ذلك.
(4) رقم (2195)، ورواه أحمد 3/ 325، وعبد الرزاق (20418) والترمذي (3956) والطبراني (3064).(1/231)
وذَكَرَ فيه قولَه -عليه السلام- لِصاحب البَدنةِ: " ويلَك ارْكَبْها " (1).
وقوله -عليه السلام- لذي الخُويصرة: " ويلك فَمنْ يَعْدلُ إنْ لَمْ أَعْدِلْ " (2).
ومِنَ الآثار في ذلك: ما روي من قولِ علي -عليه السلام-: " قَبَّحَ اللهُ مَصقلة، فعَلَ فِعْلَ السادة، وَفرَّ فِرارَ العبيد. فما أنطقَ مادحه حتى أسكته، وما صدق واصفه حتى بكَّتَهُ ". ذكره في " النَّهْجِ " (3). وما رُوي من قوله -عليه السلام-: لابن عباس -رضي الله عنهما-: إنك امرؤ تائِه. -حين راجعه في المُتْعَة-، وكلامُ عليٍّ -عليه السلام-: لأصحابه، في " النَّهْج " مشهور، وفيه من هذا القبيلِ شيءٌ كثير.
وَمِنَ الأثارِ في ذلك: أَثرُ عبد الرحمن بن أبي بكر. وفيه: أن أباه
__________
(1) رواه البخاري (1689) و (1706) و (2755) و (6160) ومالك 1/ 377، ومسلم (1322) وأحمد 2/ 312 و474 و487 و505، والنسائي 5/ 176، والبغوي (1954).
(2) رواه من حديث أبي سعيد الخدري البخاري (6163) و (3344) و (3610) و (4351) و (4667) و (5058) و (6931) و (6933) و (7432) و (7562) ومسلم (1064) وعبد الرزاق (18649) والبغوي (2552) وابن ماجه (172) وأحمد 3/ 68 و73، وابن أبي عاصم في السنة (910) وأبو داود (4764).
(3) أي نهج البلاغة، قال الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3/ 124 في ترجمة الشريف المرتضى علي بن الحسين العلوي الحسني: وهو المتهم بوضع كتاب " نهج البلاغة " وله مشاركة قوية في العلوم، ومن طالع كتابه نهج البلاغة، جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ففبه السبُّ الصراح، والحط على السيدين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفيه من التناقض والأشياء الركيكة، والعبارات التي من له معرفة بنَفس القرشيين الصحابة وبنفسِ غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بأن الكتاب أكثره باطل.
ومصقلَةُ هذا: هو مصقلة بن هبيرة بن شبل الثعلبي الشيباني من بكر بن وائل، قائد من الولاة، كان من رجال علي بن أبي طالب، وإقامه علي عاملاً له في بعض كور الأهواز، وتحول إلى معاوية بن أبي سفيان في خبر أورده المسعودي، فكان معه في صفين .... انظر الأعلام 7/ 249.(1/232)
ضَيَّف جماعةً، وأجلسهم في منزله، وانصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتأخر رجوعُهُ. فقالَ: أَعَشَّيتُموهم؟ قالوا: لا. فأقبل على ابنه عبد الرحمن، فقال: يا غُنثَرُ، فجدَّع وسبَّ (1). وفي هذا المعنى أخبارٌ كثيرةٌ، وآثارٌ واسعةٌ لا سبيلَ إلى استقصائِها.
وهذا النوعُ أقسامٌ: منه ما يقع مع أهل المعاصي، ويتضمَّنُ الذَّمَّ لهم، والدعاء عليهم. وهذا القسم لا يكون في هذا الجواب منه شيءٌ - إن شاء الله تعالى-، لأن هذا الجواب خطاب لأهل العلم والمراتب الشريفة.
ومنه ما يكونُ مع أهل العلم والفضل، ولكن على سبيلِ التأديبِ، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذَر: " إنَّك امرؤٌ فيك جَاهِلِيةٌ " (2). وقول عليٍّ -عليه السلام- لابنِ عباس: إنكَ امرؤٌ تائه (3). فهذا أيضاً لا يكون -في هذا الجواب- منه شيءٌ؛ لأنَّ المُجيبَ أحقرُ مِنْ أن يؤدِّبَ مَنْ هو أجلُّ مِنهُ وأكبر، بل هو بأن يُؤدَّبَ أحقُّ وأجدرُ.
ومنه ما يكونُ على جهة التنبيه -لأهل الفضل والعلم- بقوارعِ الكلام
__________
(1) رواه البخاري (602) و (3581) و (6140) و (6141) ومسلم (2057) وأحمد 1/ 198. وقوله: يا غنثر، ضبطه النووي بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة، ثم ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة: وهو الثقيل الوخم، وقيل: هو الجاهل، مأخوذ من الغثارة بفتح الغين المعجمة وهي الجهل والنون زائدة، وقوله: فجدَّع أي، دعا عليه بالجدع وهو قطع الأنف وغيره من الأعضاء.
(2) تقدم تخريجه ص (229 - 230).
(3) رواه النسائي 6/ 125 - 126 من طريق عمرو بن علي، عن يحيى، عن عبيد الله بن عمر، قال، حدثني الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما أن علياً بلغه أن رجلاً (هو ابن عباس) لا يرى بالمتعة بأساً، فقال: إنك تائه، إنه " نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ". وهذا إسناد صحيح، والتائه: الحائر الذاهب عن الصراط المستقيم.(1/233)
الموقظة -على سبيل الحِدَّة في المَوْجدَه والموعظة- وهذا قد يدخلُ منه شيءٌ في الجواب، لأنه لا أحد بأحقر من أن يقول لغيره: اتق الله، ولا أحد بأكبر من أن يقال له: اتَّقِ الله.
واعلم أن للزجر والتخويف بالألفاظ الغليظة شروطاً أربعة:
شرطين في الإباحة، وهما: أن لا يكون المزجور مُحِقَّاً في قوله أو فعله، وأن لا يكون الزاجرُ كاذباً في قولهِ، فلا يقول لِمن ارتكب مكروهاً: يا عاصي، ولا لِمَن ارتكب ذنباً لا يعلم كِبْرَهُ (1): لا فاسق، ولا لصاحب الفسق -مِنَ المسلمين-: يا كافر. ونحو ذلك.
وشرطين في النَّدب، وهما: أن يظنَّ المتكلمُ أنَّ الشدَّة أقربُ إلى قبولِ الخَصْمِ للحقِّ، أو إلى وضوحِ الدليلِ عليه، وأن يفعلَ ذلك بنيَّةٍ صحيحةٍ، ولا يفْعَلُهُ لمجردِ داعيةِ الطبيعة.
فإن قلتَ: فكيف تكونُ الشِّدةُ أَقربَ إلى القبول؟ قلت: قد يكونُ كذلك -في بعض المواضع- مثل أن يقع مع الصالح الخاشع المتواضع، وذلك قليل.
إذا عرفَت هذا، فاعلم أنه لَمَّا كان الكلام في المراسلات لا يكاد يخلو مِنْ هذه المسالك الأربعة، أحببتُ التعريف بها، خوفاً مِمَنْ لا يعرف هذا الشأن، وممَّن لم يتدرَّبْ في هذا الميدان يحْسِبُ أنِّي حين أذكر الطريقة الخطابية، والأمثال الوعظية، قد اكتفيتُ بها عن إيرادِ الأدلةِ
__________
(1) كبر الشيء بكسر الكاف: معظمه، ومنه قول قيس بن الخطيم:
تنامُ عَنْ كِبْرِ شأنها فإذا ... قامت رويداً تكاد تنغرِفُ
وفي كتاب الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} قال ثعلب: يعني معظم الإفك.(1/234)
العلمية، والبراهينِ القطعية، واهماً أني لا أسبحُ إلا في شريعة هذا الفرات، ولا أجري إلا في ميادين هذه العبارات، ولا يدري أني قد أصَبتُ مَحَزَّ (1) الإصابة، ووضعتُ الهِناء (2) مواضِع النُّقْبِ. ولكل مقام مقالٌ، لا يَلِيقُ سواه بمقتضى الحال. وإنما المجيب يقفو آثارَ مَنِ ابتداه، ويتكلَّم على كلامه (3) بمقتضاه. فحين يتكلم المبتدىءُ في المواضع الخطابية، والمسالك الجدلية، أغزو مغزاه، وأسْتنُ في مجراه، وحين يتكلَمُ في الأدلة القطعية، والبراهين القوية، أقفو على آثاره، وأعشُو (4) إلى ضوءِ ناره، وهذا هو حكمُ المجيب. فليس بملومٍ على ذلك، ولا معيب.
وإذْ قدْ عرفت هذه المقدَمة، فلنشرعْ في الجواب على ما تقدم - من كلام السيِّد -أيَّده الله- في تفسير الاجتهاد، ومنع القول بسهولته.
والجواب على ما تقدَّم مِنْ كلامه يَتمُّ بذكر أحدٍ وعشرين تنبيهاً.
التنبيه الأول: في عبارة " السيد " -أيده الله- رَمي لي بقولٍ مستغرَب في تسهيل الاجتهاد، ورأي مستطرَف يُجانِبُ مذاهب النقاد، ولم أعلم لي في ذلك مذهباً غريباً، ولا رأْيأ حديثاً، وأنا أَشْترطُ في الاجتهاد ما يَشْتَرطُهُ غيري من أهلِ المذهبِ (5) وغيرهِم -كما سيأتي بيان ذلك-. ولا
__________
(1) المحز: هو موضع الحز، يقال: تكلم فأصاب المحَز: إذا تكلم فأقنع.
(2) الهناء: القطران، والنُّقْب والنُّقَبُ: القطع المتفرقة من الجرب، الواحدة نقبة، وفي شعر دريد بالخنساء:
مُتَبَذِّلاً تبدُو محاسِنُه ... يضعُ الهناءَ مواضِعَ النُّقْب
وفلان يضع الهناء مواضع النقب: إذا كان ماهراً مصيباً.
(3) في (ب): على آثاره.
(4) يقال: عشا إلى النار: إذا رآها ليلاً علي بعد فقصدها مستضيئاً بها، قال الحطيئة:
متى تأتِه تعشُو إلى ضوءِ نَارِهِ ... تجدْ خيرَ نارٍ عندَها خيرُ مُوقِد
(5) أي: المذهب الزيدي.(1/235)
معنى لِمراسَلتي ومناظرتي في ذلك، لأنَّ المراسلةَ فرعُ المخالفةِ، ولمْ يكن الأصل مني -وهو المخالفة- فيكونُ الفرعُ من " السَّيدِ "؛ وهو المراسلةُ والمناظرةُ.
وقد أَخلَّ " السيِّدُ " -أَيَّدَهُ الله- بقاعدَةٍ كبيرةٍ؛ هي أساسُ المناظرة، وأصلُ المراسلة، وهي: إيرادُ كلام الخصْم " بلفظه " أوَّلاً، ثم التَّعَرُضُ لِنَقْضِه ثانياً. وهذا شيء لا يَغْفُلُ عنه أحدٌ من أهل الدِّرْيةِ (1) بالعلوم، والخوض في الحقائق، والممارسة للدَّقائق، وإنما تختلِف مذاهبُ النُّقادِ في ذلك، ولهم فيه مذهبان:
المذهب الأول: أن يُورِدَ كلامَ الخصْمِ " بنَصِّه "، ويتخلَّص من التُّهمة بتَغْييره وَنقصهِ. وهذا هو المذهبُ المرتضى عند أمراءِ الفنونِ النظريةِ، وأَئِمةِ الأساليبِ الجدَلية.
وقد عاب عبد الحميد بن أبي الحديد (2) على قاضي القضاة (3)؛ أنه
__________
(1) الدرية كالدراية، يقال: درى الشيء دَرياً ودِرياً، ودِرية، ودرْياناً ودِراية: علمه.
(2) هو عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني صاحب شرح نهج البلاغة الغالي في التشيع، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمس مئة، ثم صار إلى بغداد، فكان أحد الكتاب والشعراء في الديوان الخليفي، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في المشرب والمذهب والأدب. توفي ببغداد سنة 655 هـ. انظر " فوات الوفيات " 2/ 259، والبداية لابن كثير 13/ 199.
(3) هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسدابادي، شيخ المعتزلة في عصره، وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره، قال الخطيب في تاريخه 11/ 113: كان ينتحل مذهب الشافعي في الفروع ومذاهب المعتزلة في الأصول، وله في ذلك مصنفات، وولي قضاء القضاة بالري، وورد بغداد حاجاً وحدث بها. وقال الإمام الذهبي: صنف في مذهبه -أي: الاعتزال- وذب عنه، ودعا إليه، وله مقالة محكية في كتب الأصول، وصنف دلائل النبوة، فأجاد فيه وبرز، أرخ وفاته السبكي في " طبقات " 5/ 97 سنة خمس عشرة وأربع مئة.(1/236)
ينْقُضُ كلامَ السيِّدِ المرتضى (1) في مراسلات دارت بينهما، ولا يُورِدُ لفظَهُ ولا يَنُصُّ.
واعلم: أن تركَ كلام الخَصْمِ ظلٌم لَه ظاهرٌ وحَيْفٌ عليهِ واضح، لأنَّهُ إنَّما تكلَّم، ليكونَ كلامُه موازناً لكلام خصْمِهِ في كفَّةِ المِيزان الذهني، وموازياً له في جولة الميدان الجَدَلي، لأنَّ المُنْفَرِدَ يرجحُ في الميزانِ، وإن كان خفيفاً، ويسبِقُ في الميدان، وإن كان ضعيفاً. وهذا كُلُّهُ إذا كان للخصمِ كلامٌ يُحْفَظُ، واختيارٌ يصِحُّ أنْ يُنقَض، فمِنَ العدلِ بيانُ قوله، وحكايةُ لفظهِ، وأما إذا لم يكن له مذهبٌ ألبَتَّة، وإنما وُهِمَ عليه في مَذْهبهِ، ورُميَ بما لم يَقُلْ به، فهذا ظُلم على ظُلْمٍ، وظلماتٌ بعْضُها فوق بعض.
المذهب الثاني: من مذاهب النُّقاد في نقضِ كلامِ الخُصُوم: أن يحكوا مذاهبَهم بالمعنى، وفي هذا المذهب شَوبٌ مِن الظلم، لأن الخصمَ قد اختار له لفظاً، وحرَّرَ لدَليلهِ عبارةً ارتضاها لبيان مقصدِهِ، وانتقاها لكيفيةِ استدلاله، وتراكيبُ الكلامِ متفاوتة، ومراتبُ الصِّيغ متباينة، والألفاظُ معاني المعاني، والتراكيبُ مراكيبُ المتناظرين، وما يرْضى المبارزُ لِلطِّرادِ بغير جواده، ولا يرضى الرافعُ للبناء بغيرِ أساسه، مع أن قطعَ الأعذارِ من أعظمِ مقاصدِ النُّظَار.
وهذه الأمور لم تكن مظالم شرعيَّة، وحقائق حِسِّيَّة، فهي آدابُ بينَ المتناظرين رائقة، ولطائفُ بين المتأدبينَ لائِقة، ومراقٍ إلى العدل
__________
(1) هو علي بن الحسين بن موسى العلوي أخو الشريف الرضي، كان يلقب ذا المجدين، وكانت إليه نقابة الطالبيين، وكان شاعراً مكثراً له تصانيف على مذاهب الشيعة. توفي سنة ست وثلاثين وأربع مئة.(1/237)
والتناصف، وَدَواعٍ إلى الرفقِ والتعاطف. وكل ما خالَفَها من الأساليبِ فارقَ حظَّهُ من هذه الآدابِ الحسان، وكلُّ منْ جانبها من المتناظرين علقته رائحة من قول حسَّان:
.................... إنَّ الخَلَائقَ فَاعْلَمْ شرُّهَا البِدَعُ (1)
استدراك: ما كان من أقوال الخصومِ معلوماً بالضرورة، لا تفاوت العبارات في إعطاءِ معناه؛ كبعض مذاهب المعتزلة والأشاعرة، وسائر الطوائف، فإنها معلومةٌ بالتواترِ، مأمون من منازعةِ أربابها فيها، فلا شين على الخصمِ إذا ذهبَ هذا المذهب في حكايتِها -بالمعنى- إذ لم يكن في معناها غُموضٌ تفاوتُ -في الكشف عنه- العبارات.
والعجبُ أن السيِّد -أَيَّدَه الله- مع ما لَه من جلالةِ القدر والخطر، ومع قطعِ عُمُرهِ في علومِ الجَدَلِ والنظر، أَهْملَ هذا المهمَّ الجليل، وغَفَلَ عن هذا الأصلِ العظيم، فظلمني حظي، ولم يأت بلفظي؛ حتى أُحاميَ عنه، وأُبيِّنَ فسادَ ما أَخَذهُ منه. وإنما تُقَرَّرُ الأُمور على مبانيها، وتُفَرَّعُ العلوم على مباديها، والفرعُ من غير أصل كالبناء من غير أساس، والجواب من غير مبتدأٍ كالطُّنْبِ (2) من غيرِ عمود.
أيها السَّيِّد: كم جمعتَ عليَّ في هذه الدعوى مظالم، وادعيت عليَّ وأنا (3) غائب، ولم تأت ببينة، وحكمت لنفسك، ولم تَنْصِبْ لي وكيلاً،
__________
(1) عجز بيت، وصدره: سجية تلْك منهم غيْرُ مُحْدَثه.
وهو في ديوان حسان ص (145) من قصيدة مطلعها.
إن الذَّوائب منْ فهرٍ وإخوتهم ... قدْ بيَّنُوا سُنَّة للنَّاس تُتَّبَعُ
(2) الطُّنْبُ والطُّنُبُ: جل طويل يُشد به البيت والسُّرادق بين الأرض والطرائق، وقيل: هو الوتد، والجمع أطناب وطِنَبَة.
(3) في ب: وأنت.(1/238)
ولم تجعل بيني وبينكَ حكماً. فضربت خَيمةَ الدَّعوى على غير عمودٍ ولا طُنُبٍ، ورفعتَ سقفَ الحكومة على غيرِ أساسٍ ولا خُشُب.
التنبيه الثاني: المراجعةُ في أنَّ الاجتهادَ مُتَعَسَرٌ أو مُتيَسِّر من غرائب الأساليب المُتَعَسِّفَة، لأن مقاديرَ التَّسَهُّلِ والتَّعَسُّر غيرُ مُنْضَبِطَةٍ بحَدٍّ، ولا واقفةٌ على مِقْدار، ولا جاريةٌ على قِياس، ولا يصحُّ في معرفة مقاديرها برهانُ العقل ولا نصُّ الشرع، ولا يعرف مقاديرُها بكيلٍ ولا وزن، ولا مساحةٍ ولا خَرْصٍ، فإن من قال: إن حفظ القرآنِ علَيَّ متعسِّرٌ أو متيسِّرٌ، أو حفظَ الفقه، أو طلبَ الحديث، أو الحجَّ، أو الجهاد، أو غيرَ ذلك، كلُّ من ادعى سهولةَ شيءٍ منها -عليه- أو مشقته، لم يعقد له مجلسُ المناظرة، ويُطالب بالبراهين المنطقية، لأن الذي ادَّعاه أمرٌ ممكن، وهو يختلِفُ باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد يكون متسهِّلاً على بعض الناس، متعسِّراً على غيره.
فطلبُ العلم متسهلٌ على ذَكيِّ القلبِ، صادقِ الرَّغبةِ، خَليِّ البالِ عن الشواغلِ، الواجدِ للكتب المفيدة، والشيوخ المُبَرِّزِين، والكفايةِ فيما يحتاج إليه، ونحو ذلك من كثرة الدواعي، وَقِلَّةِ الصوارف.
وطلبُ العلمِ متعسِّرٌ على مَنْ فقد هذهِ الأشياءَ كلَّها، وابتُلِيَ بأضدادها، وبينهما في التَّيسُّرِ والتَّعسُّر درجاتٌ غيرُ منحصِرَةٍ، ومراتبُ غيرُ منضبطةٍ، وبينَ النَّاس من التفاوت ما لا يُمْكنُ ضَبْطُهُ ولا يَتَهَيَّأ، وأين الثَّرى من الثُّريَّا!.
وجامدُ الطبع، بليد الذِّهْنِ؛ إذا سَمِعَ من يدَّعي سهولَة ارتجال القصائد والخُطَب، وتحبير الرسائلِ والكتُب، توهم أنه بمنزلةِ من يدعي(1/239)
إحياءَ الموتى، وإبراءَ الأكمه والأبْرَص، وكذلك الضَّعيفُ الزَّمِن إذا سمعَ من يدَّعي سهولةَ حملِ الأشياءِ الثَّقيلة، وعمل الأعمالِ الشاقَّة. وكذلك الجَبان الفشل (1)؛ إذا سمع من يدعي سهولَة مقارعةِ الأقران، ومنازلة الشُّجْعان.
ولم نعْلَمْ أنَّ أحداً سَنَّ المناظرةَ في دعوى سهولة شيءٍ أو تَعسُّره؛ وسواء كان ذلك الشيء من قِبل العلمِ أو العمل، أو الفضائل أو (2) الصناعات، مهما كان ذلك الشيء المدعى من جِنْسِ المقدورات. وليت شعري! كيف يكون تركيب المقدمات على أن غيبَ القرآن، أو قراءَة الحديث، أو نحو ذلك: مُتَسَهِّلٌ أو مُتَعسِّرٌ؟! فإن قيل: لم يَزلِ العلماءُ يختبرون الأئمة في الاجتهاد، ويُناظرونهم؟ قُلنا: وأين هذا مما نحن فيه، إنما كلامنا فيمن ادعى أن طلب الاجتهاد سهلٌ على من أراده، ولم يَدَّعِ أنَّه مجتهد. وكذا مَن ادَّعى: أن غيب القرآن سهلٌ، ولم يَدَّعِ أنه مُتَغيِّب. فإنا ما علمنا أن أَحداً ترسَّل على من ادعى شيئاً من ذلك حتى يكشِف ما ادعاه من الجهالة، ويهديه إلى الحقِ، ويصدَّهُ عن الضَّلالة، ويطوِّفَ في الرد عليه في المحافل، وُيسيِّر الجواب عليه إلى المدارس.
ومثل هذا لا يحتاج إلى تطويل العبارة، بل ولا يحتاجُ إلى الإيماءِ والإشارة، لكن أحْوَج إليه كثرةُ التَّعسُّف.
وإذا عرفتَ هذا، فنقولُ للسيِّد -أيَّده الله-: ما مرادُك بتعسُّرِ الاجتهادِ، أو تعَذُّرِه، وتصدير الرسالة بالإنكار لسهولته، والاحتجاج
__________
(1) الفشل: هو الضعيف الجبان، يقال: فَشِلَ الرجل فَشَلاً، فهو فَشِلٌ: كَسِلَ وضعف، وتراخى وجبن.
(2) في ب: و.(1/240)
الطويل على ذلك؟ هل تريدُ أنه متعسِّرٌ على الخصم الذي كتبتَ إليه، وأوردتَ الأدلةَ عليه؟ فَلسْتُ أُنكرُ عليك هذا، فربما رأيتَ من قصورِ هِمَّتي، وعدم صلاحيتي؛ ما يقضي بذلك، فتكلمت بِما علمت، ولا لوْمَ عليك في ذلك، ولا حَرَجَ، ولكن ما هذا ممّا يحتمل إنشاءَ الرسائلِ، ولا يليقُ في مثله طَلبُ البرهان والدلائل، وإن كنت تريد أن ذلك عسيرٌ على الناسِ كلهم -كما هو ظاهرُ كلامِك، ومفهومُ خطابك- فذلك لا ينبغي صدُوره منْ مِثلِكَ، ولا يَليقُ بفهمك وفضلِك، فإنَّكَ قد عرفتَ أحوالَ الناسِ وتفاوتَها إلى غير حدٍّ، وتباينها إلى غيرِ مقدار، واعْتبِر أحوال الناسِ في قديمِ الزمان وحديثهِ، وبعيدهِ وقريبه.
هذا أميرُ المؤمنين -عليه السلام- اخْتُصَّ مِنْ بَيْنِ الصحابة والقرابة بالعلم الذي لم يُمَاثَلْ فيه، ولم يُشارك ولم يُشابَه فيه، ولم يُقارَبْ، بحيث إنه لم يُعْلَمْ -بعدَ الأنبياء عليهم السلام- نَظيرٌ لهُ في عِلْمِهِ؛ الذي حَيَّرَ العقول، وأسكت الواصفين، فما كأنََّه نشأ في جزيرة العرب العرباء، ولا كأنَّهُ إلا مَلَكٌ نَزَل من السماء، على من درس علوم الأذكياء، وتَلْمَذ في مغاصات الفطناء؟! إنما هي مِنحٌ ربانية، ومواهبُ لَدُنِّيَّة. ولكثرة علمه -عليه السلام- اتُّهِم أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخبره مِن الشريعة بما أَخفاه عن الناس، فسأله رجلٌ: ما الذي أسرَّ إليك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فغَضِبَ وقال: واللهِ ما أسرَّ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً كَتَمَهُ عنِ الناسِ، وإنما عندنا كتابُ الله، وشيء من السُّنَّة ذكره عليه السلام، أو فهم أُوتيهِ رَجُلٌ (1).
__________
(1) رواه البخاري (111) و (3047) و (6907) و (6915) وأحمد 1/ 79، والطيالسي (91)، والدارمي 2/ 190، والنسائي 8/ 23، وابن الجارود (794) وابن ماجه (2658) والبيهقي 8/ 28 من طريق أبي جحيفة -وهب بن عبد الله السوائي- قال: =(1/241)
وهذا مع صحة إسناده؛ صحيح المعنى، فإنه ليس يجوزُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُسِرَّ شيئاً من أمرِ الشريعة، فإنه بُعِثَ مبيناً للناس، وإنما كان يسرُّ إليه شيئاً من الملاحم والفِتن، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلالِ والحرامِ، وشرائع الإسلام، فقد أوضحَ أميرُ المؤمنين -عليه السلام- في كلامه هذا: أن فَضْلَهُ في ذلك على القرابة والصحابة ومَنْ عدا الأنبياء والمرسلين من الناس أجمعين، إنما كان بالفهمِ الذي آتاه الله. وأما القرآن الذي كان معه -عليه السلام- والأخبارُ النبوية، فإنه يُمْكِنُ غيْرُهُ معرفةَ ذلك، ولكن ما
__________
= قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: لا والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أعلمه إلا فهماً يُعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في الصحيفة؟ قال: " العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ".
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 1/ 204: وإنما سأله أبو جحيفة عن ذلك، لأن جماعة من الشيعة كانوا يزعمون أن عند أهل البيت -لا سيما علياً- أشياء من الوحي خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بها لم يطلع غيرهم عليها. وقد سأل علياً عن هذه المسألة أيضاً قيس بن عُبَادَ والأشتر النخعي، وحديثهما في مسند النسائي.
وروى البخاري (1870) و (3172) و (3179) و (6755) و (7300) من طريق إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها، فإذا فيها أسنان الإبل، وإذا فيها: " المدينة حرم من عير إلى كذا، فمن أحدث فيها حدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاًً ولا عدلاًً، وإذا فيه: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلماً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاًً ولا عدلاًً، وإذا فيها: من تولى قوماً بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ".
وأخرج أحمد 1/ 118 و152، ومسلم (1978) في الأضاحي من حديث أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال: سئل علي: أخصكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء؟، فقال: ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يعم الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي، قال: فأخرج صحيفة مكتوب فيها: " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثا " وأخرج عبد الله بن أحمد 1/ 151 بإسناد صحيح بل هو من أصح الأسانيد عن الحارث بن سويد، قال: قيل لعلي: إن رسولكم كان يخصكم بشيء دون الناس عامة؟ قال: ما خصنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء لم يخص به الناس إلا بشيء في قراب سيفي ...(1/242)
يُمْكِنُ غيرُهُ أن يفهمَ مِن ذلك مثلَ فهمه، ولا يستنبط منه مثلَ استنباطه (1)، وكذلك سائرُ الصحابة كانوا في ذاتِ بينهم متفاضلين، فلم يكن أبو هريرة في الفقه مثلَ معاذ، ولا كان معاذ في الرواية نظيرَ أبي هريرة، وكان زيدٌ أَفْرضهم، وأُبيٌّ أقرأهم، ومعاذ أفَقهَهُم (2)، وكذلك أَحوالُ الخلق منْ بعدهم من السَّلفِ والخَلَفِ.
وكم عاصرَ أئمة العترة -عليهم السلام- من طلاب للعلم، مجتهد في تحصيله فلم يبلغ مَبْلَغهُم، ولا قارب شأوَهم. وكذلك عاصرَ أئِمةَ الحديث والفقهِ والعربيةِ، وسائرِ العلوم: من لا يأتي عليه العدُّ، فلم يبلغ المقصود، ويتميز عن (3) الأقران إلا أفراد من الخلق، وخَواص مَنحهم اللهُ -تعالى- الفهمَ والفِطْنَة، وآتاهم الفقهَ والحِكْمَةَ، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269].
وقد فاضلَ اللهُ -تعالى- بينَ الأنبياء -عليهم السلام-: قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]. وقال
__________
(1) ألفاظ الأثر تعم ولا تخص أمير المؤمنين رضي الله عنه: " ما أعلمه إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن " " ما علمته إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن " " إلا أن يرزق الله عبداً فهماً في كتابه " " أو فهم أعطيه رجل مسلم " " إلا فهماً يعطى رجل في كتابه ".
(2) بشهادة الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه عنه أنس بن مالك ولفظه بتمامه: " أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح " أخرجه أحمد 3/ 184 و281، والترمذي (3793) وابن ماجة (154) والطحاوي في " مشكل الآثار " 1/ 35، والطيالسي (2096) وابن سعد 3/ 2/60، وأبو نعيم 3/ 222، والبغوي (3930) وصححه ابن حبان (2218)، (2219) والحاكم 3/ 422 ووافقه الذهبي.
(3) في أ: على.(1/243)
تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79]
فهذا تفضيلٌ في الفهم بَيْنَ سليمان وداود -عليهما السلام-، مع الاشتراكِ في النبوة، والتفاوت ما بيْنَ الأُبوة والبنوة.
وكذلك قد فَاضَلَ اللهُ بينَهم فيما دُونَ هذه المرتبة، وهي مرتبةُ البيان، ووضوحِ العبارة، مثلَ ما نصَّ عليه من إيتاءِ داود فصلَ الخطاب، ومثل قول موسى في أخيه -عليهما السلام- {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} [القص
ص: 34].
وعمودُ التفاوتِ الذي يدورُ عليه، وميزانُهُ الذي يُعتبر به في أغلب الأحوال هو: التفاوت في صِحَّة الفَهْمِ، وصفاء الذِّهن، واعتدالِ المِزَاج، وسلامةِ الذوق، ورُجحانِ العقل، واستعمالِ الِإنصاف. فهذه الأشياء هي مبادىء المعارف، ومباني الفضائل ولأجلها يكون الرجلُ جواداً من غير إسراف، وشجاعاً من غير تَهوُّر، وغنياً من غير مال، وعزيزاً من غير عشيرة، إلى غير ذلكَ من الصفات الحميدة، وعكسها مِن الرذائل الخسيسة.
ومِنْ ها هنا حَصَلَ التفاوتُ الزائد، حتى عُدَّ ألفُ بواحد، وقد أنشد الزَّمخشريُّ (1) -رحمه الله- في ذلك:
__________
(1) هو أبو القاسم محمود بن عمر بن محمد بن عمر الخوارزمي الزمخشري الإمام الكبير في التفسير والنحو واللغة وعلم البيان كان إمام عصره غير مدافع، تُشد إليه الرحال في فنون، له التصانيف البديعة، إلا أنه غفر -الله له- كان داعية إلى الاعتزال، وقد أودع في تفسيره المسمى بـ " الكشاف " كثيراً من آراء أهل الاعتزال، وقد أولع الناس به، وبحثوا عليه، وبينوا أغاليطه، وأفردوها بالتأليف، ومن رسخت قدمه في السنة وقرأ طرفاً من اختلاف المقالات، انتقع بتفسيره، ولم يضره ما يخشى من أخطائه. كانت وفاته رحمه الله سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة. =(1/244)
ولم أرَ أمْثَالَ الرِّجَالِ تفاوتاً ... لَدَى المجْدِ حَتَّى عُدَّ ألفٌ بِوَاحِدِ
وقال ابنُ دُريْدٍ (1) في المعنى:
والنَّاسُ ألفٌ منْهُمُ كواحِدٍ ... وَوَاجدٌ كالألْفِ إنْ أمْرٌ عَنى
وأنشدوا في هذا المعنى:
يا بني البُعْد في الطِّبَا ... عِ مَعَ القُرْب في الصُّوَر
وفي الآثار: " النَّاسُ كإبل مئة لا تَجدُ فيها راحِلَة " (2) وقالت العربُ
__________
= وفيات الأعيان 5/ 168، و" ميزان الاعتدال " 4/ 78، و" لسان الميزان " 6/ 4 والجواهر المضية 2/ 160.
(1) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي من أزد عمان من قحطان، إمام عصره في اللغة والآداب والشعر الفائق، صاحب المؤلفات المعتبرة كالجمهرة في اللغة والاشتقاق في الأسماء، وكلاهما مطبوع متداول، توفي سنة 321 هـ وهذا البيت من مقصورته الشهيرة التي مدح بها آل ميكال ومطلعها:
يا ظبية أشبه شيء بالمها ... ترعى الخزامى بين أشجار النقا
(2) هو حديث صحيح رواه من حديث ابن عمر البخاريُّ (6498)، ومسلم (2547) وأحمد 2/ 7 و44 و70 و88 و109 و121 و123 و139، والترمذي (2872) وابن ماجه (3990) والطبراني في " الصغير" 1/ 147، وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 23 و231، والبغوي (4195) ورواه عن أنس وأبي هريرة أبو نعيم في " الحلية " 6/ 334 و7/ 141.
قال الخطابي: العرب تقول للمئة من الإبل: إبل، يقولون: لفلان إبل، أي: مئة بعير، ولفلان إبلان أي: مئتان، فقوله: مئة تفسير للإبل. الراحلة قال ابن الأثير: الراحلة من الإبل: البعير القوي على الأسفار والأحمال، والذكر والأنثى فيه سواء، والهاء فيها للمبالغة، وهي التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق، وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة من الإبل، عرفت، وقال أيضاًً: يعني أن المرضي المنتخب من الناس في عِزَّةِ وجوده كالنجيب من الإبل القوي على الأحمال والأسفار الذي لا يوجد في كثير من الإبل. وقال الحافظ في " الفتح ": قال القرطبي: الذي يناسب التمثيل أن الرجل الجواد الذي يحمل أثقال الناس والحمالات عنهم، ويكشف كربهم، عزيز الوجود، كالراحلة في الإبل الكثيرة. وقال ابن بطال: معنى الحديث: أن الناس كثير، والمرضي منهم قليل.(1/245)
في أمثالها: المَرْءُ بأصْغَرَيْه: قَلْبِهِ ولسَانِهِ. وفي الحديث عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " رُبَّ حامِلِ فِقْهٍ غيرُ فقيهٍ، ورُبَّ حَاملِ فِقهٍ إلى مَنْ هُوَ أفقهُ مِنْهُ " (1).
__________
(1) ورد هذا الحديث عن عدة من الصحابة، فأخرجه من حديث ابن مسعود الترمذيُّ (2657) وابن ماجه 1/ 85، وأحمد (4157) والحميدي 1/ 47، وابن حبان 1/ 227، والشافعي في " الرسالة " ص 411 والمسند 1/ 14، والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " ص 165 - 166، وأبو نعيم في " الحلية " 7/ 331، " وأخبار أصبهان " 2/ 90، والخطيب في " الكفاية " ص 29 و173، و" شرف أصحاب الحديث " ص 10، والحاكم في " معرفة علوم الحديث " ص 22 والبغوي في " شرح السنة " 1/ 235، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 1/ 40، والبيهقي في " معرفة السنن والآثار" 1/ 15، وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/ 9.
وأخرجه من حديث زيد بن ثابت أحمد 5/ 183، والدارمي 1/ 75، وأبو داود (3660) والترمذي (2794) وابن حبان (72) و (73) والرامهرمزي ص 164، وابن عبد البر 1/ 38 و39، والخطيب في " الفقيه والمتففه " 2/ 71، وشرف أصحاب الحديث ص 10، وابن ماجه (230)، والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 232، والطبراني في " الكبير " (4891) و (4924) و (4925) وابن أبي عاصم (94).
وأخرجه من حديث جبير بن مطعم أحمد 4/ 72 و80 و82، والدارمي 1/ 74 و75، وابن ماجه (231) والطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 232، والحاكم 1/ 87، وابن عبد البر 1/ 41، والخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص 10، والطبراني في " الكبير " (1541) وابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل 1/ 10، 11، وأبو يعلى في " مسنده " 349/ 1.
وأخرجه من حديث أنس بن مالك أحمد 3/ 225، وابن ماجه (236) وابن عبد البر 1/ 42.
وأخرجه من حديث النعمان بن بشير الحاكم في " المستدرك " 1/ 88، والرامهرمزي ص 168.
وأخرجه من حديث أبي سعيد الخدري الرامهرمزي ص 165، وأبو نعيم في " الحلية " 5/ 105.
وأخرجه من حديث عبد الله بن عمر الخطيبُ في " الكفاية " ص 190، ومن حديث بشير بن سعد الطبراني في " الكبير" (1225)، ومن حديث معاذ بن جبل أبو نعيم في " الحلية " 9/ 308، ومن حديث أبي هريرة الخطيبُ في " تاريخه " 4/ 337، ومن حديث أبي الدرداء الدارمي 1/ 76، ومن حديث ابن عباس الرامهرمزي ص 166، ومن حديث أبي قرصافة الطبراني في " الصغير " 1/ 109، ومن حديث ربيعة بن عثمان ابن منده كما في =(1/246)
وليس كُلُّ مَن قَرأ النحو والأدب، صنَّف مثلَ " الكشاف "، ولا كُلُّ مَنْ قَرأ الأُصولَ والجدلَ، ركب بحر الدقائق الرَّجَّاف.
ومَا كُلُّ دَارٍ أقْفَرتْ دَارُ عَزَّةٍ ... وَلا كُلُّ بَيْضَاءِ التَّرائِب زَيْنَبُ
فإذا تقرر أن المواهب الربانيّة لا تنتهي إلى حد، والعطايا اللَّدُنيَّة لا تَقِفُ على مقدار، لم يَحْسُنْ من العاقل أن يقطع على الخلق بتعسيرِ ما اللهُ قادِرٌ على تيسيره، بل لم يلِقْ منه أن يِقطعَ بتعسير ما لم يَزَلِ الله -سبحانه- يُيسره لِكثير من خلقه، فيُقَنِّطُ لكلامه طامعاً، ويتحجَّرُ من فضل الله واسعاً، ويُفتَّرُ بتخذيله همةً ناشِطة، ويَفُلُّ بتقنيطه عزيمةً قاطعة، بل يخلِّي بينَ الناسِ وهمَمِهم وطمعِهم في فضل الله عليهم، حتى يَصِلَ كلُّ أحدٍ إلى ما قسَمَهُ الله له من الحظِّ في الفهم والعلم، وسائر أفعال الخير. وهذا مما لا يحتاج إلى حِجاج، ولا يفتقِرُ إلى لَجاج.
التنبيه الثالثُ: التعرضُ لمقادير المَشَاقِّ التي في أنواعِ التكاليف والعبادات من الصلاة والزكاة والتلاوة والصيام والحج والجهادِ والعلم والفُتيا، وسائِرِ الأعمال الصالحة، ومتاجر الخير الرابحة، مما لم تجرِ عادة الأنبياءِ -عليهم السلام-، ولا الأئِمَةِ، ولا العلماءِ، ولا الوعاظِ، ولا سائرِ الدعاة إلى الله تعالى -بالحكمة والموعظة الحسنة- أن يُهوِّلوها، ويُعظِّموا التعرضَ لفعلها، وُيعسِّروا الإحاطة بشرائطها؛ من الإخلاص، وعدم العُجْب، والتحرز من الإحباط؛ فإن في الجهاد التعرضَ لفواتِ
__________
= " الإصابة " ومن حديث جابر بن عبد الله الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 138، ومن حديث زيد بن خالد الجهني ابن عساكر في تاريخه كما في "الجامع الكبير" ص 853 ومن حديث عائشة الخطيب في " المتفق والمفترق " كما في " الجامع الكبير " ص 853، ومن حديث سعد بن أبي وقاص الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع " 1/ 138.(1/247)
الروح، مع ما يصحَبُ المجاهد من حُبِّ الثناء. وفي الورع مِن الشُّبهات، ومحاسبة النفس في كل وقت، وذمها عن الشَّهوات، إلى غير ذلك من التكاليف المحبوبة (1) والمفروضة -مشاق كثيرة- قلَّ مَنْ يَصْبِرُ عليها.
وللسيِّد -أيَّدهُ الله- قدوةٌ في الأنبياء والأئِمّة والعلماء: أما الأنبياء، فَدَعُوا الناس إلى محابِّ الأعمال، ومعالي الأمور، ورَغَّبُوا في الفضائل، وهَوَّنوا ما فيها من المشاق؛ بذكر الثواب في فعلها، والعقاب الحاصِل في ترك الواجب منها، ولم يعلم منهم أنَّهم خَذَّلوا طالباً لشيءٍ من الأعمال المحبوبات، ولا قصروا أحداً عن التطلع إلى رفيع الدرجات. وأما الأئمة والعلماء، فصنفوا العلمَ، وبيَّنُوا الواجبات، وذكروا شروطها؛ فذكروا شروط الصلاة، وما يجب من الطهارة وسائر الفروض والشروط، ولم يلحقوا بهذه -فصلاً- مُنَفِّراً عن العزم على أداء الصلوات في أوقاتها بخشوعها، وجميع شروطها، وسننها وهيئاتها، وحضورِ القلب فيها، وَحِل ثياب المصلي، وعدم دخول الحرام والشبهة في أثمانها، وعدم مطالبته بحقٍّ من حُقوق المخلوقين في حال تأديتها. ولا علمنا أنهم قالوا: فعل الصلاة على أفضل الوجوه وأكمل الأحوال متعسرٌ أو متعذر، فلا ينبغي من أحد أن يهتمَّ بذلك. وكذلك في الحَج والجهاد، لم يزيدوا على ذكر الشروط، فمن أحبَّ تأديةَ ذلك الفعلِ الشَّاقِّ بتلك الشروط الشاقة، فالله -تعالى- يُعينه ويَلْطُفُ به مِن دُونِ أن تُوضع رسالة إلى منْ حَدَّثَ نفسَه بالحَجِّ، يُذكر له فيها مشاق الحجَ، ويُنَفَّر عن الحجّ. وأخصُّ من هذه الأمثلة البعيدة ذكر مسألتنا بعينها، وذلك أن العلماءَ ما زالوا يذكرون شروط
__________
(1) في أفوق هذه الكلمة: المستحبة.(1/248)
الاجتهاد في مصنفاتهم وتآليفهم مجردةً عن التَّعسير له، والتَّنفير عنه، واستبعادِ إدراكه، والحثِّ على العكوف على التقليد، والإضراب عن الاجتهاد بالمرَّة، وهذه تصانيفُ العلماء -أرنَا أيُّها السَّيِّد أيَّدَك الله- مَنْ سَبقك إلى التنفير من الاجتهاد، والحث على التقليد؟!. وذلك لأن العُسْرَ واليسر أمرُهُما إلى الله تعالى، واللهُ -سبحانه- إنما أخذ على العلماء أن يُبَيِّنُوا ولا يَكتُمُوا، ولم يَأخُذْ عليهم أن يُعسِّرُوا ولا يُسَهِّلُوا، فلو أن السَّيِّد -أيَّدهُ الله- ذكرَ شروط الاجتهاد، وأودعها مُصَنفاً، أو أوقفني على ذكرها مُبيَّنةً بأدِلتِها، وحثَّ عليها، أو سكت مَن الحثِّ على الخير والتنفيرِ عنه، لكان له فيهم أُسْوَةٌ حسنة، ولكان ذلك أشبة بطرائق المتهادين للنَّصائح، وأقربَ إلى فعل السَّلَف الصَّالح.
التنبيهُ الرَّابعُ: كان اللائقُ بالسَّيِّد -أيَّده الله تعالى- أن يذكر الشرط الذي خالفتُ فيه العلماءَ، فيقول: أنت قلت: إن علم العربية ليس بشرط، أو معرفةَ الأصول، أو معرفةَ الحديث، أو غيرَ ذلك، أن كان عَلِم بخلافٍ لي في ذلك، حتى يُبين لي أني قد خالفت الإجماعَ، وخرجتُ إلى حَدٍّ أسْتحِقُّ بِه الإنكار.
أما إذا قلت: إن تحصيل شرائطِه المعروفة متيسرة على أهل الذَّكاء والهِمَمِ، فما وجهُ التَّرسُّلِ في هذا، والتطويل والتكثير فيه، والتهويل، وطلب البراهين القاطعات والتعرض للمعارضات والمناقضات؟! الأمرُ أهونُ مِن أنْ تلتقيَ الشفتانِ بذكره، وتجريَ الأقْلَامُ بِسطْرهِ. والذي يليق من الحليم تهوينُ العظائم، لا تعظيمُ العظائم؛ على تسليم أنَّ ذلك شرط عظيم، وعوائد الحكماء جارية بهذا، وكتبهم ناطقة به، ولهذا قيل:
إذا ضيَّقْتَ أمراً زاد ضِيقاً ... وإنْ هوَّنتَ ما قَد عَزَّ هانا(1/249)
والسيِّد -أيَّده الله- قد رقيَ إلى مرتبة الدعاء إلى الله -تعالى- بالحكمة والموعظةِ الحسنة، فلهذا عِبْتُ عليه ما خالفَ طرائق الفضلاء، وباينَ عادات العلماء، وإلا فلي مُدَّةٌ طويلة صابر (1) على الأذى والفُحْش، الذي يتَنَزَّه -أيَّده الله- عن سماعه، دع عنك النُّطْقَ به. فلم أتكلم إلى أولئكَ، ولم أجاوبْهم بشيء؛ علماً بما في الإعراض عن الجاهلين مِن خير الدنيا والآخرة، مع التمكن مِن المجازاة في الأقوال، والمجازاة في الأفعال، لكني آثرتُ الحِلْمَ، وصبرت على الظُّلْم، وجعلت الصبرَ والكَظْمَ مكانَ النثر والنظم. فأما السيِّد -أيَّده الله- فلم أعُدَّه من الجاهلين فَأعرِضَ عنه، بل عَدَدْتُهُ من أهل الذكر، فرغِبْتُ في الجواب عليه، وبسطت إلى التصدير بما عينتُهُ إليه.
التنبيه الخامس: فرعٌ مِن فروعِ الشَّجرة النبوية، وغُصْنٌ مِن أفنان الدَّوحةِ العَلَوِيَّةِ، وَنَشءٌ مِن أهل البيت -عليهم السلام- ومِن أولاد العِترة (2) الكِرام، ومِن أهل الذكر وبيوت العلم، تشَوَّفَ إلى الاجتهاد في العلم، وتشوَّقَ إلى مراتب الفضل، فلمَّا شِمتم بارقة جهدِهِ صَيِّبة، وَشَمِمْتُم رائحةَ سعيه طَيِّبَة، وتوسمتُم فيه للفائدة سِماتٍ، وحسِبْتُم أنَّهُ قارَب وهيهات؛ تواترت عليه الرسائل، وتواردت عليه الدلائِلُ، تُفتِّرُهُ عن عمله، وتقنِّطُه مِنْ أمَلِهِ: مَن قد سَبَقكم إلى هذا -من الأئمة الهادين-، أو العلماء الراشدين؟! وإنما بَلَغَنا أنَّ أهل العلم يفرحون بِمَن عَلَتْ هِمَّتُهُ، وَظَهرت فِطْنَتُهُ، وُيرَغِّبُونَهم بأنواع الترغيب، ويجعلون التصويبَ لهم مكانَ التثريب. وانظر أيَّدَكَ اللهُ في سِيرة الإمام " المنصور بالله " -عليه السلام-
__________
(1) في أ: صابراً.
(2) العِترة بكسر العين: نسل الرجل ورهطه وعشيرته.(1/250)
وكيف كانت سياستُهُ لِطلَبَةِ العلم، وكذلك سائرُ الأئمة-عليهم السلام-.
وأرنَا -أيدكَ الله- مَنْ صَنَّف منهم رسالةً إلى المتعلمين في زمانه، يُحَذِّرهم مِنَ الاجتهاد، ويُلزمهم العكوفَ على التقليدِ. ولو أنَ العلماء فعلوا كما فعلت -أيدكَ اللهُ تعالى- لتَعفَّتْ رسومُ العلمِ قبلَ هذا الزمان، وتعطَّلَتْ منازلُهُ قبل هذا الأوانِ، لأنَّ الناسَ أتباعٌ لهم، خاصةً إذا دَعَوْهُمْ إلى ما هو أسْهَلُ عليهم.
فإن قلتَ: إنك إنَّما نَهيتَني عن طلب الاجتهاد من كُتُبِ أهل الحديث؛ دونَ كُتُب أهلِ البيت.
فالجواب مِن وجهين:
أحدُهما: أني لم أترُكْ أحاديث أهلِ البيتِ -كما سيأتي بيانُهُ في موضعه- إن شاء الله تعالى.
الثاني: لم تأمرْني بالاجتهاد من كتب أهل البيت قطُّ، بل صَرَفت عنه هِمَّتي على كل حال، وَصَدَّرت رسالتَكَ بالاستدلال على تَعْسيره، وتوقفتَ في إمكانه وتجويزه، وقلت تارةً: إنه كالمتعذِّر، فشبَّهت الجائز بالمُحال، وتارة: إنه متعسِّرٌ أو متعذِّرٌ، فَشكَّكْتَ في دخوله في الإمكان -كما سيأتي بيانُ ذلك-. فسَدَدت عليَّ أبوابَ المعارف، وقطعتَ عليَّ طريق الاتصال بجميع الطوائف، وَفَتَّرْت هِمَّتي جُهدَك، وبذلتَ في صَرفي عن العلم وُسْعك.
التنبيه السادس: طلبُ الاجتهاد مِن فروض الكفايات، ومن جملة الواجبات، وقد أخبر اللهُ في كتابه المبين، وهو أصدقُ القائلينَ أنه: ما جعل علينا في الدين من حرج، وقال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا(1/251)
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وقال " السَّيِّدُ " في تفسيره لها: وليس معنى الوُسع: بذل المجهودِ، وأقصى الطاقةِ، والمعنى: أنَّ الذي كلَّفناهم سهْلٌ مُتَيَسِّرٌ، فلا عُذرَ لهم في تركه، وأن لا يكتسبوا به أبلغَ ما يكونُ من الخيرات، انتهى بحروفه. وهو في الردِّ عليه كافٍ شافٍ، ولكنْ عند ذوي الإنصافِ.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " بُعثْتُ بالحنيفية السَّمحة " (1)، " والسَّيِّد " -أيَّدَهُ الله- مُقِرٌّ بأنَّ الله تعالى يريدُ منا اليُسرَ ولا يريد منا العُسْرَ، وَمُقِرٌّ أنه مريدٌ منا الاجتهاد. فقولُهُ: إنه مُتَعسِّرٌ، يُفيد أن الله يريدُ مِنَّا التَّعَسُّرَ، بل لم يقنع -أيَّدهُ الله- بقوله: إنه متعسِّر؛ حتى قال: إنَّهُ مُتعسِّر أو مُتَعَذِّر.
فاستلزمَ أن اللهَ -تعالى- يريدُ المتعسِّرَ والمتعذِّرَ. فإن أرَادَ -أيَّدَهُ اللهُ- في ذلك مشقةً، فمجردُ المشقةِ لا تُسَمَّى عُسراً في العُرف العرَبي، فإنَّ المشقةَ مُلازِمَةٌ لأكثرِ الأعمال الدنيويةِ والأُخرويةِ، وقد يَشُقُّ على الإنسان قيامُهُ من مجلسه إلى بيته، وخروجُهُ من بيتِهِ لقضاءِ حاجتِهِ. والعُسْرُ في عُرْف اللِّسان العربي يُستعملُ في الأمورِ العِظام، لا في كل أمر فيه مشقةٌ؛ فإذا قيل: فلانٌ في عُسْر؛ أفادَ أنَّهُ في شِدَّةٍ عظيمةٍ مِن مرَضٍ أو خوفٍ أو فَقرٍ شديدٍ، أو غَيْر ذلك. وقد يُطلَقُ على ما هو دونَ ذلك -مع القرينة- فأما إذا تجرُّد الكلامُ عن القرينة وقيل: إن فلاناً في عُسْرٍ، وأريدَ العُسْرُ المعروفُ السابق إلى الأفْهَام، لم يَسْبِق إلى الفهم أن معنى قولنا: فلانٌ في عسْر؛ أنَّهُ في قراءةٍ دارَّةٍ، ورغبةٍ في العلمِ عظيمةٍ، ومطالعةٍ للكتُب، وتعليقٍ للفوائدِ، ولا أحدَ يسمِّي هذا عُسْراً.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (175).(1/252)
ولو كان هذا عُسراً في العُرف العربي، لكان الجهادُ عُسْراً، والصلاة عُسْراً، والورعُ الشَّحيح عُسْرَيْنِ اثنين، وعبادة اللهِ كأنَّك تراه، والصلاةُ كأنَّها صلاة مُوَدِّعٍ أعْسَرَ وأعْسَر، ولكانت الشريعةُ أو كثير منها تشديداً وتعسيراً وتحريجاً وتغليظاً.
وما بهذا نَطَق القرآنُ، ولا به جاء صاحبُ بيعةِ الرضوان، بل نفى اللهُ الحرجَ، ووصفَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شريعته: بالسماحةِ والسهولةِ. وإنما الحرجُ في الصدور، كما قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125].
وانظُرْ في أحوال الناس، تجدْ قاطِع الصلاةِ في غايةِ الاسْتِعسار لها؛ وليسَ كذلك المؤمنُ، قال الله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِين} [البقرة: 45] فنصَّ اللهُ تعالى على هذا المعنى الذي ذَكرتُ لك هو أن الشيءَ المُعيَّنَ يكونُ عسِيرَاً عَلى هذا، سَهْلاً على هذا، فَلَوْ كانَ عَسِيرَاً في نَفْسِهِ، لَكَانَ عَسيراً عليهما، ولكنه يسيرٌ في نفسه، وإنما يتعسَّرُ بحرجِ الصُّدور، والكسَلِ، وقلَّةِ الدَّواعي، وَيَتَسهَّلُ بنقيض ذلك.
ولهذا لو وُهِبَ لقاطِعِ الصلاةِ دِرْهمٌ -في عمل أشقَّ من الصلاة- لقامَ إليه سريعاً، ووثبَ إليه نَشيطاً. وكذلك سائرُ التكاليفِ الشرعية؛ إنما العُسرُ فيها من قبيل قِلَّةِ اليقين، وعدم الرياضة، وقساوةِ القلب، وكثرةِ الذنوب، ألا ترى إلى ما في قيامِ الليل مِن المشقة على النفوس متى طلبت لإحيائه بالصلاة والقراءة، وهو يَتَسهَّلُ عليها سَهرُةُ في كثيرٍ من الأحوال من العُرُسَاتِ والأسمار، والسَّرَوات في الأسفار.
فإذا عَرَفت هذا فاعلم أن من النَّاس من يحصل له من شِدَّةِ الرغبةِ إلى(1/253)
أعمال الآخرةِ، ونيل الفضائل ما يُسَهِّلُ عليه عزيزَها، وَيُقرِّب إليه بَعيدَها.
فلا معنى للمبالغةِ في تعسير الشيء الشرعي في نفسه، لأنَّ ذلك يخالف كلامَ الله تعالى، وكلامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
واعلم أنَّ من العُقوقِ لومَ الخليِّ المَشُوق، وفي هذا يقول أبو الطيب:
لا تَعْذُلِ المُشْتاقَ عن أشْواقِهِ ... حتَّى يَكُونَ حشَاكَ في أحْشَائهِ (1)
واعلم أن حُبَّ المعالي يُرخِصُ الأمور الغَوالي، ويقوِّي ضعف الصُّدُور على الصبرِ للعوالي، وربما بُذِلَتِ الأرواحُ لما هو أنفسُ منها من الأرباح، قال:
بذلتُ لهُ رُوحِي لرَاحَة قُرْبِهِ ... وغيْرُ عَجِيبٍ بذْليَ الغالِ بالغَالِ (2)
وفي كلام العلاَّمة (3) -رحمه الله-: عِزَّةُ النفسِ وبُعْدُ الهِمَّة: الموتُ الأحمر، والخطوبُ المُدْلَهمَّة، ولكن مَنْ عرَفَ منهل الذُّلِّ فعافهُ، استعذبَ نقيعَ العِزِّ وَزُعَافَهُ (4).
وقد أجادَ وأبدعَ منْ قال - في هذا المعنى:
__________
(1) ديوانه (343).
(2) البيت لابن القارض المتوفى سنة 632 هـ من قصيدة مطلعها:
أرى البُعْدَ لَم يُخْطِر سِوَاكُم علُى بَالِي ... وإن قرَّب الأخطار من جسدي البَالِي
انظر ديوانه ص 174 - 176.
وفي شعره مؤاخذات عقيدية نبه عليها العلماء الثقات الأعلام، وقد نقلها عنهم البرهان البقاعي في كتابه " تنبيه الغبي .. " وهو مطبوع فراجعه.
(3) هو الزمخشري في " أطواق الذهب " ص 22.
(4) يقال: أنقع السم: عتقه، وسم ناقع ونقيع ومنقوع، أي: بالغ قاتل، وسم زعاف: قاتل.(1/254)
صَحِبَ اللهُ راكِبينَ إلى العزِّ ... طريقاً مِن المَخَافة وَعْرا
شَرِبُوا المَوْتَ في الكرِيهَةِ حُلواً ... خوفَ أن يشْرَبُوا من الضيمِ مُرَّا
هذا وإنَّ الدواعي تُحرِّك القُوى، وإن القلوب ليست بِسَوا (1). إن الإبلَ إذا كَلَّت قُواها، وَنَفخَتْ في بُراها (2)، أطربها السائقُ بحُداها، فَنَفَختْ (3) في سُراها، فعلَّلُوها بحديث حاجِرٍ (4)، وَلتصنع الفلاةُ ما بدا لها. هذا وهي غليظةُ الطبعِ بهيميةٌ، فكيف بأهلِ القلوبِ الروحانية.
فإياك والاستبعادَ لِكل ما غزَّ عليك، والاستنكارَ لما خَرَجَ من يديك، طالبُ المعالى لا يعنو كَمَداً، ولا يهدأ أبداً، وكلما قيل له: قِفْ تسْترِحْ، جُزتَ المَدَا، قال: وهل نِلْتُ المدا؟!
التنبيهُ السابع: لو فَرَضنا أن في الواجبات والأعمال الصالحاتِ ما هو متعسّرٌ في نفسه، لم يَحْسُنْ من أحدٍ من العامَّة، فضلاً عن الخاصة أن يتصدَّر لتعسيره، وتخذيلِ الراغب فيهِ عن نهوضه في طلبه وتشميره بذكر ما فيه من الحَرَجِ، وتهويلِ ما في طلبه من النَّصَبِ، بل السُّنةُ النبوية تيسِيرُ الأمورِ على من عَسُرَتْ عليه، وتذكيرُ القلوبِ الغافلةِ، وتنشيطُ النفوس الفاتِرة. ولهذا شُرِعتِ الخطب، وصنَّفَ الوعاظُ كُتُبَ المواعظ، وَدَوَّن
__________
(1) أي بسواء، فحذف الهمزة للسجع.
(2) البُرى: وهي الحلقة في أنف البعير للتذليل.
(3) يقال: نفحت الدابة تَنفَحُ نفحاً وهي نفوح: رمحت برجلها، ورمت بحد حافرها ودفعت وهذا ينبىء عن نشاطها، والسُّرى: السير بالليل.
(4) في " الصحاح " الحاجر: ما يمسك الماء من شفة الوادي، وزاد ابن سيده: ويحيط به وفي التهذيب: والحاجر من مسايل المياه ومنابت العشب: ما استدار به سند أو نهر مرتفع، ومن هذا قيل للمنزل الذي في طريق مكة: حاجر، وفي الأساس: وفلان من أهل الحاجر وهو مكان بطريق مكة.(1/255)
الحفاظُ أحاديثَ الرقائق، لتسهيل ما يصْعُبُ على النفوس، وتقريبِ ما تباعد على أهلِ القُصور.
وقد تكاثرتِ الأحاديثُ النبوية في الحثِّ على ذلك، فكان -عليه السلام- إذا بَعَثَ سرِّيةً قال: " يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّروا ولا تُنَفِّروا " (1). وقال -عليه السلام-: " قارِبُوا وَسَدِّدُوا وأبْشِرُوا ". هكذا في الصحيح (2).
ولَمَّا أخبروه: أن عمرَو بن العاص صلَّى بهم وهو جنابة، ولم يغتسل من شدَّة بردِ الماء. سأله -عليه السلام- عن ذلك. فقال: إني سمعتُ الله يقول: {لا تَقْتلُوا أنْفسَكُم} [النساء: 29]. فضحك النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (3). وهذا اجتهادٌ من عمروٍ، وعملٌ بالعموم. فلم يُعَنِّفْهُ -عليه السلامُ-
__________
(1) تقدم تخريجه ص 173.
(2) رواه بهذا اللفظ مسلم (2816) من حديث أبي هريرة، وقد ورد بألفاظ أخرى عن غير واحد من الصحابة.
(3) عن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت إن أهْلِكَ، فتيممتُ ثم صليتُ بأصحابي الصبحَ، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ " فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً} فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً. أخرجه أحمد 4/ 203، 204، وأبو داود (334) والدارقطني 1/ 178، والحاكم 1/ 177، والبيهقي 1/ 226 من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن عبد الرحمن بن جبير المصري، عن عمرو بن العاص. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن عبد الرحمن بن جبير لم يسمعه من عمرو فيما قاله البيهقي، وقد رواه موصولاً بذكر أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو الدارقطني 1/ 179، وابن حبان (202) والحاكم 1/ 177، وإسناده صحيح على شرط مسلم، لكن ليس في هذه الرواية ذكر التيمم، بل فيها أنه غسل مغابنه، وتوضأ وضوءه للصلاة، وقاله أبو داود عقب الرواية الأولى: روى هذه القصة عن الأوزاعي عن حسان بن عطية، قال فيه: فتيمم، وعلق البخاري في صحيحه 1/ 454 الرواية =(1/256)
ويقل له: إنه لا يحِلُّ لكَ العملُ بالعموم، حتى يظنَّ أنه لا مخصِّصَ له.
وليس يَحْصُلُ هذا الظنُّ إلا لِمن اجتهد في حفظ النصوص، وأمعنَ النظرَ في العموم والخصوص. وأيضاً لا بُدَّ لكَ من معرفة عدمِ المعارض، وأعسرُ مِن هذا معرفتُك لِعدم الناسخ.
وكذلك: لما جاء الأعرابيان وأخبراه أنهما تيمما، ثم وَجدا الماءَ -في الوقت-، فتوضأ أحدُهُما وأعادَ الصَّلاة، واجتزأ أحدُهما بتيممه وصلاتِهِ الأولى. فقال -للذي لم يُعِدْ-: " أصبت السُّنة، واجزأتْكَ صلَاتُك " وقال للذي أعاد: " لكَ الأجرُ مرتين " (1). فهذا اجتهاد منهما،
__________
= التي فيها التيمم وانظر الكلام عليه باستيفاء للحافظ ابن حجر في كتابه " تغليق التعليق " 1/ 181 - 191 بتحقيق الأستاذ الفاضل سعيد بن عبد الرحمن بن موسى القزقي.
(1) أخرجه أبو داود (337)، والدا رمي 1/ 190، والنسائي 1/ 213، والدارقطني 1/ 189 من طرق عن عبد الله بن نافع الصائغ المخزومي مولاهم، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. وعبد الله بن نافع قال الحافظ في " التقريب ": ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، ورواه النسائي من طريق عبد الله بن المبارك عن الليث بن سعد، حدثني عميرة وغيره، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار مرسلاً.
وقال أبو داود: وغير ابن نافع يرويه عن الليث، عن عميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً، وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل، وقال الدارقطني: تفرد به عبد الله بن نافع عن الليث بهذا الإسناد متصلاً، وخالفه ابن المبارك وغيره. قال ابن القطان في " الوهم والإيهام " فيما نقله الزيلعي في " نصب الراية " 1/ 160: فالذي أسنده أسقط من الإسناد رجلاً وهو عميرة، فيصير منقطعاً، والذي يرسله فيه مع الإرسال عميرة وهو مجهول الحال، قال: لكن رواه أبو علي بن السكن في " صحيحه ": حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي، حدثنا عباس بن محمد، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، حدثنا الليث بن سعد، عن عمرو بن الحارث وعميرة بن أبي ناجية، عن بكر بن سوادة، عن عطاء عن أبي سعيد أن رجلين خرجا في سفر .. الحديث ... قال: فوصله ما بين الليث وبكر بعمرو بن الحارث وهو ثقة، وقرنه بعميرة، وأسنده بذكر أبي سعيد.
وقول ابن القطان في عميرة بن أبي ناجية: مجهول الحال مردود، فقد وثقه النسائي ويحيى بن بكير وابن حبان وأثنى عليه أحمد بن صالح وابن يونس وأحمد بن سعد بن أبي مريم كما في " التلخيص " 1/ 156.(1/257)
ولما أخبراه به، لم يُعَنِّفْهُما ويُلزمهما الاحتياطَ حتى يستيقنا.
وكذلك لَمَّا أمَرَ -عليه السلامُ-: جماعةً من أصحابه أن لا يُصلوا العصرَ إلا في بني قرَيْظَةَ (1) -وكادت الشمس تَغيبُ- اختلفوا في مراده -عليه السلام- بقوله: " لا تصلوا العصر إلا في بني قُريظة " فمنهم من قال: إنما أراد أن يكونَ وقتُ الصلاة ونحنُ معه، فنُصليها في وقتها معه، فصلى قبلَ الغروب، وقيَّد إطلاقَه -عليه السلام- بالقرينة، ومنهم من بقيَ على الظاهر، وأخرها إلى بعدِ العشاء، وصلاها في بني قُريظة بعدَ خروج وقتها، وَعَلِمَ - صلى الله عليه وسلم - فلم يُعنِّفِ أحداً من الطائفتين.
ولمَّا أخبره معاذٌ أنه يحكم في اليمن باجتهاده، قال -عليه السلام-: " الحمدُ لله الذي وفَّقَ رسُولَ رسولِ الله " (2) ولم يُشدِّد عليه، ويعقِدْ له مجلساً للاختبار والمناظرة.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 192.
(2) في أزيادة: لما وفق له رسوله، وهي عند أكثر من خرج هذا الحديث بلفظ: لما يرضي رسوله. والحديث أخرجه أحمد 5/ 236 و242، وأبو داود (3592) والترمذي (1327) والطيالسي 1/ 286، وابن سعد 2/ 347، 348، والخطيب في " الفقيه والمتفقه ": 188، 189 والبيهقي 10/ 114 وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 2/ 55 كلهم من طريق شعبة عن أبي عون الثقفي، عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة، عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن يبعث معاذاً إلى اليمن قال: " كيف تقضي إذا عرض لك قضاء "؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد في كتاب الله "؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " فإن لم تجد في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا في كتاب الله "؟ قال: اجتهد رأيي، ولا آلو، فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره وقال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله ".
وقد ضعفه بعضهم بجهالة الحارث بن عمرو، وبجهالة شيوخه، وغير واحد من الأئمة المحققين يصححه، ويقول به، منهم أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن العربي، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وقالوا: إن الحارث بن عمرو ليس بمجهول العين، لأن شعبة بن الحجاج يقول عنه: إنه ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا بمجهول الوصف، لأنه من كبار التابعين في طبقة =(1/258)
وكذلك أبو موسى الأشعري، بَعَثهُ -عليه السلام- إلى اليمن والياً وقاضياً (1). وسيأتي -لهذه الجملةِ- مزيدُ بيان، إن شاء الله تعالى؛ عند ذكر بعض شروط الاجتهاد، فإن ذلكَ موضعها. وإنما ذكرت ها هنا لبيان تيسيره -عليه السلام- في الأمور -صغيرِها وكبيرِها- مِن غير ترخيصٍ في حرامٍ، ولا تضييعٍ لواجب.
ومن ذلك: أنه -عليه السلام- نهي أصحابَهُ عن انتهار الأعرابي الذي بال في طائفةِ المسجد، وقال: " إنَّ منكم مُنَفِّرين " (2). وتَغيَّظَ -عليه السلامُ- على معاذٍ واشْتَدَّ تغيُّظه عليه، وقال: " أفَتَّانٌ أنتَ يا معاذ " (3)؟ لَمَّا طوَّلَ الصلاة بقومهِ حتى شكى عليه رجلٌ منهم.
__________
= شيوخ أبي عون الثقفي المتوفى سنة 116 هـ، ولم ينقل أهل الشأن جرحاً مفسراً في حقه، ولا حاجة في الحكم بصحة خبر التابعي الكبير إلى أن ينقل توثيقه عن أهل طبقته، بل يكفي في عدالته وقبول روايته أن لا يثبت فيه جرح مفسر عن أهل الشأن لما ثبت من بالغ الفحص على المجروحين من رجال تلك الطبقة، فمن لم يثبت فيه جرح مؤثر منهم، فهو مقبول الرواية، والشيوخ الذين روى عنهم هم من أصحاب معاذ، وليس أحد من إصحاب معاذ مجهولاً ويجوز أن يكون في الخبر إسقاط الأسماء عن جماعة، ولا يدخله ذلك في حيز الجهالة، وإنما يدخل في المجهولات إذا كان واحداً، فيقال: حدثني رجل أو إنسان، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل وبالصدق بالمحل الذي لا يخفى، وقد خرج الإمام البخاري (3642) الذي شرط الصحة حديث عروة البارقي: سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات، وقال مالك في القسامة 2/ 877: أخبرني رجال من كبراء قومه، وفي صحيح مسلم (945) عن الزهري: حدثني رجال، عن أبي هريرة " من صلى على جنازة فله قيراط ".
(1) أخرجه البخاري (4341) و (4342) و (4345) ومسلم (1733) وأحمد 4/ 312 و417، والطيالسي (496) والبغوي (2476) عن أبي موسى الأشعري، وفيه أنه بعث معاذاً معه.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة 173.
(3) أخرجه البخاري (701) و (705)، ومسلم (465)، والشافعي 1/ 132 وأحمد 3/ 299 و308 و369، وأبو عوانة 2/ 158، والطيالسي (1728) وابن الجارود (165) و (166) والبغوي (599) من طرق عن جابر بن عبد الله.(1/259)
ولَمَّا وَقعَ الأعرابيُّ على زوجته في رمضانَ، شدَّدَ عليه قومُهُ وعَنَّفُوه، وعَظَّموا الأمر ولاموه، فَقَدِمَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يزِدْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أن أخبره بما يجبُ عليه (1)، من غير لومٍ ولا تعنيفٍ ولا شراسةٍ، ولا تعبيس ولا تجريح ولا تشديد، مع أنه قد ارتكب عظيماً.
وكذلك الرجلُ الذي قالَ لهُ: يا رسولَ اللهِ، إني وجدتُ أمرأةً ما تركتُ منها شيئاً -مما يفعلُه الرجالُ بالنساء- إلا فعلتُهُ، إلا أني ما جامعتُها (2).
وكذلك المُقِرونَ بالزِّنى؛ الذين حدَّهُمْ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِن رجالٍ ونساءٍ (3)،
__________
(1) أخرجه البخاري (1936) و (1937) و (2600) و (5368) و (6087) و (6164) و (6709) و (6710) و (6711) و (6821) ومسلم (111)، وأبو داود (2390)، والترمذي (724) والدارمي 2/ 11، وابن ماجة (1671)، والبغوي (1752) والبيهقي 4/ 221 و222 و224 و226، وابن الجارود (384)، وأحمد 2/ 208 و241 و281 من طرق عن أبي هريرة.
(2) رواه من حديث ابن مسعود البخاري (526) و (4687) ومسلم (2763) والترمذي (3111) وأبو داود (4468) وأحمد 1/ 445 و449، والطيالسي 2/ 20، والطبري (18668) و (18669) و (18670) و (18671) و (18672) وابن ماجه (1398) و (4254) وأورده السيوطي في الدر المنثور 3/ 352، وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن حبان، وعبد الرزاق، وابن مردويه، والبيهقي في " الشعب " والطبراني.
ورواه بنحوه الترمذي (3115) والطبري (18684) و (18685) والبخاري في " التاريخ الكبير " 7/ 221 من حديث أبي اليسر، وفي سنده قيس بن الربيع وهو ضعيف.
ورواه الترمذي (3113) والطبرى (15678) عن معاذ بن جبل، وإسناده منقطع.
(3) انظر في هذا حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم (1694) وأبي داود (4432) و (4433)، وحديث بريدة عند مسلم (1695) وأبي داود (4433) و (4434) و (4441)، وحديث أبي هريرة عند البخاري (6815) ومسلم (1691) والترمذي (1428) وأبي داود (4428)، وحديث نعيم بن هزال عند أبي داود (4419) وحديث جابر بن عبد الله عند البخاري (6820) ومسلم (1701) وأبي داود (4420) و (4430) =(1/260)
ولم يلْعَنْ أحداً ولا شَتَمَهُ (1) ولا عبس عليه، ولا انتهره، إيناساً للقلوب وتأليفاً، وتنشيطاً للنفوسِ وترغيباً.
وما زال -عليه السلام- آمراً بتركِ الغُلُو والتَّشْدِيد. وقالت عائشة:
" ما خُيِّر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمريْنِ إلا اختارَ أيْسَرَهما؛ ما لم يَكن فِيهِ إثمٌ أو قَطِيعَةُ رَحِمٍ " (2).
وَلَمَّا جاءَ اليهودُ فقالوا له -عليه السلام-: السَّام عليكم -والسَّامُ: هو الموت- قال: " وعليكم ". هكذا -بالواو- في أكثر الروايات. فسمعتهم عائشة، فقالت: السَّام واللَّعْنةُ يا إخوان القردة والخنازير. فلَمَّا خرجوا منْ عنده -عليه السلام- قال لها: لمَ قُلْتِ لهم ما قُلْتِ؟! قالت: أَلم تَسْمَعْ إلى ما قالوا؟ قال: " بلى، وقد قلتُ: وعليكم ". ثم قال لها: " إن الرِّفْقَ مَا دَخَلَ في شيءٍ إلا زَانَهُ " (3).
__________
= وحديث ابن عباس عند البخاري (6824) ومسلم (1693) والترمذي (1427) وأبي داود (4421) و (4426) و (4427) وحديث عمران بن حصين عند مسلم (1696) والترمذي (1435) وأبي داود (4440) و (4441).
(1) بل نهي عن شتمهم، وزجر أصحابه عن ذلك، فقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر برجم الغامدية، فرجمت، فأقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها، فنضح الدم على وجهه فسبها، فسمع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - سبَّه إياها، فنهاه وقاله له: مهلاً يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له " أخرجه مسلم (1695) وأبو داود (4433) و (4434) و (4446) والدارمي 2/ 179، 180، وأحمد 5/ 348.
(2) أخرجه أحمد 6/ 85 و144 و116 و162 و182 و189 و191 و209 و223 و263، ومالك 2/ 903، والبخاري (3560) و (6126) و (6786) و (6853)، ومسلم (2327) وأبو داود (4785).
(3) أخرجه من حديث عائشة أحمد 6/ 37 و199، والبخاري (6024) و (6030) و (2935) و (6256) و (6395) و (6401) و (6927) ومسلم (2165) والترمذي (2701) والبغوي (3314).(1/261)
وكذلك كانت اليهُودُ يتعاطَسُونَ عند رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، لعلَّه يقول: يَرْحَمُكمُ اللهُ. فيقول: " يَهْدِيكُمُ الله ويُصْلحُ بَالَكُم " (1). وهذا منه -عليه السلام- حِرْصٌ على رِعايةِ ما آتاهُ اللهُ من الخُلُقِ العظيمِ، لَما حُرِّمَ عليه لفظُ التَّشميت المعتاد، وكان الدعاء للعاطس معتاداً، لم يستحسِنْ ترك الدُّعاء لهم في الموضعِ الذي يُعْتَادُ فيه الدُّعاء. فاحتال -عليه السلام- فَعَدَل إلى دعاء آخر يَجْبُرُ بذلك قلوبَ أشدَّ النَّاس عداوةً له وللمؤمنين، ويُخالِقُ مَنْ يَكتُمُ ما عنده في التوراة من ذكره، ومن يَسْخَرُ منه ويستهزيءُ به. هذا -والله- هو الخُلُقُ العظيم، فنسألُ الله أن يهدينا لاتباعه، والتأسي به في أحواله.
فجديرٌ بمَنِ انتصب في مَنْصِب الفُتيا، أو تَرَقَّى إلى مرتبة التدريس، وتَمكَّن في دَسْت التَّعليم، وتهيأ للرد على الجاهلين، والدُّعاء إلى سبيل ربِّ العالمين: أن يكون مقتفياً لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، عامِلاً بما قال الله -تعالى- من الدُّعاء إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة.
وكان يُمْكِنُ للسَّيِّد -أيَّدهُ الله- أن يجعل عوَضَ التنفير عن الاجتهاد غاية التنفير، والتعسير لمناهجه والتَّوعير: أن يحُثَّ على الصبر على طلب فوائدِه، وتَقْييدِ شواردِهِ.
التنبيه الثامن: أن " السَّيِّد " -أيَّده الله- يعلمُ أن الاجتهاد مِن فروض الكفايات، وأن الفَرض لا بُدَّ أن يكون من المقدورات، وأن الصدَّ عن
__________
(1) أخرجه من حديث أبي موسى الأشعري البخاريُّ في " الأدب المفرد " (940) وأبو داود (5038) والترمذي (2739) والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 302، وابن السني في " عمل اليوم واللية " (456) وإسناده صحيح، وصححه الترمذي، والحاكم 4/ 268، ووافقه الذهبي.(1/262)
أدائه مِن أعظم المكروهات المحرمات، وأن الأمرَ بهِ، والترغيب فيه من أعظم الطاعات. فليتَ شِعري، لمَ اختارَ الصَّدَّ عنه والتنفير على الحث عليه والترغيب؟!
التنبيه التاسع: أن السَّيِّد -أيَّده الله- بالغ في الاستبعاد لوجود الاجتهاد في هذِهِ الأزمان حتى شكَّ في إمكانه، وقال: إنَّهُ مُتَعذِّر، أو مُتَعَسِّر. وهذا يقتضي أنه يعتقد خُلوَّ الزَّمانِ عن المجتهدين، لأنَّه لو كان في الزمان مجتهد، لزال الشكُّ في التعذر، ووجبَ القطعُ بالإمكان.
وكلماتُهُ -أيَّده الله- بائحةٌ بخُلُوِّ الزمان من المجتهدين، وقد غَفَل -أيَّده الله- عما يلزم من هذا، فإنه يلْزمُ مِن هذا: أن يكونَ طلبُ الاجتهاد فرضَ عَينٍ عليه، وعلينا مَعاً، لأن هذا حكمُ فرضِ الكفاية إذا لم يقم به.
فكان الواجبُ من السَّيِّد -أيَّده الله تعالى- على مقتضى تعسيره أن يقول: إن الزَّمان خالٍ عن الاجتهاد، وإنه يَتعيَّنُ علينا القيامُ لما يجب مِن فريضته، فنتعاون على ذلك. هذا كلامُ العلماءِ العاملين بمقتضى ما علمهم اللهُ تعالى.
وأمَّا أنا نقِرُّ أنَّا لا نعلم مجتهداً، وَنُقِرُّ أنَّه فَرض كفاية، ونتركُ القيامَ بما أوجبَ اللهُ علينا من طلبهِ، بل نَترَسَّل على منِ اتهمنا أنه يَهِمُ بأداءِ ما افترض الله علينا من القيام به. فهذا ما لا أرضاه للسَّيد -أيَّده الله تعالى-.
التنبيه العاشر: أفْرطَ السيد -أيَّده الله- في تعسير الاجتهاد؛ حتى قال في غير موضع: إنه مُتعَذِّر أو متعسِّر -على الشك- ولم يمكنْهُ القطعُ بأنَّه متعسِّر!(1/263)
وقد ثبت أنه من الفروض، فيجب أن لا يكون متعذراً على القطع، لأن المتعذر غيرُ مطاق، والاجتهاد مفروض، فلو أوجبهُ الله -وهو مُتعَذِّر- لكان هذا يستلزِمُ القولَ بجواز تكليف ما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك عُلوّاً كبيراً.
فانظر إلى هذا الغلو العظيم في التَّعسير، والبلوغِ إلى الغايةِ التي لا وراءها. حتى ما رضي -أيَّده الله- أن يقطع بدخوله في جملة المقدورات البشرية، تهويلاً لشأنِهِ، وتبعيداً لِشَأوه، والغلوُّ لا يأتي بخير، وخيرُ الأمور أوساطُها، لا تَفْرِيطُها ولا إفراطُها.
التنبيه الحادى عشر: أن السَيِّد -أيَّده الله- كان يقول بإمامة الإمام النَّاصر -عليه السلام-، وقد ذكر في رسالته: أن الاجتهادَ شَرْطٌ في صحة الإمامة. فأين هذا التشكيك العظيمُ في استحالة الاجتهاد وَتَعذُّره، فإنما كان ممكناً في زمان الإمام الناصر -عليه السلام-، كيف جَوَّزْتَ أن ينقلِبَ مُتَعذِّراً بعد بضعةَ عشر عاماً من تاريخ وفاته -سلام الله عليه-.
وقد قال السُّيد -أيَّدهُ الله- بإمامةِ الإمام الناصر وتولَّى منه، وأجرى في ولايته أحكاماً عِظاماً لا تجوزُ إلا بولايةٍ صحيحة. وهو -أيَّده الله تعالى- محمولٌ على السَّلامة في جميعِ ذلك؛ ولكن ما علمنا أنه نَصَح الإمامَ النَّاصر مثل ما نَصَحَنَا. وفي الحديث الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " الدين النصيحة " (1). قالوا: لمن يا رسولَ الله، قال: " لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئَّمَّةِ المُسْلمين، ولِعامَّتِهم " (2).
__________
(1) في ب: نصحناه.
(2) تقدم تخريجه ص 214 - 215.(1/264)
وعانت العنايةُ بنصيحة الإمام -عليه السلام- أحقَّ وأولى، لِما في الإمامة من الأخطار، ولِما كان في ولاية السَّيِّد -أيَّده الله- من ذلك.
وأما اجتهادي، فهو في وضع اليمنى على اليسرى، والتأمين. ولم يقل أحدٌ من خلق الله أجمعين: إنَّ ذلك يُوجب العذاب الأُخروي، ويُخافُ منه العقابُ السَّرمدي.
وكذلك لم يبْلُغْنَا أن السَّيِّد -أيده الله تعالى- تشدَّد في اختيارِ الإمام النَّاصر مثل ما تشدَّدَ في رسالته، فسأله عن طُرُقِ الجرح والتعديل، وسلك معه مثلَ مسلكِه مع محمد بن إبراهيم (1)؛ من التفصيل والتعليل، وسأل الإمامَ من أينَ حَصَلتْ له عدالةُ الرواة؟ ومَن عَدَّلهم له؟ ومَن عَدَّل المُعَدِّل؟ حتى ينتهي إلى وقته، ولا أوجبَ عليه في الاجتهاد أن يحفظ علومه عن ظهرِ قلبه مثل ما نصَّ على ذلك في رسالة محمد بن إبراهيم.
وكذلك لم يحذر الإمام عن القراءة في كتب الحديث النبوي التي صنفها الفقهاء، فإنه -عليه السلام- هو الذي نشر محاسنها، وجمع نفائِسها، وعَرفَ غرائبها، ولم يشتهر الدرسُ فيها والتدريسُ في ديار الزيدية اليمنية مثل ما اشتهر في زمانه -عليه السلام-.
وأيضاً فاختيارُ الإمام واجب، والإمامة من المسائل القطعيات، واختيار محمد بن إبراهيم غيرُ واجب، فأين رسالة السَّيِّد -أيده الله- إلى الإمام الناصر وما بال اجتهاده كان ميسراً، غير متعذر ولا متعسر. مع كثرة اشتغاله بأُمور العامة، وسَدَّ الثُّغُور، وتجنيد الجنود، وتجهيز الغزوات. ولو لم يكن إلا مواجهة الناس، واستماع كلامهم، وجواب مكاتباتهم.
__________
(1) أي: المصنف نفسه.(1/265)
وقد رأينا طالب العلم يتكدر بأدنى مُكدِّر، فكيف يَسْهُلُ الاجتهادُ عليه، ثُمَّ يَعْسُرُ على الناسِ أجمعين.
وكذلك قد بالغ السَّيِّد -أيده الله- في التسميع بمحمد بن إبراهيم، وأنه قد خالف جماهيرَ العِترة، وأن هذا عملُ مَنْ ليس بمعظمٍ لهم. قال -أَيَّده الله تعالى-: لأن المعظِّمَ لهم لا يُخالِف قولَ جماهيرِهم.
فنقول له: ما أنكرت على الإمام الناصِر المِزْمارَ ولا لباسَ المجاهدين للحرير في غيرِ وقت الحرب، وهذان يُخالفان مذاهبَ جماهيرِ العِترة، فلم يُعاتبه السيد -أَيده الله- ويستخرج له أنه غيرُ معظم للعِترة -عليه السلام- كما استخرج ذلك في حق محمد بن إبراهيم.
والإمام الناصر -عليه السلام- محمولٌ على السلامة في جميعِ ذلك، وإنما الكلامُ في اختصاص محمد بن إبراهيم بالإنكار والتعنت، والتعسير والتَّعسف في أمرٍ هَيِّن لم يقع مِن السَّيِّد -أيده الله- العنايةُ بأهمَّ منه، ولا بما هو أخصُّ منه، وليس تُعابُ هذه الأمورُ إلا على مَنْ مِثْل السَّيِّد -أيده الله- لأنه من عيون السادة، وعلماء العِترة، فينبغي منه حِراسةُ نفسه مما لا يَليق بمنصبه الشريف، ومحلِّه المنيف.
وقد نُسِبَ إلى كثير من الأئمة -عليهم السلام- مخالفةُ جماهيرهم فيما انفردُوا به، ولم يُستنبط لهم من ذلك كراهةُ مَن خالفوه، بل قد ذكر السيد في تجريده للكشاف المزيد فيه النكت اللطاف أقوالاً مخالفةً لإجماع العِترة، أو لجماهيرهم، مقرراً لها، غيرَ منكرٍ على قائلها؛ مع أنها متضمنة للقدح، وفي أدلة أهلِ البيت، وذلك أنه قال في تفسير قوله: {قل لا أسئلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلا المَودَّةَ في القُرْبى} [الشورى: 23]:(1/266)
" اختُلِفَ في معنى الآية على أقوال (1): أحدها: أن المراد أن تَوَدُّوني لقرابتي منكم، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم.
قال ابنُ عباس: لم يكن بطنٌ مِن بطون قريش إلا ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم قرابة (2).
الثاني: إلا أن تودوا قرابتي، قاله علي بن الحسين، وسعيد بن جُبير، والسُّدي، وغيرهم.
ثم بالمراد بقرابته - صلى الله عليه وسلم - قولان:
أحدهما: أنهم عليٌّ وفاطمةٌ والحسنُ والحسينُ، وقد رويَ مرفوعاً (3) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) انظر هذه الأقوال في " زاد المسير " لابن الجوزي 7/ 284 - 285 بتحقيقنا.
(2) أخرجه البخاري برقم (4818) وتمامه فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة وهو الصحيح في تفسير الآية كما سيأتي مبيناً في التعليق الآتي.
(3) ضعيف جداً أخرجه الطبراني في " الكبير " (12259) من طريق حسين الأشقر، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت (قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى) قالوا: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: " علي وفاطمة وابناهما رضي الله عنهم " وأورده السيوطي في الدر المنثور 6/ 7، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وحسين الأشقر قال البخاري: فيه نظر، وقال مرة: عنده مناكير، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال الجوزجاني: غالٍ شتام للخيرة، وقال ابن معمر الهذلي: كذاب، وقال الدارقطني والنسائي: ليس بالقوي، وقال الحافط ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف: ضعيف ساقط، وقيس بن الربيع لما كبر تغير، فأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه، فحدث به، وأيضاً فإن سورة الشورى مكية، وفاطمة رضي الله عنها لم يكن لها إذ ذاك أولاد بالكلية، فإنها لم تتزوج بأمير المؤمنين علي إلا بعد بدر من السنة الثانية للهجرة، وقد عارض هذا الحديث ما هو أولى منه، ففي البخاري (4818) من رواية طاووس عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية، فقال سعيد بن جبير: فربى آل محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال ابن عباس: عجلت، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة. =(1/267)
وثانيها: أنهم الذين تحرم عليهم الصَّدقة.
والثالث: أن المعنى: إلا أن توددوا إلى الله فيما يُقرِّبُكم إليه من العمل الصالح، قاله الحسن وقتادة.
الرابع: إلا أن تودوا قرابتكم، وتَصِلُوا أرحامكم. حكاه الماوردي.
ثم حكى عن ابن عباس: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم} [سبأ: 47]، وعن الثعلبي والواحدي: أن القول بالنسخ غلط مبني على أن الاستثناء متصل، وهو منقطع (1) ". انتهى ما حكاه وفي آخره اختصار.
فالعجبُ كيف لم يَنْصُرْ لفظَ العِتره بلفظةٍ واحدة في مثل هذا الأصل
__________
= وقال الحافظ ابن كثير في التفسير: 7/ 189 والحق تفسير الآية بما فسرها به الإمام حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كما رواه عنه البخاري، ولا تنكر الوصاة بأهل البيت، والأمر بالإحسان إليهم، واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه وعلي وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين.
(1) قال ابن الجوزي في " زاد المسير " 7/ 284: وفي الاستثناء ها هنا قولان: أحدهما: إنه من الجنس، فعلى هذا يكون سائلاً أجراً، وقد أشار ابن عباس في رواية الضحاك إلى هذا المعنى، ثم قال: نسخت هذه بقوله: {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل.
والثاني: إنه استثناء من غير الأول، لأن الأنبياء لا يسألون على تبليغهم أجراً، وإنما المعنى: لكني أذكركم المودة والقربى، وقد روى هذا المعنى جماعة عن ابن عباس، منهم العوفي وهذا اختيار المحققين، وهو الصحيح، فلا يتوجه النسخ أصلاً.
وقال ابن جرير الطبري: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب وأشبهها بظاهر التنزيل قول من قال: معناه: قل لا أسألكم عليه أجراً يا معشر قريش إلا أن تودُّوني في قرابتي منكم وتصلوا الرحم التي بيني وبينكم.(1/268)
الكبير، ولا بدأ به (1)، مع احتجاجهم بالآية على الناس في دعواتِهم ومراسلاتِهم ومخاطباتهم. وقد بالغ في رسالته في توعيرِ التفسير وتعسيره، وتعظيم خطره، وفي تحريمِ مخالفة أهل البيت، فكيف حَسُنَ منه مخالفةُ ما أَمَرَ به في هذين الأمرين. ووجد لنفسه محملاً حسناً ولم يجد لغيره محملاً حسناً فيما هو دونَ ذلك!! وليس القصدُ إساءةَ الظَّنِّ به مِني، إنما القصدُ حُسْنُ الظنِ بي منه، لكني توصلتُ إلى ذلك بما يُوقظه من الغفلة.
جعلنا الله جميعاً ممن تنفعُه الذَكرى، وجمع كلمتَنا على ما يُحمد في الأخرى.
التنبيه الثاني عشر: أن في زماننا جماعةً من أهل البيت قد ادَّعوا الاجتهادَ، وطلبوا المناظرةَ لمن أراد الانتقاد، وكلُّ منهم قد ادَّعى الإمامة الكبرى، ودعى إلى الاختيار جهراً، ولم يُعْلَمْ أن السَّيِّدَ -أيده الله- تَرسَّلَ على أحد منهم، ومَحَضَه النُّصْحَ، وقال له مِثْلَ ما قال لمحمد بن إبراهيم: إن الاجتهاد متعذِّر أو متعسِّر، وأورد عليه تلك الفصولَ، وبَعَّدَ عليه البلوغَ إلى تلك المرتبة والوصول. وهم كانُوا أحقَّ بالنُّصحِ مني وأولى، لِما تعرَّضوا له مِن سفكِ الدِّماء، وأخذِ الأموال، وسائرِ ما يتعلَّق بالإمامة من الأعمال.
فينبغي أن السَّيِّد -أيَّده الله- يُساوي بيننا في نصيحته، وَيَعُمُّنا بشفقته، ويترسَّلُ على هؤلاء السادة كما ترسَّلَ على محمد بن إبراهيم.
فهداية جماعة أفضلُ من هداية واحدٍ، كما لا يخفي على السَّيِّد -أيده الله-.
التنبيه الثالث عشر: أني ادعيتُ الاجتهاد في مسائلَ يسيرة فروعية،
__________
(1) على هامش " أ " تفسير جملة ما بدأ به، ونصه: أي: ما صدره.(1/269)
عملية، ظنية من مسائل الصلاة. فأنكرتُم هذا وأنتم مدَّعون لأكبر منه.
فإنَّكم متصدِّرُونَ للتدريس في العلوم عَقْلِيها وَسَمْعِيِّها، وكثيرٌ منها لا يَصِحُّ التدريس فيه على جهة التقليدِ كالعربية، والأصولَيْن (1)، والمَنْطقِ، والمعاني، والبيان. فدرسُكم في هذه الفنون فرعٌ على دعوى المعرفة لها، فما علمنا أن أحداً أنكرَ عليكم دعوى العلم بالعربية، وهي تشتمل على معرفة أُلوف من المسائل. وكذلك ما علمنا أنكم أنكرتم على أحدٍ دعوى يدَّعيها في المعرفة بمسألة نحوية، أو معنوية (2)، أو أُصولية، أو منطقية، بل ما أنكرتُم على من ادعى معرفة فنٍّ مِن هذه الفنون اشتمل على أُلوفٍ من المسائل، ولا مَن ادعى معرفة فَنين، ولا أكثر، حتى جاء محمد ابن إبراهيم فادعى أنه عرف دليلَ وضعِ اليُمنى على اليُسرى (3)، فتقحَّمْتم
__________
(1) قال العلامة محمد أمين بن فضل الله المحبي في كتابه " جنى الجنتين في تمييز نوعي المثنيين " ص 20: الأصلان يقعان في عبارة المؤرخين كثيراً يريدون بهما أصل الدين وأصل الفقه.
(2) أي تتعلق بعلم المعاني أحد أنواع فن البلاغة.
(3) جاء في كتاب " هيئة الناسك في أن القبض في الصلاة هو مذهب الإمام مالك " للإمام محمد بن عزوز المالكي التونسي ما نصه: والأحاديث الواردة في ذلك (أي: في وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة) نحو عشرين حديثاً عن نحو ثمانية عشر صحابياً، أكثرها صحاح وحسان، وما قصر عن تلك الدرجة يرتفع بشواهده ومتابعاته كما يعرفه أهل فنه، والعمدة على صحاحها، وحديث واحد يثبت به الحكم، فمن الصحابة الذين حفظت عنهم هذه السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، وحذيفة، وعائشة، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، ووائل بن حجر، وجابر بن عبد الله، وابن الزبير، وسهل بن سعد وابن عمر، وغيرهم رضي الله عنهم، ودواوين السنة الحافظة لرواية الصحابة المذكورين وغيرهم بأسانيدها هي الكتب الستة وكتب الأئمة الأربعة وصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة، وصحيح ابن السكن، وسنن الدارقطني، والبيهقي ومسند البزار، وغيرها " فالعشرة التي يقال لها أصول الإسلام، وهي الكتب الستة وكتب الأئمة الأربعة كلها روت وضع اليدين سنة قائمة، وليس فيها ولا في غيرها من كتب الحديث ما يدل على السدل في الصلاة.(1/270)
في الإنكار عليه الطريقة العُسرى، كأنما اغتصبَ أموالَكم قَسْراً، أو ادعى نظير معجزة الإسرا.
التنبيه الرابع عشر: أنكم أوجبتم على كلِّ مكلف -من حر وعبد وذكر وأُنثى، وبليد وفطين، وقاريءٍ وأُمي- أن يَعْرِف الله، وصفاتِه، وسائرَ مسائل الاعتقادِ المعروفة بالدليل الصحيح المحرَّر معناه في علم الكلام مِن غير تقليد للمتكلمين في ذلك الدليل، وإن لم يَعْرفْ عبارتهم بعد أن عرف معناها. ولسنا نُنْكِرُ إيجابَ المعرفة لله -تعالى- فنحن نقول به، ولكن نكرر عليك أنك اعتقدت أن معرفة تلك الأدلة مُتَسَهِّلة على العامَّةِ، والنساء والإماء والعبيد، والفلاحين، وجميع أهل البَلادَة والغباوة، وَقطَعْت أن ذلك غيرُ متعذِّر عليهم.
وأما معرفة محمد بن إبراهيم لمسائل يسيرة فروعية؛ فلم يُمكنك القطعُ بأنها متعسرة، بل شَكَكْت أنها متعذرة أو متعسِّرة، مع أن تلك المسائل التي لم يُرخَّصْ لأحدٍ التقليدُ فيها، هي (1) محارَاتُ الأذكياء، ومواقفُ الفُطنَاء، ومداحِضُ الأقدام، ومهاوي الأفهام، وفيها مسائلُ الوعدِ والوعيد، والولاءِ والبَراء والأسماء والإمامات، وهذه هي سمعيات محضة، ولا يسْلَمُ الخائضُ فيها من التقليد ما لم يعرف ما يتعلَّق بها من العربية، وعدم المُعارض والمُخَصِّصِ، وفي الولاء والبراء والإمامات.
ولا بُدَّ مع ذلك مِن معرفة عدم النسخ، وذلك لا يَصِحُّ إلا بَعْدَ البحث الكثير. فما بالُ هذا أمكنَ جميع المكلفين، ولم يتعذَّرْ عليهم، وأما محمد بن إبراهيم، فتعذَّرَ عليه ما هو أهونُ مِن هذا مع اشتغاله بالعلم منذ عَرَف يمينَهُ من شمالِهِ.
__________
(1) في ب: وهي.(1/271)
فإنه قلت: لأن تلكَ مسائل علمية عليها أدلة قطعية.
قلت: وليس كُلُّ علمٍ تحصيلُه أسهلُ من تحصيل الظَّنِّ، فإن كلامَنا في السُّهولة والصعوبة؛ ولعله لا يَخفي عليك أن تحصيل أدلة التأْمين، ووضع اليمنى على اليُسرى أسهل من معرفة أدلة العلم الكلامي على الوجهِ الصحيح من غيرِ تقليد ألبتة، ولو كان الظن أعسَر مِن العلم مطلقاً؛ كان ظنُّ إصابة جهةِ القبلة أعسرَ مِن العلم بدليل الأكوان، بل أعسرَ مِن علم المنطق والكلام، وهذا ما لا يليق التطويلُ فيه.
التنبيه الخامس عشر: القول بسهولة الاجتهاد قد قال به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أهل المذهب، وغيرهم من أهل العصر، ومن تَقَدَّمهم.
حدثني حي الفقيه العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير (1) أن الشيخ أبا الحسين لم يكن يشترط في الاجتهاد إلا أُصولَ الفقه -يعني بعدَ معرفةِ الكتاب والسُّنة-، قال: ولم يُرِدْ إن العربيةَ ليست بشرطٍ، وإنما أراد أن المحتاج إليه منها قد صار في أُصول الفقه، وبقيتُها إنما يتعلَّق بإعراب الألفاظ.
وهذا القولُ لستُ أقولُ به، ولا أرتضيه، وإنما القصدُ الحكايةُ عن العارف الثقة.
وقد تكلَّم الفقيهُ عبد الله بن زيد (2) في الاجتهاد، ورخَّص فيه،
__________
(1) من مؤلفاته " الدرة الفاخرة في كشف أسرار الخلاصة الزاهرة " والفوائد الجامعة في الخلاصة النافعة " و" واسطة النظام في التقليد والاستفتاء والنقل والالتزام " انظر فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء " ص 160 و197 و318.
(2) له في المكتبة الغربية بالجامع الكبير " شمس المشرقين والمغربين في دليل الجمع بين الصلاتين " ضمن مجموع (120).(1/272)
وكذلك القاضي العلامة عبد الله بن حسن الدَّواري (1) -رحمه الله- كان يُقَرِّبُهُ كثيراً. وكذلك حي الفقيه العلامة علي بن عبد الله -رحمه الله- قال لي: إن الاجتهاد عنده أسهلُ مِن معرفة الفروعِ. والسَّيِّد -أيده الله- قد حكى ذلك عن الغزالي (2) وغيره. قال السَّيِّد -أيده الله-، في رسالته: إن الغزالي وغيرَه ذكروا أنه يكفي المجتهدَ أن يَعْرِفَ في كلِّ فَنٍّ مختصراً، ولا يلزمُه حِفظُه عن ظهر قلبه، بل يكفيه معرفتُه نظراً. هذا لفظ السَّيِّد -أيده الله-، لكنه تأوَّل كلامَ الغزالي وغيرِه بما لا يُوجبُ التأويل، كما سيأتي في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
وكذلك تاجُ الدِّين السُّبكي قد وسَّطَ الأمرَ فيه ونصَّ: على أنه لا يجبُ عليه حفظُ المتون، ذكره في كتابه " جمع الجوامع " (3). ولم يذكر فيه خلافاً مع توسُّعِهِ في النقل.
وأنا -بحمد الله- لم أَقلْ كما قالوا، وأعوذ بالله من أن أعتقِدَ أنه يكفي في كل فَنٍّ مختصرُه -هكذا على الإطلاق-، هذا قولٌ نازلٌ جدًّا وسيأتي الكلامُ على فساده لا على تأويله -إن شاء الله تعالى-، وإنما القصدُ بيانُ أن تسهيلَ الاجتهاد قولُ لم يزل في الناس مَنْ يقولُه في قديم الزمان وحديثه، ولم يُعلم أن أَحداً ترسَّلَ على أحد في ذلك. وقد أشار
__________
(1) ترجمه الشوكاني في " البدر الطالع " 1/ 381، فقال: عبد الله بن الحسن اليماني الصعدي الزيدي الملقب بالدواري باسم أحد أجداده وهو دوار بن أحمد، والمعروف بسلطان العلماء، ولد سنة 715 هـ، وقرأ على علماء عصره، وتبحر في غالب العلوم، وصنف التصانيف الحافلة في الأصول والفروع، وكان الطلبة للفنون العلمية يرحلون إليه، ويتنافسون في الأخذ عنه، وليس لأحد من علماء عصره ما له من تلامدة، وقبول الكلمة، وارتفاع الذكر، وعظم الجاه. توفي سنة 800 هـ.
(2) انظر كلام الغزالي في " المستصفي " 2/ 350 - 351.
(3) انظر ص 422 - 424 من الجزء الثاني من شرح الجلال المحلى على جمع الجوامع، وحاشية العطار عليه.(1/273)
إلى سهولته غيرُ واحدٍ؛ كالإمام يحيي بن حمزة (1)، والفقيه علي بن يحيى الوشلي (2) -رحمه الله-، وغيرهم. وسيأتي لهذا مزيدُ بيان - إن شاء الله تعالى.
التنبيه السادس عشر: أنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- يُملي على تلاميذه الخلاف في الفروع، ويروي عن كثير ممن لا يعلم أنه مجتهد بنقل ثقة معلوم العدالة بتعديل ثقة، وذلك الثقة الذي عدَّلَه مُعدِّل، وَهَلُمَّ جراً حتى ينتهي إلى زمانه. ولا السَّيِّد -أيَّده الله- يعلمُ نزاهتهم عن معاصي التَّأويل بمثل هذه الطريقة التي ألزمنيها، فهو على شك في اجتهادهم، وفي عدالتهم.
أما الاجتهاد، فلأنه قد نَسَبَ مالكَ بن أنس إلى البَلَهِ، وحكى أن أبا حنيفة لا يَعْرِفُ العربية ولا الحديث.
أما الاعتقاد، فلأنه قد قَطَعَ بكُفْرِ أحمد بنِ حنبل، وشكَّكَ في إسلامِ الشافعي، ومالك، أمَّا الشافعي، فقال: قد رُويت عنه الرُّؤية، وهذا يحتمل أن يكون بِكَيفٍ وهذا تجسيم، وأما مالك؛ فإنه توقف في تفسير الاستواء، وهذا يحتمل أنه تجويز للتجسيم.
فإذا كان هذا في الأئمةِ الأربعة الذين طُرِّزَت بأقاويلهم كُتُبُ
__________
(1) ستأتي ترجمته ص 287.
(2) ترجمه زيارة في ملحق البدر الطالع ص 183، فقال: الفقيه العلامة المحقق علي ابن يحيى بن حسن بن راشد الوشلي اليمني ينتهي نسبه إلى سلمان الفارسي، ولد سنة 662 هـ، وأخذ عن السيد محمد بن عبد الله الحسيني الموسوي وغيره، وكان عالماً محققاً حجة في كل مطلب نقح الفروع، وبين التأويل والتعليل، وأتى بالفرق والجمع بين المسائل بما لما يأت به غيره. مات بصعدة سنة 777 هـ.(1/274)
الزيدية، ورسَخَتْ بمذاهبهم تصانيفُ العِترةِ الزكيةِ، وعُطِّرَتْ بذكرهم حِلَقُ الذِّكر بُكرةً وعشية؛ فما ظنُّك بالليثِ بنِ سعد المصري، وأشهب، والمُزَنِي، والإصطَخْرِي، وأبي ثورٍ، وداودَ، والقفالِ، والشَّاشِي، والمروزي، والقاشاني، وبعض أصحاب الشافعي، هكذا على الإجمال من غير تعيين. فروايةُ الخلافِ فرعٌ على معرفة الإسلام أولاًً، ثم معرفةِ العدالة التامة من جهة التصريح إجماعاً، ومن جهةِ التأويل على قولك -أيَّدك اللهُ- في ذلك بطريق صحيحةٍ، متسلسلة بالعُدولِ المعروفين منهم إلى " السَّيِّد ". مثل ما ألزمني في معرفة عدالتهم، وقال: لا تَحِلُّ الرواية عنهم إلا بعدَ معرفة العدالة في التصريح والتأويل، ومعرفةُ العدالة متَعسِّرةٌ أو متعذِّرة. فكذلك أنتَ لا يَحِلُّ لك رواية خلافهم إلا بعد ذلك. فمِن أين حصل لك، وتيسَّر، وتَسَهَّل أنهم عدولُ، بل أنهم مجتهدون في العلم مع العدالة؟! وأما أنا، فما تيسَّر لي معرفةُ العدالة وحدَها مِن دون معرفة الاجتهاد، مع أن التحري في النقل عنهم مما يلزمُكَ ويخُصُّك، وليس اجتهادي مما عليك فيه تكليفٌ. فتركت التَّحري فيما يخُصُّك، وتفرغت لتسيير الرسائلِ إليَّ مِن غير مُوجب مني لِذلك.
التنبيه السابع عشر: الظاهر من أحوال السَّيِّد -أيده الله- أنه لا يقطعُ بتضليل الأئمة المتأخرين مِن بعد الإمام أحمد بن الحسين -عليه السلام-، كالإمام المنصور الحسن بن محمد (1)، والإمام إبراهيم بن تاج الدين، والإمام المطهر بن يحيى (2)، وولده محمد بن المطهر (3)،
__________
(1) المتوفى سنة 670 هـ مترجم في " بلوغ المرام " 409.
(2) المتوفى سنة 697 هـ مترجم في بلوغ المرام ص 50 و406.
(3) المتوفى سنة 728 هـ مترجم في " البدر الطالع " 2/ 271.(1/275)
وحفيده الواثق (1)، والإمام يحيي بن حمزة (2)، والإمام علي بن محمد (3)، والإمام علي بن صلاح بن تاج الدين، والإمام أحمد بن علي بن أبي الفتح -عليهم السلام- وحي والدك السَّيِّد العلامة محمد بن أبي القاسم -رحمه الله-، وهؤلاء الأئمة قد ادَّعَوا الاجتهادَ، وطريقهم في تصحيح الأخبار لم تُرفع ولم تعذر، لأنه ليس بيننَا وبينَهم قرونٌ عديدة، ولا أعصارٌ بعيدة. فإن كان السَّيِّد يجوِّزُ أنهم اجتهدوا، فَخَلِّ الناس يطلبون ما طلبوا، ولعلَّ الذي فَتَحَ على أُولئك يفْتَحُ على غيرهم، فإنه -سبحانه- باقٍ، وقدرتُ باقية، ولا معنى للتخذيل من طَلَب المقدورات. وليس المرادُ أني مثلُهم، ولا مِثل الإمام النَّاصر (4)، لأن كلامي ليس هو في نفسي، إنما هو في الاجتهاد، فإنَّ السَّيِّد بَعَّدَه وعَسَّره، وشَكَّ في دخوله في جملة المقدورات، ولم يُفرق في ذلك بيني وبينَ غيري.
والقصد الكلام أن الاجتهاد إذا كان ممكناً في زمان هؤلاء الأئمة، وإليه طريق معروفة، فالعهد قريب. والظاهر أن تلك الطريق ما تَعَفَّت في هذه المدة اليسيرة. والله أعلم.
التنبيه الثامن عشر: أنَّ السَّيِّد -أيده الله- ذكر أن الاجتهاد ينبني على معرفةِ تفسير المحتاج إليه من القرآن، وذكر أن ذلك صعبٌ شديدٌ، مَدركُه بعيد. ثم إنّا رأينا السَّيِّد -أيده الله- صَنَّف تفسيراً للقرآن الكريم، محكمِه ومتشابِهه من أوَّلِه إلى آخره، وذكر جميع ما فيه من دقيق وجليل،
__________
(1) المتوفى بعد سنة 765 هـ مترجم في بلوغ المرام: 51.
(2) المتوفى سنة 705 هـ مترجم في البدر الطالع 2/ 333.
(3) المتوفى سنة 773 هـ مترجم في البدر الطالع 1/ 485.
(4) على هامش أما نصه: هذا محض التواضع، وإلا فآثارك تقضي بأنك فوق الكل.(1/276)
فعسَّر علينا معرفة تفسير المحتاج إليه، وهو شيءٌ يسير، وتعرض لذلك الذي عَسَّره بعينه، ولِأكثرَ منه بأضعافٍ مضاعَفةٍ. فإن كان ذلك تيسر للسَّيِّد -أيده الله- فلعل الله يُيسرهُ لغيره، وإن كان لم يتيسر له فهو أجلُّ من أن يقولَ على الله في كتابه بما لا يعلم، وقد روي في التفسير وعيدٌ شديدٌ. وسيأتي -إن شاء الله- لهذا مزيدُ بيان.
ومن العجب أنه أكثر في تفسيره " تجريد الكشاف " مع زيادة " النُّكت اللِّطاف " من الرواية لتفسير كتاب الله -تعالى- من طريق الرازي، وابن الجوزي -من مشاهير المخالفين- الذين (1) يأتي تصريح السيد أنهم عنده كفَّارُ عمدٍ وتصريحٍ لا خطأ وتأويل. وكيف جاز له مثلُ ذلك؛ مع قَدحه على المحدثين بالرواية عن مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والبخاري، فكيف تجاسر -مع المنع عن الرواية عن مثل هؤلاء- على رواية فضائل السُّور الموضوعة باتفاق العارفين بعلوم الأثر مع معرفته لدلك في كتاب ابن الصلاح في " علوم الحديث ". وهلاَّ تورَّعَ من ذلك للخروج من الاختلاف، وكيف تجاسرَ على ذلك مع منعه من رواية الحديث المتفق على صحته بين علماء الأثر، فالله المستعان.
التنبيه التاسعَ عشَرَ: أن السَّيد -أيده الله- ألزمنا معرفةَ معنى الآيات المتشابهة على التفصيل؛ سواء كُنّا مجتهدين أو مقلدين. ولم يُرَخص لنا في التوقف في التأويل، وجعل معرفة المتشابه مما يمكن كلَّ مكلف مِن عالم وعامِّي، وقارىء وأمِّي على مقتضى كلامه -كما سيأتي- إن شاء الله تعالى. ثم عَسرَ علينا معرفةَ الآياتِ المحكمةِ النازلةِ في تحريم الرِّبا،
__________
(1) في ب: الذي.(1/277)
والزِّني، وإفطار رمضان، وإتيانِ الحائض، وفي مواريث الأولاد مثل قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض} [البقرة: 222] وقوله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، ومثلُ قوله: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِد} [البقرة: 187]. وأمثال ذلك من الآيات الكريمةِ في تحريم الفواحش، وإقامة الحدود، وجواز البيع، وتعليم النَّاس معالم الخير، وإرشادهم إلى أعمال البِرِّ من الخشوع في الصلوات، والمسابقة إلى الخيرات، وإخبات القُلُوب، والوَجَل من الذنوب. فما أصعبَ ما سَهَّلَ السَّيِّد -أيده الله- من معرفة المتشابه جميعِه، وما أقربَ ما عسَّرَه من معرفة بعضِ آيات الأحكام.
فإن قلت: إنما عسرت آيات الأحكام لتوقُّف العمل بها على فقد النَّسْخ، والمعارضة، والتخصيص.
قلت: ذلك أمرٌ آخر أفردتُ الكلامَ فيه كما سيأتي كلامُك، وجوابُهُ: بل عَسَّرْتَ مجرَّدَ التعسيرِ (1) المتعلِّق بالنحو واللغة، وفي تفسير معرفة معنى المحكم، وتسهيلُ معرفة معنى المتشابه تَعَسُّفٌ كثير، فالله المستعان.
التنبيه العشرون: أنَّهُ -أيده الله- إما أن يكون يعتقِدُ في نفسه أنه مجتهد، أو لا، أن كان يعتقِدُ ذلك في نفسه، فقد زالَ تعذُّرُ الاجتهاد،
__________
(1) في أ: التيسير.(1/278)
ونُفِيَ تعسُّره، ولعلَّ الذي يَسَّره له، أو صَبَّرَهُ على طلبه حتى ناله يَهَبُ لِغيره ما وَهَبَ {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20]. وإن لم يكن مجتهداً فهو لا يَعْرِفُ الاجتهادَ، فلا يَصِحُّ منه الحكمُ عليه بتعذرٍ ولا تعسُّر، ولا سُهولةٍ ولا تيسُّر، ولا نفيٍ ولا إثبات. وفي هذا مباحثُ طويلة، قد جمعتُها في رسالةٍ مفردَةٍ، وبعضُها أو كلُّها لا يخفي على الذكِيِّ مع التَّأمُّلِ.
التنبيه الحادي والعِشرين: أنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- عَظَّمَ الكلام في معرفة الجرح والتعديل، وعَوَّل عليه في التَّعسير كُلَّ التعويل، وهو عمودُ تعسيره الدي يدور عليه، وأصلُه الذي يعود عليه، ولم يُنبِّهِ السَّيِّد -أيده الله- على أن فيه خلافاً ألبتة، كأنه لا يَعْرِفُ فيه لأحدٍ قولاً، والقولُ بتركِ البحث عنه، وبأنَّه غيرُ واجب، هو القولُ المشهور المستفيض بينَ علماء الزَّيدية والمعتزلة، وهو قولُ المالكية، والحنفية. وادعى ابن جرير الطَّبري. أنه إجماعُ التابعين، وهو قول الشافعي في بعض المراسيل، وهو الذي عليه عَمَلُ النَّاسِ في بلاد الزَّيدية، وليس يُوجد في خزائنِ الأئمة كتاب في الجرح والتعديل بخلاف سائر العلوم.
فليت شعري ما سببُ الإضراب عن ذكرِ هذا؟! ومن أين للسَّيِّد -أيده الله- أني أشترط معرفة الجرح والتعديل؟ وما أمِنَهُ أني أقبلُ المرسل من الثقة، فإن كان يُنْكِرُ على مَنْ لم يشترط ذلك، فليُنْكِرْ على غيري من جماهير العلماء، وما خَصَّني بالنكير، وإن كان لا يُنكرُ ذلك؛ فما باله عَسَّر وشدد، وهَوَّلَ وحَرَّجَ في أمرٍ الخلافُ فيه أظهرُ من الشمس عند مَنْ لَهُ أدنى معرفة بالأصول، وَهَلاَّ وقف التَّعسير على القول بإيجابِ معرفة ذلك، ولكنَّ كتابه -أيَّده الله- مبنيٌّ على الميلِ إلى التغليظ في الأمور والتحريج،(1/279)
وترك ما لا يَخفي -على مثله- من التسهيل، بحيث إنه لا يترك شيئاً من الأمور المعسرة، ولا يخفي عليه وإن دقَّ، ولا يلتفت إلى شيءٍ مما فيه شهولة ويُسر، وان جلَّ وتجلى وما هذا عملَ الإنصاف.
وقد اقتصرتُ على هذه التنبيهات الإحدى والعشرين وإن كان يُمكن الزيادة فيها، لكن مما أخاف أن ذِكْرَه يُوحِش السَّيِّد -أيَّده الله-.
قال " أما معرفةُ صحيح الأخبار، فمبنيٌّ على معرفةِ عدالة الرواة، ومعرفةُ عدالَتهم في هذا الزمان مع كثرة الوسائط كالمتعذر. ذكرَ هذا كثيرٌ مِن العلماء، ومنهم الغزالي والرَّازي. فإذا كان ذلك في زمانهم؛ فهو في زماننا أصْعبُ، وعلى طالبهِ أتعبُ، لازدياد الوسائط كثرةً، والعلوم دروساً وفَتْرَة ".
أقول: قد تقدَّم الكلام على تعسير الاجتهاد على الإطلاق. وقد شرع السَّيِّد يتكلم على تعسيرِ (1) كلِّ شرط من شروط الاجتهاد. فبدأ بمعرفة صحيح الأخبار فتكلم على تعسيرها، والجوابُ عليه مِن وجوه:
الوجه الأولُ: أنَّ ظاهر كلامِهِ يقتضي إيجابَ الإحاطةِ بمعرفة الصحيح مِن الأخبار، وهذا الشرطُ لم أعلم أحداً اشترطَهُ، ولا دليلَ على اشتراطه، وإنَّما اختلفوا في الأخبار الآحادية الصِّحاح، هل يجبُ العلمُ بشيء منها؟ بل هل يجوزُ العملُ بشيء منها؟، فالجمهور على الوجوب.
وقال السَّيِّد أبو طالب -عليه السلام- ما لفظه: وذهب كثيرٌ من شيوخ
__________
(1) لم ترد في أكلمة تعسير.(1/280)
المتكلمين، من البصريين، والبغداديين: إلى أن التعبد بخبر الواحد لا يجوز عقلاً، ثمَّ قال بعد هذه المسألة: قد بَيَّنا فسادَ قول مَنْ منع منه مِن جهة العقل. فأما القائلون بجواز العمل بمقتضاه، فقد ذهب بعضُهم إلى المنع مِن العمل به، لأن العادة لم تَرِدْ بذلك. قالوا: وقد ورد السمعُ أيضاًً بالمنع، وهو قولُ نفرٍ من المتكلمين، وبعضُ أصحاب الظاهر كالقاشاني وغيره.
فإذا عرفت هذا، فلنتكلم على فوائد:
الفائدة الأولى: أنه لا يشترط الإحاطة بالأخبار، والدليل عليه وجوه:
الحجة الأولى: إنه لو وجبَ معرفةُ جميع الأخبار الصِّحاح، لبطل التكليف بالاجتهاد، لكنَّ التكليفَ به معلوم، فما أدى إلى بطلانه، فهو باطل. وبيانُ الملازمة أنه لا طريق للمكلف إلا بالعلم بأنَّه لم يبق حديثُ واحد عند أحد من أهل العلم في جميع أقطار الإسلام إلا وقد أحاط به علماً، والذي يدلُّ عليه أنه لا طريق له إلى العلم بذلك أن نهاية الأمر أن يطلبَ فلا يَجِدُ، ولكن ليس عدم الوُجدانِ يدُلُّ على عدمِ الوجود.
الحجة الثانية: حديثُ معاذ -رضي الله عنه- وفيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لَمَّا أراد بَعْثَهُ إلى اليمن والياً وقاضياً -قال له- عليه السلام-: " بمَ تحكم؟ " قال: بكتاب اللهِ. قال: " فإن لم تجد؟ " قال: فَبسُنَّةِ رسولِ اللهِ. قال: " فإن لم تجد؟ " قال: اجتهدت رَأَيي. فقال -عليه السلام-: " الحمد لله الذي وَفَّقَ رسولَ رسول الله لما وَفَّقَ له رسوله " (1).
__________
(1) تقدم تخريجه والكلام عليه ص 258.(1/281)
وهو حديث مَشهور مُتَلقّى بالقبول، وقد خالف بعضُ أهلِ الحديث في صحَّتهِ على وفق شروطهم، وَطَعنَ فيه بأنه مَرويٌّ عن ناسٍ من أهلِ حِمْص من أصحاب معاذ عن معاذ -رضي الله عنه-.
وأجيبُ عن هذا بوجوه:
الأول: أن له شواهد كثيرة من طُرقٍ متعددة، فقد قال الحافظ ابنُ كثير البصروي (1): هو حديثٌ حسنٌ مشهورٌ اعتمد عليه أئمةُ الإسلام في إثباتِ أصل القياسِ، وقد ذكرتُ له طرُقًا وشواهدَ في " جزءٍ مفرد " فلله الحمد. انتهى.
الثاني: أنَّ كونَهم جماعة، يُقَوِّيهِ، وكونهم مِن أصحاب معاذ يُعَرِّفُهم بعض التَّعريف، فالظاهر مِن أصحاب معاذ أنَّهم من أهلِ الخير.
الثالث: أنَّ كتب الأئمةِ والأصوليين وأهل العدل متضمنةٌ للاحتجاج به، قاضية بصحته، فقد احتج به السَّيِّد الإمام أبو طالب في آخر كتاب " المجزىء " فقال -ما لفظه-: وهذا الخبرُ قَد تلقَّاه العلماءُ بالقبُولِ، وقد احتجَّ به الشيخُ أبو الحسين (2) في " المعتمد "، ورواه الترمذي وأبو داود
__________
(1) يغلب على الظن أن كلامه هذا في الكتاب الذي خرج فيه أحاديث مختصر ابن الحاجب في الأصول، واسمه " تذكرة المحتاج في تخريج أحاديث المنهاج " ومنه نسخة في فيض الله (283) باستنبول.
(2) هو أبو الحسن محمد بن علي بن الطيب البصري المتكلم شيخ المعتزلة في عصره، والمنافح عن آرائهم بالتصانيف الكثيرة، وكتابه " المعتمد " في أصول الفقه، وهو شرح لكتاب " العهد " للقاضي عبد الجبار، وهو أحد الكتب الأربعة التي عول عليها الفخر الرازي في كتابه المحصول، واستمد منها. توفي سنة 432 هـ في بغداد، وصلى عليه القاضي أبو عبد الله الصيمري، ودفن في مقبرة الشونيزي. انظر " وفيات الأعيان " 4/ 271.(1/282)
في " سُنَنِهما " وقال الأمير الحسينُ بنُ محمد في كتاب " شفاء الأوام " (1): إنَّهُ حديث معلوم.
وأمَّا قولُ الترمذي (2): لا نعرفُهُ إلا من هذا الوجه، وليس إسنادُه عندي بمُتَّصل. فلا يُعتَرَضُ به على ما ذكرناه، لأنَّ غيرَ الترمذي قد عرفه مِن غير ذلك الوجه، وَمن عرف حجةٌ على مَنْ لم يَعْرِفْ.
ووجهُ الدلالة في الحديث -على ما ذكرناه-: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرَّرَه على الاجتهاد عند أن لا يجد النَّصَّ، لا عند عدمِ النَّص. ولا شكَّ أن الفرقَ بينهما ظاهر وقد نَصَّ الله تعالى على جواز التيمم عند أن لا يجدَ الماء قال اللهُ تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]، وفَهِمَ أهلُ اللغةِ: أن المعتبرَ في ذلك أن لا يَظُنَّ وجودَ الماء في الأماكنِ القريبة، وأجمعَ العلماءُ على ذلك، فإنَّ الماء موجودٌ في البحار معلوم أنه لم يَخْلُ من جميع الأقطار، وكذلكَ قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: " فإن لم تجد ... " فإنَّهُ يقتضي أن المعتبرَ الظَّنُّ، وأنَّهُ لا يجب على المجتهد الطلبُ للنَّصِ إلا في بلدهِ.
أما أنَّ المعتبر الظَّنُّ، فلأن عدم الوجدانِ لا يدلًّ على عدم الوجود -كما تقدم- وقد يتذكرُ الإنسانُ الشيء، ويتطَّلبُهُ فلا يجده، ولا يهتدي إليه، ثمَّ يَذْكرُهُ بعدَ ذلك، وهذا معلوم.
__________
(1) في التمييز بين الحلال والحرام، ومنه عدة نسخ في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء انظر وصفها في الفهرس 85 - 89 ومؤلفه: هو الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى من نسل الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين من علماء الزيدية وفقهائهم. توفي سنة 662 هـ.
تاريخ اليمن للواسعي: 32.
(2) في " سننه " 3/ 617.(1/283)
وأما أن المجتهد لا يَلْزمُهُ طلبُ النَّص بغير بلده، فلأنَّهُ -عليه السلام- لم يُلْزمْ معاذاً أن يَطْلُبَ النَّصَّ منه -عليه السلام- من المدينة، مع العلم بأنَّه -عليه السلام- لو سئلَ عن الحكم، لَنَصَّ على الجواب، فكيف يجب على المجتهدِ الطلبُ مع تجويزه أن لا يجدَ النَّصَّ؟ وهذا معاذٌ لم يَجبْ عليهِ الطَّلبُ مع علمهِ بأنه يجدُ النَّصَّ، وقد رويَ هذا القولُ عن أبي الحسين، والله أعلم.
الحجة الثالثة: أنَّهُ قد ثبت عن أميرِ المؤمنين علي -عليه السلام- أنه قالَ: كنْتُ إذا سَمِعتُ مِن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- حديثاًً نفعني اللهُ بما شاءَ أن ينفعني منه، فإذا حدثني عنه غيرُهُ حَلَّفتُهُ، فإن حلف صَدَّقتُهُ، وحَدَّثني أبو بكر، وصدقَ أبو بكر (1). رواه الإمام المنصور بالله في كتاب " الصفوة " بهذا اللفظ، ورواه أيضاًً الإمام أبو طالب -عليه السلام-، ورواه الحافظ ابن الذهبي في " تذكرته " (2) وقال: هو حديثٌ حسن، رواه مِسْعَرُ، وشريكُ، وسفيانُ، وأبو عَوانةَ، وقيسٌ، كُلُّهم عن عثمانَ بنِ المغيرة الثَّقفي، عن علي بن ربيعةَ، عن أسماء بنِ الحكم الفزاري: أنه سَمعَ عَلياً يقول ... وساقَ الحديث، وفيه بعدَ قولهِ: وصدق أبو بكر. قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " مَا منْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذنباً ثُمَّ يَتَوَضَّأ ويُصَلِّي ركْعَتَيْن، ثُمَّ يسْتَغْفِرُ اللهَ إلا غَفَرَ اللهُ لَهُ " (3).
__________
(1) سيأتي تخريجه قريباً.
(2) 1/ 10 - 11.
(3) رواه أحمد (2) و (47) و (56) وأبو بكر المروزي في مسند أبي بكر (1) وأبو يعلى في " مسنده " (1) والطيالسي (1)، والترمذي (406) و (3009) والبغوي (1015) وابن جرير (7853) و (7854)، والحميدي (1) وابن ماجه (1395) وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (2454) وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 77 وزاد نسبته لابن أبي شيبة، =(1/284)
ووجهُ الدِّلالةِ من هذا الحديث: أنَّ قَبُولَه -عليه السلام- لِحديث غيره دليلٌ على أنَّهُ لم يعلم أنه قد أحاط بالنصوص، وإذا كان -عليه السلام- غيرَ محيطٍ بالنصوص حتى احتاج إلى حديث من يُتَّهَمُ، ولا تطيبُ النفسُ بحديثه إلا بعدَ اليمينِ، مع الإجماع على أنه -عليه السلام- مجتهد قبل أن يعلم بذلكَ الحديثِ الذي سَمِعَهُ، بل كان مجتهداً في زمن الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- فلا شَكَّ أن ذلك يدلُّ على أنَّ المجتهدَ لا يجب عليه أن يُحيطَ بالنصوص، لأنه -عليه السلام- أعلمُ هذِهِ الأمةِ على الإطلاق.
وقد نصَّ المؤيد بالله (1) في " شرح التَّجريد " على: أنَّهُ لا يجب أن يكون عليٌّ -عليه السلام- قد عرَفَ جميعَ النصوص وأنه يجوز أن يعْرِفَ النَّصَّ، وَيشْتَبِهُ عليهِ المرادُ. ذكره في بيع أُمِّ الولد.
الحجة الرابعة: ما ثبت في " الصحيحين " عن البراء بن عازب قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -يعني مِن مكة-، فَتبِِعَتْهُمُ ابْنَة حمزة، تنادي: يا عمّ، يا عمَ فتناولَها عليٌّ، فأخذها بيدها، فاختصم فيها عليٌّ وزيدُ وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أنا أحقُّ بها، وهي ابنةُ عَمِّي، وقال جعفر: ابنةُ عَمِّي، وخالتُها تحتي، وقال زيدٌ: ابنةُ أَخي. فقضى بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: " الخالَةُ بِمَنْزِلَةِ الأُمِّ " (2).
__________
= وعبد بن حميد، والنسائي، والدارقطني، والبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في " الشعب ".
(1) هو أحمد بن الحسين بن هارون بن الأقطع، وقد تقدمت ترجمته في ص 191 رقم (1)، وشرح التجريد هو في عدة مجلدات، انظر وصفها في فهرس مخطوطات الجامع الكبير بصنعاء ص 262 - 264.
(2) رواه البخاري (2699) و (4251) وهو من أفراده وليس في صحيح مسلم كما توهم =(1/285)
فَدَلَّ هذا الحديثُ على ما قلناه أوضحَ دلالةٍ، لأنَّهم اجتهدوا مع فقد النَّص في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقرَّرَهم، ولم يُخْبرهم بتحريمِ ِذلك في حضرته، ولا في غيرها، فَدَلَّ على الجوازِ، والله أعلم.
الحجة الخامسة: أنَّ العلمَ بجميع النصوص إنَّما يجب لو وجب، لترجيح القول: بأنَّ العَمَلَ بالظنِّ حرامٌ، ولو حَرُمَ العملُ بالظن، لحرم العملُ بخير الواحد، وحينئذ لا يجبُ العلمُ (1) بشيءٍ من أخبار الآحاد، فكان في تصحيح هذا القولِ إبطالُهُ، وفي هذا بحثٌ تركتُهُ اختصاراً، والأدلَّةُ على هذا كثيرة فلا نُطَوِّلُ بذكرها.
الفائدة الثانية: في بيان ألفاظِ العلماء، ونصوصهم الدالة على ما قلنا، وذلك ظاهر شائع، والتعرُّضُ لنقل ألفاظهم في ذلك يُفضي بنا إلى باب واسع، ولكن نُشير إلى نُبْذةٍ يسيرة مِنْ كلامِ بعض الأئمة والعلماء، فَمِن ذلك قولُ الإمام المنصور بالله (2) -عليه السلام- في " صفوة الاختيار " في صفة المجتهد: ويجب أن يكونَ عارفاً بطرَفٍ مِن الأخبار المرويِّة عن
__________
= المصنف رحمه، وأخرجه أحمد 1/ 98 و99، و115، وأبو داود (2280) والترمذي (1904) والطحاوي في " مشكل الآثار " 4/ 173، 174، والبيهقي 8/ 6 والحاكم 3/ 120، والخطيب في " تاريخه " 4/ 140، ورواه الطبراني عن أبي مسعود البدري كما في " المجمع " 4/ 323، ورواه العقيلي في " الضعفاء " لوحة 472 عن أبي هريرة وضعفه يوسف ابن خالد السمتي، ورواه ابن سعد في " الطبقات 4/ 35 - 36 عن محمد بن علي مرسلاً ورجاله ثقات.
(1) في (ب) لا يجب العمل العلم.
(2) هو عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة أحد أئمة الزيدية في اليمن ومن علمائهم وشعرائهم بويع له سنة 593 هـ وتوفي سنة 614 هـ وله عدة مصنفات انظر وصفها في فهرس الجامع الكبير بصنعاء ص 111 و129 و217 و145 و129 و75 و76 و590 و591 و256 و167 و257 و168 و366 و173 - 176 و179 و180 و209 و290 و205 و124.(1/286)
النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا نَصُّهُ -عليه السلام- كما ترى مفصحاً بأنه لا يجب إلا معرفةُ طرَفٍ مِنَ الأخبار، والمعلوم أنَّ كل الأخبار لا تُسمى طرفاً لها، بل الظاهرُ أنَّ نِصفَ الشيء لا يُسمى طرفاً له.
وكذلك قال صاحب " الجوهرة " (1) التي هي مِدْرَسُ الزيدية في الأصول: إنه يجب أن يكونَ عارفاً بطرف من الأخبار الفقهية -بهذا اللفظ- ولم نعلم أن أحداً اعترضه في ذلك، مع كثرة الدرسِ والتدريس في هذا الكتاب، واعتناءِ النُّقاد من علماء الزيدية بتحقيقه.
وقال الإمام يحيى بنُ حمزة (2) -عليه السلام- في كتاب " المعيار " في صفة المجتهد -ما لفظه- وأما السُّنَّة، فلا يلزم أن يكون حافظاً لها من ظاهر قلبه، بل لا بد أن يكون معتمداً على كتاب منها يكونُ مُسْتَنَداً له في فتواه.
__________
(1) هو أحمد بن محمد الرصاص كما صرح به المؤلف فيما بعد، ترجمه الجنداري في تراجم الرجال ص 5، وأرخ وفاته سنة 656 هـ، واسم كتابه " جوهرة الأصول وتذكرة الفحول " ومنه نسخة خطية بالجامع الكبير بصنعاء كما في الفهرس ص 328 كتبت سنة 789 هـ. وقد كرر صاحب معجم المؤلفين ترجمته فنسبه في الأولى 1/ 191 إلى جده الحسن، ونسبه في الثانية 2/ 90 إلى أبيه.
