فهذا الحديث هو تأكيد وتحقيق لما سبق في حديث عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فلا مجال إذاً أن يقال: فيم العمل؟
أو أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟
لأن الإِنسَان لا يخلو عن العمل فهو عامل إما أن يعمل بالطاعة أو يعمل بضدها فلا بد من العمل، والحل هو كما قال الصحابة رضى الله تَعَالَى عنهم في الرواية الأخرى (قالوا: إذاً نجتهد) فما دام الأمر متروكاً لنا (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) .
فالواجب علينا أن نجتهد، وأن نعمل الطاعات، ونجتهد في اجتناب المحرمات، وبذلك نكون قد سلكنا طريق أهل السعادة وابتعدنا عن طريق أهل الشقاوة، فهذا من فضل الله ومن حكمته ورحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعل الأمر بيد المخلوقين ولذلك يجازيهم عليه، لأنه جعل المسؤولية عليهم، فهم يسألون عن أمر قد علموا أنهم مسئولون عنه.
ثُمَّ يؤكد ويؤيد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هذين الحديثين بحديث ثالث وهو حديث سهل بن سعد الساعدي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) هذا الحديث المتفق عليه وزاد البُخَارِيّ جملة مهمة وهي (وإنما الأعمال بالخواتيم) .
والغرض من إيراد هذا الجزء هو إثبات الكتابة وإثبات العلم، ونأخذ ذلك من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) هذا في العلم البشري (وهو من أهل النَّار) في علم الله وفي كتاب الله أنه مكتوب من أهل النار، وعكسه الرجل يعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس في العلم البشري، لكنه في علم الله من أهل الجنة، فمكتوب عند الله في ديوان أهل الجنة.(1/1428)
وسبب الحديث هو الرجل الذي كَانَ في جيش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقاتل مع الصحابة الكرام، وكان لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه فَقَالَ الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم: (ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان) فيما يظهر لهم لأنه يبلي بلاءً شديدا ويقاتل، ويميل على الْمُشْرِكِينَ يمنة ويسرة يضربهم بالسيف حتى قال الراوي: (لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه) .
فكان الصحابة الكرام يثنون عليه -هذا العلم البشري الظاهر- يثنون على بلائه وجهاده وشجاعته، وإذا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (أما إنه من أهل النَّار) فَكُبر ذلك على أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشق عليهم حتى قال بعضهم: (كدت أن أفتتن) فالأمر إذاً خطير، كيف نرى إنساناً يعمل هذه الأعمال من الطاعات والقربات والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطلب العلم وأمثال ذلك، ويكون من أهل النار؟ هذا شيء عجيب!(1/1429)
ولو أن النَّاس اطلعوا على الغيب لربما ذهلوا من كثرة ما يقع من هذه الحالات، ولو أن الله عَزَّ وَجَلَّ يطلعنا على الغيب لوجدت أن فلاناً الذي تحبه وتثق فيه وتظن فيه الدين والخير والإيمان من أهل النار، وفلاناً الشرير الذي لا تطمع فيه بخير ولا تنظر إليه بعين من أهل الجنة، فتستغرب ذلك، وربما ضلت وزاغت عقول، ولروبما فتنت قلوب، والمخرج من هذا وحتى لا يزعزع القلوب ولا يزلزلها أبداً هو عندما يؤمن الإِنسَان حقيقة بأن علمه قاصر، وأن نظرته محدودة، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن الأمر ليس منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ظلماً، أي: لا يجوز لنا أن نسيئ الظن بربنا، فنرى إنساناً عابداً تقياً زاهداً ثُمَّ يختم له بخاتمة سوء فنقول: ما دام أن هذا الرجل ختم له بالسوء فمن يأمن ربه تَعَالَى الله عن ذلك، لا نأمن أن يدخل الأولياء الصالحين العبُّاد النَّار، أو أن يدخل الفجار الأشرار الجنة.
إذاً: المسألة مجرد احتمال، فيرجع الأمر إِلَى محض المشيئة، وهذا خطأ عظيم وقع فيه كثير من أرباب السلوك، المربون الذين يسمون بأهل السلوك من المتصوفة وغيرهم، الذين ظنوا أن الأمر راجع إِلَى محض المشيئة، فشاء لهذا فأدخله النار، وإن عمل ما عمل من الطاعات، وشاء لهذا فأدخله الجنة وإن عمل ما عمل من المعاصي لأن الأمر مشيئة فقط، والحق أن الأمر ليس متعلقاً بالمشيئة وحدها بل متعلق بغيرها، نعم المشيئة متعلقة بكل شيء، فلا يقع من شيء في الكون طاعة كَانَ أو معصية إلا بالمشيئة، هذا أمر مفروغ منه، لكن زيادة على المشيئة هنالك عدل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحكمته وأنه تَعَالَى لا يظلم أحداً أبداً.
وهنالك وجوب إحسان الظن بالله كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) فكيف يسيء العبد ظنه بربه إِلَى هذا الحد، ويجعل الأمر أمر مشيئة.(1/1430)
إذاً فلماذا شرع الدين، وأنزلت الكتب؟
ولماذا أرسل الرسل إذا كَانَ الأمر محض مشيئة؟
لا يمكن ذلك أبداً.
فلما أثر الحديث على الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم ولما شق عليهم الأمر وحال هذا الرجل: (قال أحدهم: أنا صاحبه) قَالَ: أنا سأتتبعه لأرى كيف يعمل بعمل أهل الجنة وهو من أهل النَّار قَالَ: (فخرج معه كلما وقف وقف معه، وإذا أسرع أسرع معه، قال: فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت) .
أصابه جرح شديد بالغ فلم يتحمل الألم فاستعجل الموت (فوضع نصل سيفه من الأرض وذبابه بين ثدييه ثُمَّ تحامل عليه -واتكأ بنفسه على السيف- فقتل نفسه) .
فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدوا للناس، وهو من أهل النَّار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النَّار فيما يبدو للناس، وهو من أهل الجنة) فأيقن الصحابة الكرام رضى الله تَعَالَى عنهم لما رأوا واطلعوا على ذلك الحدث، والذين لم يروا الرجل من الصحابة عندما وقعت له هذه النهاية السيئة والخاتمة السيئة -نعوذوا بالله من سوء الخاتمة- وإنما رأوا أفعاله الحسنة وجهاده، ثُمَّ سمعوا كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وقوله: (أما إنه من أهل النَّار) .
فالواجب عليهم التسليم، ومع ذلك يجب عليهم حسن الظن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حتى لا يخطر على العقول أنني قد أعمل الطاعات وأجتهد فيها، ثُمَّ لا أدري إلا وقد قُذف بي إِلَى النار، ليس الأمر كذلك، هذا الرجل عمل الطاعة فيما يبدو للناس، لكن لما كَانَ قلبه منطوياً على غير ذلك، ظهر أثر ذلك عندما عجّل نفسه إِلَى ربه.(1/1431)
فالمجاهد المخلص يصبر على القتال، ويصبر على الجرح والألم، بل الإِنسَان حتى في غير الجهاد لا يجوز له أن يقتل نفسه، بل يجب أن يصبر على أي بلاء يبتلى به، فلما أن فعل الرجل ذلك انكشفت الحقيقة التي لم نكن نعلمها لولا أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر بها من قبل، ثُمَّ شوهدت بالعين، وهي: أن عمل ذلك الرجل إنما كَانَ عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، في ظاهر علمنا البشري فقط، وإلا فخاتمته خاتمة سوء، ونهايته نهاية سوء، نسأل الله العفو والعافية.
من الخطأ الاقتصار على جانب الترهيب في الموعظة
قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما الأعمال بالخواتيم) ولا بد أن نفهم هذه الحقيقة التي ضل فيها كثير من النَّاس، فقد كَانَ من المشهورين بالوعظ والتذكير والتربية عَلَى هذا الأمر الحارث المحاسبي واشتهر بذلك لأنه كَانَ يُعلِّم مريديه وتلاميذه المحاسبة، فيأمرهم أن يحاسبوا أنفسهم، ويعلم النَّاس في المساجد دقائق الأمور فَيَقُولُ: حاسب نفسك عَلَى المعصية فلا تقع في معصية، وإذا اجتهد الإِنسَان وأخلص وعمل الطاعة عَلَى الوجه الصحيح، وهو مخلص وصادق، أيضاً جاءوا إليه وأخذوا يكلمونه ويقولون: لا تدري ما نهايتك عند الله ربما تكون من أهل النار، وعمقوا هذا الكلام وربوا النَّاس عليه وأكثروا منه كانت النتيجة: أن قنط الأتباع، ولم يثقوا في عدل الله ولا في حكمته.(1/1432)
وأهُمِلَ الجانبُ الآخر جانب الرجاء والترغيب فيما عند الله، والتذكير بسعة رحمة الله، وأنها سبقت غضبه، وأن أمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متردد بين الفضل وبين العدل، ولا يخرج عن العدل بأي حال من الأحوال إلى الظلم، تُرك هذا الجانب بقصد أن يتزكى الناس، وأن يخلصوا أعمالهم، فلما سلك أُولَئِكَ الشيوخ هذا المسلك المخالف لهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهدي القُرْآن الذى نراه بين أيدينا يأتي بأهل الجنة وبأوصافهم وأحوالهم، ثُمَّ يعرض لأهل النَّار وأوصافهم وأحوالهم، وإذا جاءت آيات في الترهيب جاءت آيات في الترغيب، فهذه هي التربية السليمة القويمة، لكن مجرد التركيز عَلَى جانب الترهيب فقط، فقد يؤدي إِلَى أن يقنط بعضهم وييأس.
ولو أن التخويف كان عند أهل المعاصي، لكان أقرب، مع أنه حتى أهل المعاصي لا ينبغي ولا يصح أن نأخذهم بمجرد التخويف، أرأيتم لو أن أناساً ممن يشربون الخمر ويزنون ويفعلون، من المحرمات ما يفعلون وكان الواعظ يعظهم دائماً بالتخويف.
فإنه سينتج عندهم -أو عند بعضهم- هذه الحالة، وهو أن ييأس فيقول له الشيطان: أنت إذاً من أهل النَّار فاستمر عَلَى عمل أهل النار، فيستمر ولا يتوب، لكن لو اقترن بعد الترهيب وبعد الوعظ الشديد والزجر والردع عن هذه المعاصي القول بأن الله غفور رحيم، وأن رحمته سبقت غضبه، وأنه تَعَالَى يبسط يده بالليل ليتوب مسيئ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبدل السيئات حسنات لمن تاب، وأنه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، ويقبل التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها.(1/1433)
فأنت في هذه الحالة بعد أن خوفتهم تماماً، أصبحوا يريدون أن يبحثوا عن المخرج، وأنت قد أعطيتهم المخرج، وهذا هو المخرج في أن يتوبوا إِلَى الله ويعودوا إليه ولن يردهم أبداً، بل يكفر عنهم ما أسلفوا من الخطايا ويقبلهم ويظهرهم منها، ويبدل تلك الخطايا والموبقات حسنات عظيمة، وهذا الترغيب مما يجعل التائب يقبل عَلَى الطاعة ويقلع عن المعصية، فهذا هو هدي القُرْآن وعليه ربى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ كبار الصحابة المتمسكين الأوابين المخبتين، بالحساب عَلَى الدقائق، ولكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يعامل المذنبين والمخطئين والمقصرين المقبلين إليه بالرحمة، وبالقبول وبالسعة، ليؤوي أولئك، ويحتضنهم هَؤُلاءِ.
أما أُولَئِكَ المقربون فليزدادوا رفعة، وليزدادوا في درجة الإحسان، فهذه التربية الحكيمة لا بد منها، أما ما يفهمه كثير من الناس، وكثير من الوعاظ من أمثال هذه الأحاديث أنها لمجرد التئييس والتقنيط الذي يصل بالنَّاس إِلَى أن يسيئوا ظنهم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ عَزَّ وَجَلَّ فهذا غير صحيح، وإن كَانَ لابد أن نتعظ ونعظ النَّاس بها لكن عَلَى الفهم الصحيح وقد وقع أهل الكلام في مثل هذا الفهم الخاطئ.
فهذا مذهب الأشعرية القائلين بأن الأمر يرجع إِلَى المشيئة المحضة، فإن شاء جعل إبليس وجنوده في الجنة، وجعل أعظم الأولياء -ولا يقولون: محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تورعوا عن الكلمة، وإلا فهذا مرادهم- وجعل أعظم الأولياء والصالحين في النار.(1/1434)
وهذا ليس مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الإيمان بالقدر، وإنما نؤمن بالقدر عَلَى أساس الإيمان معه بحكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإيمان معه بعدل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا) . فهو الغني سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يظلمهم، وهو الغني عن طاعتهم، كما أنه لا تضره معصيتهم، إذاً فالأعمال بالخواتيم.
العبرة المأخوذة من حديث الصادق المصدوق
والحديث الآخر حديث الصادق المصدوق الذي نفهم منه العبرة التي أشرنا إليها فيما مضى وهي تتكون من أمرين:
الأمر الأول: هو اتهام النفس، فلا يتهم ربه، وإنما يتهم الإِنسَان نفسه بالتقصير، ويعاملها بالاتهام ليدفع عنها الغرور والعجب، دون أن يخرجه ذلك إِلَى حد سوء الظن بالله، أو اليأس من رحمته؛ لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فلا ييأس الإِنسَان من روح الله ولا يقنط من رحمته، لكن ليجتهد في الطاعات، ومع ذلك يتهم نفسه وعمله ولا يدري أُقِبل عمله أم لم يُقبل؟ مع ثقته في أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لن يضيع عمل عامل من المؤمنين أبداً.
الأمر الثاني: عدم القطع لمعين بجنة أو نار؛ لأننا لا ندري، فقد نرى الإِنسَان يعمل عمل أهل الجنة فيما يظهر لنا، أو نراه يعمل بعمل أهل النَّار فيما يظهر لنا، والحال أنه يكون بخلاف ذلك عند الله، وهل يعني هذا أن نشك في أهل الخير والصلاح ولا نثق بهم؛ لأنه يمكن أن يكونوا من أهل النار، وأن نتودد أو نحسن الظن بالمجرمين، لأنهم يمكن أن يكونوا من أهل الجنة كما يفهم بعض النَّاس وكما فهم ذلك المتكلمون والأشعرية وغيرهم.(1/1435)
بل المقصود أنك إذا رأيت عبداً في طاعة وتقوى وإخلاص وعلم وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وكل أعمال الجنة التي جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسباباً توصل إِلَى رضاه وإلى جنته، فإنك تحبه وتواليه وترجو له الجنة ولا تقطع؛ لأنك لا تدري عن الحقيقة، فعدم علمك بالحقيقة لا يجعلك تيأس أو تسيئ الظن به، بل يجعلك لا تجزم له فقط، وترجو له الثواب. .
فإذا مات نرجو أن يكون من أهل الجنة فنقول: ما علمناه إلا صالحاً، وما علمنا عليه إلا الخير، هكذا نحسبه والله حسيبه، ولا نزكي عَلَى الله أحداً، كما علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما الآخر صاحب الفجور والظلم والمعاصي والقبائح والموبقات، فإنك تخاف عليه من النار؛ لأنه يعمل بعمل أهل النَّار هذا الذي يظهر لك، وتخاف عليه منها، ولكن هل تجزم له بذلك، لا؛ لأنك لا تدري، ربما يكون له حسنة لا تعلمها، وإلا فإن شهادة المؤمنين معتبرة، كما في الحديث الصحيح (أنه مر عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجنازة فسأل الصحابة فأثنوا خيراً، فقال: وجبت، ثُمَّ مُر عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجنازة أخرى فسألهم فأثنوا شراً، فقال: وجبت، ثُمَّ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنتم شهداء الله في الأرض) والصحابة الكرام لم يقولوا: هذا من أهل النَّار يا رَسُول الله! ولا قالوا: هذا من أهل الجنة يا رَسُول الله، وإنما أثنوا عَلَى صاحب الخير خيراً، وذكروا صاحب الشر أيضاً بالشر.(1/1436)
إذاً: إذا رأيت إنساناً مات ووجدت أهل الخير يثنون عليه خيراً، فإنك ترجو له الجنة وتزكيه، ولا تزكي عَلَى الله أحداً، ولكن ترجو له الخير والثواب؛ لأن هَؤُلاءِ هم شهداء الله في الأرض، لكنك لا تجزم؛ لأنك لا تعلم الغيب، وعكسه لو ذكر إنسان بالشر، وسمعت أهل الخير والإيمان والصلاح يذمونه، فإنك أيضاً تظن فيه الشر والسوء، وتخاف عليه من العذاب، تتوقع له ذلك لكن لا تجزم؛ لأنك حينئذ تقع في الخطأ والخلل، ويجب أن نوفق بين كون المؤمنين شهداء الله في الأرض، وبناءً عَلَى شهادتهم تجري الأحكام الظاهرة، أما علم الغيب الأحكام الباطنة فهي عند الله عَزَّ وَجَلَّ، وبين إيماننا بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عدل، بأنه حكم قسط، وأنه حكيم، وبين إيماننا أيضاً بأن مشيئته تنفذ، وأن من كتبت له الشقاوة فهو من أهلها، وأيضاً من كتبت له السعادة فهو من أهلها، هذا الذي يجب وينبغي لعباد الله حيال ذلك.
أما حديث عبد الله بن مسعود في الصحيحين قَالَ: (حدثنا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الصادق المصدوق) .
عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يروى عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً من الأحاديث، وهذا الحديث بالذات يقول فيه: وهو الصادق المصدوق؛ لأن هذا الحديث يتضمن أموراً عجيبة، لا تُعلم إلا من طريق الوحي، وربما زلت فيها الأفهام، وضلت فيها العقول، وهو أمر القدر.
فيقول رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: (وهو الصادق المصدوق) يوطئ لما سيخبرك عنه، فكأنه يقول: أيها العبد المؤمن صدق رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى ويقول: اسمعوا ما أقوله لكم من الصادق المصدوق وطنوا أنفسكم عَلَى قبوله، وهيؤها لتلقيه بالإيقان، وبالإعتقاد الجازم وعدم الشك أو التردد، لأنه صادق مصدوق صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1437)
قَالَ: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النَّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) .
فمضمون هذا الحديث هو نفس رواية حديثسهل المتقدم بزيادة البُخَارِيّ رضى الله تَعَالَى عنه وهي قوله: (إنما الأعمال بالخواتيم) .
أنواع الكتابة
والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يريد أن يثبت لنا في هذا الحديث مرتبة العلم والكتابة، ولهذا ذكر ذلك فقَالَ: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ... ) إِلَى أن قال: (ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله..) .
فالمقصود إذاً هو الكتابة، وهي كتابة فردية لنفس الفرد، والكتابة الكونية: هي أول ما خلق الله القلم فَقَالَ له: اكتب، فكتب مقادير كل شيء وعرشه عَلَى الماء، فالكتابة الكونية كتابة تتعلق بالكون كله، وأما الكتابة في هذا الحديث فهي الفردية، والكتابة الكونية تتضمن الفردية لا العكس، ففي ذلك اللوح كتب شأن كل إنسان.
ولهذا قال من قال من السلف في قوله تعالى: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُون [الجاثية:29] قَالَ: [وهل يكون النسخ إلا من أصل] أي: الملائكة تطابق عَلَى ما في اللوح المحفوظ، فتستنسخ ذلك، وما تنسخه من اللوح المحفوظ هو ما يفعله العباد تماماً، وما محي من ذلك فليس في الأصل، وهو أم الكتاب يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39] .(1/1438)
فالكتابة الكونية هي الكتابة التي كتبها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أول ما خلق القلم، ولم يكن حينئذ من المخلوقات المعروفة لنا إلا العرش والماء -كما سيأتي- ثُمَّ خلق القلم قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وأمره أن يكتب كل ما هو كائن هذا نوع من الكتابة.
والنوع الثاني: الكتابة النوعية: أي التي تشمل النوع الإِنسَاني كله، وهي ما أخذه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الميثاق لما استخرجهم من ظهر آدم، وكتب أن هَؤُلاءِ في الجنة وهَؤُلاءِ في النَّار، ثُمَّ الكتابة الفردية التي تتعلق بكل فرد في ذاته، وذلك عندما يأتيه الملك لينفخ فيه الروح ويكتب ما يتعلق بهذا الفرد في ذاته، من رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.
ثُمَّ الكتابة الحولية: وهي ما يكون في ليلة القدر، أي: التقدير الحولي الذي يقدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في ليلة القدر من هذه الليلة إِلَى مثلها من العام القادم، ثُمَّ بعد ذلك التقدير اليومي وهو: الإيجاد والخلق والتدبير، يدبر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذا الكون، ويخلق ويوجد فيه ما قدره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] ، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك، ثُمَّ يرسل إليه الملك) .
النطفة: تطلق في لغة العرب عَلَى القليل من الماء، والمقصود بذلك هو الماء الذي يخلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليقذف في الأرحام، ثُمَّ يكون علقة، والعلقة: هي الدم المتختر المتجمع، وهذه العلقة هي الحيوان المعروف في المياه، والمضغة هي القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ الإِنسَان.
والمقصود أن هذه الثلاث المراحل معروفة وجاءت في الكتاب الحكيم، ثُمَّ جاءت في هذا الحديث تصديقاً لذلك (ثُمَّ يرسل إليه الملك) ثُمَّ هذه الأخيرة متى؟ بعد الثلاث المراحل أو بعد مرحلة منها.(1/1439)
الخلاف في تحديد زمن نفخ الروح
يرى بعض العلماء أن هذه المراحل عَلَى ظاهرها في الترتيب، أي أن الملك ينفخ فيه الروح بعد مائة وعشرين ليلة، فهذا وجه فهمته طائفة من العلماء، وطائفة أخرى قالوا: إن نفخ الروح يكون بعد الأربعين الأولى: وفي بداية الطور الثاني وهو طور العلقة، ويستدلون عليه بأحاديث صحيحة منها حديث حذيفة: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثُمَّ يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح) وقوله: (ثُمَّ يكون علقة مثل ذلك، ثُمَّ يكون مضغة مثل ذلك) استطراد فاصل لبيان أن هذه المراحل كل مرحلة منها مدته أربعون ليلة، ولا يكون المقصود أن النفخ مترتب عَلَى المراحل، هكذا فهم بعض العلماء، وتعارضت بذلك الأحاديث والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم، وهذا الأمر اختلف فيه أيضاً الأطباء واختلفت أنظارهم فيه، وإن كَانَ الطب الحديث كما سمعنا ونقرأ -وعلمنا بذلك محدود- يميل إِلَى القول إِلَى أنه يكون نفخ الروح في الطور الثاني، إلا أن هناك قولاً لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ربما يحل الإشكال لو تأملناه، أو لو ثبت لدينا بطريق القطع يقول ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: هنالك ملكان: أحدهما: ملك موكل بالنطفة، وهذا يأتي علي رأس الأربعين أو بعد اثنتين وأربعين ليلة لحديث حذيفة، وأما الملك الذي يكتب الأربع كلمات فهو: ملك آخر وهو يأتي عَلَى رأس المائة والعشرين ليلة، فكأن النطفة تمر بها حالتان: الحالة الأولى: يأتيها الملك الموكل بها يغيرها ويقلبها من طور إِلَى طور، وقد تنفخ فيها الروح وتكون ذات حياة، لكن هذه الحياة حياة خاصة حياة جنينية، وأما الحياة التي هي الحياة الحقيقية التي يكون بها الإِنسَان بشراً فهي بعد المائة والعشرين والله تَعَالَى أعلم.(1/1440)
وأنا أقول: لا نقطع بهذا مع أنه قول تبدو عليه الوجاهة لأن الأحاديث متعارضة، وقد حاولت أن أوفق وأجمع الأحاديث عَلَى هذا القول فلم تجتمع لدي تماماً، والأمر بحاجة إِلَى مزيد تتبع، ولعل الله أن يفتح لنا فيه، ويراجع شرح الحديث في جامع العلوم والحكم لابن رجب، وشفاء العليل لابن القيم.
الكتابة العمرية
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ويؤمر بأربع كلمات) هذا الملك يأتي إِلَى هذا الجنين فيكتب أربع كلمات (رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد) فقوله: "رزقه" يكتب كل ما سيرزق هذا الإِنسَان في حياته، ويوضح ذلك ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (إن روح القدس نفث في روعي) أي: ألقي في نفسي وألقي في قلبي (أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) .
فيكون الطلب كما وصفه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طلب الذين لا يسألون النَّاس إلحافاً، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وليس رزقه بكثرة الحرص ولا بالإلحاح ولا بكثرة الجهد والعمل، صحيح أنه يعمل ويجتهد ويطلب ويسأل النَّاس فيما هو جائز شرعاً أن يسألهم فيه، لكن كل ذلك مع التعفف عدم الإلحاح، بل مع الطلب الجميل، لأنه لن تموت نفس إلا إذا استكملت ما كتب لها من الرزق، ولو بقي لإنسان أن يأكل شيئاً ما لن يموت حتى يأكله.
ولهذا يعطى للإنسان الشربة من الماء أو التمرة فيشرب النصف أو يأكل النصف ثُمَّ تقبض روحه، ويترك النصف الآخر لأنه أخذ النصف المكتوب، وترك النصف الذي لم يكتب، فلا يمكن أبداً أن يموت إنسان وقد بقي مما كتب له شيء، فهذا الرزق أما الأجل فقد قال تعالى: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] .(1/1441)
فكل نفس تتنفسه معدود، وعمر كل إنسان محسوب، فإذا جَاءَ الأجل فقد يستنشق الإِنسَان النفس ثُمَّ لا يخرجه، أو يخرجه ثُمَّ لا يدخله، عندئذ ينقطع عن هذه الدنيا فيستكمل ما كتب له نَفَساً نَفَساً، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدر ذلك وكتبه لا محالة، فهذا يكتب عند أول ما تنفخ الروح.
لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] فلو أنا آمنا بالقدر بهذه الحقيقة، لما كَانَ هذا الأسى والجزع والقنوط إذا أصابنا الشر وأصابنا ما نكره، ولما كَانَ الهلع والفرح والعُجب إذا جاءنا ما نريد، فإن المسألة مكتوبة لا زيادة في أحدهما ولا نقصان منه،
قوله: [وعمله] فكل ما يعمل من أعمال الخير أو الشر فإنه مكتوب مسطر، فالعمل مكتوب وقد يقول قائل مثلما قال سراقة رضى الله تَعَالَى عنه: (فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير) فيكتب العمل، ومع العمل يأتي الأمر الرابع وهو شقي أو سعيد.
إذاً: عندنا أمران: الأول: عمل، والثاني: نهاية وخاتمة، فالعمل: عام قد يكون عمل خير أو عمل شر، والخاتمة هنا فَصَّلت (شقي أو سعيد) . فقد يكون العمل عملاً فيه خير لكن النهاية شقاوة، أو العكس.
إذاً: هنا أمران كل منهما منفصل عن الآخر: العمل والخاتمة: إما الشقاوة وإما السعادة، ولهذا قَالَ: (فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها) فهذا الكلام شرح لمسألة الشقاوة والسعادة ولهذا كَانَ عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ يقول: "السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه ".
خطأ من فسر حديث ابن مسعود بحديث سهل(1/1442)
فالذين فسروا حديث عبد الله بن مسعود بحديث سهل في كلامهم شيء من الإخلال والتقصير، وذلك لأن حديثسهل بن سعد فيه: (يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس) لكن هو في الحقيقة عامل بعمل أهل النَّار، وعكسه (يعمل بعمل أهل النَّار فيما يبدو للناس) لكنه في الحقيقة يعمل بعمل أهل الجنة هذه حالة، والذي تكلمنا عنه حالة أخرى، وهي حالة إنسان يعمل بعمل أهل الجنة لحظات أو أيام أو فترات، ثُمَّ يعمل بعمل أهل النَّار فترات، والاحتمال الثاني هنا أعم في الدلالة، فحديث عبد الله بن مسعود فيه زيادة وهي أن تتهم نفسك، وتحرص عَلَى الخير، وتجتهد عَلَى أن تقوي إيمانك كل ما ضعف، ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الإيمان ليَخْلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب) يعني يبلي، فإن خَلق يخلق: بلي يبلي مثلها وزنا ومعنى، فالإيمان يبلى كما يبلى الثوب، فجدد إيمانك كما تجدد ثيابك تغسلها أو تغيرها، فلو جَاءَ الأجل والإِنسَان قد بلي إيمانه ولم يجدده فإن هذا هو الخطر، وإذا جاءه وقد جدد إيمانه يكون الخير، فيفهم من حديث عبد الله بن مسعود رضى الله تَعَالَى عنه أن الأعمال بالخواتيم، وأن الإِنسَان يجتهد في أن يزداد إيمانه، وأن يتهم نفسه، والإِنسَان في الحقيقة قد يكون ممن لديه إيمان، لكن هذا الإيمان بلي مع الزمن، كما طال الأمد عَلَى أهل الكتاب فقست قلوبهم، ثُمَّ عوتب أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك أيضاً قال تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الحديد:16] فقد كَانَ إيمانهم حقيقياً صادقاً ولكن مع طول الأمد بغير تجديد، يقسو القلب ويصبح الإيمان أمراً عادياً لديه، فلو أدركت العبد منيته في حال قسوة القلب، لكان من أهل الشقاوة -عياذاً بالله- ليس لأنه كَانَ يعمل الطاعة فيما يبدو للناس، وإنما لأنه كَانَ يعملها، ثُمَّ فترت وضعفت همته، ولم(1/1443)
يواصلها، أو لم يجدد إيمانه.
فهذا الفرق بين الحديثين وفي كل منهما عبرة لنا وعظة، وهي أنه يمكن أن تغير الكتابة الفردية العمرية التي يكتبها الملك للإنسان في الرحم وهو جنين في بطن أمه، تغير بناءً عَلَى ما سيعمله الإِنسَان من أعمال، وهذا التغيير يكون موافقاً لما في أم الكتاب، كما في حديث: (من أراد أن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه) وحديث (لا يرد القضاء إلا الدعاء) فمن وصل رحمه، وأكثر من الدعاء، فقد يصرف عنه ما قد كتب عليه وهو في بطن أمه، لكن ما وقع يكون مطابقاً للكتابة الأزلية الكونية المطابقة لعلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. يقول: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخلها) نسأل الله العفو والعافية.
إذاً فدخول النَّار مترتب عَلَى العمل، وأما سبق الكتاب فهو في علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن السعيد من سعد في بطن أمه، والشقي من شقي في بطن أمه، والعبرة بالخواتيم، فقد يعمل الإِنسَان بعمل أهل النَّار، ولكن يختم له بخاتمة خير، ومن النَّاس من أسلم وجاهد كما في الحديث الصحيح عن (الرجل الذي جَاءَ إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم فدخل الصف فجاهد فقاتل فقتل، ولم يسجد لله عَزَّ وَجَلَّ سجدة واحدة) أسلم ودخل المعركة، فهذا ختم له بخاتمة خير رغم أن كل ماضيه كَانَ غير ذلك، والحال أيضاً أن الإِنسَان قد يعمل بعمل أهل الجنة، ويظن المؤمنون أنه منهم.
فلما جَاءَ الموت تكشفت الحقائق ونطق بما في قلبه، وأظهر الكفر الذي كَانَ يكتمه في قلبه، فيكون هذا حاله، لكن لا يشغلنا ذلك عن العبرة العظمى وهي: أن الأعمال بالخواتيم، لهذا جَاءَ في وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق النَّاس بخلق حسن) .(1/1444)
فلو أن العبد المؤمن كلما غلبته نفسه وغفلت فارتكب سيئة أتبعها بحسنة لمحتها وكفرتها، ولو لم تكن تلك الحسنة إلا أن يقول: استغفر الله ويتوب، فهذه حسنة من أعظم الحسنات، والاستغفار يمحو الله تَعَالَى به الخطايا.
يقول: [والأحاديث في هذا الباب] أي: في باب إثبات الكتابة والعلم السابق [كثيرة وكذلك الآثار عن السلف] من أكثر من جمع ذلك الحافظ اللالكائي رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والإمام الآجري رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه الشريعة والإمام ابن بطة العكبري في الإبانة والحافظ أبو عمر ابن عبد البر أيضاً في التمهيد الذي أشار إليه هنا.
وأيضاً كتب السنة أفردت أبواباً للقدر ذكرت فيه هذه الأحاديث وزيادة عليها، فغالب كتب الحديث والسنة ذكرت ذلك يقول: [قَالَ: أبو عمر ابن عبد البر رَحِمَهُ اللَّهُ في التمهيد قد أكثر النَّاس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون عَلَى الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق] وأكثرشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه درء تعارض العقل والنقل (ج 8،9) فيما يتعلق بمسألة القدر ومسألة الفطرة وذكر كلام ابن عبد البر وعلق عليه، واستدرك وأضاف رضى الله تَعَالَى عنهما.
ما هو سر الله في خلقه؟
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وأصل القدر سر الله تَعَالَى في خلقه، لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تَعَالَى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تَعَالَى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب، كَانَ من الكافرين](1/1445)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى وأفقر وأغنى، وأمات وأحيى، وأضل وهدى. قال علي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:القدر سر الله، فلا تكشفه. والنزاع بين النَّاس في مسألة القدر مشهور، والذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تَعَالَى خالق أفعال العباد، قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] . وأن الله تَعَالَى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً، ولا يرضاه ديناً.
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فروا إِلَى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر، وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار! فإنهم هربوا من شيء، فوقعوا فيما هو شر منه، فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
روى اللالكائي من حديث بقية، عن الأوزاعي، حدثنا: العلاء بن الحجاج، عن مُحَمَّد بن عبيد المكي قال: قيل لابن عباس: إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقَالَ: دلوني عليه، وهو يومئذ أعمى، فقالوا له: ما تصنع به؟ فقَالَ: والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (كأني بنساء بني فهم يطفن بالخزرج تصطك إلياتهن مشركات، وهذا أول شرك في الإسلام والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر) .(1/1446)
قوله: وهذا أول شرك في الإسلام، إِلَى آخره، من كلام ابن عباس. وهذا يوافق قوله: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله، وكذب بالقدر، نقض تكذيبه توحيده.
وروى عمر بن الهيثم قَالَ: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ القدري للمجوسي: أسلم، فَقَالَ المجوسي: حتى يريد الله، فَقَالَ القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد، قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي!! وفي رواية أنه قَالَ: فأنا مع أقواهما!!
ووقف أعرابي عَلَى حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقَالَ: ياهَؤُلاءِ إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها علي، فَقَالَ عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه، فَقَالَ الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك، قَالَ: ولم؟ قَالَ: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت أن يريد ردها فلا ترد!!
وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال، ثُمَّ عذبني، أيكون منصفاً؟ فَقَالَ له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء، ويمنعه ممن يشاء] اهـ.
الشرح:
يقول الإمام الطّّحاويّ [وأصل القدر سر الله تَعَالَى في خلقه، لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل] ويشرح المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هذه العبارة فَيَقُولُ: [أصل القدر سر الله في خلقه وهو كونه أوجد، وأفنى، وأفقر، وأغنى، وأمات، وأحيى، وأضل، وهدى] أي: ليس القدر كله سراً، وإنما أصله هو الذي سر.(1/1447)
ومعنى ذلك: أن الذين ينهون عن الخوض في القدر مطلقاً؛ لأن البحث يبعث الشك والريب، هذا خطأ منهم؛ لأن الصحابة -رضوان الله تعالى- عليهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أدق الأمور في القدر، أي: في القدر الذي يستطيع العقل أن يجول وينظر فيه كما سألوه في حديث عَلِيّ وجابر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - وغيرهما عندما قالوا له: يا رَسُول الله! هذه الأعمال التي نعملها أهي فيما نستقبل من أمرنا، أم فيما جفت به الأقلام، وجرت فيه المقادير؟ .
وحديثسراقة وغيره.
وكذلك حديثعمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- لما أن سأل أبا الأسود الدؤلي عن مسألة القدر فقَالَ: أفلا يكون ذلك ظلماً، فقال: أبو الأسود ففزعت لذلك فزعاً شديداً، وقلت: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فَقَالَ له عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-: "إنما سألتك لأحزر عقلك" لأرى هل عندك عقل، هل أنت قوي الحجة؟.
إذاً: الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسائل من القدر، ولم تزل الأمة تتسائل، والعلماء تجيب بأمور من القدر، فليس صحيحاً أن مبحث القدر لا يخاض فيه مطلقاً ومثل ذلك ما يقوله بعض النَّاس في مسائل الصفات يقولون: لا نبحث في مسائل الصفات مطلقاً، وإذا سألته أو حاولت أن تستفصل منه قال لك: نؤمن ونسلم، ولا نبحث في شيء.
نعم لا بد أن نسلم وأن نؤمن هذا حق، لكن هذا المذهب إن لم يكن هو مذهب التفويض فإنه يفضي إليه، والمفوضة هم: الذين يؤمنون بأن هذه العبارات وهذا الكلام أنزله الله؛ لكن لا يبحثون عن معناه، ولا يعتقدونه، ولا يؤمنون به، وهذا المذهب من شر المذاهب، وهذه البدعة حاربها السلف رضوان الله تَعَالَى عليهم وقاوموها. ففي مبحث الصفات لا نبحث عن الكيفية، ولكن نبحث عن معنى الصفة وثبوتها، ودلالتها إذا كَانَ لها دلالة أو آثار، لكن لا نبحث عن الكيفية؛ لأننا نهينا عن ذلك.(1/1448)
وكذلك في مسألة القدر نبحث -مثلاً- في مراتب القدر، وهل للعبد مشيئة أم لا؟ وما حدود هذه المشيئة؟ ونبحث عن المعاصي، ونقول: هل المعاصي داخلة في المشيئة، في خلق الله أم غير مخلوقة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وما أشبه ذلك من الموضوعات عَلَى ما فيها من دقة، وعلى ما فيها من أمور وعلى أنه ليس كل أحد يستطيع أن يجيب فيها، لكن هناك من يعلمها، وقد علمها السلف وعلموها أصحابهم وتلاميذهم، ومازال العلم يتناقل فيها إِلَى اليوم.
أما الذي لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل والذي لا يخاض فيه فهو أصل القدر، وهو أن يقَالَ: لماذا خلق الله تَعَالَى فلاناً؟ ولماذا قدر هداية فلان ومعصية فلان وكفر فلان؟ كما إذا قيل: لماذا جعل الله تَعَالَى الإِنسَان مكلفاً، وجعل الملائكة خيراً محضاً، وجعل الشياطين شراً محضاً؟ وهذا السؤال يكون كفراً إذا كَانَ عَلَى جهة الاعتراض والرد.
أما لو سأل وهو جاهل، أو سأل وهو يظن أن في ذلك حكمة تخفى عليه ويعلمها غيره فمثل هذا يوجه إِلَى الصواب في هذه المسألة، لكن من سأل عَلَى سبيل الاعتراض - وهذا هو الحاصل - ليردوا ما ثبت من القدر. فيقولون: لماذا أضل الشيطان وهدى آدم؟ على سبيل القول بأن ذلك -عياذاً بالله- من الظلم ومن التحكم، ومما لا نعلم له حكمة، هَؤُلاءِ الذين يسألون هذا السؤال هم المعترضون عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهَؤُلاءِ كفار، كما ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-.
يقول: [فمن سأل لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كَانَ من الكافرين] أي من سأل سؤال المعترض المحاجج المخاصم لربه، ولهذا فإنالسلف الصالح -رضوان الله تَعَالَى عليهم- سموا القدرية خصوم ربهم، ومن أنت حتى تعترض عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ! وما لك من الأمر حتى تحاجه، وتقول له: لم فعلت؟! ليس لأحد من الأمر شيء.(1/1449)
بل الأمر كله لله، ولكنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كتب عَلَى نفسه الرحمة، وقد سبقت رحمته غضَبه، وهو حرم الظلم عَلَى نفسه. وجعله بيننا محرما، وهو لا يعامل العباد إلا بأمرين: إما بالفضل، وإما بالعدل، ولا يظلم ربك أحداً؛ فليس هنالك حكم ولا أمر من أوامر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- القدرية يخرج عن العدل بأي حال من الأحوال. فأصل القدر هذا الذي هو سر الله في خلقه، والذي لا يسأل عنه ولا يخاض فيه، ولا يتعمق فيه؛ وهو كونه تَعَالَى أوجد وأفنى.
لماذا أوجد؟ ولماذا أفنى؟ كل هذا لا يجوز أن يخاصم فيه بأية حال من الأحوال؛ لأن العقول تتقاصر عن معرفة ذلك، وهذا هو الذي أمرنا فيه أن نسلم لرَبِّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو الذي خلق هذا الخلق، وهو الذي أعطى ومنع، وهو الذي أمات وأحيا، وهو الذي أضحك وأبكى، وهو الذي أغنى وأقنى، وهو الذي أضل وهدى لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
معنى مقولة علي " القدر سر الله ... "
[قال علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: " القدر سر الله فلا نكشفه "] هذا القول لعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يتناقل في بعض كتب الأدب وكتب التراجم، وأنا إِلَى الآن لم أعثر عليه مسنداً متصلاً بسند صحيح، ولكن إن كَانَ المقصود بالعبارة هو أن أصل القدر سر فلا نسأل عنه ولا نبحث عنه، فهذا يتفق مع ما ذكرنا ولا إشكال في ذلك.
وأما إن كَانَ المراد من ذكر ذلك أن أمير المؤمنينعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يعرف ويعلم سر القدر، ولكنه -كما ذكر بعض الروافض- أنه سُئل عن القدر فقَالَ: ذلك سر الله، فلا نكشفه أي: أنا أعرفه ولأنه سر الله فأنا لا أكشفه، فهذا يتناقض مع ما قرره الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- حيث يقول: [لم يطلع عَلَى ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل] .(1/1450)
فكيف يكون عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يعرفه ولكنه لم يبينه ولم يكشفه؛ لأن عقول النَّاس لا تحتمله، كما أشار إِلَى ذلك أبو حامد الغزالي وغيره ويقولون: إن علياً -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- عنده ألف باب من العلم، وفي كل باب إِلَى ألف مدينة.. إِلَى آخر ذلك، وأنه لا يمنعه من بث ذلك العلم إلا أن النَّاس لا تحتمله عقولهم -سُبْحانَ اللَّه- وأي علم لا تحتمله عقول خير البشر، وأفضل النَّاس علماً، وأكملهم عقلاً هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفلا كَانَ علم واحداً منهم هذا العلم، ولهذا عندما قال قائلهم الأبيات التي يتمثل بها الغزالي كثيراً.
يارُب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
يقول: إن هناك جواهر من العلم لا يبوح بها، ولو أنه باح بها لقيل: إنه ممن يعبد الوثن. هذا الأبيات تنسب إِلَى بعض أهل البيت، وتمثل بها الغزالي وغيره، فلو أنه أباح به لقيل له: إنك تعبد الأوثان ولاستحلوا دمه، ولهذا يكتمه، ولهذا ألف كتابه المضنون به عَلَى غير أهله ويجعلون كلمة عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- هذه من هذا الباب.
والباطنية الفرقة الخبيثة المرتدة التي هي أكفر من اليهود والنَّصَارَى يقولون: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لديه علم باطن، ويروون عن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أنه قَالَ: " كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر كَانَ يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما " أي: لا يفهم شيئاً مما يقولان أي: في العلم الباطن، فإذا تكلما في العلم الظاهر فهم الكلام ونقله.(1/1451)
يعني أن هذا العلم الباطن يخفى حتى عَلَى عمر ثُمَّ يقولون: إنه أورثه الوصي أي: عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فعنده العلم الباطن وعنده الأسرار ومنها أنه مطلع عَلَى سر القدر. وكل هذا الكلام من الكفر الصريح؛ لأنه يناقض معلوماً من الدين بالضرورة، وهو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغ الدين كاملاً، فالنبي الذي أرسله الله رحمة للعالمين يبث وينشر العلم الظاهر (علم الرسوم) .
وأما الجواهر المكنونة والعلوم المضمونة التي هي أنفس وأغلى وأثمن يختص بها ابن عمه وزوج بنته -عياذاً بالله- حاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي كَانَ يسأله الصحابة وكل النَّاس فيبين لهم. وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أمرنا أن ندعو إِلَى الله وأن نجاهد الكفار لنبلغ دعوة الله إِلَى آفاق الدنيا، يكتم هذا العلم ولا يطلع عليه حتى عُمَر؟ وإنما يختص به علياً أو غيره. وعَلِيّ أيضاً يكتمه ولا يعطيه إلا أبناءه ويبقى سراً يتناقلونه. ماهذه الأخلاق؟! هذه ليست بأخلاق الأَنْبِيَاء ولا بأخلاق الفضلاء.
والله عَزَّ وَجَلَّ قد أمر نبيه أن يبلغ دينه فَقَالَ له:يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67] ومع ذلك يقال: إنه لم يبلغ إلا العلم الظاهر، أما العلم الباطن فقد كتمه. ثُمَّ يأتي من يؤلف في العلم المضنون به عَلَى غير أهله، ما هو هذا العلم المضنون به؟ أي علم هو؟ أهو أفضل من القرآن، فالقرآن لم يُضَن به عَلَى أحد، بل يحفظه الأطفال في المساجد، وفي كل مكان، وإن كَانَ دونه، فكيف يظن بشيء أنه أعلى من القرآن؟ ولهذا يقول بعضهم: مما يضن به تفسير القرآن، وأن لكل حرف من حروف القُرْآن سر، ولهذا السر سر، ولهذا الباطن باطن، إِلَى سبعمائة باطن.(1/1452)
ونعود إِلَى القضية الأولى وهو: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما علمنا من هذا القُرْآن رسمه أي حروفه فقط. لكن الحقائق والجواهر والمعاني الباطنة العميقة اختص بها علياً أو غيره.
إذاً هذا النبي لم يبلغ، وحاشاه من ذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمثل هذه العبارة ينبغي أن ينتبه إِلَى ما فيها من الاحتمال، حيث قد يفهمها بعض النَّاس بل قد فهموها عَلَى غير حقيقتها.
فأما إن كَانَ الجواب كما هو في بعض النسخ أنه قَالَ: سر الله فلا تكشفه. أي: لا تبحث عنه. فلا أنا أعلم ولا أنت تعلم ولا أحد يعلم، فهذا واضح، وسر الله عَزَّ وَجَلَّ لا يعلمه أحد، فهذا هو المعنى أو الاحتمال الذي يظن بعَلِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- إن صحت عنه الرواية.
النزاع بين أهل السنة والقدرية
قول المُصْنِّف -رحمة الله-: [النزاع بين النَّاس في مسألة القدر مشهور] قد ذكرنا فيما سبق أصل هذا النزاع، وكيف نشأ، أما الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم فلم يكن فيهم قدري ولله الحمد.
بل روى اللالكائي عن طاووس قَالَ: أدركت أكثر من ثلاثمائة نفس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يؤمن بأن الله خالق الشر والخير.وذكر اللالكائي روايات عنهم. فالصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- كانوا يؤمنون بالقدر كما نص عَلَى ذلك حديث جبريل وغيره، وكما هو صريح القُرْآن كما في هذه الآيات، فلم يكن فيهم مخالف.(1/1453)
لكن وقع النزاع والاختلاف -كما ذكرنا- عندما ظهر معبد الجهني وغيلان الدمشقي، وكل منهما تلقى ذلك عن النَّصَارَىكما أشرنا إِلَى أنمعبداً كَانَ في البصرة، وهي قريبة من مذاهب البلاتشتية، ومذاهب وفلسفات الهند؛ فهنالك كانت لديهم هذه الأمور والفلسفات فوقعت في قلب معبد أو سمعها منهم، وأما غيلان فإنه كَانَ في دمشق وكان فيها النَّصَارَىوقد أعطوا العهد وبقوا في بلاد الشام من النَّصَارَى، ويقَالَ: إن سُوسَن النصراني أويوحنا هو الذي علم غيلان الدمشقي شبهة القدر.
المهم أن هذه الشبهة حصلت في عهد صغار الصحابة كابن عمر وابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- ومنذ ذلك الحين والخلاف مستمر، وقد ذكرنا كيف تطور الأمر من مسألة الكلام في معاصي العباد إِلَى الجبر المحض وآل إِلَى وحدة الوجود عند الصوفية، وكذلك آل الآمر بالذين ينكرون القدر إِلَى أن وجد فيهم من ينكر علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي لا ينكره ولا يجهله أحد.
وقد ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هنا العبارة الأخيرة التي هي أهم مادار فيه البحث وهي: [أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه] كما هو مذهبأهل السنة ويريد هنا بمعنى يشاؤه، وليست بمعنى يشرعه أو يطلبه.
فإن الإرادة تختلف عن المشيئة؛ لأن الإرادة تكون شرعية وتكون قدرية كونية؛ فإذا كانت الإرادة قدرية كونية؛ فهي بمعنى المشيئة، لكن إذا كانت الإرادة شرعية فهي بمعنى شرع وطلب. فيجب أن نفرق بين معنيي الإرادة.(1/1454)
والمصنف هنا لما عطف عليها المشيئة قصده أن معنى الإرادة هي الكونية أي: أن الله تَعَالَى يريد الكفر كوناً ويشاؤه، ولذلك قَالَ: [ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه دينا] فكل ما يكون في الكون كله من خير أو شر، من محبوب أو مبغوض، فهو كله بمشيئة الله وإرادته، فأما ماكان من مشيئة الله فلا بد أن يتحقق، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن؛ لكن ما أمر الله به وشرعه فقد يكون وقد لا يكون؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل حكمته في أن الابتلاء يكون في جانب الشرع هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ [التغابن:2] فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ [الأعراف:30] .
فالابتلاء في مسألة الأمر الشرعي الطلبي الذي أحبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورضيه، وهذا يتحقق من قوم ولا يتحقق من آخرين؛ لكن كل ما يفعله هَؤُلاءِ النَّاس مما وافق شرع الله أو خالفه؛ فهو موافق للإرادة الكونية وللمشيئة العامة الشاملة. هذا هو موجز كلام أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة.
وقد ذكرنا أن القدرية أول ما نشأت عَلَى يد معبد وغيلان ولم يكونا معتزليين، لكن لما جَاءَ زعيم المعتزلة عمرو بن عبيد ورث القدر عن معبد ونشره، وأصبح إذا قيل: القدرية تطلق على المعتزلة.(1/1455)
وقد دخلت الروافض في مذهب الاعتزال في الصفات والقدر، واعتنقوه ابتداءً من القرن الرابع فما بعده، وأخذت الرافضة دين المعتزلة في جوانب الاعتقاد، وبقيت لها المسألة التي اختصت بها وهي الإمامة، وما أشبه ذلك، فأصبحت عقيدة المعتزلة الآن في القدر موجودة عند الروافض. فلما قال المصنف: "القدرية والمعتزلة " كأنه يشير إِلَى الترتيب التأريخي؛ لأن القدرية ظهرت أول الأمر في زمن الصحابة، ثُمَّ ظهرت المعتزلة وورثوا ذلك، ثُمَّ بعد ذلك ورث المعتزلة الرافضة.
شبهة القدرية وردها.
قول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر] . أي: أن المشيئتين تعارضتا، ويلزمهم أن مشيئة العبد غلبت مشيئة الله -والعياذ بالله- وَقَالُوا: لأن الله تَعَالَى لم يشأ الكفر، لكن العبد فعل ما لم يشأه ربه، فوقع في الكفر هذا موجز الشبهة. [فروا إِلَى هذا؛ لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر، وعذبه عليه] ، هذا أصل الشبهة، وأصل السؤال أنه قيل: آلله شاء الكفر من الكفار، وشاء المعصية من العاصي؟ قيل لهم: نعم قالوا: كيف يشاؤه ثُمَّ يعذبهم عليه، أليس هذا ظلماً؟! وهذا هو السؤال الذي سأله عمران بن حصين لأبي الأسود الدؤلي؛ لكن هَؤُلاءِ القوم لم يأخذوا الجواب من الصحابة، وإنما أخذوه -كما أسلفنا- من فلاسفة اليهود والنَّصَارَىوالصابئين فَقَالُوا: إذاً لا مخرج من هذا إلا أن نقول: أن الله يتنزه عن الظلم، ولهذا نقول: إن الله لم يشأ الكفر ولم يشأ المعاصي، وإنما وقعت بمحض مشيئة العبد. ولما قال غيلان ذلك في زمن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- جَاءَ به. وسأله عن العلم، قال: يا غيلان: أتؤمن أن الله عَلِمَ وكَتَب أفعال العباد خيرها وشرها؟ قَالَ: نعم، فقَالَ: أنت محجوج ولو جحدت لكفرت.(1/1456)
ولهذا أفضى القول بغلاتهم إِلَى إنكار العلم، فَقَالُوا: إن الله لم يعلم ذلك ولم يكتبه، وأن الأمر أُنف. والذين أنكروا العلم كفار، أفتى بذلك الإمام مالك والشَّافِعِيّ وأَحْمَد وغيرهم تبعاً لفتوى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز؛ لأن صريح القُرْآن دال عَلَى كفرهم، ومعلوم من الدين بالضرورة عند الْمُسْلِمِينَ عامتهم وخاصتهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم ما كَانَ وما سيكون، فمن أنكر علم الله بمعاصي العباد وبكفرهم، وأنه لا يعلم بها إلا بعد أن يفعلوها فهو كافر.
إذاً: هذا القول هو قول غلاة القدرية، أما غير الغلاة: فأنكروا المرتبة الأخيرة وهي: أن الله تَعَالَى خلق أفعال العباد من الشر، وَقَالُوا: كيف يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الكفر أو الفجور أو الخمر أو الزنى في العباد؟ فظنوا أنهم بذلك ينزهون الله تَعَالَى عن الظلم وعن الشر، ولهذا يقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فروا إِلَى هذا؛ لئلا يقولوا شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه؛ ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه] هربوا من نسبة مشيئة الشر إِلَى الله، ووقعوا في القول بأن مشيئة العبد غلبت مشيئة الرب، والغلاة وقعوا في شر من ذلك وهو أنهم أرادوا أن ينزهوا الله عن الظلم، وينزهوا الله عن نسبة الشر إليه ووقعوا في أقبح من ذلك وهو القول بأنه يجهل ذلك -تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيرا- هذا أضل وأخبث مما فروا منه، وَقَالُوا: إن الله لم يشأ من الكافر إلا الإيمان، ولكن الكافر خرج عن مشيئة الله وفعل الكفر.(1/1457)
إذاً هم بهذه الحالة يجعلون المشيئة هي الرضى والشرع. نعم إن الله تَعَالَى لم يرض ولن يرض من الكافر ولا من أحد من الخلق إلا الإيمان ولم يشرع الله للخلق إلا الإيمان، لكن رضاه وشرعه شيء، ومشيئته شيء آخر. وهم لم يفرقوا بينهما فيقولون: [فإن الله قد شاء الإيمان منه] عَلَى قولهم [والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه] أي: ليس لديهم دليل من النصوص وإنما هو قول مخالف للدليل، وهذه الشبهة وقعت عندهم بقصد أنهم يعظمون الله ويجلونه، ولغرض آخر وهو: أنهم قالوا: لا نفتح المجال لأهل المعاصي أن يحتجوا ويعتذروا بالقدر، وهذا يدل عَلَى ما أشرنا إليه -سابقاً- ونعيد الإشارة إليه وهو أننا لا نحكم عَلَى الأمور بمجرد مقاصد أصحابها.