(2) هو يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني العلوي الطالبي من أكابر أئمة الزيدية وعلمائهم في اليمن، صنف التصانيف الكثيرة الحافلة في جميع الفنون، وكان - كما قال الشوكاني في البدر الطالع 2/ 332: له ميل إلى الإنصاف مع طهارة لسان، وسلامة صدر، وعدم إقدام على التكفير والتفسيق بالتأويل، ومبالغة في الحمل على السلامة على وجه حسن، وهو كثير الذب عن أعراض الصحابة المصونة رضي الله عنهم، وعن أكابر علماء الطوائف رحمهم الله. قلت: وهو صاحب كتاب " الطراز المضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز " المطبوع في ثلاث مجلدات في مصر سنة 1914 بتصحيح سيد بن علي المرصفي.(1/287)
وقال الشيخ أبو الحسين في كتاب " المعتمد " (1) فيمن يجوز له أن يقضي بظاهر الخِطاب وعمومه: والواجبُ أن يقال: إنَّ منْ كان مِن أهل الاجتهاد، إذا لم يجد ما يَعْدِلُ بالحكم عن ظاهره، فالواجب أن يحمِلَه على ظاهره في تلك الحال، لأنه قد كُلِّفَ الاستدلالَ به، إما ليُفتيَ غيرَه وإما لِيُفتي نفسَه وغيرَه، فلا يجوز أنْ لا يُجْعَلَ له طريقُ إلى ما كُلِّفَ، سواء انتشرت السنن أو لم تنْتَشِرْ، إلا أنَّه إن لم تنتَشِرِ السُّنن، قطع المكلَّفُ أنه فرضهُ في الحال، وفرضُ مَنْ يستفتيه العملُ بظاهر ذلك الخطابِ. وجُوَّز أن يكونَ في السنن ما يعْدِلُ بالخطاب عن ظاهره، وإذا بلغه تلك السنة تغيَّر فرضُهُ. ولهذا يجبُ أن يجوز منْ عاصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ممَّن غاب عنه، أن يكونَ ما يلزمُهُ مِن العبادات قد نسخه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن لم يبلغ النسخ بعدُ، وأنَّه إذا بلغه النسخ، تغيَّر فرضُه، وتغيَّر فرضُ القياس عليه. انتهى.
فإن قلت: إن كلام الشيخ أبي الحسين هذا إنما هو في الحُكم قبلَ انتشار السُّنَنِ، فما الحكمُ عنده بعد انتشارها؟
قلتُ: قال أبو الحسين في " المعتمد "، قبل هذا الكلام ما لفظه: فإن كانَتْ قدِ انتشرت كعصرنا هذا، فالواجبُ أن يقضِيَ بعموم الخطاب، وثبوتِ حُكمه، لأن السنن ظهرت ظهوراً لا يخفي معه على من التمسها.
ولم يختلِفْ قول أبي الحسين -أن هذا حكم المجتهد بعد انتشارِ السنن- وإنما اختلف قولُهُ في حكمه قبل الانتشار، فقال مرة: لا يجوز له أن يقضيَ بالظاهر والعموم، لِعدم معرفته بالسنن، ثم رجع عن هذا القول إلى ما قدمنا من كلامه، واحتج بحديث معاذ، إِذ هو واضح الدَّلالة في
__________
(1) 2/ 926.(1/288)
المسألة، واحتج بالنظر المقدَّم، وكلامهُ هذا في من لم يلزمه التكليفُ بما ينظُر فيه، ولا تناوله الخِطابُ، كالرجل ينظر في أحكام الحيض ونحوه مما لا يتعلق به. وأما إذا تناوله التكليفُ مثل من ينظر في أمرٍ، يختصُّ به، فإن أبا الحسين قطع القولَ فيه على أنه يجوز له العمل بالعموم والظاهر بعد أن يطلب فلا يجد. وقال في الاحتجاج على هذا ما لفظه: لأنه لا يجوزُ أن يسمعه الله خطاباً عاماً، وُيريد منه فهمَ مراده، ولا يُمكنه مِن العلم بمراده بنصب دلالةٍ يتمكَّن من الظَّفَرِ بها، فإذا فَحَصَ، فلم يُصب الدّلالة، قطع على أَن الله لم يرد الخصوص. انتهى.
وقال الفقيه علي بن يحيى الوشلي (1) -رحمه الله- في شرح قوله في " اللمع ": وقال أبو العباس: لا تكون عالماً بما تقضي حتى تكونَ عالماًً بكتاب الله وسنة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قاله في كتاب " أدب القاضي ".
قال الفقيه -رحمه الله- ما لفظه: قال الغزاليُّ: وحَدُّ ذلك أن يعلمَ من الكتاب مما يتعلَّق بالأحكام الشرعية، وهو قدر خمس مئة آية، ويكونَ بظهر الغيب بحيث إذا عرضت الحادثة، أمكنه الرجوعُ إلى موضعها.
قلت: قوله " بظهر الغيب " فيه تسامح في العبارة، لأنه أراد أن يكون قريباً مِن الغيب لكثرة درسها، وأنه لا يجب غيبُها بدليل قوله: بحيث إذا عرضت الحادثة أمكنه الرجوع إلى موضعها. وبدليل أنه حاكٍ لِكلام الغزَّالي وكلام الغَّزَّالي مشهور نصّ فيه على أنه لا يجبُ الغَيْبُ، وقد حكاه " السَّيِّد " عن الغزالي في كتابه على الصَّواب.
قال الفقيه علي بن يحيى الوشلي: وَمِن السُّنّة " المُوطَّأ " أو
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصفحة 274.(1/289)
" سنن أبي داود " ومِن الفروع الإجماع، وأن يكون قد قال في المسألة قائل، ومِن أصولِ الدين أن يعرفَ الله تعالى، وما يجوزُ عليه وما لا يجوز، ومِن أصولِ الفقه ما يُمكنه أن يردَّ الفروعَ إلى الأصول، وَيعْرِف المجمَلَ، والمبيَّن، والعامَّ والخاصَّ، والناسخَ والمنسوخَ، وأن يكونَ معه طرفٌ مِن النحو ليعرف الأوامرَ والنواهي، وطرفٌ من اللُّغَةِ. هذا كلام الفقيه علي بن يحيى في تعليقه على " اللمع "، الذي هو مِدْرَسُ أفاضل علماء الزيدية.
فلم يزَلِ الأفاضِلُ يتدارَسُونَ هذا الكتاب، وهذا التعليقَ، ويُملون ما فيه على طلبة العلمِ في مساجد الزيدية، وحلق الذكر، ولم يُعْلَمْ أن أحداً من علماء الزيدية أنكر هذا التمثيل لسنن أبي داود، وقال: إنها لا تُحيط بالحديِث، ولا قال: إنها كتاب كافر تصريح، وإن راويها غيرُ مقبول.
وقال القاضي العلاَّمة عبدُ الله بن حسن الدوّاري -رحمه الله- في " تعليق الخلاصة " (1) في صفة المجتهد: والعلم بأخبارِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يكفي في ذلك كتابٌ مما يشْمَلُ الأحاديثَ المتعلِّقة بالأحكام، كأصولِ الأحكام، أو أحد الكتب الصحيحة المشهورة. انتهى. وفيه ما ترى مِن نصِّ هذا العالِم الجليلِ على ما بالغ السَّيِّد في إنكاره من صِحّة هذه الكتُب، وعلى خلاف ظاهر كلامه في وجوب الإحاطة بصحيح الأخبار.
وقال الفقيه العلامة عليُّ بن عبد الله بن أبي الخير -رحمه الله- في تعليقه على " الجوهرة " ما لفظُه: أما الكتابُ، ففيه تحقيقان:
__________
(1) واسمه " جوهرة الغواص وشريدة القناص " منه نسخة في المكتبة الغربية بجامع صنعاء انظر الفهرس ص 153 - 154. توفي مؤلفه سنة 800 هـ مترجم في " البدر الطالع " 1/ 381 - 382.(1/290)
أحدهما: أنه لا يجب أن يُعلم جميعُ ما يتعلق بالكتاب، وإنما الواجبُ مقدار خمس مئة آية، وهي التي تتعلَّقُ بالأحكام الشرعية.
الثاني: أنه لا يجبُ علمُها، بل إذا علم بمواضعها، وتمكَّن مِن النَّظَرِ فيها عند الحادثة كفي ذلك.
وأما السُّنَّة، فيكفيه منها كتاب جامع لأكثر الأخبار الشرعية كسنن أبي داود وغيره، ولا يجب أن يعلمه بالغيب -كما تقدَّم في الكتاب-.
وأما الإجماع، فلا يلزمه أن يعلم جميعَ مسائله غيباً، بل يكفيه إذا وردت الحادثة أن يطلب وينظر في حكمها، فإن وجد فيها إجماعاً لم يُخالفه، وإن لم يجد فيها إجماعاً، حكم بما أدَّاه إليه اجتهادُهُ. انتهى كلامُهُ رحمه الله تعالى.
وفيه ما ترى من التمثيل بسنن أبي داود، وهذا فرع على صحتها.
فهؤلاء علماءُ الزيدية، وأهلُ التدريس في مساجدها، متطابقون (1) على خلاف ما ذكره السَّيِّد من تحريم الرجوع إلى كتب الحديث، وتحريم الاجتزاء بها، وأما غيرُهُم، فإنه أكثر ترخيصاً منهما، وقد اشتهر عن شيوخ المعتزلة البغدادية تحريمُ التقليد على العامة، وتسهيلُ الاجتهاد لهم، فإنهم زعموا أن العامي متى سَمِعَ من العالم الدليلَ في المسألة، وفهَّمَهُ الدليل مثلَ ما يُفَهِّمُهُ الفتوى، صار مجتهداً في المسألة، فجعلوا الاجتهادَ ممكناً للبُلدَاءِ من الحرّاثينَ والعبيد، والنساءِ وجميعِ المكلفينَ، كما جعلتِ المعتزلةُ كُلُّها معرفةَ الله -عز وجل- بالبراهين الصحيحةِ واجبةً ممكنةٌ لأولئك أجمعين.
__________
(1) في " أ " و" ب ": متطابقين، والوجه ما أثبتنا.(1/291)
وبهذا يظهر أن الاجتهاد أمرٌ خفي، غيرُ ضروري ولا قطعيٌّ، وأنَّ كُلٍّ مجتهدٍ في تفسيره واعتبارِ شروطه مصيب لِعدم النص الجليِّ المتواتر في تفسيره ولله الحمد.
وقد ذكر العلماءُ قديماً وحديثاً حُكْمَ القاضي والمجتهد إِذا خالفا النَّص، ثم وجداه، وهذه مسألة مشهورة.
وقد رَجَع كثيرُ من العلماء عن أقوالهم، ورجع عليٌّ -عليه السلام- عن قولِه في أمِّ الولد، وكان يقول: إنَّ بيعها حرام، ورَجَعَ إلى القول بجواز بيعها، وقال لَهُ عَبيدَة السَّلماني: رأيُك مع الجماعة أحبُّ إلينا من رأيك وحدَك (1).
وقد يكونُ رجوعُ العالِم للوقوفِ على النص، ولغير ذلك من انكشاف ضعف دليله المتقدم.
وقد رجع عُمَرُ بنُ الخطاب -رضي الله عنه- عن رأيه في دِيَةِ الأصابِعِ، وعن المنعِ من توريث المرأةِ مِن دِيَةِ زوجها (2). واحتجَّ بذلِكَ الإمامُ المنصورُ بالله -عليه السلام- في " الصفوة " فقال -ما لفظه-: وما كان يذهبُ إليه من التفضيل في دية الأصابع فإنه كان يجعل في الإِبهام خَمْسَ عشرةَ، وفي البِنصِر تسعاً، وفي الخِنْصَر ستاً، وفي الباقيتين في كُلِّ
__________
(1) في " المصنف " (13224) عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سمعت علياً يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، قال: ثم رأيت أن يبعن. قال عَبيدة، فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبُّ إلي من رأيك وحدك في الفرقة، أو قال: في الفتنة - قال: فضحك علي. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وأخرجه البيهقي 10/ 348 من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين به.
(2) سيأتي تخريجه قريباً.(1/292)
واحدةٍ عشراً، فرجع عن ذلك لكتاب عمرو بن حزم (1).
وكان لا يُورِّثُ المرأةَ مِن دِية زوجِها، فورَّثها لرواية الضَّحّاكِ بنِ سفيان عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - توريثَهَا (2).
__________
(1) أخرج عبد الرزاق في " المصنف " (17698) من طريق الثوري، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن عمر جعل في الإبهام خمس عشرة، وفي السبابة عشراً، وفي الوسطى عشراً، وفي البنصر تسعاً وفي الخنصر ستاً حتى وجدنا كتاباً عند آل حزم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأصابع كلها سواء، فأخذ به. رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي 8/ 93 من طريق جعفر ابن عون، عن يحيى بن سعيد به. وَجَعْلُ دية الأصابع سواء، وأنها عشر من الإبل لكل إصبع ثابتٌ عنه - صلى الله عليه وسلم - من حديث ابن عباس عند البخاري (6895) في الديات، وأبي داود (4559) و (4561) و (1391) وابن حبان (1528) ومن حديث أبي موسى الأشعري عند أبي داود (4557) والنسائي 8/ 56، وابن ماجه (2654) والدارقطني 3/ 211، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند أبي داود (4562) و (4563) و (4566) وأما كتاب عمرو بن حزم، فأخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 849 في أول كتاب العقول عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه .. مرسلاً، ووصله النسائي 8/ 57، 58 في القسامة، والدارقطني 376، وابن حبان (793) والبيهقي 4/ 89، والحاكم 1/ 397 من طريق الحكم بن موسى، عن يحيى بن حمزة، عن سليمان بن داود، قال: حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده .. وقد غلط الحكم بن موسى على يحيى بن حمزة في قوله: سليمان بن داود، والصواب قول محمد بن بكار عنه: سليمان بن أرقم كما رواه النسائي وهو في أصل يحيى كذلك، نبَّه عليه غير واحد من الحذاق. وسليمان بن أرقم متروك الحديث فسند الموصول لا يصح وانظر التفصيل في " الجوهر النقي " 4/ 86 - 89.
(2) أخرجه الشافعي 2/ 229، وأحمد 3/ 452، وأبو داود (2927) والترمذي (2111)، وابن ماجة (2642) وعبد الرزاق (17764)، والطبراني (8139) و (8140) و (8141) و (8142) من طرق عن الزهري، عن سعيد بن المسيِّب أن عمر بن الخطاب كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن يورِّث امرأة أشيم الضبابي من ديته، فرجع إليه عمر. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أن في سماع سعيد بن المسيب من عمر خلافاً، وله شاهد يتقوى به من حديث المغيرة بن شعبة عند الدارقطني ص 457، وفي سنده زفر بن وثيمة البصري وهو مجهول الحال، وأخرج الدارقطني من حديث ابن المبارك عن مالك، عن الزهري، عن أنس ابن مالك أن قتل أسلم كان خطأ، ورواه الطبراني (8143) من طريق عبد الله بن أحمد، حدثني عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن مالك به وهو في " الموطأ " =(1/293)
وكاد يُهْدِرُ الجنينَ لولا خبرُ حمَلِ بني مالكٍ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أوجبَ فيه الغُرَّة عبداً أو أمة (1).
وقال -عليه السلام- قبلَ هذا -ما لفظُه-: وطلب أبو بكر حُكْمَ الجَدَّةِ وكان يرى فيه برأيه حتى أخبره المُغيرةُ ومحمدُ بنُ مسلمة أن رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَضَ لها السُّدُسَ (2).
__________
= 2/ 867 عن الزهري بغير ذكر أنس، قال الدارقطني في " غرائب مالك " فيما نقله عنه الحافظ في " الإصابة " في ترجمة الضحاك: وهو المحفوظ.
(1) أخرجه عبد الرزاق في " المصنف " (18343) ومن طريقه الحاكم 3/ 575، والطبراني (3482) عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس، قال: قام عمر على المنبر، فقال: اذكِّرُ الله امرءاً سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الجنين، فقام حمل بن مالك بن النابغة الهذلي، فقال: يا أمير المؤمنين كنت بين جاريتين -يعني ضرتين- فجرحت أو ضربت إحداهما الأخرى بالمسطح بعمود ظلتها، فقتلتها وقتلت ما في بطنها، فقضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بغُرَّةٍ: عبدٍ أو أمة. فقال عمر: الله أكبر لو لم نسمع بهذا ما قضينا بغيره.
وهذا إسناد صحيح، وأخرجه أبو داود (4573) من طريق عبد الله بن محمد الزهري عن سفيان بن عيينة به، وأخرجه أبو داود (4572)، وأحمد 4/ 79، وابن ماجه (2641) من طرق عن ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار، عن طاووس، عن ابن عباس.
وفي الباب عن أبي هريرة عند أحمد 2/ 236 و274 و438 و498 و535 و539 والبخاري (6904) و (6909) و (6910) ومسلم (1681) وأبو داود (4576) والنسائي 8/ 47 و48، والترمذي (1410) والدارمي 2/ 197، والطيالسي، (2301) و (2346) ومالك 2/ 854، وابن الجارود في المنتقى (776) والطحاوي في شرح معاني الآثار 3/ 205، والبيهقي 8/ 70 و105 و112. وعن المغيرة بن شعبة عند أحمد 4/ 245 و246 و249، والبخاري (6905) و (6908) ومسلم (1682) والترمذي (1411) وأبي داود (4568) و (4569) و (4571) والدارمي 2/ 196، والطحاوي 3/ 205 - 206، وابن الجارود (778) والطيالسي (696) والنسائي 8/ 49 والبيهقي 8/ 106 و109 و114.
(2) أخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 513، ومن طريقه أخرجه أبو داود (2894) والترمذي (2102) وابن الجارود (959) والدارقطني ص 465، والبيهقي 6/ 234، وابن حبان (1224) والحاكم 4/ 338 عن ابن شهاب الزهري، عن عثمان بن إسحاق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً، فارجعي حتى =(1/294)
ورجع عن قضيته بخبر رواه له بلال (1) انتهي كلامُهُ عليه السَّلامُ.
وروى أبو داود في السنن عن ابنِ مسعودٍ أنه أفتى في مسألة بالرأي، ثم وَجَدَ النَّصَّ (2).
وأفتى ابنُ عباس أنه لا رِبا إلاَّ في النَّسِيئَة، ثم وجَدَ النَّصَّ، كما ذلك مشهورٌ عنه (3).
__________
= أسال الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري، فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر الصديق ... وصححه ابن حبان والحاكم والذهبي وغيرهم وقال الحافظ ابن حجر في " التلخيص " 3/ 82: إسناده صحيح لثقة رجاله إلا أن صورته مرسل، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق ولا يمكن شهوده للقصة.
(1) وثمت أشياء لم يكن يعلمها رضي الله عنه، فأخبره غير واحد من الصحابة بما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فيرجع إليها، ويأخذ بها انظر مسألة " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي موجودة في الجزء العشرين من " مجموع الفتاوى " ص 234 - 238.
(2) أخرجه أبو داود (2114) و (2115) و (2116) وأحمد 1/ 431 و447 و4/ 289 و280، والنسائي 6/ 121، 123، والترمذي (1145)، والدارمي 2/ 155، وابن الجارود (718) وابن ماجه (1891) والبيهقي 7/ 245 عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط، وعليها العدة ولها الميراث، فإن يك صواباً، فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، فقام معقِل بن سنان الأشجعي، فقال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بَرْوَع بنت واشق -امرأة منا- مثل ما قضيته، ففرح ابن مسعود فرحاً شديداً حين وافق قضاؤه قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصححه الترمذي، وابن حبان (1263) و (1264)، والحاكم 2/ 180، ووافقه الذهبي، وهو كما قالوا.
(3) في صحيح مسلم (1218) عن عطاء بن أبي رباح أن أبا سعيد الخدري لقي ابن عباس، فقال له: أرأيت قولك في الصرف، أشيئاً سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أم شيئاً وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال ابن عباس: كلا، لا أقول، أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنتم أعلم به، وأما كتاب الله فلا أعلمه، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ألا إنما الربا في النسيئة " وانظر لزاماً الأحاديث من رقم (428) إلى (459) في " المعجم الكبير " للطبراني.(1/295)
وقد نص المنصورُ على أنه قد يخفي على المجتهد بعضُ النُّصوصِ، ولا يَقْدَحُ ذلك في الاجتهاد، وكذلك أبو الحسين وغيرُهُما مِن الأصوليين.
وقد نصَّ الهادي -عليه السلام- في غير حديثٍ في الأحكام أنه لا يدري: أهو صحيحٌ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ وذلك يقتضي اعترافَهُ بأنه لم يُحِطْ بمعرفةِ الصَّحيحِ، ولو كان محيطاً به، لقطع بأنَّ ذلك الحديثَ غيرُ صحيح، مستدلاً بأنه لو كان صحيحاً، لوجب أن يكونَ فيما قد عرفه.
وكذلك الشافعيُّ قد توقَّف في أحاديثَ كثيرة، ووقَّف القولَ على صحةِ بعضِ الأخبار، وقد اشتهر عن البغدادية القولُ بوجوب الاجتهادِ على كُلِّ مكلَّف. حكاه عنهم الحاكم (1) في " شرح العيون ".
وقال المنصور (2) في " الصفوة ": هو مذهب الجعفريين ومن طابقهما مِن متعلمِّي البغدادية.
وقال أبو الحسين في " المعتمد " (3) ما لفظه: منع قومٌ من شيوخنا البغدايين -رحمهم الله- من تقَليد العامي في فروع الشريعة.
وقال الإمام أبو طالب في كتاب " المجزى ": ذهب جعفرُ بنُ
__________
(1) هو الإمام أبو سعد المُحسن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي مفسر عالم بالأصول والكلام، حنفي، ثم معتزلى فزيدي، وهو شيخ الزمخشري، قرأ بنيسابور وغيرها واشتهر بصنعاء اليمن، وتوفي شهيداً مقتولاً بمكة سنة 494 هـ " أعلام الزركلي " 5/ 289، وكتابه شرح عيون المسائل منه نسخة خطية في جزئين في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء، كتبت سنة 807 هـ. انظر الفهرس ص 184.
(2) هو عبد الله بن حمزة بن سليمان المتوفى سنة 614 هـ.
(3) 2/ 934.(1/296)
حرب، وجعفر بن مبشِّر ومن تابعهما مِن أصحابنا البغداديين إلى أن العاميَّ لا يجوزُ له تقليدُ العالم، وإنما يلزمه الرجوعُ إليه، لِيعرفَه طريقة النظرِ فيها، وينُبهه على أصولها، فيعمل بما يُوجِبُه نظرُه فيها.
وفي مذهب البغدادية هذا غايةُ التسهيل في الاجتهاد، إذ جعلوه ممكناً لِكُلِّ مكلَّفٍ من النساء والإماء والزُّرَّاع، وسائرِ أهل الغَبَاوةِ والبَلادة، ولم يزلِ العُلماءُ يذكرون مذهبَ البغدادية، ولا يذكرون في الرد عليهم تعذر الاجتهاد ولا استحالته.
وقد فسَّر البغدادية كيفية اجتهاد العامي، وقالوا: إنه إذا سأل العالم عنِ الدليل، وأخبره به، جازَ له أن يعملَ به من غير طلبٍ لما يُعارضه، أو ينسخه، أو يَخُصُّه من غير ذلك العالم.
ولهذا أُوجبوا على المفتي أن يبين للعاميِّ الدليلَ، لِيكون العاميُّ مجتهداً خارجاً بذلك عن التقليد، فهذا غاية الترخيص، ولم نعلم أن أحداً من العلماء أثَّمهم في ذلك، بل ولا ردَّ عليهم بأن ذلك لا يفيد العامي الاجتهاد، وإنما رد العلماء عليهم القول بوجوب الاجتهاد لا القول بتسهيله، وهذا ما وعدناه مِن الزيادة في ذكر سُهُولَةِ الاجتهاد في التنبيه الخامس عشر والمتقدِّم، وإنَّا لو قدَّرنا أنا رخَُّصنا في الاجتهاد، فإنا لم نَشِذَّ بذلك، على أنا بحمد الله لم نذهبْ إلى هذا، وإنما منعنا القولَ بتعذره باستحالته (1)، بل من التَّشديدِ في صعوبته وتعسُّره، لأنه من جملة التكاليفِ الشرعية.
وقد أخبرنا -سبحانه وتعالى- أنه ما جعل علينا في الدين مِن حرج،
__________
(1) في ب: واستحالته.(1/297)
وأنه يُريد بنا اليُسْر ولا يُرِيدُ بنا العُسْر، وامتثالاً لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " يسِّروا ولا تعسِّروا وبَشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا " (1)، وقد جمعتُ هذا المعنى في كتاب مفرد سميته: " قبولُ البُشرى بتيسير اليُسرى " (2).
ثم إنا لا نحتاجُ إلى الاجتهاد الكاملِ في الانتفاع بمعرفة الحديثِ النبوي، بل يكفينا الاجتهادُ فيما تَمَسُّ إليه الحاجةُ في بعض المسائل، وذلك ينبني على القول بتجزي الاجتهاد، وهو مسلكٌ ظنيُّ اجتهاديٌ صحيح، قال به كثير من أهل العلم كما أوضحته في مصنف مفرد في ذلك، فليُرَاجَعْ فيه، على أن من لم يتمكَّن من ذلك، أو لم يذهب إليه يكون بقراءة الحديث مقلِّداً مرجحاً بالحديث، فتقليدُ عالمٍ محتج بحديثٍ صحيحٍ مشهورٍ أقوى عندَ أهلِ التميبز من المقلدينَ من تقليد عالمٍ محتج بقياسٍ، أو حديثٍ مشهور بالضعف عند أهل هذا الشأن. وسوف يأتي في هذا الكتاب -إن شاء اللهُ تعالى- ما أورد " السَّيِّد " على هذا والجواب عليه.
الفائدة الثالثة: قد تبيَّن للناظِر في هذا أن مذهبيَ المختارَ في عدمِ اشتراط الإحاطة بالأخبار، هو مذهبُ الأئمة الأطهار، والعلماء الأخيار، وأني لم آتِ غريباً ولا قلت بديعاً، وأني لا أستحقُّ النهيَ والإنكار، لأنَّ الإنكار على منْ قال بهذا القولِ خلافُ إجماع الأئمة والأمة والخاصة والعامة.
أما ما رُوي عن أحمد من التَّشديد في الإحاطَةِ بالجمِّ الكثير من
__________
(1) تقدم تخريجه ص 173.
(2) منه ثلاث نسخ بالمكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء ضمن المجاميع (96) و (119) و (206).(1/298)
الحديث، فلم يثبت ذلك عنه، وإنما رواه الحاكم قال: حدثنا أبو علي الحافظ، قال: سمعتُ محمدَ بنَ المسيَّب، سمعتُ زكربا بن يحيى الضرير يقول: قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجلُ من الحديث حتَّى يكونَ مفتياً؟ يكفيه مئة ألف؟ فقال لي: لا. إلى أن قال: فيكفيه خمس مئة ألف؟ قال: أرجوه. حكاها الذهبيُّ في " النبلاء ".
ولا أدري مَنْ هذا زكريا بن يحيى، ولا الراوي عنه. وفي المجروحين جماعة ممن اسمه زكريا بن يحيى، وبالجملة فهذا لا يصح القولُ به قطعاً، لأنه ليس في الموجود من أحاديث الأحكام الصحاح إلا اليسير. وقد قال الذهبي: " وقد ذُكِرَ أن محفوظَ أحمد بن حنبل كان ألفَ ألفِ حديث - ما لفظُه وكانوا يعدُّون في ذلك المكرَّر، والأثرَ، وفتوى التابعي، وما فسَّر ونحو ذلك، وإلا فالمتونُ المرفوعة القوية لا تبلُغ عشر معشار ذلك " (1) انتهى.
وعُشر المعشارِ من ذلك عشرةُ آلاف حديث، وهذا فيما يتعلق بالأحكام، وما لا يتعلق بها مما لا يلزم المجتهدُ معرفته، ومما هو مختلَفٌ في صحته.
فالذي يتعلق بالأحكامِ خاصةً، مما اتفق على صحته خمس مئة حديث مع خلاف في بعضها.
وفي ترجمة مسلم من " النبلاء " (2)، قال ابن مندة: سمعتُ محمدَ
__________
(1) " سير أعلام النبلاء " 11/ 187.
(2) 12/ 565، 566.(1/299)
ابنَ يعقوبَ الأخرمِ يقول -ما معناه-: قلَّما يفوتُ البخاري ومسلماً مِن الحديث.
ولما ذكر الذهبي قول أحمد بن سلمة -أن صحيح مسلم اثنا عشر ألف حديثٍ- قال: يعني بالمُكَرَّرِ بحيث إنه إذا قال: حدثنا قتيبةُ، وأخبرنا ابن رُمح يعدَّانِ حديثين اتفق لفظُهما، أو اختلفَ في كلمةٍ.
قلتُ ذكر زينُ الدين في " علوم الحديث " (1) له عن النَّواوي: أن حديثه نحو أربعة آلاف (2).
قلتُ: والَّذي يتعلَّق بالأحكام من ذلك يسير، فالذي اتفقا عليه فيها كتاب " العُمدة " (3) خمس مئة حديث.
الوجه الثاني: من الجواب على كلام " السَّيِّد " -أيده الله-: أنه أبطل صحة كتب المحدثين، وأهلِ البِدَعِ بما لا زيادةَ عليه -كما سيأتي مفصلاً مواضعه- ثم إنه عسَّر على المجتهد معرفة الحديث، وهذا يتناقض. فإن كلامَه يقتضي السهولة، لأنه إما أن يمنعَ مِن معرفة حديثِ أهل البيت -عليهم السلامُ- كما هو ظاهرُ كلامه، فإنه قد منع قبولَ المراسيلِ، وأوجب معرفةَ عدالة رجالِ الأسانيد، وهذا غيرُ موجودٍ في حديثِ أهل البيت -عليهم السلام- لِقبولهم للمرسل، لا لقصورهم في العلم، فحينئذٍ تحصل السهولة العظيمة، لأن ما لا يُمْكِنُ معرفةُ صحته لا يتعلَّق التكليفُ به، فيجوز الاجتهادُ حينئذ من غير معرفة لشيءٍ من الأخبار
__________
(1) ص 27.
(2) عدة ما في صحيح مسلم في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي (3033) بحذف المكرر.
(3) لعبد الغني المقدسي المتوفى سنة (600 هـ).(1/300)
الآحادية، كما حكى أبو طالب -عليه السلام- أنه مذهبُ كثيرٍ من شيوخِ البغدادية والبصرية.
وإمَّا أن لا يمنعَ مِن معرفة حديثِ أهلِ البيت -عليهم السلامُ- ويُخالف هذا ظاهرَ كلامه، فحينئذٍ يسْهُلُ الأمرُ أيضاً، لأنه لا يجب علينا إلا معرفة كتابٍ واحدٍ من كُتبهم -عليهمُ السَّلامُ-: كـ " شفاء الأوام " (1) أو " أصول الأحكام " (2)، وإنما يزدادُ الأمرُ مشقةً، متى وجبت معرفة كتب المحدثين مع معرفة كُتُبِ أهلِ البيت المُطَهَّرِين -عليهم السلامُ-.
فقد أراد السَّيِّد -أيَّده الله- أن يستدِلَّ على الصُّعُوبة فدلَّ على السُّهُولَة.
الوجه الثالثُ: قال السَّيِّد -أيَّده اللهُ-: ذكر هذا كثيرٌ من العُلماء، ولم يذكر حُجَّةً، فلا يخلو إمَّا أن يُريدَ أن قولَ كثير من العلماء حجَّةٌ أم لا؟
إن أراد أنه حجة، فهو -أيده الله- ممَّن لا يخفى عليه فسادُ ذلك عند جميعِ الفِرَقِ، وإن لم يرِدْ أنه حجةٌ، فقد أورد الدعوى مِن غيرِ بيِّنَةٍ، وادعى الحقَّ من غير دِلالة، وليس هذا مِن عادة أهل العلم.
الوجه الرابع: أنه قال: ذكر هذا كثيرٌ من العلماء منهم الغزاليُّ والرازيُّ مستأنِساً بموافقتهما، محتجاً على خصمه بذلك، وليس له ذلك، لأنه مذهبُ الرجلين، ومقصدُهما نقيضُ مذهبك ومقصدك، وإنما قصدا سُقوطَ البحثِ عن الإسناد مع بقاء التعبد بأخبار الآحاد، وأنت قصدتَ
__________
(1) تأليف الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن الهادي المتوفى 663 هـ انظر" الفهرس " 85 - 89.
(2) اسمه الكامل: أصول الأحكام في الحلال والحرام وما يتبعها من الأحكام، تأليف شمس الدين أحمد بن سليمان بن محمد بن المطهر المتوفى سنة 566 هـ ومنه عدة نسخ في الجامع الكبير بصنعاء انظر الفهرس ص 50 - 52.(1/301)
تحريمَ العمل بالأخبارِ، والمنعَ مِن التمسك بالسنن والآثار، فكلاًّ منهما عليك لا لك، وهما لألسنتهما منْ مِثْلِ مقالتك أزمُّ (1) وأملك. مع أنك بعد هذا رويتَ عن الغزاليِّ أنه قال: يُكتفي بتعديلِ أئمة الحديثِ (2)، فناقضتَ قولَك، وأكذبتَ نفسَك.
قال: " فإن قيل: نحن نقول بما قال الغزاليُّ: إنا نكتفي بتعديل أئمة الحديث كأحمد بن حنبل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعليِّ بنِ المديني، ويحيى بنِ معينٍ، ومحمد بن إسماعيل البخاريِّ، فإن هؤلاء قد تكلَّمُوا في الرواة، وبيَّنوا العدلَ مِن سِواه.
قلنا: هذا لا يصِحُّ لِوجوه؛ أحدها: أنَّا إن قبِلْنَا تعديلَهم في مَنْ كان متقدماً، فما يكون فيمن بعدَهم من الرُّواة فإن اتصالَ رواية الحديثِ من وقتنا إلى مصنفي الكتب الصِّحاح كالبخاري ومسلم على وجه الصحة متعسِّر أو متعذِّر لأجل العدالة، فإن من بيننا وبينَهم المشبهة والمجبرةُ والمرجئة ونحوهم مما يجرح به، وأقَلُّ الأحوال أن يكونوا مجهولين في هذا الاعتلال ".
أقول: قد شرع السَّيِّدُ -أيَّده اللهُ- يُبيِّنُ وجوهَ التعسُّرِ في معرفة السُّنة، وأخذ يفْتَنُّ في أساليب التنفير عن قراءة كُتُب الحديث، وقد تمسَّك في ذلك بوجوه خمسة:
الوجه الأولُ: دعوى التعذُّرِ أو التعسُّرِ في صحةِ كتبِ الحديثِ عن أهلها - دع عنكَ صحتَها عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بل أراد السَّيِّد -أيَّده الله- أن
__________
(1) أزم بالزاي من: زمَّ الشيءَ يزمُّه زماً فانْزَم: شدّه.
(2) على هامش (أ) ما نصه: وبمثل كلام الغزالي قال الرازي في " المحصول " والإما م- يحيى بن حمزة في " الحاوي ".(1/302)
يُحرِّم نسبةَ ما في هذه الكتب إلى أربابها، والجواب عليه في ذلك مِن وجوه:
الأول: أنه لا فرقَ بين كتبِ الحديثِ وبينَ غيرها من سائر (مصنفاتِ) علماء الإسلام، بل كتبُ الحديثِ مختصَّة بصرفِ العنايةِ مِن العلماء إلى سماعها وضبطِها وتصحيحِها، وكِتابة خطوطِهم عليها شاهدٌ لمن قرأها بالسَّماع، ناطقة لمن سمِعَها بالإذن في روايتها، ولا يُوجد في شيء منْ كُتُبِ الإسلامِ مثلُ ما يُوجد فيها مِن العِنايةِ الكثيرة في هذا الشأن حتى صار كأن هذا خصيصةٌ لها دونَ غيرِها مِن العلماء -رضي الله عنهم- وتعظيمٌ لِشعارها، ورفعٌ لمنارها، ومعرفة أنها أساس العلوم الإسلامية، وركن الفنون الدينية. فلا يخلو السَّيِّد -أيَّده الله- إما أن يخُصَّها بتعفي رسومِ الإسناد إلى أربابها دونَ سائرِ المصنفات، فهذا عكسُ المعقول، لأنَّا بيَّنا أنها أقوى العلومِ أثراً في هذا الشأن، وإمَّا أن يُورِدَ هذا الإشكال على العلوم السمعية كلُّها، فهذا إشكالٌ على أهل الإسلام لأنه يلزم منه القدحُ في إسناد فقه الأئمة إليهم، وكذلك مصنفاتُ أتباعِهم، فيتعذَّرُ إسنادُ " اللمع " (1) إلى صاحبه وسائر مصنفات الفقهاء وحينئذٍ يتعذَّرُ الاجتهادُ والتقليد، أو يتعسَّران، وإذا كان كذلك، فما خصَّ علمَ الحديث بالترسُّلِ على مَنْ أراد معرفتَه، والتعسير لها، والتنفير عنها. وهلاَّ وضع السَّيِّد -أيده الله- رسالةً ثانيةً إلى مَنْ أراد قِراءة فِقه العلماء من الأئمة وغيرهم، وأخبر أنه لا يَصِحُّ معرفةُ قولهم، ونسبتُها إليهم حتى تعرف عدالة الرُّواةِ بينَنا وبينَهم، وأن ذلك متعسِّر أو متعذِّر.
__________
(1) هو في فقه آل البيت، وصاحبه: علي بن الحسين بن يحيى بن الهادي، وفي الجامع الكبير بصنعاء الجزء الرابع منه انظر الفهرس ص 284.(1/303)
فإن قلتَ: إنك إنَّما خَصَصْتَ كُتُبَ الحديثِ لما ذكرتَ مِن أن بينَنا وبينَهم المجبرة والمشبهة والمرجئة.
قلنا: سوف يأتي عند الكلامِ على هذه المسألة أنها مسألةُ خلاف بَيْنَ الخَلَف وأن قبولَهم إجماعُ السَّلَفِ، وأن الإنكارَ على المخالف فيها إجماعُ الخلف والسَّلَف، فأنت إمَّا أن تذهب إلى ما ذهبنا إليه من قبولهم أو سكت عن المنعِ مِن ذلك، ويسعُك في السُّكوتِ ما وَسَعِ أمَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - منذ تُوفي -عليه السلامُ- إلى سنةِ تسعٍ وثماني مئة فإنه ما عُلم أحَدٌ أنكر على مَنْ ذَهَب إلى أحد المذهبين، وسيأتي الكلامُ على هذه المسألة.
الجواب الثاني: أجمعت الأمَّة على جواز إسناد ما في كتب الحديث إلى أهلها بعدَ قراءة مَنْ يُوثَقُ به من الشيوخ، والدليلُ على ذلك أن العلماءَ ما زالوا يقولُون في كتبهم: هذا الحديث رواه البخاري، أو رواه مسلم، أو غيرُهما من أهل الحديث مِن غير نكير في هذا على الرَّاوي مع كثرة وقوع هذا منذ صنفت هذه الكتبُ إلى هذا التَّاريخ وذلك قريبٌ مِن خمس مئة سنةٍ ما علمنا أنَّ أحداً من المسلمين حرَّم على مَنْ قرأها على العلماء أن يَنْسُبَ ما وَجَدَ فيها إلى مُصنِّفيها ولا حَرَّجَ في هذا حتى السَّيِّد -أيَّده الله- فإنه مع تحريمه لهذا روى عن البخاري ما زعم أنه يدلُّ على أنه مِن الجبرية كما سيأتي بيانُه في موضعه، وبيان الغلطِ على البخاري في ذلك المأخذ، فالاحتجاج على كفره بما يُوجد في كتابه فرعٌ على صحة كتابه عنه.
والسيِّد -أيَّده الله- لا يزالُ يقرأ فيها، وَينْسُبُ الحديثَ الذي فيها إلى أربابها، ويقول في تفسيره في بعض الأحاديث: رواه مسلم، وفي بعضها: رواه البخاري بهذا اللفظ. فثبتَ بذلك انعقادُ الإجماع على جواز روايتها عن أربابها، والإجماعُ حجة مقدمة على اختيارِ السَّيِّد، وقاطعة(1/304)
للتشغيب الذي ذكره، ومزيلة للتشويش الذي أورده.
الجواب الثالث: أن العِتْرة -عليهم السلامُ- أجمعت على جواز نسبة مذاهبِ الفقهاءِ إليهم مِن غيرِ ذكر إسنادٍ، وذكْرِ عدالةِ رجاله، ومن عدل المعدل مع أن بينَنا وبيْنَ الفقهاء وغيرهم مثل ما بيننا وبين المحدثين من غير فرق، فكما يجوز إسنادُ فقه الفقهاء إليهم ولم يكنْ ذلك الاحتمالُ مانعاً منه، فكذلك يجوزُ نسبةُ ما في كتب المحدثين إليهم، ولا يكونُ الاحتمالُ مانعاً.
الجواب الرابع: أن كلام السَّيِّد -أيَّده الله- مبنيٌّ على أن المرسل غيرُ مقبولٍ، وما أدري لمَ بنى كلامَه على هذا! فالظاهرُ مِن كلام الجماهير من العِترة أنه مقبولٌ، وهو الذي نصَّ عليه المنصورُ بالله في " الصَّفوة " والسَّيِّد أبو طالب في " المجزي " والإمام يحيى في " المعيار " وجميع المصنفين من شِيعهم، وهو قولُ المالكية، وروى أبو عمر بنُ عبد البرِّ في كتاب " التمهيد " (1) عن ابن جرير الطبري العلاَّمة أنه إجماع التابعين، وهو المختارُ على تفصيل فيه، وهو قبولُ مراسيلِ الصحابة وبعضِ التابعين والأئمةِ المعروفين بالتحرِّي في الرواية، والعلة معرفة شرط المرسل في التصحيح، أو ظهور شرطه بالنص كأئمة الحديث، وهو قوي، أو بالقرائن كمراسيل الصحابة -رضي الله عنهم- (2).
__________
(1) في 1/ 4 طبع المغرب ولفظه: إن التابعين أجمعوا بأسرهم على قبول المراسيل ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المئتين وقال ابن عبد البر: كان ابن جرير يعني أنَّ الشافعي أول من أبى قبول المراسيل. وفيه أنه قد نقل عدم الاحتجاج عن سعيد ابن المسيب وابن سيرين، فأين الإجماع؟ فلو قيل: باتفاق جمهور التابعين، لكان صحيحاً، وقال أبو داود في رسالته إلى أهل مكة: وأما المراسيل، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي، فتكلم فيه، وتابعه على ذلك أحمد ابن حنبل.
(2) انظر تفصيل المسألة في " توضيح الأفكار" 1/ 287 - 315.(1/305)
وكذلك إرسالُ الرَّاوي لسماع هذه الكتب المصنفة، بل هو أقوى المراسيل لوجوه:
أحدها: أن الكتابَ معلومٌ بالضرورة على سبيل الإجمال أنه تأليف لصاحبه، فإنَّا نعلم بالضرورة أن محمدَ بن إسماعيل البخاري صنَّف كتاباً في الحديث، وأنه هذا المقروء المسموع المتداول بينَ الناس.
وثانيها: أن أهلَ الكذب والتحريف قد يئسُوا من الكذب في هذه الكتب المسموعة، فكما أنه لا يُمْكِنُ أحداً أن يُدْخِلَ في " اللمع " مسألة في جواز المسح على الخُفين ويقول: إنه مذهب الهادي -عليه السلام- ويخفي ذلك على حُفَّاظ مذهبه -عليه السلام- فكذلك لا يُمْكِنُ أحداً أن يزيدَ في صحيح البخاري حديثَ " القُرآنُ كلامُ الله غيرُ مخلوق " (1)، ولا حديثَ " أبو بكر خليفتي على أمتي " (2) ونحو ذلك من الموضوعات.
وثالثها: أن النُّسَخ المختلفة كالرواة المختلفين، واتفاقُها يدل على صحة ما فيها عن البخاري قطعاً، أو ظاهراً، فإنك إذا وجدتَ الحديثَ في نسخة منه نُسِخَتْ باليمنِ، ووجدتَه في نسخةٍ نسخت بالمغرب، وفي نسخةٍ نُسِخَتْ بالشام، ونحو ذلك، ووجدتَه في شرحه الذي شرحه عالم في بعض أقطار الإسلام، ووجدتَه في الكتب المستخرجة من الصَّحاح الجامعة لما فيها، والمختصرة منها فتجده في " جامع الأصول " (3) لأبي
__________
(1) انظر " اللآلىء المصنوعة " 1/ 4 - 9 للحافظ السيوطي.
(2) انظر " الفوائد المجموعة " ص 332 للإمام الشوكاني.
(3) طبع في مصر باعتناء الشيخ محمد حامد الفقي، ثم طبع في دمشق طبعة محررة متقنة مفهرسة، خرج أحاديثه وضبط نصه وعلق عليه صاحبنا الشيخ: عبد القادر الأرنؤوط وأخي السيد إبراهيم، وكنت قد شاركتهما في تحقيق المجلدين الأول والثاني.(1/306)
السعادات ابن الأثير، وتجده في كتاب " المنتقى في الأحكام " (1) لعبد السَّلام ابن تيميَّة، وتجدهُ في كتاب " الإلمام " (2) للشيخ تقي الدِّين محمد بن علي القُشيري، وتجده في كتاب " الجمع بين الصحيحين " (3) للحافظ الحُمَيْدِيّ. وتجده في كتب الفقه البسيطة التي يُشرح فيها مذاهبُ العلماء ويذكر فيها حُجَجُهُمْ.
وهذه الكتبُ قد تُوجدُ كُلُّها وقد يُوجد منها كثيرٌ، ولا شكَّ أن الناظر فيها إن لم يستفِدِ العلمَ الضَّروري باستحالة تواطؤ مصنِّفيها على محضِ الكذب والمباهتة، لأنه يستحيلُ اجتماعُهم واتفاقُهم على ذلك، لِتباعد أزمانِهم وبُلدانهم، واختلافِ أغراضهم ومذاهبهم، وأقلُّ الأحوال أن ذلك يُفيدُ الظَّنَّ الغالِبَ المقارِبَ للعلم، فإذا كان الأئمةُ قد نصُّوا على قَبولِ المرسل مع خُلوِّه من هذه القرائن فكيف ينكر على من قَبِلَهُ مع هذه القرائن الكثيرة، فإذا كان المعتمد في الاجتهاد هو الظن المطلَق، فكيف يُنكر على من استند إلى مثل هذا الظنِّ القوي.
الجواب الخامس: أن المختار القوي ما ذهب إليه أبو عُمَرَ بنُ عبدِ البَرِّ، وأبو عبد الله بن الموَّاق (4) وهو أنَّ كُلَّ حاملِ علمٍ معروفٍ بالعناية فيه، فإنه مقبول في علمه، محمول أبداً على السَّلامة حتى يَظْهَرَ ما
__________
(1) طبع في مصر على حدة بتحقيق وتعليق الشيخ الفقي، وطبع أيضاً مع شرحه الحافل الموسوم بـ " نيل الأوطار " للإمام الشوكاني.
(2) طبع في دمشق بعناية الأستاذ سعيد المولوي.
(3) لم يطبع بعد.
(4) واسمه عبد الله توفي سنة 897 هـ، وقد ذكر ذلك في كتابه " بغية النقاد " في مصطلح الحديث، فقال فيما نقله عنه الحافظ العراقي في " الإيضاح " ص 139: أهل العلم محمولون على العدالة حتى يظهر منهم خلاف ذلك.(1/307)
يجرحه. وقد ذهب المنصورُ بالله -عليه السلام- إلى مثل كلام ابنِ عبدِ البر، بل إلى أوسعَ منه، فإنه قضى بقبولِ مَنْ ظاهِرُه السلامة. ذكرَ ما يقتضي ذلك في كتابه " هداية المسترشدين "، وكذلك عبدُ الله بنُ زيدٍ ذكَرَ مِثلَ ذلك في " الدرر المنظومة " وهو الذي أشار السيد أبو طالب إليه في كتاب " جوامع الأدلة " في الأصول، وتوقف فيه في " المجزي " وذكر أنه محل نظر، وحكاه المنصورُ باللهِ في " الصفوة " عن الشافعي، وهو مذهبُ الحنفية بأسرهم. والدليلُ على ما ذكرنا الأثَرُ والنَّظَرُ، أما الأثر، فقد وردت في ذلك آثار:
الأثرُ الأول: ما احتج به ابنُ عبد البرِّ في هذه المسألة، وهو قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " يَحْمِلُ هذَا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " (1) وهو حديث مشهور صححه ابنُ عبد البرّ، ورُوي عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو حديثٌ صحيح. قال زينُ الدِّين (2): وفي كتاب " العلل " للخلاَّل أن أحمد سُئِلَ عنه، فقيل له: كأنه كلامُ موضوع؟ فقال: لا، هو صحيح. فقيل له: ممَّن سمعتَه؟. فقال: مِنْ غيرِ واحدٍ، فقيل له: من هم؟ قال: قد حدثني به مسكين إلا أنه يقول عن [مُعان عن] (3) القاسم بنِ عبد الرحمن.
__________
(1) وتمامه " ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين " والتحريف: التغيير، والغالي: من غلا في الأمر غلواً: جاوز حدُهُ، والانتحال من قولهم: انتحل الشيء، أي: ادعاه لنفسه وهو لغيره، والمبطل من أبطل: إذا أتى بغير الحق. ومعنى الحديث: يُبعدون عنه تغيير من يُفسره بما يتجاوز فيه الحدَّ، فيخرج به عن قوانين الشرع، وادعاء من يدعي فيه شيئاً يكون باطلاً لا يُوافق الواقع، وكأنه يثير بالجملة الأولى إلى من يغير تفسير الأحاديث النبوية تعمداً أو تلبيساً، وبالثانية إلى من يكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه بادعائه لحديث لم يحدث به ولا سمعه ينتحل باطلاً.
(2) في التقييد والإيضاح: 139.
(3) ما بين حاصرتين سقطت من الأصل ومن تنقيح الأنظار للمؤلف، وهي موجودة في =(1/308)
قال أحمد: ومُعان لا بأس به، ووثَّقَهُ ابن المَديني أيضاً.
قلت: قولُه " حدثني به مسكين " غير أنه يقول: القاسمُ بنُ عبد الرحمن - يعني أن مسكيناً تَابَعَ مُعَانَ بنَ رِفاعة إلا أنه وهم في اسم إبراهيم ابن عبد الرحمن فقال القاسم مكان إبراهيم (1).
قال زين الدِّين: وقد ورد هذا الحديثُ مرفوعاًً مسنداً مِن حديث أبي هُريرة، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عمر، وأبي أمامة، وجابر بن سمرة، وكُلُّها ضعيفة (2).
__________
= الإيضاح المنقول عنه، ورواه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص 29 من طريق الخلال، قال: قرأت على زهير بن صالح بن أحمد، حدثني مهنا بن يحيى " قال: سألت أحمد بن حنبل عن حديث معان بن رفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري " قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: .... ، وأخرجه ابن وضاح في البدع والنهي عنها ص 1 من طريق محمد بن سعيد بن أبي مريم، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن معان (تحرف فيه إلى معاذ) بن رفاعة السلمي، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يحمل هذا العلم ... " وأخرجه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 2/ 17 من طريق الحسن بن عرفة، عن إسماعيل بن عياش بهذا الإسناد. وانظر " مفتاح دار السعادة " 1/ 163 - 164 للعلامة الحافظ ابن قيِّم الجوزية رحمه الله.
(1) هذا صحيح بالنسبة إلى وهم مسكين في اسم إبراهيم، وأما أنه تابع معان بن رفاعة، فلا، لأن مسكيناً رواه عن معان، فهو شيخُه فيه كما في الأصل الذي نقل عنه المؤلف، وليس متابعاً له.
(2) حديث أبي هريرة رواه ابن عدي في " الكامل " 1/ 152 - 153، ومن طريقه الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص 28 حدثنا أبو قُصي إسماعيل بن محمد بن إسحاق العذري، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا مسلمة بن علي، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد السلمي، عن علي بن مسلم البكري، عن أبي صالح الأشعري، عن أبي هريرة.
وأخرجه العقيلي في " الضعفاء" 1/ 9، والبزار (143) من طريقين عن خالد بن عمرو، عن ليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي قبيل، عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة. وحديث علي رواه ابن عدي عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي ... ، وحديث عبد الله بن عمرو تقدم، وحديث ابن عمر رواه ابن عدي من حديث الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب، عن =(1/309)
قال: وقال ابنُ عديٍّ: رواه الثقات عن الوليد بن مسلم، عن إبراهيم بن عبد الرحمن حدثنا الثقة من أصحابنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال. وساقه.
ومن علوم الحديث (1) للبُلقيني: قال الدَّراقطني: لا يَصِح مرفوعاًً -
__________
= سالم، عن ابن عمر وحديث أبي أمامة أخرجه العقيلي 1/ 9 من طريق محمد بن داود بن خزيمة الرملي، حدثنا محمد بن عبد العزيز الرملي ويعرف بالواسطي، حدثنا بقية عن رُزيق أبي عبد الله الألهاني، عن القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة.
وفي الباب عن أسامة بن زيد عند الخطيب في " شرف أصحاب الحديث " ص 28 من طريق محمد بن جرير الطبري، حدثني عثمان بن يحيى، حدثني عمرو بن هاشم البيروتي، عن محمد بن سلمان بن أبي كريمة، عن معان بن رفاعة السلامي، عن أبي عثمان النهدي، عن أسامة بن زيد.
وعن ابن مسعود عنده أيضاً ص 28 من طريق محمد بن المظفر الحافظ، حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا، حدثنا محمد بن ميمون به كامل الحمراوي. حدثنا أبو صالح، حدثنا الليث ابن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن مسعود.
وعن معاذ بن جبل فيه أيضاًً ص 11 من طريق محمد بن الحسن بن أحمد الأهوازي، حدثنا الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، حدثنا عبدان: عبد الله بن أحمد بن موسى، حدثنا زيد بن الحريش، حدثنا عبد الله بن خراش، عن العوام بن حوشب، عن شهر بن حوشب، عن معاذ بن جبل ... وانظر " الجامع الكبير " ص 995.
(1) وهو المسمى بـ " محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح " تتبع فيه مقدمة ابن الصلاح فقرة فقرة " فأعاد صياغتها تضميناً، ثم عقب عليها بفوائد وزيادات تفصل ما أجمل ابن الصلاح، وتستدرك ما فاته، وتناقش ما يرد على كلامه حيثما بدا وجه اعتراض، وأضاف في نهاية المقدمة خمسة أنواع من علوم الحديث لم يتكلم عليها ابن الصلاح في مقدمته، وقد طبع محاسن الاصطلاح، مع مقدمة ابن الصلاح في مطبعة دار الكتب سنة 1974 بمصر، بتحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن -بنت الشاطىء-. والنص الذي نقله المؤلف عنه في الصفحة 219. والبلقيني: هو الإمام العلامة قاضي القضاة، شيخ الإسلام، حافظ مصر والشام، سراج الدين عمر بن رسلان بن نصير البلقيني الشافعي المتوفى سنة 805 هـ، أذن له بالفتيا وهو ابن خمس عشرة سنة، ثم انتهت إليه رياسة العلم، فقيل: إنه مجدد القرن التاسع وكان نادرة زمانه حفظاً واستظهاراً وفقهاً، وممن أخذ عنه حافظ دمشق ابن ناصر الدين والحافظ ابن حجر.(1/310)
يعني مُسنداً- إنما هو عن إبراهيم بنِ عبد الرحمن، عنه - صلى الله عليه وسلم -.
وقال ابن عبدِ البَرِّ: رُوي عن أسامة بن زيد، وأبي هريرةَ بأسانيدَ كُلُّها مُضطرِبة غيرُ مستقيمة.
قال البُلقينيّ: وقد رُوي من حديث أسامة، وأبي هريرة، وابنِ مسعود، وغيرِهم، وفي كُلِّها ضعف.
وهو صحيحٌ على أصولِ أصحابنا، لأنه لم يُطعن فيه إلا بالإرسال على أنه مختلف في إرساله وإسناده، فأسنده العُقيليُّ (1) عن أبي هريرة، وعن عبد الله بن عمرو، وقال: الإسنادُ أولى. ونازعَهُ في ذلك ابن القَطَّان (2)، وقال: الإرْسالُ أولى. وتوقَّف في ذلك الحافظُ ابنُ النحويّ في كتابه " البدر المنير ". ورواه الأكثرون عن مُعان بن رِفاعة، عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري التّابعيِّ، ومعان وثقه ابنُ المديني وليَّنه يحيى بنُ معين،
__________
(1) هو الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حماد العُقيلي صاحب كتاب الضعفاء الكبير ومنه نسخة نفيسة بظاهرية دمشق المحروسة، كان ثقة جليل القدر عالماًً بالحديث، مقدماً في الحفظ إلا أنه قد يتشدد فيجرح الراوي بما ليس بجرح في كتابه الضعفاء، وقد جرح غير واحد من رجال الصحيحين بسبب ذلك، توفي سنة 322 هـ.
(2) هو الحافظ العلامة الناقد قاضي الجماعة أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الملك ابن يحيى الفاسي، الشهير بابن القطان. قال الأبارفي ترجمته: كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية بالرواية، رأس طلبة العلم بمراكش، ونال بخدمة السلطان دنيا عظمة، وله تواليف، حدث ودرس ... مات وهو على قضاء سجلماسة سنة ثمان وعشرين وست مئة. قال الإمام الذهبي في " تذكرة الحفاظ " 4/ 1407: طالعت كتابه المسمى بـ " الوهم وإلإيهام " الذي وضعه على الأحكام الكبرى لعبد الحق يدل على حفظه وقوة فهمه، لكنه تعنت في أحوال رجال، فما أنصف بحيث أخذ يلين هشام بن عروة ونحوه. وقال في " الميزان " 4/ 301، 302 في ترجمة هشام بعد ذكر توثيقه: لا عبرة بما قاله أبو الحسن بن القطان، فدع عنك الخبط، وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين فهو شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان.(1/311)
ولم يتكلَّم فيه إلا بما يقتضي أن في حفظه بَعْضَ الضعف، وقد عضَّدَه الحديثُ المُسْنَدُ الذي رواه العُقيليُّ مع أن بعض الضعف في الحفظ لا يُرَدُّ بهِ حديثُ الثقة ولكن يُرجَّحُ عليه حديثُ منْ هُوَ أوثق منه عند التَّعَارُضِ.
وأما إبراهيم بنُ عبدِ الرحمن العُذريُّ الذي أرسلَ هذا الحديثَ، فقال فيه الذهبي (1). تابعيٌّ مُقِلٌّ وما علمتُه واهياً، أرسل: " يَحْمِلُ هذَا العلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ " رواه غيرُ واحد عن مُعان.
وذكر ابنُ الأثير في كتاب " أسد الغابة " أنه كان من الصحابة (2) -والله أعلم-.
وقد رُويَتْ له شَواهدُ كثيرةٌ كما قدَّمتُه مِن حكاية زينِ الدين، وضعفُها لا يَضُرُّ، لأن القصدَ التقوِّي بها، لا الاعتماد عليها مع أن الضعفَ يُعْتَبَرُ بِهِ إذا لم يكن ضعيفاً بمرة أو باطلاً، أو مردوداً، أو نحو ذلك، فهذه الوجوهُ مَعَ تصحيحِ أحمد وابنِ عبد البر، وترجيح العقيليِّ لإسناده مع أمانتهم واطلاعهم يقتضي بصحته أو حسنه -إِن شاء الله تعالى- وهو دالٌّ على المقصود من تعديل حملةِ العلم المعروفين بالعناية حتى يتبيَّن جَرْحُهم، واعترض هذه الحُجَّة زينُ الدِّين بأنَّه لو كان خبراً لما وُجِدَ في حَمَلَةِ العِلم
__________
(1) في " ميزان الاعتدال " 1/ 45.
(2) نص ما قاله ابن الأثير في " أسد الغابة " 1/ 52: ذكره الحسن بن عرفة عن إسماعيل ابن عياش، عن معان، عن إبراهيم وقال: كان من الصحابة، ولم يُتابع عليه، وقال الحافظ في " الإصابة " 1/ 117: إبراهيم بن عبد الرحمن العُذري تابعي أرسل حديثاً، فذكره ابن مندة وغيره في الصحابة، قال: وروى الحسن بن عرفة، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن معاذ بن رفاعة، حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن العُذري وكان من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحمل هذا العلم من كل خلف عدولُه ... قال ابن مَنْدَه: ولم يتابع ابن عرفة على قوله: " وكان من الصحابة " فتبين من هذا النقل أن الحسن بن عرفة هو القائل: كان من الصحابة لا ابن الأثير، كما توهمه عبارة المصنف.(1/312)
منْ لَيسَ بعدلٍ، فوجب حملُه على الأمر (1).
قلتُ: تخصيصُ الخبر جائز، والتخصيصُ أكثرُ مِن ورود الخبر بمعنى الأمر، وترجيحُه لما في بعض طُرُق أبي حاتم مردودٌ بضعفها وإعلالِها بمخالفةِ جميعِ الرُّواة.
الأثر الثاني: قولُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: " مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ " (2) رواه ابنُ عباس، وأبو هُريرة، ومعاويةُ
__________
(1) نص كلامه في " التقييد والإيضاح " ص 138: فقوله " يحمل " حكي فيه الرفع على الخبر، والجزم على إرادة لام الأمر، وعلى تقدير كونه مرفوعاً، فهو خبر أريد به الأمر بدليل ما رواه أبو محمد بن أبي حاتم في مقدمة كتاب " الجرح والتعديل " 2/ 17 في بعض طرق هذا الحديث: " ليحمل هذا العلم " بلام الأمر، على أنه ولو لم يرد ما يخلصه للأمر، لما جاز حمله على الخبر لوجود جماعة من أهل العلم غير ثقات، فلا يجوز الخلف في خبر الصادق، فيتعين حمله على الأمر على تقدير صحته، وهذا مما يوهن استدلال ابن عبد البر به، لأنه إذا كان للأمر، فلا حجة فيه، ومع هذا فالحديث أيضاً غير صحيح .. ثم قال الحافظ العراقي: ومما يستغرب في ضبط هذا الحديث أن ابن الصلاح حكى في فوائد الرحلة له إنه وجد بنيسابور في كتاب يشتمل على مناقب ابن كرَّام جمع محمد بن الهيصم قال فيه: سمعت الشيخ أبا جعفر محمد بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت أبا عمرو محمد بن أحمد التميمي يروي هذا الحديث بإسناده، فيضم الياء من قوله: " يحمل " على أنه فعل لم يسم فاعله، ويرفع الميم من " العلم " ويقول: " من كل خلف عدولة " مفتوح العين واللام وبالتاء ومعناه: أن الخلف هو العدولة بمعنى أنه عادل كما يقال شكور بمعى شاكر، وتكون الهاء للمبالغة، كما يقال: رجل صرورة، والمعنى: أن العلم يُحمل عن كل خلف كامل في عدالته.
(2) أخرجه من حديث ابن عباس الترمذي (2645) والدارمي 1/ 74، والبغوي في شرح السنة (132). وأخرجه من حديث أبي هريرة ابن ماجه (220) والطحاوي في " مشكل الآثار" 2/ 280، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " 1/ 19، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " 1/ 3.
وأخرجه من حديث معاوية البخاري (71) و (3116) و (3641) و (7312) و (7460) ومسلم (1037) وأحمد 4/ 101، والدارمي 1/ 75، 76، والطحاوي 2/ 278، وابن عبد البر 1/ 20، والخطيب 1/ 5، وابن حبان (89) وأبو نعيم في " الحلية " 5/ 132 و176 و9/ 306 و10/ 366. =(1/313)
كلهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وحديثُ ابن عباس أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ صحيح. وحديثُ أبي هريرة ذكره الترمذي تعليقاً، وحديث معاوية أخرجه البخاري وإنما ذكرتُه هنا، لئلا يَظُنَّ من وقف عليه في " صحيح البخاريِّ " أنه لم يرو الحديثَ أحدٌ سِواه. وزاد الخطيب في كتاب " الفقيهِ والمتفقه " (1) أنه رواه عمر، وابنهُ عبد الله، وابن مسعود، وأنس.
فهذا الحديثُ دالٌّ على أن الله قد أراد بالفقهاء في الدين الخيرَ، والظاهر فيمن أراد اللهُ به الخيرَ أنه من أهله وهو مُقَوٍّ للدليل، لا معتمدٌ عليه على انفراده، وفيه بحث يتشعَّبُ تركناه اختصاراً.
الأثرُ الثَّالِثُ: قصةُ الرجل الذي قَتَلَ تسعة وتسعين، وسأل عن أعبدِ أهل الأرض، فَدُلَّ عليه، فسأله فأفتاه أن لا توبة له فقتله، ثم سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ فدُلَّ عليه، فسأله، فأفتاه بأن توبته مقبولة إلى آخر الحديث وفيه أنه من أهل الخير، وفي قصته بعدَ المعرفة بالعلم أنه لم يسألْ عن العدالة. والحديث متفق عليه (2).
الأثر الرابع: أنه لما قال الله تعالى لموسى عليه السلام: إن لنا عبداً هو أعلمُ منك -يعني الخضر عليه السلامُ- فسأل موسى لقاءه من الله تعالى ليتعلَّمَ منه، وسافر للقائه (3) ولم يَرِدْ أنه سأل عن عدالته بَعْدَ أن أعلمه
__________
= وأخرجه من حديث عمر بن الخطاب الطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 281، وابن عبد البر 1/ 19، والخطيب 1/ 4.
(1) 1/ 2، 3، وحديث ابن مسعود أخرجه أيضاً أبو نعيم في " الحلية " 4/ 107.
(2) رواه البخاري (3470) ومسلم (2766) وأحمد 3/ 20 و72 وابن ماجة (2622)، وابن حبان رقم (601) من حديث أبي سعيد الخدري.
(3) تقدم تخريجه ص 218.(1/314)
اللهُ تعالى بعلمه، مع أنَّ من الجائز أن يكون العالمُ غيرَ عامل كَبَلْعَمَ (1) وغيرِه، ولكن تجويز بعيد، قليلُ الاتفاق، نادرُ الوقوع، فلم يجب الاحترازُ منه. وفي بعض هذه الآثار أثرٌ مِن ضعف وهو ينجبِرُ باجتماعها وشهادةِ القُرآن لها، وهي الحجة الثانية وهي قولُه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فأمر اللهُ تعالى بسؤالهم، وهو لا يأمر بقبيح، فَدَلَّ إطلاقُه على جواز سؤال العُلماء على العموم إلا مَنْ عُرِفَ بقلة الدِّين.
وأما الاستدلالُ على ذلك مِن جهة النَّظرِ، فهو يتبيَّنُ بإيراد أنظارٍ:
النَّظر الأول: أن الظاهِرَ من حملة العلم أنهم مقيمون لأركان الإسلام الخمسة، مجتنُبون للكبائر والمعاصي الدَّالة على الخِسَّة، معظِّمون لِحرمة الإسلام، لا يجترئون على الله بتعمُّدِ الكذب عليه، ولا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر أيضاًً فيهم قِلَّةُ الوهم بغير الاعتماد على الكِتابة، وظهور العناية بالفَن.
فالمحدِّث وإن كان يَغْلطُ في العربية، والفقيهُ وإن كان يَغْلَطُ في الحديث، فليس ذلك الذي عَنيناه بالقبولِ وإنما أردنا أن المحدِّث يقبل في فنِّه، وأن الظاهر عدمُ غلطه ووهمه، وهذه الأشياءُ هي أمارة (2)، العدالة.
النظرُ الثاني: أن الأمة أجمعت على الصلاة على مَنْ هذه صفتُه، وخلْفَ منْ هذه صفتُه، وعلى الاعتداد بأذانِه، وعلى جواز الترحم عليه،
__________
(1) بلعم هذا، رجل من علماء بني اسرائيل انظر قصته في تفسير الطبري 13/ 257 - 268 وابن كثير 3/ 507 - 512 في تفسير قوله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175].
(2) أي: علامة، يقال: أمار ما بيني وبينك كذا، وأمارة ما بيني وبينك بالهاء وغير الهاء.(1/315)
والترضية، والاستغفار، والتعظيم، وسائر حقوق المسلمين. وأجمع على ذلك مَنْ يشترِطُ العدالةَ في هذه الأمور ومن لا يشترِط، وإنما قلنا: إنهم أجمعوا على ذلك، لأن العمل عليه في جميع أقطار الإسلام في قديم الزمان من غير نكير من أحدٍ من المسلمين.
النَّظر الثالث: أنَّه قد ثبت أنَّ العاميَّ من الزُّرَّاع وغيرهم إذا احتاج إلى فتوى، ودخل مِصراً من أمصار المسلمين لِيستفتي، فإنه يسأل مَنْ يراه منتصباً للفتوى، ويرى الناسَ يأخذون عنه وإن لم يتقدم له خِبْرةٌ بحاله، ولا طولُ صحبة إلا مجرد ظنِّ عدالته المستندِ إلى كونه من أهل العلم، وأنَّ أهل العلم من أهل الدِّيانة في ظاهر الأحوالِ وغالبها، وكون الناس يستفتونه، ولو كان مِن أهل الفسوق والمعاصي ما كان بهذه المنزلة عند الناس، وهذا كافٍ للعاميِّ في معرفة عدالة المفتي. ولو أوجبنا على العاميِّ أن يُلازم المفتي أولاً، ويختبره في حَضَرِه وسفرِه ورضاه وغضبه، لخالفنا إجماعَ الأمة.
قال الإمامُ المنصورُ بالله -عليه السلام- في " الصفوة ": اعلم أن شروط الاستفتاء ترجِعُ إلى أصل واحدٍ: وهو أن يغلِبَ ظنُّ المستفتي أنَّ من يستفتيه من أهل الاجتهاد والعلم، ويحصل له هذا الظنُّ بوجوه:
أحدُها: أن يراه منتصباً للفتوى بمشهدٍ من أعيان الناس، وأخذِ الناس عنه، وأن يراه مِن أهل الدِّين بأن يرى سِمَاتِ الخير عليه ظاهرة، ويرى الجماعة مطبقةً على سؤاله، والأخذِ عنه، والفَزَع إليه، أو يعلمه أو يظنه من أهل الدِّين، ولكن صَرفَ الجماعةَ عن سؤاله بعضُ الصَّوارف.
وكذلك الشيخُ أبو الحسين، فإنه قال في" المعتمد " (1): شروطُ
__________
(1) 2/ 363 - 364.(1/316)
الاستفتاء: أن يَغْلِبَ على ظنِّ المستفتي أنَّ من يستفتيه من أهل الاجتهاد بما يراه من انتصابه للفتوى ... إلى قوله: وأن يظنَّه من أهل الدِّيِن بما يراه من اجتماعِ الجماعات على سؤاله واستفتائه، وبما يراه من سِمات السِّتر والدين انتهى.
وحديثُ معاذٍ (1) أوضح دليلٍ على ذلك، فإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن مفتياً ومعلماً وقاضياً، ولا شكَّ أنه مجهولُ الحال عندَ أهل اليمن، أو عند الأكثر منهم، لكنهم يظنُّون مِن قرائنِ الأحوال أنه من أهل العلم والدِّيانة.
وقد ذكر المنصور بالله -عليه السلامُ- ما هو أكثرُ ترخيصاً من هذا فقال -عليه السلام- في المستفتي: وذهب قوم أنه لا يجب عليه ذلك، بل له أن يَقْبلَ قَوْلَ المفتي مِن غير نظرٍ في حاله. قال -عليه السلام-: وما ذكرنا هو الذي كان شيخُنا -رحمه الله- يذهبُ إليه وهو الذي يختارُهُ -يعني عليه السلامُ- أنه لا يَحِلُّ الرُّجُوعُ إلى المفتي من غير نظر، بل لا بُدَّ من الظنِّ لأهليته لذلك - وهذا هو المختارُ الذي عليه الجماهيرُ، فإذا تقرَّر في العامي المستفتي أنه يجوزُ له العملُ بقول المفتي عند ظنِّ عدالته بأخف الأماراتِ الحاصلةِ في ساعةٍ واحدة من غير سابق خِبرة ولا طول صُحبة.
وعلى هذا عملُ المسلمين في جميع الأقطار والأمصار من غير نهي للعامّة عن ذلك ولا إنكار، فغيرُ خافٍ على المنصف أن جميعَ المدرسين
__________
(1) تقدم تخريجه ص 258.(1/317)
في علم الحديث المأخوذِ عنهم الإجازاتِ على صفة المفتين للعامة وفي الديانة وفي معرفة ما يدرسون فيه.
النظر الرابع: أن طلبة العلم ما زالوا يدخلونَ أمصارَ الإسلام للقراءة، وطلب العلم، فإذا دخلُوا سألُوا عن العالم في الفن، فإذا أُخْبِرُوا بالعالم قرؤوا عليه، وأخذوا عنه العلمَ مِن غير سابقِ خِبرةٍ ولا طُولِ صُحبة متقدمة إلا لِظنِّ علمه وديانته وتحريه للصدق بغيرِ سببٍ لذلك الظنِّ أكثر مِن كونه من أهل العِلم والانتصاب للتدريس.
وهذا إجماعُ من المسلمين، لأن منهم من يفعلُهُ كالطالب للعلم، ومنهم من يسكت عنه كالعالم المفيد للطَّالب، وسائر من يعلم ذلك من العلماء، وهذا غيرُ خافٍ على العلماء ولا يخافون مِن طلبة العلم بمضرةٍ تلحقُهُم إن نصَحُوهم في ذلك، كما رُبَّما خافوا مِن جبابرة الملوك، وأهلِ التَّكَبُّرِ في الأرض إذا نصحوهم. فثبت بهذا أنَّ ظَاهِرَ العلماء العدالةُ والدِّيانةُ ما لم يظهر ما يجْرَحُهُمْ، وَيمْنَعُ العَمَلَ بالظاهر.
فإذا ثبت هذا، ثبتَ أنه لا قَدْحَ في كُتُبِ الحديثِ المسموعة، فإنَّ الظاهِرَ أنَّ منْ بيننا وبَيْنَ مصنفيها كُلُّهم مِن أهل العلم، ويغلِب على ظنِّ كُلِّ منصفٍ أنَّه ليس فيهم أحدٌ مِن أهل الفسق والفواحش والتظاهر بارتكاب الكبائر، وما فيهم منْ يَتعَمَّدُ الكذبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما فيهم بحمدِ اللهِ إلا من يُظَنُّ صِدْقُه وأمانتُهُ، ومنْ لم يحْصُلْ له هذا الظنُّ، حَرُمَتْ عليه الروايةُ، وحَرُمَ عليه النَّكيرُ، وكلُّ متعبِّد بِظنِّه.
النظر الخامس: أجمعت الأمةُ على قبولِ علومِ الأدب مِن اللغة والمعاني والعربية بنقل علماء الأدب من غير تعرُّضٍ إلى جرح وتعديل غالباً، وفي هذا ما يدل على صحة كلام ابن عبد البرِّ مِن قبول العلماء في(1/318)
فنونهم التي ظهرت عنايتُهُم فيها حتى يتبيَّنَ جرحُهُم.
فهذه الوجوهُ مما يُمْكِنُ أن يَقْوَى بها قولُ أبي عُمَرَ بن عبد البَرِّ. وقد قال ابنُ الصَّلاَح: إن في قوله اتِّساعاً غيرَ مرضيٍّ (1).
ولا شكَّ أن المسألة محتملةٌ للنظر، وأن في أدلَّتِه قُوَّةً.
فإن قلتَ: نِسبةُ هذا القولِ إلى ابنِ عبد البَرِّ وحدَهُ تدلُّ على شُذُوذه وإصْفَاقِ (2) العلماء على مخالفته.
قلتُ: ليس كذلِكَ، فقد ذهب جماعة من العلماء إلى قبول المجهول مطلقاًً، سواءً كان مِن أهل العِلْمِ أو لم يكن منهم، وهو أحَدُ قَوْلي المنصور بالله -عليه السلامُ-، وجزم الفقيهُ عبدُ الله بن زيد به، وقال: هو مذهبُنا، حكاه في " الدرر المنظومة " وحكاه الإمامُ المنصورُ بالله عن الشافعيِّ (3) في كتاب " الصفوة " وهو مذهبُ الحنفيةِ بأسرهم (4).
__________
(1) مقدمة ابن الصلاح ص 138.
(2) إصفاق مصدر أصفق، يفال: أصفقوا على كذا، أي: أطبقوا عليه قال يزيد بن الطثرية:
أثيبي أخَا ضَارُورَةٍ أصْفَق العِدَى ... عَلَيْه وَقَلَّتْ في الصِّدِيق أوَاصِره
(3) هذا المحكي عن الشافعي لا يصح، ففي الرسالة ص 370: ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أموراً منها: أن يكون من حدَّث به ثقة في دينه، معروفاً بالصدق في حديثه، عاقلاً لما يحدث به، عالماً بما يحيل معاني الحديث من اللفظ ... وفي اختلاف الحديث ص: والظاهر في المجهول: هو من لا تعرف عدالته عن خبرة أو عينه.
وقال الإسنوي في " نهاية السول " 3/ 138: إن الشخص إذا علمنا بلوغه وإسلامه،
وجهلنا عدالته، فإن روايته لا تقبل كما نقله الإمام وغيره عن الشافعي، واختاره هو والآمدي وأتباعهما.
وقال السبكي في " جمع الجوامع " 2/ 150، 151، بشرح المحلي وحاشية البناني: فلا يقبل المجهول باطناً وهو المستور خلافاً لأبي حنيفة وابن فورك وسليم، وقال إمام الحرمين: يوقف ويجب الانكفاف إذا روى التحريم، أما المجهول ظاهراً وباطناً فمردود إجماعاً.
(4) قال في " مسلم الثبوت وشرحه " 2/ 146: مجهول الحال من العدالة والفسق، وهو =(1/319)
وتوقَّف السَّيِّدُ أبو طالب في قبوله في كتاب " المُجزي " ولم يقطع بردِّة، وقال: المسألة محتمِلة للنظر، ورجح السيد أبو طالب قبولَهُ في " جوامع الأدلة ". وأشار قاضي القضاة (1) في " العهد " إلى قبولِه. فالذاهبُ إلى ما قَالَهُ ابنُ عبد البَرِّ، لم يأت ببديعٍ، بل قولُهُ أقوى مِنْ قولِ من يقبل المجاهيلَ على الإطلاق.
واعْلَمْ أني مكمِّل للكلام في هذه المسألة بذكرِ سؤالٍ وجواب:
__________
= المستور في الاصطلاح غير مقبول عند الجمهور، وروي عن أبي حنيفة رضي الله عنه في غير رواية الظاهر قبوله، واختاره ابن حبان نقله عنه في الحاشية. قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل في كثير من كتب الحديث المشهورة بهذا الرأي، والأصل أن الفسق مانع من القبول بالاتفاق كالكفر، فلا بد من ظن عدمه، فإن اليقين متعسر، لكن اختلف في أن الأصل العدالة، فتظن ما لم يطرأ ضدها، أو الأصل الفسق فلا تظن العدالة، ولك أن تقول: العدالة شرط اتفاقاً، لكن اختلف في أن أيهما أصل، ثم إن المعتبر في حجية الخبر ظن قوي، فلا يكتفي بالظن الضعيف، فإنه لا يغني عن الحق شيئاً ألا ترى أنه قد يحصل الظن بخبر الفاسق إذا جرب مراراً عدم الكذب منه، لكن لا يقبل قوله شهادة ورواية، فكذا ظن العدالة من الأصالة لا يكفي ها هنا، كيف وقبول الخير من الدين ولا بد فيه من الاحتياط، فمبنى ظاهر الرواية هو هذا لا ما ذكروه، وإلى ما ذكرنا أشار الإمام فخر الإسلام بقوله: وهي نوعان: قاصر وكامل، أما القاصر، فما ثبت بظاهر الإسلام واعتدال العقل، لأن أصل حاله الاستقامة، لكن الأصل لا يفارقه هوى يضله ويصده عن الاستقامة، ثم قال بعد هذا: والمطلق ينصرف إلى كمال الوجهين، ولهذا لم يجعل خبر الفاسق والمستور حجة. انتهي. وبهذا تعلم أن ظاهر مذهب الحنفية عدم قبول رواية المستور كغيرهم، وأن ما جعله بعضهم قول أبي حنيفة إنما هو رواية عنه على خلاف ظاهر المذهب.
(1) هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني الأسدأباذي كان شيخ المعتزلة في عصره وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره توفي سنة 415 هـ. وكتابه العهد هو من أهم الكتب التي ألفت في أصول الفقه، وقد شرحه أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري المتكلم على مذهب المعتزلة المتوفى سنة 436 بشرح كبير سماه " العمدة " ثم اختصر هذا الشرح وسماه المعتمد وهو مطبوع، وكتاب المحصول للفخر الرازي مستمد من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالباً، أحدهما هذا، والثاني المستصفي للغزالي فيما قاله الإسنوي في " نهاية السول " 1/ 4.(1/320)
أمَّا السُّؤال: فيُقال: هذه الحججُ مبنية على تحسينِ الظَّن بِحَمَلةِ العِلْمِ، والقولِ بأن المجروح نادِرٌ فيهم، وأنه إذا كان نادراً، فالحكم بالنادِرِ تقديمُ للمرجوح على الغالب الراجح، وتقديمُ المرجوح على الراجح ضروريُّ القُبْح، والتوقف أيضاً مساواة بين الراجح والمرجوح، والمساواة بينَهما على الإطلاق قبيحةٌ بالضرورة، لكن كونُ المجروحِ نادراً فيهم غيرُ مُسَلَّم، فإن وقوع الغيبة والحَسَدِ والمنافسة في الدنيا كثير فيما بينهم، والسَّالم من هذه الأشياء عَزِيْزٌ.
والجواب عن ذلك: أمَّا قوله: إن المجروحَ غيرُ نادرٍ فيهم، فهو بناء على أن كُلَّ مَنْ صَدَر منه فِعلٌ قبيح، فهو مجروحٌ، ومتى سُلِّمَ له أن العدالةَ هي تركُ جميع الذنوب والمعاصي، فالسؤالُ واقع، ولكن متى فسرنا العدالَةَ بهذه عزَّ وجودُهَا في جميع المواضع التي تُشْترَطُ فيها كعقدِ النكاح، والطَّلاقِ على السُّنَّة، والشهاداتِ في البيوع والحقوقِ والحدودِ، وقد دل الشرعُ على ما تبيَّن أن العدالة مرتبةٌ دونَ هذه المرتبة. وفي الحديث عن أبي هُريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " مَنْ طلبَ قَضاء المُسْلِمِينَ حَتَّى يَنَالَهُ، ثُمَّ غلبَ عَدْلُهُ جَوْرَهُ، فلَهُ الجَنَّةُ، ومَنْ غَلَبَ جَوْرُهُ عَدْلَهُ، فَلَهُ النَّارُ " رواه أبو داود (1)، وقال الحافظ ابن كثير: إسناده حسن (2).
ولأنهم يُسَمَّوْنَ مسلمينَ ومؤمنين، وقد دَلَّ السمْعُ على قبولهم كما تقدَّمَ، وقد قال بذلك أبو الحسين، لأنَّه قال في " المعتمد " (3) في تفسير لفظة العدْلِ -ما هذا لفظه- وتُعُورِفَ أيضاًً فيمن تُقْبَلُ روايتُهُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -،
__________
(1) برقم (3575) ومن طريقه البيهقي في " سننه " 10/ 88.
(2) كيف وفي سنده موسى بن نجدة الحنفي اليمامي وهو مجهول كما في " التقريب ".
(3) 2/ 621.(1/321)
وهو من اجتنب الكبائرَ والكذبَ والمُسَتَخفَّاتِ من المعاصي والمباحات، ومَثلَ للمستخفاتِ بالتطفيف بحبة، وللمباحات بالأكل على الطريق. ومما يُقَوِّيَ هذا ما ورَدَ في الحديث، وأجمعتِ عليه الأُمَّةُ من أنه لا تقبل (1) مَنْ بيْنَه وبينَ أخيه إحْنَةٌ (2) مع أنه مقبولٌ على مَنْ ليس بينَهُ وبينَه إحنة. فلم يُجْرَحِ المُسْلِمُ الثقةُ بالإحْنَة التي بينَه وبين أخيه ما لم يُسْرِفْ في العداوة إلى حدٍّ لا يتجاوزُ إليه أهلُ الدِّين، وأمَّا مجرد الإحنة، فوقوعها كثيرٌ بين أهل الخير قال الله تعالى: في صفة أهل الجنة {وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] وقد حكى الله تعالى وقوعَ بعضِ المعاصي مِن أنبيائه الكرام -عليهم أفضل الصلاة رالسلام- وقد جوَّز المنصور -عليه السلام- شهادة الفسقة المصرِّحين عند الضرورة، ونظراً إلى مصلحة العامة، فكيف بقبولِ مَنْ هو مِن القائمين بأركان الإسلام، والمجتنبين للكبائر، ولمعاصي الخِسّة، ولِمَا لَمْ تَشتدَّ المِحْنَةُ بملابسته من المعاصي؟! وإنك متى تركت شهادةَ هؤلاء ورِوايَتَهُم، واعتبرتَ قولَ المنصور بالله -عليه السلام- في العدالة: إنها الخروج مِن كل شبهة، ومحاسبةُ النفس في كل طرفةٍ ونحو هذا من التشديدات، تعطَّلت المصالحُ والأحكام، وتضرَّر جميعُ أهلِ الإسلام، ولم يَكَدِ الإنسانُ يجد مَنْ يشْهَدُ
__________
(1) أي: الشهادة.
(2) الإحنة: الحقد والضغينة، وقد أخرج الإمام أحمد 2/ 204 و208 و225، وأبو داود (3600) و (3601) وعبد الرزاق في " المصنف " (15364) والدارقطني 4/ 243، والبيهقي 10/ 200 والبغوي في شرح السنة (2511) من طريق سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغِمْرِ على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، وأجازها لغيرهم " وهذا سند حسن، وقواه الحافظ في " التلخيص " 4/ 198. وذو الغمر: الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، والغمر: الضغن. والقانع: الخادم والتابع.(1/322)
على النكاح، ولا يجدُ القاضي مَنْ يَشْهَدُ في الحقوق، ولا يجد العاميُّ مَن يُفْتيه، ولا القارىء من يُقرئه، سواءً كان طالباً للاجتهاد أو للتقليد، فإن المقلد أيضاً يحتاج إلى عدالة من يُقَلِّدُهُ، وعدالة من يروي له مذهبَ العلم، وأهْلُ التَّحَرُّزِ من الغِيبة، ومِن سماعها والقائمين بما يجبُ على الحدِّ المشروعِ من إنكارها، والمتنزهين من الشُّبهَات أجْمَعَ؛ أعزُّ من الكبريت الأحمر، وإذا وجدتَهم، فلا تكادُ تجدهم إلا أهلَ العِبَادَةِ والزُّهد والاعتزال دونَ أهل التدريس والفتوى.
فلو اشترطنا هذا في المفتي والمدرِّس، والشَّاهد في الحقوق، والشَّاهِدِ في النكاح، لعَظمَتِ المضَرَّةُ من غيرِ شك، وتعطَّلَتِ المصالِحُ بلا ريب.
وقد قال الشافعي في العدالة قولاً استحسنه كثيرٌ من العقلاء مِن بعده، قال: لو كان العَدْلُ مَنْ لم يُذْنِبْ لم تَجِدْ عدلاً، ولو كان كُلُّ ذَنبٍ لا يمنع من العدالة لم تَجِدْ مجروحاً، ولكن مَنْ تَرَكَ الكَبَائِرَ، وكانت محاسنُهُ أكثرَ من مساوئه، فهو عَدْل. حكى معنى هذا عنه النواويُّ في " الروضة " (1).
وقال عبدُ الله بنُ زيد في " الدُّرر" في تفسير لفظ العدل: ومعنى كونه عدلاً: أن يكون مؤدياً للواجباتِ، ومجتنباً للكبائِرِ من المستقبحات، وحديث أبي هريرة الذي قدّمناه في من غلب عدلُهُ جورَه يشهد لهذا. وما زال أهلُ الوَرَعِ الشَّحيح، والخوفِ العظيم يُقِرُّونَ بذنوبهم ويذمُّون أنفسَهم بذلك. وقد روى الأعمش عن إبراهيم التَّيميِّ، عن أبيه، قال:
__________
(1) " روضة الطالبين " 11/ 225 بتحقيقنا مع صاحبنا الشيخ عبد القادر الأرنؤوط نفع الله به.(1/323)
قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: لوْ تعْلَمُونَ ذُنُوبِي مَا وَطِىءَ عَقِبي اثْنَانِ، ولَحَثَيْتُم على رأسِي التُّرَاب، ولَوَدِدْتُ أنَّ اللهَ غَفَرَ في ذنباً من ذنوبي، وأني دُعيتُ عبدَ الله بنَ رَوْثةَ (1).
وروى الأعمشُ، عن إبراهيم التَّيميِّ، عن الحارثِ بنِ سُوَيْدٍ، قال: أكثرُوا على عبدِ الله يَوْمًا، فقال: والله الذي لا إلهَ غَيْرُهُ لوْ تعلمون عِلْمِي، لَحَثيْتُمُ التُّرابَ على رأسي (2). قال الذهبي (3): رُوِيَ هذا مِن غير وجه عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
وقد روى علقمةُ عن أبي الدَّرداءِ أنه قال: إنَّ الله أجارَ ابن مَسعودٍ من الشيطان على لسان نبيِّه (4). وجاء مِنْ غير وجهٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كنْتُ
__________
(1) رجاله ثقات أخرجه الحاكم في " المستدرك " 3/ 326 من طريق عبد الله بن وهب، عن سفيان الثوري، عن الأعمش به وصححه ووافقه الذهبي وإبراهيم التيمي: هو إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي تيم الرباب، هو وأبوه ثقتان من رجال الستة، وأخرجه الفسوي في تاريخه 2/ 548 من طريق سعيد بن منصور، عن أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله ... ورجاله ثقات أيضاً.
(2) رجاله ثقات، أخرجه الفسوي 2/ 549، وأبو نعيم في " الحلية " 1/ 133.
(3) انظر سير أعلام النبلاء 1/ 495 طبع مؤسسة الرسالة.
(4) هذا وهم من المصنف رحمه الله، فالذي رواه علقمة عن أبي الدرداء أن الذي أجاره الشيطان على لسان نبيه هو عمار بن ياسر وليس ابن مسعود، فقد أخرج البخاري في " صحيحه " (3742) في فضائل الصحابة من طريق إبراهيم، عن علقمة، قال: قدمت الشام فصليت ركعتين، ثم قلت: اللَّهم يسر لي جليسًا صالحًا، فأتيتُ قومًا فجلست إليهم، فإذا شيخ جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟ قالوا: أبو الدرداء، فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا فيسرك لي، قال: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: أو ليس عندكم ابن أم عبد صاحب النعلبين والوساد والمطهرة، أفيكم الذي أجاره الله من الشيطان يعني على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -؟ أو ليس فيكم صاحب سر النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يعلم أحد غيره؟ ... واستدركه الحاكم 3/ 326 على البخاري فأخطأ. وأخرجه أحمد 6/ 449 و451 وفي آخر الرواية الأولى: صاحب الوساد: ابن مسعود، وصاحب السر: حذيفة، والذي أجير =(1/324)
مُؤَمِّرَاً أحَدَاً مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ لأمَّرْتُ ابنَ أمِّ عَبْدٍ" (1)
وقال -عليه السلام-: " رضِيتُ لأُمَّتِي مَا رَضِيَ لَهَا ابنُ أمِّ عَبْدٍ " (2) وجاء عنه -عليه السلام- أنه قال: " اهْتَدُوا بهَدْي عَمَّار، وتَمَسكوا بعَهْدِ ابنِ أُمِّ عَبْدٍ " (3).
__________
= من الشيطان: عمار، وفي الرواية الثانية: أليس فيكم صاحب الوساد والسواك يعني عبد الله ابن مسعود، أليس فيكم الذي أجاره الله على لسان نبيه من الشيطان يعني عمار بن ياسر، أليس فيكم الذي يعلم السر ولا يعلمه غيره يعي حذيفة .. وهو في تاريخ الفسوي 2/ 534، 535 بنحو الرواية الثانية. وأخرج الترمذي (3811) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه، عن قتادة، عن خيثمة بن أبي سبرة قال: أتيت المدينة، فسألت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا فيسر لي أبا هريرة، فجلست إليه، فقلت له: إني سألت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا فوفقت لي، فقال لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، جئت ألتمس الخير وأطلبه، قال: أليس فيكم سعد ابن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغلته، وحذيفة صاحب سر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمار الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه، وسلمان صاحب الكتابين؟ قال قتادة: والكتابان: الإنجيل والفرقان. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(1) أخرجه أحمد 1/ 76 و95 و107 و108، والترمذي (3808) و (3809) والخطيب في " تاريخ بغداد " 1/ 148 وابن ماجة (137) والفسوي في تاريخه 2/ 534، وابن سعد في " الطبقات " 3/ 154 من طرق عن أبي إسحاق السبيعي، عن الحارث الأعور، عن علي والحارث ضعيف، لكن تابعه عاصم بن ضمرة وهو حسن الحديث عند الحاكم 3/ 318 فيتقوى ويعتضد.
(2) أخرجه الحاكم 3/ 319 من حديث عبد الله، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وله شاهد من حديث أبي الدرداء بلفظ: " رضيت بما رضي الله تعالى لي ولأمتي وابن أم عبد " أخرجه الطبراني كما في " المجمع " 9/ 290، قال الهيثمي: ورجاله ثقات إلا أن عبيد الله بن عثمان بن خيثم لم يسمع من أبي الدرداء.
(3) حديث صحيح رواه الترمذي (3805) والحاكم 3/ 75 من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن سلمة بن كهيل، حدثني أبي، عن أبيه، عن سلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن مسعود " وهذا إسناد ضعيف، إبراهيم وأبوه وجده ضعفاء، وصححه الحاكم ورده عليه الذهبي. =(1/325)
فإذا كان مثلُ هذا الصاحِب الجليل يُقسِمُ بالله الَّذي لا إلهَ إلا هو لَوْ يَعْلَمُ الناسُ ذنوبَهُ، لَحَثَوْا على رأسه الترابَ، فكيف بمن هو دونَه من سائر المؤمنين؟!.
والكلامُ في هذه الجملةِ يحتملُ التطويلَ، لتعلُّقه بالمصالح المرسلةِ وما يجوزُ منها، وما لا يجوز، وبالأقوالِ والحُجج في ذلك، وما يَرِدُ عليها، وما يُجَابُ به. وهذا بابٌ واسع، وبحر عميق، وليس القصدُ الاستيفاءَ، وإنما القصدُ التنبيهُ على مثارات الأنظار، وللناظر نظرة في مثل هذا. فهذه من المسائل الظنية، والأمرُ فيها قريبٌ إن شاء الله تعالى.
فهذه مُقَوِّمَاتٌ لاعتمادنا في رواية الحديث على مرسل الثقة، وإنما يعتمد عليها في إسناد الحديث وتسميته مسنداً وترجيحِهِ على المرسل، لأن رجال المسند من أهل العلم الَّذِين دلَّت هذه الوجوهُ على قبولهم. فأما قبولُه ومعرفةُ صحته، فاعتمادُنَا فيه على قبول المرسل على الشروط التي قدمناها، كما ذلك مذهبُ الجماهير من الأئمة -عليهم السلام-، وإن قدَّرنا عدمَ صحةِ الطريق المسندة.
__________
= ورواه الطحاوي في " مشكل الآثار " 2/ 83، وأحمد 5/ 385 و402 والحميدى في " مسنده " (449) والخطيب في " تاريخه " 12/ 20، والحاكم 3/ 75 من طرق عن عبد الملك بن عمير، عن مولى لربعي بن حراش، عن ربعي بن حراش، عن حذيفة ... ورجاله ثقات غير مولى ربعي -وسمي في بعض الروايات هلالاً- فإنه لم يوثقه غير ابن حبان، وقد تابعه عمرو بن هرم، عن ربعي بن حراش به عند أحمد 5/ 399 والترمذي (3663) وابن حبان (2193) والطحاوى 2/ 85، وسنده حسن في الشواهد.
ورواه ابن عدي في " الكامل " 2/ 666 من طريق حماد بن دليل، عن عمر بن نافع، عن عمرو بن هرم، قال دخلت أنا وجابر بن زيد على أنس بن مالك فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... وهذا سند حسن.(1/326)
الجواب السادس: أن كلام السَّيِّد -أيَّده الله- مما يجب عليه النظر في نقضه، لأنَّه ليس مما يختصُ بمحمدِ بنِ إبراهيم، بل هو تشكيكٌ في القواعد الإسلامية، وتشكيكٌ على أهل الملَّة المحمّدية، وذلك أًنَّهم أجمعوا على حُسْنِ الرجوعِ إلى الكِتاب والسُّنة في جميع الأحوال على الإطلاق، وأجمعوا على وجوبِ ذلك على جميع المكلفين في بعض الأحوال.
والسَّيِّد -أيَّده الله- بالغ في التشكيك على مَنْ أراد الرجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، بحيث لو تصدَّى بعضُ الفلاسفة للتَّشكيكِ على المسلمين في الرجوع إلى كتاب ربِّهم الذي أُنزِل عليهم، والاعتمادِ على سُنَّة نبيهم الذي أُرْسِل إليهم، ما زاد على ما ذكر السَّيِّدُ، فإنه شكك في صحة الأخبار النبوية، وطعن في جميع طُرُقِها، وطرَّقَ الشك في إسلام رُواتها، وفي إسلام من استطاعَ أن يُشكِّكَ في إسلامه، حتى شَكَّكَ في إسلامِ الإمامين الكبيرين مالكٍ والشافعيِّ، فمنع من معرفة حديثِ الفقهاء، وأوجب معرفةَ رجال الأسانيد، ومعرفةَ عدالتهم وعدالة مَن عدَّلهم، وعدالة من عدَّل المعدل، وهذا غيرُ موجودٍ في حديث أهلِ البيت -عليهم السلام- لِقبولهم للمرسل، ولهذا لم يصنفوا في الجَرحِ والتعديلِ، ومعرفةِ الرجال، واختصرُوا ذِكْرَ الأسانيد، فإن ذُكِرَتْ في بعض كتبهم البسيطة التي لا تُوجد في هذه الأرض، فذكرها لا ينفع، بل ذكُرها يَضرُّ، وذلك لأن المُرْسَلَ مقبولٌ عند كثير من أهل العلم.
وأما المسند فإنْ كان رجالُه معروفينَ بالعدالة، فمقبول بالإجماع، وإن كانوا غير معروفين، فمردودٌ عند من يقبل المرسلَ وعند من يشترط العدالةَ، والأسانيدُ الموجودة في كتب أهل المذهب مِن هذا القيد(1/327)
بالضرورة، لأنه لا يُعرف أحوالُ رجالها إلا بالرجوع إلى كتب الفقهاء في معرفة الرجال.
وأيضاً كثيرٌ من أهل البيت يقبل فُسَّاق التأويل، وقال المنصور بالله: هو الظاهِرُ مِنْ مذهبِ أصحابنا. وكثيرٌ منهم ادَّعى أن قَبولهم إجماع، ومن لا يقبلُهم، فإنه يَقْبَلُ مُرْسَلَ العدل الذي يقبلهم والذي لا يؤمن أنه يقبلهم، لأنهم نَصُّوا على قبول مرسل الثقة، ولم يشترطوا أن يكون الثقة ممن لا يقبلهم، فتطرَّف احتمالُ فسق التأويل إلى مُرْسَلِ أهلِ البيت - عليهم السلام- من يقبل المتأول ومن لا يقبل، وقد منع السَّيِّد مِن قبول كُلِّ حديث احتمل أن في رواتِه فاسِقَ تأويلٍ بمجرد الاحتمال، وقال: لا بُد من تبرِئةٍ صحيحة.
وسيأتي تحقيقُ هذه النكتة في الإشكال الرابع؛ آخر الفصل الثاني من الكلام في المتأولين.
فثبت بهذا أن السَّيِّد -أيَّده الله- سدَّ طريقَ معرفة السنَّة النبوية المروية مِن طريق العِترة، والمروية من طريق أهلِ الحديث، لأنَّه منع مِن قبول المرسل الذي مدارُ حديثٍ العِترة عليه، ومنع من معرفة عدالة أهل الأسانيدِ الَّتي مدارُ معرفة أهل الحديث عليها، ثم إنه شكَّك في معرفة معنى الحديث على تسليم صحته. وذكرَ صعوبةَ معرفةِ الناسخِ والمنسوخ، والخاصِّ والعامِّ، وغيرِ ذلك مما يأتي لفظُه ونَقْضُه، إن شاء الله تعالى.
ثم إِنه سلك ذلك المسلكَ في معرفة تفسير القُرآن بما فيه من الناسخ والمنسوخ، والعام والخاص، ووقوفِ العمل بالعام، والظاهر على معرفة(1/328)
ما في السنة مما يُوجب تأويلَ الظاهر، وتخصيصَ العام مع تشكيكِهِ في معرفة السنة، فأشكل حينئذٍ معرفةُ معنى القرآن، ثم شكك في معرفة اللُّغة والعربية اللَّتيْنِ هما عمودُ تفسيرِ الكتاب والسنة، ثم منع صحتهما عن اللغويين والنحويّين، وصرَّح بأن اتِّصال الرواية الصحيحة بهم متعذِّرٌ.
هكذا أطلق القول بهذا، وجزم به، وقطعه عن الشك والتردد، ولم يُبال بما يلزم منه مِن سدِّ باب رجوعِ المسلمين إلى كتاب ربِّهم -سبحانه وتعالى- الذي أنزله عليهم نوراً وهدىً وعِصْمَةً للمتمسك به أبداً، والقرآن الكريمُ هو عِصمةُ الأمة عند مَوْر بِحَارِ الضَّلالات إلى يوم القيامة، وليس عصمةً للقرن الأول من هذه الأمة، ولا لِلقَرن الثاني والثالث، بل هو حُجَّةُ الله العُظْمى على جميع عباده إلى يومِ يلْقَوْنَهُ.
ثم إن السَّيِّد شَكَّكَ في قبول النحويِّين واللغويِّين على تسليمِ صحة الرواية عنهم، وثبوتِ اتِّصالها بهم، فقال: إن قَبولَها منهم على سبيلِ التقليدِ لهم. ومنع من التفسير بهذا الوجه، وهذا ما لم يَقُلْ به أحد. وليت شعري!! كيف الاجتهادُ في ثبوت لغة العرب؟ وهل ثَمَّة طريقٌ إليها إلا بقولِ الثقات، مثل ما أنه لا معنى للاجتهاد في ثبوت الأحاديث النبوية إلا قبول الثقات، ومتى كان قبول الثقات تقليداً عند السَّيِّد، فهل يُوجب على المجتهدين أن يُحيوا الموتى مِن العرب، ثم يسألوهم عن العربية فيأخذوها عنهم مشافهةً مِن غير تقليد؟! أو كيف السبيلُ عنده إلى معرفة اللغة العربية بعد منعه من قبول الرواة، وتعليله لذلك بكونه تقليداً لهم لا بكونهم مجروحين ولا مجهولين؟! فأما المتواتراتُ الضرورياتُ، فلا تكفي المجتهد، ولا تُسمَّى معرفتُها فقهًا ولا اجتهاداً. وقد أجمع العلماءُ مِن جميع طوائف الإسلام قديماً وحديثاًً على قبول الثقات فيما لا يدخله النظر(1/329)
والاجتهاد إلا مَنْ شَذٍّ مِن متكلمة البغدادية، وانطبق إجماع السَّلَفِ الصالح على ذلك قَبل حدوث هؤلاء المخالفين، وأصفق فضلاءُ الأمة، ونجوم الأئمة بعدَهم على ذلك، ودانوا به قَرْناً بعدَ قرنٍ ما أنْكرَ ذلك أحَدٌ، ولا شَكٍّ فيه مسلم.
وقد أورد ابن الخطيب الرازي (1) في " محصوله " (2) هذه الشُّبهة بأطول من كلام السَّيِّد وأوسعَ، وهي إحدى دواهي كتابه، ولكنَّه هذَّبها على أسلوبٍ دقيقٍ يصعب على كثير من الناظِرين فيه كيفية الانفصالِ منه، لكنَّه أجاب عنها، ولم يسْكُتْ عليها كما فعل السَّيِّد -أيده الله-، والسيد منزَّه عن قصد التشكيك في الإسلام، ولكنه لما وَلِعَ بالتعنُّتِ في رسالته، لَزِمَه ذلك من غيرِ قصد، والتعنتُ والغُلُوُّ في الأمور يجر الإنسان إلى ما لم يقصد، ويجرُّ إليه ما يكره، ولهذا جاءت السنة بالاعتدال في جميع الأمور.
الجواب السَّابعُ: قال الله تعالى في حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وقال اللهُ تعالى فيما أوحاه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وهذا يقتضي أن شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تزالُ محفوظةً، وسُنَّتُه لا تبرح محروسةٌ، فكيف يكثر السَّيِّد -أيَّده الله- في تشويش قلوبِ الراغبين
__________
(1) هو الإمام الأصولي النظار المفسر فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين الرازي المتوفى سنة 606 هـ.
(2) انطر الجزء الأول ق 1 ص 275 - 297 بتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني.(1/330)
في حفظها، ويوعِّرُ الطريق إلى معرفة معناها ولفظها.
الجواب الثامنُ: أنَّ كتب الحديث وغيرَها مِن كُتُبِ الإسلام موجودةٌ بحمد الله في خزائن الأئمة والعلماء -رضي الله عنهم-، فلو قَدَّرْنا موتَ أهلِ العلم والعدالة، لجاز لنا أن نعمل بما في الكتب التي كتبت العلماءُ الثقاتُ عليها خُطُوطَهم بالصِّحة والسَّماع متى عرفنا أنها خطوطُهم، أو غلب صحةُ ذلك على ظنوننا بِالقرائن، أو أخبرنا بذلك من نثق به، وهذه إحدى طرائقِ (1) الرِّواية وهي المسمَّاة بالوِجَادَة (2)، وقد ذكرها الأصوليُّون والمحدِّثون.
وقال الإمام المنصورُ بالله -عليه السلام- في " صفوة الاختيار ":
فإن غلب على ظنِّه سماعُه، وعرف خطَّ شيخِه، أو خطَّ نفسه فيما يغلِبُ على ظنه أنها لا تقع إلا فيما سَمِعَه، فقد اختلفوا في ذلك، فحكى شيخُنا -رحمه الله- عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز له أن يرويه ... إلى قوله: وحكى عن أبي يوسفَ ومحمدٍ والشافعيِّ جوازَ روايته، ووجوبَ قبولِ خبره، والعمل به، وهذا غيرُ بعيد على أصلنا، بل هو الذي نختارُه، لأن أكثرّ الأخبار والشرائع منتهاها على غالب الظنِّ، والدليلُ على
__________
(1) في أ: طرق.
(2) الوِجادة ليست من باب الرواية، وإنما هي حكاية عما وجده، والقول بوجوب العمل بها هو الذي لا يتجه غيره في الأعصار المتأخرة، فإنه لو توقف العمل فيها على الرواية لانسد باب العمل بالمنقول لتعذر شرط الرواية فيها، فإذا اطمأن طالب العلم إلى صحة نسبة الكتاب إلى مؤلفه وكان ثقة مأموناً وجب أن يعمل بما فيه من الأحاديث بعد التأكد من صحة أسانيدها، وسلامتها من الشذوذ والعلة. انظر " مقدمة ابن الصلاح " ص 200 - 202، " وتوضيح الأفكار "2/ 343 - 352، وتدريب الراوي 2/ 60 - 64، ومقدمة جامع الأصول 1/ 87 - 88، و" الباعث الحثيث " ص 127.(1/331)
صحته أن الصحابة اتَّفقوا على العمل بما هذا حالُه، وأجمعوا على ذلك، وإجماعُهم حجَّةَ، ولهذا فإنهم رجعُوا إلى كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)، وأخذوا كثيراً من الشريعة منه، وعوَّلُوا على مجرَّدِ الخَطِّ لما غلب على ظنهم صحتُه، وأنه بإملاء النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الإمام المنصورُ باللهِ -عليه السلامُ- في " المجموع المنصوريِّ "، في الرسالة المعروفة " بالأجوبَة الرَّافِعة للإشكال الفاتحة للأقفال "، وقد أكثر من الاحتجاج بأشياء من سيرة الهادي -عليه السلامُ- ما لفظُه: فإن قيل: من أين لهم صحةُ ذلك؟
قلنا: هو مذكورٌ في سيرته، والرواية من الكتب المشهورة عندنا جائز وإن تعذَّرَ توصيلُ سماعها. فإن قيل: وَمِنْ أين يجوزُ ذلك؟ قلنا: دليلُه كتابُ عمرو بن حزم، فإنّ المسلمين رجعوا إليه وفصَّلُوا به الأحكام وبَعَّضوا القضايا، وليس معهم منه إلا مجرَّدُ الخطِّ والنِّسْبَةِ، وأجمعوا على ذلك، فلذلك قلنا: تجوز رواية الكتب المشهورة التي هي مضافة إليه وإن لم تكن سماعاً مفصَّلاً، فَتَفهَّمْ ذلِك موفَّقاً. انتهي بحروفه.
وفيه ما ترى مِن التصريح بأن الصحابة عَوَّلُوا على مُجرَّدِ الخطِّ لما غَلَبَ على ظنهم صِحته.
وقد احتجَ -عليه السلامُ- في كلاميه هذين بحجتين:
إحداهُما: أن كثيراً من الأخبار والشرائع مبناها على الظَّنِّ. وسيأتي
__________
(1) تقدم تخريجه ص 293.(1/332)
تقريرُ هذا الدليلِ في الجواب التاسِعِ -إن شاء اللهُ تعالى-.
وثانيهما: كتابُ عمرو بنِ حزم، وهو كتابٌ مشهورٌ مستفيض، وفيه كلامٌ كثير ذكره الحافظ ابنُ كثير (1)، البُصرويُّ، وقد اختصرتُه لِطوله، ولكنِّي أشيرُ إلى بعضه، فأقول: قال ابنُ كثير: قد رُوِيَ هذا الحديثُ مسنداً ومرسلاً، أمَّا المسند: فرواه جماعةٌ مِن الحفاظ، وأئمة الأثر، فرواه النسائي في " سننه "، والإمام أحمد في " مسنده " وأبو داود في كتاب " المراسيل " (2)، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدَّارميّ، وأبو يعلى المَوْصلي، ويعقوب بن سفيان في " مسانيدهم "، ورواه الحسنُ بنُ سفيان الفَسوي، وعثمان بنُ سعيد الدارميُّ، وعبدُ الله بن عبدِ العزيز البغوي، وأبو زرعة الدمشقيُّ، وأحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصُّوفي الكبير، وحامد بنُ محمد بن شُعيب البلخيُّ، والحافظ الطبرانيُّ، وأبو
__________
(1) هو أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن الشيخ أبي حفص شهاب الدين عمر القرشي البصروي الأصل الدمشقي النشأة والتربية والتعليم صاحب التفسير العظيم الذي لم يؤلف على نمطه مثله والبصروي: نسبة إلى بُصرى: مدينة تقع جنوب شرق دمشق، تبعد عنها 70 ميلاً تقريباً وقد ولد رحمه الله في قرية مجدل من أعمال بصرى سنة 701، ثم انتقل إلى دمشق سنة 706، في الخامسة من عمره، وتفقه بابن الفركاح ت 729، وسمع من عيسى بن المطعم، ومن أحمد بن أبي طالب الحجار 730، ومن القاسم بن عساكر ت 723، وإسحاق بن يحيى الآمدي ت 725، ولازم الحافظ أبا الحجاج المزي ت 742 صاحب " تهذيب الكمال " و " تحفة الأشراف " وبه انتفع وتخرج وتزوج بابته، وقرأ على شيخ الإسلام ابن تيمية ت 728 كثيراً ولازمه وأحبه، وانتفع بعلومه، وعلى مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي ت 748، وأجاز له غير واحد من أهل مصر.
برع في الفقه والتفسير والحديث والعربية، وجمع وصنف، ودَرَّس وحدَّث وألف، وكان كثير الاستحضار، قليل النسيان، جيد الفهم، حسن المفاكهة، سارت تصانيفه في حياته، وانتفع الناس بها بعد وفاته. توفي سنة 774 هـ.
(2) هو فيه، ورقة 17/أمرسل، وليس بمسند.(1/333)
حاتم بنُ حِبان البُستي في " صحيحه " من طريق سليمانَ بنِ داود (1) الخَولانيُّ مِن أهل دمشق، وقال: هو ثقة مأمون.
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أثنى عليه أبو زرعة وأبو حاتِم الرَّازِيَّان، وعثمانُ بنُ سعيد الدَّارميّ وجماعة من الحفاظ، ورأوا هذا الحديثَ موصولَ الإسناد حسناً.
وأمَّا المرسلُ، فقال ابنُ كثيرِ: وقد رُوِي مرسلاً من وجوه أُخر، كما رواه يونسُ بنُ يزيد، رواه عنه النسائي وأبو داود. وكذا رواه سعيد بن عبد العزيز رواه عنه النسائي. ورواه الشافعيُّ عن مالك، عن عبدِ الله بنِ أبي بكر بنِ محمد بنِ عمرو بنِ حزم عن أبيه مرسلاً، وكذا رواه الشافعي أيضاًً، عن مسلم بن خالد، عن ابن جُريج، عن عبد الله بن أبي بكر مرسلاً.
قال ابن جريج: فقلت لعبد الله بن أبي بكر: أفي شك أنت أنه كتابُ النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لا. ورواه عثمانُ بنُ سعيد الدَّارِميُّ، فقال: حدثنا نُعيمُ بنُ حماد، عن ابن المبارك، عن مَعْمَرٍ، عن عبدِ الله بن أبي بكر بن عمرو بنِ حزم، عن أبيه، عن جدِّه، فذكره بطوله، وقد أشار إلى نحوِ هذا الطريق أبو أحمد بنُ عديّ.
قلت: وذكر ابنُ كثير اختلافاً في صِحة الطريق الأوَّلِ من طُرق هذا الحديثِ وطوَّل الكلامَ في ذلك، ثم قال:
وعلى كل تقدير، فهذا الكتابُ متداولٌ بَيْن أئمة الإسلام قديماً
__________
(1) تقدم في الصفحة 293 في التعليق أن الحكم بن موسى غلط على يحيى بن حمزة في قوله: سليمان بن داود، وأن الصواب قول محمد بن بكار: سليمان بن أرقم كما رواه النسائي، وهو في أصل يحيى كذلك، وسليمان بن أرقم متروك الحديث، فسند الموصول ضعيف لا يصح.(1/334)
وحديثاًً، يعتمدُون عليه، ويفزعون في مُهِمَّات هذا الباب إليه، كما قال الحافظ يعقوبُ بنُ سفيان (1): ولا أعلم في جميعِ الكُتُبِ كتاباً أصحَّ مِن كتابِ عمرو بنِ حزمٍ، كان أصحاب رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - والتَّابعونَ يرجعُون إليه وَيَدَعونَ آراءهم.
وقال سعيدُ بنُ المسيِّب: قضى عُمَرُ بنُ الخطَّاب في الإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشرٍ، وفي الوَسَطٍ بعشرة، وفي التي تلي الخِنصر بتسع، وفي الخِنصر بستٍّ، فلما وُجِدَ كتابُ عمرو بن حزم وفيه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " وفي كُلِّ أصْبُعٍ مما هنالك عَشْرٌ من الإبل " صاروا إليه. رواه الشافعيُّ والنسائيُّ (2)، وهو صحيح إلى سعيد بن المسيِّب. فهذه هي الطريقُ الثانية المرسلة.
واعلم: أنَّ المنصورَ بالله -عليه السلام- قد احتجَّ بهذا الحديثٍ، وأشار في الاحتجاج به إلى الاعتماد على الإجماع على العمل به، وذلك واضح في كلامه، وقد طابقه على ذلك الحافظُ يعقوبُ بنُ سفيان، ونسب العملَ بِهِ إلى الصحابة والتابعين، وكذلك الحافظ ابنُ كثير البُصْرويِّ، فإنه ذكر ما هو في معنى دعوى الإجماع، كما تقدم. وقد خالف جماعةٌ من الحُفَّاظِ في بعض طُرُقِ هذا الحديثِ، وذلك لا يضُرُّ بعدَ ثبوتِ الإجماع على العمل به، ولعلَّهم لم يَعْرِفُوا هذا الإجماعَ، ومن عرف حجةٌ على من لم يعرف، إلا أن يكون خِلافُهم مخصوصاً بتلك الطريق مع الاعتراف بصحة الحديث من غيرها، فلا إشكالَ حينئذٍ. فهذا الكلام انسحب مِن
__________
(1) في كتابه " المعرفة والتاريخ " 2/ 216.
(2) مسند الشافعي 2/ 271، والنسائي 8/ 56.(1/335)
كلام المنصورِ باللهِ -عليه السلامُ- لبيانِ صِحَّةِ الحديثِ الذي احتج به -عليه السلامُ-.
ثم لِنَعُدْ إلى حكاية أقوالِ الأئمة والعُلماء في الرجوع إلى الخطِّ، فمن ذلك كلامُ الإمام يحيى بن حمزة -عليه السلام-، فإنه ذكر في كتاب " المعيار " طُرُقَ الرِّواية إلى أن قال: ورابعُها أن لا يكون متذكراً لسماعه ولا لقراءته لما في الكتاب، لكنه يَظُنُّ ذلك، لما يرى مِن خَطِّه أو قرينة غير ذلك، فهذا مما قد وقع فيه خلافٌ بَيْن العلماءِ، فذهب بعضُ أئمة الزيدية أن ذلك لا يجوز، وهو رأي الحنفية، وذهب الشافعيُّ إلى جوازه، وهو رأي أبي يوسف، ومحمد، واختاره ابنُ الخطيب الرازيُّ. والمختارُ عندنا: هو جوازُ العمل على ذلك، دون الرِّواية، لأن العمل إنَّما مستنده غلبةُ الظَّنِّ، وهذا حاصل ها هنا، فأمَّا الرِّواية، فلا بد فيها من أمر وراء ذلك، وهو القطع بمستندٍ يجوز معه الرِّواية. انتهى.
فانظر إلى تصريحه -عليه السلام- بأن العمل إنما مستندُه الظنُّ، وإتيانه بـ " إنما " المفيدة للحصر على سبيل المبالغة، لما كان هذا هو الغالبَ، وإلا فالعلم مستند للعمل صحيح، ولكن على سبيلِ الاتفاق، لا على سبيلِ الوجوب المتحتم، فلا يُشترط لذلك إلا الظَّنُّ، وانظر إلى قوله -عليه السلام- لما يرى من خطِّه أو قرينة غير ذلك، فأجاز العمل بأي قرينةٍ حصل معه الظَّنُّ، فانظر إلى تعليله بجواز العمل، وعدم جواز الرِّواية، فإنه واضح في بيان مقصده أنه يجوز العمل بالظَّنِّ الذي لا تَحِلُّ معه الرواية.
وقال الإمامُ المهدي محمدُ بن المطهر -عليه السلام- في كتابه(1/336)
" عقود العِقيان " في تفسير قوله -عليه السلام- في القصيدة:
رَوَيْنَا سَمَاعاً عَنْ عَلِيمٍ مُحقِّقٍ ... أبي القَاسِمِ الحَبْرِ المُفَسِّرِ بالفضل
قال -عليه السلام- ما لفظه: إن قيل: وهل يجوز أن يروى عن الخطِّ مِن غير قراءةٍ؟. قلتُ: هو أحدُ الطُّرُقِ عند بعضهم، وهو الذي اختاره حي سيِّدي ووالدي أميرُ المؤمنين -قدَّس الله رُوحَه ونوَّر ضريحَه- والوجه في ذلك أن كتابَ عمرو بنِ حزم روى عنه الجماعةُ مِن أرباب المواهب، وليس إلا أنه أخرجه من غيرِ سندٍ. فإذا صحَّ أن الكتابَ مسموع، وعليه خطوطُ الشيوخ، صحَّ للراوي أن يرويَ عنه، كان طريقاً للسَّماع، وقد أشار إلى ذلك الإمامُ المتوكلُ على الله أحمد بنُ سليمان -سلامُ الله عليه ورضوانُه- ونحوه عن الإمام المنصور بالله -عليه السلام- ذكرها في " الصفوة " وغيرها. انتهي كلامُه -عليه السلام- منقولاً من خطِّ يده المباركة.
فهؤلاء خمسة من نجوم أئمة العِترة -عليهم السلامُ- أحمد بن سليمان، والإمامُ المنصور بالله -عليه السلام-، والإمامُ يحيى بنُ حمزة، والإمام المطهر بن يحيى، والإمام محمد بن المطهر -عليهم السلام- أجازوا ما ذكرناه.
وقال الحاكم (1) في " شرح العيون ": إذا وجد في كتابه بخطِّه، وعلم أنه سمعه على الجملة، ولا يعلم أنه سمعه مفصَّلاً معيناً، فإنه يجوز له أن يَرْوِيَه، وهو قولُ أبي يوسفَ، ومحمدٍ، والشافعي، وأكثر العلماء.
وثانيها: أنه إذا علم في الجملة أن ما في كتابه سَمِعَهُ، ولا يذكُرُ متى
__________
(1) هو الحاكم الجشمي، وقد تقدمت ترجمته ص 296.(1/337)
سَمعَ، ولا كيف سَمِعَ، فإنه يجوزُ له أن يرويَ ويقبل عنه. قال القاضي: ويجب أن لا يقعَ فيه خلافٌ بينَ العلماء.
وثالثها: إذا رأى في كتابه بخطه، وظن أنه سمعه، غير أنه لا يتيقن، غير أنه يظن أنه لم يثبته بخطِّه إلا وقد سمعه مع تجويز خلافه، فعند أبي حنيفة لا يجوز أن يروي وهو اختيار القاضي وأكثر المتكلمين، وعند جماعة من أصحاب الحديث يجوز أن يروي إلى قوله في الاحتجاج على العمل على الكتابة، لأنَّ الصحابة والتَّابعين كانوا يَرْوُون مِن الكتب مِن غيرِ نكير، مع علمنا أنهم كانوا لا يتذكَّرون تفصيلَ ما فيه، ولأن الصحابة كان بعضهم يعْمَلُ على كتاب بعض. ألا ترى أن عُمَرَ كان يكتُبُ إلى عُمالِه وقُضاتِه، فيعملون بذلك (1). وكذلك كتب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال الشيخ أبو الحسين في كتاب " المعتمد " (2): وقد ذكرنا ما يفعل إذا علم سماعَه، وإذا لم يعلم ولا يظنُّ، ثم قال: ومنها أن لا يذكُرَ سماعَه لما في الكتاب، ولا قراءتَه له، ولكنه يَغْلِبُ على ظنه سماعُه له، أو قراءتُه، لما يراه من خطِّه، فهذا هو الذي ينبغي أن يكونَ الناسُ اختلفوا فيه، فعند أبي حنيفة أنه لا يجوز له أن يرويه، ولا أن يَعْمَل به، وعند أبي يوسف ومحمد والشافعيِّ يجوز له الروايةُ، ويجب العملُ عليها، لأن الصحابة كانت تعمل على كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو عملها على كتابه إلى عمرو
__________
(1) من ذلك كتابه إلى أبي موسى الأشعري، وهو كتاب جليل حافل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج ما يكونان إليه، وإلى تأمله، والتفقه فيه، وقد شرحه العلامة ابن قيم الجوزية شرحًا موسعًا استوعب 480 صفحة من كتابه القيم " أعلام الموقعين عن رب العالمين ".
(2) 2/ 627 و628.(1/338)
ابن حزم من غير أن يَرْوِيه لها راوٍ، بل عَمِلُوا لأجل الخطِّ، وأنه منسوبٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال عبدُ الله بنُ زيد في كتاب " الدرر المنظومة ": لا خلاف أنه متى عَرَفَ خطَّه أو خطَّ أستاذه، وعلم أنه لا يكتُبُ إلا ما سَمعه، قُبلَتْ روايتُه، وإنما اختلفوا إذا ظَنَّ أنه خطُّه أو خطُّ أُستاذه، فمذهبُنا أنها تُقبل روايتُه، وهو مذهبُ طائفة من العلماء، واحتج بوجهين:
الأول: أن من بحث عن الأخبار، علم أنه -صلى الله عليه وآلهِ وسلم- كان يكتُبُ إلى الآفاق، ويعمل على ما يأتيه مِن الكتب بالإسلامِ وغيره.
الثاني: أن الصحابة أجمعت على ذلك، فإن من عرف الأخبار، عَلِمَ ذلك عنهم، ولهذا عَمِلُوا على كتاب عمرو بن حزم مع ما فيه من الأحكام الكثِيرَة من النُّصُب والدِّياتِ وغيرِ ذلك.
وقال الرازي في " المحصول ": (1) ورابعها: أن لا يتذكَّر سماعَه، ولا قراءَته لما فيه، لكن يَظُنُّ ذلك لما يرى مِن خطه، ثم حكى الخلاف كما تقدَّم. ثم قال: لنا الإجماع والمعقول، أمَّا الإجماع، فهو أن الصحابة كانت تعمل على كُتُبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نحو كتابه لِعمرو بنِ حَزْمٍ مِن غير أن يقال: إن راوياً رويَ ذلك الكتابَ لهم، وإنَّما عملوا لأجل الخطِّ، وأنه منسوبٌ إلى الرسول، فجاز مثله في سائر الرواة، وأما المعقولُ، فلأن الظنَّ هنا حاصل، والعمل بالظن واجب انتهى.
قلتُ: أكثرُ ما احتجَّ به من تقدَّم ذكرُه حديثَ عمرو بن حزم ويمكن
__________
(1) الجزء الثاني القسم الأول 596 - 597.(1/339)
الاحتجاجُ ها هنا بغيره، من ذلك الحجةُ العقلية في العمل بالظنِّ، وتقريرها معروف وهي قويِّة جداً.
ومنها حديثُ ابن عمر مرفوعاً: " ما حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ لَه شَيءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن إلا وَوَصِيَّتُه مَكتُوبَةٌ عِنْدَهُ " متفق على صحته (1).
قال ابن تيميَّة عبد السلام (2): رواه الجماعة، واحتج به منْ يَعْمَلُ بالخَطِّ إذا عُرِفَ.
قلتُ: العلة في المعرفة ظن الصحة، فالتعليلُ به أولى من المعرفة.
ومنها عن ابن عباسٍ لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] قال: كان قومٌ بمكة قد أسلموا، وكانوا مستخفين بالإسلام، فلما خرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر وخرج المشركون، أخرجوهم معهم مكرهين، فأصيب بعضُهم يومَ بدرٍ مع المشركين، فقال المسلمون: أصحابنا هؤلاء كانوا مسلمين، أخرجوهم مكرهين، فاستغفِروا لهم، فنزلت، كتبوها إلى منْ بَقِيَ منهم بمكة، فخرجوا حتَّى إذا كانوا ببعض الطَّرِيقِ ظهر عليهم المشركون وعلى خروجهم، فلحقوهم، فردُّوهم، فرجعوا معهم فنزلت {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. فكتب المسلمون إليهم بذلك فنزلت: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ
__________
(1) أخرجه البخاري (2738) ومسلم (1627) ومالك 2/ 13، والترمذي (981) والنسائي 6/ 238 - 239، وابن ماجة (2699)، وأبو داود (2862)، والطبراني في " الكبير" (13189) والبغوي في شرح السنة (1457).
(2) هو الإمام أبو البركات شيخ الحنابلة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم الحراني المعروف بابن تيمية جد شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم المتوفى سنة 621 هـ. وكلامه هذا في " المنتقى " 6/ 142 مع شرحه نيل الأوطار في أوله كتاب الوصايا.(1/340)
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيم} [النحل: 110] فكتبوا إليهم بذلك. رواه البزَّار برجال الصحيح غير محمد بن شريك وهو ثقة. وروى البخاري بعضَه، قاله الهيثمي (1).
وفيه عملُهم الجميع بالخطِّ بالفطرة، كما عَمِلُوا بخبر الثقة بالفطرة، وظهور ذلك من غير نكير يقتضي إجماعهم، وهو حجة شرعية.
وقال الشيخُ الحافظُ ابنُ الصلاح في كتابه " علوم الحديث " (2) -ما لفظه-: القسم الثامِنُ: الوِجَادة، وهو مصدر أوجد يجِدُ مُوَلَّدٌ غيرُ مسموعٍ من العَرب. وروينا عن المعافى بن زكريا النَّهرواني العلاَّمة في العلوم: أن المولَّدِين فرَّعُوا قولَهم وِجَادَة فيما أُخِذَ من العلم مِن صحيفة، من غير سماع ولا إجازة ولا مناولة من تفريق العرب بين مصادرِ وجَد للتمييز بين المعاني المختلفة، يعني قولَهم: وجَدَ ضالَّته وُجْدَاناً، ومطلوبه وُجوداً، وفي الغضب مَوْجِدَةً، وفي الغنى وُجْداً، وفي الحبِّ وَجْداً.
__________
(1) في " مجمع الزوائد " 7/ 9 - 10، وأخرجه ابن جرير (10260) من طريق أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا أبو أحمد الزبيري، حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس، وهذا إسناد صحيح، أبو أحمد الزبيري: هو محمد بن عبد الله بن الزبير وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 205، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. ورواية البخاري المختصرة هي في صحيحه (4596) من طريق حيوة بن شريح وغيره، قالا: حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود الأسدي، قال: قُطِعَ على أهل المدينة بعث، فاكتُتِبْت فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس، فأخبرته، فنهاني عن ذلك أشد النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يُرمى به فيصيب أحَدَهم فيقتله، أو يضربُ فيقتل، فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} الآية.
(2) ص 157 - 159.(1/341)
مِثالُ الوِجادَة: أن تَقِف على كتاب شخص فيه أحاديثُ يرويها بخطِّه، ولم يلقه أوتقِيه، ولكن لم يسمع منه ذلك الذي وجده بخطِّه، ولا له منه إجازة ولا نحوها، فله أن يقول: وجدتُ بخطِّ فلان أو قرأتُ بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطه أخبرنا فلانُ بنُ فلان، ويذكر شيخه، ويسوق سائر الإسناد والمتن. هذا الذي استمر عليه العملُ قديماً وحديثًا، وهو مِن باب المنقطع والمرسلِ غير أنه أخذ شوباً من الاتِّصال بقوله: وجدتُ بخط فلان.
وإذا وجد حديثاًً في تأليفِ شخص، وليس بخطِّه، فله أن يقول: ذكر فلان، أو قال فلان، وهذا منقطع لم يأخذ شوباً من الاتصال. وهذا كُلُّه إذا وَثِق بأنه خطُّ المذكور وكتابُه، فإن لم يكن كذلك، قال: بلغني عن فلان، أو وجدت عن فلان أو نحو ذلك من العبارات، ولْيُفْصِحْ في المستند فيه بأن يقول ما قاله بعضُ من تقدَّم: قرأتُ في كتاب فلان بخطه، وأخبرني فلان أنه بخطه، أو يقول: وجدت في كتاب ظننت أنه بخط فلان، أو في كتاب ذكر كاتبه أنه فلانُ بن فلان، وفي كتاب قيل: إنه بخطِّ فلانٍ، فإذا أراد أن يَنْقُلَ مِن كتابٍ منسوبٍ إلى مصنف، فلا يقل: قال فلان كذا وكذا، إلا إذا وَثِقَ بصحةِ النُّسخةِ بأن قابلها هو، أو ثقة غيره على أصول متعدِّدَةٍ، كما نبَّهنا عليه في آخِرِ النوع الأول.
قلت: قال النواوي في " شرح مسلم " (1) -وقد ذكر قول ابنِ الصَّلاح هذا-: بل يكفيه أن يُقابِلَ الكتابَ على أصْلٍ واحدٍ صحيحٍ ولا يجبُ أن يُقابل على أصولٍ متعدِّدة.
__________
(1) 1/ 14.(1/342)
قلتُ: صدق النَّواوي، فإن الظَّنَّ يحصلُ بالمقابلة على أصلٍ صحيح، وإن كان واحداً.
قال ابنُ الصلاح: فإذا لم يُوجَدْ ذلك ولا نَحْوُه، فليَقُلْ: بلغني عن فلان، أو وجدتُ في نسخة من الكتاب الفلاني، وما أشبه هذا من العبارات. وقد تسامَحَ أكثرُ النَّاس في هذه الأزمان بإطلاق اللفظ الجازم في ذلك من غير تحدٍّ وتثبتٍ، فيطالع أحدهم كتاباً منسوباً إلى مصنف معيَّن، وينقل منه عنه مِن غير أن يَثِقَ بصحة النسخة قائلاً: قال فلان كذا وكذا، أو ذكر فلانٌ كذا وكذا. والصواب ما قدَّمناه، فإن كان المطالعُ عالماً فَطِناً بحيث لا يخفي عليه في الغالب مواضِعُ الإسقاط، وما اختلَّ عن جهته رجونا أن يجوزَ له إطلاقُ اللفظ الجازم فيما يحكيه مِن ذلك.
وإلى هذا فيما أحْسِبُ استروح كثيرٌ من المصنفين فيما نقلوه من كُتُبِ الناس، والعِلْمُ عندَ اللهِ تعالى. هذا كُلُّه كلامٌ في كيفية النقل بطريق الوِجادة.
وأما جوازُ العمل اعتماداً على ما يُوثَقُ به منها، فقد روينا عن بعض المالكيَّة: أن مُعظم المحدِّثين والفقهاء من المالكيِّين وغيرهم لا يَرَوْن العَمل بذلك. وحُكيَ عن الشَّافعي وطائِفةٍ من نُظَّارِ أصحابه [جواز العملِ به، قلت: قَطع بعضُ المحققين من أصحابه] (1) في أصول الفقه بوجوبِ العملِ به عند حصولِ الثِّقة به. وقال: لو عرض ما ذكرناه على جملة
__________
(1) ما بين حاصرتين سقط من الأصول كلها، واستدرك من المقدمة، ونص المؤلف في " تنقيح الأنظار " 2/ 348: وحكي عن الشافعي جواز العمل به، وقالت به طائفة من نظار أصحابه، وهو الذي نصره الجويني، واختاره غيره من أرباب التحقيق، قال ابن الصلاح: قطع بعض المحققين من أصحابه في أصول الفقه بوجوب العمل به عند حصول الثقة.(1/343)
المحدثين لأبَوْهُ، وما قطع به هُوَ الذي لا يَتَّجِه غيرُه في الأعصارِ المتأخرةِ، فإنه لو توقَّف العملُ فيها على الرِّواية، لا نسدَّ بابُ العمل بالمنقول، لتعذَّر شرطُ الرواية فيها على ما تقدَّم في النوع الأول -والله أعلم-. انتهي كلامُ ابن الصلاح.
وفي كتاب " المعتمد " (1) لأبي الحسين عن قاضي القُضاة ما يشهد لقوله: إنه يجوزُ لِلعالم الفَطِنِ بمواضع الأغلاطِ أن يقول فيما يَنْقُلُ: قال فلان، متى ظنَّ الصدق في ذلك، جازماً بنسبة القول إلى المصنف -وهذا لفظه في " المعتمد "- قال: وأمَّا ترجيحُ المُرْسَلِ على المسندِ، فلم يذهب إليه أكثرُ النَّاسِ، وذهب عيسى ابنُ أبان إلى الترجيح بهِ، لأن الثقة لا يُرسِلُ الحديثَ، ويقول: قال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا وقد وَثِقَ أن النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قاله.