لا نقول فلان قصده طيب إذاً كلامه حق؛ بل يقَالَ: إن فلاناً قصده طيب ونيته حسنة ولكن كلامه باطل، فلا يعني صدق النية أحقية القول، فإن عمرو بن عبيد مثلاً كَانَ من العباد الزهاد ومعبد كَانَ فيه عبادة وعلم ولكن لما قالوا: ننزه الله ولا ننسب إليه الشر ولا الظلم ولا نفتح الباب للعصاة والمجرمين، فيذنبون ويجرمون ويقولون هذا بقدر الله، وإن كَانَ قولهم لحسن النية فقد يكون الإِنسَان عَلَى نية حسنة ولكن يكون فعله مردوداً، ولهذا لما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) لم يجعل عليه شرطاً أن تكون نيته سيئة أوقصده بهذا أن يهدم الدين.
الأدلة على بطلان مذهب القدرية(1/1458)
ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- ما يدل عَلَى قِدم الخلاف في القدر وعلى موقف الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- من القدرية، وهو ما رواه اللالكائي بالسند المذكور أنه قيل لابن عباس: إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر فقَالَ: دلوني عليه وهو يومئذ قد عمي فقالوا له: ما تصنع به فقَالَ: "والذي نفسي بيده لأن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعها ".
وهذا الرجل هومعبد الجهني لما جَاءَ إِلَى مكة جاء بعض التابعين وقالوا لابن عباس: إن هاهنا رجلاً ويشيرون إلىمعبد الجهني يكذب بالقدر، وفي رواية أخرى أوردها اللالكائي أشار إِلَى أن معبد قَالَ: إنما يُكذَبُ عليَّ، فلم يستطع أن يقر. يقول ابن عباس: ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها.
انظروا إِلَى شدة الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- في معاملة أهل البدع ومقاومتهم، ولو كَانَ أهل السنة قلة قليلة وأهل البدعة هم الغالبون، فحينئذ يكون الحال أن أهل السنة يكفوا أيديهم ويدعو أهل البدعة قليلاً قليلاً؛ لكن إذا كَانَ النَّاس في سنة وخير، ثُمَّ يأتي رجل مبتدع ليفسد ماهم عليه من الحق؛ فإنه يقاوم أشد المقاومة. وقوله: [فإني سمعت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (كأني بنساء بني فهم يطفن بالخزرج تصطك إلياتهن مشركات) ] . هذا الحديث -كما ذكرالأرنؤوط - أنه ضعيف من هذه الطريق؛ لأن فيه العلاء بن الحجاج، ولا يهمنا إلا كلام ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وموقفه من ذلك الرجل القدري.
وقد ذكراللالكائي أيضاً هذه القصة في موضع آخر، وكذاابن بطة والآجري ذكروها بطرق أخرى، فمجموع الطرق تؤيد أن الأمر قد وقع، وأن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قد توعد ذلك الرجل الذي جَاءَ في إحدى روايات اللالكائي أنه معبد.(1/1459)
أما مسألة عودة الشرك وهو المرفوع إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن إليات نساء دوس ستضطرب عَلَى ذي الخلصة) فهذا معلوم أنه صحيح ثابت مرفوع إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- توعد معبداً بما تقدم، ثُمَّ استدل بأن الشرك سيقع في هذه الأمة عَلَى أن هذا من الشرك، ومادام أن النَّاس سيعودون كما نص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تقوم الساعة حتى تلحق فئام من أمتي بالْمُشْرِكِينَ، وحتى تضطرب إليات نساء دوس عَلَى ذي الخلصة) وهو صنم خثعم في الجاهلية. أي: مادام أن الشرك سيقع وهذه الأمة هي أمة الإيمان، وأمة التوحيد والسنة، يعقب ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَيَقُولُ: هذا أول شرك في الإسلام.
إذاً قد ابتُدئ، ولهذا جَاءَ في رواية أخرى: (أوقد فعلوها) . ولهذا قلنا: إن السلف سموا القدرية مجوس هذه الأمة؛ لأن المجوس أثبتوا إلهين خالقين إله الخير وإله الشر، وهَؤُلاءِ أيضاً أثبتوا أن العبد يخلق الشر، أن الله تَعَالَى يخلق الخير.
إذاً: هذا أول شرك وقع في هذه الأمة. [قَالَ: والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يُقدر الخير كما أخرجوه من أن يُقدر الشر] ؛ لأن باب الشر إذا فتح لا ينغلق، ولهذا قال بعض السلف: "إياكم ومحدثات الأمور فإنها تبدو صغارا ثُمَّ تؤول كبارا". فأول ما بدأوا ينزهون الله -بزعمهم- عن الشر فلا يثبتون أنه خالق الشر، ثُمَّ انتهى بهم الحال إِلَى أن وجد من ينكر العلم. إذاً من أنكر علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أسوأ ممن أنكر نسبة الشر إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1460)
يقول المصنف-رَحِمَهُ اللَّهُ-: [قوله وهذا أول شرك في الإسلام..إلى آخره من كلام ابن عباس، وهذا يوافق قوله: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبه توحيده] معنى نظامه أي: الذي به ينتظم، فلا ينتظم التوحيد إلا بالقدر، لأن من أنكر القدر فقد أثبت خالقاً غير الله-سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا الذي وقعت فيه القدرية المجوسية.
هذه الروايات موقوفة عَلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وليست مرفوعة إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن العلماء كابن بطة فيالإبانة والآجري في الشريعة واللالكائي وغيره ذكروها، يقول: [وروى عمرو بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة -والمصنف يروي هذه الواقعة ليبين أنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه - وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فَقَالَ القدري للمجوسي: أسلم] فالقدري داعية، ولا نستغرب هذا فإنه يوجد دعاة وهم عَلَى بدعة وضلالة، وقد يبذلون جهدهم في الدعوة إِلَى الله، ويكون قصدهم الدعوة إِلَى الحق لكنهم عَلَى باطل. فهذا القدري حريص عَلَى أن يسلم المجوسي، لكن انظروا إِلَى سوء بدعته وبطلانها كيف حالت بين هذا الرجل وبين الإسلام. [قال المجوسي: حتى يريد الله] ألا تذكرنا عبارة هذا المجوسي بمن نقول له: صلِّ فَيَقُولُ: إذا شاء الله؛ فالشيطان الذي يلقن المجوس، يلقن تارك الصلاة أيضاً، فعندما ذكر المجوسي لفظة الإرادة جاءت البدعة عند القدري [فقَالَ: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد] . هذه هي العقيدة التي يريد القدري أن يعلمها إياه، [فأجاب المجوسي وقَالَ: أراد الله وأراد الشيطان فكان ما أراد الشيطان فأنا مع أقواهما!] عياذاً بالله.(1/1461)
فنتبين بهذا بطلان مذهب القدرية ولو كَانَ المناظر سنياً، لأجابه ببساطة: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شاء منك المجوسية، ولكنه أمرك بالإسلام. ولا تعارض بين الأمر الكوني والأمر القدري الذي هو المشيئة، لكن الغالب في هذه المناظرة هو المجوسي؛ لأنه هو الذي قطع حجة القدري. ومما يدل أيضاً عَلَى بطلان هذه العقيدة الضالة قصة الأعرابي مع شيخ الاعتزال عمرو بن عبيد.
واللالكائي -رَحِمَهُ اللَّهُ- الذي ذكر هذه الوقائع، أفرد لعمرو بن عبيد ورؤساء المعتزلة باباً بيَّن فيه ما نقله العلماء من سوء عقيدتهم، وقد كَانَ السلف يحذرون من عمرو بن عبيد، ويحذرون من الجلوس معه، عَلَى ما كَانَ فيه من العبادة والزهد والتقشف، حتى كَانَ ضامراً من شدة العبادة، وكان لا يأكل إلا أقل القليل من متاع الدنيا، فجاء الأعرابي عَلَى حلقة فيها عمرو بن عبيد وخُدع الأعرابي بمظهرعمرو، وبما يُقال عنه من العبادة، ورأى عَلَى ظاهره علامات التعبد الطويل.
فَقَالَ له: يا هَؤُلاءِ: إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها عليّ، فتقدم عمرو ليدعو الله عَلَى أساس أنه أصلح الموجودين وأتقاهم، الذي لو دعا لأُجيب من ولايته وصلاحه فقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه. نزه الله عن الشر وإرادة المعاصي، ولكن الأعراب فيهم الذكاء السريع والبديهة الحاضرة فبدون أن يتكلف، وبدون أن يفكر قَالَ: لا حاجة لي في دعائك، قَالَ: لماذا؟ قَالَ: أخاف كما أراد أن لا تسرق فسرقت، أن يريد أن يردها فلا ترد، وذهب الأعرابي وتركه، فلو كَانَ لدى عمرو بن عبيد إيمان حق وصدق ويريد الحق لكفاه كلام هذا الأعرابي.(1/1462)
وثعلب اللغوي والنحوي المشهور، سئل هل في الأعراب قدري؟ قال معاذ الله، ما في الأعراب قدري، بل هم في جاهليتهم وإسلامهم تنضح أشعارهم بإثبات القدر، والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أورد هذا ليشير وليثبت أن هَؤُلاءِ فروا من شر توهموه فوقعوا في شر محقق، وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى، وأوردني الضلال، ثُمَّ عذبني أيكون منصفا؟! يسأله عن الله، وعبارته توحي أن هناك اعتراضاً عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه قال منعني وأوردني!.
فقالأبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه ممن يشاء؛ ولكن نقف مع عبارة السائل هذا " أرأيت إن منعني الهدى " هل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منع النَّاس الهدى؟ ليس بهذا الإطلاق، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوضح الهدى وبينه للناس، وأنزل عليهم كتاباً يتلى ورسولاً يدعوهم إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فقد بين الهدى ولم يمنعه، كما قال:إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيل) أي: بينا له ووضحنا لهإِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] أي: يختار هو ما يشاءوَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان:30] .
وقد أجابه أبو عصام: بجواب بسيط مقنع سهل جداً، ومفهومه: إن منعك شيء هو له فهو حقه، وإن منعك شيئاً هو لك فقد ظلمك، والحال أن كل ما في السموات والأرض هو ملك لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يشركه فيه أحد من العالمين؛ فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يمنع أحداً من النَّاس حقه حتى يقال: لِمَ لم يعطه، أو أنه قد ظلمه، فليس لأحد عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق بإطلاق.
قال المصنف:(1/1463)
[وأما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإِنسَان:30] وقال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] .
ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة، والرضا فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثُمَّ اختلفوا:
فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه، وقدره فيكون محبوباً مرضياً.
وقالت القدرية النفاه: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضيةله، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] اهـ.
الشرح:
شرع المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة بعد أن ذكر مذهب القدرية وأتى بالوقائع الدالة عَلَى تهافت مذهبهم وتناقضهم حينما أخرجوا المعاصي والكفر وما يكرهه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن إرادة الله ومشيئته، وأن في ذلك تنزيهاً له -فيما زعموا- عن نسبة الشر إليه، أو أنه يريد المعاصي ثُمَّ يعاقب عليها فيكون ذلك ظلماً بزعمهم.(1/1464)
والأدلة من الكتاب والسنة تدل عَلَى ما أشار إليه من مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو كما قَالَ: والذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله خلق العباد وخلق أفعالهم.
الأدلة من الكتاب والسنة على إثبات المشيئة
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [أما الأدلة من الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13] وقال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ َ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30] هاتان الآيتان الأولى منهما في سورة السجدة والأخرى في سورة الإنسان، وقد كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ بهما في فجر يوم الجمعة. ولقد قسم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الأمم عَلَى قسمين:
القسم الأول: أمم لا كتاب لها وهم المجوس والهندوس والبوذيون وكثير من أمم الشرك، فهذه الأمم لم تعرف يوم الجمعة العيد الأسبوعي، بل لا تعرف الأسابيع لأنها ليس لها أسبوع يبدأ ثُمَّ ينتهي، إنما تعلمت ذلك من الأمم الكتابية، فالمُشْرِكُونَ المنقطعون عن الاتصال بالأمم الكتابية -اليهود والنَّصَارَى والمسلمون- لا يعرفون ذلك.
والقسم الثاني: الأمم الكتابية التي لديها أسبوع ضلت في معرفة هذا اليوم، فوقع اليهود على يوم السبت، والنَّصَارَى عَلَى يوم الأحد، وفضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذه الأمة بأن وقعت عَلَى اليوم الذي هو حقاً أفضل أيام الأسبوع وهو يوم الجمعة. وهو مقدم عَلَى السبت والأحد فأصبحت الأمم تالية لهذه الأمة المباركة المصطفاة.
وقفات مع سورتي السجدة والإنسان(1/1465)
في هذا اليوم -يوم الجمعة- يُسنُّ أن يقرأ الإمام في صلاة الفجر سورتي السجدة والإِنسَان، ولو تأملنا ما في هاتين السورتين لوجدنا أنهما تشتملان عَلَى بداية خلق الكون، وبداية خلق الإِنسَان، وتشتملان عَلَى أحوال أهل الجنة وأحوال أهل النار، وتشتملان عَلَى القدر، وعَلَى إثبات مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه من أهم أصول العقيدة الإسلامية.
فكأن العبد المسلم في كل أسبوع يأخذ من كلام ربه عَزَّ وَجَلَّ هذه الدروس والعبر في عقيدته، فيعلم أول ما يسمع سورة السجدة أن هذا القُرْآن حق غير مفترى كما يزعم الزاعمون، ويدعون ويتبجحون، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق هذا الكون وهو خالق كل شيء، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- استوى عَلَى العرش، وخلق كل شيء وأحسن خلقه، ثُمَّ يأتي بعد ذلك خلق الإِنسَان، ثُمَّ نهايته وإثبات البعث.
والحديث عن المشيئة في هذه الآية: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا [السجدة:13] أما في سورة الإِنسَان فيبتدأ يقول: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1] وهنالك في السجدة: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة:7] ففترة كونه طيناً هي التي لم يكن فيها شيئاً مذكورا، حتى سواه ونفخ فيه من روحه بعد أربعين سنة.
ويقول في سورة الإِنسَان: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] ويقول في سورة السجدة: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق هذا الإِنسَان وجعله مكلفاً مختاراً، فإن شاء اختار طريق الحق وإن شاء اختار طريق الضلال.(1/1466)
ولكن اقتضت حكمة الله تَعَالَى أن يكون في النَّاس أهل حق واستقامة وهدى، وأهل باطل وغواية وضلالة كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:118-119] وهذا أمر فوق السؤال، فلا يقال: لماذا؟ فكلمة الله تمت بذلك، وقضى به وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا أي: ولو شئنا لوفقناها وآمنت واستقامت عَلَى الحق، أما قوله: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ.
فالمقصود هنا: هداية الدلالة والإرشاد، أي: دللناه وأرشدناه وبينا له معالم الطريق، وعليه أن يختار بعد ذلك إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً وهذا راجع إِلَى إرادته، أما الذين أعطاهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هداية التوفيق فهم المؤمنون الذين آمنوا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا أي: الأمر كله راجع إِلَى مشيئتنا، فلو شئنا لكان النَّاس أمة واحدة عَلَى الهدى والحق، ولكن حق القول مني، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] .
فهذه الكلمات هي الكلمات الكونية، وليست الكلمات الشرعية، فالقرآن كلام الله عزوجل هو كلماته الدينية الشرعية، أما كلماته الكونية فهي أوامره التي خلق بها الأشياء.(1/1467)
ويقول الله تَعَالَى في سورة يونس: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99] فمن كفر فإنما كفر بمشيئة الله، ومن آمن فإنما آمن بمشيئة الله هذا وجه الدلالة، ولا إشكال فيه، وقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وموضع الآية هنا واضح إذا فهمنا مدلول الآية كلها.
نجد أن كثيراً من المهزومين أو المخدوعين يقولون: إن هذا الدين دين دعوة فقط لا جهاد ولا قتال فيه، وإنما يدعو النَّاس إِلَى أن يؤمنوا به بطواعيتهم وباختيارهم، ويستدلون بقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ويقول: قال تَعَالَى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة:256] .
إذاً: ليس في الإسلام قتال من أجل الدين ولا جهاد، فإن قلنا: فهذه الفتوحات الإسلامية، والغزوات النبوية قرابة ثلاثين غزوة وقرابة المائة سرية، والصحابة من بعده وصلوا إِلَى نهاية العالم من جهة الغرب إِلَى المحيط الأطلسي، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت أن وراء هذا المحيط عالماً آخر.
وتوغلوا من جهة الشرق حتى وقَّع لهم ملك الصين على دفع الجزية، ولم يبق شيء من العالم إلا أوروبا وهي قبائل همجية في الشمال وأجزاء قليلة في الجنوب، كيف يكون هذا المجد وهذا الكسب؟ قالوا: هذه حروب دفاعية فقط، فقريش أرادت أن تعتدي عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاومها وحاربها ويستدلون بقوله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190] .(1/1468)
فيأخذون هذه الآية مع الآيتين السابقتين ويشكلون منها قواعد وأحكام يقررونها، وهي أن هذا الدين لا جهاد فيه فيُقَالُ لهم: إن معنى قوله تعالى: لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أنه قد كتب أزلاً وقدراً أن أناساً سيموتون عَلَى الكفر، وستمتلئ منهم جهنم، أما قوله: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فمعناها: أنهم لن يؤمنوا مهما بذلت وحاولت، وقد اختاروا الكفر بإرادتهم واختيارهم، وهذا مطابق لما قد كتب عليهم كوناً وقدراً.
وليس المقصود من هذا أنك لا تجاهدهم، بل معناها: حتى وإن جاهدتهم فلن يؤمنوا، سواء دعوتهم سراً أو جهراً بالحكمة أو السيف؛ لأنك لا تستطيع أن تكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين، فقد اختاروا ذلك اختياراً، ولن يرجعوا عن ذلك، ولا يمكن واقعاً أن يتحول النَّاس إِلَى أمة واحدة، فاقتضت حكمة الله تعالى وتمت بذلك كلمته أن يكون النَّاس أمة خير وأمة ضلال، وقد جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين لحكمة.
إذاً: لا تستغرب أيها النبي لأن لك أعداءً، وأنت تحرص عَلَى هدايتهم ومع ذلك لن يهتدي أحد أبداً.
ولاعلاقة لهم في كونك تجاهدهم أو لا تجاهدهم، فأمر الآية يتحدث عن أوامر كونية أزلية، وليس عن أوامر أو أحكام شرعية تعبدية؛ فحتى مع الجهاد -وهو مشروع بلا ريب لكي يدخلوا في الدين- لن يؤمن إلا من كتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له الإيمان، لكن يجب عليك أن تقاتل كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ [التوبة:73] أي: جاهدهم، لكن ليس في حولك ولا في قوتك أن تدخل الإيمان إِلَى قلوبهم، ولم يكلفك الله به، ولكن كلفك أن تدعوهم وأن تجاهدهم، إذاً لا تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك.
الفرق الضالة التي أنكرت الجهاد(1/1469)
الذين أنكروا الجهاد كثير منهم الروافض ولهذا سموا الخشبية لأنهم صنعوا لهم سيوفاً من الخشب، وَقَالُوا: لا جهاد إلا مع الإمام، وما دام أن الإمام لم يتول الحكم وكان الأئمة غائبين أو مجهولين، فالسيوف تكون من الخشب، فلما أن أختفى -بزعمهم- الإمام الثاني عشر ودخل السرداب، قالوا: لا جهاد، ولا جمعة، ولا أي حكم من الأحكام التي تتعلق بالإمامة، ولو كانت عَلَى مذهبهم وفقههم، إلاّ إذا خرج الإمام من السرداب.
ولهذا خالف منهم من خالف، وأصبح الذي يخالف منهم يعد مجدداً أو نائباً عن الإمام، لأنه غير هذا الحكم، الذي لا يقوم به إلا الإمام، ومع ذلك اتبعوه بزعم النيابة عن الإمام، وكذلك لما انتشر الاستعمار في دول العالم الإسلامي، أراد أن يقضي عَلَى فكرة الجهاد قضاءً مبرماً، وكذلك الأفكار الوافدة تأثر بها عدد كبير من الْمُسْلِمِينَ.
فالاستعمار أوجد القاديانية التي من أهم أركان دينها إنكار الجهاد، وكَتَبَ القادياني الذي ادَّعى النبوة يقول: إنه يجب إعطاء الولاء للحكومة البريطانية، لأنها حكومة هيأها الله واختارها وأورثها الأرض، فلا يجوز لأي مسلم أن يخرج عليها أو أن يجاهدها، ومن فعل ذلك فقد خالف أحكام الدين وأوامر الله، وكذلك البهائية وغيرها من الفرق التي أنكرت الجهاد.
الغزو الفكري ودوره في القضاء على الجهاد
أما بالنسبة للغزو الوافد الذي اصطنعه الاستعمار وتأثر به كثير من الْمُسْلِمِينَ، فقد خُيَّلَ إليهم أن الجهاد خاصٌ بعصور الهمجية والانحطاط.
يقولون: إن الإِنسَانية لما كانت في عصور الهمجية والانحطاط -في المرحلة التي أشار إليها المحللون والمفكرون الغربيون ومنهم كونت صاحب المدرسة الوضعية وغيرها- مرت بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة الخرافة، والسحر، والكهانة.
المرحلة الثانية: مرحلة الدين.(1/1470)
والمرحلة الثالثة: مرحلة العلم، ومرحلة الدولة الحديثة التي ظهرت ابتداءً من الثورة الفرنسية التي أعلنت مساواة النَّاس في الحقوق والواجبات، ولذلك فليس هناك من مجال لأن يقتل الإِنسَان أخاه الإِنسَان وهكذا يصدرون هذا الكلام لنا.
ولم يشهد العالم حروباً دامية مدمرة مثل الحروب التي دارت في أوروبا منذ الثورة الفرنسية إِلَى الآن، مثل حرب السبعين وهي الحرب المشهورة بين الإنجليز والفرنسيين، والحروب بين ألمانيا وفرنسا، والحروب بين ألمانيا وانجلترا "الحربان العالميتان" حروب طاحنة، ويقولون: إن ميثاق الثورة الفرنسية -الذي أصبح بعد ذلك أكثر تطوراً بميثاق حقوق الإِنسَان- قد تكفل بأن يعيش العالم الإِنسَاني أسرة واحدة -يسمونها الأسرة الدولية- وكلهم إخوة وأحبة، وعلى ضوء مواثيق الأمم المتحدة لا يكون هناك قتال بين الناس، وعقدوا اتفاقيات تسمى اتفاقيات تحريم الحرب، منها اتفاقياتباريس، ثُمَّ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك اتفاقيات تحريم الرق، ويقولون: إن الإِنسَان أصبح إنساناً حراً متحضراً متطوراً.
وقد تسامى وترفع عن عصور الانحطاط والجاهلية، التي كَانَ الإِنسَان يهاجم فيها أخاه الإِنسَان ويغزوه، وهذا الكلام يصدر إِلَى العالم الإسلامي ويشاع ويكتب، بل حتى كتب عن الجهاد في الإسلام بما يؤيد هذه الفكرة الاستعمارية والخديعة الماكرة، في حين أن الغرب لم يتخلَّ قط عن الأخذ بأسباب القوة، فالذي يُدرس في أوروبا يقال علناً في كل مكان وهو: "إن الحياة صراع والبقاء للأقوى"، هذا قانون علمي يدرَّس كنظرية علمية في الأحياء وفي الجيلوجيا وفي غير ذلك.(1/1471)
وكذلك في واقع الحياة، ولهذا لا مجال لرحمة ضعيف هزم، في حين أنهم يصدرون إلينا المعاني الإِنسَانية التي تتضمن ترك هذا الواجب العظيم من الواجبات التي فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، فتصبح الأمة الإسلامية ذليلة تابعة، وقد أسهمت الصوفية والمرجئة وغيرهم في إلغاء الجهاد، وفي كتابأهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية للدكتور علي العلياني تفصيل لهذه الأمور.
وأما الحديث عن القدر فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد قدَّر وقضى كوناً: أن النَّاس عَلَى طريق السعادة أو طريق الشقاوة، وقال تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] فهنا يثبت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المشيئة للعبد، فلا شك أن العبد ما دام أنه حي فهو بطبيعته فاعل متحرك، وهو عامل لأنه حارث وهمام.
فبطبيعته يعمل ويتحرك، وهذه الحركة لا تكون إلا عن اختيار ومشيئة، إذاً فمشيئة العبد لا شك فيها، وأنها ليست موضع نقاش ولا جدال، أما قول: الجبرية فهو أمر خارج عن العقل والفطرة والشرع، وليس لهم شبهة في الحقيقة.
أما نفي القدر فله شبهة التبست ووقع فيها بعض النَّاس، ولقد رد القُرْآن والأحاديث الصحيحة وأهل العلم عَلَى هذه الشبهة، فالله يقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فلستم مستقلين بأعمالكم ولا بإرادتكم، وإنما هي وفق مشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما شاء كَانَ وما لم يشأ لم يكن، كما قال الشاعر:-
فما شئتَ كَانَ وإن لم أشأ وما شئتُ إن لم تشأ لم يكن
مشيئة العبد تابعة لمشيئة الخالق(1/1472)
المشيئة المطلقة هي لله عَزَّ وَجَلَّ والعبد له مشيئة، لكن قد يشاء العبد أمراً فلا يكون إلا ما شاءه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا فالقدرية الذين يجعلون العبد مستقلاً بمشيئته، وقد وقع لهم عدد من النماذج، وقد روى اللالكائي -رَحِمَهُ اللَّهُ- من ذلك قصتين منها:
أن رجلاً من القدرية كان جالساً مع بعضأهل السنة وكان في يده بيضة فقَالَ: يقولون: إن الإِنسَان لا يفعل ما يشاء فها أنا أشاء أن آكل هذه البيضة من الذي يمنعني فوضعها في فمه، وكان موجوداً عنده بعض منأهل السنة فلما وضعها في فمه طرحوه عَلَى الأرض واستخرجوها من فمه وألقوها، وقالوا له: أين مشيئتك؟(1/1473)
فالإِنسَان قد يشاء الأمر ويهيئ كل أسبابه وفي آخر لحظة تذهب تلك المشيئة وتلك الأسباب؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يشأ؛ ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى كما في سورة الإِنسَان: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإِنسَان:30] وهذه مثل التي قبلها، فبعد أن بين في أول السورة: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] لئلا يقَالَ: أنا اخترت طريق الخير بنفسي، مستقلاً عن إرادة ربي ومشيئته، أو اخترت طريق الشر، مستقلاً عن مشيئة الله وإرادته، لذا قال في آخر السورة وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ففي أول الآية إثبات لمسئولية الإِنسَان وحريته في الاختيار، وآخرها فيه إثبات لمشيئة الله الشاملة العامة المطلقة التي لا يحدها ولا يقيدها شيء وقال تعالى: مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] هنا أيضاً هذه الآية والتي بعدها: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125] .
هاتان الآيتان تدلان عَلَى أن الهداية والإضلال من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأنه هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء عَزَّ وَجَلَّ لكننا نجد في سورة النحل قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] وقوله: فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30] .(1/1474)
فالضلالة منسوبة إِلَى الإِنسَان، وحقت عليه، فلم يقل: فمنهم من هدى ومنهم من أضل، ولا تعارض بين الآيات. بل في ذلك حكمة، لاسيما وأن آية النحل قد جاءت بعد أن ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى احتجاج الْمُشْرِكِينَ بالقدر عَلَى نفي الشرع، لأنهم يقولون: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35] يحتجون بمشيئة الله، كأنهم يقولون: إن الله هو الذي شاء أن نضل، فلن نهتدي.
ولو كَانَ المقصود: أن الله شاء أن نضل، بمعنى أنه كتب الضلالة عَلَى من ضل، وهو أيضاً أمرنا وشرع لنا أن نهتدي؛ لأن مجرد إثبات أن الإضلال لا يقع إلا من الله، فليس في ذلك من بأس؛ لأن الله نسب ذلك إِلَى نفسه كما في هاتين الآيتين، لكنهم يريدون أن يجعلوا المشيئة بمعنى المحبة والرضى، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّه.
إذاً: الهداية من الله وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فليس كما تزعمون أن الأمر جبر لا اختيار فيه ولا مشيئة لكم فالضلال جَاءَ استحقاقاً وعدلاً، والهداية جاءت توفيقاً وفضلاً من الله تعالى. كما قال تَعَالَى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29] لكن مشيئة الضلال والإضلال لا تعني أنه عَزَّ وَجَلَّ يحبه ويرضاه أو أنه شرعه وأمر به.
ولذلك عقب المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى ذلك بقوله: [ومنشأ الضلال من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضى فسوى بينهما الجبرية والقدرية أولاً ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه] .(1/1475)
وكلام المُصْنِّف هنا غير دقيق، لأن الإرادة تأتي بمعنى المحبة كما قال تعالى: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً [الكهف:81] فـ"أراد" هنا: بمعنى أحبْ، فالإرادة تأتي بمعنى المحبة، والأصل أن نجعل المشيئة شيئاً، والمحبة والرضى شيئاً آخر مقابلاً لها، أما الإرادة فتأتي للمعنين.
الإرادة الكونية تستلزم المشيئة والشرعية تستلزم الرضا والمحبة
الإرادة الواردة في الكتاب والسنة لها إرادة كونية بمعنى المشيئة، وشرعية بمعنى الرضى والمحبة، فإذا أراد الله أن يُصلي العبد فمعنى ذلك أنه شرعه وأحبه ورضيه، فهذه إرادة شرعية، وإذاً أراد الله أن لا يصلي فمعناه أنه شاء أن لا يصلي، إذاً فالإرادة تأتي بمعنى المشيئة، وتأتي بمعني المحبة والرضى، ولهذا لا يحسن أن يبقى الكلام عَلَى إجماله، فيُقَالُ: منشأ الضلال من التسوية بين المشيئة، وبين المحبة والرضى، لأن الإرادة قد تكون شرعية وقد تكون كونية.
فالإرادة الشرعية مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185] ، والإرادة الكونية تكون بمعنى المشيئة مثل: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ [الأنعام:125] وقد سبق شرح هذا الكلام عند قول الإمام الطّّحاويّ: [ولا يكون إلا ما يريد] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتابُ والسنةُ والفطرة ُالصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب، فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضا، فَقَالَ تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205] ، ولا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] وقال تَعَالَى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38] .(1/1476)
وفي الصحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) .
وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته) وكان من دعائه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة:
فالأول: للصفة.
والثاني: أثرها المرتب عليها.
ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره، ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك.
فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله، ومعرفته ومعرفة عبوديته] اهـ.
الشرح:
منشأ الضلال عند الجبرية والقدرية هو أن كلا الطائفتين قد سوّت بين المشيئة وبين المحبة والرضا؛ لأن الإرادة كما ذكرنا تأتي بالمعنيين، لكنهم سووا بين المشيئة وبين المحبة والرضا.
شبهات في المشيئة
ذكر المُصْنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن منشأ الضلال في التسوية بين المشيئة وبين المحبة والرضا، فسوّى بينهما الجبرية والقدرية.
ثُمَّ اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضاءه وقدره، وكل ما يقع فهو محبوب مرضي عند الله تَعَالَى لأنه واقع بمشيئته، والمشيئة بمعنى المحبة، وهَؤُلاءِ لهم جواب بعيد، لكن التركيز هنا عَلَى القدرية النفاة لأن لهم شبهة، وهي قولهم: بما أن المعاصي ليست محبوبة لله ولا مرضية له.(1/1477)
إذاً فهي ليست بقدر الله، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
ثُمَّ شرع المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في الرد عَلَى هذه الطائفة، فذكر التفريق بين المشيئة والمحبة للرد عَلَى كلا الطائفتين، ولكنه استطرد في الرد عَلَى القدرية النفاة، لأن الفرقة التي يُعْلم فساد قولها بالفطرة والعقل، وبالبديهة، وبالعلم الضروري لا تحتاج إِلَى تفصيل في بيان بطلان مذهبها، لكن الفرقة التي يكون لانحرافها أو لباطلها شبهة قد تلتبس عَلَى بعض العقول فهذه يفصَّل ويطول في كشف شبهتها وبيان باطلها لئلا تعلق تلك الشبهة.
الفرق بين المشيئة والمحبة
قال المصنف: [وقد دل عَلَى الفرق بين المشيئة والمحبة، الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها، وأما نصوص المحبة والرضا فقد قال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205]] وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر [الزمر:7] .
إذاً الفساد غير محبوب لله كما نص عَلَى ذلك صريح القرآن، أنه لا يحب الفساد ولا يرضاه، والفساد واقع في العالم، ولكن لا يقع شيء بغير مشيئة الله، فما شاء الله كَانَ وما لم يشأ لم يكن، فهو سبحانه يشاء الفساد ولكن لا يحبه، كما قال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر [الزمر:7] وكذلك الكفر واقع في العالم.
إذاً هو واقع بمشيئة الله عَزَّ وَجَلَّ، لكن لا يرضاه الله تعالى، فاجتمع فيه أنه بمشيئته، ومع ذلك فهو لا يرضاه، إذاً هو شاءه وقدره كوناً، ولكن نهى عنه وحذَّر منه شرعاً.
ثُمَّ يقول: [وقال تعالى: عقيب ما نهى عنه من الشرك، والظلم والفواحش والكبر كُلُّ ذَلِكَ كَانَ َ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38] .(1/1478)
فيلاحظ هذه الحكمة العظيمة التي عجزت الأمم، وعجز حكماء العالم وعقلاؤه أن يأتوا بأحكم منها، وكيف يأتون بأحكم منها وكلها مبنية عَلَى قاعدة التوحيد، فأعظم ما نهى الله تَعَالَى عنه وجعله من الحكمة في هذه السورة وفي غيرها هو الشرك.
فمن وحّد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وترك الشرك فهذا عَلَى قاعدة الحكمة، فإذا أتبع ذلك بالإحسان إِلَى الوالدين وبترك الفساد، وترك قتل الأنفس وترك الكبر وترك أكل أموال اليتامى، وكل ما نهى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحذَّر منه، فإنه من أهل الحكمة، والمتمسكين بها، وهو حكيم، وإن كَانَ أمياً عامياً، لا يفقه شيئاً مما يسميه الحكماء حكمةً أو فلسفةً أو علماً أو أخلاقاً، أو ما أشبه ذلك، ولهذا عقّب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذا فقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ أي: كل ما تقدم النهي عنه في هذه الآياتكَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [الإسراء:38] .
فالله عَزَّ وَجَلَّ نهى عنه وهو يكرهه وإن كَانَ الله يشاء وقوعه، ثُمَّ يقول: [وفي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال] هذا الحديث في الصحيحين فقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) ] .
هذا الحديث في الصحيحين فقوله: (إن الله كره لكم ثلاثاً) أي ثلاث خصال كرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، والمؤمن إذا علم أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كره شيئاً فإن عليه أن يجتنبه، لأن هذا الأمر هو مما لم يشرعه الله بل نهى عنه وشرع ضده، وقوله: (كره لكم ثلاثاً، قيل وقال) .
ولكن واقع أكثر الْمُسْلِمِينَ اليوم أنهم مشتغلون بالقيل والقال من حق أو باطل، ويفسر ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وهل يكب النَّاس في النَّار عَلَى مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) ، فهذا هو القيل والقال.(1/1479)
(وكثرة السؤال) إن كَانَ السؤال المراد به السؤال في الدين أو في العلم، فما أكثره، وإن كَانَ النهي عن كثرة السؤال في طلب الناس، في أمرٍ من أمور الدنيا، فهذا أيضاً واقع.
(وإضاعة المال) وهذا أيضاً واقع، فما أكثر المبذرين وما أكثر المضيعين للأموال فيما لا ينفعهم، فعلى أي حال من الأحوال فهذه التي كرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى واقعة بين الناس، ومع ذلك فالله تَعَالَى يكرهها، وقد شاءها وقدرها كوناً، ولكنه يكرهها ولا يرضاها شرعاً، ثُمَّ ذكر الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد فيالمسند، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) .
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع الرخص، وشرع ترك المعاصي، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحب أن تؤتى رخصه ويكره أن تؤتى معاصيه، فالمحبة والكره هما بالمعنى الشرعي، أي: شرع لنا أن نأخذ بالرخصة وشرع لنا أن نترك المعاصي، ومعلوم أنه يكره المعاصي.
انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى دعاء النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهور المعروف وهو قوله: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
وقد علق رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى هذا الحديث بتعليق قيم، وهذه العبارات التي ذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هنا هي من نفائس الكلام، وقد ذكر بعضها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، وكذلك ابن القيم، وهذا مضمون ما ذكراه: والحديث جدير بنا أن نتأمله وأن نتدبر معناه، كما قال رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في الأخير: (ولا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته) .(1/1480)
والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتي جوامع الكلم وهي من خصائصه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ميزاته العظيمة وشمائله الكبرى، فهو يعبر عن المعاني العظيمة المتضمنة للحكم والمصالح الكبيرة ولدرء المفاسد والمضار الكثيرة، بلفظٍ موجزٍ قليل، ومعجزته في ذلك من جهة الفصاحة والبلاغة، ومن حيث وقعه عَلَى السمع، ومن حيث معانيه، كل ذلك يجتمع في أوجز وأبلغ لفظ، وكثير من الأحاديث التي قالها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من باب جوامع الكلم التي تحوي العلوم الكثيرة، وهذا الحديث منها.
والذي يتأمله يجد أن فيه غاية التوحيد، فهو يتضمن الخوف من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفيه بيان أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منه المهرب وإليه الملجئ، فالخوف يكون من الله، والالتجاء يكون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك) .
يقول رَحِمَهُ اللهُ: [فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة] لكن الأمر كما قَالَ: [الأول: الصفة، والثاني: أثرها المرتب عليها] فأثر الرضا: المعافاة، وأثر السخط: العقوبة [فاستعاذ بالصفة من الصفة، ومن الفعل المرتب عَلَى هذه من الفعل المرتب عَلَى تلك، ثُمَّ ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إِلَى غيره] وذلك في قوله: [وأعوذ بك منك] قَالَ: [فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك] .
وأن إلى ربك المنتهى(1/1481)
ذكرابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في كتاب الفوائد تعليقاً عزيزاً لطيفاً عَلَى قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] يقول في معنى كلامه: لا يوجد سبب من الأسباب مستقل بالتأثير، سواءً كَانَ السبب خيراً أو شراً، إلا أن يكون المؤثر والفاعل هو: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكل سبب يستلزم وجود سبب آخر إِلَى أن تنتهي أسباب الخير وأسباب الشر -وكل ما يقع في الدنيا من خير أو شر، فالسبب وقوعه هو سبب آخر، والسبب الآخر سبب لآخر.. وهكذا تنتهي- كلها إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا إذا أردت أن تختصر الطريق كحال المؤمنين الموحدين المنيبين، فإنهم إن وقع لهم خير أو شر أيقنوا وعلموا أنه من الله، وأنه بقدر منه، أما الذين لا يؤمنون بالله ولا بالقدر فإنهم إذا وقع لهم هذا الشيء، قالوا: إنه بسبب آخر.
فمثال ذلك: الغبار الموجود.
قالوا: السبب في هذا الغبار الانخفاض الجوي.
فإذا قيل: ما السبب للانخفاض الجوي؟
قالوا: بداية فصل ونهاية فصل.
فإذا قيل: فما السبب في هذا وذاك؟
قالوا: دوران الأرض حول الشمس، أو ما أشبه ذلك.
فإذا قيل: ولماذا تدور، ولماذا..؟ أسباب ثُمَّ أسباب.. وهكذا إِلَى ما لا نهاية، أما المؤمن فيختصر ذلك كله.
ويقول: هذا من الله، دون أن ينكر تأثير الأسباب، التي تنتهي إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي جعلها تؤثر وخلق فيها التأثير، ولهذا نجد أن ما يحسبه النَّاس أسباباً نهائية هو في الحقيقة من العلوم الدنيوية، وأن غاية ما يستطيع العلم البشري أن يفسره من الأحداث الكونية هو أن يبين كيف، لكن لماذا؟ هذا الذي تعجز عنه العقول وإن ادعوا، كيف يقع كذا فيمكن أن يعرف البشر كيف يقع، لكن لماذا يقع؟ هذا هو الذي يعجز النَّاس عن معرفته إلا المؤمنون.(1/1482)
مثال ذلك: السحاب يتبخر من البحر، ثُمَّ يرتفع في طبقات الجو العليا، ثُمَّ يبرد ثُمَّ يهطل عَلَى منطقة كذا من المناطق، فيمكن معرفة كيف وقع وذلك، بأن تتابع هذه العملية متابعة محسوسة حتى تنتهي، لكن لماذا وقع؟
ولماذا في هذا اليوم بالذات؟
ولماذا من هذا البحر بالذات؟
ولماذا خرجت هذه السحابة في هذا الوقت وبهذه السرعة؟
ولماذا سارت ألف ميل أو عشرة؟
ولماذا أمطرت في هذا البلد بالذات؟
ولماذا أمطرت في جزء منه دون جزء؟
هذا الكلام لا يستطيع العلم البشري الإجابة عليه، إذاً نعرف بذلك (أن إِلَى ربك المنتهى) ، وأن نهاية الأمور كلها هي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه خالق الأسباب والمسببات، فإذاً: كل شيء راجع إليه وحده لا إِلَى غيره أبداً.
استعاذة العبد داخلة تحت المشيئة
إذا استعاذ المستعيذ المؤمن المنيب وقَالَ: (وأعوذ بك منك) فهو كما قال رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك) ولكن ما علاقة هذا بالمشيئة؟ أن ما أعوذ منه وأخاف منه وأخشاه فهو واقعٌ بمشيئة الله، وكذلك ما أعوذ به وهو رضا الله ومعافاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى فهو أيضاً راجعٌ إِلَى مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا قَالَ: "بك منك" فمعناه: إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فهو كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمنعي وإعاذتي مما أكره هو بمشيئتك، كما أن هذا الواقع لو وقع فإنه بمشيئتك، أي: أن المحبوب والمكروه كله بقضاءك ومشيئتك.
إذاً: هذا كله تسليم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يقول: (فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك) أي: أعوذ بحول الله وقوته مما يكون بحول الله وبقوته.(1/1483)
لكن لما قَالَ: ورحمتك قابلها بالعدل والحكمة، لأن الرحمة يقابلها العدل والحكمة، وهذه من الدقة في كلامه رَحِمَهُ اللَّهُ، فالعذاب لا يقع برحمة الله، ولكنه يقع بعدل الله وبحكمته وبقوته وبحوله وبقدرته، ولهذا قَالَ: (عياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك) .
ولهذا من الأخطاء في الدعاء أن نقول: (اللهم أهلك الكفار والمنافقين والشيوعيين، برحمتك يا أرحم الراحمين) فلا يناسب أن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفة الرحمة أن يهلك الكفار، لكن نقول: (اللهم اغفر لنا وارحمنا وتب علينا، واشف مرضانا برحمتك يا أرحم الراحمين)
ثُمَّ يقول: (فلا أستعيذ بغيرك من غيرك) المستعاذ منه واقع بمشيئتك، والمستعاذ به هو صفاتك، إذاً لا أستعيذ بغيرك من غيرك (ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك) لما أستعيذ بك يا ربي من الشر، فأنا لا أستعيذ بك من شيء صادر من غير مشيئتك وإرادتك، بل هو مما شئته وقضيته وقدرته، فالمرجع كله إليك وإليك المنتهى.
الراسخون في العلم: أعرف الناس بالله
كما قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته] وصدق رَحِمَهُ اللَّهُ، فإن هذا يتضمن أن العبد لا حول له ولا قوة له، إن وقع به خير أو وقع به شر فهو مسلِّم في ذلك كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1484)
فأصل الشرك والكفر والجهل والجاهلية عند النَّاس هو شعورهم بأن لهم حولاً أو طولاً أو قوة ليست لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليست تابعة لمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو شعر النَّاس أو علموا حقيقة حالهم، وأنهم فقراء إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كل نَفَس يتنفسونه، وفي كل لحظة، وأنه لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يستقلوا بأنفسهم طرفة عين، لكانت عبوديتهم لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى غير ما نشاهد وغير ما نرى، ولهذا كَانَ من دعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعاذته أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، وهكذا المؤمنون، فلو وكلنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا طرفة عين لهلكنا.
ولكنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يدبرنا ويسيرنا بفضله، المؤمن والكافر، لكن المؤمن يستشعر فقره: إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كل شيء، فيكون مقتضى ذلك الشعور أن يعبد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وحده، ولهذا فالمؤمن رغم أنه يأخذ بالأسباب، لكن لا يجوز له أن يعلق قلبه بالأسباب، أو أن يخاف من بعض ما يخيفه، وهو من الأسباب أيضاً، لكن لا يعلق خوفه بالأسباب، فمنتهى الرجاء ومنتهى الخوف يكون إِلَى الله، ولهذا نقول: (أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك) .
السعادة في معرفة الله وعبوديته
يقول المُصْنِّف هنا: إن أصل معرفة العبودية أن تكون مبنية عَلَى الافتقار إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ومن الافتقار إِلَى الله: أن القلوب لا تطمئن ولا تهدأ ولا تسكن ولا ترتاح إلا بأن تعرفه وأن تعبده عَزَّ وَجَلَّ، فإن من لم يعرف الله عَزَّ وَجَلَّ حق المعرفة، ويعبده حق العبادة كَانَ فيه من الشقاء والألم، والنكد والنغص بقدر جهله بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا نجد عصاة المؤمنين أحسن حالاً من الكفار، والكفار شر من ذلك.(1/1485)
فكلما نقصت من قلب هذا المعرفة نقصت السعادة والراحة والطمأنينة، وأكثر النَّاس سعادة وطمأنينةً في هذه الدنيا هم أكثرهم إيماناً بالله، ومعرفةً به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو جاءتهم مصائب الدنيا جميعاً ما لي أقلقتهم لحظةً واحدة.
والمؤمن قد يحزن أو يغتم، ولكن ذلك لا يفقده سعادته وطمأنينته ورضاه بأن كل هذا من الله وإلى الله، وأن لي في ذلك الأجر مهما عظمت المصيبة أو الفتنة، فإنه يرى أن ذلك لم يخرج عن كونه دافعاً وجالباً للطمأنينة، وللراحة التي يجدها.
وأما الكافر فإن قلبه لا يحتمل ذرة من البلاء الذي يصيب المؤمن إلا ويقنط ويجزع ويسخط ويشكو ربه إِلَى النَّاس ويكفر بنعم الله جميعاً من أجل بلية اُبتِلَي بها، لا تعدل ولا تزن شيئاً قليلاً من نعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي أنعمها عليه، فيجب عَلَى الإِنسَان استشعار أنه فقير إِلَى الله، وأن يكون شعوره ومعرفته بأن قلبه لا يطمئن ولا يسكن ولا يرتاح إلا إذا عرف ربه وعبده واتبع مرضاته، واجتنب مساخطه، هذا هو الذي به تتحق العبودية الكاملة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكوّنه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق النَّاس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان: مرادٌ لنفسه، ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد.(1/1486)
والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إِلَى ذاته، وإن كَانَ وسيلة إِلَى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضاؤه وإيصاله إِلَى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه، وإرادته ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل، إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، إذا علم أنها توصل إِلَى مراده ومحبوبه.
بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إِلَى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان، والأعمال، والاعتقادات، والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إِلَى محابَّ كثيرةٍ للرب تَعَالَى ترتبت عَلَى خلقه، ووجودها أحبُّ إليه من عدمها [اهـ.
الشرح:
هذا الكلام قد يكون فيه شيء من الغموض، لكن المراد منه واضح، والإشكال الذي أثاره القدرية ويثيره المعترضون عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هو قولهم: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه، فما دام أنه لا يحبه ولا يرضاه، فلماذا يشاؤه ويقدِّره؟ وذكر المُصنِّفُ مثالاً عَلَى ذلك إبليس، فما يعمل من الشر في العالم لا يحبه الله ولا يرضاه؟ فلماذا خلقه؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهيته.
وسبق أن ذكرنا من الأدلة التي تبين أنه يجتمع في الشيء الواحد مشيئة الله من جهة، وبغضه وكراهيته ومحبته من جهة أخرى.
كيف يجتمع بغض الله لشيء ومشيئته له نفسه؟ يقول: [قيل هذا السؤال هو الذي افترق النَّاس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم] .(1/1487)
وهذا السؤال هو منشأ الضلال عند القدرية، وقد دفعهم إِلَى أن يسووا بين المشيئة وبين المحبة.
الجواب عنها
لقد بين المُصْنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجواب عَلَى مثل هذه الشبهات: (فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره، فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته، ولما فيه من الخير) فمثلاً خَلْقُ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا من أفعال الله التي فعلها وشاءها، وهو محبوب ومطلوب لذاته لما فيه من الخير، فرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير مطلوب لذاته، ومحبوب لذاته [فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد] ، أي: مرادٌ لذات كونه غايةً، فهو مطلوب ومحبوبٌ في ذاته، والنوع الآخر: [والمراد لغيره، قد لا يكون مقصوداً وليس فيه مصلحة له بالنظر إِلَى ذاته، ولو كَانَ وسيلةً إِلَى مقصوده ومراده] ، مثال ذلك: خلق إبليس، ليس مقصوداً ولا مصلحة فيه له بالنظر إِلَى ذاته، "أي: ذات إبليس".
وحكمة الله اقتضت كما بينا وقرأنا الآيات السابقة، أن يكون النَّاس منهم كافر، ومنهم مؤمن كما قال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] فاقتضت حكمته أن يكون النَّاس أمتين، إذاً هذا أمرٌ سبقت به الحكمة، وتمت كلمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بأن يكون للجنة أهل، وللنار أهل.
فهذا الأمر انتهى وفُرغ منه، فإبليس هذا الشر الذي لا يراد ولا يحب لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هو من جهة أنه يتحقق به مراد الله الذي تمت به كلمته، وهو أن يكون للنار ملؤها، وللجنة ملؤها، فإبليس من هذه الجهة مرادٌ لغيره، فيريد الله من إبليس أن يجعل من النَّاس كما اقتضت حكمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيهم من يعصيه فيدخل الجنة، وفيهم من يطيعه فيدخل النار، فوجوده ينتج عنه مصالح، وحكم عظيمة، وإن كَانَ هو بذاته شراً محضاً، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مرادٌ له من حيث قضائه وإيصاله إِلَى مراده.(1/1488)
ثُمَّ يقول: (فيجتمع فيه الأمران بغضه وإرادته) فبغضه من جهة ذاته وشره، وإرادته من جهة ما ينتج عنه من المصلحة والحكمة، [ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما] ، فهذا متعلق بالمصلحة والحكمة، وهذا متعلق بالشر بذاته، وذكر ثلاثة أمثلة واقعية من واقع النَّاس المشاهد المحسوس. منها: أن الإِنسَان نفسه يبغض الشيء من جهة، ويحبه من جهةٍ أخرى ليقر الإِنسَان ويعترف بذلك.
فمثلاً: الدواء في ذاته كريه لكن إذا علم المريض أن فيه شفاءه، مع أن هذا الدواء مر، ومنتن الرائحة، لا يذوقه الإِنسَان ولا يطيقه ولا يريده أبداً، ولو عرضته عَلَى إنسان سليم بأغلى الأثمان لما ذاقه ولا طعمه، ولكن هذا مجرب أنه دواء للعلة التي يشكو منها مريض مقعد مجهد، يعاني من العلل والأمراض والسقم، فيتحمل مرارة الدواء فيستعمله، لكنَّ محبته للدواء ليست لذاتها، لكن لكونها وسيلة إِلَى مرادٍ محبوب وهو الشفاء.
قَالَ: (وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده) ، وهذا أيضاً مثال عقلي واضح، أن الإِنسَان إذا تآكل عضو من أعضاءه بعلة، وهذه العلة ستسري إِلَى سائر البدن ولا خيار إلا أن يقطع هذا العضو، أو أن تسري العلة إِلَى جميع البدن فيموت، فما الذي سيختاره الإِنسَان؟ سيختار القطع، فالقطع ليس محبوباً مرغوباً لذاته، فلا يرضى أحد أن يقطع منه عضواً، لكن لأنه وسيلة إِلَى منفعة وإلى أمر محبوب ومراد وهو الشفاء أو السلامة من تسرب وسريان الداء إِلَى بقية الأعضاء، قَالَ: (وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إِلَى مراده ومحبوبه.(1/1489)
مثلاً: الحج إِلَى بيت الله يركب الإِنسَان في بعض المناطق الباخرة شهوراً، أو يركبون السيارة أياماً وليالٍ، فهذا لا يريد المشقة لذاتها لكن لكونها توصل إِلَى المراد، وإلى المحبوب، أي: إِلَى بيت الله العتيق يستلذها ويستعذ بها، فهي من جهة ذاتها مشقة، ولكن بالنظر إِلَى غايتها ونتيجتها كأنها راحه فيتحملها، فهذه الثلاثة الأمثلة تدل عَلَى أنه لا تنافي بين أن يكون الشيء محبوباً، أو مكروهاً في ذاته، ومع ذلك هو محبوب أو مراد لغيره ليوصله إِلَى النتائج المرجوة منه.
العاقل يعمل بغالب الظن
يقول رَحِمَهُ اللَّهُ: [بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته] ، أي: لو قال الطبيب لأحد المرضى: بتر العضو المتآكل نسبة الشفاء فيه (70%) أو (80%) فإنه سيختار القطع، مع أنه لم يجزم، فلم يقل له (100%) ، لكن (70%) أحياناً أو (50%) ، فسيوافق عَلَى القطع، لاحتمال أن الخمسين الأخرى تغلب.
إذاً العاقل يعمل بغالب الظن، وربما بالظن في تحمل مالا يريد وما لا يحب فيحبه، لما يوصل إليه من محبوب متيقن أو متحقق، يوافق عليه ويقره؛ لأنه يوصل وينتج ما هو محبوب للعبد، هذا في حال العبد، فالعبد المخلوق لو قيل له في أمر من الأمور: هذا نافع (100%) فإنه لا يجزم بذلك؛ لأنه مخلوق، لكن بالنسبة إِلَى الخالق سبحانه فإنه بالنسبة إِلَى ما يعلمه الله مما قد نعلمه هو كله خير وكله مصلحة، ومتحقق فيه مراد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه لا تخفى عليه خافية، وهو يعلم السر وأخفى، ويعلم كل شيء وما تكون عاقبته.(1/1490)
فالنظر إِلَى النتيجة متحقق فيه مرادٌ ومحبوب لله، وبالنظر إِلَى الذات فيه ذلك الشر، فإذا كَانَ العبد في أمور دنياه يعمل بالغالب من الظن، وربما بمجرد الظن ويجتمع له في أمر من الأمور أنه مكروه وأنه محبوب، فالله الذي تخفى عليه خافية، والذي قدَّر كل شيء يجتمع منه سبحانه في أمر من الأمور أنه يكرهه وأنه يريده ويشاؤه.
كراهية الله لذات الشيء لا ينافي إرادته لأجل غيره لأجل غيره
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فهو سبحانه يكره الشيء ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره] فيكره الشيء أي: لذاته، ولا ينافى ذلك إرادته لأجل غيره لا لأجل ذاته، [وكونه سبباً إِلَى أمر هو أحب إليه من فوته] أي: من عدمه [من ذلك خلق إبليس الذي هو مادةٌ لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات] .
أي: المادة التي تمد الفساد، ففساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات من إبليس، أعاذنا الله وإياكم من شره، [وهو سبب لشقاوة كثير من العباد] فكم أضل من النَّاس نسأل الله العافية، قال تعالى: وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ [الصافات:71] وقال أيضاً: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] .
فكم أضل إبليس، فلم ينجو من شره وكيده ومكره إلا القليل، يقول: [وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه] فلو استطاع إبليس أن يصرف الإِنسَان عن الدخول إِلَى المسجد، وقد توضأ وأتى يريد الطاعة، ويصرفه عنه إِلَى مكان الزنا أو الخمر لفعل ذلك ولم يتردد، ولهذا لا يترك العبد لحظةً واحدة، حتى إن غلبه العبد وصلى فإنه يأتيه بالوساوس، ويأتيه بالخطرات وبالمشاكل، ولا يدع العبد لحظةً واحدة، فهذا حاله، عدوٌ لله مترصد لأن يُعصى الله، ولا يريد أن يطاع أبداً.(1/1491)
فهو إذاً الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا الشر المستطير، فإن إبليس [وسيلة إِلَى محابَّ كثيرةٍ للرب تَعَالَى] وإلى أمور محبوبة كثيرة، هي مراده لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى [ترتبت عَلَى خلقه، ووجودها أحبّ إليه من عدمها]
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بعضاً من الحكم في ذلك.
فقال رَحِمَهُ اللهُ:
[منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تَعَالَى عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر، وذلك من أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالّ تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته] اهـ.
الشرح:
إن هَؤُلاءِ القدرية الذين عطلوا حكمة الله، أو سألوا هذا السؤال: كيف يشاؤه وهو يكرهه، غافلون عن حكمة الله في خلق إبليس مثلاً، أو وجود الشر النافذ عنه.
إظهار قدرة الله على خلق المتضادات
من هذه الحكمة العظيمة قي وجود الشر أن يظهر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للعباد قدرته عَلَى خلق المتضادات المتقابلات، فالكون كما ترون الآن فيه متضادات، خير وشر، وصلاح وفساد، وتوحيد وشرك، وسنة وبدعة، وطاعة ومعصية، وأولياء الله وأعداء الله، ومتقون وفجار، وهكذا.
جبريل مثال للخير وإبليس مثال للشر(1/1492)
وكما يقول: فخلق الله هذه الذات أي: ذات إبليس التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فجبريل عَلَيْهِ السَّلام مادة كل خير من جهة أنه رَسُول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الملكي إِلَى رسله من البشر، ولهذا كَانَ التمثيل بجبريل عَلَيْهِ السَّلام، ولم يكن التمثيل بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جبريل هو الذي بلغ الوحي إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك بلغه إِلَى موسى وإلى عيسى وإلى من قبله.
حتى أن ورقة بن نوفل لما جاءته خديجة وأخبرته بشأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: هذا هو الناموس الذي كَانَ ينزل عَلَى موسى ولهذا قال اليهود: إن عدوهم هو جبريل، قالوا: يا مُحَمَّد من الذي يتنَزل عليك بالوحي؟ قال جبريل عَلَيْهِ السَّلام قالوا: ذاك عدونا من الملائكة -عياذاً بالله- ولهذا قال الله تَعَالَى فيهم في سورة البقرة: مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98] .
فهذا يدل عَلَى أن اليهودمن جنس إبليس عياذاً بالله، من نفس المادة -مادة الشر- بل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى سمى اليهودشياطين، كما سمى الشيطان شيطاناً، قال تعالى: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [البقرة:14] أي: إذا خلى المنافقون إِلَى اليهودقالوا: إنا معكم، فهم شياطينهم؛ لأن الشيطان يمد الإِنسَان بالشهوات والشبهات، واليهود أيضاً يمدون الإِنسَانية بالشهوات والشبهات، فانتشار القمار، والزنا، والربا في كل مكان وفي كل عصر عَلَى أيدي هَؤُلاءِ.(1/1493)
فكانوا يأتون إِلَى المنافقين ويقولون: نبيكم مُحَمَّد فيه كذا وكذا؛ لأنهم يعتبرون أن عندهم علم من الكتاب وأولئك أميون، فالمنافقون إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، وإذا خلوا إِلَى اليهود، أي: إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] .
فالغرض من ذلك هو دقة تعبير المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لماّ قَالَ: [التي هي من أشرف الذوات] فلم يقل جبريل أشرف الذوات حتى لا يُفهم أنه يقول: إن ذات جبريل أفضل من ذات مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأن العلماء اختلفوا، هل هذا أفضل أو هذا أو هما سواء، وليس هذا مراد المُصْنِّف هنا، وإنما مراده أن يخرج من الخلاف.
فيقول لك: إن أصل مادة الشر هو إبليس، وأصل مادة كل خير هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام؛ لأن ما جَاءَ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخير والرسالة هو عن طريق جبريل، وكذلك كل ما أتى جميع الأَنْبِيَاء هو عن طريق جبريل عَلَيْهِ السَّلام قَالَ: [فتبارك خالق هذا وهذا] ، فتبارك الله الذي خلق أصل كل شر وخلق أصل كل خير - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هكذا اقتضت حكمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يقول: [كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار] كيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا النهار سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكيف تكون حياتنا لو جعل الله علينا الليل سرمداً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ؟ لا تصلح الحياة، لكن الله جعل الليل وجعل النهار، فاستقامت الحياة والمصالح، وانتظمت أمور العباد، وهذا دليل عَلَى حكمته تَبَارَكَ وَتَعَالَى في خلق هذين الضدين، (الدواء والداء) .(1/1494)
فلو كانت الدنيا كلها أدواء لما صلحت الحياة، ولو كانت كلها دواء، أو لا مرض فيها ولا داء، فإنها تفوت حكم عظيمة، لكن حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنها أدواء ومعها الدواء، ولذلك انتظمت مصالح ومعايش كثيرة لأناس كثيرون، فمرض هذا نفع لذلك، فإن كَانَ الذي مرض بالداء شريراً، استراح الخلق من شره.
وأما إذا كَانَ المريض طيباً، فيستفيد الأطباء من ذلك، وأيضاً مساعدة هذا المريض والإحسان إليه يحصل بسبب ذلك الأجر من الله، وكمثال آخر: أن الله يبتلي بعض عباده بالفقر مع أنه مكروه لذاته -فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكره أن يفقر عبده الصالح- لكن هناك حكم كثيرة وراء ذلك، فيبتليه ليرفع درجته وكذلك الإحسان إليه يكون سبباً في تحصيل الأجر من الله.
وهكذا أمور كثيرة نجد أن لها حكماً عظيمة، يعجز العقل البشري عن حصرها، فتظهر بوجود هذه المتضادات المتقابلات والله تَعَالَى هو العليم بكل شيء. قوله: [والحياة والموت] ، وأيضاً الموت له حكم عظيمة، فإما أن يموت شرير فيستريح الخلق من شره، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مستريح ومستراحٌ منه) .
فلو كَانَ فرعون وماركس وغيرهما -عياذاً بالله- أحياء لما وجد النَّاس راحة في حياتهم، فيكفي أن الأمم والشعوب عانت من شرهم مدة حياتهم، فلما ماتوا استراح النَّاس من شرهم، وكذلك موت الأخيار أيضاً فيه حكمة.
فأفضل خلق الله مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلله عَزَّ وَجَلَّ حكمة في موت النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومنها: أنه بشر فلا يعبد من دون الله ولا يؤله، وليقوم النَّاس من بعده بالدين، وليعلموا أن مسؤلية هذا الدين عليهم.(1/1495)
ولهذا أعلنها الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: (من كَانَ يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كَانَ يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت) وارتد من ارتد من العرب، وتبقى الصفوة المختارة المؤمنة لترد النَّاس إِلَى الدين، وهذه حكمة عظيمة جداً، عرفنا بها أنّ ديننا من مسؤليتنا وأن نشره يكون عَلَى أيدينا، فالله تَعَالَى لو شاء لجعل النَّاس أمة واحدة، لكن حكمة الله اقتضت أن نبذل الجهد، فكم خرج من الْمُسْلِمِينَ، وكم قتل منهم في معارك الفرس والروم، وكم فُتح من البلاد، وأسلم بسبب ذلك أناس كثيرون.
فكان في ذلك كثير من الحكم والمصالح، ومع ذلك فإن موته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصيبة، فأعظم مصيبة حصلت في هذه الأمة فقده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعدلها أي مصيبة عَلَى الإطلاق، ومع ذلك فيها حكمة بل حِكم مما نعلم وما لا نعلم وهكذا.
قَالَ: [والحسن والقبيح] ففي الحسن حكمة وفي القبيح حكمة، فلو كانت المخلوقات كلها حسنة ما عرف أنها حسنة، فُحَسنُ الحسَنِ لا يعرف جلياً إلا بقبح القبيح، ولهذا فإن بعض النَّاس قد يستقبح شيئاً، فإذا رأى القبيح رجع لذلك، وجعل له قيمة عظيمة، ولهذا فشكر النعم يأتي من نظرنا إِلَى من هو دوننا.(1/1496)
فقد أمرنا النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننظر في أمور الدنيا إِلَى من هو دوننا وأقل منا، قوله: [والخير والشر] فلا تصلح حياة النَّاس لو كانت كلها خيراً، فكيف نعرف الأخيار من الفجار؟ فلو كَانَ كل ما وجد في الدنيا خير ما ظهرت ميزة شيء عَلَى شيء، فهذه بهيمة الأنعام جعل الله الخير في ألبانها، وفي لحومها، وفي أصوافها، وفي أوبارها، فيستفاد من جميع أجزائها، حتى عظامها يُعمل منها صناعات معينة، فهذه كلها خير، وفي المقابل: الكلاب والخنازير والحيوانات السامة، هي شر، فجعل هذا وهذا لنعرف نعمة الله علينا بتلك فنشكره، ونعرف نعمة الله أن عافانا من هذه، وكيف لو خلق هذه مثل تلك -عياذاً بالله-.
فإذاً بهذا نعرف أن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة.
خلق المتضادات تحقيق لحكمة الله وكمال تصرفاته
في خلق الله لهذه المتضادات المتقابلات، تبيين قدرة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى أن يخلق ما يشاء، وله في ذلك الحكمة، يقول: [وذلك] يعني وجود هذه المتناقضات والمتضادات [أدل دليل عَلَى كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه"، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محالَّ تصرفه وتدبيره] ، فيصرفها ويدبرها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيسلط إبليس عَلَى الكافرين، فيؤزهم أزاً، ويدفعهم إِلَى الشر، ويسلطه عَلَى المؤمنين فيرفضونه، ويعصونه، فترتفع درجاتهم عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ويسلط العقرب أو الحية، فتلدغ الفاجر فيكون ذلك عقوبةً ونكالاً وكفاً لشره عن الناس، ويسلطه عَلَى المؤمن، فيكون في ذلك رفعاً لدرجته وخيراً وطهوراً له من ذنوبه، وهكذا، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعلها محالَّ تدبيره، يدبر الخير أو الشر كما يشاء عن طريق هذه المحالَّ، وعندنا أمران أمر بهما الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إبليس":(1/1497)
الأمر الأول: أن يسجد مع الملائكة، وذلك عند ما قال الله للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] وهذا الأمر يشمل إبليس أيضاً، فقوله: اسْجُدُ يقابله عندنا فعل آخر، وهو: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم [الإسراء:64] الآية فهنا "اسجد" وهنا "استفزز"، فالأمر بالسجود أمر شرعي، لكن لما قال له: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ [الإسراء:64] فهذه الأوامر كونية، فالله تَعَالَى كوناً وقدراً، قضى بذلك وقدَّره.
[وليس أمراً بفعل ذلك] أي: أذن لك بذلك كوناً وقدراً، لكن النهاية أنت ومن اتبعك مصيركم إِلَى النار، وأما الأمر بالسجود الذي أمر الله تَعَالَى به المؤمنين وهو الأمر الشرعي، فيجب أن يطاع، لا أنه مجرد مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولكن إذلال الشيطان لبني آدم، هذا بمشيئة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يقول: [فخلو الوجود عن بعضها بالكلية، تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير ملكه] فلو خلى الوجود عن بعض هذه بالكلية، كما لو خلا من الليل فكان كله نهاراً، أو خلا من الأدواء وكان الوجود كله شفاءً وعافيةً، أو خلا من الموت فكان الوجود كله حياةً، أو خلا من القبح فكان الوجود كله حُسْناً، أو خلا من الشر فكان كله خيراً لكان في ذلك تعطيل لحكمته ولكمال تصرفه وتدبير ملكه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن وجود هذه المتناقضات والمتضادات فيها تحقيق لحكمته ولكمال تصرفه، فلنتدبر ذلك ونتأمله.
ظهورأسمائه القهرية
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ومنها ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لا بد من وجود متعلَّقها، ولو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء] اهـ.
الشرح:(1/1498)
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أفعال تقتضي وجود وظهور آثاره، ومن أسماءه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "القهار، شديد العقاب، سريع الحساب" فلو لم يكن هنالك من يُقهر، ويُحاسب، ويُعاقب، ما ظهر أثر هذا الاسم، وأيضاً "ذي البطش الشديد".
فلو لم يوجد مجرم مذنب يكون أهلاً لوقوع البطش لما ظهر أثر هذه الصفة.
وفي "الخافض" لو لم يوجد من يخفض ويستحق الخفض لما ظهر أثر هذا الاسم، وهو الخافض.
وفي "المذل" لو لم يوجد من يستحق أن يذلَّ لما ظهر أثر هذا الاسم، أو الفعل.
فالقهار المنتقم يدل عَلَى أنه يوجد من يقهر، ويوجد من ينتقم، عدلاً، ومن عومل بالعدل فقد هلك.
"والضار" لأن الله تَعَالَى هو النافع الضار، فلو لم يوجد من يُضر بإذن الله سبحانه تعالى، وينزل به ضرر من الله، فأين سيظهر أثر هذا الاسم؟
وهكذا كثير من أسماء الله وأفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تقتضي وجود آثارها، وقد ذكر المُصْنِّف آثار أسمائه المقابلة لهذه الأسماء المذكورة وهي المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته.
قال الشيخ: "فإن هذه الأسماء والأفعال" إذاً فبعضها أسماء، وبعضها أفعال، فهو لم يحب أن يدخلنا في قضية، هل هذا اسم أم أنه ليس اسم بل هو فعل، لكن كونها أفعال فلا شك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل الانتقام، فهو إذاً منتقم، فقد سمى نفسه "عزيز ذو انتقام" وكونه "ضار" نَحْنُ لا نذكر هذا الاسم إلا مقروناً، فهو الأسماء التي لا تذكر مفردة، لكن نقول الله هو النافع الضار، والكلام الآن في جانب واحد وهو جانب الضرر، ويأتي بعد ذلك الجانب الآخر في الحكمة التالية التي تليها، فالكلام الآن عن جانب الضرر: القهر، الانتقام، الغضب، العقوبة.(1/1499)
ويأتي بعد ذلك جانب العدل والرحمة، والحلم، والعفو، والستر، والتجاوز، وكذلك أيضاً الرافع والخافض، والمعز والمذل [فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] وكل صفة كمال فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولى وأحق بها عَزَّ وَجَلَّ.
فَيَقُولُ: [لا بد من وجود متعلقها] أي: لا بد أن يوجد متعلق هذا الاسم، أي: لو كَانَ الجن والإنس عَلَى طبيعة الملائكة، لو كانوا خيراً محضاً لما غضب، ولما انتقم، ولا أذل، ولا خفض، ولا بطش بأحد، لأنهم كلهم عَلَى طبيعة الملائكة، لكن لما كَانَ فيهم الأخيار وفيهم الفجار، والأخيار درجات، والفجار درجات.
فمن هنا تظهر آثار هذه الأسماء، فجانب الأشرار والفجار يكون متعلق لهذه الأسماء والصفات، ولهذه الأسماء والأفعال، فينتقم ممن يستحق الانتقام منهم، ويبطش بهم، ويذلهم، ويخفضهم، وفي المقابل ما يتعلق بظهور آثار أسماءه المتضمنة لحلمه وعفوه.
ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هذا بقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم) .(1/1500)
ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قُدِّر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محابَّ الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه إِلَى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] اهـ.
ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن من الحِكَمَ في وجود الخير والشر هو ظهور آثار أسمائه القهرية أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يظهر آثار أسمائه القهرية وأفعاله، مثل كونه قهاراً منتقماً عدلاً ضاراً شديد العقاب سريع الحساب، إِلَى آخر ما تقدم شرحه، فلولا وجود الشر ما ظهرت آثار هذه الأسماء، وكذلك ما يقابلها وهو ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه، وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إِلَى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.(1/1501)
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى موصوف بهذه الصفات لأنه عَزَّ وَجَلَّ ذو حلم وعفو ومغفرة وستر وتجاوز فيقتضي ذلك ويتضمن وجود عبادٍ يحلم عنهم ويغفر لهم ويستر عليهم ويتجاوز عنهم، وهذا لا يكون إلا من عبادٍ لهم ذنوب ولهم أفعال يكرهها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتكون من إغواء عدو الله الذي هو مادة كل شر من أعمال العباد وهو إبليس اللعين، فلكي تظهر آثار هذه الأسماء والصفات والأفعال لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ ذلك الشر موجوداً مع الخير، وكان لوجود الشر حكمة، كما أن لوجود الخير حكمة أيضاً، فوجود هذين معاً واجتماع إرادة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لها مع بغضه وكراهته لها أي: اجتماع ذلك في شيء واحد أو في هذه الأشياء، هو في غاية الحكمة لمن تأمله وتدبره.
يقول: وقد أشار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هذا بقوله: [لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم] هذا الحديث الصحيح تضمن إشارةً إِلَى تلك الحكمة الجليلة، وهو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين لأمته الذين يخافون من الذنوب -وكل مسلم ومؤمن يجب أن يخاف من الذنوب- أن هذا الذنب لا بد أن يقع منكم، ولكن يجب عليهم أن يستغفروا، فالحرج ليس في وقوع الذنب فهو لابد أن يقع.
لكن يجب عليهم أن يبادروا إِلَى الاستغفار والتوبة والإنابة، فهذا أمر جبلت عليه الطبيعة الإِنسَانية، وهي أنها تقبل الخير وتقبل الشر، فقد يغلبها الهوى فتغلب النفس صاحبها، وإن كَانَ ذا إيمان ودين، لكن الواجب عليه أن يرجع وأن يتوب إِلَى ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وهو سبحانه تَعَالَى يغفر له، كما قال الله تَعَالَى في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم) وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الآخر: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) .(1/1502)
فالخطأ من طبيعة البشر، لكن يجب عَلَى الإِنسَان أن يتوب وأن يستغفر، وأن يبادر إِلَى ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى في ذلك، بل إن مما يشاهد ويلاحظ في واقع النَّاس أن بعض الذنوب والمعاصي والأخطاء التي يرتكبها بعض النَّاس ربما كانت سبباً في هدايته هدايةً عظيمة، واستقامته استقامةً لا مثيل لها قبل أن يقع منه ذلك الذنب، وهذا ما عبر عنه بعضهم بقوله: (رب معصيةٍ أورثت ذلاً وانكسارً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عزاً واستكباراً) .
فبعض المعاصي والذنوب يعرف بها صاحبها قدر نفسه ومنزلتها من طاعة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وربما كانت سبباً في إقلاعه عن سائر الذنوب واجتهاده في طاعة الله فترتفع درجته، ويزداد يقينه، ويعرف فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بالتوبة وبالعصمة من الذنوب التي هي أكبر، ويعرف مقدار انحطاط العبد ومقدار غروره، ومقدار ظلمه لربه ولنفسه في حالة الذنب، وهذه العبر والحكم لا تكون إلا بناءً عَلَى ذنب بعد ذنب أذنبه.
انظروا إِلَى أبينا آدم عَلَيْهِ السَّلام! لله حكمة عظيمة حيث قدر له أن يأكل من الشجرة، ألا ترون أن الله تَعَالَى نهاه من الأكل من الشجرة؟
إذاً: الأكل من الشجرة بالنسبة لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مبغضاً شرعاً لأنه نهاه، وهو كوناً وقدراً محبوب أي: مراد مطلوب، فاجتمعت فيه إرادته كوناً مع بغضه شرعاً، والإرادة الكونية لها حكم عظيمة وإن خالفت الإرادة الشرعية. فمن ذلك الحكم العظيمة التي نراها الآن في واقع هذه الدنيا.
كيف ترون الحال لو أن آدم وذريته خلقهم الله تَعَالَى في الجنة وبقوا يتناسلون ويتكاثرون فيها، لما كانت هناك حكمة من خلق الإنس والجن مما هو في الدنيا، ومن حكمة خلق الإِنسَان وحكمة التكليف وتحمل الأمانة , وإرسال الرسل وإنزال الكتب وافتراق النَّاس إِلَى فريقين، هذا يجاهد في الله حق جهاده، وهذا يطيع عدو الله ويتبعه ويعادي ربه.(1/1503)
كل هذه من الحكم التي نراها ووجود خلق من خلق الله اصطفاهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهم الأَنْبِيَاء وأفضلهم هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو تأملنا لوجدنا أنه لا معنى للوجود الإِنسَاني بإطلاق لو كَانَ في الجنة، فهناك نوع شر محض وهم الشياطين المردة، وإن كَانَ في وجودهم خير من جانب، وهناك خير محض وهم الملائكة، ووجود الجنس أو الطرف الذي يمكن أن يكون خيراً ويمكن أن يكون شراً لحكم عظيمة جداً، فوجد عن طريق خلق آدم فخلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادراً لهذا ولهذا، فكان أكله من الشجرة ووقوع الذنب منه الذي لم يرض به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرعاً، لكنه وقع لحكمة كونية فنزل آدم إِلَى الأرض، فلما نشأ عَلَى هذا التراب عرف قيمة الجنة وعرف قيمة الطاعة وعرف أثر المعصية وخطرها وضررها عليه وعلى ذريته.
حتى قيل: إن آدم عَلَيْهِ السَّلام بكى حتى كانت دموعه تجري في الأرض مثل الأنهار من كثرة البكاء، ولا نستغرب هذا لأن من رأى الجنة ثُمَّ جَاءَ إِلَى هذا التراب لا بد أن يبكي؛ لأنه شيء لا يمكن للإنسان أن يطيقه ويأتي إِلَى هذه الأرض، ففي هذا من الحكم والمصالح العظيمة ما لم يكن لولا ذلك الذنب، ثُمَّ استمرت الإِنسَانية قروناً عَلَى التوحيد، حتى وقع فيهم الشرك، فظهرت حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يكون النَّاس مختلفين وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً [هود:118] لكن حكمته اقتضت أن يكون النَّاس مختلفين، وأن يكونا عَلَى فريقين، ثُمَّ نتج عن ذلك إرسال الرسل، وما يكون من رفعٍ لدرجات الرسل ولأتباعهم، وما يكون من إنزال العقاب والعذاب الأليم لمن خالفهم ولمن عصاهم وكفر بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة(1/1504)
يقول: [ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة] إذاً: بالإضافة إِلَى هذه الأسماء المتقابلة من كونه منتقماً وشديد العقاب، وسريع الحساب، وكونه رحيماً وغفوراً وستيراً، أيضاً هنالك أسماء أخرى تظهر آثارها بوجود الخير والشر في هذا الكون، فمن ذلك: آثار أسماء الحكمة والخبرة، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى نفسه في القُرْآن الحكيم بالخبير، يقول: [فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته] .
فكونه حكيماً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخبيراً فهو يخلق ما يشاء كيف يشاء، متى شاء، ويضعه إن كَانَ تصرفاً أو أمراً في موضعه اللائق به، إذاً فكيف تظهر آثار هذه الأسماء إلا مع وجود المتضادات من خير وشر، وطاعة ومعصية، وأولياء له وأعداء، فلو كَانَ الكون كله عَلَى حال واحد لم تتفاوت الأحوال، ولم تظهر حكمة في أن يوضع هذا الشيء في هذا الموضع، فإذاً لو أن النَّاس كلهم عَلَى حال واحدة فلم يكلفوا لم يفهم من ذلك حكمة، ولا يكون لذلك حكمة، لكن عندما يكون في النَّاس الطائع وفيهم العاصي، فيأتي العذاب عَلَى من عصى وكفر، وينجوا من أطاع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيظهر هنالك أثر -فعلاً- أنه حكيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، حيث أصاب هَؤُلاءِ ونجى هَؤُلاءِ وهكذا.
يقول: [فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك] .(1/1505)
إن أشرف ما امتنَّ الله تَعَالَى به عَلَى عباده في هذا الوجود هو الرسالة، وأشرف خلق الله عَزَّ وَجَلَّ وأفضلهم وأعلاهم قدراً ومنزلةً هم الرسل، والله أعلم حيث يجعل رسالته، فله الحكمة سبحانه وتَعَالَى، فهو الحكيم الخبير وهو الذي يضع هذه الرسالة في فلان، ولا يضعها في فلان، وإلا لو كَانَ الأمر موكولاً إِلَى أهواء البشر لقال الكفار كما قالوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] لماذا لم يكن فلان؟ ولماذا لم يكن فلان؟ وما قيمة فلان هذا؟ قالوا: لأنه صاحب مال وصاحب جاه ومنصب، مطاع في قومه إِلَى آخر ما يرونه من صفات.
والله تَعَالَى يقول: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [الأنعام:124] ، ليس هنالك أحد أعلم من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الزخرف:32] .
أما المعيشة الدنيوية فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قسمها بينهم، ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، لكن وَرَحْمَةٌ رَبِكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32] فالرسالة أفضل من كل ما يجمع النَّاس ومن كل ما يعطون في هذه الحياة الدنيا فيقسمونها، هذه الدنيا إذا تجردت عن الإيمان بالله تعالى، فهي أحقر عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا تعادل ولا تزن جناح بعوضة، ومع ذلك لم توكل قسمتها لهم فهل يوكل إليهم قسمة الرسالة وهي أعظم من ذلك، وخير من ذلك، فيضعونها حيث شاؤوا؟!(1/1506)
فالله كونه هو الحكيم الخبير، هو أعلم حيث يجعل رسالته، فهو يخلق ما يشاء ويختار اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] وهو أعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره عَلَى انتهائها إليه، سواءً كَانَ الرَّسُول الذي يصطفيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو كَانَ الأتباع الذين يشكرون الله ويحمدونه عَلَى أن هذه الرسالة قد بلغتنا وجاءتنا.
ولهذا فالمؤمنون لم ينافسوا في الرسالة بأن يقولوا: كيف يكون الرَّسُول فلان؟ ولماذا لم أكون أنا أو فلان؟ لم يقولوا ذلك، بل حمدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشكروه عَلَى أن الرسالة قد أنزلت، وعلى أن هذا النور قد جاء، ووضع في الموضع اللائق، وأن هذا الرَّسُول الذي جَاءَ به هو خيرهم وأفضلهم نسباً وأمانةً وصدقاً وخلقاً وشجاعةً، فحمدوا الله وشكروه وعرفوا قدر هذه النعمة، أما المُشْرِكُونَ فلأنهم لم يقدروا النعمة حق قدرها، ولم يعرفوا الله حق معرفته، ولم يقدروه حق قدره، وكذلك لم يعرفوا منزلة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحقيقية -وإن كانوا مقرين بفضله- لكنه الاستكبار والجحود، فهَؤُلاءِ هم الذين أرادوها أن تكون في غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالله تَعَالَى أعلم بهذا وأعلم بالضد المقابل، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، فإذا نظرنا إِلَى واقع دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه أوذي أشد أنواع الأذى، وأوذي أصحابه المؤمنون، وكان الابتلاء والامتحان والتضييق في مكة، وحوصروا فيالشعب، وهاجر من هاجر إِلَى الحبشة، كل هذا من أجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ أخذ يعرض نفسه عَلَى القبائل فرده أكثرهم، حتى ضاقت به الدنيا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1507)
ولكن هذه الابتلاءات لله تَعَالَى فيها حكمة عظيمة جداً، ارتفعت منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان له الأجر عَلَى هذا الصبر، وعلى هذا الابتلاء.
واختار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعد ذلك الأنصار -الأوس والخزرج- وفضلهم عَلَى كل القبائل، ليكونوا أهلاً لقبول الدعوة ولإيواء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولتكون بلدتهم يثرب -كما كانوا يسمونها- هي المنطلق والمرتكز لهذا الدين، كل هذا فيه حِكَم، فالمؤمنون الأولون الذين عذبوا وأوذوا هم الذين صبروا وصمدوا وعليهم قام هذا الدين، لكن الذين دخلوا في الإسلام بعد الفتح عشرات الألوف، وتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم ينتشر خبر وفاته إلا وارتد أكثر العرب، لأنهم لم يتربوا عَلَى هذا الدين ولم يعرفوا قيمته، لكن الذين كانوا محاصرين، وهاجروا إلى الحبشة، وكانوا يعذبون وتوضع عليهم الصخرات الثقيلة في شدة الرمضاء في مكة ليرجعوا عن دينهم، هَؤُلاءِ لم يرتدوا بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً: لله في إقداره حِكَم، فهذا الأذى الذي وقع من الكفار لا يريده الله بمعنى: لا يرضاه ولا يحبه فلا يرضى الكفر ولا يرضى إيذاء المؤمنين، لكن لما فيه من الحكم العظيمة.
فأهل بدر الذين خرجوا وأكثرهم مشياً عَلَى الأقدام في عتادٍ وعدةٍ قليلة، وكانوا يواجهون من هو أقوى منهم عدداً وقوةً، وكانوا يودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم، لكن كَانَ لله حكمة في أنهم وقع لهم ما وقع، لأن النصر جاءهم مع هذه القلة ومع هذا الضعف والصبر، وبقي لأهل بدر ميزة يتميزون بها عن أهل الإسلام كافة، إذاً في تلك المكروهات حكم ومصالح عظيمة لم تكن لتتحقق إلا بوجود تلك الأسباب المكروهة التي جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/1508)
أرأيتم إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام، لولا أن فرعون كَانَ عالياً من المسرفين في قمة الطغيان والاستبداد والاستعباد وجعل بني إسرائيل شيعاً، يذبح أبناءهم ويستحيي نسائهم، كل هذا الضغط وهذا الظلم الذي كَانَ يعاني منه بنوا إسرائيل، وهذه القوة والجبروت الذي كَانَ فرعونيعلنها أمام النَّاس أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] ، أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52] ، كل هذا الكبر والاستعلاء في الأرض كَانَ فيه مصلحة وحكمة وهو: أن الله جعل موسى عَلَيْهِ السَّلام من أولي العزم من الرسل، وبلغ عند الله منزلة عظيمة، وكلمه ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وأيده ونصره لأنه واجه هذا الظلم العظيم، فلو لم يكن فرعونبهذه المثابة من الكفر لما ظهر بذلك فضل موسى عَلَيْهِ السَّلام وصبره وقوته في مقاومة هذا الباطل وهذا الظالم وهكذا.
ولهذا فالحال كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يبتلى المرء عَلَى قدر دينه، فأشد النَّاس بلاءً الأَنْبِيَاء، ثُمَّ الأمثل فالأمثل) فالابتلاء والكفر والعناد الذي يقع من الكفار وهو مكروه ومبغوض لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكون فيه خير، وهو أنه يظهر به تفاوت المؤمنين ودرجاتهم عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/1509)
ويضرب رَحِمَهُ اللَّهُ لذلك مثلاً بالشمس والمطر والرياح، يقول: التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر، ألا ترون الشمس ألا تؤذي، فمن النَّاس من تؤذيه الشمس بلا شك، ولو أن إنساناً جلس في الشمس يوماً أو أكثر لمرض وتأذى، وقد تؤثر عَلَى بعض المحاصيل أو بعض المنتوجات، وقد تمرض وقد تضر بأنواع من الضرر، لكن إذا قدرنا هذا الضرر الحاصل من الشمس بالخير الذي يحصل منها، وكذلك لو نظرنا إِلَى آثار الشمس عَلَى الحياة وعلى النبات والحيوان والإِنسَان لوجدنا أن النَّاس يتحدثون عنها، وقد وجد العلم البشري من الآثار العظيمة والفوائد للشمس ما لم يكن يعلمه، ولم يكن يتوقعه من قبل، إذاً: فيها أضرار، لكن هذه الأضرار بالنسبة إِلَى المنافع العظيمة لا تعد شيئاً، فوجود شيء أو جانب مكروه في أمر فيه حكمة وفيه مصلحة وفيه خير، لا يلزم أن نلغي هذا الخير كله لمجرد وجود هذا الشيء المكروه، فهذا هو المقصود بالمثال.
وكذلك المطر: قد يهدم بيوتاً، ويغرق بعض الناس، لكن كيف يكون حال النَّاس لو لم ينزل هذا المطر؟ يحل بهم الجدب والقحط وأمور كلها مكروهة للناس نتيجة لانقطاع المطر ولعدم نزوله، وكذلك الرياح فكثير من النَّاس يتضايقون من الغبار ومن الرياح، لكن هل يعني ذلك أن الرياح لا تفيد، أو أن هذا الشيء المكروه كله شر؟! ففوائد الرياح عظيمة، مرسلة من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إن أرسلت بالخير جَاءَ الخير، وإن أرسلت بالشر جَاءَ الشر، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22] .(1/1510)
فجعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لواقح، وهذا من الخير الذي تأتي به الرياح، لكن إذا أراد الله أن يهلك أمةً من الأمم بالرياح أهلكهم بها كما أهلك قوم عاد، أرسل عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات، فهلاك طائفة من النَّاس بالريح أو تضرر من محصولاتهم، أو أمور حياتهم ومعايشهم، لا يعني ذلك أنها شر محض، أو أنها لا تطلب، بل هذا الشر ضئيل محدود بالنسبة إِلَى ما فيها من الخير وإلى ما فيها من النفع العام , إذاً المراد بهذه الأمثلة أن يتضح لدينا أنه قد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون مراداً من جهة، ومع ذلك مكروهاً مبغضاً من جهة أخرى، هذا بالنسبة للمخلوقين وكذلك بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
حصول العبودية المحضة
ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللَّهُ: [ومنها -أي من الحكم أيضاً- حصول العبودية المتنوعة، التي لولا خلق إبليس لما حصلت] لولا هذا العدو الشر المحض الذي لا يأتي بخير وهو إبليس، لولاه لما وجد خير عند كثير من الناس، ولما وجدت هذه العبوديات بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، التي تحصل من وجود هذا العدو الخبيث.
عبودية الجهاد
يقول المصنف: [فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] يحب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجهاد، ويحب المجاهدين في سبيله، ووعد المجاهدين في سبيله بأن لهم الجنة كما قال تعالى:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111] .(1/1511)
هذا بيع عقد بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبين عباده، والجهاد هو ذروة سنام الإسلام فلو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية، لأنه من الذي يُجاهد؟ ومَنْ يُجاهد؟ لكن لما أن جَاءَ إبليس فاتبعه طائفة من النَّاس، فكفروا بالله، فكانوا أعداء الله، وفي المقابل آمنت طائفة من النَّاس، واتبعوا رسل الله، وعصوا إبليس، فكانوا أعداءً لأعداء الله، فسلط الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أوليائه عَلَى أعداءه، فقاتلوهم فكان منهم الشهداء، وكان منهم من نال هذه المراتب العظيمة، وعذَّب أُولَئِكَ وأذلهم بأيدي المؤمنين، كما أنه إذا شاء عذبهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعذاب من عنده، من الأرض أو من السماء، فيخسف بهم الأرض أو يغرقهم أو يرسل عليهم الصيحة أو يعذبهم بما يشاء من أنواع العذاب، إذا ًوجود إبليس هو سبب لوجود هذا الكفر، وهذا الكفر حصلت بوجوده عبوديات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من غير أُولَئِكَ الكفار وهم المؤمنون الذين جاهدوا أعداء الله، فلو كَانَ النَّاس كلهم مؤمنين؛ لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والمعاداة فيه التي هي أوثق عرى الإيمان كما جَاءَ في الحديث (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله) ومنزلة النَّاس من الإيمان بحسب منزلتهم من ولاية الله والمؤمنين وعداوتهم للشيطان وللكافرين، فكل إنسان هو من الإيمان بحسب منزلته من تحقيق هذه الولاية، وتحقيق تلك العداوة، فلا بد منهما معاً، ومن حقق كمال الولاية لله ولرسوله وللمؤمنين وكمال العداوة للكفار ولإبليس اللعين، فهذا هو الذي بلغ الذروة والكمال في الإيمان كما كَانَ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، وكما كَانَ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه من بعده.(1/1512)
فلا تجد قوماً يؤمنون بالله وبرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوادون من حاد الله ورسوله، ولا يجتمع في قلب أحد من النَّاس حب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحب عدو الله إبليس، وحب الكفر والإيمان جميعاً.
هذه الموالاة والمعاداة نتيجة وثمرة لوجود الكفر ولوجود الشر، ولوجود مادة ذلك الكفر والشر وهو إبليس، فتنوعت العبوديات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، تبعاً لوجود هذا الشر الذي هو إبليس وأعوانه.
عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
لو كان النَّاس كلهم مؤمنين ولم يكن في هذا الكون شر، ولم يُخلَق إبليس اللعين لما وجدت المنكرات، ولما وجدت عبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
بل لو كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأتي بمجرد اللسان، أو بالأمر الهين لكان النَّاس كلهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم الصبر والمشقة والتضحية، ولعل في قول لقمان الحكيم لابنه وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ [لقمان:17] لعل في ذلك إشارة إِلَى هذه الحكمة وهي: أنه عقَّب عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، والصبر أعم من أن يكون عَلَى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو أعم من ذلك، لكن كونه يأتي بعده فيه إشارة إِلَى رابطة بينهما، بأنه لا يمكن أن يأمر أحد بالمعروف، أو ينهى عن المنكر إلا ويبتلى، فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر فاصبر عَلَى ما يصيبك، وأنت أيضاً مأمور بالصبر عَلَى الطاعة، ومأمور بالصبر عَلَى المعصية، ومأمور بالصبر عَلَى الأقدار، لكن في هذه الحالة بالأخص إذا أمرت بالمعروف أو نهيت عن المنكر فاصبر، كما قالورقة بن نوفل: {ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك} قالها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أن نزل عليه الوحي، أي: ليتني أكون شاباً قوياً إذ يخرجك قومك حتى أنصرك نصراً مؤزراً.(1/1513)
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أو مخرجي هم} فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لماذا يخرجونني، مع أن الناموس الذي كان ينزل عَلَى موسى نوراً وهداية جَاءَ به جبريل من عند الله، فهذا خير عظيم، أيخرجونني لأنني أنزل الله علي هذا الخير أو جئتهم به؟! فتعجب لأن الله لم يكن أخبره عن حال الأمم السابقة، وعن حال الرسل مع أممهم وأقوامهم، فالذي ينظر أول وهلة يتعجب، كيف يأتيكم ليدلكم عَلَى طريق الجنة ويباعدكم من طريق النَّار فتؤذونه، هذا شيء عجيب كيف يقع؟ قال ورقة: {ما جَاءَ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي} لأنه كان عنده علم من الكتاب، أي حتى ولو كنت تدل النَّاس إِلَى طريق الجنة.
وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قَالَ: {فأنا آخذ بحجزكم عن النَّار وأنتم تتهافتون فيها} ومع ذلك آذوه وضربوه ورموه وفعلوا به ما فعلوا، وهو آخذ بحجز هذه الأمة عن النَّار وهم يتهافتون فيها، فمن جَاءَ بهذا الدين لا بد أن يؤذى، ومن آثار هذه الحكمة أن يتعبد الله بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، ويتعبد بالصبر عَلَى ما ينال الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وإلا لو تأمل العاقل لوجد أنه لا مصلحة في الدنيا لهذا الآمر في أن يأمرني، ولهذا فإن بعض النَّاس الذين لديهم شيء من البصيرة إذا قيل له: اتق الله. يتفكر ويقول: جزاك الله خيراً، يفكر في نفسه هل يريد هذا الإِنسَان أي مصلحة؟ لماذا أمرني ولماذا قَالَ: هذا حلال وهذا حرام؟ لا مصلحة له.(1/1514)
إذاً: جزاه الله خيراً فقد أخذني إِلَى الحق، سواءً عمل أو لم يعمل، كما قال الله: لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً [هود:29] مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] ، لكن هَؤُلاءِ قليل، أما الأكثر فعكس ذلك تماماً يقابلك بالكلام البذيء والاستهزاء والسخرية، ولله تَعَالَى في ذلك حكمة، وإلا كان كل النَّاس آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر، فإذا كان ذلك فكيف تكون ولاية لله؟ وكيف تعلم منزلة أبي بكر الصديق من غيره من المنافقين، الذين كانوا يحلفون ويقسمون أنهم مؤمنون، فالمسألة ليست مسألة أًيمان، فأي إنسان مستعد أن يحلف لك أنه يحب الله ويحب دينه، لكن الحقيقة تأتي في المحن وفي الشدائد والمكروهات، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يريد أن يعذب أوليائه، لكن ليظهر ظهور انكشاف، وإلا فهو تَعَالَى يعلم ذلك، وليعلم أيضاً الخلق أن هذا مؤمن صادق وأن ذاك منافق.
في غزوة تبوك خلفوا ثلاثة من المؤمنين -أي: تأخروا- عن الغزو، فندموا وتابوا، لكن المنافقين لم يفكروا في شيء، بل قالوا: يطمع مُحَمَّد ومن معه أن بني الأصفر "الروم" مثل قريش وغطفان، فكانوا يظنوا أن هذا نهاية الْمُسْلِمِينَ، ولهذا قالوا: قد أخذنا أمرنا من قبل، أي احتطنا وعرفنا أن المعركة خاسرة، فنحن نعرف متى نحارب ومتى لا نحارب، فكأن هذا من الذكاء والتخطيط، هكذا قال المنافقون وزين لهم الشيطان أعمالهم، فلما ظهر أمر الله وهم كارهون، وجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منصوراً بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعاد إِلَى المدينة.(1/1515)
فالثلاثة الذين كانوا حقيقة يريدون الخروج وأعدوا له العدة، فكان من حالهم ما تعلمون، لكن المنافقين جاءوا إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يحلفون له بالأيمان أنه ما منعهم إلا الحر، وآخر يقول: بنات بني الأصفر، وخاف الفتنة أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا [التوبة:49] وقد كان ذلك، والذي يقول غير ذلك، فكل واحد يأتي بالأعذار، فظهر التفاوت الكبير بين الذين لو خرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أي مكان في الدنيا ما فارقوه قط، بل حتى وهم فيالمدينة، كما أخبر عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن في المدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سرتم مسيراً إلا وهم معكم حبسهم العذر) .
فالمعذورون الذين في المدينة تتقطع قلوبهم أنهم لم يكونوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا لهم من الأجر كما لو كانوا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل وادٍ ينزل فيه أو مكان أو مشقة أو جهاد أو نفقة، لأن قعودهم كان عن عذر، فلولا هذه الامتحانات وهذه الابتلاءات ووقوع هذا الخير، ووجود هذا الشر، لما ظهرت تلك العبوديات المتنوعة لله سبحانه تعالى، عبودية الصبر، وعبودية الجهاد، وعبودية كف النفس عن المحارم.
ألا ترون أن التبرج شر عظيم، وهو من أعظم أدواء الأمم، وما أصيبت أمة من الأمم بالتبرج والاختلاط، إلا وكان عاقبتها الدمار، فكل الحضارات الماضية لما تفشت فيها هذه الأمور دمرت، لكن مع أن هذا شر ويجب أن يقاوم وأن يحارب فيه وجه من الخير، فالذي يغض بصره عن هَؤُلاءِ المتبرجات ليس مثل الذي لم ير شيئاً فهو غاض النظر، فظهر في ذلك حكمة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -هذا وهو مكروه ومبغض- وهو أن هنالك من ترفَّع عن هذه الشهوات، وترفَّع عن هذه الرذائل، وينظر إِلَى ما عند الله ويقاوم هذا الشر ويحاربه، إذاً في هذا الشر حكمة ولوجوده حكمة.
عبودية التوبة والاستغفار(1/1516)
وأيضاً هناك من الحكم حصول عبودية التوبة والاستغفار، فالرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً، ثُمَّ سأل ذلك العابد الجاهل هل لي من توبة؟ قال: لا. فأكمل به المائة، فهو لا يزال في شدة قوة الاندفاع للشر، وعندما لم يجد من يفتح له باب الخير ظهر ما كَانَ كامناً عنده من دافع الشر، فأكمل به المائة، فلما ذهب إِلَى العابد العالم وأرشده إِلَى التوبة وأن يذهب إِلَى بلدة كذا، لكي يكون هنالك في البيئة الإسلامية الحسنة، بيئة الطاعة لا بيئة المعاصي، لما حصل ذلك حصلت هذه العبودية العظيمة عبودية التوبة، ألا ترون أن قتل مائة نفس مفسدة عظيمة جداً.
فقتل نفس واحدةٍ مفسدة عظيمة، فكيف قتل مائة نفس؟ لكن حصل من ذلك وتضمن مصلحة عظيمة وهي أن هذا الرجل تاب توبة عظيمة، حتى أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أمر أن تنقبض هذه الأرض، وأن تمتد تلك، لكي تقيس الملائكة فإذا قاست فيكون أقرب إِلَى أرض الخير، سُبْحانَ اللَّه! هذا الذي فعل هذا الفعل وارتكب هذه الجرائم، ومع ذلك يكرمه رب العزة والجلال الغني عنه وعن عبادته وعن توبته بهذه الكرامة، لأن التوبة لها عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شأن عظيم، فلولا تلك الذنوب لما كانت تلك التوبة، والذنوب مكروهة ومبغضة، ولكن التوبة محبوبة مرضية لله، فاجتمع هذا وهذا، وكان هذا الذي هو الخير نتيجة لذلك الذي هو الشر.
عبودية الاستعاذة(1/1517)
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه] وجود إبليس يكون فيه عبودية من جهة، فالإِنسَان المسلم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في كل وقت ويقرأ الأدعية ويذكر الله، ويخاف من أذى هذا اللعين، ويقرأ المعوذات التي تعيذه من الشيطان، ويخاف من هذا العدو أن يباغته فيدله عَلَى شر أو يقحمه في ذنب، كل هذا يجعل المؤمن متصلاً بالله عَزَّ وَجَلَّ، دائماً ذاكراً لله متيقظاً مراقباً لنفسه ولأحواله من هذا العدو، فحصل بوجود هذا العدو خير، وعبوديات لله سبحانه تَعَالَى ما كانت لتحصل لولا هذا العدو، وهكذا.
فَيَقُولُ: [إِلَى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها] إذاً نقول: وجود إبليس ووجود الشر الذي يقود هَؤُلاءِ القدرية إِلَى أن يقولوا: إنه لا يمكن أن يقع أو ينسب الشر إِلَى الله، وأنه لا يقع بمشيئة الله، نقول لهم: بل وجوده فيه من الحكم العظيمة، ما تعجز العقول عن إدراكها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[فإن قيل: فهل كَانَ يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟
فهذا سؤال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب. والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد عَلَى وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إِلَى محبوبه، وإن كَانَ يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضا؟؟ فهذا سؤال له شأن.(1/1518)
فاعلم أن الشر كله يرجع إِلَى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إِلَى خلافه. وحركتها من حيث هي حركة: خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية] اهـ.
الشرح:
بعد أن بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ الأمثلة والحكم الكثيرة في وجود الخير والشر، وما تضمنه الخير والشر من المصالح العظيمة أورد سؤالاً قد أثاره أهل البدع والقدرية من قبل.
وهذا السؤال هو أن يقَالَ: فهل كَانَ يمكن وجود تلك الحكم بدون تلك الأسباب، أي: قد يقول قائل: هناك حكم من الشر وهناك حكم من وجود سبب الشر وهو إبليس، لكن ألا يمكن أن توجد الحكم مع عدم وجود الأسباب؟ هذا من الناحية العقلية سؤال يرد، فأجاب المُصنِّفُ عنه فقَالَ: [هذا سؤل فاسد! لأنه فرض وجود الملزوم بدون لازمه-أي- كفرض وجود الابن من غير الأب] ووجود الأبناء أمر محبوب ومراد ومطلوب، فلو أتاك رجل فقَالَ: ألا يمكن وجود ابن من غير أب أو من غير زواج؟ فإنك تقول له: هذا السؤال فاسد؛ لأن حكمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اقتضت أن ترتب هذه الأسباب وتكون النتائج تبعاً لتلك الأسباب، فهذا نتيجة ذلك، فسؤالك عن وجود النتائج مع عدم الأسباب هذا سؤال فاسد لا يقبل.(1/1519)
إذاً فالسؤال: ألا يمكن أن تقع الحكم التي أرادها الله من وجود الشر مع عدم وجود الشر، هذا أيضاً سؤال فاسد ولا يرد، لأن هذه الحكم لا توجد ولم توجد إلا مرتبطة بوجود ذلك السبب الذي نتجت منه، وكذلك [وجود الحركة بدون متحرك] نفس الشيء، فقد اقتضت حكمة الله أنه لا يمكن أن توجد حركة إلا بوجود متحرك، [ولا توبة إلا بوجود تائب] هذا هو المقصود بكلام المُصنِّفُ هذا.
إذا كانت أقدار الشر لحكمة فهل يحبها الله من وجه؟
وبعد ذلك أثار إشكالاً آخر أدق من ذلك وأغمض، لكن يمكن أن نوجزه رغم أن المُصْنِّف أطال فيه. وهذا سؤال يرد عند بعض النَّاس فيقولون: إذا كانت هذه الأسباب يعني: "إبليس، الكفر، الشر"، مرادة لما تفضي إليه من الحكم كما سبق، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه؟، أي هل نقول: إن الله يرضى وجود إبليس ووجود الكفر، ويرضى وجود التبرج، لما ينشأ منه من فوائد وحكم وإن كَانَ مسخوطاً من حيث ذاته أو من حيث كونه معصية من أوجه أخرى؟ أو نقول: إنها مسخوطة من جميع الوجوه بإطلاق؟
السؤال يرد عَلَى وجهين [أحدهما: من جهة الرب تَعَالَى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضائها إِلَى محبوبه، وإن كَانَ يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن] هذه القضية لها جهتان: من جهة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: هل يكون محباً لهذه المعصية؛ لأنها تفضي إِلَى طاعات وإلى عبوديات له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويبغضها لذاتها، ويكرهها ويعذب من فعلها ويمقته ويمقتها؟ هذا من جهة الرب.
ومن جهة العبد: هل يسوغ للعبد أن يرضى بها من تلك الجهة؟(1/1520)
لا يوجد مسلم يرضى بالمنكر، لأنه ليس وراء الإنكار بالقلب من الإيمان مثقال ذرة، وقد لا يستطيع الإِنسَان أن يغير باليد أو باللسان، لكنه لا بد أن يكرهه بقلبه، فلا يوجد مؤمن يرضى المنكر بقلبه، فإذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا مؤمن وأكره هذه المنكرات، لكن من جهة أنها صدرت من الله، وأن لله تَعَالَى حكمة في صدورها، فأنا أرضى عنها من هذه الجهة، لا من جهة أني أقرها ولا أكرهها، لكن هناك فرق عن كونها ذنباً إِلَى كونها مصيبة، فأكل الربا أو شرب الخمر أو الزنا أو التبرج، إذا نظرت إليها من جهة أنها ذنوب فموقفك منها الإنكار المطلق، لكن إذا نظرت إليها من جهة أنها مصائب، فأنا من هذه الجهة راضي بالقدر، لكن لا يرضى من جهة المعصية، فالجهة منفكة، والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ لم يأت بجواب حاسم في المسألة، ولهذا وضحناها وقلنا: إنه يمكن أن تُرضى من جهة كونها مصيبة لا من جهة كونها معصية، فالجهتان تختلف.
نعم المعصية هي في نفس الوقت مصيبة، لكن كونها معصية لا ترضى، والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا رد الأمر إِلَى أصل آخر ليبين لنا كيف نفهم هذه القضية وأمثالها، يقول: [فاعلم أن الشر كله يرجع إِلَى العدم] الشر كله مرجعه إِلَى عدم الخير، وعدم الأسباب المفضية المؤدية إليه، فهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، ووضح ذلك، بأن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، والنفوس الشريرة، أتاها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها في الأصل خلقت متحركة، فأصل وجود إبليس كمخلوق من خلق الله، ويتحرك.(1/1521)
فهذا الأصل في ذاته خير، مجرد أنه موجود وله قدرة عَلَى أن يتحرك وأنه يخاطب وأن يتكلم، لكن الشر جَاءَ من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خذله وقطع عنه مادة الخير فأصبحت حركته في الشر، فليس الشر ناتجاً من وجوده ومن حركته، وإنما من عدم إمداده بالخير، وبانقطاع مادة الخير عنه، يقول: لأنها خلقت في الأصل متحركة، فإبليس أو الثعابين أو العقارب أو أي شيء من النفوس التي هي نفوس شر، خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إِلَى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة لا توصف بالخير ولا بالشر، لكن من جهة أن الله أوجدها خير، وإنما تكون شراً بالإضافة؛ لا أن الحركة نفسها شر، فكونها حركة ظلم أو حركة عدوان أو حركة بغي أو حركة بطش.