قال قاضي القُضاة: هذا الكلامُ إنما يتوجَّهُ إذا قال الرَّاوي: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما إذا قال: عن النبيِّ، فإنه لا يتوجَّه، وأيضاً فإن قولَ الراوي: قال النبي -عليه السلام- يَحْسُنُ مع الظن، لكونه قائلاً لذلك كما يَحْسُنُ مع العِلْمِ، فَمِنْ أين أنه لم يقل: قال النبيُّ، إلا وظنُّه آكد مِن الظن الحاصِل برواية المسند المعارض. انتهى.
وقد اختلف العلماءُ في جواز عمل القاضي بكتاب قاضٍ آخرَ إليه في حقوق المخلوقين مع ما فيها من التشديد الذي لم يَرِدْ في الرواية، فحكى الرَّيْمِي (2) في " المعاني البديعة " عن الإمام مالكٍ، والحسنِ البصري،
__________
(1) 2/ 180 - 181.
(2) هو محمد بن عبد الله بن أبي بكر الحثيثي اليمني الريمي بفتح الراء بعدها ياء ساكنة =(1/344)
وسوَّارٍ القاضي، وعبد الله بنِ الحسن العنبري، وأبي يوسف: إذا عرف المكتوبُ إليه خطَّ الكاتب، وختْمه، جاز له قبولُه والعملُ به، وبه قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية، وعند أبي ثورٍ يجوزُ العَمَلُ بموجبه وقبولِهِ مِن غير شهادة عليه، ونسب مرةً ذلك إلى مالك وقال: في إحدى الروايتَيْنِ عنه.
الجواب التاسعُ: لو قدَّرنا صحةَ ما ذكره السَّيِّد من اختلال طريقٍ المعرفة لهذه الشريعة -وصانها الله تعالى عن ذلك- لم يَسْقُطْ وجوبُ العمل بالمظنون، وذلك لأن الأخبارَ الواردةَ في الواجبات والمحرَّمات، إمَّا أن نَظُنَّ صِدقَها أو لا؛ إن لم نَظُنَّ صدقَها، لم نخالف السَّيِّد في عدمِ وجوب العمل بها، وإن ظننَّا صدقها، ففي مخالفتها مضرَّةٌ مظنونةٌ وهي مضرَّةُ العِقاب على ترك الواجب وارتكابِ الحرام، ودفعُ المضرةِ المظنونة عن النفس واجب عقلاً. وهذا الدليلُ عوَّل عليه السيدُ الإمام أبو طالب، والإمام المنصورُ بالله - عليهما السلام، وكذلك الشيخُ أبو الحسين -رحمه الله- وسيأتي تحقيقُه، وهو قائم في كل خَبَرٍ من أخبار المتأوِّلين، والمجاهيل، والمجروحين بجرحٍ مختلفٍ فيه أو بجرح مطلقٍ غيرِ مفسَّر، وفيما يُوجد بخطوط العلماءِ في الكتب وغيرِ ذلك متى أفاد الظنَّ، إلا ما أجمعت الأمةُ على ردِّه من أخبار الكفَّار المصرِّحين، والفساقِ المصرِّحين.
الجواب العاشر: أنَّه لو صحَّ ما ذكره السَّيِّد -والعياذُ بالله- من
__________
= نسبة إلى ريمة ناحية باليمن. ولد سنة 710، وتفقه بمذهب الشافعي على جماعة من مشايخ اليمن، وسمع الحديث من الفقيه إبراهيم بن عمر العلوي، وشرح التنبيه في نحو عشرين سفراً، ودرس وأفتى، وكثرت طلبته ببلاد اليمن، واشتهر ذكره، وبعد صيته، وكانت وفاته سنة 791 هـ. " الدرر الكامنة " 3/ 486، و" شذرات الذهب " 6/ 325.(1/345)
انطماسِ معالم العلم، وتعفي رسوم الهُدى إلا تقليد الموتى، للزِم من ذلك أن تبطل الطريق إلى جواز تقليد الموتى، لأن التقليد لهم لا يجوز إلا بدليل يستند إلى معرفة الكتاب والسنة، والاستدلالُ بالإجماع على تقليد الموتى لا يصح بوجهين: أحدُهما: أنه قد ادُّعي الإجماعُ على تحريمه.
رواه المؤيَّد بالله -عليه السلام- في " الإفادة " في باب كيفية إزالة المنكر -ولفظُه-: وكثير من العلماء قالوا: إنه لا يجوز تقليدُ الميِّت، وادَّعوا الإجماعَ في ذلك. انتهي بحروفه. فالرجوع إلى الإجماع يُوجِبُ المنع منه.
الثاني: سلَّمنا أنه لم يَصِحَّ الإجماعُ على تحريمه، فلا شك أن قولَ الجماهيرِ من المعتزلة والزيدية تحريمُه، فأمَّا إجماعُ العامَّة عليه في الأعصار المتأخرة، فلا يُعتبر، إذ لا عِبرة في الإجماع بالعامة منفردين بالاتفاق، وانعقادُ الإجماع بعد الخلاف الكثير الشائع متعذِّر عادة، ولو سلمنا هذا الإجماع، فهو إجماع ظنيٌّ لا تثبت صحتُه إلا اجتهاداً بالاتِّفاق، وذلك لا يصح إلا معَ صحة الرجوعِ إلى الكتاب والسُّنَّةِ والقياس، والاستدلالُ بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُون} [النحل: 43] يحتاج إلى معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصة ولا معارَضة، ويحتاج إلى معرفة معناها، فهذان أمرانِ:
أحدهما: معرفة أنها غيرُ منسوخةٍ ولا مخصَّصَةٍ ولا معارَضة، والمعرفة لهذا تنبني على أن هنا سنة معروفة، وإلى معرفة ما فيها طريق مسلوكة بها يعرف أن فيها ناسخاً ومخصصاً ومعارضاً، أو وأنه ليس فيها شيءٌ من ذلك. والاستدلال بالأخبار يحتاج أيضاً إلى بقاء طريق الأخبار.
وثانيهما: معرفةُ معناها، ولا بُدَّ فيه من النظر، إذ ليسَ معلوماً(1/346)
بالضرورة، فاحتاج الناظرُ فيه إلى أن يكون من أهل الاجتهاد.
فإن قلت: إن دلالتَها على التقليد جليةٌ لا تحتاج إلى اجتهاد.
قلتُ: ليس كذلك، فإن في معناها غموضاً واختلافاً. والذي يدلُّ على ذلك: أنَّ السؤال من الأفعال التي تتعدَّى إلى مفعولين، تارةً بواسطة حرف جر مثل: سألت العالم عن الدَّليل، وتارة بغير واسطة مثل: سألت الأمير مالاً، وسألت العالمَ دليلاً. إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لا بُدَّ من مسؤول ومسؤول عنه، فالمسؤول في الآية مذكورٌ وهم أهلُ الذكر، والمسؤول عنه محذوف، فالقولُ بأن المسؤولَ عنه هو أقوالُ المجتهدين مِن هذه الأمة دعوى مجردة عن الأدلة مما لا يدل عليه دليل. وهذا المحذوف يحتمل أن يكون هو الأدلة، ويحتمل أن يكونَ هو المذاهبَ من غير أدلة. وقد قال بعضُ العلماءِ وهو السُّؤال عمَّا أنزل الله لقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3] فلما أُمرنا بسُؤالِ أهلِ الذِّكر، وكان الظاهرُ أنه أُمرنا بسؤالهم عما أُمرنا باتباعه مما أنزله علينا من الشرائع، وهذه الأقوال كُلُّها ضعيفة فيما يَظْهَرُ على اعتبارِ قواعد العربية، والمختار: أن المرادَ السؤالُ عن الرُّسُلِ: هل كانوا بشراً أم لا؟ لأن ذلك هو المذكورُ في أوَّل الآية، والعرفُ العربي يقضي بأنَّ ذلك هو المرادُ، والقرائن تسُوقُ الفهم إليه.
فإنه تعالى لما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي (1) إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْر} [النحل: 43] كان السابقَ إلى الأفهام: فاسألوهم عن كوننا ما أرسلنا إلا رجالاً، كما لو قال القائل: واجهتُ اليومَ الخليفةَ
__________
(1) هي قراءة حفص بالنون وكسر الحاء، وقرأ الباقون: (يُوحى) بضم الياء على ما لم يسم فاعله. انظر " حجة القراءات " ص 390.(1/347)
وسأل وزراءَه، كان المفهوم: وسألهم عن كوني واجهته، وهذا الذي ذكرت أنه المحذوفُ هو الذي اختاره العلامةُ الزمخشري (1) -رحمه الله- لم يَذْكُرْ سواه، ولكن لم يذكرِ الوجهَ في ذلك لجلائه.
وأيضاً فقوله: {إن كنتُم لا تَعْلمونَ} يفهم منه: أن الحكمة في سؤالهم الخروجُ مِن الجهل إلى العلم، أو يحتملُ ذلك، وهذا مانع مِن الاستدلال بها في التقليد. والذي يَدُلُّ على ذلك أن مَنْ قال: اشرب إن كنتَ ظامئاً، فُهِمَ منه أن المرادَ شربُ ما يُزيلُ الظمأ، فلو أن المأمورَ شَرِبَ سمناً أو عسلاً، وزعم أنه أراد امتثالَ ما أمر به، لعُدَّ أعجميَّ اللسان، أو بهيميَّ الجنان، وكذلك قولُه تعالى، {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فإنَّه يُفِيدُ سؤالاً يُخْرِجُ من الجهل إلى العلم، ولا شَكَّ أن التقليدَ لا يُفيدُ العلمَ بالإجماع، ولهذا لم يَحِلَّ التقليدُ في المسائل التي يجبُ العلمُ بها، ويمكن أن يقال: إنما فهم ذلك في قوله: اشرب إن كنت ظامئاً بالقرينة، ولذا يفهم عكسُه بالقرينة في قوله: سَلِ الأغنياءَ إن كنتَ فقيراً، فلا يفهم سؤالاً يُغني ويُخرج من الفقر. وقد يتجرد الشرط عن القرائن في الجنبتين، فلا يُفيد شيئاً، كقوله: صَلِّ إن شئت، ولكن في الآية مجرد احتمال، وهو مما يمنع القطعَ في الاستدلال.
فإن قيل: إنها مما ورد على سببٍ، ولا يُقصر عليه.
قلنا: ليسَ كذلك، لأن شَرطَ ذلك عمومُ لفظه ومعناه، ولفظ هذه الآية فيه حذف، فهو غيرُ ظاهرٍ، ومعناها خاصٌّ غيرُ عام، والعجب أن الأصوليين استدلوا بهذه الآية على جواز التقليد، من غير بيان لوجه
__________
(1) الكشاف 20/ 410 و411.(1/348)
الدَّلالة، ولا ذكر لهذا الإشكال مع جلائه.
وأما الاستدلال بالإجماع على جواز التقليد، فإنه يحتاجُ أيضاً إلى معرفةِ الكتابِ والسنةِ، لأنهما هما اللذان دلاّ على أن الإجماعَ حُجَّة، والأدلة من الكتاب على أن الإجماع حجَّة هيَ من الظواهر، ولا بدَّ من معرفة عدم النسخ والمعارض والمخصص. وأيضاًً قد منع السَّيِّد من معرفة اللغة، وقطعَ القولَ وجزمه بتعذُّرِ معرفتها، ومعاني الكتاب والسنةِ المستنبطِ منها جوازُ التقليد، وكونُ الإجماع حجَّةً مما يفتقِرُ إلى معرفة اللغة فإذا بَطَلَ معرفة تفسير القرآن، وبطلت طريق معرفة الأخبار، بطل أيضاًً ما هو فرعُ معرفة ذلك مِن جواز التقليد، فيلزم بطلانُ التكليف تقليداً واجتهاداً.
فإن قلتَ: هلا جوَّزتَ أن تُقَلِّد في كون التقليد جائزاً.
قلت: هذا لا يجوزُ على القول بأن أصل التقليد القبحُ إلا ما خصَّه الدليلُ، وهو قولُ المعتزلة والزيدية، وأكثرِ المتكلمين، ولا أعلم أحداً من أهل المذهب نصَّ على جوازه. ودليلُهم على أنه لا يجوز: أن العموماتِ قد دَلَّت على تحريمه، والتقليد إنَّما جاز في المسائل التي أفتى فيها الصحابةُ، ولم يذكروا الدليلَ كما قرَّره السَّيِّدُ الإمامُ أبو طالب -عليه السلام-، والصحابة إنما أفْتَوْا بمسائل الفروعِ دونَ مسائل أصولِ الفقه، وهذا الحكم مما نَظُنُّ أن السَّيِّد لا يُنازِعُ فيه، فلا حاجة إلى التطويل فيه.
فثبت بهذا أنه لا بُدُّ مِن صحة الرجوعِ إلى القرآن العظيم، والسنة الشريفة، وأن الطريقَ إلى معرفتهما متى تعذَّرت، تعذَّرَ الاجتهادُ والتقليدُ.(1/349)
وأما قول السَّيِّد: إنه يجوز التقليدُ في القطعيَّات والعمليَّاتِ لمن وافق الأدِلَّة القطعيَّة عملاً لا اعتقاداً دون من خالفَهَا، فهذا يحتاج إلى تمييز المقلد بين القطعيَّات والظنيّاتِ وحصرها، وهو يؤدي إلى إيجابِ الاجتهادِ عليه. وقد فَهِمَ هذا السَّيِّدُ، فأجاب بأنه مكلَّفٌ بالسؤال والبحث عن القطعيات حتى يتواتَرَ ذلك، وبعد تواترِ القطعياتَ، لا يَحِلُّ له تَقليدُ منْ خالَفَهَا، ذكره في آخر جوابه على ابن عثمان.
والجواب: أن هذه غفلة عظيمة، فإن شرط المعلوم بالتواتر أن يستند في الطَّرَفِ الأول إلى الضرورة المحسوسة وهذا إجماع، ولولا ذلك لتواتر للعامة أن الله ربُّهم، واسْتغْنوْا بذلك عن غيره، فاعلم ذلك على أن في القطعيات ما يختلِفُ العلماءُ: هل هو قطعي كالقياسِ الجليِّ والتأثيم به والتفسيق والتكفير، على أن ابن الحاجب وغيرَه من المحققين منعوا مِن وجودِ القطعيِّ الشرعي غيرِ الضروري، وحكموا بأنَّه لا واسطةَ بين الظَّنِّ والضرورة في فهم المعاني، كما أنَّه لا واسِطَة بينهما في تواتر الألفاظ بالاتقاق، والحجة على إثبات هذا القطعي المتوسط بينهما غير واضحة، وإثباته مِن غير حجة ممنوعٌ، والأصلُ عَدَمُ القطعيِّ غير الضروري، والمدِّعي له مثبت، وعليه الدِّلالةُ، والله سبحانه أعلم.
فإن أراد أن يتواتر الإجماعُ القاطعُ للعوام، لم يُغنهم حتى يعلموا أنَّه حُجَّةٌ، وقد تِقدَّم ما في ذلك، ثم حصولُهُ بعدَ انتشار الإسلام لمثلهم خصوصاً متعذِّر.
الجواب الحادي عشر: أنه لو تعذَّرَ الاجتهادُ في جميع المسائلِ لأجل تعسُّرِ شروطه، لتعذَّرَ التقليد في جميعِ المسائل لمثل ذلك، فإن معرفةَ جميعِ نصوصِ المقلِّدِ بإسنادٍ صحيح إليه مثلُ معرفة جميعِ ما يتعلَّق(1/350)
بالأحكام مِن الحديث، بل هِيَ أكثرُ مِن الحديث في هذا المعنى، والنسخُ يُوجد فيها نظيرُهُ، وهو الرجوعُ عن القولِ القديمِ، والتعارضُ موجودٌ في القولين إذا لم يُؤرخا، والتخصيصُ موجودٌ في كلام العلماء وكلامُهُم عربيٌّ غيرُ ملحون يحتاج إلى العربيّة، وجوازُ تقليدهم ينبني على معرفةِ اللهِ، وصدقِ الرسول، وزيادة معرفة أدلة جوازِ التقليد من نصٍّ أو إجماعٍ، ومعرفةُ ذلك الدليل توقفُ على أمورٍ قد مرَّت الإشارةُ إليها.
فإن قلتَ: التقليدُ يتجزأ دونَ الاجتهاد.
قلنا: كلامُنا في أنَّكَ حكمتَ بتعذُّرِ الاجتهادِ العام، ولم تحكم بتعذُّر التقليدِ العام، فإن أكثرَ أهلِ الفتوى والقضاء يدَّعيه، على أن تجزي الاجتهاد هو الصحيحُ عند الجمهورِ.
الجواب الثاني عشر: أن بطلانَ الاجتهادِ لا يجوزُ أن يثبت بالضَّرورة العقلية ولا الشرعية ولا بالدِّلالة العقلية، وهذا مما لا يحتاج إلى ذكر البرهان لجلائه، وبقي أن يثبت بالدلالة الشرعيَّة وهي التي زعم السَّيِّد أنها قد بطلت، فبقي أن السَّيِّد ادَّعى بطلانَ الاجتهاد لدلالة مجرَّدِ الاستبعاد وهذا لا يصلُح مستنداً -والله أعلم-.
وفي هذا القدرِ كفايةٌ في الجواب على قوله المتقدم في التنفير عن الاجتهاد، والتوعير لمسالك العلم، والتشكيك في دخوله في حيِّزِ الإمكان والتشويش على من أراده مِن أهل الإسلام.
قال: الثاني: أن أولئك المعدّلين معلولون بمثل هذا، أو مجهولةٌ براءتُهُم منه.
أقول: قد تعرض السَّيِّدُ -أيَّده الله- تعالى في هذا الكلام للتشكيك(1/351)
في أحوال المعدِّلين لِحملة العلم النبويِّ -على صاحبه أفضلُ الصلاة والسلام- فلا يخلو إما أن يُريدَ أن جميعُ المتكلمين في الجرح والتعديل من أئمة العلم وأعلام الهدى مشكوك في إسلامهم، أو يريد أن الأئمة الذين أسلف ذكرهم كذلك دونَ من عداهم من أئمة هذا الشأن، ثم أيضاً إما أن يُريد أن حالهم في ذلك مجهولة له (1) -أيَّده الله- فقط، أو مجهولةٌ لجميع أهلِ العلم، فهذه أربعُ مسائل:
المسألة الأولى: أن يكونَ حالُ أولئك الذين ذكرهم مجهولةً فقط دون سائرِ أهلِ العلم، ودونَ سائر أئمة هذا الشَّأْنِ.
الثانية: أن يكون حالُهُم مجهولةً له، ولجميع أهلِ العلم.
الثالثة: أن يكونَ جميعُ أئمة علم الرجال مجهولين له دونَ سائرِ أهلِ العلم.
الرابعة: أن يكونوا مجهولين له، ولأهل العلم.
فأما المسألتان الثالثة والرابعة، فلم يتعرض لذكرهما حتى يلزمَ الجوابُ عليه، وإنما نذكر ما تعرَّض له فقط خوفاً للتطويل، ولئلا نلزمه أمرأ قبيحاً مِن غير موجبٍ لذلك من قوله.
فلنتكلَّم على المسألتين الأولَيَيْنِ، فنقول: إما إن يدَّعيَ " السَّيِّد " الجهلَ بأحوال أولئك على جميع أهل العلم أو لا؛ إن ادَّعى ذلك، فهي دعوى باطلة، لأنَّه لا طريق إليها إلا أحد وجهين وكل واحدٍ من الوجهين باطل، وما لا طريقَ إليه إلا الباطل، فهو باطل، وكل هذه المقدِّمات
__________
(1) في ب: عنده.(1/352)
واضحة إلا انحصارَ الطريق إلى تجهيل جميع أهل العلم في وجهين، فيجب بيانها، والدليل على أنه لا طريق للسَّيِّد إلى تجهيل جميعِ العلماء بأحوال أولئك الحفاظ المشاهير: أن معرفةَ العلماء بأحوالهم وجهلهم لها مِن مكنونات الضمائر، وخفياتِ السَّرائر، وذلك مما لا طريقَ إليه إلا بالخبر، أو القياس، ولا طريقَ سِوى هذين إلى ذلك إلا علم الغيب الذي استأثر اللهُ تعالى به، وكُلُّ واحدٍ منها لا يَصِحُّ.
أمّا القياسُ، فلا يصح هنا، لأنك إما أن تقيسَ على نفسك، أو على غيرك، وكلاهما لا يجوز، لأنَّه قياس على مجرد الوجود، وهو ممنوع.
وأما الخبر، فلا يصح، لأنَّه لم يُوجد خبرٌ صادِقٌ عن الله، ولا عَنْ رسولِ الله يقضي بجهالَةِ العلماء لأحوال الرُّواة، فضلاً عن أحوالِ معدِّليهم، وكذلكَ أهلُ العلم لم يُخبروا عن أنفسهم بالجهل بذلك، فثبت أنه لا طريق للسَّيِّد -أيَّدَه الله- إلى القطعِ على أن جميعَ العلماء لا يعرفُونَ أحوال أولئك الَّذِينَ ذكر من معدِّلي الرّواة.
وبقي القسم الثاني، وهو أن يدَّعي السَّيِّد -أيده الله- أنه يجهل أحوالَهم، فهذه دعوى صحيحة مقبولة بإجماع الأمة، لأنَّ إقرارَ المسلم على نفسه بما يدخل عليه النقضَ، ولا يكون له فيه حظ، ولا على غيره منه مضرَّةٌ إقرارٌ صحيحٌ مقبول، ولكن ليس يَحْصُلُ منه منعُ جميع طلبة العلم مِن تعرُّفِ أحوال معدِّلي الرُّواة، فربّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فقد قيل: من طلب شيئاً وجدَّ، وجَدَ، ومن دَق باباً وَلَجَّ، وَلَجَ.
ثم إنا لو سلمنا للسَّيِّد -أيَّدَهُ اللهُ- جهلَ جميعِ أهل العلم بأولئك الذين ذكرهم، فإن ذلك لا يَسُدُّ بابَ الرِّوايةِ، فإنَّ اللهَ لو لم يخلق أولئك(1/353)
المذكورين، ما ضاع الدِّينُ، ولا بَطَلَتْ سُنَّةُ سيدِ المرسلين وأئمة الجرح والتعديل قدرَ ألفي إمامٍ، لو شئتُ لذكرتُهُم بأسمائهم، وفيهم مَنْ هو مِن الشيعة المعتدلين في صحة الاعتقاد وَمِن غيرهم مِن أهل العدلِ والتوحيد.
وقد ذكر أهلُ هذا الشأنِ في كتب الرِّجال خلقاً كثيراً من علماء الشيعة والاعتزال، وعدُّوهُمْ مِن عيون علماء الأثر، ونُقَّاد الرجال، ونسبُوا إلى كثير منهم الكلامَ في الجرح والتعديل، وعوَّلوا على كلامهم كُلَّ التعويل، وكتُب علم الرِّجال طافحةٌ بهذا.
وقد روى الحاكمُ في " شرح العيون " فصلاً في من روى عنه العدلُ مِن رواة الأخبار، وقال: نذكر منهم من اشتهر بذلك. وذكر المخالفين، فذكر من أهل المدينة اثنين وعشرين رجلاً، ومن أهل مكة عشرة، ومن أهل اليمن أربعة، ومن أهل الشام سبعةَ عَشَرَ، ومن أهل البصرة اثنين وسبعين، ومن أهل الكوفة ثمانية.
فهؤلاء مائةُ رجل وثلاثة وثلاثون، ذكرهم الحاكم أو أكثر منهم بيسير. وذكر أنه ذكر ما فيه كفاية، وأن استقصاء ذلك مما يطول به الكتابُ.
وكان فيمن ذكر من أهل المدينة: ابنُ أبي ذئب، ومحمدُ بن عجلان، وشريكٌ القاضي، وثورُ بنُ زيد، وابنُ أبي يحيى: هو إبراهيم ابن محمد (1) صاحب الموطأ الكبير وشيخ الشافعي، والوليدُ بنُ كثير،
__________
(1) هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي أبو إسحاق المدني، وهو متروك عندهم وبعضهم كذبه، وقد اعتذر ابن حبان للشافعي في روايته عنه بأنه كان يجالسه في حداثته ويحفظ عنه، فلما دخل مصر في آخر عمره، وأخذ يصنف الكتب احتاج إلى الأخبار، ولم تكن كتبه معه، فأكثر ما أودع الكتب من حفظه، وربما كنى عن اسمه. وانظر ترجمته في " التهذيب " و" ميزان الاعتدال ".(1/354)
وصالحُ بنُ كَيْسَان، ومحمَّدُ بنُ إسحاق صاحب السيرة وغيرها، ومحمدُ بنُ عبد الله بن مسلم الزُّهري (1). قال: وكان ممن خرج مع زيد بن علي، وجعفرِ بنِ محمد الصادق، ومحمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين -عليهم السلام-.
ومن أهل مكة: عمرو بنُ دينار، وعبدُ الله بنُ أبي نُجيح، ومسلمُ ابن خالد الزنجي (2) شيخ الشافعي، وسفيانُ بنُ عيينة، وعبدُ الله بن طاووس، وعطاءُ بنُ يسار.
ومِنْ أهل اليمن: وهبُ بنُ منبِّه، وأخوه همَّام.
ومن أهلِ الشام: مكحولٌ، والأوزاعيُّ، وعبدُ الرحمن بن واسع.
[ومن أهل البصرة]: إياسُ بن معاوية، والمباركُ بن فَضَالَةَ، وسعيدُ بن أبي عَرُوبَة، وهشامٌ الدستوائي، ومعاذ بن هشام، وأبان بن يزيد، ويحيى بن أبي كثير، وغندر، وعبد الرحمن بن مهدي، والأشعث ابن سعيد السمَّان، ومعمر، وأبو العوَّام عمران القطّان. ومُسَدَّدُ بنُ مُسَرْهَد، ومحمدُ بن سلام.
__________
(1) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الإمام العلم حافظ زمانه أبو بكر القرشي الزهري المدني نزيل الشام المتوفى سنة 144 هـ. له ترجمة حافلة في تاريخ دمشق لابن عساكر، وقد استلت منه، وطبعت بعناية شكر الله بن نعمة الله قوجاني في مؤسسة الرسالة سنة 1982، وله ترجمة موسعة أيضاًً في سير أعلام النبلاء 5/ 326.
(2) هو مسلم بن خالد المخزومي مولاهم المكي المتوفى سنة 179 أو ما بعدها، وهو فقيه صدوق إلا أنه سيىء الحفظ لا يحتج به، ولكن يصلح للمتابعة، ولقب بالزنجي مع أنه كان أشقر لمحبته التمر، قالت له جاريته: ما أنت إلا زنجي لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب.(1/355)
ومن أهل الكوفة: الشَّعبِيُّ (1)، وداودُ ابن أبي هِندٍ، وسلاَّم بنُ مطيع، وأبَو شهاب الَحنَّاط (2)، وعمرو بن مرَّة، ومسْعَرُ بنُ كِدام، ومحمد ابنُ شُجاع، وعلي بنُ المديني. قال: أخذ المذهبٌ عن ابن أبي دُواد (3) -هكذا ذكره الحاكم- وبهذا نَقَمَّوا عليه في كتب الرِّجال، ومن العجائب أن " السَّيِّد " ذكر خمسةُ معينين بأسمائهم من أئمة الجرح والتعديل فما سلموا له، بل غَلِطَ على أعرفهم بهذا الشأن، وفارِسِهم في هذا الميدانِ، وهو الحافظُ الجليل علي بنُ المديني المسمَّى عند رجال هذا العلم " حَيَّة الوادي " (4) لتميُّزه عن الحفَّاظ بفرطِ الذَّكاءِ، وشِدَّةِ الحفظ والتَّيقُّظِ للاستدراكات الخفِيَّة، والمعارف اللطيفة، وهو شيخُ البخاري، وشيخُ شيخِ البخاري الذُّهلي (5)، وشيخُ أبي داود صاحب السنن، وشيخُ البغويِّ (6).
قال أبو حاتِم: كان ابنُ المديني علماً في الناس في معرفة الحديث
__________
(1) هو عامر بن شراحيل الشعبي ثقة فقيه فاضل مشهور روى له الستة.
(2) في الأصل: الخياط وهو تصحيف، وهو موسى بن نافع الأسدي، ويقال: المدني، ويقال: البصري أخرج حديثه الشيخان.
(3) قال الإمام الذهبي في " ميزان الاعتدال " 3/ 138: ذكره العقيلي في " الضعفاء " (لوحة 267) فبئس ما صنع، فقال جنح إلى ابن أبي دُواد، وحديثه مستقيم إن شاء الله. وابن أبي دواد: هو أحمد بن أبي دُواد فرج بن جرير بن مالك قاضي القضاة أبو عبد الله الإيادي كان فصيحاً مفوَّهاً شاعراً جواداً ممدَّحاً رأساً في الاعتزال، وهو الذي شغب على الإمام أحمد وأفتى بقتله، وبسببه وفتياه امتحن الإمام أحمد وأهل السنة بالضرب والهوان على القول بخلق القرآن. توفي سنة 240 هـ.
(4) يقال: فلان حية الوادي: إذا كان نهاية في الدهاء والعقل.
(5) هو محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذؤيب الذهلي ثقة حافظ جليل، وقد وقع بينه وبين البخاري جفوة بسبب مسألة اللفظ. انظر التفصيل في مقدمة الفتح 490 - 491.
(6) هو الحافظ الثقة الكبير مسند العالم أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي الأصل البغدادي المتوفى سنة 317 هـ. مترجم في " تذكرة الحفاظ " 2/ 737 - 740.(1/356)
والعلل، وما سمعتُ أحمدَ بنَ حنبل سمَّاه قطُّ، ولكنه كان يُكنيه تَبجيلاً له.
وعن ابن عُيينة قال: يلومونني على حُبِّ عليِّ بن المديني، واللهِ لما أتعلَّمُ مِنه أكثرُ مما يتعلَّمُ مني.
وقال أحمد بن سِنان: كان سفيانُ بن عُيينة يسمي علي بن المديني " حية الوادِي ".
وقال رَوْحُ بنُ عبد المؤمن: سمعتُ عبد الرحمن بنَ مهدي يقول: عليٌّ ابن المدينيِّ أعلمُ الناس بحديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وخاصة بحديث سفيان بن عُيينة.
وقال القواريري (1): سمعتُ يحيى القطَّان يقول: أنا أتعلَّمُ مِن عليٍّ أكثرُ مما يتعلَّم مني.
وقال النَّسائي: كأن عليَّ بنَ المديني خُلِقَ لهذا الشأن.
وقال إبراهيمُ بن مَعْقِل: سمعت البخاريَّ يقول: ما استصغرتُ نفسي عندَ أحدٍ إلا عند علي بن المديني.
وقال أبو داود: ابن المديني أعلم من أحمد بن حنبل باختلاف الحديث.
وقال النواوي: لابن المديني نحو من ثمانين مصنفاً، وقال الذهبي: علي بن المديني (2) حافظُ العصرِ، وقدوةُ أرباب هذا الشأن، وقال فيه: مناقب هذا الإمام جمَّة (3).
__________
(1) هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ثقة ثبت من رجال الشيخين.
(2) من قوله: وقال أبو داود إلى هنا سقط من (أ) وهو بهامش ب، وقد ذكر في نهايته: صح.
(3) ذكر ذلك في " تذكرة الحفاظ " 2/ 428، ووصفه في " سير أعلام النبلاء " 11/ 41 =(1/357)
وأقول: إني لو شئتُ، لذكرتُ تراجمَ أئمة الجرح والتعديل مِن أهل العدلِ والتوحيد في أجزاء كثيرة، ولو أورد إلا تراجم هؤلاء الذين اختصرتهُما ممّن ذكر الحاكم لطال الكلامُ، فكيف لو نذكر جميعَ من ذكر الحاكمُ بتراجمهم المطوَّلَة في كتب الرجال، فكيف لو نَضُمُّ إليهم من لم يذْكرْهُ الحاكِمُ -رحمه الله- من علماء التشيُّعِ والاعتزال، ألم يكن يتَّسعُ المجالُ، ويطول المقالُ؟ ولكن ذلك -بحمد الله تعالى- معروفٌ في مواضعه، فلا حاجة إلى نقله. وكان من اللائق أن نذكر ها هنا تراجمَ هؤلاءِ الحفاظِ الخمسة الذين ذكرهم " السِّيِّد " وشكك في إسلامهم، ونذكر جملاً مختصرةً من أخبارهم، ولكنه يطول ولا نُحِبُّ، إذ المقصودُ هو بيانُ إمكانِ معرفة السُّنَّة، وأن ذلك لم يدخل في حيِّزِ اُلمحالات، وقد حصل بيانُ ذلك من غير ذكر حالِ هؤلاء الحفاظ.
وأما القدحُ على بعضهم بالتأويل في بعض المسائل، فسوف يأتي الكلامَ عليه في موضعه -إن شاء الله تعالى-.
أقصى ما في الباب أن يَصِحَّ ما توهَّمَهُ السَّيِّد من القدحِ في جميع معدِّلي حملةِ العلم النبويِّ، أو تُهمتُهم بذلك، فذلك مما لا يَقْدَحُ على الإطلاق، وإنما يَقْدَحُ على من قال بمسألتين:
إحداهما: ردُّ المرسل، والثانية: الجرحُ بالتأويل.
لكنَّا قد قدَّمنا أن المرسَل مقبول عند الزيدية والمعتزلة والحنفية
__________
= بقوله: الشيخ الإمام الحجة أمير المؤمنين في الحديث، وقال في " الميزان " 3/ 141: وأما علي بن المديني، فإليه المنتهي في معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال، وسعة الحفظ، والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه.(1/358)
والمالكية، وأنه قد ادُّعي إجماعُ التابعين على قبوله، وكذلك سوف يأتي إثبات إجماع الصحابة على قبول المتأولين من عشرِ طرق.
قال: الثالثُ أن اتَّصالَ الرواية بكتب الجرح والتعديل متعسِّرةٌ أو متعذِّرة على وجه العدالة الصحيحة.
أقول: السَّيِّد -أيَّده الله- متردِّدٌ متحيِّرٌ ما درى، أهذه الأمور مُتعسِّرةٌ أو مُتعذِّرة؟ فلا يزالُ يكرِّرُ الشكُّ في ذلك، والشاكُّ لا ينبغي له أن يعترض على من ادعى إمكان ما هو شاكٌّ في إمكانه، لأنَّ مِن شَرْطِ مَن جَوَّزَ شيئاً وشكَّ فيه أنْ لا يُكذِّبَ من ادَّعاه، فإنْ قَطَعَ السَّيدُ - أيَّده اللهُ- بتعذُّرِ ذلك سقط التكليفُ به، لأن التكليفَ لا يتعلَّق بما لا يُطاق، وإن جوَّز أنه مقدورٌ، فلا معنى لذكر تعسُّرِ المقدور متى كان واجباً أو مندوباً، كما قدَّمنا ذلك في التنبيهات المتقدمة. والجواب على ما ذكره السَّيِّد من وجوه:
الأول: أن كتب الجرحِ والتعديل مثلُ سائرِ المصنَّفات، فكما إنه يُمْكِنُ سماعُ سائر المصنفات في جميع العلوم، فكذلك يُمكن سماعُ كتب الجرح والتعديل، وليس إضرابُ منْ ليس له رغبة فيها عن سماعها يَدُلُّ على ما توهمه السَّيِّدُ، فإن طلبة علم الحديث في أقطار الإسلام محافظون على سماعها ملازمون لقراءتها، وشيوخُها موجودون في اليمن ومكة ومصر والشام والعراق والغرب، وسائر الأمصار الكبار في المملكة الإسلامية، والناس لا يزالون يخنلفون إلى هذه الأقطار والأمصار لأدنى الأغراض الدنيوية، ومن كان محبّاً للعلم طلبه حيث كان وارتحل في تحصيله إلى أبعد مكان. وقد روى الحاكم في " المستدرك " (1) عن جابر بن عبد الله الصحابي -رضي الله عنه-: أنه سافر
__________
(1) 2/ 427 - 428 و4/ 437 - 438، وصححه في الموضعين، ووافقه الذهبي مع =(1/359)
شهراً كاملاً لطلب حديث واحدٍ، وهو حديثُ القِصَاصِ بلغه عن عبدِ الله بن أنيْس فسافر إليه إلى مصر حتَّى سمعَه مِنْهُ.
وقد ورد في صحيح مسلم عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ومَنْ سَلكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهَا عِلْماً سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقاً إلى الجنَّة " (1) وقد ذكر العلماء فضل الرحلة، ومن أعظم ما يستدل به على فضلها قصة موسى -عليه السلام- في طلب الخضر (2) -عليه السلام- فإنه لما قال الله له: إن لنا عبداً هو أعلمُ مِنْكَ، ارتحل في طلبه، وسأل اللهَ لُقياه، وقال لفتاه: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60]. والحقب: الدهر، وقيل: إنه ثمانون سنةً. هذا مع أنه كليمُ الرحمن، ومعلوم أنه لا يحتاج إلى الَخضِر -عليه السلام- في معرفة شيء من الحلال والحرام. فهذه رحلة في طلب الزائد على الكفاية من العلمِ وفيها دليلٌ للمستكثرينَ مِن طلب المعارف، وقد قال الله تعالى لنبيِّه -عليه السلام-: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] مع ما آتاه الله تعالى من العلم العظيم. فإذا كان الأمرُ كذلك، فلا معنى للتَّخذيل من طلبِ فنٍّ من علومِ الدين وإيهام الضعفاءِ أنه مِن جملة
__________
= أن في سنده عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي وهو صدوق إلا أن بعض أهل العلم تكلم فيه من قبل حفظه، فهو حسن الحديث، وأخرجه البخاري في " الأدب المفرد " (970) وعلقه في موضعين من صحيحه من 1/ 173 في العلم: باب الخروج في طلب العلم و13/ 453 في التوحيد وأحمد 3/ 495، والطبراني في " المعجم الكبير " والخطيب في الرحلة في طلب الحديث (31) وحسنه الحافظ في " الفتح "، ولعبد الله بن محمد بن عقيل متابع عند الطبراني في " مسند الشاميين " كما في " تغليق التعليق " ص 1890 و1891 من طريق الحجاج بن دينار، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، وقال في " الفتح " 1/ 174: إسناده صالح.
(1) هو في صحيح مسلم (2699) في الذكر والدعاء: باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر من حديث أبي هريرة.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة 218.(1/360)
المحالات، فإن طلبة العلم إذا وقَفُوا على مِثْلِ كلام " السَّيِّد " مع جلالة قدره، ومع قُصور هِمَمهِمْ، كان ذلك مُفَتِّراً لعزائمهم، مضعفاً لِهِمَمهِمْ.
الثاني: أن معرفة كتبِ الجرح والتعديل غيُر مشترطة في الاجتهاد عند جماهير العِترة ومنْ لا يحُصى من العلماءِ كثرة، لأنَّ أهلَ كُتُبِ الحديثِ من أهل البيت والمحدِّثين قد صَحَّحوا ما صنفوا، والعُهْدَةُ عليهم في ذلك، وهو المختارُ متى حصل الاتفاق في شروط التصحيح بين القابلِ له والمقبولِ منه، وإنما يحتاج إلى كُتُبِ الرجال عند الاختلاف في ذلك، أو في معرفة أحاديثِ المسانيد، كمسَند أحمد بن حنبل، ومسند الدَّارمي، ومسند بقي بن مَخْلَدٍ (1) وهو " المسند الكبير "، والمسند الكبير للحافظ الماسَرْجِسِي (2)، وهمُا من أكبر دواوين الإسلام، فمسند الماسرجسي فرغ في ثلاثة آلاف جُزءٍ مهذَّباً معللاً يأتي في مقدار ثلاث مئة مجلد كبار على أعظم ما يكون من التعليل، ومسند بَقِي قريبٌ منه، وغير هذه من كتب المسانيد ما لا يُحصى كثرة، وكُلُّها تحتاج إلى كُتُبِ الرجال، لأن شرط أهلِ المسانيد أن يرووا الصحيحَ والضعيف،
__________
(1) هو الإمام شيخ الإسلام أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد بن يزيد القرطبي الحافظ المتوفى سنة 276 هـ. قال ابن حزم: كان إماماً زاهداً صواماً صادقاً، كثير التهجد، مجاب الدعوة، قليل المثل، مجتهداً، لا يقلد أحداً، بل يفتي بالأثر، روى في مسنده عن ألف وثلاث مئة صاحب ونيف، ورتب حديث كل صاحب على أبواب الفقه، فهو مسند ومصنف، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله في الحديث. بغية الملتمس ص 245، وتاريخ علماء الأندلس 1/ 91 - 93، و" سير أعلام النبلاء " 13/ 285 - 296.
(2) هو الحافظ البارع أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد بن أحمد بن محمد بن الحسين بن عيسى النيسابوري المتوفى سنة 365 هـ. قال الحاكم: هو سفينة عصره في كثرة الكتابة ارتحل إلى العراق في سنة إحدى وعشرين، وأكثر المقام بمصر، وصنف المسند الكبير مهذباً معللاً في ألف جزء وثلاث مئة جزء، وجمع حديث الزهري جمعاً لم يسبقه أحد، وكان يحفظه مثل الماء، وصنف الأبواب والشيوخ والمغازي والقبائل وخرج على صحيح البخاري كتاباً، وعلى صحيح مسلم، وأدركته المنية قبل الحاجة إلى إسناده، ودفن علم كثير بدفنه تذكرة الحفاظ 3/ 956.(1/361)
وُيبيِّنُو رجالَ الإسناد، ويُبدو صفحتَه، وعلى مَنْ أحب أن يعرف حكمه أن يَنْظُرَ في كتب الرجال، وأما أهلُ الصحاح والسنن (1) وكتب الأحكام، فإنهم يُبيِّنُونَ الصحيحَ وشروطَه عندهم، وكذلك الضعيف والحسن والمنكر والغريب والمعل والناسخ والمنسوخ وغير ذلك.
وقد بيَّنا نصوصَ العلماء على أن كتاباً مِن هذه الكتب يكفي منْ أرادَ الاجتهادَ (2)، فما الموجبُ لمعرفة كتب الجرح والتعديل على كل تقدير.
ثم إنَّ السَّيِّد -أيَّده الله- نسيَ طريق أهل البيت -عليهم السلام- بالمرة. فنقول له: هَبْ أن كُتبَ الجرحِ والتعديل، وجميع تواليف مَنْ ليس بعدلٍ في التأويل قد تعسَّرَتْ وتعذَّرَتْ، وهَبْ أني ممن لا يقبل أهلَ التأويل، فما لك ولتعسير الاجتهاد، والتنفير عن طلب العلم؟! وهلاَّ أمرتني بطلب الاجتهاد من كتب أهل البيت -عليهم السلام- وتركْت التخذيل عن طلب الاجتهاد الذي هو أساسُ قواعدِ الإسلام.
قال: الرابع: أنَّ تعديلَ هؤلاء الأئمة مَنْ بينَهم وبينَ الرسولِ إنما يَقَعُ على سبيلِ الإجمال غالباً، والتعديلُ الإجمالي إنما يَصِحُّ مِن موافقٍ في المذهب بعد كونِه عارفاً بوجوه الجرح والتعديل، عدلاًً مَرْضِياًّ. وقيل: لا يصح وإن كان المُعدِّلُ كذلك، بل لا بد من التفصيل، وقيل: يَصِحُّ الإجمال مطلقاً وهو ضعيف.
__________
(1) فيه نظر، فإن أهل السنن يشاركون أصحاب المسانيد في إيراد الأحاديث الضعيفة في مصنفاتهم دون أن يبينوا درجتها إلا أن ذلك يعد قليلاً بالنسبة للمسانيد.
(2) الصواب أنه لا بد من النظر في كتب الأحاديث التي يتاح له الوقوف عليها، ويتيسر له النظر فيها، والبحث في أسانيدها، والحكم عليها حسب القواعد المرسومة في كُتُبِ المصطلح ليتسنى له الإفادة من صحاحها وحسانها، واطراح ما لا يصح منها، ولا يغني الباحث المجتهد في هذا الباب اعتماد كتاب من كتب السنة وحده، والاقتصار عليه.(1/362)
أقولُ: ما أدري ما حمَلَ السَّيِّد -أيده الله- على حكايةِ المذاهب في هذه المسألة من غير ذكر شيء من الأدلة، وهو ممن لا يخفي عليه ما في هذا من الشين عند أهل هذا الشأن، وإنما يجب الإيمانُ بكلام الله تعالى، وكلامِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلو أنِّي عاملت السَّيِّدَ بمثلِ ما جاء به، لقلتُ: إن الذي ضعفه قويٌّ، وإنَّ ذلك ظاهر جليٌّ، فمجردُ الدعوى لا يَعْجِزُ عنها أحد، ولكن لا بد من الإشارِة إلى الدليل على قوة ما استضعفه -أيده الله- على سبيل الاختصار.
فأقول: الجوابُ على ما أورده مِن وجوه:
الوجه الأول: أن هذه مسألة خلاف بين الأصوليين والمحدِّثين، فقد حُكِيَ فيها خمسةُ أقوالٍ لأهل العلم:
منهم مَنْ قَبِلَ الإطلاقَ في الجرح والتعديل معاً.
ومنهم منْ منع ذلك فيهما معاً.
ومنهم منْ فصَّلَ.
واختلفوا على ثلاثة أقوال:
منهم مَنْ قَبِل الإجمال في التعديل دونَ الجرح، وهو اختيارُ الشافعي وجماعة، ومنهم من عكس هذا، وقال بعضهم: إنْ كان الجارحُ أو المعدِّلُ مِن أهلِ العلمِ، قُبِلَ، وإلا لم يُقْبَل، وأفاد السَّيِّد -أيَّده اللهُ- قولاً سادساً: وهو أنه إن كان موافقاً في الاعتقاد، وكان مِن أهل العلم قُبِلَ وإلا لم يُقبل.
فإذا ثبتَ هذا الخلافُ الكثيرُ في هذه المسألة، فلا معنى للترسُّل(1/363)
على مَنْ ذهب إلى أحد هذه الأقوال، فمن قويَ عنده بعضُها، فله العَمَلُ به، إذ ليس فيها ما هو مخالفٌ للإجماع القطعيِّ، ولا للنَّصِّ المتواترِ اللفظ، المعلومِ المعنى، فتعَرُّض السَّيِّد -أيده الله- للتشغيب بالكلام في هذه المسألة من جملة التَّعنتِ المنكر في كتابه، إذ لم يعهد من أهل هذا العلم إنشاءُ الرسائل إلى بعض منْ يخالِفُ في بعض مسائل أصولٍ الفقه مما الخلافُ فيه شائع بينَ الخلفِ والسَّلَفِ، لا سيما وقد أنكر السَّيِّد القولَ المشهور المعمولَ عليه عند الجمهور.
الثاني -وهو المعتمد في الجواب-: أن المختارَ الصحيحَ الَّذي قامت عليه الأدلة، ومضى عليه عملُ السَّلَفِ والخلف من هذه الأمة هو الاكتفاءُ في التعديل بالإطلاق، والدليلُ عليه وجوه:
أحدُها: أنَّا متى فرضنا أن المعدِّل ثقةٌ مأمون، وأخبرنا خبراً جازماً بتعديل رجلٍ آخر، فإنه يجب قبولُ قوله، لأنَّه خبر ثقة معروف بالعدالة والأمانة، فوجب قبولُ قولِه، كسائر أخبار الثقات.
وثانيها، أنه إمَّا أن يترجَّحَ صدقه على كذبه، أو لا، إن لم يترجَّحْ، لم يُقبل، لكن هذا التقدير لا يقع إلا مع معارضة غيره، وكلامُنا فيه إذا تجرَّدَ عن المعارض، وإن ترجَّح صدقُه، وجَبَ الحكمُ به، وإلا لزم المساواة بين الراجح والمرجوح، وهو باطل بالضرورة.
وثالثها: أن رَدَّ قَولِه تُهمة له بالكذب والخيانة، أو بالتقصير والإقدام على ما لم يَعْلَمْ، والفرض أنَّه عَدْلٌ مأمون، وتُهمةُ العدلِ المأمونِ بذلك محرَّمةٌ إلا لموجب، وما لا يَتِمُّ إلا بالمحرَّم لا يكون مشروعاً.
ورابعها: أن الله -تعالى- إنما شرط في الشاهد أن يكون ذا عدلٍ،(1/364)
وكذلك الراوي لم يُشترط فيه أكثرُ من العدالة، وليس حالُ المعدّل بأعظمَ مِن حال الشاهد والراوي، لأن عدالَة الراوي هي الأصلُ في اشتراط عدالة المُعدِّل، وعدالة المعدَّل هي فرع عليها، فكما أن العَدْل لا يجب عليه التفصيلُ فيما تحمَّله كذلك المعدِّل.
فإن قلت: فكيف التفصيلُ في الشهادة؟ قلتُ: إذا شَهِدَ بأن المال لزيدٍ، سُئِلَ عن سبب اعتقاده بكون المال لزيد، فربَّما أسند ذلك إلى ما لا يَدُلُّ على ذلك من خبر ثقةٍ، أو غير ذلك، وهذا يجوزُ على الثقة الذي ليس من أهل الثقة والمعرفة، وكذا الشهادةُ بالزوجية، وأمثال ذلك. يزيدُه وضوحاً أنَّ كُلَّ دليل دلَّ على وجوب قبول العدول بمجرد عدالتهم، فَهُوَ بعمومه يدل على قبولهم في جميع الأحوال، هل (1) أخبروا بِجرحٍ أو تعديل أو بغيرهما.
وخامِسُها -وهو الوجهُ المعتمدُ، وإنما هذه الوجوه المتقدمة شواهدُ له ومقوِّيات-: وهو أن اشتراطَ التفصيل في التعديل يؤدِّي إلى ذكر اجتناب المعدَّل لجميع المحرُّمات، وتأديته لجميع الواجبات على حسب مذهب المعدِّل في تفسير العدالة، فإن كان ممَّن يتشدَّدُ ذكر ذلك كُلَّه، وإن كان ممن يترخَّص ذكر اجتنابَه لجميع الكبائر، معدداً لها، ولجميع معاصي الأدنياء الدَّالة على الخِسَّة وقِلة الحياء، وقلة المبالاة بالدين، فيقول المعدِّل مثلاً: إن فلاناً ثقة عندي، لأني شاهدتُه يُقيم الصلواتِ الخمسَ، ويُحافظ عليها، ويصومُ رمضانَ، وُيؤدِّي الزَّكاةَ، ويؤدِّي فريضةَ الحجِّ إن كان ممَّن يلزمُه هاتان الفريضتان، ويذكر أنه يشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن
__________
(1) في هامش (أ) فوق كلمة هل ما نصه: أي: سواء أخبروا ...(1/365)
محمداً رسولُ الله، وأن الله عالم قادر، ويُعدِّدُ سائر الصفات الذاتية والمقتضاة، وأنه يستحقها لذانه لا لمعنىً، ويذكر جميعَ ما يتعلَّقُ باعتقاده مِن مسائل الوعدِ والوعيد والإمامة والولاء والبراء (1) ثم يذكر محافظته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال ذلك من الواجبات مما يطولُ تعدادُه، ثم يذكرُ اجتنابَه للمقبِّحاتِ فيقول: إنه لا يقتُلُ النفس المحرَّمة، ولا يستحِلُّه، ولا يزني، ولا يلوطُ، ولا يشربُ كثيرَ الخمر ولا قليلَها، ولا يسرقُ، ولا يقذِفُ، ولا يَشْهَدُ الزُّور، ولا يَغْصِبُ أموالَ الناس، ولا يُربي، ولا يَفِرُّ من الزحف، ولا يأكُلُ الرِّبا، ولا أموالَ اليتامى، ولا يعُقُّ والديه، ولا يكذِبُ على اللهِ، ولا على رسوله، ولا على أحد، ولا يَكتُمُ الشهادَةَ بلا عذرٍ، ولا يُطفِّفُ في المكيال، ولا يبخس الميزانَ، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها لغير عذر، ولا يضرِبُ مسلماً بغير حق، ولا يُبْغِضُ أميرَ المؤمنين -عليه السلام- ولا أحداً مِن العِترة، ولا يَسُبُّ الصحابة، ولا يُبغِضُهم، ولا يأخُذُ الرشْوةَ، ولا يسعى إلى السلطان، ولا يُحرِّق الحيوان، ولا يتَّخِذُهُ غرضاً، ولا يقع في أهلِ العلم، وحَمَلَةِ القرآن، ولا يلعب بالنَّردِ، ولا بالحَمَام، ولا يكشِفُ عورَتَه في الحمَّام، ولا يتساهلُ في أكل الشبهات والحرام، ولا يَسْخَرُ، ولا يسْحَرُ، ولا ينِمُّ، ولا يُخاصِمُ بالباطل، ولا يتكبَّر من قول الحق، ولا يُرائي، ولا يُعْجَبُ بعمله، ولا يضحك في الصلاة، ولا يبولُ ويتغوَّط مستقبلَ القبلة ولا مستدبرَها، ولا يشربُ المثلث، ولا يفعل شيئاً من المختلَفِ فيه وهو يعتقدُ تحريمه، ولا يُباشر الأجنبية بغير جماع، ولا يُجامع زوجته في الحيض والنفاس -وإن كانت امرأة (2): أنها لا تمتنع من زوجها بغير عذر، ولا تُسافر مِن غير
__________
(1) في ب: والبراءة.
(2) أي: المعدلة كما في هامش (أ).(1/366)
مَحْرَمٍ- ولا يحتكِرُ، ولا يبيع على بيع أخيه (1)، ولا يسوم على سومته (2)، ولا يخطُب على خطبته (3)، ولا يبيعُ لبادٍ وهو حاضر، ولا يتلَّقى الرُّكبان (4)، ولا يُصَرِّي (5)، ولا يبيعُ المعيبَ بغير بيان، ولا يدخل في شيءٍ من أنواعِ الغرر، ولا يستعملُ النجاسة في بدنه لغير حاجة، ولا يستعملُ اللهوَ بالغناء والمعازف، ونحو ذلك مما لا يكاد الإنسان يُحصيه مع التأمل الكثير.
وما زال المسلمون يعدِّلُون الشهود عند القضاة، ويُعدِّلون حملَة العلم والرواة من أول الإسلام إلى يوم النَّاسِ هذا، ما نَعْلَمُ أن أحداً منهم عَدَلَ عن هذه الصَّفة، ولا ما يُقاربها، ولا ما يُدانيها، ولا نعلمُ أن أحداً طلب من المعدِّلين، ولا مقدارَ نصفه، ولا ثُلثِه ولا رُبُعِه، وعملُ القضاةِ مستمر إلى يومِ النَّاس هذا على الاكتفاء بالتعديل الإجمالي.
وسادسها: أن المعدِّل في نفسه ليس يجب أن يكونَ قد اختبر من
__________
(1) هو أن يشتري رجل شيئاً، وهما في مجلس العقد لم يتفرقا وخيارهما باق، فيأتي الرجل، ويعرض على المشتري سلعة مثل ما اشترى أو أجود بمثل ثمنها أو أرخص، أو يجيء إلى البائع فيطلب ما باعه بأكثر من ثمنه الذي باعه من الأول حتى يندم، ويفسخ العقد، فيكون البيع بمعنى الاشتراء.
(2) صورته: أن يأخذ الرجل شيئاً ليشتريه بثمن رضي به مالكه، فيجيء آخر، ويزيد عليه يريد شراءه، فأما إذا لم يكن قد رضي به المالك، أو كان الشيء يطاف به فيمن يزيد، وبعض الناس يزيد في ثمنه على بعض، فذلك غير داخل في النهي.
(3) وهو أن يخطب الرجل امرأة، فتجيبه أو يجيبه وليها إذا لم تكن المرأة ممن يعتبر إذنها، فليس للغير أن يخطب على خطبته.
(4) صورته: أن يقع الخبر بقدوم عير تحمل المتاع، فيتلقاها رجل يشتري منهم شيئاً قبل أن يقدموا السوق، ويعرفوا سعر البلد بأرخص، فهذا منهي عنه لما فيه من الخديعة.
(5) من التصرية: وهو أن يربط أخلاف الناقة أو الشاة ويترك حلبها اليومين والثلاثة حتى يجتمح اللبن في ضرعها، ثم تباع، فيظنها المشتري كثيرة اللبن، فيزيد في ثمنها.(1/367)
عدَّله في جميع هذه الأمور، فربَّما أن الإنسان يَصْحَبُ غيرَه السنين العديدة، ولا يَعْرِضُ له ما يُوجب خبرتَه في بعض هذه الأشياء، فإنه لا يختبره في أنه لا يكشِفُ عورَتَه في الحمام على التعيين، إلا إذا اتَّفق أنهما دخلا معاً الحمام، ورأى محافظته على ذلك، وظهرت قرائنُ أنه فعل ذلك لأجل الوجوب، لا بمجرد الحياء. وكذلك لا يختبرُه أنه يأكل أموالَ الأيتام إلا إذا وَجَدَ مال أيتامٍ، واحتاج إليه، وتركه مع الحاجة إليه وهو يُشاهد ذلك ونحوه مما يكثر تعدادُه، وَكُلُّ ذلك ليس بشرط في الاختبار، وإنما يشترط أن يرى مِن محافظته في أمور الدين ما يغلب على ظنِّه معه إنه ممن يُعَظِّمُ شعائرَ الدِّين وتَسُرُّه حسنتُه، وتسوؤه سيئته، ولا يُصرُّ على القبائح وإهمالِ الفرائض.
فإن قلت: أقلُّ من هذا التفصيل يكفي؟ قلنا: إما أن يكفي الإجمال، كفى قوله: إنه ثقة، وإما أن يجبَ التفصيلُ، فلا يجوزُ الاكتفاءُ بالإجمال في كل مكان، وأمَّا أن الإجمال يجوز في موضع ويمتنع في موضع فهذا تحكم. فإن قلتَ: إنَّما اشترطنا التفصيلَ مِن فاسق التأويلِ وكافرِه، لأنه لا يُؤمن أن يعدِّل من يعتقد عدالته وهو غيرُ عدل عند مَن لا يقبلُ المتأولين.
قلنا: لا معنى لهذا، لأنَّكم لا تقبلونه، سواء عدل على جهة الإجمال، أو على جهة التفصيل، ومن يقبله، فإنه لا يفرق بينَه وبينَ غيره في التعديل، لأنَّه إنما يخاف منه أن يُعدِّل المتأولين، فيجب ممَّن يقبلهم أن يقبَله، فإذاً إنما الخلاف في قبوله، وسيأتي أن القولَ بقبوله، وهو قولُ جماهيرِ أهلِ البيت، وجماهيرِ العلماء.
وأما الجرحُ، فالقولُ باشتراط التعيين فيه ممكن، لأن الجارح إذا(1/368)
قال: فلانٌ ليس بثقة، لأنَّه يتشربُ الخمر، أو يتعمد الكذبَ، كفى ذلك، ولم يلزم تعديدُ جميع المعاصي فظهر الفرق -والله سبحانه أعلم-.
قال: الخامسُ: أنَّ هؤلاء الأئمةِ في الحديث يَرَوْنَ عدالةَ الصحابة جميعاًً، ويرى أكثرهُم أن الصحابيَّ مَنْ رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به وإن لم تطُلْ ولا يُلازم. وهذان المذهبان باطلان، وببطلانهما يَبْطُلُ كثيرٌ من الأخبار المخرجة في الصحاح. أمّا المذهب الأول، فلأن مَنْ حارب علياً مجروحٌ، ومَنْ قَعَدَ عن نصرته كذلك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ، وانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخْذُلْ مَنْ خذَلَهُ " (1).
__________
(1) حديث صحيح رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير واحد من الصحابة، فأخرجه من حديث بريدة أحمد في "المسند" 5/ 347 و350 و358 و361، و" الفضائل " (947) وابن حبان رقم (2204) بلفظ: "من كنت مولاه فعلي مولاه".
وأخرجه من حديث البراء بن عازب أحمد في " المسند " 1/ 281، والفضائل (1042) وابن أبي عاصم في السنة (1363) وفيه زيادة " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه ". وأخرجه من حديث زيد بن أرقم أحمد في " المسند " 4/ 368 و370 و372، والفضائل (959) و (1048) وابن أبي عاصم (1362) و (1364) و (1365) و (1367) و (1369) و (1371) و (1375)، والترمذي (3713) والطبراني (4971) و (4983) و (4996) و (5059) و (5065) و (5066) و (5069) و (5071) و (5092) والحاكم 3/ 110، والدولابي في " الأسماء والكنى " 2/ 61.
وأخرجه من حديث علي أحمد 1/ 84 و118 و119 و152 و5/ 366 و419، وابن أبي عاصم (1361) و (1367) و (1370).
وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري، وجابر بن عبد الله، وابن عمر، وطلحة، وحبشي ابن جنادة، وسعد بن أبي وقاص عند ابن أبي عاصم (1355) و (1356) و (1357) و (1358) و (1360) و (1376).
وعن اثني عشر رجلاً من الصحابة عند ابن أبي عاصم (1373) وأحمد 1/ 119.
وانظر " مجمع الزوائد " 9/ 103 - 109.
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " 7/ 74، ونقله عنه المُناوى في " فيض القدير " =(1/369)
وقال: " لا يُبْغِضُكَ يا عَلِيٌّ إلا مُنَافِقٌ " (1) وأقلُّ أحوالِ هذا أن لا تُقْبَلَ روايتُه. وأمَّا الثاني، فيلزمُهم أن يكونَ الأعرابيُّ الَّذي بالَ في مسجدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) عدلاًً بتعديل الله، ولا يحتاجُ إلى تعديل أحد، وكذلك كثيرٌ من رواتهم الذين هم أعرابٌ، أو يَفِدُون عليه مرةً واحدةً، كما جاء في حديث وفد تميم (3)، وأُنْزِلَ فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ
__________
= 6/ 218: حديث كثير الطرق جداً وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح حسان. وفي بعضها قال ذلك يوم غدير خم، وزاد البزار في رواية (أي على قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه): " اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله ".
(1) رواه مسلم (78) والترمذي (3737) والنسائي 8/ 117، وأحمد في " المسند " 1/ 84 و95 و128، والفضائل (948) و (961) وابن أبي عاصم في " السنة " (1325)، وابن ماجة (114) وأبو نعيم في " الحلية " 4/ 185، والخطيب في تاريخه 14/ 426 من طرق عن عدى بن ثابت، عن زِرِّ بن حبيش، عن علي قال: إنه لعهد النبي الأمي إلي: " إنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق " وفي الباب عن أبي سعيد الخدري عند الترمذي (3718) وإسناده حسن في الشواهد، وعن أم سلمة عنده أيضاً (3719) وأحمد 6/ 292 وسنده حسن أيضاً في الشواهد.
(2) أخرجه البخاري (219) و (221) و (6025) ومسلم (284) والنسائي 1/ 48، وأحمد 3/ 226 من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أعرابياً يبول في المسجد، فقال: دعوه حتى إذا فرغ دعا بماء، فصبه عليه، وفي رواية لمسلم: بينا نحن في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مه مه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزرِمُوه دعوه " فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال له: " إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدلو من ماء فشنَّه عليه.
ورواه البخاري (220) من حديث أبي هريرة قال: قام أعرابي، فبال في المسجد فتناوله الناس " فقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: " دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين ".
(3) انظر " زاد المسير " 7/ 458، والواحدي في " أسباب النزول " 220، ففيهما خبر الوفد من حديث جابر بن عبد الله، وفي سنده معلى بن عبد الرحمن الواسطي ضعفه الدارقطني وغيره، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به.(1/370)
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الحجرات: 4] وكحديث وفد عبد القيس (1).
أقولُ: قد اشتملَ كلامُه -أيَّده الله- على مسائل: الأُولى: القدحُ على المحدِّثين بقَبولِ المجهول حالُه مِن الصحابة، وقولهم: إن المجهول حالُه مقبولٌ لا يحتاجُ إلى تعديلِ مُعدِّل، وهذا لا يقتضي القدحَ في صحة كُتُبِ الحديث لوجوه:
الوجه الأوَّلُ: أن القارىء فيها أن كان ممن يرى رأيَهم، جاز له أن يعمل بذلك، لأنَّها مسألة ظنية، وللمجتهد أن يَعْمَلَ فيها برأيه، وإنما قلنا: إنها ظنية، لأن أدلتها مِن العمومات، وأخبارِ الآحاد والقياسِ ظنيَّةً، وللمجتهد أن يعمل فيها برأيه وليس فيها دليلٌ قاطِعٌ من براهين العقل، ومن ادَّعى شيئاً غيرَ ذلك، فليَدُلَّ عليه.
الوجهُ الثاني: أن هذا المذهب لا يختصُّ به المحدِّثونُ، فيرميهم به، بل هو مذهب منشور مشهور، منسوب إلى أكثر طوائف الإسلام، وقد نُسب إلى الزيدية والشافعية والحنفية والمعتزلة وغيرهم من أكابر العلماء. أمَّا الزيديةُ، فنسبه إليهم علاَّمتُهُم بغير منازعةٍ الفقيهُ عبدُ اللهِ بنُ زيد في كتاب " الدُّرر ".
__________
(1) هم من ربيعة وخبرهم مطول عند البخاري (53) و (87) ومسلم (17) وأبو داود (3692) من حديث ابن عباس. وكانت مساكنهم بالبحرين وما والاها من أطراف العراق، وقد سبقوا جميع القرى إلى الإسلام، ففي البخاري (892) من حديث ابن عباس أنه قال: إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجُواثى من البحرين. وأخرجه أبو داود (1068) ولفظه " إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة لجمعة جمعت بجواثى قرية من قرى البحرين ". قال عثمان بن أبي شيبة -وهو شيخ أبي داود في هذا الحديث-: قرية من قرى عبد القيس.(1/371)
وأمَّا الشافعيةُ، فنسبه إليهم المنصورُ بالله -عليه السلام- في كتاب " الصَّفوَة " وغيره.
وأمَّا الحنفية، فمشهور عنهم.
وأما المعتزلة، فذكره الحاكم، وأبو الحسين، وابنُ الحاجب.
وسيأتي بيان هذه الجملة وقد مضى طرفٌ منها أيضاًً.
قال الفقيه عبد الله بن زيد في كتاب " الدُّرَرِ المنظومة في أصول الفقه ": إنَّ مذهبنا قبولُ المجهول. قلتُ: هكذا على الإطلاق، سواءً كان صحابياً أو غيرَ صحابي، وهذا أكثرُ تسامحاً مِن قول المحدِّثين. قال الفقيه عبد الله بن زيد في " الدُّرر" في بيان معنى المجهول: إنه قد يُذكر، ويُراد به مجهولَ العدالةِ، وقد يُراد به مجهولَ الضبط، وقد يُراد به مَنْ لَا يُعْرَفُ بمخالطة العلماء، والأخذِ عنهم، ومجالسةِ المحدِّثين، وقد يُراد به مَنْ لا يُعرف نسبُه ولا اسمُه.
قال: ومذهبنا أنه يُقْبَلُ خبرُ من هذه حالُه إلا مجهولَ الضَّبطِ، فسيأتي الكلامُ عليه، واحتج بقبول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - للأعرابيين في رؤية الهلال (1)
__________
(1) رواه ابن عباس قال: جاه أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " إني رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله، أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذَّن في الناس أن يصوموا غداً " رواه الترمذي (691) وأبو داود (2340)، والنسائي 4/ 131 - 132، وابن ماجة (1652)، وابن حبان (870)، والحاكم 1/ 454، والدارمي 2/ 5، وابن الجارود في " المنتقى " (379) و (380) والطحاوي في " مشكل الآثار " 1/ 201 - 202، والبيهقي في سننه 4/ 211 - 212، وفي سنده عندهم سماك بن حرب، وروايته عن عكرمة مضطربة، وهذا الحديث منها، وقد اختلفوا عليه فيه، فتارة رواه موصولاً، وتارة مرسلاً، انظر " نصب الراية " 2/ 443. لكن له شاهد من حديث ابن عمر ولفظه: " تراءى الناسُ الهلال، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصامه وأمر الناس بصيامه " أخرجه أبو داود =(1/372)
وبغير ذلك. فأما مجهولُ الضَّبطِ، فذكر أنه إن عُرِفَ أن ضبطَه أكثرُ قبِلَ بالاتفاق، أو أقلُّ ردَّ بالاتفاق، وإن استويا، فحكى الخلافَ، وقال: مذهبُنا قبولُه إذا لم يعلم من حاله شيء من ذلك، كذا نصَّ عليه، فدلَّ على أنه مقبولُ أيضاًً، وإنما استثنيناه، لأنَّ الكلامَ عليه سيأتي منفرداً في موضع يشتمِلُ على حكاية الخلافِ، وذكر الدليل، ولأنه جهالة صفة معتبرة في الرَّاوي، فلا فرق بينَها وبينَ سائِر الصِّفات، واحتجاجُه بقبول الأعرابيين يدلُّ على ذلك -والله أعلم-.
وقال: ويقبل مَن ظاهره العدالة من غير اختبار لعدالته. ومعنى كونه عدلاً: أن يكونَ مؤدياً للواجبات، مجتنباً للكبائر مِن المستقبحات. وقد ذكر المنصورُ باللهِ في أحدِ قوليه -ما لفظه-: ولسنا نعتبِرُ العدالة إلا في أربعةٍ: في الحاكم، والشَّاهِدِ، والإمامِ الأعظم، وإمامِ الصلاة. أو قال في الرابع: المفتي -الشك من قِبلي- ذكره في " هداية المسترشدين " من فتاويه -عليه السلام- في الاحتجاج على وِلاية الفَسَقَةِ ومَنْ ليس بمأمون.
وهذا يقتضي مثلَ كلامِ عبدِ الله بن زيد، وقد ذكرتُ فيما تقدم أن ذلك أحدُ احتمالي أبي طالب في " المجزي "، وأرجحُ احتماليه في " جوامع الأدلة "، ولم أعْرِفْ للهادي والقاسم -عليهما السلام- نصاً في هذه المسألة، ولا ثبت أنهم نصُّوا على خِلاف كلام المنصورِ بالله، وأبي طالب والمحدِّثين، لأن كلامَهم في فاسق التأويل معروف، وليس لهم نصٌّ في مجهول الصحابة ولا مجهول غيرهم، ولا إجماعَ يقتضي وجوب النكير على مَنْ خالفه، ولم يزل الأصوليون يذكرون الخِلَاف في هذه المسألة من
__________
= (2342) وابن حبان (871) والحاكم 1/ 423، وسنده قوي، وسيأتي كلام المصِنف عليه ص 277.(1/373)
غير نكير، ولا قدح على من اختار ذلك، فما خصَّ المحدِّثين بالنكير؟ وقد صرَّح الشيخُ أبو الحسين في " المعتمد" (1) باختيار مذهب المحدِّثين، فقال -ما لفظه-: واعلم أنه إذا ثبت اعتبارُ العدالة وغيرِها مِن الشروط التي ذكرناها، وجب إن كان لها ظاهرٌ أن نعتمِدَ عليه، وإلا لَزِمَ اختبارُها. ولا شُبهة أن في بعض الأزمان كَزَمَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد كانت العدالةُ منوطة بالإسلام، وكان الظاهرُ من المسلم كونَه عدلاً. ولهذا اقتصر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قبولِ خبرِ الأعرابيِّ عن رؤيةِ الهِلال على ظاهر إسلامه، واقتصرت الصحابةُ على إسلامِ مَنْ كان يروي الأخبار من الأعراب. فأمَّا الأزمانُ التي كثرت فيها الخياناتُ ممن يعتقد الإسلام، فليس الظاهرُ من إسلامِ الإنسان كونه عدلاً، فلا بد من اختباره. وقد ذكر الفقهاء هذا التفصيل. انتهى كلامُ الشيخ. وفيه فائدتان:
أحدهُما: أنه روى مذهب المحدِّثين عن الصحابة وأنهم كانوا يقبلون أحاديثَ الأعراب، بل هذا أوسع من مذهب المحدِّثين لأنهم اقتصروا على من رأى النبي مِن الأعراب.
وثانيهما: روايته أن الفقهاء ذهبوا إلى ما ذهب إليه المحدثون، بل إلى قبول جميع المسلمين في وقته -عليه السلام- وإن لم يكونوا أصحابه.
وقال الحاكم في " شرح العيون، -ما لفظه-: واحتجُّوا بأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قبل خبر الأعرابيِّ لما أظهر الشهادتين ولم يعتبِرْ شيئاً آخر.
والجواب: وَلِمَ قلتَ: إنَّه لم يعْرِفْ مِن أحواله ما اقتضى العدالة.
__________
(1) 2/ 136.(1/374)
وأيضاًً، فإن أحوال المسلمين كانت أيامَ رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - معلومةً، وكانت مستقيمة مستغنية عن اعتبارها، فلم يحتجْ إلى استئناف نظرٍ، وحديثُ الأعرابيِّ الذي احتجَّ به الشيخ أبو الحسين والحاكم معروف عند أهل الحديث. قال ابن حجر في كتاب الصيام من " تلخيصه ": رواه أصحابُ السُّنن الأربعة، وابن خزيمة وابن حبَّان، والدارقُطني، والبيهقي، والحاكم من حديث سماك عن عكرمة، عن ابن عباس، وروي مرسلاً عن عكرمة من غير ذكر ابن عباس، ورجحه النسائي (1).
وذكر ابن الحاجب في " المنتهي " عن المعتزلة مثل قول المحدِّثين، إلا في من حارب علياً، ولفظه: وقالت المعتزلة: عدولٌ إلا من حارب علياً. وهذا هو الذي أنكره السَّيِّد على المحدثين، فأمَّا حربُ علي -عليهِ السلامُ- فهو فسقٌ بغيرِ شَكٍّ، ولكن ليس يجرح به في الرواية متى وقع على وجه التأويل كما يأتي بيانُه. وعن معمر البَصري عن أبي العوَّام البصريِّ قال: كتب عُمَرُ إلى أبي موسى، وساق كتابَه الطويل في القضاء، وفيه من كلام عمر: والمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُم عَلى بَعْضٍ في الشَّهَادَاتِ إلاَّ مَجْلُوداً في حَدٍّ، أو مُجرَّباً عَلَيْهِ شَهَادَةُ الزُّور، أو ظَنِيناً في وَلاء أوْ نَسَبٍ، فإنَّ الله تَوَلَّى مِن العِبَادِ السَّرَائِرَ، وَسَترَ عليهم الحُدُودَ إلا بالبينات والأيمانِ، وساق بقيةَ كتابه. رواه البيهقي (2) هكذا، ثم قال: وهو
__________
(1) " التلخيص الحبير " 2/ 187، وتمامه فيه: وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة.
(2) هو في " سننه " 10/ 150 من طريق جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام البصري قال: كتب عمر إلى أبي موسى ... وأخرجه أبو عبيد من طريق كثير بن هشام عن جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام وقال سفيان بن عينية: حدثنا إدريس أبو عبد الله بن إدريس قال: أتيت سعيد بن أبي بردة، فسألته عن رسل عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بردة، فأخرج إليه كتباً، فرأيت في كتاب منها رجعنا إلى حديث أبي العوام قال: كتب عمر إلى أبي موسى ...(1/375)
كتابٌ معروف مشهور لا بُدَّ للقضاة مِن معرفته والعملِ به. انتهي كلام البيهقي.
وفيه ما يَدُلُّ على مثلِ مذهب المحدِّثين من عدالة المجاهيل في ذلك العصر، وأنَّ مذهَبَهم هذا مشهور في السَّلَف والخَلَفِ غير محدث، ولا مستبعد، ولا مستنكر. وعن شقيقِ بنِ سَلَمَةَ قال: أتانا كتابُ عمر: أن الأهِلَّة بعضُها أكبرُ من بعض فإذا رأيتُم الهلالَ نهاراً، فلا تُفْطِرُوا حتى يشهدَ رجلانِ مسلمانِ أنهما أهلاه بالأمس، وفي رواية: يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمسِ، رواه الدارقطني والبيهقي (1) باللفظين المذكورين قال: وهو أثر صحيح ذكره ابنُ النحويِّ في " خلاصة البدرِ المنير ".
الوجه الثالثُ: أن الأدلةَ قد دلَّت على ذلك من الكتاب والسنة والإجماع، أمَّا الكتابُ، فذلك كثيرٌ في غيرِ آيةٍ مثل قَولهِ تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110].
وأما السُّنة، ففي ذلك آثارٌ كثيرة نذكر منها نُبذةً يسيرة:
الأثر الأول: ما روى ابنُ عمر عن عُمَرَ أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فقال: " أُوصِيكُمْ بِأصْحَابِي ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِين يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَفْشُوا الكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ ولا يُسْتحْلَفُ، ويَشْهَدُ الشَّاهِدُ ولا يُسْتشْهَدُ " الحديث (2) رواه أحمد والترمذي، وقد رواه عن شعبةَ أبو داود الطيالسيُّ
__________
(1) هو في سنن الدارقطني 2/ 168 من طريقين عن سفيان حدثني منصور، عن أبي وائل، وأخرجه البيهقي 4/ 212 - 213 من طريق سفيان به، وأخرجه أيضاً من طريق روح عن شعبة، عن سليمان الأعمش، عن أبي وائل ...
(2) هو في مسند أحمد 1/ 18 و26، والترمذي (2165) وقال: حسن صحيح، وأخرجه الشافعي في " الرسالة " (1315) والطيالسي (34)، وصححه الحاكم 1/ 113 - 114، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.(1/376)
عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة عن عمر، وله طرق أخرى وهو حديث مشهور جيِّد، قال ذلك الحافظُ ابنُ كثير في " إرشاده ".
وذكر أبو عمر بنُ عبد البرِّ في أول كتاب " الاستيعاب " له شواهدَ كثيرة بلفظ: " خَيْرُكُم القرْنُ الَّذين بُعِثْتُ فِيهِم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُوَنهُم ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ " (1) عن ابن مسعود، وعِمران بن حُصين، والنُّعمان بنِ بشير، وبُريدة الأسلميِّ، وجعدة بنِ هبيرة. وذكر المنصور بالله في " المجموع المنصوري " أنه لا يُسأل عن عدالةِ ثلاثة قُرون وأن ذلك معلوم، أو معروف لأهل الفقه.
قلتُ: وفيه ما يدلُّ على أنَّ المراد بأصحابه أهلُ زمانه، بدليل قولِه: ثُمَّ الذينَ يلونهم.
الأثرُ الثاني: عن ابنِ عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني رأيتُ الهِلَال -يعني رمضانَ- فقال: أتشْهَدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأنَّ محمداً رَسُولُ اللهِ؟ قال: نعم. فقال: يا بلالُ أذِّنْ في الناسِ أن يصُومُوا غداً (2). رواه أهلُ السُّنَنِ، وابنُ حِبَّان صاحب الصحيح (3)، والحاكم أبو عبد الله الشِّيعيُّ العلامة، وقال: هو حديثٌ
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 144 من حديث عمران بن حصين، وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة، وحديث النعمان بن بشير أخرجه أحمد 4/ 267، والطبراني، وابن أبي شيبة كما في الجامع الكبير، وحديث جعدة بن هبيرة أخرجه الطبراني في " الكبير " (2187)، وقال الحافظ في " الفتح ": ورجاله ثقات إلا أن جعدة مختلف في صحبته. وقالا في " المجمع " 10/ 20: ورجاله رجال الصحيح إلا أن أدريس بن يزيد الأودي لم يسمع من جعدة.
(2) تقدم تخريجه ص 372.
(3) طبع الجزء الأول منه بمؤسسة الرسالة بتحقيقنا، والثاني قيد الطبع، وسيصدر قريباً إن شاء الله.(1/377)
صحيح، وذكره الحاكم أبو سعد في " شرح العيون "، واحتجَّ به أبو الحسين في " المعتمد "، واحتج به الفقيه عبدُ الله بن زيد.
الأثرُ الثالثُ: حديثُ أبي محذورةَ، فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علَّمه الأذانَ عقيبَ إسلامه واتَّخذه مؤذِّناً (1)، وذلك يدلُّ على عدالته مِن قِبَلِ الخِبرة، لأنَّ العدالةَ معتبرة في المؤذِّن، إذ هو مخبرٌ بدخول وقت الصلاة، معتمد عليه في تأدية الفرائض وفي إجزائها.
الأثرُ الرابعُ: وهو أثرٌ صحيح ثابت في جميع دواوين الإسلام، بل متواترُ النقلِ، معلومٌ بالضرورة، وهو عندىِ حُجَّة قويةٌ صالحةٌ للاعتماد عليها، وذلك أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل عليّاً -عليه السلام- ومعاذاً -رضيَ الله عنه- قاضيين أو مفتيين ومعلمين (2)، ولا شكَّ أن القضاءَ متركب على
__________
(1) أخرجه مسلم (379) وأحمد 3/ 409، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1/ 130، وأبو داود (505).
(2) أخرج البخاري (4349) من طريق أبي إسحاق، سمعت البراء رضي الله عنه: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خالد بن الوليد إلى اليمن، قال: ثم بعث علياً بعد ذلك مكانه، فقال: مر أصحاب خالد من شاء منهم أن يعقب معك فليُعقب، ومن شاء فليقبل، فكنت فيمن عقب معه، قال: فغنمت أواقي ذواتِ عدد.
وأخرج أحمد 1/ 111، وأبو داود (3582) من طريقين، عن شريك بن عبد الله القاضي، عن سماك بن حرب، عن حنش بن المعتمر، عن علي قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، قال، فقلت: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني، وأنا حديث السن لا أبصر القضاء قال: فوضع يده على صدري، وقال: اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه، يا علي إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، قال: فما اختلف علي قضاء بعد، أو ما أشكل علي قضاء بعد.
وأخرجه مختصراً أحمد 1/ 90، والترمذي (1331) من طريق حسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن سماك به.
وحديث معاذ أنه لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال له: كيف تقضي ... قد تقدم تخريجه ص 258. =(1/378)
الشهادة، والشهادة مبنيَّة على العدالة، وهما لا يعرفانِ أهلَ اليمن، ولا يخبُرانِ عدالَتَهم، وهم بغيرِ شكٍّ لا يَجِدُونَ شهوداً على ما يجري بينَهم من الخصوماتِ إلا منهم، فلولا أنَّ الظاهِرَ العدالةُ في أهلِ الإسلام ذلك الزَّمان، وإلا ما كان إلى حكمهما بَيْنَ أهلِ اليمن على الإطلاق سبيل.
الأثر الخامسُ: ما ثبت عن عليٍّ -عليه السلامُ- أنه كان يستحلِف بعضَ الرُّواة، فإن حلف صدَّقه (1). وقد قدَّمنا أنه رواه المنصورُ بالله محتجاً به، وكذلك الإمامُ أبو طالب. وقال الحافظ ابنُ الذهبي: وهو حديثٌ حسنٌ.
والتحليفُ ليس يكون للمخبورين المأمونين، وإنما يكون لمن يُجْهَلُ حالُه، ويجب قبولُه فيقوى -عليه السلام- بيمينه طيبةً لنفسه، وزيادةً في قوة ظنه. ولو كان المستحلَفُ ممن يَحْرُمُ قبولُهُ، لم يحلَّ قبولُه بعدَ يمينه.
وفي هذا أعظمُ دليل على أنه -عليه السلام- إنما اعتبر الظَّنَّ في الأخبار.
الأثرُ السادسُ: حديثُ الجارية السَّوداءِ راعيةِ الغنم التي أراد -عليه السلامُ- أن يتعرَّفَ إيمانَها، ويختبِرَ إسلامها، فقال لها: منْ رَبُّكِ؟ فأشارت، أي: ربها الله، وسألها: من أنا؟ فقالت: رسولُ الله، فقال -عليه السلام-: " هي مؤمنة ". والمؤمن مقبول. وقد وصف الله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتصديقه للمؤمنين في قوله تعالى في صفته: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فهذه الجارية حكم -عليه السلامُ- بإسلامها مِن غير اختبار، بل لم يَكنْ يَعْرِفُ أنَّها مسلمة إلا حينئذٍ، وحديثُها هذا حديثُ
__________
= وفي البخاري (4341) و (4345) ومسلم (1733) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا موسى الأشعري ومعاذاً إلى اليمن، فقال: " يَسِّرا ولا تعسِّرا وبشِّرا ولا تنفِّرا وتطاوعا ... ".
(1) تقدم تخريجه ص 284.(1/379)
ثابتٌ خرَّجه مسلم في الصحيح (1)، ورواه الشافعي عن مالك. ذكره ابنُ النَّحويِّ في " البدر المنير" وله طُرُق جَمَّةٌ ذكرها ابنُ حجرٍ في " تلخيصه " (2) ويأتي ذكرُها في مسألة الوعيد.
__________
(1) أخرج مسلم (357)، وأبو عوانه 2/ 141، وأبو داود (930) و (931)، وابن أبي شيبة (84) في الإيمان، والنسائي 3/ 14، والدارمي 1/ 353، وابن الجارود في المنتقى ص 113 - 114، والطيالسي (1105) وأحمد 5/ 447 - 448. والبيهقي في " سننه " 2/ 249 - 250 و7/ 387، وفي الأسماء والصفات ص 421 - 422. وابن حبان (165)، وابن خزيمة في " التوحيد " 122، وعثمان بن سعيد في " الرد على الجهمية " 21، 22، والطبراني في " الكبير " 19/ 98 و398، وابن أبي عاصم في " السنة " (489)، وابن عبد البر في " التمهيد " 7/ 135 كلهم من طريق يحيى بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السلمي قال: قلت: يا رسول الله إنه كانت لي جارية ترعى قبلَ أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم، فوجدتُ الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فصككتُها صكة، فعظم ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله أعتقها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة.
وأخرجه مالك في " الموطأ " 2/ 776 - 777، ومن طريقه الشافعي في " الرسالة " (242) عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم قال: أتيت رسول الله بجارية، فقلت: يا رسول الله، علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أين الله؟ قالت: في السماء، فقال: ومن أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها ".
قال الإمام السيوطي في " تنوير الحوالك " 3/ 5: قال النسائي: كذا يقول مالك: عمر ابن الحكم، وغيره يقول: معاوية بن الحكم السلمي، وقال ابن عبد البر: هكذا قال مالك: عمر بن الحكم، وهو وهم عند جميع أهل العلم بالحديث، وليس في الصحابة رجل يقال له: عمر بن الحكم، وإنما هو معاوية بن الحكم، كذا قال فيه كل من روى هذا الحديث عن هلال أو غيره ومعاوية بن الحكم معروف في الصحابة، وحديثه هذا معروف له، وممن نص على أن مالكاً وهم في ذلك البزار وغيره.
وأما رواية المؤلف -وقد رواها بالمعني- فهي في " المسند " 2/ 291، وسنن البيهقي 7/ 388 وفي سنده عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة المسعودي -وكان قد اختلط- وراويه عنه وهو يزيد بن هارون قد سمع منه أحاديث مختلطة. وانظر لزاماً سنن البيهقي 7/ 387، والأسماء والصفات ص 422 - 423، والتمهيد 7/ 135.
(2) 3/ 222 - 223.(1/380)
الأثر السابع: أن الأعرابيَّ الكافِرَ كان يأتي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيُسْلِمُ، فيأمرُه -عليه السلامُ- إلى قومه داعياً لهم إلى الإسلام، ومعلماً لهم ما علمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من شرائعه فلولا عدالتُه ما أقرَّه على ذلك، ولا أمره به، ولقال له: إنَّه لا يَحِلُّ لقومك أن يعملوا بشيءٍ مما علمتهم مِن شرائع الإسلام حتى يختبروك بعدَ إسلامك، وهذا كثير في السيرة النبوية، وكتب السُّنة مثل خبرِ الطُّفيل بنِ عمرو (1) وغيره.
الأثر الثامن: حديثُ عقبة بن الحارث المتفق على صحته (2) وفيه أنَّه تزوَّجَ أمَّ يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمةٌ سوداء، فقالت: قد أرْضَعْتُكُما، فَذَكَرْتُ ذلك لِلنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأعرضَ عَنِّي، قالت: فتنحيتُ، فذكرتُ ذلك له. قال: وكيفَ قد زَعَمَتْ أنْ قَدْ أرْضعَتْكُمَا؟ -هذا لفظُ
__________
(1) في الأصل: عامر، والتصحيح من " أسد الغابة " 3/ 78، والاستيعاب 2/ 230، والإصابة 2/ 255، قال ابن عبد البر: هو الطفيل بن عمرو بن طريف بن العاص بن ثعلبة بن سليم بن فهر بن غنم بن دوس الدوسي من دوس، أسلم وصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ثم رجع إلى بلاد قومه من أرض دوس، فلم يزل مقيماً بها حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بخيبر بمن تبعه من قومه، فلم يزل مقيماً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قبض - صلى الله عليه وسلم -، ثم كان مع المسلمين حتى قتل باليمامة شهيداً، وانظر خبر إسلامه مطولاً في " أسد الغابة " 3/ 68 - 81، وشرح المواهب 4/ 37 - 41، و" زاد المعاد " 3/ 624 - 628 بتحقيقنا، وفي البخاري (2937) و (4392) (6397) ومسلم (2524) وأحمد 2/ 243 و448 و502، والحميدي (1050) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء الطفيل بن عمرو إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إن دوساً قد هلكت، عصت وأبت، فادع الله عليهم، فقال: " اللهم اهْدِ دوساً وائت بهم ".
(2) هو في البخاري (88) و (2052) و (2640) و (2659) و (2660) و (5104) وليس هو في مسلم كلما توهم المؤلف كما في " تحفة الأشراف " 7/ 299 - 300، وأخرجه الترمذي (1161) وأبو داود (3586) و (3587) وأحمد 4/ 7 و8 و383 و 384، وعبد الرزاق (13967) و (15436) والطبراني في " الكبير " 17/ 351 - 354، والنسائي كما في " التحفة ".(1/381)
البخاري ومسلم (1) - وفيه اعتبارٌ خبرِ هذه الأمَةِ السوداءِ، والفرقُ بَيْنَ زوجين بكلامهما، ولم يأمره بطلاقٍ، ولا أخبره أنَّ ذلك يُكره مَع الجواز. وفي رواية الترمذي (2): أنه زعم أنها كاذبة، وأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاه عنها. وهو حديث حسن صحيح.
وقال ابنُ عباس: تُقْبَلُ المرأةُ الواحِدة في مِثْلِ ذلك مع يمينها. وبه قال أحمد وإسحاق.
قلتُ: إنما اعتبر اليمين من أجل حقِّ المخلوقين، وكذا من خالف من أهل العِلم في هذه المسألة، فأما حقوقُ الله -تعالى- فخبرُ المرأة الواحدة فيه مقبول اتفاقاً.
الأثر التاسعُ: ما رواه المِسْوَرُ بن مَخرَمَةَ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام في المسلمين، فأثنى على الله، ثم قال: " أمَّا بَعْد، فإنَّ إخْوَانَكُم -يعني هَوازِنَ- قد جاؤوا تائِبينَ، وإنِّي قد رأيتُ أن أرُدَّ إلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُم أن يُطَيِّبَ ذلِكَ، فَلْيفْعَلْ " إلى قوله: فقال الناسُ: قد طيَّبْنَا ذلِكَ فقال: " إنا لا نَدْرِى مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حتَّى يَرْفَعَ عُرَفَاؤُكُم أمرَكُم " الحَدِيثَ. رواه البخاري (3).
__________
(1) تقدم التنبيه على أن الحديث من أفراد البخاري، ولم يخرجه مسلم.
(2) بل هي في إحدى روايات البخاري (5104) في النكاح: باب شهادة المرضعة.
(3) برقم (4318) في المغازي: باب قول الله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ .... } ولفظه بتمامه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: معي من ترون، وأحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي، وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم -وكان أنظرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف- فلما تبين لهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير رادٍّ إليهم إلا إحدى الطائفتين، قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسلمين، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤونا تائبين،(1/382)
فالظاهر عدمُ معرفةِ حالِ العُرَفَاء في العدالةِ، فهذا من الأثر.
ومِنَ النَّظَرِ أن صِدقَهم مظنونٌ، وفي مخالفته مضرَّةٌ مظنونةٌ، والعملُ بالظَّنِّ من غير خوفٍ مضرَّةٍ حسنٌ عقلاً. ومع خوف المضرَّة المظنونة واجبٌ عقلاً، وإنما خصصناهم بذلك، لما علمنا من صدقهم وأمانتهم في غالب الأحوال، والنادِرُ غيرُ معتبر، إذ قد يجوزُ أن يَكْذِبَ الثِّقَةُ، ولكن ذلك تجويزٌ مرجوحٌ نادر الوقوع فلم يعتبر، والذي يدلُّ على صِحَّة ما ذكرنا: أن أخسَّ طبقات أهل الإسلامِ من يتجاسرُ على الإقدامِ على الفواحش من الزنى وغيره من الكبائر لا سيّما فاحشة الزنى، وقد علمنا أن جماعة مِن أهلِ الإسلام في زمان رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقعوا في ذلك من رجالٍ ونساءٍ، فَهُمْ فيما يظهرُ لنا أقلُّ الصحابة دِيانةً، وأخفُّهم أمانةً، ولكنهم مع ذلك فعلوا ما لا يكادُ يفعلُه أورعُ المتأخرين، ومن يَحِقُّ له منصِبُ الأمانةِ في زُمرة الأولياء والمتقين، ومَنْ بَذَلَ الروح في مرضاة اللهِ، أو المسارعة بغير إكراهٍ إلى حُكْمِ اللهِ، مثلَ المرأةِ التي زنت، فجاءت إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تُقِرُّ بذنبِها، وتسألُه أن يُقِيمَ عليها الحَدَّ، فجعل -عليه السلام- يستثبتُ في ذلك، فقالت: يا رسولَ الله إنِّي حُبلى به، فأمرها أن تُمهل حتَّى تَضَعَ، فلمَّا وَضَعَتْ، جاءت بالمولود فقالت: يا رسولَ اللهِ هو هذا قد ولدتُه. فقال: " أرضِعِيه حتى يَتِمَّ رضاعُه ". فأرضعتْهُ حتَّى أتمت مُدَّةَ الرَضاعِ، ثم جاءت به في يده كِسْرَةٌ مِن خُبْزٍ، فقالت: يا رسولَ اللهِ ها
__________
= وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب منكم أن يُطَيِّبَ ذلك، فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نُعطيَه إياه من أول ما يُفيء الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا ندري من أذِنَ منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا.(1/383)
هو هذا يأكُلُ الخُبْز، فأمر بها فَرُجِمَتْ (1). فانظر إلى عزمها هذه المدَّة الطويلة على الموت في طلب رضا الله تعالى.
وكذلك الرجلُ الذي سرق، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فطلبه أن يُقيم عليه الحدَّ، فأمر -عليه السلامُ- بقطع يده، فلمَّا قطعوها، قال السارِقُ: الحمدُ لله الذي أبعَدِك عني، أَرَدْتِ أن تُدْخِلِيني النَّارَ (2).
ومثل ما رُوِي في حديثِ الذي وقع بأمرأته في رمضان (3).
وحديثُ الذي أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله إنِّي أتيْتُ امرأةً، فَلَمْ أتْرُكْ شيئاً مما يفعَلُه الرِّجالُ بالنِّساءِ إلا فعلتُه، إلا أنِّي لم أُجَامِعْها (4). وغير ذلك مما لا (5) أعرفه.
فأخبرني على الإنصاف: مَنْ (6) في زماننا من الأبْدَالِ قد سار إلى
__________
(1) نقدم تخريجه ص 260 تعليق (3).
(2) أخرجه ابن ماجه (2588) والطبراني في " الكبير " (1385) من طريق سعيد بن أبي مريم، عن عبد الله بن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري، عن أبيه أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني سرقت جملاً لبني فلان، فطهرني، فأرسل إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: إنا افتقدنا جملاً لنا فأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقطعت يده، قال ثعلبة أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك، أردت أن تدخلي جسدي النار، وهذا سند ضعيف لضعف ابن لهيعة كما قال البوصيري في " الزوائد " ورقة 165/ 2/166/ 1 وعبد الرحمن بن ثعلبة مجهول.
(3) أخرجه من حديث أبي هريرة أحمد 2/ 208 و241 و281، والبخاري (1936) و (1937) و (2600) و (5368) و (6087) و (6164) و (6709) و (6710) و (6711) و (6821) ومسلم (111)، والترمذي (724) والبغوي (1752) وأبو داود (2390) والدارمي 2/ 11، وابن ماجه (1671) وابن الجارود (384) والبيهقي 4/ 221 و222 و224.
(4) تقدم تخريجه ص 260.
(5) في (أ) و (ج): لم.
(6) لم ترد في (ج).(1/384)
الموت نشيطاً كما فعل هؤلاءِ؟ وهل علم أنَّ أحداً في غيرِ تلك الأعصار أتى إلى أهلِ الوِلايةِ ليقتلُوه؟ وهذه الأشياءُ مما تُنبِّه الغافل، وتُقوي بصيرةَ العاقل، وإلا ففي قولِه تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] كِفايةٌ مع ما عضَدَها من شهادةِ المصطفي -عليه السلام- بأنهم خيرُ القرونِ (1)، وبأن غيرَهم لو أنْفَقَ مِثْلَ أُحدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَه (2).
وقد ذكر ابنُ عبد البر في ديباجة كتاب " الاستيعاب " جملةً شافيةً مما يدُلُّ على فضل أهلِ ذلك الزمان، وأن ظاهِرَهم العدالةُ كُلّهم إلا مَنْ عُلِمَ جَرْحُهُ بطريق صحيحٍ؛ والجرْحُ جرحانِ: جرحٌ في الدِّيانة، وجرح في الرواية، فأما الجرحُ في الدِّيانة، فيثبتُ بفعل الحرام المقطوعِ بتحريمه سواءً كان فاعلُه متأولاً، أو غيرَ ذلك، مثل حربِ أميرِ المؤمنين -عليه السلام- وغيره مِن الفتن، وقد قبلت الزيديّةُ مَنْ حارب عليّاً وكفَّره من الخوارِج، صانه الله مِن ذكرِ (3) ذلك -كما سيأتي بيانُه- فكيف يُنْكَرُ على المحدِّثينَ قبُولُ مَنْ حاربه ولم يكفِّره، وعُذْرُ الزيديَّة في قبول الخوارجِ من كونهم متأوِّلين هو بعينه عذرُ أهلِ السنة، ومدركُ العمدِ والخطأ خفيٌّ، بل محجوبٌ لا يَعْلَمُهُ إلاَّ اللهُ، ولذلك جاء في الحديث: " إنِّي لَمْ أُومَرْ أنْ أفَتِّشَ عنْ قُلُوبِ النَّاس " (4) فلذلك رَجَعَ أهلُ السُّنَّة فيه إلى ما ظهر من
__________
(1) تقدم تخريجه ص 182.
(2) تقدم تخريجه ص 180.
(3) كلمة ذكر لم ترد في (ج).
(4) أخرجه أحمد 3/ 4، والبخاري (4351) ومسلم (1064) (144) من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظ البخاري " إني لم أومر إن أَنْقُبَ قلوب الناس، ولا أشق بطونهم " ولفظ أحمد ومسلم " إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم ".(1/385)
الشخصِ، ووكلوا باطِنَه إلى اللهِ -تعالى- إلا مَنْ ظَهر نِفاقُه، أو رِدَّتُهُ، أو قامتِ القرائن الضرورية على فجوره، وتعمُّدِه وجُرأتِه. وسيأتي تحقيقُ الكلام في هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني، وفي الوهم الثالث والثلاثين.
وأما الجرحُ في الرواية، فلا يثبت الجرحُ فيه بارتكاب بعضِ الحرام الذي يُمكن تأويلُه مع دعوى التأويلِ، وظهورِ الصدق. وسيأتي تفصيلُ هذه الجملة عند الكلام على المتأولين إن شاء الله، ونبينُ هناك أنَّ الذي ذهبنا إليه في هذه المسألة هو الذي ذهب إليه جمهورُ العِترة -عليهم السلام- وإنَّا لا نقبل منْ لم يقبلوا ممن ظهر منه عدمُ التأويل، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
فقد تبيَّن بهذا أنَّ السَّيِّد اعترض المحدِّثين بقبول مجهولِ الصَّحابة أو العاصي منهم على جهة التأويل.
فأما المجهول، فقد بينَّا أن قبوله مذهبٌ شائعٌ بينَ العلماء من أهل البيت وأشياعهم، والمعتزلة والفقهاء، وسائر من خاض في العلم من المتقدمين والمتأخرين، وأنَّ كتب الأصوليين مشحونةٌ بذكره، والخلاف فيه.
وأما المتأول، فسوف نبيِّن فيه ما يشفي ويكفي -إن شاء الله تعالى- فلا معنى لِقدح السَّيِّد على المحدِّثين بذلك، ولا عَيْبَ على من قرأ كُتُبَ الحديث في ذلك، وهذا مما كنتُ أتوهَّمُ أنَّه لا يقع فيه إنكارٌ، ولا يَمُرُّ القدح به على خاطر.
الوجه الرابع: أنّ قوله: إنه يَبْطُلُ بذلك كثير مما في الصحاح، كلامُ مَنْ لم يعرف ما معنى الصحاح: فإنَّ الصَّحاح لم تُصَنَّفْ لمعرفةِ الحديث المجمع عليه لا سوى، بل وُضِعَتْ لذلك، وللقسم الآخر(1/386)
المختلف فيه، وسيأتي بسطُ ذلك، وبيانُ اختلاف المحدِّثين في التصحيح وشروطه وأنه ظنيٌّ، وأنَّ اختلافهم فيه كاختلاف الفقهاء في الفروع.
وتلخيص هذا الجواب: أن يقول ما يعني بأنّه يبطل بذلك كثير، هل عند جميع الأمَّة أو عندك وعند بعض الأمَّة؟ الأول ممنوع، والثاني مُسلَّم (1) كما سيأتي مبسوطاًً مبرهناً.
المسألة الثانية التي أنكرها السَّيِّد، وزعم أنَّه يبطل ببطلانها كثير من حديثهم، هي قولهم: إنَّ الصحابي هو من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به مصدقاً له، وقد تحامل السَّيِّد على المحدِّثين في هذه المسألة فأطلق عليها اسمَ الباطل الَّذي لا يُطلق على أمثالها من المسائل المحتملة، وهذه المسألة مشهورة في الأصول متداولة بين أهل العلم، وقد ذكر ابنُ الحاجب أنها لفظيَّة يعني أنَّ النزاعَ فيها راجعٌ إلى إطلاق لفظيٍّ، وهو مدرك ظنيٌّ لغويٌّ (2) أو عرفيٌّ. وقد قال السَّيِّد أبو طالب في كتاب " المُجزي ": إنَّ الذي ذكره المحدثون يُسمَّى صحبةً في اللغة، قال -عليه السلام- ما معناه، ولكنَّه لا يسمَّى صحبةً في العُرف السابقِ إلى الأفهامِ. ولا شكَّ أنَّ المقرَّرَ عند المحققِّين تقديمُ الحقيقة العرفيَّة على الحقيقة اللغوية الوضعيَّة. وكلامه -عليه السلام- هذا جيِّد قويٌّ.
وقد (3) خالف الفقيهُ عبدُ الله بن زيد، فقال في " الدُّرَر المنظومة ": إنَّ من رأى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وأخذ عنه مرةً واحدة يُسمَّى صحابيَّاً في العُرف، ولا يُسمَّى بذلك لغةً وفي الحديث ما يَدُلُّ على صحة
__________
(1) في (ب) زيادة هنا: ولا يقر تسلمه.
(2) في (ج): لغوي ظني.
(3) "قد" لم ترد في (ج).(1/387)
كلام أبي طالب، من ذلك ما خرَّجه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيُّ من حديث أبي سعيد الخدري أنه كان بَيْنَ خَالِدِ بنِ الوليد، وعبدِ الرحمن بن عوف شيءٌ، فسبَّهُ خالدٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تَسُبُّوا أصْحابِي، فإنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَق مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبَاً ما بَلَغَ مُدَّ أحدِهِمْ ولا نَصِيفَهُ " (1) والحجةُ منه في قوله في خِطاب خالد: " فإنَّ أحدَكم " وهذا محمول على أنَّه قبلَ طولِ صحبة خالد.
ومن ذلك ما رواه أحمدُ بنُ حنبل في " مسنده " عن معاوية بن قرَّة، عن أبيه قال: مَسَحَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي، وفي رواية: سمعتُ أبي وكان قد أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - فمسح رأسَه واستغفر له، وفي رواية: قلنا: أصحبه؟ قال: لا، ولكنَّه كان على عهده قد حلب وصر. قال الهيثمي في " مجمع الزوائد " (2) في مناقب قُرَّة المزنيِّ: رواه كُلَّه أحمد بأسانيدَ والبزَّار ببعضه، وأحد أسانيدهما رجالُه رجال الصحيح غَيْرَ معاوية بن قرَّة وهو ثقة.
ولا بُد من الكلام في فصلين في هذه المسألة:
الفصل الأول: في بيان ظهور ما استغربه السَّيِّد -أيَّدَه الله- من تسمية ذلك الذي ذكره المحدِّثون صحبة في الكتاب والسنة والإجماع.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 180.
(2) 3/ 436، وانظر " المسند " 4/ 19 و" زوائد البزار " رقم (2749) وقوله: قد حلب وصر، يقال: صر الناقة يصر صراً: شد ضرعها بالصرار -ككتاب- وهو خيط يشد فوق الخلف لئلا يرضعها ولدها. وفي " الإصابة " 1/ 232: قرة بن إياس بن هلال بن رباب المزني جد إياس بن معاوية القاضي .. قال البخاري وابن السكن: له صحبة .. ، وذكره ابن سعد في طبقة من شهد الخندق، وقال أبو عمر: قتل في حرب الأزارقة في زمن معاوية، وأرخه خليفة سنة أربع وستين.(1/388)
ولنُقَدِّمْ قبلَ ذلك مقدِّمةً: وهي أنَّ الصحبة تُطْلَقُ كثيراً في الشيئين إذا كان بينَهُما ملابسة، سواءً كانت كثيرةً أو قليلة، حقيقيةً أو مجازيةً، وهذه المقدمة تُبَيِّن بما (1) ترى من ذلك في كلامِ الله ورسوله، وما أجمع العلماءُ عليه من العبارات في هذا المعنى.
أمَّا القرآن، فقال (2) الله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] فقضى بالصحبة مع الاختلاف في الإسلام الموجب للعداوة لما جرى بينهما من ملابسة الخطاب للتقدم (3)، وقد أجمعت الأمَّة على اعتبار الإسلام في اسم الصحابي، فلا يُسمَّى من لم يُسلم صحابيَّاً إجماعاً، وقد ثبت بالقرآن أنَّ الله سمَّى الكافر صاحباً للمسلم، فيجب أن يكون اسمُ الصحابيِّ عُرفيَّاً، وإذا كان عُرْفياً اصطلاحيّاً كان لكل طائفة إن تصطلح على اسمٍ -كما سيأتي تحقيقُه- قال تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] وهو المرافق في السَّفَرِ، ولا شك أنَّه يدخل في هذه الآية الملازم وغيره، ولو صَحِبَ الإنسان رجلاً ساعة من نهار وسايره في بعض الأسفارِ، لدخل في ذلك، لأنَّه يَصْدُق أن يقول: صحبتُ فلاناً في سفري ساعة من النَّهار، ولأن من قال ذلك لم يرد عليه أهل اللغة، ويستهجنوا كلامه.
وأمَّا السنَّة، فكثير غيرُ قليل، وَمِنْ أوضحها ما ورد في الحديثِ الصحيحِ مِن قوله -عليه السلام- لِعائشة رضي الله عنها: "إنَّكُنَّ
__________
(1) في (ج): ما.
(2) في (ب): فقد قال.
(3) في (ب): للمتقدم.(1/389)
صَواحِبُ يُوسُف" (1) فانظر أيُّها المنصف ما أبعدَ هذا السبب الذي سمَّيت به النَّساء صواحب يوسف، وكيف يستنكر مع هذا أن يُسمّى من آمن برسول الله ووصل إليه وتشرَّف برؤية غُرّته الكريمة صاحباً له، ومن أنكر على من سمَّى (2) هذا صاحباً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فليُنْكِرْ على رسول الله حين سمَّى النساء كُلَّهُنَّ صواحبَ يوسف.
ومن ذلك الحديثُ الذي أُشيرَ فيه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقتل عبدَ الله بن أُبيٍّ رأسَ المنافقين فقال -عليه السلامُ-: " إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يُقَال: إنَّ مُحَمَّداً يقْتُلُ أَصْحَابَه " (3) فسمَّاه صاحباً مع العلم بالنِّفاق للملابسة الظاهرة مع العلم بكُفرِه الذي يقتضي العداوةَ، ويمحو اسم الصحبة (4) في الحقيقة العرفية.
ومما يَدُلُّ على التوسع الكثير في اسم الصحبة إطلاقها بين العقلاء وبين الجمادات كقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 39] ومثل تسمية ابنِ مسعود صاحب السِواد (5) وصاحب النعلين والوِسادة.
وأمَّا الإجماع، فلا خلاف بينَ الناسِ أنَّه كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لاقى المشركين في الحرب فقُتِل من عسكر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جماعةٌ، ومِن المشركين
__________
(1) أخرجه أحمد 6/ 96 و109 و202 و210، والبخاري (3384) ومسلم (420)، ومالك 1/ 170، والدارمي 1/ 39.
(2) في (ب): يسمي.
(3) أخرجه البخاري (3518) و (4905) و (4907) ومسلم (2584) (63)، والترمذي، (3315) وأحمد 3/ 393 من حديث جابر بن عبد الله.
(4) في (ج): الصحابة.
(5) السَّواد: السرار، انظر " سير أعلام النبلاء " 1/ 468 - 469 بتحقيقنا طبع مؤسسة الرسالة.(1/390)
جماعة أن يُقال: قُتِلَ مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كذا وكذا، ومن المشركين كذا وكذا، وبذا جرى عَمَلُ المؤرِّخين والإخباريِّين، يقولون في أيَّام صِفِّين: قُتِلَ من أصحاب عليٍّ كذا، ومن أصحاب معاوية كذا، ولا يَعْنُونَ بأصحابِ عليٍّ من لازمه، وأطال صحبتَه، بل من قائل معه شهراً، أو يوماً، أوَ ساعة. وهذا شيء ظاهر لا يستحق مَنْ قال بمثله الإنكار.
ومن ذلك أصحابُ الشافعي، وأصحابُ أبي حنيفة، وأصحاب النَّصِّ، وأصحابُ الحديثِ والفقه، وأصحابُ الظاهر، يُقال هذا لمن لم ير الشافعيَّ، ولا يصحبُه قليلاً ولا كثيراً لملابسة ملازمة المذهب، ولو دخل في مذهب الشافعيِّ في وقتٍ، لقيل له في ذلك الوقت: قد صار مِن أصحابه، من غير إطالة ولا ملازمة للقول بمذهبه، وكذا (1) تسميتُه -عليه السلامُ- صاحبَ الشفاعةِ قبل أن يَشْفَعَ هذه ملابسة بعيدة، وكذا أصحابُ الجنة قبلَ دخولها، وأمثال ذلك. وكذلك سائرُ هذه الأشياء مما أُجْمعَ على صحته. كُلُّ هذا دليل على أنَّ اسمَ الصحبة يُطلق كثيراً مع أدنى ملابسة، والأمرُ في هذا واسع، وهي لفظة لغوية، والاختلاف فيها على أُصولنا أهونُ من الاختلاف في الفروعِ الظنيَّة التي كُلُّ مجتهدٍ فيها مُصيب (2)، لأنَّ
__________
(1) في (ج): وكذلك.
(2) اختلف العلماء في الواقعة التي لا نص فيها على قولين، أحدهما: أنه ليس لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين، بل حكم الله تعالى فيها تابع لظن المجتهد، وهؤلاء هم القائلون بأن كل مجتهد مصيب، وهم أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وجمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة، قال في " جمع الجوامع " وشرحه: والصحيح وفاقاً للجمهور أن المصيب فيها واحد، ولله تعالى فيها حكم قبل الاجتهاد، قيل: لا دليل عليه، بل هو كدفين يصادفه من شاء الله، والصحيح أن عليه أمارة، وأنه، أي: المجتهد مكلف بإصابته، أي: الحكم لإمكانها، وقيل: لا لغموضه، وإن مخطئه لا يأثم، بل يؤجر لبذله وسعه في طلبه. =(1/391)
الفروع الظَّنيَّة مشتملة على التحليل والتحريم، هذه لفظة لغوية ليس تحتها ثمرة.
فأمَّا عدالةُ الصحابة وعدمها، فهي مسألة ثانية بدليل منفصلٍ عن التسمية.
وأما الاحتجاجُ بقول الصحابيِّ، وجواز تقليد المجتهد، فليس بصحيح عندنا حتى نُفرِّعه على هذه المسألة.
وأما ترتيبُ معرفة إجماعهم على هذا، فغلط، وهَّمه عبد الله بن زيد -رحمهُ الله-، لأنَّه لا يكون إجماعاً حتى يُصْفِقَ عليه أهلُ ذلك العصر: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ لم يره، ومن رآه مرةً أو أكثر، لأن الحجَّة هي إجماعُ المؤمنين، لا إجماعُ مَن صَحِبَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - منهم، وهذا واضح -والله سبحانه أعلم-.
فبان لك أنَّ الأمرَ قريبٌ في هذه التسمية، وأنَّ قول السَّيِّد: إنَّ قول المحدثين باطل قول بديع، وأن المسألة أهونُ من ذلك.
وقد قال غيرُ واحدٍ من العلماء بجواز إثبات اللغة بالقياس، واختاره المنصورُ بالله في " الصفوة " ولم يُنْكِرْ ذلك أحدٌ عليهم، وهو أعزبُ من
__________
= وفي " التحرير والتقرير ": والمختار أن حكم الواقعة المجتهد فيها حكم معين أوجب طلبه، فمن أصابه " فهو المصيب، ومن لا يصيبه، فهو المخطىء ونقل هذا عن الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وذكر السبكي أن هذا هو الصحيح عنهم، بل نقله الكرخي عن أصحابنا جميعاً، ولم يذكر القرافي عن مالك غيره، وذكر السبكي أنه هو الذي حرره أصحاب الشافعي عنه، وقال ابن السمعاني: ومن قال عنه غيره، فقد أخطأ عليه.
ومن أراد التوسع في هذه المسألة، فليراجع " المحصول " للفخر الرازي ج/2/ق/3/ 47 - 91 من مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود.(1/392)
قول المحدثين، وأكثرُ ما في الباب أن يُضَعَّف دليلُهُم، فما شأنُ الإنكارِ على من اتّهم بدعوى الاجتهاد، والسَّيِّد ذكر ذلك في الاستدلال على الشكِّ في تعذُّرِ الاجتهاد والقطع بتعسُّره، وأين ذلك الذي قصد من اسم من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللغة وما بيْنَ هذين من الملابسة.
الفصل الثاني: في بيان المختار.
والمختار أنَّ ذلك أمرٌ عرفيٌّ اصطلاحيُّ يختلفُ باختلاف الأزمانِ والبُلدان، وقد يُوضَعُ في بعضِ الأزمان اصطلاح لم يكن قبلَ ذلك الزمان، مثل اسم النَّحو، فإنَّهُ اسمٌ مُوَلَّدٌ غيرُ عربي (1) وقد يصطَلِحُ بعضُ أهلِ الفنون في فَنِّهم ما لم يصطلح عليه غيرُهُم مثلَ الكلام، فإنَّه عند النحاة المفيد، وعند المتكلمين: ما تركَّبَ مِن حرفين فصاعداً، فإذا ثبت ذلك، لم يمتنِعْ أن يصطَلِحَ المحدِّثون على أمرٍ في تسمية الصحابة، ويصطَلِحَ الأصوليُّون على خلافه، ويكونَ المفهوم من اصطلاحِ كل فريق ما اصطَلَحُوا عليه، مثل ما يفهم من النحاة متى أطلقوا اسم الكلام أنَّه المفيد، وأنَّ الكلمة الواحدة لا تُسمَّى كلاماً. ويُفهم من المتكلمين متى أطلقوا ذلك خلافَ ما فهمنا من النحاة، ومثل هذا لا حَجْرَ فيه، ولا تضييق -والحمد لله-.
ومدارُ كلام السَّيِّد في هذه الأمور كلها على إنكار مخالفة المحدِّثين لاختياره -أيده الله- في التصحيح وشرائطه، وهذه غفلة عظيمة، لأن تصحيحَ الحديثِ ظنيٌّ اجتهادي، ولذلك اشتدَّ الخلافُ في شرائطه، ألا ترى أنَّ شرط البخاري غيرُ شرطِ مسلم في الرجال والاتصال، وكذلك
__________
(1) انظر " اللسان " 15/ 309.(1/393)
الاختلافُ في قبول المتأولين، والفرق بينَ الداعية وغيره، وبين من بلغ الكفرَ، ومن لم يبلغه، ومع ذلك، فالخلافُ في تصحيح الحديث، كالخلاف في فروع الفقه لا يستحق النكيرَ، وقد ذكر ابنُ حجر في مقدمة شرح البخاري (1) مما خُولِفَ البخاريُّ في تصحيحه أكثرَ مِن مئة حديث بأعيانها غيرَ ما خُولِفَ فيه من القواعد، مثل حديث عكرمة (2) وقبول عنعنة المدلسين (3) في بعض المواضع.
فالمحدثون قصدوا تدوينَ السنن على ما اختاروه في مواضع الخلاف والسَّيِّد ظن أنُّهم ادَّعوا الإجماع أو الضرورة في التصحيح، فبنى على غير أساس- وسيأتي زيادة بيان لهذا. وبقية ما ذكره السَّيِّد -أيَّده الله تعالى- يشتمل على مسألتين:
أحدهما: من قاتل علياً -عليه السلام- من البُغاة والخوارج
__________
(1) ص 346 - 383.
(2) هو عكرمة البربري أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس، أصله من البربر، كان لحصين بن أبي الحر العنبري، فوهبه لابن عباس لما ولي البصرة لعلي، احتج به البخاري وأصحاب السنن، وتركه مسلم فلم يخرج له سوى حديث واحد في الحج مقروناً بسعيد بن جبير، وإنما تركه مسلم لكلام مالك فيه، وقد تعقب جماعة من الأئمة ذلك، وصنفوا في الذب عن عكرمة، منهم أبو جعفر بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، وأبو عبد الله بن مندة، وأبو حاتم بن حبان، وأبو عمر بن عبد البر وغيرهم. له ترجمة حافلة في " سير أعلام النبلاء " 5/ 12 - 36.
(3) في " توضيح الأفكار" 1/ 355 ما نصه: وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي للحافظ أبي الحجاج المزي: وسألت عما وقع في " الصحيحين " من حديث المدلس معنعناً، هل نقول: إنهما اطلعا على اتصالها. قال: كذا يقولون، وما فيه إلا تحسين الظن بهما، وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما يوجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح.
قال الحافظ ابن حجر: وليست الأحاديث التي في " الصحيحين " بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط، وإما ما كان في المتابعات فيحتمل التسامح في تخريجها كغيرها.(1/394)
والموارق، والسَّيِّد ذكر هذه المسألة في هذا الموضع ذكراً مختصراً، وأعادها فيما يأتي بأطول من ذلك، فنؤخرها إلى حيث بسط القولَ فيها.
والمسألة الثانية: قبولُ الأعراب، والسَّيِّد قد أعادها حيثُ بسط القولَ في هذا المعنى، وقد ذكر في هذا الموضع الأعرابي الذي بال في المسجد (1) ووفد بني تميم (2)، وما نزل فيهم، ووفد عبد القيس (3) ولم يُعِدْ هذه الأشياء في غيرِ الموضع فنذكرها ها هنا، فهي ثلاثُ حُجج احتج بها السَّيِّد على بُطْلانِ كثير من أخبار الصحاح.
الحجة الأولى: خبرُ الأعرابيِّ الذي بال في مسجد رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.
قال السَّيِّد أيَّدَه الله: إنَّهُ يلزم أنَّه عدل. قلنا: الجوابُ من وجوه:
الوجه الأول: أن نقول من أين صح للسَّيِّد أنه كان في عصره -عليه السلامُ- أعرابيٌّ بال في المسجد، فثبوتُ هذا مبنيٌّ على صحة طرق الحديث وقد شكَّ في تعذرها، إن صحَّت طريق هذا، بطل الشَّكُّ، إذ من البعيدِ أن يصح طريقُ هذا دون غيرهِ.
الوجه الثاني: أنَّا قد ذكرنا أنَّ كل مسلم ممن عاصر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يُعْلَمُ جرحُهُ، فإنَّه عدلٌ عند الجِلَّة من علماء الإسلامِ من الزيدية، والمعتزلة، والفقهاء، والمحدثين، وأن هذه المسألة مما لا ينكر. وهذا الأعرابيُّ مِن جملة من دخلَ تحت هذا العموم فنسأل السَّيِّد: ما الموجب
__________
(1) تقدم تخريجه ص 370.
(2) أخرجه أحمد 4/ 426 و431 و433 و436، والبخاري (3190) و (4365) و (4386) والترمذي (3951).
(3) تقدم تخريجه ص 371.(1/395)
لتخصيصه بالذكر؟ فإن الخصم ملتزم لعدالته، ومطالب بإبداء المانع منها، فإن قال السَّيِّد: إنَّ بولَه في المسجد يمنع من العدالَة، لأنَّه محرَّم.
فالجواب عليه: أن الجرحَ بذلك غيرُ صحيح، لأنَّه لا دليلَ على أنَّه فعله وهو يعلمُ بالتحريم، ويقوِّي هذا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - منع مِن قَطْعِ درَّتِهِ، ونهي من نهاه، وقال: " إنَّ منْكمْ مُنَفِّرينَ " (1) ولو كان في فعله متعمداً لارتكاب ما حرَّمه اللهُ -تعالى- مجترئاً معانداً لم يستحق هذا الرفق العظيم، ولكان الأشبه أن يُزجر عن الجرأة، وهذا مقوٍّ فقط.
والمعتمد أنَّ الأصل جهله بالتحريم، لكنِّا تقوينا بأنه -عليه السلامُ- رَفَقَ به، ولان له لجهله بذلك -والله أعلم-.
فإن قال السَّيِّد -أيده الله-: إنَّ ذلك يقدح في العدالة من أجل دِلالته على الخِسَّة وقلة الحياءِ والمروءة، إذ البولُ في حضرة الناس يَدُلُّ على ذلك، كما يقدح بأمثال ذلك من المباحات، كالأكل في الأسواق.
قلنا: الجواب أنَّ هذا مما يختلِفُ بحسب العُرف، وقد كانت الأعرابُ في ذلك الزمان وفي غيره لا تستنكِرُ مثلَ ذلك في باديتها، فكل ما كان يعتادُهُ أهلُ الصيانة من المباحات في بلدٍ أو زمانٍ لم يقدح في عدالة أحدٍ من أهل ذلك الزمان، ولا مِن أهل ذلك المكان. وقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي في المدينة بغير ردَاءٍ، ولا نعلٍ، ولا قَلنْسُوَةٍ يعود المرضى كذلك في أقصى المدينة. ومثل هذا في غير ذلك الزمان، وفي بعضِ البُلدان مما يتكلم بعضُ أهلِ الفقه في قبولِ فاعله لعرف يختصُّ بتلك البلدة، وبذلك الزمان، ولم يكن هذا مستنكراً في زمانه -عليه السلام-
__________
(1) تقدم تخريجه ص 173.(1/396)
فقد كانوا أقربَ إلى عرف أهل البادية.
وكذلك فقد ورد عنه -عليه السلام- أنه أخذ قِطْعَةً من لحم، وجعل يلُوكُها في فيه وهو يمشي في الناس، ذكر معناه أبو داود (1).
وقد أردت -عليه السلامُ- أمرأةً خلفه في بعض الغزوات وهي أجنبية على بعيره (2) وربَّما كان هذا مما يتجنَّبُه أهلُ الحياء في بعض الأزمان وبعض الأمكنة، وقد ثبت أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتجنَّبه، وقد ثبت أنَّه -عليه السلام- كان أشدَّ حَيَاءً مِن العذْرَاءِ في خِدْرِهَا (3) وأنَّه كان لا يُثْبِتُ بصرَه في أحدٍ حياءً منه. فلولا اختلاف العرف لم يفعل -عليه السلام- ما يُستَحيي منه في غير زمانه -عليه السلام-.
وقد غَلِطَ من جرح الصُّوفيَّة بما يرتاضون عليه من هذه المباحات، مغتراً بعموم تمثيلِ الفقهاءِ، والوجهُ في الغلط في ذلك أنَّه ليس بجرح في
__________
(1) لم نجده في سنن أبي داود، وفي " المطالب العالية " 2/ 319 من طريق عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل قائماً وقاعداً. وفيه ابن أبي ليلى وهو ضعيف، وفي سنن الترمذي (1880) وصححه عن ابن عمر قال: كنا نأكل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام.
(2) المحفوظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه أردف خلفه صفية زوجته كما في البخاري (6185) ومسلم (1345) ولم نقف فيما بين أيدينا من مصادر على هذا الذي ذكره المصنف. وفي سنن ابن ماجه (2131) عن ميمونة بنت كردم اليسارية أن أباها لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي رديفة له، فقال: إني نذرت أن أنحر ببوانة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل بها وثن؟ قال: لا، قال: أوف بنذرك، وإسناده قوي وصححه البوصيري في الزوائد. فميمونةُ في هذا الحديث كانت ردف أبيها لا ردف النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانظر " مسند أحمد " 6/ 336.
(3) أخرجه من حديث أنس بن مالك البخاري (3562) و (6102) و (6119) ومسلم (2320) وابن ماجه (4180)، والترمذي في " الشمائل " (351) وأحمد 3/ 77 و79 و88 و91 و92، وفي الباب عن أنس عند البزار، وعن عمران بن حصين عند الطبراني كما في " المجمع " 9/ 17. والخدر: سِترٌ يُمُد للجارية في ناحية البيت.(1/397)
نفسه بالاتفاق، لأنَّه مباح لا إثم فيه، وإنَّما عد جرحاً لمن هو في حقَّه دلالة على الاستهانة بالدِّين، وعدمِ المبالاة والخَلاعة، وقِلَّةِ الحياء، فحين صدر على وجهٍ يُعرف معه أنَّه لا يدل على ذلك، بل ربَّما عرف معه أنَّ صاحبه على العكس من ذلك، فأين دلالته على الجرح؟.
الوجه الثالث: لو قدرنا أنَّ هذا مما يجرح به، لكان مما يحتمل النظر والاختلاف، ولا يُعاب على من جرح به ولا على من لم يجرح به.
الوجه الرابع: سلَّمنا أنه مجروح، فيجبُ من السَّيِّد -أيَّدَه اللهُ- أن يُبيِّن كم روى هذا الأعرابيُّ مِن الحديث في كتب الصحاح، ومن أين له أنَّ أهلَ الصحاح رَوَوْا عنه؟.
الوجه الخامسُ: سلَّمنا أنَّهم رَووْا عنه، وأنه مجروح، فما وجهُ الاحتجاج على الشَّكِّ بتعذُّرِ (1) الاجتهاد بهذا، وليس يمنع هذا من إمكان الاجتهاد، بل كُلَّما كَثُرَ المجروحون، سَهُلَ الاجتهادُ، لأنه يَسْقُطُ التكليفُ بحديثهم، فَيقِلُّ التكليفُ بحفظه وبالعملِ به. والكلامُ مِن أصله إنّما هو في الاجتهاد، وأنّه متعسِّر أو متعذِّر.
الحجة الثانية: وفدُ بني تميم.
قال السَّيِّد -أيَّده الله-: إنَّه يلزم قبول حديثهم، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون} [الحجرات: 4].
والجوابُ من وجوه:
__________
(1) في (أ) و (ج): تعذر.(1/398)
الأول: من أينَ صَحَّ (1) أنَّها نزلت في بني تميم، وأنَّها نزلت في المسلين، والطريق إلى صِحة ذلك عندك مشكوك في إمكانها وتعذرها كما في سائرِ الأخبار.
الثاني: أنَّ نِدَاءهم له -عليه السلام- مِن وراء الحُجُرَاتِ كان قبل إسلامِهم، وإنَّما قال الله: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُون}، لأجل ندائهم، هذا هو السابقُ إلى الأفهام كما إذا قلت: إنَّ الذين يكفرون بالله لهم عذاب أليم. فإنَّ العذابَ الأليمَ مستحقٌّ بسبب الكفر، وهو تنبيه ظاهر على العلة، وقد ذكره أهلُ الأصول. قالوا: لو قال -عليه السلام- من أحدث فليتَوضَّأ، كان ذلك تنبيهاً على أنَّ الحدث هو الموجبُ للوضوء، فإذا ثبت ذلك، لم يتوجَّه عليهم بَعْدَ الإسلام الذمُّ الذي صدر على فعلهم قَبْلَه، وإنّما أنزَلَهُ اللهُ بعد إسلامهم تأديباً لهم ولغيرهم أن لا يعودوا لمثله، كما أنزل بعدَ توبةِ آدم -عليه السلام-: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121] تأديباً لِغيره من الأنبياء-عليهم السلام- ولِحكمة يستأثِرُ اللهُ تعالى بعلمها، وكما قال في طائفة من الصحابة يوم أحد: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنيا} مع وقوله: {وَلقَدْ عَفَى عَنْكمْ} [آل عمران: 152].
__________
(1) في (ج): يصح. وكون الآية نزلت في بني تميم رواه الواحدي في " أسباب النزول " من طريق معلى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، عن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله. ومعلى بن عبد الرحمن ضعفه الدارقطني وغيره. وأخرج الطبري والبغوي وابن أبي عاصم من طريق موسى بن عقبة، عن أبي سلمة، قال: حدثني الأقرع بن حابس التميمي أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا محمد اخرج إلينا، فنزلت {إن الذين ينادونك من وراء الحجرات} ... قال ابن مندة: الصحيح عن أبي سلمة أن الأقرع مرسل، وكذا أخرجه أحمد في " المسند " 3/ 488 و6/ 393، 394، وقد ساق ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام 4/ 560 - قصة وفد بني تميم في ذلك مطولة بانقطاع. وانظر " الدر المنثور " 6/ 86، 87.(1/399)
الوجه الثالث: أنَّ قوله: {لا يعقِلون} ليس على ظاهره لِوجهين:
أحدهُما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقلُ.
الثاني: أنَّه -سبحانه- أجلُّ من أن يَذُمَّ ما لا يَعْقِلُ، كما لا يَصِحُّ نزولُ آيةٍ في ذَمِّ الأنعامِ بعدم العقل، إذ من لا عقلَ له، فلا ذنب له في عدم العقل. إذا ثبت ذلك، فالمراد ذمُّهم بالجفاوة، وعدم التمييز للعوائد الحميدة، وآداب أهل الحياءِ والمروءة وهذا ليس من الجرح في شيء، فإنَّ لطفَ الأخلاق، والكيْسَ في الأمور، ليس مِن شرط الراوي. ومبنى الرِّواية على ظنِّ الصِّدق كما قَدّمناه، وأولئك الأعرابُ -لا سيَّما ذلك الزمان- كانوا من أبعدِ النَّاسِ عن الكذب، والظنُّ لصدقهم قويٌّ، لا سيَّما في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا بُدَّ -إِن شاء الله- من الإشارة إلى أنه لا داعي للمسلم إلى الكذب على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - في غالب الأحوال، وقد قدمنا الأدلة على أنهم عدول بدخولهم في الإسلام ما لم يَدُلَّ دليل على الجرح.
الوجه الرابع: أنَّ صدور مثلِ هذه القوارع، على جهة التأديب للجاهلين والإيقاظ للغافلين من الله تعالى، أو من رسوله -عليه السلام- لا تدُلُّ على جرح منْ نزلت فيه، أو بسببه ما لم يكن فيها ما يَدُلُّ على فسقه وخروجه من ولاية الله، فقد ينزل شيءٌ من القرآن العظيم، وفيه تقريع لبعض الأنبياء -عليهم السلام- وتأديبٌ لبعض الرسل الكرام، وقد قدَّمنا كلاماً في العدالة، ودللنا عليه، وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] وأنزل اللهُ أولَ سورة الممتحنة في شأن حَاطِبِ بنِ أبي(1/400)
بَلْتَعَه، وَشَدَّدَ على مَنْ والى أعداءَ اللهِ ولم يكن ذلك جرحاً في حاطب، فقد عَذرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونهي عمر عنه، وقال له: " إنَّك لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ على أهلِ بَدْرٍ، فقَالَ لَهُمْ: اعْملُوا ما شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ " (1).
وقد ثبت في صحيح مسلم (2) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ حاطباً يَدْخُلُ الجنة -رضي الله عنه-.
وقد نزل الوعيدُ في رفع الأصواتِ عند رسولِ الله، فأشفق (3) بعضُ الصحابة (4) من ذلك وكان جهوريَّ الصوتِ (5). ولم يكن ذلك جرحاً في أولئك.
__________
(1) أخرجه من حديث علي بن أبي طالب البخاري (3007) و (3081) و (3983) و (4274) و (4890) و (6259) و (6939) ومسلم (2494) وأبو داود (2650) و (2651) والترمذي (3302).
(2) رقم (2195) من حديث جابر، وأخرجه أحمد 3/ 325 و349، والترمذي (3956)، وعبد الرزاق في " المصنف " (20418) والطبراني في الكبير (3064).
(3) في (أ) و (ج): وأشفق.
(4) هو ثابت بن قيس خطيب الأنصار كما في هاش الأصول الثلاثة.
(5) أخرج البخاري (4846) من حديث موسى بن أنس، عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - افتقد ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه، فوجده في بيته منكساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شر، كان يرفع صوته فوق صوت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد حبط عمله، فهو من أهل النار، فأتى الرجل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره أنه قال كذا وكذا، قال موسى: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب اليه، فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة. وأخرجه مسلم (119) من طريق ثابت البناني عن أنس قال: لما نزلت هذه الآية {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ... } إلى آخر الآية جلس ثابت في بيته ... وأخرجه أحمد 3/ 137 بنحوه وفي آخره: قال أنس: وكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما كان يوم اليمامة، كان فينا بعض الانكشاف، فجاء ثابت بن قيس بن شماس وقد تحنَّط ولبس كفنه، ففال: بئسما تعودون أقرانكم، فقاتلهم حتى قتل.(1/401)
وقد أنزل اللهُ فيه -عليه السلامُ- سورة عَبَسَ، ونزل في آدم: {وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121].
وقال -عليه السلام- لأبي ذر -وهو الذي ما أظلَّتِ (1) السَّمَاءُ أصدَقَ منه-: " إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جاهلِيَّة " رواه البخاري (2) قاله -عليه السلامُ- وقد سبَّ امرأة، وقال لمن زَكَّى بعضَ الأمواتِ: " وما يُدْرِيكَ لَعَلهُ تَكَلَّمَ بِمَا لا يَعْنِيهِ أوْ بَخِلَ بِمَا لا يُغْنِيهِ " (3)، كما سيأتي في آخر الكتاب في أحاديث التخويف.
وعن عليٍّ -عليه السلام- لابن عباس لمّا راجعه في المتعة: إنَّكَ امْرُؤٌ تَائِه (4).
الوجه الخامسُ: سلَّمنا أنه جرح فيهم، فنحن نترُكُ حديثَهُم، فأين تعذُّرُ الاجتهادِ وتعسُّره إذا تركنا حديثَ بني تميم؟.
الوجهُ السادِسُ: أنَّ هذا يُودِّي إلى جرح بني تميم كُلِّهم، وهذا
__________
(1) حديث قوي بشواهده أخرجه من حديث عبد الله بن عمرو الترمذي (3801) وابنُ سعد 4/ 228 والحاكم 3/ 342، وابن ماجه (156) بلفظ: "ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذر".
وأخرجه من حديث أبي الدرداء عويمِر بنُ سعد 4/ 228، والحاكم 3/ 342، وأحمد 5/ 197 و6/ 442 وأخرجه من حديث أبي هريرة ابن سعد 4/ 228، وأخرجه من حديث أبي ذر الترمذي (3802) وانظر السير 2/ 59.
(2) تقدم تخريجه ص 233.
(3) أخرجه الترمذي (2316) من طريق عمر بن حفص بن غياث، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أنس ... وهذا سند رجاله ثقات إلا أن الأعمش لم يسمع من أنس. ولفظ الترمذي: " أولا تدري، فلعله تكلَّمَ فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه ".
(4) تقدم تخريجه ص 233.(1/402)
بعيد لم يُعْهَدْ مِثْلُه، إنَّما يُجرح رجل معيَّنٌ بشيء معيَّن، وأمَّا جرح قبيلة من المسلمين فلم يُعهد مثل هذا، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من أهل العلم.
الحجة الثالثة: وفدُ عبدِ القيس، ولم أعلم ما وجهُ تخصيصِهم بالذكر، فإنَّهم من جملة الأعراب إلاَّ أنَّه ارتدَّ منهم من ارتدَّ بعد الإسلام.
والجواب على ما ذكره من وجوه:
الأول: أنّ إسلامهم يقتضي قبولَ حديثهم ما داموا مسلمين، وردَّتُهم تقتضي ردَّ حديثهم من بعد أن ارتدوا، ولا مانع مِن ورود التعبُّد بهذا في العقل، ولا في الشرع المنقول بالتواتر المعلومِ معناه، بل قد بيَّنا فيما تقدم قبولَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن أسلم عقيبَ إسلامه، والدليلُ عامٌ لوفد عبدِ القيس ولغيرهم.
الثاني: إمَّا أن يكون السَّيِّد أنكر قبولَهم، لأن من أسلم لا يُقْبَلُ حتى يُختبر، أو لأنهم ارتدُّوا بعد الإسلام، إن كان الأوّل، فقد بيَّنا أنَّ قبولهم مشهور منسوب إلى طوائف الإسلام من الزيدية والمعتزلة والشافعية والحنفية، وسائر الفرق، وبينا الأدلةَ على ذلك وبيَّنا أنَّ أقصى ما في الباب أن لا يترجَّح للعالم موافقة الجماهير على هذا، لكن لا يَحِلُّ له الإنكارُ عليهم وإن كان السَّيِّد يُوافق أنَّ قبولَ المسلمين في ذلك الزمان قبل الاختبار غيرُ منكر، وإنّما أنكر قبول المسلم الذي يريد أن يرتدَّ بعد إسلامه، فهذا لا يصح لأمرين:
أحدهما: أنَّ العلم بأنَّه يُريد أن يرتدَّ من قِبَل علم الغيب الذي استأثر الله به، وقد حكم أميرُ المؤمنين -عليه السلام- بشهادة شاهدين، ثم انكشف أنهما شهدا من غير علم فلم يلزمه من ذلك محذور.(1/403)
وثانيهما: أنَّ العدل المخبور إذا فَسَقَ بعد العدالة، لم يقدح ذلك في شهادته وروايته قبلَ الفسق، ولا أعلم في ذلك خلافاً. وقد ثبت أنَّ المسلمين كانوا عدولاً في زمانه -عليه السلام- عقيب إسلامهم، فإذا كفروا بعدَ العدالة، لم يقدح كفرُهُم فيهم قبل أن يكفروا، ولا قال أحد: إنَّ الكفر يقدح في الراوي قبل أن يكفر.
الثالث: سلمنا أنَّ وفد عبدِ القيس مجاهيل ومجاريح فما للاجتهادِ، والتعذُّر أو التَعَسُّرِ، ولا نعلم لوفد عبد القيس حديثاًً إلا حديثاًً واحداً في دعوة نبويَّة وذلك ما رواه الإمام أحمد (1) عن وفد عبد القيس أنَّهم سَمِعُوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " اللهمَّ اجعلنا من عِبادك المنتجبين (2) الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، الوفدِ المتقبّلين ". قالوا: يا رسولَ الله: وما الوفدُ المتقبلون؟ قال: " وفد يَقْدَمُونَ من هذه الأمة مع نبيهم إلى ربهم -تبارك وتعالى- " أخرجه الهيثمي " في مجمع الزوائد " (3) وقال: فيه من لم أعرفهم.
وأحاديثُ الصحابةِ الكبار هي المتداولة في كتب الحديث والفقه والتفسير، وأحاديثُ الأعراب الجُفاة غيرُ معروفة، ورجال السُّنَّة قد صنَّفوا كتباً كباراً في معرفة الصحابة، فبينوا فيها من هو معروفُ العدالة من الأصحاب، ومن لا يُعرف إلا بظاهر إسلامه من الأعراب، ومن له رواية عنه -عليه السلامُ- ومَنْ ليس له رواية، ومن أطال الصحبة، ومن لم يُطِلْها، والناظر
__________
(1) في " مسنده " 3/ 431 و4/ 207، وفيه محمد بن عبد الله العمري، وهو مجهول، وباقي رجاله ثقات.
(2) المنتجب: هو المختار من كل شيء، وفي " المسند ": المنتخبين: وقد جاء تفسيره في المسند أنهم عباد الله الصالحون.
(3) 10/ 174.(1/404)
في كتب الحديث متمكن من تمييز أحاديث الصحابة المعدلين وأحاديثِ الأعراب المجهولين على ندورِها وقلتها، وإنَّما يلزم الجهل لو كان أهلُ الحديث يُرسِلُون الأحاديثَ، فأين تعذُّر الاجتهاد؟ وما معنى التشويش في جميع الحديث بأنَّ بعض وفدِ عبد القيس ارتدُّوا وإذا ارتدّ وفدُ عبدِ القيس فمَهْ (1) أتبطُلُ السُّنَّة، ويضيعُ العلمُ، ويلزم أن لا يَصِحَّ حديثُ الثقات من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا الكلامُ المعتلُّ؟! والاستدلال المختل؟!
وهذا ذكر جُلةِ الرواة من الصحابة رأيتُ أن أذكر أسماءهم لِيُعْرَفَ أنَّ حديثهم هو الذي يدور عليه الفقه، وينبني عليه العلم، وأنَّ حديث جُفاة الأعرابِ المجاهيل شيءٌ يسيرٌ نادرٌ على تقدير وقوعه، ويُعْلَمَ أنَّه لم يُبْنَ على حديث جفُاة الأعراب حكمٌ شرعيٌّ، فإن اتفق ذلك على سبيل الشذوذ، ففي نادر الأحوال ممن يستجيزُ ذلك من العلماء من غير ضرورة إلى ذلك، فإنه لو لم يستجز الرواية عنهم، كان له في القرآن وما صحَّ من السُّنَّة غُنيةٌ وكفاية.
وإذا أردتَ أن تعرِفَ صدق هذا الكلام، فَأرِنَا مسألة احتج عليها المُحَدِّثون والفقهاءُ بأحاديثِ الأعراب الجُفاة، وأخبرنا بمسألة واحدة تمسَّكوا فيها بأحاديث أولئك الأعراب. وكذلك حديثُ معاوية بن أبي سفيان، فإني ما أعلم أنه قد مرَّ لي في فقه الفُقهاء، ولا مذاهب المحدثين في التحليلِ والتحريم مسألةً ليس لهم فيها حُجَّةٌ إلا حديثَ معاوية وروايتَه، وفي عدمِ ذلك، أو نُدرته ما يدّلُّكَ على ما ذكرنا من أن جلَّة الرواة هُمْ عيونُ الصحابةِ المشاهير لا جُفاةُ الأعراب المجاهيل، فدع عنك هذه الشبَه
__________
(1) أي: فماذا؟، وفي حديث طلاق ابن عمر: قلت: فَمَه أرأيت إن عجز واستحمق؟!.(1/405)
الضعيفة والمسالِكَ الوعرة. وإما أن يكون من أهل العلم المجدِّدين لما دَرَسَ من آثاره، المجتهدين في الرَّد على من أراد خفضَ ما رفع الله مِن مناره، وإلا فباللهِ أرحنا من تعفيتك لِرسومه، وتغييرك لوجهه، فحديثُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ركنُ الشريعة المطهرة المحروسة إلى يوم القيامة وليس يَضُرُّ أهلَ الإسلام جهالةُ بعضِ الأعراب، فلنا عن حديثهم غُنيةٌ بما رواه عليٌّ بن أبي طالب، وأبو بكر، وعثمان، وعَمَرُ، وطلحة، والزبيرُ، وسعدُ بن أبي وقاص، وأبو عبيدة بنُ الجراح، وعبدُ الرحمن بنُ عوف، وسعيدُ بنُ زيد، هؤلاء العشرةُ المشهود لهم بالجنة -رضي الله عنهم- وبعدَهم من لا يُحصى كثرةً من نبلاء المهاجرين والأنصار، والذين اتَّبَعوهم بإحْسَانٍ مثل الإماميْن الكبيريْنِ سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنة الحسنِ والحسينِ -عليهما السلام- وأمَّهما سيدةِ نساء العالمين -رضي الله عنها-، وعمّارُ بنُ ياسر، وسلمانُ الفارسي، وخزيمةُ بنُ ثابت ذو الشهادتين، وأنسُ بن مالك خادمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعائشةُ أُمُّ المؤمنين -رضي الله عنها-، وحَبْرُ الأمَّةِ عبد اللهِ بن العباس، ووالدُه العباس عمُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخوه الفضلُ -رضي الله عنهم-، وجابرُ بنُ عبد الله، وأبو سعيد الخدريُّ، وصاحبُ السِّواد (1) عبدُ الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، والبراءُ بن عازب، وأمُّ سلمة أمُّ المؤمنين، وأبو ذر الغِفاريُّ الذي نصّ -عليه السلام- أنّه لم تُظِلَّ السَّماءُ أصْدَقَ لهجةً منه، وعبدُ الله بن عمرو الذي أَذِنَ له -عليه السلامُ- في كتابة حديثه الشريف، فكتب ما لم يكتبْه غيرُه (2)
__________
(1) السواد، بكسر السين، وقال أبو عبيد: يجوز الضم: السِّرار.
(2) أخرج أحمد 2/ 207 و215، والرامهرمزي في " المحدث الفاصل " (316) والخطيب في " تقييد العلم " 77، وابن عبد البر في جامع بيان العلم 89، وأبو زرعة في تاريخ دمشق (1516)، وابن عساكر 231 - 232 من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، =(1/406)
فاستكثر من طَيِّب، وأبو أمامة الباهليُّ، وحُذَيَفْةُ بنُ اليمان، والحافظُ الكبير أبو هريرة الدَّوسيُّ الذي قرأ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في نمِرتِه (1)، ثمَّ أمره، فلفَّها فلم ينسَ شيئاً مما سَمِعَه (2)، وأبو أيوب الأنصاريُّ، وجابرُ بن سَمُرةَ الأنصاري، وأبو بَكْرَةَ مولى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأسامةُ بنُ زيد مولاه -عليه السلام-، وسمرةُ بن جُنْدُبٍ، وأبو مسعود (3) الأنصاريُّ البدري، وعبدُ الله ابن أبي أوفى، وزيدُ بن ثابت، وزيدُ بن خالد، وأسماءُ بنتُ يزيد بنِ السكن، وكعبُ بنُ مالك، ورافعُ بن خدِيج، وسلمةُ بنُ الأكوع، وميمونةُ أمُّ المؤمنين، وزيدُ بنُ أرقم، وأبو رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعوفُ بن مالك، وعديُّ بنُ حاتِم، وأمُّ حبيبة أمُّ المؤمنين، وحفصةُ أمُّ المؤمنين، وأسماءُ بنتُ عميس، وجُبيرُ بن مطعم، وأسماءُ بنتُ أبي بكر الصِّديق ذاتُ النِّطاقين، وواثِلَةُ بنُ الأسقع، وعقبةُ بن عامر الجُهني، وشَدَّادُ بنُ أوس
__________
= قال: قلت: يا رسوله الله أكتب ما أسمع منك؟ قال: " نعم " قلتُ: في الرضى والغضب؟، قال: " نعم، فإني لا أقول إلا حقاً ". وسنده حسن، وأخرجه أحمد 2/ 161 و192، وأبو داود (3646) والدارمي 1/ 125، والحاكم 1/ 105 - 106 كلهم من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن عُبيد الله بن الأخنس، عن الوليد بن عند الله بن أبي مغيث عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو ... وهذا إسناد صحيح، وهو في تقييد العلم 74، وجامع بيان العلم: 89 - 90، والإلماع 146.
وأخرج البخاري في " صحيحه " (113) والرامهرمزي، برقم (328)، والخطب في " تقييد العلم " 83 من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدٌ أكثر حديثاً عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب.
(1) النمرة: إزار مخطط من صوف، والجمع نمار، قال ابن الأثير: كأنها أخذت من لون النمر، لما فيها من السواد والبياض.
(2) أخرجه البخاري (119) و (2350) و (7354) ومسلم (2294) من حديث أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إني أسمع منك حديثاًً كثيراً أنساه، قال: ابسُط رداءك فبسطته، قال: فغرف ثم قال: ضمه، فضممته، فما نسيت شيئاً بعده.
(3) في (ج): سعيد، وهو تحريف.(1/407)
الأنصاريُّ، وعبدُ الله بنُ زيد، والمِقدامُ أبو كريمة، وكعبُ بن عُجْرَة، وأمُّ هانىءٍ بنتُ أبي طالب، وأبو بَرْزة، وأبو جُحيفة، وبلالٌ المؤذن، وجُنْدُبُ بنُ عبد الله بن سفيان، وعبدُ الله بن مُغَفَّل، والمِقدادُ، ومعاويةُ بن حَيْدَةَ، وسهلُ بن حُنيف، وحكيم بنُ حِزام، وأبو ثعلبة الخُشَني، وأمُّ عطيَّة، وَمَعْقِلُ بنُ يسار، وفاطمةُ بنتُ قَيْسٍ، وخَبَّابُ بنُ الأرت، ومعاذُ بنُ أنس، وصُهَيبٌ، وأمُّ الفضلِ بنتُ الحارث، وعثمانُ بنُ أبي العاصي الثقفي، ويعلى بن أُميَّة، وعُتبة بن عبدٍ، وأبو أُسَيْدٍ السَّاعِديُّ، ومالكُ بنُ عبد الله بن بُحينةَ، وأبو مالك الأشعريُّ، وأبو حُميدٍ السَّاعديُّ، ويعلى ابنُ مُرّة، وعبدُ الله بن جعفر، وأبو طلحة الأنصاريُّ، وعبدُ الله بن سلَام، وسهلُ بن أبي حَثْمَة، وأبو المَليح الهُذَلِيُّ، وأبو واقدٍ الليثيُّ، ورِفاعةُ بن رافع، وعبدُ لله بن أُنيس، وأوسُ بنُ أوسٍ، وأمُّ قيس بنت مِحْصَنٍ، وعامرُ بنُ ربيعة، وقُرَّةُ (1)، والسّائبُ (2)، وسعدُ بنُ عُبَادَةَ، والرُّبَيِّعُ بنت مُعَوِّذٍ، وأبو بُردة (3)، وأبو شريح (4)، والمِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَة، وصفوانُ
__________
(1) هو قرة بن إياس بن هلال بن رياب المزني له في الكتب الستة ثمانية أحاديث كما في " تحفة الأشراف "، 8/ 281 - 283، وحديثه في مسند أحمد 4/ 19 و5/ 34 - 35. وثمت صحابي آخر يقال له: قرة بن دعموص النميري، وحديثه في " المسند " 5/ 72. وانظر " الإصابة " 3/ 232 - 234.
(2) يغلب على الظن أنه السائب بن يزيد الكندي، له في الكتب الستة ستة عشر حديثاًً كما في " تحفة الأشراف " 3/ 257 - 264، وله خمسة عشر حديثاً في " مسند أحمد " 3/ 449. وهناك عدد من الصحابة يسمون السائب، منهم: السائب بن الأقرع، والسائب بن الحارث بن صبرة، والسائب بن الحارث بن قيس، والسائب بن أبي حبيش، والسائب بن حزن، والسائب بن خباب، والسائب بن خلاد، والسائب بن أبي السائب، والسائب بن عبيد، والسائب بن عثمان، والسائب بن العوام، وغيرهم انظر " الإصابة " 2/ 8 - 13.
(3) هو أبو بردة بن نبار بن عمرو بن عبيد الأوسي، واسمه هانىء، وهو خال البراء بن عازب، له أربعة أحاديث في الكتب الستة، وحديثه في " المسند " 3/ 466 و4/ 44.
(4) هو أبو شريح الخزاعي وقد اختلف في اسمه، فقيل: كعب بن عمرو، وقيل: =(1/408)
ابن عسَّال، وسُراقة بن مالك، وتميمٌ الدَّاريُّ، وعمرو بنُ حُريث بن خولة الأزديُّ، وأسيدُ بنُ الحُضير، والنَّواسُ بنُ سمعان الكِلابيُّ، وعبدُ الله بن سَرْجِس، وعبدُ الله بن الحارث بن جَزْءٍ، والصَّعْبُ بن جثَّامة، وقيس بنُ سعد بن عبادة، ومحمد بن مَسْلَمة، ومالك بنُ الحويرث الليثيُّ، وأبو لُبابة بنُ عبد المنذر، وسليمانُ بنُ صُرَدٍ، وخَوْلَةُ بنتُ حكيم، وعبد الرَّحمن بن شِبْل، وثابتُ بن الضحاك، وطلقُ بن عليٍّ، وعبدُ الرحمن بن سَمُرة، والحكمُ بن عمير، وسفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكعبُ بن مرَّةَ، وأبو محذورة، وعروة بن مُضرِّس، ومجمّع بن جارية، ووابصة بنُ معبد الأسديّ، وأبو اليَسَرِ، وأبو ليلى الأنصاريُّ، ومعاوية بنُ الحكم، وحُذيفةُ ابن أسيد الغِفاري، وسلمانُ بن عامر، وعُروَةُ البَارِقي، وأبو بَصْرَة الغِفاريُّ، وعبدُ الرحمن بن أبزى، وعُمَرُ بنُ أبي سلمة، وسُبَيْعَةُ الأسلميَّة، وزينبُ بنتُ جحش أمُّ المؤمنين، وضُباعَةُ بنتُ الزبير بن عبد المطلب، وبُسْرَةُ بنتُ صفوان، وصفيَّةُ أمُّ المؤمنين، وأمُّ هاشم بنتُ حارثة الأنصارية، وأمُّ كلثوم، وأمُّ كُرْزٍ، وأم سُلَيْمٍ بنتُ ملحان، وأمُّ معقل الأسدِية.
وضِعفُ هؤلاء، بل أكثرُ من ضعفهم ممَّن لو ذكرناهم على الاستقصاء لطال ذِكْرُهُمْ، وطاب، فطالعهم إن شئت في كتاب " الاستيعاب " (1) وغيرِه من كتب معرفة الأصحاب، فمعرفتُهم أحدٌ أنواعِ
__________
= هانىء بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، وقيل: خويلد بن عمرو، وقيل: عبد الرحمن بن عمرو بن صخر بن عبد العزى بن معاوية بن المحترش بن عمرو بن مازن بن عدي بن عمرو بن ربيعة، أسلم يوم الفتح. له في الكتب الستة ستة أحاديث، وحديثه في " المسند " 4/ 31، و6/ 384 انظر " الإصابة " 4/ 102، و" أسد الغابة " 2/ 152.
(1) ألفه المحدث الفقيه الأديب المؤرخ أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عاصم =(1/409)
علوم (1) الحديث كما ذكره المصنِّفون في علم الحديث كابن الصَّلاح، وزين الدِّين، وغير واحد.
وقد ألفوا في معرفة الصحابة كتباً كثيرةٌ منها " الصحابة " لابن حِبَّان (2) مختصر في مجلد، و" معرفة الصحابة " لابن منده (3) كتابُ جليل، ولأبي موسى المَدِيني (4) عليه ذيل كبير، ومنها " الصحابة " لأبي نُعيم الأصبَهاني (5) جليلُ القدر، ومنها " معرفة الصحابة " للعسكريِّ (6)،
__________
= النمري القرطبي المتوفى سنة 463. قال الحافظ ابن حجر في مقدمة " الإصابة " 1/ 3: وسمى كتابه " الاستيعاب " لظنه أنه استوعب ما في كتب من قبله، ومع ذلك، ففاته شيء كثير، فذيل عليه أبو بكر بن فتحون ذيلاً حافلاً، وذيل عليه جماعة في تصانيف لطيفة. وقد استدرك عليه تلميذ أبي عمر الحافظ أبو علي الحسين بن محمد الجياني الأندلسي المتوفى سنة 498، وقد ذكر السهيلي في " الروض الأنف " 2/ 198 أن أبا علي قد ألحق استدراكه بالاستيعاب، وأن أبا عمر أوصى أبا علي بقوله: أمانة الله في عنقك متى عثرت على اسم من أسماء الصحابة إلا ألحقته في كتابي الذي في الصحابة.
وفي " الإعلان بالتوبيخ " ص 541: وذيل عليه جماعة كأبي إسحاق بن الأمين، وأبي بكر بن فتحون، وهما متعاصران، وثانيهما أحسنهما.
(1) في (ب): كتب. وليس بشيء.
(2) في " معجم ياقوت " بست 1/ 417 وهو بصدد تعداد مصنفات ابن حبان: فمن ذلك كتاب الصحابة خمسة أجزاء، وفي تاريخ التراث العربي لسزكين 1/ 309: أسماء الصحابة لمحمد بن حبان البستي. والجزء الثالث من كتابه الحافل " الثقات " قد تضمن تراجم للصحابة الذين رويت عنهم الأخبار وهو مطبوع لأول مرة في مطبعة دائرة المعارف العثمانية في حيدر آباد بالهند سنة 1397 هـ.
(3) هو الحافظ الإمام الرحال الثقة أبو عبد الله محمد بن يحيى بن منده المتوفى سنة 301. مترجم في " تذكرة الحفاظ " 2/ 741.
(4) هو الحافظ الكبير شيخ الإسلام أبو موسى المديني محمد بن أبي بكر بن عمر الأصبهاني صاحب التصانيف المتوفى سنة 581 هـ قال ابن الأثير: استدرك على ابن منده ما فاته في كتابه، فجاء تصنيفه كبيراً نحو ثلثي كتاب ابن منده، مترجم في " تذكرة الحفاظ " 4/ 1334 - 1337.
(5) هو أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة 430، قال الإمام الذهبي في " العبر " 3/ 170: تفرد في الدنيا بعلو الإسناد مع الحفظ والاستبحار من الحديث وفنونه.
(6) في " الإعلان بالتوبيخ " للسخاوي ص 542: ولأبي أحمد العسكري (الحسن بن =(1/410)
ومنها كتابُ أبي الحسن عَلِيِّ بنِ محمد بنِ الأثيرِ الجَزَرِيِّ (1) المسمّى بـ " أُسْدِ الغابة في معرفة الصّحابة " وهو أجمعُ كتابٍ في هذا المعنى جمع فيه بَيْنَ كتاب ابن مَندَه، وذيْلَ أبي موسى عليه، وكتاب أبي نُعيم و" الاستيعاب " وزاد مِن غيرها أسماءٌ (2).
واختصره جماعة، منهم الحافظُ أبو عبد الله الذَّهبيُّ في مختصر لطيف (3)، وذيَّل عليه زينُ الدِّين بعدَّةِ أسماءٍ لم تقع له ومنهم الكاشغري (4). وقد ذكروهم أيضاً في تواريخ الإسلام، وكتب رجالِ
__________
= عبد الله المتوفى سنة 382 هـ) فيه (أي: في الصحابة) كتاب رتبه على القبائل. وانظر " تاريخ بروكلمان " الملحق 1/ 193.
(1) المتوفى سنة 630 هـ، وهو مطبوع متداول، وأجود طبعاته طبعة الشعب في مصر، فإنها محققة تحقيقاً جيداً.
(2) قال الحافظ ابن حجر في تأليف ابن الجزري هذا: جمع فيه كثيراً من التصانيف المتقدمة إلا أنه تبع من قبله، فخلط من ليس صحابياً بهم، وأغفل كثيراً من التنبيه على كثير من الأوهام الواقعة في كتبهم.
(3) فسماه " تجريد أسماء الصحابة " وهو مطبوع في جزأين في حيدر آباد الدكن بالهند، ثم صورته دار المعرفة في بيروت.
قال الحافظ: وعلم لمن ذكر غلطاً، ولمن لا تصح صحته، ولم يستوعب ذلك ولا قارب. وقد وقع لي بالتتبع كثير من الأسماء التي ليست في كتابه، ولا أصله على شرطهما.
وقد ألف الحافظ ابن حجر كتاباً سماه " الإصابة في تمييز الصحابة " وهو جامع لما تفرق في الكتب التي ألفت قبله مع تحقيق وإضافات كثيرة لم ترد عند غيره، وقد استغرق في تأليفه أربعين سنة، ولكنه لم يكمل، فقد بقي عليه قسم المبهمات، ومع كل هذا الاستيعاب والتتبع لم يحصل له -كما قال في مقدمته- من ذلك جميعاً الوقوف على العشر من أسامي الصحابة بالنسبة لما جاء عن أبي زرعة الرازي، قال: توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن رآه وسمع منه زيادة على مئة ألف إنسان من رجل وامرأة، كلهم قد روى عنه سماعاً أو رؤية.
وقد طبع هذا الكتاب ست طبعات آخرها سنة 1970 - 1972 م بتحقيق علي محمد البجاوي، وهي أجود من سابقاتها إلا أنه وقع له فيها تحريف وسقط غير قليل، ولو اطلع المؤلف ابن الوزير على كتاب ابن حجر هذا لنوه به، ورفع من شأنه، وقدمه على غيره من المؤلفات التي هي من بابته.
(4) هو محمد بن محمد بن علي الكَاشْغَرِي النحوي اللغوي المتوفى سنة خمس وسبع =(1/411)
الكُتب الستة، مثل كتاب عزِّ الدين بن الأثير (1)، وكتب الحافظ أبي عبد الله الذهبي (2)، وكتب الحافظ المِزِّيِّ وغيرها من المصنفات الحافلة في هذا المعنى (3).
فانظر فيها يتميَّز لك الصحابيُّ من الأعرابيِّ، والفاضل من المفضول، والمخبور من المجهول.
فقد بيَّنَ علماءُ الحديث في علوم الحديث في كتب معرفة الصحابة أن الصحابة ينقسِمون إلى اثنتي عشرة طبقة:
الأولى: قُدَمَاءُ السابقين الذين أسلموا بمكة، كالخلفاءِ الأربعة.
والثانية: أصحابُ دارِ النَّدوة.
والثالثة: مهاجِرَةُ الحبشة.
والرابعة: أصحاب العقبة الأولى.
والخامسة: أصحابُ العقبة الثانية، وأكثرُهم من الأنصار.
__________
= مئة. أصله من كاشغر في وسط بلاد الترك، جاور بمكة، ودخل اليمن، فأقام بتعز، ومات في ساحل موزع. قال الجندي في " تاريخ اليمن ": كان ماهراً في النحو واللغة والتفسير والوعظ صوفياً أقام بمكة أربع عشرة سنة، وصنف، فجمع الغرائب، واختصر أسد الغابة، وقدم اليمن .. وكتابه مختصر " أسد الغابة " منه نسخة خطية في شستر بتي (3213) " العقود اللؤلؤية " 1/ 368 - 369، " بغية الوعاة " 1/ 230، وأعلام الزركلي 7/ 32.
(1) في القسم الذي لم يطبع بعد من جامع الأصول وهو قسم التراجم، وكانت النية متجهة لنشره بتحقيق صاحبنا الشيخ عبد القارر الأرنؤوط، وعسى أن يكون صدوره قريباً.
(2) منها كتاب " سير أعلام النبلاء " الذي نشرته مؤسسة الرسالة " ترجم فيه لـ 317 صحابياً، استوعبت تراجمهم الأول والثاني ومعظم الثالث.
(3) وممن ألف في فضائل الصحابة الإمام أحمد بن حنبل، وقد طبع كتابه في مجلدين بتحقيق وصي الله بن محمد عباس سنة 1983. نشرته جامعة أم القرى.(1/412)
والسادسة: أوَّلُ المهاجرين الذين وصلوا إليه إلى قباء قبل أن يدخلَ المدينة.
والسابعة: أهل بدر.
والثامنة: الَّذِينَ هاجروا بينَ بدرٍ والحُدَيْبِبَة.
والتاسعة: أهلُ بيعةِ الرضوان.
والعاشرة: من هاجر بَيْنَ الحديبية وفتح مكة.
والحادية عشرة: مُسْلِمَةُ الفتح.
والثانية عشرة: صبيانُ وأطفال رَأَوْا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفتح، وفي حجة الوداع وغيرهما (1).
قال ابن الصّلاح (2): ومنهم من زاد على ذلك، وأمَّا ابنُ سعد، فجعلهم خَمْسَ طبقاتٍ فقط (3).
فخذ من حديث هؤلاء الأعلامِ ما صفى وطاب، وأجمعَ على الاعتماد عليه ذوو الألباب، ودَعْ عنك التَّشكيك في السنن والارتياب، وخلطَ نبلاءِ الصحابة بجُفَاةِ الأعراب، والتحيُّر في ثبوت الآثار والاضطراب، وليأمن خوفُك من ضَياع السنّة والكتاب، فلتَطِبْ نفسك بحفظ ما ضَمِنَ بحفظه ربُّ الأرباب.
__________
(1) ذكر ذلك الحاكم أبو عبد الله النيسابوري صاحب المستدرك في كتابه " معرفة علوم الحديث " ص 22 - 24.
(2) في " مقدمته " الشهيرة ص 307.
(3) وقد استوعب تراجمهم المجلد الثالث والرابع من " الطبقات الكبرى ".(1/413)
قال: وأما الأصلُ الثاني -وهو معرفةُ تفسيرِ ما يحتاج إليه- فصعبٌ جداً حصولُه على الوجه المعتبر.
أقول: قد صنَّف السَّيِّد أيَّده الله تفسيراً للقرآن وتوسَّع في النقل حتى روى عن المخالفين عموماً، وعن الرَّازي (1) خصوصاًً، واعتمد تفسيره " مفاتيح الغيب " مع نصه على أنه معانِد غيرُ متأول، وعلى أنه غيرُ مُوَفَّقٍ ولا
__________
(1) هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي التميمي البكري الطبرستاني الرازي الملقب بفخر الدين، والمعروف بابن الخطيب الشافعي المتوفى سنة 606 هـ. كان إماماً في التفسير والعلوم العقلية، وعلوم اللغة، وكان العلماء يقصدونه من مختلف البلاد، ويشدون إليه الرحال من أقطار بعيدة، وله مجموعة كبيرة من التصانيف في فنون مختلفة تنبىء عن صحة ذهن، واطلاع واسع، وحافظة واعية، وقدرة فائقة على تقرير الأدلة والبراهين.
وتفسيره المسمى بـ " مفاتيح الغيب " يقع في ثماني مجلدات، وهو مطبوع متداول، حظي بشهرة واسعة بين أهل العلم لما تضمنه من أبحاث واسعة مستفيضة في نواح شتى من العلم إلا أنه يعاب بإيراد الشبهة الشديدة، ويقصر عن حلها.
وشيء هام لا بد من ذكره هنا هو أن الفخر رحمه الله يميل في تفسيره في مسألة الصفات إلى طريقة المتكلمين المؤولة النفاة، المناقضة لما كان عليه سلف الأمة المشهود لهم بالخيرية والمعرفة إلا أنه رحمه الله قد رجع عن ذلك في آخر عمره وتمنى أنه لم يشتغل بعلم الكلام، فقد جاء في طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 82 ما نصه: وروي عنه أنه قال: لقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فلم أجدها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، ورأيت أصح الطرق طريقة القرآن، اقرأ في التنزيه {والله الغنيُّ وأنتم الفقراء} وقوله تعالى {ليس كمثله شيء} و {قل هو الله أحد} واقرأ في الإثبات {الرحمن على العرش استوى} {يخافون ربَّهم من فوقهم} و {إليه يصعد الكلم الطيب} واقرأ أن الكل من الله قوله {قل كل من عند الله} ثم قال: وأقول من صميم القلب من داخل الروح: إني مقر بأن كل ما هو الأكمل والأفضل الأعظم الأجل، فهو لك، وكل ما هو عيب ونقص فأنت منزه عنه.
ومع أن الرازي بلغ في تفسيره إلى سورة الأنبياء ولم يكمله، وإنما أكمله من بعده أحمد بن محمد القمولي المتوفى سنة 727 هـ، كما في طبقات السبكي 9/ 30، فلا يكاد القارىء يلحظ فيه تفاوتاً في المنهج والمسلك بل يجري الكتاب من أوله إلى آخره على نمط واحد بحيث يتعذر على القارىء التمييز بين الأصل والتكملة. انظر ترجمة الرازي في " طبقات الشافعية " للسبكي 8/ 81 - 96، وطبقات الشافعية لابن قاضي شهبة 2/ 81 - 84.(1/414)
محقق. فالله المستعان. فإمَّا أن يكونَ على الوجه المعتبر أو لا، إن كان على الوجه المعتبر، فما الفرقُ بَيْنَ السَّيِّد وغيرِه مِن طلبة العلم؟ فإنَّهم يطلبُون ما طَلَب، ويفهمون ما فهم، وإن كان تفسيرُه على غير الوجه المعتبر، فهو أجلُّ مِن ذلك.
فإن قال: إنه لم يُفسِّر، إنّما روى تفسيرَ العلماء. قلنا: الجوابُ من وجوه:
الأول: أنه لا معنى للتقليد في التفسير على أصل السَّيِّد، لأن التفسير، إمَّا أن يكون ممَّا تُعبَّدنا فيه بالعمل، فليس لأحد أن يَعْمَل به، ولا يعتقده إلا المجتهد، وإن كان التفسيرُ مما تُعُبِّدْنا فيه بالاعتقاد دونَ العمل، فذلك أبعدُ على أصول أهل المذهب، لأن المقرر عندهم أنّه لا يجوزُ أن يتعبدنا اللهُ بالظَّنِّ في باب الاعتقادات ولم يبق إلا تفسيرُ ما هو معلومُ المعنى لكل مكلفٍ مثل تفسيرِ لا إله إلا الله، ونحْوُ ذلكَ مستغنٍ عن التفسير.
الثاني: أنّه قد قال: إن اتِّصال الرواية لهم على وجه الصِّحةِ صعبٌ أو متعذِّر، فشك في تعذُّرها، فدلَّ على أنَّه لم يحصل له روايةٌ صحيحة عنهم، لأنها لو حَصَلَتْ له، لوجب القطعُ، وزال الشَّكُّ في التعذُّرِ.
الثالث: إمّا أن تكون الرِّواية تفيد التفسير أوْ لا؟ إن لم تكن مفيدة، فالتصنيف عبثٌ، والقراءةُ فيه عبث، والاستماعُ له كذلك. وإن كانت تُفيد، لزم السؤال. ثم إن السَّيِّد في هذا الكلام لم يَزِدْ على أنَّه صعَّب، ولم يقطع بأنَّه محال، فأخبرنا إذا كان العلمُ بمعاني كتاب الله صعباً هل هو من الدِّين أم لا؟ إن قلتَ: ليس من الدِّين، خالفتَ الإجماع، وإن(1/415)
قلتَ: هو من الدِّين، فأخبرنا: كيف أمر الله فيما يَصْعُبُ (1) من الدِّين، هل أوصى بالصبر، أو أوصى بالترك، وكيف مدح الله المؤمنين؟ هل مدحهم بالتَّواصي بالصَّبْرِ حيث قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]. أو مدحهم بالترك بإجابة داعي الدَّعةِ، فقال: وتواصوا بالسَّهل وتواصَوْا بالترك، أو قال ما هو في معنى هذا. فكان اللائق أنَّ السَّيِّد يُوصينا بالصبر على هذا (2) الأمر الشاق، ويقوِّي عزائِمنَا على ذلك بما ورد في القرآن الكريم في نحو قَولِه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين} [البقرة: 153]. وقد ذكر بعضُ العارفين أن الله تعالى ذكر الصبرَ في نيِّفٍ وتسعين موضعاً، فلولا حُسْنُ التعرض للمشاق الدِّينية ووجوبُ ذلك في كثير من المواضع، ما ذكَرَ اللهُ الصبرَ، ولا أثنى على الصَّابرين.
قال: " لأن التفسيرَ إمَّا أن يكونَ مِن الرسول، أو من آحاد المفسِّرين: كابن عبَّاسٍ ومقاتلٍ ومجاهدٍ وقتادة، أو يرجع فيه العالِمُ إلى أئمة اللغَةِ والنحوِ: كأبي عُبيدة، والخليل، والأخفش، والمبرِّد (3)، فيأخذ معنى اللفظِ منهم ويفسر على (4) ما يُوافِقُ علومَ الاجتهاد التي قد أحرزها.
أمَّا الأوَّلُ وهو نقلُ التفسير عن الرسول، فهو لا يكاد يُوجَدُ إلا في مواضعَ قليلة لا تفي بما يحتاج إليه مِن آياتِ الأحكام ".
أقول: يَرِدُ على كلام السَّيِّد ها هنا (5) أسئلة:
__________
(1) في (أ) تصعب.
(2) " هذا " لم ترد في: (ب).
(3) أبو عبيدة: هو معمر بن المثنى المتوفى سنه 209 هـ، والخليل: هو ابن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 هـ، والأخفش: هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البصري المتوفى سنة 215 هـ، والمبرد: هو محمد بن يزيد المتوفى سنة 286 هـ.
(4) سقطت " على " من (ب).
(5) في (أ) و (ج): هنا.(1/416)
السؤال الأول: أنَّه ادَّعى أن حصول التفسير صعبٌ، والمفهوم مِن هذه العبارة أنَّه ممكن، لأنه لم يَجْرِ عرفُ البلغاء ولا غيرُهم أن يَصِفُوا المحالَ بالصُّعوبة. ثم إن السَّيِّد احتج على ذلك بما يُوجب أنَّه متعذِّر محال، وذلك ظاهر في احتجاجه لمن تأمَّلَه، فإنه لم يَتْرُكْ إلى معرفة التفسير المحتاج إليه سبيلاً ألبتة.
السؤال الثاني: أنَّ هذا تشكيك على أهل الإسلامِ في الرجوع إلى كتاب ربِّهم الذي أنزله عليهم نوراً وهدىً، وعصمةً لِلمتمَسِّكِ به من الرَّدى. وقد مرَّ أنَّ مثلَ هذا التشكيكِ لا يصْلُحُ إلا مِن الملاحدة والزنادقة، وسائرِ أعداء الإسلام خَذلَهُمُ اللهُ تعالى. والسَّيِّد -أيده الله- من أعيان العِترة النبوية، وأغصانِ الشجرة العلَوِيَّة، وجدير به التَّنَزُّهُ عن ذلك، والتنكبُ عن هذه المسالك.
السؤال الثالث: قد امتنَّ اللهُ تعالى على هذه الأمة بحفظ كتابها، فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ولا هدايةَ لنا في حفظ الذكر إذا سدَّ الله علينا طُرُقَ معرفة معانيه.
السؤال الرابع: أنَّ السَّيِّدَ قد شنَّعَ على مَنْ توقَّف في معاني المتشابه، وقال: إنَّ هذا يؤدِّي إلى أن يكون خِطَابُ الله تعالى لنا عبثاً، وكلام السَّيِّد يؤدِّي إلى التوقُّفِ في المُحْكمُ والمُتشابِه معاً، فجاء بأطمِّ مما جاؤوا به، وفي أشعار الحكماء:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (1)
__________
(1) نسبه سيبويه في الكتاب 3/ 42 إلى الأخطل، والمشهور أنه لأبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو المتوفى 69 هـ، وهو في ملحقات ديوانه 130، ونسب أيضاً لسابق البربري =(1/417)
السؤال الخامس: قول السَّيِّد: إنَّ نقل التفسير عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يُوجَدُ إلا في مواضع قليلة تنبني على معرفته بالأخبار، وقد عسَّرها وهوَّلها، أو منعها وأحالها، فلا ينبغي منه أن يدَّعي بعدَ ذلك أنه يعرفها.
السؤال السادس: أنَّه لم يقل أحدٌ من خلق الله أجمعين لا العلماءِ ولا المتعلمين ولا القدماءِ ولا المتأخرين أنَّ شرط التفسير في جميع أقسامه التي أحدُها التأويلُ أن يكونَ منقولاً عن الرسول -عليه السلام-، فَقِلَّةُ نقلِ التأويل عنه -عليه السلام- غيرُ ضارٍّ قطعاً إجماعاً ضرورياً من الخَلَفِ والسَّلّفِ، يَعْرِفُ الإجماع على ذلك كُلُّ مَنْ له أدنى شمَّةٍ في العلم، دع عنك السَّيِّد -أيَّده اللهُ- وإن كان بعضُهم يُخالِفُ في التسمية، فيُسمِّي تفسيرَ غير النبي - صلى الله عليه وسلم - تأويلاً، فهو خلافٌ لفظيٌّ.
قال: " وأمَّا الرجوعُ إلى آحاد المفسرين، فهو لا ينبني عليه الاجتهادُ، لأنَّه تقليدٌ لهم ".
أقول: هذا الإطلاقُ غيرُ صحيح، فإنَّه يختلِفُ، فمنه ما قالوه اجتهاداً منهم، فلا ينبني عليه الاجتهادُ، ومنه ما قالوه رواية عن العرب من الصحابة وغيرهم مما يتعلَّق باللغة، فيجب قبولُه منهم كما مرَّ الدليل عليه، وكما يأتي إن شاء الله تعالى. وكذلك ما فَسَّروه مما لا طريقَ إلى العلم به بالرأي والاجتهاد، ولا يُعلم إلا بالسمع. فَمِنَ العلماء منْ ذهب إلى أنَّه في معنى المرفوع إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولِلنَّاظر في هذا نظره، ولا نكارَة على منْ ذهب إلى هذا، فقد أجاز العلماء التخريجَ وهو أضعفُ من هذا، فإذا جاز
__________
= والطرماح والمتوكل الليثي انظر " خزانة الأدب " 3/ 617 للبغدادي، وفيها: قال اللخمي في شرح أبيات الجمل: الصحيح أنه، لأبي الأسود وقد ساق البغدادي القصيدة برمتها لجودتها، فانظرها فيه.(1/418)
العمل بما يظن أنَّ العالِمَ يقولُه وإن سكتَ عنه حملاً له على السَّلامة، وقد نصَّ كثيرٌ من العلماء على ذلك في غير موضع، فلا يَبْعُدُ أن يجوزَ العملُ على ما يظن أن العالِمَ يرفعُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وحملاً له على السلامة، وإن لم ينص على الرفع ويصرح به -والله سبحانه أعلم-.
قال: ولأنَّا نحتاجُ إلى معرفة عدالتهم وعلمهم ولأن اتِّصال الرواية بهم على وجه الصِّحة من العدالة صعبٌ أو متعذِّر.
أقول: قد مرَّ الجوابُ على هذا حيث بَيَّنا الطريقَ إلى معرفة الأخبار، فالكلامُ فيهما سواء. ونزيد هنا أن السَّيِّد شَحَنَ تفسيرَه بالرَّواية عنهم، فإما أن تكون صحيحةً أو باطِلةً، إن كانت صحيحةً، فما بالُ الصِّحةِ مقصورةً عليه؟! وإن كانت باطلةً، فهو أجلُّ مِن أنْ يرويَ البَواطِلَ، ويخصَّ بها شهرَ رمضان الكريم، وقد قال -عليه السلام-: " مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ " (1).
قال: " وأمَّا الثالثُ -وهو الرجوعُ إلى أهل اللغة- فهو أضعفُ من هذا، لأن عدالة كثيرٍ منهم غيرُ ثابتة، ولأن اتِّصال الروايةِ الصحيحةِ بهم متعذِّر، ولأن في ذلك تقليدَهم، والاجتهاد لا يَصِحُّ بناؤه على التقليد، ولأن المفسِّر بهذا الوجه يحتاج إلى علوم الاجتهاد، ومنها معرفة التفسير فيلزم الدَّورُ ".
أقول: هذا الوجهُ الثالث الذي تعرض السَّيِّد لإبطاله هي الطريقُ المسلوكة إلى تفسيرِ عامة القرآن. لا يخرج منه إلا النَّادِرُ القليل مما لا
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (1903) و (6057) وأبو داود (2362) والترمذي (77) وابن ماجه (689) والبغوي في " شرح السنة " (1746).(1/419)
يتعلَّق به حكمٌ، مثل قولهِ تعالى: {كهيعص} أو المجملات التي لم يعرف المجتهد أنها من الألفاظ المشتركة فيسقطُ تكليفُه بالعمل بها، وما يرد في ذلك من التفسير النبويِّ فإنَّما هو زيادةٌ في البيان، ولو لم يَرِدْ، لم يبْطُلْ فَهْمُ معاني الظَّواهِر والنصوص، فإن البيان غيرُ محتاج إليه إلا في المجمل. ومتى طلبه المجتهد ولم يجده، سَقَطَ تكليفُه في ذلك الحكم بالرجوع إلى ذلك المجمل. والدليل على ذلك ما تقدَّم في حديثِ معاذٍ وغيرِه من الأدلة القاضية بأنه لا يجبُ على المجتهد العِلمُ بِكُلِّ حديث، وأنَّه إذا لم يجد الحُكْمَ في الكتاب والسُّنَّة، جاز له أن يجتهِدَ رأيه، وإن كان يجوز أن فيهما نصاً لم يقف عليه. والعجبُ من السَّيِّد -أيَّده الله- أنّه جعل هذا الوجه الثالث أضعفَ مما قبله مع أنه لا طريقَ إلى تفسير القرآن على العموم سواه. فأمَّا الأولان قبلَه، فلا قائلَ باشتراطهما في التفسير، فكيف يكونُ ما لا قائل بخلافه أضعفَ مما لا قائل باشتراطه، وهذا عجب وقد تعرض السَّيِّد لإبطال هذه الطريق بوجوه أربعة:
الوجه الأوَّل: أن عدالة كثير منهم غيرُ ثابتة. وأقول: إنَّ صدور هدا الكلامِ من مثل السَّيِّد من العجائب ومَن عاش أراه الدَّهْرُ عجباً، لأن فساد كثير منهم لا يَمْنَعُ من الرجوع إلى الثقات منهم، كما لا يلزمُ مِن فساد كثيرٍ من الناس فسادُ جميعِ الناس، ومن تحريمِ كثيرٍ من النساء، تحريمُ نكاحِ جميع النساء، ومن نجاسَة كثيرٍ من المياه تحريمُ جميع المياه، ونحو ذلك مما لا يُحصى كثرةُ.
ومن العجب أن السَّيِّد -أيَّده الله- يُقرىء في المنطق، ويَعْرفُ ما يُشترط في الإتتاج من كونِ المقدمتين كليتين، فأين ثمرةُ تلك المعارف، وأين أثَرُ ذلك التحقيق.(1/420)
الثاني: أنَّ اتِّصال الرواية بهم متعذِّرٌ. هكذا على القطع مِن غير شك.
فأقولُ: قد تقدَّم الجوابُ على هذا حيث بيَّنا فيما سلَفَ إمكانُ رواية الأخبار، وبيان طرقها ونزيد هُنا أشياء:
أحدها: ما السببُ في قطع السَّيِّد بتعذُّرِ الطريق إلى الرواية ها هنا وكان متردداً فيما تقدَّم، وما أظنُّ السببَ في ذلك إلا توفُّرُ داعيةِ التنفير عن طلب العلم، فإن الغالب على الشارع في التنفير عن الشيءِ لا يزال يزدادُ ولو عابه حتى يتجاوز الحدّ.
وثانيها: أنَّه -أيَّده اللهُ- قد شحن تفسيرَه للقرآن الكريم بذلك، فكيف يقطعُ هنا بأنه متعذِّر، وهذا توهم عليه أنَّه واهِمٌ لا محالة في أحد الموضعين -والله أعلم-.
وثالثها: أنَّ الأمة أجمعت على أنَّه لا يجب الإسناد في علم اللغة، فإنهم ما زالو ينقلُون اللغة عن أئمتها مِن غير مطالبة لأئمتها بالإسناد إلى العرب، فإذا جاز قبول المرسَلِ من أئمة العربية في ذلك الزمان، جاز قبولُه عنهم في هذا الزَّمان، لأنَّ الأزمان لا تأثيرَ لها في وجوب الواجبات، وقبحِ المقبحات. وقد أجاز المحقِّقونَ من الأئمة -عليهم السلام- قبولَ المرسل في الأحاديث النبوية، فأولى وأحرى في اللغة العربية. وقد قدَّمنا كلام الأئمة في الوِجادة وما يجوزُ منها، وهو عام في جميعِ العلوم النقلية، فيدخل فيها علمُ العربية.
الثالث: قال: ولأن في ذلك تقليدَهم.
أقول: تقدم أنَّه لا سبيلَ إلى معرفة اللغة والأخبار وسائرِ ما لا يُدْرَكُ(1/421)
بالنَّظر إلا قبولُ الرُّواةِ الثقات، وأن ذلك إجماعُ المسلمين، وأن كلام السَّيِّدِ هذا يُوجبُ على الله تعالى أن يبعثَ الموتى من العربِ للمجتهد حتى يُشافِهوه بلغتهم أو نحو ذلك من المعجزات، أو خوارقِ العادات والسَّيِّد في هذا الموضع جاوز حدَّ العُرف في التَّعنُّت، وخَلَغ عرْوَةَ المُراعاةِ لِطريق أهلِ العلم، وأتى بما لا يُوافِقُه عليه أحدٌ من العلماء والمتعلمين، ولا سبقه إليه سابقٌ مِن السَّلَفِ الصالحين.
الرابع: لُزُومُ الدَّورِ وهو أعجبُ مما تَقَدَّم وأغرب، وذلك لوجهين:
أحدهما: أنَّ الدَّوْرَ محالٌ عند جميع العقلاء وما أدَّى إلى الدور، لم يصح في زمان دونَ زمان، ولا مِن أحد دونَ أحد، فهذا يؤدي إلى أنَّ الرجوعَ إلى اللغة العربية لا يصح بناءُ التفسيرِ عليه، لا مِن المتقدمين، ولا مِن المتأخرين، ولا مِن المدركين للعرب، ولا مِن غير المدركين، ولا مِن الراسخين في العلم، ولا مِن غير الراسخين. ولعل أدنى مَنْ له تمييز يستحي من نسبةِ هذا القولِ إلى أحد من المتعصبين، وهذه هفوةٌ مِن السَّيِّد -أيَّده الله- لا تليقُ بمحلِّه الشريف، ومنصبِه المنيفِ.
الوجه الثاني: أنَّ الدَّورَ غيرُ لازمٍ من ذلك، لأنَّه يَصِحُّ من المجتهد أن يعرِفَ علومَ الاجتهاد التي يحتاج إليها في معرفة تفسير القُرآن إلا لغة العرب. فإذا احتاج إلى معرفة معنى الآية بحث عن المعنى اللغوي، فمتى وجده فسَّر القُرآن به. ولا دَوْرَ هنا، ولا ما يُشْبِهُ الدَّور، وإنَّما الدورُ يلزمُ حيث لا يَصِحُّ أحدُ الأمرينِ إلا بَعْدَ الآخَر، ويكون كُلُّ واحد منهما مؤثراً في صاحبه. ومن ثم كان دور المعيَّة صحيحاً عند نُقَّاد هذا العلم، فأين التمانع في مسألتنا؟ وهل يقولُ عاقل: إنه لا يَصِحُّ معرفةُ شيءٍ من علوم الاجتهاد حتى يَعْرِفَ اللغة، ولا تصح معرفة اللغة حتى يعرف علومَ(1/422)
الاجتهاد، وهذا يؤدي إلى أنَّ الاجتهاد محالٌ أبداً في قديم الزمان وحديثه، لأن المحال لا يَصِحُّ في وقت الصحابة، ولا يُمْكِنُ في عصر التابعين، ولا يتيَسَّرُ لأحدٍ من العالمين.
وأمَّا قولُه: إنَّه يحتاج إلى معرفة علوم الاجتهاد ومنها معرفة التفسير، فيلزم الدور، فهذه زخرفة عظيمة، ولا يمضي مثلُها إلا على الأغمار، ولا تَنْفَقُ بضاعتها في سوق النُّظَّار. وبيان أنها مجردُ زخرفة أنا نقول: ما مرادُك بأنَّه يحتاجُ إلى علوم الاجتهادِ -ومنها معرفة التفسير-؟ هل مرادُك يحتاج إليها كُلِّها إلا تفسيرَ القُرآن باللغة فلا دورَ في هذا، لأنَّ الفرض أنه قد عَرَف اللغةَ، واحتاج إلى سائرِ الفنون، فيجبُ أن يتعلَّمَ سائرَ الفنون، فإذا تعلَّمها، وأضاف معرفتَه لها إلى معرفته باللغة فسَّر القرآن، ولا إشكال ولا دَوْرَ؟ أو مرادُك يحتاج إليها كُلِّها حتى التفسيرِ باللغة؟ فلا يصح هذا لوجهين:
أحدهما: أنَّ كلامَنا فيمن عَرفَ اللغة، واحتاج إلى ما عداها، فلا يَصِحُّ أن يُجْعَلَ العارفُ للشيء محتاجاً إلى معرفته غيرَ متمكِّنٍ منها.
الوجه الثاني: إذا سلَّمنا أنَّه محتاج إلى المعرفة باللغة مع سائِر علُومِ الاجتهادِ صحَّ عند كُلِّ عاقل أن يتعرَّف اللغة، ثم يتعرَّف سائرَ علوم الاجتهاد من غير تمانعٍ ولا دور. ولو جاز أن يُقَال في مثل هذا: إنَّه دور، لقلنا بمثل ذلك في معرفة السُّنَّةِ وما يتعلق بها من اللغة، وفي سائر المعارف الاجتهادية. وهذا كلامٌ نازل جداً، واستدلالٌ لا يتماسَكُ ضَعفاً، واحتجاجٌ لا تقبله الأذهانُ، ولا تُصغي إليه الآذانُ.
قال: "وأمَّا الأصلُ الثالث -وهو معرفة الناسخ والمنسوخ- ففيه صعوبةٌ كلية، لأنَّا نحتاج في ذلك إلى قولِ الرسول: هذا ناسخ وهذا(1/423)
منسوخ، أو ما في معنى ذلك، أو إلى إجماع أو إلى معرفة التاريخ. وهذه الأمورُ قليلٌ اتفاقها بنقل العدل عن العدل، وأمَّا قولُ الراوي: هذا ناسخ أو منسوخ، فقد ضَعَّفوه، وهو أكثرُ ما يتفق".
أقول: السَّيِّدُ في هذا الأصل لَيَّن من عريكة شِدَّته، وفتَّر من سوْرَةِ حِدَّتِه، فلم يدَّعِ أنَّ معرفةَ المنسوخ متعذِّرة، ولا تشكَّكَ في ذلك، واكتفي بمجرد التعسيرِ، ودعوى الصعوبة.
والجواب عليه: أنَّا نصبر على تلك الصُعوبة، ونتواصى بالصَّبر كما وصف اللهُ المؤمنين، ونسأل السَّيِّد أن يصْبِرَ على كتم ما في نفسه من التألُّم العظيمِ لنا حين تعرضَّنا لذلك، فإنَّ مِثْلَ هذا الكلام لا يُجاب إلا بمثل هذا الجواب، إذ كان الاحتجاجُ بمجرَّد الصعوبة مما أسلفنا القول في بعده عن أساليب العلماء، وخروجِه عن عادات الحكماء، ولا بُدَّ من الإشارة إلى نكتة لطيفة في الجواب، وهي أنَّ عمود الاحتجاج في هذا الفصل هو قولُه: وهذه الأمورُ قليل اتفاقُها.
والجواب: أنَّه يسْهُلُ بهذا الاجتهادِ، لأنَّ طُرُق النسخ بِقلَّتها يَقلُّ النسخُ، وإذا قلَّ، سهُلَ العلم به، لأنَّ معرفة القليل أسهلُ من معرفة الكثير بالضرورة، وإنَّما قلنا: إنَّه يَقلُّ، لأن ما لا طريق إلى معرفته من المنسوخ وسائِر الأحكام لا يقع التكليفُ به. وقد قدَّمنا أنَّ تكليف المجتهد هو الطلبُ حتى لا يجد، وليس تكليفُه العلم بأنَّه لا نصَّ إلا ما أحاط به عِلْمُه، ووعاه قلبُه.
ثم إنَّا نقول قد قدَّم السَّيِّد تعسيرَ النقل عن العدول بكلام عامٍّ يدخل تحته المنسوخ، ولم يكن محتاجاً إلى إعادة الكلام في المنسوخ على انفراده، وكذلك قد قدَّمنا الجوابَ عليه هنالك بما يدخل تحتَه الجوابُ(1/424)
على هذا، فلا حاجة إلى إعادته هنا.
ثم إنَّا نقولُ قد بيَّن السَّيِّد المنسوخ مِن القرآن العظيم في تفسيره، فإمَّا أن يكون بنقل العدل عن العدل، فالذي سهَّل ذلك له يُسَهِّلُه لِغيره، أو يكون على غير تلك الصفة، فالسَّيِّدُ أجلُّ من ذلك، ثمَّ إن السَّيِّد ختم كلامَه بقوله: وأمَّا قول الراوي: هذا ناسخ أو منسوخ ونحو ذلك، فقد ضعُّفوه وهو أكثرُ ما يتفق.
والجواب عليه: أنَّ هذه الطريق التي ذكرها مما اختلف أهلُ العلمِ فيه، فمنهم من ذهب إلى النسخ بها كالشيخ أبي عبد الله البصريِّ، وأبي الحسن الكرخيِّ (1)، حكاه عنهما السَّيِّدُ أبو طالب في كتابه " المجزي " وقوَّى ذلك، وأطال في الانتصار له، ومنهم من منع ذلك. فقول السَّيِّد: إنَّهم ضعَّفوه، هكذا من غير احتجاجٍ مع أنَّها مسألةُ خلاف مما لا يرتضيه أهلُ البصر بعلم المناظرة والنظر، لأنَّا نقولُ: هل قال السَّيِّد ذلك، على سبيل التقليدِ لأولئك الذين ضعَّفوه كما هو ظاهر كلامه في خلوِّ الزمان عن المجتهدين، فليس له أن يحتَجَّ بتقليده، ولا هذه المسألة من مسائل التقليد، أو قال ذلك على سبيل الاجتهاد على بعد ذلك من ملاءمة رسالته، فإنها مبنيّة على استبعاد الاجتهاد، فهذا لا ينبغي منه لوجوه:
أحدها: مناقضته الكلامَ القاضيَ بعدمِ المجتهدين.
وثانيها: أنَّ هذه المسألة من مسائل الخلاف الظَّنِّية ولا معنى للترسُّلِ على من ذهب فيها إلى مذهبٍ قد سبقه إليه غيرُه من أهل العلم.
وثالثها: أنَّ هذا موضع إظهار الأدِلَّة، فلا مخبأ بعدَ بوس، ولا عِطر
__________
(1) انظر المحصول 1/ 3/566 - 567، و" نهاية السول " 2/ 607 - 609.(1/425)
بعْدَ عروس (1)، فإذا لم تستهلَّ وجوهُ الأدِلَّة في هذا المكان، فمتى يكون طلوعُ هذا البيان؟!
ثم إنُّا نبيِّنُ حُجَّة من ذهب إلى هذا المذهب الذي استضعفه السَّيِّد -أيَّده الله- ليعرف الناظرُ فيه أنَّه محتمل، غيرُ مقطوع ببطلانه فنقول: لا يَخلو إمَّا أَنْ يُريدَ أنَّ ذلكَ ضَعِيفٌ، لأنَّه لا يُفيدُ العِلمَ، أَوْ لأنَّهُ لا يُفيد الظَّنَّ، الأول ممنوع (2)، والثاني مُسلَّم، ولا يضرُّ تسليمُه.
بيانُ منع الأول أنَّه يلزم أن لا يُقبل لو أسندَ النسخَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لأنَّ الطريق إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك طريقٌ ظنيّةٌ، فلم يحْصُلِ العلمُ لكن السَّيِّد مُقِرٌّ بصحة هذه الطريق الظنيَّة، فدلَّ على أنَّ العلم غيرُ مشترط إلا في نسخ المتواتر على خلافٍ في ذلك شديد، وسيأتي ذكرُه -إن شاء الله تعالى- وذكرُ أدلةِ الفريقين فيه.
وبيانُ أن تسليم الثاني لا يَضُرُّ أنَّا نقول: إنَّ خبر الثقة المأمون بأنَّ هذا الحكم منسوخ، إمَّا أن لا يُفيد الظَّنَّ بصدقه لكثرة وهمه في ذلك، وحينئذٍ لا يجوز قبولُه، كمن كَثُرَ وهمُه في الحديث المرفوع، وذلك لأنَّ
__________
(1) قال الزمخشري في " المستقصى " 2/ 263: لا عطر بعد عروس، ويروى لا مخبأ لعطر بعد عروس، وأصله أن رجلاً هُديت إليه امرأة، فوجدها تَفِلَة، فقال لها: أين الطيب؟ فقالت: خبأته، فقال ذلك. وقيل: عروس اسم رجل مات، فحملت امراته أواني العطر، فكسرتها على قبره، وصبت العطر على قبره، فوبخها بعض معارفها، فقالت ذلك. يضرب على الأول في ذمِّ ادِّخار الشيء وقت الحاجة إليه، وعلى الثاني في الاستغناء عن ادخار الشيء لعدم من يدخر له. وانظر " فصل المقال " ص 426 - 427، و" مجمع الأمثال " 211 - 212، و" تاج العروس " 16/ 243 - 244 طبعة الكويت.
(2) في (أ) فوق كلمة ممنوع بخط دقيق ما نصه: تضعيفه، لأنه لا يفيد العلم، لأن الظن كاف هنا ما لم ينسخ معلوماً.(1/426)
ذلك يقتضي الشَّكَّ المتساوي الطرفين، فالحكمُ بأحدهما ترجيحٌ لما ليس براجح من غير مرجَّح، وذلك قبيحٌ عقلاً، وإمَّا أن يُفيد الظَّنَّ الراجحَ لِصدقه، وحينئذٍ يكون القولُ بالنسخ راجحاً، والقولُ بعدمه مرجوحاً، فوجب العملُ بالراجح، لأنَّا لو لم نعمل به، لكُنَّا إمَّا أن نتوقَّفَ، أو نعمل على عدمِ النسخ، وفي الأوَّلِ المساواة بين الراجح والمرجوح، وفي الثاني ترجيحُ المرجوحِ على الراجع، وكلاهما قبيحٌ في العقل.
فإن قلتَ: إنَّه يجوز أن ينبني النسخُ على الظَّنِّ والاجتهاد.
فالجواب: ما ذكر أبو طالب في " المجزي " من أنَّ ذلك خلاف الظاهر، فإن ظاهر (1) قوله: هذا منسوخ، الخبرُ، ولهذا فإنَّه لو بيَّن مستندَه في ذلك، لم يجُزِ الرجوعُ إلى قوله: هو منسوخ، لأنَّه حين بيَّن المستندَ قد وكَل الناظرَ إلى النظر فيما أبداه من حجته، وحين أطلق القول بالنسخ ولم يُضف ذلك إلى اختياره وظنه، ولا إلى دليل معيَّن كان ظاهره الخبر.
قال: وكذا إذا قال الصحابيُّ في الشيء: إنَّه حرام، ولم يُضفْ ذلك إلى نظره، ولا استدل عليه، فإنَّ ظاهره الخبرُ في طريقة شيخنا يعني أبي عبد الله البصريِّ.
فإن قلت: إن خبر الثقة بأنَّ هذا منسوخ يجوز أن يبنيه على الوهم، فلا يجوزُ تقليدُه فيه، مثالُ ذلك أنَّ العالم قد يعتقِدُ أنَّ النَّصينِ متعارضان وليسا كذلك، ثم إنَّه يَطَّلعُ على أنَّ أحدهما متأخرٌ، وأحدهما متقدم، فيقضي بنسخ المتقدم لاعتقاده لتعارضهمما، وهذا هو حجة لمن ردَّ ذلك.
والجواب على ذلك: أنَّه لا يلزم ذلك إلا في من كَثُرَ وَهْمُهُ حتَّى كان
__________
(1) في (جـ) ظاهر خلاف.(1/427)
وَهمُهُ وصدقُه متساويين في الرُّجحان، أو كان وهمُه راجحاً على صِدقه، وهذا مردودٌ بلا شكٍّ، سواءً كان رافعاً للنسخ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو كان واقفاً له دونَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما الكلامُ في مَنْ قوِيَ في الظن، ورجح في العقل أنه صادق في قوله.
فإن قلت: فرقٌ بينَ ما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين ما وقفه على نفسه، أو على غيره، وذلك لأن ما رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يحتمل أنَّه بناه على الوهم، وإنَّما يحتمل أنَّه كَذَبَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أو صدق فيه، لكن احتمال الكذب بعيدٌ عن الثقات، أمَّا الوهم فكثير.
قلت: ليس الأمرُ كما توهمتَ، بل قد نصَّ العلماء على جواز الوهم على الراوي في تأديته للفظ الحديث النبوي، والدليل على ذلك وجهان:
أحدُهما: قوله -عليه السلام- في الأحاديث الصحيحة: " مَنْ كذَبَ علَيَّ مُتَعَمِّداً فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّار " (1) فقوله " متعمِّداً " يَدُلُّ على أنَّه يجوز على الراوي أن يُخطِىء في النقل، لكِنَّه تجويزٌ بعيدٌ مرجوح، فلم يُعتبر، فلذلك قالت عائشة لمّا سَمِعَت ابنَ عمر يروي حديث: " إنَّ الميِّتَ ليعذَّبُ بِبُكَاءِ أهْلِهِ علَيْهِ " (2): ما كذب ولكنَّه وَهم (3).
__________
(1) تقدم كلام المؤلف عليه وانظر التعليق عليه هناك ص 190.
(2) أخرجه من حديث ابن عمر البخاري (1288) و (1289) و (3978) ومسلم (928) (930) وانظر " الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة " ص 77، وشرح السنة 5/ 441 - 242، وتلخيص الحبير 2/ 141. و" فتح الباري " 3/ 150.
(3) في (أ) و (ج) فوق كلمة " وهم " ما نصه: وَهِل خ، أي: نسخة، وهي كذلك عند مسلم (932) والنسائي 4/ 17، وأبي داود (3129). وهما بمعنى يقال: وهِمَ وَوَهِلَ، أي غَلِطَ.
وفي " الموطأ " 1/ 224 ومسلم (931) " يغفر الله لأبي عبد الرحمن أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ ".(1/428)
الوجه الثاني: أنَّ الجماهير من العلماء قد أجازوا الرواية بالمعنى، فمن الجائز أن يعتقدَ هذا الراوي في الحديث النَّبويِّ معنىً، فيعبرَ عنه قاطعاً على أنَّ المعنى واحد، وليس كذلك مثل ما جاز عليه ذلك في قوله: هذا منسوخ، أن يعتقد تعارُضَ النصوصِ فيقضي بنسخ المتقدِّم قاطعاً على تعارضها. ومِنْ ها هنا رجَّحُوا روايةَ من لا يستجيزُ الرِّواية بالمعنى على رواية مَن يروي بالمعنى، فلو كان الراوي بالمعنى لا يغْلَطُ قطعاً، لم تكن رواية من يُوجِبُ نقلَ اللفظ النبويِّ أرجحَ منه.
فإن قلتَ: إنَّه يجوز أنَّ القائل بأنَّ هذا منسوخ قال ذلك اجتهاداً، واحتمالُ الاجتهاد يقدَح بخلاف احتمال الوهم.
قلتُ: هذا خلافُ الظاهر، لأنَّ الاجتهادُ الصادِرَ عن القياس، والأمارات الضعيفة، ليس مِن طُرُقِ النسخ، فحملُ الراوي عليه بمنزلةِ حمل الراوي للحديث المرفوع على أنَّه بَنَى الروايةَ للحديث على اجتهاده في أنَّ ذلك هو معنى الحديث النبويِّ، فكما أن ذلك مردودٌ غيرُ مسموع مِن قائله لِبعده، فكذلك هذا.
فإذا عرفت هذا، فكيف ينبغي مِن السَّيِّد إطلاقُ القولِ بضعف هذه المسألة المحتملة مِن غير استدلال، ولا توقُّفٍ، ولا نَظَرٍ، ولا تأمُّل. ولو ذهب ذاهب إلى هذا المذهب، لم يكن خارقاً لإجماع الأُمة، ولا مستحقاً للنَّكِير عند الأئمة.
ثم نقول للسَّيِّد -أيَّده الله-: ما زال أهلُ العلم يتعرَّضُونَ لمعرفة المنسوخ، ويذكرون المجمعَ عليه من ذلك، والمختلفَ فيه، وقد صنَّف غيرُ واحد في معرفة المنسوخ من الأئمة وغيرهم، وحَصَرُوا ما صَحَّ نَسْخُه، وبيَّنوا الدَّلِيلَ على صحة النسخ، والدليلَ على بُطلانِ النسخ في بعض ما(1/429)
وقع الوَهْمُ في دعوى نسخه، وانحصرَ ذلك في شيءٍ يسيرٍ، لا سيما ما يتعلَّق بالأحكام، ولعلَّ الجميعَ من المنسوخ في ذلك لا يأتي في أربع ورقاتٍ مجرداً عن الاستدلال على صحة النسخ وعدمه. فما هذا التهويلُ العظيمُ، والتعسيرُ الشديد؟!! وقد ذكر أهل العلم أنَّ النسخ في الشريعة قليلٌ جداً. وجُلُّ ما صح نسخه بالإجماع نَيِّف وعشرون حُكماً، وادُّعِي النسخ في أكثر من ذلك.
وهذا جملة ما صحَّ وما ادُّعي فيه النسخ:
أجمعوا على نسخ استقبالِ بيت المقدس، والكلام في الصلاة (1)، وحكم المسبوق (2)، وتركِ الصلاة في الخوف، والجمعة قبل الخطبة (3)، والصلاة على المنافقين، وتحريمِ زيارة القبور، وجواز الاستغفار للكفار بعد موتهم، ووجوب عاشوراء، وقيام الليل على الأمة، (4) والسحور بعدَ
__________
(1) أخرج البخاري (1200) و (4534) ومسلم (539) والترمذي (405) من حديث زيد بن أرقم، قال: كنا نتكلم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة، يكلِّمُ الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام. وانظر " شرح السنة " للبغوي 3/ 233 - 242.
(2) كان الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سبق أحدهم بشيء من الصلاة سأل المصلين، فأشاروا إليه بالذي سبق به، فيصلي ما سبق به، ثم يدخل معهم في صلاتهم، فنسخ ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جاء أحدكم وقد سبق بشيء من الصلاة، فليصل مع الإمام بصلاته، فإذا فرغ الإمام، فليقض ما سبقه به " انظر " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " ص 104 - 106 للحازمي.
(3) انظر " الاعتبار " ص 118 - 119 للحازمي.
(4) وذلك في قوله تعالى في سورة المزمل: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ =(1/430)
طُلوعِ الفجر إلى شروقِ الشمس على خلاف في تفسير الفجر (1)، ورجعة المطلقة أبداً، واعتدادِ المتوفَّى عنها حولاً، وجوازِ شرب خمر العنب، وتحريمِ الأكلِ والنكاحِ ليلاً في رمضان، والتخييرِ في صومه، أو الكفارة من غير حَبَلٍ ولا كبَرٍ، ولا رَضَاعٍ، وتحريمِ الجهاد بالسيف ولو لآمِّ البيت، والعشرِ الرضعات، وتحريم كتابةِ غير القرآن، ووجوبِ الوصيَّة للأقربين، وفرضِ الصلاة ركعتين ركعتين على القول بأن الزيادة نسخ، وتركِ الحجابِ، والتوارثِ بغيرِ القرابة، وحبسِ الزانيينِ حتَّى يموتا، وقتالِ الواحدٍ لِعشرة ولم يذكر إجماع، ولا خلاف في نسخ الأمر بالفَرَعِ (2)، وقتلِ الشَّارِبِ (3) في الرابعة، وتحريمِ الكنز بعدَ الزكاة،
__________
= إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20] قال ابن كثير في تفسير. وقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} أي: أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم، وآتوا الزكاة المفروضة، قال: وهذا يدل لمن قال: إن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النُّصُب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة والله أعلم، قال: وقد قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن وقتادة وغير واحد من السلف: إن هذه الآية نسخت الذي كان الله أوجبه على المسلمين أولاً من قيام الليل، واختلفوا في المدة التي بينهما على أقوال، وقد ثبت في " الصحيحين " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لذلك الرجل الذي سأل: ماذا فرض الله عليه من الصلوات: " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال: هل علي غيرها؟ قال: " لا إلا أن تطوع ".
(1) انظر تفصيل المسألة في " الاعتبار " ص 144 - 145، و" أحكام القرآن " 1/ 226 - 230 لأبي بكر الجصاص.
(2) قال ابن الأثير في " النهاية ": الفرع: أول ما تلده الناقة كانوا يذبحونه لآلهتهم، فنهي المسلمون عنه، وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا تمت إبله مئة، قدم بكراً فنحره لصنمه، وهو الفرع وقد كان المسلمون يفعلونه في صدر الإسلام ثم نسخ، وأخرح البخاري (5474) ومسلم (1976) وأبو داود (2831) و (2832) والترمذي (1512) والنسائي 7/ 167 من حديث أبي هريرة مرفوعاًً " لا فرع ولا عتيرة " قال (القائل الزهري): والفَرَعُ أوَّلُ النتاج كانوا يذبحونه لطواغيتهم، والعتيرة في رجب. وانظر " جامع الأصول " 7/ 506 - 511.
(3) أي: شارب الخمر، وللمحدث العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله رسالة في هذه المسألة سماها " القول الفصل في قتل مدمني الخمر " ذهب فيها إلى عدم النسخ وهي مستلُّة من =(1/431)
ووجوبِ التنفيل قبل القسْمِ، ولبسِ خواتيم الذهب (1)، والأمر بقتلِ الكلاب إلا الأسودَ، والمُثْلَة، والأمرِ بأذى الزَّاني.
وشذَّ المخالفُ في نسخ تحريم القتال في الأشهرِ الحرم، ونسخِ الماء من الماء (2)، والوضوء مما مسَّتِ النَّارُ، وجوازِ لحوم الحمر الأهلية، وضرب النِّساءِ (3)، والتطبيقِ في الركوع، وموقفِ الإمامِ بين اثنين، وتحريمِ القتال في مكَّة، وقصرِ تحريم الربا على النسيئة، ووجوبِ الصدقات بالزكاة، والأمرِ بالعتيرة (4)، ومُتْعَةِ النكاح (5)، وتحريم الضحيَّة
__________
= شرح حديث ابن عمر من المسند ورقمه فيه (6197) وانظر " الاعتبار " ص 199 - 200، و" شرح السنة " 10/ 334 - 336.
(1) أي: لبس خواتيم الذهب للرجال، ففي البخاري (5865) من حديث عبد الله بن عمر أن رسول الله اتخذ خاتماً من ذهب وجعل فصه مما يلي كفه، فاتخذه الناس، فرمى به، واتخذ خاتماً من ورق أو فضة.
وقد ورد النهي عن لبس خاتم الذهب للرجال من حديث البراء بن عازب وحديث أبي هريرة، وكلاهما في الصحيح، وانظر " الاعتبار " ص 231.
(2) أي: وجوب الغسل من الإنزال، فقد أخرح أحمد 5/ 115 و116، وأبو داود (214) والترمذي (110) من طريق الزهري عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب، قال: الماء من الماء في أول الإسلام " ثم أمر بالاغتسال بعد رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال الترمذي: حسن صحيح، وجاء من طريق آخر صحيح عند أبي داود (215) والدارمي 1/ 194 عن أبي بن كعب أن الفتيا التي كانوا يفتون أن الماء من الماء كانت رخصة رخصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد. وصححه ابن خزيمة (225)، وابن حبان (228) و (229) والدارقطني في سننه ص 46، والبيهقي 1/ 165.
(3) انظر " فتح الباري " 9/ 302 - 304، وشرح السنة 9/ 181 - 187.
(4) العتيرة في اللغة: هي النسيكة التي تُعتر، أي: تذبح، كانوا يذبحون في رجب تعظيماً له " لأنَّه أول شهر من الأشهر الحرم. وانظر شرح السنة 4/ 349 - 353.
(5) قال الإمام البغوي في " شرح السنة " 9/ 99: نكاح المتعة كان مباحاً في أول الإسلام، وهو أن ينكح الرجل المرأة إلى مدة، فإذا انفضت، بانت منه، ثم نهي عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقد روى الربيع بن سبرة، عن أبيه أنَّه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " أخرجه =(1/432)
بعدَ ثلاث، وجوازِ الحرير للرجال، والرَّضاع بعدَ الحولين، وعدمِ وجوب الشياه في زكاة البقر على تفصيل فيه.
واختلفوا في مُتْعَةِ الحج (1)، وتحرِيم استقبالِ القِبلة بالبوْل والغائِط، وفي تركِ الوضوء من مسَّ الذكر، وفي طهارةِ جلودِ الميتة بالدبغ، وابتداء الكفار بالقتال في الحرم، وفي التيمّم إلى المناكبِ، والصحيح النسخ، وفي مسحِ القدمين، وفي المسحِ على الخُفَّيْنِ، والالتفاتِ في الصلاة، وفي جواز إقامة غير المؤذن، وفي قطعِ المار للصلاة، وفي الصلاة إلى التصاوير، ووضعِ اليديْن قَبْل الركبتين، والجهرِ بالتسمية، والقنوتِ والقراءةِ خلفَ الإمام، وأفضليةِ الإسفارِ بالصبح، وصلاةِ المأموم جالساً إذا صلَّى الإمامُ جالساً (2)، وسجودِ السَّهوِ بعدَ السَّلام، والقيام للجنائزِ، وتكبير الجِنازة أربعاً، والنَّهي عن الجلوسِ حتى تُوضَعَ الجِنازَةُ، وفسادِ
__________
= مسلم في صحيحه (1406) (21) في النكاح.
واتفق العلماء على تحريم نكاح المتعة، وهو كالإجماع بين المسلمين. وانظر " فتح الباري " 9/ 148 الطبعة البولاقية.
(1) انظر " زاد المعاد " 2/ 178 - 223 بتحقيقنا، فقد فصل القول في هذه المسألة بما لا مزيد عليه.
(2) قال الإمام البغوي في " شرح السنة " 3/ 422 بعد أن ساق حديث أبي هريرة " وإذا صلى الإمام جالساً فصلوا جلوساً أجمعين " وهو متفق عليه: اختلف أهل العلم فيما إذا صلى الإمام قاعداً بعذر هل يقعد القوم خلفه؟ فذهب جماعة إلى أنهم يقعدون خلفه وبه قال من الصحابة جابر بن عبد الله، وأسيد بن حضير، وأبو هريرة وغيرهم، وهو قول أحمد وإسحاق وقال مالك: لا ينبغي لأحد أن يؤم الناس قاعداً.
وذهب جماعة إلى أن القوم يصلون خلفه قياماً وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك والشافعي، وأصحاب الرأي، وقالوا: حديث أبي هريرة منسوخ بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في مرضه الذي مات فيه قاعداً، والناس خلفه قيام، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وانظر " الاعتبار " ص 108 - 109، والمغني لابن قدامة 2/ 222.(1/433)
صومِ المصبح جنباً (1)، والحجامةِ للصائم، وإباحة الفطر في السفر بالوجوب، والانتباذ في الآنية المسرعة بالتخمير كالدُّباء والمطليِّ، والنَّهْيِ عن الرُّقى، وعن القِرانِ في التَّمر، وعن قول: ما شاء الله وشاءَ فلان، والاشتراط في الحج، وتحريم لحومِ الخيل، والمزارعة، والإذن للمتوفّى عنها في النُّقلة أيامَ عِدتها، وقتل المسلم بالذِّميِّ، والتحريقِ بالنَّار في غيرِ الحرب، واستيفاءِ القِصاص قبل اندمالِ الجرح، وجلدِ المُحْصَنِ قبلَ الرَّجْمِ، وحُكمِ الزاني بأمة أمرأته، والهجرةِ، والدعوةِ قبل القتال، وقتلِ النساء والوِلدان، والنَّهي عن الاستعانة بالمشركين، وأخذ السَّلب بغيرِ بيِّنة، والحَلفِ بغير الله، وقبولِ هدايا الكفار، والنَّهيِ عن البول قائماً، ووجوب الغسل يومَ الجمعة، وشهادةِ الكِتابيِّ للضرورة (2).
الجملة ستَّة وتسعون حكماً، منها ستة وعشرون مجمعٌ عليها،
__________
(1) انظر المسألة في " شرح السنة " 6/ 279 - 281 وتعليقنا عليها.
(2) جاء في شرح المفردات ص 333 ما نصه: إذا كان مسلم مع رفقة كفار مسافرين ولم يوجد غيرهم من المسلمين، فوصّى وشهد بوصيته اثنان منهم قبلت شهادتهما، ويستحلفان بعد العصر لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى، ولا نكتم شهادة الله وأنها وصية الرجل بعينه، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً قام آخران من أولياء الموصي، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، ولقد خانا وكتما ويقضى لهم. قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر العلماء، وممن قاله شريح، والنخعي، والأوزاعي، ويحيى بن حمزة، وقضى بذلك عبد الله بن مسعود في زمن عثمان، رواه أبو عبيد، وقضى به أبو موسى الأشعري رواه أبو داود، والخلال. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: لا تقبل، لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية لا تقبل في الوصية كالفاسق وأولى ...
(ولنا) قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم} الآية. وهذا نص الكتاب، وقد قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس، رواه أبو داود، وقضى به بعده أبو موسى، وابن مسعود كما تقدم، وحمل الآية على أنَّه أراد من غير عشيرتكم، لا يصح، لأن الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين، ودلت عليه الأحاديث، ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الأيمان لأن الشاهدين من المسلمين لا قسامة عليهما.(1/434)
وثمانية لم يُذكر فيها إجماع ولا خلاف، وستةَ عَشرَ شذَّ فيها الخلافُ، والبقيةُ ستة وأربعون، وقد يختلِفُ الاجتهاد فيما هو شاذٌّ أو غير شاذّ -والله أعلم-.
وقد يُوجد غيرُ هذه مما ادُّعي نَسْخُهُ بغيرِ حُجَّةٍ، وفي نسخ كَثِيرٍ من هذه ضعف، فليُرَاجَعْ لها مبسوطاتُها، ومِن أحسنها كتابُ الحازِميِّ (1).
وبالجملة فجميعُ المنسوخ مِن الكتاب والسُّنة المجمعِ عليه والمختَلف فيه إذا جُمِعَ كُلُّهُ على الاستقصاء لا يكونُ في كثرة الأحاديثِ مثل " الشِّهاب " (2) للقُضَاعيِّ ولا يُقارِبُه وإذا أحببتَ معرفة ذلك، فلا تَلْتفِتْ إلى كلامي، ولا إلى كلام السَّيِّد -أيَّده الله- وانظُرْ إلى كتب العلماء المُصَنَّفة في معرفة ذلك، وكم في المُصَنَّف منها عدة أحاديث منسوخة، أو آيات
__________
(1) المسمى بـ " الاعتبار في بيان الناسخ والمنسوخ من الآثار " ومؤلفه هو الإمام الحافظ البارع النسابة أبو بكر محمد بن موسى بن عثمان بن حازم الهمذاني المتوفى سنة 584.
قال ابن النجار: كان من الأئمة الحفاظ، العالمين بفقه الحديث ومعانيه ورجاله، ثقة نبيلاً حجة زاهداً ورعاً عابداً، ملازماً للخلوة والتصنيف، أدركه أجله شاباً. مترجم في " تذكرة الحفاظ " 4/ 1363. وكتاب الاعتبار طبع بدائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن سنة 1359، وهو مطبوع أيضاً في مصر بالمطبقة المنيرية. وليطالع القارىء أيضاًً للتوسع في المسائل التي عرضها المصنف رحمه الله في أمهات الكتب التي تعنى بمسائل الخلاف كالمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي، وفتح القدير للكمال بن الهمام، ونيل الأوطار للشوكاني، وفتح الباري لابن حجر وعمدة القاري للعيني، وأحكام القرآن للجصاص وابن العربي وإلكيا الهراسي، وشرح السنة للبغوي.
(2) عدة ما فيه من الأحاديث 1500 على وجه التقريب، ومؤلفه: هو القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي المتوفى سنة 454 هـ. قال أبو طاهر السَّلفي: كان من الثقات الأثبات، شافعي المذهب والاعتقاد، مرضي الجملة. وله عدة تآليف. وغالب الأحاديث التي في مسنده ضعاف، وبعضها موضوع، وقد قام الشيخ الفاضل حمدي عبد المجيد السَّلفي بتحقيقه وتخريج أحاديثه تخريجاً موسعاً، وقد نجز طبعه في مجلدين، طبع مؤسسة الرسالة.(1/435)
منسوخة، وكم بين معرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة معاني كُتُب العربية من مقدِّمتي ابنِ الحاجب الإعرابية والتصريفية (1) ومعرفة معاني تذكرة ابن مَتَّويْهِ، ومعرفة معاني مختصر منتهي السُّولِ (2) وما تَضمَّنُ من المنطق والجدل وكلام المنطقيين في عكس النقيض، وكلامِ ابن الحاجب في الاستدلال وغيرِ ذلك من العلوم العويصةِ، والعباراتِ الدقيقة التي السَّيِّد مُدَّعٍ لمعرفتها، والتبريزِ فيها، إمَّا بلسان المقال، وإمَّا بلسان الحال، فإن التَّصدر للتدريس فيها قاضٍ بدعوى معرفنها، ومنادٍ بذلك نداءٌ صريحاً.
فما بال السَّيِّد يدَّعي معرفةَ الغوامضِ المتعسِّرة، وَيمْنَعُ غيرَه مِن معرفة الجليَّاتِ المتسهلة!
فإن قلتَ: قد طوَّل بعضُ العلماء في التصنيف في ذلك، ووسَّع
__________
(1) الأولى تسمى الكافية والثانية الشافية، وقد شرح الكتابين شرحاً حافلاً نفيساً رضي الدين محمد بن الحسن الاستراباذي المتوفى سنة 684 أو 686 هـ، وخرج شواهد الكتابين، وشرحها شرحاً موسعاً عبد القادر بن عمر البغدادى المتوفى سنة 1093 هـ. وابن الحاجب: هو أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي المالكي، كان أبوه حاجباً للأمير عز الدين موسك الصلاحي فعرف به، اشتغل في صغره بالقرآن الكريم، ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك ثم بالعربية والقراءات، وبرع في علومه، وأتقنها غاية الإتقان، ثم انتقل إلى دمشق، ودرَّس بجامعها في زاوية المالكية، وأكب الخلق على الاشتغال عليه، والتزم لهم الدروس، وتبحر في الفنون، وصنف مختصراً في مذهبه، وفي أصول الفقه، وفي العربية وخالف النحاة في مواضع، وأورد عليهم إشكالات وإلزامات ثم عاد إلى القاهرة، وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه، ثم انتقل إلى الاسكندرية للإقامة بها، وتوفي بها سنة 646 هـ. " وفيات الأعيان " 3/ 248 - 250.
(2) هو من تأليف أبي عمر ابن الحاجب المتقدم، اختصره من كتاب " منتهي السول والأمل في علمي الأصول والجدل " وهذا الثاني مختصر من كتاب الآمدي المسمى بـ " الإحكام في أصول الأحكام " فهو إذن مختصر المختصر، وقد شرحه غير واحد من العلماء، وأهم شروحه " رفع الحاجب عن ابن الحاجب " لتاج الدين السبكي المتوفى سنة 771 هـ، ولم يطبع، وقد نُمي إلينا أن أحد طلبة العلم قد استنسخه، وهو بصدد تحقيقه.(1/436)
مثل الإمام محمد بن المطهر في كتابه " عقود العِقيان ".
قُلتُ: ذلك التطويلُ إنَّما هو فيما لا يتعلق بعلمِ الناسخ والمنسوخ، فالتوسيعُ بذكرِ ما لا يُشترط معرفته، وبالخروج إلى غير المقصود، فنٌّ آخر، وقد صنَّف الرَّازي تفسيرَ الفاتحة في مجلَّدٍ، وصنَّف الطبريُّ كتاب الطهارة في ثلاثة آلاف ورقة (1) وأمثال ذلك كثيرة.
قال: وأمَّا الأصلُ الرابعُ وهو أن يكون ماهراً في علوم الاجتهاد، حافظاً لأقوال اللهِ، وأقوالِ رسوله، ومسائلِ الإجماع، ففيه صعوبةٌ شديدة.
أقول: قد اشتمل كلامُه هذا على اشتراط أمرين، أحدهما: أن يكون ماهراً فقط.
__________
(1) الذي في " تذكرة الحفاظ " 2/ 713 في ترجمة ابن جرير: وابتدأ بكتاب البسيط فعمل منه كتاب الطهارة في نحو ألف وخمس مئة ورقة.
وقال ياقوت في " معجم الأدباء " 18/ 75 - 76: ومن كتبه الفاضلة: كتابه المسمى بكتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام، وهذا الكتاب قدّم له كتاباً سماه كتاب مرات العلماء، حسناً في معناه، ذكر فيه خطبة الكتاب، وحض فيه على طلب العلم والتفقه، وغمز فيه من اقتصر من أصحابه على نقله دون التفقه بما فيه. ثم ذكر فيه العلماء ممن تفقه على مذهبه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن أخذ عنهم، ثم من أخذ عنهم، ثم من أخذ عمن أخذ عنهم من فقهاء الأمصار. بدأ بالمدينة لأنها مُهاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، ثم بمكة لأنها الحرم الشريف، ثم العراقين الكوفة والبصرة ثم الشام وخراسان، ثم خرج إلى كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكر في هذا الكتاب اختلاف المختلفين واتفاقهم فيما تكلموا فيه على الاستقصاء والتبيين في ذلك والدلالة لكل قائل منهم، والصواب من القول في ذلك، وخرّج منه نحو ألفي ورقة. وأخرج من هذا الكتاب كتاب آداب القضاة وهو أحد الكتب المعدودة له المشهورة بالتجويد والتفضيل، لأنَّه ذكر فيه بعد خطبة الكتاب الكلام في مدح القضاة وكتابهم، وما ينبغي للقاضي إذا وُلِّي أن يعمل به وتسليمه له ونظره فيه، ثم ما ينقض فيه أحكام من تقدمه، والكلام في السجلات والشهادات والدعاوى والبينات وسيأتي ذكر ما يحتاج إليه الحاكم من جميع الفقه إلى أن فرغ منه وهو في ألف ورقة وكان يجتهد بأصحابه أن يأخذوا البسيط والتهذيب، ويجدّوا في قراءتهما، ويشتغلوا بهما دون غيرهما من الكتب.(1/437)
وثانيهما: أن يكون حافظاً لثلاثة أشياء: وهي أقوالُ اللهِ، وأقوالُ رسوله، ومسائلُ الإجماع.
فأقولُ: أمَّا الأمرُ الأولُ وهو كونُ المجتهد ماهراً - فهذا شرطٌ غريبُ ما سمعتُ به، ولا عرفتُ ما مرادُ السَّيِّد به، وهذا يحتمل أن يكون لِغرابته في نفس الأمر، ويحتمِلُ أن يكونَ لغرابته بالنظر إليَّ فقط، فأُحِبُّ من السَّيِّد بيانَ المرادِ به، والدليلَ على اشتراطه، فهذا السؤالُ مما يُقْبَلُ مِثْلُه وهو الاستفسارُ عند علماءِ الجدل.
فإن قلتَ: هذا السؤالُ لا يُقبَلُ حتَّى تُبيَنَ أنَّ في اللفظ غرابةً، أو احتمالاً، أو إجمالاً، أو اشتراكاً فبيِّن لنا ما في لفظ المهارةِ من ذلك، فإنه ليس بغريبٍ حَوْشِيٍّ، لا يُعْرَفُ معناه في اللغة، ولا هو لفظٌ مشترك.
قلتُ: فيه احتمال، لأن المهارة في أصل الوضعِ اللغويِّ هي الحِذْقُ. قال في " الضياء " (1) يُقال: مَهَرَ بالشيء مَهَارَةً، فهو ماهِرٌ: إذا كان حاذِقاً. وقد يكونُ في حفظ اللفظ، وشِدَّة الضبط، ومنه الحديثُ:
" المَاهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ الكِرَامِ البرَرَةِ " (2) وقد يكون في فهمِ المعاني، والغوصِ على الدقائق. وعلى كلِّ تقدير، فما الدَّليلُ على اشتراط المهارةِ في الاجتهادِ، وهَلِ المهارةُ مقدورة للبشر مكتسبة، أم مخلوقةٌ لله تعالى لا يَقْدِرُ عليها سِواه؟ فإن كانت غيرَ مقدورة للبشر، لم يَحْسُنْ ذِكْرُها في
__________
(1) واسمه الكامل: " ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم " تأليف محمد بن نشوان الحميري اليمني المتوفى 610 هـ اختصره من كتاب أبيه نشوان بن سعيد المسمى شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم المطبوع منه الأول والثاني. وفي المكتبة الغربية بالجامع الكبير الجزء الرابع من المختصر وهو الآخير. انظر الفهرس ص 442.
(2) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها البخاري (4937) ومسلم (798) والترمذي (5906) وأبو داود (1454).(1/438)
مَعْرِضِ التفسير للاجتهاد، لأنَّ مَن خلقها اللهُ له، ومنحه إيَّاها، فقد حصلت له بسهولة، ومن لم يخلُقْها له، فقد أراحه باليأس مِن نيلها وسقوطِ التكليف بالاجتهاد المنوطِ بحصولها، وإن كانت مقدورةً للعباد، فلا معنى للصَّدِّ عن التعرُّض للمقدوراتِ من الأعمال الصالحات، وقد قدَّمنا تقريرَه، ولا وجهَ لِذلك، بل هُوَ من جملة المحرَّمات أو المكروهات.
وأمَّا الأمر الثاني -وهو حفظُ أقوالِ الله وحفظُ أقوالِ رسول الله، وحفظُ مسائل الإجماع- فالجواب عليه يتم بفصلين:
الفصلُ الأوَّل: في أنَّه لا يجب الإحاطة بجميع ذلك على سبيلِ القطع، وأنّ المعتبر في ذلك هو الطلبُ حتى لا يَجِدَ، ولا يَظُنَّ وجودَ النصِّ والظاهرِ، ثم يجوز الحكم بالرأي والاجتهاد بعدَ ذلك. وقد مرَّ الدليل على ذلك فيما تقدَّم، وبيان القدر الواجب منه، وبيان نصوص العلماء في ذلك والدليل عليه.
الفصل الثاني: في أنَّه لا يجب حفظُ ما تجبُ معرفته من ذلك عن ظهر القلب، وفيه فائدتان:
إحداهما: في ذكر مَنْ نصَّ من العلماء على أنَّ ذلك لا يجب، وأنّا ما علمنا أنَّ أحداً من العلماء سبق السَّيِّد إلى النَّصِّ على وجوب ذلك من السَّلَف ولا الخلف، ولا أنكر على من نصَّ على عدم وجوبه.
أمَّا مَنْ نصَّ على ذلك، فغيرُ واحد مثل الإمام يحيى بن حمزة من أئمة العترة -عليهم السلامُ- ذكره في " المعيار "، وممَّن ذكر أنَّ ذلك لا يجب: القاضي العلامةُ فخرُ الدِّين عبد الله بن حسن الدّواري -قدَّسَ الله روحه- ذكر هذه المسألة في كتبه وتعاليقه الكلاميّة والأصوليّة والفقهية وكان(1/439)
يذكُرُ ذلك في إملائه على التلامذة، ويُصرِّح بأنَّه لا يجب على المجتهد حفظُ العلوم غيباً والغزاليُّ مِن علماء الفقهاء، والفقيهُ عليُّ بنُ يحيى الوشليُّ، والفقيهُ عليُّ بن عبد الله بن أبي الخير ممن ذلك ذلك (1).
ومنهم العلامةُ أبو نصر تاج الدين السبكي ذكره في كتاب " جمع الجوامع " (2) ولم يذكر فيه خلافاً مع تعرُّضِه لاستيعاب الخلاف، وذكر الشواذ، هؤلاء اتَّفقَ لي الوقوفُ على كلاماتهم والظاهر من بقية العلماء المتكلمين في شروط الاجتهاد أنَّهم لا يرون وجوبَ ما ذكره السَّيِّد. والَّذي يدل على أنّ ذلك الذي قاله غيرُهم هو ظاهرُ مذهبهم، أنَّهم تعرضوا لذكر شرائط الاجتهاد، وحصر جميع ما يجب على المجتهد، ولم يذكروا ما ذكر السَّيِّد من وجوب غيب العلوم، فدلَّ على أنَّ ذلك ليس بشرطٍ عندهم، لأنه لو كان شرطاً، لكانوا غيرَ صادقين في قولهم: إن ذلك الذي ذكروه هو مجموع شرائط (3) الاجتهاد وهم أبرُّ وأصدَقُ. وبهذا الوجه يجوز أن يُنسب إليهم القوله بأن ذلك لا يجب، ونجعله مذهباً لهم تخريجاً، لأنَّ الأخذ من العموم المطلق أقوى طرق التخريج. وما زال العلماء من الأئمة -عليهم السلامُ- وسائر الأصوليين وغيرهم يذكرون ما يجب على المجتهد، ما نعلمُ أحداً سبق السَّيِّد إِلى التنصيص على وجوب غيب العلوم، وإنّما نصَّ بعضُهم على عكس ذلك، ودلَّ كلام بقيتهم أيضاً على عكسه كما قدَّمنا. ومن أحب معرفة صدق كلامي، فليطالع مصنفاتِ العلماء في الأصول وغيره -والله سبحانه أعلم-.
__________
(1) وفي هامش (أ) ما نصه: وجميع من شرح الجوهرة يذكرون ذلك.
(2) جمع الجوامع بشرح المحلي، 2/ 382 - 386.
(3) في (ب) في قولهم الذي ذكروه وهو مجموع الشرائط.(1/440)
الفائدة الثانية: وهي الدليل على عدم وجوب ذلك، فالدليل عليه إحدى عشرة حجة:
الحجة الأولى: أنَّ الرجوع إلى الكتاب يُفيد ما يفيده الحفظ مِن ظن صحة الدليل المعوَّل عليه في الاجتهاديّات.
فإن قلتَ: إنَّ الحِفظَ يُفيدُ العلمَ، فيأمنُ الحافظ بحفظه مِن الخطأ، والرجوعُ إلى الكتاب يُفيد الظن.
قلت: هذا ممنوع لوجهين:
أحدهما: أن الحافظ لأدلة الاجتهاد، وإن علم أنَّه حافظ لها، فثبوتُها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مظنونٌ، وثبوت معاني الظواهر من القرآن وسائر المتواترات مظنون. أمَّا ما كان لفظُهُ معلوماً ومعناه معلوماً، فليس من الاجتهاد في شيء، ذاك بابٌ آخر لم يتكلم فيه، فإذا كان الأصلُ مظنوناً، فلا معنى لاشتراط العلم في صفة نقله، فإنَّ وجوب حفظه فرعٌ على كونه من كلام النبي -عليه السلام- ولم يجب العلم في الأصل، فإيجابه في الفرع يُؤدي إلى أن يكون الفرعُ أقوى من أصله، وهذا ظاهر السقوط.
وثانيهما: أن نقول: ما مُرادُك بأنَّ الحافظ يأمنُ الخطأ بحفظه؟ هل مُرَادك أن أمانه للخطأ دائم أو أكثري؟ الأول ممنوع، والثاني مسلَّم ولا يضر تسليمُهُ، إنّما كان الأول ممنوعاً، لأنَّا نعلم بالضرورة التجريبية أنَّ الحافظ قد يَغْلَطُ في حفظه، وقد صَحَّ أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلاً يتلو آية فقال- عليه السلامُ-: " رَحِمَكَ اللهُ لَقَدْ أذكَرْتَنِي آيةً كُنْتُ أُنْسِيتُهَا " (1).
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها البخاري (5038)، ومسلم (788)، وأبو داود (1331) وأحمد 6/ 128.(1/441)
فهذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيرِهِ؟!.
وصح عنه -عليه السلام- أنَّه نهي أن يقول الرجل: نَسِيتُ آيةَ كَذَا وَلْيَقُلْ: أُنْسِيتُ (1) وروي عن عليٍّ -عليه السلام- أنَّه شكى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تَفَلُّت القرآن عليه، فَعَلَّمه أنْ يَدْعُو بدُعَاءٍ. ذكره الترمذي (2).
وروى أبو العباس الحسنيُّ -عليه السلام- في كتاب " التلفيق ": أنّ القاسم -عليه السلام- أفتى رجلاً في مسألة، فلمَّا ذهب قال: عليَّ بالرجل، فلما أقبل، قال له: سبحانَ مَنْ لا يَسهو، إنِّي سهوتُ، وإن الصوابَ كذا وكذا.
وروى المؤيَّد بالله في " الزيادات ": أنَّ أبا يوسف أفتى في مسألة، ثم تبيَّن له خلافُ ما أفتى، فبذل مالاً كثيراً في استدراك السائل.
__________
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود البخاري (5032) و (5039)، ومسلم (790) والترمذي (2943) والنسائي 2/ 154، والبغوي (1222).
(2) رقم (3570) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح وعكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس ... وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم، وأخرجه الحاكم في " المستدرك " 1/ 316 - 317 وصححه على شرط الشيخين فتعقبه الإمام الذهبي في تلخيصه، فقال: هذا حديث منكر شاذ، أخاف أن يكون موضوعاً وقد حيرني والله جودة سنده، وقال في ترجمة سليمان بن عبد الرحمن من " الميزان " 2/ 213: وهو -مع نظافة سنده- حديث منكر جداً في نفسي منه شيء، فالله أعلم " فلعل سليمان شبه له " وأدخل عليه كما قال فيه أبو حاتم: لو أن رجلاً وضع له حديثاً لم يفهم. قلت: وفيه عنعنة ابن جريج وهو مدلس والوليد بن مسلم مدلس تدليس التسوية، فلعل ابن جريج رواه عن رجل عن عطاء وعكرمة، فأسقط الوليدُ الرجل، وجعله عن عطاء وعكرمة، فتكون البلية من ذاك الرجل. وأورده الحافظ المنذري في " الترغيب والترهيب " 2/ 214 من رواية الترمذي والحاكم، وقال: طرق أسانيد هذا الحديث جيدة، ومتنه غريب جداً وانظر " اللالىء المصنوعة " 3/ 67، " وتنزيه الشريعة " 2/ 112، و" الفوائد المجموعة ". ص 42، 43.(1/442)
ولمَّا قال المؤَيَّد باللهِ: إنَّ الواجبَ على مَن معه عشرةُ أثواب فيها ثوبٌ نجس ملتبس أن يُصّلِّي عشرَ صلواتٍ في كُلِّ ثوب صلاة، حملوه على السهو، وأنَّهُ توهَّم أنَّ فيها ثوباً طاهراً والباقي نجس.
ولمَّا قال الزمخشريُّ (1) في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4]: إنَّ الجملة وصفيّة، وإن الواو دخلت فيها، لشبهها بالحال، أنكر ذلك السَّكَاكيُّ (2) وقال: وأمّا نحوُ قولِهِ عزَّ اسمُه: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} فالوجه فيه عندي: هو أنَّ " ولها كتاب معلوم " حالٌ لقرية، لكونها في حكم الموصوفة نازلة منزلة: وما أهلكنا من قرية من القرى، لا وصفٌ، وحملهُ على الوصف سهو لا خطأ. ولا عيب في السَّهو للإنسان، والسَّهْوُ ما يتنبه صاحبُهُ بأدنى تنبيه، والخطأُ ما لا يتنبَّه صاحبُهُ أو يتنبه، ولكن بعدَ إتعاب. انتهى.
ولا يحتاح إلى توجيه السَّكَاكيِّ أنَّ " قرية " في حكم الموصوفة، لأنَّ ابنَ مالك ذكر من المواضع التي يكثر فيها تنكيرُ صاحب الحال مقدّماً أن يكونَ الحالُ جملةً مقرونة بالواو، ومثَّل ذلك أبو حيّان بهذه الآية، وبقول الشاعر:
مَضَى زَمَنٌ والنَّاسُ يسْتَشْفِعُونَ بِي ... فَهَلْ لِي إلَى لَيْلَى الغَدَاةَ شفِيعُ (3)
__________
(1) في تفسيره 2/ 310.
(2) هو أبو يعقوب يوسف بن أبي بكر بن محمد بن علي السكاكي الخوارزمي الحنفي عالم بالعربية والبلاغة والأدب توفي بخوارزم سنة 626 من تآليفه " مفتاح العلوم " والنص الذي نقله المؤلف عنه موجود في الصفحة 251 منه. مترجم في " الجواهر المضية " 2/ 225.
(3) هو آخر بيت من أبيات ثمانية أوردها ابن الشجري في " حماسته " 1/ 539 - 540 لقيس بن ذريح. وانظر " سمط اللآلي " 1/ 133.(1/443)
وأمَّا أن تسليم الثاني لا يضرُّ، فلأنَّ الأمان الأكثريَّ حاصل بالرجوع إلى الكتاب.
الحجة الثانية: أنَّ الرجوعَ إلى الكتاب أقوى من الحفظ، فوجب أن يكون معتبراً كافياً، وإنَّما قلنا: إنَّه اقوى من الحفظ لوجهين:
أحدهما: أنَّه يجوزُ أن يكون الكتابُ أصل الحفظ، فإن الحافظ يجوزُ له أن يحفظَ مِن الكتاب وهذا هو الأكثرُ، وقَل مَنْ يَحْفظ القرآنَ والسُّنَّة وغيرهما من العلوم مِن أفواه الرجال، على أنَّ الحفظ من أفواه الرجال، ليس يُفيدُ العِلْمَ، فكان الحفظُ مِن الكتاب مساوياً للحفظ من أفواه الرِّجال في إفادة الظن: فإذا ثبت أنَّ الكِتَابَ أصلُ الحفظ في كثير من الأحوال، وأنه يجوز أن يكون أصلُه في جميع الأحوال، ثبت أنّه أقوى منه، لأن الأصل أقوى مِن الفرع، ولأن غاية الحافِظ أن يحفظ كما قرأ في الكتاب.
وثانيهما: أنّا رأينا الحُفّاظ يرْجِعُونَ فيما يحفظونه إلى الكتب عند الاشتباه.
الحجة الثالثة: أنَّه قد ثبت أنّ أميرَ المؤمنين عليًّا -عليه السلام- أعلمُ هذه الأمة بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1) وثبت أنَّه كان معه صحيفة معلّقة في
__________
(1) لعل مستند المؤلف في ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده 5/ 126، والطبراني في " معجمه الكبير " 20/ 229 من طريقين عن خالد بن طهمان، عن نافع بن أبي نافع، عن معقل بن يسار ... وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة: " أو ما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلماً، وأكثرهم علماً، وأعظمهم حلماً " وخالد بن طهمان صدوق إلا أنه اختلط وباقي رجاله ثقات. وانظر " مجمع الزوائد " 9/ 101.
وكان كبار الصحابة رضوان الله عليهم يستشيرونه رضي الله عنه في القضايا الكبرى، =(1/444)
سيفه كتبها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها أسنانُ الإبلِ وأنصبتها ومقَادِيرُ الدِّيات؛ رواها سفيانُ، عن الأعمش، عن إبراهيمَ التيّميِّ، عن أبيه، عن عليّ -عليه السلام (1) -.
وهذا دليلٌ على جواز الرجوعِ إلى الكتُبِ والصحائفِ، وسواءٌ
__________
= ويفزعون إليه في حل المشكلات، وكشف المعضلات، ويقتدون برأيه. وكان عمر رضي الله عنه إذا أشكل عليه أمر، فلم يتبينه يقول: " قضية ولا أبا حسن لها " وروى عبد الرزاق عن معمر، عن قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلاً " أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقضاهم علي " قال الحافظ في " الفتح " 8/ 167: وقد رويناه موصولاً في فوائد أبي بكر محمد بن العباس بن نجيح من حديث أبي سعيد الخدري مثله. وروى البخاري في " صحيحه " (4481) و (5005) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر رضي الله عنه: أقرؤنا أبي وأقضانا علي. والقضاء يستلزم العلم والإحاطة بالمشكلة التي يقضي فيها، ومعرفة النصوص التي يستنبط منها الحكم، وفهمها على الوجه الصحيح، وتنزيلها على المسألة المتنازع فيها. وما أثر عنه من فتاوي واجتهادات وحكم يقوي ما قاله المصنف رحمه الله.
(1) قد تقدم تخريجه، ونزيد هنا أن البخاري رواه (111) من طريق أبي جحيفة عن علي ... وفيه أن فيها " العقل وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر " وللبخاري (6755) ومسلم (1370) من طريق يزيد التيمي عن علي ... فإذا فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات، وفيها قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاًْ ولا عدلاً ".
ولمسلم (1987) (45) عن أبي الطفيل عن علي ... فأخرج صحيفة فيها: " لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من غير منار الأرض، ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى محدثاً ".
وللنسائي 8/ 24 من طريق الاشتر وغيره عن علي ... فإذا فيها " المؤمنون تتكافؤ دماؤهم يسعى بذمتهم أدناهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد بعهده ". ولأحمد (782) من طريق طارق من شهاب فيها فرائض الصدقة.
والجمع بين هذه الأحاديث أن الصحيفة كانت واحدة وهي متضمنة لجميع ذلك، فنقل كل واحد من الرواة ما حفظ عنه.(1/445)
قلنا: إنَّه كان حافظاً لذلك عن ظهر قلبه أو لا، أمّا إن لم يكن حافظاً لذلك، فظاهر، وأمّا إن كان حافظاً له، فلأنَّه إنَّما كتبها، وعلَّقها مع سيفِه ليرجِعَ إليها عند الالتباس، لأن ذِكْر أسنانِ الإبل، ونصابَ زكاتها، ومقادِيرَ الدِّيات لا يصْلُحُ أن يكون تعلَّقه تميمة، ولا اتخذه عُوذةً، فلا وجه لإيجاب الحفظِ.
الحجة الرابعة: ما قَدَّمنا ذكرَه مِن دعوى المنصور بالله، والحافِظِ يعقوب بن سفيان، والحافظ ابن كثير للإجماع على رجوعِ الصحابة إلى كتاب عمرو بن حزم، ورجوع عمر إليه في دية الأصابع، وكذلك كتابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي كتبه في الصدقات لأبي بكر وكذلك سائرُ الكتب النبوية التي كتبها -عليه السلامُ- للمسلمين إلى سائر آفاق الإسلام، لم يُنْقَلْ أنّه -عليه السلام- أمر أحداً ممَّن كتبت له بحفظها عن ظهر قلبه، وأوجب ذلك على من أراد العملَ بها وهو -عليه السلام- المُبَيِّن للأمة، الناصح للخلق، الأمينُ على الوحي، فلا هُدَى أوضحُ من هداه، ولا اقتداء بأحدٍ أفضلُ مِمَّن اختاره اللهُ واصطفاه.
الحجة الخامسة: أن الصحابة أجمعت أنَّه لا يجب حفظُ النَّصِّ على المجتهد، وإنَّما يجب عليه البحثُ عند حدوث الحادثة، وذلِكَ ظاهر، فإن أبا بكر حين سألته الجَدَّةُ نصيبَها قال لها: ما لَكِ في كتابِ اللهِ من شيءٍ وما علمتُ لَكِ في سُنَّة رسولِ الله من شيء، ثم سأل الناسَ، فأخبره المغيرةُ، ومحمدُ بن مسلمة أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض لها السُّدُسَ فأمضاه لها (1). فلم يكن حافظاً للنص قبلَ حدوث هذه
__________
(1) تقدم تخريجه ص 294.(1/446)
المسألة. وكذلك قِصَّةُ عُمَرَ في حُكْم المجوسِ (1) وسؤاله للناس عند احتياجه إلى ذلك، وكذلك قصَّتُهُ في حديثٍ الطَّاعونِ (2).
وكذلك أميرُ المؤمنين -عليه السلامُ- قد صحَّ عنه أنَّه كان يغتسِلُ من المذي، ولا يدري ما حُكمُهُ، وأنَّهُ استحى مِنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لمكان ابنته منه، وما زال يغتسِلُ منه حتَّى تشَقَّقَ ظهرُهُ، ثم أمر المِقْدَادِ بنَ الأسود يسأل له النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك (3). والظاهر أنَّ علياً -عليه السلامُ- كان مجتهداً في العلم حين لم يكن يحْفَظُ ذلك الحكمَ، فلو وجبَ في حق المجتهد حفظُ النصوص على الحوادث، لدَلَّ ذلك على أنَّه في تلك الحال يُسمَّى عامِّياً غيرَ مجتهد.
وأيضاًً فإنَّه قد ثبت عنه -عليه السلام- أنَّه احتاج إلى حديث غيره، وكان يستحلفُ بعضَ الرُّواة ويُصدِّق منْ حلف له، كما رواه المنصور بالله، وأبو طالب -عليه السلام- ولو كان حافظاً للنُّصُوص عن ظهر قلبه لم يَحْتَج إلى ذلك. ففي هذا أنَّهم لم يتعرَّضوا لجمع النصوص
__________
(1) أخرجه البخاري في " صحيحه " (3156) والشافعي 2/ 126، وأبو عبيد في " الأموال " 32 - 33، والبغوي في شرح السنة (2750) من طريق عمرو بن دينار، سَمِعَ بَجَالَة بن عبدة يقول: لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذها من مجوس هجر.
(2) هو حديث مطول أخرجه من حديث عبد الله بن عباس البخاري (5729) و (6973) ومسلم (2219) وأبو داود (3103) وفيه أن عبد الرحمن بن عوف حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه ".
(3) أخرجه من حديث علي أحمد 1/ 108 - 109، وأبو داود (206) وإسناده صحيح، وأخرجه دون ذكر تشقق الظهر البخاري (132) (178) و (269) ومسلم (303) وأحمد (618) و (662) و (811) و (869) و (823) و (847) و (856) وفيه أنه يغسل ذكره ويتوضأ.(1/447)
وحفظها، بل كانوا لا يبحثون عن المسألة حتى تُعْرضَ، فإن عَرضت وهم يحفظون فيها شيئاً، حكموا به، وإن لم يكونوا يحفظون فيها شيئاً، سألوا عنه.
وتلخيص هذه الحجة أنْ نقول: إنّا نعلم بالضرورة من أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- أنّهم ما كانوا يعتنونَ بجمعِ الحديث النبويِّ وحفظه ودرسه عن ظُهورِ قلوبهم، فإذا لم يجب حفطُهُ ودرسُه قبلَ تقييده بالكتابة، فكيف يجبُ بَعْدَ تقييده في الكتب، والأمان من ضيَاعه، والثقة بوجوده، وإنَّما كانوا يحفظون بعضَ القرآن، ويَدْرسونَه، والقليلُ منهم يحفظه كُلَّه.
فإن قلتَ: إنَّهم كانوا إذا سَمِعُوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً حفظوه بالمعنى.
فالجوابُ عن هذا من وجهين:
أحدهما: أنَّ محفوظ الواحد منهم كان لا يكفيه في الاجتهاد بحيثِ لا يجبُ عليه طلبُ غيره، وهذا القدرُ محفوظ لِكل مجتهد بعدَهم، وإنما كلامُنا في حفظ كتابٍ حافلٍ في أحاديثِ الأحكامِ يَغْلِبُ على ظنِّ الحافظ له أنَّه لا يُوجَدُ نصٌّ صحيح إلا وقد أحاطَ به، بحيث إذا وَرَدَتْ عليه الحادثة لم يجبْ عليه أن يَطْلُبَ مِن غيره المعارضَ ولا الناسخَ ولا المخصِّصَ، وإنَّمَا قلنا: إنّ الواحد منهم كان لا يحفظُ ما يكفيه، لأنّ ذلك هو الظاهرُ مِن أحوالهم، فإنَّهم كانوا يفزعونَ إلى السُّؤال عند حدوثِ الحوادِثِ مثل ما قَدَّمنا مِن قِصَّة أبي بكر مع الجَدَّةِ، وقصة عمر مع المجوس وأمثال ذلك، فإذا كان هذا أمير المؤمنين -عليه السلام- احتاجَ إلى حديثِ غيره، بل احتاج إلى حديث المتَّهَمِينَ الذين(1/448)
لا يُصدقهم إلا بعدَ الاستحلاف، فما حالُ غيره؟ وأمَّا معاذ، فإنَّما لم يلزمه سؤالُ غيرِهِ حيث لم يَجِد النُّصوصَ لبُعْده عنهم، وغيبتهم عنه، كما لم يلزمه الرجوع إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لذلك، فلا شك أنّ الحكم بالرأي في بلدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن غير سؤال لا يجوزُ، لأنَّ الحاكم به واجد للنصِّ كالمتيمِّم، والماءُ معه في البلد لا يجزيه، لأن الماءَ معه.
وثانيهما: أنَّهم كانوا يسمعون من النبي - صلى الله عليه وسلم - الشيءَ ثم ينسونه، وذلك ظاهر لوجهين:
أحدهما: أنَّ مثل ذلك معلوم من أحوال البشر، فإنَّ منْ سَمِعَ الشيءَ، ولم يُلَاحِظْهُ بالدرس والمعاهدة يَعْرِضُ له النسيانُ، وتَطَرَّق إليه الشَّكُّ.
وثانيهما: أنَّه قد ثبت عنهم ذلك، فعن طلحة أنَّه سُئل عن السبب في قِلة روايته، فقال ما معناه: إنّي قد جالستُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كما جالسوه، وسمعتُ منه كما سمعوا منه، ولكنِّي سمعتُهُ يقول: " منْ كَذبَ عَلَيَّ مُتعَمِّداً فَلْيتَبوَّأ مقْعَدَهُ منَ النَّارِ " (1).
وعن أبي عمرو الشَّيباني، قال: كنتُ أجلِسُ إلى ابن مسعود حولاً لا يقولُ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استقلَّته الرِّعدةُ، وقال: هكذا، أو نحو ذا، أو قريب من ذا، أو قلت. يعني
__________
(1) أورد المرفوع من حديث طلحة الهيثمي في " المجمع " 1/ 143، ونسبه إلى أبي يعلى والطبراني، وقال: إسناده حسن، وهو في " المعجم الكبير " برقم (204). وقال الإمام الذهبي في " السير " 1/ 24: لطلحة عدة أحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وله في مسند بقي بن مخلد بالمكرر ثمانية وثلاثون حديثاًً. له حديثان متفق عليهما، وانفرد له البخاري بحديثين، ومسلم بثلاثة أحاديث. وانظر " السير " 1/ 37 و605 - 606.(1/449)
يتحرَّجُ مِن أجل حفظ اللفظ مع طُول العهدِ، فإذا روى بعبارة تُوهِمُ أنَّه حكى لفظ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - استقلَّته الرِّعدة، وإنَّما كان عامّة روايته بلفظٍ يفهم منه السامعُ أنّه روى بالمعنى، ولهذا قال أبو هريرة: ما غلبني أحدٌ إلا عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولم أكتب (1).
وأعجبُ مِنْ هذا كله نسيانُ عُمَرَ لِحَدِيثِ التَّيَمُّمِ الذي رواه عمَّارٌ مع أنَّه من الوقائع التي لا يُنسى مثلُها في العادة، فإنّ عَمّاراً روى أنّه أصابته وعُمَرَ جنابَةٌ. قال: فأمَّا أنا فتمرَّغتُ في التراب كما تمرَّغُ الدَّابَّةُ، وأما عُمَرُ، فترك الصَّلاة، فلما أتينا النبي - صلى الله عليه وسلم - سألناه فقال: " إنَّما كانَ يَكْفيك ... " وساق الحدِيثَ في صِفَةِ التيمُّمِ. فلما سمع عُمرُ هذا مِن عمَّار، أنكره وقال: اتَّقِ الله يا عمَّار، فقال عمَّار: إن أحببتَ، لم أذكره فقال عمر: بل قد وليناك ما توليت (2). أو كما قالا.
وأمثالُ هذا كثيرة.
فإذا لم يَجِبْ على الصحابة التعرُّضُ لمعرفة ما في الحوادث المقدرة من النصوص، وذلك قبلَ حفظِ السُّنن وتدوينها، فأولى وأحرى أن لا يَجِبَ ذلك بعدَ حفظها وتدوينها، والأمانِ من ضَيَاعها، والمعرفةِ بموضعها عند الحاجة إلى البحث عنها، وهي حُجَّةٌ قَوِيَّة إجماعية.
الحجة السادسة: أنها قد اشتهرت الفُتيا في عصر الصحابة عمَّن
__________
(1) أخرجه البخاري (113) وهو في تاريخ ابن عساكر 19/ 117/1، وانظر السير 2/ 599.
(2) أخرجه البخاري (338) و (341) و (345) و (347) ومسلم (368) (112) وأحمد 4/ 265، والدارقطني 1/ 180، والنسائي 1/ 165 - 166، والبيهقي 1/ 211 و226.(1/450)
ليس بحافظٍ لأقوال الله، دَعْ عنك أقوالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُنْكِرْ ذلك أحدٌ من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المفتي ولا على المستفتي، فقد نقلت الفتيا عن خلقٍ كثير من الصَّحابة عدتهم مئة واثنان وأربعون رجلاً وعشرون امرأة وهم معروفون بأسمائهم لولا خشيةُ التطويل، لذكرتُهُم بأسمائهم (1)، ولم يكن يحفظُ القُرآن منهم إلاَّ أربعةُ رجال فيما قاله بعضُ الصَّحابة (2)، أو قريبٌ من ذلك.
وقد أفتى أبو بكرٍ وعُمَرُ؛ ولم يكن منهما منْ يَحْفَظُ أقوال اللهِ عن ظهر قلبه كما ذكره السَّيِّد، ولم يُنْكِرْ عليهم أخذ من الصَّحابة، ولا أنكر على من استفتاهم، ولا علم أنَّ أحداً منهم جمع آيات الأحكام مفردةً، كما فعله بعضُ المتأخرين وحفظها، ولا توقَّفُوا في العمل باجتهاد الخليفة، والقاضي، والمفتي على البحث عن ذلك واختياره فيه، فدلَّ على أنَّه لا يجب.
الحجة السابعة: أنَّ الله تعالى قال في الدِّين والشهادة عليه: {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] فالله -سبحانه
__________
(1) لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 هـ رسالة في أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم سرد فيها أسماءهم، وهي مطبوعة في جملة رسائل له مع جوامع السيرة بتحقيق د. إحسان عباس ود. ناصر الدين الأسد، ومراجعة العلامة أحمد شاكر انظر ص 319 - 323.
(2) في صحيح البخاري (5004) عن أنس قال: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد. وقول أنس هذا لا مفهوم له فقد جمع القرآن غير هؤلاء، انظر تفصيل ذلك في " فضائل القرآن " 28 - 29 لابن كثير، وفتح الباري 9/ 51 - 53.(1/451)
وتعالى- في هذه الآية رفع الإشكال، وبيَّن أنّ الكتابة هي الغايةُ القصوى في الاحتراز من الشَّكِّ والبعد من الرَّيْب، ونصَّ على أنَّها أقسطُ وأقومُ، وجاء بأفعلِ التفضيل، وحذف المفضَّل عليه تعميماً لتفضيل الكتابة على سائر الوجوه المبعدة من الريب، المقربة من اليقين، كما في قوله تعالى: {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وفي قول المصلي.
وهذا في الشَّهادة المبنيَّة على العلم، فكيف في الاجتهاد المبنيِّ على الظنِّ، وهذا في حقوق المخلوقين المبنيَّةِ على المبالغة في الاحتراز بحيث إنَّه لا يُقبل فيها قولُ العدلِ الواحد، ولا قولُ جماعةِ العدولِ فيما يدَّعونَهُ لنفوسهم ونحو ذلك من الخصائص، فكيف في حقوق الله التي لم يُشترط فيها شيءٌ مِن ذلك. وهذه الآية حجة لمن يُجِيز الشهادة على الخطِّ المعروفِ، وهي على أصله أظهرُ في المقصود هنا، وإن كانت حُجَّة على كلا المذهبين، لأن مَنْ لا يُجِيزُ الشهادة على الخطِّ يتأوَّلُها بأنَّ الخط مذكِّرٌ لمن نسي تذكيراً يعودُ معه العلمُ الضروريُّ، فثبت أنَّ الشاهدَ لا يجب أن يكونَ حافظاً حتَّى يشهدَ، ويجوزُ أن ينسى، ثم يتذكرَ، فالمجتهدُ أولى بذلك.
الحجة الثامنة: أنَّ الجماهير قد أجازوا روايةَ لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعنى، ولم يُوجِبُوا حفظَه بلفظه، واحتجُّوا على ذلك بحجج أقواها رواية الحديث للعجم بلسان العجم، ومنها إجماعُ الصَّحابة على جوازِه حيثُ يروون الحديثَ الواحِد في الواقعة الواحدة بألفاظ مختلفة من غير مناكرة بينهم. فإذا تقرر هذا الذي ذهب إليه الجمهورُ، والذي قامت عليه الأدِلَّةُ أنَّه لا يجبُ حِفْظُ لفظِ حديث رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على من سمعه منه -عليه السلام- بغير واسطة، فكيف يجب على من بلغه حديث(1/452)
بوسائط كثيرة أن يحفظ ألفاظَهم التي لا يدري: أهي لفظُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أم (1) معنى لفظه؟
الحجة التاسعة: أجمعت جماهيرُ العِترة الطاهرة -عليهم السلام- على اختيار الإمام في الاجتهاد ولم يزل الأعيان من سادات أهلِ البيتِ والعلماء من شيعتهم يختبرون كُلَّ مَنْ دعا إلى الإمامة منذ عصورٍ كثيرة، وقرونٍ عديدة، فلم نعلم أنَّ أحداً منهم اختبر أحداً من الأئمة في حِفْظِ أقوالِ اللهِ وأقوالِ رسوله ومسائلِ الإجماع عن ظهر قلبه مع تعرُّضهم لامتحان الأئمة في جميع شرائط الاجتهاد ومع تعنُّتِ كثيرٍ منهم في الاختبار. وكذلك الأئمةُ لم يختبروا القضاةَ في ذلك، وكذلك من اعتقد اجتهاد عالم من المتقدِّمين، وأراد تقليده، وكان ممن يستجيز ذلك، فإنه لم ينقل عن أحد أنَّه يلزمه أن يبحثَ حتَّى يظن أنَّه كان يحفظ أقوال اللهِ، وأقوالَ رسوله، ومسائلَ الإجماع عن ظهر قلبه، وهذا يُفيد ظهور الإجماع على عدم وجوب ذلك.
الحجة العاشرة: ثبت عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ، فلا تُضَيِّعُوهَا، وَحدَّ حُدُوداً فَلا تعْتَدُوهَا، وَسكَتَ عنْ أشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ فلا تَتَعرَّضُوا لَهَا" رواه النَّواوي في " الأربعين " (2) المسمّاة بـ " مباني الإسلام " وقال: هو حديث حسن،
__________
(1) في (أ) و (ج): أو.
(2) ص 261 بشرح الحافظ ابن رجب الحنبلي المسمى (جامع العلوم والحكم) وهو حديث حسن بشواهده رواه الدارقطني: 502، والحاكم 4/ 115، والبيهقي 10/ 12 - 13 من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني، وهذا سند رجاله ثقات إلا أن مكحولاً لا يصح له سماع من أبي ثعلبة، وله شاهد من حديث أبي الدرداء بلفظ " ما أحلَّ الله في كتابه، فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا هذه الآية {وما كان ربك نسيا} أخرجه الحاكم =(1/453)
ويشهد له ما ثبت في " الصحيحين " عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ ومَا أمَرْتُكُم بِهِ فأتُوا مِنْه ما اسْتَطَعْتُمْ، فَإنَّما أهْلَكَ: مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهمْ واختلافُهُم على أنْبِيَائِهِمْ " (1).
وهذا مِن جملةِ ما سَكَتَ الله عنه ورسولُه، ولم يَحْصُلْ فيه قياسٌ صحيحٌ يقْوَى على تخصيصِ هذه العموماتِ، وَقَدْ أذِنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لجماعةٍ منْ أصْحَابِهِ بالقضاءِ والفُتيا، وَسَكَتَ عن هذَا ولم يُبَيِّن لهم أنَّه شرطٌ في ذلك.
وقد ثبت بالإجماع أنَّ علينا أن نَقْضِيَ بكتاب اللهِ، ثم بِسُنَّة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه سنةُ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دلَّت على أن الله سَكَتَ عن إيجابِ حفظِ أقوالِهِ وأقوالِ رسولِهِ رحمةٌ لنا مِنْ غيرِ نسْيَانِ، فَقَبِلْنَا رحمَة اللهِ تعالى لنا، وَشَكَرْنَا نعمته سبحانَه علينا، ولم نَتعَرَّضْ لِمَا لم نُؤْمرْ به في كتابِ ربِّنا ولا في سُنَّةِ نَبِيِّنا، ولم نَكُنْ مِن الَّذِينَ قَال الله تعالى فيهم: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} (2) [النساء: 66].
__________
= 2/ 375 وصححه، والبيهقي 1/ 12، وقال الهيثمي في " المجمع " 7/ 75 بعد أن عزاه للبزار: ورجاله ثقات، وفي الباب عن سلمان الفارسي قال: " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء، فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا عنه " وسنده ضعيف. وانظر " مجمع الزوائد " 1/ 171 - 172.
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة البخاري (7288) ومسلم (1337) والنسائي 5/ 110، وابن ماجة (2) والبغوي (99) وابن حبان (19) بتحقيقنا، والترمذي (2681) وأحمد 2/ 247 و258 و428 و447 و448 و457 و467 و508 و517.
(2) قال أبو جعفر الطبري في " جامع البيان " 8/ 528: يعني -جل ثناؤه- بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنْزِلَ اليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك صدوداً - {فعلوا ما يوعظون} يعني ما يذكرون به من طاعة الله، والانتهاء الى أمره {لكان خيراً لهم} في عاجل دنياهم وآجل معادهم، و {أشد تثبيتاً}: وأثبت لهم في أمورهم =(1/454)
الحُجَّة الحادية عشرة: قالَ صاحبُ كتابِ " الإجماع " في آخره: أجْمَعوا على أنَّ حِفْظ شيء مِن القرآن واجبٌ، وعلى أنَّ من حَفِظَ الفاتحَةَ مع البسملَةِ قَبْلَهَا، وسورةً أخرى معها، فقد أدَّى فرضَ الحفظ، وأنَّه لا يلزمُهُ حِفظٌ أكثرُ من ذلك (2). انتهي من كتاب الرَّيمِيِّ (3) الجامِعِ لكتب ابن حزم وابن المنذر (1) وابنِ هُبيْرَةَ (2) في الإجماعِ.
وفي هذه الحُجَجِ كفايةٌ إن شاء اللهُ تعالى، ثُمَّ بعدَها نذكر حُجَجَ
__________
= وأقوم لهم عليها، وذلك أنَّ المنافق يعمل علي شك، فعمله يذْهَب باطلاً، وعناؤه يضمحلُّ، فيصير هباء، وهو بشكله يعمل على وفاء وَضَعف، ولوعمل على بصيرة، لاكتسب بعمله أجراً، ولكان له عند الله ذخراً، وكان على عمله الذي يعمل أدرى، ولنفسه أشد تثبيتاً، لإيمانه بوعد الله على طاعته، وعمله الذي يعمله.
(2) النص في " مراتب الإجماع " ص 156 لابن حزم، لكن فيه لفظ " اتفقوا " بدل " أجمعوا "!!
(3) هو الإمام الفقيه العلامة جمالُ الدين محمد بن عبد الله الحثيثي الرَّيْمي اليمني الشافعي المتوفى سنة 792 هـ. من مؤلفاته " شرح التنبيه " في أربعة وعشرين سفراً، و" اتفاق العلماء "، و" المعاني البديعة في اختلاف علماء الشريعة " وغير ذلك. مترجم في " الدرر الكامنة " 3/ 486 و" العقود اللؤلؤية " 2/ 218، و" شذرات الذهب " 6/ 325، و" كشف الظنون " 49، و" إيضاح المكنون " 1/ 21 و435 و2/ 505.
(1) هو الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري المتوفى سنة 318 هـ صاحب التآليف المهمة النافعة في الإجماع والخلاف وبيان مذاهب العلماء، ترجمه الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 14/ 490 - 493، ونقل فيه قولَ الإمام النووي: له مِن التحقيق في كتبه ما لا يُقاربه فيه أحد، وهو في نهايةٍ من التمكن من معرفة الحديث، وله اختيار، فلا يتقيد في الاختيار بمذهب بعينه، بل يدور مع ظهور الدليل.
وعلق الإمامُ الذهبي على كلام النووي، فقال: ما يتقيد بمذهب واحد إلا من هُوَ قَاصِرٌ في التمكن من العلم، كأكثرِ علماء زماننا، أو مَنْ هو متعصب، وهذا الإمام، فهو من حملة الحُجَّةِ، جارٍ في مضمار ابن جرير وابنِ سُريج، وتلك الحَلَبَة - رحمهم الله.
قلت: وكتاب الإجماع نشر في دار طيبة بالرياض سنة 1982 م بتحقيق أحمد بن محمد حنيف.
(2) هو أبو المظفر الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة بن سعيد بن المحسن بن أحمد بن =(1/455)
" السَّيِّدِ " التي احتَجَّ بها على أنَّه يجبُ حفظ أقوالِ اللهِ، وأقوالِ رسوله، وأقوالِ الأمَّةِ عن ظهرِ قَلْبٍ.
قال: ولا يغرَّنَّكَ قولُ الغزاليِّ (3) أو غيرِه: يكفيهِ أن يحْفَظَ في كُلِّ فَنٍّ مختصراً، ولا يلزَمُهُ حفظُهُ عن ظهرِ قلبِهِ، بل يكفيهِ أن يعْرِفَه نَظَراً، فإنَّ ذلِكَ غيرُ صحيحٍ ألا ترى إلى قولِه:
مَا العِلْمُ إِلاَّ مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ ... لَيْسَ بِعلْمٍ مَا يَعِي القِمطْرُ (4)
أقولُ: قد احتَجَّ " السَّيِّد " بثلاثِ حُجَجٍ هذه أُولاها وما أدري مما عُذْرُ " السَّيِّدِ " في تصديرِ الاحتِجَاجِ بقولِ الشاعر في مسألة مِن قوعِدِ الدِّين التي يَنْبنِي عليها كثيرٌ مِن مسائل الإسلامِ من الإمامَةِ العُظْمَى، ومرتبتي
__________
= الحسن الشيباني الدوري البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 560 هـ. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/.