إذاً هي شر بالإضافة، لا أنها مجرد حركة أو مجرد وجود، والشر كله ظلم، والظلم يعني: وضع الشيء في غير محله، إذاً: فالشر كله ظلم، إذاً عرفنا أن الشيء في ذاته يختلف عن الشيء في الإضافة، فالشيء في ذاته ووجوده في ذاته لا يكون شراً ولا خيراً، وهو بالنسبة إِلَى إيجاد الله له خير، لكن بالنسبة إِلَى إضافته إذا وضع في غير موضعه أصبح شراً، يقول: [فجهة الشر فيه إذاً نسبية إضافية] ، وضرب لذلك مثلاً بالعقوبات، مثل قطع يد هل هو خير أو شر؟ ننظر إِلَى السبب، فإذا قطعت يده من أجل أنه أراد أن يمدها إِلَى خير -إِلَى أمر بمعروف أو نهي عن منكر- فقطعت يده فهذا يكون شراً، وإن سرق مالاً من حرز معصوم فقطعت يده فهذا خير، فجاء الخير من أن الحركة وفقت، وكانت فيما يرضي الله، وجاء الشر من انقطاع مادة الخير، فهو إضافي وليس لذات الفعل المجرد.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:(1/1522)
[ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إِلَى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه، والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كَانَ إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.
فإن قيل: لِمَ تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشَرِ، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: (الإيجاد، والإعداد، والإمداد) ، فإيجاد هذا خير، وهو إِلَى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده.
فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده. فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده] اهـ.
الشرح:
العقوبات مثال من الأمثلة التي تؤيد أن الأمر قد يكون شراً من جهة، وخيراً من جهة أخرى، فالرجل الذي يسرق، ثُمَّ تقطع يده، فإن هذا بالنسبة إليه شر، لكن من إِلَى جهة أخرى فإنها خير.(1/1523)
ثُمَّ يقول: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالّها خيراً في نفسها] فقوله: [الموضوعة في محالها] تخرج بذلك فيما لو عاقبت إنساناً بعقوبة، أو حدٍ وهو بريء، وإنما المقصود بقوله: [في محالّها] أي: المحل الذي وقعت في ذلك الرجل الذي عُوقب بهذه العقوبة، وذلك الحد، ثُمَّ يقول [لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة، مستعدة له] فطبيعة ذلك الإِنسَان لا تريد الألم، وإنما تسعد وترغب في اللذة والراحة، لكن حصل لها الألم بذلك الحد، ثُمَّ يقول: [فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إِلَى الفاعل، حيث وضعه في موضعه] أي: أنه خير بالنسبة إِلَى الفاعل، وكذلك للمجتمع جميعاً، حيث وضعت العقوبة في موضعها.
لا يوجد في خلق الله شر محض من جميع الوجوه
ثُمَّ يقول: [فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات] وهذا هو وجه تنزيه الله عن كون الشر ليس إليه، [فإن حكمته تأبى ذلك] أي أن الله تَعَالَى حكيم، وحكمته تأبى أن يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، وإنما يخلق شراً وفيه جوانب من الخير، ويحقق به حكماً ومصالح، فَيَقُولُ: [فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال] أي: محال عن ذي العزة والجلال المتصف بصفات الكمال، أن يكون هذا من شأنه [فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه] وهذا معنى نفي الشر عن الله وتنزيه عنه [والشر ليس إليه] .
[والشر ليس إليه] هذه اللفظة يفهمها أهل السنة فهماً مغايراً لفهم المعتزلة لها، يقول أهل البدع: إن معنى والشر ليس إلى الله أي: أنه لم يخلق أفعال العباد، فالعباد إذا عصوا وفعلوا الموبقات والمنكرات، يقولون: إن الله لم يخلقها، فإن قلنا: إن الله خلقها أو شاءها وقدرها، فنكون قد نسبنا الشر إِلَى الله، والشر ليس إليه.(1/1524)
أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيعنون بقول: [والشر ليس إليه] أي: ليس إليه شراً محضاً بوجه من الوجوه، أما إذا كَانَ الشيء قد يبدو شراً وفيه خير، أو هو شر بالنسبة إِلَى المخلوقين، ولكن فيه خيراً بالنسبة إِلَى حكمة الله، وإرادة الله، فإن هذا لا يسمى شراً، فتنزيه الله عن الشر أي: أنه تَعَالَى منزه أن يخلق أو يريد أو يشاء شراً، لا خير فيه بوجه من الوجوه، ويلاحظ الفرق بين المذهبين.
ثُمَّ يقول: [بل كل ما إليه فخير] أي: كل ما إِلَى الله هو خير، حتى وإن كَانَ شراً في ذاته، فهو من جهة نسبته إِلَى الله خير، ويأتي الشر من جهة أخرى.
أقدار الله خير ومعصية العبد شر
قوله: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه] أي: أنه إذا كَانَ فيه جهتان: من جهة كونه من الله فإنه خير، ومن جهة كونه من غير الله أو فيه نسبة إِلَى غير الله فإنه شر، ثُمَّ يقول: (فلو كَانَ إليه لم يكن شراً فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً) يعني: إذا أحد عصى الله -كأن يزني مثلاً عياذاً بالله- فهذا من جهة أن الله قدره فهو خير، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يقدر شيئاً إلا لحكمة، ولأمر قد نعلمه، وقد لا نعلمه، لكن من جهة أن العبد عصى الله وانتهك ما حرم الله، فهذا شر بلا شك، لكن إذا نظرنا إليه من جهة أنه مراد لله مقدر بقدر الله، فهو خير لله تَعَالَى فيه حكمة سواء علمناها أو لم نعلمها.
اعتراض القدرية ورده(1/1525)
أورد القدرية إشكالاً وهو قول المصنف: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة] أي: من حيث أن الله خلقه وشاءه وأوجده، لأن الله تَعَالَى خالق كل شيء، فلا يكون في الكون شيء إلا بإرادة الله ومشيئته، فيقولون: إذاً هذا شر، فلم تنقطع نسبته إِلَى الله من جهة كونه خلقاً ومن جهة كونه مشيئة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قَالَ المُصْنِّفُ راداً عليهم: [قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر] هذا الفعل من جهة الخلق، والمشيئة، ليس بشر [فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر] وجود الأشياء من حيث هي موجودة [كالنفوس الشريرة] وجودها وحركتها في ذاتها ليس بشر.
ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه] هذا مثل ما ذكر المُصْنِّف سابقاً حيث قَالَ: [فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تُرِكت تحركت بطبعها إِلَى خلافه] إذاً: الشر إنما جَاءَ من عدم إعانتها بالخير، أي من كونها وكلت إِلَى طبائعها، وإلى ذواتها، وهكذا، لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكلنا إِلَى أنفسنا لهلكنا، ولهذا كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل الله أن لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين، فالكفار خلى الله بينهم وبين أنفسهم فخذلوا خذلاناً بيناً، وليس ذلك لأن وجودهم شر، فإن الله سبحانه خلقهم، فخلقه ومشيئته في إيجادهم وخلقهم هو خير، وإنما جاءهم الشر من جهة أنهم خُذلوا، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يمدهم بأسباب الهداية، فتركوا لأنفسهم، فجاء الشر من أنفسهم، ومن شياطينهم، ومن أعمالهم التي ارتكبوها.(1/1526)
يقول: [فالشر الذي فيه، من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير] أي أن العدم لا ينسب، لأنه شيء لا وجود له، والعدم ضد الوجود، فليس بشيء حتى ينسب، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ [النحل:36] وقَالَ: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36] .
فبعث الله تَعَالَى الرسل، ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وأقام الرسل حجة الله تَعَالَى عَلَى الخلق فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أمده الله تَعَالَى بالهداية، وتفضل عليه بأسبابها، ووفقه لها وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ومنهم من لم يمده الله تَعَالَى بتلك الأسباب ولا با التوفيق، بل تركه إِلَى نفسه مع أنه رأى بعينه آيات الله البينات، ورأى معجزات الأَنْبِيَاء وغيرها، ولكنه لما وكل إِلَى نفسه خذلته فلم يؤمن، كما هو حال قوم فرعون، فإن الله ابتلاهم بالجراد والقمل والضفادع والدم، وكلما جاءتهم آية جاءوا إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام وَقَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ [الأعراف:134] .(1/1527)
فإذا كشف الله تَعَالَى عنا، فإننا سوف نؤمن بك، فلما كشف الله عنهم ذلك، لم يلبثوا إلا أن يعودوا إِلَى ما كانوا عليه، فهَؤُلاءِ النَّاس جاءهم الشر من عند أنفسهم، حيث إن الله لم يوفقهم بل خذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، ولما وكلوا إليها هلكوا، مع أن الله أعطاهم أسباب الهداية، فرأوا الآيات البينات والدلائل الواضحات، لكنه لم يمدهم في أنفسهم بما يجعلهم مهتدين، فعدم إمدادهم بذلك ليس شراً، لأنه عدم محض، وليس أمراً وجودياً حتى ينسب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ يقول: [والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إِلَى من بيده الخير] .
فحكمته عَزَّ وَجَلَّ أنه يختص برحمته من يشاء، فأعطى أقواماً ومنع آخرين، فلما منعوا جاءهم الشر، لأن نفوسهم مقطوعة عن خير الله، وعن فضله، فتحركت بناءً عَلَى أن ما لديها هو الحق، ومع تزيين الشيطان لها ذلك وقعت في الشر الذي لا يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يقول: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة، الإيجاد، والإعداد، والإمداد] فأمَّا الإيجاد: فقد تقدم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يوجد إلا ما هو خير، أي أنه ليس شراً من جميع الوجوه، ثُمَّ إن أعده أو أمده بالخير فهنا يكمل الخير، ثُمَّ يقول: [فإيجاد هذا خير] أي: إيجاد الذي هو شر هو خير بالنسبة إِلَى الله، [وكذلك إعداده وإمداده، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد] أي: بقي أنه موجود، وبقي أنه مراد، وأنه داخل في المشيئة، ولكن لم يعده الله للخير، ولم يمده بالخير.
الشر في الأسباب وليس في الخلق والوقوع(1/1528)
ثُمَّ يقول: [حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إِلَى الفاعل، وإنما إليه ضده] فهذا إيضاح لما تقدم، وهو أن كونه خلقه الله عَزَّ وَجَلَّ لا يعني أنه من هذه الصفة أو الجهة شراً، لكن من جهة أن صاحبه فعله يكون شراً بعد قيام الحجة عليه. ووجود أسباب الهداية بين يديه، فلو أنَّ أحداً فعل ذنباً محرماً، وهو لا يعلم، كَانَ يكون معذوراً بأي سبب من أسباب العذر.
فإن جهة الشر أيضاً تنتفي منه من الناحية الشرعية، أي أنه لا يسمى شراً شرعاً إلا ما كَانَ متوفراً فيه الشروط التي وضعها الشرع، لاعتبار ذلك شراً أو جريمة أو منكراً أو معصية، فإذا حصلت ولم يتوفر شروطها لعارض من العوارض أو سبب من الأسباب، فإن ذلك لا يكون شراً ولا مكروهاً، مثل حال بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين كانوا يعذبون، حتى أن أحدهم يمر به الجعل، وهو الحيوان المعروف، فيقول له الكفار: قل هذا ربي.
فَيَقُولُ: من شدة التعذيب والأذى والتعب: هذا ربي، وهذا الكلام في ذاته شر، لكنه شرعاً ليس بشر، لأن الله تَعَالَى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان [النحل:106] فهو لم يقل الكفر عَلَى جهة الإنكار للحق والعناد، وإنما قاله وهو مكره، إذاً مجرد الخلق والوقوع والتقدير ليس بشر، وإنما لتوفر أسباب وشروط تجعله شراً أو تجعله خيراً.(1/1529)
ومعنى [إليه ضده] أي: إنما ينسب إِلَى الفاعل أي "الله" ضد ذلك الذي هو الخير، أو "إلى ضده" أي ينسب إِلَى ضد الله الذي هو ضد الخالق وهو الفاعل، ثُمَّ يقول: فإن قيل (هلاَّ أمده إذ أوجده) هذا الإشكال معناه أي: ما دام أن الله أوجده وخلقه، فلماذا لم يمده كما أن هناك أشياء خلقها وأمدها؟ والجواب هو قول المصنف: [ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده] ، حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ لم تقتضِ أن يخلقه، ويمده، ولكن له حكمة في أنه خلق أشياء، وأمدها، وخلق أشياء ولم يمدها، وبهذا يتضح الإشكال الذي سيذكره المُصْنِّف بعده.
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة! وهذا عين الجهل! بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا ولم تفهمه حق الفهم، فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إِلَى ما تستطيع
]] اهـ.
الشرح:
هذا الإشكال تابع لما قبله، فأولاً قالوا: إذا أوجده لماذا لم يمده؟(1/1530)
فيُقَالُ: إن الحكمة اقتضت إيجاده ولم تقتضِ إمداده، ثُمَّ قالوا: [فهلا أمد الموجودات كلها فهذا سؤال فاسد] معنى هذا: أنه يقول: لماذا لم يخلق الله الشياطين والبشر عَلَى نسق الملائكة؟ أو لماذا لم تكن الموجودات جميعاً ملائكة؟ فنقول: هذا سؤال فاسد، فإن الحكمة فيه الآن متحققة خلاف ما لو كانت المخلوقات عَلَى نسق واحد، إذاً فما وقع من الشر في الكون، فهو من جهة المخلوقات التي خلقها، ولم يمدها بأسباب الخير، وهنا يجب ملاحظة الفرق بين قولنا: لم يمدها بأسباب الخير وبين قولنا: إنه لم يبينها، فإن الله تَعَالَى بيَّن لأهل الشر هذا الشر، وأقام الحجة عليهم.
لكن لم يوفقهم للعمل به، ولم يمدهم بالأسباب، عَلَى أن يكونوا من أهل الخير، فخذلهم ووكلهم إِلَى أنفسهم، فهم يعلمون أنه شر فاختاروه، وعصوا الله عَلَى علم، وكفروا به عَلَى بينة.
هل التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة؟
ومورد ذلك السؤال الفاسد هو ظنهم (أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة) فنرد عليهم بقول المصنف: [هذا عين الجهل، بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء] فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت وقع لأمور عدمية يتعلق بها الخلق، وقوله تعالى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] أي: فليس عدم التفاوت المنفي عن الله أنه لم يخلق شراً وخيراً وحقاً وباطلاً، فوجود الأنواع المختلفة ليس تفاوتاً، بل هو عين الحكمة، أما لو خلق الله اثنين من نوع واحد وكلاهما عَلَى الهدى وهما في العمل الصالح، ثُمَّ جعل هذا في الجنة وهذا في النار، فهذا هو التفاوت، ولكن ما دام أن هذا نوع وهذا نوع، وهذا خير وهذا شر.(1/1531)
فليس هناك تفاوت، والطاعة قد تكون خيراً من إنسان، وقد تكون شراً لآخر، فليس في هذا تفاوت من جهة أنها نوعين طاعة ومعصية، إنما يكون التفاوت إذا كَانَ النوع واحداً من جنس واحد، بشروط واحدة وحصل بينهما اختلاف، ولا يأت التفاوت لكون العباد عَلَى نوعين، نوع خير ونوع شر والتفاوت الذي هو تفاوت لا يليق أن يكون من أحد النوعين المتماثلين، فيكون في أحدهما ما يختلف عن الآخر، [فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت] مجرد الإيجاد ليس فيه تفاوت، وإنما حصل الاختلاف في الإعداد والإمداد، فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها، أي ما دام أنه أوجده فلماذا لم يمده؟
الفرق بين الإيجاد والإمداد
هناك فرق بين الخلق والإيجاد، وبين الإمداد وبين العمل الذي نعمله، فكل الأشياء من جهة أن الله خلقها هي خير، إذ لا يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شراً محضاً من جميع الوجوه، وجاء الشر لبعضها من عدم إمدادها بالخير إضافة إِلَى الخلق في ذاته، فهذا المخلوق يعامل عَلَى أنه فاعل يتحرك، إذا أمده الله بالتوفيق تحرك في الخير، وإن تركه ولم يمده تحرك فيما طبع عليه، وما دعته نفسه وشيطانه وهواه إليه، وإن كَانَ الحق واضحاً أمامه، فإن قيل: هلا أمد الموجودات كلها، معنى ذلك ألا يوجد في الكون شراً بإطلاق.(1/1532)
الجواب: أن هذا السؤال فاسد، مورده يظن أن الحكمة أن تكون جميع المخلوقات كلها خيراً، فإذا وجد خير وشر في نظره فقد وجد تفاوت، لكن إذا كانت كل المخلوقات خير لم يحصل تفاوت والله تَعَالَى يقول: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [الملك:3] فرد المُصْنِّف عليه بقوله: الحكمة في هذا وجود هذا التفاوت للأسباب المتقدمة، فالتفاوت الذي ينافي الحكمة ليس في أنه يوجد أنواعاً مختلفة، وإنما التفاوت أن يكون في النوع الواحد، ليس في كون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أفضل الخلق، وخلق في المقابل إبليس، وهذا شر الخلق، فهذا تفاوت كبير. فهناك حكمة عظيمة أن يوجد هذا التفاوت، يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ [البقرة:105] هَؤُلاءِ في الجنة، وهَؤُلاءِ في النار، وقد ظهرت بذلك الحكم العظيمة التي تقدم بعضها. ثُمَّ يقول:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إِلَى ما هو تستطيع
أي: أن هذه الأمور يوردها بعض الذين ينكرون القدر، ويستفسرون عن هذه الإشكالات، لكن نقول لهم: الشيء الذي لا تستطيعونه، ولا تفهمونه دعوه وجاوزوه، إِلَى الذي تستطيعونه وهو التسليم والإقرار.(1/1533)
والأصل في باب القضاء والقدر هو التسليم، كما جَاءَ جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عن الإيمان فقَالَ: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره) ، ولا يمكن أن يعجز أهل السنة عن الأجوبة العقلية، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينزل هذا الدين إلا وهو موافق للعقول السليمة، لكن العقول المريضة والعقول السقيمة، هي التي لا تستطيع أن تفهم ما أنزل الله، فتعارضه أو تضرب بعضه ببعض، فلذلك تجد أن الجبرية أو القدرية أخذت ببعض الدين وأنكرت البعض، لكنأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لا يردون أي حديث ولا أي خبر يأتي من كلام الله ومن كلام رسوله، فيؤمنون بالجميع ويسلمون للجميع.
أقدار الله الكونية يجب الرضى بها
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وأما الوجه الثاني وهو الذي من جهة العبد فهو أيضاً ممكن بل واقع فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني فيرضى بما من الله، ويسخط ما هو منه، فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً وقولهم يرجع إِلَى هذا القول؛ لأن إطلاقهم للكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته، وسر المسألة: أن الذي إِلَى الرب منها غير مكروه والذي إِلَى العبد مكروه] اهـ.
الشرح:(1/1534)
نوضح ما ذكره المُصْنِّف بمثال: وهو أن إنساناً له قريب لا يصلي، فإن هذا الإِنسَان يكره هذا العمل كراهية شديدة، ويكره هذه المعصية من قريبه ويتألم من وقوعها منه، لكن إذا جَاءَ أحد فَقَالَ له: يا أخي هذا كله بقدر الله، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نصبر عَلَى أقدار الله، فإذا كَانَ أبوك لا يصلي أو أمك لا تصلي فلا بد أن تصبر، فهذا قدر الله وهذا أمره، فارض بما كتب الله: أما وقوع المعصية من جهة العبد فليس بمرضيٍ، لكن وقوعه من جهة أقدار الله تَعَالَى مرضي، فنحن نرضى به.
ثُمَّ قَالَ: [فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان] ولو قال: من أهل الإيمان لكان أفضل، وهم الذين قالوا: نرضى بكل ما هو من جهة الله وقدره، ونسخط المعاصي من جهة العبد، [وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً وقولهم يرجع إلى القول الأول] فكرهوها من جهة أنها معصية لا من جهة أنها قدر من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول: [لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته] وإنما يريدون أنها مخالفة شرعية لأمره ونهيه، وهذا هو سر المسألة وخلاصتها: أن الذي إِلَى الرب منها غير مكروه، والذي إِلَى العبد مكروه.
وهذان القولان: القول بالرضى، والقول بعدم الرضى وأنهما يرجعان إِلَى أصل واحد، يذكرنا بما سبق في حديث احتجاج آدم وموسىلما قال: (أنت موسى الذي كلمك الله، واصطفاك برسالته، وكتب لك التوراة بيده، تلومني عَلَى أمر قد كتبه الله عليَّ قبل أن يخلق السماوات والأرض بأربعين سنة، فَقَالَ النبيُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فحج آدم موسى) .
وهذا الحديث لا حجة فيه للجبرية الذين يقولون: نعمل المعاصي ونقول: قدر الله ذلك، لأن هناك مصيبة وهناك معصية، فالمعصية هي أكل آدم من الشجرة، والمصيبة هي: الخروج من الجنة.(1/1535)
فموسى عَلَيْهِ السَّلام لامَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلام عَلَى المصيبة لا عَلَى المعصية، فاحتج آدم بالقدر عَلَى المصيبة، والاحتجاج بالقدر عَلَى المصيبة جائز وصحيح، وبعض العلماء قالوا: الذنب أيضاً يحتج بالقدر عليه من جهة وقوعه قدراً، وهذا الوجه هو الذي يناسبنا هنا، فآدم لم يحتج عَلَى الذنب من جهة أنني أعمله وأستمر -كما فعل إبليس- ولكن من جهة وقوع المعصية بقدر الله عَلَى الجهة المكروهة.
فخلاصة المسألة: العلم بأن ما كَانَ منها إِلَى الله فهو غير مكروه وليس فيه شر، وأن ما كَانَ منها -من أفعال الشر التي يفعلها الخلق- بالنسبة إِلَى العبد فهو مكروه، فالكراهة جاءت من فعل العبد ومن عمله.
قول الجبرية مردود عند جميع العقلاء
والتساؤل الثالث:
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
[فإن قيل: ليس إِلَى العبد شيء منها قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إِلَى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين] اهـ.
الشرح:
إن الجبر الباطل هو: أن لا نجعل للعبد أي إرادة لأعماله، ولا نجعل له نسبة ولا إضافة في أعماله التي يعملها، ومن الجبر الباطل أن نجعل أعمال الإِنسَان الإرادية الاختيارية حين يأكل أو يشرب أو ينام أو يطيع أو يعصي مثل الريشة في مهب الرياح ليس لها أي إرادة، أو أن حركته بيديه أو بعينه مثل حركة قلبه حينما ينبض، وهذا قول لا يوافق عليه عاقل، وقد اتفق جميع العقلاء عَلَى نبذه ومخالفته.
ولهذا قلنا كما سبق: إن القدرية الجبرية ليس لهم شبهة وقولهم مخالف للعقل والنقل ولهذا لا نشتغل كثيراً بإبطال مذهبهم، أما القدرية النفاة فإن في كلامهم من الشبهات والاحتمالات ما قد يلتبس عَلَى كثير من النَّاس، ولذلك أطال العلماء في إيضاح هذه الشبه والرد عليها.
وسطية أهل السنة في أفعال العباد(1/1536)
ثُمَّ يقول المصنف: [هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إِلَى التخلص منه من الجبري] أي: القدري المنكر أقل شراً ممن يقول؛ بالجبر لأنهم ينسبون الشر والفساد والذنوب إِلَى العباد ولا ينسبون ذلك إِلَى الله تَعَالَى، بخلاف قول الجبرية تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
ومذهب أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالق أفعال العباد، وأن العباد فاعلين لها حقيقة.
وخلاصة ما تقدم أن الجبرية يقولون: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد، والقدرية النفاة يقولون: إن العبد هو الخالق، أما أهْلُ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فكما قال المصنف: [وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين] فليس ثمت إشكال يواجههم في قضية أفعال العباد.
فمعاصي العباد كلها بقدر الله وقضاءه وموافقة لإرادته الكونية القدرية، ولكنها مخالفة لإرادته الشرعية -لأمره ونهيه- ولهذا يؤاخذ عليها أصحابها ويعاقبون لأنهم فعلوها بإرادتهم، وهذه الإرادة تابعة لمشيئة الله، فإن فعلوا خيراً جوزوا به، وكان ذلك جزاءً لما فعلوه بإرادتهم واختيارهم من الطاعات، وإن فعلوا شراً عوقبوا به، وكان ذلك جزاءً عَلَى ما فعلوه بإرادتهم وباختيارهم من المعاصي والقبائح.
يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة؟] اهـ.
الشرح:
تقول الصوفية: مادام أنه لا يقع شيء في الكون إلا بحكمة الله ومشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلو شاء الله لما وقع ولا كان.(1/1537)
فكيف يكون الندم عَلَى ما يقع؟! وكيف تكون التوبة مما وقع؟ وكيف ننكر هذا المنكر وهو إنما وقع بمشيئة الله، ولله فيه حكمة؟! فهذا هو المنزلق الخطير الذي، ضلت فيه طوائف كثيرة جداً، وتقول الصوفية: لا بد أن يشهد الإِنسَان قدر الله، ويشهد الحكمة في هذه الأفعال التي تقع من العباد، ومعنى ذلك أنه يُسلم لكل ما يقع، وقد صرح أكثر الصوفية بعدم الاعتراض فيقولون: لا تعترض عَلَى أي شيء يقع، لأنك لا تبصر ولا تدرك سر الله تَعَالَى في القدر، وبعضهم إذا رأى منكراً وقيل له: هذا منكر قَالَ: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112] أي: اتركهم عَلَى منكرهم. هكذا زعموا، نعم لو شاء ربك ما فعلوه ولا شك في ذلك، لكن الذي شاء أن يقع هذا المنكر، أمر وطلب منك أن تنكره، فلماذا تأخذ الأمر من جانب واحد وتترك الجوانب الأخرى؟
من مضار هذا الفهم بالأمة الإسلامية
وقد وقع الانحراف الكبير في واقع حياة الأمة الإسلامية، وأدى إِلَى مصائب عظيمة وإلى حوادث فظيعة منها ما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنه لما دخل هولاكو بغداد عاصمة الإسلام وهي أكبر مدينة في العالم في ذلك الوقت، وقتل فيها عَلَى أقل تقدير 800 ألف مسلم، وكلهم منأهل السنة، لم يقتل من الرافضة أومن النَّصَارَى أومن الباطنية أحداً، لأن الوزير الذي دلّه وأدخله كَانَ رافضياً.
وبعد أن قتلوا 800 ألف مسلم -بل ذكر بعض المؤرخين أنهم مليونين- خرج هولاكو وكان يمشي في شوارع بغداد، وإذا بشيخ أكبر الطرق الصوفية آخذ بعنان فرس هولاكو ويقوده بعد أن قَتل من قَتل، فرآه فقيه كَانَ متخفياً ولديه شيء من الفقه، ولكن ليس لديه بصيرة كافية يقول: فرأيت الشيخ فخاطبته فقلت: أبأمرٍ هذا؟ قَالَ: نعم بأمر، فسكت، أي: أنه لم يفعل هذا من عند نفسهوَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] .(1/1538)
أي أن الله أمره أن يقود فرس هذا الكافر الضال المضل -وهم لا يتورعون أن يقولوا إن هذا أمر كشفي خوطبنا به في قلوبنا- وقال: نَحْنُ بهذا العمل نوافق بين قدر الله وحكمة الله، فالْمُسْلِمُونَ عصوا الله فسلط عليهم هَؤُلاءِ الكفار.
فنحن موافقون للقدر وللحكمة من وقوع هذا العذاب، فهذا يسمونه الاستبصار بسر الله في القدر، إذا وقع في قلب أحدٍ فلا يعترض عَلَى أي شيء يقع أبداً بل يرى أن كل هذه الأفعال إما أن تكون من فعل الله -كما أشرنا فيما مضى- فهولاكو ما هو إلا صورة لفعل الله، والله هو الذي فعل ذلك وأنا عندما أعمل هذا العمل فأنا أُنفذ حكم الله وفعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو أن تكون من فعل هولاكو ولكنه ما فعله إلا موافقة للقدر، فهو وإن كَانَ خارجاً عن الدين والشرع، لكنه موافق للقدر. وبذلك عبر شاعرهمعبد الكريم الجيلي:
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً فإني في حكم الحقيقة طائع
فلا مانع عندهم أن يعبد الله في الكنيسة أو في المسجد أو في إي مكان، فهم يقبلون أي دين -والعياذ بالله-، ومعنى البيت: إذا كنتُ خرجتُ عن حكم الشريعة، عن الأمر والنهي، فإني لم أخرج عن القدر وهو: شهود الحقيقة الكونية، فإذا شهد العبد -على زعمهم- الحقيقة الكونية فإن كل ما في الكون هو من أفعال الله، فلا ينكر منكراً، ولا يعترض عَلَى أي أمر يقع، لأنه من فعل الله، تعالى الله عما يقولون.
ولهذا يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رداً عليهم:
[قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر عَلَى خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقَالَ: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته وفي ذلك قيل:
أصبحت منفعلاً لما تختاره مني ففعلي كله طاعات(1/1539)
وهَؤُلاءِ أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كَانَ موافقة القدر طاعة، لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون، كلهم مطيعين! وهذا غاية الجهل] اهـ.
الشرح:
من شدة جهل الصوفية أنه يتردد عَلَى ألسنة بعضهم فيقولون: إن الواحد منهم من شدة استحضاره بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مدبر كل شيء، وخالق كل شيء..، تصبح أفعاله وأعماله كلها بغير اختياره، والله هو الذي يدبرها ويحركها، فيلغي إرادته بالكلية ويقول: أنا لا إرادة لي في ذلك، وكل ما أعمله فهو من الله، وكله موافق لإرادة الله الكونية ولأقداره التي كتبها، فإن هذا لم يصبح فاعلاً وإنما أصبح منفعلاً لما يختاره الله، فسواءً وافق ذلك حلالاً أو حراماً بحكم الشرع، فأنا منفعل لما يختاره الله.
أصل ضلالهم أنهم فرغوا قلوبهم من ذكر الله فسكنتها الشياطين
ذكر الإمام الغزالي في الإحياء المدخل الخفي الذي يدخل منه هَؤُلاءِ الصوفية فقَالَ: يجب عَلَى الصوفي المريد في الخلوة أن لا يشتغل بشيء، لا بحديث، ولا بقراءة القُرْآن، ولا بالتفسير، وأن يفرغ قلبه من كل شيء، وبعد ذلك تنفعل حياته.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: لما فرغوا قلوبهم من ذكر الله ومن القُرْآن والحديث سكنتها الشياطين فوجهتهم، فأصبحت الشياطين تأمرهم وتنهاهم، ويظنون أن هذا من أمر الله وقدره، وإلا كيف يفرغ المؤمن قلبه من ذكر الله ومن القُرْآن والحديث، وبعد ذلك يظن أنه بهذا التفريغ يكون منفعلاً لما يختاره الله منه، وفي الحقيقة هو منفعل لما يختاره الشيطان، فيكون حال الشيطان في هذه الحالة كحال من قيل فيه:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خاوياً فتمكنا(1/1540)
ويتمكن الشيطان من هذه القلوب الخاوية من ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيوحي إليهم أن أفعالهم جميعاً كلها طاعات كما قال الجيلي:
إذا كنت في حكم الشريعة عاصياً فإني في حكم الحقيقة طائع
ولهذا لا تنكر عَلَى أحد، وفي كتاب أخبار الحلاج يقول: أحد تلامذته: مررنا بالسوق فإذا برجل عند خياط يهودي فشتم المسلم اليهوديَّ قَالَ: فغضب الحلاّج غضباً شديداً، وأخذ الرجل أي: المسلم وشتمه شتماً شديداً، وقَالَ: لا تعترض عَلَى دين أحد قَالَ: لماذا يا شيخ؟. قَالَ: لأنك إذا اعترضت عليه أثبت له الاختيار، يقول الحلاج: لأن الذي يختار هو الله.
ولو كَانَ لدى هذا المسلم علم لقال له: وأنا لماذا تعترض علي وأنا منفعل؟! وإذا اعترضت عليّ فكأنك تثبت أني مختار، فلماذا أنا مختار وهذا اليهودي غير مختار؟ لكنه لا يدرك هذا، لأنه عندما يرى هذا الشيخ العابد الجليل صاحب الكرامات -كما يزعمون- تأخذه الهيبة ولا يستطيع أن ينكر عليه، ويظن أنه يرشده ويدله إِلَى كيف يعظم الله؟ وكيف يعرف قدر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ .
يقول المصنف: [وهَؤُلاءِ أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية] كليهما، فأما الحكمة الدينية فكل مسلم يعلم ضرورة أن الله أمر بطاعته، ونهى عن عصيانه، وأن العبد يمكن أن يفعل الطاعات، وفي مقدوره أيضاً أن يفعل المعصية، فإن فعل الطاعة فله الأجر، وإن فعل المعصية فعليه الوزر والعقوبة، وهذا أمر بدهي يعرفه حتى عامة الناس.
فهَؤُلاءِ الصوفية أجهل النَّاس بأوامر الله الدينية والكونية، لأننا في أوامر الله الكونية لم نؤمر بالاستسلام المطلق، ولهذا لما قال أبو عبيدة لعُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أتفر من قدر الله؟ قال له: نفر من قدر الله إِلَى قدر الله، فالعافية بقدر الله والمرض بقدر الله، فإذا ابتلي الإِنسَان بمرض فهذا بقدر الله الكوني ويكون دفعه بعمل يوافق القدر الكوني، فتطلب الدواء والعلاج.(1/1541)
ولهذا يجب عَلَى الإِنسَان أن يتخذ الأسباب: لأن الله تَعَالَى خلق أموراً وخلق أسباباً تدفعها أو تجلبها، فأخذ الإِنسَان بالأسباب لا بد منه، وسيأتي له مبحث في آخر الكتاب إن شاء الله. والأخذ بالأسباب ينافي القدر، بل هو من القدر، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سئُل: أرأيت أدوية نتداوى بها أتخالف قدر الله؟ قَالَ: هي من قدر الله، فالمرض من قدر الله، والعلاج من قدر الله.
فالصوفية هم من أجهل النَّاس بالأحكام الشرعية والكونية لأننا حتى في القدر الكوني لا بد أن ندفع القدر بالقدر، يقول المصنف: [فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي] كيف يكون فعله كله طاعات، والطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي لا موافقة القدر والمشيئة، أي الأمر الكوني؟ .
من لوازم هذا القول الفاسد
قال المصنف: [ولو كَانَ موافقة القدر طاعة] يعني: بغير التزام بالشريعة [لكان إبليس من أعظم المطيعين له] لأن كل ما يعمله إبليس فهو بقدر الله.
هذا عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل قال عن نفسه ذلك: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف:16] فهو يعترف بأن الغواية من الله، وكأنه يقول: أنا منفعل لأمرك، فهذا الكلام نفسه هو مدلول كلام الصوفية.
ثُمَّ قَالَ: [ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين] أي: لأنهم لم يخالفوا قدر الله وإنما خالفوا شرع الله ودينه، أما قدر الله الذي كتب عليهم فكل ما فعلوه فهو مكتوب، وهو موافق لما كتبه الله تَعَالَى حتى عندما قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] ، وقَالَ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] هذا كله بقدر الله، وموافق لقدر الله الذي كتبه قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.(1/1542)
إذاً ففرعونمعذور عندما قَالَ هذا القول، بل هم في الحقيقة لم يكتفوا بقولهم: إن فرعون معذور، حتى جعلوه مطيعاً وألّفوا الكتب في تصحيح إيمانفرعون، وأن فرعون لما قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى كَانَ صادقاً والعياذ بالله. لأنه ليس له إرادة، إنما كَانَ ينطق عن الله -تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا- فإذا كَانَ فرعونينطق عن الله، فموسى ينطق عن من؟ وبأمر من؟!
هذه الطائفة تُكذِّب جميع الرسل وتكفرها جميع الملل
إن هَؤُلاءِ النَّاس في الحقيقة يكذبون جميع الأَنْبِيَاء وجميع الرسالات، ولهذا -كما أشرنا فيما مضى -فإن هذه الطائفة يكفرها جميع أصحاب الملل والأديان، الْمُسْلِمُونَ واليهود والنَّصَارَى فلا توجد ملة أو دين سماوي يقر هَؤُلاءِ القوم، بل جميع الملل تكفرهم لأنهم خارجون عَلَى جميع الشرائع.
ولهذا كَانَ أصل كثير من هَؤُلاءِ إما من الرافضة وإما من الباطنية، ولكن لبسوا عَلَى النَّاس بادعائهم التصوف والولاية، فزعموا أن كل ما يفعلونه أو يفعله غيرهم هو فعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما يقول أحد الأقطاب: نار الخليل انطفأت؛ لأن الشيخ تفل فيها. ليس كما قال الله تعالى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69] فيعتقدون أن الأقطاب هم الذين يتصرفون، وتصرفهم سابق لوجودهم، فهم موجودين في الأول وإلى الأبد، وكل ما وقع في الكون فهو من تصرفهم، حتى سفينة نوح زعموا أنهم هم الذين منعوها من الغرق، ونار إبراهيم هم الذين أطفؤها، وهم الذين نجو شعيباً وصالحاً ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهَؤُلاءِ يتبعهم اليوم ملايين من النَّاس، ويظنون أنهم يتقربون إِلَى الله باتباع هَؤُلاءِ المضلين.
الشهود الحقيقي(1/1543)
يقول المصنف: [فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة] يرد عليهم المُصْنِّف بأنه يمكن أن يتأتى الندم والتوبة مع شهود القدر من جهة أخرى غير الجهة التي يزعم هَؤُلاءِ الصوفية، وذلك إذا شهد العبد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إِلَى ربه وعدم استغنائه عن حفظه طرفة عين، كَانَ بالله في هذه الحال لا بنفسه، ووقوع الذنب منه لا يتأتي في هذه الحال البتة، فإن عليه من الله حصناً حصيناً، فبهِ يسمع وبه يبصر وبه يمشي، والعبد المؤمن يحقق ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل لما سأله عن الإحسان قَالَ: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .
فهذا الإِنسَان يعبد الله كأنه يراه ويعلم عجزه وضعفه وفقره، وأنه لو وكل إِلَى نفسه طرفة عين لهلك، وإن كانت طاعة منه فهي فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن كل معصية منه فهي من خذلان ربه له حيث وكله إِلَى نفسه فوقع في ذلك الذنب، فهذا هو الشهود الحقيقي للقدر، وفي هذه الحالة لا يتأتى الذنب من العبد، لا كما يزعمون هم يفعل جميع المعاصي والذنوب ويقول: أنا أشهد القدر، بل من يشهد حقيقة القدر هو من يفعل الطاعة ويقول: هذا من فضل الله وإرادته، ولو أنه في لحظة من اللحظات قال: هذا من نفسي، وهذا من فعلي، وأنا الذي اجتهدت في هذا لكان ذلك ذنباً، لأن الله هو الذي وفقك عَلَى أدائها، فأنت أطعت الله بأي جارحة بالعين -مثلاً- فمن الذي خلقها؟
وأطعمها وغذاها؟
وكذلك القلب من الذي خلقه؟
ومن الذي ألقي فيه الهدى؟
ومن الذي عرفك بالله؟
إنه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إذاً: الفضل كله له عَزَّ وَجَلَّ، فإذا فعلت طاعة فله الفضل في ذلك، وإن فعلت معصية فمن نفسك لما أوكلت إليها، فهذا هو الشهود الحقيقي عكس ما يقولون، فلو أنهم يشهدون الأمر والنهي شهوداً حقيقياً لما أتت منهم الذنوب، ولكانوا من المقربين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/1544)
[لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة، فإن عليه حصناً حصيناً (فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي) ، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نُصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر فبقي بربه لا بنفسه، فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرهه؟
فالجواب أن يقال:
أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يُسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يُغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.
ويقال ثانياً: هنا أمران:
قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى.
ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه، فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به، ومنه ما لا يرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما، تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى مالا يرضى به، مثال ذلك: قتل النفس له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به.
ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله، نَسخطه ولا نَرضى به] اهـ.
الشرح:(1/1545)
ختم المصنف -رحمه الله- مسألة القدر ببحث لقضية القائلين بأن الإنسان إذا شهد مقام الحقيقة الكونية -كما يزعمون- يوافق المشيئة، ويعتبر أن كل أعماله التي تجري وتصدر منه على وفق رضى الله وشرعه وإرادته نظراً لجريانها وفق مشيئته وإرادته الكونية، ورد عليهم المصنف رحمه الله بقوله: إن هؤلاء أعمى الخلق وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فلو أن الأمر هو موافقة القدر والمشيئة، وليس موافقة الأمر الديني من الأمر والنهي لكان قوم نوح وهود وصالح وفرعون وقوم لوط وشعيب كلهم طائعون لله عز وجل لأنهم لم يخرجوا فيما ارتكبوا من ذنوب وقبائح وما واجهوا به أنبياءهم عن مشيئة الله وقضائه وقدره، فإذا كان كل ما قدره الله تعالى مرضياً له محبوباً عنده وغاية ما يريده من الخلق أن يوافقوا قدره الكوني، فإن هؤلاء من أرضى الناس وأعلمهم.
لا شك أن هناك فارقاً دقيقاً وحاجزاً بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان، وإنما تختلف الأفهام والأنظار إلى الأمر الواحد، ويترتب على ذلك اختلاف الأعمال.(1/1546)
قال المصنف: [لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه] أي: إذا استحضر العبد عجزه وجعل عجز نفسه أمامه كأنه شاهد بعينه عجز نفسه وهذا من أخص خصائص الإنسان أنه عاجز بالذات، ففقره ذاتي، وعجزه ذاتي، كما أن الله سبحانه وتعالى غناه وقوته وعلمه لذاته سبحانه وتعالى من غير معين، ولا سبب خارجي، أما الإنسان ففقره ذاتي، فلا يستطيع أن يكون غنياً إلا لسبب يقدره الله سبحانه وتعالى، وإذا شهد عجز نفسه نفوذ الأقدار فيه، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لو اجتمعت الأمة على أن يضروه لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وكمال فقره إلى ربه كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] فالخلق محتاجون إلى الله فيما يطعمون وفيما يتمتعون به من فهمه كما قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:57،58] فله تبارك وتعالى المنِّة على كل أحد وليس لأحد أبداً منِّة على الخالق العظيم سبحانه وتعالى.(1/1547)
قوله: [وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين] فقد كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) فالأنبياء وأتباعهم قالوا هذا لعلمهم شدة فقرهم إلى الله وحاجتهم إليه، أمَّا أولئك فقد استغنوا عن الله تبارك وتعالى، فلا يذكرون الله إلا قليلاً، ولا يدعونه ولا يلجأون إليه، ولهذا كان السلف الصالح يدعون الله في كل وقت، ويحثون أبناءهم وتلاميذهم والمسلمين على دعاء الله حتى قال قائلهم: "إني لأدعو الله ولو كان في شراك نعلي"، فلو انقطع شراك نعله لدعا الله سبحانه وتعالى، فادعُ الله أيها العبد فأنت فقير إليه في كل لحظة، وفي كل حين وفي كل وقت، لكن أولئك يظنون أنهم في غنى عن الله، ولهذا تمر بهم الأيام ذوات العدد ولا يدعون الله سبحانه وتعالى فيها، حتى وإن عبدوه.
ومن الناس من يصلي ويصوم ويؤدي الفرائض، ولكنه لا يدعو الله، لأن الشيطان قد أغفل قلبه وأشعره بأنه في غنىً عن دعاء الله تبارك وتعالى، والمقصود أن العبد المؤمن إذا شهد هذا الحال من الافتقار ومراقبة الله له ارتفع إيمانه وما من قلب يرقى في درجات الإيمان وقطعيات اليقين إلا ويشهد ذلك بمقدار رقيه ورسوخ إيمانه ويقينه، فإذا شهد العبد ذلك واستشعره دائماً.
الجواب: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصناً حصيناً، ثم ذكر الحديث أو جزءاً منه مضمناً إياه الكلام [فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي] فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة إذا استشعر فقره واستشعر مراقبة الله تبارك وتعالى له في كل وقت، وهي درجة الإحسان، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) .(1/1548)
فهو يرانا كل حين، فما نلفظ من قول، ولا نعمل من عمل ولا حركة ولا سكون، إلا والله تبارك وتعالى مطِّلع ورقيب علينا، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] .
إذا استشعر العبد افتقاره، وعلم أنه لو وكل إِلَى نفسه طرفة عين لغفل عن طاعة الله، ووقع في معصيته، وربما هلك بسبب ذلك، ففي هذه الحالة لا يتصور منه صدور الذنب، هذا هو الفرق بين المقامين، أُولَئِكَ يقولون: إذا استشعر العبد وشهد أن ما يفعله هو مقدور لله مقضي له، أصبحت أعماله جميعاً طاعات، لكن أولياء الرحمان لا يقولون هذا، بل ذلك باطل أشد البطلان، وأما الحق فهو: أن تستشعر هذه الحالة العالية السامية، فحينئذٍ لا تفعل الذنب، لأنك متى مرَّ بك حال تستشعر فيه أن الله رقيب مطلع عليك، وأنك لو عصيته لوكلك إِلَى نفسك فتكون الأعمال صالحة لذلك، لأنها وفق درجة الإحسان لا وفق القدر.
متى تكون الأعمال طاعات
تكون أفعال العبد طاعات إذا كانت جميعاً عَلَى مقتضى مراقبة الله سبحانه خاصة، واستشعار عظمة الله، واستحضار افتقاره إِلَى الله تعالى، وأن أقداره تنفذ فيه، بنى عَلَى ذلك دوام الصلة بالله، ودعاء الله الهداية والثبات، فتكون الأعمال حينئذ طاعات، إذاً هذا مفرق طريق بين هَؤُلاءِ وبين هَؤُلاءِ.(1/1549)
أعظم الأولياء أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فلم يؤثر عنأبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ في أحكامه وفي فقهه، ورأيه أي قول خالف فيه السنة، مع أن الذين من بعده من الصحابة نقل عنهم في بعض المواضع خالفوا فيها بعض الأحاديث، إما اجتهدوا فيها أو لم تبلغهم الحجة، أو بأي حكم من الأحكام، لكن غاية ما نجد أن الصديق رضى الله تَعَالَى عنه قد لا يبلغه الدليل، لكن لم ينقل عنه أنه اجتهد أو قال بما يخالف السنة، هذا بعد وفاته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما في حياته فهو في كل أمر موافق مطيع، فهذه الدرجة العليا درجة الإحسان ودرجة الصديقين، التي يكون هوى صاحبها تبعاً لما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وموافقة للشرع من جميع الوجوه.
المقياس الشرعي للولاية
يعد أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ من أعظم النَّاس ولاية لله تعالى، ثُمَّ النَّاس بعد ذلك بحسب ولا يتهم وقربهم من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما وفقهم له من الفقه والعلم، يكونون أقرب إِلَى إصابة الحق وموافقة السنة من غيرهم، وهذا هو المقياس الشرعي للولاية، وليس ما جعله أُولَئِكَ الضالون المضلون، ومعنى قول المصنف: إنه لا يتصور من ولي الله الذنب في هذه الحالة، أي: فكيف يتأتي الذنب، وهو لا يأتي إلا في حال الغفلة والجهالة.
تفسير السلف لقوله تعالى: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ))
والجهالة: ليست الجهل بالحكم أنه حلال أو حرام، بل الجهالة هي الجهل بمقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والجهل بقدر الله.(1/1550)
قال بعض السلف: "ما عصى الله عَزَّ وَجَلَّ أحد إلا بجهالة" أي: في حالة وقوع الذنب يكون العبد قد جهل مقام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما عظمه حق تعظيمه، وما قدره حق تقديره، والقلوب عَلَى ذلك شواهد، فيعتري المؤمن حالات تصفو فيها نفسه وقلبه، ويرسخ ليقينه وإيمانه ويذكر ربه عَزَّ وَجَلَّ، فلو عرضت عليه معصية وخُيِر بين أن يفعلها وبين أن يلقى في النَّار أو يعذب أشد العذاب، لاختار هذا العذاب الأليم، ثُمَّ يعرض للقلب غفلات، وإذا بالنفس تهفو وتتطلع إِلَى أن تفعل تلك المعصية بذاتها التي كانت في تلك الحالة، وأصحاب النفوس اللوامة يشهدون هذا التفاوت دائماً، لكن أصحاب النفوس المطمئنة لا تلمُّ بقلوبهم إلا خطرات.
أعظم الناس إيماناً ويقيناً
أعظم النَّاس اطمئناناً ويقيناً وإيماناً بالله هم من أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليهم السكينة، وشهد لهم بالإيمان والطمأنينة والذكر وهم الصحابة -رضوان الله عليهم- ثُمَّ أهل القرون المفضلة ومن اقتفى نهجهم،.
فإذا حُجب عن هذا المشهد، وبقي بنفسه أي لا بربه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك، والأشراك وأرسلت عليه الصيادون، والشراك هو الذي تقع فيه الفريسة وتقيد به، أي: أن الإِنسَان في هذه الحالة إذا غفل، واستولى عليه حكم النفس لا حال المراقبة واليقين، ولكن غلب عليه حال الهوى والشهوات، فمن كانت نفسه أمارة عليه فبماذا تأمره؟ ومن الذي وعده بالجنة وجعلها مأواه؟ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41] .(1/1551)
لكن إذا سيطرت النفس وسيطر الهوى، حتى كَانَ كحال من اتخذ إلهه هواه، فحينئذ لا تأمره إلا بالشر، فالقلوب المؤمنة، والنفوس اللوامة، إذا اعترتها هذه الحالة وقعت في شراك الشيطان، والشهوة، والشبهة، والمعاصي، وحينئذٍ يكون الأمر والنتيجة عَلَى حالين: إما أن يفيق العبد، ويتوب وينيب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا ما ذكره المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عندما قَالَ: [فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كَانَ في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجودٍ آخر فبقي بربه لا بنفسه] وهذه الحالة، حالة من ثبته الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ [آل عمران:135] فماذا فعلوا فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم.
إذاً وقعوا في الشرك لكن تذكروا فاستغفروا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتابوا وأنابوا إليه، فتعود النفوس إِلَى اطمئنانها، وينقشع ذلك الضباب وذلك الحجاب وذلك الران الذي حصل نتيجة حيلولة النفس بين العبد وبين مرضاة ربه عَزَّ وَجَلَّ،.
والحالة الأخرى: من غلبه الهوى والشهوة، فالشهوة إثر الشهوة والهوى إثر الهوى، حتى يطبع عَلَى قلبه، ويغلب عليه الران، فحينئذٍ لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، ولهذا كَانَ السلف الصالح -رضوان الله عليهم- أحرص النَّاس عَلَى الثبات، وعلى الاستقامة، وكانوا أخوف النَّاس من النكوص ومن انقلاب الحال وتغيره إِلَى حال لا يرجى معها انتقال ولا شفاء، ثُمَّ يعود رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بعد ذلك، في مسألة القدر، وموقف المؤمنين منه
يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [فإن قيل: إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟] وهذه الشبهة تقع لكثير من النَّاس.
فالجواب أن يقال:(1/1552)
أولاً: نَحْنُ غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضي الله؛ لأن بعض النَّاس قد لا يفقه ذلك، ومن هنا أُتي الصوفية، وأمثالهم، أي: من عدم الفقه في الدين أو سؤال أهل العلم وأهل الذكر، فقولهم: إن الله قدر ونحن نرضى بما قدر، يقال لهم: لم نؤمر بأن نرضى بكل ما قدره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي قدر الكفر هو الله، والذي قدر الزنا والمعاصي والفواحش جميعاً عَلَى العباد هو الله، لأنه لا يقع في الكون إلا ما قدره الله، فلا يجب أن نرضى بها، وهل نتعبد الله بالرضى بالكفر؟ لا. فمن فعل ذلك فقد كفر؛ لأنه هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْر [الزمر:7] وكما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْل [النساء:108] .
فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يرضى بها، فنحن كذلك لا نرضى بكل ما قدره الله.
إذاً: رضانا وغضبنا يدور مع الشرع، مع الأمر والنهي لا مع المشيئة والقدر الكوني، فرضانا تبع للشرع، فما رضيه الشرع لنا من الأمر والنهي رضينا به، وما كرهه كرهناه، وهذا المقام مقام الرضا طويل، وقد ذكره صاحب كتاب مدارج السالكين وكذلك صاحب كتاب منازل السائرين الهروي في ذكر منزلة الرضا، ووقع في خبط وخلط.
تعقب الإمام ابن القيم على الهروي
تعقب الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في مدارج السالكين في الجزء الثاني عَلَى صاحب كتاب منازل السائرين ابتداءً من صفحة 117، لأن من الرضا ما هو محمود مطلوب، بل من الدرجات العليا من درجات الإيمان، وهو الرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً، ولا يكون العبد مؤمناً إلا به، فبقدر رضاه بذلك يكون انقياده ويكون إذعانه، ويكون إيمانه.(1/1553)
ولذا ورد أن من قَالَ: (رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً) في الصباح والمساء كَانَ حقاً عَلَى الله أن يرضيه. لأنه قال هذا رضاً بشرع الله. فمن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ رسولاً، فقد رضي بكل أمرٍ أمر الله به، وبكل سنة سنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً: هذه درجة عظيمة، فحقاً عَلَى الله جل وعلا تكرماً منه أن يرضي من قال ذلك؛ وفي الرواية الأخرى (دخل الجنة) هذا هو الرضا.
الواجب علينا أمام القدر
أما الرضا بالقدر عَلَى المصائب فله تفصيل. لأن الرضا بالدين معروف، لكن هناك أقدار قضاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فإذا وقع القدر وكان مما لا يرضينا أو مما نكره، فالذي أُمِرَنا به هو الصبر، ولو أُمِرَنا بالرضا لكان في ذلك مشقة علينا.