قال ابن الجوزي في " المنتظم " 10/ 214: كانت له معرفة حسنة بالنحو واللغة والعروض، وتفقه وصنف في تلك العلوم وكان متشدداً في اتباع السنة، وسير السلف.
وقال ابن رجب في " ذيل الطبقات " 1/ 252: صنف الوزير أبو المظفر كتاب " الإفصاح عن معاني الصحاح " في عدة مجلدات، وهو شرحُ صحيحي البخاري ومسلم، ولما بلغ فيه إلى حديث " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " شرح الحديث، وتكلم على معنى الفقه، وآل به الكلامُ إلى أن ذكر مسائل الفقه المتفقَ عليها والمختلفَ فيها بين الأئمة الأربعة المشهورين، وقد أفرده الناسُ من الكتاب، وجعلوه مجلدةً مفردة، وسَمَّوه بكتاب " الإفصاح " وهو قطعة منه.
قلت: وقد طبع هذا الجزء بعناية علامة حلب الشيخ راغب الطباخ، مصدراً بترجمة حافلة للمؤلف.
(3) في " المستصفي " 2/ 350 - 351.
(4) القِمَطْر: ما يُصان فيه الكتب، وهو شبه سَفَطٍ يُسَفُّ من قَصَبٍ، والبيت غيرُ منسوب في " الصحاح " و" اللسان " و" العُباب " و" تاج العروس " وروايته عندهم:
لَيْسَ بِعِلْم ما يَعِي القِمَطرُ ... ما العِلْمُ إلاَّ مَا حَوَاهُ الصَّدْرُ(1/456)
القضاءِ والفتيا، وهذه الأمور هي التي تَدُورُ عليها رَحَا المصالِحِ الإسلاميةِ وَترْجِعُ إليها أمهاتُ القواعِد الدينيّةِ، وهذا شيءٌ لم يَسْبِقْ إليهِ أحدٌ من العلماءِ، ولو كان قولُ الشاعِرِ حُجَّةً في الحلالِ والحرام، ومهمَّات قواعِدِ الإسلام، لم يَعْجِزْ أحدٌ عن الاحتجاجِ على كُلِّ ما أراد، فإنَّ في كُلِّ طائفةٍ شعرَاءَ، وفي كُلِّ فرقةٍ بُلغاءَ، يُجيدُونَ الأشعارَ وُيحَبِّرون القصائدَ.
تم بعونه تعالى الجزء الأول
من
العواصم والقواصم
ويليه الجزء الثاني وأوله
قال: ويروى عن الشافعي أنه ...(1/457)
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء الثاني
مؤسسة الرسالة(2/1)
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
2(2/2)
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران(2/3)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2/4)
قال: وُيروى عن الشَّافعي أنَّه قال: لا عِلْمَ إلاَّ ما يَدْخُلُ بِهِ الحمّام.
أقولُ: هذه الحجةُ الثانيةُ من حُججِ السَّيِّد في هذه المسألةِ، والجوابُ عليه من وجوه:
الأوَّلُ: مِن أينَ صحَّ لك هذا عن الشافعيِّ -رضي اللهُ عنه- فهو إمامٌ جليلٌ، ومذاهبُه محفوظةٌ، وأقوالُه مُدَوَّنَة، وهذه المسألةُ من أكبرِ قواعدِ الإسلامِ، والكلامُ في شرائِطِها أساسُ معرفةِ الحلالِ والحرامِ، ونسبةُ مذهبٍ إلى الشافعيِّ في هذه المسألةِ الكبيرةِ مِن غيرِ طريقٍ صحيحةٍ، لا يجوزُ، فيجبُ مِنَ السَّيِّد -أيَّدَهُ اللهُ- أن يُرِينَا مِن أينَ نقل هذا القولَ عن هذا الإمامِ، أمن " التنبيه "؟ (1) أم من " المهذَّبِ "؟ أم من
__________
(1) " التنبيه " و" المهذب " كلاهما في الفقه الشافعي لشيخ الشافعية في عصره الإمام أبي إسحاق الشيرازي إبراهيم بن علي بن يوسف المتوفى سنة 476 هـ. وللإمام النووي يحيى بن شرف المتوفى سنة 676 هـ " تحرير ألفاظ التنبيه "، و" المجموع " شرح المهذب، وأما " الروضة ": فهو له أيضاً، وهو من الكتب الجامعة المعتمدة في المذهب الشافعي، اختصره من " الشرح الكبير " للإمام الرافعي، وزاد عليه تصحيحات ودقائق واختيارات ابتدأ تأليفه في شهر رمضان سنة 666 هـ، وفرغ منه في شهر ربيع الأول سنة 669 هـ. وقد طبع في دمشق في اثني =(2/5)
" الروضة "؟ أم من " المنهاجِ "؟ أم من " فتح العَزِيزِ "؟ أم من كتاب " الأمِّ "؟ أم من كتاب " المحصولِ " للرازيِّ، أم " المستصفي " للغزاليِّ؟ أم " البُرهانِ " للجُويني؟ أم من أيِّ مصنفاتِهِ؟ فهي منتشرةٌ في البلاد، سائرةٌ في الأغوارِ والأنجادِ.
وقد شدَّد السَّيِّد في نِسبة الصِّحاحِ المسموعةِ إلى أربابِها مع عِنايةِ أهلِ هذا الشأنِ بها، فكيف بِنسْبَةِ هذا المذهبِ الغريبِ إلى هذا الإمامِ الجليلِ؟!.
الثاني: أنَّ المنقولَ في كتبِ الشافعيةِ نقيضُ ما ذكرتَه من غيرِ ذكرٍ لخلافٍ فيه، لا عن الشافعيِّ، ولا عن سِواهُ، فهذا إمامُ الشافعية تاجُ الدِّين أبو نصرٍ السُّبْكيُّ (1) في كتابهِ " جَمْعِ الجَوامعِ " في الكِتَاب السابعِ
__________
= عشر مجلداً، وكان مما من الله علي وعلى زميلي الفاضل الشيخ عبد القادر الأرنؤوط أن تولينا تحقيقه وضبطه ومقابلته على ثلاثة أصول خطية جيدة، منها اثنتان في دار الكتب الظاهرية بدمشق.
و" المنهاج " هو للإمام النووي أيضاً، وهو كتاب لطيف الحجم يكثر تداوله بين العلماء والطلبة، وهو عمدة الشافعية في معرفة المذهب، اختصره وزاد عليه تصحيحات واختيارات من كتاب " المحرر " للإمام الرافعي، وقد طبع أكثر من مرة، وشرحه غير واحد من أهل العلم.
وأما كتاب " فتح العزيز" واسمه الكامل " فتح العزيز على كتاب الوجيز " - فهو للإمام أبي القاسم عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم بن الفضل القزويني المتوفى سنة 623 هـ شرح فيه كتاب " الوجبز" للإمام الغزالي، وهو شرح كبير حافل ينبىء عن كون صاحبه متبحراً في مذهب الإمام الشافعي، وفي علوم كثيرة يقع في بضعة عشر مجلداً طبع قسم منه بهامش " المجموع " للإمام النووي، وهذا الشرح هو الذي اختصره الإمام النووي في كتابه " روضة الطالبيين " الذي تقدم وصفه.
(1) هو الإمام العلامة تاج الدين أبو النصر عبد الوهَّاب بن علي بن عبد الكافي السبكي، ولد بمصر سنة تسع وعشرين وسبع مئة، ولازم الاشتغالَ بالفنون على أبيه وغيره حتى مهر، وهو شاب، وصنف كتباً نفيسه، وانتشرت في حياته، وبعد موته: توفي سنة 771 هـ. وكتابه " جمع الجوامع " في أصول الفقه جمعه من زهاء مئة مصنف شتمل على زبدة ما في شرحيه على مختصر ابن الحاجب، والمنهاج للبيضاوي مع زيادات وبلاغة في الاختصار، ورتب على =(2/6)
منه يقولُ: إنَّ حِفْظَ المتونِ لَا يَجِبُ على المجتهدِ (1) مع توسُّعِه في نقلِ الخلافِ، فلم يَذْكُرْ خلافاً قطُّ. فدلَّ على براءَةِ الشَّافِعيِّ مما ذَكَرَهُ، على أنَّه قد نَقَلَ عن الغزاليِّ مثلَ ذلك، وهو مِن أئمة الشافعيةِ، فيَجبُ منه أن يُبَيِّنَ لنا نقلَه عن أيِّ ثقةٍ، أو مِن أيِّ كتابٍ، كما فعلنا، فإنَّه أبعدُ له عن التُّهْمَةِ، وأنفي عن صِمَةِ (2) الرِّيبَةِ.
الوجهُ الثالثُ: أن نقولَ: ما سببُ الاحتجَاجِ بقول الشافعيِّ وما تُرِيدُ بذلك؟ فإن أردتَ أن كلامَه حُجَّةٌ في الحلالِ والحرام، وقواعِدِ الإسلامِ، فهذا خِلافُ الإجماعِ، وإن أردتَ أن تُرَجِّحَ لنا تقْلِيْدَهُ في هذه المسألةِ، فما أَبْعَدَ مَا قَصَدْتَ في هذا المقالِ، فإنما وضعتَ رسالتَك لتحذيري مِن تقليدِ الفقهاءِ في فروعِهِم، والقدحِ عليهم في حديثِهم وعقائدِهم حتَّى شَكَّكتَ في اجتهادِ أبي حنيفةَ، وفي إسلامِ الشافعيِّ ومالكٍ، وقطعتَ بِكُفْرِ أحمدَ بنِ حنبلٍ جُراءةً وغُلُوّاً في التنفير عنهم، ثم أردتَ أن تحتجَّ علينا بما لم يَصِحَّ عنهم، كما تحتجُّ بكتابِ اللهِ حيثُ احتجْتَ إلى ذلك، فَدَارَ اختيارُك مع الهوى، ونسيتَ ما يمْنَعُ مِنْهُ الحَيَا والحِجا، وكان اللائقُ من السَّيِّد -أيَّده اللهُ- إذا لم يجِدْ حُجةً تَدُلُّ على ما اختاره مِن هذا القولِ أن لا يذهب إليه، فليس ثَمَّةَ ضرورةٌ تُلْجِئُهُ إلى اختيارِ هذا القولِ المهجورِ، ومخالفةِ المذهبِ المشهورِ المُصَحَّحِ المَنْصُورِ الذي نصَّ عليه العلماءُ، وَقَوَّاه الجمهورُ، والعدولِ عن ذلك
__________
= مقدمات وسبعة كتب، وقد طبع مفرداً ومع شرحه للمحلي، انظر ترجمته في " الدرر الكامنة " 2/ 425 - 428، و" حسن المحاضرة " 1/ 328 - 329، وانظر مقدمة التحقيق التي كتبها الطناحي والحلو لكتاب " طبقات الشافعية الكبرى " للسبكي هذا.
(1) نص كلامه في " جمع الجوامع " 2/ 422 - 423 بشرح المحلي وحاشية العطار: ومتعلق الأحكام من كتاب وسنة وإن لم يحفظ المتون.
(2) من وَصَمَ الشيء يصِمُه صمة: إذا عابه كوعد يعد عِدَة.(2/7)
إلى الاحتجاج بالمنظومِ والمنثورِ.
قالَ: وكيفَ يكونُ حالُ هذا المجتهدِ الذي يَحْتاجُ إلى كُتُبِهِ في عيونِ المسائلِ إذا اغْتُصِبَتْ كُتُبُه، أو سُرِقَتْ: هل يَبْطُلُ إجتهادُه، أو يقال: سُرِقَ عِلْمُهُ أو اغتُصِبَ ومُنِعَ منه ونُهِبَ؟!.
أقول: هذه الحجةُ الثالثةُ مِن حُجَجِ السيِّدِ -أيَّده اللهُ- في هذه المسألةِ، وما هي إلاَّ قَعْقَعَةٌ في العِبارةِ، وتهويلٌ لَيْسَ تحتَه مِن العِلْمِ أَثَارَةٌ، ولستُ بحمدِ اللهِ مِمَّن تَهُولُهُ القَعْقَعَةُ، ولا تَسْتَغْلِطُهُ الألْفاظُ المسَجَّعَةُ، وَمَا أنَا مِن جِمَالِ بني أقَيْشٍ يُقَعْقَع خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنٍّ (1) وبيانٌ ما ذكرتُهُ يَظْهَرُ بالكلامِ في عَشْرةِ أنظارٍ: معارضَاتٍ وتحقيقاتٍ:
النظرُ الأوَّلُ: مِن قَبِيلِ المعارضاتِ وهو أن نقولَ: إيرادُ مثلِ هذا الكلامِ مُمْكِنٌ في المجتهد والمقلد والقارىء في أيِّ فنٍّ مِن الفنونِ السَّمعيَّةِ، والمعتمدِ على الكتبِ في جميعِ المعارفِ النَّقْلِيَّةِ، فَيَلْزَمُ السَّيِّدَ -أيَّده الله- أن يُوجِبَ على نفسهِ وعلى غيرهِ من المقلِّدينَ لأمواتِ العلماءَ
__________
(1) اقتباس من قول النابغة الذُّبياني:
كأنك مِن جِمالِ بني أُقيش ... يُقعْقَعُ خلفَ رِجَليْهِ بشَنِّ
وهو البيتُ العاشر من قصيدة في ديوانه 246 مطلعها:
غشِيتُ منازِلاً بعُرَيْتِنَاتٍ ... فأعلى الجزعِ للحي المِبَنٌّ
وقوله كأنك من جمال - هذا خطاب لعيبنة بن حصن الفزاري، وبنو أقيش: فخذ من أشجع، وقيل: حي من اليمن، وإبلهم غيرُ عتاق يضرب بنفارها المثل، ويقعقع بالبناء للمفعول، والقعقعة: تحريك الشيء اليابس الصلب، والشن: القِربة البالية، وتقعقعها يكون بوضع الحصى فيها وتحريكها، فيسمع منها صوت، وهذا مما يزيد في نفورها. جعل عيينة كالجمل النافر لجبنه وخفته عند الفزع. والبيت استشهد به سيبويه 2/ 345 على حذف الاسم الموصوف لدلالة الصفة عليه، والتقدير: كأنك جمل من جمال بني أقيش. وهو في " شرح المفصل " لابن يعيش 1/ 61 و3/ 59، و" خزانة الأدب " 2/ 313، و" شواهد العيني " 4/ 67، والأشموني 3/ 71.(2/8)
المعتمدينَ على ما يَدْرُسُونهُ من أقوالِهم في العملِ والفتوى أن يَحْفَظُوا كُتُبَ الفروعِ عن ظهورِ قلوبِهم، ولا يَحِلُّ لهم أن يَعْتَمِدُوا في العملِ والفُتيَا على الرُّجُوعِ إلى كُتُبِهِم، لأنّهُ إذا ضَاعَ على أحدِهم كتابُهُ أو سُرِقَ أو نُهبَ أو اغتُصِبَ، لَزِمَ أَنْ يُقالَ: إنَّهُ ضاعَ عليهِ تقليدُه، ونُهِبَ فتواهُ، واغتُصِبَ عليهِ عِلْمُ إمامهِ الذي اختارَهُ للتقليدِ وارتضاهُ، فأصبحَ مسلوبَ التقليدِ، عديمَ الاجتهادِ، يَسْألُ عن ضالَّةِ تَقليدِهِ كُلَّ حاضرٍ وبادٍ.
فإن قلت: إنَّه يُقالُ: سُرِقَ عليه كتابٌ، كما يقولُ ذوو الألبابِ، وعليه أن يَرْجِعَ إلى سائرِ الكتبِ المُصَحّحاتِ، وإلى سائرِ العلماءِ الثقاتِ.
قُلنا: ولنا إن نجيبَ بمثلِ هذا الجوابِ، فَدَعْ عنكَ التَّهويلَ بذكرِ السَّرِقَةِ والاغتصابِ. وكذلك لو صحَّ الاستدلالُ على وجوبِ الواجباتِ بِمُجَرَّدِ التَّجَوُّزِ في العباراتِ، وجبَ غيبُ القرآنِ والسُّنَّة والنحوِ والأدبِ وسائرِ الفنونِ السَّمْعِيَّةِ والعلوم النَّقْلِيَّةِ، لئلا يُقالَ للقارىء في شيءٍ منها إذا سُرِقَ كتابُه أو نُهِبَ أو ضَلَّ أو غُصِبَ: إنَّه سُرِقَ على فلانٍ قراءتُه، وغُصِبَتْ عليه سُنَّتُه، وَنُهِبَ على فلانٍ عِلْمُ النحوِ والأدب، وظُلِمَ نوادر أشعارِ العربِ، ونفائِس الرَّسائلِ والخطب.
النظرُ الثاني: مِن قَبيلِ المعارضةِ أيضاًً، وذلك أنَّ الأمَّة أَجْمَعَت على أنَّه يجبُ على المُجتهدِ أن يَرْجِعَ في طلب الأدلةِ عند حدوثِ الحادثةِ إلى مَنْ في بلدِهِ مِن العلماءِ، فقد قدَّمنا روايةَ المنصورِ باللهِ، وأبي طالبٍ -عليهما السلامُ- عن عليٍّ -عليه السلامُ- أنَّه كانَ يَسْألُ عَمّا لم يَسْمَعْ مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ويَسْتَخْلِفُ مَن يتَّهِم (1).
__________
(1) انظر تخريجه في الصفحة 284 من الجزء الأول.(2/9)
وصَحَّ عن أبي بكرٍ أنَّه سَأَلَ عن سَهْمِ الجَدَّةِ حين جاءت تَسْأَلُهُ عن نصيبِها (1).
وصحَّ أيضاًً عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ سَأَلَ عن حُكمِ المجوسِ حين قَدِمَ أرضَهم (2)، وغيرُ ذلك. وهذا إجماعٌ فلا نُطَوِّلُ بذكرِهِ.
فلو كان مُجَرَّدُ التَّجَوُّزِ في الكلامِ يُحرِّمُ الحلالَ، ويُحِلُّ الحرامَ، لَوجَبَ أن يكونَ ذلك الواجبُ المُجْمَعُ على وجوبهِ حَراماً مجمعاً على تحريمهِ، لأنَّهُ يجوزُ على ذلك العالمِ المسؤولِ عن الحادثةِ، المرجوعِ إليهِ في معرفةِ المسألةِ أن يُقْتَلَ أو يَمُوتَ أو يُغَيَّبَ، فيُقَالُ في المجتهدِ الراجعِ إليهِ، المُعْتَمِدِ في البحثِ عن الحكمِ عليهِ: إنَّه قد ماتَ عِلْمُهُ، أو قُتِلَ: أو أُسِرَ اجتهادُه وكُبِّل، أو أَصَابَهُ الطاعونُ، أو اغتالَهُ الطاغُونُ.
فإن قلتَ: الجوابُ: أنَّه يُرْجَعُ إلى غيرِ ذلك المأسورِ، وهذا الجوابُ ظاهِرٌ غيرُ مستورٍ.
قلنا: وكذلك نقولُ: يُرجع إلى غيرِ ذلك الكتابِ المَغْضوبِ وهذا جوابٌ واضحٌ غَيْرُ محجوبٍ.
النظرُ الثالثُ: أيضاًً مِن قَبيلِ المعارضةِ، وذلك أنَّه قد ثَبَتَ أَنَّ العالِمَ يُسمَّى في الحقيقة العرْفِيَّة عالماً ومجتهداً في حالِ نومِهِ وغفلتهِ ونِسيانِهِ وتوقُّفهِ، بل بعْدَ موتهِ وفنائهِ، ولذلك وصفَ اللهُ الأنبياءَ -عليهمُ
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 294.
(2) انظر تخريجه في الصفحة 447 من الجزء الأول.(2/10)
السلامُ- في كتابهِ الكريمِ بالنُّبُوَّةِ والعلمِ والفضل، وسائرِ الصِّفاتِ الحميدة، والنعوتِ الجميلةِ، وكذلك نَصِفُ عليّاً -عليهِ السلامُ- بعدَ موتِه بالعلمِ والشَّجاعةِ، وكذلك سائرُ أئمةِ الهُدى وسائرُ العلماءِ والفضلاءِ، وليسَ لأحدٍ أن يقولَ: إن عليّاً -عليه السلام- اليومَ جاهِلٌ غيرُ عالم ولا فاضِلٍ، محتجاً بأنَّ الحقيقة اللغويةَ تقْتَضي أنَّ الميتَ لا علمَ له، ولا عقلَ، ولا فضيلةَ له، ولا فضلَ، وذلك لأنَّ الحقيقةَ العُرفيةَ هي المقدَّمةُ السابقةُ إلى الأفهامِ، فلا يجوزُ العُدُولُ إليها حيث تُوهِمُ خلافَ الصوابِ بغيرِ قَرِينَةٍ وبغير حاجةٍ إلَّا مجردَ المجونِ أو اللَّجاجةِ. وكذلك يُسَمَّى الرجلُ مؤمناً ومسلماً في حالِ نومهِ، بل في حالِ موتهِ لمثلِ ذلك.
فإذا ثَبَتَ هذا سألنا السيِّد -أيَّده الله- هل هو يُقِرُّ بذلك أو يُنْكِرُه؟ فإن أقر بذلك، قلنا: لنا أن نُسمِّيَ العالِمَ حينَ ضَاعَتْ كتُبُهُ عالماً مجتهداً، لأنهُ متمكِّنٌ من العلمِ، واجدٌ لِلطرِيق إلى الاجتهادِ كما سمَّينا الميِّتَ بذلك، لأنَّه كان كذلك، بل هذا أولى، لأنَّ التمكنَ مِن الاجتهادِ أقوى في سَبَبِ التسميةِ مِن كونهِ كان مِن أهلِ الاجتهادِ.
وبَعْدُ، فهذا تعويلٌ على مجردِ العباراتِ، وما يَصِحُّ من الاشتقاقاتِ، وهذه الأمورُ ليست من أساليبِ الرجالِ في ميادينِ الحجاج، ومضايقِ الجدالِ، ولولا أَحْوَجَ السَّيِّد إليها، ما رَضِيتُ لقلمي أن يجريَ بِسَطْرِها، ولا لِفمي أن يتفوَّه بذكرِها.
النظر الرابع: من قبيل المعارضة أيضاًً وذلك أنَّ الأمة أجمعت على جوازِ نسيان المجتهد لبعض ما حَفِظَهُ عن ظهر قلبه، فيلزم السَّيِّد أن لا يصحَّ هذا الإجماعُ، لئلا يقال فيما نسي العالمُ: إنَّه ضلَّ بعضُ علمه،(2/11)
وضاع، أو أَبَق إلى بعض النواحي والبقاع، ونحو ذلك من الأسجاع الثقيلة على الطباعِ، الكريهةِ في الأسماع.
النظر الخامس: مِن هذا القبيل أيضاًً وهو أن الله -تعالى- شرع الكتابةَ في الدَّيْن والشهادة، وعَلَّلَ ذلك بأنَّه أقومُ للشهادة وأدنى ألا يَقَعَ الشَّكُّ والرِّيبَةُ، وكتابُ الله لا يَرِدُ بالعَبَثِ، ولا يأتيه الباطِلُ مِن بين يديه ولا مِن خلفه، فلو صَحَّ التعلُّقُ بمثل ما ذكره السَّيِّد للزم أن لا يَرِدَ الشَّرْعُ بذلك، لأنَّه قد يضيعُ الكتابُ ويُسرق، أو يَعْطَبُ وُينهبُ، وَيَنْسَى الشهودُ الشهادَةَ ما لم يَرَوْا خُطُوطَهُم، فيكون سبباً لذكرهم على القول بأنَّ الشهادة على الخطِّ لا تَصِحُّ، أو تكون موجبةً للشهادة بنفس معرفتها على القول الآخر، وعلى كلا التقديرين كان يلزم نسخُ هذه الشريعة، ومحوُ هذه الآية، لئلا يُقَالَ: سُرِقَ علمُ الشهود، واغتصبت شهادتُهم.
النظر السادس: أنَّ " السَّيِّد " قد حام على اختيار مذهب الأشعرية في أنَّه لا يشتق اسمُ الفاعل مِن شيء إلاَّ وذلك الشيء قائمٌ بالفاعل، وهذه المسألة معروفةٌ في الأصول، وفيها أنظار دقيقة، وتحتها إلزامات جليلة، ولستُ أُكْثِرُ بإيراد المعروف، ولا أتعرض لمجرد النقل إِلَّا فيما أخاف المنازعة في ثبوته، وأن أُعْزَى إلى الابتداع في القول به كما صنعتُ في نقل كلام الأئمة في الوِجَادَةِ، وكما سيأتي في نقل ألفاظهم في قبول المتأوِّلين، ونحو ذلك. فلهذا تركتُ نقلَ كلام الفريقين في هذه المسألة وما يلزم السَّيِّد من الإلزامات المنكرة إن كان قد اختارَ مذهبَ الأشاعرة، وما أَظُنُّ فِكْرَهُ في هذه المسألة قد بلغ إلى هذه الغاية، ولا تَغَلْغَلَ إلى هذا الشأوِ.
فنقول: لا شك أنَّ اسم الفاعل اللغوي قد يُشْتَقُّ للفاعل لمناسبات(2/12)
بعيدة، وتعلُّقات نائية، ولهذا يُسمَّى الرجل لابِناً وتامِراً: إذا كان ذا تَمْرٍ وَلَبَنٍ (1).
قال الخُطيْئة:
وَغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنـ ... ـكَ لَابِنٌ في الصَّيْفِ تَامِرْ (2)
فلم يلزم أنَّ هذا الاشتقاقَ غيرُ صحيح، لأنَّه إذا سرق التمر، أو اغتُصِبَ اللبنُ، فقد سُرِقَ اسمُ الفاعل، واغتُصِبَ، وأُخِذَ الاشتقاقُ، ونُهِبَ، فلما لم يلزم ذلك في لغة العرب عندَ جميعِ أهلِ الأدب، فكذلك في مسألتنا يَصِحُّ أن يكونَ الرجلُ عالماً مجتهداً وعلى الحفظ والكتب معتمداً، إذ لا يُوجَدُ مَنْ يَعْتَمِدُ على أحدهما سرمداً، ولا مَنْ لا حظَّ له في أحدهما أبداً. ولا يلزم أن يُسرق علمه، ولا يَصِحُّ أن يغتصب اجتهادُه، وكذلك يُسمَّى زيدٌ مدنياً وعمرو يمنيّاً، ولا يلزمُ زيداً إذا خَرِبَتِ المدينةُ أن تَخْرَبَ تسميتُه، ولا يلزمُ عمراً إذا خُسِف باليمن أن تُخْسَفَ نسبته.
__________
(1) قال صاحب " المفصل " 6/ 13: وقد يبنى على فعَّال وفاعل ما فيه معنى النسب من غير إلحاق اليائين، كقولهم: بتَّات وعوَّاج، وثوَّاب، وجمَّال، ولابن وتامر ودارع، والفرقُ بينهما أن " فعَّالاً " لذي صنعة يزاولها ويديمها، وعليه أسماء المحترفين، و" فاعل " لمن يلابس الشيء في الجملة.
(2) البيت من قصيدة في هجو الزِّبْرقان بن بدر مطلعها:
شاقتك أظعانٌ لليـ ... ـلى يومَ ناظرة بواكر
وهو في ديوانه 17، وسيبويه 3/ 381، و" المقتضب " 3/ 161، و" الخصائص " 3/ 282، وابن يعيش 6/ 13، والأشموني 4/ 400، واللسان: لبن.
وُيحكى أن الأصمعي صحف قول الحطيئة هذا فأنشده ... لاتني بالضيف تامُر، أي: تأمر بإنزاله وإكرامه، قال ابن جني: وتبعد هذه الحكاية في نفسي لفضل الأصمعي وعلوه، غير أني رأيتُ أصحابَنا على القديم يسندونها إليه، ويحملونها عليه.(2/13)
النظر السابع: وهو أوَّلُ الجوابِ بطريق التحقيق دونَ مُجَرَّدِ المعارضة، وذلك أن نقول: ليس الحِبْرُ البرَّاق يُسمَّى علماً، ولا المجلداتُ والأوراق تُسمَّى اجتهاداً، وإنما العلمُ الذي في الصدور، لا الذي في المسطور، ومحلُّ الاجتهادِ في القلوب لا في الكاغَدِ المكتوب، فكيف يلزم أن يُقال -إذا سُرِقَتْ كُتُبُ العالِم-: إنَّه سُرِقَ عِلْمُهُ، واغتُصِبَ، ومُنِعَ منه، ونُهِبَ؟. ومتى صح أن علم المجتهد هو مجموع العفص (1) والزاج، والجلود والأوراق حتى إذا سُرِقَتْ، لزم أن يُسْرَقَ علمه، وإذا اغتُصِبَتْ، وَجَبَ أَن يُغْتَصَبَ اجتهادُه، فإن كان السيدُ ادَّعى أنه ما درى كيف يُقال، ولا عَرَفَ ما العبارةُ في تلك الحالِ، فهذا تعنُّتٌ شديدٌ، ونزوح عن الإنصاف إلى مكان بعيد.
وأظرف السوقة يعرف أنَّه يقال: سُرِقَتْ كُتُبُه، واغتصبت منه ونُهِبَت. وهذه العبارة كافية في هذه الواقعة متى وقعت، ولم يَزَلِ الناسُ يعَبِّرُونَ بها، وما عَلِمْنَا أنَّ أحداً من أهل اللغة العربية ولا مَنْ قبلَهم، ولا مَنْ بعدهم مِن جميع الملل والنحل والمذاهب والفِرَقِ في قديم الزمان وحديثِه إذا ضاع لَهُ كِتَابٌ، قال: مَنْ وَجَدَ عِلمي، فإنه ضلَّ عنِّي، ولا إِذا اغتُصِبَ عليه كتاباً يقول: فلان اغْتَصَبَ اجتهادي، ولا انتهب فنّي.
وكذلك مَنْ وجد كتاباً ضائعاً، وأراد التعريفَ به، فإنه يقول: مَنْ ضاعَ له كتاب ونحو ذلك مِن معروف الخطاب، ولا يقول: من ضاع له علم، ولا مَنْ سَقَطَ عليه اجتهاد. وهذه التعسُّفَاتُ في العبارات والأساليب المبتدعات لا تُفيد العلم لمن نظر فيها طالباً للهدى متثبتاً، ولا يأتي بخير
__________
(1) العفص: ثمر شجر البلوط يتخذ منه الحبرُ والصبغ، والزاح: فارسي معرب، قال الليث: يقال له: الشبُّ اليماني، وهو من الأدوية، وهو من أخلاط الحبر.(2/14)
لمن تكلم بها لاهجاً بالمراء متعنتاً، وما أحْسَنَ قولَ أبي محمد علي بن أحمد الفارسيِّ (1):
وخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتُ عَلَى الهُدَى ... وَشَرُّ الأُمُورِ المُحْدَثَاتُ البَدَائِعُ
النظرُ الثَّامِنُ: أن نقولَ: المجتهدُ: هو المتمكِّنُ مِن معرفة الأحكام الشرعية بالبحث، والنَّظَرِ، ولم يقل أحد: إنه يجب أن يكونَ المجتهدُ عالماًً بأحكامِ الحوادثِ بحيثُ إذا سُئل عن المسألة، أجابَ السائِلَ في الوقت على الفور مِن غير نظرٍ، ولا طَلَبٍ، وهذا مشهور في كتب الأصول.
ولما ذَكَرَ ابنُ الحاجب (2) في " مختصر منتهي السُّول ": أن الفقيه: هو العالمُ بالأحكام. أورد على هذا الحدِّ إشكالاً، وهو أنَّه لا يَطَّرِدُ لثبوت: لا أدري. وأجاب عنه: بأن المرادَ تَهَيُّؤُه لِلعلم بالجميع.
والسَّيِّد -أيَّده الله- يَعْرِفُ هذا، ويُقرئهُ كُلَّ عامٍ في غالب الأحوال، وأنا مِمن قرأه عليه، فقرَّرَه ولم يُنْكِرْه. فإذا ثَبَتَ ذلك، فالعالمُ في حال سرقةِ كتبه باقٍ على أهلية الاجتهاد، لأنَّه متمكن منه بعدَ سرقتها بالبحث في كُتُبِ العلماء ومراجعتهم وسؤالهم عما لا يَعْرِفُه، كما سأل عليٌّ -عليه السلام- وأبو بكر وعمَرُ -رضي الله عنهما- والعالم في حال غَيْبَةِ كتبه عنه مِثْلُه في حال جهله بالمسألة، فإن السَّيِّد إنما استعظم أن يكونَ العالمُ جاهلاً بالمسألة في بعض الأحوال، وهذا أَمْر لازم لا بُدَّ للمجتهد
__________
(1) المشهور بابن حزم الأندلسي الظاهري الفقيه الأديب المتكلم المتوفى سنة 456 هـ صاحب " المحلى "، و" الفِصَلِ "، و" طوق الحمامة "، وغيرها من المؤلفات. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/رقم الترجمة (99).
(2) عثمان بن عمر المتوفى سنة 646 هـ، وانظر المسألة في كتابه 1/ 29 مع شرح النص وحواشيه.(2/15)
منه. ولهذا نصَّ العلماءُ على أنَّه إذا أفتى في المسألة مرةً، ثم سُئِلَ عنها مرة ثانية، فلا يخلو إمَّا أن يكونَ ذاكراً لطريقة الاجتهاد، جاز له أن يُفتي بفتواه الأولى أو ناسياً لها، لم يجز له أن يُفتي حتَّى يُجدِّد النظر، فدلَّ على أنهم يُجيزون أن تَرِدَ المسألة عليه، وهو لا يدري ما حكمُها هذا في المسألة التي قد نظر فيها وأفتى، فكيف بالمسألة التي لم يَسْمَعْ بها قطُّ.
وهذا مشهورٌ عندَ أهلِ العلم، وقد سُئِلَ ابنُ مسعودٍ عن مسألة، فما زال يَنْظُرُ فيها شهراً، ثم أجاب بعدَ شهرٍ كامل.
وقد يموتُ العالِمُ وهو متوقِّفٌ في المسألة، فقد بيَّض السيدُ الإِمام أبو طالب -عليه السلامُ- بعضَ المسائل في " شرح التحرير "، وكثيرٌ من العلماء المصَّنفين يموتُ وهو مبيِّضٌ في تصنيفه لمسائل. فقد رأيتُُ السَّيِّد أبا طالب يتوقَّفُ في غيرِ مسألة في كتاب " المجزي " ويمضي على التوقف المحض. وهذا بناءً على القول المنصور في الأصول: إِن التوقف في الحكم هو حكمُ المجتهد عند تعادُلِ الأمارات، وبناءً على جواز تعادل الأمارات في حقه. فلو كان التشنيعُ لمجرد العبارات مبطلاً للأحكام، لَبَطَل كثير من شرائع الإسلام، فكانَ لَا يَصِحُّ توقفُ المجتهد في الحادثة عندَ سؤاله عنها، لأنَّا في تلك الحال لا ندري كيف يُقال: هل يقولُ المجتهدُ للسائل: أمهلني أياماً قلائِل، فإن اجتهادي لَمَّا سَمِعَ بسؤالِكَ، أَبَقَ وأبى، وامتلأ غضباً، وأمعن هرباً، أو يقول: إن علمي بالحادثةِ ضاع منِّي وضلَّ، وخرج من يَدَيَّ وزلَّ، فما أدري أين ضلَّ، ولا أعْرِفُ أين نزل.
وهذا وأمثالُه إنما يليقُ ذكره في كتاب " سُلْوَانِ المُطَاعِ " (1) وكتاب
__________
(1) اسمه الكامل " سلوان المطاع في عدوان الأتباع " تصنيف محمد بن أبي محمد بن محمد بن ظفر الصّقلي المتوفى سنة 567 أحد الأدباء الفضلاء، صاحب التصانيف الممتعة، =(2/16)
" الصَّادِح والبَاغِم " (1) وكتاب " كليلة ودِمنة " وأمثاله.
ومِن هذا القبيلِ قولُ الشَّافعية: ما أحذقَ دَلْوَ أبي حنيفة يَعْرِفُ النجس من الطاهر، قالوا ذلك تشنيعاً على أبي حنيفة، لمَّا قال أبو حنيفة: إنَّ ماءَ البِئْرِ المتنجس يَطْهُرُ بالنزح منه على حسب النجاسة في كثرتها وقلتها على ما هو مفصَّل في كتب الفروع (2).
وكذلك لما قال الشافعيُّ في القُرعة (3) في كثير من المسائل، قالت الحنفيةُ: ما أَكْيَسَ قُرْعَةَ الشافعيِّ: تَعْرِفُ المُحِقَّ من المبطل.
__________
= وكتابه هذا ألفه لبعض القواد بصقلية سنة أربع وخمسين وخمس مئة، وقد طبع عدة طبعات في مصر وتونس، وترجم إلى الإيطالية والإنجليزية مترجم في " سير أعلام النبلاء " 20/رقم الترجمة (336).
(1) الصادح والباغم: رجز عدد أبياته ألفا بيت نظمها الشريف أبو يعلى محمد بن محمد الهاشمي العباسي المعروف بابن الهبارية المتوفى سنة 504 هـ، وأهداه إلى الأمير أبي الحسن صدقة بن منصور بن دبيس صاحب الحِلة، انظر " وفيات الأعيان " 2/ 490، و4/ 456.
(2) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في " البناية شرح الهداية " للبدر العيني 1/ 384 - 422.
(3) قال الحافظ في " الفتح " 5/ 293: ومشروعية القرعة مما اختُلِفَ فيه، والجمهورُ على القول بها في الجملة، وأنكرها بعضُ الحنفية، وحكى ابنُ المنذر عن أبي حنيفة القولَ بها، وجعل البخاريُّ ضابطَها الأمر المُشْكِلَ، وفسرها غيرُه بما ثبت فيه الحق لاثنين فأكثر، وتقع المشاححة فيه، فيقرع لفصل النزاع. وقال إسماعيل القاضي: ليس في القرعة إبطالٌ لشيء من الحق كما زعم بعضُ الكوفيين، بل إذا وجبت القسمة بين الشركاء، فعليهم أن يعدِلُوا ذلك بالقيمة، ثم يقترِعُوا فيصير لكل واحد ما وقع له بالقُرعة مجتمعاً مما كان له في الملك مشاعاً، فيضم في موضع بعينه، ويكون ذلك بالعوض الذي صار لشريكه، لأن مقادير ذلك قد عدلت بالقيمة، وإنما أفادت القرعة أن لا يختار واحدٌ منهم شيئاً معيناً، فيختاره الآخر، فيقطع التنازع، وهي إما في الحقوق المتساوية، وإما في تعيين الملك، فمن الأول عقدُ الخلافة إذا استووا في صفة الإمامة، وكذا بين الأئمة في الصلوات والمؤذنين، والأقارب في تغسيل الموتى والصلاة عليهم، والحاضنات إذا كن في درجة، والأولياء في التزويج، والاستباق إلى الصف الأول، وفي إحياء الموات، وفي نقل المعدن، ومقاعد الأسواق، والتقديم بالدعوى عند الحاكم، والتزاحم على أخذ اللقيط، والنزول في المنزل المسبل ونحوه، وفي السفر ببعض الزوجات، وفي ابتداء القسم، والدخول في ابتداء النكاح، والإقراع بين الشركاء عند تعديل السهام في القسمة.(2/17)
ومِن ذلك قولُ الأعمى (1) الذي قضى عليه عمر الدِّية حين سَقَط هو وقائدُه في حفرة، فوقع فوق قائده فقتله، وسَلِمَ، فلمَّا قَضَى عليه عمر بالدِّيةِ، جعل يطوفُ وهو يقول:
يا أيُّهَا النَّاسُ لَقِيتُ مُنْكَرَاً ... هلْ يَعْقِلُ الأعْمى الصَّحِيح المُبْصِرَا
خَرَّا مَعاً كِلاهُما تَكَسَّرا
فهذه وأمثالُها لم يعتمدوها أدلةً على الأحكام، ولا يتوهَّمُ ذلك أحدٌ مِن أولي الأفهامِ، فإنما هي مُلَحٌ سَمَرِيَّة لا حُجَحٌ نَظَرِيَّة.
فإن كان السَيِّدُ -أيَّدَه الله- إِنما أراد ما أرادُوا مِن الإحْمَاضِ (2) ولم يَقْصِدْ بذلِكَ الكلامِ النقضَ والاعتراضَ، فكان يجبُ عليه أن لا يُورِدَ ذلك إلا بعدَ إيراد الأدِلَّةِ السَّاطِعَة، أو البراهينِ القاطعة.
النظرُ التاسِعُ: أن الاجتهادَ وشرائِطَه مِن قواعدِ الإسلامِ التي ينبني عليها عندَ الجماهيرِ صِحَّةُ الإمامةِ والقضاءِ والفُتيا، فينبغي التَّثَبُّتُ في الدليل على شروطها مِنْ نفيٍ وإثباتٍ، والسَّيِّدُ قد زاد في شروطِها شرطاً لم يَسْبِقْهُ غيرُه إليه واستدلَّ عليه بمجرَّدِ الشَّكِّ والتَّحيُّرِ في كيفية العبارة إذا سُرِقَتْ كُتُبُ العالم، أو غُصبت: هل يُقَالُ: سُرِقَ علمه، أو اغتُصِبَ، أو كيف يُقَالُ؟.
فنقول للسيد: هذه حُجَّةٌ غريبةٌ ما عرفناها، فَبَيِّنْ لنا مِن أيِّ أنواعِ
__________
(1) أخرج قصته الدارقطني والبيهقي 8/ 112 من طريق موسى بن عُلي بن رباح، عن أبيه أن أعمى .... وفيه انقطاع.
(2) يقال: أحمض القوم: إذا أفاضوا فيما يُؤنِسهم من حديث، وكان ابن عباس يقول إِذا أفاض مَنْ عنده في الحديث بعد القرآن والتفسير: أحمضوا. ضرب ذلك مثلاً لخوضهم في الأحاديث وأخبار العرب إذا ملُّوا تفسير القرآن.
وقال الطِّرماح:
لا يَنِي يُحمِضُ العَدُوَّ وذو الخُلـ ... ـلةِ يُشفي صَدَاهُ بالإحْمَاضِ(2/18)
الحجج هي؟! فهي معروفةٌ محصورة، ومن أيِّ أجناسِ الأدِلّة؟! فهي مذكورة مشهورة، وهي: العقلُ والكتابُ والسُّنة والإجماعُ، والقياسُ، والاستدلال، فأخبرنا عن هذه الحجةِ المسجوعةِ أَمِنَ الحُجَجِ المعقولةِ أم مِنَ الحُجَجِ المسموعةِ؟ وإن كانت من المعقولات، فَبيِّن لنا كيفَ يأتي تركيبُها في البُرهان؟! وَزِنها لنا بذلك الميزان، وبيِّن لنا المحمولَ والموضوعَ (1) والمقدمتين الصغرى والكبرى، والحدَّين الأصغر والأكبر، ووسط البُرهان المُسمّى بالحد المتكرر، واجتماع شرائط الإنتاج من إيجاب الصغرى، وكُلية الكبرى، وجوازِ سلب الكبرى، ومنع جزئيتها (2).
وإن كانت مِن الحُجَجِ السَّمعِيَّةِ، فَمِنَ المعلومِ أنها ليست مِنَ النصوصِ القرآنية، ولا من الأخبار النبوية، ولا مِن المسائل الإجماعية، ولا مِن المسَالِكِ الاستدلالية، ولم يبق إلا أن تكونَ مِن المسائل القياسية، فيجبُ مِن السَّيِّد -أيَّدَه اللهُ- أن يُبَيِّنَ لنا الأصلَ المقيسَ عليه، والعلةَ الجامعةَ بينَهما، ووجودَ العِلَّةِ في الفرع، وبيانَ الطريقِ إلى صِحة عِلِّيَّتها: هَلْ مِنْ قبيلِ المناسباتِ العقلية، أو النصوص الجلية، أو الإشارات الخفية إلى غير ذلك من
__________
(1) كل جملة تدل على معنى يَحْسُنُ السكوتُ عليه، ويتطرق إليه التصديقُ والتكذيبُ تتألف من ركنين أساسيين لا بُدَّ منهما، يسمي النحويون أحدَهما مبتدأ والآخر خبراً، ويسمِّي المتكلمون أحدَهما وصفاً والآخر موصوفاً، ويسمي المنطقيون أحدَهما موضوعاً، والآخر محمولاً، ويسمِّي الفقهاء أحدَهما حكماً والآخر محكوماً عليه، ويسمِّي البلاغيون أحدهما مسنداً والآخر مسنداً إليه.
(2) هذه الأشياءُ التي ذكرها المصنف هي من اصطلاحات علم المنطق الصوري يراجع فيها كتاب " معيار العلم " للإمام الغزالي لفهم ما ترمي إليه.
وللمؤلف وغيرِه من علماء المسلمين الأفذاذ نقدٌ لهذا المنطق، وبيان فساد كثير من قضاياه، واستنباط منطق جديد من القرآن والسنة الصحيحة. أذكر منها " الرد علي المنطقيين " لشيخ الإسلام ابن تيمية، و" صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام " لجلال الدين السيوطي، و" نقد مفكري الإسلام للمنطق الأرسططالي " لعلي سامي النشار، و" ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان " للمؤلف ابن الوزير.(2/19)
شرائط القياس التي هي لِصحته أساسٌ، فحينئذٍ نتمكَّنُ من الجواب عليه، إما بمعارضته بقياسٍ مثلِ قياسِه، أو بمنعِ القياس بنصٍ أو ظاهرٍ، أو نُسَلّم له ما ذكره فليس بينَ المُكلَّفِ وبينَ الحقِّ عداوةٌ.
وأمَّا حين أورد هذه الحجةَ مبرقعةَ الوجهِ، معفَّاةَ الرَّسْم، مُعَمَّاة النَّهْجِ، فإنه لا سبيل لنا إلى نقضِها، ولا طريقَ إلى حلِّها، وذلك لأن نقض الشيء إنما يَصِحُّ بعدَ بنائه، وهذه (1) أركانُها مهدومة (2)، وَحَلُّ الأمرِ لا يُمكن إلاَّ بَعْدَ عقدِه، وهذه أزرارُها محلولَةٌ.
النظر العاشِرُ: سلَّمنا تسليمَ جدلٍ أنَّ هذه الحُجَّةَ حجَّةٌ صحيحة، ودِلالةٌ صريحة، لكن بقي لنا سؤالٌ لا أقلَّ لنا منه، وعليك جوابُه لا محيصَ لَكَ عنه، وذلك أنَّا نسألُك: هَلْ هذه المسألةُ مِن المسائل القَطْعِيَّةِ، أو مِنَ المسائِلِ الظنية؟. فإن قال: هِي من المسائل الظَّنِّيِّة فما الدَّاعي إلى التشنيع على من قال بها وهو مصيبٌ، وآخذ مِن الحق بنصيب، وما معنى التسميع بالذَّاهِبِ إلى ذلك بذكر السَّرِقَةِ والاغتصاب؟! وهُوَ من السالكينَ لِمناهج الصَّواب، وَهَلْ يأذَنُ اللهُ في أمرٍ، ويشرعُه للمسلمين، وُيرِيدُه منهم، ويُثيبُهم عليه، ثم يُجَوِّزُ لمسلم أن يُشَنِّعَ عَلَى مَنْ فعله، معظماً لشعائرِ شرائع الله، متحرياً لما أراد اللهُ، وُيورد جنسَ كلامِ المستهزئين بعبادِ الله المجتهدين في تَعَلُّمِ مرادِ الله، تنفيراً للعباد عما شَرَعَهُ اللهُ منه، وصدّاً لهم عما أذِنَ الله فيه، وأين هذا من كلام العلماء العاملينَ القاصدينَ لنصيحة المسلمين؟!.
وإن كان السَّيِّد يقول: إنَّ المسألة قطعيَّةٌ، وإنَّ الحقَّ فيها مقصورٌ عليه، والصوابَ فيها لا يخرج عِن يديه، فيجب منه بيانُ الأدلةِ القاطعة مِن النصوص
__________
(1) في (أ) و (ب): وهدم.
(2) في (ش): معدومة.(2/20)
المتواتر لفظُها، المعلومِ معناها، أو الإِجماع الضروريِّ اللفظيِّ المنقولِ بالتواتر عن لفظِ كُلِّ مجتهدٍ من أهل عصرٍ مِنْ علماءِ الإسلام، ومرحباً بالوِفاق.
فأما إن السَّيِّدَ يدَّعي أنَّها قطعيَّة، ويحتجُّ بقول الشاعر، ثم بما رُوِيَ عن الشافعي، ثم بأنَّه ما درى كيفَ يقولُ إذا سُرِقَتِ الكُتُبُ، فما هذا ينبغي مِن مثله، ولا يليقُ بعلمه وفضله.
قال: وربَّما يُرِيدُونَ بالرجوع إلى كتبه في شيء يسير كتصحيحِ لفظِ خبرٍ، أو إسنادٍ، أو نحوِ ذلك.
أقول: ثم إنَّ السَّيِّدَ حام على دعوى الإجماع على ما اختاره، ولما يَقْطَعْ، فشرع يَتَرَجَّى لِمن خالفه القربَ من مخالفته، ويتأولُ لهم نصوصَهم القاطِعة بمخالفته.
فنقول له: إن كانُوا نصُّوا على خلاف ما ذَهَبْتَ إليه، فما الموجبُ للتأويل؟ فإنَّ دعواك على العالِم أنَّه أرادَ غيرَ الظاهر مِن كلامه يحتاج إلى بيان، وإنما جاز تأويل كلام الله تعالى ورسوله -عليه السّلام- فيما يُعْلَمُ قطعاً أن ظاهِرَه قبيحٌ، لما دلَّ الدليلُ القاطِعُ على أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يُرِيدَ إلَّا المعنى الصحيحَ، وكذلك رسولُه - صلى الله عليه وسلم - ولو جاز مِثْلُ هذا، لأمكن كُلَّ أحد مثلُ هذه الدعوى لِموافقة العلماء له على مذهبه، وهذا ما لا يَعْجِزُ عنه أحد، ثم إنَّ السَّيِّد -أيّدَة الله- صدَّر التأويلَ لِكلامهم بـ " رُبَّما "، وغيرُ خافٍ عليه -أيَّدَهُ الله- أنَّ " رُبَّمَا " و" لعل " و" ليت " و" عسى " ونحوَهَا مِن ألفاظ التردد والترجِّي والتأهُّلِ والتمنّي لا يصلُح إيرادُها في المناظراتِ الجدلية، ولا يليقُ ذِكْرُها في المسائِل العلمية.
قال: ومن تأمَّلَ كلامَ الغزاليِّ قبلَ هذا وبعدَه، وفي غيرِه مِن كتبه، علم(2/21)
أنه لا يَجْعَلُ ارتقاءَ مرتبةِ الاجتهاد سهلاً ومِن ها هنا قال: بجواز كونِ الإمام مقلداً، وصنف كتاباً للمستظهر (1) في ذلك، فلو كان عندَه سهلاً، لقال: يكفيه أن يَسْمَعَ مختصراً مختصراً في كُلِّ فنٍّ مِن علوم الاجتهاد (2) في أيَّامٍ يسيرة، ويرجع إلى أصلِه الذي قد صَحَّحَهُ.
أقول: شَرَعَ السَّيِّدُ الآنَ في بيان الدليل الذي أوجب تأويلَ كلامِ الغزاليِّ، وقد تمسَّك في تأويله لكلامه بدعوى وحجتين.
أما الدَّعوى، فادَّعَى على الخلقِ أجمعين أَنَّ مَنْ تأمّلَ كلامَه منهم، عَلِمَ قطعاً أنَّ الغزالِيَّ لا يجعل ارتقاءَ مرتبةِ الاجتهاد سهلاً، وهذه دعوى على الناسِ مجردةٌ عن الدليل، فإنه لا يدري لو نظروا في كلامِ الغزاليِّ هَلْ يفهمون كما فَهِمَ، أو يَرُدُّونَ عليه مَا فَهِمَ، فما الدليلُ على رفعِ هذا الاحتمالِ؟ ثم إنَّه قد كان قدم كلام الغزالي في تسهيل الاجتهادِ وهو صريحٌ في التسهيل لا يحتملُ التأويلَ، ثم ادَّعى عليه التعسيرَ للاجتهاد، وإن ذلك يظهر مِن كلامه ظهوراً يُفيدُ العلمَ والاعتقاد، وهذه دعوى للمناقضة على الغزالي، وليس يلزمُنا منها شيء، فنتعرَّضَ لردها، ولكنا نُنَبِّهُ السَّيِّد -أيَّدَه اللهُ- أنَّه لا يليقُ من الإنسان أن يَدَّعِيَ المناقضات على الأمواتِ، ولا يتعرَّضَ لِنسبة الأمورِ المستضعفاتِ إلى العِظَامِ الرُّفاتِ، فإنَّهم لو كانوا في الحياة، لذبُّوا عن أنفسهم ذبَّ الرجال،
__________
(1) هو أبو العباس أحمد بن عبد الله المقتدي، بن محمد، ولي الخلافة بعد وفاة أبيه سنة (487 هـ)، واتَّسق له الأمرُ على حداثة سنه، ودامت له الخلافة أربعاً وعشرين سنة، وثلاثة أشهر، وعشرين يوماً، ومات ببغداد سنة (512 هـ)، وكان كما يقول ابن الأثير: لين الجانب، كريم الأخلاق، يحب اصطناع الناس، ويفعل الخير، ويسارع إلى أعمال البر والمثوبات، مشكور المساعي، لا يَرُدُّ مكرمةٌ تُطلب منه، والكتابُ الذي ألفه له الإمام الغزالي سماه " المستظهري " في فضائح الباطنية، وفضائل المستظهرية، تد نشر قسم منه. انظر " الكامل " لابن الأثير 10/ 231 و533 - 535 و" سير أعلام النبلاء " 19/رقم الترجمة (236).
(2) لم ترد كلمة " الاجتهاد " في (أ).(2/22)
وحامَوْا عليها محاماةَ الأُسودِ على الأشبال، وقد أجاد في هذا المعنى مَنْ قال:
نَقَمْتُ عَلَى المُبَرِّدِ ألْفَ بَيْتٍ ... كَذاكَ الحَيُّ يَغْلِبُ ألْفَ مَيْتِ
فهذا الكلامُ في الدعوى التي تمسَّك بها.
وأما الحُجَّتَانِ فإحداهما: أنَّه قال: يجوزُ أن يكونَ الإمامُ مُقَلِّداً، والأخرى: أنَّه صنف كتاباًً للمستظهرِ، والكلامُ في ضعف هَاتَيْن الحُجَّتَيْنِ يظهر بذكر مباحِثَ.
البحث الأول: لو طَرَّدَ السَّيِّدُ القياسَ في هذا التحريج، لادَّعى على الأمَّةِ بأسرها ما ادَّعى على الغزالي مِن تعسيرِ الاجتهاد حين أجاز التقليدَ للإمامِ مع نَصَّه الصَّريحِ على تسهيل الاجتهاد، وذلك لأن الأمة قد أجازت التقليدَ للعوام، فلو صحَّ كلامُ السَّيِّد في حقِّ الغزالي، لصح أيضاًً أن يقولَ: لو كان الاجتهادُ سهلاً عند الأمة، لأوجبوه على كُلِّ مُكَلَّفٍ، ولقالوا: إنه يكفيه أن يَقْرَأ مختصراً مختصراً في كُلِّ فن إلى آخر استدلاله، فإنه يصح الاستدلالُ به في حقِّ الأمة مثل ما يَصِحُّ مثلُه في حقِّ الغزالي.
البحث الثاني: هذا تجريحٌ مِن السَّيِّدِ للغزالي، والتجريحُ له شرائطُ معروفة، وهو ينقسِم إلى أقسامٍ محصورة، فيتأمل السَّيِّدُ كلامَه مِن أيِّ أقسامِ التجريح الصحيحة.
البحث الثالث: سلَّمنا أنَّه تجريحٌ صحيحٌ، لكنه مخالِفٌ لنص الغزالي الصريحِ الذي حكاه السَّيِّدُ، ولا معنى للتجريح مع وجودِ النص، لأنَّه إن لم يعمل به، فلا معنى للاشتغال به، وإن عَمِلَ به، فإما أن يُقال: هو أرجحُ مِن النص، فهذا عنادٌ، أو يُقَال: النصُّ أرجَحُ، فالاشتغالُ بالمرجوح، وتركُ الراجح قبيح.(2/23)
البحث الرابع: احتج السَّيِّدُ على أن الغزالي يُعَسِّرُ الاجتهادَ بتجويزه لتقليدِ الإمامِ، وهذا لا يَصِحُّ، لأنَّه ليس بَيْنَ السُّهُولَةِ والوجوب على الإِمام رابطةٌ عقلية، ولا سمعية، فلو كان قد تقرَّرَ في العقل أو الشرع أنَّ كُلَّ سهل فإنه واجب على الإِمامِ، كان كلامُ السَّيِّد يتمشَّى على ذلك، وما المانعُ من أن يقول الغزاليُّ: الاجتهادُ سَهْلٌ، وليس بواجب على الإِمام، مثل ما قد نصَّ على الجمعِ بينهما حي السيدُ الإِمامُ شيبةُ العِترةِ داودُ بن يحيى (1) رحمه الله، والإِمامُ المؤيَّدُ بالله يحيى بنُ حمزة عليه السلامُ، وحي القاضي العلامة عبدُ الله بنُ حسن الدواري رحمه الله، وغيرُهم من العلماء، فإنَّهم جمعوا بينَ تسهيلِ الاجتهاد، وتجويزِ التقليد للإمامِ الأعظم.
وأما الحُجَّة الثانيةُ، وهو أنه صنف كتاباًً للمستظهر، فلم يَظْهَرْ لي أنَّ فيها حُجَّة، ولا شبهةً، فأتعرَّضَ لجوابها، فإنَّه لا مناسبة بينَ تصنيفِ الغزالي كتاباً للمستظهر، وبينَ تعسيرِ الاجتهاد ألبتة.
قال: وقد قالَ الغزاليُّ: لم يكن في الصحابة مِن المجتهدين إلاَّ قليلٌ وهُمُ الخلفاءُ الأربعةُ، والعبادِلَة، وزيدُ بنُ ثابت، ومعاذُ بنُ جبل، ومَنْ عُرِفَ منهم الرجوعُ إليه مِن غيرِ نكيرٍ وأراد بالرجوعِ إليه في الفتيا، لا في الرواية.
أقول: غَرَضُ السَّيِّد بهذا الكلام الاستدلالُ على تعسير الاجتهاد، لأنه إذا ثبت قِلَّةُ المجتهدين في الصحابة فما ذلك إلاَّ لصعوبته، فلنتنزَّل معه في الجواب في مراتب.
المرتبة الأولى: المنازعة في قِلَّة المجتهدين، ولنا فيها طرق:
__________
(1) هو العلامة الحافظ التقي صاحب التصانيف داود بن يحيى بن الحسين بن علي الهدوي المتوفى سنة 796 هـ مترجم في " ملحق البدر الطالع " ص 91 - 92.(2/24)
الطريق الأولى: مِنْ أينَ للسَّيِّدِ ثبوتُ هذه الروايةِ عن الغزالي، وقد مَنع من تصحيحِ كتاب البخاري عن مصنِّفِهِ ونحوِه من كُتُبِ السُّنَّةِ مع اشتغالِ الخلق بسماعها، وإسنادِها إلى مصنفها في جميعِ أقطارِ الإِسلامِ.
الطريقُ الثانية: سلمنا صِحَّتَها عنه، فكيف استندَ السَّيِّدُ إلى تصديقِه في كلامه، وأراد مِنَّا أن نُصَدِّقَه، وقد قال: إنَّه كافرٌ مصرح، وإن تصديقَه مِن الرُّكونِ إلى الظالمين، الموجبِ للخلود في النار.
الطريق الثالثة: سلمنا أنَّه عَدْلٌ، ولكن مِن المعلوم أن الغزالي ما أدركهم، فهذا مرسل، والسَّيِّدُ قد مَنَعَ مِن المرسل وقال: لا بُدَّ في نسبةِ كُتبِ الحديث إلى أهلها مِن معرفةِ رجال الإسناد، وعدالتِهم، وعدالةِ المُعَدِّل لهم، فلا نقبلُ أيضاًً قولَ الغزالي على الصحابة إِلَّا بمثلِ ذلك.
الطريق الرابعة: أن الغزالي تُوفِّي على رأس خمس المئة مِن الهجرة، ومَنْ بَيْنَه وبَيْنَ غيرِهِ خمسُ مئة سنة إلاَّ اليسير فَمِنَ المعلومِ أنَّه لا يُعْرَفُ حالُه بطريق الخِبرة، وإنما يُعرف حالُه بطريق النقلِ الصحيحة، إما عن الصحابي أنه أقرَّ أنَّه ليس بمُجتهدٍ، وإما عَنْ عالمٍ مجتهد اختبر الصحابيَّ، فلم يجده مجتهداً، ولا طريقَ صحيحة إلى المعرفة بعدم اجتهاد الصحابي سوى هاتين، لكن الظاهر أنهما مفقودتانِ، فَبَطَلَتْ دعوى الغزالي.
الطريقُ الخامسة: أنا نُعارِضُ كلامَ الغزالي بما رواه مَنْ هُوَ أَرْجَحُ منه في ذلك، وهو الحافظُ الكبيرُ أبو محمد عليُّ بنُ أحمد الفارسي (1)، فإنه ذكر أن الفُتْيَا نُقِلَتْ عن مئة واثنين وأربعينَ رجلاً من الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عنهم، وعن
__________
(1) هو العلامة ابن حزم في رسالته أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم، وهي مطبوعة مع " جوامع السير " له. انظر ص 319 - 335.(2/25)
عشرينَ امرأة منهم.
وكذلك الشيخ أحمدُ بن محمد بن الحسن الرَّصاص، فإنه ذكر في كتاب " الشجرة " في الفقه قريباً من ذلك من المجتهدين، وعدَّهم بأعيانهم، وهذه الرواية أولى من رواية الغزالي لوجوه.
الوجه الأول: أنها مُثْبِتَةٌ، وروايةُ الغزالي نافية.
الثاني: أن هذا الحافظ مِن أهل المعرفة بالحديث والدِّرية بكتُب الرِّجال، والعنايةِ التامةِ بمعرفة أحوالِ الصَّحَابة، وعلمِ التاريخ، والغزاليُّ بالعكس في ذلك، وهذا الوَجْهُ مجمعٌ على الترجيحِ به، ومن أراد معرفةَ ذلك، طالع تراجمَهُما في كتب معرفةِ الرجال.
الثالث: أنَّ تصديقَ الغزالي في ذلك يُؤدي إلى جرحِ عددٍ كبيرٍ من الصحابة، وأنهم أَفْتَوْا بغيرِ علم، وهذه معصية ظاهرة، ونحن نَعْلَم أنَّه لا طريقَ للغزالي إِلى القطع بأن ذلك الصحابي المُقْدِمَ على الفتوى أفتى بمحضِ الجهلِ، لأنه يجوزُ أن يكونَ مجتهداً، ولم يشتهِرْ اجتهادُه إذ لا يَجِبُ عليه أن يظْهِرَ إجتهادَه، وفي الصحابة مَنْ هو أعلمُ منه، ولا يجب على غيره أن يتعرَّف اجتهادَه أيضاًً، وفي الصحابة من يُغني عنه، فجاز أن يكون مجتهداً غيرَ معلوم باجتهاده، أقصى ما في الباب أن يكونَ مجتهداً في تلك المسألة، وقد أمرنا بالحمل على السَّلامَةِ لجميع المسلمين، فَكَيْفَ بخير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناسِ بنصِّ القرآن، وَخَيْرِ القُرُونِ بنصِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟
الطريق السادسة: أن نقولَ ليس قِلَّة مَنْ فيهم من المجتهدين على تقديرِ تسليم ذلك يَدُلُّ على صعوبة الاجتهاد فقد كان حُفَّاظُ القرآن فيهم أقلَّ مِن المجتهدين، فَرُوِيَ أنه لم يكن يَحْفَظُ القرآنَ إلاَّ أربعةٌ منهم قاله بعضُ(2/26)
الصحابة (1)، وربما زادوا على ذلك، لكن بيسيرٍ، وذلك لِشُغلِهِم بالجهاد، وطلبِ القُوت، فقد كانُوا في شِدَّةٍ عظيمةٍ لا يعرِفُها إلَّا مَنْ طالع كُتُبَ معرفةِ الصحابة، ولأنه لم يشتهر في زمانهم الانقطاعُ لِطلب العلم على عادة المتأخرين.
الطريق السابعة: أن اجتهادَ أولئك الذينَ ذكرهم السَّيِّدُ يَدُلُّ على سُهولَةِ الاجتهاد، لأن الظاهِرَ من أحوالهم أنَّهم ما اشتغلوا بالعلم مِثْلَ اشتغال المتأخرين، ولا قريباً منه، وكان الواحدُ منهم يَحْفَظُ مِنَ السُّنة ما اتفق أنَّه سَمِعَه من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن غيرِ درس لِما سَمِعَهُ، ولا تعليقٍ ولا مبالغةٍ في طلب النصوص مِن سائر أصحابه، وإنما كانوا يبحثون عندَ حدوثِ الحادثة عن الأدلة، فهذا أبو بكرٍ ما درى كَمْ نَصِيبُ الجَدَّةِ من الميراث، وأدنى طلبةِ العلمِ في زماننا لا يخفي عليه أنَّ لَهَا السُّدُسَ حتى قامَ فيهم وسألهم (2) ولو أن رجلاً ممن يَدَّعي الاجتهادَ في زماننا ما عَرَفَ نصيبَ الجدة، لكثَّر عليه أهلُ التعسير للاجتهاد، وعَظَّمُوا هذا عليه.
وكذلك عُمَر ما كان يَعْرِفُ النصوصَ في دِيَةِ الأصابع، وتوريثِ المرأه من دِية زوجها (3).
__________
(1) هو أنس بن مالك رضي الله عنه، فقد روى البخاري في " صحيحه " (5003) في فضائل القرآن عن أنس أنَّه سئل عن جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد " وقول أنس هذا لا مفهومَ له، فلا يلزم أن لا يكون غيرُهم جمعه، فقد جمعه غيرُ هؤلاء من الصحابة عدد غير قليل. وانظر التفصيل في إجابة العلماء عن حديث أنس هذا، وعمن جمع القرآن من غير هؤلاء الأربعة في " فتح الباري " 9/ 51 - 53، و" فضائل القرآن " 28 - 29 لابن كثير.
(2) تقدم تخريجه في الجزء الأول الصفحة 294.
(3) تقدم تخريجهما في الصفحة 293 من الجزء الأول.(2/27)
وكذلك ابنُ عباس قال: لا ربا إِلاُّ في النَّسيئة حتى بلغه النص، وكذلك ما عَرَفَ أن المُتْعَةَ منسوخةٌ (1).
وذكر الزمخشري (2) في تفسيرِ قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 31] أن أبا بكر رضي الله عنه سئل عن الأب، فقال: أيُّ سماءٍ تُظِلُّني، وأيُّ أَرْضٍ تُقِلُّني إذا قلتُ في كتابِ الله ما لا أعلمُ به (3)؟
وعن عُمَرَ رضي الله عنه أنَّه قرأ هذه الآية فقال: كُلُّ هذا قد عَرفْنَا فما الأبُّ؟ ثُمَّ رَفضَ عصاً كانَتْ بِيَدِه، وقال: هذا لَعَمْرُ اللهِ التكلفُ، وما عليك يا ابن أُمِّ عُمَرَ أن لا تدري ما الأبُّ، ثم قال: اتَّبِعُوا ما تَبَيَّنَ لَكُم مِنْ هذا الكتَابِ، وَمَا لا فدَعُوهُ (4).
قال الزمخشريُّ رحمه الله: فإن قلتَ: فهذا يُشْبهُ النهيَ عن تتبعِ معاني القرآن، والبحث عن مشكلاته.
__________
(1) بحديث الربيع بن سبرة عن أبيه أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " أخرجه مسلم في " صحيحه " (1406) في النكاح: باب نكاح المتعة. وكان ذلك عام الفتح وانظر " زاد المعاد " 5/ 111 - 112 طبع مؤسسة الرسالة.
(2) في " الكشاف " 4/ 220.
(3) أثر أبي بكر، أخرجه الطبري في تفسيره 1/ 78 من طريق حفص بن غياث، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم، عى أبي معمر عبد الله بن سخبرة الأزدي، قال: قال أبو بكر: ....... وهذا مرسل.
(4) أخرجه ابن جرير في تفسيره 30/ 38 من طريق ابن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا حميد، عن أنس، قال: قرأ عمر بن الخطاب (عبس وتولى) فلما أتى على هذه الآية {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}. قال: عرفنا ما الفاكهة، فما الأبُّ؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف. وإسناده صحيح، وأخرجه عبد بن حميد فيما ذكره ابن كثير 1/ 16 من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس .... وفي آخره: فما عليك أن لا تدريه.
وقال الحافظ ابن كثير تعليقاً على الخبرين: وهذا كله محمول على أنهما رضي الله عنهما أرادا استكشاف علم كيفية الأب، وإلا فكونه نبتاً من الأرض ظاهر لا يجهل، لقوله {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا ... }.(2/28)
قلتُ: لم يذهبْ إلى ذلكَ، ولكنَّ القومَ كان أكثرُ هِمَمِهِم (1) عاكفة على العملِ، وكان التشاغلُ بشيءٍ من العلم لا يُعمَلُ به تكلفاً (2) عندهم، لأنَّ الآية مسوقةٌ في الامتنان على الإنسان بمطعمِهِ، واستدعاءِ شكره، وقد عُلِمَ مِن فحوى الآية أن " الأبَّ " بعضُ ما أنبتَه الله للإنسانِ متاعاً له ولأنعامه، فعليكَ بما هُوَ أهَمُّ مِن النهوضِ بالشُّكرِ لله تعالى على ما يتبين لك، ولم يُشْكِلْ مما عدَّدَ مِنْ نِعَمِه، ولا تتشاغَلْ عنه بطلبِ معنى " الأبِّ " ومعرفةِ النبات الخاص الذي هو اسمٌ له، وَاكْتَفِ بالمعرفة بجملته إلى أن يتبيَّنَ لكَ في غير هذا الوقت، ثم وصَّى الناسَ بأن يُجْرُوا على هذا السَّنَنِ في ما اشتبه ذلِكَ مِن مشكلاتِ القرآن. انتهي كلام العلامة رحمه الله.
وفيه شهادة لما ذكرتُ مِن مفارقتهم لما عليه الناسُ في هذا الزمانِ من رسوم القُرَّاءِ، وَعَوَائِدِ العلماء، وعدمِ الحِرْصِ على حفظ كثيرٍ من العلم قَبْلَ مسيسِ الحاجةِ إلى معرفته، والاكتفاء بالقليل فيما يُحتاجُ إليه، وهذا معاذُ بنُ جبل اجتهد في أوَّلِ الإِسلامِ قبل أن يشتهِرَ عنه أنَّه تعرَّض لجمعِ أحاديثِ الأحكام، ومن المعلوم أن معاذاً لم يكن يَحْفَظُ في تلك المُدَّةِ من أحاديث الأحكام مثلَ ما في كتابٍ من هذه الكُتُبِ التي يَشْتَمِلُ الواحدُ منها على أزيدَ من عشرة آلاف حديثٍ، فقد عاش معاذُ بعدَ أن أَذِنَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الاجتهاد والقضاء زماناً في حياة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وبعدَ وفاتِه وهو في خلال ذلك يَحْكُمُ ويُفتي ويروي، فقد كان أفقهَ الصحابة بالنصِّ النبوي (3)، ومع ذلك فلم تزد مروياتُه على مئة وسبعة وخمسين حديثاًً (4).
__________
(1) المثبت من (ش) وباقي الأصول: همهم.
(2) في (1) و (ب) و (ج) و (ش): تكلف.
(3) وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ " أخرجه أحمد 3/ 184 و281، والترمذي (3793) وابن ماجة (154) من حديث أنس بن مالك، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وهو كما قال.
(4) حديثه في " مسند أحمد " 5/ 227 - 248.(2/29)
ولم يَكنِ اجتهادُهم في ذلِكَ العصرِ إِلا بملازمة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقط، مع سماعِ جُمْلَةٍ من حديثِه ومعاينةِ كثيرٍ من أفعالِهِ، وإن لم تَطُلْ تلك الملازمة طُولاً كثيراً، ولهذا قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وهذا النفيرُ الذي نَدَب اللهُ إليه في هذه الآيةِ هو النفيرُ للجهاد (1)، فجعلَ المجاهدينَ فقهاءَ في الدِّين، وسمَّى الجهادَ تفقهاً لِمَا يَصْحَبُهُ مِن رؤيةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كيف يُصلي، وبما يأمُرُ المجاهدين مِنْ أحكامِ الجهاد، ففي مدة إقامتهم معه في الغزوات سمَّاهم متفقهين، وأباحَ لهم أن يُفتوا قومَهم بما رأوا من أفعالِه عليه السلام، وبما سَمِعُوا من أقواله، ولكِنَّهم لا يكونون مُجتهدين فيما لم يَرَوْا ولم يَسْمَعُوا، وهذا اجتهادٌ خاص، وهو أحدُ الأدلة على تجزُّؤ الاجتهاد (2).
فإن قلت: لم يكونوا يُفتون قومَهم إذا رجعوا إليهم، إنما كانوا يَرْوونَ لهم.
__________
(1) اختلف المفسرون في المراد بهذا النفير على قولين، أحدهما: أنَّه النفيرُ إلى العدو، فالمعنى: ما كان للمؤمنين أن ينفروا بأجمعهم، بل تنفِرُ طائفة، وتبقى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - طائفة {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} يعني الفرقة القاعدين، فإذا رجعت السرايا، وقد نزل بعدَهم قرآن، أو تجدد أمر - أعلموهم به، وأنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنَّه النفير إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنفِرُ المؤمنين طائفةٌ ليفقه هؤلاء الذين ينفرون، ولينذروا قومهم المتخلفين. هذا قول الحسن. قال ابن الجوزي في " زاد المسير " 3/ 517: وهو أشبهُ بظاهر الآية، فعلى القول الأول يكون نفير هذه الطائفة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن خرج إلى غزاة أو مع سراياه، وعلى القول الثاني يكون نفير الطائفة إلى رسول الله لاقتباس العلم.
(2) جمهور أهل العلم من أهل السنة والمعتزلة والإمامية على جواز تجزؤ الاجتهاد والمنقول عن الإمام أبي حنيفة منعه، ويكاد يكون خلافه رحمه الله لفظياً، ذلك لأن الناقلين عنه أخذوه من تعريفه للفقيه بأنه من له ملكة الاستنباط في الكل، وكونه له الملكة يعني بالفعل فيما يعلمه، وبالقوة فيما لا يعلمه.
انظر " المستصفي " 2/ 453 - 354 و" الإحكام للآمدي " 4/ 164، و" المعتمد " 2/ 929، و" مرآة الأصول " 2/ 469، و" المحصول " 2/ 3/37، و" إرشاد الفحول " 235.(2/30)
قلتُ: وهذا أكثرُ ترخيصاً، لأنَّ فيه جوازَ الاجتهادِ لقومهم، مع أنهم أقلُّ عِلماً منهم، وذلك لأن العملَ بالحديث المسموع مِن الراوي عن النبي عليه السلام هو شأنُ المجتهد.
فإن قلتَ: إن سببَ سهولةِ الاجتهاد في عصر الصحابة أنهم كانوا يفهمونَ كلامَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ونحن لا نعرِفُ معناه إِلَّا بقراءة العربية، وفي مجموعها صعوبةٌ كلية.
قلت: هذا يندفِعُ بوجهين:
أحدهما: أنا لم نقل: إن الاجتهاد في زماننا في السُّهولة مثلُ ما كان في زمانهم، بل نحن نُسَلِّمُ أنَّه كان أسهلَ عليهم، لكن لما احتججتَ على تعسُّره بهم، بَيَّنَّا لك أنَّه لم يكن عسيراً عليهم حتى يَصْلحَ عُسْرُه عليهم حُجَّةً على تعسُّره علينا، وبيَّنا أنَّه كان سهلاً عليهم، ولا يخفي عليك أن سهولتَه عليهم لا تصلُح حجةً على عُسره علينا، ولا على المساواة في السُّهولة بيننا وبينَهم مِن غير فَرْقٍ.
وثانيهما: أنا نبَيِّنُ أن افتراقَنا في معرفة العربية ليس يقتضي تعسيرَ الاجتهاد على الإِطلاق لوجهين:
أحدُهما: أن أكثر آيات الأحكام، وأحاديثه لا تحتاج إلى قراءة العربية في فهم معناها، والدليل على ذلك حُجتانِ:
الحجة الأولى: أنها لو احتاجت إلى ذلك، لوجب أن تكونَ العلة أن كلامَ الله وكلامَ رسوله عربيان، لكن معنى العربي هو ما ليس فيه لَحْنٌ ولا تصحيفٌ. إذا تقرر هذا فتصانيفُ علماء العربية والفقه والحديث والتفسير، وكتب الفضائل، وكتب السِّير وسائر الفنون عربية، لأن العلماءَ المصنفين لها(2/31)
كانوا من أهل العربية، وصنفوا على قانون لسانِ العريب، وقد علمنا أن من قرأ في الفقه، عَلِمَ مُرادَ الأئمة في التحليل والتحريم، والصلاة والبيوع وسائر علم الفروع، وإن لم يكن يَعْرِفُ العربيةَ إلاَّ النادر القليل بما يتعلق بالدقيق مِن علم العربية مثل بعضِ مسائل الطلاق، وذكر المصادر، وتعليقِ الشرط على الشرط ونحو ذلك، وهذه النوادرُ مَنْ بَحَثَ عنها، وتعلمها من علماء العربية، وفهَّموه إيَّاها فَهِمَها، وإن لم يعلم بقيَّةَ عِلْمِ العربية، إن كان من أهل الذكاء، وإن لم يكن من أهل الذكاء، فلن ينفعه، وإن قرأ العربية بأسرها.
وكذلك الكلامُ فيما يتعلق بالتحليل والتحريم من الكتاب والسنة أكثرُه جليٌّ إلاَّ النادِرَ، ولأجل ذلك النادر اشْتُرِطَ تَعَلُّمُ العربيةِ على المجتهد في العلم على الإطلاق دونَ المجتهد في بعض المسائل، ويؤيد ما ذكرتُه لك أن العامَيَّ إذا استفتى العالمَ، وأفتاه العالمُ بكلام مُعْرَبٍ غيرِ ملحونٍ، جاز لِلعَامِّي أن يعمل بما فهِمَ مِن كلام العالم، وإن لم يعلم العربيةَ، وكذا في مسألتنا.
الحجة الثانية: على أنَّه لا يقتضي الافتراقُ في العربية تعسيرَ الاجتهاد على الإطلاق أنا نظرنا إلى الأحاديثِ التي عَمِلَتْ بها الصحابةُ في الأحكام، فعلمنا معنى أكثرهَا مِن غير عربية، ونظرنا إلى ما فَهِمْنَا منها: هل يُخالِفُ ما فهموه؟ فلم نجده يُخالِفُه، ألا ترى أنا نفهم من قول المغيرةِ، ومحمدِ بنِ مسلمة أن الرسول عليه السلام فرض للجَدَّةِ السدس (1) مثل ما فَهِمَ أبو بكر من هذا حينَ أخبراه به، وأمثال هذا ما لا يُحصى كثرة.
فإذا عرفتَ هذا فنقول: المجتهد إما أن يكونَ مجتهداً على الإطلاق، فهذا يجبُ أن يعرِفَ العربيةَ، وإما أن يكون مجتهداً في مسألة معيَّنة، فتلك
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول صفحة 294.(2/32)
المسألةُ تختلِفُ، فإن كانت تلك المسألة واضحةً جليةً لا تحتاج إلى عربية، جاز له ذلك، وإن كان مما يتعلق بالعربية، لم يجز.
فإنْ قلتَ: إنَّه يُمكن أن يخطىءَ مَن فعل ذلك، فيتوهم أن الكلامَ جليٌّ المعنى، وليس كذلك.
قلتُ: هذا من أهل التمييز والدِّرية في العلم نادر، والاحتراز من الخطأ النادر لا يجبُ، والتبحُّر في العلم لا يَعْصِمُ منه، وقد خطؤوا الزمخشريَ رضيَ الله عنه في بعض المسائل النحوية كما تقدَّم في جواب الأصل الرابع، وفي بعضِ المسائل اللغوية مما ذكره في " الكشاف " كما ذكروه في تخطئته قي تفسير (1) قوله: {بَاخعٌ نَفْسَكَ} [الكهف: 6] مع أنَّه في هذين الفنين ممن لا يشَقُّ له غبارٌ، ولا يُقاس به الأئمة الكبار، ولم يزل علماءُ العربية يُخطِّىءُ بعضُهم بعضاً، بل قد يَغْلَطُ العربي في عربيته، وفي " الكشاف " (2) وفي سائر الصحاح أن عدي بن حاتم الصحابي، وهو عربيٌّ محض غَلِطَ في معنى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] فظن أنَّه على ظاهره (3).
وقد اختلف الصحابةُ في الأخوين هل يسميان إخوة (4)، وفي غير ذلك
__________
(1) 2/ 473.
(2) 1/ 339.
(3) وهو ما رواه البخاري (1916) و (4509) و (4510) ومسلم (1090) وأحمد والحميدي (916) والترمذي (4050) و (4051) و (4052) وأبو داود (2332) والنسائي 4/ 148، والطبراني في " الكبير " 17/ 172 - 179، عن عدي بن حاتم، قال، لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله! إني أجعلُ تحت وسادتي عقالين، عقالاً أبيض، وعقالاً أسود. أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ وسادتك لعريض: إنما هو سوادُ الليل وبياض النهار " واللفظ لمسلم.
(4) جاء في سورة النساء الآية: {فإن كان له إخوة} أي: فإن كان للميت إخوة مع الأبوين، =(2/33)
مِن معاني كتاب الله تعالى.
فإن قلتَ: فكم القدرُ الواجبُ مِن العربية، وهل هو متعسِّرٌ أو متعذِّر؟.
قلتُ: ذلك لا يتقدَّرُ بمقدار، ولا يستمِرُّ الحالُ فيه لاختلاف الفِطَنِ، وتفاوتِ الأفهامِ، وفي الناس مَنْ يكفيه القليلُ، وفيهم مَنْ لا يكفيه الكثيرُ، ولا بُدَّ مِن القراءة في الفنِّ حتى يتمكن من معرفة مسائل الفن جَلِيِّها ودقيقِها غالباً، وإنما قلت: يتمكن لما قدمنا ذكرَه من أنه لا يجبُ حفظُ سائر الفنون غيباً وكذلك حفظُ العربية، وإنما الواجبُ أن يقرأ فيها حتى تكونَ له ملَكةٌ ثابتةٌ يَصْلُحُ معها لمطالعةِ الكُتُبِ البسيطةِ، وفهم عبارات النحاة، والخوض مع المحققين في لطائف المعارف عند الحاجة إلى ذلك، وقد تقدَّم الدليلُ على عدمِ وجوبِ الحفظ على المجتهد، وأن الواجبَ أن يكون متهيئاً للمعرفة، متمكناً منها، لا حاصلاً عليها في الحالِ، ولا حاجةَ إلى إعادةِ ذلك.
وإنما قلت: غالباً لما يعرِفُهُ النقادُ من أن التحقيق لا يَعْصِمُ المحقق من التعثُّرِ في بعض الدقائق، والتحيُّرِ في بعض المضايق، وأما سهولةُ ذلك وصعوبتُه، فتختلِفُ على حسب اختلاف الهِمَمِ والأفهام كما ذلك مُجربٌ معلوم.
__________
= فإنهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردونها إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة، حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان، أحدهما: يحجبانها عن الثلث قاله عمر وعثمان وعلي وزيد والجمهور، والثاني: لا يحجبها إلا ثلاثة، قاله ابن عباس واحتج بقوله: " إخوة " والإخوة اسم جمع، واختلفوا في أقل الجمع، فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول أصح، وإنما حجب العلماء الأم بأخوين للدليل اتفقوا عليه، وقد يسمى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة. وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما يريدون: رحلي رحالهما. " زاد المسير " 3/ 27 - 28، وانظر " مجاز القرآن 1/ 118 و" جامع البيان " 8/ 40 - 44، و" تفسير ابن كثير " 2/ 198 - 199، و" تفسير المنار " 4/ 416 - 417.(2/34)
وقد اجتهد الإمام المنصور بالله عليه السلام في مدة قريبة لا يحقق كثيرٌ في مثلها فناً واحداً.
فأما مرتبةُ الإمامة في علم العربية والتبريزُ على الأقران، فذلك لا يجب وإن كان من أشرفِ المراتب، وأرفع المناصب، فإن المجتهدين من علماء هذه الأمة من الأئمة عليهم السَّلامُ، ومن سائر فقهاء الأئمة الأربعة لم يشتهروا بالإمامة في العربية، ولا نُقلَتْ اختياراتُهم واختلافاتُهم فيها، كما نقِلَتْ أقوالُ النحاة، ولو اشتغلوا بالإقراء فيها، والنظر في حقائقها، والفحص عن دقائقها، لوجب أن يُنقل ذلك عنهم مثل ما نُقِلَ عنهم اشتغالُهم بعلم الفقه والأثر.
واعلم أن الاشتغال بالتحقيق الكثير لجميع ما يتعلق بالفن مما يحتاج إليه، ومما لا يُحتاج إليه، والتعرُّضُ لحفظه عن ظهر القلب مما يستغرِقُ العمر، لهذا فإن أئمة العربية مثل الخليل وسيبويه وغيرهما لم ينقل عنهم الكلامُ إلا في فنِّهم غالباً، وكذلك سائرُ المبالغين في سائر الفنون مِن شيوخ الكلام، وحُفَّاظ الأثار، والكلام في هذه النكتة يَحْتَمِلُ البسط، وفي هذا كفاية على قدر هذا الجواب.
قال: وأبو هريرة: لم يكن مجتهداً، وإنما كان من الرواة.
أقول: الجوابُ على ما ذكره من تجهيل هذا الصاحب الجليل من وجوه:
الوجه الأول: أنَّا قد بيَّنا أنه لا طريقة لنا إلى العلم بجهل الصحابي إلاَّ إقراره بذلك، أو أن يختبره مجتهد، فيجده قاصراً، ويُخبر بقصوره، وكُلُّ من هذين الطريقين غيرُ حاصل، ولا مانع في العقل، ولا في السمع من أن يكون(2/35)
مجتهداً، ولا يشتهر اجتهادُه إمَّا لخموله واعتمادِ الناسِ على أشهر منه، وعدمِ
حاجتهم إليه، وإما لرغبته في الخمول وكراهته للفتيا.
الوجه الثاني: أن الظاهرَ خلاف ما ذكر، لأن شرائطَ الاجتهاد كانت مجتمعة في أبي هريرة رضي الله عنه، وقد كان أحفظَ الصحابة على الإطلاق، وأكثَرَهم حديثاًً (1)، وقد ذكر البخاريُّ وغيره أن الرُّواةَ عن أبي هريرة كانوا ثمان مئةِ رجلٍ، وقد ذكرهم علماء الرجال، وذكر المزي في " تهذيبه " (2) منهم مَنْ روى عنه في الكتب الستة: الصحيحين، والسنن الأربع، فذكر خلقاً كثيراً، وقد بيَّنا أنَّه لم يكن شرطُ الاجتهاد في زمن الصحابة إلاَّ معرفةَ النصوص، لأن المرجع بالعربية، وأصولِ الفقه إلى لسانهم التي فطروا عليها فما الفرق بينَه وبينَ معاذ، وأبي موسى الأشعري، فقد ولاهُما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القضاءَ في اليمن (3)، وقد روى مالك في " الموطأ " (4) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال لإِنسان: إنَّك في زمان كثيرٍ فقهاؤه قليل قُرَّاؤُه، تُحفَظُ فيه حدودُ القرآن، وتُضيَّعُ حروفُه، قليل مَنْ يسألُ، كثير من يُعطِي، يُطيلُونَ فيه الصلاةَ، ويَقْصُرونَ فيه الخطبة، يُبْدُونَ أعمالَهم قبلَ أهوائهم وسيأتي على الناس زمان قليلٌ فقهاؤه، كثير قراؤه ... وساق نقيضَ ما تقدم. فدل على ما ذكرته لك، بل على أكثر منه، فإن كثرةَ الفقهاء مع قِلَّةِ القُرَّاء تستلزم بالضرورة فِقه مَنْ لم يقرأ مِن أهل ذلك الزمان لتوفُّر حظِّهم مِن الفهم للمعاني، وسلامةِ فِطَرِههم الصحيحة من تعبيرات المبتدعة، ووضع القوانين الفاسدة. فإذا فَقُهَ مَنْ لم يقرأ منهم فما ظنُّك بأبي هُريرة جليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملازم له؟! وما
__________
(1) انظر " سير أعلام النبلاء " 2/ 579.
(2) " تهذيب الكمال " ورقة 1654.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة 378 من الجزء الأول.
(4) " الموطأ " 1/ 173، وانظر شرح الزرقاني 1/ 353 - 354.(2/36)
أَمنك أنَّك من قراء آخر الزمان الذين لا فِقْهَ لهم، وأنَّك لِهذه العِلَّةِ نسبت أبا هُريرة الفقيهَ إلى صِفَتِك لِقُصورك أنتَ لا هُوَ.
الوجه الثالث: أنه ممن نُقِلَتْ عنه الفتيا من الصحابة رضي الله عنهم فيما رواه الحافظ أبو محمد أحمد بن علي الفارسي، والشيخ أحمد بن محمد بن الحسن الرّصاص، وذلك يُفيدُ أنَّه مجتهد، لأن مَنْ أفتى من أهل العدالة، وادَّعى الاجتهادَ، وذلك مُجوّز فيه غيرُ مقطوع ببطلانه، قُبِلَتْ فتواه بلا خلافٍ يُعْلَمُ في ذلك، واختلف العلماءُ في قبول الفتيا ممن لم يُعرف بالعدالة ذكره المنصور بالله عليه السلام، بل ذكر الذهبي في " طبقات القراء " بسنده أن ابن عباس، وابن عمر، وأبا هريرة، وأبا سعيد، وجابراً وَغيرهم كانوا يُفتون في المدينة، وُيحدِّثون منذ توفي عثمانُ إلى أن تفرقوا، وإلى هؤلاء الخمسة صارت الفتوى انتهى.
وهذه حجة واضحة على اجتهاده لتقريرِ أهل ذلك العصر له على الفتوى وهم مِن خيرِ القُرون أو خيرُها بالنص ذكره في ترجمة أبي هريرة (1).
الوجه الرابع: معارضة الغزالي بقول من هو أرجحُ منه في ذلك، وهو الحافظُ المؤرخ الذَّهبي، فإنه قال في وصف أبي هريرة: الفقيه المجتهد بهذا اللفظ. فنصَّ على اجتهاده وفقهه ذكره في " النبلاء " (2).
__________
(1) " معرفه القراء " 1/ 44 نشر مؤسسة الرسالة، وأصل الخبر في " طبقات ابن سعد " 2/ 372 من طريق الواقدي، أخبرنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن زياد بن ميناء، قال: كان ابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وجابر ابن عبد الله، ورافع بن خديج، وسلمة بن الأكوع، وأبو واقد الليثي، وعبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفتون بالمدينة، ويحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا، والذين صارت إليهم الفتوى منهم ابن عباس، وابنُ عمر، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وجابر بن عبد الله.
(2) 2/ 578، ونصه: الإمام الفقيه المجتهد الحافظ صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة =(2/37)
وذكر في " الميزان " في ترجمة إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي (1) أنهم قَدَحُوا عليه بكونِه قال: إن أبا هريرة ليس بمجتهدٍ (2)، فَجَعلَ العلماءُ هذا قدحاً وعيباً في مَنْ قاله.
وإنما كان أرجحَ لوجوه:
منها أنَّه مثبت والغزالي نافٍ.
ومنها أنَّه أعرفُ بعلمِ الرِّجال، وأكثرُ تصرفاً في هذه المحال.
ومنها أنَّه في ترجيح كلامه حملاً لأبي هريرة رضي الله عنه على السلامة، لأن خلاف ذلك يُؤدِّي إلى القول بأنه أفتى بغير علم، وتأهَّل لما ليسَ مِن أهله، والخطأ في العفو خيرٌ من الخطأ في العقوبة.
وقال الحافظ ابن حجر في " التلخيص ": روى ابنُ أبي شيبة من طريق الأعمش عن المسيَّب بن رافع، عن ابن عباس أنَّه أرسل إلى أبي هُريرة، وعائشةَ وغيرِهما، يعني يستفتيهم في قصة مداواته لعينيه، فلم يُرخِّصُوا له فترك ذلك.
__________
= الدوسي اليماني، سيد الحفاظ الأثبات.
(1) هذا وهم من المؤلف رحمه الله، فإن الذي نُقِمَ عليه ذلك هو إبراهيم بن يزيد النخعي المترجم في الميزان 1/ 74 بعد إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي مباشرة، وكلاهما ثقة، روى لهما الجماعة. والمنقول عنه في ذلك قوله: كانوا يتركون أشياء من حديث أبي هريرة. انظر " سير أعلام النبلاء " 2/ 608، وتاريخ دمشق لابن عساكر 19/ 122/4.
(2) انظر " السير " 2/ 619 - 621 وفي " الموطأ " 2/ 571 من طريق يحيى بن سعيد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن معاوية بن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالساً مع عبد الله بن الزبير، فجاء محمد بن إياس بن البكير، فسأل عن رجل طلق ثلاثاً قبل الدخول، فبعثه إلى أبي هريرة، وابن عباس، وكانا عند عائشة، فذهب فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته يا أبا هريرة، فقد جاءتك معضلة، فقال: الواحدة تبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجاً غيره، وقال ابن عباس مثل ذلك وهو في " مسند الشافعي " 2/ 375، وإسناده صحيح.(2/38)
قال ابنُ حجر: وفي هذا إنكارٌ على النواوي في إنكاره على الغزالي ذكر أبي هريرة في هذا.
قلتُ: فيه أنَّ أبا هريرة مجتهد عندَ ابن عباس، وذكر هذه القصة ابنُ حجر في موضع آخر، ونسب ذكر أبي هُريرة فيها إلى ابن المنذر.
الوجه الخامس: أن كلامَ السَّيِّد إنما هو في تعسيرِ الاجتهاد، فلو صحّ ما لا طريق إليه من تجهيل هذا الصاحبِ رضي الله عنه لم يلزم من ذلك القولُ بتعسير الاجتهاد، فإنَّه يمكن قطعاً أن يكون الاجتهادُ سهلاً، ويكون أبو هريرة غيرَ مجتهد، لأنَّه ليس في العقل، ولا في الشرع رابطةٌ قطعية بينَ سهولةِ الاجتِهاد، وأبي هُريرة رضي الله عنه.
ويلتحِق بهذا فائدتان:
الفائدة الأولى: أن أبا هُريرة رضي الله عنه ثقة مقبول لا مطعنَ في قبول روايته عندَ أهلِ التحقيق، وقد أشار الإمامُ المنصورُ بالله عليه السلام إلى ذلك، وقد كان عابداً صوَّاماً قوَّاماً قانتاً لله، خاشعاً متواضعاً، حسنَ الأخلاق، رفيقاً، كان لا ينامُ حتى يُسَبِّحَ ألف تسبيحة، وكان يقوم ثُلُثَ الليل، ثم كان يقوم ثلثيه، ثم كان يقومُ اللَّيْلَ كُلَّه، وكان أميراً في المدينة، وكان في أيام إمارته يحمل الحطب على ظهره، ويمضي في السوق، ويقول: الطريقَ مِن الأمير، الطريقَ من الأمير، وكان ممن يسقط مغشياً عليه مِن خوفِ الله جلَّ جلالُه، وكان مِن نبلاء المهاجرين، ومِن الصابرين على الشِّدَّةِ مع سيِّد المرسلين، كان رضي الله عنه يُصْرَعُ بَيْنَ الروضة والمنبرِ من الجوع، وربما يُظن أنه مجنون، فيأتي الرجل، فيجلس على صدره، فيُشيرُ إليه: ليس هو ما تظن إنما هو الجوعُ، ومع ذلك لم يتضجَّرْ من الإسلام، ولا تكلم في أحد من أهل الغِنَى من الصحابة رضي اللهُ عنهم، كما هو عادةُ كثيرٍ من الفقهاء(2/39)
المتساهلين، وقد اشتد فرَحُهُ بالإِسلام، ولما رأى الوجهَ الكريم النبوي عليه السلام، عَظُمَت مسرَّتُهُ بذلك، فأعتق عبداً له لم يكن يملِكُ سِواه.
وقد روى الذهبيُّ أن رجلين اختلفا في مسألة، فاحتج أحدُهما بحديثِ أبي هُريرة، فقال الآخر ما معناه: إنَّه لا يحتج بحديث أبي هريرة، فخرجت عليه حيَّةٌ عظيمة، فهرب منها، وهي تتبعُه فقالت له الجماعة: اسْتَغْفِر اللهَ وتُب إليه، فاستغفر الله من كلامه في أبي هريرة، فانْصَرَفَتْ عنه. إسنادها أئمة (1)، وهذا معنى لفظِه، ولم يَحْضُرْنِي كتابُه، فأنقلَ لفظه إلى ذلك.
قال الذهبي: وقد اعتمدَتِ الصحابةُ على حديث أبي هُريرة في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها (2).
قلتُ: من أراد معرفة هذا الصاحب فلُيطالع سيرته في كتاب " النبلاءِ " (3) وغيره من كتب الصحابة التي قدمت ذكرَها، وإنما ذكرتُ هذه النكتة، لأنَّه قد ذكر في ذلك خلافٌ لا يلتفت إليه، ولا يُعَوَّلُ عليه.
فإن قيل: قد اتُّهِم أبو هريرة بكثرة الرواية حتى قال له عمر: لئن لم تُقْلِلْ مِن الرِّوايةِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لألْحِقَنَّك بجبالِ دوسٍ.
قلنا: هذا لا يصح (4)، ولو صح لم يكن فيه حُجَّةٌ على جرح أبي
__________
(1) " سير أعلام النبلاء " 2/ 618 - 619.
(2) " السير " 2/ 620، وحديثه في " الموطأ " 2/ 532، والبخاري (5109) ومسلم (1408) وسيأتي في الصفحة 54.
(3) 2/ 578 - 632.
(4) بل قد صح، فقد رواه أبو زرعة الدمشقي في " تاريخه " (1475) من طريق محمد ابن زرعة الرعيني، حدثنا مروان بن محمد، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن السائب بن يزيد، سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو لألحقنك بأرض دوس، وقال لكعب: لتتركن الأحاديث أو لألحقنك =(2/40)
هريرة، لأنُّه سوء ظن مستندُه إكثارُ أبي هريرة مِن الرواية، والإكثارُ دليلُ الحفظ لا دليلُ الكذب، وقد قال أبو هريرة: وما ذنبي إن حفظتُ ونَسُوا (1).
وقد طوَّل الحاكم في " المستدرك " (2) في الردِّ على من ضعف حديث أبي هريرة، وجوَّدَ الذهبي في " النبلاء " ترجمته رضي الله عنه، وخرج الحاكم في " المستدرك "، ومسلم في " صحيحه " (3) دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة وأمه حين أسلمت أن يُحبِّبَهما الله تعالى إلى المؤمنين، ويحبب المؤمنين إليهما. فما على وجه الأرض مؤمن إلاَّ وهو يُحِبُّ أبا هريرة. ذكره الحاكم في معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآيات نبوته، ومسلمٌ في الفضائل، فأرجو أن يكونَ حُبِّي له، وللذَّب عنه من ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد كانت لإكثار أبي هريرة مِن الرواية أسبابٌ واضحة قد أجاب بها على من اعترضه في إكثاره.
__________
= بأرض القردة. وهذا إسناد صحيح. محمد بن زرعة، قال أبو زرعة في " تاريخه " 1/ 286: ثقة حافظ، من أصحاب الوليد بن مسلم، مات سنة ست عشرة ومئتين، ومروان بن محمد هو الطاطري ثقة كما في " التقريب " وباقي السند من رجال الصحيح، وذكره ابن كثير في " البداية " 8/ 106 من طريق أبي زرعة به، وقال: وهذا محمول من عمر، على أنَّه خشي من الأحاديث التي تضعها الناس على غير مواضعها، وأنهم يتكلمون على ما فيها من أحاديث الرخص، وأن الرجل إذا أكثر من الحديث، ربما وقع في أحاديثه بعض الغلط أو الخطأ، فيحملها الناس عنه أو نحو ذلك.
وفي " المحدث الفاصل " ص 554 من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن محمد قال: أظنه ابن يوسف، قال: سمعت السائب بن يزيد يحدث قال: أرسلني عثمان بن عفان إلى أبي هريرة ... فذكره بنحوه.
(1) انظر السير 2/ 607 - 608.
(2) 3/ 508 - 512.
(3) برقم (2491) في فضائل الصحابة: باب من فضائل أبي هريرة الدوسي رضي الله عنه.(2/41)
أحدها: أنَّه كان فقيراً لا مالَ له، ولا أهلَ، وكان يُلازِم النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدوام، ولا يَشْغلُه عنه شاغِلٌ مِن مال ولا أهل ولا تجارة، وربما لازمه لِيأكل معه مما أكل، ولغير ذلك من خدمته ونحوها.
وثانيها: أنَّه طال عُمُرُه، فإنه تُوفي سنةَ تسع وخمسين في قول جماعة، وأقلُّ ما قيل: إنَّه تُوفي سنة سبع وخمسين، وقد كانت تَقِلُّ الرواية وتكثر بحسب طُولِ المدة بَعْدَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك كانت روايةُ عمر أكثرَ مِن رواية أبي بكر.
وثالثُها: أنَّه كان فارغاً لطلب العلم، قريباً لطيفاً، حسن الأخلاق غيرَ مهيب ولا بعيد.
ورابعها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا له بالحفظ وأمره أن يبسطَ رداءه فقرأ له فيه، وأمره أن يلفَّه عليه، ففعل، فما نسي شيئاً بَعْدُ (1) رواه البخاري، ومسلم، والترمذي من حديث أبي هريرة.
وروى النسائي، والحاكم (2) نحوه من حديث زيد بن ثابت ذكره صاحبُ كتاب " سلاح المؤمن " (3) في آداب الدعاء. فلم يبق في صحته شبهة والله أعلم.
__________
(1) أخرجه البخاري (118) و (119) و (2047) و (2350) و (3648) و (7354) ومسلم (2294) والترمذي (3834) و (3835) وابن سعد 4/ 330.
(2) في " المستدرك " 3/ 508 من طريق حماد بن شعيب، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن زيد بن ثابت ... وقال: صحيح الإسناد، ورده الذهبي بقوله: حماد ضعيف وانظر " السير " 2/ 600 و616.
(3) لمؤلفه الإمام المحدث تقي الدين أبي الفتح محمد بن محمد بن علي بن همام العسقلاني الأصل، المصري المولد والدار الشافعي المتوفى سنة 745 هـ، وكتابه هذا في الدعاء، ولم يطبع، منه نسخة في المكتبة الخديوية، انظر فهرسها 1/ 349، قال صاحب =(2/42)
وذكر المحققون أنَّ الكذبَ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ في زمنِ الصحابة، ولا في زمنِ التابعين، لا مِن بَرِّهم، ولا مِنْ فاجرهم، وإنما كان ذلك في أيامِ بني العباسِ، وَمَنْ نظر فيما رواه أهلُ المعاصي في هذا الوقتِ القديم، عَرفَ صحةَ قولِ المحققين.
فأما أبو هريرة، فإليه المنتهي في مراقبة الله وخوفه، وقد كان ممن يُغْشَى عليه من خوف الله تعالى، ثبت ذلك في صحيح مسلم (1) في حديث رواه في الرياء بالمثناة مِن تحتُ، وله شاهد في ترجمة سمرة.
ثم إني وجدتُ في " شرح النهج " (2) للشيخ العلامة عبدِ الحميد بن أبي الحديد كلاماً في جماعة من السَّلَف لا يليقُ بمنصبه المنيف في العلم، والإنصاف، وحمله على السلامة يُوجبُ تنزيهه عنه، والقول بأن بعضُ أعدائه زاده في كتابه، فإنُّه ينبغي من العاقل العملُ بالقرائنِ القوية في تصحيح الأخبار، وتزييفها، ألا ترى أن فيه نسبة أبي هُريرة إلى بُغْضِ علي وتعمُّدِ
__________
= " كشف الظنون " 2/ 995: بوبه على أحد وعشرين باباً، وقد اختصره الذهبي محمد بن أحمد الحافظ المتوفى سنة 748. انظر ترجمته في " وفيات ابن رافع " 1/ 487، نشر مؤسسة الرسالة، وقد ذكرت مصادر ترجمته فيه.
(1) رقم (1905) وانظر " المسند " 2/ 321 - 322، و" سنن الترمذي " (2382) والنسائي 6/ 23 - 24، وابن حبان (2502) و" شرح السنة " (4143).
(2) 4/ 62 - 69، وقد صرح ابن أبي الحديد أنَّه نقل ذلك كله عن كتاب " المعارف " لابن قتيبة، وانظر ص 121 من المعارف، وقال ابن كثير في " البداية " 13/ 199: عبد الحميد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين أبو حامد بن أبي الحديد عز الدين المدائني الكاتب الشاعر المطبق الشيعي الغالي، ولد بالمدائن سنة ست وثمانين وخمس مئة، ثم صار إلى بغداد، فكان أحد الكتاب والشعراء بالديوان الخليفتي، وكان حظياً عند الوزير ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب والفضيلة، وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة، وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالى موفق الدين بن هبة الله، وإن كان الآخر فاضلاً بارعاً أيضاً، وقد ماتا في هذه السنة رحمهما الله أي في سنة 655 هـ.(2/43)
الكذب عليه، ووضع الأحاديث الباطلة عمداً في مثَالِبِه، بل فيه عن علي عليه السلام أنَّه قال: ألا إنَّ أَكْذَبَ الناسِ، أو أكذَب الأحياء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو هريرة، فهذا ما يقطعُ العَارِفُ ببطلانه عن علي عليه السلامُ، وأرجو ألا تَصِحَّ حِكايتُه وتقريرُه عن ابنِ أبي الحديد.
والجوابُ عما نسب إلى أبي هريرة وأمثاله من أفاضل السلف المتواتر فضلُهم، وعلو مراتبهم مِن وجوه.
الوجه الأول: أن تعمُّدَ الكذبِ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مثالبِ عليٍّ عليه السلام ما لا يَفْعَلُهُ عاقل لا كافِرٌ ولا منافق، ولذلك لم يَصْدُرْ ذلك مِن أعداء علي عليه السلام، فإنَّ حب النبي - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ وتعظيمَه وتكريمَه، وتشهيرَ مناقبه، والدوامَ على إظهار فضائله كان معلوماً بالضرورة خصوصاًً لأهل ذلك العصر، فالمعارِضُ لذلك لا يريدُ على حمل السامعين على خساسته ونُقصانِ عقله، وسقوطِ منزلته، ولا فرق بينَ أن يقدح في فضلِ علي، وحُبِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وبين أن يَقْدحَ في نسب علي، وأنه ليس مِن بني هاشم، وأنه لم يسْبِقْ إلى الإِسلام، وأنه نَصَبَ الحربَ والعداوةَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عامِ الفتح، وأسلم قهراً كما أسلم أبو سفيان حين أسلم، وأنه لم يشهد بدراً ولا أُحُداً، ولا أبلى في المشاهد. فهل ترى يَصِحُّ في عقل عاقل، أن أحداً في ذلك العصر يستطيعُ أن يكذب مثلَ هذه الأشياء على أمير المؤمنين ولو كان أكفرَ الكافرين، وأبغضَ البُغضاء، والمنافقين. ومن جَوَّزَ وقوعَ مثل هِذا في ذلك العصر من أعداء علي عليه السلامُ، لم يَزِدْ على أن يبين للعقلاء أنه ناقصُ العقلِ، عديمُ المعرفة، بهيمي الفِطنة، حِمَارِيُّ القلب. فإذا تقرَّرَ هذا، فلا فرق بينَ هذه الأشياء، وبينَ رواية مثالب فاحشة في أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك العصرِ للمهاجرين والأنصار أهلِ العقول الراجحة، والبصائرِ النافذة، والأفهامِ الثاقبة، ولذلك(2/44)
اعترف أبو سفيان أنَّه لم يتمكَّن من الكَذِبِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى هِرَقل (1)، وعَرَفَ بعقله مع كفره وعداوته أن الكذب لا يمضي له.
ولو قدرنا صدورَ مثل هذا من قليل عقل، لوقع منهم من التنكيلِ به، والذَّمِّ له، وضربِ الأمثال بكذبه، والمناداة عليه في المحافِلِ والمجامعِ ما يُوجِبُ تَواتُرَ ذلك عنهم فيه، ولَمَا كفي أمير المؤمنين أن يقول ذلك مرةً ولا ثنتين ولا ثلاثاً حتى يتواتَر.
وفي أخبار عمر رضي الله عنه أنَّه قال: كيف وجدتموني؟ قالوا: وجدناك مستقيماً، ولو زُغْتَ، لقوَّمناكَ، فقال: الحمد لله الذي جعلني في قومٍ إذا زُغْت، قوَّموني، وَدَعْ عنك الكثير الطَّيِّبَ مِن أخبارهم في ذلك، فقد قال الله تعالى في مُحْكَمِ كتابه الكريمِ في خِطابهم ووصفهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فكيف يُمكِنُ ظهورُ كذاب على الله ورسوله مستور بينَهم، ثم لا يَهْتِكونَ سَتْرَه،
__________
(1) وذلك حين أرسل إليه هرقل في ركب من قريش وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مادَّ فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء، فدعاهم في مجلسه، وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه، ققال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً، فقال: أدنوه مني، وقرَّبوا أصحابه، فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا الرجل، فإن كذبني، فكذبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثِرُوا علي كذباً، لكذبتُ عنه ...
وانظر تتمة الخبر في " صحيح البخاري " (6) في بدء الوحي.
وقوله: أن يأثروا، أي: ينقلوا علي الكذب .... قال الحافط ابن حجر: وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق أو بالعرف، وفي قوله: " يأثروا " دون قوله " يكذبوا " دليل على أنَّه كان واثقاً منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه ترك ذلك استحياء، وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا، فيصير عند سامعي ذلك كذاباً، وفي رواية ابن إسحاق التصريح بذلك، ولفظه: فوالله لو قد كذبت، ما ردوا علي، ولكني كنت امرءاً سيداً أتكرم عن الكذب، وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عني، ثم يتحدثوا به، فلم أكذبه.(2/45)
ويُشهِرُونَ فضائحَهَ حتى يتواترَ ذلك، والعادات جاريةٌ مستمرة بمثل هذا في كل زمان، ولو جوَّزنا أن أحداً يُظْهِرُ في زمانهم مثلَ هذه الأكاذيب على الله، وعلى رسوله ولا يتواتر عنهم مقابلتُه بما يستحقه مِن التنكيل والتكذيب، لجوزنا أنَّه قد كان مِن غير أبي هريرة مثلُ ذلك من المستورين المقبولين، ولم يُقَابلْ ذلك بشيء منهم ألبتة حتى خَفِيَ حالُهم على أهل الإسلام وإنما يُمْكِنُ وضعُ المثالب فيه، وفي أمثاله بعدَ تطاولِ الزمان، وتدريبِ مَنْ لم يعرف مناقبه قطُّ على بُغضه ونسبه، ولذلك حَكَمَ نُقَّادُ علم هذا الشأن أن تعمُّدَ الوضعِ ما ظَهَرَ وَكَثُرَ إلاَّ في أيام بني العباس، وذلك حين كَثُرَ الجَهْلُ، وأمكن الغرورُ، ثم أفادني مولانا الإمامُ المنصور بالله عليه السلام فائدةً جليلة، وهو أنَّه عليه السلام وقف على معارضةٍ لما نقله الإسكافي (1) -إن صحَّ عنه ما تقدمَ- عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلامُ أنَّه أثنى على أبي هُريرة بالصدْقِ في الحديث، ودفعَ عنه أو نحو ذلك، وَقَفَ عليه مولانا عليه السلامُ في بعضِ كُتُبِ الرِّجال والتواريخ، وإليه المنتهى سلامُ الله عليه في سَعَةِ الاطلاع، والورعِ في الرواية، والتثبت في النقل، فالحمد لله رب العالمين.
الوجه الثاني: أنَّهُ قد تواتر عن أبي هُريرة أنَّه كان أرفعَ حالاً من هذه المنزله الخسيسةِ التي لا أَسْقَطَ منها، فإِنَّه لو كان لوطيّاً، أو مجمعاً للفساد وأهلِه، لكان خيراً له من مرتبة الزندقة في الإسلام، فإن تلك معصيةٌ لا تتعدى إلى غير صاحبها، والحامِلُ عليها شِدَّةُ الشهوة، والشَّبَقُ، والخِسَّةُ، وهذه
__________
(1) هو محمد بن عبد الله الإسكافي البغدادي أبو جعفر أحد متكلمي المعتزلة، وإليه تنسب الطائفة الإسكافية، أصله من سمرقند، أخذ الكلام عن أبي جعفر بن حرب، وله مناظرات مع الكرابيسي وغيره. قال ابن النديم: كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة، ونبل الهمة والنزاهة بلغ في مقدار عمره ما لم يبلغه أحد، وكان المعتصم يعظمه جداً. توفي سنة 240 هـ " لسان الميزان " 5/ 221.(2/46)
معصيةٌ، الحاملُ عليها بغضُ الله ورسولهِ وأميرِ المؤمنين، ومضرتُها دائمة للإسلام والمسلمين، ولا يمْكِنُ صدورُ مثل هذا من مؤمن ألبتة، ولذلك صح " أن بُغْضَ أميرِ المؤمنين نِفاق " (1). فكما أنَّه لا يُصَدَّق من زعم أن أبا هُريرةَ كان لوطياً مشهوراً في محافلِ الصحابة بذلك، ولم يقتلوه، ولم ينفوه، فكذلك لا يصِحُّ أن يكون معروفاً عندهم بتعمد الكذب على رسول اللهِ - صلى الله عليه وسلم - في مثالب سيدِ المسلمين في عصره، ولا يقتلوه أو ينفوه، ولا يكذبوه ويُنَكِّلوا به، وقد ذهب الجُوينيُّ (2) وغيره إلى أن تعمُّدَ الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُفْرٌ وَرِدَّةٌ، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32] مع قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] وقولهِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ولذلك نزه أهلُ البيتِ الخوارِجَ النواصِبَ مِن تعمُّد الكذب، وقَبِلُوا حديثهم وهُمْ كِلاب النَّار (3).
فإن قلت: لم يكن مشهوراً بالكذب وتعمُّدهِ على عصرهم، وإنما بَانَ هذا بَعْدَ مُدَّةٍ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم (78) من حديث علي رضي الله عنه قال: " والذي فَلَقَ الحبة، وبرأ النسمة إنَّه لعهدُ النبيِّ الأميِّ - صلى الله عليه وسلم - إليَّ أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق ".
(2) هو أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين، شيخ الشافعية في عصره المتوفى سنة 438 هـ، قال الإمام الذهبي في " السير " 17/ 618 وهو صاحب وجه في المذهب، وكان يرى تكفير من تعمد الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي " طبقات السبكي " 5/ 93: وصار الشيخ أبو محمد إلى أن من كذب متعمداً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفر وأريق دمه. ذكره ابنه في "كتاب الحرية" عنه، وأنه كان لا يخلي الدرس من ذكره إذا انتهي إلى ذلك. وانظر "فتح الباري" 1/ 199 - 203 الطبعة السلفية.
(3) حديث صحيح، أخرجه من حديث عبد الله بن أبي أوفى أحمدُ 4/ 355 و382، وابن ماجه (173)، وأخرجه من حديث أبي أمامة أحمدُ 5/ 253 و256، وابن ماجة (176) والترمذي (3000) وحسنه. والحاكم 2/ 149، وصححه، ووافقه الذهبي. وانظر " مصباح الزجاجة " ورقة 13.(2/47)
قلتُ: هذا مِنْ خيالاتِ قليلي العُقول، فإنَّ تعمدَ كذبِ الكاذبين إنما يظْهَرُ في أعصارهم لما يَصْحَبُهُ مِنْ معرفة مَنْ جاورهم وخالطهم وسامرَهم مِن قرائنِ أحوالهم، ومخايل كذبهم وتلوّنهم وحكاياتِهم، ومناقضاتِهم، ونسيانهم لما قالوه، كما قالت العرب:
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خلِيْقَةٍ ... وإن خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ (1)
بل كما قال الله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] وكما شاهدنا هذا في معرفتنا لِلكاذبين المعاصرين لنا، فأما لو استتر حالُه حتى مات، ومات المعاصرون له، فإنها تنسَدُّ أبوابُ المعرفة لحاله على المستأخرين عن مُعاصريه إِلاَّ بِعلمِ الغيب، فمن أين جاء ذلك للإسكافي لو صحَّ عنه، وحاشاه منه بَعْدَ تفاني القُرون، وأبو هريرة محتجٌّ بحديثه بينَ الصحابة والتابعين، وفُقهاءِ الإسلام، وأهلِ العلم التام بتواريخِ الرجال، وأخبارِ الناس، وَمَنْ قَبِلَ مثلَ هذا في أبي هريرة ممن لا يُعْرَفُ مع ثبوتِ إيمان أبي هُريرة، وعدالتِه على عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يُؤْمَنُ عليه، ولا يُسْتَبْعَد منه أن يُصدق من ذوي المثالب في علي عليه السلام أو في مَنْ هو دُونَه بيسيرٍ من أهل الفضلِ الشهيرِ، والمحلِّ الكبير. وقد ذكرتُ فيما تقدم أن أهل ذلك العصرِ كانوا خيرَ أهلِ الأعصار، وأن أشرارهم أصدقُ الأشرار حتى إنَّه ثبت عن اليهودي ابنِ صياد اللَّعين المُدَّعي للنبوة في عصره عليه السلامُ لما سألَه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو خصمُه ما يأتيه قال: يأتيني صادِقٌ وكاذب (2)، فاعترف بكذب بعضِ ما يأتيه بُعداً من
__________
(1) هو البيت الثامن والخمسون لزهير بن أبي سلمى من جاهليته السائرة " شرح القصائد العشر " ص 198 للتبريزي.
(2) انظر خبر ابن صياد مطولاً من حديث ابن عمر في البخاري (1354) و (3055) و (6173) و (6618) ومسلم (2924) و (2930) وأبي داود (4329) والترمذي (2249)، وانظر " جامع الأصول " 10/ 364 - 369 الطبعة الشامية.(2/48)
الكذب فيما يدعيه، ووثق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بدليله (1) يومَ هاجر، وكان كافراً، وبذمَةِ سُراقة (2) حين دعا له مع كفره، وشِدَّةِ عداوته، وكذا أَمِنَ كفارَ قريشٍ في عُمرة القضاءِ، ووضع جل السلاح.
الوجه الثالث: أنَّه لا خلافَ أن طريقة أبي هُريرة على عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت مستقيمةً، وأنَّه كان يختصُّ برسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وُيلازِمُه ويأخُذُ عنه، ولم يكن منه في عهدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبيرةٌ، ولا حُدَّ في معصية، ولا اتُّهِمَ بنفاق، ولا كانَ مِن أهل الإفك، وكان مِن العُدول في ذلك العصر على كلِّ مذهبٍ، ومن الصحابة المثنى عليهم على كُلِّ قولٍ، وعند كُلِّ طائفةٍ. فالعجبُ ممن يقبل جرحه ممن لا يُعْرَفُ ولا يُدْرَى مَنْ هُوَ بغير إسناد ولا نظرٍ في رجال الحديث، بل يقبلُه مقطوعاً ممن لا يُدرى مَنْ هو، ولا يُساوي أدنى أدنى أدنى مرتبةٍ من مراتب أصحابِ أبي هريرة من التابعين الرُّواة عنه، المُوثِّقين له، الذين زادُوا على ثماني مئة، ولو صَحَّ طرحُ مِثْلِ هذه الفواحش والخبائث على مثل أبي هريرة من أئمة الإسلام، وأعلامِ الهُدى، لأمكن الزنادِقَةَ لَطْخُ أكثرِ العِترة والفقهاء بمثل ذلك. وليتَ شعري أيُّ فرقٍ يجده المميزُ الحازم بينَ أبي هريرة، وأبي الدرداءِ، ومُعَاذٍ، وكثيرٍ من المهاجرين، والأنصار، ثم يعلم المميز أنَّه لو كذب مثلَ ذلك على الصَّادِقِ والباقر ومالك والشافعي أو منْ دونهم من فُضلاء عصره، وأعيانِ أهل زمانه، لكان الحملُ لهم على السلامة أرجحَ، والتغليب لِنزاهتهم عما قيل
__________
(1) في حديث الهجرة الطويل عن عائشة: واستأجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً (والخريت: الماهر بالهداية) قد غمس حلفاً من آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمِنَاه، فدفعا إليه راحلتَيهما، وَواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث ...
أخرجه البخاري في " صحيحه " (3905) في فضائل أصحاب النبي: باب هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى المدينة.
(2) خبره في الحديث السابق، فانظره، وفيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لسراقة: اخف عنا(2/49)
فيهم أوضح، فكذلك هُنالك.
الوجه الرابع: أن قواعدَ العلم المتفق عليها تقتضي أن لا يُقبل المتعارضان معاً، ولا يَصِحُّ ذلك، وقد تعارض الثناء على أبي هريرة والذَّمُّ له، أما الثناءُ عليه، فإنه قد دخل في الثناء مِنَ الله عزَّ وجلَّ على الصحابة، وأثنى عليه غيرُ واحد مِن السَّلَف والخلف كما تبين في ترجمته من كتب الرِّجال بالأسانيد المعروفة حتى أثنى عليه أئمةُ علمِ الرجال في الحديث مِن الشيعة كالحاكِمِ والنسائي، وابنِ عُقدة وغيرهم، وصححوا أحاديثَهم ودوَّنوها في كتبهم، وكذلك مَنِ احتجَّ بحديثِه مِن أهل البيتِ عليهم السلامُ والفقهاء كما يَعْرِفُ ذلك مَنْ طالع فِقْهَهُمْ، وأدِلَّتهم فيها، ويأتي قريباً التنبيهُ على ذلك بذكر طرفٍ منه يسير.
وأما المعارضُ لهذا، فجاء مقطوعاً كولدِ الزِّنى الذي لا يُعْرَفُ له أب مِن طريق غيرِ وافية بشروط الصحة عن الإسكافي، وكان بغداديّاً لا يقولُ بأخبار الثقات دَعْ عنك غيرَها، ومَقْصِدُه في كلامه القدحُ في الأخبار بالجملة، وسدُّ باب الرواية لو صح ذلك عنه، فلا بُدَّ على الإنصافِ مِنْ معرفة رواة جرح أبي هريرة والموازنة بين كل واحد منهم وبين أبي هريرة، فإن كان فيهم واحد دون أبي هريرة في فضله ونُبله لم يُصَدَّقْ على مَنْ هو خيرٌ منه، وإلا لَزِمَ فيه ترجيحُ المرجوحِ على الراجح، وهو على خلاف المعقولِ والمنقول.
فقِسِ القَدْحَ في الأكابرِ على هذا، وقد أشرتُ إلى هذه النُكتة في علوم الحديث، وأوضحتها فخذها من هنالك (1).
وقد قَدَح الإمامُ المؤيَّدُ باللهِ عليه السلامُ بعدمِ الإسنادِ في كتاب "إثبات
__________
(1) انظر " توضيح الأفكار " 2/ 161 - 167.(2/50)
النبوات"، وَبَيَّنَ أنَّه نَقَل كِتابَه عن السلفِ رحمهم الله تعالى، فدلَّ على اعتبار مثل ذلك حيث يُحتاج إليه، وتَقعُ التهمةُ بالإِجماعِ، ذكره حيثُ ذكر ما رُوي مِن أشعار الجن في الكلام على أنَّه لا يجوزُ أن يكونَ القرآن مِنْ كلامِ الجن.
الوجه الخامس: أن أبا هريرة قد روى مناقِبَ علي عليه السَّلامُ في الصحاح، ومِنْ أشهرهَا روايته لحديث خيبر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعلي عليه السلام: " إنَّه يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَه، ويُحِبُّه الله وَرَسُولُهُ " (1) فثبت ذلك عنه في صحيح مسلم، فكيف لم ينفعْهُ ذلك مع صِحته عنه، وَيضُرّه ما رُويَ عنه من غير طريق صحيحة مِن نقيضِ ذلك.
الوجه السادس: أن جميعَ الأكاذيب المروَيَّة أسندها الكذَّابُونَ إلى الصحابة، والمُحَدِّثُون عَرَفُوا الكَذَّابين، وحملُوا أكاذيبهم عليهم، والحَمْقَى (2) من أهل الكلام نَزَّهُوا أولئك الذين جَهلُوا أحوالَهم، وحملُوا أكاذيبهم على المعروفين بالإيمان والإسلام، والصُّحبة، والعدالةِ، والنبالة، وعكسوا ما يجبُ، ألا ترى أن صاحبَ هذا الكلام الذي في " شرح النهج " قَدَحَ في أبي هريرة بروايته لخطبة علي عليه السلامُ بنتَ أبي جهْل وطوَّل في ذلك، ثم نقل عن السيد المرتضى أن الراوي لذلك عن أبي هريرة هو الكرابيسي، وأن الحمل في ذلك عليه. ثم إنَّه تأوَّل ذلك على تقديرِ صحته بتأويل حسنٍ لا يبقى معه قَدْحٌ في رواته، ومع ذلك لم يَذُبَّ عن أبي هُريرة، وتركه مقدوحاً فيه بذلك، وجهل أيضاًً أن ذلك غير مروي عن أبي هريرة في الصَّحاح، ولا أشار إليه الترمذي كعادته،
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلم (2405)، وفي الباب عن سعد بن أبي وقاص عند مسلم (2404) والترمذي (3724)، وعن سلمة بن الأكوع عند البخاري (2975) و (3702) و (4209) ومسلم (4407)، وعن سهل بن سعد عند البخاري (2942) و (3009) و (3701) و (4210) ومسلم (2406).
(2) في (ب): الحُمقاء.(2/51)
ولا رواه عنه أحمد في " مسنده " مع جمعه لحديثه، بل روي في الصحاح مِن غير طريق أبي هريرة، وأنهم إنما رَوَوْه من طريق علي بن الحسين سَيِّدِ العابدين عن المسْورِ بن مَخْرَمَة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) فما أبعدَ ابنَ أبي الحديد عن مثل هذا، دل قد روى حديث الخِطبة على فاطمةَ عليها السَّلامُ الحاكمُ في " المستدرك " (2) على تشيعه، وصحح مجيئَه مِنْ طُرُقٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحكم بصحتها، منها عن سُويد بن غَفَلَةَ، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السِّياقة (3).
ومنها عن عبد الله بن الزبير وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الترمذي (4) أيضاًً.
ومنها عن أبي حنظلةَ رجلٍ من أهل مكة.
وإنما ذكر هذه الطرق لتصحيح هذه الفضيلة لفاطمة عليها السلامُ، ولذلك ذكر ذلك في مناقبها مع أنَّه لا شيء في ذلك على أمير المؤمنين عليه السلامُ كما ذكره في حديث سُوَيْدِ بنِ غفَلَةَ، فإنه ذكر فيه أن عليّاً استشار النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال له: " أعَنْ حَسَبِهَا تسألُني؟ " قال: قد أعلمُ حسبَها، ولكن أتأمُرُني بها، فقال: " لا، فاطمةُ بَضْعةٌ مني، ولا أَحْسِبُ إلَّا أنَّهَا تَحْزَنُ أَو تَجْزَعُ " فقال علي: لا آتي شيئاً تَكْرَهُهُ. فأيُّ مقالٍ عليه في أن سأل، ثم فعَلَ ما يُحبُّهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سأل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ربَّه أن يَأْذَنَ له في الاستغفارِ لأمِّهِ، فلم يَأذَنْ له (5) فأطاعه، فهذا مثلُ ذلك.
__________
(1) أخرجه البخاري (3110) و (3714) و (3729) و (3767) و (5230) و (5278) ومسلم (2449) وأبو داود (2069) والترمذي (3867).
(2) 3/ 158 و159.
(3) علق عليه الإمام الذهبي بقوله: مرسل قوي.
(4) برقم (3869) وقال: حديث حسن صحيح.
(5) أخرجه من حديث أبي هريرة مسلمُ (976)، وأبو داود (3234) والنسائي 4/ 90 =(2/52)
ويدل على بُطلانِ ذلك الكلام على ابنِ أبي الحديد أن صاحبَه روى عن أبي حنيفةَ جَرْح جَمَاعةٍ مِن الصحابة كأبي هريرة، ونحن نرى أبا حنيفة يحتجُّ بأحاديثهم (1) كما هو معروف في " مسنده " وكُتُبِ فقهه، وفِقه أصحابه.
ؤكذلك حديثُ أبي هُريرة متلقى بالقبولِ بينَ فِرَقِ الأمَّةِ.
أما الفقهاء وأهلُ الحديث، فمعلومٌ ذلك عنهم ضرورةً، وكذلك التابعون، فإنَّ الرواةَ عنه منهم بلغوا ثماني مئة، ولم تُنْكَرْ عليهم الرِّوايةُ عنه مع هذه الشُّهْرَةِ العظيمةِ.
وأما المعتزلة، فهم راجعون إلى الفقهاء، فإنهم شافعية وحنفية، والمنقولُ عنهم عدالة الصَّحابة إِلَّا مَنْ حاربَ عليّاً عليه السَّلامُ، ومن حارب متأولاً، قَبِلُوه، وإن فسَّقوه أيضاًً، أو أكثرهم كما مضى، وكما يأتي في مسألة المتأولين مِن دعوى كثير منهم الإجماعَ على ذلك، وأبو هريرة لم يكن مِن محاربي علي عليه السلامُ بالإجماع.
وأما الشيعة فهؤلاءِ مُحدِّثوهم يَرْوونَ حديثَ أبي هُريرة كالحاكم في " المستدرك "، والنسائي في " السنن "، وكُلّ مَنْ روى الحديثَ منهم حتى محمد ابن منصور المرادي (2) في كتابه " علوم آل محمد" خرَّج حديثَه، واحتج به فيه،
__________
= ولفظه في مسلم: " استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ".
(1) وفي " مسنده " عدد غير قليل من الأحاديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، منها حديث " من أكل ناسياً، فليتم صومه " فقد ترك القياس، وأخذ به.
(2) هو أبو جعفر محمد بن منصور المرادي الكوفي الزيدي المتوفّى سنة 290 هـ، صاحب التآليف الكثيرة في التفسير والفقه والتاريخ. تراجم الرجال 36، و" الفهرست " لابن النديم ص 244.(2/53)
بل روى محمدُ بنُ عبد الله بن الحسن (1)، عن أبي الزِّنادِ، عن الأعرجِ، عن أبي هريرةَ، عنِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حديثَ " إذا سَجَدَ أحَدكمْ، فَلا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ الجَمَلُ " (2) واحتج به، وذهب إلى مقتضاه، وتابعه على ذلك كثيرٌ من أهل البيت وشيعتهم، وخرَّجه عنه أهل الحديث في كتبهم، ولم يُنْكِرْ ذلك عليه أحد مِن أهل بيته مع تَقَدُّم عصره، ولا مَنْ بَعْدَه مِن أهله وشيعته، ولا اعتذروا له عن ذلك، ولا لغيرهِ مِمَّنْ روى عنه على أنَّه لا يعلم أنَّه تفرَّد بشيءٍ منكر، وصحَّ عنه، وقد ادَّعى الإجماعَ على عمل الأمة بروايته لِحديث النَّهي عن الجمعِ بينَ المرأةِ وعمَّتِها، والمرأةِ وخالتها، وأنَّ الأمَّة ما اعتمدت إلاَّ عليه مع أنَّه تخصيصٌ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُم} [النساء: 24] وذكر الحُفَّاظُ العارفون أنه لم يَصِحَّ شيءٌ مِن الأحاديث المرويةِ في ذلك عَنْ عليٍّ عليه السَّلامُ، وابن عباسٍ وغيرِهما، ممن ذكر ذلك البيهقي، وحكاه عن الشافعي حتى اعترضُوا ما خرَّجَهْ البُخاري (3) في ذلك عن عاصمٍ الأحولِ، عنِ الشَّعبِيِّ، عن جابر
__________
(1) هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن حسن بن علي الهاشمي المدني الملقب بالنفس الزكية، وثقه النسائي وغيره من رجال " التهذيب ".
(2) وتمامه " وليضع يديه قبل ركبتيه " أخرجه أحمد 2/ 381، وأبو داود (840) والدارمي 1/ 303، والطحاوي في " شرح معاني الآثار " 1/ 254، وفي المشكل 1/ 65 - 66 والبخاري في " تاريخه " 1/ 139، والنسائي 2/ 207، والدارقطني 1/ 344 - 345، والبيهقي 2/ 99 - 100 كلهم من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، حدثنا محمد بن عبد الله بن الحسن، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .... وهذا سند صحيح، وقد صححه غير واحد من الأئمة، وانظر " زاد المعاد " وتعليقنا عليه 1/ 222 - 230 نشر مؤسسة الرسالة.
(3) رقم (5108) في النكاح: باب لا تنكح المرأة على عمتها، حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله، أخبرنا عاصم، عن الشعبي سمع جابراً رضي الله عنه، قال: نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها. وقال داود، وابن عون عن الشعبي، عن أبي هريرة.
قال الحافظ: أما رواية داود -وهو ابن أبي هند- فوصلها أبو داود (2065) والترمذي (1126)، والدارمي 2/ 136 من طريقه، قال: حدثنا عامر هو الشعبي، أنبأنا أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " نهي أن تنكح المرأة على عمتها أو المرأة على خالتها، أو العمة على بنت =(2/54)
وقالوا: إِنَّ ذلك وَهْمٌ مِن عاصم، لأن ابنَ عونٍ، وداودَ بنَ أبي هِنْدٍ رويا هذا الحديثَ عن الشَّعبِيِّ، عن أبي هُريرة وحدَه.
وعلى الجملة، فروايةُ التابعين لِحديثه، واحتجاجُهم به مِنْ غيرِ نكيرٍ معلومٌ لأهلِ العلمِ بالأخبار بالضرورة، والتَّابِعُونَ مِنْ خيرِ القرونِ بالنُّصوص النبوية، والأخبارِ بصلاحِهم المتواترة الضرورية، واللهُ يُوفِّقنا للصواب، ويُزيل عنا الشَّكَّ والارتياب.
وكذلك تجدُ المعتزلة حنفيةً وشافعيةً، وأبو حنيفة والشافعي يحتجَّان
__________
= أخيها، أو الخالة على بنت أختها، لا الصغرى على الكبرى، ولا الكبرى على الصغرى " لفظ الدارمي والترمذي نحوه، ولفظ أبي داود " لا تنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها " وأخرجه مسلم (1408) (39) من وجه آخر عن داود بن أبي هند، فقال: عن محمد بن سيرين " عن أبي هريرة، فكأن لداود فيه شيخين، وهو محفوظ لابن سيرين، عن أبي هريرة من غير هذا الوجه.