لكن الذي أمرنا به فضلاً من الله تَعَالَى هو الصبر، فالكره: أمرٌ جبلي خلقي طبعي لا نستطيع أن نتخلص منه. لكن أن نسخط أو أن نقنط، فهذا مما لا يجوز: والعبد يستطيع أن يصبر، كما فعل ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما (رفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء) ، فليس هناك أحد أكثر رضاً بالقدر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أعلى منه منزلةً، وهل هذا الصبر منعه من أن تدمع عينه لما مات ابنه إبراهيم وقال: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا) .(1/1554)
فهذا هو حال المؤمن، وليس معنى ذلك أن يغير طبيعته كما فعل ذلك بعضالمتصوفة عندما مات ابن له فحلق لحيته، وأخذ يضحك أمام النَّاس، ويقول: (أُرِاغَمَ نفسي وأرضى بقدر الله وقضاءه) فهذا عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وجعل من نفسه أمثولة؛ لأنه إِلَى ما قبل القرن العشرين كَانَ حلق اللحية مُثلة، عقوبة يُعاقب بها، فإذا أُريد أن يعاقب أحد حتى في الدول الكافرة تحلق لحيته.
وكانت بعض الأمم الممسوخة -كما كَانَ بعضالمجوس - يفعلونه ومنهم الذين قدموا عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا مسخ للفطرة، ولهذا أنكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشاهد أن هذا الصوفي لما فعل ذلك جعل نفسه مُثلة، وأضحك النَّاس عليه، وهو بزعمه يظن أنه يراغم النفس ويرضي الله؛ لأن ابنه قد مات، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكمل النَّاس يقول: (إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له) فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بالله وأتقاهم له، ومع ذلك حزن قلبه، ودمعت عينه، فنحن مأمورون بالصبر.
أما الرضا فكما يقول شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ: "أما الرضا فلم نؤمر به"، وما ورد من الأدلة يدل بعمومه عَلَى مدح من يرضى، والثناء عليه لا عَلَى وجوبه، ولهذا إذا كَانَ من باب الثناء والمدح فهو مندرج ضمن حالة الصبر، أي: أن يصبر العبد ويبلغ به الصبر أن يرضى بما قدر الله، دون أن يتعدى ذلك إِلَى مخالفة الفطرة، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يمكن أن يقال: إن أحداً قد فاقه أو يفوقه في ذلك المقام أبداً، فإذاً: لم يرد في الكتاب والسنة ما يوجب علينا أن نرضى بكل ما يقدره الله، بل الحال في ذلك تبعٌ للأمر والنهي.
يقول: [بل من المقضي ما يرضى به ومنه ما يسخط ويمقت] وهذه العبارات إِلَى نهاية قوله: [والتعمق والنظر] منقولة من مدارج السالكين، لكن في موضعٍ آخر (في الجزء الأول صفحة 256) .(1/1555)
إذاً من المقضي ما يُرضى به، ومنه ما يُسخط ويُمقت لماذا؟ يقول: (كما لا يرضى به القاضي لأقضيته) أي أنه سبحانه القاضي الذي قضى بهذا القضاء لم يرضَ به.
وقد لعن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الكافرين أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة:159] وذمهم في مواضع كثيرة، والمؤمن في ذاته ليس ملعوناً، وليس مغضوباً عليه في ذاته، فقد يفعل من الأفعال ما هو ملعون أو مغضوب عليه، أو غير مرضي لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواءً في الأفعال أو في الذوات أو في الأعيان منها ما يبغضه الله ولا يرضاه، ونحن إذاً لا يجوز لنا أن نرضى بكل شيء، هذا هو الجواب الأول.
والجواب الثاني: قال: [هُنا أمران: قضاء الله، وهو: فعلٌ قائم بذات الله، ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه] هذا الموضوع فيه دِقة، وقد اختلفأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية، فالأشعريّة جبريّة جهميّة، لكنهم لم يقولوا: إن الإِنسَان كريشة في مهب الريح، ولم يستطيعوا أن يصرحوا بالجبر.
اختلاف أهل السنة مع الأشاعرة في مسألة أفعال الله
اختلف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الأشعرية في مسألة أفعال الله سبحانه، فَقَالَ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كما قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ-: ''وهو قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي''، وهذا معروف بالبديهة، فلو فكرت لوجدت أن القضاء غير المقضي، فقضاء الله فعله، والمقضي أثر القضاء، وآثار قضائه يدركه العقل والفطرة فَيَقُولُ: (قول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله ومشيئته، وما قام به -بذاته واتصف به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل عَلَى الخير والشر، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق، ومنه باطل] .(1/1556)
فمن حيث إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق إبليس، وخلق الكفر، وخلق الشر، وأن الله قضى ذلك فهذا حق، لكن من حيث إن هذه الأعيان أو هذه الأفعال مذمومةٌ أو ملعونة شرعاً فهذه من جهة الشرع فيها الحق وفيها الباطل، ومنها ما يحمد ومنها ما يُذم، ومنها ما نرضى به ومنها ما نكره، لكن من حيث اتصاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه هو الذي يقضي، وله القضاء، وله الأمر فهذا حق، فالقضاء كله حق، لكن المقضي هو أثر القضاء أعياناً أو أعمالاً، فمنها ما يرضى ومنها ما يسخط، ومنها ما هو حق ومنها ما هو باطل، بميزان الأمر والشرع.
فهُنا قال السلف هذا القول، فجاء الأشعرية وَقَالُوا: القضاء هو عين المقضي، والفعل هو عين المفعول، ولهذا وقعوا في الجبر، أو لم يستطيعوا أن يدفعوا عن أنفسهم هذا السؤال، ومنهم أبا بكر الباقلاني، شيخهم وإمامهم الأكبر، والسؤال الذي يسائله المُصْنِّف هُنا [إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله فكيف ننكره ونكرههُ؟ وهذا عجز لأنه لا يفرق بين القضاء وبين المقضي، لكن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يفرقون، ولهذا يقولون: نَحْنُ نؤمن بالقضاء، ونحب قضاء الله، لكن نكره المقضي الذي هو الكفر، فيقول فهُنا أمران:
قضاء الله وهو: فعل قائم بذات الله.
ومقضي وهو: المفعول المنفصل عنه.
فالقضاء كله خير وعدل وحِكَمة نرضى به كله.
والمقضي قسمان: منه ما يرضى، ويوضح ذلك الوجه الثالث لأنهما متقاربان.
والقضاء الذي قضاه الله له وجهان:
أحدهما: تعلقه بالرب تَعَالَى ونسبته إليه فمن هذا الوجه يُرضى به.
والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إِلَى ما يرضى به، وإلى ما لا يُرضى به. ولهذا قال الله تَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8] .(1/1557)
ومن هنا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يصبر من جهة أن الله يدخل من يشاء ويهدي من يشاء، ولا يعني ذلك أن يرضى بكفرهم فلم يأمره ربه بذلك وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو الذي جاهدهم واستمر في جهادهم، لكن مع المجاهدة لم يؤمنوا؟ لأن الهداية والضلالة بيد الله تعالى، فقد كتب عليهم الشقاوة فليكونوا كذلك، فعليك أن تسلم بما كتب الله، ولهذا جَاءَ في سورة الأنعام ما هو أشد من ذلك، قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له: وَإِنْ كَانَ َ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُم فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ [الأنعام:35] فلا يستطيع ذلك ولن يفعل.
وإنما هذا زيادة في تثبيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عدم اليأس والتحسر، وإنما عليه البلاغ وهذا له مقام آخر، وذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ مثالاً عَلَى ذلك فقَالَ: لو قتل إنساناً نفساً، القتل له اعتباران من حيث قدَّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره يرضى به، وهذا أمر كتبه الله وقدَّره قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فلا مبدل لقدر الله ولا معقب لحكمه، فنرضى به من هذه الجهة، لكن لا نرضى عن القاتل، ولا نرضى عن فعله، فيُقَالُ: من حيث إن القاتل صدر منه القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به، وبهذه الأجوبة الثلاثة نكون قد أجبنا عَلَى السؤال الذي هو: كيف نرضى إذا كَانَ الكفر بقضاء الله وقدره؟
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وقوله: [والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان] إِلَى آخره، التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان. الذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقارب المعنى.
وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضاً.(1/1558)
لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة. وقوله: فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة.
عنأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ ناسٌ من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه: (إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قَالَ: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان) رواه مسلم.
الإشارة بقوله: (ذاك صريح الإيمان) إِلَى تعاظمهم أن يتكلموا به.
ولمسلم أيضاً عنعبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سئل رَسُول الله عن الوسوسة، فقَالَ: (تلك محض الإيمان) وهو بمعنى حديثأَبِي هُرَيْرَةَ، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.
هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثُمَّ خلف من بعدهم خلف سوّدوا الأوراق بتلك الوساوس، التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رَحِمَهُ اللهُ في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعنعَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أنها قالت: قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم) .
وقال الإمامأَحْمَد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عنعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: خرج رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم والنَّاس يتكلمون في القدر، قَالَ: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قَالَ: فقال: (ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كَانَ قبلكم) قال. فما غُبطت نفسي بمجلس فيه رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده. ورواه ابن ماجه أيضاً] اهـ. .
الشرح:(1/1559)
أمور الإيمان وأمور العقيدة من أمور الغيب، لأن الاعتقاد هو الإيمان بالغيب، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أول ما وصف الله به المؤمنين وصفهم بأنهم يؤمنون بالغيب.
درجات الناس في الإيمان
درجات النَّاس في الإيمان متفاوتة عَلَى حسب إيمانهم بالغيب، فمن النَّاس من يبني إيمانه عَلَى ظاهر من القول وظاهر من الدليل، ويستمر في ذلك ويثبته الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تعرض له شُبهات ولا سُقوط، فيلقى الله وهو سليم القلب وهو عَلَى درجة من الإيمان.
ومن النَّاس من تُسلط عليه الشهوات والشبهات والشكوك ويضعف إيمانه ويقينه وسرعان ما ينقلب ذلك الإيمان وذلك اليقين؛ لأن مجرد تصديق وليس يقين، ومن النَّاس من يثبته الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويوفقه ويمنُّ عليه، فيرسخ في العلم والإيمان واليقين والصدق والإخلاص وفي الفقه في الدين، حتى يكون بالمنزلة التى جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأوليائه، الذين جعل تفاوتهم بحسب مراتبهم من اليقين ومن الفقه والعلم في الدين.(1/1560)
فالمطلوب من العبد أن يؤمن بالغيب، وأن يؤمن بكل ما أخبر الله به، وأن يسلِّم، وأن يقوِّي ذلك الإيمان بكل ما يستطيع أن يقويه به، من الأدلة وبالحجج القرآنية وآثارها، ونعني بها الحجج الكونية العقلية النفسيّة، وأن ينظر بتدبر في ملكوت السموات والأرض، ويتفكر في أحوال النَّاس، وفي تدبير الله سبحانه له، وتصريفه لهذا الكون وتدبيره للخلق، فيزداد إيماناً ويقيناً، ويدفع عن نفسه الشبهات إذا وردت، لأن دفع الشبهات يكون بالاعتصام بالله والاستعاذه من الشيطان الرجيم، والإعراض عن الشبهة، فإن تمكنت في قلبه فليدفعها بسؤال أهل العلم لتُكشف عنه تلك الشبهة ويندفع عنه البلاء، وأمر هذا الدين مبني عَلَى الاستسلام، وإنما يثبت الإسلام عَلَى قدم الاستسلام لما أخبر به الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن من قُدِّر له أن أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى العلم، ومكنه من الرسوخ فيه، ومقاومة الشبهات، والذب عن هذا الدين، فهذا كطبيب يتعمق في معرفة الأمراض لا حرصاً منه عَلَى معرفه المرض، ولكن لكي يعالج النَّاس، أو يتعمق في معرفة الأدويّة ليداوي نفسه ويداوي غيره.
التعمق والنظر في أمور القدر الخفية
يقول الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] هذا الكلام قد يُفهم عَلَى إطلاقه فيُقَالُ: إذاً لا ننظر في مسألة القدر والصفات ولا نفكر في ذلك.(1/1561)
أما الوسوسة فمذمومة عَلَى كل حال، لكن من وفقة الله وفقهه في الدين وكان علمه عميقاً وراسخاً؛ فهذه درجة مطلوبة محمودة، فكل إنسانٍ يأخذ من هذا الدين ومن أمر اليقين بقدر ما يوفقه الله ويؤهله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو أراد أحد أن يتجاوز قدره لسقط ولهلك، فالتعمق والنظر في أمور القدر الخفيّة الدقيقة من إنسان لا يعرف الأدلة، ولا يعرف كلام أهل العلم ولا يستطيع أن يفقه في المسألة هذا ذريعة الخذلان.
كف العوام عن الخوض في القدر
وينبغي علينا أن نكف العوام عن الخوض في القدر، فإن كَانَ ولا بد إذا وجدنا من أحدهم شبهة راسخة كشفناها بالدليل، ولكن لا يعني ذلك أن نعرض تعاريف القدر عَلَى العامة، أو نرضى أن يخوض العامة في تفصيلات القدر وغير ذلك من أمور الإيمان؛ لأن الخوض في ذلك مَزلة الأقدام، فهو بحر لا يستطيعون أن يبحروا فيه، لكن من كَانَ لديه استعداد للفهم من الكتاب والسنة وكلام العلماء.
فينبغي له أن يزداد علماً، لأنه بذلك يزداد إيماناً ويزداد فهماً، وعندما ترد عليه شبهة سرعان ما يدفعها لما لديه من علم؛ وينبغي أن يقيد بهذا كلام الطحاوي رَحِمَهُ اللَّهُ، وأن نعرف المقصود من كلامه، ولهذا قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [والمعني أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان] .
فقوله: ذريعة: أي وسيلة، والذريعة والوسيلة والدرجة والسلم متقاربة، وكذلك الحرمان والطغيان والخذلان متقاربة، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة، والإمام أبي جعفر الطّّحاويّ -رحمه الله- جَاءَ بعبارات أدبيّة فيها سجع، وعطف جملة بعضها عَلَى بعض، وإلا فالمؤدى واحد.(1/1562)
فهذا هو الذي يجب أن يُفهم، وقوله: [والحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة] ثُمَّ ذكر حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم والإمام أَحْمَد وفيه: (جَاءَ ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ فشكوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوى مجملة، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو قد وجدتموه؟) .
وجواب النبي هذا يدل عَلَى أنه كان منتظراً منهم هذا السؤال، وهذه بشرى لحديثي عهد بالتمسك، وفي رواية أخرى (لأن يصبح أحدنا حُممة محترقة) ، كيف يكون حال هذا الإِنسَان الذي يود لو أصبح فحمة محترقة ولم يتكلم بهذه الشكوك والخواطر، هذا قوي الإيمان، فلهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذلك صريح الإيمان) وفي رواية أخرى (ذلك محض الإيمان) ويقول المُصْنِّف هنا: [ولمسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سئل الرَّسُول عن ذلك فَقَالَ ذلك محض الإيمان] ومعنى حديثأَبِي هُرَيْرَةَ وسوسة النفس أو مدافعتها، أي أن الحديثين هما في الحقيقة وردا في موضع واحد أنه سئل عن الوسوسة، فيقول المصنف:
[فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين الاثنين فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان] ، ويمكن أن يحمل الحديث عَلَى أحد الأمرين:-
الأمر الأول: أن يكون المشار إليه بأنه الموصوف: [محض الإيمان] هو المدافعة كما ذكر ذلك المُصْنِّف ومعناه: أي أنكم ما دمتم تدافعونها فهذا دليل عَلَى قوة إيمانكم، فلا تيأسوا وهذه بشرى وخير لكم وليس شراً كما تظنون، والمدافعة والمجاهدة هذه هي محض الإيمان لأنها مترتبة عليه وناشئة عنه.(1/1563)
الأمر الثاني: أن يكون (ذلك محض الإيمان أو صريح الإيمان) هو: وجود الوسوسة، لأنك في حالة قبل الاهتداء لم تكن تجد شيئاً فلما اهتديت وجدت، فوجودها دليل عَلَى وجود الإيمان، وإذا وجد الإيمان أرد الشيطان أن يبارزه في الشكوك، إذاً أنت في هذه الحالة والْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى خير، وهنا يدل عَلَى أن الإيمان قد نما في قلبك، عندما تجد تلك الوساوس، ولذلك يقول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ذلك محض الإيمان) أو (ذلك صريح الإيمان) .(1/1564)
شرح العقيدة الطحاوية
النبوة
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
من أهم الموضوعات التي يجب عَلَى طالب العلم أن يلم ولو بقدر منها، حقيقة نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونبوة غيره من الأنبياء، لأن من أركان الإيمان الإيمان بأنبياء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فلا بد من معرفة النبوة وما حقيقتها ومدى حاجة النَّاس إليها وأمثال ذلك مما يجب أن يعلمه المسلم ولو إِلَى حد ما.
ويتبين لنا عظمة النبوة وأهميتها إذا عرفنا أن كل شي من الدين يعتبر فرعاً عن إثبات النبوة، فالإيمان بالقرآن الذي هو كلام الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- متفرع عن الإيمان بنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كَانَ كفار قريش يجادلون النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه ليس بنبيٍ؛ ليتوصلوا بذلك إِلَى الطعن في القرآن، لأن من أنكر نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو طعن فيها فقد طعن في القُرْآن وطعن في الإسلام.
أساس الدين إثبات النبوة
أساس الدين هو إثبات النبوة لنبيا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال كفار قريش إنما أنت مفتر، وَقَالُوا: ساحر، وشاعر، ومجنون وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان:5] ، وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون [الفرقان:4] وقالوا غير ذلك من السباب كقولهم: إنما يعلمه بعض الأعجميين، وقولوا: إنما يعلمه بشر، ويجب أن يُعلم أن كل أنواع الافتراءات التي تنكر القُرْآن تعتبر تكذيباً لدعوى النبوة، وإذا كذبوا النبي في دعوى نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعد ذلك ينكروا ما شاءوا.(1/1565)
لهذا كَانَ مبحث النبوة مبحثاً عظيماً ومهماً في أبواب العقائد، وقد ضل كثير من المتكلمين في هذا الموضوع، إما ضلالاً كلياً، وإما ضلالاً جزئياً، فلم يعرفوا حقيقة النبوة، ولم يدركوا معناها ولا غايتها؛ ولذلك فإنهم لما أرادوا أن يثبتوا نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطرق الكلامية العقلية أوهنوا دين الإسلام؛ لأن ما قرروه من الطرق والوسائل لإثبات النبوة ليست بالقوة التي يمكن أن يؤمن بها كل عقل؛ لأنها منحرفة عن منهج القُرْآن والسنة في إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أرادوا إثباتها بطرق محصورة معدودة -كما سنبين إن شاء الله بالتفصيل- كَانَ ذلك مما أوهن بل سهل لأعداء الإسلام أن يطعنوا في دين الإسلام، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ عن هَؤُلاءِ الناس: "إنهم لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا" ومع دلائل النبوة التي لا تحصى، فقد أنكرها بعض من استهوتهم الشياطين.
الذين ينكرون النبوة
من الذين ينكرون النبوة الفلاسفة ومنهم كما يقال البرهمية -الذين هم في الهند عباد الأبقار- والفلاسفة ينكرون النبوات ويقولون: لا حاجة لوجود نبي، والعقول تغني عن الشرائع، والأنبياء ما هم إلا أناسٌ عباقرةٌ عظماء نابغون، تعلموا أنواعاً من الحيل مثل حيل السحر، وجاؤا إِلَى قومهم وَقَالُوا: نَحْنُ أنبياء واستخفوا بعقولهم بهذه الخوارق للعادة فتبعتهم أقوامهم.(1/1566)
وليس لهم أي دليل من العقل، فلما جَاءَ أهل الكلام، وأرادوا أن يردوا عليهم، ولم يسلكوا منهج القُرْآن والسنة في إثبات نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرد عَلَى منكريها، مع كثرة ما جَاءَ في القُرْآن من الحديث عنها، ومع أنها قضية كبرى، ومعركة كبرى دارت بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش، بل سلكوا منهجاً عقلانياً مجرداً يتوقف كله عَلَى إثبات ما أسموه "المعجزة" وأنه لا دليل لثبوت النبوة غير المعجزة، وحصروا الدلائل في المعجزة وحدها، وهذا فعل كثير منهم فلما فعل أهل الكلام ذلك، جَاءَ الفلاسفة وأبطلوا -أيضاً- تأثير المعجزة فكان ذلك مما هيئ لأن يطعن الطاعنون في دين الإسلام.
إلا أن الإِنسَان الذي ينتهج في عقيدته منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقرأ كتاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ويأخذ ويستقي منه كل ما يعتقد يجد إثبات نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلى من الشمس في رابعة النهار، ولسنا في حاجة إِلَى أن نتعلم من الطرق العقلية ما نرد به عَلَى منكري نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هنا قد جَاءَ بأدلة كثيرة هي جزء قليل من الأدلة العامة التي -هي أدلة متواترة مستفيضة- تدل عَلَى إثبات النبوة في الجملة، وإثبات نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة فلهذا نذكر كلامه -إن شاء الله- وبعد ذلك نتحدث عن أهمية دراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وإن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/1567)
[الاصطفاء والاجتباء والارتضاء: متقارب المعنى. واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى، وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، وأن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء:26] إِلَى غير ذلك من الآيات.
وذكر الله نبيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسم العبد في أشرف المقامات، فَقَالَ في ذكر الإسراء: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] وقال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19] وقال تعالى: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة:23] وبذلك استحق التقديم عَلَى النَّاس في الدنيا والآخرة. ولذلك يقول المسيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ القِيَامَةِ، إذا طلبوا منه الشَّفَاعَةَ بعد الأَنْبِيَاءِ عليهم السلام: "اذهبوا إِلَى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى. وقوله: "وإن محمداً" بكسر الهمزة عطفاً عَلَى قوله: "إن الله واحد لا شريك له" لأن الكل معمول القول، أعني: قوله: "نقول في توحيد الله"] اهـ.
الحديث عن إثبات نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن تقرير مبحث النبوة عامة، يقتضي منا أن نتحدث عن أهمية دراسة سيرة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخلاقه؛ لأنه هو القدوة والأسوة قال تعالى: (َقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا) [الأحزاب:21] .(1/1568)
فكل مؤمن بالله منتسب إِلَى هذا النبي العظيم صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلابد -وهو حري ومشتاق بلا شك- أن يقرأ سيرته ويطالع شمائله ويستنير بهداه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ كل أمة من الأمم وكل مبدأ وكل مذهب لابد أن يكون له مثل أعلى، ونماذج حية يؤمن بها أصحاب هذا المبدأ ويتأسون ويقتدون بها، ويُشهرِونَ اسمها ويُخلدّوُنَ أعمالها، ويرفعون أمجادها، هذه سنة جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فكل المتبوعين من البشر الحقيقيين أو المتبوعين من المتوهمين -كل هَؤُلاءِ- يرفعهم أتباعهم، ويعظمونهم، ويختلقون لهم من وسائل التمجيد والتكريم والتبجيل ما يرفعونهم به عن مستوى سائر البشر، لأن هذا التعلق طبيعي وفطري في النفس البشرية تجاه كل من تتبع وتدين بما يقول، ولكن نبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد ولد آدم أجمعين.(1/1569)
وأفضل الأَنْبِيَاء والمرسلين وهو الذي زكاه وطهره وأثنى عليه ربه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وكل من رآه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مؤمن أو كافر، شهد له بالغاية العظمى في الحلم، والكرم، وحسن الخلق، والصدق، والأمانة، والوفاء، هذه الشخصية - شخصية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تحتاج لمن يختلق الأمجاد لها، أو يفتري عليها، وإن كَانَ يظن أنه يكذب لها، لأنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خصه الله تَعَالَى من الفضائل والخصائص؛ في غنى مطلق عمن يفتري ويختلق له ما ليس فيه. وما علينا إلا أن نقرأ الصحيح من سيرته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنتأسى ونقتدي به، فإنه يوجد فيها من دلائل النبوة والآيات والبراهين البينات ما تنبهر له جميع النفوس؛ ولهذا فإن كثيراً من النَّاس أسلموا لمَّا رأوا سيرته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما عياناً وإما قراءةً فبمجرد أن قرؤوها علموا أن هذا الإِنسَان ليس بكاذبٍ أو مفترٍ، وأنه لا يأتِ بشيءٍ من عنده، ولا يريد شيئاً لنفسه، وإنما هو من عند ربه -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وأن دعوة النبوة حق ويقين وبرهان وليست مجرد دعوى.
كل مسلم بحاجة إلى معرفة سيرة وأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقتدي به
فالحكّام والأمراء يحتاجون سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ليتعلموا منه العدل والأمانة، ويتعلموا منه كل صفات الحاكم الناجح، والأمير الناجح. وكذلك العلماء يحتاجون سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليتعلموا منها دقائق العلم والفقه والأحكام التي لا توجد إلا في سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنها كلها حجة ونحن مأمورون أن نتبعها، وأن نتعبد بما صح منها.(1/1570)
وكذلك طلاب المعرفة والأخلاق العالية والسامية، يقرؤون سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيجدونه المثل الأعلى في الحلم، والعطف، والحنان عَلَى الفقراء والمساكين، والعفو والكرم، والشجاعة والمروءة.
والزوج الذي يريد أن يكون زوجاً حقيقياً، وأباً مثالياً في بيته، فليقرأ سيرة وشمائل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليجد مثال الإِنسَانية العالية، والزوج الكامل الصفات في معاشرته لأهله ومعاملته لجيرانه ومن حوله، تجد تلك الصفات التي من تحلى بها بلغ الكمال ولم يحز أحدٌ منها مثلما حاز هو، فكل إنسان يحتاج إِلَى أن يقرأ سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحيحة، لا قراءة المطلع عَلَى أحداث التاريخ، وإنما قراءة المتعظ المعتبر المتأسي الممتثل لما يجده في هذه السيرة العطرة الزكية النيرة.
ولهذا من حكمة الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ورحمته أن حفظ لنا سيرته كاملةً حتى نعرف كيف كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بين زوجاته وكيف كَانَ يأتيهن، وعندما تكون المرأة من أمهات المؤمنين حائضاً نعرف كيف كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يباشرها وهي حائض، وكيفية اغتساله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجنابة، وهل كَانَ يغتسل في إناء وحده أو مع إحدى زوجاته؟ فنعرف -ولله الحمد- حتى الأمور الدقيقة في حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هي عند أكثر النَّاس مجهولة أو معمية أو مخفية.
وضوح سيرته صلى الله عليه وسلم ليسهل التأسي والاقتداء بها:
وقد جعل الله سيرة هذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضحةً نيرة ليس فيها شيء مما يخشى أن لو انكشف لكان طعناً فيه.(1/1571)
أما غيره من البشر من الزعماء المتبوعين فإنك تجد أن جوانب كثيرة من حياتهم مخفيه مجهولة؛ لأنها لو انكشفت أو عرضت لاطلع عليها النَّاس ورأوا فيها من المعايب والمعاور ما قد يصرفهم عنه، ولذلك تجد أن سيرة كثير من هَؤُلاءِ الأدعياء الذين يدعون الكمال أو يتوهمه فيهم أتباعهم، متناقضة إذ أنها تُعدَّل دائماً ويُحذَف منها: فهذا شيء اكتشف مثلاً أنه باطل، وهذا اكتشف أنه يؤدي إِلَى عكس المعنى الذي أرادوه لما وضعوه، وهذا الشيء إن اطلع عليه كَانَ نقصاً في حقه، وهكذا إلا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكل ما صح من سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه الغاية في الحق والكمال، وهو قدوة ومعيار؛ لأن نقيس به ما عداه، فما كَانَ عَلَى مثل ما هو عليه فهو الحق، وما كَانَ مخالفاً له فهو الباطل المرذول، والمخالف والمجانب للصواب.(1/1572)
فلذلك نجد أن الإِنسَان إذا أراد التأسي فإنه يمكنه أن يتأسى بسيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواضحة، في مسجده وبيته، وقيادته للجيوش، أو في سياسته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للأمة عامة، سواءً في معاملته مع أصحابه، أو في معاملته مع أعدائه، فكلها أمور واضحة حتى أدق الأمور في السياسة، وكذلك معاملة الإِنسَان للكفار من خلال معاهدات واضحة، واتفاقيات أو عقود ذمةٍ واضحةٍ جليةٍ، مالها وما عليها، حتى مع اليهود، كل ذلك في منتهى الوضوح؛ لكي يتأسى به النَّاس ولكي يعلموا أن هذا نبي من خلال سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليقرأها العالم ونتحداهم جميعاً أن يجدوا فيها مطعناً، وأي مطعن يمكن أن يجده الطاعنون في هذه السيرة الزكية العطرة، وهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ودلالة عَلَى أنه صادق وأن هذا القُرْآن من عند الله، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخبر عنه ربه، ما كَانَ يرجو أن يلقى إليه القرآن، ولكن رحمة الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- للعالمين هي التي اقتضت أن ينزل هذا الكتاب وأن يبعث هذا الرَّسُول.
واقع العرب بين ظلام الجاهلية ونور الإسلام:
إذا أردنا أن نعرف شيئاً من عظمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأثره في واقع هذه الدنيا وفي حياة الإِنسَانية؛ فلننظر إِلَى واقع الأمم التي بُعث فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكيف كَانَ العالم قبيل مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن أي مؤرخ مُنصف يقرأ ويتتبع حال العالم قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حال العالم بعد أن عمَّ عليه نور الإسلام، فسيجد أن هذا نبي حقاً من عند الله، وليس بمفتر؛ بل سيجد أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم الخلق منّهً عَلَى البشر، وعلى الإِنسَانية جمعاء، وعلى سائر الحضارات.(1/1573)
فإن الأمة التي بعث منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أمة العرب وما أدراك ما أمة العرب في الجاهلية؟! لما ذهب وفد الْمُسْلِمِينَ إِلَى رستم تقدموا هنالك، وأخذوا يتوغلون في بلاد فارس وأرسل إليهمسعد بن أبي وقاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- الرسل، وكان منهم ربعي بن عامر والمغيرة بن شعبة، وكلهم كَانَ يواجههم رستم ويقول: أنتم العرب، كنتم تأكلون الميتة، والجعلان، وكان بعضكم يعتدي عَلَى بعض، ويذمهم بأنواع من الذم. ثُمَّ يقول لهم: فما الذي جَاءَ بكم؟
فكان يجيبه المغيرة وربعي بن عامر، ويقولان: أيها الأمير! كَانَ ما تقول وأعظم، أنت لا تدري بالعرب، فالفرس والروم وكل من أراد أن يطعن في العرب لا يدري عن المعايب الأخرى، والعرب هم أعلم النَّاس بما كانوا فيه من الضلال، والأخطاء، والظلم، والفحشاء، كما جَاءَ في الحديث الصحيح أن الزواني كن ينصبن الرايات في الأسواق، فيأتي عليهن الرجال الواحد بعد الآخر، فإذا ولدت ألحقته بمن شاءت، هذه إحدى صور النكاح في الجاهلية التي جاءت في الحديث عن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها، فكان الإِنسَان يستلحق من ليس بابنه ويدعيه ويأخذه.
وكانت قطيعه الأرحام إِلَى حد كما قال شاعرهم:
وأحياناً عَلَى بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا
يقول: نَحْنُ نغير عَلَى القبائل كلها، فنأخذ وننهب، وإذا لم نجد إلا أخانا أغرنا عَلَى أخينا وأخذنا ما عنده، ليس هنالك معيار ولا ضابط خلقي أبداً.
وكانت من عادتهم إهانة المرأة واحتقارها؛ حتى أنها توأد وهي حية في التراب، وهذا إهدار لإنسانيتها ولكرامتها، وكان العرب يعبدون الأصنام، وكان أحدهم يجمع العجوة من التمر، فيعبده فإذا جاع أكله، وكان العرب عندما يتحاكمون يضربون بالأزلام، فإذا انقلبت عَلَى هذه الجهة حكم لفلان، وإذا انقلبت عَلَى الجهة الأخرى حكم لفلان.(1/1574)
وكانوا يذهبون إِلَى الكهان ويتحاكمون إليهم في أي أمر من الأمور، والكهان يحكمون بينهم، وكان السادة والكبراء يحكمون ويتسلطون، وأما الذين هم من بيوت وأسر دون ذلك من الطبقات فلا قيمة لهم ولا وزن، مهما كَانَ فيهم من الخير أو النبوغ وقد جَاءَ بعضها في الكتابِ والسنة وفي ديوان العرب -الذي هو شعر العرب -وجاء في حياتهم وسيرتهم الجاهلية ما يعطي الدلالة الواضحة عَلَى أن هذه الأمة لولا هذا الدين لما كانت شيئاً مذكوراً، بل لم تكن تسمى أمة، الميزة الوحيدة للعرب أنها كانت بعيدة عن الفلسفات والحضارات، هذه نقطة مهمة جداً فالإسفاف الذي كانت تعيشه كان إسفافاً مع وجود الفطرة التي تشعر أن هذا إسفاف، ولهذا لما كان أحدهم يعبد الصنم جاء إليه فوجد أن الثعلب قد رقى فوقه وبال عليه قال:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ضل من بالت عليه الثعالب
جاء صلى الله عليه وسلم رحمة بالمؤمن والكافر:
أحصى المؤرخون أن الذين قتلوا في غزوات ومعارك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الْمُسْلِمِينَ ومن الكفار والْمُشْرِكِينَ: ألف وثمانية عشر رجلاً فقط، وهذا العدد من غير بني قريظة؛ لأن بني قريظة في العرف القانوني الحاضر يعتبرون مواطنين في الدولة.
إنما كمعارك في بدربدر وأحد وفي يوم الأحزاب كل من قتل من الْمُسْلِمِينَ، ومن الْمُشْرِكِينَ، في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألفاً وثمانية عشر رجلاً فقط، وقتل هَؤُلاءِ لم يكن صداً عن الدين؛ بل ثمرته أن يعم وينشر هذا النور في العالمين بقتلى هم ألف وثمانية عشر رجلاً فقط، لكن انظروا إِلَى حروب العالم الذين لم يكونوا رحمة للعالمين.(1/1575)
الحرب العالمية الأولى قتلت ما بين أربعة ملايين إِلَى ستة ملايين قتيل وما يزيد عن عشرة إِلَى خمسة عشر مليون جريح، أما الحرب العالمية الثانية فإن التقديرات تدل عَلَى أن ما بين أربعين إِلَى ستين مليون قتيل وجريح، وماذا حققت من الخير والعدل بعد قتل هذه الملايين؟
تأملوا لنعرف ما معنى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ، ولنعرف مَنْ هذا الرجل الذي يجب عَلَى كل إنسان عَلَى ظهر الأرض أن يطيعه وأن يتبعه كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) .
هذا الإِنسَان الذي بعثه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالهدى، ودين الحق فنشر الرحمة ونشر العدالة بين الأمم.
من أثر رحمه الله للعالمين بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
إخراج جيل فريد هم النماذج العليا في كافة المجالات، والنماذج العليا من البشر: هم من اقتدوا بسيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واهتدوا بهداه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا أفضل من عَلَى وجه المعمورة من الحكام؛ هم الخلفاء الراشدون، لأنهم أتباع مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضل من شهدته المعمورة من العلماء؛ هم أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولنضرب مثلاً يوضح فضل علماء الإسلام علىغيرهم من علماء اليهود والنَّصَارَى.(1/1576)
انظروا مثلاً قصة سلمان الفارسي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لما ذهب إِلَى الراهب في دمشق من علماء أهل الكتاب، وقد كَانَ خدمه سلمان أربعين سنة، وهو يتعبد فكان يجمع الزكوات والعطايا، عَلَى أن يعطيها الفقراء، وهو في الحقيقة يجعلها في قلال من الفخار ويكنزها، فلما مات وجاء النَّاس إِلَى سلمان قالوا: أنت الفارسي الذي جئت من بلاد الفرس تتعبد عند الحبر الأكبر؟ قالوا: نريد أن نعمل جنازة كبرى تليق بهذا الحبر العظيم، قال سلمان: قفوا!
وقَالَ: هذه هي القلال من الذهب والفضة التي كنتم تعطونه إياها ليتصدق بها عَلَى النَّاس فلما رأوها تركوا جنازته ولم يعملوا له شيئاً.
فهَؤُلاءِ هم علماء النَّصَارَىوما أدراك ما يفعل أحبار اليهود، ولكن أفضل العلماء همالعلماء الذين أنجبتهم هذه الأمة؛ لأن الذي رباهم هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اقرأوا سيرة عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن عباس أحبار هذه الأمة -إن صح التعبير- وانظروا كيف كانت حياتهم كيف كانت سمعتهم.(1/1577)
وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ يظل علماء الإسلام هم النموذج العالي بين علماء أصحاب الديانات جميعاً، وأفضل قادة في التاريخ هم القادة الذين رباهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخرجوا من مدرسته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك لم يعرف قادة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم يمثلون بالناس، ولم يعرفوا أن يسبوا النساء ويستحلوهن لأنفسهم، ولم يعرفوا الغلول يضعونه وراء ظهورهم من الغنائم، لم يعرفوا شيئاً من هذا؛ بل كَانَ الرجل منهم يحارب لوجه الله وحده يريد الله والدار الآخرة والجنة فقط، إن كَانَ في الساقة كَانَ في الساقة، وإن كَانَ في الحراسة كَانَ في الحراسة، حتى سيف الله المسلول خالد بن الوليد يأتي الأمر بعزله فيمتثل الأمر ليحارب جندياً؛ لأنه كما قَالَ: إني لا أقاتل من أجلعُمَر إنما أحارب في سبيل الله، ولم ينتصر جيش الْمُسْلِمِينَ لأن قائده خالد أو أبو عبيدة، بل لأن قائده هو الإيمان بالله، ولأنهم يتبعون مُحَمَّد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأعظم الزوجات هن زوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يمكن أن تقارن أي زوجة لأي شخص من النَّاس من عالم، أو عظيم، أو كبير، أو صغير بزوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الطهارة والعفة والعلم والأمانة، وهذا أيضاً من الدلالة عَلَى صدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الذين ينتقصون من قدره صلى الله عليه وسلم:(1/1578)
ولا بد أن نُعِّرج عَلَى الذين يغضون من قدر نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل يطعنون في نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شعروا بذلك أو لم يشعروا، وإن كَانَ زعماؤهم ومؤسسوهم يشعرون بلا شك: وهم الذين يتنقصون ويحطون من قدر أصحاب وزوجات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحطون من قدر علماء الإسلام الذين تعلموا العلم عن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورجال الإسلام وقادته الذين تلقوا عن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالذين يحطون من قدر هَؤُلاءِ: يطعنون في نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولبيان ذلك أضرب لكم مثلاً بسيطاً: لو أن أحدنا يعرف في البلدة مائة وعشرين رجلاً، فجاء رجل وقَالَ: إن المائة والعشرين هَؤُلاءِ أنا أعرفهم ليس فيهم إلا أربعة أشخاص طيبين والبقية مجرمون، كاذبون غشاشون، فاجرون، ظالمون، أيكون هذا الإِنسَان ثقة؟ أيكون أميناً أو طاهراً، ثُمَّ هَؤُلاءِ الأربعة ليسوا من المقربين عنده، لكن المقربين الممكَّنين منه الذين صُحْبَتُهمْ معه ليلاً ونهاراً هم أكبر المجرمين، والغشاشين والفجرة فكيف سيكون هو إلا مجرماً وغشاشاً فاجراً كذاباً وهذا شيء معروف.
وأيضاً أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عددهم 120 ألفاً، وليس 120 شخصاً، وكم الذين آمنوا منهم ولم يرتدوا عَلَى حسب زعم الرافضة؟ أربعة فقط؟ من الـ120 ألف لا يوجد إلا أربعة لم يرتدوا، والبقية مرتدون وخائنون وماكرون ومتآمرون، وعلى من تآمروا؟ عَلَى ابنته، وزوج بنته صلّى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم!
فهذا غاية الفجور والخيانة، إذاً فالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعمل شيئاً، ولم يغير من حياة هَؤُلاءِ البشر، ولم يحدث شيئاً من التربية.(1/1579)
وإذا كَانَ أكبر هَؤُلاءِ الظلمة الغشاشين من الـ120 ألف هم: اللذان كانا معه ليلاً ونهاراً لا يفارقانه أبُو بَكْرٍ وعُمَر، فإذا كَانَ هذان أكبر السفاحين، والظلمة، في نظر هَؤُلاءِ النَّاس المجرمين، فماذا يكون هذا النبي؟ إذاً فالجاهلية كانت أحسن من هذا النبي -والعياذ بالله- هذا هو حقيقة ما تقوله الرافضة، وكل إنسان يفكر في هذا منهم أو من غيرهم يجد هذه الحقيقة، إذا كَانَ بهذا الشكل فالجاهلية أحسن، قريش كانت تعادي الإسلام عداوةً واضحة، أما اثنان يعيشان معه ويظهران أنهما متدينان بدينه ومتمسكان به ووزراء وأتباع له، وبقيه الـ120 ألف كلهم أتباع له، ويحاربون معه، ويمشون معه، ويعملون كل شيء معه، فلما مات انقضوا عَلَى دينه يحرفون الكتاب الذي جَاءَ به، ويقومون عَلَى أهل بيته، ويأخذون حقوقهم ويهدروها، وينقضون العهد الذي أخذه عليهم في غدير خُمّ، أن الخليفة من بعده هو ابن عمه وزوج بنته فلان!
هذا النبي لا يسمى نبياً وعبقرياً حتى عصابات المافيا لا تعمل هذا العمل والعياذ بالله، ثُمَّ لو كَانَ عدد المافيا 120 ألف مجرم، والذين عندهم إنسانية أربعة أشخاص، أي: نسبة واحد إِلَى ثلاثين ألف، ألا يوجد أحد عنده إنسانية يخاف الله يقول: هذا الرسول، كيف تضربون ابنته وتأخذون الخلافة من ابن عمه وقد عاهدكم وعاهدتموه؟! وهَؤُلاءِ الصحابة الأربعة لا يوجد فيهم أحد يتحرك قلبه فَيَقُولُ: يا أبا بكر يا عُمَر اتقوا الله!
ثُمَّ أنت يا صاحب الشأن أين الشجاعة التي ربَّاك عليها مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ إذا كَانَ رباك عَلَى الشجاعة، أما تقول: يا أبا بكر هذا حقي لِمَ أخذته؟ ثُمَّ زوجت عمر بن الخطاب من ابنتك، وهو الذي ظلمك وفعل وفعل، وزوجته ابنتك بنت فاطمة بنت مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فاعل هذه الأفاعيل، وتسكت ولا تطالب بحقك قبل أن يموتوا؟!(1/1580)
فأي إنسان عنده عقل يجد أن هَؤُلاءِ الرافضة على أفجر دين وأخبثه، وأن هَؤُلاءِ غاية كلامهم وغاية دينهم ليس مجرد أن الحق مع فلان أو فلان أو الإيثار والانتقام لزيد، لا. إنما أساس دينهم الحط من هذا الدين بهدم نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقول الناس: إن هذا ما ربى إلا هَؤُلاءِ الكذابين الخونة فيقيسوه عليهم -والعياذ بالله- هذا هو مقتضى كلامهم عند أي عاقل من العقلاء فلو أن رجلاً أراد أن يؤمن أو يدعو إِلَى دين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ يقرأ حياته فلم يقع في يده إلا كتاب من كتب أصحاب هذه الملة فبالله عليكم أي فكرة يأخذها عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغض النظر عن الصحابة؟! هل تكون فكرة الإِنسَان النموذج العالي الكامل الذي ربى أصحابه عَلَى أن يعملوا لله، ويتجردوا من الدنيا وملذاتها وشهواتها؟! لا يكون هذا.
أبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعُمَر وعثمان والصحابة كلهم كيف كانت نظرتهم للدنيا؟ وكيف كانت نظرتهم للموت؟ انظر إِلَى التابعين، وأتباع التابعين، بل انظر إِلَى البقايا. الآن نَحْنُ في القرن الخامس عشر انظروا إِلَى علماء الإسلام الذين يتأسون بأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يعيشون؟ هل يتهافتون عَلَى الدنيا ويتكالبون عَلَى الحطام؟ أو يغشون ويتكسبون بهذا الدين؟ هل يريدون لأبنائهم من بعدهم أن يكونوا فوق العالمين؟
أي عالم من علماء الإسلام يتأسى بأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذا رأيناه نرى فيه الأسوة والقدوة والورع والخلق، فبالله عليكم كيف بمن قبل خمسة عشر قرناً؟!
إذا كَانَ هَؤُلاءِ تربوا عَلَى الكتب، فكيف بالذين تربوا تربية مباشرة عَلَى يد مُحَمَّد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف يظن فيهم هذه الظنون الكاذبة؟!(1/1581)
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ هنا في وصف العبودية: [واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله] تعليقاً عَلَى قول الطّّحاويّ: [وإن محمداً عبده المصطفى ونبيه المجتبى] .
والمصنف رَحِمَهُ اللهُ اتبع في هذا قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تطروني كما اطرت النَّصارَى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا عبد الله ورسوله) وقد سبق بيان أعظم المقامات، وهو مقام العبودية.
انظروا إِلَى عيسى عَلَيْهِ السَّلام لما أراد الله أن يفضح النَّصارَى وأن يخزيهم في قولهم: إنه ابن الله، وذلك عندما جاءت به مريم عليها السلام فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً [مريم:27] أي: ما هذا؟ بنت بكر عذراء تحمل طفلاً، من أين أتت به؟ من أين ولدته؟ واجتمعوا حوله ولم تتكلم بل أشارت إليه فقط، كل واحد يقول: تعالوا انظروا هذا الغلام كيف جاء؟! الأذهان مندهشة ومستفزعة ومستفظعة الأمر، وفي هذه الحالة وهذا الموقف الرهيب يتكلم وهو مولود والكلمة التي سيقولها ستنحفر في الأعماق؛ لأنها في موقف رهيب، والأمر عجيب فليس الإِنسَان كبيراً ماذا قال؟ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً [مريم:30] حتى تقوم عليهم الحجة، وينقلوها جيلاً بعد جيل أنه قَالَ: إني عبد الله، فقالت النَّصارَى ابن الله، مادام أنه من أم بلا أب، فهو ابن الله -والعياذ بالله تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً- فالعبودية: هي أول المقامات وأعلاها وأشرفها، ولهذا قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تطروني كما اطرت النَّصارَى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)(1/1582)
والخضر عَلَيْهِ السَّلام مثلاً تمجده الصوفية وتفتري وتختلق الأكاذيب له، وتدعي أنه القطب الأعظم الذي يدير الكون والذي يفعل، ويفعل كل الأكاذيب التي يجل عنها الحقُ والعدلُ، ماذا قال الله عَزَّ وَجَلَّ فيه؟ قَالَ: فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65] الميزة أن الله تَعَالَى آتاه رحمة، وهي النبوة وآتاه العلم الذي أوحاه إليه مما ليس عند موسى، فكان عنده علم ليس عند موسى، وكان عند موسى عَلَيْهِ السَّلام علم ليس عند الخضر، ولا شك أن موسى أرفع عند الله من الخضر، ولهذا قال المصنف: [ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، وأن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق وأضلهم] وهو كافر بالله العظيم مثل من يقول: إنه يسع أحداً من النَّاس أن يخرج عن دين الإسلام أو عن شريعة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما خرج الخضر عن شريعة موسى عَلَيْهِ السَّلام؛ لأن الولي يتلقى مباشرة من الله!
هذا الكلام من أبطل الباطل؛ لأن الخضر -عَلَيْهِ السَّلام- نبي، وموسى نبي، ولم يكن موسى مبعوثاً للعالمين، وإنما كَانَ مبعوثاً إِلَى قومه خاصة قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكان النبي يبعث إِلَى قومه خاصة وبعثت إِلَى النَّاس عامة) في حديث الخمس اللواتي أعطيهن ولم يعطهن أحد قبله.(1/1583)
فهذا النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مواضع التكريم نجد وصفه بالعبودية، مثل قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] هذا النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصل في ليلة الإسراء والمعراج إِلَى درجات عليا لم يصلها أي مخلوق قبله عَلَى الإطلاق، درجةً عليا عظيمة جداً فقد يتوهم متوهم أنه لا يفعل هذا إلا الإله، فَقَالَ الله -جل شأنه-:سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء:1] فهو عبد لله تعالى؛ لأنه حقق العبودية الكاملة، فأعطاه الله هذه الدرجات العالية هذا أولاً.
وثانياً: مهما ارتفعت منزلته أو قيمته، فإنه ما يزال عبداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
أعظم وصف هو وصف العبودية:
فوصف العبودية هو أعظم وصف، ولذلك كلما كَانَ الإِنسَان عبداً حقيقياً لله، في بيته وعمله ومسجده ومحكمته، وفي أي مكان حل فيه؛ يعد محققاً لعبودية الله في هذا الموضع، وما فرضه الله في هذا الوقت فهو أقرب إِلَى الكمال، الذي هو كمال التقوى، ودرجة الكمال التي لا يبلغها إلا القلة من النَّاس أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا بشأن تحقيق العبودية.
وإذا عرفنا حقيقة العبادة، فلا نستغرب أن تكون الهمة العالية لدى كل عباد الله الصالحين تتجه إِلَى تحقيق هذه العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه إذا كانت العبادة هي كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة".
فالأعمال الباطنة مثل: أعمال القلب من اليقين والصبر والتوكل والرجاء والخوف والمحبة والإنابة والإخبات.
والأعمال الظاهرة: كالصلاة والزكاة والجهاد والحج، وأمثال ذلك. فإذا كانت العبادة تشمل هذا كله، فكل من حقق شيئاً من هذه الأعمال الباطنة، فهو أكثر عبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من غيره.(1/1584)
فهذا تحقيق العبودية لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبيان أن الإِنسَان كلما حققها أكثر كلما ترقى أكثر، والنتيجة النهائية أن أعظم وصف وصف به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أنه عبد لله، ونحن نقول:أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو صاحب العبودية الكاملة -لله عَزَّ وَجَلَّ- التي لم تتحقق في أي مخلوق؛ ولهذا فإن كل الأَنْبِيَاء يَوْمَ القِيَامَةِ يتراجعون إِلَى أن يصل الأمر إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: أنا لها! أنا لها! لأن العبودية الكاملة محققة فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ضوابط حبه ومدحه عليه الصلاة السلام:
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى ابن مريم) والإطراء: هو المبالغة في الثناء، فبعض النَّاس يطري -وإن كَانَ هذا الثناء حق- وينسى الكلمة الفاضلة، فَيَقُولُ: إن سيدنا ومولانا وقائدنا وإمامنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلاً، بينما لو قَالَ: مُحَمَّد عبده ورسوله لكان أفضل؛ لأن العبودية: هي الأفضل وهي التي جاءت في القُرْآن في مقام التكريم، وهي التي قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ بعد ذلك قل ما شئت وكونه إمامنا وقائدنا ومولانا وسيدنا كل هذا حق، ولكن الأفضل أن تستخدم اللفظة الشرعية التي وردت هذا الأصل: لأن العبودية هي أعظم وَصفٍ وُصفَ بهِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن بالغ فيه وظن أنه يمدحه، فهذا مثل شاعر من الشعراء أعرابي بدوي يسمونه علي بن الجهم من الشعراء المشهورين في الدولة العباسية، كَانَ لا يعرف شيئاً؛ لكن شعره شعرٌ عربي فصيح؛ لكن عَلَى ما في البادية، وما يفهمه النَّاس فيها، وما يمدح به النَّاس بعضهم بعضا، فلما جَاءَ إِلَى الخليفة في بغداد وأراد أن يمدحه بقصيدة قال له:(1/1585)
أنت كالكلب في الحفاظ عَلَى العهد وكالتيس في قراع الخطوب
فقالوا هذا الخليفة -أمير المؤمنين- تشبهه بالكلب والتيس! فَقَالَ لهم الخليفة: دعوه، فهذا الشاعر لا يريد إلا المدح، ولا يقصد إلا الثناء، ولم يقصد إلا الجائزة من الخليفة، لكنه بدوي مسكين يعرف التيس ويرعى الغنم، ويعرف أن الكلب هو الذي يحميها من الذئب والوفاء عند هذا البدوي متمثل في الكلب، والقوة عنده في التيس الذي يناطح الصخور والحجارة فهذا الذي يعرفه.
لكن لما اختلط بالبيئة المتحضرة قَالَ:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
لما عاش في بيئة فيها نعيم بدأ بالشعر الراقي أو الشعر الحضاري، عَلَى أية حال وإن كَانَ قد لا يكون راقياً في ميزان الشرع! وأكثر الْمُسْلِمِينَ اليوم في جهل بمقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كمثل هذا البدوي في جهله بمقام الخليفة فلا يدري أكثر الجهال أن مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يمدح به أن تقول فيه: هو عبد الله ورسوله.
ما يعاب على بعض المادحين له عليه الصلاة والسلام:
أما غيره من المدح كَانَ يمدحه بشيء فيه ما يدعو إِلَى السخرية، كقولهم: كَانَ الذباب لا يقع عليه، وكان القمل لا يؤذيه، فهذا ليس المدح الذي مدحه الله به وأثنى به عليه، ومع ذلك تؤلف في ذلك الكتب ويقولون: إن من يدعو إِلَى التمسك بسنته، فإنه يكرهه.
ويقولون: هَؤُلاءِ يكرهون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنهم ينكرون علينا هذا المدح، ويقولون: "لا تطروا الرسول، لا تبالغوا في مدح الرسول" وبهذا الكلام يرون أن هذا هو غاية المدح، مثل ذاك الشاعر البدوي كما تقدم. فيجب أن نعلم أن الأمر ليس متروكاً لآرائنا وأهوائنا نمدح بما نشاء ونذم بما نشاء، وإنما نمدحه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حدود ما أمر الله، مع حبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1586)
وهذه لها موضوع -وسيأتي بإذن الله- أهمية محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن محبته غير طاعته، نعم هي تستلزم وتقتضي طاعته لكن المحبة نفسها كعمل قلبي، هذا أمر واجب لا يجوز أن يخلوا منه قلب مسلم.