وأما رواية ابن عون -وهو عبد الله- فوصلها النسائي في " الكبرى " من طريق خالد بن الحارث عنه بلفظ " لا تزوج المرأة على عمتها ولا على خالتها " ووقع لنا في فوائد أبي محمد بن أبي شريح من وجه آخر عن ابن عون بلفظ " نهى أن تنكح المرأة على ابنة أخيها أو ابنة أختها ".
والذي يظهر أن الطريقين محفوظان. وقد رواه حماد بن سلمة عن عاصم، عن الشعبي، عن جابر أو أبي هريرة، لكن نقل البيهقي 7/ 166 عن الشافعي أن هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث إلا عن أبي هريرة، وروي من وجوه لا يثبتها أهل العلم بالحديث، قال البيهقي: هو كما قال، قد جاء من حديث علي وابن مسعود وابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وأنس، وأبي سعيد، وعائشة وليس فيها شيء على شرط الصحيح، وإنما اتفقا على إثبات حديث أبي هريرة، وأخرج البخاري رواية عاصم، عن الشعبي، عن جابر، وبين الاختلاف علي الشعبي فيه، قال: والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ والصواب رواية ابن عون وداود بن أبي هند.
قال الحافظ: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري، لأن الشعبي أشهر بجابر منه بأبي هريرة، والحديث محفوظ أيضاً من أوجه عن أبي هريرة، فلكل من الطريقين ما يعضده، وقول من نقل البيهقي عنهم تضعيف حديث جابر - معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان وغيرهما له، وكفي بتخريج البخاري له موصولاً قوة. وانظر " الجوهر النقي " 7/ 166.(2/55)
بأولئك المقدوحِ فيهم مع أبي هريرة، فكيف يَنْتَسِبُون إليهما، وَيَنْتَقِصُونَ مَنْ هو حُجَّةٌ لهما، وَقُدْوَةٌ عندهما.
ثم مِنْ عَدَمِ إنصاف صاحبِ ذلك الكلام المسند إلى الإسكافي، ولعله منه بريء أيضاً، فما يصلحُ إِلَّا لبعضِ أعداءِ الإسلام، فإنه ذكر القدحَ في أبي هُريرة، وغيرِه من خِيرة السَّلَفِ الصالح، وأفردَ القدحَ فيهم، ولو كان هذا من المسلمين، لأورد ما وَرد فيهم مِن جرح وتوثيق، وسمَّى مَنْ جَرحَهُمْ وَمَنْ وَثَّقهم حتى يتمكَّنَ الناظِرُ من الترجيح عند التعارض، كما هو شأنُ أهلِ كتب هذا الشأنِ من علماء الإِسلام.
وأما الزنادقةُ، فتراهم -إذا ذكروا أحداً مِن أئمة الإسلام الذين تملأ محاسِنَهم الدواوينُ، وتملّ حسناتِهم الكاتبون- لم يذكورا له إلاَّ ما لم يَصِحَّ مِن المساوىء والمثالبِ والفواحشِ المفتراة والمعايبِ، وليس العجبُ ممن يقدح في الأكابرِ مِن هؤُلاءِ الأسافلِ، ولله القائل:
وإذَا أتتْك مَذَمَّتِي مِنْ ناقِصٍ ... فَهي الشَّهَادَةُ لي بِأنِّي فَاضِلُ (1)
وإنَّما العَجَبُ مِن بلادةِ مَنْ يَسْبِقُ إلى عقله صِدْقُ أخسِّ الناسِ وَمَنْ خيرُ أحواله أن يكون مجهولاً في ذَمِّ خيرِ الناس بنصِّ كتاب الله تعالى، وشهادةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وَمَنْ أَدْنَى أحوالِه أن يكونَ على من جَرَحَهُ مِن الأراذِلِ مقدماً مقبولاً.
واعلم أنا قد جرَّبْنَا في أنفسنا، وَمَنْ عاصَرَنَا مِن الأئمة والفُضلاءِ كَذِبَ الكذَّابينَ عليهم، وَحسَدَ الحاسدينَ لهم، وهذه عادة مستمرة للأنجاس في
__________
(1) هو للمتنبي من قصيدة مطلعها:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرتِ أنتِ وهُنَّ منكِ أواهل
والرواية فيه: " كامل " بدل " فاضل " وكذلك هي في (ش).
انظر الديوان 3/ 249 بشرح العكبري.(2/56)
حسدِ خِيارِ الناس، ولذلك قيل:
إنَّ العَرَانِينَ تَلَقَاهَا مُحَسَّدَة ... وَلَنْ تَرَى لِِلِئامِ النَّاسِ حُسَّادَا (1)
والحاسدُ يفتري على المحسودِ، فلو قُبِلَ كُلُّ قَدْحٍ مِنْ غيرِ تثبُّتٍ، لبلغ الشيطانُ وجنودُه أغراضَهم في أهلِ المراتب الرفيعةِ مِن العلماءِ، والصَّالحين، وحَمَلَةِ العلم، وَنَقَلَةِ الآثار. فكيف يجوز أن يُصَدَّق على ابنِ أبي الحديد والإِسكافي أن يُجَرِّحُوا عُيُونَ السَّلَفِ الصالح برواياتٍ لم يُصحِّحُوا منها واحدة، ولا أوضحوا لها طريقاً يعلم براءتها مِن دسيسِ الملاحدة؟!.
وقد ذكر شيخُ الإِسلام ابنُ تيمية (2) أنَّ الذي وضع هذه الأشياءَ يهوديٌّ أظهرَ الإسلامَ وافتراها، بل صَحَّ عن ابنِ مسعود: أنَّ الشَّيطانَ يتصوَّرُ في صورة الآدَمِيِّ فيحدّثُ بالأكاذيب. رواه مسلم (3). وله شاهد أو شواهد مرفوعة
__________
(1) البيت غير منسوب في " أساس البلاغة " ص 126، وجاء في " عيون الأخبار " لابن قتيبة 2/ 9: قيل لسفيان بن معاوية: ما أسرع حسد الناس إلى قومك! فقاله إن العرانين ... وعرانين القوم: وجوههم وساداتهم وأشرافهم، مأخوذ من عرنين الأنف: وهو ما تحت مجتمع الحاجبين، وهو أول الأنف حيث يكون فيه الشمم.
(2) هو تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني المتوفى سنة 728 هـ، وصفه تلميذه الحافظ ابن عبد الهادي المتوفى سنة 744 في " مختصر طبقات علماء الحديث " الورقة 274 فقال: شيخنا الإمام الرباني إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سند الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ، فريد العصر، وقريع الدهر، شيخ الإسلام، قدوة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين، وآخر المجتهدين ..... نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إليها. وقد ترجمه غير واحد من الأعلام، وأثنوا عليه، ووصفوه بشيخ الإسلام، جمع ذلك كله ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه " الرد الوافر" وهو مطبوع فليرجع إليه.
(3) في مقدمة " صحيحه " 1/ 12 رواه من طريق أبي سعيد الأشج، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، قال: قال عبد الله: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل، فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلاً أعرف وجهه، ولا أدري ما اسمه يحدث.(2/57)
في " مجمع الزوائد " للهيثمي (1) ومن ها هنا أوجَبَ أهلُ الحديثِ الإِسنادَ، لأن في العدول مَنْ يَقْبلُ المجاهيلَ، فيقبلُ الكذَّابَ، أو الشيطانَ لِظنه أنه مجهول، والمجهولُ عنده مقبول، فصار قبول المرسل يُؤدِّي إلى مِثْلِ هذا مِن حيث لا يَشْعُرُ مَنْ قَبِلَهُ، لأنَّه يقبل مراسيلَ الثقاتِ، وفي الثقات من يَقْبَل المجاهيلَ كالحنفيةِ فَتُقْبَلُ مراسيلُهم، وهم يقبلُون المجاهيلَ، وجميعَ المجاريحِ، والشياطينُ قد يكونون مِن جملة المجاهيل بالنسبة إلى بعض الأشخاصِ والأحوالِ، فاللهُ المستعانُ.
وينبغي مِن كُلِّ مسلمٍ صحيحِ الإِسلام أن يعتبر عن سماع هذه الأكاذيبِ بأمورٍ.
أحدها: أن يَنْظُرَ: هل هو يجترىء على تَعَمُّدِ الكذبِ على اللهِ ورسوله، ثم يظن فيمن غاب عنه مثل ما يجد من نفسه.
وثانيها: أن يَنْظُرَ لو يُفترى عليه مثل ذلك، وهو منه بريء كيف يكونُ ذلك العدوانُ عنده، فيحذر مِن مثلِه.
وثالثها: ينظر كيفَ قال تعالى في شأن أهل الإِفك (2) حين قالوا، وفي مُصدقيهم حين صدَّقوه مع أنَّهم قالوا ذلك، وهم يظنُّون صِدقَهم، وحذقَهم، وَفطَانَتَهم فيما اختصُّوا بفهمه دونَ البلداء، والرميُ بالزنى أهونُ
__________
(1) علي بن سليمان بن عمر بن صالح أبو الحسن الهيثمي القاهري الشافعي الحافظ المتوفى سنة 807 هـ. وكتابه " مجمع الزوائد " مطبوع في عشرة أجزاء، جمع فيه الأحاديث التي لم ترد في الكتب الستة (البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة) من مسند أحمد، ومسند أبي يعلى الموصلي برواية ابن حمدان المختصرة، ومسند البزار، ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير، محذوفة الأسانيد، ورتبها على الكتب والأبواب، وتكلم على كل حديث منها تصحيحاً وتضعيفاً.
(2) انظر الآيات 11 - 20 من سورة النور.(2/58)
من الرمي بتعمدِ الكذب على اللهِ ورسوله كما مضى تقريرُه، نسأل اللهَ العافيةَ والسلامة.
ثم إن صاحبَ ذلك الكلام تمسَّكَ في رمي جماعةٍ مِنْ خيرِ السَّلَفِ إلى بغضِ علي عليه السلامُ بأشياءَ كان يلْزَمُهُ لو طَرَّدها أن يَنْسِبَ بُغْضَ علي المستلزم لِلنِّفاق إلى طلحَة، والزبير، وعائشة لما كان منهم يومَ الجَمَلِ، بل إلى أبي بكر، وعُمَرَ، وعثمان، وجميع مَنْ قال بإمامتهم من التابعين والفقهاء والمعتزلة، لأنهم رأوا مرتبته مستأخرة عن مرتبة مَنْ تقدمه، وصنَّفوا في ذلك التصانيفَ، وجادلُوا عليه، ونقضوا أدِلَّة من خالفهم فيه، وبلغوا الغايةَ القصوى في ذلك.
ومتى التزمَ ذلِكَ، وَحَكَم بنفاق جميعِ منْ ذكرنا، ونفاقٍ جميع مَنْ أحبهم، أو ذب عنهم، ولم يبرأْ منهم، وحرم الروايةَ عنهم، والتصديق لهم، سدَّ أبوابَ الروايةِ، ورفع ما تفرَّع عنها مِن علوم الإسلام تحريماً وتحليلاً وتجميلاً وتفصيلاً، لا سيما المراسيل، فإن المُرْسِلِينَ يُرْسِلُون عن بعض هؤلاء لثقتهم عندهم حتَّى يتطرق الشكُّ إلى كثيرٍ من مناقب علي عليه السلامُ ومناقب العِترة الكرام، لأن كثيراً منها لا يَسْلَمُ مِن الاستناد إلى هؤلاء، وكان يلزم تُهْمَةُ كثير من العِترة بالتحامل على أمير المؤمنين عليه السلامُ حيث بالغوا في الثناء على مَنْ تقدَّمه، وأظهروا موالاتهم، والترضيةَ عنهم، والترحُّمَ عليهم، وَمِنْ أقربِ مَنْ صَحَّ لنا ذلك عنه بالنقلِ المتواتِر، ورُؤيته بخطه المعروف - مولانا أميرُ المؤمنين الناصرُ لدين الله مُحَمَّدُ بنُ أمير المؤمنين المهدي لدين الله علي بن محمد بن علي عليهم السلام، وقبلَه الإمام الأوَّاه العلامة المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة.
وأما بطريقِ الآحاد، فهو عن أميرِ المؤمنين علي عليه السلامُ، وعن(2/59)
الطِّرَازِ الأولِ من أكابِرِ السادات مِن عِترته، كزيدِ بن علي، وأخيهِ الباقر، وجعفرٍ الصادقِ، ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ، ولهذا موضعُ غيرُ هذا وإنما القصدُ الإِشارةُ إلى بعض ما يُؤَدِّي إليه الغُلُوّ مِن فساد علوم الإِسلامِ، وفسادِ الظُّنون بأئمة العِترة عليهم السلام.
ثم إن الناسَ قد عاصروا أئمة الجَوْرِ الذين عادَوْا أميرَ المؤمنين وحاربُوه، وحاربُوا أهلَ بيته، وقتلوهم، وتَتَبَّعُوا مُحبِّيهمْ بالحرب والقتل والإهانة، وقد رخَّصَ اللهُ ورسولُه وأميرُ المؤمنين في التَّقيَّةِ، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (1) [النحل: 106] وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعمارٍ: " إنْ عَادُوا لكَ فَعُدْ لَهُم " (2) وقد كانُوا أكرهوه على سبِّ الله عَزَّ وَجَلَّ، ولذلك قال علي عليه السلام: فأما السَّبُّ فسُبُّونِي، فإنه لي زكاةٌ، ولكم نجاة. فكيف لا يُحْمَلُ على هذا المحمل الجليِّ الواضحِ منْ صدر عنه شيءٌ مِنْ ذلك إذا كان قبل ذلك معروفَ الإسلام لو صحَّ شيءٌ من ذلك عن أحدٍ من الأعلام، وإنما الذي لا يَحِلُّ بالِإكراه هو البراءة منه التي محلُّها القلب كالبُغضِ والعداوة. وقد خَفِيَ هذا المعنى على الشيخ ابن
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في " الإصابة " في ترجمة عمار بن ياسر: اتفقوا على أنه نزلت فيه هذه الآية، وانظر " زاد المسير " 4/ 494 - 496.
(2) أخرج ابن سعد في " الطبقات " 3/ 249، الطبري في " جامع البيان " 14/ 182، وأبو نعيم في " الحلية " 1/ 140 من طريق عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر، قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر، فلم يتركوه حتى نال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر آلهتهم بخير. فلما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: ما وراءك؟ قال: شرٌّ يا رسول الله، والله ما تُرِكْتُ حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: فكيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان، قال: " فإن عادوا فعد "، وأخرجه الحاكم 2/ 357 من طريق الجروي، عن أبي عبيدة، عن أبيه محمد بن عمار، وصححه ووافقه الذهبي مع أنَّه مرسل ومحمد بن عمار لم يوثقه غير ابن حبان، وقال الحافظ في " التقريب ": مقبول، يريد: أنه يقبل حديثه في المتابعة، أما إذا انفرد، فهو ضعيف.(2/60)
أبي الحديد، فلمِ يجد فرقاً بَيِّناً بَيْنَ السَّبِّ المباحِ عند الإِكراه وبينَ البراءةِ عند الإِكراه حتى نَسَبَ إِلى المعتزلةِ عدمَ الفرق بينهما. وقد ذكر في شرح كلامه هذا خلقاً كثيراً مِن صالحي السَّلَفِ بالتحامل على أميرِ المؤمنين، وهذا الفرقُ الذي ذكرتُهُ هو الذي لا يُمْكنُ سواه كالبراءةِ من الله ورسولِه باللسان دون القلب ولأن من سَبَّ، ولم يتبرأ بلسانه يقع في المخوف، وقد أشار إلى هذا أميرُ المؤمنين عليه السلام في رواية الحاكم (1) فإنه خرج هذا في تفسير سورة النحل من طريقين، أحدهما: طريق أبي صادق الأزدي عن علي عليه السلام وفيها أنَّه عليه السلامُ تلا بعدَ كلامه هذا {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] وقال: صحيح الإسناد (2).
قلت: وأبو صادق مِن رجال ابن ماجة، وثَّقه يعقوب بن أبي شيبة، وقال ابن سعد. يتكلمون فيه، وقيل: إنَّه لم يلق علياً عليه السلام، وذكر الحاكم الطريق الثاني عن الحِمَّاني عن ابن عيينة عن عبد الله بن طاووس، عن أمية، ولم يصححها أحسبه للانقطاع (3)، فإنه لم يذكره المزي في الرُّواة عن علي عليه السلام، فإن صح عنه وعن بعضهم ممن يَجبُ حملُه على السلامة فالوجه فيه ما ذكرنا، ولعل الشيخ قد نبه على ذلك بإيراده له في شرح قَوله عليه السلام: فأما السَّبُّ فَسُبُّوني، وأما البراءة فلا تبرؤوا
__________
(1) في " المستدرك " 2/ 358، ولفظه قال علي -رضي الله عنه-: إنكم ستعرضون على سبي فسبوني، فإن عرضت عليكم البراءة مني، فلا تبرؤوا مني، فإني على الإسلام، فليمدد أحدكم عنقه ثكلته أمه، فإنه لا دنيا له ولا آخرة بعد الإسلام، ثم تلا {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}.
(2) ووافقه الذهبي على تصحيحه.
(3) قال الذهبي في " المختصر " 3/ 358 يحيى بن عبد الحميد الحماني ضعيف سمعه منه عبيد منقذ البزار ولا أدري من هو.(2/61)
مني، ولم يُظهر الشيخُ حملَهم على ذلك تقيةً من ابنِ العلقمي (1) والله أعلم.
ويلحق بذلك فائدة: تَعَلَّقٌ بتمام الذبِّ عن أبي هُريرة رضي الله عنه، وذلك أن بعضُ مَنْ يَتَّهِمُه في الحديث احتج على تهمته بما روي في الصحاح (2) عنه أنَّه كان يُفتي بفطرِ من أصبح جنباً في رمضان قبل أن يغتسِل، ويروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما بلغه عن عائشة وأم سلمة خلافُ ذلك قال: إنَّه لم يسمعه مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وإنما أخبره بذلك الفضلُ بنُ عباس
__________
(1) هو محمد بن محمد بن علي أبو طالب مؤيّد الدين الأسدي البغدادي، المعروف بابن العلقمي، وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد في رواية أكثر المؤرخين. مات غماً في قلة بعد ثلاثة أشهر من كائنة بغداد.
مترجم في " سير أعلام النبلاء " 23/ 361 رقم الترجمة (261).
(2) أخرجه من قوله: وفتواه - مالك في " الموطأ " 1/ 290 - 291، والبخاري (1925) و (1926)، ومسلم (1109)، وفيه قصة في رجوعه عن ذلك لما بلغه حديث أم سلمة، وعائشة، وأنه لم يسمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرجه أحمد 2/ 314 من طريق معمر، عن همام عن أبي هريرة مرفوعاًً بلفظ " إذا نودي للصلاة صلاة الصبح، وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ " وإسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق (7396) من طريق معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أدركه الصبح جنباً فلا صوم له " إسناده صحيح، وأخرجه عبد الرزاق (7399) وعنه أحمد (7826) من طريق ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو بن عبد القاري أنَّه سمع أبا هريرة يقول: ورب هذا البيت ما أنا قلت: " ومن أدركه الصبح جنباً فليفطر " ولكن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قاله، وهو في "المسند" (7382) و (7826) والنسائي في " الكبرى " ورقه 43/ 2، وابن ماجة (1702) من طريق سفيان الثوري، عن عمرو ابن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن عبد الله بن عمرو القاري به، وصححه البوصيري في " الزوائد " ورقة 128، وأخرج النسائي في " الكبرى " ورقة 14/ 1 من طريق عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، قال: بلغ مروان أن أبا هريرة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه " من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصومن يومئذ " وإسناده صحيح، وللنسائي ورقة 43/ 2 من طريق يحيى بن عمير، قال: سمعت المقبري يقول: " كان أبو هريرة يفتي الناس أنَّه من أصبح جنباً، فلا يصم ذلك اليوم، فبعثت إليه عائشة: لا تحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا.(2/62)
وهما أعلم، وفي رواية وهو أعلم، ورجع عن ذلك.
وفي رواية غيرِ صحيحة أخبره بذلك أسامة بن زيد، وفي رواية أخبره بذلك مخبر غيرُ مسمى، وقد تعاطى بعضُ مَنْ يُلْتَفَتُ إليه أن هذا يَدُلُّ على أنه يتعمَّدُ الكذبَ، أو يُتَّهَمُ بذلك، والجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنَّه لو صح التشكيكُ في صدق مثلِ أبي هُريرة الذي هو أحدُ كبارِ الصحابة وحُفَّاظهم وعيونهم، ومن المشهورين في عصرهِم بالرِّواية والفتوى، وقد ثبت الثناءُ عليهم كتاباً وسنة وخبرةً وعموماً وخصوصاًً وظواهر ونصوصاً، وقد مرَّ طرفٌ من ذلك في أوَّلِ هذا الكتابِ فلو صحَّ التشكيكُ في صدقه، وصدقِ أمثالِه من الصدرِ الأول الذين على نقلِهِمْ وأمانتهم المُعَوَّلُ، لكان الشَّكُّ في القادحينَ فيهم، المتأخرينَ عنهم رتبةً وزماناً وأمانةً وإيماناً أولى وأحرى، وأقرب وأقوى، وحينئذ تبطُل هذه الواقعة وأمثالُها بما يقدح به عليه وعلى أمثالِه، لأن صِحةَ ذلك فرعٌ على صِدْقِ رواةٍ كثيرٍ متأخرين من الذين الكذبُ فيهم فاشٍ دونَ الصحابةِ وتابعيهم بشهادة الأحاديثِ المتلقاةِ بالقبولِ في تزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل عصره، والذين يلونهم، ثم يفشو الكَذِبُ منْ بَعْدُ، فكيف يُصَحَّحُ في القدحِ في أبي هُريرة حديثٌ يدور على رواة أوثَقُهُم دُونَ أبي هريرة في الشُّهرة بالإيمان والإِمامة والإِسلام والدِّيانة، وهذا دأبُ المبتدعةِ ينقلُونَ القدح في الأخبار ورواتها عمن لا يُوثَقُ به، ويقدحونَ في الآحاد الصِّحَاح بالآحادِ البواطِلِ، كناقش الشوكة بالشَّوكَةِ، وكيف يقومُ الظِّلُ والعُودُ أعْوَجُ؟
الوجه الثاني: أنَّه قد ثبت في هذا الحديثِ من الاختلاف والاضطراب شيءٌ كثيرٌ جدّاً منه في الإِسناد، ومنه في المتن، فمنهم من(2/63)
يقول فيه: عن عائشة، وأمِّ سلمة معاً، ومنهم من يقول: عن عائشة وحدَها، ومنهم: عن أُمِّ سلمة وحدَها، ومنهم عن عائشة وحفصة معاً، ومنهم عن حفصة وحدَها، ومنهم عن أبي بكر بن عبد الرحمان، عن أبيه، عن عائشة، ومنهم عن أبي بكر، عن عائشة، ومنهم عنه، عن أمِّ سلمة، ومنهم عنه عن أبيه عن أم سلمة، ومنهم عنه عن أبيه عن جده عنها، ذكره المزي في أطرافه في تراجمهم عن عائشة، عن أم سلمة، وذكر في ترجمة عبد الملك عن أم سلمة (1) أن فيه اختلافاً كثيراً على عراك. وأكثر ذلك أو كلُّه مبين في " سنن النسائي الكبرى " لا في الصغرى المسماة " بالمجتبى " فهذا اختلافهم واضطرابُهم في الإسناد.
وأما في المتنِ، فمنهم مَنْ ذكر قِصَّةَ أبي هُريرة، ومنهم من لم يذكرها.
ومنهم من جعل سببَ القِصَّة بلوغَ فتوى أبي هريرة إلى مروانَ، وحينئذ أرسل مروانُ عبدَ الرحمان إلى عائشة.
ومنهم من جعل السببَ بلوغَ الفتوى إلى عبد الرحمان، وأنه حينئذ سأل عائشة وأم سلمة من غير علم مِن مروان، ثم أخبر مروان.
ومنهم من قال: إنهم لقُوا أبا هريرة عند بابِ المسجد، فأخبروه بقولِ عائشةَ وأمِّ سلمةَ مِن غير قصدٍ.
ومنهم من قال: إنَّهم قصدوه لِيخبروه، وساروا بأمرِ مروانَ إلى
__________
(1) " تحفة الأشراف في معرفة الأطراف " 13/ 23، وانظر أيضاً 11/ 430 حديث (16171) و474 حديث (16299) و12/ 314 حديث (17622) و340 حديث (17696).(2/64)
أرضِ أبي هُريرة إلى العقيق.
ومنهم من قال: إن عبدَ الرحمان كره ما أمر به مروان مِن إخبار أبي هريرة بذلك وكَرِهَ قصدَه لِذلك، ولم يمتثل أمرَ مروان في ذلك، وقال: ثم قُدِّرَ لنا أن نجتمع بِذِي الحُلَيْفَةِ، وكانت لأبي هريرة هناك أرضٌ، فأخبره عبد الرحمان بذلك.
ومنهم من قال عن أبي هُريرة: أنَّه قال: هما أعلمُ، يعني: عائشةَ وأمَّ سلمة، ورجع إلى قولهما.
ومنهم من قال عنه: إنَّه قال: هو أعلم، يعني: الفضل، وبقي على قوله، ونحو هذا من الاختلاف الشديد.
ومن جملة ما وقع في هذا الحديث من اختلافِ رواته اختلافُهُم في من أسند أبو هريرة الحديثَ الذي احتج به في فتواه إليه، فأما من يعرف الرجالَ والجرحَ والتعديل، ومقادير المختلفين في الحفظ، ويميزُ الروايةَ الشاذَّةَ مِن المشهورة، فإنه يُمْكِنُهُم تصحيحُ البعض من ذلك، وطرحُ البعض، والوقفُ في البعض، والحكمُ بالاضطراب في المستوى دونَ غيره.
وأما جَهَلُةُ هذا الشأن، فإنه يلْزَمُهُمُ الحُكْمُ ببُطلانه، وكذلك العارفُ الذي صحَّ عنه فيه شرطُ الاضطراب، وهو استواءُ المختلفين أو تقاربُهم في الحفظ والعدالة، وإليه أشار النسائي حيث لم يُخرجه في " المجتبى " وقد ذكر ابن الأثير في ترجمة النسائي من مقدمات " جامع الأصول " أنَّه اقتصر في " المجتبى " على الصحيح من " سننه الكبرى " (1)، وما ترك منها إلا
__________
(1) هذا وهم فاحش وقع لابن الأثير، تابعه المؤلف عليه دون تمحيص، ورتب عليه نتائج غير صحيحة، وقد بينت بطلان هذا الوهم فيما علقته على " تهذيب الكمال " 1/ 328، فراجعه.(2/65)
المُعَلَّ، فيكون هذا الحديثُ عنده من المُعَلِّ الذي لم يَصِحَّ لهذه العِلة، وهي شِدَةُ الاختلاف في سنده ومتنه.
فالعجَبُ ممن لا يعرِفُ الرِّجال، ولا هذا الشأنَ؛ كيف صَحَّحَ هذا الحديثَ تحكماً من غير معرفة، ونسب الاختلافَ إلى أبي هُريرة في إسنادِ الحديث إلى الفضلِ بن العباس، أو إلى أسامة بنِ زيد، ونسب سائرَ الاختلاف الذي في هذا الحديثِ إلى غير أبي هُريرة من الرُّواة، وأبو هريرة أعقلُ من أن يقولَ ذلك على كل تقدير؟! فإن الصادق يَثْبُتُ على صدقه، والكاذب يخاف التُّهمة من إكذابه لنفسه بتناقضِ رواياته، ولو كان هو المُتَلوِّنَ في ذلك، لذكره مروانُ، وعابه عليه، فقد كان مروانُ شديدَ الحرص على تقريع أبي هُريرة في ذلك، كما هو بَيِّنٌ في متن الحديث، فإنه اقسم على عبد الرحمان: لَيُقَرِّعَنَّ أبا هريرة بذلك (1).
الوجه الثالث: أن أبا هريرة إِنما روى الحديثَ الذي احتجَّ بهِ في الابتداء مرسلاً، ثم بينَ الواسطة بعدُ، وبَيَّنَ أنَّه الفضل بن العباس، لأن عادةَ كثيرٍ من أهل العلمِ خصوصاًً أهلَ ذلك العصر هي الإرسالُ حتى يَعْرِضَ سَبَبٌ يُوجِبُ الإسنادَ.
فمن ذلك أن يكون الراوي غيرَ شاكٍّ في صِحة ما عنده، لأنَّه لا يَعْرِفُ معارِضَاً، فحين يَعْرِفُ ما يُعَارِضُ روايتَه يقوى الدَّاعي إلى بيان مستنَدِه، وكذلك فعل الحَبْرُ عَبْد الله بنُ العباس رضي الله عنهما حين كان يُفتي أنَّه " لا رِبَا إلا في النَّسِيئَةٍ "، فلما أُخْبِرَ بتحريم الربا في الصَّرْفِ، قال: أخبرني بذلك أسامة بن زيد (2).
__________
(1) كما في رواية البخاري (1926).
(2) الحديث في " صحيح مسلم " (1596) في المساقاة: باب بيع الطعام مثلاً بمثل، وانظر " شرح السنة " 8/ 60 - 61.(2/66)
ثم رجع إلى ما صحَّ لهُ عن غير أُسامة ممن روايتُه أخصُّ وأنصُّ في المعنى، أو متأخرةٌ في التاريخ، فقد يكونُ الرجوعُ على جهة اعتقادِ التخصيص، والبيانِ للمجملات، وقد يكون على جهة النسخ للمنصوصات، وليس يستلزِمُ كذب الراوي الأولِ على كُلِّ تقدير، روى قصة ابنِ عباس في ذلك -كما ذكرت- أحمدُ بن حنبل في مسند أسامة (1)، والنسائي في كتاب البيوع من " سننه " (2)، وابن ماجة في التجارات (3).
رواه أحمد من طريق يحيى بن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس، ورواه النسائي، وابن ماجه من طريق أخرى، ويحيى صدوق، وبقيتهم رجالُ الجماعة.
واختلفت الروايةُ عنه كأبي هريرة، فقيل: عنه كما تقدم، وقيل:
عنه: إنَّه قال: إِنما كان ذلك رأياً مني. رواه ابن ماجة، والصحيح الأول كما أن الصحيح في حديث أبي هريرة أن المخبر له بالحديثِ الفضلُ بنُ العباس كما يأتي، فلم يقُلْ أحدٌ من العقلاء: إنَّ ذلك الاختلافَ في حديث ابنِ عباس منسوبٌ إليه دونَ الرُّواة عنه، وإنَّه يُوجبُ تُهْمَتَه مع أن حديثَ ابنِ عباس موضع تُهمةٍ، لأنَّه في رخصة كبيرة، وحديثُ أبي هريرة أبعدُ من التهمة، لأنَّه في الاحتياط في حُرمةِ رمضان، ومصادمة أمراء الجَوْرِ بما يكرهون، فإن مروان قد كان اشتدَّ تَكَبُّرُهُ عليه، فلم يلتفت إليه حتَّى وضح له الحقُّ، وكفي بهذا دليلاً على ورعه وتقواه، ومخالفته لهواه في الابتداء والانتهاء، وقد خرج الحاكم في الفتن عن مالك بن ظالم أنَّه سمع أبا هريرة
__________
(1) 5/ 200 و204 و206.
(2) 7/ 381 في البيوع: باب بيع الفضة بالذهب، وبيع الذهب بالفضة.
(3) رقم (2257): باب من قال: لا ربا إلا في النسيئة، وانظر " تحفة الأشراف " 1/ 46 - 47.(2/67)
يقول لمروان بن الحكم: أخبرني حِبِّي أبو القاسم الصَّادِقُ المصدوقُ - صلى الله عليه وسلم -: " أن فَسَادَ أُمَّتِي عَلَى يَدَيْ غِلْمَةٍ سُفَهَاءَ مِنْ قُرَيْشٍ " (1).
وقال الحاكم على تشيعه: إنَّه حديثٌ صحيحٌ الإسناد، وخرجه أحمد في " المسند " بنحوه من طريق أبي زرعة، والضحاك بن قيس، كلاهما عن أبي هريرة من غير طريق الحاكم، فثبث ذلك بلا ريبٍ، وهذا أرفعُ مراتب التقوى أن يَصْدَعَ مروانَ بالحقِّ، ولا تَأْخُذَهُ في اللهِ لومةُ لائم، وفي الحديث " أفْضَل الجِهَادِ كلِمَةُ حَقِّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ " (2).
قال العلماء: لأنَّه لا يقدر يدفع عن نفسه كما يدافع المجاهدون، وهذا الحديث الثالث عشر بعدَ المئة من جامع ابن الجوزي، وفيه أن مروان سأله أن يحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: سمعتُه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ليتمنَّينَّ أقوام وَلُوا هذا الأمْرَ أنهم خرُّوا مِن الثُّريا، وإنهم لم يلو شيئاً " (3).
__________
(1) هو في " المستدرك " 4/ 470، وصححه ووافقه الذهبي، وهو في " المسند "2/ 288 و299 و304 و328 و348، و" مسند الطيالسي " (2508) من طريقين عن سماك بن حرب بهذا الإسناد، وصححه ابن حبان.
وأخرج البخاري في " صحيحه " (7058) في الفتن: باب هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء من طريق موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد، قال: أخبرني جدي (سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص) قال: كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبي بالمدينة ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: " هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش "، فقال مروان: لعنة الله عليهم غلمة، فقال أبو هريرة: لو شئت أن أقول بني فلان، بني فلان، لفعلت. فكنت أخرج مع جدي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام، فإذا رآهم غلماناً أحداثاً، قال: عسى هؤلاء أن يكونوا منهم، قلنا: أنت أعلم. وهو في " المسند " 2/ 324.
(2) أخرجه من حديث أبي أمامة، أحمدُ 5/ 251 و256، وابن ماجة (4011) وإسناده حسن، وله شاهد من حديث طارق بن شهاب عند أحمد 4/ 314 و315، والنسائي 7/ 161، وإسناده صحيح، وصححه النووي والمنذري.
(3) هو في " المسند " 2/ 372 من طريق أسود بن عامر، عن أبي بكر، عن عاصم، =(2/68)
وفي البخاري ومسلم قال أبو زرعة: دخلتُ مع أبي هريرة في دارِ مروانَ، فرأى فيها تصاويرَ، فقال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قَالَ اللهُ تَعالى: وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهبَ يَخْلُقُ خَلْقاً كَخَلْقِي، فلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أو لْيخْلُقُوا شَعِيرَةً " زاد البخاري: ثُمَّ دَعَا بِثَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَهُ (1).
وخرج الحاكم (2) قبلَ هذا عن معاوية بن صالح (3)، عن صفوان بنِ عمروٍ أنَّه سَمِعَ أبا مريم مولى أبي هُريْرَةَ يقول: مَرَّ أبو هريرة بمروانَ وهو يبني دارَه، فقال للعُمَّال: ابنُوا شديداً، وأمِّلُوا بعيداً، وموتوا قريباً، فقال مروان: ماذا تقول لهم يا أبا هريرة؟ فقال: قلت: ابنوا شديداً، وأمِّلُوا بعيداً، وموتوا قريباً يا معشر قريش -ثَلاثَ مرات- كيْفَ. كُنْتُم أمْس، وكيف أصبحتُم اليوم تُخدَمُونَ، أرِقَّاؤُكم الْيَوْمَ فَارِسٌ والرُّوم، كُلُوا الخُبْزَ السَّمِيذ، واللَّحْم السَّمِينَ، لا يأكُلْ بعضُكُم بعضاً، ولا تَكَادَمُوا (4) تَكَادُمَ البَراذين، وكونُوا اليومَ صِغَاراً، تكونوا غداً كباراً، واللهِ لا يَرْتَفِعُ منكم رجلٌ درجةٌ إلا وَضَعَهُ الله يومَ القيامة.
__________
= عن رجل من بني غاضرة، عن أبي هريرة، و520 من طريق عبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن يزيد بن شريك، عن الضحاك بن قيس، عن أبي هريرة و536 من طريقين، عن شيبان، عن عاصم، عن يزيد بن شريك، عن أبي هريرة.
(1) لفظ البخاري (5953): ثم دعا بتور من ماء فغسل يديه حتى بلغ إبطه، فقلت: يا أبا هريرة أشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: منتهي الحلية. قال الحافظ ابن حجر: وليس بين ما دل عليه الخبر من الزجر عن التصوير وبين ما ذكر من وضوء أبي هريرة مناسبة، وأنما أخبر أبو زرعة بما شاهد وسمع من ذلك. والحديث في صحيح مسلم (2111) في اللباس والزينة.
(2) في " المستدرك " 4/ 463. من طريق ابن وهب، عن معاوبة بن صالح به.
(3) في (أ) و (ب) المقدم، وفي (ش) المقدام، وهو تحريف.
(4) يقال: تكادم الفرسان: إذا كَدَمَ أحدُهما صاحبه، والكَدْمُ: هو العضُّ بأدنى الفم. والبراذين: جمع برذون، وهي من الخيل ما ليس بعربي.(2/69)
فهذان وأمثالهُما مِن رواية ثقات الشيعة، وما تقدَّم من رواية ثقات أهلِ الحديث يدل على اتفاق ثقاتِ النَّقَلَة من الفريقين على نقل ما يَدُلُّ على ثقة أبي هُريرة، وجلالتِه، فقد صحَّ بالنَّقْلِ والعقْلِ أن كلمةَ الحقِّ عند سلاطين الجَوْرِ أفضلُ الجهاد، فاعْرِفْ ذلك.
الوجه الرابع: أن الاختلافَ في ذلك إنما هو على أبي بكر بن عبد الرحمان شيخِ سُميٍّ والزُّهريِّ في الحديث كما يَعْرِفُ ذلك أهلُ هذا الشأنِ، لا على أبي هُريرة، وقد غَلِطَ مَنْ نسبه إليه غلطاً فاحشاً، وذلك مِن عَدَمِ البصرِ بعلم الأثرِ، وَمَنْ عَرَفَ صنعتَهم في جَمْعِ الطُّرُقِ لأجل معرفة مَنْ وقع منه الاختلافُ مِن الرُّواة، لم يَشُكَّ في ذلك، كما بيَّنه النسائيُّ في " سننه الكبرى " في هذا الحديثِ بخصوصه، وفي " سننه الصغرى " في غالب الأحاديث المختَلفِ فيها.
بيان ذلك أنَّ مدارَ الحديث على عبدِ الرحمان بن الحارث بن هشام ابن المغيرة المخزومي وعلى ولده أبي بكر، والرواية الصحيحة المشهورة فيه أن أبا هريرة أحالَ بذلك على الفضل بنِ العباس كذلك رواه البخاري في كتاب الصوم عن سُمَيٍّ والزهري معاً عن أبي بكر بن عبد الرحمان، وكذلك رواه مسلم فيه أيضاً عن عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمان أنه الفضل فهؤلاء ثلاثة نبلاء ثقاتٌ اتفق الجماعةُ على الاحتجاج بهم، قالُوا: كُلُّهُمْ عن أبي بكر أنَّه قال: إِنه الفضلُ، وُيقوي ذلك أنَّ النسائي روى ذلك مِن طريق أخرى ليس فيها اختلافٌ ولا اضطرابٌ، وهي طريقُ محمد بن عمرو، عن يحيى بنِ عبد الرحمان بن حاطب، وهو ثقةٌ رفيعُ القدر، وهذه غيرُ طريق أبي بكر ووالده عبدِ الرحمان، فصارت أربعَ طرقٍ مجتمعةً متعاضدةً على أن الواسِطَةَ الفضلُ بن العباس، وأما أسامةُ بن زيد، فلم يذكره أحدٌ قط إلا عمرُ بنُ أبي بكر بن عبد الرحمان، عن أبيه أبي بكر(2/70)
الذي صح عن ثلاثة عنه أنَّه الفضلُ، وبهذا يُعرف وهمُه، فافهم ذلك، وعمر هذا لا يُوازِنُ واحداً من الثلاثة الذين خالفوه عن أبيه، منهم أخوه عبدُ الملك، وكفى به وحدَه معارضاً له راجحاً عليه، فإنه متفق على الاحتجاج به في جميع دواوين الإسلام الستة المشهورة مثل صاحبيه الموافقين له في ذلك عن أبيه أبي بكر بن عبد الرحمان مع شهادة رواية النسائي من الطريق الرابعة عن أبي هريرة، وعُمَرُ هذا ما خرج له أحدٌ من أهل الصحيح، بل ولا مِن أهل السُّنن إلا النسائي وحدَه، وإنما خَرَّجَ له، لأنَّه قصد الاستقصاء لجميعِ طُرُقِ هذا الحديث، فجمع منها ما لم يجمعه سواه، كما أوضحه المِزِّي في " أطرافه " (1) حتى رواه عن تسعةٍ وعشرين راوياً، ومنهم مَنْ له فيه طريقانِ، ومنهم من له فيه أكثرُ من ذلِكَ من الطرق، فجاء ذكرُ أسامة في طريق واحدةٍ من هذه الطرق الخمسة، ولم يذكره إلا النَّسائي، فجاء من لا يَعْرِفُ الحديثَ، وكيفية الترجيحِ، والطريق إليه، فظنَّ أن ذِكْرَ أُسامة في الحديث مثل ذكر الفضل سواء، وليس كذلك، فإن ذكر أُسامة في غايةِ الشُّذُوذِ، وذلك مثلُ ما جاء في طرق النسائي هذه أن الحديث عن حفصة وحدَها، أو أنَّه عنها وعن عائشة دُونَ أمِّ سلمة، وهذا شذوذٌ مردود، وإنما الحديثُ عن عائشة وأم سلمة، لم تُذْكرْ حفصةُ إلا في طريق واحدة من هذه الطرق التي استقصاها، وتفرَّد بها النسائي، ولعل سَبَبَ الوَهْمِ في ذكر أسامة مع شذوذه أن الواهِمَ فيه انتقل ذِهنُه إلى قصة ابن عباس في فتواه أنه: " لا ربا إلا في النسيئة "، وأنه لما أُخْبِرَ في ذلك بالنص المخالف لفتواه، وأحال في فتواه إلى أسامة بن زيد، لأنَّ بَيْنَ القِصتين مشابهةً والله أعلم.
__________
(1) في الجزء 11/ 474 - 476 رقم الحديث (16299).(2/71)
وأما مَنْ روى عن أبي بكر بنِ عبدِ الرحمان أن أبا هُريرة قال: أخبرنيه مخبرٌ، فليس يُناقِضُ أن ذلك المخبر هو الفضلُ، وإنما كان هذا الإجمالُ اختصاراً من مالك، لأن الإختلاف في هذه اللفظة إنما جاء عن مالك عن سُمَيٍّ، والدليلُ على أنَّه اختصار من مالك أن البخاري رواه عن عبدِ اللهِ بن مسلمة القعنبي، عن مالك، عن سُمَيٍّ يذكرُ الفضلَ باسمه، فدلَّ عَلى أن سُميّاً رواه كذلك، وأنَّ مالكاً في " الموطأ " أحبَّ الإجمال فيه، أو عَرَضَ له نسيان بعدَ الحفظ أنَّه سمع برواية عمر بن أبي بكر التي فيها ذكر أسامة، فأحبَّ الاحتياطَ بترك تسمية الواسِطَةِ، وبكل حالٍ فالإِجمال لا يُناقِضُ التعيينَ والنسيانَ، واختلافُ الأخبار في التسمية وتركُها جائزٌ على العلماء والثقات.
وفي الحديث ما يدُلُّ على إجلال أبي بكر بن عبد الرحمان لأبي هريرة، وكراهيةِ مواجهته بذلك، وعدم المسارعة إلى ما أمره به مروان في ذلك، ولو كان أبو هريرة عندَهم كاذباً متعمداً، لاستحقَّ الإهانةَ العظمى، بل القتل عند بعضِ أهلِ العلم، فقد كَفَّرَ بعضُ العلماء مُتَعَمِّدَ الكذبِ في الدين والتغيير للشريعة، وإن لم يكن مستحلاًّ لذلك، ومن حجته قولُه تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32] وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ} [النحل: 105] خرج من ذلك الكذبُ على غير الله ورسوله.
وقوله عليه السلام: " إنَّ كذِبَاً عليَّ لَيْسَ ككَذِبٍ على غيري، إنَّه مَنْ كذبَ عليَّ ولَجَ النَّارَ " (1)، وبقي الكاذبُ على اللهِ ورسوله لم يَخْرُجْ بحُجَّةٍ
__________
(1) في (ج): ولج في النار، ولفظ الحديثِ في البخاري (106) من حديث علي =(2/72)
واضحةٍ، وممن قال بذلك إمامُ الحرمين أبو المعالي الجويني والأمير الحسين.
ثم إنَّ الوجه في حديث أبي هُريرة عنِ الفضل أن ذلك كان كذلك في ابتداء فرضِ رمضان، ثم نُسِخَ، ولم يَشْعُرِ الفضلُ، ولا أبو هريرة بالنَّسْخِ حتى بلغ إلى أبي هُريرة. ذكر ذلك ابنُ المنذِرِ مبسوطاًً، ثم الحافظُ ابنُ حَجَر في كتابه " التلخيص الحبير " (1) قالا: لأنَّ الصومَ كان واجباً مِن بعدِ العشاء الآخرة من الجماعِ والطعامِ والشرابِ، حتَّى شقَّ ذلك على المسلمين، ووقع منهم مَنْ وَقَع في الحرام، ونزل في ذلك قولُه تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} كما هو مبسوطٌ في كتب الحديثِ والتفسير، فنُسِخَ ذلك وتوابعُه، ولم يعلم أبو هريوة وغيرُه بالنسخ في حُكْم الجنابَةِ، كما لم يَعْلم به الفضلُ بنُ العباس، وَمَن تمسك بحديثه من علماءِ الإسلام، وكُبراء التابعين. فقد ذكر ابنُ عبد البَرِّ في " تمهيده " الذي هُو أحدُ كتب الإِسلام بقاءَ الخلاف في ذلك، ورواه عن إبراهيمَ النَّخَعي، وعُروةَ بن الزبير، وطاووسٍ اليماني، والحسنِ البصري، وسالمِ بن عبد الله بن عُمَرَ بنِ الخطاب، والحسنِ بنِ حَيٍّ. لكن إبراهيمُ النخعيُّ، وعُروَةُ، وطاووس شرطُوا في بُطلان الصومِ أن يَعْلَم بجنابته من الليل، فلا يغتسل حتى يُصْبحَ، ثُمَّ هو مفطر، وسالم، والحسنُ البصريُّ، والحسنُ بنُ حَيٍّ، قالوا: إذا أصبح جُنباً أتمَّ صومه، ثم قضاه.
__________
= رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي يلج النار " وعند مسلم (1) " يكذب " بدل " كذب " وللترمذي (2260) " لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي يلج في النار ".
وأخرجه البخاري (1291) ومسلم (4) من حديث المغيرة بن شعبة بلفظ " إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمداً، فليتبوأ مقعده من النار ".
(1) 2/ 202، وانظر " شرح الموطأ " 2/ 162 للزرقاني.(2/73)
وذهب عبدُ الملك بن الماجَشون مِن أصحاب مالك إلى هذا المذهب في الحائض أيضاًً.
وكأنَّ هؤلاء لم يبلُغْهم الحديث، أو بلَغَهم، ولم يَصِحَّ لهم، أو صحَّ لهم، فاعْتَقَدوا فيه أنَّه في غيرِ رمضانَ جمعاً بينَه وبينَ حديثِ الفَضْل، فقد قال أبو داود في " سننه ": إنما الحديثُ أنَّه كان يُصبح جُنُباً ثم يصوم، وقال: ما أقلَّ مَنْ يقولُ في الحديث: إنَّه كان يصبح جُنُباً في رمضان (1).
قلت: اختُلِفَ في ذكر رمضانَ في الحديث على مالكٍ، فروى عنه الأذْرَميُّ ذكرَ رمضانَ في الحديث، ولم يروه الأكثرون وربما تقوَّوا على الجمع بينَ الحديثين بما عُلِمَ من قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِرَمَضَانَ، وحثِّه عليه، لكن جمعهم بذلك بينَ الحديثينِ مردودٌ بأنَّ فِعْلَ ذلك في رمضان كان هو السَّبَبَ في سؤالِ عبد الرحمانِ بن الحارث لعائشة، وأمِّ سلمة، فلا يجوزُ خروجُه عن عموم الجواب، لأن العمومَ نص في سننه كما ذلك مبينٌ في الأصول، وإِلَّا لكان الجوابُ أجنبيّاً عن السؤال.
وقد دل على ذلك كتابُ الله تعالى لمن تأمل لِقوله تعالى: {فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فأباح الجميعَ مِن الجماع والأكلِ والشُّربِ حتى يتبيَّن الفجر، وإذا أبيح الجماعُ حتَّى يتبينَ الفجرُ، فمعلومٌ
__________
(1) ذكره عقب الحديث (2388) ونصه: قال عبد الله الأذرمي (وهو شيخ أبي داود في هذا الحديث) في حديثه: في رمضان من جماع غير احتلام، ثم يصوم.
قال أبو داود: وما أقل من يقول هذه الكلمة يعني يصبح جنباً في رمضان، وإنما الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً وهو صائم.(2/74)
أن الغُسل لا يكونُ إلاَّ بعدَه، ولكن هذا على القولِ برجوع القيدِ ونحوه بعدَ الجُمَلِ الكثيرةِ إلى جميعها، وهو اختيارُ الشافعية (1)، وأما على قول الحنفية: إن القيدَ ونحوَه يرجعُ إلى الجملة الأخيرة فقط حتى يَدُلَّ دليلٌ على غيرِ ذلك، فيكون قولُه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} راجعاً (2) إلى الأكل والشُّربِ فقط لولا حديثُ عائشة، وأُمِّ سلمة.
وأما تقويهم (3) بما عُلِمَ مِنْ قيام رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان، وحثِّه على ذلك، فلم يكن معناه قيامَ الليل كُلِّه، إنما معناه القيامُ فيه، وقد روى النسائيُّ، وابنُ ماجة ثلاثَ طرق، كُلُّها عن سعيدِ بن أبي عَروبة، عن قَتادة، عن زُرارة بن أوْفى، عن سَعْدِ بن هشام، عن عائشةَ أنها قالت: ما قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً حتى الصَّباحِ، ولا قرأ القُرآنَ كُلَّه في ليلةٍ (4). وكُلُّ هؤلاء الرُّواة رجالُ الجماعة كلهم.
وفي " الصحيحين " (5) عن أبي سلمة أنَّه سأل عائشة كيف كانت صلاةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رمضان؟ قالت: ما كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يزيدُ في رمضانَ
__________
(1) انظر تفصيل المسألة في " المستصفي " 2/ 174 - 180، و" نهاية السول " 2/ 430 - 437، و" تيسير التحرير " 1/ 302 - 308، و" التقرير والتحبير " 1/ 269 و274، و" التبصرة " ص 172 - 176.
(2) في (أ) و (ب) و (ش): راجع، والجادة ما أثبت.
(3) في (ج): تقويم، وهو تحريف.
(4) أخرجه النسائي 4/ 199 في الصوم: باب صوم النبي، وابن ماجة (1348) من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة بهذا الإسناد، وأخرجه مطولاً مسلم (746)، وأبو داود (1342)، والنسائي 3/ 199 في أول قيام الليل من طرق عن قتادة عن زرارة بن أوفى، عن سعد بن هشام عن عائشة. وانظر " تحفة الأشراف " 11/ 406 رقم الحديث (16104) و408 رقم الحديث (16108).
(5) البخاري (1147) و (2013) و (3569)، ومسلم (738)، وأخرجه مالك في " الموطأ " 1/ 125 - 126، ومن طريقه أبو داود (1341) والترمذي (439)، والنسائي 3/ 234. وانظر اختلاف الروايات في " جامع الأصول " 6/ 91 - 96 الطبعة الشامية.(2/75)
ولا في غيرِه على إحدى عشرة ركعةً يُصلِّي أربعاً، فلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وطُولِهنَّ، ثم يُصَلِّي أربعاً، فلا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وطُولهِنَّ، ثُم يُصَلِّي ثلاثاً.
وفي رواية في " الصحيحين " عنها: فَيَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذلك قَدْرَ ما يقْرَأُ أَحَدُكُم خَمْسِينَ آيَةً.
وفيهما وفي " السنن " عنها: كان إذا دخل العَشْر الآواخِرُ، أَحيا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ، وَشدَّ المِئْزَرَ (1).
فقولها: " وَشَدَّ المِئزَرَ " كناية عن اجتنابِ النساء، ذكره غيرُ واحد، فدلَّ على اختصاص تركه للنساء بالعشرِ الأواخِرِ.
وقد جاء مِن حديث عائشة أيضاً ما يَدُلُّ على أنَّه إنما كان يفعل ذلك في آخِرِ اللَّيْلِ بعدَ فراغِهِ من عادته في القيامِ، فروى مسلم والنَّسائي مِن حديثِ زُهير بنِ معاوية، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن الأسودِ، عن عائشة رضي الله عنها أن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كان ينامُ أَوَّلَ اللَّيْلِ وُيحيي آخِرَه، ثم إنْ كانَ لَهُ حاجَةٌ مِن أهْلِهِ، قَضَى حَاجَتَه، ثم يَنَامُ، فإذَا كَانَ عِنْدَ النِّدَاءِ الأوَّلِ، وَثَبَ (2).
فبان بهذا أن قيامَه - صلى الله عليه وسلم - لِرمضان لم يكن يمنعُه ذلك، ولا يُنافيه، كما أنه لا يمنعُه مِن الأكل والشربِ، وقضاءِ الحاجة، وأن القيامَ الذي كان يَتْرُكُ ذلكَ معه كان يختصُّ بالعشرِ الآواخِرِ.
__________
(1) أخرجه البخاري (2024) في صلاة التراويح، ومسلم (1174) وأبو داود (1376) والترمذي (796) والنسائي 3/ 218.
(2) هو في صحيح مسلم (739) والنسائي 3/ 218.(2/76)
فَوَضحَتِ الحُجَّةُ في وجوبِ متابعة السُّنَّةِ التي جاءت مِن طريقِ عائشة، وأُمُّ سَلَمة، ووضحت الطريقُ إلى حمل أبي هُريرة رضي اللهُ عنه على أحسنِ المحامِل، والحمدُ لله ربِّ العالمين.
الفائدة الثانية: قد ذَكرَ بَعْضُ أهلِ العلم أن أبا هريرة في المتأوِّلين من الصحابة على قولِ الشِّيعة والمعتزلة، كُلِّهم لأجل ولايته المدينةَ في بعض أيَّامِ معاوية.
والذي عندي أن ذلِكَ لا يقْدَحُ على قولِ الجميع في روايته، ولا في دِيانته، أما أنَّه لا يقْدَح في روايته، فلأنَّ الرجلَ كان متديِّناً متحرِّياً لا يتعمَّدُ ارتكابَ الحرام، وأقصى ما في الباب أنَّه عصى متأوِّلاً، فذلك لا يَقْدَحُ في الرواية، ولا في الاجتهاد على ما يأتي بيانُه في موضِعه إن شاء الله تعالى، وأما أن ذلك لا يقْدَح في دِيانته وولايته فلوجوه:
أولها: أن المؤيَّدَ بالله عليه السلامُ قد ذهب إلى جوازِ أخذِ الوِلاية في القضاء من أئمة الجَوْرِ، نص عليه في " الزيادات " (1)، وهو الجديدُ من قوليه المعمول عليه، وقد احتج على ذلك في " الزيادات " وأطال، وفي " الجامع الكافي " (2) في مذهب الزيدية، عن محمد بن منصور. عن أحمدَ بنِ عيسى: أنَّ الفِسْقَ يُزِيْلُ عن أئمة الجور إمامة الهُدى، ويبقى العَقْدُ الذي يثبُتُ به مِن أحكامهم ما وافق الحقَّ إلى وقتِ ما يتنحَّى قال: لو أن رجلاً لم يُبايَعْ له، ولم يُعْقدْ له، أقام الحدَّ، فمات المحدودُ كان ضامناً، والجائرُ الذي زالت عنه إمامةُ الهُدى إذا فعل مثلَ هذا لم يَضْمَنْ، فلا يتبع
__________
(1) انظر فهرس المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء ص 259.
(2) في مكتبة الجامع الكبير منه المجلد الثاني والثالث والرابع والخامس، انظر الفهرس ص 248 - 249.(2/77)
بشيء. انتهى.
وقد قرَّره محمدُ بنُ منصورٍ، ولم يُورِدْ عن أحدٍ من أهل البيتِ خلافَه مثل عادتِه إذا اختلفوا، وكذلك مصنف " الجامع الكافي " السيدُ الإمام الحسيني لم يذكر خلافاً بينَ الصدر الأول في ذلك، وذلك هو المشهورُ عن كثير من أئمة الإسلام من الفقهاء الذين هُمْ أئمةُ المعتزلة في الفروع، وقد ثبت أنَّ يوسفَ عليه السلام تولَّى لعزيز مِصْرَ، وثبت أن شرعَ من قبلنا حُجَّةٌ في دينِنَا إذا حكاه اللهُ في كتابنا (1)، وفي " الصحيح " أنَّه عليه السلام احتج في القِصَاصِ بقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} (2) وليس هي في كتاب الله إلاَّ حكايةً عن شرعِ منْ قبلَنَا، واحتجَّ بقولِه تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (3) وهي في خِطابِ موسى عليه السلام. فإذا ثبت ذلكَ، فمن
__________
(1) أي: حكاه مقرراً ولم ينسخ، وفي الاحتجاج بذلك خلاف مبين في " فواتح الرحموت " 2/ 184 - 185، وانظر أيضاً " تفسير ابن كثير" 3/ 112 - 113 طبعة الشعب.
(2) الآية 45 من سورة المائدة. وأخرج أحمد 3/ 128، والبخاري (2803) و (2806) و (4499) و (4500) و (4611) و (6894) ومسلم (1675) من حديث أنس أن الرُّبَيع عمة أنس كسرت ثنية جارية، فطلبوا إلى القوم العفو، فأبوا، فأتو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: القصاص، قال أنس بن النضر: يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنس كتاب الله القصاص، قال: فقال: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة، قال: فرضي القوم، فعفوا وتركوا القصاص، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ".
(3) الآية 14 من سورة طه، وأخرج البخاري (597)، ومسلم (684)، والترمذي (178) وأبو داود (442) والنسائي 2/ 293 و294 من حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من نسي صلاة، فليصل إذا ذكر، لا كفارة لها إلا ذلك " قال قتادة راويه عن أنس: (وأقم الصلاة لذكري) وفي رواية " إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غَفَلَ عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله عز وجل يقول: (وأقم الصلاة لذكري). قال الحافظ في " الفتح " 2/ 72 عن الرواية الثانية: وهذا ظاهر أن الجميع من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدل به على أن شرع من قبلنا شرع لنا، لأن المخاطب بالآية المذكورة موسى عليه الصلاة والسلام، وهو الصحيح في الأصول ما لم يرد ناسخ. وانظر " زاد المسير " 5/ 275.(2/78)
الجائزِ أن يتولَّى أبو هُريرة على القضاءِ، والمصالحِ من الأمرِ بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر، وافتقادِ أمر العامة، فلم ينقل بطريقٍ متواترةٍ ولا آحادية أنه فَعَلَ سائِرَ المحرمات في تلك الوِلاية.
يُوضحه إن ولايته إنما كانت بعد صُلْحِ الحسن عليه السلامُ، أو أن ذلك يُمْكِنُ، وقد روي عن أبي الدرْداء مثل ذلك (1) على إحدى الروايتين في تاريخ وفاته (2) مع الاتِّفاقِ على جلالة أبي الدرداء رضي الله عنه.
وقد تولَّى أكابرُ الصحابةِ المجمعُ على جلالتِهم في أيَّامِ أبي بكرٍ، وعُمُرَ، وعثمانَ رضِيَ اللهُ عنهم، مثلُ سَلمانَ الفارِسي رأسِ الزهاد، وراهب الإسلام رضيَ اللهُ عنه، ومن لا يُحصى كثرةً، ولا فَرْقَ على أصولِ الشيعة بيْنَ الولاية على القضاء، وأمورِ الدين في زمانهم وزمانِ معاوية، وإنما يفترقُ الحالُ عندهم في مَنْ حَارَبَ عليّاً عليه السلامُ، واجترأ على اللهِ في سَفْكِ الدَّم الحَرامِ.
وأما الوِلايةُ على نفس القضاءِ بالحقِّ، والنَّظَر في المصالحِ مع التنزُّهِ من المعاونة على المعاصي، وكراهتِها، وكراهةِ أهلها، فلا فَرْقَ في ذلك بين زمان وزمان، إذا لم تكن الوِلايةُ مأخوذةً عمن له الولاية، ويمكن أن هذه الوِلاية المأخوذة ممن لا وِلايَة له، إنما هِيَ وِلاية لغوية لا شرعية، ومعناها
__________
(1) في (ج): وقد روي مثل ذلك عن أبي الدرداء.
(2) في " السير " 2/ 353: قال الواقدي، وأبو مسهر، وابن نمير: مات أبو الدرداء سنة اثنتين وثلاثين، وعن خالد بن معدان قال: مات سنة إحدى وثلاثين، قال الذهبي: فهذا خطأ، لأن الثوري روى عن الأعمش، عن عُمارة بن عمير، عن حريث بن ظهير، قال: لما جاء نعي -يعني ابن مسعود- إلى أبي الدرداء قال: أما إنَّه لم يخلف بعده مثله، ووفاة عبد الله في سنة 32، وروى إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي عبيد الله الأشعري، قال: مات أبو الدرداء قبل مقتل عثمان -رضي الله عنهما- وفي تاريخ أبي زرعة الدمشقي 1/ 220 و689: مات في خلافة عثمان لسنتين بقيتا من خلافته.(2/79)
أخذ إذنٍ مِن صاحب المملكةِ على القيامِ بعملٍ مِنْ أعمالِ البِرِّ والسعي في أمرٍ مِن أمور الخَيْرِ، وقد تختلِفُ أنظارُ الصالحين، ومقاصِدُ العلماء، وأهل الدين في مثل هذه الأمورِ، وسيأتي لهذا مَزِيدُ بيانٍ في موضع هو أخصُّ به إن شاءَ اللهُ تعالى.
وثانيها: أن يكونَ أخذ الولاية على ذلك مِن الحسن بنِ علي عليهما السَّلامُ، فقد كان عليه السَّلام في ذلك الوقت مقيماً في المدينة، ولم يكن أبو هريرة رَضِيَ الله عنه يَجْهَلُ مكانَ الحسنِ عليهِ السَلامُ، ولا يَعْزُبُ عنه ما يجب له من المحبة والحقوق. وكان الحسنُ عليه السلامُ معروفاً بشدة الشفقة على المسلمين والرفقِ بهم، ولم يكن لِيَتْرُكَ أبا هريرة مستمرّاً على فعلٍ محرم في جواره إن وَجَدَ إلى هِدايته سبيلاً، فمع حِرْص الحسن وأبي هريرة على الخير، ومجاورتِهما كيفَ يُسْتَبْعَدُ أن يكونا قد خاضا في ذلك وعملا فيه وجهاً حسناً، ومحملاً صالحاً، وإن ثبت أنَّه تولَّى شيئاً من ذلك في عصر أمير المؤمنين علي عليه السّلامُ أمكنَ مِثْلُ ذلك، والحملُ على السَّلامَةِ متى أمكن، وجبَ لتحريم العملِ على ظنِّ السُّوءِ (1) بالمسلمين، ووجوب المدافعة له.
فإن قلتَ: هذا خِلافُ الظَّاهِرِ.
قلتُ: ليْسَ لِلأفعالِ ظاهرٌ، وإنما يكونُ الظهورُ في الأقوال، مثاله لو رُوي عن أبي هُرَيْرَةَ أنه قال: إني لم آخُذْ ولايةً من الحسن عليه السلامُ، ثم قلنا بعد ذلك: إن مِن الجائز أن يكونَ أخذ منه ولاية، وذكر ذلك تقيةً، فإن كلامَنَا حينئذٍ يكون خلافاً لِظاهر قوله.
__________
(1) في (ب): على سوء الظن.(2/80)
وثالثُها: أنَّ مجرد الولاية إما أن تكون ظنيةً أو قطعية، إن كانت ظنيةً، فله أن يعملَ فيها بمذهبه، أو بمذهب صحابي مجتهدٍ غيره، ولا اعتراضَ عليه في ذلك، وإن كانت قطعيَّةً فلا شكَّ أنها مما لا يُعْلَمُ كِبْرُهُ، ويكون حكمُ مَنْ فعلها مستحلاًّ متأوِّلاً حكمَ المعتزلة عند الزيدية، وحكمَ غيرهم من العلماء المخالفين في نحو هذا مما لا يقطع الوِلاية، ولا قائل بقدحه في الرواية.
ورابعها: أنَّه قد نُقِلَ عن ابنِ عباس، وعقيل بن أبي طالب رضيَ الله عنهما ما هو قريبٌ من ذلك مما هو معروف في كتبِ التاريخ، ولم يُنْقلْ عن أحدٍ أنُّه تكلم فيهما إلاُّ بما هما أهلُه من التعظيم، والتَّرَحُّمِ، والترضية. والوجهُ عندي في ذلك ما قدمتُه من أن تلك إما مسائلُ ظنية، فكل مجتهد فيها مصيب، أو لها محامِلُ حسنة، لم نعلمْها، أو قطيعةٌ فليست من الكبائر المعلومة التي تنقطِعُ الولاية بارتكابها والله أعلم.
والسيد -أيَّده الله- لم يتعرضْ للكلام في رواية أبي هُريرة، ولا في ولايته رضي الله عنه، ولكن أحببتُ ذكر ذلك خوفاً من الاعتراضِ به، ومحبةً للتقرب إلى الله تعالى، وإلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بذكر هذا الصاحبِ، ونُصرته والقيام بحقه، جعلنا الله تعالى مِن الذين مدحهم في كتابه الكريم بقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
قال: قال -يعني: الغَزَالي-: وتردَّدَ الشافعي في كون الحسنِ البصري مجتهداً، وزعم الغزاليُّ أن أبا حنيفة لم يكن مجتهداً، قال: لِقصوره في اللغة والحديثٍ، أما اللغةُ، فلِقوله: بأبا قُبَيسٍ (1)، وأما الحديثُ، فلأنَّه
__________
(1) في " تأنيب الخطيب " ص 34: ليس المراد بأبي قبيس هنا الجبل المطل على =(2/81)
كان يروي عن المُضَعَّفِينَ، وما ذاك إلاَّ لِقلةِ علمه بالحديث.
أقول: قد شَرَعَ السيدُ -أيَّده الله- يُشَكِّكُ في علم هذين الإمامينِ الكبيرين، والعَلَمَيْنِ الشَّهيرين رضي الله عنهما، وقد استروح السيدُ -أيَّده الله- إلى إسناد ذلك إلى الغزالي، وليس له في ذلك نَفَسٌ، لأنَّه أورده محتجَّاً به، مقرراً له، ولو كان عنده باطلاً، لم يَحْسُنْ منه الاحتجاج بما يعلم أنه باطل، ولوجبَ عليه أن يُشِمَّنَا رائحةَ الاستنكار لذلِك.
والجواب عليهِ -أيَّده الله- أن نقول: لا يخلُو إمَّا أن يُنكر السيدُ صدورَ الفتوى عنهما رضيَ الله عنهما، وينْكِرَ نقلَ الخلف والسلف لمذاهبهما في الفقه وخلافهما في العلم (1)، أو يُقرَّ بذلِكَ. إن أنكره، أنكر الضرورةَ، ولم يكن لمكالمته في ذلك صورة، وإن لم يُنكره، فهو يَدُلُّ على اجتهادِهما.
ولنا في الاستدلال به على ذلك مسالك:
المسلك الأول: أنَّه ثبت بالتواتُرِ فضلُهما وورعُهما وعدالتُهما وأمانتُهما، ولو أفتيا بغيرِ علم وتأهَّلا لذلك، وَلَيْسا لهُ بأهلٍ، لكان جرحاً في عدالتهما، وقدحاً في دِيانتهما، ووصماً في عقلهما ومُروءتهما، لأن تعاطيَ الإنسان لما لا يُحْسِنُه، ودعواه لما لا يعلمه مِن عادات السُّفهاء، ومَنْ لا حياءَ له، ولا مُروءةَ مِن أهل الخِسَّة والدَّناءة، ووجوه مناقبهما مصونةٌ عن ابتذالِها، وتسويدِها بهذه الوَصْمة الشنيعة.
__________
= مكة، فقد روى مسعود بن شيبة في كتاب التعليم عن ابن الجهم، عن الفراء، عن القاسم بن معن أن أبا قبيس اسم خشبة يعلق عليها اللحم، قال أبو سعيد السيرافي: فذلك الذي عناه به أبو حنيفة.
(1) لفظ: " وخلافهما في العلم " زيادة انفردت بهما (ب) وأثبتت في هامش (ش).(2/82)
المسلك الثاني: أنَّ رواية العُلماءِ لمذاهبهما وتدوينَها في كُتُبِ الهداية، وخزائنِ الإِسلام إلى يومنا هذا يَدُلُّ على أنهم قد عرَفُوا اجتهادَهُما، لأنَّه لا يَحِلُّ لهم روايةُ مذاهبهما إلاَّ بعدَ المعرفة لعلمهما (1)، لأن إيهامَ ذلك مِن غير معرفة محرم، لما يتركَّب (2) عليه من الأحكام الشرعية المجمع عليها كانخرامِ الإجماعِ بخلافهما، والمختَلَفِ فيها، كجواز تقليدهما بعدَ موتهما.
المسلك الثالث: أن نقول: الإجماع منعقدٌ على اجتهادهما، فإن خالف في ذلك مخالف، فقد انعقد الإجماعُ بعدَ موته على ذلك، وإنما قلنا به، لأن أقوالَهما متداوَلَة بين العلماء الأعلام، سائرةٌ في مملكة الإسلام من الشرق والغرب واليمن والشام من عصر التابعين مِن سنة خمسين ومئة إلى يومِ الناس هذا، لا يُنْكَرُ على مَنْ يرويها، ولا على من يعتمِدُها، فالمسلمون بينَ عامل عليها، وساكتٍ عن الإنكار على مَنْ يَعْمَلُ عليها، وهذه الطريقة هي أكبرُ ما يثبتُ به الإجماع.
المسلك الرابع: أنا قد قدمنا نصوصَ كثيرٍ من الأئمة العلماء على أن أحد الطرق الدالة على اجتهادِ العالم هي (3) انتصابُه للفتيا، ورجوعُ المسلمين إِليه مِن غير نكيرٍ من العلماء والفُضلاء، نصَّ على ذلك المنصورُ بالله في " الصفوة " وغيره من علماء العِترة، والشيخُ أبو الحسين في " المعتمد " (4)، وغيره من الشيوخ، وهذا في سكوت سائرِ العلماء عن النَّكير على المفتي، فكيف بسكوتِ رُكْن الإسلام، وعصابةٍ الإيمان من نُبلاء
__________
(1) في (ب): بعلمهما.
(2) في (ب): يترتب.
(3) في (ب): هو.
(4) 2/ 363 - 364.(2/83)
التابعين، وسادات المسلمين الذين هُمْ مِن خير القرون بنصِّ سيدِ المرسلين فقد كانا رضيَ اللهُ عنهما معاصِريْنِ لذلك الطراز الأولِ كما ستأتي الإشارةُ إليه إن شاء الله تعالى.
فالعجب كُلُّه من ترجيح السَّيِّدِ لِكلام الغزّالي على غيرِه من علماء العدلِ والتوحيد، بل على ما انطبق عليه إجماعُ المسلمين، ومضى عليه عملُ المؤمنين، وقد قدح السَّيِّدُ في رواية المبتدعة، وكفَّرَ الغزّالي، ونسبه إلى تعمد الكفر، وحرم الروايةَ عنه، وعن أمثالِه، فلما بلغ إلى هذا الموضع، أنساه حُبُّ التعسيرِ للاجتهاد قواعدَه المقررة، وأدلتَه المحررة، فاحتج بكلام من ليس عنده بحجةٍ على ستْرِ ما هو أظهرُ من الشمس مِن علم الحسن، وأبي حنيفة.
وأبو حنيفة هو الإمام الأعظم الذي طَبَّقَ مذهَبُهُ (1) أكثرَ العالم، وفي كلام الزَّمَخْشَرِيّ رحمه الله: وَتَّدَ اللهُ الأرضَ بالأعلامِ المُنيفة، كما وَطَّدَ الحنيفية بعلومِ أبي حنيفة. وفي كلامه رضي الله عنه: الجِلَّةُ الحنفية أزِمَّةُ (2) الملةِ الحنيفية، الجودُ والحِلم حاتمي، أَحْنَفِيّ (3)، والدين والعلم حنيفي وحَنَفِي.
__________
(1) في (ب): علمه.
(2) أزِمَّة: جمع زمام، وهو الخيط الذي يشد في البُرة أو في الخشاش، ثم يشد في طرفه المقود، وقد يسمى المقود زماماً، ومن المجاز: هو زمام قومه، أي: قائدهم ومقدمهم وصاحب أمرهم.
(3) نسبه إلى الأحنف واسمه الضحاك بن قيس التميمي وهو أحد من يضرب بحلمه وسؤدُده المثل، وشهر بالأحنف لحنف رجليه، وهو العوج والميل، وكان سيد بني أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ووفد على عمر، وكان من قواد جيش علي يوم صفين، وشهد بعض فتوحات خراسان في زمن عمر، وعثمان رضي الله عنهما، ومات في إمرة مصعب بن الزبير على العراق. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 4/ 86 - 97.(2/84)
وقد عقد الحاكم (1) رحمه الله فصلاً في فضل أبي حنيفة وعلمِه، وذكر أنَّه حاز ثلاثةَ أرباع العلم، وشارك الناسَ في الرُّبْعِ الآخر، فينبغي من السَّيِّد -أيده الله- مطالعة كتب الرجال، والنظر في تراجم هذين البحرين الزاخرين والإمامين الكبيريِن، فقد أودع العُلَمَاءُ في كتب الرِّجال من مناقبهما ما يشفي العليلَ، وَيرْوِي الغليلَ، بل قد صنف أئمةُ هذا العلمِ كتباً مستقِلَّة مفردة لتعريف فضائلهما، وذكرِ سَعة علومهما، وسائرِ ما فيهما (2) مثل كتاب " شقائِقِ النعمان في مناقب النُّعمان " (3) وكتاب " الزخرف القصري في مناقب الحسن البصري " (4).
ولو كان الإمام أبو حنيفة جاهلاً، ومن حِلْيةِ العلم عاطلاً، ما تطابقت جِبَالُ العلم من الحنفية، وشيوخِ الاعتزال كأبي عليٍّ، وأبي هاشمٍ، ومَن في طبقتهما مِن الأكابر، والقاضي أبي يوسُف، ومحمد بن الحسن الشَّيْباني، والطحاويِّ، وأبي الحسن الكَرْخيِّ، وأبي الحُسين البَصْري والعلامة الزَّمخْشَري وأمثالِهم وأضعافِهم على الاشتغال بمذهبه، والاعتزاءِ (5) إليه، وعدمِ الإنكار على منْ أفتى أو حكم به، فعلماءُ الطائفة الحنفية في الهند، والشَّامِ، ومِصْر، والعِرَاقيْنِ، واليمن، والجزيرة،
__________
(1) هو الحاكم الجشمي شيخ الإمام الزمخشري.
(2) في (ب): مناقبهما.
(3) في " كشف الظنون " (1056) " شقائق النعمان في حقائق النعمان " لأبي القاسم العلامة جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 في مناقب الإمام الأعظم. وقد ألف غير واحد من أهل العلم في مناقب هذا الإمام ذكر معظمها صاحب " معجم المؤلفين " 13/ 104 - 105، وانظر " سير أعلام النبلاء " 6/ 390 - 403.
(4) أورده الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 4/ 563 - 588، وذكرت فيه مصادر ترجمته.
(5) أي: الانتساب إليه، يقال: عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزواً، وعزا واعتزى " وتعزَّى كله: انتسب.(2/85)
والحرمَيْنِ منذ مئةٍ وخمسين مِن الهجرة إلى هذا التاريخِ يزيد على سِتِّ مئة سنة فيهم ألوفٌ لا ينحصِرُون، وعوالم لا يُعَدُّون (1) من أهل العلم والفتوى والورع والتقوى، فكيف نستقرِبُ أنهم تطابَقُوا على الاستناد إلى عامي جاهل لا يعرِفُ أن الباء تجر ما بعدَها، ولا يدري ما يَخْرُجُ من رأسه من حديثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!
وأما ما قُدِحَ به على الإمام أبي حنيفة مِن عدم العِلْمِ بالعربية، فلا شَكَّ أن هذا كلامُ متحاملٍ متنكِّب عن وجوهِ المحامل، وقد كان الإمامُ أبو حنيفة رحمه الله مِن أهلِ اللسان القويمة، واللغة الفَصيحة، فقد أدركَ زمانَ العرب، وعاصرَ جريراً، والفَرَزْدَق، ورأى أنسَ بن مالك خادمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرتين (2)، وقد تُوفِّي أنسٌ رضي الله عنه سنةَ ثلاثٍ وتسعين من الهِجرة، والظاهر أن أبا حنيفة ما رآه في المهد، وإنما رآه بعدَ التمييز، يَدُلُّ عليه أن أبا حنيفة كان مِن المعمَّرِينَ، وتأخرت وفاتُه إلى خمسين ومئة، والظاهر أنه جاوزَ التسعين في العمر والله أعلم. ذكره أبو طالب عليه السلام في كتاب " الأمالي "، وهذا يقتضي أنَّه بلغ الحلْمَ، وأدرك بعدَ موتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقدر الثمانين سنة، لأنَّه عليه السلام مات وقد مضى عشر من الهجرة، فهذا يدُلُّ على تقدم أبي حنيفة، وإدراكه زمانَ العرب، وهو أقدمُ الأئمة وأكبرهُم سنّاً، فهذا مالك على تقدُّمه توفي بعدَه بنحو ثلاثين سنة. ولا شكَّ أن تغير اللسانِ في ذلك الزمانِ كان يسيراً، وأنه لم يشتغِلْ ذلك الزمانَ بعلم الأدبِ أحدٌ من
__________
(1) في (ج): " لا يعتدون ".
(2) قال الذهبي في " السير " 6/ 391: ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة، ورأى أنس بن مالك لما قدم عليهم الكوفة، ولم يثبت له حرف عن أحد منهم. وقال في آخر الترجمة: توفي شهيداً مسقياً في سنة خمسين ومئة، وله سبعون سنة.
وقول أبي طالب -الذي نقله عنه ابن الوزير-: والظاهر أنَّه جاوز التسعين في العمر - غير ظاهر.(2/86)
أفاضِلِ المسلمين كما حقَّقَ ذلك أبو السعادات ابنُ الأثير في ديباجة كتاب " النهاية " وكما لا يَخْفي ذلك على من له أُنْس بِعِلْمِ التاريخ. فلو أوجبنا قِرَاءةَ العربيةِ على أبي حنيفة، لزم أن لا يُحْتَجَّ بشعر جريرٍ والفَرَزْدق، ولا شكَّ أن العناية بالعربية كانت قليلةً في ذلك الزمانِ مِن علماء التابعين، وإنما اشتدت عنايةُ أهلِ العلم به بعدَ ظهور الاختلالِ الكثير، وقد قال الأمير الحسين بن محمد رضي الله عنه بأغربَ من هذا، قال: إن الهادي يحيى بن الحسين عليه السلام عربيٌّ اللسان، حجازيُّ اللهجةِ من غيرِ قراءة، مع أنَّه عليه السلامُ توفي قريباً مِن رأس ثلاث مئة، فأما سنة ثمانين من الهجرة، فليس أحد من أهل المعرفة والتمييز يعتقِدُ أن أحداً من التابعين في ذلك الزمان قرأ كتاباً في النحو، ولا وَقفَ بينَ يدي شيخ كعلقَمة بنِ قَيْس، وأبي مسلم الخَوْلاني، ومسروقٍ، والأجْدعِ، وجُبيرِ بن نُفَيْرٍ، وكَعْب الأحبار ولا مَنْ بَعْدَ هؤلاء من التابعين كالحسنِ، وأبي الشَّعْثَاءِ، وزينِ العابدين، وإبراهيم التَّيْمي، والنَّخعي، وسعيدِ بنِ جبير، وطاووس وعطاء، ومجاهد، والشعبي، وأضرابِهم، فما خُصَّ أبو حنيفة بوجوب تعلُّم العربية، وفي أيِّ المصنفات يقرأ في ذلك الزمان.
وأما قوله: بأبا قُبَيْسٍ، فالجوابُ عنه من وجوه:
الأول: إن هذا يحتاجُ إلى طريق صحيحة، والسَّيِّدُ قد شدَّد علينا في نسبة الصِّحاحِ إلى أهلها، مع اشتهارِ سماعها والمحافظة على ضبطها، فكيف بهذه الرواية!!.
الثاني: أنَّه إن ثَبَتَ بطريقٍ صحيحة، فإنه لمُ يَشْتَهِر ولم يَصِحَّ كصِحة الفتيا عنه، وتواترِ علمه، وليس يُقْدَحُ في المعلومِ بالمظنون (1).
__________
(1) في (ج): المظنون.(2/87)
الثالث: أنا لو قدرنا أن ذلك صحَّ عنه بطريقٍ معلومة لم يَقْدَح به، لأنه ليس بلحنٍ، بل هو لغةٌ صحيحة حكاها الفَرّاء عن بعض العرب، وأنشد:
إنَّ أبَاهَا وأبا أبَاهَا ... قَدْ بلغا في المَجْدِ غَايَتَاهَا (1)
الرابع: سَلَّمنا أن هذا لحنٌ لا وجه له، فإن كثيراً ممن يعرِف العربية قد يتعمد اللحن، وقد يتكلم العربي بالعجمية، ولا يقدح هذا في عربيته، وهذا مشهور.
وأما قدحُه عليه بالرواية عن المُضَعَّفِينَ، وقوله: إن ذلك ليس إلاَّ لقلة معرفته بالحديث، فهو وهمٌ فاحِشٌ، ولا يتكلم بهذا منصفٌ، والجوابُ عن ذلك يتبيَّن بذكرِ محامل:
المحمل الأول: أنَّه قد عُلِمَ من مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يقبل المجهولَ (2)، وإلى ذلك ذهب كثيرٌ من العلماء كما قدمناه، ولا شكُّ
__________
(1) نسبه العيني في " الشواهد الكبرى " 1/ 133، والسيوطي في " شرح شواهد المغني " 1/ 128 إلى أبي النجم نقلاً عن الجوهري، وليس يوجد في " صحاحه " ويقال: هو لرؤبة بن العجاج، وليس في ديوانه، وهو غيرُ منسوب في " شرح المفصل " 1/ 53، و" المغني " 1/ 38، و" خزانة الأدب " 3/ 337، و" أوضح المسالك " 1/ 33، وابن عقيل 1/ 51. وإجراء الأسماء الستة مجرى الاسم المقصور في تقدير الحركات الثلاث هو لغة بني الحارث، وفي " صحيح البخاري " (3963) من حديث أنس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: من ينظر ما فعل أبو جهل؟ فانطلق ابن مسعود، فوجده قد ضربه ابنا عفراء حتى برد، فأخذ بلحيته، فقال: أنت أبا جهل؟ قال الحافظ في " الفتح " 7/ 295: كذا للأكثر، وللمستملي وحده " أنت أبو جهل " والأول هو المعتمد في حديث أنس هذا، فقد صرح إسماعيل بن علية، عن سليمان التيمي بأنه هكذا نطق بها أنس .... وقد وجهت الرواية المذكورة بالحمل على لغة من يثبت الألف في الأسماء الستة في كل حالة.
(2) أي مجهول الحال من العدالة والفسق، قال العارفون بأصول فقه أبي حنيفة: هذا القول في غير رواية الظاهر، وإن ظاهر المذهب عدم قبول روايته كمذهب الجمهور.
انظر " فواتح الرحموت " 2/ 146 - 147، و" سلم الوصول " 3/ 138 - 139.(2/88)
أنَّهم إنما يقبلونه حيثُ لا يُعارِضُه حديث الثقةِ المعلومِ العدالة، ولكنهم يَرَوْن قبولَ حديثه، حيث لا يُوجَدُ له معارِضٌ أقوى منه، ولا شَكَّ أن الغالبَ على أهل الإسلام في ذلك الزمان العدالة، ويشهد لذلك الحديثُ الثابتُ المشهور " خَيْرُكُمُ القَرْن الَّذي أَنَا فِيهم، ثُمَّ الَّذِيْنَ يَلُونهُمْ، ثُمَّ الَّذِيْنَ يلُونهُم، ثُمَّ يَفْشُو الكذبُ مِنْ بَعْدُ " (1) وقد تقدم. وقد كان علي عليه السلامُ يستحلِف بعضُ الرُّواةِ، فإذا حَلَفَ له، قبلَهُ (2). وهذا إنما يكونُ في حديثٍ منْ فيهِ لينٌ، ولهذا لم يسْتَحْلِفِ المِقْدَادَ لمَّا أخبره بحُكْمِ المَذْي (3)، وقد روى الحافظُ ابنُ كثير في جزء جمعه في أحاديث السباق عن أحمد بن حَنْبل إنَّه كان يقول بالعمل بالحديث الضعيف إذا لم يكن في الباب أصحُّ منه (4)، وذلك على سبيل الاحتياط، لا على سبيلِ
__________
(1) تقدم تخربجه في الجزء الأول ص 183 - 183 و377.
(2) تقدم تخريجه أيضاً في الجزء الأول صفحة 284.
(3) أخرجه البخاري (132) و (178) و (269)، ومسلم (303) عن علي، قال: كنت رجلاً مذُاء، فأمرت المقداد أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأله، فقال: فيه الوضوء. وفي رواية: فقال: " توضأ واغسل ذكرك " وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان " (1109) بتحقيقنا.
(4) في مُسَوَّدة آل تيمية ص 273: فصل: ذكر القاضي كلام أحمد في الحديث الضعيف والأخذ به، ونقل الأثرم " قال: رأيت أبا عبد الله إن كان الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إسناده شيء يأخذ به إذا لم يجيء خلافه أثبت منه، مثل حديث عمرو بن شعيب وإبراهيم الهجري، وربما أخذ بالمرسل إذا لم يجيء خلافه، وتكلم عليه ابن عقيل. وقال النوفلي: سمعت أحمد يقول: إذا روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال وما لا يرفع حكماً، فلا نصعب.
قال القاضي: قد أطلق أحمد القول بالأخذ بالحديث الضعيف، فقال مهنا: قال أحمد: الناس كلهم أكفاء إلا الحائك والحجام والكسّاح، فقيل له: تأخذ بحديث " كل الناس أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً. وأنت تضعفه؟! فقال: إنما نضعف إسناده، ولكن العمل عليه، وكذلك قال في رواية ابن مُشيش وقد سأله عمن تحل له الصدقة، وإلى أي شيء تذهب في هذا؟ فقال: إلى حديث حكيم بن جبير، فقلت: وحكيم بن جبير ثبت عندك [في الحديث]؟ قال: ليس هو عندي ثبتاً في الحديث، وكذلك قال مهنا: سألت أحمد عن حديث معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن غيلان أسلم وعنده عشر نسوة، قال: ليس بصحيح، والعمل عليه، كان عبد الرزاق، يقول: معمر، عن الزهري مرسلاً، قال =(2/89)
الإيجاب، ولا على سبيلِ الجهل بضعفِ الحديث.
قال الحافظ أبو عبد الله بن مَنْدة: إن أبا داود يُخْرِج الإِسناد الضعيفَ إذا لم يَجِدْ في الباب غيره، لأنَّه عنده أقوى مِن رأي الرجال. انتهى.
وفي هذا شهادةٌ واضحة أن روايةَ الحديثِ الضعيف لَيْسَتْ مِن قبيل الجهلِ بضعفِ الحديث (1). فأحمدُ، وأبو داود من جِلَّة علماء الأثر بلا مدافعةٍ (2)، وهذا الحديثُ الضعيفُ الذي ذكروه ليسَ حديثَ الكذابين،
__________
= القاضي: معنى قول أحممد: " هو ضعيف " على طريقة أصحاب الحديث، لأنهم يضعفون بما لا يوجب التضعيف عند الفقهاء كالإرسال والتدليس والتفرد بزيادة في حديث لم يروها الجماعة، وهذا موجود في كتبهم: تفرد به فلان وحده، فقوله: " هو ضعيف " على هذا الوجه، وقوله: " والعمل عليه " معناه على طريقة الفقهاء، قال: وقد ذكر أحمد جماعة ممن يروي عنه مع ضعفه، فقال في رواية إسحاق بن إبراهيم: قد يحتاج أن يحدث الرجل عن الضعيف مثل عمرو بن مرزوق، وعمرو بن حكام، ومحمد بن معاوية [وعلي] بن الجعد، وإسحاق بن أبي [إسرائيل] ولا يعجبني أن يحدث عن بعضهم، وقال في رواية ابن القاسم في ابن لهيعة: ما كان حديثه بذاك، وما أكتب حديثه إلا للاعتبار والاستدلال، أنا قد أكتب حديث الرجل كأني استدل به مع حديث غيره يشُدُّه، لا أنَّه حجة إذا انفرد، وقال في رواية المروزي: كنت لا أكتب حديثه -يعني جابراً الجعفي- ثم كتبته أعتبر به، وقال له مهنا: لم تكتب عن أبي بكر بن أبي مريم وهو ضعيف؟ قال: أعرفه، قال القاضي: والوجه في الرواية عن الضعيف أن فيه فائدة وهو أن يكون الحديث قد روي من طريق صحيح فتكون رواية الضعيف ترجيحاً، أو ينفرد الضعيف بالرواية فيعلم ضعفه، لأنَّه لم يُرْوَ إلا من طريقه فلا يقبل.
قال شيخنا: قلت: قوله: " كأني أستدل به مع حديث غيره لا أنَّه حجة إذا انفرد " يفيد شيئين أحدهما: أنَّه جزء حجة، لا حجة، فإذا انضم إليه الحديث الآخر صار حجة وإن لم يكن واحدٌ منهما حجة فضعيفان قد يقومان مقام قوي. الثاني أنَّه لا يحتج بمثل هذا منفرداً، وهذا يقتضي أنَّه لا يحتج بالضعيف المنفرد، فإما أن يريد به نفي الاحتجاج مطلقاًً، أو إذا لم يوجد أثبت منه، وكلام القاضي وهو أبو يعلى محمد بن الحسين الفراء البغدادي الحنبلي المتوفى سنة 458 هـ منقول بنصه مع تغيير طفيف من كتابه " العدة في أصول الفقه " 3/ 938 - 944 بتحقيق الأستاذ الفاضل د. أحمد بن علي سير المباركي.
(1) في (ب) الجهل بالحديث.
(2) انظر " إعلام الموقعين " 1/ 31.(2/90)
ولا حديثَ أهلِ الكبائر، فذلك لا يستحقُّ اسمَ الضَّعْف (1)، إنما يُقال فيه: إنَّه باطل أو موضوع أو نحو (2) ذلك، وإنما الضعيفُ ما في حِفظ راويه شيء مما ينجبرُ بالشَّواهد والمتابعات على ما هو مقرَّرٌ في علوم الحديثِ، وعامةُ التضعيف إنما يكون بقلَّةِ الحفظ، وكثرة الوهم وللمحدِّثين في ذلِكَ تشديد كثير لا يُوَافقُونَ عليه، فإن المعتبرَ عند الأصوليين أن يكون وَهْمُ الراوي أكثر من إصابته على قولٍ، واختاره المنصورُ بالله عليه السلامُ، وعبدُ اللهِ بن زيد رحمه الله، أو يكون مساوياً على قول الأكثرين، وأما إذا كان وهمه أقل، فإنه يجب قبولُه عند الأصوليين، وليس كذلك مذهبُ المحدثين، فإنهم يَقْدَحُون بالوهم في قدر عشرين حديثاً مع الإصابة في مئتي حديث أو أكثر، بل منهم من يغلُو ويُشدِّدُ، فيقدح في مَنْ وَهِمَ في قدر العشرة الأحاديث مع الإصابة في ألوفٍ من الأحاديث، ولقد أخطأ بعضُ الثقات في حديث واحدٍ، فقال له شعبة: إنْ سمعْتُكَ تروي مثل هذا مرةً ثانية، تركتُ حديثك ونحو ذلك، فهذا هو أكثَرُ الحديثِ الضعيفِ، وهذا وأمثالُه مِنْ أسباب التضعيفِ لا يَقْدَحُ عند الأصوليين، والمسألة مبيَّنَةٌ في كتب علوم الحديث. فعلى هذا الوجه تكون روايةُ أبي حنيفة عن الضعفاء مذهباً واختياراً، لا جهلاً وجِزافاً.
المحمل الثاني: أن يكون ضعفُ أولئك الرُّواة الذين يروي عنهم مختلَفاً فيه، وهو يعلم وجه التضعيفِ، وحجةَ المضعِّف، ويكونُ مذهبُه أن ذلك لا يقتضي الضعفَ، وقد جرى ذلك لِغيره من العُلماء والحفاظ، فهذان قُطبا علوم الزيدية الهادي، والقاسم عليهما السلامُ يرويانِ عن
__________
(1) في (ب): الضعيف.
(2) في (ج) ونحو.(2/91)
إسماعيل بن أبي أُوَيْس (1) وهو مختلَفٌ فيه، وذلك محمولٌ على أنهما اختارا ما اختاره الجماهيرُ من توثيقه، وكذلك الشافعيُّ يروي عن إبراهيم ابن محمد بن أبي يحيى الأسلمي وُيوثقه، وقد خالفه الأكثرون في ذلك، وقال ابنُ عَبْدِ البر في " تمهيده ": أجمعوا على تجريح ابن أبي يحيى (2).
قلت: أما الإجماعُ على تجريحه، فلا، فقد وافق الشافعيُّ على توثيقه أربعةٌ من الحفاظ، وهم ابنُ جُريجٍ، وحمدانُ بن محمد الأصبَهاني، وابنُ عدي، وابنُ عقدة الحافظ الكبير، ولكن تضعيفَه قولُ الجماهير بلا مِرية (3).
وكذلك روى الشافعيُّ عن أبي خالد الزَّنْجي (4) المكي، وهو
__________
(1) هو إسماعيل بن عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي أبو عبد الله بن أبي أويس المدني حليف بني تميم بن مرة وهو أخو أبي بكر عبد الحميد بن أبي أويس، وابن أخت مالك بن أنس الإمام.
قال الحافظ في " مقدمة الفتح " ص 391: احتج به الشيخان إلا أنهما لم يكثرا من تخريج أحاديثه، ولا أخرج له البخاري مما تفرد به سوى حديثين، وأما مسلم، فأخرج له أقل مما أخرج له البخاري، وروى له الباقون سوى النسائي، فإنه أطلق القول بضعفه، وروى عن سلمة بن شبيب ما يوجب طرح روايته، واختلف فيه قول ابن معين، فقال مرة: لا بأس به، وقال مرة: ضعيف، وقال مرة: كان يسرق الحديث هو وأبوه، وقال أبو حاتم: محله الصدق، وكان مغفلاً، وقال أحمد بن حنبل: لا بأس به، وقال الدارقطني: لا أختاره في الصحيح.
قلت: (القائل الحافظ ابن حجر): وروينا في مناقب البخاري بسند صحيح أن إسماعيل أخرج له أصوله، وأذن له أن ينتقي منها، وأن يعلم له على ما يحدث به ليحدث به ويعرض عما سواه. وهو مشعر بأن ما أخرج البخاري عنه هو من صحيح حديثه، لأنَّه كتب من أصوله، وعلى هذا لا يحتج بشيء من حديثه غير ما في الصحيح من أجل ما قدح فيه النسائي وغيره، إلا إن شاركه فيه غيره فيعتبر به.
وانظر " تهذيب الكمال " للمزي 3/ 124 - 129 نشر مؤسسة الرسالة.
(2) وقال الحافظ في " التقريب ": متروك.
(3) انظر " تهذيب الكمال " 2/ 184 - 191.
(4) هو مسلم بن خالد المخزومي مولاهم المكي، قال ابن حجر: فقيه صدوق كثير =(2/92)
مختلَف في توثيقه، وكذلك أحمدُ بن حَنْبل يروي عن عامر بن صالح بن عبد الله بن عُروة بن الزُّبيرِ بن العَوَّام (1)، وانفرد بتوثيقه حتى قال أبو داود: سمعتُ يحيى بن معين يقول: جُنَّ أحمدُ، يُحدِّث عن عامرِ بنِ صالح! وقال الذهبي: لعل أحمدَ ما روى عن أوهى منه، وإنما روى عنه أحمدُ، لأنه لم يكن عنده يكْذِبُ، وكان عالماً بالفقه والعلم والحديث والنسب وأيامِ العرب، وقال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً.
وكذلك أهلُ الصَّحاح يروون عمن هو مختلَفٌ فيه، وهذا شيء مشهور، وقد ذكر أهلُ العلم أولئك الضعفاءَ المختلَفَ فيهم، واستقصَوْا الكلامَ فيهم، واستوعبوا حُجَجَ الفريقينِ بما إذا نظر فيه الطالبُ، لاح له وجهُ الصواب، وتمكَّن من الترجيح والاختيار (2).
المحمل الثالث. أن يكونَ إنما روى عن أولئك، وذكر حديثَهم على سبيلِ المتابعة والاستشهاد، وقد اعتمد على غيرِ حديثهم من عمومٍ أو حديثٍ أو قياسٍ أو استدلالٍ، أو عملٍ بالإباحة الأصلية مثل ما صنع الهادي والقاسم عليهما السلامُ في الاحتجاج بحديث ابن أبي ضميرة (3)،
__________
= الأوهام من الثامنة مات سنة (179) أو بعدها.
(1) القرشي الأسدي الزبيري أبو الحارث المدني. قال الحافظ في " التقريب ": متروك الحديث، أفرط فيه ابن معين فكذبه، وكان عالماً بالأخبار من الثالثة، لم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير الترمذي.
(2) ينظر في هذا مقدمة " فتح الباري " ورسالة الإمام الذهبي " من تكلم فيه وهو موثق ".
(3) في (أ) و (ج): ضمرة وهو تحريف، وقد ترجمه الإمام الذهبي في " الميزان " 1/ 538، فقال: الحسين بن عبد الله بن ضميرة بن أبي ضميرة سعيد الحميري المدني، روى عن أبيه، وعنه زيد بن الحباب وغيره. كذبه مالك، وقال أبو حاتم: متروك الحديث كذاب، وقال أحمد: لا يساوي شيئاً، وقال ابن معين: ليس بثقة ولا مأمون، وقال البخاري: منكر الحديث ضعيف، وقال أبو زرعة: ليس بشيء. اضرب على حديثه. =(2/93)
وأبي هارون العبدي (1). وأهلُ الرواية مجمعون على تجريحهما.
وكذلك مالك، فإنه روى عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري، قال ابنُ عبد البر المالكي المجتهد في " تمهيده ": كان مجمعاً على تجريحه، ولم يرو عنه مالك إلاَّ حديثاً واحداً في وضع الأكف على الأكف (2)
__________
= وانظر " تاريخ البخاري " 2/ 388 - 389، و" المجروحين " 1/ 244، و" الجرح والتعديل " 3/ 57 - 58.
(1) هو عُمارة بن جوين العبدي، أخرج له الترمذي وابن ماجة، قال الإمام الذهبي في " الميزان " 3/ 173: تابعىِ لين بمرة، كذبه حماد بن زيد، وقال شعبة: لأن أقدم فتضرب عنقي أحبُّ إلي من أن أحدث عن أبي هارون، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال ابن معين: ضعيف لا يصدق في حديثه، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: متلون خارجي وشيعي، فيعتبر بما روى عنه الثوري، وقال ابن حبان: كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه، وروى معاوية بن صالح عن يحيى: ضعيف.
(2) في (ب): الكف على الكف. وخبره في " الموطأ " 1/ 158 رقم (46) ونصه: يحيى عن مالك، عن عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أنَّه قال: من كلام النبوة: " إذا لم تستحي فافعل ما شئت " ووضع اليدين إحداهما على الأخرى في الصلاة (يضع اليمنى على اليسرى) وتعجيل الفطر، والاستيناءُ بالسحور.
قال ابن عبد البر في " التمهيد ": عبد الكريم بن أبي المخارق ضعيف متروك باتفاق أهل الحديث، لقيه مالك بمكة، وكان مؤدب كتاب، حسن السمت، فغره سمته، ولم يكن من أهل بلده، فيعرفه، فروى عنه من المرفوع في " الموطأ " هذا الحديث الواحد، فيه ثلاثة أحاديث مرسلة تتصل من غير روايته من وجوه صحاح، ولم يرو عنه حكماً إنما روى عنه ترغيباً وفضلاً. قلت: فحديث " إذا لم تستحي فاصنع ما شئت " رواه البخاري (6120) من طريق منصور عن ربعي بن حراش، عن أبي مسعود البدري. وحديث وضع اليمنى على اليسرى ... ، رواه مالك والبخاري من طرق أبي حازم بن دينار، عن سهل بن سعد، وحديث تعجيل الفطر ... أخرجه الطبراني في " الكبير " (11485) وابن حبان (885) من طريق ابن وهب، عن عمرو بن أبي الحارث سمع عطاء بن أبي رباح يحدث عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سحورنا، ونعجل فطورنا، وأن نمسك أيماننا على شمائلنا في صلاتنا " وإسناده صحيح على شرط مسلم، وعزاه السيوطي في " تنوير الحوالك " 1/ 174 إلى الطبراني وصحح إسناده، وقال: ورجاله رجال الصحيح، ونسبه الهيثمي في " المجمع " 2/ 105 و3/ 155 إلى الطبراني في " الكبير " و" الأوسط ".(2/94)
وقد رواه من طريق صحيحة، فرواه في " الموطأ " (1) عن أبي حازم التابعي الجليل، عن سهل بن سعد الصحابي رضي الله عنه.
وقد أخرج مسلم في " الصحيح " عن جماعة من الضعفاء المتوسطين على جِهَةِ المتابَعَةِ والاعتبار (2)، وربما اكتفى بالإِسناد إليهم إذا كان إسنادُهم عالياً، وكان الحديثُ معروفاً عند علماء الأثرِ بإسنادٍ نازلٍ من طريق الثقات، روى ذلك النَّواوي عن مسلم تنصيصاً (3).
المحمل الرابع: أن يكونَ ذلك على طريقه الحُفَّاظِ الكبارِ من أئمة الأثر، فإنهم يحفظونَ الحديثَ الصحيحَ والضعيفَ لأجلِ التبيين والتحذيرِ من العمل بالضعيف، وذلك مشهورٌ عنهم.
وفي الرواية المشهورة عن البُخاري أنَّه قال: أَحْفَظُ ثلاثَ مئة ألفٍ حديث، منها مئةُ ألفٍ صحاح، ومنها مائتا ألف غير صحاح.
وقال إسحاق بنُ راهَويه: أحفظ مكانَ مئةِ ألف حديثٍ كأنِّي أنْظُرُ إليها، وأحفظُ سبعينَ ألفَ حديث صحيحة عن ظهر قلبي، وأحفظُ أربعةَ
__________
(1) 1/ 159 رقم (47)، قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة. قال أبو حازم: لا أعلم إلا أنَّه ينمي ذلك. أي: يرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأخرجه البخاري في " صحيحه " برقم (740) في الأذان: باب وضع اليمنى على اليسرى من طريق القعنبي، عن مالك به.
(2) الاعتبار: هو تتبع طرق الحديث في الجوامع والمسانيد والأجزاء حتى يعلم هل له متابع أو لا؟. قال المؤلف رحمه الله في " تنقيح الأنظار " 2/ 13 في بيان الاعتبار والمتابع والشاهد: هذه ألفاظ يتداولها أهل الحديث بينهم، فالاعتبار أن يأتي المحدث إلى حديث لبعض الرُّواة، فيعتبره بروايات غيره من الرواة بسبره طرق الحديث ليعرف هل يشاركه في ذلك الحديث راوٍ غيره، فرواه عن شيخه، فإذا لم يجد فعن شيخ شيخه إلى الصحابي، فإن وجد من رواه عن أحد منهم، فهو تابع، وإن لم يجد، نظر: هل رواه أو معناه أحد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير طريق ذلك الصحابي، فإن وجدت، فهو شاهد.
(3) انظر " شرح مسلم " 1/ 24 - 25.(2/95)
آلافِ حديث مُزَوَّرَة، فقيل له في ذلك، فقال: لأجلِ إذا مَرَّ بي حديثٌ في الأحاديث الصحيحة منها (1) فليتُه فلياً.
إذا عرفتَ هذا، فلا ريبَ أن الإمام أبا حنيفة كان أضعف الأئمة حديثاًً (2)، وذلك لأمرينِ أحدُهما: قبولُه المجهول، وثانيهما: كِبَرُ سِنِّهِ فإنه ما طلب العلم إلا بعدَ أن شاب وأسن، وقد كان الحافظ المشهور بالعناية في هذا الشأن إذا شاخ وأسنَّ، تناقص حفظه، وقلَّّ ضبطُه، فكيف ممن لم يَطْلُبِ العلمَ إلَّا بعد (3) مجاوزةِ حدِّ الكهولة، وهذا نقصانٌ عن مرتبة الكمالِ لا سقوطٌ إلى مراتبِ الجهال، ولا نكارةَ في ذلك، وما زال النَّاسُ متفاضِلِينَ في الحفظ والإتقان.
وقد كان حديثُ الشافعي دونَ حديث مالكٍ في الصحة، ورأيُ الشافعي فوقَ رأيِ مالكٍ في القوة.
وقد كان حديثُ ابن المسيِّبِ، ومحمد بن سِيرين، وإبراهيم النَّخَعِي أصحَّ وأقوى من حديثِ عطاء، والحسن، وأبي قِلابة، وأبي العالية، وكان ابن المُسيِّب أصحَّ الجماعةِ حديثاًً من غير قدح في عِلْمِ مَنْ هو دُونَه.
وليس الحفظُ على انفراده يكفي في التفضيل، فقد كان أبو هريرة رضي الله عنه أحفظَ الصحابة على الإِطلاق، وليس يقال: إنَّه أفقههم على الإِطلاق، والمناقبُ مواهبُ يَهَبُ اللهُ منها ما شاء لمن شاء، فبهذه الجملةِ تبين لك أنه لا حُجَّةَ على تجهيل هذا الإِمام الكبيرِ الشأنِ بروايته عن بعض الضعفاء، ولا بقوله: " بأبا قبيس ".
__________
(1) لفظ " منها " من (ب) و (ش).
(2) انظر ما كتبه اللكنوي في " التعليق الممجد " ص 30 - 34، فإنه نفيس.
(3) لفظ " بعد " من (ب).(2/96)
والعجب أن السَّيِّدَ -أيَّدَه الله- مستمرٌّ على رواية الخلاف عن الحسن، وأبي حنيفة، فإن كان لا يعتقِدُ اجتهادَهما، فذلك لا يَحِلُّ مِن غير بيان، وإن كان يعتقدُ اجتهادهما، وإنما إراد أن يُوَعِّرَ مسالِك العِلْمِ، ويُشكِّكَ فيه على مَنْ أراد الاجتهاد، فهذا لا يليق بأهلِ الورع والدِّيانة، ولا يَصْلُحُ من أرباب التقوى والأمانة.
قال: وقال الرَازي: إن لم نَقُلْ بجوازِ تقليدِ الميت، أشكل الأمر، لأنه ليس في زمانِنَا مجتهد، فأخرج نفسه عن رتبة الاجتهاد، وذكروا أن الغزَّاليَّ لم يبلغ مرتبةَ الاجتهاد، وممن ذكر ذلك ابنُ خَلِّكَانَ في " تاريخه " وغيرُه.
أقول: كلامُ السَّيِّدِ هذا يشتملُ على الاستدلال على صعوبةِ الاجتهاد بعدم اجتهاد الرّازي والغَزّالي.
والجوابُ عليه من وجوه:
الألول: إلزامُ السَّيِّدِ ما يقتضيه كلامُه، وذلك إنهما عنده لم يبلغا مرتبة الإسلام فضلاً عن مرتبة الاجتهاد، فإن كان يُريد أن يُجَهِّل سائرَ علماء المسلمين قياساً على تجهيلهما، لزمه أيضاًً أن يُكفِّرَ سائِرَ علماءِ المسلمين قياساً على تكفيرهما، وإن كان يقولُ: إنَّه لا يلزم مِن كفرهما أن يكون غيرهُما كافراً، قلنا: وكذلك لا يلزمُ مِن جهلهما أن يكونَ غيرهُما جاهلاً.
الثاني: أنَّه لا ملازمةَ بين دعواهما، لعدم الاجتهاد، وتعسُّرِ الاجتهاد، لأنَّه لا مانع (1) أن يدَّعِيَا جهلَ أدِلَّةِ الأحكام الشرعيةِ مع
__________
(1) في (أ) و (ج) و (ش) يجوز.(2/97)
معرفتهما لها، كما أنَّهما عند السَّيِّد ادَّعيا جهلَ أدلة الإسلامِ الجلية مع معرفتهما لها، وذلك لأنهما عندَ السَّيِّد من أهل العِناد، وتعمدِ الباطل، فلا يُصدَّقان فيما قالاه، فربما قالا ذلك لِغرضٍ دنيوي، ومَقْصِدٍ غيرِ صالح على اعتقاد السَّيِّد فيهما.
الثالث: إن السيدَ ذكر في كتابه أنهما غيرُ محققين، ولا مُوَفَّقَيْنِ بهذا اللفظ، ثم احتج على تعسُّرِ الاجتهاد بجهلهما، وليس يحتج على تعسُّرِ العِلْمِ بجهلِ مَنْ لَيْسَ بموفَّقٍ، ولا محقق، لأنَّه يجوزُ أنه إنما لم يجتهِدْ لعدمِ تحقيقه، وقِلَّةِ توفيقه، لا لِتعسُّرِ الاجتهاد في نفسه، كما أن قليلَ التوفيق ربما تركَ الصلاةَ، وأخلَّ بالواجبات، لقلة توفيقه، لا لمشقة ما شرعه الله سبحانَه لعباده.
الرابع: وهو التحقيق -: وهو أن نقول: لا ريبَ عند كُلِّ منصفٍ ممن له معرفةٌ بتصانيفِ هذين الرجلين، وذوقٌ في معرفةِ العلوم، ودِرْيَةٌ في أساليبِ الخصومِ أنهما مِن أهلِ التمكن من الاجتهاد، والقُدرةِ على التبحُّرِ في العلوم، ومن وقف على كلاماتِهما في مصنفاتهما في الأصولِ والمنطق، ورأى غوصَهما على خفيَّاتِ المعاني لا سيما ابن الخطيب الرازي في " نهاية العقول " و" الملخص "، و" المحصل "، و" المحصول "، (1)، و" شرح إشارات ابن سينا " في علم المنطق، وتفسيره المسمى بـ " مفاتح الغيب " (2) وسائر مصنفاتهما. ثم غلب على
__________
(1) هو في أصول الفقه، وقد نشرته لأول مرة لجنة البحوث والتأليف والترجمة والنشر في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في ستة أجزاء كبار بتحقيق الدكتور طه جابر فياض العلواني.
(2) ويقع في ثماني مجلدات كبار، وهو مطبوع، ومتداول بين أهل العلم، ولكنه رحمه الله لم يتمه فيما قاله ابن خلكان 4/ 249، وابن قاضي شهبة 2/ 83، ويقول ابن حجر في =(2/98)
ظنه أنهما كان يَعجِزَانِ عن معرفة حكم الماءِ إذا تغيَّر بالزعفرانِ، هل يكونُ طاهراً مطهراً أو يكون طاهراً غير مطهر، وهل الدم والقيء من نواقض الوضوء، أو ليسا مِن نواقضه؟ وهل يجبُ استقبالُ عينِ الكعبة، أو يجبُ استقبال الجِهَةِ؟ وهل الاعتدالُ بعدَ الركوع والسجود واجبٌ أو مسنون؟ وهل القصرُ في السفر واجب أو رخصة؟ ونحو ذلك من المسائل الفروعية، أو أنهما كانا لا يعرفانِ كيفيةَ الترجيح عند تعارضِ الأدِلَّةِ، ونحو ذلك من المسائل الأصولية، فهو بَهيمِيُّ الفَهْمِ بلا شك.
وإذا كان الاجتهادُ متعسِّراً على صاحبِ " الملخص "، و" المحصل " و" المحصول " الذي يتلبَّد في فهم معانيه (1) كثيرٌ من كُبرَاء علمِ المعقول، فكيف يسهل الاجتهادُ لأبي بكر، وعمر، وعثمانَ بن عفان، وعثمان بن مظعون، والمقدادِ، وجابرِ بنِ سَمُرة، وعائشة، وأمثالهم ممن نقِلَتْ عنه الفُتيا من الصحابة الذين لم يرتاضوا على النظرِ، ولا تدرَّبوا في ترتيب الأدلة، وتمهيد القواعد، وتهذيبِ الكلام في شرائط القياس، وكيفيةِ الاستدلال؟
ومن نظر إلى كلامِ كثيرٍ من الصحابة في القياس في مسائل
__________
= الدرر الكامنة " 1/ 304: أن الذي أكمل تفسير فخر الدين الرازي هو أحمد بن محمد بن أبي الحزم مكي نجم الدين المخزومي القمولي مات سنة 727 هـ. وبقول صاحب " كشف الظنون " 1756: وصنف الشيخ نجم الدين أحمد بن محمد القمولي تكملة له وتوفي سنة 727 هـ، وقاضي القضاة شهاب الدين بن خليل الخويي الدمشقي كمل ما نقص منه أيضاً وتوفي سنة 639 هـ.
ويقول الدكتور الذهبي في " التفسير والمفسرون " 1/ 293: ولا يكاد القارىء يلحظ في هذا التفسير تفاوتاً في المنهج والمسلك بل يجري الكتاب من أوله إلى آخره على نمط واحد وطريقة واحدة تجعل الناظر فيه لا يستطيع أن يميز بين الأصل والتكملة، ولا يتمكن من الوقوف على حقيقة المقدار الذي كتبه الفخر، والمقدار الذي كتبه صاحب التكملة.
(1) في (ب) و (ج) و (ش): مقاصده.(2/99)
الفرائض، وتردُّدِهم في ذلك، علم أن الخوضَ في تلك الأمورِ أسهلُ على أهل الدِّرْيَةِ بعلوم النظر، والمهارة في البحث عن الغوامض.
فإن قلتَ: فإذا كانا متمكنينِ من الاجتهاد، فَلِمَ تركاه واختارا التقليد؟
قلت: جوابُ هذا غيرُ متجه، لأن مَنْ ترك شيئاً من الفضائل، لم يجب القطعُ بعجزه عنه، ولا يجبُ على من ادَّعى أنَّه يظن قدرتَه على ذلك إظهارُ الدليل على الوجه في تركِ ذلك الفعل، ألا ترى أن كثيراً من الصحابة والعرب لم يكونوا مجتهدينَ مع تمكُّنِهِم من ذلك وسهولته عليهم، وهذا مما لا يحتاجُ إلى مناظرة.
فأما الاحتمالاتُ، فهي كثيرة، فمنها أن يتركا ذلك، لأن التقليدَ أسهلُ، وقد رأينا من يختارُ التقليدَ لذلك، فقد حدثني الفقيه علي بنُ عبد الله بن أبي الخير -رحمه الله- أنَّه يكره النظرَ في كتب أدلةِ الأحكام، قال -رحمه الله-: لأنَّه إذا عَرَفَ الدليلَ اعتقد أنَّه يجبُ عليه العمل به، ويَحْرُمُ عليه التقليدُ، وهو يُحِبُّ أن يبقى في سَعَةٍ، ولا شكَّ أن هذَا الاختيارَ جائز عقلاً وشرعاً، وإن كان فيه قصورٌ في الهِمَّة، ومخالفة للاقتداء (1) بخير هذه الأمة.
ويلتحق بهذا فائدة: وهي أنَّه لا شك أن هذين الرجلين مِن كبار أهلِ العلومِ العقلية النظرية (2)، ورؤوسِ الطائفة الأشعريَّةِ، ولهما الباعُ الطويلُ في التمكن من إيرادِ الشبه العويصة على جميعِ الطوائف حتَّى على
__________
(1) في (ب): في الاقتداء.
(2) في (ج): العقلية النقلية النظرية.(2/100)
أصحابهما الأشاعرة، ولكن بركات العِلم أدركتهما، فإنا نرجو صحة ما رُوِيَ من توبتهما، فقد صرَّح الغزالي في " المنقذ مِن الضلال " (1) برجوعه عن الخوض في علم الكلام إلى مثل كلام أهلِ التصوف في الإقبال على الله تعالى بالكلية، وحصولِ اليقين بذلك، وفي خطبة " المَقْصِد الأسْنى " ما يقتضي أنَّه مُتَّقٍ في إظهار الحقِّ في بعض الأمور، وروى الإمامُ المهدي محمد بن مُطْهر، والأميرُ الحسين بن محمد عن الغَزّالي أنَّه تابَ مِن مذهبه، وترحَّما عليه، وترحم عليه حميدُ المحلي، وحكى نحو ما تقدَّم من توبته.
وأما الرازي، فصرحَ في وصيته بالرجوع عن (2) جميع ما أودعه مصنفاتِه إلا ما نطق به القرآنُ والسنةُ المُجْمَعُ على صحتها، وأنه يدينُ الله تعالى بما دانه به رسولُه (3) - صلى الله عليه وسلم -، وفي شعره ما يُلِمُّ بهذه العقيدة الجميلة كقوله:
العِلْمُ لِلرّحْمَانِ جَلَّ جَلالُهُ ... وسِوَاهُ في جَهَلاتِهِ يَتَغَمْغَمُ (4)
مَا لِلتُّرَابِ ولِلعُلُومِ وَإنَّمَا ... يسْعَى ليعْلَمَ أنّهُ لا يَعْلَمُ
__________
(1) انظر ص 91 - 93 نشر دار الأندلس بتحقيق د جميل صليبا ود كامل عياد. وهذا الكتاب صحيح النسبة للإمام الغزالي، وهو من أواخر ما ألف بعد عزلة دامت عشر سنوات نَحا فيها منحى الصوفية، وصرح فيه بأن أصح الطرق إلى المعرفة هو طريق الصوفية الذي يقوم على الخلوة والمجاهدة، وفيه عبارات يستغرب صدورها من مثل هذا الإمام، فإنها تنطوي على أفكار فلسفية هي بمنأى عن صراط الله السوي انظر الصفحات 132 و139 و140 و141 و142 و143 و140 و150.
(2) في (أ) و (ج) من، وفي (ش) في.
(3) في (ب) رسول الله: وانظر نص الوصية بتمامها في الجزء الأول من " المحصول " من ص 79 - 83 وانظر ترجمته في " السير " 21/ 500.
(4) من الغمغمة: الكلام غير البين.(2/101)
وقولِه في أبياتٍ له:
نِهَايَةُ إقْدَامِ العُقُولِ عِقَالُ ... وَأكْثَرُ سَعْيِ العَالمينَ ضَلاَلُ (1)
وفي معنى البيتينِ الأوَّلَيْنِ قولُ الآخر:
وَكَمْ في البَرِيَّةِ مِنْ عَالِمٍ ... قَوِيِّ الجِدَالِ شَدِيدِ الكَلِمْ
سَعَى في العُلُومِ فلما يُفِدْ ... سِوى عِلْمِهِ أنَّهُ ما عَلِمْ
وهذا مِنْ بَرَكاتِ العِلْمِ وخاتِمَةِ الخيرِ. والله أعلم.
قال: وذكر بعضُ فقهاء الشافعية تعسُّرَ الاجتهادِ حتى قال: وقد كانوا يرون أن درجة الاجتهاد في زمانهم مفقودة، يعني أصحاب الشافعي المتقدِّمين، وذكر منهم القَفَّالَ، وأبا حامدٍ الإسفَراييني، وأبا إسحاقَ الإِسفراييني، وأبا إسحاق المروزي، والجُويني قال: وقال الرافعيُّ: القومُ كالمجمعين على أنَّه لا مجتهدَ اليومَ، وحُكِيَ عن المحاملي أنَّه قال: ما أعلمُ على وجهِ الأرض مجتهداً. زادنا اللهُ هدى، وجعلنا ممن يتجنَّبُ الرَّدى، ولا يُزكِّي على الله أحداً، كما جاء في الحديث مسنداً.
أقول: هذه الروايات عن بعض أصحابِ الشافعي قد جعلها السَّيدُ لِكلامه تماماً، ولاحتجاجه ختاماً، وقد استملح هذه الحكاياتِ، واستروح إلى هذه الرواياتِ حِرصاً على توعيرِ مسالك العلمِ، وسدِّ أبوابِ
__________
(1) وتمام الأبيات عند ابن خلكان 4/ 250.
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبالُ
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالوا
وكم قد رأينا من رجالٍ ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا والجبالُ جبالُ
وهي في " طبقات السبكي " 8/ 96، و" عيون الأنباء " 2/ 28.(2/102)
الاجتهاد، ولم يُبَال السَّيِّدُ بما تَحتَها من الغوائل والمناكير من تجهيل العلماء الأفاضل، والأئمة المشاهير، وما كنتُ أظُنُّ الغُلُوَّ ينتهي بالسيدِ -أيَّدَهُ الله- إلى هذه الغاية، ولا يتجاوَزُ به إلى هذا المقدار، وكيف تجاسَرَ السيدُ على إطلاقِ القول بأن أصحاب الشافعي المتقدمين قضَوْا بفقدِ مرتبة الاجتهاد، مستَرْوحاً بهذا القول المعلوم الفساد، محتجّاً به على الاستعسارِ للعلم والاستبعاد؟!
فأقول: ما شاءَ اللهُ، لا قوةَ إلا بالله، إن كان ذهَبَ العلمُ بالأدلة، فأين الحياءُ من العُلماء الجِلَّة؟! أين ذهب التوقيرُ لأئمة العِترة عليهم السلام؟ إلامَ صار التعظيمُ لعلماء الإسلام؟ كأنَّك ما عرفتَ أنَّ قدماءَ أصحابِ الشافعي قبلَ الهادي، والقاسم، ولا دَرَيْتَ أن كلامك يقضي بتجهيل عوالِمَ من أولادهما الأكارِمِ، أما علمتَ أن بحارَ العلوم الإسلامية. ما تَموَّرت إلا بعدَ أصحاب الشّافعي؟ أتُرَجَّحُ تجهيلَ أقمارِ الهُدى لِروايةٍ حُكِيَتْ عن المَرْزِي، والرّافِعِي؟ ما هذه العصبية؟ إنها لَمِنْ أعظم البلية. وقبل الجواب على السيد -أيَّده الله- نذكر بحثاً حسناً في قوله: " ولا نُزكِّي على الله أحداً " كما جاء في الحديث مسنداً.
فنقول: أخبرني مِن أيِن جاءَ هذا الحديثُ مسنداً؟ فإن قلت: إنه جاء مسنداً مِن طريق المحدثين، فما لك مرتكباً ما نَهَيْت عنه، وفاعلاً ما حذَّرْت منه؟! وقد قيل:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وَتَأتِيَ مِثْلَه ... عَارٌ عَليْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ (1)
__________
(1) أنشده سيبويه 3/ 41 للأخطل، والمشهور أنه لأبي الأسود الدؤلي ظالم بن عمرو ملحقات ديوانه 13، ونسب أيضاً إلى سابق البربري والطرماح والمتوكل الليثي وقال البغدادي قال اللخمي في شرح أبيات الجمل: الصحيح أنه لأبي الأسود. انظر " خزانة الأدب " 3/ 617، =(2/103)
وإن كنت تعرِفُه مسنداً من غير طريقهم، فأخبِرْنا بذلك الإسناد؟ وكيف تيسرت لك معرفتُه بعدَ الإنكارِ لها، والاستبعاد؟ وإن كنتَ لا تعْرِفُ له سنداً إلا مِن طريق رجالِ الحديث وأئمة الأثرِ، فكُفَّ عن القوم غَرْبَ لِسانِك، واجعل شُكْرَكَ لهم بدلاً عن شَنآنِكَ، وما أحسنَ قول بعضهم (1):
أقِلُّوا عَلَيهِمْ لا أَبَا لأِبِيْكُمُ ... مِنَ اللَّوْمِ أو سُدُّوا المَكانَ الذِي سَدُّوا
هذا ولا بُدَّ من التعرض لوجوه تكشف النِّقاب عن وجهِ الصواب وإن كانت هذه الشبهة مما لا تحتمِلُ الجواب.
الوجه الأول: أن الشافعيَّ رَضِيَ الله عنه مِن قُدماء العلماء، ورجال المئة الثانية من الهجرة النبوبة، وعلى رأسِها توفي سنة أربع ومئتين، وقد كان القدماءُ مِن أصحابه متقدمين لِمن لا يأتي عليه العَد مِن أئمة الإِسلام من أهلِ البيت عليهم السلامُ، وسائر العلماء الأعلام، فهذا البُويطي (2) صاحبُ الشافعي المشهور توفي سنةَ إحدى وثلاثين ومئتين، والقاسم عليه السلام توفي سنةَ ست وأربعين ومئتين، فوفاةُ البُويطيِّ صاحب الشافعي
__________
= وشرح شواهد المغني 6/ 112، و" المقتضب " 2/ 26، وشرح المفصل 7/ 24، ومعجم المرزباني 410.
(1) هو الحطيئة جرول بن أوس بن مالك العبسي أبو مليكة شاعر فحل متين الشعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان هجاء عنيفاً لا يكاد يسلم من لسانه أحد، هجا أمه وأباه ونفسه، والبيت في ديوانه ص 40 من قصيدة مطلعها:
ألا طرقتنا بعدَما هَجَعُوا هِنْدُ ... وقد سِرْنَ خمساً واتلأبَّ بنا نجدُ
(2) هو أبو يعقوب يوسف بن يحيى المصري البويطي صاحب الإمام الشافعي، لازمه مدة، وتخرج به، وفاق الأقران. قال الإمام الذهبي في " سير أعلام النبلاء " 12/ 59: كان إماماً في العلم، قدوة في العمل، زاهداً ربانياً، دائم الذكر والعكوف على الفقه، بلغنا أن الشافعي قال: ليس في أصحابي أحد أعلم من البويطي، وقال الربيع بن سليمان المرادي: ما أبصرت أحداً أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي.(2/104)
متقدِّمةٌ على وفاة القاسم عليه السلام بخمسَ عشرة سنة، والقاسم عليه السلامُ مِن أول أئمة المذهب، وأنبلِ مَنْ في طِرَازِ الأئمة المُذْهَبِ (1)، وهو الذي تفجَّرت منه بحارُ العلوم إفادةً وولادة، وخضعت رقابُ الخصومِ لمناقبه من العلم والزَّهادة والمجد والإجادة، فأما الإمام الهادي يحيى بن الحسين، والناصر الحسن بن علي عليهما السلام، فالبويطي متقدِّم لهما في الوفاة بقدرِ سبعين سنة تَنْقُصُ شيئاً يسيراً، وكذلك الربيعُ (2) والمزنيُّ (3) صاحبا الشافعي، فإنهما عاصرا القاسم عليه السلام، وتقدما الهادي بكثيرٍ منَ الأعوام، وأما السيدان الإمامان الناطق بالحق أبو طالب، والمؤيَّدُ بالله ومَنْ بعدهما كالمُتوكِّلِ على اللهِ أحمدَ بنِ سليمان، والمنصور بالله عبد الله بن حَمْزَة، وسائِرِ أئمة الهُدَى، ومصابيحِ الدُّجى مِن عِترةِ المصطفي صلَّى اللهُ عليه وعلى آله، وسائِرِ علماء العِترة، وساداتهم، وكُبراءِ المسلمين وجِلَّتِهِم، فكلام السيد -أيَّدَه اللهُ- وكلامُ بعضِ أصحابِ الشافعي قاضٍ أنهم مِن جُملَةِ أهلِ الدعاوي الباطلة، مُفْصِحٌ بأنَّ وجوهَ دعاويهم للعلم عن حِلية الصِّدْقِ عاطِلَة، فحسبُك ما أدَّى إليه عِظَمُ غُلُوِّك
__________
(1) في (ب): وأنبل من في الطراز الأول المذهب.
(2) هو الربيع بن سليمان الإمام المحدث الفقيه الكبير أبو محمد المرادي مولاهم، المصري المؤذن صاحب الإمام الشافعي، وناقل علمه، وشيخ المؤذنين بجامع الفسطاط، ومستملي مشايخ وقته ولد سنة 174 هـ، وتوفي سنة 270 هـ.
قال الإمام الذهبي في " النبلاء ": وطال عمره، واشتهر اسمه، وازدحم عليه أصحاب الحديث، ونعم الشيخ كان، أفنى عمره في العلم ونشره، ولكن ما هو بمعدود في الحفاظ، وإنما كتبته في " التذكرة " وهنا لإمامته وشهرته بالفقه والحديث.
وقال أيضاً: وقد كان من كبار العلماء، ولكن ما يبلغ رتبة المزني، كما أن المزني لا يبلغ رتبة الربيع في الحديث " سير أعلام النبلاء " 12/ 587 - 591.
(3) هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني المصري المتوفى سنة 264 هـ. وصفه أبو إسحاق، بقوله: كان زاهداً عالماًً مناظراً محجاجاً غواصاً على المعاني صنف كتباً كثيرة، وقال الإمام الذهبي في " السير " 12/ 493: كان رأساً في الفقه إلا أنَّه قليل الرواية.(2/105)
مِن تجهيل أئمةِ الأمة، والعِترة في مقدار ست مئة سنة، ومِن لَدُنِ القاسم بن إبراهيم عليه السلام إلى يومِ النَّاسِ هذا، على أنَّ هذه المدة قد اشتملت على أقمارِ الهُدى، وبحارِ المعارف، وجبالِ العلوم، وأئمة الإسلام، وأركان الإيمان.
ولا بد من تشريف هذا الجواب بذكر جماعةٍ من عيونهم، والتماس نزولِ البركة بذكر جملة مختصرة من أسمائهم إذ التعرضُ لاستقصاء ذلك مما يفتقِرُ إلى تأليف كتابٍ، ولا يحتمِلُ أن يدخُلَ في ضمن هذا الجواب.
ولما لم يكن بد من الاقتصار كان ذِكْرُ من يخفى على كثيرٍ من أهل هذه الأعصار أهَمَّ مِن ذكر مَنْ لا يخفى على أحدٍ من الأئمة الكبار، وقد ذكرنا من أئمة أهلِ البيت مَنْ لا زيادة عليه، ومن يَصْغُرُ كُلُّ كبير بالنظر إليهم، فلنذكر بعدهم معرفتين.
المعرفة الأولى: في ذكر جماعة من علماء سادات العِترة عليهم السلامُ ممن لا يعرفهم كثيرٌ من أهل العصر.
فمنهم الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي عليهم السلام، ذكره في " الجامع الكافي " (1) إمامٌ مجتهد متكلم في الفقه. ذكر محمد بن منصور أنه ممن اجتمعت عليه الفِرَقُ.
ومنهم السَّيِّدُ الإمامُ العلاَّمَةُ محيي السُّنة سَيِّدُ الحفَّاظ أبو الحسن محمدُ بنُ الحسين العلوي الحسيني أحدُ أئمة الحديث، عَقَدَ مجلسَ الإملاء بعدَ الامتناع منه رغبةً في الخُمول، فكان يَحْضُرُ مجلسَه ألفُ
__________
(1) في فقه الزيدية لمؤلفه محمد بن علي بن الحسن العلوي الحسني، منه عدة أجزاء في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء " انظر الفهرس " ص 248 - 249.(2/106)
مِحبرة. قال ابن الصَّلاح: وتوفي في شعبان سنةَ ثلاث وسبعين وثلاث مئة (1).
" ومنهم أخوه السيدُ العلاَّمةُ أبو علي محمدُ بنُ الحسين، قال الإسنويُّ: كان من أعيانِ العُلماءِ، ولم أقِفْ على تاريخ وفاته (2).
قلت: لكنَّهُ توفي بعدَ وفاةِ أخيه، فإنَّه الذي صلى عليه، وقد حَصَل الغَرَضُ بهذا، إذ هو ممن تُوفي بعدَ القدماء من أصحابِ الشافعي.
ومنهم السيدُ أبو الحسن عليُّ بن أحمدَ بنِ محمد بن عمر العلوي الحسني الزَّيْدِي. كانَ مِن العلماء المصنِّفِينَ، وكان رأساً في الزَّهَادَةِ والصلاح، حمل عنه شيوخُه وأقرانُه تبركاً به، توفي سَنةَ خمسٍ وسبعين -أظنُّه- وثلاث مئة (3).
ومنهم أبو القاسم عليُّ بنُ المظفر، كان مِنْ أوعيةِ العلمِ، إماماً في الفقه، والأصول، واللغة، والنحو، والمناظرة، حسنَ الخَلْقِ، والخُلُق،
__________
(1) كذا في (أ) و (ب) و (ج) و (ش)، وأما الإمام الذهبي، فقد أرخ وفاته في " سير أعلام النبلاء " 17/ 98، و" العبر " 3/ 76 في سنة 401، وتابعه على ذلك الصلاح الصفدي في " الوافي " 2/ 373، وابن العماد في " الشذرات " 3/ 162، وأورده السبكي في " طبقاته " 3/ 148 - 149 في الطبقة الثالثة.
وفي " السير " قال الحاكم: هو ذو الهمة العالية، والعبادة الظاهرة، وكان يسأل أن يُحَدِّث فلا يحدث، ثم في الآخر عقدت مجلس الإملاء، وانتقيت له ألف حديث، وكان يعد في مجلسه ألف محبرة، فحدث وأملى ثلاث سنين مات فجأة في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربع مئة. ويغلب على الظن أن المؤلف أخطأ في النقل عن ابن الصلاح.
(2) " طبقات الشافعية " للإسنوي.
(3) هذا الظن في غير محله، فقد اتفق المترجمون له على أنَّه ولد سنة تسع وعشرين وخمس مئة، وتوفي سنة خمس وسبعين وخمس مئة.
انظر " تذكرة الحفاظ " 4/ 1361، و" سير أعلام النبلاء " 21/رقم الترجمة (104)، و" طبقات السبكي " 7/ 212، و" النجوم الزاهرة " 6/ 86، و" طبقات الحفاظ " للسيوطي ص 481.(2/107)
فصيحاً جَواداً، كثيرَ المحاسن.
قال الاسْنَوِيُّ: كان قُطباً في الاجتهاد، وتوفي سنة اثنتين وثمانين (1) وأربع مئة.
ومنهم السَّيِّدُ الكبيرُ شمسُ الدين محمدُ بنُ الحسين بنِ محمدٍ العلوِيُّ الحسيني. كان إماماً، فقيهاً، محدثاً، أصولياً، نظاراً، توفي سنةَ خمسين وست مئة (2).