ولو أن أحداً كَانَ في قلبه أدنى بغض لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لما جَاءَ به لم يكن مسلماً عَلَى الإطلاق في مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل هو منافق، وإذا لم نحب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن الذي نحب إذاً.
وقد ضرب الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ مثلاً أعلى في هذا، فقد أمر المعتصم -الخليفة العباسي- به أن يُمد عَلَى الأرض ويضرب، فيضرب حتى تنفتق خاصرته، وتخرج أمعاؤه رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ليقول البدعة والكفر، وهو يأبى إلا أن يقول الحق ويصبر عليه وذلك يضربه، ويعذبه، حتى أغمي عليه.
ومن المعلوم أن كل أئمة الإسلام وعلمائه لكثرة علاقتهم بالله -عَزَّ وَجَلَّ- وثقتهم به وعبادتهم وتقواهم، لو رفعوا أيديهم عَلَى مخلوق لاستجاب الله عَزَّ وَجَلَّ لهم؛ لأنهم يتحقق فيهم حديث الولي: (ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) وقد كَانَ الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من الطبقة العليا من رجال الإسلام في الولاية لله -عَزَّ وَجَلَّ-، وفي طاعته لربه وقد روي ونقل عنه، أنه كَانَ مجاب الدعوة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فلما قيل له: أدعُ اللهَ عَلَى المعتصم.
قَالَ: بل أغفر له لقرابته من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعتصم ابنٌ من أبناء العباس والعباس عم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلذلك غفر له.(1/1587)
فأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا ينكرون قرابة الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاينكرون محبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن الذي ننكره هو الغلو في أي بشر كائناً من كَانَ ورفعه عن مستواه، وننكر أن ينزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن منزلته أيضاً فإن الله تَعَالَى بعثه بالهدى، والنور وبدين الحق، رحمةً للعالمين أجمعين.
فمن أراد أن يجعل من هذا الرَّسُول مجرد ذكرى موسمية تؤكل عليها الموائد، أو يحتفل بها، أو وسيلة للربح الشخصي، أو لأي غرض من أغراض الدنيا، فإن هذا يحقر ويهون من شأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما هكذا عُني أصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنبيهم، الذين كانوا يعرفون قدره، ويعزرونه، ويوقرونه، ويعظمونه، كما شرع الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وما علينا إلا أن نتأسى بهم وأن نقتدي بهم.
يقول أهل الكلام: إنه لا دليل عَلَى صحة النبوة إلا المعجزة.
والمعجزة عند أهل الكلام هي: الأمر الخارق للعادة الذي يجريه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى يد مدعي النبوة إثباتاً لصدقه لا غير.
وماذكره أهل الكلام فهو من تضييق الواسع، وهذا الدليل ليس هو كل الأدلة، بل هو جزء من كل، وقطرة من بحر، وفي دلائل النبوة ما يدل ويقطع لكل ذي لب أنه رَسُول الله، وإن لم يبلغه من ذلك إلا البعض.
دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم لم تمت بموته(1/1588)
فدلائل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهرة، وأعلامها منشورة إِلَى قيام الساعة، لم تمت بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا بموت أصحابه، وإنما هي باقية مخلدة، وكل إنسان مؤاخذ ومخاطب بما جَاءَ من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وما من أحد يسمع به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأرض ثُمَّ لم يؤمن به إلا كَانَ من أهل النار، وذلك لظهور الحجة واستبانة المحجة، وهذا من فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ورحمته بالعالمين.
دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم يعرفها العالم والجاهل
إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما أرسل هذا الرَّسُول للناس كافة جعل آياته عامة لهم إِلَى قيام الساعة، وعامة للعالم منهم والجاهل، فالجاهل الأمي البدوي أو الفلاح القروي يجد في دلائل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشيء الكثير ويفهمها ويستوعبها ويُقرُّ بِها.
دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم أبهرت علماء الدنيا
والعالم المتبحر - في أي علم - يجد فيها ما يبهره؛ فالمؤرخ يجد فيما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أخبار التاريخ ما يذهل العقول ويحير الألباب، دون أن يكون هناك أي مصدر آخر لهذا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت:48] ، ومع ذلك يأتي بالآيات والأخبار عن الأمم الماضية التي لم يعرف المؤرخون كثيراً منها.(1/1589)
وعالم الفلك يقرأ فيما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العجائب ما لم يكن الفلك ولا علماؤه يعرفونه في ذلك الزمن، وربما فيما يستقبل من الزمان. وعالم الطب يجد فيما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شفاء الأبدان، ومعالجة الأمراض ما تعجز عنه عقول البشر الذين تخصصوا في الطب وأفنوا أعمارهم فيه، وهكذا كل علم من العلوم حتى في علوم الرياضيات فإن ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا المجال في ذلك العصر، يُعجب منه، وأعظم من ذلك ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طرق ووسائل لإصلاح النفوس وتربيتها وتهذيبها.
نجاح تربية النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وفشل علماء الأخلاق في تربية الفرد
فإن علماء الأخلاق والحكماء والآباء والمربين يعجزون أن يربوا فرداً واحداً تربية متكاملة، وأما هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ربى أمة عظيمة، كانت أعظم الأمم جهلاً وأكثرها انحطاطاً في الحضارة، ثُمَّ أصبحت خير الأمم، وأصلحها، وأعدلها وأقومها بتمسكها بهديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما تزال إِلَى اليوم هي الأمة الوحيدة التي يمكن أن تحقق في العالم العدل والسلام والحق الذي ليس وراءه حق، فالمعجزات كثيرة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدلائل عَلَى نبوته عظيمة.
في كل صحابي آية تدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم
في كل صحابي آية تدل عَلَى صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(1/1590)
ففي كل واحد ممن أسلم من الصحابة آية، وفي كل فتح فتحوه، وفي كل حق وخير وعدل وسلام نشروه في الأرض آية تدل عَلَى أنه نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن هذا الدين ما كَانَ ليفترى من عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا من عند أحد، وإنما هو تنزيل من عند الله العزيز الحكيم، الذي اصطفى هذا النبي وفضله عَلَى سائر العالمين، واختاره ليكون نذيراً وبشيراً للعالمين، وأنزل عليه هذا النور دون غيره من البشر.
قول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين، أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا عَلَى أجهل الجاهلين، بل قرائن أحوالها تعرب عنهما، وتعرَّف بهما، والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة، فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوى النبوة؟ وما أحسن ماقال حسان رضي الله عنه:
لو لم يكن فيه آيات مبينة كانت بديهته تأتيك بالخبر
] .
الشرح:
من أعظم الأدلة التي ينبغي أن يعيها كل إنسان منا، وأن يقيس بها بقية الأمور: أن النبوة ليست أمراً هيناً، وليست أمراً عادياً يمكن أن يدعيه كل أحد، وأن يكذبه فيه أي أحد.
إن مسألة النبوة شأنها عظيم جداً، فلن يدعيها إلا أحد اثنين: إما أصدق الصادقين، وإما أكذب الكاذبين، فلا واسطة بينهما بإطلاق.
وأي حرفة أو مهنة أو صنعة من الصناعات قد يدعيها من يتقن بعضها أو جزءً منها، وقد يصدقه البعض، وقد يكذبه البعض الآخر دون أن يؤثر ذلك كثيراً، إلا النبوة فإن مدعيها: إما أن يكون صادقاً حقاً، ويلزم من ذلك اتباعه في أوامر عظيمة، وأن الذي يأتي به هو الحق، وإما أن يكون كذاباً حقاً، فيلزم من ذلك أن يكون كل ما يأتي به ضلالاً ومحقاً واعوجاجاً وانحرافاً، ولا يخلو الأمر من أحد هذين التقديرين أبداً.
للنبوة قرائن وأحوال تعرف بها(1/1591)
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف أنه لا يلتبس أصدق الصادقين، من أكذب الكاذبين حتى عَلَى الجاهل الأمي، فإنه يستطيع أن يميز بقرائن الأحوال، وهنا مبحث يسمى مبحث حصول العلم، متى يكون العلم نظرياً؟ ومتى يكون قطعياً؟ وهو يبحث في علم الأصول، ويبحث في كتب العقائد. والعلم القطعي هو الذي تجد في نفسك قطعاً أنك مصدق به بأي دليل من الأدلة، أما العلم النظري فهو العلم الذي يحتاج إِلَى استدلال وتفكير..
النبوة علم ضروري وبيان خطأ المتكلمين في ذلك
والمتكلمون يقولون: إن النبوة علم ضروري، فالعلم بنبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم الضروري، والخطأ الذي يقعون فيه أنهم يحصرون العلم الضروري بمصادر محدودة، وينسون أن له مصادر ومجالات أعظم مما يحدونه به، ومن ذلك مثلاً: ما يقال في علم الكلام أو في كتب العقائد: أن من أهم السبل لحصول العلم الضروري القطعي طريق التواتر، فإذا أصبحت المسألة متواترة، لم تعد تحتاج إِلَى عرضها عَلَى العقل، ولا إِلَى النظر والتفكير، أو أنها صحيحة موجودة أم لا؟ وأصبح يُتكلم عنها كأنها حقيقة ترى بأم العين، هذا هو العلم القطعي الذي كَانَ سببه التواتر، والتواتر: هو أن جماعة كثيرين من النَّاس يستحيل في العادة أن يتواطئوا ويتفقوا عَلَى الكذب، فينقلون هذا الشيء ويتحدثون عنه.
والناظر إِلَى دلائل نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى آياته يجد أن كل آية منها حصلت عن طريق التواتر إلا القليل، مثل القُرْآن المنقول إلينا عن طريق آلاف الأسانيد والأمة كلها مجمعة عليه.
العلم القطعي يحصل أيضاً بطريقة القرائن
هناك شيء أعظم من الطريق الذي قاله المتكلمون وهو حصول العلم القطعي عن طريق القرائن التي قد تأتي عن خبر الواحد، أو حتى بدون خبر فتدل عَلَى القطع وعلى الضرورة.(1/1592)
ومثاله: لو أنك مشيت فرأيت بيت القاضي وحوله أناس مجتمعون عَلَى وجوههم الوجوم والحزن والأسف، ثُمَّ رأيت الحرس واقفين مصطفين باتجاه المقبرة مثلاً، ثُمَّ رأيت من يأتي بسيارة إسعاف، ورأيت أشياء تدل بواقع الحال عَلَى أن هناك موتاً، وفي هذا الوقت لو جاءك أحدٌ ولو كَانَ طفلاً صغيراً وقال أما تدري أن القاضي قد مات، لاستيقنت قطعاً أنه قد حصل الموت، بخلاف ما لو كنت مثلاً راكباً في الطائرة وقال لك أحد الناس: إن القاضي قد مات، لم يكن هذا قطعاً لك بصدق الخبر، فإذاً القرائن والملابسات تؤدي إِلَى العلم القطعي.
وعليه فليس من الشرط لحصول العلم القطعي التواتر؛ بل اليقين القطعي قد يحصل بقرائن الأحوال.
قرائن أحواله وسيرته صلى الله عليه وسلم أبهرت العقول
إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد احتفت بسيرته وبأحواله وبكلامه من قرائن الأحوال العجيبة ما يبهر العقول فأم معبد ينزل عندها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخيمة وهو عابر سبيل فتقطع بأنه نبي مرسل.
والرجل الأعرابي يسمع أن هناك نبي ظهر فيقول أين هو؟ فيرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: والله ما هذا بوجه كذّاب، وإن قالت قريش إنه كذّاب، ما نطق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قلب العصى حية، ولا أخرج يده فإذا هي بيضاء للناظرين؛ بل هي قرينة حاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو لم يكن هناك أي آيات إلا أن بديهته تأتيك بالخبر لكفى بذلك برهاناً ساطعاً عَلَى صدق نبوته.(1/1593)
ولذلك نجد السيرة كلها محفوفة بما يدل عَلَى نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو في كتاب دلائل النبوة للبيهقي، وهو -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من المحدثين المهتمين بعلم الحديث، والنقاد الذين لهم خبرة ودراية بهذا الفن، ألف كتاباً بعنوان دلائل النبوة، فما هي دلائل النبوة التي جمعها وألفها البيهقي؟ هل تراه ألف في الأمور الحسية وخوارق العادات فقط؟! لا، إنما هو كتاب عن سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه منسيرة ابن هشام، فيذكر حياته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغزواته وأموره وأعماله، ففي كل غزوة وفي كل عمل من أعماله بينة تدل عَلَى صدقه.
كما في بدر وفي الهجرة، وفي معاملته مع أزواجه، وفي معاملته مع اليهود، وفي معاملته مع الْمُشْرِكِينَ، وفي كتبه التي كاتب بها الملوك، كل ذلك دال عَلَى نبوته.
وانظر التشريعات التي يأتي بها، فكلمة واحدة يقولها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصبح قاعدة من أعظم القواعد التي ترجع إليها أصول عظيمة من أصول التشريع، مثل: (لا ضرر ولا ضرار) ومثل: (الضمان بالخراج) يعجز أن يأتي بمثل هذه العبارات والتشريعات القانونيون الوضعيون أو المفكرون المبدعون، أو أن يشبه أحد من هَؤُلاءِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أجل وأرفع من ذلك؛ لأنه يتكلم بكلام من عند الله وبنور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفت بقرائن كثيرة تدل عَلَى صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك كل أمر من أموره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1594)
ولذلك يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه. والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة، والصادق ضده بل كل شخصين ادعيا أمراً، أحدهما: صادق، والآخر كاذب. لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا] كما سيأتي شرحه.
هرقل يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالنبوة في مناظرته لأبي سفيان
إن من أعظم المناظرات في التاريخ هذه المناظرة التي جرت بينأبي سفيان وبين هرقل في شأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فزعيم أعظم أمة متحضرة في العالم في ذلك الحين -الأمة التي تحمل لواء الحضارة العالمية وتسيطر عَلَى نصف العالم الغربي- يناظر العدو اللدود للدعوة آنذاك والذي يرفع لواء محاربة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أبو سفيان فذاك يسأل وهذا يجيب.
ومن المعلوم أن هرقل ليس بمتهم أن يمالئ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يجامل معه، وما الذي يدعوه إِلَى ذلك وهو لا يعرفه؟ وكذلك أبو سفيان ليس بمؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يداري في الجواب ليجامله، بل كَانَ يتحين الفرصة للطعن في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذلك لم يجد مطعناً يمكن أن ينفذ منه إلا لما قَالَ: "وبيننا وبينه عهد لا ندري ماذا يفعل؟ " ولم يستطع أن يتهمه أنه غادر أو كاذب، ثُمَّ تكون النتيجة بعد تلك المناظرة الاقتناع بصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلا يمكن أن يلتبس أمر من يدعي النبوة وهو كاذب بأمر الرَّسُول حقاً، ولا سيما نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1595)
وقضية استلزام الصدق للبر والتقوى واستلزام الكذب للفجور، هذه حقيقة يعرفها كل واحد من الناس، حقيقة يتعامل بها النَّاس حتى بين الكفار بعضهم مع بعض: يعلمون أن من لوازم استقامة هذا الرجل أنه لا يكذب، وفي المقابل من عرف عنه أنه يكذب فمن غير المستبعد أن يسرق أو يختلس، وهكذا تلازم هذه الأمور هو كما ذكر -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- هنا.
وقَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ:
[وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين، إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه ما ظهر لمن له أدنى تمييز، فإن الرَّسُول لا بد أن يخبر النَّاس بأمور، ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أموراً يبين بها صدقه، والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به، ويخبر عنه، وما يفعله، ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة والصادق ضده. بل كل شخصين ادعيا أمراً: أحدهما صادق والآخر كاذب لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة، إذ الصدق مستلزم للبر والكذب مستلزم للفجور.
كما في الصحيحين عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إِلَى البر، وإن البر يهدي إِلَى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إِلَى الفجور، وإن الفجور يهدي إِلَى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً) .
ولهذا قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ [الشعراء:221-226] .(1/1596)
فالكهان ونحوهم -وإن كانوا أحياناً يخبرون بشيء من المغيبات، ويكون صدقاً- فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن مَلَك، وليسوا بأنبياء، ولهذا لما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن صيَّاد: (قد خبأت لك خبيئاً) فقَالَ: هو الدُّخ، قال له النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اخسأ فلن تعدو قدرك) يعني: إنما أنت كاهن.
وقد قال للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يأتيني صادق وكاذب) .
وقَالَ: (أرى عرشاً عَلَى الماء) ، وذلك هو عرش الشيطان، وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كَانَ ذلك مضراً له في العاقبة، فمن عرف الرَّسُول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله، علم علماً يقيناً أنه ليس بشاعر ولا كاهن.
والنَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، أو علم النحو والطب والفقه وغير ذلك.
والنبوة مشتملة عَلَى علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرَّسُول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال، فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟!
ولا ريب أن المحققين عَلَى أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم الضروري، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه، وبغضه وفرحه وحزنه، وغير ذلك مما في نفسه بأمور تظهر عَلَى وجهه قد لا يمكن التعبير عنها، كما قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [محمد:30] ، ثُمَّ قَالَ: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] . وقد قيل: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أظهرها الله عَلَى صفحات وجهه وفلتات لسانه، فإذا كَانَ صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرآئن، فكيف بدعوى المدعي أنه رَسُول الله؟ كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟] اهـ
الشرح:(1/1597)
قد يرد سؤال وهو: لماذا كذبت قريش بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! هل تكذيبها راجع إِلَى أنها غير مصدقة بأنه نبي ورَسُول وأنه يأتيه الوحي من السماء أم لأمر آخر؟!
سبب رد قريش لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم
الذي يتتبع أحوال القوم فيما صح من السيرة يُعلم يقيناً أنهم إنما كذبوه عناداً وكبراً، واقتداءً بالآباء والأجداد، وتمسكاً بالعادات وبالتقاليد، وحرصاً منهم عَلَى الجاه، وعلى المال، والدنيا، والمناصب، ونحو ذلك من الأسباب، وليس تكذيباً له في ذاته، ولذلك فرق بين ما تقوله قريش أمامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تقوله للعرب، وبين ما يقولونه في أنفسهم.
سبب رد اليهود لما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم
سبق أن قريشاً كفرت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عناداً واستكباراً وتقليداً، وأما اليهودفإنما كَفَرُوا وا بغياً وحسداً، وأمراض القلوب كلها متداخلة، لكن أكثر ما يظهر في تكذيب قريش الكبر والعناد، ولذلك لما ذهب مقتضى ذلك، وظهر دين الله بالقوة، ونصر الله نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم تجد قريش غضاضة في أن تدخل هذا الدين وتحمل لواءه، وأصبح كبار المقاتلين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقودون جيوش الإسلام، ويفتحون بلاد العالم.
لكن اليهودعندما كَانَ كفرهم عن حسد، والحسد من أكبر أمراض القلوب تمكناً فيها، ولأنهم كانوا كذلك نجد أن أقل من أسلم من العالم هم اليهود، بخلاف النَّصَارَىوالفرس فكثير منهم أسلم، وأسلمت العرب قاطبة إلا الشواذ.
ولكن اليهودلم يُسلمْ منهم إلا القليل، حتى أنهم ليعدون عداً، ويقَالَ: إنهم عشرة أو بضعة عشر أو نحو ذلك، مع أنهم كانوا بنو قريظة، وبنو النضير والذين في خيبر وأمثالهم من القبائل، وهم عالمون بصدق نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن هَؤُلاءِ هم اليهود!.
موقف أبي جهل من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم(1/1598)
لقد لاقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعض كفار قريش الويلات أمثال أبي جهل فقد كَانَ يتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يمر عَلَى العرب في الأسواق والمواسم يعرض عليهم دعوة ربه عَزَّ وَجَلَّ،
فيقول لهمأبو جهل: أيها الناس! إن هذا الغلام منا، ونحن أعلم بكذبه، إنما هو كذاب صابئ فلا تصدقوه، وهكذا يتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليكذبه في كل مكان، هذا أمام الناس، لكن أمام نفسه وأمام من يثق به فإنه كَانَ يقول: لما قيل له: لماذا لا تسلم؟
قَالَ: كنا وبني عبد مناف كفرسي رهان، لهم السقاية ولنا الرفادة، لهم كذا ولنا كذا، كلما عملوا عملاً عملنا مثله -منافسة بين بطنين من بطون قريش العظام- قَالَ: فلما نبغ هذا الرجل قالوا: منا نبي، فوالله لا نؤمن به أبداً!.
فإنهم لا يكذبونك
ولقد كَانَ كفار قريش ينهون النَّاس عن الاستماع للقرآن الكريم ويقولون: هذا أساطير الأولين، وإفك قديم من كلام الكهان، وإن هو إلا قول البشر، وإنْ هذا إلا سحر يؤثر ... إِلَى آخر ما يقولون، ومع ذلك كانوا يجتمعون في الليل يستمعون القرآن، ويتعجبون من هذا الكلام الذي ليس له مثيل لا في كلام الشعراء، ولا في سجع الكهان أبداً، ففي أنفسهم يعلمون أنه الحق.
لكن أمام النَّاس في المنتديات يقولون: هذا كذب! هذا باطل! نعوذ بالله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ [الأنعام:33] أي لا يعتقدون في قلوبهم أنك كاذب, ولا يقولون: إنه كاذب وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فالظلم والإجحاف، والأنفة، والعناد والاستكبار في الأرض، ومكر السيء.
ومثل هذه الأمور هي التي حالت بينهم وبين الإيمان، مثل ما حالت بينفرعونوبين الإيمان، وأما اليهودفما أعجب ما فعلت في هذا الشأن! يتناجون بينهم أنه صادق وإذا ذهبوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذبوه.
حادثة زيد بن الصنعة مع النبي صلى الله عليه وسلم(1/1599)
ومن ذلك قصة اليهودي زيد بن سعنة - وكان من كبار أحبار اليهود- وذُكِرت في مجمع الزوائد، ورواها الطبراني وغيره وهي قصة حسنة السند، أنزيداً هذا قَالَ: لقد قرأت في التوراة وفي الأسفار من صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدة واحدة، إلا صفة واحدة ما اختبرتها.
وهكذا هي النفسية اليهودية يقولون: كيف نسلم لهذا الرجل من الأميين، ونحن ورثة العلم والكتاب؟ وأن يخرج نبي من الأميين من غير نسل إسرائيل من ذرية إسماعيل هذا شيء يستثقله اليهودجداً.
فقَالَ: إلا خصلة واحدة بقيت وأردت أن أختبرها وأن أبلوها، وهي: أنه يسبق حلمه جهله، ولا يقابل الجهل بالجهل، وإنما يقابل الجهل بالحلم، قال فذهبت يوماً إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس مع أصحابه وهم حوله، وإذا برجل منهم يقول: يا رَسُول الله إني قد ذهبت إِلَى بني فلان، ووجدتهم في سنة وجدب وقحط وشدة، وإني قلت لهم: أسلموا يفتح الله لكم وتمطرون وترزقون وقد أسلموا، وإني أخشى يا رَسُول الله إن بقي بهم الجدب والقحط أن يرجعوا عن إسلامهم قَالَ: فماذا نصنع؟ ثُمَّ قَالَ: أرى أن نرسل لهم بطعام وغذاء.
هذا - كما هو واضح - من تأليف القلوب عَلَى الإيمان، فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هل بقي من تمر بني فلان أو من حائط بني فلان شيئاً؟) قالوا: يا رَسُول الله ما بقي منه شيء. قال زيداً: فوجدتها فرصة، وجدت أن هذه هي بغيتي، قَالَ: قلت: يا مُحَمَّد أتعطيني كذا وكذا من حائط بني فلان يعني إذا أثمر، وأعطيك المؤونة؟ وهذا بيع السلم.(1/1600)
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نعم أعطيك، قال فدفعت إليه ما أراد من المؤونة والطعام وأخذها، وأرسل بها إِلَى أولئك، قَالَ: ثُمَّ انتظرت بعد ذلك حتى قاربت الثمار أن تنضج، قَالَ: فجئت إليه، وهو واقف وحوله أصحابه، وهم خارجون من مكان ما، قَالَ: فأمسكت بتلابيبه وشددتها عليه وقلت له: يا محمد أما آن لك أن تعطيني حقي: فوالله إنا لنعرفكم يا بني عبد المطلب إنكم قوم مطل -أي: تؤخرون صاحب الدين- فَحَلِمَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرد، ولكنعُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اغتاظ غيظاً شديداً، وقَالَ: يا زيد أتفعل هكذا، ارفع يدك عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإلا فلقت هامتك بالسيف.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أو شيء غير ذلك يا عُمَر ! كَانَ عليك أن تأمره بحسن الطلب وتأمرني بحسن القضاء) .
قالزيد: فعلمت حينئذ أن حلمه يسبق جهله، وأنه لا يقابل الجهل بالجهل، وإنما يقابل الجهل بالحلم فقَالَ: اذهب يا عُمَر فأعطاه ما طلب وزده عشرين صاعاً.
قَالَ: فذهبت مع عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فكال له ما طلب منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما اكتمل حقه، قَالَ: انتظر لك عشرون صاعاً، قال ما هي؟ قَالَ: أمرني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أزيدك إياها مقابل ما روعتك وما كانت زيادة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك إلا لما يعلمه من جشع وحرص اليهود على المادة.
فتعجبزيد من ذلك، فقَالَ: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رَسُول الله، قَالَ: والله ما فعلت ذلك إلا أنني قد بلوت خبره من التوراة ومن الأسفار، فما بقي من أمره شيء إلا وقد عرفت صدقه، وعرفت أنه نبي، إلا هذه الكلمة: أنه يسبق حلمه جهله، ولا يقابل الجهل بالجهل، إنما يقابل الجهل بالحلم. فأسلم زيد، وحسن إسلامه فيما بعد، وقد كَانَ من أحبار اليهود الكبار.
اليهود قوم بهت(1/1601)
إن اليهود قوم بهت حسدوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعادوه فلقد كانوا يتناجون ويقول بعضهم لبعض: أوليس هذا هو نبي العرب؟ ويقول الآخر: بلى أليس النبي الذي يأتي بين يدي الساعة؟ والآخر يقول: أوليس عندنا أنه يبعث من بني إسماعيل؟
فإذا واجهوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: له لست بنبي، بل تآمروا عَلَى أن يقتلوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن يلقوا عليه الصخرة، وأعطوه الشاة المسمومة، وما تركوا وسيلة من وسائل الأذى إلا فعلوها مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بينما في أنفسهم وفي مجالسهم يعلنون بصدقه.
وفي قصة عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ما يدل عَلَى حقيقة اليهودفإنه لما بلغه خبر هجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ في نخلة يأخذ من تمرها، فسألت خالته -وكان عندها علم- وما شأنه مع موسى بن عمران؟ فَقَالَ عبد الله بن سلام وهو في النخلة: يا خالة! والله إنه لأخو موسى بن عمران دينهما واحد وربهما واحد لا خلاف بينه وبين موسى، فلما ذهب إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأيقن بالإسلام قَالَ: (يا رسول الله إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه)
فالشاهد أنه لم يكن أحد ممن بلغته دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العرب أو من اليهود! ومِنْ أمم الأرض ليشكك في صدق النبي وفي رسالته، بل كانوا عَلَى يقين أنه صادق وأن ما يأتي به إنما هو حق من عند الله.(1/1602)
ولقد اتُهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باتهامات عدة فكان أكثر ما اتهم به أنه كاهن، فناقش المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مسألة الكهان؛ ولأن الكاهن يأتيه خبر من السماء، ويخبر بأمور مغيبة لا يعلمها الناس، فَقَالَ الكفار: إن محمداً كاهن، أو قالوا: ساحر؛ لأن الساحر يعمل أعمالاً خفية، ويفرق بين المرء وزوجه ونحو ذلك وهو قد فرق بينهم، وكانوا يقولون أيضاً: شاعر؛ لأن نظم القُرْآن يتفق في بعض الأحيان مع الأوزان الشعرية، أو قريب من الأوزان الشعرية التي كَانَ العرب يتعارفون فيها والعرب أنفسهم يعلمون أن حال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختلف عن حال هَؤُلاءِ.
فأما الكهان فإن حالهم واضح وجلي، فقد كانوا يجلسون ويتصدرون لإخبار النَّاس بالمغيبات ويأتي الرجل إِلَى الكاهن فيخبأ خبأً ويضمر شيئاً حتى يتأكد من صدق الكاهن، كما فعل بعض العرب أنه ربط حبة بر في إحليل الفرس، فأتى الكاهن، فَقَالَ له: ما الذي خبأت لك، فَقَالَ له: ثمرة في كمرة، فيُقَالُ: أين؟ قَالَ: حبة بر في إحليل مهر، فإذا أخبر ما الذي خبأ قالوا: هذه علامة عَلَى أن الكاهن سيقول صدقاً؛ لأنه عرف الشيء المخبأ، وبعد ذلك يقول له: إني أريد أن أفعل كذا.
أو يسأله عما وقع من الأمر فيجيبه الكاهن بالسجعات المعروفة، فهذا حال هَؤُلاءِ الكهان عند النَّاس فأي هدى جَاءَ به هَؤُلاءِ الكهان وهم يتوارثون الكهانة من عصور قديمة؟
وهل جاؤوا بصلة الرحم أو بإعانة المظلوم؟! لم يأتوا بشيء من ذلك، بل أخذوا أموال النَّاس بالباطل وارتكبوا الفجور والفواحش، أما ما يخبرون به من المغيبات فقد كَانَ ذلك بسبب ما يسرقونه من الشياطين.
ولما بعث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد الجن أن السماء قد ملئت حرساً شديداً وشهباً، إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب.(1/1603)
فلما حصل ذلك تعجب الكهان وذعروا، وأصبح كل واحد منهم يتكلم عَلَى لسان التابع أو الجني الذي يأتيه بالخبر ويقول: ما حالنا؟ ما بال الأخبار انقطعت؟ وأصبح الجني يأتي بالخبر. فيرجم بالشهاب! هناك أمر عظيم، فوجدوا الإفلاس التام بعد ذلك، ثُمَّ بعد هذا يلتبس أمر النبي الذي يأتيه الوحي من السماء بأمر الكاهن؟
ثُمَّ أين القُرْآن من سجع الكهان؟ ولقد كَانَ العرب يحفظون ويسمعون من سجع الكهان الشيء الكثير فلا يبالون به لكنهم عند القُرْآن بخلاف ذلك، فذاك أعرابي يسمع رجلاً يقرأ قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] فيقفز من فوق الناقة ويسجد، مع أن الكلمات كلها معروفة عند العرب فاليأس كلمة معروفة عند العرب، وفي أشعار العرب، وكذلك الخلوص، والنجوى لكن نظم قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً [يوسف:80] هذه لا يمكن أن يركبها عربي عَلَى الإطلاق، وأمثال ذلك كثير، أما الكاهن فإنه لو سجع ألف سجعة ما أثر ذلك في القلب، وما تحرك له ساكن؛ لأنه كلام ملفق مركب واضح الافتعال والتكلف.
الفرق بين الشعر والقرآن
وأما الشعر فإن العرب من أعلم النَّاس به ولذلك قَالَ: الوليد بن المغيرة: لقد عرفت الشعر ونظمه ورجزه وهزجه.. الخ والله ما هذا بشعر، فالناقد الذواق لا يستطيع أن يقول: إن القُرْآن شعر؛ لأنه بصير بالأوزان وبالقوافي. ولقد كانت العرب تعلق أشعارها في الكعبة وتفاخر به غيرها حتى قالوا:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
ويحفظون أبناءهم الفخر، فهل ترى أن هذه القصائد أحدثت أموراً عظاما؟!
وهل غيرت إنساناً ضالاً فهدته؟ أو فاجراً فأصلحته وبرته؟ وهل جاءت إِلَى إنسان ظالم مجحف فجعلته عدلاً براً تقياً؟ الجواب: لا.
لم يحدث من ذلك شيء.
الفرق بين السحر والقرآن(1/1604)
وأما السحر فإن مجرد الاشتراك في التأثير لا يعني أنه سحر، فقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن من البيان لسحراً) ، فكل ما كَانَ مؤثراً ففيه نوع من السحر، وكل ما كَانَ دقيقاً وخفياً فإنه يسمى في اللغة سحراً، والقرآن ليس بكلام ساحر، فإذا لم يكن كلام ساحر، ولا كاهن، ولا شاعر فكلام من؟ قالوا: مجنون! وهذه أعجب وأعجب، أمجنون يأتي بهذا الكلام؟ وأنتم العقلاء الذين في تمام العقل والفكر والوعي، وبيدكم أزمة البلاغة لا تستطيعون أن تأتوا بكلمة واحدة أو بآية واحدة فكيف بالمجنون؟ وإذا كَانَ المجنون يأتي بالخير ويهدي النَّاس ويخرجهم من الظلمات إِلَى النور، فأين العقلاء؟!
فقريش مهما حاولت بالطعن في النبي -وهي أكثر ما جَاءَ في القُرْآن التصريح بكذبها، وهي التي عاندته ووقفت في وجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكن في كلامها ولا في مواقفها ما يدل عَلَى الإطلاق بأن هناك ما يقدح في نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل كَانَ الإِنسَان منهم يبهره خلقه وتبهره معاملته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سراقة بن مالك وسواري كسرى
فهذا سراقة بن مالك الجعشمي يطارد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الهجرة؛ ليفوز بالنوق التي جعلتها قريش لمن يخبر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما ساخت قوائم الفرس في الصخر - وهذه من الله -عَزَّ وَجَلَّ- آية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعجب، وكان كلما مشى ساخت قوائم فرسه، ولا تستطيع أن ترفع يديها ليدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك لم يرد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعود خائباً، فقَالَ: (سراقة لم تصنع هذا؟) قَالَ: إن قريشاً قد وعدوني بكذا من الإبل، قَالَ: (أوليس لك بخير منها؟ قَالَ: وما هما، قَالَ: سواريكسرى) .(1/1605)
فكان هذا الكلام غريباً عليه، وكسرى ملك الدنيا ذو الأسوار الثمينة من الذهب، ومن أفخر اليواقيت والأحجار الكريمة تصبح أساوره لهذا الإِنسَان العربي، فضحك سراقة وقَالَ: أعرابي من بني جعشم يلبس سواري كسرى! ما حلم بها سادات قريش حتى يحلم بها أعرابي من بني جعشم!
وتمر الأيام وتنتصر جيوش الْمُسْلِمِينَ، ويدخلون المدائن فاتحين، ويأخذون كنوز البيت الأبيض، ويبعثون بها إلىعمر بن الخطاب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويأتي إِلَى سواري كسرى فَيَقُولُ: أين سراقة بن جعشم فقَالَ: ماذا تريد؟ قال له إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد وعدك بسواري كسرى، وها أنا ذا ألبسك إياها، ويلبسه السوارين، أليس في هذا دليل عَلَى أن هذا النبي -حقاً وصدقاً- هو نبي من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ولهذا تحققت نبوءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمثال هذه الوقائع الكثيرة العظيمة البينة، فهل يصح مع هذا أن نقول: إنه لا دليل عَلَى صدق النبي إلا أن يأتي بخارقة أو معجزة؟ ! لا، فهذه الدلائل العظيمة كلها تدل عَلَى أنه نبي حقاً صادق من عند الله.
المعايير العقلية والفطرية تميز بين الصادق والكاذب
والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- يضرب لنا مثلاً واضحاً وهو: أن النَّاس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة حتى في الحرف الفلاحة والنساجة والكتابة، فلايلتبس الصادق في هذه الحرف بالكاذب المدعي لها زوراً.
ففي كل الأمور تجد أن النَّاس يستخدمون للتمييز بين الصادق والكاذب في الأمور الحياتية الدنيوية المعايير العقلية والفطرية التي وهبها الله -عَزَّ وَجَلَّ- لهم، فكيف بدعوى النبوة؟ !
والنبي يأتي بأقوال وبأعمال، وبأوامر، ويفنى عمره كُلّه في جهاد، وفي صراع، ثُمَّ يتهم بأنه كاذب أو يلتبس هل هو صادق أم كاذب؟!
الأنبياء أبعد الناس عن طلب عرض من أعراض الدنيا من أتباع الدعوة(1/1606)
وإن من الممكن أن يكذب الإِنسَان لأجل عرض من أعراض الدنيا مثل أن يحصل عَلَى الأموال أو النساء أو القصور، فيدعي أنه نبي، لكن الأَنْبِيَاء فإنهم كما أخبر الله: قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ:47] أي: أي شيء أطلبه منكم فهو لكم، قُل مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [صّ:86] ، وكل الأَنْبِيَاء قالوا: ما أسألكم عليه مالاً، مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ [الفرقان:57] .
الأنبياء لم يورثوا مالاً
لم يورث الأَنْبِيَاء ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَحْنُ الأَنْبِيَاء لا نورث ما تركناه صدقة) ،
فهل بعد هذا يتهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه يريد عرضاً من أعراض الدنيا، وإن كَانَ الأَنْبِيَاء يريدون الجاه، فلماذا قتلوا؟ ومنهم من عذب، ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي من العنت والشدائد، ولقي من الأذى الشيء الكثير، إن من يحصل له هذا لا يريد الجاه وهكذا نجد أن الدلائل القطعية الثابتة عَلَى صدق نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي أبين من الشمس في رابعة النهار، وأن الذين كذبوه إنما هم كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] .
إن الردود كثيرةٌ عَلَى قول المتكلمين وأمثالهم: أنه لا دليل عَلَى صدق النبي إلا المعجزة، أي: الأمر الخارق للعادة، وإن العلم واليقين يقع في النفس بأمور غير هذه الخارقة؛ فإن لليقين طرقاً ومصادر يحصل بها؛ فقد يكون من تواتر الخبر وكثرة ناقليه، وقد يكون من القرائن التي تحف بالخبر، وقد يكون من الآيات الباهرات التي يجريها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى يد النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1607)
فالأدلة كثيرة متظافرة، ولا وجه من الحق لدعوى من ادعى أنها محصورة في أمر واحد فقط، ليصحح بذلك النظر العقلي، والاستدلال العقلي الفلسفي الذي يقول: إن العقل وحده هو الذي يحكم، ويزن صدق أو كذب دعوى النبوة، وأن هذا العقل ما من شيء يحركه أو يلقي فيه اليقين إلا المعجزة الخارقة، التي يأتي بها الأَنْبِيَاء عادة.
وذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هنا ثلاثة أمثلة من سيرة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل جميعاً عَلَى أنه صادق، وأن الذين استدلوا بهذه الأدلة علموا علم اليقين أنه صادق في نبوته وأنه لا يدَّعي الكذب، وهذه الثلاثة هي:
أولاً: خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- في أول نزول الوحي، واستدلالها عَلَى ذلك.
وثانياً: ما وقع من النجاشي، وهو ملك نصراني بعيد من النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يره ولم ير دلائل نبوته وإنما بلغه الحق فآمن واعتقد باليقين الذي سوف نتحدث عن طريقة حصوله لديه.
ثالثاً: خبر هرقل عظيم الروم الذي هو زعيم الأمة النصرانية الكبرى التي لديها من العلم والأخبار ما تعرف به حقيقة الكاذب من الصادق في مثل هذه الدعوى، هذه الوقائع الثلاثة -وهي جزء من وقائع كثيرة - تدل عَلَى صدق ما يذهب إليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في مقام تأييد النبوة وإثباتها.
موقف خديجة رضي الله عنها من الوحي
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
[ولهذا لما كانت خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- تعلم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: {إني قد خشيت عَلَى نفسي فقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين عَلَى نوائب الحق} ، فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يكذب.(1/1608)
وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كَانَ مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله عَلَى الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة: فإنه لا يخزيه.
وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القُرْآن فقرؤوا عليه: "إن هذا والذي جَاءَ به موسى عَلَيْهِ السَّلام ليخرج من مشكاة واحدة: وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما رآه، وكان ورقه قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، فقالت له خديجة: أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول، فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما رأى فقَالَ: هذا هو الناموس الذي كَانَ يأتي موسى] اهـ.
الشرح:
خديجة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها: امرأةٌ ذات عقل راجح، وحكمةٍ، ورويَّه، وتبصر بالأُمور. لما أتاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في تلك الحالة التي صورها حديث عَائِِِشَةَ في أول صحيح البُخَارِيّ في بدئ الوحي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء، وفؤاده يرجف، وهو خائف وجل من هذا الحدث الهائل، الذي لم يكن يتوقعه، والذي خاف منه عَلَى نفسه، كَانَ يتعبد ويتحنث في ذلك الغار، وإذا هذا الملك يأتي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعرفه، ولم يسمع عنه من قبل ولم يسمع أنه جَاءَ إِلَى أحد، فيأتيه، ويناديه من بين السماء والأرض ثُمَّ ينزل إليه، فيغطه الثلاث المرات، ثُمَّ يقول له: اقرأ كما هو معلوم في الحديث، ويأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفؤاده يرجف وهو خائف هلع في هذه الحادثة التي لا عهد له بها.
فأتى إِلَى خديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، وكانت نِعم الزوجة، وصارحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرض عليها المشكلة.(1/1609)
وقَالَ: {لقد خشيت عَلَى نفسي} ، فلا يدري صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هذا الأمر، ويخشى أمراً لا يدري ما نهايته وهل له من نهاية أم يقف عند هذا الحد؟ كل ذلك غيب بالنسبة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه ما كَانَ يرجو أن يلقى الله إليه الكتاب، ولا كَانَ يتوقع ذلك، ولا علم له بأمثال هذه الأمور المغيبة.
الشاهد: أن خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لما أرادت أن تطمئن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ناحية، وأن تفكر فيه وترى الحق والبصيرة من ناحية أخرى، لأنها هي أيضاً قد تخاف وتخشى عليه أن يكون ماحدث له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجان والشيطان، لكنها فكرت في ذلك بهذا العقل الراجح، وبهذه البصيرة التي لديها.
فقالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال لها {لقد خشيت عَلَى نفسي: كلا! والله لا يخزيك الله أبداً!} أقسمت عَلَى ذلك وهي البارة الصدوق أن الله لا يخزيك أبداً، وذكرت هذه الصفات النبيلة الحميدة، التي من تحلى بها فلن يَخزى ولن يَذل أبداً {إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتُعين عَلَى نوائبِ الحق هذه الصفات، صفات عجيبة، لا يمكن أن تجتمع في إنسان، ويخزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فأهل الجاهلية عَلَى ما فيهم، كانوا إذا اجتمع في الرجل منهم حب العدل والعفاف والكرم، توقعوا له الخير، وحسن العاقبة والسمعة الحسنة والقبول، لأن كل النفوس مجبولة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عدل كريم يُجازي الإِنسَان من جنس ما يعمل، فهل يكون امرؤٌ يعمل هذه الأعمال الجليلة النبيلة التي تجمع العقول والفطر عَلَى نبلها وفضلها وشرفها، ويخزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1610)
بينما رجل فاجر يتقحم في الموبقات، وفي المهلكات، والطغيان، والبغي، والعدوان ويكون له لواء المحامد والمناقب منشوراً مرفوعاً؟ ! هذا لا يمكن وليس هذا من سنة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حتى عند الجاهليين عَلَى ما لحق بفطرهم، وعقولهم من الضلال، والزيغ والانحراف.
وهذه الصفات النبيلة وَصَفَ بها ابن الدغنة أبا بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا دليل عَلَى المرتبة العليا التي كانت للصديق.
وابن الدغنة لم يسمع كلام خديجة؛ لأنه كَانَ عَلَى كفره لما وصف الصديق، ومع ذلك وصفه بأنه: يصل الرحم، ويقرئ الضيف، ويحمل الكل بنفس العبارات -تقريباً- التي وصفت بها خديجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظروا كيف تطابق هذا الوصف مع هذا، ثُمَّ انظروا كيف كَانَ أول رجل يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولم يتردد قط، وإنما عَلَى الفطرة شهد أن الله واحد، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق بلا تردد منه، فتطابق الصفات تدل عَلَى أن هذه الصفات صفات الخير تأتي في النبي وهي أعلاها.
ثُمَّ تكون في الصديق وهو الدرجة الثانية بعد النبوة، فأفضل الخلق بعد الأَنْبِيَاء هم الصديقون قال تعالى: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] والواو هنا للترتيب، والترتيب في هذه الآية واضح أفضل النَّاس النبيين ثُمَّ الصديقين ثُمَّ الشهداء ثُمَّ الصالحين.(1/1611)
فهذه الصفات دليل للعقل -إن صح التعبير- وللحكمة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق، ومع ذلك فإن خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قد سلكت أقوى أنواع الاستدلال في النبوة، وأقوى أنواع اليقين، وأقوى أنواع العلم الضروري، كما يسمى العلم الضروري أي اليقيني الذي يقع في النفس بالبداهة، وخديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- هي أكثر إنسان يهمها هذا الأمر، لأن هذا زوجها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالأمر يهمها أكثر من أي إنسان آخر، والخبر لا يزال إِلَى الآن محصوراً فيها وفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تريد أن يظهر إلا وهي متأكدة، فماذا حصل منها؟ جمعت بين دليلين: العقلي والنقلي.
أما العقل فهو هذا الذي نظرته بنظرها الثاقب.
وأما النقل فإنها ذهبت، إِلَى أصحاب الكتب الذين لديهم العلم، ولديهم الآثار عن الأنبياء، فذهبت إِلَى ورقة بن نوفل وأخذت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت له: قُص عَلَى ورقة ماذا جرى لك، فلما أخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك قالورقة: {إن هذا لهو الناموس الذي نزل عَلَى موسى.
موقف ورقة بن نوفل من الوحي(1/1612)
ثُمَّ آمن به ورقة وقَالَ: ليتني أكون فيها جذعاً إذ يخرجك قومك -ولهذا استغرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: (أَوَ مُخْرِجيَّ هم؟) ولايزال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول الأمر، وهذا نور وحق جَاءَ به الأَنْبِيَاء من قبل، وهو من الله -عَزَّ وَجَلَّ- نعمةٌ وهبةٌ، فلماذا يخرجه قومه؟! لم يكن قد تصور بعد أنه سيخرج، فما سر العداوة؟ فَقَالَ لهورقة: ما جَاءَ رجل بمثل ما جئت به إلا عُودي هذا حق، والحق أينما وقع فلا بد أن يعادى من قبل أهل الشروَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً [الفرقان:31] فورقة علم أن هذا وحي، وعلم سنة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الأنبياء، وهو أنهم لا بد أن يعادوا وأن يكذبوا، ولكن تعهد لو أدركه ذلك اليوم لينصرن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الحق هو الذي سينتصر وإن العاقبة للتقوى، وحتى لو لم يدرك انتصار الحق، فيكفيه أنه يجاهد في سبيل الحق حتى يموت.
هكذا أخذ ورقة على نفسه ولكنه لم يلبث أن توفي ولم يتحقق شيءٌ من ذلك، قبل أن يصدع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعوة.
فخديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- جمعت في الاستدلال عَلَى نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدقه بين دليلي العقل -العقل السليم- والنقل، وورقة بن نوفل اعتمد عَلَى الدليل النقلي الواضح الجلي، ومثله كمثل رجل منا، يقرأ حديثاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسألة، فيؤمن به، ويصدقه؛ لأنه يعلم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق.(1/1613)
ومثل خديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- مثل رجل جرب تجربة، وعرف أمراً من الأمور أنه حق وصواب، ثُمَّ أراد أن يستوضح عن حقيقة هذا الأمر فقد تأكد لديه أنه صواب، لكنه يريد أن يتأكد أكثر، فذهب إِلَى أحد العلماء فَقَالَ له: ما رأيكم في كذا؟ قَالَ: هذا الشيء ورد فيه حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتلا عليه الحديث، فاتفق لديه الدليل اليقيني الذي حصل له في فكره وفي نظره مع ما جَاءَ به الوحي، فحينئذٍ لا يشك في الوحي، ولا يشك فيما لديه من معلومة سابقة، وإنما يتفق هذا وهذا فيولد لديه اليقين؛ ولهذا كانت خديجة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- من أصحاب اليقين، وصدقت نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنت لتوِّها ثُمَّ اطمأنت طمأنينةً كاملة لمَّا حدثها ورقة وطمأنها بأن هذا هو النبي.
وأما ورقة فإنه طابق بين الأصل وبين الصورة، تجدونه مكتوباً عنده في التوراة والإنجيل، فطابق بين ما لديهم في الإنجيل، وما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما هو مذكور وصريح في الإنجيل أن هذا النبي سيكون من أمة العرب، من ذرية إسماعيل وأنه سيخرج من جبل فاران كما في التوراة نفسها الموجودة، وفاران كَانَ معروفاً وإلى الآن أنها جبال مكة وكان من أوصافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التوراة ما يجعلهم كما قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] أي لا يضلون، ولا يخطئون في معرفته كما يعرفون أبناءهم، فطابق بين هذا وهذا وتأكد لديه صدقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه المطابقة فعلها أيضاً النجاشي وفعلها هرقل.
موقف النجاشي من الوحي(1/1614)
أما النجاشي فإن إيمانه أيضاً عجيب! هذا الرجل البعيد عن أرض العرب، والذي لا يعرف هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا قومه، وإنما جاءه جماعه مهاجرة منمكة خرجت من اضطهاد القوم وأذاهم وتعذيبهم، وليس كل الذين هاجروا إِلَى الحبشة كَانَ سبب خروجهم وقوع الأذى عليهم؛ فعثمان -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وبعض الأشراف لم يخرجوا؛ لأن هناك أذىً مباشراً وقع عليهم؛ لكنهم خرجوا لأنهم لم تحتمل نفوسهم أن يرو الحق ويعتقدوه، ومع ذلك يكذبهم قومهم ويتهمونهم بالسفاهة، فأخرجهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هنالك.
وكان في ذلك الخروج حكمة عظيمة غير مسألة أنهم يفرون بدينهم ليعبدوا الله، وهي: أن البيوت المكية تتضعضع وتتزعزع فيأتي الإِنسَان إِلَى بيت، فَيَقُولُ: لماذا خرج فلان؟ قَالَ: لأنكم عذبتموه، ولم تجعلوه يدين بالحق.
فهذا يخرج ابنه، وهذا يخرج عمه، وهذا يخرج أبوه، وهذا تخرج زوجته، شيءٌ لا تطيقه النفوس، فحينئذ الضمير الداخلي يهتز، ويقولون لأنفسهم: ولِمَ لا ندعهم يدينون بما شاؤا؟ لِمَ لا ندعهم أحراراً يتعبدون كما شاؤا ويبقون في بلادهم؟.(1/1615)
فمن آثار الحكمة في ذلك أنه أثار هذا الضمير، ولذلك كَانَ أحد السفيرين اللذين بعثتهما قريش له ضمير حاضر حي كما سنرى في القصة، لقد رأت قريش أنه لا بد من إرجاعهم إِلَى مكة ولو لم يكن في ذلك الإرجاع أنهم سيعذبونهم ويذلونهم، لكن فيه القضاء عَلَى ما بدأت البيوت المكية تتفاعل معه؛ من مسألة فقد الآباء، والأقرباء والأرحام لأجل الدين، قالوا: إذاً نستردهم إليهم ويكون الموقف فيما بعد، فأرسلوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعه إِلَى النجاشي وأهدوا إليه هدايا، ومن أعظم الهدايا التي كَانَ يحبها النجاشي ويحبها قومه الجلود المدبوغة، وكانت توجد لدى العرب، ولا توجد عند غيرهم من الأمم بالشكل الذي عند العرب، فكانت تعجبهم هذه البضاعة وهذه الهدايا والتحف فأعطوهم التحف.
وقد كَانَ قال أشراف قريش: اذهبوا إليه، وأعطوا رؤساء القوم والأساقفة والمستشارين كلاً منهم هديته، وأقنعوهم عَلَى الأمر قبل أن تكلموا النجاشي، فإذا كلمتموه، فإنهم يوافقونكم عَلَى ذلك، فذهب عمرو وعبد الله وجلسوا إِلَى المستشارين والمكرمين والوزراء، وأعطوا كلاً منهم هديته وتقبلوها.
وقالوا لهم: الأمر كذا وكذا، ونريد إذا طرح الموضوع عند الملك أن تؤيدوه، ثُمَّ دخلوا عَلَى الملك فسلموا عليه وأهدوا إليه الهدية، وقالوا له: أيها الملك إننا جئنا إليك من أشراف قومنا، وإنه نبتت في قومنا صبية سفهاء تركوا دين قومهم وأشرافهم وكبارهم، وسفهوا أحلامهم، وخطئوا آراءهم، وقد جاءوا إليك مهاجرين وإن قومهم أعلم بهم منكم، فإن رأيتم أن تردوهم إِلَى أقوامهم، فإنهم أعلم بشأنهم وحالهم منكم؛ لكي لا تفسد المودة بينك وبينهم، هذا معنى كلامهم.(1/1616)
فَقَالَ النجاشي: إئتوني بهم واستشار قومه، فأشار المستشارون وقالوا أيها الملك: هَؤُلاءِ سفهاء وقومهم أعلم بهم وبحالهم فردهم إليهم، ولم يكونوا يريدون لا هَؤُلاءِ ولا عمرو وعبد الله - أن يأتي الْمُسْلِمُونَ إِلَى مجلس النجاشي لأنهم لو جاءوا، ودار الحوار فالنتيجة غير مضمونة، فكانوا يريدون أن يصدر أمر فوري وتنتهي المسألة.
ولكن النجاشي قَالَ: إئتوني بهم، لأرى ما عندهم، ولما بلغ الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- أن النجاشي يريدهم، وأن رسل قريش قد جاءت اجتمعوا، وَقَالُوا: ماذا نصنع؟ فَقَالُوا: لا نقول -إن شاء الله- إلا الحق والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سيظهر أمرنا، وسوف تكون العاقبة لنا.
ثُمَّ جاءوا إليه فَقَالَ لهم: ما شأنكم وما خبركم؟ فتكلم جعفر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وقَالَ: أيها الملك إنّا كنا في قوم كفر وجاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونقطع الأرحام، ونأكل مال اليتيم ونفعل ونفعل؛ وذكر من الموبقات التي كانوا يرتكبونها في الجاهلية وكنا نفعل أشياء غير ذلك فبعث الله -تعالى- فينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إِلَى عبادة الله وحده ونبذ ما نَحْنُ عليه من الأصنام، وأمرنا بالعفاف، والتقوى، وصلة الأرحام، وصيانة الأيتام، ونهانا عن الفجور، وعن كذا وكذا فآمنا به وصدقناه واتبعناه، فآذانا قومنا وأبوا علينا أن نتبعه، وأرغمونا عَلَى أن نعود فيما كانوا فيه من الكفر والضلالة والجاهلية.(1/1617)
فلما رأينا الأمر كذلك جئنا إليك، وهاجرنا إِلَى بلادك؛ لعلمنا أنك ملك عادل لا يظلم أحد في جوارك، وهاهم قد أرسلوا إليك يطلبوننا فهذا هو شأننا معهم، فَقَالَ لهم النجاشي: هل عندكم مما جَاءَ به شيء؟ ... الخ الشاهد أن النجاشي الآن سمع الدعوى -دعوى النبوة- فيريد شيئاً يستدل به، وتأملوا كيف سيكون الدليل عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدليل: جزء من الدعوى؛ لأنه نفس القُرْآن وهو مما كذب به الكفار، وَقَالُوا: إنه قول شاعر أو ساحر أو كاهن أو كذا أو كذا، مما قالوا، فما الدليل أن هذا القُرْآن من عند الله؟ العادة لمثل هذه القضايا أن المسألة تحتاج إِلَى دليل خارجي؛ لأن هذا القُرْآن جزء من المشكلة الدائرة بين الْمُشْرِكِينَ وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكيف يأتون بهذه الدعوة ويجعلونها دليلاً أو يقدمونها؟
الجواب: أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقدموها كدليل وإنما هي ذاتها دليل، هم قرءوا عليه جزءاً من أول سورة مريم، فلما سمع ذلك اخضلت عيناه بالدمع، وتلفت عمرو وعبد الله، وإذا بالقساوسة أيضاً تخضل لحاهم من الدمع، وإذا بهم يخشعون ويخضعون، سُبْحانَ اللَّه! وفيهم من لا يعرف اللغة العربية، وربما لا يترجم لهم شيئاً منها، وهذا القُرْآن هو نفسه القضية المختلف فيها كَانَ يمكن أن يقول: ما الدليل عَلَى أنه من عند الله لكن: اليقين أكبر من أنه يحتاج إِلَى دليل، فالدعوى نفسها تحمل دليلها في ذاتها، ومتى عرف العرب مثل هذا الكلام؟ وهذا الكلام لا يدخل للآذان، إنما يدخل إِلَى القلوب مباشرة، سواءً من يعرف لغة العرب أو من لا يعرفها، سُبْحانَ اللَّه!(1/1618)
ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُول ولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقّ [المائدة:83] هذه الآية نزلت في النجاشي ومن سمع هذا القرآن، وأحق النَّاس بها هم أولئك فَقَالَ لهم: إن هذا والذي جَاءَ به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة.
هذا الكلام يخرج من نفس ما جَاءَ به عيسى، وما جَاءَ به موسى، فكل من يؤمن برسالة عيسى وموسى وأي نبي؛ فعليه لزاماً أن يؤمن بهذا النبي، وأن هذا من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ: لن أردهم إليكم وأخرجهم، وقَالَ: هاتوا الأدم فأخذ الأدم والتحفة والهدية، وقَالَ: خذوها فرجعوا عنه.
أما عبد الله بن أبي ربيعة فقد اقتنع ولم تكن ترضى نفسه أن يعود أُولَئِكَ إِلَى ما كانوا فيه من الاضطهاد، وأن يخرجوا أذلة من هذا البلد رغم العداوة ورغم أنه سفير قومهم إليهم.
وأما عمرو بن العاص فإنه كَانَ لا يريد أن يرجع إلا وهو منتصر، وأحياناً يكون اشتداد القضية واشتداد الموضوع ادعى لأن يكون الحسم أكثر، فكّر عمرو وقَالَ: والله لآتينهم بالقاصمة التي لا يستطيعون ردها.
فذهب إِلَى النجاشي في اليوم الثاني، وقَالَ: أيها الملك: إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً إنهم يقولون: إنه عبد وهنا المشكلة لأن عمرو بن العاص يعلم أن النَّصَارَىجميعاً يقولون: إنه ابن الله، وأنه ثالث ثلاثة، وأنه إله ولاحظوا أنه لم يبين أنه عبد الله، المهم عبد ليكون نوع من الإثارة. والنجاشي أيضاً رجل عادل منصف، فاستدعاهم مرة أخرى ليسمع جواباً عَلَى هذه التهمة. فلما بلغ الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- ذلك، قالوا: ماذا نصنع؟ قالوا: والله لن نقول إلا الحق، وما قاله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليكن ما يكون.(1/1619)
انظر إِلَى المسألة إذا كَانَ أمر دين واعتقاد لأن المسألة مسألة كفر وإيمان فلابد أن يقول الإِنسَان كلمة الحق، والنتيجة معروفة لطلبهم كي يرجعوا إِلَى مكة وهم خرجوا منها، ولهم من يعذب هناك فرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هناك وليس هناك الإكراه القاهر الملجئ الذي يضطرهم أن يقولوا كلمة الكفر لكن هناك صعاب ومتاعب؛ لكن لا تضر هذه الأمور في سبيل أن تقال كلمة الحق والله ما عدا عيسى هذا الوصف.
هذه هي حقيقة عيسى ولا أكثر من ذلك أبداً، فتناخرت بطارقته -رجال الدين- فقَالَ: وإن تناخرتم! وفرح أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمن النجاشي وأصبح بذلك مسلماً مؤمناً من المؤمنين، وقصته معروفة.
ولكن الشاهد هو أن النجاشي من وراء البحار والقفار، سمع دعوى النبوة، وصدق بنبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءاً عَلَى بديهة ونظر وحكمة، ولم يكن بناءً عَلَى معجزة، فلم ير عصى تنقلب حية، ولم ير يداً بيضاء، أو ميتاً ينشر كما كَانَ عيسى عَلَيْهِ السَّلام، المهم أن لليقين مصادر أخرى، ولإثبات دعوى النبوة مصادر أخرى غير ما يقوله هَؤُلاءِ المتكلمون.
موقف هرقل من الوحي
أما هرقل، فإن شأنه أعجب كَانَ -كما هو معلوم- يحكم النصف الغربي من العالم، وكانتبلاد الشام، ومصر، وإفريقيا، كلها من مستعمراته ويحكم الإمبراطورية الرومانية، في أوروبا، وكانت روما مقر البابوية إِلَى اليوم، مقر الدين النصراني الكاثوليكي.
وكان لديه من العلم بأخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحواله الشيء الكثير الذي تنطق به أناجيلهم وكتبهم، وتوراتهم، لأن النَّصَارَىيؤمنون بنفس توراة اليهود ويسمونها العهد القديم، ويضيفون إليه العهد الجديد، الذي هو الأناجيل، والرسائل التي كتبها من يسمونهم الرسل، وفي المجموع العهد القديم والعهد الجديد، يكون الكتاب المقدس عند النَّصَارَى.(1/1620)
فهَؤُلاءِ جمعوا بين بشارات التوراة التي كَانَ يعلمها اليهودفي المدينة وأمثالهم، وبين بشارات الإنجيل، التي هي موجودة في الإنجيل أيضاً، فكانت لديهم هذه البشارات.
وكانوا والفرس في حرب والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كانوا يتمنون أن يظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أهل الكتاب -الروم- عَلَى الفرس الْمُشْرِكِينَ، وكان المُشْرِكُونَ يتمنون أن يظهر الله الفرس؛ لأنهم مُشْرِكُونَ مثلهم عَلَى الروم، ولهذا قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:1-4] .
وحصل أنه بعد صلح الحديبية أو قريباً منه، قدر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وحصل ما أخبر به تعالى، وغلبت الرومُ الفرسَ وانتصروا عليهم انتصاراً عظيماً.
وهرقل كانت نفسيته متقبلة للحق، وقد كَانَ أقسم عَلَى نفسه بالله إن نصرني الله عَلَى الفرس أنني أمشي من حمص إِلَى إيليا أي القدس، ماشياً يحج إِلَى القدس ماشياً شكراً لله عَلَى أنه نصره عَلَى الفرس، فلما حصل الانتصار أراد أن يفي بذلك، كانت تفرش له البسط وتوضع عليه الرياحين ويمشي عليها ووزراؤه راكبون، وهو يمشي حتى يبر بهذا اليمين فنزل واستقر في حمص.
وكانت نفسيته مهيئة للحق ولشكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
وإذا به في تلك الأيام يأتيه دحية الكلبي بكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاء به إليه، فلما رأى الكتاب وقرأه كتب إِلَى الأسقف البابا الكبير الذي في روما، كما في لفظ صحيح البُخَارِيّ فجاء الأسقف هذا، وكتب له هرقل بما جرى، وأنه كما يعتقد ويظن هرقل أن هذا هو نبي آخر الزمان الذي بشر به المسيح، وينتظر الجواب منالأسقف.(1/1621)
والذي حصل أن هرقل قام يوماً من الأيام مهموماً مغموماً من رؤيا رآها، وكان له نظر في النجوم فقَالَ: هذا أوان ظهور ملك الختان أو أمة الختان، وجمع البطارقة، والأساقفة والقساوسة وقَالَ: هذا أوان ظهور ملك الختان أو أمة الختان، فَقَالَ له أصحابه: لا يهمك هذا الأمر يا ملك! قَالَ: لا.
هذا يقين هذا حق، فابحثوا لي عن أي أمة تختن.
قالوا: لا نعلم أمة تختتن إلا اليهود، وهم عبيدك وفي مملكتك، فلا يضرنك الأمر ولا تهولنك هذه الرؤيا.
قَالَ: لا، ألا من أمة غيرهم.
فكتب إِلَى ولاته قالوا نعم توجد أمة، وهي العرب أيضاً تختتن
فقال لهم: من عثرتم عليه من هَؤُلاءِ القوم فابعثوا به إلي.
وكان أبو سفيان زعيم قريش قد استغل الصلح الذي حصل في الحديبية وتاجر، كما فرحت قريش بالصلح والهدنة، لتتاجر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فرحوا به ليتاجروا مع الله وليدعو النَّاس إِلَى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ- فكانت الكتب إِلَى ملوك الأرض بعده.
فوجدوا أبا سفيان في غزة وما شعر إلا وهم يقبضون عليه من؟ وإلى أين؟ قالوا: إِلَى هرقل وحملوه إِلَى هرقل، ودخل عَلَى هرقل، فأجلسه هرقل وكان معه قرابة عشرين أو ثلاثين رجلاً من قريش.
وقال له: إني سائلك عن أمر هذا الرجل وأنتم إن كذب فكذبوه -يعني- من معه وأبو سفيان -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- ذاك الوقت كَانَ كافراً، وكان يعلم أنه لو كذب لن يكذبه القوم لكن قَالَ: "والله ما منعني أن أكذب إلا الحياء" -الحياء لأن العرب لديهم الفطرة، ولما سأله قال من أقربكم إِلَى هذا الرجل؟ قال أبو سفيان: أنا، فهو زعيم القوم أولاً، وزعيم القوم لا يكذب، وإذا كذب الزعماء فكيف حال الأتباع، وخاصة أن العرب كانت تعد الكذب من الفجور.(1/1622)
ثُمَّ إنه أقرب النَّاس إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أُولَئِكَ الركب، لأنه من بني أمية وهم أقرب البيوت إِلَى بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جد الجميع الرابع عبد مناف، وهو يريد أن ينتقم منه لأنه عدوه لكن الحياء والقرابة تمنعه وهو قد قَالَ: أنا أقرب النَّاس إليه فإذاً لن يلتزم في إجابته إلا أن يقول الحق, والصدق ثُمَّ ابتدأ تلك المناظرة الفريدة.
أكبر ملوك الأرض وأكبر زعماء الدنيا صاحب الكتاب والرأي وصاحب الخبر الحسي والدليل النقلي الذي يملك بقايا الوحي من السماء، يسأل زعيم قريش، وعدو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي تحاربه ليلاً ونهاراً وتسعد لاستئصاله كافة، وليس هناك أحد موجود لا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجود ولا أحد من أصحابه، وليس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلطه لا عَلَى زعيم النصف الغربي من العالم، ولا عَلَى زعيم أعدائه حتى يجعلهم يحابونه أو يداهنونه، وإنما هي مناظرة تكون نتيجتها حقاً كم يظن هَؤُلاءِ النَّاس وكما يعتقدون من دون أي تأثير خارجي عَلَى الطرفين، ثُمَّ بدأت الأسئلة.
وقبل أن نبدأ بالأسئلة ننبه إِلَى أن أسقف روما هذا الذي هو البابا الأكبر جَاءَ بنفسه لما جاءه كتاب منهرقل، وتعجب فلما دخل عَلَى هرقل قال له هذا هو النبي الذي بشر به عيسى، هذا هو النبي وآمن به وصدقه وشهد شهادة الحق، وقتل هذا الرجل فيما بعد لمَّا أن رفض قوم هرقل الإسلام وتراجع هرقل نفسه لكنه شهد شهادة الحق.
ولهذا لم يكن هرقل في موقف المناظرة -كما سوف نرى في الأسئلة- ولم يكن موقفه موقف الإِنسَان الذي يجهل شيئاً؛ بل في موقف المستدل بصدق النبوة والمستدل بصحتها والمقرع والموبخ لأبي سفيان، إذا كنت أنت قريبه وأنت الذي تعرف آياته ورأيتها وتكذب به فأنا أدلك عَلَى أنه كذا وكذا.(1/1623)
وكانت العرب تنظر إِلَى الروم نظرة عالية كما ينظر مثلاً الآن بما يسمى، العالم الثالث إِلَى أمم الحضارة أن نظرتها أصوب ورأيها أدق، وكذلك معروف عن هرقل هذا وعن أمثاله الحلم والحكمة والروَّية، فكانوا يزنون رأيهم وزناً ثُمَّ إنه لقوتهم وهيبتهم وبطشهم يعلمون أنه لن يؤثر فيهم أي قوة، فكيف يرون أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصل إِلَى هذه القوه، لذلك قال أبو سفيان: لقد أَمِرَ أمر ابن أبي كبشة -يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي أن أمره قد ظهر حتى ليخافه ملوك بني الأصفر ملوك الروم صاروا يهابون مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا الشيء عجيب ذهل أبو سفيان منه.
نأتي إِلَى أسئلة المناظرة التي هي أكثر من عشرة أسئلة كلها في صميم إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وكذلك هرقل ملك الروم فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إِلَى الإسلام، طلب من كَانَ هناك من العرب وكان -أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إِلَى الشام فسألهم عن أحوال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذَب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار.
سألهم: هل كَانَ في آبائه من ملك؟
فقالوا: لا.
قَالَ: هل قال هذا القول أحد قبله.
فقالوا: لا.
وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟
فقالوا: نعم.
وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟
فقالوا: لا ما جربنا عليه كذباً.
وسألهم: هل اتبعه ضعفاء النَّاس أم أشرافهم؟
فذكروا أن الضعفاء اتبعوه.
وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟
فذكروا أنهم يزيدون.
وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سُخطةً له بعد أن يدخل فيه؟
فقالوا: لا.
وسألهم: هل قاتلتموه؟
قالوا: نعم.
وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟
فقالوا: يدال علينا مرة ونُدال عليه أخرى.(1/1624)
وسألهم: هل يغدر؟
فذكروا أنه لا يغدِر.
وسألهم: بماذا يأمركم؟
فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كَانَ يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وهذه أكثر من عشر مسائل، ثُمَّ بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة.
فقَالَ: سألتكم هل كَانَ في آبائه من ملك؟
فقلتم: لا.
قلت: لو كَانَ في آبائه من ملك؛ لقلت: رجل يطلب ملك أبيه.
وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟
فقلتم: لا.
فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله؛ لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله.
وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب، قبل أن يقول ما قال؟
فقلتم: لا.
فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى الناس، ثُمَّ يذهب فيكذب عَلَى الله.
وسألتكم: أضعفاء النَّاس يتبعونه أم أشرافهم؟
فقلتم: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، (يعني في أول أمرهم)
ثُمَّ قَالَ: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟
فقلتم: بل يزيدون وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟
فقلتم: لا، وكذلك الإيمان، إذا خالطت بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لابد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثُمَّ ينكشف.
وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها.
قَالَ: وسألتكم هل يغدر؟
فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر.(1/1625)
وهو لما كَانَ عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون -علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأَنْبِيَاء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر كما في الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)
والله تَعَالَى قد بين في القُرْآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] .
وقال تعالى: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2،1] الآيات إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة عَلَى سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.
قَالَ: وسألتكم: عما يأمر به؟
فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهاكم عما كَانَ يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي.
وقد كنت أعلم أن نبياً يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلُصُ إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين.
وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب وهو حينئذٍ كافر من أشد النَّاس بغضاً وعداوة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة، إنه ليُعَظِّمه ملك بني الأصفر، وما زلت موقناً بأن أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام وأنا كاره] اهـ.
الشرح:(1/1626)
هذه الأسئلة أو المناظرة بين زعيمين كافرين في شأن نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رتب هرقل الأمر وجعل أبا سفيان أمامه والقوم خلفه، وبإمكانهم أن يكذبوه، ولو بالإشارة ليتأكد من صدق أبي سفيان، وابتدأ الأسئلة أسئلة الإِنسَان البصير العالم الناقل الذي ينتقل خطوة خطوة حتى يصل إِلَى النتيجة الحاسمة المؤكدة.
فبدأ يقول: (هل كَانَ من آباءه من ملك؟)
لأنه عادة قد يقَالَ: إن هذا يريد الملك، ولهذا قالت قريش: وإن كَانَ إنما يريد ملكاً ملكناه، فالذي يريد أن يكون له أتباع قد يدعي النبوة، كما فعل مسيلمة وغيره.
فقَالَ: (هل كَانَ من آباءه من ملك) فيريد أن يمشي عَلَى سنة آبائه ويكون له شأن؟
(قالوا: لا) .
(قَالَ: فهل قال هذا القول فيكم أحدٌ قبله؟)
أي: هل كَانَ هناك أحد ادعى النبوة وفشل، وقال هذا: أنا سأرتبها وأدعي دعوة تنجح.
(قالوا: لا)
(فقَالَ: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت رجل أتى بقولٍ قيل قبله) سمع ناساً قالوا شيئاً فظهر أمرهم فقَالَ: أنا أيضا سأدعو وأظهر حتى يكون لي مثل ما لهم لكن لم يعهد هذا في أمة العرب قال تعالى: مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِك [القصص:46] .
(قَالَ: وسألتكم أهو ذو نسب فيكم؟)
(فَقَالُوا: نعم) وكما قلنا أبو سفيان عندما يزكي نسبه، فهو يزكي نسبه هو؛ لأن القرابة بينهما وهذا هو الحق، فأخبره هرقل أن الأَنْبِيَاء تبعث من أشراف القوم ولا تبعث من أراذلهم، قالهرقل: هذا أيضا دليل عَلَى أن هذا النبي صادق.
(وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟)
(قالوا: ما جربنا عليه كذباً قط) .
(فقَالَ: قلت قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى النَّاس، ثُمَّ يذهب ويكذب عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ) هذا الذي ما كذب عَلَى النَّاس في شيء، لن يكذب عَلَى الله ويفتري عليه ويدعي عَلَى الله ما لم يقل، إذاً فهذا نبي صادق.(1/1627)
(وسألهم: هل اتبعه ضعفاء القوم أم أشرافهم؟) يعني في أول الأمر.
(قالوا: بل اتبعه الضعفاء، قَالَ: وكذلك الأنبياء) لأنه يقرأ في قصص الأنبياء. كما تعلمون الملأ الذين استكبروا والملأ الذين استضعفوا، فريقان عادة أول ما يأتي أي نبي فإن الملأ الذين استكبروا يخافون عَلَى السلطان والمال والجاه والمكانة فلا يؤمنون، والملأ الذين استضعفوا لا يوجد معهم شيء من الدنيا، ويرون الحق واضحاً فيقدمون ويقبلون عَلَى الحق، لكن بعد ذلك يدخل الأشراف وغيرهم.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دخل معه من أشراف القوم في أول الأمر أيضاً، لكن كَانَ في المقابل الزعماء والكبراء ضده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن من المؤمنين من هو شريف ومنهم من هو من الموالي والعبيد، فهذه هي أيضاً علامة دالة عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
واستدل بها هرقل.
(ثُمَّ سألهم هل يزيد أتباعه أم ينقصون؟) لأن الإِنسَان يمكن أن يدعو بأي دعوى فيتبعه كثير؛ لكن بعد ذلك يتناقصون؛ لأنهم يظنون فيه ظنوناً مثالية، فلما خبروه، تبين لبعضهم أنه كذاب أو أنه يريد مصلحةً لنفسه دائماً تتعارض الأقوال والرغبات فيتراجعون عنه وهكذا في كل دعوة يتراجع كثير من أصحابها.
) (فسألهم: هل يرتد أحد منهم سخطةً في هذا الدين؟ قالوا: لا) .
قال هرقل -انظروا كلامه وكأنه في أعلى درجات الإيمان واليقين-: (وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب) سُبْحانَ اللَّه! كأنه إنسان من الأولياء المقربين؛ لأنه يعرف هذا من الأَنْبِيَاء من قبل، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد ولا يرتد عنه أحد.(1/1628)
(ثُمَّ سأل: هل قاتلتم هذا النبي؟ قالوا: نعم، قَالَ: كيف الحرب بينكم وبينه؟ قالوا: دول مرة لنا ومرة له) قَالَ: هذه أيضاً علامة الأَنْبِيَاء يبتلون ويمتحنون بأن يهزموا مرة أو مرتين؛ ولكن ستكون العاقبة لهم، ينذر أبا سفيان لا يغرك الصلح، كأنه يقول له: العاقبة له عليكم.
وابتلاء الأَنْبِيَاء فيه حكمه: أن الأتباع ليسوا كلهم عَلَى درجة من الإيمان فبعضهم يتراجع ويتمحص صف الإيمان بهذه الهزائم والنكبات، ولا يبقى إلا المؤمن القوي الثابت، وهذا المؤمن المتمحص بالأحداث وبالفتن هو المؤهل لأن يقود الدعوة، ولأن يبلغ الدين، ولأن يورثه الله الأرض، فالعاقبة لهم قطعاً -العاقبة لهذا النبي واتباعه- لكن لو أن كل من دخل معه دخل وانتصر لدخل أصحاب الأهواء والمطامع والشهوات، لكن يقتل من يقتل ويعذب من يعذب فينهزمون مرة وينتصرون مرة، وهكذا فيتمحَّصون ويتربَّون فلا يستمر ولا يبقى لهذا الدين إلا من كَانَ حقاً قوي الإيمان وصادق الإيمان.
(ثُمَّ سألهم: هل يغدر؟ قالوا له: لا يغدر، فقَالَ: هكذا الأَنْبِيَاء) لا يغدر النبي لأنه واثق من نصر الله، ولأنه يأتمر بأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(ثُمَّ سألهم ماذا يدعوكم إليه؟ فَقَالُوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده ويأمرنا بالصلاة، والزكاة، والعفاف، وصله الأرحام، وبر الوالدين) وكلها محاسن وفضائل تطبق عليها الفطر والعقول، فقَالَ: هذه جَاءَ بها جميع الأنبياء، الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، جَاءَ بها جميع الأنبياء.
إذاً هذا نبي، فاستنتج هرقل من هذا كله أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي حقاً بلا ريب.
وقال هذه العبارة التي قالها في آخر مرة، قَالَ: (قد كنت أعلم أن نبياً يبعث ولم أكن أظنه منكم -أمة حقيرة تافهه- ولوددت أني أخلص إليه -أي أذهب إليه- ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه) نعوذ بالله من الدنيا. .(1/1629)
(وإن يكن ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين) وفي رواية البُخَارِيّ ولم يذكرها المُصْنِّف هنا، قَالَ: (وددت لو أني أذهب إليه فأغسل قدميه) وهذه العبارة قالها المسيح -عَلَيْهِ السَّلام- لما جاءه رجل فسأله: أأنت الذي يأتي في آخر الزمان ويكون لك كذا وكذا مما هو في التوراة؟ قَالَ: لا لست أنا، ذلك نبي يأتي من بعدي ووددت أني أدركه فأحل سيور نعليه، وأغسل قدميه.
فعيسى -عَلَيْهِ السَّلام- يتمنى ذلك وهرقل يقول نفس الكلمة التي قالها عيسى يتمنى أنه يرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيغسل قدميه تشرفاً وتبركاً بغسل قدميه الشريفتين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
جمع هرقل أتباعه، وحاشيته، ومن يهمهم هذا الأمر من رؤساء الروم، ومن رجال السياسة، ورجال الدين، جمعهم جميعاً في مكان واحد وأوصد الأبواب، وقدم لهم وليمة، ثُمَّ فاتحهم في موضوع مهم وخطير، وعرفوا خطورته من خلال هذا الاجتماع الكبير الطارئ، وكان الإيمان قد وقر في قلب هرقل، وكانت دلائل الحق قد سطعت من أخبار النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي جَاءَ بها ذلك الكتاب، والتي سمعها من فيِّ أبي سفيان.
ويستيقظ إيمان هرقل
ولم يكن أمام هرقل إلا أن تستيقظ وتصحو، لكن الأمر لم يصل إِلَى حد الإيمان الذي يدفع بصاحبه لأن يبيع كل عرض من أعراض الدنيا لهذا الدين، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختص برحمته من يشاء.
فهرقل لما جمعهم قَالَ: إن أمر هذا النبي قد ظهر، وإنه نبي حقاً، وإنه النبي الذي أخبرت عنه التوراة والإنجيل، وقد كتبت إِلَى صاحب روميا وصاحب روميا هو عادة يكون البابا الأكبر أي: أكبر رجل في الدين النصراني.
وخاصة في المذهب الكاثوليكي الذي يقطن حالياً في روما في الفاتيكان - وقد صدق بهذا النبي، وأرى أن ندخل في دينه وأن نسلم جميعاً ونتبعه.(1/1630)
فلما قال ذلك وجدها الأتباع كلمة ثقيلة جداً عليهم، ورأوا أنهم بين أحد أمرين: إما أن يدخلوا في الإسلام، وهذا شيء لا يريدونه ولا يطيقونه، ولا سيما من كَانَ منهم في منصب وفي مرتبة دينية عظيمة، فإنهم يتوقعون أن يفقدوها إذا آمنوا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحتاروا بين ذلك وبين أن يعلنوا مخالفتهم لهرقل، فربما أسلم وأخذ بالقوة والعزيمة فيقتلهم، أو تكون فتنة بينه وبينهم، فحاصوا وخرجوا مندفعين إِلَى الأبواب؛ ليفروا من هذا الاجتماع، ولينفضوا من هذا اللقاء.
ولكن هرقل كان قد أوصد الأبواب فلم يجدوا منها منفذاً، ولما رأى أن الأكثرية قد هربت وذهبت إِلَى الأبواب لتخرج منها، وهو في القلة التي لو آمنت لما كَانَ لها دوراً وقيمةً.
آثر هرقل الدنيا عَلَى الآخرة، واختار الكفر عَلَى الإيمان، واختار المنصب والملك عَلَى الهداية والرشاد.
فَقَالَ لهم: عودوا عودوا، إنما قلت ذلك لأختبر إيمانكم، واختبر قوة عقيدتكم، فما دمتم بهذه القوة فلا نزاع، فرجعوا جميعاً، وترك الموضوع، وذهب في موضوع آخر.
ومع ذلك بقي في نفس هرقل أن هذا النبي عَلَى حق، وأنه سوف ينتصر؛ ولهذا لما جاءه جيش أبي عبيدة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ودخلوا إِلَى دمشق، وتقدموا إِلَى حمص خرج هرقل، وقد كَانَ فيها وقَالَ: سلام عليك يا سوريا! سلام لا لقاء بعده.
لأنه كَانَ يعلم أن ما قال لأبي سفيان: "ليبلغن ملكه ما تحت قدمي هاتين" سوف يتحقق.
ثُمَّ رحل من سوريا وتركها - وهي بلاد الشام، وأما صاحب رومية الذي كَانَ يعتبر القسيس الأعظم فإنه دخل في الإسلام، وأعلن إسلامه أمامهم، فتناوشوه بالسيوف وقطعوه، فكانت شهادة له عند الله بإذن الله.
فهذا آخر ما آل إليه الخبر.(1/1631)
والشاهد منه أننا نعلم أن هذا العدو -الإمبراطور عظيم الروم- أسلم وآمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من خلال ما يعرفه من صفات النبوة التي جاءت في الكتب المنزلة، والتي طابق وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصفها.
مع أن هرقل لم يرَ آية من آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ انشقاق القمر، ولم يرَ الماء وهو ينبع من بين أصابعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرَ الطعام وهو يفرغ من القدر فيكفي المئات بينما هي طُبخت لأفراد، ولم يرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعطي سهمه في الحديبية، ويوضع في البئر فإذا الماء يفور منها.
وغيرها من الآيات البينات التي أعطاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يرها هرقل.
وإنما جاءه هذا الكتاب فقط، وفيه دعوة موجزة إِلَى التوحيد، فطابق بين ذلك وبين ما وصفه به أبو سفيان عدوه في ذلك الحين، فرأى أن هذا هو النبي حقاً. فالشاهد من هذا أن العلم بالنبوة وثبوتها، أو العلم بأي قضية أو بأي مسألة من مسائل الاعتقاد لها في الإثبات طرق يحصل بها اليقين، غير الطرق التي يقولها المتكلمون.
والطرق التي يثبت بها المتكلمون النبوة إما أنها معجزة، أو آية مشاهدة خارقة، أو أنها تواتر ينقله جملة عن جملة عن جملة. وقد جَاءَ في السير أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرسل إِلَى هرقل إلا رجلاً واحداً وهودحية الكلبي، وفي السير وفي كتب التاريخ اختلاف في إرسال دحية الكلبي، هل أرسله مرتين أو مرة واحدة؟ وهل جاءه إِلَى بصرى ثُمَّ ذهب إِلَى الشام؟ وهل هي واقعة أو واقعتين؟ المهم أنه رجل واحد أرسله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو فرضنا أنه أرسل اثنين أو ثلاثة لما كَانَ ذلك يبلغ مبلغ التواتر الذي يشترطه المتكلمون.(1/1632)
إن أول من جَاءَ بهذه الثلمة ووضعها في دين الإسلام، وأراد أن يفسد بها عقائد الْمُسْلِمِينَ، هم المعتزلة.
خاصة اثنان من علماء المعتزلة:
الأول منهما: أبو الهذيل العلاف.
والآخر هو: إبراهيم النظام.
النظام والعلاف أرادا هدم الدين
فالعلاف والنظام أرادا أن يهدما دين الإسلام، وقد كَانَ النظام برهمياً عَلَى دين الهنود فأراد أن يهدم ملة الإسلام، فأعلن الإسلام ودخل فيه وتفلسف، ثُمَّ مال إِلَى المذهب المسمى بالاعتزال الذي أسسهواصل بن عطاء وعمرو بن عبيد كما سبق شرح ذلك فيما مضى.
النظام والعلاف يركبان في مذهب الإعتزال مبادئ فلسفية
ورث العلاف والنظام الاعتزال من واصل ومن عمرو بن عبيد وركبا فيه مبادئ فلسفية، أخذوها من الصائبة ومن فلاسفة الهنود ونحو ذلك وكان من فلسفة الهند أن البشر لا يحتاجون إِلَى الأنبياء، فالبرهمية ينكرون النبوات.
حتى أنهم يقولون: إن بوذا الذي ينتسب إليه اليوم أكثر من خمسمائة مليون وهم عَلَى دينه البوذية ليس بنبي، وكذلك (تفنييوس) الذي يُنسب إليه أهل الصين إلى اليوم يقول أتباعه: إنه ليس بنبي، وإنما هو رجل مصلح، ورجل حكيم فقط.
فهم ينتمون إِلَى دين ينكر النبوات ولا يثبتها. ويقولون: إن الحكمة العقلية يستغنى بها عن ذلك.
والنظام كَانَ في الأصل من هَؤُلاءِ القوم فجاء إِلَى دين الإسلام، وأراد أن يهدم النبوة ويهدم دلائل النبوة ولكن بطريقة خفية، فقَالَ: لا يمكن إثبات نبوة النبي إلا بالمعجزة.
وآية خارقة يفعلها، وهذه المعجزة أو هذه الآية لا تثبت إلا بالتواتر، ثُمَّ بعد ذلك اختلفوا في تحديد التواتر، فَقَالُوا: سبعين عن سبعين عن سبعين شخص، واختلف المعتزلة بعد ذلك، فَقَالَ بعضهم: ثلاثين، وقال بعضهم: عشرين.(1/1633)
ولو طبقنا هذا عَلَى ما جَاءَ في السنة من الآيات الحسية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا قد لا نجد هذه الأعداد؛ لكنهم يريدون بهذا أن يتوصلوا إِلَى هدم الدين ولكن من بعيد، وبستار خفي.
ولقد تنبه علماء الإسلام إِلَى ذلك، وكفروا هَؤُلاءِ.
وقد اخترع النظام والعلاف أموراً كثيرة تدل عَلَى أن كلاً منهما لم يكن يؤمن حقاً بدين الإسلام، وإنما كَانَ غرضه الهدم، فحصروا معرفة النبوة وحصول اليقين في التواتر فقط، وإلا فما عند الحكماء وما عند الفلاسفة يغني عن النبوة.
الرد على ما اشترطه المتكلمون في باب النبوة
لو أن عاقلاً فكر في كلامهم هذا لوجد أنه بالإمكان أن نرد عليهم ببساطه جداً، وذلك أن ما ورثه النظام والعلاف -ثُمَّ من تبعهم من المتكلمين من أشعرية وغيرهم- من طريق الفلاسفة، كيف ثبت لديهم؟ وكيف وصل إليهم؟
هذا هو السؤال الذي يوجه إليهم، فنسألهم ونقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي في السنة العاشرة أي: أن بينه وبين عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء حوالي مائة سنة فقط، ومائة وخمسين أو مائة وستين سنة بينه وبين العلاف والنظام، لكن كم بين العلاف والنظام وبين أرسطو وأفلاطون؟! قرون طويلة، مئات من السنين.
وما كتبه أرسطو وأفلاطون كتبوه بلغتهم، وهذه اللغة ترجمت، ثُمَّ ترجم من الترجمة أحياناً ثلاث ترجمات أو أربع حتى وصل إِلَى اللغة العربية التي كَانَ العلاف والنظام يقرؤون بها، فلم تصلهم بالسند، ولم تصلهم بنفس اللغة التي كتبوها، ومع ذلك يقولون: هذه عقليات، وهذه قواطع، وهذه يقينيات!!
أما النصوص والأحاديث النبوية التي جاءت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعتبرونها من قبيل أخبار الآحاد فلا تثبت!!
فلو أن العاقل تدبر هذا لعلم أنهم مجرد هدامين هذا أمر.(1/1634)
والأمر الآخر أن القرآن -ولله الحمد- قد ثبت بالتواتر الذي لم يقع لأي كتاب في الأرض على الإطلاق، فالآلاف ترويه عن الآلاف، فلو أن هَؤُلاءِ القوم تهمهم مسألة التواتر والآحاد لآمنوا بما جَاءَ في القُرْآن كله، ثُمَّ نناقشهم في السنة؛ لكنهم يقولون: القُرْآن يصرف عن معناه إِلَى معاني مجازية، إِلَى التأويل.
والسنة غير متواترة، والمتواتر منها في نظرهم إذا كَانَ موجوداً يعامل معاملة القُرْآن يصرف بالمجاز وبالتأويل، إذا عَلَى قولهم هذا لم يبقوا كتاباًً ولا سنة، المتواتر أولوه والآحاد ردوه، وعليه فليس هناك وسيلة للعلم الشرعي؛ بل إن وجود القُرْآن والسنة عَلَى هذا الحال حسب كلامهم يصبح عائقاً بين النَّاس وبين الحق والعياذ بالله؛ لأن النَّاس كَانَ في إمكانهم أن يأتوا إِلَى ما كتبه أرسطو وأفلاطون والعلاف والنظام، ويأخذوا الحق منه مباشرة.
فجاء القُرْآن وجاءت السنة فأشتغل النَّاس بتأويل هذا ورد هذا فكان مشغلة، وكان حاجزاً بين النَّاس وبين الحق عَلَى كلام هذين الخبيثين وأمثالهما.
فمن هنا تعلم القضية التي أشار إليها المؤلف أن العلم اليقيني والعلم الضروري يحصل بطرق أخرى كثيرة.
النبي يرسل إلى ملوك الأرض آحاداً من الناس
إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إِلَى ملوك الأرض آحاداً يبلغون النَّاس الدين، فلو أن كل أمة جاءت وقالت: لا نؤمن ولا نصدق بأن هذا الكتاب من عنده إلا إذا جاءنا من سبعين عن سبعين إِلَى آخره لكان هذا جنوناً في عقولهم، قبل أن يكون تكذيباً للرَسُول الذي أرسل هذا الرسول.
وهذا أمر معروف لدى سائر البشر حتى اليوم، فإن لديهم علامات، ولديهم قرائن للحق غير التواتر.(1/1635)
فلو أن النَّاس أخذوا هذا المبدأ، وَقَالُوا: لا نتعامل إلا بما ينقله جمع عن جمع لكلف ذلك شططاً، ولكنت تحتاج إذا أردت أن تشهد عَلَى قضية أو تكتب عن مسألة أن تشهد عليها سبعين أو عشرين، كما اشترط هَؤُلاءِ المتكلمون، ثُمَّ بعد ذلك يكون اليقين.
وهكذا فالعاقل إذا تأمل ذلك يجد أنهم مجانبون للصواب بوضوح، وإنما كَانَ قصدهم زندقة وهدم لدين الإسلام، ولذلك ينبه المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى شيء من كيفية حصول العلم وكيفية حصول اليقين في القلوب.
بعثة محمد صلى الله عليه وسلم تشغل أذهان كفار زمانه وعقولهم
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها؛ لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر.
وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثُمَّ الآخر يقويه، إِلَى أن ينتهي إِلَى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة عَلَى الصدق والكذب ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:
يذكر المصنف: أن هناك قرائن وأموراً تجتمع في أي قضية فتحولها إِلَى يقين، وضرب أمثلة بحال الإِنسَان في الأكل والشرب وغير ذلك.
فالإِنسَان إذا أكل شيئاً من الطعام حصل له شيء من الاكتفاء، فإذا أكل كثيراً حصل له الشبع التام هذا في المحسوسات.
وكذلك اليقين في الأخبار العادية، فإنه إذا حدثك رجلٌ أن أمراً ما قد حدث، فإنه سيحصل عندك نوع من العلم بأن هذا الأمر قد وقع فعلاً؛ لكن لو حدثك آخر ثُمَّ آخر، ثُمَّ قرأته في كتاب، ثُمَّ سمعت النَّاس يتحدثون عنه، لحصل لديك به علم يقيني.
بحيث لو جاءك إنسان آخر وقَالَ: هذا الكلام كله لم يحصل ولم يقع، فسيكون لك ردة فعل عَلَى هذا الكلام، ولا يمكن أن يدفع ما ثبت عندك يقيناً.(1/1636)
وهكذا كَانَ حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لما بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تناقلت الركبان أخبار بعثته كما في حديث أبي ذر الغفاري المعروف الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم فإنه لما سمع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خرج، أرسل أخاه فَقَالَ له: ائتني بخبر هذا الرجل الذي قد خرجَ، والقصة معروفة.
وغيرها كثير ممن سمع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحج، أو في أسواق العرب التي كَانَ يغشاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويبلغ الدعوة فيها، ويتحدث عنها النَّاس وتأتيهم الأخبار من الذين يؤمنون من أقوامهم فيذهبون إليهم، ويقولون لهم: ذهبنا إِلَى هذا النبي، ورأيناه ووجدناه يدعو إِلَى كذا وكذا فيؤمن القوم أو بعضهم.
ثُمَّ بعد ذلك يأتي وفدهم إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حصل للوفود التي وفدت إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد آمنوا بنبوته، ولكن وفدوا يريدون اليقين، فعندما يسألونه ويرونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي اليقين الكامل بصدق نبوته، وقد يبقى أيضاً من الشكوك عند البعض الآخر فيرتدوا ثُمَّ تكون الحرب عليهم.
الشاهد من هذا أن الخبر - دائماً - يحصل ويأتي إِلَى النفس بطريقة انفرادية، ثُمَّ ما يزال يقوى وتجتمع منه أمور معينة تجعله يتأكد وهذا يدل عَلَى أنه ليس من الشرط لحصول اليقين أن تلزم طريقاً واحداً، كما يلزمنا به المتكلمون من المعتزلة أو غيرهم، وطبيعة الحياة، وطبيعة الاجتماع البشري تكون في الأخبار والأحداث العظيمة عَلَى الطريقة التي ذكرنا، وليس هناك حدث أعظم وأضخم من حدث النبوة أو دعوى النبوة.(1/1637)
إنها قضية كبرى عند جميع الناس، فالذين بعث إليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت النبوة عندهم حدث عظيم؛ لأنه لم يبعث فيهم نذير ولا بشير قبله، فكان لا بد أن يستغرق أذهانهم بالتفكير فيه، ولا سيما أن هذا المبعوث بعث في قلب مركز وثنيتهم وعبادتهم، وبجوار البيت الذي يعظمونه جميعاً، ومن نفس الأسرة التي هي أشرف الأسر، وهو من ذرية إسماعيل عَلَيْهِ السَّلام ولد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، اللذين بنيا هذا البيت، وأما الروم واليهود وأمثالهم فإن لديهم الكتبَ التي فيها صفات هذا النبي، وكانوا ينتظرون زمانه، وقد أخبر كثير منهم بأن هذا الزمان هو زمان هذا النبي فعندما كانوا يتحسسون الأخبار كما حصل من بحيرا الراهب الذي كَانَ في بصرى، فقد كَانَ يخرج من الصومعة ويتحسس الأخبار، وينزل عَلَى طريق القوافل التجارية بين بلاد العرب وبين الروم، ويقول: هل ظهر نبي آخر الزمان؟ هل جاءكم أحد؟ هل أخبركم أحد؟ حتى وجد ركباً فأخبروه أنه قد ظهر نبي آخر الزمان.
وأيضاً الراهبان اللذان تعبد عندهما سلمان الفارسي رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ ما زال كل واحد منهم يسلمه إِلَى الآخر، إِلَى أن قال له:آخرهم: لا أعلم أحداً اليوم في الأرض عَلَى ما أنا عليه إلا أن نبي هذا الزمان قد ظهر فالتمسه في بلاد العرب، في أرض ذات نخل بين حرتين، ولهذا جَاءَ سلمان الفارسي يبحث عن الدين لذاً كَانَ اهتمام القوم بهذا الأمر عظيماً؛ لأنهم يترقبون هذا النبي ويتوقعونه فأخذت آياته تظهر.(1/1638)
وكانت أعظم آيات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي رآها أُولَئِكَ النَّاس أصحابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الإِنسَان يرى هذه الأمة التي تحولت من عبادة الأوثان وشرب الخمور ووأد البنات والظلم والنهب والجور إِلَى أمة مؤمنة تقية عادلة بارة، لم يشهد التاريخ فاتحاً أرحم منها، ولا حاكماً أعدل منها، تتواصى بالحق وبالصبر، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتبعث مكارم الأخلاق التي اندثرت في قلوب الأمم عَلَى مر القرون.
فكان الرجل من الأمم إذا رأى أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو استطلع أخبارهم وأحوال جيش الْمُسْلِمِينَ يتعجب أشد العجب من أخلاق هذه الأمة ومن تعاملها، وهذا هو الذي يغزو قلوب النَّاس أكثر مما تغزوهم المسائل النظرية والجدلية.
وما زال خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتردد بينهم، وآياته تظهر حتى صدقوا وآمنوا، ودخلوا في دين الله برغبة وصدق، مع أنهم لم يكونوا يفهمون اللغة العربية إلا من كَانَ عربياً بطبعه، ومن تعلمها فيما بعد، فآمنوا وحملوا السيوف للجهاد، وآمنت أمم في أصقاع الدنيا وجاهدت من أجل هذا الدين، بناء عَلَى هذه الآيات الواضحات في خلق أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الحق الذي جَاءَ به هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبمقارنته بالفطرة وبمكارم الأخلاق التي تؤمن بها كل فطرة سليمة، ويهدي إليها كل عقل رشيد سليم، فهذا من أعظم الآيات الدالة عَلَى صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون حاجة إِلَى ما ذكره أُولَئِكَ المتكلمون، وهناك أدلة أخرى سيذكرها المؤلف أيضاً.(1/1639)
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [وأيضاً فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى في العالم الآثار الدالة عَلَى ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده. ولما ذكر سبحانه قصص الأَنْبِيَاء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ َ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:68،67] وبالجملة: فالعلم بأنه كَانَ في الأرض من يقول: إنه رَسُول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم: هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب: كبقراط وجالينوس وبطليموس وأفلاطون وسقراط وأرسطو وأتباعه، ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين عَلَى الحق من وجوه متعددة، منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أُولَئِكَ وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم إذا عرف الوجه الذي حصل عليه: كغرق فرعون، وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم عرف صدق الرسل، ومنها: أن من عرف ما جَاءَ به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاؤوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق عَلَى ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم برٍ يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. ولذكر دلائل نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها النَّاس بمصنفات كالبيهقي وغيره] اهـ. الشرح: وهنا دليل آخر من أدلة(1/1640)
كثيرة عَلَى إثبات النبوة للأنبياء جميعاً، وإمكان العلم والمعرفة بها، وهذا الدليل هو ما أبقاه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الآثار المكتوبة أو المحفوظة أو المحسوسة، للدلالة عَلَى صدق نبوة الأنبياء، فإن البشرية جمعاء والعالم أجمع يتناقلون هذه الآثار، فمثلاً الطوفان جَاءَ علماء الاجتماع أو المكتشفون الأوروبيون وذهبوا إِلَى أمريكا الجنوبية، وذهبوا إِلَى أفريقيا، وذهبوا إِلَى الهند، وإلى شرق آسيا، وإلى الأدغال والأحراش، ومناطق كثيرة لاكتشاف المجتمعات، كيف تعيش؟ وكيف تعتقد؟ وبماذا تدين؟
العالم أجمع يتناقل آثار الأمم الماضية
وجد هَؤُلاءِ المستكشفون أن جميع المجتمعات تعتقد أدياناً ولهم عباداتهم، ووجدوا أنهم يؤمنون بالطوفان، وبأنه قد عم الأرض، وسموها الخرافة المشتركة، أو الأسطورة المشتركة؛ لأن كل القبائل اشتركت واتفقت عليها، بينما لكل قبيلة أو مجتمع أساطير أخرى، فيقال لهم: كيف تكون أسطورة مشتركة، وأنتم تقرؤون ذلك في كتبكم، في التوراة، وفي الإنجيل، والْمُسْلِمُونَ يقرؤون ذلك في القرآن، وهو محفوظ معصوم، والنَّاس الذين كتبوا التاريخ المحفوظ المقروء يتناقلونه، وهذا تاريخ محفوظ متناقل في السطور مذكور فيه والآثار الحسية في الأرض تقول بذلك.
فإذا كانت كل الشواهد والدلائل تدل عَلَى أمر من الأمور فهل يكون هذا دليلاً عَلَى أنه خرافة مشتركة؟ إنما تدل عَلَى أن هذا الأمر حقيقة مشتركة.
فاشتراك النَّاس في ذلك دليل عَلَى إثبات هذه الحقيقة، وكل البشر في جميع المجتمعات يعتقدون أن أصل البشر من أم وأب واحد، ثُمَّ يقولون: إنه بعد الطوفان غرق من في الأرض إلا النبي ومن كَانَ معه، ثُمَّ تناسلت منهم البشرية، وهذا كلام لا يمكن أن يكون مجرد اختلاق.
أما دلالتكم أنتم عَلَى أن هذه الشعوب أو هَؤُلاءِ النَّاس خرافيون، وإنكاركم لآدم، وإنكاركم لنوح، هذا هو الظن والاختلاف الذي ليس عليه أي دليل عَلَى الإطلاق.(1/1641)
كتب التاريخ وتغيبها لقصص الأنبياء مع أقوامهم
إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أبقى من الدلائل عَلَى الأَنْبِيَاء وما حصل لهم مع أممهم، ما يدل عَلَى صدقهم، ونحن نؤمن به، ونقرأه في التواريخ وفي الآثار، وهو أكثر ثبوتاً من إثبات أرسطو وأفلاطون في علم الاجتماع وغيرهم في غيرها من العلوم، ونحن نجد من يكتب في التاريخ أنهم عندما يبدأون بالكلام عن الطب فيبدؤون بالطب عند اليونان، ويتكلمون عن تاريخ الطب وعلماء الطب من اليونان وجالينوس وبقراط.
وفي علم الجغرافيا والفلك يبدؤون أيضاً من الجغرافيا عند اليونان فيحدثونك عن بطليموس وأمثاله، وهكذا كأن بداية العلم البشري ظهر من اليونان.
ولابأس عندنا بالتحديث عن تاريخ هذه العلوم، لكن لماذا يتحدثون عن هذا التاريخ، ثُمَّ ينتقلون منه إِلَى القرون الوسطى، ثُمَّ منه إِلَى العصر الحديث، ولا يأتي ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا ذكر الإسلام، ولا التاريخ الإسلامي إلا عرضاً؟! حتى في الجامعات الإسلامية تأتي هذه الأمور عرضية فهم يبدؤون بالكلام عن اليونان والرومان.
ثُمَّ العصور الوسطى ويتحدثون قليلاً عن الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ العصر الحديث، ولا تجد ذكراً للأنبياء في علم التاريخ؛ بل تجد الحديث عن الفراعنة ويؤلف فيهم المجلدات الطويلة ولا يذكر كفرهم، وما بعث الله إليهم من الأنبياء، ويعتبرون ذلك خاصاً بكتب الدين، حتى ما حصل من إغراق الله تَعَالَى لفرعون، فإنهم يمرون عليه كأنه حدث من جملة الأحداث العادية، فيقولون: في عصر فلان الثاني من ملوك الفراعنة، حصل أنه أراد أن يقاتل بعض الناس، فاجتاحه الماء وغرق، وانتهى الأمر.
وماذاك -والله أعلم- إلا لأنهم لما نقدوا كتبهم وأناجيلهم وجدوها مزيفة لايصدقها التاريخ، ومع ذلك ليست كلها زائفة بل فيها حق وفيها باطل؛ لكن هَؤُلاءِ الحاقدين من الملاحدة الأوروبيين أنكروها بجملتها، وَقَالُوا: التاريخ هو الحقيقة.(1/1642)
وأما الأديان فلا عبرة بها ولا يؤخذ بكلامها، ولا يؤخذ بالكتب الدينية في تسجيل الأحداث التاريخية.
وفي المسلمين من يأخذ عن الحاقدين لهذا الدين
فجاء بعض الْمُسْلِمِينَ وأخذ نفس الفكرة، وأخذ نفس الرأي فتراه يتحدث عن الفراعنة ولا يذكر موسى عَلَيْهِ السَّلام ولا ما حصل له، ويتحدث عن الأشوريين والكلدانيين، ولا يتحدثون عن رسالة إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ولا عن موقفه منهم، وهكذا. فكأن الأَنْبِيَاء ليسوا موجودين من التاريخ، لماذا؟
لأن كتب التاريخ التي كتبها المُشْرِكُونَ والكفار من الأمم الماضية لم يذكروا فيها الأنبياء، وعليه فهم لا يذكرونها، بينما ذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ في كتابه.
الشاهد مما سبق: أن خبر إغراق فرعون معلوم لدى الناس، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ترك من آثار الفراعنة شواهد دالة عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد عذبهم وأهلكهم، وكذلك كثير من الأنبياء.
كما نشاهد في مدائن صالح عَلَيْهِ السَّلام، فقد ترك الله عزوجل هذه الآيات الواضحة ليرى النَّاس أن نبياً قد بعث، وأن قومه قد كَفَرُوا به، فأهلكهم الله عزوجل، وهذه جبالهم التي كانوا ينحتونها ويتخذون منها القصور والبيوت لا تزال شاهدة فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:52] .
مواقع الأمم الماضية آثار أم دمار؟!
إن بقايا وآثار مساكن الكافرين متواترة ومشهورة عند الناس، لا يغفل عنها إلا أصحاب القلوب المعرضة، فالذين يذهبون في رحلة، وفي نزهة، ويصورون تلك الجبال، وبعضهم يضخمها صورة كبيرة، ويعلقها في البيت، سُبْحانَ اللَّه العظيم!
هذا عذاب أمة عظيمة، أهلكها الله بالمعاصي أتعلق صورها للزينة!! والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى أن نمر بها إلا مستعبرين، أي: باكين.(1/1643)
ونهى عن الإقامة فيها كما هو ثابت في قصة غزوة تبوك، ولكن القلوب الغافلة أبت إلا أن تتخذها منتزهات وملاهي، ولذلك نبه المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الشعراء بعد أن يذكر كل أمة من الأمم، وماذا جرى لها يقول:إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:8-9] .
ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في آخر سورة يوسف لما قص قصة يوسف: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] وأولوا الألباب هم فقط الذين يعتبرون عندما يرون أمثال هذه الأحداث.
فترك الله عَزَّ وَجَلَّ شواهد حسية مرئية، وشواهد منقولة بالتواتر تاريخياً، مكتوبة أو محفوظة تدل عَلَى أن له أنبياء، وأن هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاء قد بعثوا إِلَى أقوامهم فمن آمن منهم نجى، ومن كفر من أقوامهم فإنه يهلك بأنواع من الهلاك ما تزال بعضها شاهدة شاخصة يراها أولوا الألباب، ويقر بها أولوا الأبصار.
فهذه أيضاً من الدلائل التي يغفل المتكلمون والفلاسفة وأمثالهم عن الاستشهاد بها عَلَى صدق النبوة.
هوس فلاسفة اليونان
ومن الأمثلة العجيبة أنه لما جَاءَ فلاسفة اليونان وقد بلغهم أن بيتاً في بلاد العرب -وهو الكعبة- يؤمه النَّاس من جميع الأقطاب؛ لأن هذا البيت من أعظم الآثار الواضحة عَلَى النبوة -كما هو معلوم- من عهد آدم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ نوح عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الذي جدد بناءه، ثُمَّ بقي بناؤه من إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام إِلَى اليوم.(1/1644)
وهذا أيضاً مما يدل عَلَى النبوة، فتنجذب إليه قلوب البشر من أنحاء أفريقيا، ومن آسيا، ومن كل أقطار العالم، فأخذ الفلاسفة يفكرون عندما حاروا في أمر هذا البيت، فظلوا يفكرون لانجذاب القلوب نحو هذا البيت يتفق مع ما يقولون به من أنه لا نبوة، ولا دين، ولا شيء من هذا قالوا: إذاً حجر المغناطيس موضوع تحت الكعبة؛ فلذلك ينجذب إليه الناس!!