ومنهم السيِّدُ العلامة عُمَر بن إبراهيم العلوي الزَّيْدِي الكوفي الشيعيُّ المعتزليُّ، هكذا نسبَه إلى التشيع والاعتزال الذهبي في " الميزان "، وقال: وُلدَ سنة اثنتين وأربعين وأربع مئة، وتوفي سنةَ تسعٍ وثلاثين وخمس مئة عن سبع وثمانين سنة.
أجاز له محمد بن علي بن عبد الرحمان العلوي، وسمع أبا القاسم بن المِسْوَرِ الجُهني، وأبا بكر الخطيب، وجماعة، وسكن الشامَ في شبيبَتِهِ مدةً، وبرع في العربيةِ، والفضائل، وكان مشاركاً في علومٍ، وهو فقيرٌ متقنِّع خيِّرٌ دين [على بدعته]، وهو مفتي الكوفة، كان يقول: أفتي بمذهب أبي حنيفة ظاهراً، وبمذهبِ زيد تديُّناً.
روى عنه: ابنُ السمعاني، وابنُ عساكر، وأبو موسى المديني،
__________
(1) في النسخ: وثلاثين، وهو خطأ، مترجم في " الأنساب " 5/ 275 - 276، و" سير أعلام النبلاء " 19/ 91 رقم الترجمة (51)، و" طبقات الشافعية " للسبكي 5/ 296 - 298، و" المنتظم " 9/ 50، و" طبقات الإسنوي " 1/ 526 - 527، و" البداية " 12/ 135 - 136، و" النجوم الزاهرة " 5/ 129، و" الكامل " لابن الأثير 10/ 81.
(2) انظر " الوافي بالوفيات " 3/ 17، و" وفيات ابن قنفذ " 322، ومقدمة " المحصول " ص 61 - 62.(2/108)
ذكر ذلك كُلَّه الذهبيُّ (1).
قلتُ: وهو الذي روى عنه حُفَّاظُ الإسلامِ في عصرهم.
ومنهم أبو السَّعَادَاتِ هِبةُ الله عليُّ بنُ محمد بن حمزة العلوي الحسني (2) المعروف بابنِ الشَّجري البغدادي.
قال الذهبي في كتاب " المشتبه " (3): نحويُّ العِرَاق.
وقال ابنُ خَلِّكَانَ في حرف الهاءِ في " تاريخه " (4): كان كامِلَ الفضائِل، متضلِّعاً من الآداب، صنَّف عدةَ تصانيف منها كتاب " الأمالي " (5) وهو أكبرُ تواليفه، وأكثرُها إفادةً، أملاه في أربعة وثمانين مجلساً، وهو مِن الكُتُُُبِ الممتعة، ولما فَرَغَ من إملائه حضر إليه أبو محمد عبدُ الله بن أحمد بن راجح بن أحمد المعروف بابنِ الخشَّاب، والتمسَ منه سماعَه، فلم يُجِبْهُ، فعاداه، وردَّ عليه في مواضِعَ مِن الكتاب، فوقَفَ عليه، فردَّ عليه في رده، وبَيَّنَ وجوهَ غَلَطِه، وجمعه كتاباً سماه " الانتصار "، وهو مع صِغَر حجمه مفيدٌ جدّاً، وسمعه عليه الناسُ، وجمع أيضاًً كتاباً سماه " الحماسة " (6) ضاهى به حماسةَ أبي تمام الطائي، وهو كتابٌ مليح غريبٌ أحْسَنَ فيه، وله في النحوِ عِدَّةُ تصانيف.
__________
(1) " ميزان الاعتدال " 3/ 181، و" سير أعلام النبلاء " 20/ 145 الترجمة (86).
(2) في (أ) الحسيني، وهو تحريف.
(3) 1/ 354.
(4) " وفيات الأعيان " 6/ 45 - 50، وهو مترجم في " سير أعلام النبلاء " 20/ 194 رقم الترجمة (126).
(5) وهو مطبوع في الهند، وتنقص هذه الطبعة عدة مجالس، وقد تم نشر هذه المجالس الناقصة بمؤسسة الرسالة بتحقيق الدكتور حاتم الضامن.
(6) طبع في دمشق في جزئين بتحقيق أسماء الحمصي وعبد الغني الملوحي.(2/109)
ولما قَدِمَ الزمَخْشَرِيُّ بغدادَ حاجّاً قَصَدَهُ للزيارة، فلما اجتمع به، أنشد أبو السعادات قولَ المتنبي:
وأسْتَكْبِرُ الأخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ ... فَلمّا الْتَقَيْنَا صَغَّرَ الخَبَرَ الخُبْرُ (1)
فقال الزمَخْشَريُّ: رُوي عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لما قَدِمَ عليه زيدُ الخيل، قال له: يا زيدُ ما وُصِفَ لي أحدٌ في الجاهلية فرأيتُه في الإسلام إلا رأيتُه دونَ ما وُصِفَ لي غيرك (2). انتهي بألفاظ ابن خلكان.
توفي سنة اثنتين وأربعين وخمس مئة عن اثنتين وتسعين سنة.
ومنهم السَّيِّدُ العلامةُ برهانُ الدين عُبيد الله الحسيني (3) المعروف بالعِبْرِي، كان أحدَ الأعلام في عِلْمِ الكلامِ والمعقولاتِ، ذا حظٍّ وافِرٍ من باقي العلوم، وله التصانيف المشهورة، منها كتابُ " شرح المنهاج "، وكتابُ " المصباح "، وكتابُ " الطوالع "، وَكُتُبُه الغايةُ القصوى في الفقه.
توفي ثالث عشر رجب سنةَ ثلاث وأربعين وسبع مئة، وخلَّف ولداً فصيحاً فاضلاً في العُلُوم العقليةِ.
__________
(1) هو في ديوانه 2/ 148 بشرح العكبري من قصيدة يمدح بها علي بن أحمد بن عامر الأنطاكي مطلعها:
أُطاعِنُ خيلاً من فوارسها الدَّهر ... وحيداً وما قولي كذا ومعي الصَّبرُ
وفي " الوفيات " ثم أنشده بعد ذلك:
كانت مساءلةُ الرُّكبان تخبرنا ... عن جعفر بن فلاحٍ أحسنَ الخبرِ
ثم التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
(2) ذكره الحافظ في " الإصابة " 1/ 555 في ترجمة زيد الخيل عن ابن إسحاق.
(3) كذا في (ج) و (ش) وهو موافق لما في " الدرر الكامنة " و" البدر الطالع " 1/ 411، و" توضيح المشتبه " 2/ 178/1، وفي (أ) و (ب) الحسني.(2/110)
ومنهم السيِّدُ العالم أبو القاسم منصورُ بنُ محمد العلوي الفقيه، تُوفِّيَ سنةَ أربعٍ وأربعينَ وأربعِ مئة.
ومنهم العَلاَّمة المُحَدِّث المرتضى محمَّدُ بن محمد بن الإمام زيدِ بن علي، عليهما السلامُ صاحبُ التصانيف النافعة، توفي سنةَ ثمانين وأربع مئة (1).
والسَّيِّد النسيبُ العلامةُ المحدِّث المصنِّفُ، توفي سنة ثمان وخمس مئة (2).
والسيِّدُ الإمامُ العلامةُ شيخُ الشيعة محي الدين بن عدنان الحُسَيْني، توفي بعدَ سبع المئة.
ومنهم جماعةٌ وافِرة، أئمة دُعاة، وسادةٌ علماء ممن سكن الغربَ لا يُعرفونَ، ذكرهم ابن حَزْم في كتابه " جَمْهَرَة النّسب ".
ومنهم جماعة علماء، ورواة ذكرهم المِزِّيُّ في " تهذيبه "، وغيرُه ممن جَمَع رجالَ الكُتُبِ الستة: البخاري، ومسلم، والأربعة.
ولنذكر جماعة ممن ذكر ابنُ حزم في " جمهرته " فنقول: قال ابنُ حَزْم في ذكر عيونِ أولادِ الحسنِ بنِ علي عليهم السَّلامُ.
__________
(1) مترجم في " السير " 18/ 520 رقم الترجمة (264).
(2) كذا الأصل، وفي " العبر " 4/ 17، ونقله عند صاحب " الشذرات " 4/ 23: وفيها (أي في سنة 508) النسيب أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني الدمشقي الخطيب الرئيس المحدث، صاحب الأجزاء العشرين التي خرجها له الخطيب توفي في ربيع الآخر عن أربع وثمانين سنة. قرأ على الأهوازي، وروى عنه، وعن سليم ورشاً وخلق، وكان ثقة نبيلاً محتشماً مهيباً سديداً شريفاً، صاحب حديث وسنة.(2/111)
منهم الحسنُ بنُ زيدِ (1) بنِ الحسن بنِ علي عليه السلامُ أمير المدينة للمنصور، ولدُه ثمانية، منهم إبراهيمُ، ولإبراهيم هذا محمدٌ، ومِنْ وَلَدِ محمد هذا حفيدُه محمدُ بنُ الحسن بنِ محمدٍ القائم بالمدينة، والنقيبُ محمدُ بنُ الحسن الملقب بالدَّاعي الصغير القائم بالري، وطَبَرِسْتَان، وكان بينه وبين الأُطْرُوشِ الحسيني (2) حروبٌ، والحسنُ ومحمدٌ ابنا زيدٍ الداعيانِ، وعقب محمد منهما إسماعيل بن المهدي بن زيد بنِ محمد المذكور، وعمُّهُما أحمد بن محمد القائم بالحجاز، المحاربُ لبني جعفر بن أبي طالب، ومِن وَلَدِ الحسنِ بنِ زيد: أميركا، وكباكي ابنا طاهر بن أحمد بنِ محمد بن جعفر الشَّجَوي (3)، وابن أخيه سراهيك (4) بنُ أحمد بن الحسن بن محمد بن جعفر تَسَمَّوْا بأسماءِ الدَّيْلَمِ لمداخلتهم. ومحمدُ بنُ علي بن العباس بن الحسن بن الحسن بن الحسن قام بخُراسان فقتل أيامَ المهدي، ومحمدُ بنُ سليمان بنِ داود بنِ الحسن بن الحسن بنِ علي عليه السلام القائم بالمدينة [وله عقب] (5) عظيم جدّاً يتجاوزُ المئتين، ولهم بالحجاز ثورة (6) وجموع، ومحمدُ بنُ إِبراهيم أخو القاسم قامَ مَعَ أبي السَّرايا، وللقاسِم أولادٌ منهم النقيبانِ أحمدُ، وإبراهيمُ ابنا محمدٍ النقيب بن إسماعيل بن القاسم.
__________
(1) " جمهرة أنساب العرب " ص 39.
(2) في (ب) الحسني، وهو خطأ.
(3) في " الجمهرة " ص 41: الشجوبي، وفي الهامش: كذا في (ب) و (ج) وفي (أ) السجوني، وفي (ط) الشجوني.
(4) في " الجمهرة " شراهيك بالشين المعجمة.
(5) زيادة لا بد منها من " جمهرة أنساب العرب " ص 43.
(6) كذا الأصول " ثورة " بتقديم الواو على الراء، وفي " الجمهرة " ص 43: " ثروة " بتقديم الراء على الواو.(2/112)
ومنهم القائمون بصَعْدَة، منهم جعفر الملقب بالرشيد، والحسن المنتخب، والقاسم المختار، ومحمد المهتدي بنو أحمد الناصر، ولهم أخٌ يُسَمَّى عبدَ الله، لكن أُمَّه أمُّ ولد وهو اليماني القائم بماردة المقتول يومَ البركة بالزهراء سنة ثلاث وأربعين وثلاث مئة، ولهم إخوة منهم سليمانُ، ويحيى، وإبراهيمُ، وهارونُ، وداودُ الساكن بمصر، وحمزة، وعبد الله، وأبو الغَطَمس (1)، وأبو الجحَّاف، وطارق بنو أحمد الناصر، ولداودَ منهم الساكِنِ بمصر ابنُ يُسَمَّى هاشماً.
ومنهم الشاعر الأصبَهَاني محمد بنُ أحمدَ بنِ محمد بن إبراهيم بن طَبَاطَبَا، ولهذا الشاعِرِ ابنانِ عليٌّ والحَسَنُ، ومن أولاد الحسن بن جعفر بن الحسن جماعة عجم بناحية متيجة (2) وسوق حمزة، ومنهم زهيرٌ، وعليٌّ ابنا محمدِ بنِ جعفر، كانت لهما أعمالٌ بالغربِ في جهة سُوقِ حمزة.
وأولاد عبد الله بن الحسن محمد القائم بالمدينة، وإبراهيم القائم بالبصرة، ويحيى القائم بالدَّيْلَمِ، وإدريسُ الأصغرُ القائمُ بالغرب، وسليمانُ وموسى، وعقب هؤلاء الثلاثة كثيرٌ جدّاً.
وَلمُحمد بنِ عبدِ اللهِ -ويلقب الأرْقَطَ- عبدَ اللهِ الأشتر قُتِلَ بَكابُل، وله ولدٌ يُسَمَّى محمداً، والعقبُ فيه، وللأشترِ عَقِبٌ ببغداد وغيرها يُعْرَفُون ببني الأشتر.
__________
(1) بالسين المهملة كما في الأصول، وهي كذلك في أصول " الجمهرة " ص 44، عدا (ب) فبالشين المعجمة.
(2) قال صاحب " الروض المعطار " ص 523: متيجة: مدينة بالقرب من الجزائر (جزائر بني مزغنا) من أقصى أفريقية على نهر كبير عليه الأرحاء والبساتين، ولها مزارع ومسارح، وهي أكثر تلك النواحي كتاناً، ومنها يحمل، وفيها عيون سائحة وطواحين ماء.(2/113)
ومحمدُ بنُ إبراهيم بنِ موسى بنِ عبد الله بنِ الحسن صاحبُ اليمامة القائم بها، وهم باليمامة ودارُ ملكهم بها، وهم بها قائمٌ بَعْدَ قائمٍ، وعبدُ الرحمان بنُ الفاتك عبدِ الله بنِ داود بنِ سُليمانَ بنِ عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن له اثنان وعشرون ذكراً بالغون سكنوا كلُُّهُم أذَنَةَ (1) إِلا ثلاثة منهم سكنوا أمَجَ بقرب مكة (2).
ومنهم جعفرُ بنُ محمدٍ غَلَب على مكةَ أيامَ الإخْشِيدِيَةِ وولدُه إِلى اليومِ ولاةُ مكة، وهو ابنُ محمدِ بنِ الحسن بنِ محمد بنِ موسى بنِ عبد الله بنِ موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه (3) السلام، ولسليمانَ بنِ عبد الله بن الحسن وَلَدٌ -وهو محمد القائمُ بالمغرب- وله عَقِبٌ، منهم أبو العيش عيسى بن إدريس صاحب جُراوة (4)، وابنُه الحسن سكن قُرْطُبَةَ، وإدريسُ بنُ إبراهيم صاحبُ
__________
(1) أذنة: بلد من الثغور من مشاهير البلدان بساحل الشام عند طرسوس.
(2) في " معجم البلدان " 1/ 250 خبر طريف له صلة بأمج يحسن إيراده، قال الوليد بن العباس القرشي: خرجت إلى مكة في طلب عبد آبق لي، فسرت سيراً شديداً حتى وردت أمج في اليوم الثالث غدوة، فتعبت، فحططت رحلي، واستلقيت على ظهري، واندفعت أغني.
يا من على الأرض من غادٍ ومدّلج ... أقر السلام على الأبيات من أَمَج
أقر السلام على ظبي كلفت به ... فيها أغنَّ غضيضِ الطرف من دَعَج
يا من يبلغه عني التحية لا ... ذاق الحِمام وعاش الدهر في حَرج
قال: فلم أدر إلا وشيخ كبير يتوكأ على عصا وهو يهدج إلي، فقال: يا فتى أنشدك الله إلا رددت إلي الشعر، فقلت: بلحنه؟ فقال: بلحنه، ففعلت وجعل يتطرب، فلما فرغت، قال: أتدري من قائل هذا الشعر؟ قلت: لا، قال إنا والله قائله منذ ثمانين سنة، فإذا الشيخ من أهل أمج.
(3) في (ب) عليهم.
(4) هي جراوة مكناسة كما في " الروض المعطار " ص 162 أسسها أبو العيش سنة 259 هـ.(2/114)
آرسقُول (1)، وكان منقطعاً إلى الناصِرِ صاحِبِ الأندلس، وأحمدُ بنُ عيسى صاحبُ سوق إبراهيم، والحَكَم، وعبدُ الرحمان ابنا عليِّ بنِ يحيى سكنا قُرطبة، وأعقبا بها، وأولادُ يحيى بنِ محمد بن إبراهيم كُلّهم، وكان سليمانُ منهم رئيساً في تلك الناحيةِ.
ومنهم القاسمُ بن محمد صاحب تِلِمْسَان.
ومنهم بطُوس بنُ حنابش (2) بنِ الحسنِ بنِ محمد بن سليمان وهم بالمغرب كثيرٌ جداً، وكانت لهم بها ممالك عده.
ومنهم جُنُون (3) أحمد، ومحمد ابنا أبي العيش عيسى بن جُنُّون كانا ملكين بالمغرب، وإبراهيم لقبه أبو غبرة، كان [أيضاًً] ملكاً بالمغرب وكان لجنون منهم عشرون ذكراً، منهم القاسم الأصغر جُنُّون بن جُنُّون القائم بالمغرب، وأخوه علي الأصغر القائم بعده، ومحمدُ بنُ جُنُّون القائم على أبيه بالبصرة.
ومنهم الحسنُ بنُ محمد بنِ القاسِمِ الحجَّام سُمِّي بذلك لكثرة سفكهِ للدِّماء، ومِن ولدِه القاسمُ بنُ محمد بن الحسن الفقيه الشافعي بالقيروان المعروف بابن بنت الزبدي (4).
ومنهم إبراهيمُ بنُ القاسم صاحبُ البَصْرَةِ، كان عُمَرُ بنُ حفصون يَخْطُبُ له.
__________
(1) كذا الأصول بالسين المهملة، وفي " الجمهرة " ص 48 " آرشقول " بالشين المعجمة.
(2) في " الجمهرة " ص 48: بطوش بن جنانش، وذكر في الهامش في نسخة (ج): بطرش بن حناش.
(3) في التعليق على " الجمهرة ": جنون كلمة بربرية معناها: القمر.
(4) في " الجمهرة " ص 50: الزبيري، وذكر في الهامش في (ب) الزبيدي، وفي (ج) الزهري.(2/115)
ومنهم المسمَّى بالمأمون، وعلي المسمَّى بالناصر تسمَّيا بالخِلافة بالأندلس، ومحمدُ بنُ القاسم صاحبُ الجزيرة (1) تسمَّى بالخلافة، وولي الجزيرة بعدَه ابنُه (2) القاسم، ولم يَتَسمَّ بالخلافةِ، وكان حصوراً لا يَقْرَبُ النساءَ، وأخوه الحسن تَنَسَّكَ، وَلَبِسَ الصوفَ، وحج، وولد الناصر يحيى وإدريس تسمَّيا بالخِلافة بالأندلس، ومحمدُ بنُ إدريس خليفة تسمَّى بالمهدي، وحاربَ ابنَ عمه إِدريسَ بنَ يحيى، وكلاهما تَسَمَّى بالخِلافة، وكان بَدْءُ أمرهم سنةَ أربع مئة، وبقي أمرُهم ثمانيةً وأربعين، ومنهم صاحبُ تَامْدُلْتَ (3)، وصاحبُ صنهاجة الرِّمال، وصاحبُ مِكْنَاسَةَ.
ومِن أولادِ الحُسين عليه السلامُ عبدُ الله بن علي بن الحسين الأرْقَط، له ولدانِ: إسحاقُ، ومحمدٌ، لهما عَقِبٌ كثير، منهم الكَوْكَبِيُّ اسمُه الحسين، وأحمد بنُ محمد بن إسماعيل كان مِن قُوَّاد الحسن بن زيد بِطَبَرِسْتَان، ومن أولادِ عمر بنِ علي بنِ الحسين محمدُ بنُ القاسم بن علي بنِ عمر، وكان فاضلاً في دينه يميلُ إلى الاعتزال، قام بالطَّالَقَانِ (4)، فلما رأى الأمرَ لا يَتِمُّ له إلا بسفك الدماء، هَرَبَ، واستتر إلى أن مات.
ومنهم زيدٌ، وجعفر، ومحمدُ بنو الحسن الأطروش الذي أسلمَ الدَّيْلَمُ على يديه، وهو ابنُ علي بنِ الحسن بنِ علي بن عمر (5)، وكان
__________
(1) أي: الجزيرة الخضراء بالأندلس.
(2) في (ب): بعد أبيه.
(3) انظر " صفة أفريقيا الشمالية " لأبي عبيد البكري طبع الجزائر سنة 1911 ص 163.
(4) الطالقان: بلدتان، إحداهما بخراسان بين مرو الروذ وبلخ، والأخرى: بلدة وكورة بين قزوين وأبهر " معجم ياقوت " 4/ 6، 7.
(5) المتوفى سنة 304 هـ، انظر " روضات الجنات " 167 - 168، والتعليق على "الأنساب" 1/ 305.(2/116)
للحسن الأُطروش من الإِخوة جعفرٌ، ومحمدٌ، وأحمدُ المكنى بأبي هاشم وهو المعروفُ بالصوفي، والحسينُ المحدث يروي عنه ابنُ الأحمر وغيرُه، وكان هذا الأُطروش فاضلاً، حسنَ المذهب، عدلاً في أحكامه، وكان الحسن بنُ محمد بنِ علي -وهو ابن أخي الأُطروش- قد قام بطبَرِستَان، وقتله جيوش بها سنةَ ستَّ عشرةَ وثلاث مئة.
أولادُ الحسين بن علي بن الحسين ستة كُلُّهم أعقب عَقِبَاً عظيماً، منهم عبدُ الله يعرف بالعَقِيْقِيِّ، ومِنْ ولده الذي قتلهُ الحسنُ بنُ زيد صاحب طَبَرِستَانَ، ومنهم جعفرُ بن عُبيد الله بن الحسين بن علي بن علي بن الحسين كانت له شِيعةٌ يُسَمُّونَه حُجَّةَ الله.
ومنهم حمزةُ بنُ الحسن مَلَكَ هان (1) في المغرب، وملك قطيعاً مِن صنهاجة، وإليه يُنسب سوقُ حمزة وَوَلَدُه بها كثيرٌ، وكذلك ولد إخوته في تلك الجهة، وكان عمُّه الحسينُ بنُ سليمان مِن قواد الحسنِ بنِ زيد، وهو الذي غزا له الرَّيَّ، وكان شاعراً.
ومنهم المحدثُ المشهور بمصر، وهو ميمونُ بنُ حمزة بن الحسين ابن محمد بن الحسين بن حمزة.
ومنهم المُلَقَّبُ بمسلم أبو مسلم الذي كان يُرِيدُ مصر أيامَ كافور، واسمُهُ محمد بن عبيد الله بن طاهر بن يحيى المحدث، وابنُ عمه طاهر ابن الحسين الدي مدحه المتنبي بقوله:
أعيدُوا صَبَاحِي فَهْوَ عِنْدَ الكَوَاعِبِ (2).
__________
(1) في " جمهرة ابن حزم " ص 55: هاز، وانظر " صفة أفريقيا الشمالية " للبكري ص 143.
(2) وعجزه:
ورُدُّوا رقادي فهو لَحْظُ الحبائب =(2/117)
وأبو مسلم هذا قام بالشَّام بعدَ كافور، وتسمَّى بالمهدي، واستنصر بالقرامِطَةِ، والحسنُ بنُ محمد بن يحيى المحدث المذكور تجاوز تسعينَ، وكان بالكوفة حُمِلَ عنه العِلْمُ.
ومنهم محمدُ بن عبيد الله [كان له قدر] بالكوفة ومَنْزِلَةٌ بالدَّيالِمَةِ (1) يُعارض بها منزلةَ بني عمر العلويينَ بالكُوفة، وهو الذي مدحه المُتَنَبّي بقوله:
أهْلاً بِدَارٍ سَبَاك أغْيَدُهَا (2)
ومنهم عليُّ بن إبراهيم كان مِن العُبَّادِ بالكوفة حُمِلَ عنه العِلْمُ، كان عالماً بالنسب.
انتهي المختارُ نقلُه من بني الحسن والحسين ولله الحمد (3).
وغيرُ هؤلاء ممن لا يأتي عليه العَدُّ مِن سادات العِترَة الطاهرةِ ممن كان في مرتبة الإمامة في علم الحديثِ وغيرِه من علومِ الاجتهاد، ولو حضرني كتابُ مِن كُتُبِ الرجال وقت كتابة هذا الجواب (4)، لاستكثرتُ من ذِكرهم، فمن استكثر منه، فقد استكثرَ مِن طيِّب، وإنما رغبتُ إلى ذكرهم لجهلِ كثيرٍ من الناسِ لهم، واعتقادِهم أنَّه ليس في أهل البيت عليهم
__________
= انظر " ديوانه " 1/ 147 - 159 بشرح العكبري.
(1) في " الجمهرة " ص 56: وكان له قدر بالكوفة ومنزلة عند الديالمة.
(2) وعجزه:
أبعد ما بان عنك خُرَّدُّهَا
ديوانه بشرح العكبري 1/ 294.
(3) النقول من صفحة 116 إلى هنا تجدها في " جمهرة ابن حزم " من الصفحة 40 إلى الصفحة 56.
(4) في (ب): الكتاب.(2/118)
السلامُ أحدٌ مِن أهلِ العلمِ إلا هؤلاءِ الأئمة المشاهير في اليمن والحجاز، والجبل، والكوفة عليهم السلامُ. فلقد قلَّلُوا كثيراً، وجَهِلُوا كبيراً، وأهلُ البيت عليهم السلامُ في جميع أقطارِ الإِسلام، وإمصارِه، وأعصارِه، هُمْ سُفُنُ العلم وبحورُه، وشموسُ الهدى وبدورُه، وكلامُ بعضِ أصحاب الشافعيِّ إِذا اقتضى تجهيلَ هؤلاء السادةِ، والدعاة الأئمة من العِترة الطاهرة، وأضعافهم ممن لم يُذكر وأكثر منهم مِن الأئمة السابقين ضربنا به وَجْهَ قائِلِه، وقلنا كما قال أبو الطيب:
وَهَبْك تَقُولُ هذا الصُّبْحُ لَيْلٌ ... أيَعْمَى العَالِمونَ عَنِ الضِّيَاءِ (1)
وما أقربَ هذا القولَ من قول من زعم أنَّ أهلَ البيتِ عليهم السلامُ قد ماتوا، ولم يبقَ منهم أحدٌ، بل هذا القولُ أقبحُ، لأنَّ ذلك نَسَب إليهم الموت الذي يجوز على الملائكةِ والأنبياء، والعلماءِ، وهو خروجُ الأرواح من الأبدانِ الذي لا نقصَ فيه على أحد، ولا غضاضةَ فيه على مخلوق، وهذا نسب إليهم الموت الذي هو موْتُ المعارفِ دونَ الأبدان، وعمى البصائر دونَ الأبصار، وكفي شاهداً على أنَّ موتَ الجهلِ أقبحُ من موت الأبدانِ، وعمى البصائر أقبحُ مِن عمى الأبصارِ، قولُ الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] فكيف تجاسر السيدُ -أيَّدَهُ الله- على نسبة الجهلِ إِلى جميع العِترة الطاهرة، ونجوم العلم الزاهرة؟. واحتجَّ على ذلِكَ بما لَعلَّهُ لا يَصِحُّ عن بعضِ
__________
(1) ديوانه 1/ 10 من قصيدة مطلعها.
أتنكرُ يا ابن إسحاق إخائي ... وتحسبُ ماء غيري من إنائي
ورواية الصدر فيه:
وهبني قلتُ: هذا الصُّبْحُ ليلٌ(2/119)
أصحاب الشافعيِّ، وقد أجمع أئمة العِترة عليهم السلامُ وشيعتُهم على أنه لا يجوز خُلُوُّ عصرٍ من الأعصارِ إلى يومِ القيامة من عالمٍ مجتهدٍ مِن أهل البيت عليهم السَّلامُ، فكيف يسوغُ القولُ بخلوِّ هذه الأعصارِ كُلِّها عن ذلك، من رأسِ مئتي سنةٍ إلى هذه الساعة، بل إلى قيامِ الساعة، وما المُوجِبُ لهذا القولِ؟ وما المُلْجِىء إلى هذا الاختيار؟ كل هذا حتى لا يُسَلَّمَ لمحمدِ بنِ إبراهيم أنَّه قد عرف أدِلَّةَ التأمينِ، وإمساك الشمالِ باليمين، وكأنَّ توجيه التجهيل إلى محمد بن إبراهيم بالنصِّ دونَ التلويح أقل ذنباً وأحمدُ عُقبى من نسبة الجهلِ إلى جميع ذوي القربى.
المعرفة الثانية: في ذكر بعض مَنْ كان بعدَ المتقدمين من أصحابِ الشافعي من العلماء الجِلّة، وكان أئمةُ الملة من غير أهلِ البيت عليهم السَّلامُ مثل عبدِ الملك بن حبيب، وقتيبة، وسُحنونَ، وأبي ثور، وأحمدَ، وإسحاق، ومحمد بن إسماعيل البخاري، والزعْفَراني، ومسلمِ بنِ الحجاج القُشيْرِيِّ، وداودَ بنِ علي الفقيه، وبقيِّ بن مَخْلَدٍ الكبير العلامة صاحب المسند، والتفسيرِ اللذَيْنِ لم يُصَنَّفْ مثلُهما، وأبي قِلابَةَ، والتِّرْمذيِّ، وأبي القاسم عثمانَ بن سعد بن سيّار (1) الفقيه، ومن لا يُحصى مِن أهل هذه الطبقة، وبعدَهم في الطبقة الثانية خلائق أيضاً لا يأتي عليهم العَدُّ بذكر اليسير مِن عيونهم على جهة التمثيل دون التفصيل مثل الشيخ أبي علي الجُبائي شيخ الاعتزال، وابن سُرَيْج، وابن سفيان (2) الفقيه، ومحمدِ بن جريرٍ الطبَرِيّ العلامة، وإمامِ الأئمة ابنِ خُزَيْمة، وإمامِ الحنفية الطحاوي، وإمامِ الكلام أبي هاشم بن أبي علي، والفقيه
__________
(1) في (ج): يسار، وهو تحريف.
(2) هو الحسن بن سفيان النسوي المتوفى سنة 303 هـ، مترجم في " السير " 14/ 157.(2/120)
أبي إسحاق المرْوَزِي، والعلامة قاسم بن أصبغ، وشيخ الحنفية أبي الحسن الكَرْخي، وأبي علي بنِ أبي هُريرهَ الفقيه، وأبي بكر عبد العزيز الفقيه، وأبي الحسن محمد بن علي الماسَرْجِسي الفقيه، والحافظِ الدارقطني، والعلامة أبي سليمان الخطابي، وعلي بن عمر بن القَصار المالِكي.
ثم بعدَ أربع المئة أبو بكر محمد بن موسى الخُوارزْمي شيخ الحنفية، وأبو حامد شيخ الحنابلة، وأبو علي الدقاقُ، وعبدُ الغني الحافظ، والعلامة قاضي القضاة عبدُ الجبار، والعلامةُ شيخُ الاعتزال أبو الحسين البَصري، وأبو محمد علي بنُ أحمد الفارسي المعروف بابن حَزْم، والحافظ البيهقي، وأبو القاسم بن فُوران (1) الفقيه، والحافظ أبو بكر الخطيب، وأبو نصر بن الصَّباغ، وأبو علي بن الوليد المغربي، وشيخ الإسلام أبو إسماعيلَ، وأبو بكر محمد بن علي الشاشي الفقيه، وشيخ الإسلام أبو الحسن الهَكَّاري، والحافظُ الكبير الحُمَيْدي، ونصرٌ الفقيه، ومَنْ لا يأتي عليه العدُّ مِن أهل هذه الطبقة.
ثم بعد خمس المئة العلامةُ البحر شيخُ الحنابلة أولاً، ثم شيخُ الاعتزال (2) آخراً ابنُ عَقيلٍ المعتزلي صاحب كتاب " الفنون " الذي يأتي في
__________
(1) هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران المروزي المتوفى سنة 461 هـ، له المصنفات الكثيرة، وطبق الأرض بالتلامذة، له وجوه جيدة، مترجم في " سير أعلام النبلاء " 18/ 264 - 265 رقم الترجمة 133.
(2) في وصفه بشيخ الاعتزال آخراً نظرٌ ظاهر، فقد قال الحافظ ابن حجر في " لسان الميزان " 4/ 243: وهذا الرجل من كبار الأئمة " نعم كان معتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك، وصحت توبته، ثم صنف في الرد عليهم.
قلت: وفي " ذيل طبقات الحنابلة " 1/ 144 أن ابن عقيل مضى إلى بيت الشريف أبي جعفر، وصالحه وكتب بخطه ما نصه: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبه أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم والتكثر =(2/121)
أزيدَ من أربع مئة مجلد كبار، ومحيي السنة البغَوِي، والعلامةُ الزمَخشري، والعلامةُ عِياضُ اليَحْصُبي القاضي المالكي، وأبو بكر بن العربي، وأبو سعد محمد بن يحيى الفقيه، وطبقتهم.
ثم بعدَ الخمسين وخمسِ المئة العلامة ابنُ ناصر (1)، وأبو الحسنُ الفقيه العلامة، وأبو سعد السمعانِي، والحافظُ الكبير ابنُ عساكر، والحافظُ السلَفي، والفقيهُ يونسُ بنُ محمد، والحافظ أبو موسى المدِيني، والحافظُ النقَاد أبو بكر الحازمي، والعلامةُ ابنُ الجوْزي، وطبقتهُم.
ثم بعدَ ست المئةِ الحافظ عبد الغني، والعلامةُ عبد الحق (2)، وعالم الشام ابنُ الصَّلاح.
ثم بعدَ خمسينَ وست المئة العلامةُ ابن تَيمية (3)، وأبو بكر ابنُ سيد الناس (4)، وابنُ عبد السلام، والعلامة النواوِيْ، والمحبُّ الطبَريْ وطبقتُهم.
__________
= بأخلاقهم، وما كنت علقته، ووجد بخطي من مذاهبهم وضلالاتهم، فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته، ولا تحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وأنظر لزاماً ترجمته في " السير" 19/ 443 رقم الترجمة (259) وتعليقاتنا عليها.
(1) هو أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي الدار، الفارسي الأصل المتوفى سنة 550 هـ مترجم في " مشيخة ابن الجوزي، ص 126 - 129.
(2) من يسمى عبد الحق اثنان، وليسا من هذه الطبقة، الأول عبد الحق بن عبد الرحمن ابن عبد الله الأزدي الإشبيلي صاحب " الأحكام الكبرى " المتوفى 581 هـ، والثاني: عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية صاحب "المحرر" في التفسير المتوفى سنة 541 هـ انظر " السير " 19/ 586 و21/ 198.
(3) الذي يندرج في هذه الطبقة من آل تيمية اثنان الأول صاحب " المنتقى " محب الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله بن الخضر المتوفى سنة 652 هـ، والثاني ولده الشيخ الإمام العلامة المفتي شهاب الدين أبو المحاسن عبد الحليم بن عبد السلام المتوفى سنة 682 هـ.
(4) هو أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن يحيى بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الحافظ المتوفى سنة 661 هـ، وهو غير الحافظ ابن سيد الناس صاحب " عيون الأثر " فهذا وفاته سنة 734 هـ، وسيذكره المصنف في من هو بعد السبع مئة.(2/122)
ثم بعدَ سبع المئة الشيْخُ العلامة أبو الفتح محمدُ بن علي بن وهب القُشيري إمامُ المعقول والمنقول، وشمسُ الدين السُروجي عالم الحنفية، وأبو الوليد (1) إمام المالكية، وشيخ الحِلَّة العلامةُ الكبيرُ جمال الدين حسنُ ابن المطهر (2) المعتزِلي، وشيخُ الشافعية برهان الدين ابن التاج (3)، وشيخا الحنابلة مجدُ الدين (4)، وتقي الدين (5)، وشيخ بلد الخليل البرهان الجعبْري المقرىء (6)، وقاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة الكناني (7)، والعلامةُ الحافظُ ابن سيدِ الناس، والعلامةُ زينُ الدين عمر الكتاني (8)
__________
(1) المعروف من شيوخ المالكية ممن يكنى بأبي الوليد ثلاثة، وليس واحد منهم يندرج في هذه الطبقة، فالأول: صاحب " المنتقى " شرح الموطأ أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة 474 هـ، والثاني: صاحب " المقدمات والممهدات " قاضي الجماعة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 520 هـ، والثالث: صاحب " بداية المجتهد " محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد المتوفى سنة 595 هـ.
(2) توفي سنة 726 هـ مترجم في " الدرر الكامنة " 2/ 71، و" لسان الميزان " 2/ 317، و" البداية " 14/ 125 وهو صاحب كتاب " منهاج الكرامة " الذي رد علي فيه شيخ الإسلام بكتابه العظيم " منهاج السنة ".
(3) توفي سنة 728 هـ مترجم في " طبقات الشافعية " لابن شهبة 2/ 317.
(4) هو إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن الفراء الحراني " ثم الدمشقي الفقيه الإمام الزاهد مجد الدين أبو الفداء شيخ المذهب المتوفى سنة 729 هـ " ذيل الطبقات " 2/ 408.
(5) هو عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن أبي البركات البغدادي فقيه العراق، ومفتي الآفاق تقي الدين أبو بكر المتوفى 729 هـ " ذيل الطبقات " 2/ 410.
(6) وفاته سنة 732 هـ مترجم في " البداية " 14/ 160، و" الدرر الكامنة " 1/ 50، و" الأنس الجليل " 2/ 496، و" طبقات السبكي " 9/ 398.
(7) هو بدر الدين محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة الكناني الشافعي المتوفى سنة 733 هـ انظر ترجمته في " البداية " 14/ 163، و" الدرر الكامنة " 3/ 280، و" شذرات الذهب " 6/ 105.
(8) في الأصول: " الكناني " بالنون، وهو تصحيف، قال الحافظ في " تبصير المنتبه " 3/ 1208، والعلامة زين الدين عمر بن أبي الحرم الكتاني، ويعرف بالكتناني بزيادة نون، أخذ عنه جماعة من شيوخنا. قلت: له ترجمة في " الدرر الكامنة " 3/ 961، و" طبقات الشافعية " للسبكي 10/ 377، و" حسن المحاضرة " 1/ 425، و" ذيول العبر " 23، توفي سنة 738 هـ.(2/123)
وطبقتهم.
وبعدَ هؤلاءِ على رأسِ ثماني مئة سنة شيخُ الإسلام البلقيني، والعلامة سِراج الدين ابنُ النحوي الأنصاري، وحافظُ العصرِ زينُ الدينِ العراقي العلامة، وطبقتُهم.
فهؤلاءِ وأضعافُهم مِن أهل هذه الطبقاتِ، ومنْ هو أَجَلُّ منهم ممن لم نذْكُرْهُ مِن الأئمة والسادات كُلُّهُمَ قد غَمَصهُمْ السَيدُ -أيدَهُ اللهُ- تصديقاً لبعض الشافعية، وحرصاً على توعير المسالك العلمية.
والعجبُ أنَّ السَّيِّدَ منع الاجتهاد بعدَ مئتي سنةٍ من الهِجرة، وإنما تمهدَت قواعد الاجتهاد، واشتهر التحقيقُ والانتقادُ بعدَ هذا التاريخ، فإنها تمكنتْ بعدَ ذلك مملكة الإسلام، ونشأ فيها العلماءُ الأعلام حتى كان المجلسُ الواحدُ بعدَ خمسين ومئتين من الهجرة يَجتَمِع فيه قدرُ مئتي إمام قد بَرَزوا، وتأهلُوا للفُتيا، هكذا نقلَه أهلُ المعرفة بعلم الرِّجال والدِّرية في التاريخ، ولقد صنَّفَ الحافظُ المِزِّي كتابه " تهذيب الكمال " في مئتي جزء، وخمسين جزءاً (1)، وصنَّفَ الفَلَكِيُّ (2) في هذا العلم ألف جزءٍ، وصنف غير واحد من الحفاظ ما لا يأتي عليه العَد من المصنفاتِ البسيطةِ والمختصرة في نقدِ الرجال، والتعريفِ بأحوالهم، وتفاوتهم في مراتب العلم، والفضل، لئلا يلتبِسَ الفاضلُ بالمفضول، ويختلِطَ الخبيثُ
__________
(1) وقد باشرت مؤسسة الرسالة نشرة نشرة علمية محررة بتحقيق د. بشار عواد، وبمراجعتي وتخريج أحاديثه انتهي منه إلى القراء سبع مجلدات، والثامن في الطريق إليهم إن شاء الله. وسيقع في أربعين مجلداً أو أقل بقليل، يسر الله إتمامه.
(2) هو الحافظ البارع أبو الفضل علي بن الحسين بن أحمد بن الحسن الهمذاني المشهور بالفلكي المتوفى سنة 427 هـ مترجم في " السير " 17/ 502 - 503 رقم الترجمة (325) وفيه: صنف الكتب منها الطبقات الملقب بـ " المنتهي في معرفة الرِّجال " ألف جزء.(2/124)
بالطيب، والذُّنابى بالقَوادمِ، والأئمة بالعامة.
فمن طالع كُتُبَ الانتقاد، وَأنِسَ بعلم الرجالِ، عَلِمَ أن الله تعالى لم يُخْلِ العبادَ والبلاد من حُجَةٍ لله تعالى من العِترة الطاهرةِ، وأشياعِهم نجوم العلم الزاهرة، وسائر العلماء الأعلام في جميع مملكة الإسلام.
الوجه الثاني: مِن الجواب على توعير السيد -أيَّدهُ الله- لمسالك العلم بقول بعض أصحاب الشافعي أن نقول: إما أن يكونَ الذي حمل هؤلاء على هذا القول هو أنَّهم نظروا إلى ما اختُص به الإمامُ الشافعي من التبحُّر في الفقه، والتضلُّع في العلم، وسائر ما وهب الله له مِن الكثيرِ الطيب من المناقبِ العزيزةِ، والمعارف الغزيرة، وهذا مُسلَّم لهم، فإنَّ الشافعي رحمه الله إمامُ الإسلام بلا مُدافعةٍ، وَحَبْر الأمة بلا منازعةٍ، لكنهم لما رأوْا كثيراً ممن بعدَه مِن الفقهاء، أو ظنُوا أن جميعُ منْ بعده من العلماء لا يلحقون بشأوه في سَعَة العلم، وحُسن الفهم، قضَوْا بتعذُّرِ الاجتهاد بعده ظناً منهم أن من لم يَكُنْ مثلَه رحمه الله، فليس بمجتهد، فهذا غلطٌ عظيم، ووَهْمٌ فاحش، فإنه لا يلزمُ -إذا فضل اللهُ الشافعي على كثير من خلقه، وأعطاه من العلم أكثر من القدر الواجب في حقِّ المجتهد- أن يُحَرم الاجتهادُ على العلماء من بعده، ألا ترى أنا نقول: إنَّ عليّاً عليه السلامُ أعلمُ الأمة على الإِطلاق، ولم يلزم أنَّه لا مجتهدَ بعده.
وتلخيصُ هذا الوجه: أن للعلم شروطاً محصورةً، ورسوماً معروفة، من جمعها كان عالماً، ومن حازها، صار مجتهداً، وإن كان علي عليه السلام، والهادي عليه السلام، والقاسم أعلم منه، والشافعي، ومالكٌ، وأبو حنيفه أفقه منه. وإنما يَصحُّ كلامُهم لو قد ورد نص شرعي، أو إجماعٌ قطعي أن شرط الاجتهاد أن يكونَ المجتهدُ مثل(2/125)
الشافعي في علمه وفِطنته، ونظيرَه في مهارته، وبراعته، وهذا ما لا يقولُ به منصِفٌ، ولا يَرْتَضي عاقلٌ أن يُنْسَبَ إِليه، وقد أجاد من قال في هذا المعنى:
كُنْ عَيْنَ عَصْرِكَ أَو كُنْ مِنْ عُيُونِهُم ... وَعَدِّ عَنْ زَمَنٍ بالأمْسِ مَطْمُوسِ
وَمَا عَلَيْكَ إِذَا لَمْ تَرْقَ مَرْتَبتَيْ ... أَبي حنيفة والحبر ابنِ إدرِيْس
وأما إن قالوا: إن ذلك متعذِّر لمثل ما قاله السَّيِّد مِن تهويل شأنِ الاجتهاد، والاستنكارِ لحصوله، والاستبعادِ، فإنا نقول لهم: بَيَنُوا لنا هذا الأمرَ العظيمَ الذي تعذَّرَ بعدَ الشافعي على جميع أمةِ الرسول عليه السلامُ مِن جميع طوائف الإسلام من العلماءِ الأعلام، وشُعَلِ الذكاءِ المتَّقدة، وَنُقَّادِ النظار مِن كل فِرقة في مقدارِ ستة قرون، وهل شرائط الاجتهادِ بعدَ صِحة الإسلام إلاّ قراءة ثلاثةِ فنون: اللغة العربية لفظاً وإعراباً ومعانيَ، والأصولِ، والحديثِ، وجمعُ قدرِ مئتي آية، ومسائلِ الإجماع في كُرّاس أو اثنتين، فإن عَرَضَتْ مسألةٌ دقيقة، وحادثةٌ عويصة راجع المجتهدُ فيها المبرِّزينَ من العلماء، والكُتُبَ الحافِلة من المصنَّفات، كما لم يَزَلْ أهل العلم يفعلون، فإن عَرَفَها، وإلا توقَّفَ فيها كما توقَّف خلق من العلماء (1) في كثيرٍ من المسائل، ولا بُد مِن قراءةِ كتابٍ حافل في كُلِّ فَنٍ من هذه الفنونِ قراءةَ بحثٍ وإتقانٍ، وأصعبُها علمُ العربية، وقد تقدَّمَ بيانُ المحتاج إليه منه، والاستدلالُ على ذلك، وبقيةُ الفنون بعدَه في غاية السُّهُولَةِ على أهل الفِطنة والرغبة، وما أعلم أنَّ أحداً مِن جماهير العلماء نصَّ على أكثر من هذا في شرائط الاجتهاد، لا مِن المتقدمين، ولا مِن المتأخرين، ولا مِن المُيَسيرينَ، ولا مِن المعسِّرينَ. وهذه مصنفاتُ
__________
(1) في (ب): من المتقدمين العلماء.(2/126)
العلماء موجودةٌ بِحَمْدِ اللهِ، من ادَّعى أنهم نصُوا على أكثرَ من هذا، فليُوقِفْنَا عليه، وأما ما يُطوِّلُونَ بذكره من معرفةِ الناسخِ والمنسوخ، والعمومِ والخصوصِ، ونحو ذلك، فذلك كُلُّه داخلٌ فيما ذكرتُه مِن قراءة تلك الكتب.
الوجه الثالث: إذا ادَّعى جماعةٌ من أصحابِ الشافعي جهلَ الأمَّة والعِترة، فقد ادَّعى العلمَ غيرُهم من أئمة العِترة وعلماء الأمة، فتعارضَ كلامُهم، فنظرنا في الترجيح، فوجدنا تصديقَ أئمةِ العِترة، وعلماء الأمة أرجحَ لوجهين:
الأول: أن هؤلاء الأئمة ادَّعوا العلمَ، وقولُ العدل المرضي: إنه مجتهدٌ مقبول إجماعاً، وهو أحدُ الطرق إلى معرفة اجتهادِ العالم. وأما دعوى بعضِ الناسِ لجهل العلماء مع إنكارِ العلماء لذلك، فلا يُقْبَلُ إِجماعاً، لأنَّه ليس لنا أن نُصدِّق من ادعى على مسلم ما يُدخِل عليه النقص مِن غير بينة ولا حجة، وذلك المسلم منكرٌ لتلك الدعوى، سواء كان المدعي عدلاً أو مجروحاً، معروفاً أو مجهولاً، وهذا إجماع.
الثاني: أن بعضَ أصحاب الشافعي نَفَوْا الاجتهاد، وأئمة العِترة وعلماء الأمة أثْبَتُوه، والمثبت أولى من النافي، وهذا واضح على أن في أصحابِ الشافعي رحمهم الله من ردَّ على هؤلاء المتشددين مثل الإمام يحيى بن أبي الخير العمْراني (1)، فإنَّه حكى ما قالُوا، وردَّ ذلك بسهولة العلم بعدَ تدوينه في الكتب.
الوجه الرابع: الدليلُ قائم على غَلَطِ منْ قال بذلك ووهمه، والسيدُ أيده الله لا يزالُ يُقرىء أنَّه لا يجوز خُلُوُّ الزمان مِن مجتهد يَصْلُح للإمامة،
__________
(1) شيخ الشافعية في اليمن صاحب البيان وغيره من المصنفات، المتوفى سنة 558 هـ، مترجم في " طبقات الشافعية " للسبكي 7/ 336 - 338.(2/127)
فكيف يُصدِّقُ بعضَ أصحاب الشافعي، وهُو لا يزالُ يُقرِىء (1) ما يقتضي بطلانَ قولهم عنده، أيدَه اللهُ.
الوجه الخامس: قد ثَبَث أنَّ الأمةَ معصومةٌ، وأن إجماعَها حُجَّةٌ إلى يومِ القيامة، وأن المعتبر في الإجماع هُمُ العلماء، وهذه دعوى لجهلِ الأمة تَقْتَضي عدمَ العِصمة، وبطلانَ كونِ الإجماع حجة، وذلك لأنَّه لو لم يكن فيهم مجتهدٌ، وَحَدَثَتْ حادثة ليس فيها ما يَصِحُّ رجوعُهم إليه مِن دون الاجتهاد، فإما أن يُجْمِعُوا أو يختلِفُوا، وعلى كلا الطريقين يلزمُ إما اجتماعُهم على الضلالة، أو خَبْطُهم عند الاختلاف في الجهالة، وذلك لأنَّ كلامهم إما أن يكون بالجُزاف (2) والتَّبخيت، وهذا لا يجوز، أو بالاستدلال وهو لا يجوز أيضاًً بعدَ فرضِ جهلهم - صانهم اللهُ عن ذلك.
الوجه السادس: أنا نعلمُ أنَّ المدعي لجهل الأمةِ والأئمةِ متهوِّرٌ مجازِف، وذلك لأنَّه لا سبيلَ له إلى المعرفةِ بجهل الأمة والأئمة مع كثرة العلماءِ والمتعلمينَ في جميع الأوساطِ والأطرافِ من المملكة الإسلامية في الشام ومصر والغرب، والعراقَيْنِ، واليمن، والجزيرة. ومنتهي الأمرِ أنَّه طلب فلم يَجِدْ، فعَدَمُ الوِجدانِ لا يَدُلُّ على عدمِ الوجود، والعجبُ من الرَّازِي أنَّه ادَّعى ذلك مع أنَّه لا يزال يستدِلُّ بهذا الدليل.
والعجبُ منه أيضاًً أنَّه قال: العلم بإجماع المتأخرين محالٌ مع فُشُوِّ
__________
(1) في (ب): يقوي.
(2) الكلام الجزاف: الكلام الذي يقال بلا علم ولا روية ولا تثبت، والتبخيت من البخت، وهو الحظ، وقد تكلمت به العرب، قال الأزهري: لا أدري أعربي هو أم لا، ورجل بخيت: ذو جد، قال ابن دريد: ولا أحسبها فصيحة، والمبخوت: المجدود. وفي " اللسان ": وقد تكلمت به العرب، ومثله في " شفاء العليل " وقال صاحب " المصباح ": البخت: الحظ وزناً ومعنى، وهو أعجمي معرَّب.(2/128)
الإسلام، وتباعُدِ أقطاره، وكثرة أمصاره، وتفرقِ العلماء في أنجاده وأغوارِه، وادَّعى أن العلمَ بأعيانهم محالٌ، ومعرفة أقوالهم فرعٌ على معرفة أعيانهم، وفرعُ المحالِ محال، فنقول له: وكذلك معرفةُ أعيانِ الأمة أكثرُ إحالةً من معرفة أعيان علمائهم، والحكم عليهم بالجهل فرعٌ على معرفة أعيانهم، وفرعُ المحال محالٌ.
الوجه السابع: أن في الحديثِ الصحيحِ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الكِبْر، فقال: " هو بَطرُ الحَقِّ، وَغَمْصُ النَّاس " (1) والقولُ بتجهيل أكثر الناسِ، وتكذيبهم في دعواهم للاجتهاد مِن غَمْصِ الناس، فثبت أنَّه حرام، وما ثبت أنَّه حرامٌ، بَطَلَ أن يكونَ حجة.
الوجه الثامن: أن هؤلاء الذين ادعوا أن لا مجتهدَ قد أقرُّوا على أنفسهم بالجهلِ، فلا طريق لهم إلى نفيِ وجود العلماء، لأنَّه لا يَعْرِفُ العلماءَ إلاَّ مَنْ هو منهم، وكذلك لا يَعْرِفُ الفضل لأهل الفضل إلاَّ ذوو الفضلِ، والمرءُ عدوُّ ما جَهِله، فربما أنهم لجهلهم بالعلم والعلماء اعتقدوا في أهل العلم أنهم من أهل الجهل، وآفةُ التِّبْرِ ضعْفُ منتقدِه، وما أحسنَ، قولَ شيخ المعرة:
__________
(1) أخرجه من حديث ابن مسعود أحمد 1/ 385، و427 ومسلم (91) والترمذي (1999) وأبو داود (4091)، والحاكم 4/ 182، والطبراني في " الكبير " (10533) وابن خزيمة في " التوحيد " ص 247، وابن سعد 7/ 475 أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرةٍ من كبرٍ " قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة. قال: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس "، وبطر الحق: هو أن يتكبر عن الحق فلا يقبله، وغمط الناس: الاستهانة بهم، واستحقارهم.
وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي داود (4092)، والحاكم 4/ 181 - 182.
وعن عقبة بن عامر عند أحمد 4/ 151.
وعن الله بن عمرو عند أحمد 2/ 169 و225، والبخاري في " الأدب المفرد " (548) وعن أبي ريحانة عند أحمد 4/ 133 - 134، وابن سعد 7/ 425.(2/129)
والنجْمُ تَسْتَصْغِرُ الأبْصَارُ رُؤْيَتَهُ ... والذنْبُ لِلطَّرْفِ لا لِلنَّجْم في الصِّغَرِ (1)
وليسَ هذا الاعتقادُ بضائرٍ لعلماء الأُمَّة، فالدُّرُّ دُرٌّ برغم من جهِلَه.
وبتمامِ هذا الوجه، تمَّ الكلام على المسألة الأولى، وهي الكلامُ على سُهُولَةِ ترقِّي مرتبة الاجتهاد.
ثم إنَّ السَّيِّدَ أيَّده الله أردفها بالمسألة الثانية في القَدْحِ في كتب الحديثِ المشهورة.
ولما أردتُ الجوابَ عليه، تأمّلْتُ كلامَه، فإذا أكثرُه مبني على الِقدح بالتأويل، ومتركّب عليه في الإجمالِ والتفصيل. فرأيتُ تقديمَ الكلام على هذه المسألة الثالثة صالحاً، وتمهيد هذه القاعدة قبل التفريع عليها راجِحاً، وذلك، لأنَّ السَّيِّد خَلّل ذِكْرَ هذه المسألة في غُضون كلامه، وهي مسألة كبيرة لا يُمكِنُ التعرض لها في ضِمنِ غيرها، ولا بُدَّ من إفرادها، والسيدُ قد أفردها في رسالته، ولكنه أخَّرها، وما يليق تأخيرها، لأنها أساسُ المسألة الثانية، والذي يليقُ في الترتيب تقديمُ الأساسِ، والقواعدِ على ما يتفرع عليها من الفوائد، فلنذكر كلامَ السيد أيَّده الله بلفظه، ثم نتبعه الجوابَ كما قدمنا.
قال: المسألة الثالثة: في رواية كُفَّارِ التأويل وفسَّاقه وقد قدمنا أن قاضي القضاة روى الإجماعَ على ردِّ رواتهم، وتأول كلامَ الفقهاء.
أقول: الكلام في هذه المسألة يَتِمُّ -إن شاء اللهُ تعالى- في
__________
(1) هو في " سقط الزند " ص 61 من قصيدة مطلعها
يا ساهِر البرق أيقظ راقدَ السَّمُرِ ... لَعلَّ بالجِزع أعواناً على السَّهر(2/130)
فصلين، أحدُهما: في تَتَبُّعِ كلامِ السيد، وذكر ما يَرِدُ عليه من الإشكالات، والثاني: في ذكر الأدلةِ على قَبول المتأوِّلين.
أما الفصل الأول: فاعلم أنَّه يَرِدُ على كلامه إشكالات كثيرة جداً تبلُغ مئتي إشكال، أو تزيدُ على ذلك، وسوف أُبيِّنُها مقسمة على فصولِ كلامه، فمنها على هذا الفصل المقدم عشرةُ إشكالات:
الإشكال الأول: أن السَّيِّد قال: قد قمنا أن قاضي القضاة روى الإجماعَ على ردَّ روايتهم، والسيد إنما قدَّم رواية قاضي القضاة (1) في حقِّ كُفَارِ التأويل فقط، وقد جعلها هنا في حق كفار التأويل وفُساقه، وهذا سَهْوٌ من السيد، إن شاء الله تعالى.
الإشكال الثاني: أنَّ السَّيِّد قد أثبتَ قاعدة كبيرة، وهي أن كُلَّ من كذب متأوِلاً، فهو غيرُ مقبول قياساً على الخَطابِية كما سيأتي كلامُه في ذلك، وقاضي القضاة على أصل السَّيِّد من جملة منْ كذب متأولاً لخلافه في مسائل الإمامة، فما بالُ السَّيِّد نقض ما بناه مِن تلك القاعدة، وروى عن مَنْ يعتقِدُ أنَّه من الكذابين.
الإشكال الثالث: أن السَّيِّد أيَّده الله قال في حق ابنِ الصلاح لما اعتقد أنه (2) روى الإجماع على صحة " صحيحي " البخاري ومسلم ما لفظه: وليت شعري كيف كان هذا الإجماع (3)؟ أكان بأن طافَ هذا السائلُ جميع البقاع، أم بأن جُمِعَ له علماء الأمة في صعيدٍ واحد؟.
__________
(1) هو عبد الجبار بن أحمد الهمذاني المتوفى 405 هـ شيخ المعتزلة في عصره، وهم يلقبونه قاضي القضاة، ولا يطلقون هذا اللقب على غيره.
(2) في (ب): أن.
(3) في (ب): الاجتماع.(2/131)
فنقول للسيد: ليت شعري كيف كان هذا الإجماعُ الذي رواه قاضي القضاة؟ هل بأن طافَ جميعَ البقَاع، أم بأن جُمِعَ له علماءُ الأمة في صعيدٍ واحد؟ فإنَّ السَّيِّد باعتراضه هذا على ابنِ الصلاح قد لزِمَة ألا يَصحَّ إجماع إلاَّ ممن طاف جميعَ البقاع، أو جُمِعَتْ له الأمة في صعيد واحد، وفي هذا الكلام سؤال وجواب سوف يأتيانِ -إن شاء الله- عند ذكر (1) كلام ابن الصلاح.
الإشكالُ الرابع: أن السَّيِّد روى هذا عن أبي الحسين عن قاضي القُضاةِ مع أنَّه قد روى عن أبي الحُسين أنَّه يقبلُ كفارَ التأويلِ وفساقه، فلا يأمن أن أبا الحسين روى هذا عن أحدٍ منهم عن قاضي القضاة، وقد ألزمنا السيد فيما احتمل مثل ذلك أن لا يرويه إِلاَّ بعدَ تبرئةٍ صحيحةٍ، فكان يلزمُ السيدَ أَن يُبَيِّنَ تبرئةَ أبي الحسين عن ذلك إن كان يعلمُها وإن لم يكن يعلمُها، لزمه أن لا يرويَ عنه.
الإشكال الخامس: أنَّه قال: إنَّ الرواية عن المتأوِّلين ركونٌ إليهم، وإن الله تعالى قد قال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، ثم إنَّه روى عن أبي الحسين، وقاضي القضاة مع أنَّه قد رُوِيَ عنهما أنهما يقبلان المتأوِّلين، وذلك عنده ركونٌ إلى الظالمين، واتِّباعٌ للمُفسدين، وقد توعُّد اللهُ تعالى على ذلك بالنَّارِ، ومذهبُ الزيديةِ أن كلَّ معصيةٍ توعَّد الله عليها، فإنها كبيرة، وردُّ المتأولين عند السيد قطعي لا يعذر المخالص فيه، فيلزمُك ردُّ رواية أبي الحسين، وقاضي القضاة، وتفسيقهما على مقتضى كلامِك مع البقاءِ على مذهب الزَّيْدِيّة.
__________
(1) لفظ " ذكر " لم ترد في (ج).(2/132)
الإِشكال السادس: أنَّ المعتزلة بأنفسهم مِن جملة الَّذيْنَ ظلموا، لخلافهم لأهل البيت في الإِمامة، واعتقادهم أن أهلَ البيت اجتمعوا على الضلالة في مسألة قطعية، وغير ذلك. ولا شكَّ أنَّ ذلك عندَ أهل البيت معصيةٌ قطعاً، محتملة للكِبر يُطلق على صاحبها اسمُ العصيان والظلم، وأنت قد قلتَ: إنَّ الله قال لنبيه (1): {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وقلت: وفيها مِنَ الوعيد ما ترى، وقد قلَّلَ الركونَ بقوله: {شَيْئًا قَلِيلًا}، هذا لفظُك، وهو حجةٌ عليكَ لأنك رويتَ عنهم، وركنت إليهم على مقتضى كلامِك.
فإن قلت: الإجماع دلَّ على قبول من لم تبلغ بدعتُه الكفْرَ، والفسْقَ، فيجبُ أن يُخَصُّوا مِن تلك العمومات؟.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّه لا طريق لك إلى معرفة الإجماعِ، لأنك قد اشترطت أن يكون راوِيه طافَ جميع البقاع، أو جُمِعَتْ له الأمةُ في صعيدٍ واحدٍ إِلَّا أن يُقصَر هذا الشرطُ على ابن الصلاح، فأنت محتاج إلى دليل على تخصيصه بذلك.
الثاني: أنَّا نُعارضُك بمثل كلامك، فنقولُ في جميع المتأولين: قد ثبت الإجماعُ على قبولِهم من طُرُقٍ لا تنحصرُ سوف نذكُرُ منها عشرَ طُرُقٍ في الفصل الثاني، إن شاءَ اللهُ تعالى. فنحن أيضاً نُخْرِجُ المتأوِّلين، ونخصُّهم من تلك العمومات، فما لك والتهويل بذكرِ العمومات المخصوصة، والظواهر الظنية؟ وهلاَّ سلكت مسالِكَ العلماء في ذكر
__________
(1) " لنبيه " ساقطة من (ج).(2/133)
الخلافِ، والدليل مِن غير تعريض بالتأثيم والتضليل.
الإشكال السابع: أنك قد حَكَيْتَ عن قاضي القضاة أنَّه يقبلُ فُسَّاقَ التأويل، ثم احتججتَ بالإجماعِ الذي رواه، فما أمنك أنَّه استند في معرفة الإجماع إلى فُسَّاقِ التأويل (1) فَقَبِلَ روايَتهم أو (2) نظر في تواريخهم ومصنفاتهم في أخبارِ الصحابة فاعتقد (3) ذلكِ تصديقاً لهم لا سيما وقد نصَّ القاضي على جوازِ الخبرِ بالظنِّ مع تجويز الكذب كما قدمنا في الكلام على الوِجادة.
الإشكال الثامن: أنك ساويتَ بين المتعمِّدِ للمعصية والمتأوِّلِ في ردِّ حديثهما، كما قررتَ ذلك في المسألة الثانية، وللمعتزلة معاصٍ لوْ تعمَّدُوها، وتعمَّدُوا الإصرارَ عليها، قدح ذلك في عدالتهم، وأوجبَ ردَّ روايتهم، لأن مَنْ فعل الذنبَ الملتبس، وأصرَّ عليه، وامتنعَ مِن التوبة، لم يُقبل عند أهل المذهب، والسيد مقلِّد لهم، متبرئٌ من الاجتهاد، فيلزمه أن لا يقبلَ رواية المعتزلة. فإن اعتذر بالإجماع على قبولِ مَنْ لم تبلغ بدعته الكفر أو الفسق. قلنا: فدل الإجماعُ على بطلان دليلك، حيثُ ساويتَ بينَ المتعمد والمتأوِّل، والإجماع قد فرَّقَ بينهما.
ثم الجوابانِ المتقدِّمان في الإشكال السادس يَرِدَانِ ها هنا.
الإشكالُ التاسع: أن السَّيد قد منعَ من الرواية عن العلماء إلا بعدَ تحصيلِ إسنادٍ صحيحٍ حتى منع رواية الصحاح عن مصنفيها، فهو أيضاً
__________
(1) من قوله: " ثم احتججت " إلى هنا سقط من (ج).
(2) في (ب): و.
(3) في (ب): فاعتمد.(2/134)
يحتاج في رواية هذا الإجماع إلى إسناد (1) صحيح رجاله عدول عدَّلَهُمْ عُدول، وثبت تعديلُ العدول لهم بإسناد صحيح كذلك، كما ألزمنا، فإن كان هذا حَصَلَ له، وتيسَّرَ، فلعل الذي يَسَّرَهُ له يُيَسِّرُهُ لنا في رواية الصحاح عن أهلها، وإن لم يكن تيسَّر له، فما يليقُ منه أن يرتكِبَ ما يعتقد أنَّه حرامٌ.
الإشكال العاشر: أن رواية القاضي معارضَةٌ بأرجح منها، وذلك من وجهين، أحدهما: أن جماعة من أهلِ البيت، عليهم السلامُ قد رَووا الإجماع على قبول الكُفارِ المتأولين منهم السَيدُ المؤيَّد بالله، والإمام المنصور بالله، والإمامُ المؤيدُ بالله يحيى بنُ حمزة عليهم السلامُ، وكذلك القاضي زيدٌ، والفقيهُ عبدُ الله بنُ زيد، وسيأتي بيانُ رواياتِهم في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى.
وقد قال السيد: إن روايةَ العدل المتنزه من البدع مقدمة على رواية المبتدع بالإجماع، وقاضي القضاة مبتدع عند الجميع، لمخالفته لأهل البيت عليهم السلامُ في مسائل قطعية فوجب ترجيحهم عليه، فكان يلزم السيد ذكر هذا إن كان يعرفه.
وثانيهما: معارضة القاضي برواية الخلاف، فقد رواه عددٌ كثير، وجمٌّ غفير، وسوف يأتي الكلامُ على هذا في الفصل الثاني. وقد أشار السيد إلى هذا الوجه الثاني، ورجَّحَ رواية القاضي بما يأتي بيانُه، والجوابُ عليه، إن شاء الله.
قال: وكذلك السَيدُ أبو طالب حكى الإجماع في كفار التأويل.
__________
(1) من قوله: " حتى منع " إلى هنا ساقط من (ج).(2/135)
أقول: يَرِدُ على هذه الدعوى للإجماع من طريق أبي طالب عليه السلام إشكالات:
الإشكالُ الأوَّل: أن السَّيِّد قد أقرُّ في آخر كتابه في المسألهَ الثانية أنَّ الشيخَ أحمد روى عن أبي طالب قريباً من الإجماع. هكذا نصَّ السيدُ في كتابه، ثم لما وصل إلى هذا المكان جعله إجماعاً، ولا شكَّ أن بَيْنَ الشيء وبَيْن ما هو قريبٌ منه فرقاً ظاهراً، لأن الشيء غيرُ ما هو قريبٌ منه بالضرورة، فكيف استحل السيدُ أن يرويَ عن أبي طالب أنَّه روى الإجماع على الإطلاق مع إقرار السَّيِّد أنَّه ما روى إلا قريباً من الإجماع؟! وكيف لو لم يتقدم مِن كلام السيدِ ما يَشْهَد ببُطلانِ دعواه هذه، ألم يكن الواقفُ عليها يغترُّ بها، ويبني عليها حُكماً شرعياً. وليت شعري ما حدُّ مقاربة الإجماع، فهذه عبارة غريبة ما علمتُ ذكرها أحد من العلماء، ويُقوي ذلك أن السيدَ أبا طالب شَحَن كتابه " الأمالي " بالرواية عن أئمة الحديث المخالفين في الاعتقاد كالحافظِ أبي أحمد عبدِ الله بن عدي شيخِ أبي طالب روى عنه في " أماليه " مشافهةً قدرَ تسعين حديثاًً، وخرَّج فيه حديثَ أبي داود، وابنِ ماجة، وابنِ السُّني، وأحمدَ بنِ حنبل، وابنِهِ عبدِ الله بن أحمد بن حنبل، ومالكٍ، وعبدِ الرحمانِ بنِ أبي حاتِم، والحسنِ بن سفيان النَّسوي، والحارثِ بن محمد بن أبي أسامة، والأنباري وهو محمد ابن القاسم (1) كذا وجدته بخطي، قال ابن الأثير في " الجامع ": وهو
__________
(1) هو الحافظ العلامة شيخ الأدب أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار النحوي صاحب التصانيف الكثيرة في علوم القرآن والغريب والمشكل والوقف والابتداء المتوفى سنة 328 هـ، وكان -كما وصفه الإمام الذهبي- من أفراد الدهر في سعة الحفظ والصدق والدين. " تذكرة الحفاط " 3/ 842 - 844 وهو مترجم في " سير أعلام النبلاء " 15/ 274 - 279.(2/136)
محمد بن سليمان (1)، فلعلَّهما اثنان فيُنظر ويحيى القطان، والحسين بن إسماعيل المحامِلي، ومحمد بن يونس الكُديمي، وأحمد بن عبد الله البَرْقي، والزهري وأمثالهم بأسانيدِهم، فلو كان يعتقِدُ اعتقادَ السيد من كفر هؤلاء الأعلامِ، والقَطعِ بتحريم الرواية عنهم، ما استكثر مِن حديثهم، وقوَّلَ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يَقُلْهُ لأجل روايتهم، ولعل السيدَ لا يعْرِفُ مَن هولاء، ولا ما مذهبُهم.
وبالجملة فالسيدُ مُظْهِرٌ لنُصرة مذهبِ الزيدية، لأنَّه معترف بالجهل، مانع من وجود من يُمكنُهُ الاجتهاد، ولا بُدَّ لمن تعصَّب لمذهبِ قوم من معرفة مذهبهم أوَّلاً، ثم العصبية ثانياً، والسيد بدأ بالعصبية قبل إتقان المذهب، وهو إلى الإشارة عليه بالبحث عن مذهب الزيدية أحوجُ منه إلى المناظرة على مذهبهم، نسأل الله الهداية.
وليت السيدَ يعرفُ رجال " أمالي " أبي طالب، و" أمالي " أحمد بن عيسى، فإنه لو عرفهم، ما لام مَن اعتمد حديث البخاري ومسلم على كُلِّ مذهب، ولكنه ... ولو وقف على أسماءِ الرُّواة في كُتُب الزيدية ربَّما جوَّزَ أنهم كُلَّهم من نُقاوة الشيعة وثقاتهم، وهذا عندَ أهلِ المعرفة كالبدوي يعتقِدُ أن الأئمة أنبياء، وأن الأنبياء ليسوا مِن البشر، ومن بلغ إلى هذا المبلغ، ثم ينتفِعْ بالحُجة، ولم ينتهِج المحجَّة، لطف اللهُ بالجميع.
الإشكال الثاني: أن السيد روى هذا الإجماعَ في كتابه عن الشيخ أحمد بنِ محمد الرَّصَّاص، عن أبي طالب عليه السلامُ، والشيخ أحمد باغٍ على الإمام أحمد بن الحسين، وقد حرَّم السَّيِّد الرواية عن البُغاة
__________
(1) محمد بن سليمان هذا من رجال " التهذيب " أخرج حديثه أبو داود في " سننه " وثقه الدارقطني، ومسلمة بن القاسم، مات سنة 234 هـ.(2/137)
المتأولين، وعدَّها من الرُّكون إلى الظالمين، فما بالُه يستحل أن ينسِبَ إلى الإمامِ الناطق بالحقِّ دعوى كبيرة تنبني عليها مِن الشريعة أحكامٌ كثيرة، ويجعل طريقَه إلى ذلك الركون إلى الظالمين، واتباع سبيل المفسدين.
الإشكال الثالث: أن السَّيد قد أصَّل أصلاً في إلزامه لابنِ الصَّلاحِ المتقدِّمِ، وهو يُوجِبُ عليه أن لا يقبلَ الإجماعَ إلا ممن طاف جميع البقاع، أو جمعت له الأمَّةُ في صعيدٍ واحدٍ كما لزِمَ ذلك ابنَ الصلاح.
الإشكال الرابع: أنَّه يحتاج في إسناد هذا إلى أبي طالب إلى إسنادٍ صحيح رجاله عدول بتعديلِ عدول معدِّلين حتى ينتَهي إلى زمانه كما ألزمنا.
الإشكال الخامس: لو قدرنا أن الشيخ أحمد لم يكن باغياً على الإمام أحمدَ بنِ الحسين عليه السلام، وأنه تاب وصحَّت توبتُه، فالسيد يحتاج إلى تعديله، وتعديلِ المعدل له، وإلى ثبوتِ ذلك التعديلِ عن المعدل بإسناد صحيح، رجالُه عدول كما ألزمنا، فإن مجردَ انتفاءِ البغي عنه لا يُوجِبُ كونَه عدلاً.
الإشكال السادس: ما تقدَّم في الِإشكال العاشر على تقديرِ صِحة هذا عن أبي طالب، وإلا فالظاهر أن السَيدَ مُقِرٌّ بعدمِ صحته، وإنما قاله سهواً. والله أعلم.
قال: وكذلك ابن الحاجب.
أقول: يَرِدُ على كلامِهِ هذا إشكالات:
الإشكال الأول: أنَّ السَّيِّد قد قال: إن علماءَ الأشعرية كفارُ(2/138)
تصريح، وإن الرواية عنهم ركونٌ إليهم، فكيف يروي عن المصرحين بالكفر، ويمنعُنَا الروايةَ عن المتأولين، فإن تأوَّل في ذلك لنفسه، وتطلَّب محملاً حسناً، فهلاَّ يَطْلُبُ لغيره مثل ما يطلُبُ لنفسه، فإنَّ حمل المسلمين على السلامة مشروع، وإن منع مطلق الرواية، فقد وقع فيما منع، وارتكب ما أنكر.
الإشكال الثاني: سلمنا أنَّ ابنَ الحاجب غيرُ معلومِ الكفر عنده، فِمنْ أين أنهُ عدل مأمون بتعديل عدلٍ، واتصال ذلك بإسناد صحيح كما ألزمنا.
الإشكال الثالث: أن السيد قد أقر -فيما تقدم- أن ابن الحاجب لم يرو الإجماعَ على ردِّ كفار التأويل، وإنما قال ابن الحاجب ما لفظه: والمبتدع بما يتضمِّنُ التكفيرَ كالكافر عند المكفر.
فأقول: ليس ينبغي مِن العالم إذا توهَّم شيئاً أو استخرجه من كلام غيره أن ينسِبَ ذلك القول الذي استخرجه إلى غيره كما لا يحل له (1) أن ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما استخرج من كلامه، وكذلك من استخرج مِن القرآن حكماً أو معنى لم يَحِلَّ له أن يقول فيما استخرجه: قال الله، والعِلةُ في ذلك أنَّه كذب لا غير، والكذب مُحَرَّمٌ على الله تعالى، وعلى رسوله، وعلى كل أحدٍ، وقد يستخرج العالم أمراً ويُخالفه غيرُه، ألا ترى أن أبا طالب والمؤيد يختلفان فيما يُخرجانه للهادي عليه السلام وكُلُ واحدٍ منهما يعلم اللفظ الذي خرَّج منه صاحبه، ولا يرتضي ذلك التخريجَ، ولا يُساعد صاحِبَه على ما فَهِمَ منه، فكذلك كان يجبُ أن يُبيِّنَ السيدُ لفظ ابنِ الحاجب، ولا يُوهم أنَّه نصَّ على ذلك.
__________
(1) " له " من (ب) فقط.(2/139)
الإشكال الرابع: أنا نُبيِّن للسَّيِّد أيَّده الله ضعفَ مأخذه مِن كلام ابنِ الحاجب، فنقول: نصَّ ابنُ الحاجب على أن المبتدع بما يتضمنُ التكفيرَ كالكافر عند المُكَفرِ (1). ولكن المُكَفَرَ بعضُ الأمة، فلم يلزم أن تُجْمِعَ الأمَّةُ على ردِّه.
فإن قلت: كلامُهُ يقتضي أن الذين لم يكفروه لو كفَّرُوه لردُّوا روايتَه.
قلتُ: ليسَ كلامُه يقتضي هذا لوجهين:
أحدهما: أنَّ الذي لم يُكَفِّرْ لا يُسمَّى مكفراً لا حقيقةً، ولا مجازاً، وابنُ الحاجب إنما روى عمن يكفر. فأما قولُهُم في العَازم على فعل الشيء: إنَّه يُطلق عليه اسمُ الفاعل في مثل قولنا: زيد مسافر غداً، فإنما سَمَّوْهُ بذلك لعزمه على السفر، وأجمعوا على أن هذه التسمية مجازية لا حقيقة، وأما مَنْ ليس بعازمٍ ولا في حكم العازِمِ، فلا يُسَمَّى باسمِ ما لم يَفْعَلْهُ ألبتَّةَ، فإذا ثبت أنَّه لا يُسمَّى مكفراً، وثبت أن الأمَّةَ غيرُ مجمعة على التفكير، فقد تعذَّر أن يكونَ الإجماعُ مأخوذاً مِن نَصِّ ابنِ الحاجب، ولم يبقَ إلا المفهوم، وللمفهومِ أقسامٌ معلومة، وشروطٌ مذكورة، فأخْبِرْنَا مِن أيِّ أقسام المفهوم.
فإن قلتَ: هو من مفهوم الصفة، لأن المكفّر صفة.
قلت: إنَّ مفهوم الصفة هو مِن مفهوم المخالفة، لا من مفهوم الموافقة، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ المفهومُ أنَّه كالكافر عند المكفر لو قدَّرْنَا أنَّه كفر، وهذا ليس مِن المفهوم في شيء.
الوجه الثاني: أن زُبْدَةَ الكلامِ أن السيِّدَ توهَّم من ابن الحاجب أنَّه
__________
(1) " مختصر المنتهي " مع شرحه للعضد 2/ 62.(2/140)
قال: إن الذين لم يكفروا لو كفروا، لما قبلُوا من كفروه، وهذا ليس بدعوى للإجماعِ ألبتة، بل هذا دعوى على أهلِ الإجماع، وفرْقٌ بَينَ دعوى إجماع الأمة، وبينَ دعوى الإجماع على الأمة، فإن ابن الحاجب لو نص على هذا مَا صَدَقَ ولا صُدِّقَ، لأن هذا من قبيل علم الغيب فمن أينَ له أن الذين لم يُكفِّروا المتأولين لو كفَّروهم، لردوا روايتَهم، وما أمِنه أنهم يكفرونهم مع أنهم يقبلونهم، كما قد قال بذلك الشيخُ أبو الحسين وغيرُه.
فبان بهذا أن السَّيِّد ما أصاب بنسبته لدعوى الإجماع إلى ابن الحاجب.
الإشكال الخامسُ: من أين حَصل للسيد أيده الله إسناد صحيح إِلى ابن الحاجب، ولعل إسناد كِتاب (1) البخاري إليه أسهل مِن إسناد هذه الإجماعات التي رواها السيدُ إلى أربابها لِشدة العناية بسماع البخاري، فما بال السَّيِّد شَدَّدَ علينا في ذلك، ثم رخَّصَ لنفسه.
الإشكال السادس: مثل العاشر المقدم.
الإشكال السابع: مثل الإشكال الواردِ على ابن الصلاح، وقد مر تقريره.
قال: ومن روى الإجماع قُبِلتْ روايته، لأنها مثبتة، وتشهد بخلاف الأصلِ، فتكون أرجحَ.
أقول: لما فرغ السيدُ من دعوى الإجماع، وهو مقر بأن الخلاف مشهور في هذه المسألة، رأى ذلك متعارضاً، فأراد أن يُزيلَ التَعَارُضَ بترجيح رواية الإجماع على رواية الخلاف، ويرد على كلامه إشكالات:
الإشكال الأول: قال: ومن روى الإجماعَ، قُبِلَتْ روايتُهُ، لأنها
__________
(1) لفظ " كتاب " ساقط من (ج).(2/141)
مثبتة، وهذا ترجيحٌ للإثبات على النفي.
فنقول له: الترجيحُ إنما يَصِح بعدَ ثبوتِ الرواية، لكنا نُنازِعُك فيها مِن وجهين:
أحدُهما: جملي وهو عدم الطريق الصحيحة إلى هؤلاء الذين رويتَ عنهم أنهم روَوُا الإجماع كما تقدم.
ثانيهما: تفصيلي وهو القدحُ في كُلِّ طريق من طرق الإجماع كما تقدم، أما أبو طالب، فالراوي عنه بإقرارك أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، وهو فاسقُ تأويل، وأما ابنُ الحاجب، فهو عندك كافر تصريح، وأما قاضي القضاة، فهو عندك ممن استحل الكَذِبَ متأولاً، فوجب ردُّه قياساً على الخطابية، وهو ممن يَقْبَلُ فساق التأويل، فلا يؤمن أن يكون إسناده في: الإجماع إليهم.
الإشكال الثاني. أن السَّيِّد توهم أن راوي الإجماع مثبت، وراوي الخلاف نافٍ، وبنى على هذا ترجيحَ رواية الإجماع على رواية الخلاف، وهذا خطأ لا يخفي مثلُه على مَنْ دونَ السَّيد، فإن راويَ الخلاف مثبت للخلاف، كما أن راوي الإجماعِ مثبت للإِجماع، ومثل هذا لا يخفى على مَنْ له أدنى ذوقٍ.
فإن قال: إن راويَ الخلافِ نافٍ للإجماع.
قلما: ذلك أمر آخر غير الذي أثبته، وكذلك راوي الإجماع نافٍ للخلاف، فما لك لم تجعله نافياً؟! وكذلك كُل مثبت، فإنه ناف بالنظر إلى غيرِ ما أثبته، فمن شَهِدَ بالمالِ لزيد، فقد نفاه عن عمرو، وهذه غفلةٌ عظيمة.(2/142)
الإشكال الثالث: أن السيدَ رجح روايةَ الإجماع لمخالفتها للأصل، لأن الأصلَ الإجماع، وتوهم أن رواية الخلاف ليست كذلك، وهذا وهم أيضاً، فإن الأصلَ أن لا إجماع وأن لا خلاف، فروايةُ الخلاف أيضاًً مخالفةٌ للأصل، وهذا أيضاًً لا يخفى مثلُه.
فإن قلتَ: إنِّي أرِيدُ أن الأصلَ قبولُهم في العقل، فرواية الإجماع ناقلة.
قلنا: قد قررتَ في كتابك في هذه المسألة بعينها أن الأصل في العقل أن لا يقبلوا.
الإشكال الرابع: أنَّه رَجَّح بمخالفة الأصل، والترجيحُ بها مختلف فيه بين العلماءِ، وهو محتجٌّ على غيرِه، وليس بمحتجِّ لنفسه، ومِنْ حق المحتج على الغير أن لا يحتج عليه بمختلَفٍ فيه مِن غير دليل، بل لا بُد من دليل يُلزمُ ذلك الغيرَ الموافقةَ، وهذا لا يخفي مثله على مَنْ لَهُ معرفة بأساليبِ الجدل والمناظرات.
فنقول: بل ما وافق الأصلَ، فهو أولى لِوجهين:
الوجه الأول: أن الاستصحابَ -وهو البقاء على الأصل- حُجَّةٌ عند كثيرٍ من العلماء (1)، ومما يَدُلُّ على ذلكَ ما ثبت عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله " إنَّ اللهَ فرض فَرَائِضَ فلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وسَكت عنْ أشْياءَ رَحْمةً لَكُمْ مِن غيْر نسْيَانٍ، فلا تَتَعَرَّضوا لهَا ". رواه ابن ماجة (2).
__________
(1) انظر لزاماً ما كتبه عن هذه المسألة العلامة الشيخ محمد بخيت، مفتي الديار المصرية في " سلم الوصول " 4/ 358 - 376.
(2) هذا وهم من المؤلف رحمه الله، فالحديث لم يخرجه ابن ماجة، وإنما خرجه =(2/143)
وقال النواوي: هو حديثٌ حسن، وله شواهد من الصحيح.
واستيفاءُ الحُجَجِ في هذه المسألة مقررٌ في الأصول، وقد أخذ العلماءُ بهذا في مسائل كثيرة.
منها مَنْ شَكَّ في انتقاض طهارته بقي على الأصْلِ.
ومنها يومُ الشك في أول رمضان لا يجبُ صومُهُ لأن الأصلَ شعبان، ويوم الشك في آخر رمضان يجبُ صومُه، لأن الأصل رمضان، ونحو ذلك مما يكثر تعداده.
__________
= الدارقطني في " سننه " 4/ 184، والبيهقي في " سننه " 10/ 12 - 13، والخطيب في " الفقيه والمتفقه " من طرق عن داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة، وهذا سند رجاله ثقات إلا أن مكحولاً لا يصح له سماع من أبي ثعلبة.
وفي الباب عن أبي الدرداء مرفوعاًً " ما أحل الله في كتابه، فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه، فهو عافية، فأقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نسياً " ثم تلا هذه الآية (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أخرجه الحاكم في " المستدرك " 2/ 375، وصححه، ووافقه الذهبي مع أن سنده لا يحتمل إلا التحسين، وهو في " مسند البزار " برقم (2231) من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن إسماعيل بن رجاء بن حيوة، عن أبيه، عن أبي الدرداء، وقال: لا نعلمه يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد، وعاصم بن رجاء، حدث عنه جماعة، وأبوه روى عن أبي الدرداء غير حديث، وإسناده صالح، لأن إسماعيل حدث عنه الناس، وأورده الهيثمي في " المجمع " 7/ 55، وقال: رواه البزار ورجاله ثقات، وذكره في موضع آخر 1/ 171، وزاد نسبته إلى الطبراني في " الكبير"، وقال: إسناده حسن ورجاله موثقون.
وعن سلمان الفارسي سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن والجبن والفراء، فقال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه، فهو مما عفا لكم ".
أخرجه الترمذي (1726) وابن ماجة (3367) والحاكم 4/ 115، والبيهقي 10/ 12 وفي سنده سفيان بن هارون وهو ضعيف، والمرجَّح وقفه على سلمان.
وعن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تقذراً، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أخرجه أبو داود (3800) وإسناده صحيح، وصححه الحاكم 2/ 307، ووافقه الذهبي.(2/144)
فإن قلتَ: كيف تحتجُّ على الخصمِ بما يُنَازِعُك في صحته مِن حديث ابن ماجة؟
قلتُ: سيأتي الدليلُ على صِحته في الفصلِ الثاني إن شاء اللهُ تعالى، والدليلُ يوجبُ على الخصم الموافقة، كما أنا نحتج بإجماع أهلِ البيت على مَنْ يَقول: إنَّه ليس بحجة بعد أن يُقيمَ الدليلَ على أنَّه حجة.
إذا ثبتَ هذا فنقول: البقاءُ على الأصل حُجة، ورواية الثقة حجة، ولم يَقُلْ أحدٌ من الخلق: إن مخالفة الأصل حجة، ويجب ترجيح البقاءِ على الأصل، لأن حجتين أقوى مِن حُجة، فرواية العدل يعارضها روايةُ عدل مثلِه، ولم يُعَارِضِ الاستصحابَ شيء وهو إما حجة -كما هو رأيُ جماعة-، وإما محتمل أنَّه حجة، إذ الدليلُ على أنَّه ليس بحُجةٍ، ليسَ بقاطع، وهذا وجه ترجيح.
الوجه الثاني: أن نقول: قد ثبت أن الأصلَ لا يُخَالَف إلا بحجة إجماعاً من القائلين بأن الاستصحاب حجة، والقائلين بأنه ليس بحجة، وثبت الإجماع على أن ما يخالِفُ الأصلَ، لا يُقال به إلا بحجة، والذي لا يُنْتَقلُ عنه إلا بحجة أقوى من الذي لا يُقال به إلا بحجة.
الإشكال الخامس: أنَّه قد روى الإجماع على قبولهما ثلاثةٌ من أئمة الزيدية، واثنان من عُلمائهم، وهم المؤيدُ والمنصورُ، ويحيى بنُ حمزة عليهم السلامُ، والقاضي زيد، وعبدُ الله بن زيد رضي الله عنهما، وسيأتي في الفصل الثاني بيانُ روايتهم إِن شاء الله، وهُمْ أرجحُ مِن قاضي القضاة.
قال: وقال آخرون: الخلافُ في كفار التأويل واقع كما هو واقع في فسَّاق التأويل.(2/145)
وقال الرازي: لا يُعتبر كفارُ التأويل في الإجماع، وُيعتبرون في الرواية، وقد رُوي الخلافُ في فُساق التأويل عن الفقهاء قالوا: تُقْبَلُ روايتُهم، وهو مروي من أئمتنا عن المؤيدِ.
أقول: في كلامِه هذا إِشكالات:
الإشكال الأولُ: أن السَّيِّدَ ذكر في كتابه أنَّه لا يجوزُ للإنسان أن يُقْدِمَ على ما لا يأمَنُ كونَه كذباً، وشدَّدَ في رواية كُتُبِ الحديثِ عن مُصَنِّفِيها.
فنقول: مِنْ أينَ للسَّيِّد أيده اللهُ روايةُ صحيحةٌ بإسناد رجالُه ثقات إلى الفقهاء، وإلى الرازي، وإلى المؤيَّد بالله عليه السلامُ، فإنه كما لا يجوزُ الكذِبُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسبةِ الحديثِ إليه، فكذلك لا يجوزُ الكذبُ (1) على العلماء في نسبة المذاهبِ إليهم إلا بعدَ ثبوتِ طريق صحيحة.
الإشكال الثاني: أنَّ السيدَ قال: فهو مروي مِن أئمتنا عن المؤيَّد باللهِ موهما أنَّه ما روِيَ إلا عنه، وهذا تحاملٌ عظيمٌ، ونزوح عن الإنصاف إلى مكانٍ سحيقٍ، ولو كان خلافاً يخفى، لحملنا السَّيِّد على جهلِه، ولكنه منصوصٌ في " اللُّمَع " يُقرئه السيدُ كُلِّ عامٍ أن المؤيدَ بالله عليه السلامُ روى قبولَ كفار التأويل فضلاً عن فساقه عن جميعِ أصحابنا، وقد ذكر السيدُ في كتابه أن لفظَ أصحابنا يُفيد الإجماع، وأما الروايةُ في غير " اللمع "، فهي كثيرةٌ جداً، ولا لومَ على السَّيِّد في تركها، فلعلَّه لم يعرِفْها، وسيأتي بيانُ ذلك في الفصلِ الثاني إن شاءَ اللهُ تعالى.
__________
(1) في هامش (ب) ما نصه: يغلب على ظني أن هذه العبارة سبق قلم، والمراد: لا يجوز الرواية عن العلماء ... إلخ، وإلا لكان الاستثناء في قوة أن يقال: إلا بعد ثبوت طريق صحيحة، فيجوز الكذب على العلماء، ولا صحة له إلا بوجه بعيد. قاله عبد الله بن علي عفي عنه. نقل من خطه.(2/146)
الإشكال الثالث: أن نقولَ للسَّيِّد أيدَهُ اللهُ: إذا كنتَ مقرّاً أنَّ المؤيَّدَ بالله عليه السَّلامُ خالف في هذه المسألة، فإما أن تقول: إن الخلافَ فيها حرام أم لا، إن قلت: إنَه حرام كنتَ قد نسبت المؤيَّدَ بالله عليه السلامُ إلى ما لا يجوزُ من غير دليل، وإن قلتَ: إن الخلافَ شائع، فما لك والترسل على محمدِ بنِ إبراهيم في أمرٍ مباحٍ أو مندوبٍ.
قال: وأما الهادي عليه السلامُ، والقاسمُ عليه السلام، فروى الشيخُ أبو جعفر عنهما إنهم لا يقبلون، وقال أبو مضر عنهما: إنهم يقبلُون، وروايةُ الشيخ أبي جعفر أولى وأحرى على أصولِهما.
أقول: يَرِدُ على كلامه هذا إشكالات:
الإِشكالُ الأوَّلُ: أنا نقول: لما تعارضتِ الروايتانِ عن القاسم ويحيى عليهما السلام، شرع السيدُ يرفع التعارضَ بالترجيح، فرجح روايةَ أبي جعفر وهو نافٍ على روايةِ أبي مُضر وهو مثبت، وقد قدَّمَ قبل هذا بنحوٍ من أربعة أسطرٍ أو ثلاثة أن المثبت أولى من النافي حيث ظنَّ أن راويَ الإجماع مثبت، وراوي الخلاف نافٍ، وليس كذلك، بل هما مثبتانِ كما بيناه آنفاً، فلما وَصَلَ إلى النافي والمثبت على الحقيقة، قَدَّمَ النافي على المثبت، وهذا عجيبٌ، فلا أدري ما عُذْرُهُ.
الإشكال الثاني: أنَّه احتج لرواية أبي جعفر بأنَّها تُوافِقُ أصولَ الهادي والقاسم عليهما السَلام، وقد قدمنا أنَّ هذا معيبٌ عند النظار، لأن خصم السيِد -أيده اللهُ- ليس ملتزماً لما ترجَّحَ للسَّيِّد على جهةِ التقليد له، إذاً لكان تابعاً لا منازعاً، فكان يجبُ عليه أن يُبيِّنَ أصولَ القاسم والهادي عليهما السلامُ هذه التي ادعى عليها أنَّها توجِبُ رد قبولِ المتأولين، فإنا نخاف أن يكون السَّيِّدُ -أيَّده الله- استخرج ذلك لهما من وجه ضعيف.(2/147)
الإشكال الثالثُ: أنا نبين للسيِّدِ أيَّده الله أن للهادي والقاسم أصولاً تُوجِبُ قبولَهم، ويدل عليه وجهان:
أحدهما: أن السَّيِّد المؤيَد باللهِ عليه السلامُ خرج للهادي عليه السلام أنَّه يَقْبَلُهُمْ، رواه عنه الفقيه علي بن يحيى الوشلي (1) في " تعليقه " بلفظ التخريج، ورواه عنه القاضي شرفُ الدين حسنُ بنُ محمد النَّحوي رحمه الله في " تذكرته " (2) بلفظ التحصيلِ، ولم يختلِفِ الرُّواةُ في ذلك عن المؤيَّد عليه السلامُ.
وثانيهما: أن السيدَ أبا طالب نَسَبَ ذلك إلى الهادي عليه السلامُ في أحدِ تخريجَيْه رواه الفقيهُ علي بنُ يحيى الوشلي في " تعليقه " ونص في " اللمع " على ذلك فقال: قال السَّيِّد أبو طالب عليه السلامُ: وأما شهادة أهل الأهواءِ من البُغاة والخوارج، فإن جوازَ شهادَتِهم لا يمتنِعُ أن تُخرج على اعتبارِه عليه السلامُ أن تكونَ الملةُ واحدة، لأن هؤلاء كُلَّهم من أهلِ مِلةِ الإسلام، هذا لفظُه في " اللمع " فكيف رجَّحَ السيدُ روايةَ أبي جعفر لمجرَّدِ موافقتها لأصولهما موهماً أن ليسَ لهما أصولٌ تُوافِقُ روايةَ أبي مُضر، وهو يقرىء هذا في " اللمع " كُلَّ عام، فما أبعد هذا عن الإنصاف، وهذان السيدان الأخوان عليهما السلامُ هما إماما مذهبِ الهادي
__________
(1) هو الفقيه العلامة المحقق علي بن يحيى بن حسن بن راشد الوشلي المتوفى بصعدة 777 هـ. قال ابن زبارة في " ملحق البدر الطالع " ص 183: كان عالماًً محققاً حجة في كل مطلب، نقح الفروع، وبين التأويل والتعليل، وأتى بالفرق والجمع بين المسائل بما لم يأت به غيره، وصنف " الزهرة " على " اللمع ".
(2) اسمه الكامل " التذكرة الفاخرة في فقه العترة الطاهرة " منه عدة نسخ خطية في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء، انظر الفهرس ص 240 - 241. والحسن بن محمد هذا توفي بصنعاء سنة 791 " معجم المؤلفين " 3/ 280 نقلاً عن بروكلمان.(2/148)
عليه السلامُ، فقد تطابقا على تخريج قبولِه المتأولينَ عليه السلامُ، ولم يتطابقا على تخريج ردِّه لهم، بل انفردَ بهذا أبو طالب. فثبت بهذا ترجيحُ تخريج قبولِه لهم، لأن ما اجتمعا عليه أرجحُ مما اختلفا فيه.
الإِشكالُ الرابع: سلمنا أن تخريجَ القبول مساوٍ لتخريج الرَّدِّ غيرُ راجح عليه، فالقبولُ أولى لرواية جماعةٍ من أئمة المذهب أن قبولَهم إجماعٌ، كالقاضي زيدٍ، والمنصورِ بالله، ويحيى بنِ حمزة، وعبدِ الله بن زيد، والمؤيَّدِ بالله، ولا شك أن دعوى الإِجماعِ من هولاءِ الثقات تَناولُ مذهمبَ القاسم، ويحيى عليهما السلامُ خاصةً، لأنهما عمودُ الإجماع عند هؤلاء، إذ هُمْ من المشاهير بتعظيم أقوالهما، فلا ينبغي أن يتوهَّمَ فيهم أنهم جازفوا بدعوى الإجماع قبلَ معرفة مذهبهما خصوصاًً.
فاختلافُ السيدينِ في التخريج إنما هو في الشَّهادة، فأما الروايةُ فالإجماع فيها حاصل، والنقل فيها غيرُ متعارض، كما ذكره القاضي زيد في شرحه، وسيأتي إيضاحُ ذلك في الفصل الثاني إن شاء الله.
الإشكالُ الخامسُ: أن القاضيَ أبا مضر من أئمةِ مذهب الزيدية الجلَّة، وقد روى عن الهادي والقاسم عليهما السَّلامُ قبول المتأولين رواية غير تخريج، ولا معارض لروايته مثبت، ولا وجْهَ على أصول الزيدية لطرحها، ولا أقل من أن تكون مرجحة للتخريج الذي تطابق عليه السيدان كما سيأتي.
الإشكال السادس: أنَّ السيدَ أيده الله يحتاج في نِسبة هذا التخريِج إلى أبي جعفر إسناداً صحيحاً متصِلاً به، رجالُه معدِّلُون على الصفة التي ألزمنا، وكذلك رواية أبي مضر حتى يصحَّ له الترجيحُ بينهما، إذ هو فَرْعُ الصحة.(2/149)
قال: وقال الشيخانِ: أبو علي، وأبو هاشم -وهو قولُ الناصر، والسيد أبي طالب-: إنهم لا يقبلون.
وقال قاضي القضاة: تُقْبَلُ روايةُ فساق التأويل، ولا تُقبلُ رواية كفارِ التأويل، والشيخ أبو الحسين، والرازي، قالا: تُقبل كقول الفقهاء.
قال الشيخ أبو الحسين، والرازي: والخلافُ في مَن كان غيرَ معاند، فأما من عَرَفَ الحقَّ وعاند، فليس بمتأولٍ وهذا صحيح، فإنه إنما أظهر التأويلَ، وليس بمتأول عندَ نفسه، وفي باطن أمره.
أقول: في كلامه هذا إشكالات:
الإشكال الأولُ: أنَّه ذكر أنَّه لا يقبل منْ عرف أنَّه عاند، وأظهر التأويلَ، وأشار بذلك إلى ما صرَّح به في غير هذا الموضع من أنَّه قد عَرَفَ أن علماء الأشعرية كفارُ تصريح، وأنهم معانِدون، وفي رواة الحديث منهم خلق كثيرٌ، بل أئمة الحديث عنده أشعرية فسبحانَ اللهِ العظيم كيف عَسَّرَ السيد أيده الله علينا المعرفةَ بروايتهم التي نطقوا بها؟ وما زالوا يُظهرونها مُدَّةَ أعمارهم، وَيحْرِصُون على ظهورها عنهم، فلم يجعل لنا طريقاً صحيحة إلى معرفة صدورها عنهم مع التصريحِ منهم بذلك، وتكرارِه مدة الأعمارِ، ونقل الخلق لألفاظهم في ذلك، ثم إنَّه تيسَّر للسيد أيَّده اللهُ معرفةُ ما انطوت عليه ضمائرُهم، وحجبته سرائرُهم مِنْ تعمُّدِ الكفر، وقصد الكذب على الله تعالى، وعلى رسولِه عليه السلامُ مع ما ظهر عليهم مِن القرائن الدَّالةِ على خلاف ما فَهِمَ السيدُ بحيث إنَّ الذي حَمَل الأئمةَ والعلماءَ المكفرين لهم على قبولِهم مع اعتقادِ كفرِهم هو ما ظهر عليهم مِنَ الخوفِ العظيمِ من عذابِ الله، والمحافظةِ على طاعته، وتَحَمُّلِ مشاقِّ التكليفِ العظيمة مِن قيامِ الليْلِ، وصومِ النهار، والورع(2/150)
عن الشبهات، وكثرةِ البُكاء مِن خوف الله حتى إن الترمِذِيَّ عَمِيَ مِن كثرة البُكاءِ في ما رُوِيَ عنه (1).
ومن وقف على تراجمهم، عَلِمَ أنَّهم كانوا متحمِّلِينَ للمشاقِّ العظيمةِ في طلب ثواب الله، والخوفِ من عقابه بحيثُ إنَّه يعْلَمُ ذلك بالتواتُرِ عنهم، والقرائنِ القوية. فكيف تهيَّأ للسَّيِّد -أيَّده الله- أن يعلم ما في بواطنهِمِ من التَّعَمُّدِ الذي هو من أعمال القلوب، ولم يتهيأ لنا أن نَعْلَم ما ظهر منهم مِن القول المسموع بالآذان المنقولِ عنهم بِكُلِّ لسان.
ثم إِنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قد تعذَّر عليه معرفةُ ما في بواطن المنافقين إلا بالوحي، وفي الحديث أنَّه جاءه رجلٌ من الأنصار يُسَارُّه صلى الله عليه في قتلِ رجلٍ من المنافقين، فَجَهَرَ - صلى الله عليه وسلم - وقال: " ألَيْس يشْهدُ أنْ لَا إلهَ إِلا الله "؟ قال الأنصاري: بلى، قال: " ألَيْسَ يَشْهَدُ أنِّي رسُول اللهِ "؟ قال: بلى، قال: " أليْسَ يُقِيمُ الصلاةَ "، قال: بلى، قال: " فأولئِكَ الَّذِين نهَانِي اللهُ عَنْ قَتْلهمْ " (2)، قال الأنصاري: إنهُ منافق يا رَسُولَ اللهِ،
__________
(1) كما في " سير أعلام النبلاء " 13/ 273 و" تذكرة الحفاظ " 2/ 634 و" تهذيب التهذيب " 9/ 389.
(2) أخرجه إلى هنا مالك في " الموطأ " 1/ 171 في قصر الصلاة في السفر: باب جامع الصلاة من طريق ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنَّه قال بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس .....
قال ابن عبد البر في " التمهيد " 10/ 150: هكذا رواه سائر رواة " الموطأ " إلا روح بن عبادة، فإنه رواه عن مالك متصلاً مسنداً، ثم أخرجه من طريقه، فقال: عن عبيد الله بن عدي ابن الخيار، عن رجل من الأنصار، قال: ورواه الليث بن سعد وابن أخي الزهري، عن الزهري مثل رواية روح بن عبادة عن مالك سواء، ورواه صالح بن كيسان وأبو أويس عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن نفراً من الأنصار حدثوه،(2/151)
فَقَالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إني لَمْ أُوْمَرْ أنْ أشُقَّ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ ".
فقولُه عليه السلامُ: " إِني لم أُومَرْ أن أشُق عن قلوبِ الناس " كناية لطيفة منادية بالتنبيه على أنَّه لا طريقَ إلى العلم بالبواطنِ، وذلك أنَّه عليه السلامُ أشار إلى أن الغايةَ القُصوى في البحث عما في الصدور هو شَقُّ القلوب، وقد علمنا أنَّ شَقَّ القلب غيرُ مفيد للعلم بما كان فيه قبل أن يُشَقَّ فإذا كان هذا لا يفيدُ مع أنه الغاية القصوى في البحث عن ضمائر القلوب، وسرائرِ النفوس، فكيف بما عداه؟ وقد أجمعتِ الأمة إجماعاً ضرورياًً أنه لا يُكّفرُ أحدٌ ولا يُفَسَّقُ لمجرد الفهمِ والحَدْسِ (1) ولا يجري بذلك حُكْم مِن أحْكَامِ الشريعة النبوية.
تنبيه: غيرُ خافٍ على أهل النظر أن أهلَ العلوم العقلية قد ذكروا في
__________
= وساق الحديث، ورواه الليث بن سعد، عن عقيل بن خالد، عن ابن شهاب كما رواه يحيى والجماعة عن مالك، ورواه معمر، فسمى الرجل الذي لم يسمه روح بن عبادة. ثم أسند هذه الطرق كلها انظر " التمهيد " 10/ 151 - 172.
وأما القسم الثاني من الحديث، فأخرجه أحمد 3/ 4، والبخاري (4351)، ومسلم (1063) (144) من حديث أبي سعيد الخدري قال: بعث علي رضي الله عنه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل، والرابع إما علقمة، وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً "، قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله، قال: " ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟ " قال: ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلي، قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ".
(1) قال الأزهري: الحدس: التوهم في معاني الكلام والأمور، بلغني عن فلان أمر وأنا أحدس فيه، أي: أقول بالظن والتوهم.(2/152)
الأمور الوُجْدَانية أنَّا قد نعلمُها مِن الغَيْرِ (1) بالقرائن كجوعِ الجائِع، وفرَحِ الفرِحِ، وغمِّ المغموم، ولكن ذلك بشرطين:
أحدُهما: أن يكونَ ذلك مشاهداً لنا غيرَ غائب عنا، لأنَّ القرائنَ الدالة على ذلك الباطن هي ما يُشَاهَد بالعيان مِن ضعف الجائع، وتقلُّص شفتيه، وتغيرِ لونه ونحوِ ذلك من الأمور التي يُعْلَمُ بالضرورة أنَّه لا يُمكنه التصنعُ فيها، وكذلك سائرُ مَنْ يُعلَمُ حالُه بالقرائن.
ثانيهما: ألا تظهر قرائنُ تُعارِضُ تلك القرائنَ، فإن التعارض يمنع حصولَ العلم الضروري، وهؤلاء المخالفون لنا في الاعتقاداتِ قد ظهرت على عُدُولهم قرائنُ تفيدُ عدمَ التعمُّدِ للباطلِ، ولهم شُبَهٌ عويصةٌ يتبلَّدُ فيها كثيرٌ من الفُطَنَاءِ، فأينَ حصولُ العلم الضروري مع هذا!!
الإشكال الثاني: أن السيِّد -أيده الله- أوهم أن الشيخ أبا الحسين، والرازي يقولان بمثل مقالته مِن الحكم بالتعمد للعناد على من أظهر التأويلَ
__________
(1) نقل الإمام النووي في " تهذيب الأسماء واللغات " 4/ 65 - 66 عن الإمام أبي نزار الحسن بن أبي الحسن النحوي في كتابه " الممسائل السفرية ": منع قوم دخول الألف واللام على " غير " و" كل " و" بعض "، وقالوا: هذه كما لا تتعرف بالإضافة، لا تتعرف بالألف واللام، قال: وعندي أنَّه تدخل اللام على غير وكل وبعض، فيقال: فعل الغير ذلك، والكل خير من البعض، وهذا لأن الألف واللام هنا ليستا للتعريف، ولكنها المعاقبة للإضافة نحو قول الشاعر:
كأن بين فكها والفك
إنما هو: كأن بين فكها وفكها، على أن " غيراً " يتعرف بالإضافة في بعض المواضع، ثم إن الغير يحمل على الضد، والكل يحمل على الجملة، والبعض يحمل على الجزء، فصلح دخول الألف واللام أيضاًً من هذا الوجه والله أعلم.
وقال أبو حيان في " البحر المحيط " 1/ 28: " غير " منفرد مذكر دائماً، وإذا أريد به المؤنث جاز تذكير الفعل حملاً على اللفظ، وتأنيثه حملاً على المعنى، ومدلوله المخالفة بوجه ما، وأصله الوصف، ويستثنى به، ويلزم الإضافة لفظاً أو معنى وإدخال " ال " عليه خطأ، ولا يتعرف، وإن أضيف إلى معرفة.(2/153)
مِن عدول المتأولين بمجرد القرائن، ولم يقولا بما يقتضي ذلك، إنما قالا: إِنَّ مَن عَرَفَ الحقَّ، وعاند فليس بمتأوِّل، وبينَ هذهِ العبارةِ التي نَصَّا عليها، وبينَ قَوْلِ القائل: من أظهر التأويلَ، ودلَّت القرائنُ على أنه متعمِّدٌ حكم عليه بالتعمد، سواء كان عدلاً في مذهبه أوْ لا، فرقٌ عظيم، وبَوْنٌ بعيد!
فإن قلت: إِن (1) لم يقولا بهذا، لم يَبْقَ لكلامهما فائدة، ولا لِمذهبهما ثَمَرَةٌ.
قلتُ: بل ثمرةُ مذهبهما تظهر في صورتين:
إحداهما (2): في مَنْ أقرَّ من المخالفين أنَّه يعلم الحق، ويتعمَّد الباطلَ كما رُويَ هذا عن غيرِ واحد من المخالفين (3).
والأخرى: حيث يكون المتأول غيرَ عدل في مذهبه.
فإن قلت: ما الفرق بين العدلِ وغيرِ العدل؟
قلتُ: الفرقُ أن العدلَ ظهرت عليه قرائنُ تدل على عدم العمد، وهي تَحَمُّلُهُ لمشاق التكليف، وصبرُه على مجانبة المحرمات وغير ذلك من المحافظة على النوافل، وسائرِ القرائن المرجحة لِظَنٍّ تأوله بحيث لا يَصِحُّ معها العِلْمُ بعناده.
الإشكال الثالث: أن العلمَ بالأمورِ الوُجدانيات المتولِّد عَن القرائنِ مما لا يصح أن يحتج به أحدٌ الخصمين على الآخر، لأن إقامةَ البراهين
__________
(1) في (ج): إنهما.
(2) في (ب): أحدهما.
(3) من قوله: أنَّه يعلم ... إلى هنا ليست في (ج).(2/154)
عليه غيرُ متصوَّرة ولا معقولة، وليس مما يشتركُ فيه جميعُ العقلاء، فالسيد -أيده الله- غلط في إيراده، لأنَّه إما أن يدعي أنَّ كل عاقل يعلم عناد الأشعرية بالضرورة أو لا، إن لم يدَّع ذلك، لم يصح استدلالهُ على خصمه بأنه يعلم ذلك، لأنَّه ليسَ يَلْزمُ الخصمَ أن يعمل بعلم السَّيِّد أيده الله، فإن ادَّعى السيدُ أن العلمَ بعنادهم مما يشترك فيه العقلاءُ، فهو مردود بوجهين:
الوجه الأول: أنا لا نجِدُ ذلك من أنفسنا، ولا دليلَ للسَّيِّد على ما يَدَّعيهِ علينا من وجدانه في أنفُسنا، فإذا اختلفنا نحن والسيدُ فيما حجبته ضمائرُنا، فنحنُ أعلمُ منه بذلك، وإخبارُنا عن ما في أنفسنا أرجحُ من إخبارِه بغير شك.
الوجه الثاني: أن الظاهرَ من أحوال السَّيِّد أنَّه لا ينسبُ أهل البيت عليهم السلام أو الجماهير منهم إلى العِناد، وجَحْدِ الضرورة، وهم ممن لم يقل بأن الجبرية كفارُ تصريح، لأنهم ما زالوا يمثِّلونَ كفارَ التأويل بالجبرية والمشبهة مِن غير مناكرةٍ في ذلك، وقد نص على ذلك في " اللمع " (1) الذي هو مدْرسُ (2) الزيدية منذ أعصارٍ عديدة.
قال في " اللمع " ما لفظه: وفي تعليق الإفادة: ومن بلغ إلى حد الكفر والفسق متأوِّلاً، فالعلماء مختلفون فيه، والأظهرُ عند أصحابنا أن شهادَته جائزة إلى قوله: وهذا كالخوارج والمجبرة. إِلى قوله: فعلى هذا
__________
(1) في فقه آل البيت لعلي بن الحسين بن يحيى الهادي، المتوفى في عشر السبعين وست مئة تقريباً يوجد الجزء الرابع منه في " المكتبة الغربية " بصنعاء انظر " الفهرس " ص 284، وتراجم الرِّجال ص 24.
(2) المِدرس كَمِنْبَر: الكتاب.(2/155)
تكون شهادة المجبرة والمشبهة مقبولةً عنده قَدَّسَ الله روحه وكذلك عند الهادي، والقاسم، يدل عليه أن الجبر والتشبيه من جهة التأويل والتدين، فوجب قبولُ شهادتهم.
فهذا نصُّ " اللمع " كما ترى في الإفصاح بأنهم من أهل التأويل والتدين. ولم يزل هذا النص مقروءاً منذ صنف كتاب " اللمع "، بل مِن قبله بدهرٍ طويل في محافل العلماء والفضلاء، ومساجدِ الزيدية، ومدارسها، ما أنكره أحد، ولا اعترض عليه، ولا شكَّكَ فيه، ولا عُرِفَ في تأويلهم خلاف ألبتة حتى جاء السيد -أيده الله- فرَضيَ لنفسه ما لا يرضاه له صديق مِن مخالفة عادات العلماء، والغلو في التَّعنُّتِ والتشديد، وإنما خلاف المتقدمين والمتأخرين في أن الجبرية كفارُ تأويل أم لا، وفي أنهم يُقْتَلُونَ أولاً، وأما أنهم كفارُ تصريح، فما صَرَّحَ بالخلافِ في هذا أحدٌ قبل السيدِ -أيده الله- فيما نعلم، والذي جَهِلْنا أكثرُ مما علمنا بغير شك، فإن كان السيد يعرف منْ صرَّحَ مِن أهل البيت بأنهم كفار تصريح فليُفِدْنا ذلك، فغير منكر أن يعلمَ -أيده الله- ما لم نعلم، فهذا الوجه ذكرتُه، لأن القسمة العقلية تحتمِلُه، وما أظُنُّ السيدَ يقول إلا بالوجه الأول وهو أن العلمَ بعنادهم مما لا يجب اشتراكُ العقلاء فيه، لكن إذا كان مما لا يجب اشتراكُ العقلاء فيه فكيف غَفَلَ السيد، واحتج على الخصم بذلك؟
الإشكال الرابع: أن العلمَ بتعمُّد الباطل والظن لذلك مما يستندُ إلى الأمارات، والأمارات مما لا يختص بالكفار، وكذلك تَعَمُّدُ لباطِل ممكنٌ في حقِّ الكفار والمسلمين، وسواءٌ كان ذلك الباطل كفراً أو فسقاً، أو معصية ملتبسة، فيلزم السيد -أيده الله- أن يجيز الاحتجاجَ على الخصوم بالجرح المستند إلى فهم تعمد الباطل في حقِّ أهل العدل والتوحيد(2/156)
وغيرهم، فيلزمه أن يُسَوِّغَ للقائل أن يقول: إن أبا حنيفة متعمِّد للباطل، لقوله: إن القياسَ مُقدَّم على الخبر (1)، بل لما هو أعظمُ من هذا مثل قوله: إِن النهي يقتضي الصِّحَّةَ (2) وغيرُ ذلك من المسائل الضعيفة، ومثل قول أبي يوسف، وأبي العباس عليه السلامُ: إن الماء المستعمل (3) نجس، لأن المعلومَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يَحْترِزُ مما يترشَّشُ منه كما يحترِزُ من البول، ولأنه يَبْعُدُ في النظر أن يكون الوجهُ طاهِراً، والماءُ طاهراً، فإذا التقيا كانا حَالَ الالتقاء طاهرَيْنِ، فإذا انفصلَ الماءُ الطاهر من الوجه الطاهر إلى الهواء الطاهر صارَ الماءُ كالبول وأمثال هذا. فقد رُوِيَ عن ابن مسعود
__________
(1) هذا القول لا تصح نسبته إلى أبي حنيفة رحمه الله، بل مذهبه على النقيض من ذلك، وهو أن خبر الواحد الصحيح، يقدَّمُ على القياس مطلقاً سواء كان الراوي فقيهاً، أم غير فقيه، فقد جاء في " التحرير " وشرحه 2/ 398: إذا تعارض خبر الواحد والقياس بحيث لا جمع بينهما ممكن، قدم الخبر مطلقاً عند الأكثرين، منهم أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وأما أتباع أبي حنيفة، فمنهم من وافقه على مذهبه هذا، فلم يشترط فقه الراوي وهو الذي ذهب إليه أبو الحسن الكرخي، ومنهم من اشترط فقه الراوي، فقال: إن خبر الفقيه يجب العمل به وإن خالف القياس وخبر غير الفقيه المعروف بالرواية أيضاً مقبول يُترك به القياس، إلا إذا خالف جميع الأقيسة وانسد باب الرأي بالكلية، وهو مختار الإمام عيسى بن أبان والقاضي أبي زيد، ووجه هذا القول: أن النقل بالمعنى شائع، وقلما يوجد النقل باللفظ، فإن حادثة واحدة قد رويت بعبارات مختلفة، ثم إن تلك العبارات ليست مترادفة، بل قد روي ذلك المعنى بعبارات مجازية، فإذا كان الراوي غير فقيه، أحتمل الخطأ في فهم المعنى المراد الشرعي، وإن كان هو عارفاً باللغة، وإذا خالف الأقيسة بأسرها وانسد باب الرأي، قوي ذلك الاحتمال قوة شديدة فلم يبق ظن المطابقة، فسقطت الحجية، وصار كالخبر المروي فيما ابتلي به العوام والخواص مخالفاً لعملهم.
وبهذا تعلم أن الخلاف قائم فيما إذا روى الحديث بالمعنى، وأما إذا رواه بلفظه فلا خلاف في قبول خبره، وتقديمه على القياس إذا كان الراوي مستوفياً شروط القبول، ولو كان غير فقيه.
(2) أي في الشرعيات فقط لا مطلقاً، وقد فصل القبول في هذه المسألة وأجاد العلامة المطبعي في حاشيته " سلم الوصول " 2/ 295 - 302، فليراجع.
(3) انظر تفصيل القول في الماء المستعمل، في " البناية " للفقيه العيني 1/ 344 - 354.(2/157)
أنه قال: إن التيمُّم غيرُ مشروع للجنب، ورُوجِعَ في هذا، واحْتُجَّ عليه بالحديثِ والآية، فقال: لَوْ رخَّصنا لهم في هذا لكان يوشِكُ أن يتيمم أحَدُهُم مِن بردِ الماء (1).
فكان يلزم على كلام السَّيِّد أن يكون للمُتَعَنِّت سبيلٌ إلى جرح كثيرٍ من الثقات لمجرد سُوءِ الظن، والهجوم بغيرِ علم، وأنه يلزمنا أن نسكت لمن قال ذلك، لأنَّه أخبر عن علم ضروري أو عن ظنٍّ حَصَلَ بقرينة صحيحة، وأبو حنيفة، وأبو العباس وابنُ مسعود وغيرُهم غيرُ معصومين مِن تَعَمُّدِ الباطل، وكذلك يمكن المتعسف على أصله أن ينسب إلى المعتزلة والفقهاء تَعَمُّدَ الباطل حيث أنكروا تقديمَ علي عليه السلامُ في الإمامة، واختصاصه بها مع ما لهم مِن الذكاءِ العظيم، ومع مخالطتهم لكثيرٍ من أهل البيت، وبيان أهل البيت للأدلة، ومضي الزمان الطويل على ذلك، بل يُمكن تكلفُ تعمد الباطل لأكثر العلماء، فمن الذي لم يُنْقَدْ عليه قولٌ ضعيف، ولِهذا قيل: كُلُّ أحدٍ يؤْخَذُ من قوله وُيتْرَكُ إلا رسولَ الله
__________
(1) في " المصنف " (922) من طريق سفيان الثوري عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، قال: لو أجنبت ولم أجد الماء شهراً ما صليت. قال سفيان: لا يؤخذ به، وفي "مصنف ابن أبي شيبة" 1/ 157 من طريق محمد بن فضيل، عن مغيرة عن إبراهيم النخعي، قال: قال عبد الله: إذا كنت في سفر، فأجنبت، فلا تصل حتى تجد الماء، وإن أحدثت فتيمم ثم صل. وفيه من طريق أبي معاوية، عن الأعمش عن شقيق قال: كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً كيف يصنع بالصلاة؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهراً، فقال أبو موسى: فكيف بهذه الآية في سورة المائدة {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} فقال عبد الله: لو رخص لهم في هذا لأوشكو إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد.
وقد جاء ما يدل على إنَّه رجع عن قوله هذا، ففي مصنف ابن أبي شيبة 1/ 157، ومصنف عبد الرزاق (923) من طريق سفيان بن عيينة عن أبي سنان، عن الضحاك أن ابن مسعود رجع عن قوله في الجنب أن لا يصلي حتى يغتسل.(2/158)
- صلى الله عليه وسلم - (1) وقد طوَّل السيدُ الكلامَ في هذا في المسألة الثانية (2)، وسيأتي هنالك مزيدُ بيانٍ لهذا الفصل، إن شاء الله تعالى.
قال: وأما الدليلُ، فقد احتج القائلون بوجهين:
أحدُهما: أنَّ الظن يَحْصُلُ بصدقه، لأنَّه متدين يخافُ العقابَ على كذبه، ويرجو الثوابَ على صدقه.
والثاني: أن الصحابة قَبِلُوا رواية قتلة عثمان، وقَبِلَ بعضُهم روايةَ بعض بعدَ ظهور الفتن.
أقولُ: كلامُ السَّيِّد هذا دالٌّ على أن القائلين ما احتجُّوا إلا بحجتين وهو مفهومٌ ظاهر، وهو المسمَّى بمفهوم العدد أحدِ أقسام المفهوم المعروفة في الأصول، وهذا لا ينبغي مِن السَّيِّد أيده الله مع كثرة اطلاعه وسَعةِ معرفته، وسوف يأتي في الفصل الثاني -إن شاء الله- ذِكْرُ بعضِ ما احتجُّوا به مما عرفت أنَّه يحتح لهم به على قِلَّة معرفتي، فقد ذكرتُ في هذا الجواب خمساً وثلاثين حُجة أضعفُها لا تَقْصُرُ عن مساواة بعضِ حجج السيدِ التي احتج بها على ردِّ المتأولين، كما سيأتي بيانُ ذلك كُلِّهِ.
قال: واحتج الرادون بوجوه:
الأول: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا
__________
(1) أوردها ابن حزم في " الأحكام " 6/ 145 منسوبة لمجاهد، ونسيها لغير واحد من السلف ابن عبد البر في " جامع بيان العلم وفضله " 2/ 91، وذكرها تقي الدين السبكي في " فتاويه " 1/ 148 منسوبة لابن عباس، ثم قال: وأخذ هذه الكلمة من ابن عباس مجاهد، وأخذها منهما مالك رضي الله عنه، واشتهرت عنه، وذكرها أبو داود في " مسائله " ص 276 عن الإمام أحمد.
(2) جملة: " في المسألة الثانية "، سقطت من (ج).(2/159)
أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة} [الحجرات: 6] وهذا في معنى العموم، كأنه قال: إن جاءكم فاسق، أيَّ فاسِقٍ كان، كقولك: إن جاءك رجل فأكرمه، فإنه يقتضي إكرام أيِّ رجل جاء، وإن لم يتناول مجموع الرجال، ولأنه عَلَّق الحكمَ على صفة تقتضي التعليلَ، وكأنَّه قال: إن جاءكم فاسق بنبأ، فتبينوا أن تصيبُوا قوماً لأجل فسقه، فيقتضي العمومَ مِن هذا الوجه.
أقول: كلامُ السَّيِّد أيَّده الله في الاحتجاج بهذه الآية يحتمل إيرادَ إشكالات كثيرة، نذكر منها ما حَضَرَ:
الإشكال الأول: أن نقول: احتجاجُ السَّيِّد بهذه الآية ينبني على أنه لم يكن يَسْبِقُ إلى الأفهام عندَ إطلاق لفظ الفاسق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا على مرتكب الكبيرة تأويلاً وتصريحاً، فكان ينبغي منه أن يذكُرَ الدليل على هذا، فإنه قاعدةُ دليلِهِ، ويجب عليه أن يبين على ذلك دليلاً قاطعاً، وإلا لم يمنع خصمه من الخلاف والمنازعة وقد نسي السيدُ هذا، ولا يصِحُّ له الاستدلالُ إلا به، ونحن ننازِعُه في ذلك من طريقين:
الطريق الأولى: أنَّه قد ورد في السمع ما يَدُلُّ على أن الفاسق كان في ذلك الزمان يُطلق على الكافر كثيراً، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67]، وقولِه تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُون} [البقرة: 99]، وقولِه في المنافقين: {إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُون} [التوبة: 84]، وقولِه تعالى فيهم أيضاً: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِين} [التوبة: 96]، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ (1)
__________
(1) هي قراءة نافع وابن عامر، وقرأ باقي السبعة (كلمة) بغير ألف. انظر " حجة القراءات " ص 331.(2/160)
رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُون} [السجدة: 20] وقال: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِين} [الحشر: 5]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [الحشر: 19] وقال تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِين} [المنافقون: 6]، وقال تعالى: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة: 53] إلى غير ذلك مما يطولُ تعدادُه. إذا عرفتَ هذا فلا شك في أمرين:
أحدهما: أن هذه الآياتِ دالةٌ على أن الفاسق في العُرف الأول يُطلق على الكافر ويَسْبِقُ إلى الفهم.
وثانيهما: أن العرف المتأخِّرَ هو أنَّ الفاسق مقصورٌ على مُرتكبِ الكبيرة التي ليست بكفرٍ، ولا يَسْبِقُ إلى الفهم في هذا العُرف المتأخر إلا ذلك فاختلف العُرْفانِ، فلا يجوز أن نُفَسِّرَ القرآنَ بالعُرف المتأخر، لأن الله تعالى لا يُخاطبُ الناس إلا بما يسْبِقُ إلى أفهامهم، وهو القِسْمُ المعروف بالمبين في الأصول، أو بما لا يُفهم منه شيء ثم يُبينه وهو المُجْمَلُ.
فإن قلت: هذا خلافُ مذهب أهلِ البيت عليهم السلامُ.
قلتُ: ليس كذلك، لأنَّ أهل البيت لم يتكلَّمُوا على أنَّه لم يكن الكافرُ يسمَّى فاسقاً في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم - بحيث يسبِقُ إلى الفهم عند ذكر الفاسق أنه الكافر، وإنما تكلموا على أن مرتكب الكبيرة يُسَمَّى فاسقاً، ولسنا نُنازِعُ(2/161)
في ذلك، فإنا نقول: إنَّه يسَمَّى فاسقاً في وقت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الوقت المتأخر لكنِ التسميتان مفترقتانِ فالمتقدمة في زمانه عليه السلامُ لغوية غيرُ سابقة إلى الأفهام إلا بقرينةٍ، والتسميةُ المتأخرة في زماننا عُرفية سابقة من غير قرينة، وهذا شيء لم ينصَّ أهلُ البيت على خلافه.
فإن قلتَ: فقد ورد في القرآن الفسقُ لغيرِ الكفر في مثل قوله تعالى: {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَان} [الحجرات: 11] وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَان} [الحجرات: 7]، وقوله: {ذَلِكُمْ فِسْق} [المائدة: 3]، وقوله: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282].
فالجواب: أنا لم نَدَّع أن الفسقَ لم يرد في الكفر بل قلنا: إِنه فيه حقيقة عرفيةٌ سابقةٌ إلى الأفْهام مِن غير قرينة وهو في غيره حقيقةٌ لغوية، وذلك مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " إنَّ النِّسَاءَ كَوَافِرٌ " قَالُوا: يا رسولَ اللهِ يكفرن بالله؟ قال: " لا، يَكْفُرْنَ العَشِيرَ " (1)، فلم يكن هذا مانعاً مِن كون الكفر في ذلك الزمان اسماً عرفياً لما يخَالِفُ الإِسلامَ، وفي الحديث من هذا القبيل شيء كثير.
فإن قلتَ: فهذا يقتضي أن الفِسقَ يَشْمَلُ الكفرَ وسائرَ الكبائر، وأن دخولها في هذه الآيةِ على السواء (2)، فلم قلتَ: إن إطلاقه في ذلك الزمان على الكافر كان أسبقَ إلى الأفهام؟
__________
(1) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري، البخاري (304) و (1462) ومسلم (79) والنسائي 3/ 187، والبغوي في " شرح السنة " (19) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر على النساء فقال: "يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار" فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: " تكثرن اللعن، وتكفرن العشير ... " ولفظ المصنف لم أقف عليه وربما يكون رواه بالمعنى.
(2) في (ب): سواء.(2/162)
قلتُ: لأن القرآن قد دلَّ على اسم الفاسق والفاسقين مما يختصُّ بالكفار، كقوله تعالى. {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون} [التوبة: 67] فأفاد قصرَ الفاسقين على المنافقين كما هو معروف في علم المعاني، فلو كان كما ذكرت، لكان يكون الحقيقة أن المنافقين هم بعضُ الفاسقين، وكذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَاتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 33]، وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّار} [السجدة: 20] إِلى قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20]، والدلالات في هذه الآيات ظاهرة، وهذا هو الأكثرُ من النصوص القرآنية، وقد جاء في القرآن ما يَدلُّ على اختصاص أهلِ الكبائر بهذا الاسم، ولكِن مجيئاً قليلاً، وذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فهذا ظاهِرُه متعارض، ولا بُدَّ من العدول عن الظاهر إما من الحقيقة العُرفية إلى اللغوية، وإما من الحقيقة إلى المجاز، وكلاهما لا يجوزُ إلا لضرورة، والتجوزُ فيما ورد قليلاً نادراً أولى مِن التجوُّز في الأكثريِّ المستمِر.
فإن قلت: فقد ورد اسمُ الفسق لغير الكفر كثيراً غير نادر كما قدمناه آنفاً.
قلت: على تسليم التساوي في الكثرة، فليس هذا موضع النزاع، فإنا إنما نازعنا في الفاسق والفاسقين ونحو ذلك مما ورد بصيغة فاعل، وذلك لأنَّه إذا ثبت في اسم الفاعل عُرْفٌ لم يلزم في المصدر كالدَّابة والدَّبيب، فإن الدابة في العرف للبهيمة المعروفة، والدَّبيب لا يختص بها، سلمنا أنَّه لا يكونُ التجوز في النادر أولى، فنحن نقول: أحدهما مجاز، والآخرُ حقيقة، فدل بدليل قاطع على أن المجاز هو إطلاق الفسق(2/163)
على الكفار، وإنما (1) اشترطنا أن يكونَ دليلُك قاطعاً، لأنَّك ادعيتَ أن المسألةَ قطعية، وحَرَّمْتَ الخلافَ على خصمك، وله أن يُنَازِعَك ما لم يكن دليلُك قاطعاً، لأن أقصى ما في الباب أن سؤالَنَا غيرُ راجح ولا ظاهر، لكنه محتمل مرجوح أو مساوٍ، فعليك دفعُ الاحتمال.
الطريق الثانية: سلمنا لك أنَّ النصوص القرآنية لم تدل على أنَّ الفاسق يختصُّ في عُرف أهلِ ذلك الزمان بالكافر، لكن قد حَصَلَ لنا منها ما يقتضي القطعَ بأن العُرف في الفاسق في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - غيرُ العرف في وقتنا مثل قوله تعالى في الكفار: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِين} [الأعراف: 102]، وقوله تعالى في المشركين: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 8] ومثل قوله في اليهود: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} (2) [المائدة: 59] وقوله فيهم: {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] فَهذِهِ النصوص -كما ترى- دالةٌ على أن في الكفار المصرحين من لا يستحِقُّ أن يُسَمَّى فاسقاً، فدلَّ ذلِكَ على أن ثَمَّ عُرفاً في اسم الفاسق غيرَ هذا العرفِ الذي اصطلح عليه المتأخرون، وغير الحقيقة اللغوية.
الإشكالُ الثاني: أنا نقول: قد ورد في اللغة ما يَدُلُّ على أن الفسق تعمدُ المعصية، وأن الفاسقَ المُتَعَمِّدُ، فبطل احتجاجُ السَّيِّد بالآية على المتأوِّلين، وإنما قلنا: إن ذلك قد ورد في اللغة، لأن الزمخشري قال في تفسير قولِه تعالى: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}: متمردون خُلَعَاءُ لا مُرُوءَةَ تَزَعُهُم، ولا شمائِل مَرْضِيَّة تردعهم، كما يُوجد ذلك في بعض الكفرة مِن التَّفادِي
__________
(1) في (ج): وإذا.
(2) من قوله: " ومثل قوله " إلى هنا زيادة من (ب).(2/164)
عن الكذب، والنَّكْثِ والتَّعفف عما يثْلِمُ العِرضَ، وَيَجُرُّ أُحْدُوثَةَ السوء (1).
فهذا تصريح بتفسير الفاسقين بمن لا يتفادى عن الكذب والنَّكث، وبأنَّهم أهلُ الخلاعة الذين لا مروءة لهم ولا حياء، وهؤلاء مردودون بالإجماع، وإن لم يكن لهم معصيةٌ إلا مجرد الخلاعةِ وقلة الحياء، ولهذا عَدَّ العلماء كثيراً من المباحات التي لا يفعلُها إلا الخلعاءُ من الجرح في العدالة وإن لم يكن فاعلُها يستحقُّ العقاب، لما كانت دالة في العادة على أن فاعلها يجترىءُ على الكَذِبِ والمعاصي.
وقال المؤيَّدُ بالله في " الزيادات " -وقد ذكر قولَ الهادي عليه السلام: مَنْ نكَثَ بَيْعةَ إمَامِهِ طُرِحَتْ شهَادَتُه- نقول: مَنْ أنكر إمامته لأجل الفسوق والتهتك لا لأجل النظر في أمره، والتفكر في أحواله.
وقال المؤيَّد بالله مرةً: لعله -يعني الهادي عليه السلام- قال ذلك اجتهاداً، ولكنه يضعفُ عندي إذا كان مستقيمَ الطريقة في سائر أحواله، فإن عُرِفَ منه الفسوقُ بما يقوله، فإني لا أقبلها. انتهي كلامُه عليه السلام.
وهو ظاهرٌ في أنَّه أراد بالفسوقِ تَعَمُّدَ المعصية، وإلا فالنَّاكث لبيعة إمامِ الحق فاسقٌ في العرف المتأخر، سواء كان متأولاً أو متعمداً.
وقال عبدُ الصمد في تفسير هذه الآية: وسمَّى الله الوليدَ فاسقاً، لكذبه الذي وَقَعَ به الإغراء.
وقال القرطبي في هذه الآية في تفسيره: وسُمِّي الوَلِيدُ فاسقاً، أي
__________
(1) " الكشاف " 2/ 176.(2/165)
كاذباً. وقال العلماء (1): الفاسقُ: الكذَّاب. وقيل: الذي لا يستحي من الله.
وقال الزمخشري في موضعٍ آخر: والمرادُ بالفسق: التمرُّدُ والعُتُوُّ.
وقال في " الضياء " (2): العتو: هو الاستكبارُ، يقال عتا عُتُوّاً: إذا استكبر وعصى.
وفي الحديث الصحيح عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فسر الكبْر بغَمْصِ الناس وَبَطرِ الحق (3)، ولا شكَّ أن هذا التفسير النبوي يَدُلُّ على أن بَطَرَ الحق: هو دفعُه على جهة التعمد والأنَفَةِ من القول به (4) لأنَّه لا مناسبة بين الكِبْرِ والجهل بالحق من غير تعمُّدٍ لدفعه، ولا أنفةٍ من قبوله، ومنه حديثُ حُذَيْفَةَ قال في قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْر}: إنَّه ما بقي مِنْهُم إِلاَّ ثلاثة، ولا مِنَ المُنَافقِينَ إلا أرْبَعَة، فقال أعرابي: إنَّكُمْ -أصْحَابَ مُحَمَّدٍ-
__________
(1) النص " تفسير القرطبي " 16/ 311 - 312: قال ابن زيد، ومقاتل، وسهل بن عبد الله: الفاسق: الكذاب، وقال أبو الحسن الوراق: هو المعلن بالذنب، وقال ابن طاهر: الذي لا يستحيي من الله.
(2) اسمه الكامل " ضياء الحلوم في مختصر شمس العلوم " لمؤلفه محمد بن نشوان بن سعيد الحميري اليمني المتوفى سنة (610) هـ: وهو اختصار لكتاب والده نشوان بن سعيد المسمى " شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم " وقد طبع منه جزءان. وقد رتبه مؤلفه على حروف المعجم، وجعل لكل حرف من حروف المعجم كتاباً، ثم جعل له، ولكل حرف معه من حروف المعجم باباً، ثم جعل كل باب من تلك الأبواب شطرين أحدهما للأسماء والآخر للأفعال، مقدماً الأصلي على المزيد، مبتدئاً في أول كل كتاب بالمضاعف، جاعلاً لكل كلمة من الأسماء والأفعال وزناً ومثالاً، مرتباً الكلمات في كل وزن، ومشيراً إلى حرفها الأخير. ولم يغير ولده في المختصر ترتيبه ووضعه، وإنما حذف منه كل ما هو خارج عن موضوع اللغة مما كان يذكره والده استطراداً.
(3) حديث صحيح وقد تقدم تخريجه في الصفحة 129.
(4) (به): سقطت من (ج).(2/166)
تُخْبِرُونَنَا (1) فلا نَدْرِي، فما بالُ هؤلاء الذين يَبْقرونَ (2) بُيُوتَنَا، ويسرِقُون أعْلاقَنَا (3) قال: أولئِك الفساق (4) -أجَلْ- لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلا أربعةٌ أحدهم شيخ كبير لو شَرِبَ المَاءَ البَارِدَ لما وَجَدَ بَرْدَهُ (5). رواه البخاري (6) من حديث إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب، عن حُذيفة في تفسير قولِه تعالى: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12].
فدلَّ ذلك على أن الفسقَ في اللغة، هو التمردُ والتكبر، والأنَفَة من قبول الحق، والتعمد للباطل، وذلك لا يتناولُ المتأوِّلَ المتديِّنَ المتواضِعَ المتخَشِّعَ الذي يَغْلِبُ على الظن صدقه، أقصى ما في الباب أن هذا السؤال غيرُ راجح ولا ظاهر، لكنه محتمل، إما مساوٍ، وإما مرجوح، وعليك إبطالُ ذلك، ورفعُ الاحتمال بدليلٍ قاطع، لأنَّك ادَّعَيْتَ أن المسألة قطعية، ومنعت المنازعةَ فيها.
الإِشكال الثالث: أنَّ المتأوِّلين كانوا غيرَ موجودين في ذلك الزمان، وما كان غيرَ موجودٍ لم يسبق الفهمُ إلى إرادته، وما لم يسبق الفهمُ إلى إرادته لندوره، وقلةِ حضوره في الذهن، فقد اختلف العلماءُ هل يتناولُه العمومُ مع وجوده، ومع صريحِ العموم؟ كيف، وهو في مسألتنا غيرُ
__________
(1) زاد الإسماعيلي في روايته: " عن أشياء ".
(2) بالباء الموحدة والقاف من " البقر " وهو الشق، قال الخطابي: أي ينقبون، قال: والبقر أكثر ما يكون في الشجر والخشب، وقال ابن الجوزي: معناه: يفتحون، يقال: بقرت الشيء: إذا فتحته، ويقال: ينقرون بالنون بدل الباء.
(3) جمع علق: وهو الشيء النفيس، سمي بذلك لتعلق القلب به، والمعنى يسرقون نفائس أموالنا.
(4) أي: الذين يبقرون ويسرقون: لا الكفار والمنافقون.
(5) أي: لذهاب شهوته، وفساد معدته، فلا يفرق بين الألوان والطعوم.
(6) برقم (4658) في التفسير، وأخرجه النسائي في التفسير من الكبرى كما في " تحفة الأشراف " 3/ 33، ونسبة الحافظ في " الفتح " 8/ 323 لابن مردويه.(2/167)
موجود بالمرة، والعمومُ غيرُ صريح، فإن السَّيِّد أقر أن الآيةَ في معنى العموم.
ومثالُ ذلك أن الرجلَ لو قال لغيره: وكَّلْتُكَ أن تشتري لحماً بهذه الدراهمِ، وكان العُرف السابقُ إلى الأفهام في بلدهم أن المرادَ باللحم لحمُ البقر والغنم ونحوها من الأنعام، فشرى له لحمَ حوتٍ أو صيدٍ أو طيرٍ، أو لحمَ ضَبُعٍ أو ثعلبٍ إن كانوا يَرَوْنَ جَوازَ ذلك وغير ذلك، وكذا لو وَكَّلَه أن يشتريَ له حَبّاً والعُرَف معهم في الحَبِّ للبُر والشعير، فاشترى له دُخناً أو نحوه، وكذا لو باعَ منه ثوبَه بمدٍّ أو صاع، ولم يُعين أيَّ نوع، انصرف إلى العُرف، كما في زماننا: لو أقر بزبدي (1) لم يكن زبدي حلبةٍ ولا ملح ولا حِلْف (2) ولا نحو ذلك، إذا تقرر هذا، فقد قال بعضُ العلماء: إن لفظَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك لا يتناولُ إلا الموجوداتِ المستعملاتِ، وكأن هذا ذهب إلى أن استعمالَ اللفظ في الموجود المستعمل كثيراً قد صار عرفاً، وطَرَّد الباب وهذا صحيح إذا صحت هذه القاعدة، فإنه لا خلاف أن الشيء -إذا كان له حقيقتان عُرفية ولُغوية- إن العُرفية هي المعمولُ عليها، المصروفُ إليها كلامُ الله تعالى، وكلام رسوله عليه السلام.
إذا تَقرَّرَ هذا فاعلم أن المتأوِّلين في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالنظر إلى الفُساقِ كلحم الصيد والطيرِ بالنظر إلى اللحوم المستعملة، بل لحمُ الصيد والطير أعرفُ في زماننا، لأنَّه موجود كثير، ولكن استعمال غيره أكثرُ، فكان حملُ اللفظ على الأكثر هو الواجب، فكيف والمتأوِّل معدوم في زمانه - صلى الله عليه وسلم - وقتَ نزولِ هذه الآية؟ أليس يكونُ حملُ اللفظ على الموجود دونَ
__________
(1) الزبدي: مكيال كان مستعملاً في عصر الدولة الرسولية.
(2) والحلف: نوع من التوابل.(2/168)
المعدوم أولى من حمله على الأكثرِ دونَ الموجود الكثير على هذا الأصلِ؟ لا سيما وليس العموم بصريحٍ فكان يجبُ على السَّيِّد -أيَّده الله- أن يُبطل هذا القول.
الإشكال الرابع: أنها جاءت أدلةٌ على أن المتأوِّل في الكبيرة التي ليست بكفرٍ يُسمَّى مسلماً بنصِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما يُسَمَّى مُوَحِّداً (1)، ومِن أهل الملة، ومِن أهل القبلة، والمسلم مقبول.
أمَّا المقدمة الأولى -وهو أنَّه يُسمَّى مسلماً وإن كان عاصياً باغياً- فكقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الحسن: " إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ وسيُصْلِح اللهُ به بَيْن طائفتيْنِ عظيمتين من المُسلمين " (2)، وهذا حديثٌ صحيح مشهورٌ متلقىً بالقبول روته الزيديةُ، وعلماءُ الحديث، وكلُّ من تكلَّم في فضائل الحسنِ بنِ علي عليهما السلام غالباً.
وقال الحافظ ابن عبد البر في كتاب " الاستيعاب " (3) في مناقب الحسن عليه السلام: رواه اثنا عشر صحابياً.
__________
(1) في (ج) "موجوداً" وهو خطأ.
(2) أخرجه أحمد في " المسند " 5/ 37 و44 و47 و49 و51، وفي فضائل الصحابة (1354) و (1400) والبخاري (2704) و (3629) و (3746) و (7109) والترمذي (3773) وأبو داود (4662) والنسائي 3/ 107، وعبد الرزاق 11/ 452، والطبراني 3/ 21 - 24، والببهقي 6/ 165، والطيالسي (874).
ورواه ابن راهويه في " مسنده " عن الحسن مرسلاً كما في " المطالب العالية " 4/ 73 والبزار في " مسنده " عن جابر كما في " المجمع " 9/ 178.
قاله البغوي في " شرح السنة " 14/ 136 - 137: وفي هذا الحديث دليل على أن واحداً من الفريقين لم يخرج بما كان منه في تلك الفتنة من قول أو فعل عن ملة الإسلام، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلهم كلهم مسلمين مع كون إحدى الطائفتين مصيبة والأخرى مخطئة. وهكذا سبيل كل متأول فيما يتعاطاه من رأي أو مذهب إذا كان له فيما يتأوله شبهة وإن كان مخطئاً في ذلك، وعن هذا اتفقوا على قبول شهادة أهل البغي، ونفوذ قضاء قاضيهم.
(3) 1/ 369، ولفظه: رواه جماعة من الصحابة.(2/169)
وليس يدخل فيه من عَلِمْنَا بالقرائنِ أنَّه معاندٌ مجترىءٌ غير متأوِّل منهم، ولا مَنْ صحَّ في الحديث أنَّه منافق أو نحو ذلك، لأن حكم الواحدِ المخصوص لا يتعدَّى إلى الجماعة، ولا يلزمُ مِن خروج الخصوصِ بطلان العموم. وفي " صحيح مسلم " عن عمَرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه أن جبريلَ عليه السَّلام سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، فقال: " شهادةُ أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمَّداً رسولُ الله، وإقَام الصَلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وحجُّ البَيْتِ، وصَوْمُ رمضان " (1).
وفي الحديثِ من هذا القبيل ما يطولُ ذكرُه، والمتأولون ممن ليس بكافر قائمون بهذه الأركان، وقد سمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحاب معاوية مسلمين في حديث الحسن عليه السلام (2)، وهو خاصٌّ لا يُعَارَضُ بالعمومات، وكذلك ثبت بالتواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أصحابَ معاوية بُغَاة كما جاء في حديث عمار: " تقْتُلكَ يَا عَمَّارُ الفِئَة البَاغِيَةُ " (3) خرجه
__________
(1) هو في صحيح مسلم برقم (8) وأخرجه الترمذي (2738) وأبو داود (4695) والنسائي 8/ 97، وأحمد 1/ 27 و51 و52 و53، والبغوي (2). وفي الباب عن أبي هريرة عند البخاري (5) و (4777) ومسلم (9) و (10) وأبي داود (4608) والنسائي 8/ 101.
(2) وقد تقدم في الصفحة 169.
(3) أخرجه من حديث أبي سعيد البخاري (477) و (2812) ومسلم (2915) وأحمد 3/ 5 و91، وابن سعد 3/ 1/180 ومن حديث عمرو بن العاص أخرجه أحمد 4/ 197، وقال الهيثمي في " المجمع " 9/ 297: رواه الطبراني مطولاً ومختصراً، ورجال المختصر رجال الصحيح، غير زياد مولى عمرو، وقد وثقه ابن حبان، ومن حديث أم سلمة أخرجه أحمد 6/ 289 و300 و311 و315 ومسلم (2916).
وعن عمار أخرجه أبو يعلى والطبراني والبزار كما قال الهيثمي في " المجمع " 9/ 259 وانظر طرقه الكثيرة عند ابن سعد في " طبقاته " 3/ 1/180 وفي " مجمع الزوائد " 7/ 242 وما بعدها و9/ 295 - 297، وفي " نظم المتناثر في الحديث المتواتر " ص 126 حيث ذكره عن واحد وثلاثين صحابياً، وانظر " فتح الباري " 1/ 543.(2/170)
أهل الصحاح والسنن والمسانيد والتواريخ وجميع أهل البيت وأهل الحديث والشيعة، وحكم علماء الحديث بتواتره، منهم الذهبي ذكره في " النبلاء " (1) في ترجمة عمار رضي الله عنه، وهو مذهبُ أئمة الفقهاء، ومذهبُ أهلِ الحديث كما نقله عنهم العلامة القُرطبي في أواخر كتابه " التذكرة في التعريف بأحوالِ الآخرة " (2) كما سيأتي بيان ذلك مبسوطاًً في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله. فلا يخلو، إما أن يُثبت أن أصحابه يسَمَّوْنَ فسقةً في ذلك الزمان بنصٍ صحيح مثل ما ثبت أنهم يُسمَّوْنَ مسلمينَ وبغاةً، أو لا، إن لم يثبت ذلك لم تَنَاوَلْهمُ الآية الكريمة، وإن ثبت ذلك، فقد تناولهم اسمُ الفسق الذي يرد أهله، واسم الإسلام الذي يقبل أهله، فتعارضَ دليلُ قبولهم، ودليلُ ردِّهم، ولم يكونوا كالذين يُسمَّوْنَ فساقاً فقط، ولا يُسمون مسلمين ألبتة. فلا تدُلُّ الآيةُ الكريمة على مقصودِ السَّيِّد حتى يرتفِعَ هذا الاحتمالُ، فإنَّه إما راجحٌ، أو مساوٍ، أو مرجوحٌ محتمل، يوضِّحُ ذلك إن التفسيرَ للآية بذلك هو المشهور في كتب أهل البيت عليهم السلامُ كما ذكره صاحب (3) " شفاء الأوام " وادَّعى الإجماع عليه، فإنه قال في كتاب الوصايا من " شفاء الأوام " ما لفظه: وقولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَة} [الحجرات: 6] تدل على المنع من الإيصاء إلى الفاسق، وقولنا: إن الوصية لا تجوزُ إلى الفاسق نريدُ الفاسق المجاهر، فأما الفاسقُ
__________
(1) 1/ 421 ونص كلامه فيه: وفي الباب عن عدة من الصحابة، فهو متواتر.
(2) ص 546.
(3) هو الحسين بن محمد بن أحمد بن يحيى بن الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، المتوفى سنة 662 هـ، مترجم في " تاريخ اليمن " للواسعي 32، وانظر" الأعلام " 2/ 255 - 256 ومن كتابه هذا عدة نسخ في المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء انظر " الفهرس " ص 85 - 89.(2/171)
مِن جهة التأويل، فلسنا نُبْطِلُ كفاءته في النكاح كما تقدَّم، ونقبلُ خبره الذي نجعلُهُ أصلاً في الأحكام الشرعية لإِجماع الصحابة رضي الله عنهم على قبول أخبارِ البُغاة على أمير المؤمنين عليه السلام، وإجماعُهم حجة. انتهي كلامُه عليه السلامُ.
فإن قلتَ: الدليلُ على أنهم لا يُسَمَّوْنَ مسلمين إجماع أهل البيت عليهم السلامُ.
فالجوابُ أنَّ أهلَ البيت عليهم السلامُ لم يتكلموا في هذه المسألة، وإنما أجمعوا في صورتين لم نُخالفهم في واحدة منهما (1):
إحداهُما: أجمعوا أن حُكْمَ الفاسق في الآخرة غيرُ حكمِ المسلمين القائمين بالواجبات، المجتنبين للمحرمات، ونحن لا نُخالفهم في هذه الصورة (2).
الصورةُ الثانية: أجمعوا أنَّه لا يُسمى مؤمناً ولا مسلماً ولا كافراً في هذه الأعصار الأخيرة، لأنها قد صارت هذه الأسماء في هذا العرف الأخير تُفيد معانيَ مختلفةً يترتَّبُ عليها أحكام شرعية، وللعرف تأثير في تحريم إطلاقِ الألفاظ، ألا ترى أنَّه قد ورَد في الحديث تسميةُ كثير من المعاصي بالكفر (3)، ولا يجوز أن يُسَمَّى فاعِلُها اليوم كافراً. وتلخيصُ هذا الوجه أن
__________
(1) في (ج) و (ش): منها.
(2) سقطت من (ب) و (ش).
(3) من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " وقوله: " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " وقوله: " إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما " وقوله: " بين الرجل والكفر ترك الصلاة " وقوله: "من حلف بغير الله فقد كفر" وقوله: " من أتى كاهناً فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد " وقوله: " اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت " وهي صحيحة مخرجة في تعليقنا على شرح الطحاوية ص 295 - 296.(2/172)
المسلم والمؤمن لم يكن معلوماً أنَّه يفهم من إطلاق أهل العلم لهما في ذلك الزمان، أنهما يُفيدان عدمَ فسق التأويل، ولا ثبوتَه، وأما اليومَ، فقد صار العارفُ لا يُطْلِقُ هذه اللفظة على فاسقِ التأويل، فلو قال العارف اليوم في فاسق التأويل: إنَّه مسلم كان تزكيةً له من فسق التأويل، ولو قال ذلك قائلٌ في الصدر الأول، جاز أن لا يكون تزكيةً من فِسْقِ التأويل.
ويدُلُّ على هذه التفرقة بين الأزمان في جواز إطلاق الأسماء وعدمه أن أهل البيت عليهم السلامُ لا يُجيزون أن يُسمَّى الكافِرُ فاسقاً في الزمان الأخير، لأن تسميته بذلك تُفيد أنَّه ليس بكافر وقد ثبت بالنصوص المتقدمة أنه كان يُسمى فاسقاً في الزمان الأول، وهذا دليل واضح.
فإن قلت: كيف يجوز أن يُسمى مسلماً في ذلك الزمان وهو اسمُ مدح، والفاسقُ لا يستحق المدحَ؟
قلتُ: كما يجوزُ أن يسمى مُوحِّداً ومصلياً وحاجّاً، وذلك لأن هذه أسماء فاعلين، وكُل من فعل فعلاً حسناً أو قبيحاً، اشتق له منه اسم، وإذا فعَل الفاسِقُ ما يستحِق أن يُمدح به، مُدِحَ بما فعل، كما يُوصَفُ حاتِم بالكرم، وعنترةُ بالشجاعة ولا مانع من هذا، وإنما يمتنع مدحُه على فسقه أو مدحُه على الإطلاق، فإن قدرنا إنَّه منع من هذا مانعٌ، لم يمنع من مجرد التسمية، فقد تصِحُّ التسميةُ من غير مدح، ويكون الوجه أن المدح لا يستحق إلا مع عدم الإِحباط، وأما مع الإحباط، فلا يكون مدحاً ولكن ليس بلازم إذا حَبط الثواب أن يَبْطُلَ اشتقاق اسم الفاعل، ودليلُه تسميةُ الفاسق موحِّداً، وأما المقدمة الثانية -وهو أن المسلم مقبول- فسوف يأتي الدليلُ عليها في الفصل الثاني، إن شاء الله تعالى.(2/173)
الإشكال الخامسُ: أن في هذه الأدلة ما يدل على أن المتأوِّل غيرَ الكافر كان يُسَمَّى مؤمناً في ذلك الزمان، وإن كان باغياً عاصياً إلا من عُرِفَ عنادُه أو نفاقُه كما تقدم، وكما يأتي، إن شاء الله تعالى، والمؤمن مقبول.
بيان المقدمةِ الأولى من وجهين:
أحَدهُما: أنَّه قد ثبت في الإشكال المقدم آنفاً أنَّه كان يُسَمَّى مسلماً، والمسلم مؤمن بإقرار الخصم.
وثانيهما: قولُه تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقولُه عليه السلام في حديث جبريل وقد سأله ما الإيمانُ؟ قال: " أن تُؤمِنَ باللهِ وملائكتِهِ وكُتُبِهِ وَرُسُلِه، وتؤمِن بالقدر خيرِه وشرِّه " رواه مسلم (1).
قال النواوي: القَدَرُ مِن اللهِ، ليس بإجبار خلقه على أفعالهم، ذكره في " شرح مسلم " (2).
وكذا قال الخطابي في " معالم السنن " (3)، وأبو السعادات ابن الأثير في " جامع الأصول " (4)، وأجمعَ أهلُ السنة على ذلك كما سيأتي.
ومن ذلك حديثُ الأمَةِ السوداء التي سألها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، فأشارت أن الله ربُّها، وأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " هِيَ مؤمنة "،
__________
(1) تقدم تخريجه ص 170.
(2) 1/ 154.
(3) 4/ 322.
(4) 10/ 103 الطبعة الشامية.(2/174)
والحديث صحيح رواه مسلم (1) وغيره، وذكر الحافظ ابن حجر في " تلخيصه " له طرقاً كثيرة.
وبيان المقدمة الثانية يأتي في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، وفي هذا الإشكال من الأسئلة له ما في الذي قبلَه، والجواب كالجواب سواء.
الإشكال السادس: أن الاستدلالَ بهذه الآية الكريمة من قبيل مفهومِ المخالفة أحد قسْمَي مفهومِ الخطاب، وهو مِن مفهوم الشرط أحد أنواع مفهوم المخالفة، ولا شك أن مفهوم الشرطِ يقتضي المخالفةَ في ما بعد حرف الشرط والذي بعدَ حرف الشرط هو المجيء، لا الفسقُ فيكون مفهومُ الآية: وإن لم يأتكم فاسق فلا تبيَّنُوا، وظاهر هذا المفهوم يحتاج إلى تأويل، فإن التبين لا يكون منهيّاً عنه (2) في حال من الأحوال وإذا كان التبين غير منهي عنه في حال من الأحوال لم يصح التعلقُ بالمفهوم، فوجب إما الوقفُ أو التأويلُ ممن يعلمه فإنه يمكن أن يقال: إنَّه إنما ذكر الفِسْقَ ها هنا لأحد أمرين إما للسبب الذي نزلت الآية لأجله، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] نزلت في رجل لَحِقَه المسلمون، فسلم عليهم، فقتلوه ثبت ذلك في الصحيح (3) فلا يجوزُ أن يكونَ معنى الآية: وإن لم تضربوا في سبيل الله، فلا تَبَيَّنوا، بل يكون الوجه أن الله تعالى إنما ذكر الضربَ في الأرض وشرطه التبيُّن (4) لأن الذين نزلت فيهم الآيةُ كانوا ضاربين في الأرض وقتَ
__________
(1) (537) وأخرجه أحمد 5/ 448، والطيالسي (1105) وابن أبي عاصم في "السنة" (489) و (490) وابن خزيمة في " التوحيد " ص 121، والبيهقي " في الأسماء والصفات " ص 234. وقد تقدم تخريجه في الجزء الأول ص 380.
(2) في (ب): التبين غير منهي عنه.
(3) انظر صحيح البخاري (4591).
(4) في (ب): وشرطه في التبيين.(2/175)
نزولها، وإما للذم لمن نزلت فيه الآية كما في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] مع أنَّه سبحانه لا يتخذ عَضُداً من المضلين ولا مِن غيرهم، وقد ذكر الزمخشري رحمه الله أن المعنى: وما كنتُ مُتخِذَهُم عضُداً، ولكن ذَكَرَ المضلين للذم (1) وقد حكم في " الكشاف " بمثل هذا في مواضِعَ كثيرة، فكذا يُمْكِنُ أن يكونَ وضع الفاسق في موضع ما هو أعَمُّ منه، كما لو قال: إن جاءكم أحدٌ ليفيد الذم، وتلك الفائدة حاصلة بالعام لو أتى به معروفة، أو وضع الفاسق موضع ما هو أخصُّ منه، وهو الوليدُ (2) ليفيدَ الذم، والفائدة أيضاًً معروفة فتأمَّل ذلك.
فإن قلتَ: ما المانعُ من القول بأن المعنى: وإن لم يأتكم فاسق، فلا تَبَيُّنُوا، وهلاَّ قلت: إن هذا المعنى صحيح، ولا يمنع منه ما في ظاهره من النهي من التبين، لأنَّه لم ينه عنه لأمر يعود عليه في نفسه، ولكن نهى عن طلبه لِحصوله، كأنه قال: وإن جاءكم مسلم، فقد حصل البيان، فلا تطلبوا البيان.
قلتُ: الجواب أنَّه لا يَصِحُّ القطعُ على أن هذا هو المراد لوجهين.
أحدُهما: أنا بينا أن المفهومَ لا يصح أن يكونَ: وإن جاءكم مسلم، وإنما المفهوم وإن لم يأتكم فاسق. ويدل عليه وجوه.
__________
(1) " الكشاف " 2/ 488.
(2) هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، أخو أمير المؤمنين عثمان بن عفان لأمه، أسلم يوم الفتح، وسيذكر المصنف ذلك قريباً، وفيه نزل قوله تعالى {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} وانظر أخباره في " طبقات ابن سعد " 6/ 24 و7/ 476 ونسب قريش ص 138، و" الجرح والتعديل " 9/ 8 والأغاني 5/ 122، وتاريخ ابن عساكر 17/ 434 ب و" العقد الثمين " 7/ 398، والإصابة 3/ 637 و" تهذيب التهذيب " 11/ 142.(2/176)
أحدها: أن الله تعالى قد أمر بالتَبَيُّنِ (1) مع خبر المسلم في قوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] كما يأتي بيانه في الإشكال الثامن.
الثاني: ما مر أن التبين (2) لا يكون منهيّاً عنه ظاهراً لا قاطعاً.
الثالث: ما في الإشكال التاسع من أن العلة خوف الإصابة بالجهالة، فمتى حصل ما يُسَمَّى جهالةً، وجب التبين، وإن كان المخبر مسلماً، ومتى حصل انتفاء الجهالة، قبل وإن كان متأولاً.
الثاني: أن الجهاتِ الموجبة للتبين كثيرة، وليست الفسقَ فقط حتى إذا انتفي الفسقُ، اتتفي التبَيُّن، فقد يجب التبينُ مع انتفاء الفسق في مواضعَ، منها في خبر المجهول، ومنها في خبرِ العدل إذا كان بينَه وبينَ مَنْ أخبر عنه إحْنَةٌ أو عداوة، ومنها خبرُ العدل الذي لا شائبة في عدالته إلا أنَّ ذلك الحكم مما يجب فيه اعتبارُ عدلين، ومنها في خبرِ العدل إذا كان خبرُه دعوى على غيره، ومنها خبرُ العدل إذا عارضه عدلٌ آخر، ومنها في خبر العدل إذا كان معروفاً بالغفلة، ومجرباً عليه كثرة الغلطِ والنسيان، وغير ذلك مما ورد الشرع بعدم قبول العدل فيه.
الإشكال السابع: أن الآية الكريمة نزلت في حقوق المخلوقين، وذلك واضحٌ في قوله تعالى: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} وقد قال الحاكم رضي الله عنه في هذه الآية ما لفظه: والجوابُ أن هذه الآية نزلت في
__________
(1) في (ب): التبيين.
(2) في (ب): التبيين.(2/177)
الوليد بن عقبة بعثه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُصَدِّقاً (1) فجاء، وأخبر بالامتناع عنهم كذباً، فنزلت الآية، وإذا (2) كانت خاصة في هذه الآية وما يجري مجراها، لم يَصِحَّ الاستدلال بها. انتهى.
ومن العجب أن السَّيِّد ذكر في تفسيره أن الفاسقَ هو الوليد بصيغة الجزم، ولم يذكر خلافاً في ذلك ذكره في " تجريد الكشاف المزيد فيه النكت اللطاف " ولم يُدخل معه المصرحين دعِ المتأولين فالله المستعان.
وكلام الحاكم صحيح، فإن حقوقَ المخلوقين لا تُقاس على حقوق الله تعالى، لأنَّه يُعتبر فيها مِن قوة الظن ما لا (3) يُعتبر في حقوق الله تعالى، ولهذا لا يُعتبر في الإخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خبر واحد، ويجب في حقوق المخلوقين اعتبارُ شاهِدَيْنِ، وفي بعضها أربعة شهود، وفي بعضها (4) شاهدٌ ويمينٌ، وفي بعضِها اليمينُ مع الخبر، ولا يُقبل فيها العَدُوُّ على عدوه، ولا شهادةُ الأبِ لولده عند بعضِ العلماء، وكم بينَ
__________
(1) بعثه رسول الله إلى بني المصطلق، أخرج هذه القصة عبد الرزاق في تفسيره، عن معمر، عن قتادة، وأخرجها عبد بن حميد، عن يونس بن محمد، عن شيبان بن عبد الرحمان، عن قتادة، ومن طريق الحكم بن أبان، عن عكرمة، ومن طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وأخرجها أحمد 4/ 279، والطبراني في " الكبير " (3395) موصولة عن الحارث بن ضرار الخزاعي، وفي السند من لا يعرف.
ورواها الطبري في تفسيره 26/ 78 من حديث أم سلمة وفي السند موسى بن عبيدة، وهو ضعيف.
وأخرجها ابن مردويه من حديث جابر وفيه عبد الله بن عبد القدوس، وهو ضعيف وسينقل المؤلف في الصفحة 183، عن أبي عمر بن عبد البر، أنَّه لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علم أن قوله عز وجل: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} نزلت في الوليد بن عقبة.
(2) في (ب): فإذا.
(3) في (ب): ما لم.
(4) من قوله " في حقوق المخلوقين " إلى هنا سقط من (ج).(2/178)
حقوقِ الله تعالى وحقوقِ المخلوقين من الفروق الواضحة، وسيأتي لهذا مزيد بيان، إن شاء الله تعالى.
فإذا فَرَّقَ الشرعُ بينَ الحكمين، لم يصح القياس مع وجود هذه التفرقة المستمرة في أكثر الأحوال، أو في كثير منها، فأما العموم فقد تَبَيَّنَ بهذا الإِشكال تعذُّرُهُ، فلا تحرم روايةُ الحديث عن فاسقِ التأويل بعموم هذه الآية، لأنها خاصة بحقوق المخلوقين، فتأمل ذلك، وهذا لازم (1) له، لا (2) نقول بأن المنع من قبول المتأوِّلين من المسائل القطعية، ويستدل على ذلك بهذه الآية النازلة عن مرتبة الظن كيف القطع، فليتَ ما استدل به على القطع أثْمَرَ الظن!
الإشكالُ الثامن: أن الله تعالى قال: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ولم يقل: فلا تقبلوه، والتبين: هو النظر فيما يدل على صدقه أو كذبه، وليس القطع على تكذيبه، والجزمُ على عدم قبوله يُسَمَّى، تبيناً في اللغة، ولا في العُرف، ولا في الشرع. والتبين: تَفعُّل من البيان وهو تطَلُّبُ البيان، وذلك لا يكون مع بيان ردِّه، ولا مع بيان قبوله، كما لا تقول بعد شروق الشمس لصاحبك: تبيَّن هل طلع الفجرُ؟ وإنما تقول ذلك لأجلِ الالتباس، ويوضِّح هذا أنَّه قد جاء التبيُّن في القرآن الكريم، وليس المراد به الردَّ والتكذيب، كما في قوله تعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} فإنَّه روى ابن عباس رضي الله عنهما: أن المسلمين لحقوا رجلاً في غُنَيْمَةٍ (3) له فقال: السَّلام
__________
(1) في (ب): خاص، وفي (ج): حجة.
(2) في (ج) و (ب): لأنه، وفي (ش) لأنا.
(3) الغنيمة: تصغير غنم، وهو قطيع من الغنم.(2/179)
عليكم. فقتلوه، وأخذوا غنيمتَه، فنزلت، رواه البخاري ومسلم (1)، وروي من غير طريق.
فإذا ثبت أن التبين: هو طلب البيان، لا ردُّ الخبر، فإنا نقول: من جملة التبين أنا ننظر في المُخْبِرِ: أهو مِن أهل الصدق والتجنبِ لِكل ما اعتقد أنه قبيح، أم من أهل التعمُّد للمعاصي، والوقوع فيما يُعلم أنَّه قبيح؟ فنظرنا في المتأولين، فوجدناهم من أهل الصدق والتحري فيما يعتقدون قبحَه فقبلناهم، وإنما قلنا: هذا مِن التبين، لأنَّ الله تعالى أمرنا بالتَّبَيُّنِ أمراً مطلقاً، ولم يُعينه في تبيُّن مخصوصٌ، وهذا تبين في لُغة العرب، وإنما تكون الآية حجةً صريحة (2) فيما قصد السَّيِّد لو قال الله تعالى فيها كما قال في القاذفين: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبَداً} [النور: 4]، وكما قال في خبرهم: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16]، وكما قال تعالى في خبرهم: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]، وكقوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13]، ونحو هذه الآيات الصريحة، فأما التَّبَيُّن، فليسَ مِن الرد والتكذيب في شيء.
الإشكال التاسعُ: قالَ -أيده الله-: إنَّه علَّق الحكم على صفة وهي الفسق.
__________
(1) أخرجه البخاري (4591) ومسلم (3025) وأبو داود (3974)، والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 5/ 94، والطبري (10214) و (10215) من طرق عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس، وأخرجه بنحوه أحمد 1/ 229 و272 و324، وابن أبي شيبة 12/ 377، والترمذي (3030) وابن جرير (10217) و (10218) والطبراني (11731) من طرق عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم 2/ 235، ووافقه الذهبي.
(2) في (ب) صحيحة صريحة.(2/180)
قلنا: لكنه قد علَّل تعليقه للحكم على تلك الصفة بخوف الإصابة بالجهالة، وذلك واضح في الآية لقوله: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6] وهذه العلة غير حاصلة في خبر المتدين المتأوِّل، فإن خبره يُفيد الظنَّ الراجحَ، والظن الراجحُ ليس بجهالة لوجهين:
أحدُهما: أنَّه قد ورد تسميتُه علماً في لسان العرب مثل ما ورد تسمية العلم ظناً، كذلك في قوله تعالى حكاية عن أولاد يعقوب عليه السلام: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} وقد احتج بها في " شفاء الأوام " في باب الشهادات، وما ثبت أنَّه يُسمى علماً في اللغة، فلا يسبق إلى الفهم أنَّه يسمى جهالة.
وثانيهما -وهو المعتمد- أنا نظرنا في الجهالة: هل المرادُ بها عدم العلم أو عدمُ الظن؟ فوجدنا (1) عدمَ الظن لا عدمَ العلم، وإنما قلنا: ليست عدمَ العلم، لأن العلمَ لا يَحْصُل أيضاً بخبر المسلم الثقة، وكذلك لا يَحْصُلُ بخبرِ الثقتين، فثبت أن الجهالة تنتفي بحصول الظن، والظنُّ حاصل مع خبر المتأول المتدين فوجب قبولُه، وقبولُ كل خبرٍ يُفيدُ الظنَّ إلا ما خرج بالأدلة القاطعة أو الراجحة الخاصة.
وقد قال القرطبي (2): في هذه الآية الكريمة سبعُ مسائل. ذكرها كلها حتى قال: السابعةُ فإن قضى بما يَحْكُمُ على الظن لم يكن ذلك عملاً بجهالة كالقضاء بشاهدَيْنِ عدلينِ، وقبولِ قول عالم مجتهد. انتهى.
وهذا صريح في المعنى الذي قصدتهُ ولله الحمد، أفاده النفيسُ
__________
(1) في (ب) و (ش): فوجدناها.
(2) 16/ 311 - 313.(2/181)
العلوي. وللزمخشري مثلُ هذا في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10].
الإشكال العاشرُ: أنَّ السَّيِّد -أيده الله- قد ادّعى أن الآيةَ في معنى العموم، لكن العموم لا يَصِحُّ الاحتجاج به إلا بعد فقدِ المعارض، والناسخ، والمُخَصِّصِ، والمعرفة بفقد هذه تحتاج إلى الاجتهاد بالاتفاق، وقد شدَّد السيدُ في التحذير منه، فما بالُه خاض في بحاره، وَعَشَا إلى ضَوْءِ ناره.
الإشكال الحادي عشر: أن السَّيِّد -أيده الله- عَظَّمَ الكلامَ في تفسير القرآن العظيم، وكاد يُلحِقُه بما لا يستطاع، أو ألحقه به، ونص على أنَّه صعبٌ شديد، مدركُه بعيد، ثم إنَّه فَسَّرَ هذه الآية الكريمة، واحتج بها في هذه المسألة التي زعم أنها قطعية مع ما في هذه الآية من الإِشكالات، فإن الله تعالى سهل للسَّيِّد تفسيرَ هذه الآية، فلعله سبحانه يُسَهِّل لغيره تفسيرَ غيرها، وإن كان قال فيها بغير علم، فإن ذلك لا يليقُ بفضله.
الإشكال الثاني عشر: بقي على السيد -أيده الله- بقية في الاستدلال بهذه الآية، وذلك لأنها وردت على سبب ونزلت في الوليد بن عقبة، وكان فاسقاً مصرحاً غيرَ مقبول عند المحدثين، ولا عند الزيدية -كما سيأتي بيانُه في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى- ذكر ذلك الواحدي في " أسباب نزول القرآن " (1)، وفي " الوسيط " في التفسير له ولم يذكر غيرَه، وكذا في " عين المعاني " (2) ولم يذكر غيره مع كثرة توسعه في النقل،
__________
(1) ص 261، والواحدي: هو الإمام العلامة الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري الشافعي المتوفى سنة 468 هـ. مترجم في " السير " 18/ 339 - 342.
(2) لمحمد بن طيفور الغزنوي السجاوندي كان في وسط المئة السادسة للهجرة " طبقات المفسرين " 2/ 160.(2/182)
وكذا في تفسير عبد الصمد الحنفي (1)، وكذا في تفسير الرازي (2) ولم يذكر غيره، وفي تفسير القرطبي قيل: إنَّه الوليد، ولم يذكر غيره مع كثرة اتساعه في النقل.
وقال أبو عمر بن عبد البر في " الاستيعاب " (3): ولا خلاف بينَ أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله تعالى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} أن الآية نزلت في الوليد بن عُقبة. والعلماء (4) مختلفون فيما ورد على سببٍ من العمومات هل يُقصرُ عليه، أو يُجرى على عمومه؟ والسيد لا يدري ما مذهبُ خصمه في ذلك، فبقي عليه أن يُلْزِمَ خصمَه القولَ بأن العموم لا يُقصر على سببه، ويستدِلُّ على ذلك بدليل قاطع يمنعُ الخصم من المخالفة، فإن الدليلَ الظني لا يَصْلُحُ وازعاً للخصم عن المنازعة، وإنما يَصْلُحُ مثيراً لظن المستدل به فمع (5) عدم الدليل القاطع للخصم أن يقولَ: هذه الآيةُ نزلت في الوليد بنِ عُقبة كما جاء ذلك من غير وجه، وهو إجماعٌ مِن المفسرين كما ذكره ابنُ عبد البر، وقد ثبت في الصحاح (6): أن الوليدَ كان فاسقاً يشربُ الخمر، فتُقصر الآيةُ على الفاسق المصرّح الذي نزلت فيه وهو الوليدُ بن عقبة. فإن قيسَ على المنصوص عليه، لم يَقْضِ القياسُ إلا دخولَ سائرِ الفساق المصرِّحين، وهذا مذهبٌ مشهورٌ قال به كثير من
__________
(1) ذكره في " إيضاح المكنون " 1/ 309، وفي " هدية العارفين " 1/ 574، ولم يذكر وفاته.
(2) 28/ 119.
(3) 3/ 595.
(4) في (ج): والعلماء فيما علمت.
(5) في (ج) و (ش): مع.
(6) أخرجه مسلم في " صحيحه " (707) في الحدود باب حد الخمر. وانظر " تاريخ ابن عساكر " 17/ 444/أ، و" سير أعلام النبلاء " 3/ 415.(2/183)
الكبار، منهم: علي بن أبي طالب، وابنُ عباس، وعثمانُ، لكن في وقائع مخصوصة، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه مع جلالته وما علمنا أن أحداً فسق (1) من قال بقصر العموم على سببه، ولا نسبه إلى الجهل وقلة التمييز، فلا بُدُّ للسَّيِّد مما ذكرناه من نصبِ الدليل القاطع على تحريم قصرِ العموم على سببه.
الإِشكال الثالث عشر: بقي على السيّد -أيده الله- بقية، وذلك أنه قد عَلِمَ أن العمومَ مُختلف في الاحتجاجِ به، وفيه أقوالٌ كثيرة، فقيل: إن خص بمبيّن فهو حجة، وإلا فليس بحجة، وقيل: إن خص تخصيصاً متصلاً، فهو حجة، وإلا فلا. قاله أبو القاسم البلخي.
وقال أبو الحسين البصري: إن كان العموم مُنبئاً عنه، فهو حجة، كاقتُلوا المشركين، فإنه يُنبىء عن اليهود والنصارى على أحد القولين في أنَّهم مشركون بقولهم: " عزير ابن الله " و" المسيح ابن الله " وقوله تعالى فيهم: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، ولقول النصارى: " إن الله ثالث ثلاثة "، قال أبو الحسين: وإن (2) لم يكن منبئاً عن الخصوص فليس بحجة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} فإن العمومَ مخصوصٌ باشتراط النصاب والحرز، وهو لا ينبىء عنهما (3).
وقال قاضي القضاة: إن كان غير مفتقر إلى بيان كالمشركين، فهو حُجَّةٌ، وإن افتقر إلى بيان، فيس بحجة مثل: {أقيموا الصلاة} فإنهم كانوا لا يعرفون كيفيتها، فحين جاء تخصيصُ الحائض لم يبقَ في قوله: {أقيموا الصلاة} حجة، ومِنَ العلماء من قال: إنَّه يكون حجةً في أقلِّ
__________
(1) لفظ " فسق ": ساقط من (ج).
(2) في (ب): فإن.
(3) انظر " المعتمد " 1/ 265 - 273.(2/184)
الجمع فقط، ومنهم من قال: إنَّه لا يكون حجةً على الإطلاق وهو مذهبُ أبي ثور (1)، وحكاه المنصورُ بالله عليه السلام في " الصفوة " عن عيسى بنِ أبان (2)، ومنهم من عكس (3).
فمع هذا الاختلافِ الشديد كيف يحتج السيدُ على خصمه بالعموم المخصوصِ، ويلزمه الموافقة في المسألة ويدعي أنَّها قطعية، ولا يبينُ الدليلَ القاطع على أن العمومَ المخصوص حُجة؟
فإن قلتَ: ومن أين أن (4) هذا العموم مخصوص؟
قلتُ: على تسليم إنَّه عمومٌ، فهو مخصوص بالإجماع، فإن خبرَ الفاسق مقبول في مواضع بالاتفاق، سواء كان مصرحاً أو متأولاً، وذلك كخبره بطلاق زوجته، وتذكيته لذبيحته، وإسلامه، ووقفه لماله، وتوبته، ونجاسة ثوبه وطهارته، وعتقه لمملوكه، وإقراره على نفسه، وأمثال ذلك مما لا يحصى كثرة.
الإِشكال الرابع عشر: أنَّ الآية وردت بلفظِ الأمر في قوله تعالى: {فَتَبَيَّنُوا}، والسيد -أيده الله- يعرف أن بينَ العلماء خلافاً كثيراً في
__________
(1) هو الإمام الحافظ الحجة المجتهد مفتي العراق إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي الفقيه المتوفى سنة 240 هـ قال ابن حيان: كان أحد أئمة الدنيا فقهاً وعلماً وورعاً وفضلاً، صنف الكتب، وفرع على السنن، وذب عنها. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 12/ 72 - 76.
(2) هو عيسى بن أبان بن صدقة القاضي فقيه العراق، تلميذ محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وقاضي البصرة، وله تصانيف وذكاء مفرط، وفيه سخاء وجود زائد، توفي سنة 221 هـ. " سير أعلام النبلاء " 10/ 440.
(3) انظر " المعتمد " 1/ 265 - 272، و" المحصول " 1/ 3/22 - 33، و" المستصفي " 2/ 157، 162، و" نهاية السول " 2/ 403 - 407.
(4) " أن " ساقطة من (ج).(2/185)
الأمر، فقد اختلفوا فيه على ثمانية أقوال (1):
الأوَّل: أنَّه للوجوب فقط.
والثاني: أنَّه للندب، وبه قال أبو هاشم.
والثالث: أنَّه للرُّجحان، فيكون عامّاً فيهما.
الرابع: أنَّه مشترك بينَ الوجوب والندب.
الخامس: الوقف في الوجوب، والندبُ مع القطع على أنَّه ليس للإباحة.
السادس: أنَّه مشترك في الوجوب والندب والإباحة.
السابع: أنَّه للإِذن المشترك بينَ الوجوب والندب والإِباحة فيدخل تحتَ الإِذن دخولَ النوع تحت الجنسِ، والخاصِّ تحتَ العام.
والثامن: أنَّه مشترك بينَ الوجوب والندب والإِباحة والتهديد. وفي هذه الأقوال الخالص والمزَّيف، فكيف منع السيدُ خصمَه من المخالفة في المسألة، وادَّعى أنها قطعية، واستدل بهذه الآية ودلالتها مبنية على أن الأمرَ للوجوب، وقد خالف في هذه القاعدة خلقٌ كثيرٌ من المتقدمين والمتأخرينِ من أهل العدل والتوحيد وغيرهم؟
الإِشكال الخامس عشر: أن في (2) أهل العلم مَنْ يقول: إن ألفاظ العموم مشتركة بينَ العموم والخصوص، لأنها أكثر ما وردت العموماتُ،
__________
(1) والمختار من هذه الأقوال أنَّه للوجوب ما لم يصرفه عنه صارف. انظر " المحصول " 1/ 2/69 - 155، و" نهاية السول " 2/ 251 - 272.
(2) في (ب): من.(2/186)
والمراد بها الخصوصُ، حتى قال بعضهم: ليس في القرآنِ عمومٌ إلا وهو مخصوص إلا قولَه تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 101] قالوا: والأصلُ في الاستعمال الحقيقةُ، وإنما أشرت إلى طرف من حجة أهل هذا القول لعدم اشتهاره، وهو قول ضعيف، ولكن لا يتم دليل السيد حتى يُبين أنَّه باطل قطعاً، ولا يكفيه أنَّه ضعيف على مقتضى الأدلة الظنية، وفي العموم أقوالٌ كثيرة قريب من الأقوال المذكورة في الأمر، فيلزم السيدَ نصبُ الدليلِ القاطع على بطلانها، وإلا لم يمنع خصمه من المنازعة، ويحرم عليه المخالفة.
الإشكالُ السادسَ عشر: أنَّ لهذه الآية معارضاتٍ كثيرة يأتي بيانُها إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني، ولا يتم الاحتجاجُ بها حتى يُبيِّن (1) السيد رجحانَهَا على تلك المعارضات، بل مجردُ الرجحان لا يكفي في المسائل القطعيات.
الإشكال السابع عشر: أن لهذه الآيةِ مخصصاً كما سيأتي بيانه في الفصل الثاني، فلا يصح الاستدلالُ بها مع وجود المُخصِّصِ، فهذه واجبات كثيرة أخلَّ بها السيدُ، أوجبها عليه التعنتُ بدعواه: أن المسألة قطعية، وأن الخلاف فيها حرام.
قال: ومِن ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، ومن الركون إليهم: قبول قولهم، بدليل قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} [الإسراء: 74 - 75] وذلك أن ثقيفاً أرادُوا أن
__________
(1) في (ج): يتبين.(2/187)
يُصالحوه على ألا يُعْشَروا ولا يُحْشَرُوا، القصة (1). فهمَّ بأن يُساعِدَهم إلى قبول قولهم، فنزلت، وفيها مِن الوعيدِ ما ترى، هذا وقد قلَّلَ الركونَ حيث قال: {شَيْئًا قَلِيلًا}.
أقول يرد على استدلال السيد -أيَّدَهُ اللهُ- بهذه الآية إشكالات:
الإشكالُ الأولُ: أن معنى الآية ظني، مختلَف فيه أشد الاختلاف كما ذكره السَّيِّد في تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النُّكت اللطاف " والعجبُ منه أنَّه (2) هنالك حكى الأقوالَ من غير تقبيحٍ لشيءٍ منها، بل حكى عن القاضي والحاكم شيخي الاعتزالِ تصحيحَ غيرِ ما ذكره هنا، وكذلك عن الرازي، ولم يعترِضْ تصحيحَهم، ولا يَحِلُّ له حكايةُ البواطِلِ في تفسيرِ كلام الله مِن غير إِنكار، وقد قال في تفسيره ما لفظه: وقيل: لا تَرْضَوْا بأعمالهم، عن أبي العالية. وقيل: لا تُدَاهِنُوا، عن السدي.
وقيل: لا تلحقوا بالمشرَكين، عن قتادة.
قلت: وهو من رؤوس المعتزلة القدماء.
قال السيدُ: وقيل: الركونُ المنهي عنه الدخولُ معهم في ظلمهم، أو معاونتهم، أو الرضى بفعلهم، أو موالاتهم، وأما إذا دَخَلَ عليهم، أو خالطهم لدفع شرهم، أو أحسن معاشرتهم، وَرَفَق بهم في القول ليقبلوا منه ما يأمُرُهمْ به من طاعة الله، فذلك غيرُ منهي عنه، عن القاضي. قال الحاكم: وهو الصحيح، لأن الله تعالى أمر بإلاَنَةِ القولِ للكافر في قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه: 44] فأولى الظالم.
__________
(1) سيذكره المؤلف في الصفحة 213، وسنخرجه هناك، ومعنى قوله " أن لا يعشروا " أي: لا يؤخذ عشر أموالهم، وقوله " ولا يحشروا " معناه الحشر في الجهاد والنفير له.
(2) في (ب): أن.(2/188)
وقال الواحدي: الركونُ السُّكُونُ إلى الشيء، والميلُ إليه بالمحبة، قال ابنُ عباس: لا تميلوا، يريدُ في المحبة، ولين الكلام والمودة. وقال عكرمة: هو أن يطيعهم أو يودَّهم.
وقال الرازي (1): الركونُ المنهي عنه عند المحققين: الرِّضى بما عليه الظلمةُ من الظلم، وتحسينُه لهم أو لغيرهم، وأما مداخلتهم، لدفع ضرر، أو اجتلاب منفعة عاجلة، فغيرُ داخل في الركون. انتهي تفسير السيد للركون بعدَ حكايته كلام الزمخشري وما ينَاسبه.
فظهر من ذلك أن معنى الآية ظني، وذلك منافٍ لقول السيد: إن المنع من قبول المتأولين قاطع، ويدل على أن ذلك ظني مع ما ذكره السَّيِّد -أيده الله-: أن الركونَ هو الميل في أصل اللغة، ومنه: أركنت الإناءَ: إذا أصغيتَه، وأركن الرَّحْلَ: أماله، قاله الزمخشري (2)، وكذا قال (3) في قوله تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} أي: تميل.
ولا شك أن الميلَ إنما يصح إطلاقُه على الحقيقة في الأجسام، فثبت أن هذا الركون مجازٌ، والمجازُ يحتاج إلى علاقة ظاهرة، ألا ترى أنهم قالُوا: يقال للشجاع: أسد لظهور العلاقة، وهي قوة القلب، ولا يقال للأبخر: أسد لخفاء العلاقة، وهي ما فيه من البَخَرِ، فأكثر السامعين لا يفهم معنى الكلام لخفاء معنى (4) هذه العلاقة، ولم يبين السَّيِّد المشبِّه وهو المقصود في الآية، فأما الميلُ الحقيقي الذي هو كميل الإِناء، فليس بمحرَّم، ولا
__________
(1) " مفاتيح الغيب " (18/ 72).
(2) " الكشاف " (2/ 296).
(3) " الكشاف " (2/ 460).
(4) لفظ " معنى " ساقط من (ب) و (ج) و (ش).(2/189)
مقصود قطعاً، إذ كان المجاهدُ حين يهوي إلى الكافر ليطعنه، أو يضرِبَه، أو يقتله قد مال إليه كميل الإناء أو أشد، ولكن لمضرته، وإنما المحرم الميلُ المجازي، ولا بدَّ من مخالفته للميل الحقيقي، كما أن الأسد المجازي يُخالِفُ الأسدَ الحقيقي.
وقد قال العلامة أبو حيَّان الأندلسي إمامُ اللغة والعربية والتفسير (1):
إِن معناها: ولا تطمئِنُّوا (2)، فجعل المجازَ المشبه بالميلِ الحقيقي هو الطمأنينة، ولا يمنعُ منه قولُه: {شَيْئًا قَلِيلًا} لأن الطمأنينة يُوصَف قليلُها بالقلة، وكثيرُها بالكثرة، لأن القِلة والكثرةَ أمران عُرفيان إضافيان، وليسا ذَاتِييْنِ حقيقيين، يُوضِّحه أنَّه يصِحُّ أن تقول: ولا تطمئنوا إليهم شيئاً قليلاً، كما يَصِحُّ أن تقول: ولا تطمئنوا إليهم كثيراً.
والتحقيق: أن الرمخشري ذكر أصلَ الركونِ في الوضع اللغوي مبالغةً في البحث والزجر، وأبا حيان ذكر المعنى العُرفي المستعمل السابق إلى الأفهام فيما نقلت إليه هذه اللفظة، ولا شَكَّ في تقدم الحقيقة العرفية على اللغوية كما ذكروه في الدابة والقارورة ولا يَشُكُّ منصفٌ أن (3) الركونَ اللغوي الذي ذكره الزمخشري غيرُ مراد، وأن حقيقتَه في ميل جسومنا إلى جسومهم، وأن كلام أبي حيان معروف، وأن الركونَ إلى القوم صار في العُرف بمعنى السكون إليهم، والطمأنينة بهم، وفي ترك هذا المعنى وسائر أقوال المفسرين مِن الصحابة والتابعين، والاقتصار على أصل الوضع تضييعٌ للتفسير، ومجانبةٌ للتحقيق، فتأمل ذلك. والله أعلم.
__________
(1) لفظ " والتفسير " ساقط من (ب).
(2) لم يذكره في تفسيره 5/ 269، ولعله في " الغريب ".
(3) في (ب): في أن.(2/190)
إذا عرفتَ هذا، فإنا نقول: إن قبولَنا لكلام المتدين المتأوِّل الذي يغلِبُ على الظن صدقُه فيما لم يظهر لنا أن بينه وبينَ الركون الحقيقي علاقةً ظاهرةً قطعية تمنع الاختلافَ كما ادَّعى السيد، وبيانُ عدم ظهور العلاقة أنا لم نركن إليه في الحقيقة، وإنما ركنا إلى أمرين:
أحدهما: الدليل الدال على وجوب قبول روايته وسيأتي بيانُه مفصلاً في الفصل الثاني، إِن شاء الله تعالى.
وثانيهما: الظنُّ الراجحُ المجرب أن صِدقه دائم، أو أكثري الذي قضت العقولُ بوجوب العمل به في دفعِ المضار وحسنِ العمل به في جلب المنافع، وإنما المتأول قرينةٌ للظن، والمركون إليه هو الظنٌّ لا القرينةُ بدليل أن الظنَّ متى زال لم يستند إلى القرينة ولا يُعمل بها، ألا ترى أن من رأى السحابَ الثقال التي هِيَ قرينةُ المطرِ، فاستبشر، وأصلح سواقي زرعه لم يكن في المجاز راكناً إلى السحاب، وإنما يَكونُ في المجاز راكناً إلى ظنه الراجح، وكذلك لو أخبرك المتأوِّلُ أن في هذا الطعام سمّاً وظننتَ صدقه، قَبُحَ منك الإِقدام على أكله، لأن فيه مضرةً مظنونة، ودفعُ المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، فلو أنَّك ذهبتَ تأكلُه لئلا تركنَ إلى خبر المتأوِّل، لم يختلف العقلاء في قبحِ اختيارِك، وكذلك إذا أخبرك أنه سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن هذا حرامٌ يستحق فاعلُه العقابَ، فإنَّك إذا ظننتَ صدقه، قَبُحَ منك الإِقدام على ما تَظُنُّ أن الإِقدام عليه محرَّم موجبٌ لغضب الله، وشديدِ عقابه، نعوذ بالله من ذلك، ولم يكن إقدامُك على ما تظنُّ أنَّه يُدخلك النار والحرام والعمل بالمعقول فراراً من الركون إلى مَنْ أخبرك، وقد رجع المسلمون إلى أطباء الفلاسفة والنصارى في جميع أقطارِ الإسلام من غير نكير، ولم يكن ذلك ركوناً إليهم، وذلك لأنهم ظنوا صِدْقَهم في فنهم،(2/191)
وجربوا حُسْنَ معرفتهم، بل أعظم من هذا أن الفقهاء بَنَوْا على أقوالهم حكماً شرعيّاً، فقالوا: من ادَّعى الطب، وليس بطبيب، فقتل أو أبطل عضواً، وجب عليه القصاصُ في ذلك أو الديةُ على حسب ما اتفق منه من العمدِ والخطأ، ومن كان يَعْرفُ الطبَّ لم يجب عليه شيء من ذلك، وهذا الطِّبُّ الذي يسقط عنه القود والدية هو معرفة ما قالت اليهودُ والنصارى وسائر علماء الطب على جهة التقليد لهم، والثقةِ بمعرفتهم وصدقهم، وقد أجمع (1) المسلمون على جواز (2) الإقدام على مداواة الأئمة والعلماء والفضلاء، وسائر المسلمين بأقوال الأطباء في كتبهم متى كان المداوي من أهل المعرفة التامة بمقاصدِ الأطباء، والعلم بما وضعوه هذا مع ما في مداواة الأئمة والعلماء من الخطرِ العظيم لجواز أن تكونَ تلك الأدوية سبباً لموتهم متى كان الواضعُ لها غيرَ صادق في كلامه ولا بصيرٍ (3) في علمه، ويدل على ذلك مع ما تقدم وجوه:
الأول: أجمع العقلاءُ من أهل الإِسلام وغيرِهِم على أن الإنسانَ يرجِعُ إلى تصديق عدوِّه وقبولِ كلامه حيث يظن صدقه في أمور الحربِ والإصلاح، فمن ذلك أن الكفارَ إذا عقدوا الذمة بينَهم وبينَ المسلمين، جاز للمسلم أن يأمَنهم، ويَدْخلَ بلادَهم لحاجته ركوناً منه إلى ما وثق به من ظن صدقهم في أنهم يفون، ولا يَغْدِرُونَ، وإلا لوجب أن يحرمَ ذلك عليه، ويكون فاعله ملقياً بنفسه إلى التهلكة راكناً بذلك إلى الظلمة، وهذا خلافُ إجماعَ المسلمين.
__________
(1) في (ج): اجتمع.
(2) " جواز " ساقطة من (ب).
(3) في (ج): نظير، وهو خطأ.(2/192)
الثاني: أنَّه يجوز العملُ بخبر الفساق بالإجماع في مسائلَ كثيرة قد ذكرتُها في ما تقدم، كخبرهم بطلاق نسائهم مع ما يترتَّبُ عليه من جوازِ نكاحهن لغيرهم من المسلمين، وكذلك إخبارُهم بحل أموالهم وما يترتَّبُ على ذلك من معاملاتهم، وكذلك إخبارُهم بالبيع والوقفِ والطهارةِ والنجاسةِ، وكثيرٍ من الأحكام.
الثالث: أنَّه يجوزُ نكاح الفاسقة بغير الزنى عند أهل المذهب مع ما يترتب على ذلك من جواز قبولِ خبرها عن طهارتِها من الحيض، واغتسالِها منه الغسلَ التام المشروع، وما يترتب على ذلك من جواز وطئها، وما في ذلك من الميل إليها، والإيناسِ لها. فَهذا (1) مما لا يعلم في جوازه خلافٌ، وكذلك نكاحُ الزانية المسلمة عند الجمهور، وهو مذهبُ أئمة الفقهاء الأربعة (2) وأتباعهم، حكاه عن الجمهور صاحبُ " نهاية المجتهد " (3)، ورواه السيدُ أبو طالب في " التحرير " عن الهادي عليه السلامُ من أئمة الزيدية.
وأما الآيةُ الكريمة وهي قولُه تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] فلا بُدَّ من تأويلها بالإجماع، لأن الزانية المسلمة لا يجوز لها نكاحُ المشرك، والصحيحُ قول ابن عباس: أن المراد لا يزني بها، وأن النكاح هنا: هو اللغوي لا الشرعي. رواه عنه البيهقي في "السنن
__________
(1) لفظ " فهذا " ساقطة من (ب).
(2) وانظر " المغني " (6/ 601) لابن قدامة.
(3) 2/ 40، لمؤلفه الإمام أبي الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، المتوفى سنة 595 مترجم في " سير أعلام النبلاء " 21/ 307، رقم الترجمة (164).(2/193)
الكبرى" (1)، والمعنى: أن الزناة لا يرغبون في الأعفَّاء، والأعفَّاء لا يرغبون في الزُّناة، والدليلُ على ذلك أن القراءة برفع " يَنْكِحُ " على أنَّه خبر عن عاداتهم، وليست بجزمه على أنَّه نهي.
وقوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] أي: وحرم الزنى، أو طبعوا على النُّفرة عنه، كقوله: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} [القصص: 12] والموجب للتأويل الإجماعُ على امتناع الظاهر في نكاح المشرك للزانية المسلمة وفي انفساخ النكاح، وتحريمه بزنى الزوج.
وقال سعيد بن المسيِّب والشافعي: هي منسوخة (2).
__________
(1) 7/ 154.
(2) في مسند الشافعي 2/ 253 - 254 عن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب في قوله {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} قال: هي منسوخة نسختها آية {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} قال: فهي من أيامى المسلمين. وهو في تفسير الطبري 18/ 59، وسنن البيهقي 7/ 154، وذكره ابن كثير في تفسيره 6/ 11 ونسبه لابن أبي حاتم، وقال: وهكذا رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الناسخ والمنسوخ " له عن سعيد بن المسيب. قلت: وحديث مرثد بن أبي مرثد الغنوي المذكور في سبب نزول الآية -وهو حديث حسن أخرجه أبو داود (2051) والنسائي 6/ 66، 67، والترمذي (3176) والبيهقي 7/ 153، وصححه الحاكم 2/ 166 وواففه الذهبي- يقوي قول من يرى أن الآية محكمة لم تنسخ، وأن تحريم زواج الأعفاء من المسلمين بالزواني والزناة بالعفيفات ما زال باقياً ما لم تصح التوبة منهما، وقد ذهب الإمام أحمد رحمه الله إلى أنَّه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب، فإن تابت صح العقد عليها وإلا فلا، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل المسافح حتى يتوب توبة صحيحة لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}.
قال ابن القيم في " زاد المعاد " 5/ 114: وأما نكاح الزانية، فقد صرح الله سبحانه بتحريمه في سورة النور، وأخبر أن من نكحها، فهو إما زان أو مشرك، فإنه إما أن يلتزم حكمه سبحانه ويعتقد وجوبه عليه أولا، فإن لم يلتزمه ولم يعتقد، فهو مشرك، وإن التزمه واعتقد وجوبه وخالفه، فهو زان، ثم صرح بتحريمه، فقال: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولا يخفي أن دعوى نسخ الآية بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} من أضعف ما يقال ....(2/194)
قلت: والناسخُ لها قولُه - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّة الوداع: " فإنْ أتَيْنَ بفاحِشَة مبيّنةٍ " الحديثَ (1).
وحجة الجمهور حديث: " إنَّ امرأتي لا ترُدُّ يدَ لَامِسٍ " (2)
__________
وانظر " زاد المسير " 6/ 9، و" روح المعاني " 18/ 84 - 88، و" تفسير ابن كثير " 6/ 7 - 11.
(1) وتمامه: " فإن فعلن، فاهجروهن في المضاجع، واضربوهن ضرباً غير مُبَرَّح، فإن أطعنكم، فلا تبغوا عليهن سبيلاً، إلا أن لكم على نسائكم حقاً، ولنسائكم عليكم حقاً، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن ".
أخرجه الترمذي (1163)، وابن ماجة، (1851) والنسائي في عشرة النساء كما في " تحفة الأشراف " 8/ 133 من طريق الحسين بن علي الجعفي، عن زائدة عن شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه أنَّه شهد حجة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة، فقال: ألا واستوصوا بالنساء خيراً، فإنما هُنَّ عوانٍ عندكم ليس تملكون منهم شيئاً غير ذلك إلا أن يأتين بفاحشة ...
وهذا سند رجاله ثقات، رجال الشيخين غير سليمان بن عمرو، فلم يوثقه غير ابن حبان، ومع ذلك فقد قال الترمذي: حسن صحيح ولعله قال ذلك لوجود شاهد له عند أحمد في " المسند " 5/ 72 - 73 من طريق علي بن يزيد، عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه، به نحوه.
(2) أخرجه الشافعي في " مسنده " 2/ 369 - 370 من طريق سفيان، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: أتى رجل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله أن لي امرأة لا ترد يد لامس، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " طلقها " قال: إني أحبها، قال: " فأمسكها إذاً " وهذا إسناد صحيح إلا أنَّه مرسل، وأخرجه النسائي 6/ 67 - 68 في النكاح من حديث عبد الله بن عبيد بن عمير، عن ابن عباس مسنداً وقد اختلف في إسناده وإرساله، قال النسائي: المرسل أولى بالصواب، وقال في الموصول: إنَّه ليس بثابت، وعبد الكريم وهو ابن أبي المخارق وهو الذي أسنده - ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم، لكن رواه في " سننه " 6/ 170 في كتاب الطلاق عن إسحاق بن راهويه، عن النضر بن شميل، عن حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبد بن عمير، عن ابن عباس مسنداً ورجاله على شرط مسلم إلا أن النسائي قال بعد روايته له: هذا خطأ، والصواب مرسل.
قال الحافظ في " التلخيص " 3/ 225: لكن رواه هو 6/ 169 - 170، وأبو داود (2049)، والبيهقي 7/ 154 - 155 من رواية عكرمة، عن ابن عباس نحوه وإسناده أصح، =(2/195)
ويضعف ما يدلُّ على التحريم من الأحاديث إما مطلقاًً، وإما بالنسبة إلى ما عارضها، أو الجمع مع تسليم الصحة، إما بإدعاءِ النسخ كما تقدَّم في الآية، أو بحمل النهي على الكراهة بدليل حديث: " إِنَّ امرأتي لا تَردُّ يَدَ لامِسٍ ".
وأكثرُ من هذا ما ذهب إليه زيد بن علي عليه السلامُ، وجماهير الفقهاء، واختاره الإِمام يحيى بن حمزة، وادَّعى أنَّه إجماع الصدرِ الأول، وذلك جوازُ نكاح الذِّمِّية مِن اليهود والنصارى وهو ظاهرُ القرآن (1)، لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] وهذه الآية أخصُّ مِن قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] والواجب حملُ العام على الخاص، لا حملُ الخاص على العام، ولذلك أجمعوا على تقديمِ قوله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]
__________
= وأطلق النووي عليه الصحة، وقال ابن كثير في تفسيره 6/ 10: إسناده جيد.
والظاهر أن قوله: لا تردُّ يدَ لامسٍ أنها لا تمتنع ممن مد يده ليتلذذ بلمسها، ولو كان كنى به عن الجماع لعد قاذفاً، أو أن زوجها فهم من حالها أنها لا تمتنع ممن أراد منها الفاحشة، لا أن ذلك وقع منها.
وقال ابن كثير 6/ 11: وقيل: المراد أن سجيتها لا ترد يد لامس، لا أن المراد وقع هذا منها، وأنها تفعل الفاحشة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأذن في مصاحبة من هذه صفتها، فإن زوجها -والحالة هذه- يكون ديوثاً وقد تقدم الوعيد على ذلك، ولكن لما كانت سجيتها هكذا ليس فيها ممانعة ولا مخالفة لمن أرادها لو خلا بها أحد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بفراقها، فلما ذكر أنه يحبها أباح له البقاء معها، لأن محبته لها محققة، ووقوع الفاحشة منها متوهم، فلا يصار إلى الضرر العاجل لتوهم الآجل. والله سبحانه وتعالى أعلم.
(1) انظر الطبري 9/ 581 - 590، و" زاد المسير " 2/ 296 - 297، والقرطبي 3/ 66 - 71، و" روح المعاني " 6/ 65 - 66.(2/196)
على قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إذ الآية الأولى خاصة بالحوامل، والثانية عامة لهنّ ولغيرهنّ، وكذلك قولُهُ تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] عام في أهل الكتاب وغيرهم، وهذه الآية خاصة بالكتابيات.
وإنما ذكرتُ حجةَ زيدِ بن علي عليه السلام، لأن هذا الأمرَ قد صار منكراً في هذا الزمان. وإذا ثبت هذا، فلا شك أنَّه يجوزُ على مذهب زيد بنِ علي عليه السلامُ، وعلى مذهب الجميعِ في الفاسقة غيرِ الزانية قبولُ خبرها عن طُهرها من الحيض ونحوِ ذلك.
الرابع: أنَّه تجوزُ شهادةُ الكافر الكتابي عند الحاجة إليه (1)، لقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106].
__________
(1) في " شرح المفردات " ص 333: إذا كان المسلم مع رفقة كفار مسافرين، ولم يوجد غيرهم من المسلمين، فوصى وشهد بوصيته اثنان منهم، قبلت شهادتهما، ويستحلفان بعد العصر: لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله وأنها وصية الرجل بعينه، فإن عثر على أنهما استحقا إثماً، قام آخران من أولياء الموصي، فحلفا بالله: لشهادتنا أحق من شهادتهما، ولقد خانا وكتما، ويقضي لهم. قال ابن المنذر: وبهذا قال أكابر العلماء، وممن قاله شريح، والنخعي، والأوزاعي، ويحيى بن حمزة، وقضى بذلك عبد الله بن مسعود في زمن عثمان، رواه أبو عبيد، وقضى به أبو موسى الأشعري رواه أبو داود والخلال، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا تقبل، لأن من لا تقبل شهادته على غير الوصية، لا تقبل في الوصية كالفاسق وأولى ...
ولنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} الآية ... وهذا نص الكتاب، وقد قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث ابن عباس رواه أبو داود، وقضى به بعده أبو موسى وابن مسعود كما تقدم، وحمل الآية على أنه أراد: من غير عشيرتكم لا يصح لأن الآية نزلت في قصة عدي وتميم بلا خلاف بين المفسرين، ودلت عليه الأحاديث، ولأنه لو صح ما ذكروه لم تجب الأيمان، لأن الشاهدين من المسلمين، لا قسامة عليهما.(2/197)
الخامس: أنَّ شهادة بعضهم على بعض مقبولةٌ عند كثير من العلماءِ مِن أهل البيت وغيرِهم، فهذه الصُّوَرُ ونحوُها مما يدل على أنَّ مجردَ القبول لورود الشرع بذلك، أو لقوة الظن مع ورود الشرع به لا يكون ركوناً إليهم.
الإشكال الثاني: أن الاحتجاجَ بهذه الآية لا يَصِحُّ حتى يدل. (1) دليل قاطع على أنَّه لم يكن وقتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عُرْفٌ يَسْبقُ إلى الأفهام في معنى الذين ظلموا غيرَ الحقيقة اللغوية، وغير عرف المتأخرين، لكنا نقيم الدليلَ على أن يكون هناك عُرفٌ شرعي يدل على أن الذين ظلموا هُمُ الكفار، وذلك مِن الكتاب والسنة، أما الكتابُ، فقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وظاهر هذه الآية قصر الظالمين على الكافرين، وإلا لوجب أن يكون المرادُ: والكافرون هم بعضُ الظالمين، وذلك خلاف الظاهر، وأصلُ الاستعمال الحقيقة، ولا يُعَدَلُ عن الظاهر إلا بدليل، والخصمُ يحتاج في هذه المسألة إلى دليل قاطع في لفظه ومعناه، حتى ما ادّعى من أنها قطعية وهو يُريد إلزامَ خصمه الوفاقَ وتحريم المنازعة عليه، فيحتاج إلى دليلٍ مقطوع بمعناه، وبأنه غيرُ مخصّص ولا منسوخٍ ولا معارَض، يوضحُ ما ذكرناه أن الخبر إذا كان معرفاً باللام ثم يجز أن يكون أعمَّ من المبتدأ، فلا نقول: الإنسان هو الحيوانُ، ولا قريش هم بنو عدنان من غير تقييد (2) وذلك واضح.
فإن قلت: قد ورد في القرآن تسميةُ المعاصي ظلماً وإن لم تكن كفراً.
__________
(1) " حتى يدل " سقط من (ج).
(2) في (أ): تقيد.(2/198)
قلت: هذا صحيح، ونحن نقولُ به، ولا ننكره، وإنما قلنا: يجوز أنها تسَمَّى ظلماً على صور.
الصورة الأولى: أن يكونَ ظلماً في الحقيقة اللغوية لا العُرفية كما سَمَّى اللهُ عز وجل الإنسان دابة في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وليس الإنسان يُسَمَّى دابةً في العُرف حتى لو حلف حالف: لَيَرْكبنَّ دابة، لم يُجْزهِ ركوبُ إنسان ولا غيره سوى الدابةِ المعروفة، فإذا أطلق اللفظ عن القرائن حُمِل على العرفية، وإذا جاء لغير ذلك، فمع القرائن.
الصورة الثانية: أنا نسلِّمُ ذلك في المصادر والأفعال ولا نُسَلِّمُهُ في الموصولات مثل الذين ظلموا، ولا في أسماء الفاعلين كالظالمين، وقد قدمنا أنَّه لا يمنعُ ثبوت عرف في أسماء الفاعلين دون المصادر والأفعال كما ثبت ذلك في الدابة والدَّبيب، وقد تقدم بيانُه.
الصورة الثالثة: أن تقول (1): قد ورد في الشرع ما يَدُلُّ على أن المعصية المسماةَ بالظُّلم تختصُّ بالكفر، ورُدَّ بأنها تَعُمُّ الكُفْرَ (2) وغيره، أصلُ الاستعمال الحقيقة، فدلَّ على أنها لفظةٌ مشتركة في الحقيقة الشرعية، وحينئذ لا يَصِحُّ القطعُ بدخول مَنْ ليس بكافر إلا بقرينةٍ، فإن كانت المسألةُ ظنية، جاز أن تكون تلك القرينةُ ظنية، وإن كانت قطعية لم يكف إلا أن تكونَ القرينةُ قطعيةً.
فإن قلت: وما المانِعُ من أن يكون الظلمُ عاماً في الكفر والفسق، ولا يكون مشتركاً، لأن الأصل عَدَمُ الاشتراك.
__________
(1) في (ش): أنا نقول.
(2) في (ب): للكفر.(2/199)
قلتُ: ظاهر قولِه تعالى: {والكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} يأبى العمومَ، لأنَّ ظاهرَةُ قصرُ الظالمين على الكافرين كما تقَدَّمَ، سلمنا جوازَ أنَّ الظاهر العمومُ دونَ الاشتراك، لكن الاشتراك محتمل غيرُ راجح، فلا يَصْلُحُ الاستدلالُ بها في مسألة قطعية حتى ينتفيَ الاشتراك بقاطع.
فإن قلتَ: هلا قلْتَ: إن قوله تعالى: {والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ} مجاز كقول القائل: العلماءُ هم العاملون مبالغة في أن كل عامل بغير علم فليس بعامل لما يعرض في عمله من الخطأ.
قلتُ: الجوابُ من وجهين.
الأول: أنَّه لا يُعْدَلُ إلى المجاز إلا بدليل، وإنما سألت عن الدليل.
الثاني: أن السَّيِّد ادَّعى أن المسألة قطعية، فلا بُدَّ للسَّيِّد من الدليل القاطع على نفي هذا الاحتمال.
وأما السنةُ، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شقّ ذلك على أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: أيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إيمَانَهُ بِظُلم؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّه لَيسَ بذَاكَ [إنَّما هُوَ الشِّركُ] ألا تسْمَعُ إلى قَوْلِ لُقْمَانَ {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} رواه البخاري ومسلم في " صحيحيهما " (1)،
__________
(1) أخرجه البخاري (32) و (3360) و (3428) و (3429) و (4629) و (4776) و (9618) و (6937) ومسلم (124) والترمذي (3067) وأحمد رقم (3589) و (4031) و (4240) والطبري (13476) وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 26 - 27 وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في " الأفراد " وأبي الشيخ وابن مردويه.(2/200)
وروى الحاكم مثلَه عن أبي بكر الصديق موقوفاً (1).
وقولهم: إنَّه لا يَصِحُّ أن يكونَ مع الشرك شيء من الإيمان مردودٌ لقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106] والتحقيق: أن الإيمانَ قسمان لغوي وشرعي، والشرعي قسمان أعلى وأدنى، والشركُ إنما ينافي الشرعي.
فإن قلتَ: هذا يدل على عدم العرف، ولذلك قالوا: أيُّنا لم يَلْبِسْ إيمانَه بظلم؟!.
فالجوابُ من وجهين،
أحدهما: أن لبس الإيمانِ بالظُّلم قرينة يُفهم منها إنَّه ليسَ بظُلم الشرك، لأن الشِّرْكْ والإيمانَ الشرعي لا يجتمعانِ بخلاف سائر المعاصي، فإنها تجتمع مع الإيمان إلا الكبائر، وعلى قولِ الفقهاء والكبائر.
وثانيهما: ما قدمنا مِن الفرق بين المصدر واسم الفاعل، وما في معناه من الموصول.
وثالثها (2): أنِّي لم أدَّعِ أن العُرف في ذلك كان مستمرّاً من أوَّل النبوة إلى آخرها، فما المانعُ أن يكونَ ذلك العُرف بعدَ أن سَمِعُوا مِن رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث وغيره، وبعدَ نزول قوله: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وغيرها، بل هو الظاهرُ، لأن العُرف لا يثبت إلا بعد كثرةِ الاستعمال وطولِ المدة.
__________
(1) أورده السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 27، ونسبه للفريابي، وابن أبي شببة، والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول "، وابن جرير (13484) وابن المنذر وأبي الشيخ، وابن مردويه، ولم ينسبه للحاكم، وقد فتشت عنه في " المستدرك " فلم أجده فيه.
(2) في (ب): وثالثهما.(2/201)
فإن قلتَ: كيف يَصِحُّ الاحتجاجُ بحديث البخاري على الخصم وهو يُنكره.
قلتُ: لأنَّه ادَّعى أن المسألة قطعية، وحديثُ البخاري وإن لم يكن عنده صحيحاً، فهو مما يجوز ويحتمل أنَّه صحيح، إذ ليس في العقل ما يحيله، ولا في نصوص السمع المعلوم لفظها ومعناها وعدم نسخها ومعارضتها، وتخصيصها، وغير ذلك ما يُفِيدُ القطعَ بكذب هذا الحديثِ، وأيضاًً فقد رواه الحاكم في " المستدرك " من طريق أبي بكر وصححه، والحاكم من علماء شيعة أهل البيت بلا نزاع والخصم إنما قدح في من توهَّمَ أنَّه منحرف عنهم عليهم السلامُ، ومع تجويز صحة هذا الحديث، والقولِ بأنه محتمل (1) يبطل عليه القطعُ، لأنَّه لا يأمنُ أن يكونَ لهذا الحديث إسنادٌ صحيح من غير طريق البخاري، ولا يعلم انتفاء تلك الطريق، لكن غايةُ الأمر أنَّه يطلب، فلا يجد، وليس عدمُ الوجدان دالاًّ على عدم الوجود كما ذلك مُقَرَّرٌ في موضعه من العقليات، ولأنهُ رُبما وَقَفَ على هذا الكتابِ من يعتقد صحةَ هذا الحديثِ، فينتفع به، بل الظاهر أن الأكثرين يعتقدون ذلك، ولأنا ندل على صِحَّةِ حديث البخاري كما يأتي في الفصل الثاني، وإمَّا أن يُستدل على الخصم بما يُنازِعُ فيه متى أقمنا الدليلَ على بُطلان ما ادَّعاه، وقد تقدم في الإشكالات الواردة على احتجاج السيد بالآية الأولى ما يدلُّك (2) على أنَّ هذا ليس بمخالفٍ لمذهب أهلِ البيت عليهم السلامُ، فخذه مِن هناك.
الإشكال الثالث: أن الآية عامَّةٌ في جميع الظالمين، والاحتجاج
__________
(1) في (ج): مجمل.
(2) في (ب): ما يدل.(2/202)
بالعموم يحتاجُ إلى المعرفة بِفَقْدِ المعارِضِ والمُخَصِّصِ والناسخ، وذلك عند السيد -أيده الله- صعبٌ شديد، مَدْرَكُهُ بعيد، وهو عمودُ الاجتهاد الذي قال: إنَّه متعذِّر أو متعسِّر، فكيف صح له الاحتجاجُ بهذه الآيةِ الكريمة.
الإشكال الرابع: قد قال: إن معرفةَ تفسير المحتاج إليه من القرآن صعبٌ شديد، مَدْرَكُهُ بعيد، وأورد (1) الإشكالات المتقدمة في المسألة الأولى، فمن أين حصل له تفسير هذه الآية الكريمة بحيث عَلِمَ أن الله يُريد فيها أن سؤال المتأوِّلين عن الحديث من الركونِ إلى الذين ظلموا.
الإشكال الخامس: بقي على السيد -أيده الله- أن يُبين أن هذه الآية وردت على سببٍ، أو لم تَرِدْ على سبب، فإن كانت واردةً على سببٍ، وجب عليه بيانُ أن العمومَ الواردَ على سبب غيرُ مقصورٍ عليه، وإن (2) لم تكن واردة على سبب عنده، فأين الدليلُ القاطع على أنَّها لم تَرِدْ على سبب، وعدمُ وجدان السبب لا يَدُلُّ على عدم وجوده كما تقدم، سواء وردت على سبب أو لم ترد على سبب، أما إن وردت على سببٍ، فظاهر، وأما إن لم ترد على سبب، فلأنه محتمل، ولا طريقَ إِلى القطع بعدمِ الاحتمال، والسيد يَدَّعِي القطعَ، والقطعُ يُضَادُّ الاحتمال.
الإشكال السادس: أن هذا العمومَ مخصوص، لأنَّه يجبُ برُّ الوالدين، وامتثالُ بعض أوامرهما، والانتهاء عن بعض نواهيهما، والركون: هو الميل، وفي مثل (3) ذلك ميلٌ إليهما، وقد قال اللهُ تعالى:
__________
(1) في (ج): فأورد.
(2) في (ج): فإن.
(3) " مثل ": سقطت من (ج).(2/203)
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] هذا في المشركين كيف بالمسلمين العاصين، وكذلك قولُه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8].
قال الزمخشري (1): معناه: لا ينهى عن مَبَّرةِ هؤلاء. وفي هذا ركون إلى الذين لم يُقاتِلُوا في الدين، وكذلك ما أسلفناه من جواز (2) نكاحِ المرأةِ العاصية بغير الكُفر والزنى مع ما في ذلك من الركون العظيمِ إليها إذ هُو الميل، ولا يُوجد في الطباع ميلٌ أعْظَمُ مِن الميل إلى الزوجة، وأكثرُ النساء لا تكادُ تسلَمُ مِن هذا، ولو لم يكن إلا العصيانُ بالغيبة والنُّشُوزِ والكَذِبِ، والخروج من البيت بغير إذن، ونحو ذلك مما لا يخلو عنه النساء. وإذا (3) تقرر هذا فالعمومُ المخصوصُ مختلف في الاحتجاج به إختلافاًً كثيراً، كما قد بيَّنّا، فكان يلزمُ السيدَ إبطال قولِ المخالف بالدليل القاطع.
الإشكال السابع: أن الآيةَ مِن قبيل العموم، والسيد ذكر أن المسألةَ قطعية، ومنع الخلافَ فيها، والعمومُ ليس من الأدلة القطعية التي يمتنع مخالفةُ من استدل بها.
الإشكال الثامن: أن في العلماء من قال: العمومُ مشترك، ولا يَحْصُلُ غرضُ السَّيِّد حتى يُبْطِل قولَ المخالف بدليل قاطع، لجواز أن يقول
__________
(1) " الكشاف " 4/ 91.
(2) " جواز ": سقط من (ج).
(3) في (ب): فإذا.(2/204)
الخصمُ: المرادُ بهذا العموم الخصوص لقرينة دلَّتْ على ذلك إما ما قدَّمنا مِن تخصيصه أو غيرِه، أو يقول: بأن بابَ الخصوص متحقّقٌ فيه، والعمومُ يحتاج إِلى قرينة وهي مفقودةٌ، فهذا محتمل، والاحتمال يمنعُ القطعَ.
الإِشكال التاسعُ: إن ظاهرَ الآية متروكٌ بالإجماع، لأنَّه لم يَقْصِدْ تحريم الركون إلى الذين ظلموا على ظاهره، لأن ظاهرَه يقتضي تحريمَ الركون إلى ذواتهم وأجسامهم، ومثال ذلك تحريمُ الأمهات، فإنه لما وُجَّهَ إلى الذواتِ، وجب تأويلُهُ، وكذا تحريمُ الميتة، لما وجه إلى ذاتها في ظاهرها وَجَبَ تأويلُهُ، وقد اختلف العلماءُ في ما ورد على هذه الصفة، فمنهم من قال: يكون مجملاً حتى يَرِدَ بيانه من القرآن أو السنة، ومنهم من قال غير ذلك كما هو مُبيَّنٌ في الأصول، فكان يجب على السَّيِّد إبطالُ القول بالإجمال في هذا الجنس بدليلٍ قاطع.
الإشكال العاشر: سلمنا للسيدِ -أيَّده الله- أن القولَ بالإجمال في هذا ضعيف وفي أمثاله، لكن القول المنصور في الأصول أن التحريمَ ينصرِفُ إلى الأمير العُرفي السابق إلى الأفهام، وهو يختلِفُ، ففي تحريم الميتة يسبِقُ إِلى الفهم تحريمُ الأكل، وفي تحريم الأمَّهَاتِ يسبِقُ لنكاحُ لا النظر، وفي تحريم الأجنبيات يسبقُ النكاحُ والنظر ونحو ذلك، فنقول للسيد: لا يخلو إما أن يكونَ في تحريم الركون عُرْفٌ يَسبق إلى (1) الفهم كما في الميتة والأمهات أو لا، إن كان فيه عُرْفٌ لزم المصيرُ إليه، لكنا نعلم أنَّه لم يثْبت عُرْفٌ في أن الركونَ هو قبولُ قوْلِ المتأوِّل المظنون صِدقُه
__________
(1) في (ب): إليه.(2/205)
وتديُّنُه، وإن لم يثبت عُرف، لم يكن له في الآية حُجَّةٌ علينا ظاهرة تحرم المخالفة، فكان الظاهرُ الإجمال، لأنا إن قدَّرْنا أن المضمر المحذوف شيء معين، كان تحكُّماً، وإن قدرنا جميعَ الأمور المحتملة، كان تقديرُ ذلك لا يجوزُ، لأن إضمارَ واحدٍ يكفي، والزيادةُ من غير ضرورة محرمة، واللفظُ لا يدل على العموم في تلك المضمرات، ولأنَّ القولَ بأن الله أراد كذا وكذا فيما لم يدُلَّ عليه اللفظُ ولا العقل، قولٌ على الله بغير علم ولا ظن، وذلك محرم إجماعاً مع ما وَرَدَ من تحريم التفسير بالرأي وسيأتي في آخر الكتاب. والقويُّ أنَّه لا عُرْف في لفظة الركون على انفرادها، لكنها إذا أُضِيفَتْ إلى صفةٍ مذمومة، وتعلَّق بها التحريمُ، كان المفهومُ في العرف أن التحريم يتعلق بتلك الصفة المذمومة، فيكون المعنى: ولا تركنوا إلى الذين ظَلمُوا في ظلمهم، كما أن المعنى في قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] في إنابتهم، لا في مطاعمهم ومشارِبهم وسائرِ مباحاتهم، والعُرف شائع في نحوه، فإن سَلِمَ، بطلت الحُجَّةُ، وإن نُوزِعَ فيه، فالنزاعُ في ما عداه أشدُّ، والفهمُ لغيره أبعدُ، والله أعلم. وَيعْضُدُه ما ذكره الإمامُ محمد بن المطهّر بن يحيى أن الموالاةَ المجمع (1) على تحريمها إذا كانت لأجلِ الموالى عليه مِن القبيح، ومن الظن أنَّه (2) القدر المتحقق إرادته، والزائد عليه قول بغير علم، ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ المقيدات لإطلاق النهي عن الركون، ولو لم يرد في ذلك إلا قولُه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين} الآية، ولذلك قالت الهادوية مع تشديدهم في ذلك: إنَّه يجوز محبةُ العاصي لِخَصْلَة خيرٍ فيه.
__________
(1) في (ب): المجتمع.
(2) في (ب): أن.(2/206)
وكذلك قال أبو حيان: إنها الطُّمأنينة إليهم. ويجوزُ ترجيحُ قوله لتجويده في فنه وتحقيقِه في علمه في قراءةٍ وحديث ونحوٍ وفقهٍ وعلى هذا عملُ الأمة في جميع الأمصار منذ دهور وأعصار. وسيأتي بيان (1) استنادِ أهلِ البيت عليهم السلامُ إلى المخالفين في الحديث ونحوِه من العلوم التي هي أساسُ فروعهم الظنية، والعجبُ ممن منع المعلومَ بالضرورة من ذلك، وأعجبُ منه مَن سلَّمه، وزَعَمَ أن تقليدَ الفقهاءِ لا يجوزُ أو يكره (2)، فجعل الفروع أقوى من الأصل، وهذه غفلة عظيمة.
فإن قلت: في هذا الإشكال العاشر تضعيف للإجمال الذي أوردتَه في الإِشكال التاسع.
قلتُ: لم أورده لذهابي إليه، ولا لابتناء دليل (3) السَّيِّد على بطلانه، وإنما أقولُ بتضعيفه وعرض السَّيِّد لا يَحْصُلُ حتى يدلَّ على بُطلانه قطعاً.
الإِشكال الحادي عشر: أن المتأولين كانوا غيرَ موجودين وقتَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي العُلماء من قال: إنَّ العمومَ لا ينصرِفُ إلا إلى الموجودِ المعروف الذي يَسْبِقُ إلى أفهام السامعين أن المتكلم أراده، وقد مَرَّ تقريرُ حجتهم في ذلك، ولا يَصحُّ الاستدلالُ بهذه الآية من السَّيِّد الذي يُبْطِلُ هذا الاحتمالَ بدليلٍ قاطِعٍ.
الإِشكال الثاني عشر: أن المتأوِّل يُسَمَّى مسلماً بالنص الخاص، والمسلم مقبولٌ، وقد مر تقريرُ ذلك جميعاً.
__________
(1) ساقطة من (ب).
(2) في (ب) أو أنكره، وهو خطأ.
(3) في (ب): ولا تبينا دليل.(2/207)
الإشكال الثالث عشر: أن المتأوِّل يسَمَّى مؤمناً والمؤمن مقبول، وقد مَرَّ تقريرُهُ أيضاً.
الإشكال الرابع عشر: أن الآية عامَّةٌ في جميع الذين ظلموا، والاحتجاجُ بالعموم لا يَصِحُّ مع وجود المُخَصِّصِ، وهو موجود كما سيأتي في الفصل الثاني، ونذكر هناك مَنْ روى الإجماعَ على وجوبِ قبول أخبارهم، وأن العملَ عَضَدَ تلك الرواية، وذلك العملُ هو ما الناسُ عليهِ مِن القراءة في كتب المخالفين في القراءاتِ (1) والحديثِ وعلومِ العربية نحواً ولغةً ومعاني وبياناً وسائر علوم الإِسلام، والسيِّدُ ادَّعى أن المسألة قطعية، وكان مِن تمام هذه الدعوى أن يَدُلَّ بدليلٍ قاطع (2) على أنَّ تلك المخصصات بواطل لا يَحِلُّ التخصيصُ بها قطعاً.
الإشكال الخامس عشر: أن السيدَ استدل على أن قبولَ قولهم ركونٌ إليهم بقوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
قال السَّيِّد -أيَّده الله-: وذلك لأنهم أرادوا أن يُصالحوه على أن لا يُعْشَرُوا ولا يُحْشَرُوا، القصةَ. فَهَمَّ أن يُساعِدَهم إلى قبول قولهم، فنزلت، هذا لفظه، أيَّده الله.
فأقول: الاستدلالُ بهذا على أن قبولَ المتأوِّل المتدين المظنون صدقه يُسَمَّى ركوناً لا يَصِحُّ، وذلك لأنَّه قياس، واللغة لا تثبُتُ بالقياس، فإن كان السَّيِّد يرى ثبوتَها بالقياس كما هو رأي بعضِ العلماء، فعليه أن
__________
(1) في (ب): القرآن.
(2) في (ب): الدليل القاطع.(2/208)
يَدلُّ على ذلك بدليلٍ قاطع، وليس علينا أن نستدِلَّ، لأنَّه هو المستدل، ونحن سائلون له عن صحة القواعِدِ التي ينبني عليها دليلُه، والسائل لا يجبُ عليه إيرادُ الدليل.
الإِشكال السادس عشر: أنا لو سلَّمنا أن اللغة تثبُتُ بالقياسِ لم نسَلِّمْ صحةَ هذَا القياسِ، وذلك أنَّ (1) كلامَنَا في قبول مَنْ أخبر بخبر، علينا في مخالفته مَضَرَّةٌ مظنونة، ولنا في قبوله منفعة مظنونة، وذلك فيما يدخل فيه الصِّدْقُ والكَذِبُ، وقِصَّةُ ثقيف هذه ليست خبراً أخبروا به النبي- صلى الله عليه وسلم - مما (2) يحتمل أنهم صدقوا فيه أو كذبوا، وإنما سألوه أن يُسْقِطَ عنهم الزكاةَ والجهادَ، والسجودَ في الصلاة فلم يُساعِدْهُمْ إلى ذلك، وليس عليه مضرة مظنونة في ترك مساعدتهم، ولا له منفعةٌ مظنونة في مساعدتهم. فأين هذا من خبر المتأوِّل المتدين المظنون صدقُه إذا أخبرك أنَّه سَمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن شيءٍ ويُحَرِّمُه، وخَشِيتَ من ارتكاب ذلك المحرَّم غضبَ الله عليك وعقابه لك، وغلب على ظَنِّكَ أنك واقعٌ فيه إِن فعلتَ ذلك المحرم فتركتَه، ما الجامعُ بَيْن الأمرينِ وأين هذا من هذا؟!
الإشكال السابع عشر: أن ثقيفاً سألوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تغييرَ الشريعة، وتركَ ما أنزل اللهُ عليه، واتباع أهوائهم وجهلهم وجفاوتهم، فروى الزمخشري في " الكشاف " أن ثقيفاً قالت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: لا ندخُل في أمرِك حتَّى تُعْطِينا خِصالاً نفتخرُ بها على العَربِ: لا نُعْشَرُ وَلَا نُحْشَرُ ولا نجبّي (3) في صَلاَتِنَا، وكُلُّ رِباً لنا فهو لنا، وكَل رباً علينا، فهو موضوعٌ
__________
(1) في (ب): لأن.
(2) في (ج) و (ش): عما.
(3) أصل التجبية: أن يقوم الإنسان قيام الراكع، وقيل: أن يضع يده على ركبتيه وهو قائم، وقيل: هو أن ينكب على وجهه باركاً وهو السجود.(2/209)
عنا، وأن تُمَتِّعَنَا باللاتِ سنةً، ولا نكسرها بأيدينا عند رأسِ الحولِ، وأن تَمْنَعَ مَنْ قَصَدَ وادِينا وجَّاً (1)، فَعَضَدَ (2) شَجَرَه، فإذا (3) سألتك العرب لم فعلت ذلك؟ فقل: إنَّ الله أمرني بذلك وجاؤوا بكتابهم، فكتب: بِسْم اللهِ الرحمن الرحيم هذا كتاب مِن محمد رسول الله لِثقيف لا يُعْشَرون ولاَ يُحْشَرونَ فقالوا: ولا يُجَبُّونَ فسكت رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال الكاتبُ: اكتب ولا يُجبّون، والكاتب يَنْظُرُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام عُمَر بنُ الخطاب فَسَلَّ سيفه وقال: أسعرْتُم قَلْبَ نبينا يا مَعْشَرَ ثقيفٍ أسْعَرَ الله قلوبَكُم ناراً فقالوا: لسنا نُكلِّمُ إيَّاك إِنَّما نُكَلِّمُ محمداً فنزلت (4). انتهي كلامُه. رحمه الله، وقولهم: ولا نُجِبِّي في صلاتنا. يعنون (5): لا يركعون ولا يسجدون.
فهذا الذي سألوه هو تبديلُ الشريعة وتحريفُها، فالهَمُّ بمساعدتهم إِلى هذا من قبيل الهَمِّ بالمعاصي من غير عزمٍ، كقوله تعالى في يُوسُفَ: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] لأنَّه لا يجوزُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العَزْمُ على تبديلِ الشريعة بغير إذنٍ من الله تعالى، ومما يَدُلُّ على أنهم أرادوا هذا قولُه تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} [الإسراء: 73] فكيف يَصِحُّ أن يُقاس تحريمُ قبولِ المتأولين الصادقين في الظنِّ الراجح على مساعدة ثقيف إلى تبديلِ الشريعة، فإنّه في تصديق المتأولين العملَ بالشريعة المظنون ثبوتها، والمحافظة على أن
__________
(1) وجّ: وَادٍ بالطائف لثقيف، وفي الحديث " إن صيد وَجٍّ وعِضاهه حرام محرم لله ". أخرجه أحمد 1/ 165، وأبو داود (2032) من حديث الزبير بن العوام وفي سنده لَيِّنَان.
(2) عضد الشجرة يَعْضِدُها: قطعها.
(3) في (ج) وإذا.
(4) " الكشاف " 2/ 460. وانظر " أسباب النزول " ص 196 للواحدي.
(5) في (ب): يعني.(2/210)
لا يَضِيعَ شيء منها لا معلوم ولا مظنون. وكيف يَحْرُمُ قبول من ثبت في الظن الراجح أنَّه بلغ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قاله من الحق خوفاً مِن عقاب الله تعالى على كتم العلم على تحريم قبول مَنْ صَرَّحَ بأنه يُرِيدُ تبديل كلامِ الله وتحويلَ شريعةِ رسول الله وما العلةُ الجامعة بينهما؟ فأما قولُ السيد: إِنَّ الله قد سمَّى هَمَّه - صلى الله عليه وسلم - بمساعدتهم (1) ركوناً إليهم، فنقول له: إنما سمى ذلك ركوناً إن صحَّت هذه القِصة، لأنَّه لم يَمِلْ إليهم لظن صدقهم فيما قالوه، ولا لِخوف مضرَّةٍ مظنونة تلحقه بمخالفتهم (2)، وإنما هَمَّ بذلك بمجردِ الطبيعة البشرية، وما كان فيه عليه الكلامُ مِن محبة اللُّطْفِ، وتيسيرِ الأمور، وكثرةِ الرفق بالخلق، والتأليف لهم إلى إلإِسلام، فقد أثَّرَ قولُهم فيه حتى مَيَّلُوا طبعَه الكريم بمجرد السؤال، فميله (3) إليهم بطبعه الشريف مِن غير عزم سببٌ من أسبابِ مقاربة الركونِ إليهم، فلهذا قال تعالى: {لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74] فهذا همٌّ طبيعي محض ليس مما نحنُ فيه في مَرَاحٍ ولا مغْدَى، وإنما الذي يُشبه مسألتنا ما قدمناه من أمانه عليه السلام لهم في الأصلاح التي كانت بينَه وبينَهم، فلم يكن عليه السلامُ يُنْكِرُ على المسلمين دخولَهم بلادَ الكفار ثقةً بوفائهم في أمانهم وصدقهم في قولهم، وعدم غدرهم في عهدهم، وكذلك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه اعتمر عمْرَةَ القضاء (4) في الأمان الذي جرى بينه وبينَهم، ولم يكن
__________
(1) في (ب): لمساعدتهم.
(2) في (ب): لمخالفتهم.
(3) في (ب): فميله عليه السلام.
(4) انظر صحيح البخاري رقم (4251) كتاب المغازي: باب عمرة القضاء.
قال ابن الأثير: أدخل البخاري عمرة القضاء في المغازي، لكونها كانت مسببة عن غزوة الحديبية.
وقال الحافظ في " الفتح " 7/ 500: واختلف في سبب تسميتها عمرة القضاء، فقيل =(2/211)
في شيء من فعله عليه السلام، ولا مِن فعل المسلمين الذي أقرَّهم عليه ركونٌ إليهم لما كان اعتماداً على الظن الصحيح الراجح الحاصلِ عن القرائن العقلية الدائمة الصِّدق أو الأكثرية (1)، وهذا مقتضى المعقول في المظنون إلا ما خصَّه الدليلُ.
الإشكال الثامن عشر: أن السيد -أيَّده الله- تَشَدَّد (2) في معرفة صِحَّةِ الحديثِ، ثم روى هذا الحديثَ في قصة ثقيف مع ما فيه من الإشكالِ في أمر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لكاتبه أن يكتب لهم ألا يركعُوا ولا يسجُدوا مِن غير إذن من الله، لأنَّه لو أَذِنَ له في ذلك لم يُنْزِلْ عليه الوعيدَ الشديد لو فعل ذلك فإن كان هذا صَحَّ للسيد -أيَّدهُ الله- فلا يمتنِعُ أن يصِح لِغيره شيء من الحديثِ، وإن لم يكن صَحَّ له، فلا ينبغي أن يحتجَّ بما لم يَصِحَّ بل لا ينبغي أن يَرْويَه. ثم في تأويله إشكال، وفي القرآن دليلٌ على أن النبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يرْكَنْ إلَيْهِمْ قليلاً ولا كثيراً ولا كاد يركن ركوناً كثيراً، وإنما الذي في القرآن " شيئاً يسيراً "، فلو كان قد ساعدهم إلى تغيير الصلاةِ، وأمر كاتبه أن يكتُبَ لهم ذلك مع أنها أعظمُ أركانِ الدين، لكان قد ركن إليهم، وُيوَضِّحُ
__________
= المراد: ما وقع من المقاضاة بين المسلمين والمشركين من الكتاب الذي كتب بينهم بالحديبية، فالمراد بالقضاء الفصل الذي وقع عليه الصلح، ولذلك يقال لها: عُمرة القضية، قال أهل اللغة: قاضى فلاناً: عاهده، وقاضاه: عاوضه، فيحتمل تسميتها بذلك لأمرين، قاله عياض، ويرجح الثاني تسميتها قِصاصاً، قال الله تعالى {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص} قال السهيلي: تسميتها عمرة القصاص أولى، لأن هذه الآية نزلت فيها. قلت (القائل الحافظ ابن حجر): كذا رواه ابن جرير، وعبد بن حميد بإسناد صحيح عن مجاهد، وبه جزم سليمان التيمي في " مغازيه "، وقال ابن إسحاق: بلغنا عن ابن عباس، فذكره، ووصله الحاكم في " الإكليل " عن ابن عباس، لكن في إسناده الواقدي.
(1) في (ج) و (ش): والأكثرية.
(2) في (ج) و (ش): شدد.(2/212)
هذا ما رواه أبو داود بإسناد صحيح في كتاب الخراج عن عثمان بن أبي العاص أنَّ وفدَ ثقيف لما قَدِمُوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنزلهم المسجدَ لِيكون أرَقَّ لقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يُحْشَرُوا ولا يُعْشَرُوا ولا يُجَبُّوا، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " [لكم أن] لا تُعْشَرُوا ولا تُحْشَرُوا ولا خَيْرَ في دِينٍ لَيْسَ فيه ركوع " (1).
وروى أبو داود أيضاًً عن جابر رضي الله عنه بسندٍ صحيح أيضاًً فقال: حدثنا الحسنُ بنُ صباح، حدثنا إسماعيلُ بن عبدِ الكريم، قال: حدثني إبراهيمُ بنُ عقيل بن منبه، عن أبيه، عن وهب قال: سألتُ جابِرَ بنَ عبدِ الله عن شأن ثقيف إذ بايعت، فقال: اشترطَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ لا صَدَقَةَ عَلَيْهَا، ولا جِهَاد، وأنه سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ ذلك يقول: " سَيتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إذَا أسْلَمُوا " (2).
قال الخطَّابي (3): وُيشبه أن يكونَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إنما سَمَح لهم بالجهادِ والصَّدَقةِ، لأنهما لم يكونا وَاجِبَيْنِ في العاجل، لأنَّ الصدقةَ إنما تجبُ بحُؤول الحَوْلِ، والجهادُ إنما يجب بحضورِ العدو، وأما الصلاةُ فهي واجبة في كلِّ يومٍ وليلة في أوقاتها المؤقَّتَةِ، فلم يجز أن يشترِطَ تركها، وقد قَدَّمنا عن جابر رضي الله عنه أنَّه سَمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " سَيَتَصَدَّقونَ ويُجَاهِدونَ إذَا اسْلَمُوا ".
__________
(1) هو في سنن أبي داود (3026)، وأخرجه أحمد 4/ 218، والطبراني في " الكبير " (8372) ورجاله ثقاث إلا أن الحسن البصري راويه عن عثمان لم يصرح بالتحديث، وهو مدلس، وقد ذكر في ترجمته أنَّه لم يسمع من عثمان بن أبي العاص. فقول المصنف رحمه الله بإسناد صحيح، فيه ما فيه.
(2) هو في سنن أبي داود (3025) وسنده حسن.
(3) في " معالم السنن " 3/ 34 - 35.(2/213)
وقال البغوي (1) في " تفسيره ": واختلفوا في سببِ نزولها، فقال سعيدُ بن جبير: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يستلِم الحجرَ الأسودَ، فمنعته قريش، وقالوا: لا نَدَعُكَ حتى تُلِمَّ بآلهتنا فَحَدَّث نفسه: ما عليَّ أن أفعلَ ذلك، والله يعلم إنِّي لها لكارِهٌ وأُحِبُّ (2) أن يَدَعُوني حتى أستلِمَ الحَجرَ. وقيل: طلبوا منه أن يَمَسَّ آلِهَتَهُم حتى يُسلِمُوا، ويتبعوه، فحدَّث نفسه بذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية.
وقال ابنُ عباس: قَدِمَ وَفْدُ ثقيف على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالُوا: نبايعُك على أن تُعطِينَا ثلاثَ خصال، قالوا: لا نجبي في الصلاة، أي: لا ننحني، ولا نكسَر أصنامنا بأيدينا، وأن تمتعنا بالَّلاتِ سنةً من غير أن نَعْبدَها، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا خَيْرَ في دينٍ لا رُكُوعَ فيه ولا سُجُود، وأما أن لا تكسِرُوا أصنامَكم بأيديكم، فذلك لكم، وأما الطاغية -يعني اللاتَ والعُزَّى- فإني غيرُ ممتعكم بها ". فقالوا: يا رسول الله إنا نُحِبُّ أن تَسْمَعَ العربُ أنك أعطيتَنا ما لم تُعْطِ غيرَنا، فإن خَشِيتَ أن العرب تقولُ: أعطيتَهم ما لم تُعطنا، فقل: اللهُ أمرني بذلكَ، فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَطَمِعَ القَوْمُ في سكوته أن يُعطِيَهُم ذلك، فأنزل اللهُ عز وجل هذه الآية.
قلت: الصحيح أن الآية نزلت في وفد ثقيف، فقد ثبت ذلك بالإسناد الصحيح من طريقين في سنن أبي داود (3)، وكذا هو في " عين المعاني " و" تفسير الواحدي " و" تفسير عبد الصمد " وبكُلِّ حالٍ، فليس في شيءٍ من هذه الأحاديثِ والأقوالِ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَاعَدَ وَفْدَ
__________
(1) وذكره من قبله الطبري في تفسيره 15/ 88، ونقله ابن الجوزي في " زاد المسير " 5/ 67، وقال بإثره: وهذا باطل.
(2) في (أ) و (ب) و (ج): وجد، والمثبت من هامش (ب).
(3) الذي في سنن أبي داود لم يرد فيه سبب النزول، وما جاء في غيره لا يصح.(2/214)
ثقيف إلى شيء من تغيير الشريعة بغير إذنٍ من الله تعالى على وجه صريح.
وإذا تطابق الرُّواةُ والحُفَّاطُ على مخالفة الثقة عَدُّوا حديثه منكراً، وإن لم يكن في لفظه، ولا في معناه نَكَارَةٌ، فكيف إذا كان كذلك، وينبغي التثبتُ الكثيرُ في رواية هذا الحديث بهذا اللفظ الذي ذكره العلامة رحمه الله، فكُلُّ أحدٍ يُؤْخَذ مِن قوله وُيترك إلا مَنْ عصمه اللهُ مِن رسله وأنبيائه، والله سبحانه أعلم.
فإذا صحَّ للسيدِ أن يَرْويَ هذا الحديثَ، ويتأوَّلَه ويجعلَه معارضاً لكتاب الله، جاز لِغيره أن يَرْوِيَ من الأحاديث المتشابهة ما هوَ دُونَ هذا ومثله (1) ويتأوَّلَه، ويقول: إنَّه غير معارضٍ للقرآنِ.
فإن قلتَ: إنَّك لم تروِ الحديثَ بتمامه.
قلت: قد رويت أوَّله، وأشرتَ إليه بطُوله بقولك: القصة واستكملها (2)، والظاهِرُ أنَّكَ لا تستحِلُّ الروايةَ عن المحدثين والرجوع إلى تفاسيرهم، فلم نحملك على أنك أردتَ أخذ رواياتِهِم التي ذكرناها، لأنَّك صرحت بأنه عليه السلامُ هَمَّ أن يُسَاعِدَهُم إلى قولهم هكذا على الإطلاق فنسبتَ إليه الهَمَّ بتغيير الشريعة، وتمتيعهم باللات، والكذبَ على الله، لأن فيما سألوه أن يقول: الله أمره بذلك ولم يأمره به، وهو عليه السلامُ مُنَزَّهٌ: من (3) هذا، لأن الإجماعَ منعقِدٌ على تنزيهه من معاصي
__________
(1) في (ج) و (ش): أو مثله.
(2) في (ج): أتم القصة واستكملها، وفي (ش) بقولك القصة يعني: أتم القصة واستكملها.
(3) في (ج): عن.(2/215)
الخِسَّةِ، والهَمِّ بالكذب على الله تعالى، وتغيير شريعته بغير إذن (1) مراعاة لِرِضا ثقيف مما يَجِلُّ عنه مقامُ النُّبوة على صاحبها الصلاةُ والسلام.
الإِشكال التاسع عشر: أن لِهذه الآيةِ معارضاً يَدُلُّ على قبولِ المتأولين، كما سيأتي في الفصل الثاني، ولا يَتِمُّ للسَّيِّد الاحتجاجُ حتى يُبْطِلَ المعارض.
الإِشكال الموفي عشرين: أن السَّيِّد قاس قبولَ تحريم المتأوِّلين فيما بلَّغوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على تحريمِ قبول ثقيف في تبديل شريعةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والقياسُ على تسليم صحته لا يجوزُ إلا لمجتهد، لأنَّه لا يَصِحُّ إلا بعدَ المعرفة بعدمِ النصوصِ والظواهر، ولا يَعْرِفُ ذلك إلا مجتهد، والسيدُ قد شَكَّ في إمكانه وقطع بتعسُّرِه.
الإشكالُ الحادي والعشرون: أنَّه يَلْزَمُ من الاحتجاج بهذه الآية تفسيقُ مَنْ قَبِلَ المتأوِّلين مثل المؤيَّد بالله، والمنصور بالله، ويحيى بن حمزة عليهم السلام، وعبد الله بن زيد رحمه الله، ومن لا يُحصى كثرةً من كبار الأئمة، وعلماء الأمة، لأن الكبائر عند الزيدية هي ما وَرَدَ عليه وعيد في القرآن، وقد ورد الوعيدُ في القرآن على الركون لقوله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} وليس للسيد -أيَّده اللهُ- أن يقولَ: إنهم معذورون بعدمِ تعمد المعصية، لأنَّه قد نصَّ على أنها قطعية، ولا يُعْذَرُ المخالِفُ في القطعيات، فإن خالف السيد -أيده الله- مذهبَ الزيدية في أن ما ورد عليه الوعيدُ، فهو من الكبائر، فقد لزمه على مقتضى كلامه أنَّهُ غيرُ معظم لأئمة الزيدية، لأنَّه قد ألزمني ذلك بمخالفتي في بعض المسائل الظنية الفروعية لبعضهم.
__________
(1) في (ج) و (ش): إذنه.(2/216)
قال: ومِن ذلك قولُه تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} [الأعراف: 142] وهو عام، فدخل فيه قبولُ قولهم.
أقول: يَرِدُ على كلام السَّيِّد بهذه الآية إشكالات:
الإشكال الأول: أنَّه ترك بيان وجه الاستدلال بهذه الآية كأنه لا يحتاج إلى الذكر لوضوحه، فنقول: لا يخلو إما أن يقولَ بالمعنى السابق إلى الأفهام أو يتعنَّت ويُلاحظ ألفاظ العموم، إن كان الأول، فلا شَكَّ أنه لا يَسْبِقُ إلى الأفهام من قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لا يُقبل حديث المتأولين المتدينين الذين بلَّغوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يغْلِبُ على ظنِّك أنه صحيح، وأنَّك متى خالفته استحققتَ العقوبةَ من الله تعالى، وإنما يسبق إلى الفهم تحريمُ اتباعِ سبيل المفسدين في الفساد في الأرض الذي هو إخافةُ السبل، وسفكُ الدماء وقد ذكر أهل العلم أن هذا هو المفهومُ في مثل ذلك، فقالوا: إن القائل إذا قال لِغيره: اتبع سبيلَ الصالحين، فُهِمَ أن مرادَه في صلاحِهم، ولا يلزم أن يَتَّبِعَ سبيلَهم فيما ليس مِن قبيل الصلاحِ من سكونِ بُلدانهم التي نشأوا فيها، ولزومِ معايشهم التي اعتادوا جِنسَها ونحو ذلك، بل قال العلماءُ بذلك في حقِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -وقد أمرنا الله أن نتأسَّى به، ونقتديَ به- فقالوا: لا يلزمُ من ذلك اتباعُه في أمور الجِبِلَّةِ التي يفعلُها بداعي الطبيعة من كراهة بعض المآكل، وحُبِّ بعضِ الروائح والأزواج ما لم يَكنْ في ذلك قربةٌ ورد بها الشرعُ، وذلك لأنَّا لم نفهم أن متابعتَه في ذلك مرادةٌ بكلامِ الله تعالى، وإن كان إطلاقُ الأمرِ بالتأسي يقتضي ذلك في أصلِ الوضع اللغوي، وكذلك قوله: {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين} لم يُرِدِ العمومَ في كُلِّ سبيل حتى لو فعلوا بعضُ المباحات لحرمت علينا، ألا ترى أنَّ بني العباس لمَّا استعملوا القصورَ الحصينة والطبول والآلات(2/217)
الملكية، وسائر الهيئات المختصة بالدول العجمية التي لم يعرفها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الصحابةُ، لم يحرم على الأئمة المتأخرين متابعتُهم في ذلك لِما قَصَدُوا فيه من إرهاب العدو، وإعزازِ الإسلام، وكذلك، فإن أئمة الجَوْرِ أوَّلُ مَنْ سن الألقابَ مثلَ الناصرِ والمنصورِ والمهدي، ولم يكن ذلك في زمن الصحابة، ولا نَعْلَمُ لعلي عليه السلام لقباً (1)، ولا لسيدي شبابِ أهل الجنة، وفعل ذلك الأئمةُ الكِبارُ من أهلِ البيتِ مِن غير طائل منفعة تحتَه، ولم يكن ذلك مِن اتباع المفسدين، وقد سأل رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عن صومِ يومِ عاشوراء، لما سَمِعَ أن اليهودَ تصومُه، ولم يكن يصومُه عليه السلام، فقالُوا: إِنَّه اليومُ الذي أنجى الله فيه موسى من البحر، فقال عليه السلامُ: " نحْنُ أحَقُّ بِموسَى مِنْهُم " وَصَامَهُ وأمَرَ بصومه (2). ولم يكن فيه اتباعُ المفسدين مع أنَّه استند إلى خبرهم بأنَّه اليومُ الَّذي نَجَّى اللهُ فيه موسى، لأنَّه يتعلق بفضائلِ الأعمالِ دونَ الأحكامِ، وكذا في الحديث: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُحِبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم يَنْزِلْ عليه فيه شيء، وأنَّهم كانوا يَسْدِلُونَ الشَّعرَ، والمشركون يَفْرِقونَ، كَان يَسْدِلُ ثم فرَقَ [بَعْد] (3) فلم يكن في شيء من ذلك راكناً إلى اليهود.
__________
(1) في (ب): ولا يعلم لعلي عليه السلام لقب.
(2) أخرجه من حديث ابن عباس، البخاري (2004) و (3397) و (3943) و (4680) و (4737) ومسلم (1130)، وأبو داود (2444).
(3) أخرجه من حديث ابن عباس، أحمد 1/ 245 و261 و287 و320، والبخاري (3558) و (3944) و (5917)، ومسلم (2336) وأبو داود (4188) والنسائي 8/ 184، وابن ماجة (3632)، والترمذي في الشمائل (29).
السدل: هو ترك شعر الناصية على الجبهة، والفرق: هو إلقاء شعر الرأس إلى جانبي الرأس، ولا يترك شيئاً منه على جبهته.
قال الحافظ في " الفتح " 10/ 361: وكأنَّ السر في ذلك أن أهل الأوثان أبعد عن =(2/218)
إذا ثبت هذا، فنقول لِلسيد: ما هذا الإرسالُ لهذه الآية مِن غير بيان وجه الاحتجاج؟ هل يريدُ أنا لا نَتَّبعُ سبيلَ المفسدين فيما ثبت عندنا أنه واجبٌ؟ أو فيما ثبت أنَّه مباح؟ أو في ما ثبت أنَّه حرام؟، أو في جميع ذلك؟ وكُلُّ هذا مردود عليك إلا اتباعهم فيما هو حرام، وأما في الواجب والمباح، فخلاف إجماع الأمة، لكنا نستدِلُّ على أن قبول المتأوِّلين المتديِّنين الذين يقضي الظنُّ الراجحُ بصدقهم ليس هو مِن الحرام، وإنما هو من الواجب، كما سيأتي مبيناً في الفصل الثاني إِن شاء اللهُ تعالى.
الإشكال الثاني: أنَّ النهي عن اتباعِ سبيل المفسدين ليس نهياً عن اتباعِ السبيل الحقيقية إنما هو نهي عن اتباع السبيل المَجَازية، وكلُّ ما فعل الإنسان لا يُسَمَّى سبيلاً له في المجاز، لأنَّه يحتاح إلى عَلاقة ظاهرة، وقرينة معروفة، فلا يُسَمَّى فعلُ الإنسان سبيلاً له (1) حتَّى يُلازمه وَيلْتَجَّ به، فالفسادُ سبيلُ المفسدين، وليس الأكلُ والشربُ سبيلَهم، وإن كانوا يأكلون ويشربون، وكذلك العملُ بقول من يَغْلِبُ على الطَّنِّ صدقُه ليس سبيلَ المفسدين بل سبيلُ العقلاء.
وإذا قال السَّيِّدُ -أيده الله-: إن تصديقَ المتأوِّل المظنونِ صدقُه اتباع لسبيله.
قلنا له: تسمية كلامِه سبيلاً مجازٌ، والمجازُ لا بُد له من قرينة ظاهرة، كالشجاعة في الأسد والشجاع، ولا يجوز أن تكون خفية، كالبَخَرِ
__________
= الإيمان من أهل الكتاب، ولأن أهل الكتاب يتمسكون بشريعة في الجملة، فكان يحب موافقتهم ليتألفهم، ولو أدت موافقتهم إلى مخالفة أهل الأوثان، فلما أسلم أهل الأوثان الذين معه والذين حوله، واستمر أهل الكتاب على كفرهم، تمحضت المخالفة لأهل الكتاب.
(1) له: ساقطة من (ب).(2/219)
في الأسَدِ والرجُل الأبْخَرِ (1)، فأخبرنا ما القرينة الظاهرة الجامعة بين السبيل المسلوكة الحقيقية وبَيْنَ قول المتأوِّل: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا حرام أو (2) هذا حلال، وكيف قَطَعَ السيدُ بأن هذا مرادُ الله تعالى وقد عسرَ تفسيرَ القرآن على الظاهر في آيات الأحكام الشرعية التي هي أجلَى من هذا وأقربُ منالاً!!
فإن قلتَ: سبيلُ المفسدين هي قبولُهم لا قولهم.
قلنا: هذا أضعفُ من الأول، لأن القبولَ سبيل القائلين، لا سبيل المقبولين، فإنه لا يَصِحُّ وصفُهم بقبول أنفسهم، فإنَّهم إذا سَمِعُوا الحديث من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من أحد الثقات من غير أهل البدع، وجب عليهم العملُ بما علموا بالإجماع، ولم يَحْرمْ عليهم قبولُ أنفسهم هذا ما لا يقولُه أحد من أهل المعرفة.
الإشكال الثالث: أن قولَه: {سبيل المفسدين} يقتضي العمومَ في المفسدين كما أن قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] يقتضي العموم في المؤمنين، فلا يدل ظاهرُه على وجوب اتِّباع بعض المؤمنين، بل يجب اتباعُ جميعهم، وهكذا هذه الآية ليس فيها تحريمُ اتباع سبيل بعض المفسدين، إنما فيها اتِّباعُ جميع المفسدين، وليس قبول خبرٍ واحدٍ منهم اتباعاً لسبيلهم أجمعين.
فإن قلتَ: العلةُ كونُهُم مفسدين، فلا فرق بينَ اتباع سبيل الواحد والجماعة.
__________
(1) الأبخر: هو الذي نتن ريح فمه، من: بَخِر الفم بخراً: أنتنت ريحه.
(2) في (ب) و (ش): و.(2/220)
قلت: الجوابُ من وجهين:
الأول: معَارضَة، وهي (1) أن نقول: وكذلك العِلَّةُ في اتِّباع سبيل المؤمنين كونُهُم مؤمنين، والإيمانُ حاصل في الواحد، فكان يلزمُ وجوبُ اتباعه.
الثاني: تحقيق، وهو أن نقول: سبيل الواحد من المؤمنين لما كانت تختلِفُ، فقد تكون صالحةً، وقد تكون غيرَ صالحة، لم نُؤْمَرْ باتباعها، وأما سبيلهم معاً، فلما علم الله أنهم لا يجتمِعُونَ كُلُّهُمْ إلاَّ على صلاح، أمر باتباعِ سبيلِهم، وكذلك في هذا يمكن مثل ذلك، وهو أن الله لما علم أن فعلَ الواحد منهم قد يكونُ مفسدة، وقد لا يكون كذلك لم ينهنا عن اتباع سبيله، بل يَقِفُ ذلك على الدليل، فإن كان مباحاً، أو واجباً لم يَحْرُمْ، وإن كان حراماً حَرُمَ، وأما جماعة المفسدين، فإنَّهم إذا اعتمدوا طريقة، واختصّوا بسنة لم يُوافقهم أهلُ الإيمان عليها، فإنها لا تكونُ إلا مفسدة، وما هذه صورته فهي التي تَصِحُّ في المجاز أن يُسمى سبيلاً لهم، وأما فعلُ الواحد منهم أو قولُه، فليس يَصِحُّ أن يُسمَّى سبيلاً للمفسدين.
الإِشكال الرابع: أنا إذا سَمِعْنَا خبراً، وظننا أنَّه صادق راجح، وكان علينا مَضَرَّةٌ في مجانبته مظنونةٌ، وَعَمِلْنَا بما ظننا دفعاً للمضرة عن أنفسنا، لم نُسَم متبعين لسبيل مَنْ أخبرنا به في حقيقة اللغة ولا مجازها، أما الحقيقة، فظاهر، وأما المجاز، فلأن الأصل عدمُ إطلاق هذه العبارة على فاعل هذه الصورة، وإنما نسمَّى عاملين بالظنِّ الراجحِ، وبما فُطِرَتْ عليه العقولُ
__________
(1) في (ب): وهو.(2/221)
من أن دفع المضرة المظنونة واجبٌ، فالمتبع هنا هو الظنُّ، ودليلُ العقل لا سبيلُ المخبر بذلك.
الإشكال الخامس: أنَّ العملَ بما يظن الإِنسانُ وجوبَه، وترك ما يظن حرمتَه ليس سبيلَ المفسدين إنما هو سبيلُ التحري من المؤمنين وهذا معلوم لِكُلِّ عاقِل، فثبت أن العملَ بروايتهم فيما يُظنّ وجوبه أو حرمتُه ليس اتباعاً لِسبيلهم قطعاً، بل اتباع لسبيل أهل الاحتياط والورع والتقوى.
الإشكال السادس: أنا قد بينَّا في الفصل الثاني أنه قد روي إجماعُ الأمة على جواز قبولِ المتأولين، وجاء ذلك من عشر طرق، فصارَ من اتباع سبيلِ المؤمنين، وكان الأولى أن يقال: لا يُرَدُّ حديثُهم ورواياتُهم لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
الإشكال السابع: أنَّه معلومٌ بالتواتر والضرورة على تقديرِ تسليم عدمِ الإجماع أن قبولَهم قولُ طائفة من أئمة العِترة عليهم السلامُ، ومِن سائر عيون العلماء الأعلام، فالقائلُ لهم مُتَّبعٌ لسبيل (1) هذه الطائفة، لا لسبيلِ المفسدين لأنَّه اتبع سبيل ص (2) بالله وم بالله وأمثالهما من شِيعة العِترة رحمهم الله تعالى وسبيلَ أئمة الفقهاء الأربعة المقتدى بهم في جميع آفاق الإسلام، وهؤلاء ليسوا من المفسدين في الأرض الذين قال الله تبارك اسمُه فيهم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].
__________
(1) لسبيل: ساقطة من (ب).
(2) ص تعني: المنصور بالله، وم: المؤيد بالله كما هو مصرح به في (ش).(2/222)
الإِشكال الثامن: أن الآية حكاية لخطاب موسى لأخيه هارون عليهما السلامُ قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142] وفي الاحتجاج بشرعِ مَنْ قَبْلَنَا خلافٌ كثير، فكان يجب على السَّيِّد أن يَدلَّ بدليل قاطع على أنا متعبَّدُونَ بشرع مَنْ قبلَنا، فأما الاحتجاجُ على ذلك بالأدلَّةِ الظنية فلا ينفعه في هذا المقام، لأن المسألةَ عنده قطعية.
الإِشكال التاسع: أن هارون عليه السلامُ نبيٌّ مرسل من الله تعالى عالمٌ بالشريعة، مبلِّغٌ لها إلى العباد، وليس يَصِحُّ أن يكونَ متعبداً بأخبار الآحاد في شريعته، لأنَّه صاحبُها المنقول عنه أخبارُها لا إليه، فإذا كان كذلك، فمن المعلومِ أن موسى ما أراد نهيه عن قبول فساقِ التأويل في إخبارهم عن شريعته، وإذا كان انتفاءُ ذلك معلوماً، لم يَصِح استنباط ما هو فرع عليه، وذلك لأن الآية ليست متناولةً لنا بلفظها، ولا بمفهومها، وإنما تناولُنَا بدليل التأسي به على تسليم أنا متعبَّدون بالتأسي بجميع مَنْ قبلنا من الأنبياء، فكل ما (1) علمنا أنَّه لم يَقْصِدْ في خطابه، فكيف يحرُم علينا وهو إنما حرم لكونه حَرُمَ عليه فحين لم يثبت أنَّه حَرُمَ عليه لم يثبت ما هو فرعُه من تحريمه علينا.
الإشكال العاشر: أن الآية إما أن تَرِد على المعنى الذي ذكرنا مِن العُرف السَّابِق إلى الأفهام، وهو أن المرادَ تحريمُ سبيلهم في الفساد في الأرض، فذاك الذي نُرِيد، وبِهِ يَبْطُلُ مرادُ السيد، وإن كانت واردةً على معنى العمومِ الذي تَوهَّمه السيدُ، وجب أن يكونَ مفهومُها إيجابَ اتباعِ
__________
(1) في (ب): فكما.(2/223)
سبيلِ المؤمنين على هارونَ عليه السلام، وذلك ظاهر من مفهوم الصفة أحدِ أقسام مفهومِ المخالفة، لأن المفهومَ مِن النهي عن اتباعِ سبيلِ المفسدين إيجابُ اتباعِ سبيلِ المؤمنين، لكنه لا يجب على هارون عليه السلام أن يقتديَ بأحدٍ من المؤمنين، ولا اتباع سبيلهم.
فإن قلت: كيف لا يجبُ على هارون اتباعُ سبيلِ المؤمنين مع أن من لم يَتَّبعْ سبيلَ المؤمنين فقد اتبع سبيلَ المفسدين؟
قلتُ: سبيلُ المؤمنين قسمان:
أحدهما: ما ذكرناه من السبيل العُرفية السابقة إلى الأفهام، وهي الإيمان بالله ورسلِه والمحافظة على طاعته.
والآخر: اتباعُهُمْ في جميع الأفعال والأقوالِ على التفصيل، فإما أن يُرِيدَ السَّيِّد أنَّه واجبٌ على هارون عليه السلامُ اتباعُهم على الوجه الأول، فذلك مسلَّمٌ لا يَضرُّ تسليمه، أو على الوجه الثاني، فذلك ممنوع، لأن المشروعَ تأسي المؤمنين بالأنبياءِ لا تأسِّي الأنبياء بالمؤمنين، فإن نازع السيدُ في هذا، فعليه أن يَدُلَّ بدليلٍ قاطع، وإنما قلنا: لا يضر تسليمُ الأول، لأن الآية متى أرِيدَ بها ذلك لم يدخل فيه قبول المتأولين بنفي ولا إثبات، لأنَّه لَمْ يَسبق إلى الأفهام عند سماع الآية أن قبولَ المتأوِّلين من سبيل المؤمنين، أو ليس مِن سبيلهم، إنما السابقُ أن سبيلَهم ما ذكره من الإيمان بالله، والمحافظةِ على طاعته.
فإن قلتَ: غاية المفهوم من هذه الآية أن يُبِيحَ اتباعَ سبيل المؤمنين، فلم قلت: إن مفهومها يقتضي إيجابَ اتباع سبيل المؤمنين على هارون عليه السلامُ.(2/224)
قلت: لأنك ذهبتَ إلى أن المرادَ بالآية تحريمُ قبولِ المتأوِّلين، وغير ذلك، فلزم منه وجوبُ قبول المؤمنين، لأن قبول خبرِ الثقات من المؤمنين في الحلال والحرام لا يكونُ مباحاً إنما يكونُ واجباً أو محرماً، لأن الإباحة في قبوله تقتضي التخييرَ، فيكون المكلفُ مخيراً إن شاء قَبِلَهُم، فحرم ما رَوَوْا تحريمَه، وإن شاء لم يقبلْهم، فحلَّ ما رَوَوْا تحريمه، وهذا لا يجوزُ، لأنَّه يُؤدِّي إلى أن تكون الشرائعُ موقوفةً على اختيار المكلفين.
سلمنا أنَّه لا يجبُ عليه ذلك من قبيل المفهوم، فإنَه يُمكن أن (1) يجب من حيث إِنَّ النهي عن الشيء أمرٌ بضده عند كثير مِن أهل العلم، فكان يلزمُ السَّيِّد أن يستدِلَّ بدليل قاطع ٍعلى بُطلان هذا القولِ حتى يصِحَّ له الاستدلال بهذه الآية، فإن دلالتها لا تكون قطعيةً مع قبولها لهذا الاحتمال وأمثالِه.
الإشكال الحادي عشر: أن الاستدلال بهذه الآية لا يَصحُّ إِلا من مجتهدٍ، والسيد مُدَّع لعدم الاجتهاد في حقِّه، بل شاكٌّ في دخوله في الإمكان، وقد قالَ -أيّدَهُ الله- فِي كتابه: إنَّه لا يُستنتج العقيمُ، ولا يُستفتى منْ ليس بعليم.
الإشكال الثاني عشر: أن السيدَ قد سَدَّ الطريقَ في كتابه إلى معرفة تفسير القرآن العظيم وشغب (2) فيه كما تقدم، ثم إنَه فسر هذه الآيةَ الكريمة بهذا المعنى البعيد، فكيف التلفيقُ بَيْنَ تفسيره هنا، وتشديده هُناك!!
الإِشكال الثالث عشر: أن السيدَ ادَّعى أن المسألة قطعية، وهذه
__________
(1) في (ب): أنه.
(2) في (ب): شعب، بالعين المهملة، وهو تصحيف.(2/225)
الآية مِن قبيل العموم، وهو إذا تناولَ العمليات ظنيٌّ بلا خلاف، والظنيُّ لا يوجبُ القطعَ بالاتفاق، ولا يُنتج اليقينَ بغير منازعة.
الإشكال الرابع عشر: أن المتأوَّلين من هذه الأمة ما كانوا موجودين في زمان هارون عليه السلامُ، وقد بينا فيما تقدم أن في (1) العلماء من يَقْصُر العمومَ على الموجود السابق إلى الأفهام، وقد تقدَّم الدليلُ على ذلك وتقريره.
الإشكال الخامس عشر: أنَّه يلزم السيد -أيَّدهُ اللهُ- أن مَنْ أجازَ قبولَ المتأوِّلين مِن أئمةِ العِترة الطاهرة، ونجومِ العلم الزاهرة، ممن اتَّبَعَ سبيلَ المفسدين، واقتفى آثارَ الظالمين مثل الإمام السَّيِّد المؤيَّد بالله، والإِمامِ المنصورِ بالله، والإِمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليهم السلام، ومثل القاضي زيد، والعلامة عبد الله بن زيد، والقاضي أبي مضر رضي الله عنهم، وغيرهم ممن يأتي ذكرُه في الفصل الثاني إن شاء الله تعالى، بل يلزمه أنَّهم ممن (2) دعا إلى اتباع سبيلِ المفسدين، واعتقد وجوبَ ذلك، واحتج عليه وليس له أن يقولَ: إنهم مصيبون، وإنهم معذورون إذ هي عنده قطعية.
الإِشكال السادس عشر: سيأتي في الفصل الثاني -إن شاء الله تعالى- رواية الثقات مِن الأئمة إجماعَ الصدر الأول من هذه الأمة على قبولِ المتأوِّلين، وثبوت ذلك مِن عشر طرق أو أكثر، فيلزم السيد -أيده الله- أن خيرَ أمة أُخْرِجَتْ للناس ذهبوا إلى وجوبِ اتباعِ سبيل المفسدين.
__________
(1) في (ب): من العلماء، وقد أثبت فوقها " في " نسخ.
(2) في (أ): من.(2/226)