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:14-15]
فيقال لهم: ومن وضع هذا الحجر؟! فإن كَانَ من عند الله فلماذا لم يضعه إلا في هذا المكان؟! وإن كَانَ الذي وضعه بشر فلماذا وضعه في بلاد العرب؟! ومن هذا البشر الذي وضعه؟! ولماذا لم يضعه في الأرض الخصبة، والأراضي المتحضرة؟! إن ما يقولونه لا يمكن أن يقبله العقل.
فالقصد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ترك من الأدلة الواضحة الجلية عَلَى إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأنبياء جميعاً ما يقطع لكل ذي لب بأن النَّاس منذ عهد آدم ومنذ أن وقع الشرك، ثُمَّ صار النَّاس فريقين: مؤمنين وكافرين.
وإن أصل إيمان المؤمنين هو: الإيمان بالنبوات؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث إليهم الرسل تتراً، أي: متتابعين، فيأتيهم النبي ويبلغهم رسالات ربهم، ويذكرهم بالله ويدعوهم إِلَى ما فيه صلاحهم.(1/1645)
فلهذا يقول المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: نَحْنُ اليوم نعلم بالتواتر من أحوال الأَنْبِيَاء وأوليائهم وكذلك من حال أعدائهم ما يدل قطعاً وصدقاً عَلَى نبوتهم، غير الأدلة التي يحصرنا فيها أُولَئِكَ الناس، فَيَقُولُ: ومن ذلك أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم، وبقاء العاقبة لهم وخذلان أعدائهم، فمنذ أن يُبعث النبي وهو موقن بالانتصار، كما هو حال نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد كَانَ ورقة بن نوفل موقن بأنه نبي، ويقول: ليتني أكون فيها جذعاً، إذ يخرجك قومك، علم أن قومه سيخرجونه؛ لكنه هو الذي سينتصر في النهاية، وقد قالها هرقل: الأَنْبِيَاء يُغلبون ابتلاءً من الله، ولكن تكون العاقبة لهم، وهكذا أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن العاقبة كانت للأنبياء الذين من قبله، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهلك الأمم التي كذبتهم وكفرت بهم جميعاً، كما في أحداث فرعون وقومه، ونوح وقومه وأمثالهم.
الشيء العظيم جداً الذي اختص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأعظمه وأشمله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع.
ولهذا يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وإنما كَانَ الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يَوْمَ القِيَامَةِ " وماذاك إلا لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل بينته وحياً نورياً يتلى ويتناقل ويتداول، ولم تكن خارقة حسية يراها بعض الناس، أو يتناقل أخبارها بعض الناس، وإنما كانت مع وجود هذه الخوارق والآيات الحسية وحياً يتلى.
ما من خير إلا وقد دل عليه الأنبياء(1/1646)
إن ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع يدلُ كلَ ذي عقل ولبٍ سليم عَلَى أنهم صادقون، فهم يدعون إِلَى البرِّ، والعدلِ، ويدعون إِلَى الأخلاق الحسنة، ويدعون إِلَى إخلاص النيات والقلوب لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويدعون إِلَى المساواة بين النَّاس في الحقوق والواجبات، ويدعون إِلَى إصلاح الأسرة، ويدعون إِلَى إصلاح المجتمع، ويدعون إِلَى إصلاح الدولة، فلا خير إلا ويدل عليه الأنبياء، فلو تأمل العاقل ما يدعون إليه لوجد أنه الحق والخير والحكمة والهدى والرشاد.
أحوال مخالفي الأنبياء تنبئك عن فساد ما يدعون إليه
لو تأمل أحوال مخالفيهم والذين يناوئونهم لوجد العناد والكبر والاستخفاف.
فماذا قال فرعون؟: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] ، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] !!
وماذا قال أبو جهل: لا نرجع حتى نرد ماء بدر فتعزف القيان ونضرب العود ويسمع العرب أننا أعزهم!!
وإذا قورن كلام النبي بكلام أعداء النبي يظهر الفرق جلياً بين ما يريد هذا ويدعو إليه، وبين ما يريده أُولَئِكَ ويدعون إليه، فهم يريدون العلو والفساد في الأرض، والاستكبار عَلَى خلق الىله واستضعافهم، واستعبادهم.
وأما الأَنْبِيَاء فإنهم يريدون الإيمان والصلاح، والخير والفلاح، لهَؤُلاءِ البشر جميعاً في الدنيا والآخرة، ولهذا يتبعهم الضعفاء أول أمرهم، وهم الأشراف العقلاء، أما أصحاب المناصب، وأصحاب الشهوات، وأصحاب الكبر والعناد، فإنهم يعرضون عنهم.
فهذا الدليل -ما يأتي به الأَنْبِيَاء من الشرائع- هو نفسه من الأدلة القطعية عَلَى أنهم إنما يوحى إليهم، وإنما يتلقون ذلك من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهذا أيضاً من ضمن الأدلة المعلومة بالتواتر وبالبراهين من واقع حال الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم.(1/1647)
وهنا ينتقل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى دليل آخر قوي جداً وهو الاستدلال عَلَى صدق الأَنْبِيَاء وعلى حقيقة دين الأَنْبِيَاء بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد كنا تحدثنا في أول الكتاب عن الاستدلال بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى وجوده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى إلاهيته وعلى توحيده.
هنا نستدل بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى إثبات نبوة الأنبياء، وكثير ممن دخل في الإسلام -حتى في هذا العصر- لو بحثنا في سبب إسلامه لوجدنا أنه أسلم استدلالاً بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ أولاً،.
فتنظر إليه وهو يقول: لا بد لهذا الكون من إله، لا بد أن لهذا الكون خالق، وهذا الخالق: إما أن يكون عادلاً، أو ظالماً، فالذي ينظر ويتفكر في خلق السموات والأرض والكواكب والنجوم، ويرى أنه لا يمكن أن يحصل تصادم بين هذه المخلوقات، ولايرى في خلق الله تَعَالَى من تفاوت، ويرى الإبداع العجيب في ذلك كله يوقن أن هذا الإله عادل في كونه.
ثُمَّ يسائل نفسه هل يمكن أن هذا الإله العادل يترك الإِنسَان يموج في هذه الحياة، القوي يأكل الضعيف، والشعوب تقتل بعضها بعضا دون أن يعطي هذا الإِنسَان وصراطاً يمشي عليه؟ لا يمكن ذلك.
فلا بد أن يكون له دين، وأن يكون له منهج يضعه للبشر، من هنا يبدأ هذا الإِنسَان البحث عن هذا الدين، فيحدث نفسه فياترى أين يكون؟ أهو اليهودية فيقرأها فلا ينتفع بها، النصرانية فيقرأها ولا ينتفع بها، البوذية الكونفوشية فيقرأها فلا ينتفع.
فعندما يقرأ عن الإسلام يجد بغيته وكلما يقرأ شيئاً عن الإسلام يزداد يقيناً به، فيسلم ويستيقن بنبوة نبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بناءً عَلَى هذا الدليل.
الطاعن في نبوة الأنبياء طاعن في صفات الله وربوبيته(1/1648)
هذا الذي سيشير إليه الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، أن من يطعن في نبوة الأنبياء، ونبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصةً، فإنه يطعن في صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، ويطعن في ربوبية الله عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[بل إنكار رسالته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعن في الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونسبته إِلَى الظلم والسفه، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحدٌ للرب بالكلية وإنكار.
وبيان ذلك: أنه إذا كَانَ مُحَمَّد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري عَلَى الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم، ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إِلَى أمر الله له به ومحبته له، والرب تَعَالَى يشاهده، وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة.
وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره، ويُعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم، فإنه لا أظلم ممن كذب عَلَى الله، وأبطل شرائع أنبيائه وبدَّلها، وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تَعَالَى يقره عَلَى ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع من الوتين.
فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كَانَ له مدبر قدير حكيم لأخذ عَلَى يديه، ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!(1/1649)
ولا ريب أن الله تَعَالَى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته، والشهادة له بالنبوة عَلَى رؤوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه.
هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور:30-31] أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل؛ بل لابد أن يجعله عبرة لعباده.
كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى: 24] ، وهنا انتهى جواب الشرط، ثُمَّ أخبر خبراً جازماً غير معلق: أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء [الأنعام:91] فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره] اهـ.
الشرح:
استمرار دعوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دليل عظيم لمن تأمله وفطن إليه وفقهه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فتفكر في حقيقة أمر النبوة، وأمر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، أياً كَانَ دينه، نقول هذا للمسلم ولغير المسلم.
ولنفترض أن هذا النبي -كما يقول الكاذبون والمرجفون- ليس موحاً إليه من عند الله، فكيف يأتي فيدعي النبوة وهي دعوى عظيمة، ثُمَّ يأتي فيستمر ثلاثاً وعشرين سنة وأمره مؤيد ظاهر؟(1/1650)
فيحارب الأعداء وينتصر عليهم، ويرفع يديه إِلَى السماء فتستجاب دعوته فيهم، ويستبيح نسائهم وأموالهم، يقتل كل مخالفيه، ثُمَّ يذهب في الأرض فيأتي إِلَى أهل الكتاب: فإما الجزية، وإما الإسلام، وإما السيف، ويأتي إِلَى الْمُشْرِكِينَ: فإما أن يسلموا، وإما السيف، أمور يفعلها، وهو مؤيد ظاهر، وترتفع المآذن في شرق الأرض وفي غربها أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ويخلُد ذكره، ويعظم أمره.
من طعن في نبوته أو كذبه أو سبه أذله الله وأخزاه
ولا يعلم أن أحداً سبه أو طعن فيه أو كذبه إلا أذله الله وخذله، وهدم كبره، كل هذه الدلائل الواضحة البينة، ومع ذلك يكون هذا الرجل مفترياً عَلَى الله، ويقول هذا من عند الله وهو ليس من عند الله.
وقفة مع منكري نبوات الأنبياء
في الحقيقة الذي يطعن في نبوة النبي لا يطعن فيه بل يطعن في الله هذا ما يريد المُصْنِّف أن يقوله، ويلزم من قوله: إما أن هذا الكون ليس له إله!
وهذا لا يمكن؛ لأن أتباع الأَنْبِيَاء -على الأقل- جميعاً يؤمنون بأن الأَنْبِيَاء جاءوا من عند الله، وإما أن يكون هذا الرب لا حكمة له ولا تدبير، إنما هو ظالم، وهذا لا يليق بالله عَزَّ وَجَلَّ، فكل من يعلم شيئاً عن الله عزوجل لا ينسب الله تَعَالَى إِلَى الظلم؛ بل إن الكون يشهد بأن هذا الإله حكيم عدل.
فكيف نقول: إنه ظالم؟ وإنه لا حكمة له ولا تدبير؟
ولا يليق بالله أن يرفع المفتري عليه فوق العالمين، ويظهر سلطانه، ويرفع شأنه ويؤيده، ويقال أيضاً لمنكري نبوات الأنبياء: ألا تؤمنون أن هذا الإله قدير؟ سيقولون: نعم هو قدير؛ لأنه خلق هذه النجوم والمجرات والكواكب العظيمة، فيقال لهم: هذا القدير ألا يقدر عَلَى بشر يفتري عليه؟!(1/1651)
ولذلك قَالَ: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] ولو أن هذا الإِنسَان يفتري عَلَى الله، فإن الله يختم عَلَى قلبه ويميته فينتهي الأمر، ولهذا قالت قريش: أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [صّ: 6] وَقَالُوا: شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور:30] .
قريش تتربص بالنبي صلى الله عليه وسلم ريب المنون
تظن قريش أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مات انتهى أمره، لكن الأمر لم يكن كما كانوا يتوقعون، فالنبي مازال ينتصر ويظهر أمره، بل إِلَى الآن لا يوجد أحد يستطيع أن يطعن في دينه، أو يطعن في نبوته إلا ويذله الله تعالى، ويظهر التناقض من فمه، وفي كلامه، وفي رأيه.
إذاً هذا لا يمكن إلا أن يكون حقاً نبياً من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ومن طعن في نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنما هو طاعن في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي حكمته، وفي عدله.
في مسيلمة والعنسي عبرة ودلالة
قد يقَالَ: إن بعض الكذابين ظهر لهم شأن، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي فإنه قد تبعهما بعض الناس، وظهر لهما شيء من الأمر، لكن الله عَزَّ وَجَلَّ خذلهم وأذلهم، ونصر جنده عليهم، ومن عرفهم علم أنهم عَلَى غير هدى، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينصرهم ولم يؤيدهم، وإنما فتنهم وفتن بهم ولكن هذا الرجل الذي جَاءَ من أمة أمية، ويأتي للعالمين بالنور وبالضياء المبين، وبالهدى والرشاد، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فمن كَانَ مؤمناً بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من أي دين، ومن أي جنس فعليه أن يؤمن بأن هذا رسوله حقاً.
هنا نقطة البداية(1/1652)
وهذا الكلام هو نقطة البداية التي يمكن أن نتحدث بها إذا أراد أحدنا أن يدعو أحداً إِلَى دين الإسلام، أو يخاطبه عن الإسلام، فلا بد أن ينظر: فإن كَانَ يؤمن بالله، وأن الله حكيم، وأن الله عدل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه لديه عَلَى الأقل ما يسمونه "حسن التصرف أو التدبير" فيخاطبه بمثل هذا الكلام، ويخاطبه بصحة هذا القُرْآن الذي بين أيدينا، ويسألة: لِمَ لَمْ يتغير منه حرف؟
ولا يذهب أحد يطعن فيه ويغير فيه إلا فضحه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العالمين؟ هذا لا يمكن أن يكون إلا بتأييد من الله، وبهذا يصل معه إِلَى النتيجة المطلوبة.
لو كَانَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مدعياً مفترياً -كما يزعم المفترون قاتلهم الله أنى يؤفكون- لما أقره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو يفتري عليه؛ أنه أوحى إليه، وأن يفتري باسمه هذا القُرْآن وهذه الأحكام من حلال وحرام، ويسلطه عَلَى أتباع الأديان فيقتلهم ويحصرهم ويسبيهم.
كل هذه الأمور لا يمكن أن تقع فمن قَالَ: إنها يمكن أن تقع من غير رَسُول يوحى إليه من الله، فهذا ليس طاعناً في هذا النبي فقط؛ بل هو طاعن في الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي حكمة الله وعدله، وأنه يؤيد الكافرين المفترين عليه وينصرهم ويجعل الغلبة والعاقبة لهم في كل ميدان ومعركة وهم يكذبون عليه ليل نهار ويحاربون أولياءه ويستذلون عباده ويظلمون النَّاس بهذا الفعل، هذا لا يمكن أن يقول به إلا إنسان لا يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق الإيمان، ولا يصف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بما وصف به نفسه، ولا يقدره تَعَالَى حق قدره.(1/1653)
أما من كَانَ يعرف صفات الله عَزَّ وَجَلَّ وحكمته وعدله ورحمته؛ فإنه يعلم أنه إنما فعل به ذلك لأنه نبي من عنده، وهو قادر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أن يقضي عَلَى كل مفتري: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46] فأي إنسان تقول عَلَى الله، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر عليه، وقال في آية أخرى: فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشورى:24] فإذا ختم عَلَى قلبه لم يعد يتكلم بأي كلام، ولا ينطق بأي نطق وانتهى الأمر.
أو يهلكه كما أهلك مسيلمة، والأسود العنسي في اليمن، وأهلك كثيراً من الكذابين والدجالين، وأظهر كذبهم ومخازيهم عَلَى العالمين.
إذاً: هذا دليل كبير نسميه دليل الواقع أو الدليل التاريخي وكل من أنكر ذلك من اليهود والنَّصارَى خاصة فإنه يلزمه أن ينكر نبوة موسى ونبوة عيسى عليهما السلام بأنه لم يمكن الله عَزَّ وَجَلَّ لموسى ولا لعيسى عليهم السلام ولم يعطهما من الظفر والتأييد وبلوغ الرسالة ورفعة الذكر مثلما أعطى لمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فمن طعن في نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو من باب أولى طاعن ومكذب بنبوة المسيح وموسى عليهما السلام، فمن كَانَ مؤمناً -وهكذا حال أهل الكتاب- بأن عيسى نبي، وأن موسى نبي فالأولى به والإلزام أن يؤمن بأن محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي.(1/1654)
لأنه ما من آية آوتيها موسى وعيسى إلا وأوتي مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أضعافها ولا سيما ما حصل له من الظهور والغلبة والتمكين ومحو الشرك والضلالات وإزالة الإلحاد، وقمع الظلم والفساد، وإقامة العدل وإعطاء الإِنسَان حريته وإنسانيته الحقيقية، عَلَى مستوى عام لم يشهد له التاريخ من قبل مثيلاً، ولم ولن يشهد له من بعد، إلا لمن يقتدي بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسير عَلَى منهاجه.
بعد ذلك انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في آخر هذا المبحث إِلَى الفرق بين النبي والرسول.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها: أن من نبأه الله بخبر السماء، إن أمره أن يبلغ غيره، فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس رسول، فالرَّسُول أخص من النبي فكل رَسُول نبي، وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذ الرسالةُ تتناول النبوةَ وغيرها، بخلاف الرسل، فإنهم لايتناولون الأَنْبِيَاء وغيرهم، بل الأمر بالعكس.
فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها] اهـ.
الشرح:
هذا الموضوع ليس ذا أهمية كبرى، بالنسبة لمن يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكتبه، وملائكته، ورسله، ويؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوحي إِلَى من يصطفي من عباده بهذا الوحي، فيكون نبياً، أو رسولاً، أو يسمى نبياً، أو رسولاً، ليست المسألة ذات أهمية؛ لكن ينبغي أن نعلمها، ولا سيما وقد تكلم فيها بعض العلماء أو كثير منهم.
فمن العلماء من قَالَ: لا فرق بين النبي والرسول؛ فالنبي رسول، والرَّسُول نبي بإطلاق، ومنهم من قَالَ: لا؛ بل هنالك فرق، ثُمَّ لما جاءوا عند التفريق اختلفوا.(1/1655)
فالمصنف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- ذكر هذا الفرق بين النبي وبين الرسول، وهو: من أوحي إليه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بشيء، فإن أمر بتبليغه إِلَى غيره فهو رسول، وإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي.
هذا كلام المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ، وهذا الكلام خلاف الصواب فهو كلام مرجوح، وفي هذا الشرح عَلَى عظمته ونفاسته مواضع للمصنف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أخذ فيها بالرأي المرجوح من أقوال العلماء وترك القول الراجح، وهذا الموضع منها؛ لأنه يمكن أن يُقال كيف يوحي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى أحد بشيء، ولا يؤمر بتبليغه فما الفائدة إذاً؟! هذا من ناحية النظر.
ومن ناحية أخرى؛ وردت آيات وأحاديث تدل عَلَى أن النبي يبلغ، ومنها حديث السبعون ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان ورأيت النبي وليس معه أحد) فهذا سماه نبياً مع وجود الأتباع، وهذا يعني أنه كَانَ يبلغ.
إذاً خلاصة القول: أن هذا ليس بالرأي الراجح.
الرأي الراجح في المسألة
الرأي الراجح في هذه المسالة:
أن الرسول: هو من أرسله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بشرع جديد إِلَى قوم كافرين ومكذبين، ولهذا لم تأت كلمة التكذيب إلا في تكذيب الرسل، لأنهم يرسلون إِلَى قوم كافرين فيكذبونهم.
فمن هنا نعلم الفرق، وهو أن الرَّسُول والنبي يُبلغان لكن الرَّسُول يأتي بشرع جديد إِلَى قوم كافرين به ويكون بينهم وبينه التكذيب والرد، حتى ينصره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم، وأما النبي فإنه مجدد لشريعة الرَّسُول الذي قبله، ويصحح ما علق بها.(1/1656)
ومثلهم في ذلك مثل العلماء المجددين في هذه الأمة فأنبياء بني إسرائيل -مثلاً- هم الذين بعثهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في بني إسرائيل يحكمون بالتوارة قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ [لمائدة:44] فكان النبيون والأحبار والربانيون يحكمون بالتوراة، والتوراة أنزلت عَلَى موسى.
هارون عليه السلام رسول
فموسى وهارون عليهما السلام رسل؛ لكنَّ أنبياء بني إسرائيل يأتي الإِنسَان منهم إِلَى شريعة موسى عَلَيْهِ السَّلام فيجددها، ويدعو النَّاس إليها وإلى إقامتها، فهذا نبي يبلغ.
فمثلاً قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:246] الآيات.
هذا النبي من أنبياء بني إسرائيل اختلف في اسمه ولا يهمنا الاسم، المهم أن هذا النبي هو من بعد موسى وفي بني إسرائيل، طلب منه قومه ملكاً يقاتلون معه، فطلب ذلك من ربه فأوحى الله تَعَالَى إليه إني قد اخترت لهم طالوت ملكاً عليهم فإذاً هناك وحي وبلاغ لكن لا يسمى، هذا رسولاً.
والأنبياء من أقرب ما يشبههم بهذه الأمة، العلماء المجددون لكن شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزلت كاملة خاتمة، فالعلماء يجددون ما كَانَ من أمر الدين، ولا يشرعون شيئاً من عندهم، أما الأَنْبِيَاء فقد يأتون بأشياء من أمور التفصيل في بعض الحلال والحرام، أو يقودون النَّاس ببلاغ ووحي من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1657)
فعلى هذا فالرَّسُول هو من جَاءَ بشرع جديد إِلَى قوم كافرين، والنبي هو من بعث بشريعة رَسُول قبله ليجددها، ويحيي معالمها، فهذا مأمور بالبلاغ الجديد المستأنف لقوم كفار، وهذا مأمور بالبلاغ للمؤمنين الذين ينتمون إِلَى شريعة سابقة، ولكنهم غيروا وبدلوا وضلوا وانحرفوا.
شرعية التفريق بين الأنبياء والرسل
والتفريق بين الأَنْبِيَاء وبين الرسل صحيح، ويدل عليه حديث أبي ذر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو حديث طويل، يسأل فيه أبو ذر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أمور كثيرة.
ومن آخرها: سأله عن آدم، هل كَانَ نبياً؟
فقال له الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم نبي مكلَّم.
فقَالَ: يا رَسُول الله كم عدد الأنبياء؟
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مائة وأربعة وعشرون ألفاً، والرسل ثلاثمائة وبضعة عشر.
وهذا الحديث ورد بعدة طرق، وصححه بعض العلماء.
يقول بعض العلماء: إن عدد الأَنْبِيَاء كعدد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدد الرسل كعدد أصحاب بدر.
فهنا مناسبة بين عدد الأَنْبِيَاء وبين عدد الرسل من جهة، وبين عدد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جميعاً وبين عدد أصحاب بدر خاصة.
فهَؤُلاءِ الرسل الذين هم من ضمن المائة والأربع وعشرين ألفاً هم الذين جاءوا وبعثوا إِلَى أمم كافرة، ولهذا الذين قص الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القُرْآن قصصهم مع أقوامهم هم من الرسل، ولهذا مع أن آدم عَلَيْهِ السَّلام نبي كما جَاءَ في الحديث، وفي غيره من الأدلة.
ففي حديث الشَّفَاعَة الصحيح يقول الناس: يا نوح إنك أول رسول، إذاً آدم عَلَيْهِ السَّلام نبي، ونوح أول الرسل، بمعنى: أنه جَاءَ إِلَى قوم كافرين.(1/1658)
فبعثه الله بعد أن تخلى النَّاس عن التوحيد، وارتكبوا الشرك يوضحه قوله تَعَالَى في الحديث القدسي: (وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم)
كما جَاءَ ذلك في حديث عياض بن حمار رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فلما اجتالتهم الشياطين بعد قرون، قيل: إنها عشرة.
كما قال عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: بعد عشرة قرون من آدم عَلَيْهِ السَّلام وقع الشرك في قوم نوح، فأشركوا، فجاء نوح عَلَيْهِ السَّلام، لكن الأَنْبِيَاء قبل نوح موجودون، ومنهم آدم وقيل إن منهم إدريس عَلَيْهِ السَّلام، وفي الرسل هود، وصالح، وموسى، هَؤُلاءِ الرسل سمُوا رسلاً؛ لأنهم واجهوا أقوامهم بدين جديد فكذبهم أقوامهم في ذلك.
فهذا هو أوضح وأجلى الفروق بين النبي وبين الرسول أما بقية كلام المُصْنِّف فصحيح، فإن الرسل أخص من الأنبياء، ولذلك عددهم أقل، وهذا هو الراجح، وهو ما اختاره شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ وغيره من المحققين.
فكل رَسُول نبي، وليس كل بني رسول؛ لأن من بعثه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى قومه عَلَى شريعة من قبله وأوحى إليه أن يبلغهم فلا يسمى رسولاً عَلَى هذا الاصطلاح، وإنما هو نبي من الأَنْبِيَاء.
من نعم الله على الناس اصطفاء الرسل
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وإرسال الرسل من أعظم نعم الله عَلَى خلقه، وخصوصاً مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]] اهـ.
الشرح:(1/1659)
هذه بقية من الكلام الذي سبق إيضاحه وهو أن من أعظم نعم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى بني الإِنسَان أنه اصطفى منهم رسلاً، وأنزل عليهم هذا النور المبين، والدين الذي لا تصلح حياة البشر في الدنيا والآخرة إلا به.
ولهذا يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164] فلو تصورنا كيف يكون حال الأمم بدون أنبياء؟ بل ما هو أبسط: كيف يكون حال الأمة المسلمة إذا لم يوجد فيها دعاة، ومجددون؟
كيف كانت حالة جزيرة العرب قبل دعوة الشيخ مُحَمَّد عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللَّهُ- كمثال؟ فما بالكم بحال الإِنسَانية، وحال العرب قبل بعثة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي مجتمع لا دعوة فيه، ولا أمراً بالمعروف، ولا نهياً عن المنكر، فسيكون محلاً للشقاء والضلال والضياع والحيرة والظلم والجور.
فكيف بالمجتمع الذي لا دين فيه ولم يبعث فيه رَسُول من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلولا الأَنْبِيَاء لما عرف النَّاس الحق من الباطل، والخير من الشر، ولم يهتدوا إِلَى ربهم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولم يعرفوا طريق الجنة من طريق النار، فهذه نعمة كبرى نعمة عظيمة أنعم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها عَلَى بني الإِنسَان قاطبة، ومن كَانَ عابداً لله حق العبادة معظماً له يقدره حق قدره، فعليه أن يعلم عظم هذه المنِّة وأنها منِّة عظيمة.(1/1660)
وليؤمن بهَؤُلاءِ الأَنْبِيَاء وليتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة للمؤمنين بلا شك؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخرجهم الله به من الكفر إِلَى الإيمان.
الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين
فَبِعْثَته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليست رحمة للمؤمنين فقط، بل هي رحمة للعالمين أجمعين.
وذكرنا سابقاً أمثلة من كون دعوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة للعالمين، فقد بُعِثَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدنيا تموج بالظلم موجاً في كل مكان، فلما انتصر هذا الدين، وهذا النور العظيم الذي يعطي الإِنسَان كرامته وحريته الحقيقية، ويرد له إنسانيته وتكوين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له.
تأثرت الأمم جميعاً بهذا الدين، حتى الأمم التي لم تدخل في الإسلام شملتها رحمة الإسلام من اليهود والنَّصَارَى الذين أعطوا العهد والذمة أو دفعوا الجزية، أمنوا وارتاحوا فرحمهم الله عَزَّ وَجَلَّ بهذا الدين.
وحتى الأمم الأخرى التي لم تسلم رحمها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهذا الدين فأصبحت تعلم قيمة الإسلام، وتعلم شناعة الظلم وبشاعة الاستعباد والطاغوتية التي كانوا يعيشون فيها، ولهذا فإن أوروبا كانت أشد العالم همجية.(1/1661)
فلما جاءت الحروب الصليبية، وحاربوا الْمُسْلِمِينَ رأوا كيف يعيش الْمُسْلِمُونَ، مع أنهم تركوا كثيراً من الهدى الذي كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع ذلك فالأوروبيون من فرنسيين وألمان وإنجليز تعجبوا كيف يعيش النَّاس في هذا النعيم وهذه الراحة ورأوا علماءهم يقولون: قال الله قال رَسُول الله وعلماء النَّصَارَى محتكرين للدين ويفسرونه كما يشاءون، ويحللون ويحرمون كما يشاءون، فالبابا مرة يحرم الطلاق ومرة يبيحه ومرة يحرم الربا ومرة يبيحه اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]
فلما رأوا ذلك قامت في أوروبا الحركة التي تسمى حركة الإصلاح الديني، مارتن لوثر وكالفن.
فقالوا: اطمسوا جميع الصور والتماثيل التي كانت في الكنائس، وَقَالُوا: لا نقول في الدين بالتثليث الأب، والابن، وروح القدس، أي: لا نقول: إنها آلهة؛ بل نقول: إله واحد، وهم لم يسلموا، ولكنهم يحاولون أن يقربوا إِلَى الإسلام، قالوا: ورجال الدين لا يحتكرون كل شيء، بل من حق كل إنسان أن يقرأ الكتاب المقدس ويعلم ما فيه مثلما رأوا حال الْمُسْلِمِينَ.
يقول علماء التاريخ الأوربيون: إن حركة الإصلاح الديني أحد أهم الأسباب والعوامل في نهضة أوروبا بخروجها من القرون الوسطى إِلَى القرون الحديثة -كما يسمونها- فبذت الخرافات والضلالات والشركيات، نعم وقعت في الإلحاد هذا صحيح، لكن ليس السبب أنها خرجت من حق إِلَى باطل. لا؛ بل خرجت من باطل ورفضت الحق وهو الإسلام، ووقعت في باطل شر منه وهو الإلحاد الذي تعيش فيه اليوم، وكان عليها أن تخرج من الباطل، وتقع في الحق الذي هو دين الإسلام الذي لا حق سواه.(1/1662)
إن دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعثته رحمةً للعالمين، وبإذن الله تَعَالَى كما أخبرنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار) وسوف (ينزل عيسى عَلَيْهِ السَّلام فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية فلا يبقى عَلَى الأرض مشرك) ، وفي آخر الزمان تقوم خلافة عَلَى منهاج النبوة ويدخل النَّاس جميعاً في دين الإسلام، ويتحقق أيضاً كمال الرحمة للعالمين بحيث لا يبقى عَلَى الأرض خارج عن هذا الدين.
أنه خاتم النبيين
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأنه خاتم الأنبياء]
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[قال تعالى: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مثلي ومثل الأَنْبِيَاء كمثل قصر أُحسن بنيانه، وتُرك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه، إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل) خرجاه في الصحيحين.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر النَّاس عَلَى قدمي وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي) .
وفي صحيحمسلم عنثوبان قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) الحديث.
ولمسلم: أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فضلت عَلَى الأَنْبِيَاء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت إِلَى الخلق كافة، وختم بي النبيون) ] اهـ.
الشرح:
بعض خصائص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(1/1663)
هذا الموضوع، وهذه الجمل مهمة جداً عَلَى وضوحها ولله الحمد، وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا خاتم النبيين فلا نبي بعدي) هذه واضحة -ولله الحمد- عند الْمُسْلِمِينَ جميعاً إلا من كفر وخرج من الإسلام، ولكن إيضاح الفرق المخالفة فيها وأسباب ضلالها هو المهم.
هذه الأحاديث التي ذكرها المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- وما علم من الدين بالضرورة علماً قطعياً مجمعاً عليه، هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو خاتم الأَنْبِيَاء وهناك أحاديث أخرى غير الآية مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُول لَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] والأدلة كثيرة، كلها تدل عَلَى أصل قطعي مجمع عليه بين الْمُسْلِمِينَ وهو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء.
الحديث الأول: مثال يذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أن مثلي ومثل الأَنْبِيَاء من قبلي) عَلَى رواية البُخَارِيّ يقول: (كمثل رجل بنى بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل النَّاس يطوفون به، ويعجبون له ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قَالَ: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين) .
فالمثال يوضح أن البناء قد اكتمل إلا موضع لبنة فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان هو هذه اللبنة، كما يقول ذلك الأحبار والرهبان الموحدون، فكانوا يقولون: متى يُبعث نبي آخر الزمان -كانوا يسمونه بنبي آخر الزمان أي: الذي ليس بعده نبي- فبعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان هو نبي آخر الزمان.(1/1664)
والحديث الثاني: في أسمائه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي -ووضحه فقال:- يمحو الله بي الكفر) وقد محي به الكفر ولله الحمد والمنة (وأنا الحاشر) ووضح ذلك قَالَ: (الذي يحشر النَّاس عَلَى قدمي) فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي يشفع يَوْمَ القِيَامَةِ.
(وأنا العاقب) والعاقب: هو الذي ليس بعده نبي.
الحديث الثالث: يقول المصنف: في صحيحمسلم: عن ثوبان وهذه الرواية ليست في صحيح مسلم كما نبه إِلَى ذلك الشيخ الأرنؤوط، ولعل الشيخ الألباني نبه إِلَى ذلك، وفي صحيح مسلم نجد حديث ثوبان: (إن الله زوى لي الأرض وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) إِلَى آخر حديث ثوبان المعروف وليس فيه هذه الزيادة، وإنما هي زيادة في مسند الإمامأَحْمَد وفي بعض السنن يقول في آخره: (وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) .
وهذا الحديث، قد يستدل به عَلَى أن الذين يدعون النبوة عددهم ثلاثون، مع أن الذين ادعوا النبوة صاروا كثيراً، فكيف يكون الجمع؟
إما أن يكون الثلاثون هم من ظهر أمرهم وعظم خطرهم وكان لهم أتباعاً كُثر.
وإما أن يكون العدد للتكثير.
وإما أن يكون الثلاثون هم الذين يدعون في الفترة القريبة من بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
لكن بعضهم ادعاها وهو حي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل: مسيلمة الكذاب والأسود العنسي وفي جيل الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم ادعى النبوة عدد فقد يكون هو هذا العدد والله أعلم.
المهم أنه يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا خاتم النبيين ولا نبي بعدي) .
أعطيت خمساً(1/1665)
في الخصائص التي خص بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماجاء في حديث الخمس التي أعطيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعطها أحد قبله، وفي رواية أنها ست، كهذه الرواية التي رواها مسلم يقول: (أعطيت جوامع الكلم) ومعنى (أعطيت جوامع الكلم) قد سبق معنا.
وقلنا: إن جوامع الكلم هي: العبارة القليلة الألفاظ، الجامعة لمعان كثيرة وقواعد عظيمة في أمور الدين، مثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا ضرر ولا ضرار) ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدين النصيحة) ومثل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) .
فهذه أقوال وألفاظ موجزة؛ لكنها تشمل أموراً عظيمة جداً يُستدلُ بها في أبواب كثيرة، وتُستخرجُ منها مسائلُ كثيرةٌ جداً، مع أنها ألفاظ موجزة.
وكما مرَّ معنا في حديث القدر {كنا في جنازة في بقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته ثم قال ما منكم من أحد ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة قال فقال رجل يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل فقال من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة فقال اعملوا فكل ميسر لما خلق له} بهذه العبارة الموجزة، انحلت كل الإشكالات التي تتعلق بالقدر، من كَانَ من أهل النَّار فهو ميسر لعمل أهل النَّار والعياذ بالله، ومن كَانَ من أهل الجنة فهو ميسر لعمل أهل الجنة.(1/1666)
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ونصرت بالرعب) وفي رواية أخرى (مسيرة شهر) ومعنى ذلك: أنه إذا عقد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لواء جيش من الجيوش قذف الله تَعَالَى في قلوب أعدائه الرعب قبل أن يحاربهم، ولو كَانَ عَلَى مسيرة شهر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وأحلت لي الغنائم) كان الأَنْبِيَاء قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قاتلوا عدواً لهم فغنموا منه، فإنهم يجمعون الغنائم فيضعونها في مكان فتنزل نار من السماء فتحرقها، ومن غل منها شيئاً، فإنه يعاقب.
فجاء الحكم بالتخفيف لهذه الأمة أن الغنائم حلال له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأمته عَلَى القسمة المعروفة إن كانت فيئاً أو إن كانت غنائم، فأحلت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصبح كل مقاتل يأخذ ما كتب الله تَعَالَى له وشرع من الغنائم، هذه من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ولهذا يقول: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي) فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسترزق مما يقبضه من الغنائم التي أحلها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- له من قتال الكفار.
ويقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً) هذه نعمة عظيمة أيضاً، كانت الأمم قبلنا -وما يزالون إِلَى اليوم- لا يصلون إلا في الكنائس وفي المعابد، لكن هذا الدين رحمة للعالمين وهو دين عام للعالمين وعام لجميع الأزمان إِلَى أن تقوم الساعة.(1/1667)
فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- خفَّف عن هذه الأمة، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رواية: (فحيث ما أدركت الصلاة أحداً من أمتي فعنده مسجده وطهوره) فإذا لم تجد الماء أو المسجد فتقول: بسم الله، وتتيمم، وتكبر، وتصلي، ليس هناك تخفيف مثل هذا، ولم يكن في أي ملة من الملل تخفيف من الله عَزَّ وَجَلَّ مثله، وهذا دليل من الأدلة الكثيرة عَلَى أن هذا الدين دين رحمة للعالمين، وأنه دين العالم، وأنه دين الإِنسَانية جمعاء، فلا تتعطل أمور الحياة ولا تتوقف في أي مكان كنت، فحولك الأرض تتيمم وتصلي في أي مكان لا يشترط المسجد، ولا يشترط الماء إلا في حال كونهما موجودان فيجب أن تتوضأ وإذا كَانَ المسجد أيضاً موجوداً فيجب عليك صلاة الجماعة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وأرسلت إِلَى الخلق كافة، وإنما كَانَ النبي يبعث إِلَى قومه خاصة) كما وضحت ذلك الروايات الأخرى فكان الأَنْبِيَاء يبعثون إِلَى أقوامهم، فموسى بعث إِلَى قومه، وزعيمهمفرعونوإلى بني إسرائيل خاصة ليخرجهم من طاغوتفرعون، ونوح، وهود، وصالح، وشعيب كذلك، ولكن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الأَنْبِيَاء والمرسلين أزكى الصلاة والتسليم بُعث إِلَى الخلق عامة، فدعوته للثقلين الإنس والجن.
ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) مجرد أنه سمع بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن دعوته عامة لجميع العالمين.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وختم بي النبيون) هذه الجملة السادسة التي زادت في هذه الرواية.
وهذه حقيقة قطعية لا يخالف فيها أحد من الْمُسْلِمِينَ وأعداء الله لم يخالفوا فيها من أول أمرهم بوضوح.(1/1668)
وأول من قال ليس مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآخر الأَنْبِيَاء هم الرافضة قبحهم الله، وقد سبق أن قلنا: إنهم ينتمون إِلَى عبد الله بن سبأ اليهودي، فإنهم أخذوا يتحايلون عَلَى الوحي.
فيقولون إن علياً -رضي الله عنه- كَانَ إلهاً، وأنه يُوحى إليه، وأنه في السحاب، وأن البرق سيفه، والرعد صوته، هكذا قالعبد الله بن سبأ وبعد ذلك كانوا يُسمون الخشبية وتطور الأمر بهم إِلَى أن قالوا: إن الأئمة يعلمون ما كَانَ وما سيكون، ويقرءون اللوح المحفوظ، إلا أنهم لا يقولون بصراحة أن الإمام فلانٌ رَسُول لكن كلامهم: يقرأ اللوح المحفوظ، ويعلم الغيب.
مثلاً الحسين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- تقول الرافضة إنه قد أوحي إليه أنك ستنزل في كربلاء، ولهذا مشى في الطريق يسأل عن قرية حتى قالوا له هذه كربلاء، فنزل فيها، وَقَالُوا: هذا وحي من الله، وهكذا يقولون في الأئمة.
فانتشر بين هَؤُلاءِ الرافضة الاعتقاد بأن الوحي يمكن أن يتم لكن دون أن يصرحوا أول الأمر أنه رَسُول وصرح بعضهم بذلك مثل الغرابية بعض الفرق التي هي كافرة حتى عند الشيعة.
ثُمَّ تطور الأمر إِلَى أن ظهرت الباطنية.
الباطنية
ظهرت الباطنية في أول القرن الثالث، سنة مائتين وخمسة أو مائتين وعشرة أو قريباً من ذلك.(1/1669)
وهذه الحركة دخلت من مدخل الشيعة فكانوا يظهرون الرفض، ويبطنون الكفر المحض، كما قال العلماء: يأخذون الإِنسَان، ويقولون له أول مرة: إن جميع الصحابة ارتدوا عن الإسلام إلا الأربعة فقط عَلِيّ وعمار والمقداد وسلمان ويكفرون بقية الصحابة ويقولون: أي: رواية جاءت في القُرْآن أو في السنة لا تصدق بها عَلَى الإطلاق، فيدخل في دينهم، وبعد فترة يقولون له -على تدرج عندهم- حتى هَؤُلاءِ الأربعة مثلهم كمثل باقي الصحابة فيخرج من الإسلام بالكلية ويلقنونه الأصول الفلسفية التي كتبوها والتي أنشأوها، ويسمونها رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، وهي رسائل فلسفية لعقائد فلسفية -من كلام اليونان وأمثالهم- وإلحادية لا تؤمن بأي دين عَلَى الإطلاق، فلما دخلت الباطنية قالوا مجاهرين: بأن النبوة والوحي ليس كما يزعم الأنبياء، وجميع أتباع الأَنْبِيَاء في الدنيا: أن الله عَزَّ وَجَلَّ يرسل رسولاً فيوحي إِلَى الرَّسُول الإنسي بواسطة الرَّسُول الملكي؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ عند الباطنية: مجرد عقل كلي أو العلة الأول -كما سبق معنا إيضاح شيءٌ من ذلك- ويقولون: العقل الكلي يفيض منه العلم عَلَى العقول الجزئية، وهذا هو الذي يسمى وحي عند الباطنية.
ويقولون: النبوة بالاكتساب وبالاجتهاد وبالنظر والعياذ بالله تعالى.
فهم خارجون عن دين الإسلام، وقد استطاعوا أن يخرجوا بعض الْمُسْلِمِينَ من دينهم لما فسروا الوحى بهذه الطريقة واستمر الأمر عَلَى ذلك؛ لكن لم يكن لهم شأن، لأن الأمة في قوة وإيمان.(1/1670)
هَؤُلاءِ الباطنية كفّرَهم الْمُسْلِمُونَ بالاتفاق، ولم يكن هناك أحدٌ يدعي النبوة بإقناع وصدق إلا وهو زنديق أو منافق يطمع في أمور الدنيا، بل إن كثيراً ممن ادعى النبوة كَانَ مجرد هازل ساخر، وتنشر حكاياتهم في أبواب الهزل والسخرية وكتب الأدب ونحو ذلك، لكن في هذه الفترة بدأت الأمور تتعمق أكثر، ثُمَّ ظهر في بقايا الباطنية " الفرقة التي تسمى الأحمدية أو القاديانية ".
الأحمدية أو القاديانية
هذه الفرقة لابد أن نعرف شيئاً من أصولها ومبادئها، حتى إذا قيل لنا ما هي الفرقة التي تدعي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس خاتم النبيين، وألفت في ذلك كتباً وجاءت بنبي تدعيه نبياً؟
قلنا: هي الفرقة القاديانية، وتسمى أحياناً: الأحمدية، نسبة إِلَى أحمد غلام ميرزا القادياني الذي أسس هذه الفرقة، وهو من بلد يُقال لها: قاديان، بلدة في شمال باكستان في ولاية البنجاب
.أحمد القادياني: كَانَ أبوه عميلاً للإنجليز -في جيش الإنجليز- موالياً لهم، والإنجليز توسموا في هذا الغلام أنه يمكن أن يستخدموه لمآربهم ولأغراضهم.
ولو نظرنا إِلَى الفترة التي تنبأ فيها أحمد القادياني لوجدنا أنها بعد ظهور دعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللَّهُ- وانتشار هذه الدعوة في أصقاع العالم الإسلامي ومنها الهند، فقامت دعوات جهادية في الهند متأثرة بدعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب تحارب الإنجليز.
فتفطن الإنجليز لذلك وَقَالُوا: لا بد أن نشعل فتنة بين الْمُسْلِمِينَ مستغلين بذلك الجهل الموجود في القارة الهندية فجاءوا إِلَى هذا الفتى أحمد القادياني ورأوا فيه أنه يمكن أن يقوم بتحقيق هذا الهدف.(1/1671)
فكان أول ما بدأ به الأمر أن كتب كتاباً أسماه البراهين الأحمدية يرد فيه عَلَى اليهود والنَّصَارَى فهو لم يدّعِ النبوة في البداية؛ لأنه لو قَالَ: أنا نبي لكذبه الناس؛ ولكنه لكي يتمكن بدأ بالرد عَلَى اليهود والنَّصَارَى وعلى أعداء الإسلام في كتاب براهين أحمدية وكأنه من المدافعين عن الدين.
ثُمَّ بعد فترة ادعى أنه مجدد القرن.
ثُمَّ بعد فترة ادعى أنه المهدي.
وبعد فترة ادعى أنه المسيح.
وبعد فترة ادعى النبوة بوضوح، وأنه رَسُول من عند الله، فلما مات أحمد القادياني عثر عَلَى آثاره وجمعت كتبه، فوجد فيها رسالة بعث بها أحمد القادياني إِلَى الحكومة الإنجليزية، وهي بخطه يقول فيها:
" إنني قد كتبت في مدح وتأييد الحكومة الإنجليزية وحث الْمُسْلِمِينَ في الهند على الولاء لها؛ ما يعادل لو جمع أكثر من خمسين خزانة، -هذه كتبه فقط في الموالاة للإنجليز- وإني قد دعوتهم في كل مكان إِلَى أن يتركوا الجهاد، وأن يخلصوا الولاء لهذه الدولة حفظها الله وحرسها " إِلَى غير ذلك.
إذاً فأحمد القادياني كَانَ يتلقى الوحي من لندن وكان يتلقاه من السياحة الإنجليزية، التي كانت تهدف إِلَى قمع آثار دعوة الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب وآثار الجهاد الذي كَانَ قائماً عند الْمُسْلِمِينَ.
وكان من أهم الشرائع التي جاءت إِلَى هذا المتنبئ الدجال أنه أبطل الجهاد عَلَى الإطلاق! وكان يتنقل من بلد إِلَى بلد ويقول: لا جهاد، والحرب عَلَى أشدها بين الْمُسْلِمِينَ وبين الإنجليز في الهند، ثُمَّ أبطل كثيراً من المحرمات، وأخذا يُشرّعُ من عند نفسه، ولم يزل القاديانيون إلى اليوم منتشرون في أوروبا وفي أمريكا، والآن يغوصون في القارة الأفريقية مستغلين الجوع والحاجة وتؤيدهم دول الاستعمار الغربية؛ بنشر هذه الضلالات ويسمون أنفسهم الأحمدية ويعتقدون أن أحمد القادياني نبي، ولهم مكان يسمى الربوة في باكستان.(1/1672)
ويقولون: إن هذا هو الذي قال الله تَعَالَى فيه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50] مع أنها أرض جدباء لا يوجد فيها أنهارٌ ولا أشجار ولا خضرة مع ذلك يسمونها ربوة فأين القرار وأين المعين؟ فهم لا يبالون بالكذب ولا يبالون بالدجل؛ بل لقد أصبحت المسألة مسألة عمالة مع أعداء الله.
ولديهم من يسمونهم الخلفاء والآن الخليفة الثالث أو الرابع، كلما مات واحد منهم يأتي خليفة من بعده ويجدد الدين، ومن خطورتهم وخبثهم أنهم يترجمون معاني القُرْآن الكريم إِلَى اللغة الإنجليزية، ويترجمون بعض الكتب الإسلامية، ويوزعونها في أوروبا وأمريكا.
والنَّاس هناك يشتاقون إِلَى شيء يسمعونه عن الإسلام، ولا يجدون شيئاً إلا بلغتهم فيشترون الكتب القاديانية فيدخلون في القاديانية وكم من الْمُسْلِمِينَ الغربيين يسلم، ثُمَّ بعد فترة تجتاله القاديانية وتدخله في دينها، والشاهد أن هذه الفرقة هي أشهر من عُرفَ عنه إنكار ختم النبوة.
البهائية
ظهرت البهائية في إيران في وسط الشيعة وهي نابعة من نفس الفكر الشيعي الذي قلنا: إنه يرفع الأئمة ويعظمهم، ويدعي أنه يوحى إليهم، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس خاتم الأَنْبِيَاء.
ظهر البهاء يتلقى وحيه من اليهود، واليهود كما تعلمون مندسون في صفوف الشيعة منذ أن أسسوا دين التشيع إِلَى اليوم، وتأسست هذه الفرقة عَلَى يد رجل يُقال له: أحمد الأحسائي وأصله كَانَ يهودياً إنجليزياً سكن في إيران، وانتسب إِلَى الأحساء وأسس هذا الدين.
والبهائية أشدُّ كُفراً من القاديانية؛ لأنها تنكر الإسلام كله وتمحوه كله، وتدَّعي أنه كذب ودجل، وتترك الشرائع جميعاً، وتنفي الفروق بين الأديان جميعاً وهم يحجون لكن إِلَى عكا في فلسطين، ولم يزل مقرهم وقاعدتهم في عكا، حتى تكون عَلَى مقربة من اليهود ومن تأسيس دولة اليهود.(1/1673)
ويجعلون القبلة إِلَى عكا إِلَى حيث يكون البهاء أو خليفتهم، وليست القبلة إِلَى الكعبة، وألغوا الصلوات، وارتكبوا جميع المحرمات، فكل شيء في الدين غيروه، وجاء هذا البهاء بكتاب سماه البيان فقَالَ: هذا كتاب ينسخ القُرْآن -والعياذ بالله- ويدعي أن هذا في القُرْآن قال تعالى: عَلَّمَهُ الْبَيَانَ [الرحمن:4] فالبيان هو هذا الكتاب الذي جَاءَ به، وألف كتاباً آخر سماه كتاب الأطرش.
المهم أن لهم ضلالات كثيرة لا يهمنا أن نعرفها بالتفصيل لكن ينبغي لنا أن نعرف قدراً منها، وأن نعرف أن كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأَنْبِيَاء هذه حقيقة لا يدخلها الشك، ومن شك فيها فقد كفر وخرج من دين الإسلام.
ولكن القاديانية والبهائية وأمثالها إنما نجحت وقامت أولاً: لأنها قامت في بلاد تتمكن فيها الإسماعيلية الباطنية والشيعة فأساس الضلال والخراب جَاءَ من هنا.
وثانياً: أنها قامت لتبرر وجود الاستعمار والاحتلال الكافر لبلاد الْمُسْلِمِينَ، فهي لا تقوم عَلَى برهان علمي، ولا يهمها أن يعرف الْمُسْلِمُونَ كذبها وكفرها، وإنما الذي يهمها أن تأخذ من الأطراف في أفريقيا وأندونيسيا، وعن الجدد الذين يدخلون في الإسلام، من الأوروبيين والأمريكان لتأخذ هَؤُلاءِ النَّاس وتجتالهم وتدخلهم في هذه الأديان الباطلة، وتلبس عليهم، ويهم أعداء الله -من اليهود والنَّصَارَى والشيوعيين- أن يثبتوا للمسلمين أن ما تدعونه من كون مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو خاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين غير صحيح؛ لأنه قد ظهر أنبياء بعده فظهر أحمد القادياني وظهر البهاء وظهر هَؤُلاءِ الكذابون والدجالون، هذه هي الأهداف التي يريد أعداء الإسلام أن يحققوها من هذه الدعاوي.(1/1674)
وإلا فهي ولله الحمد لا ترقى أن تكون شبهات، وقد رد علماء الإسلام في جميع البلاد عليهم، حتى في باكستان حينما نشأت هذه الدعوات وفي إيران أيضاً، كَفَرُوا عقيدة الفرقتين، وأجمعوا عَلَى خروجهما من الملة، ولذلك ينبغي خاصة لمن يذهب إِلَى بلاد أوروبا وأمريكا أن يعرف شيئاً من حال هاتين الفرقتين ليُحذِّر منها هنالك، وأيضاً في بلادأفريقيا الغربية فإن لهما هناك وجوداً وخطراً، وتحاولان أن تستزلا الْمُسْلِمِينَ من الإسلام إِلَى هذين الكفرين اللذين جاءتا بهما.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وإمام الأتقياء] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[الإمام الذي يؤتم به، أي: يقتدون به.
والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بعث للاقتداء به؛ لقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وكل من اتبعه واقتدى به، فهو من الأتقياء] اهـ.
الشرح:
نعم هو صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو إمام الأتقياء، فالأتقياء هم الذين يتبعونه ويؤمنون به ويتمسكون بسنته، والتقوى كما تعلمون جميعاً، هي: من الوقاية أي: أن تجعل بينك وبين الله عَزَّ وَجَلَّ وقاية، وفسرها بعض الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم بأنها: العمل بالتنزيل والخوف من الجليل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والرضا بالقليل.
العمل بالتنزيل: أي العمل بالقرآن.
والخوف من الجليل: تخاف من الله عَزَّ وَجَلَّ في كل أمر تفعله.(1/1675)
والرضا بالقليل: وهو الزهد في هذا المتاع الفاني والحطام الزائل، متاع الحياة الدنيا، وكان أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم القدوة في التقوى. والنموذج العالي هو رسولنا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو إمام المتقين، وقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31] هذه سماها السلف آية المحنه أو الامتحان قالوا: ادعى قوم محبة الله فأنزل الله تَعَالَى عليهم آية المحنه أو الأمتحان.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وسيد المرسلين] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) رواه مسلم.
وفي أول حديث الشَّفَاعَة (أنا سيد النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ) وروى مسلم والتِّرْمِذِيّ عن واثلة بن الأسقع رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)
فإن قيل يشكل عَلَى هذا قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوني عَلَى موسى، فإن النَّاس يُصعقون يَوْمَ القِيَامَةِ، فأكون أولُ من يُفيق، فأجدُ موسى باطشاً بساقِ العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كَانَ ممن استثنى الله؟) خرّجاه في الصحيحين، فكيف يُجمع بين هذا، وبين قولهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا سيدُ ولدِ آدمَ ولا فخر) .(1/1676)
فالجواب: أن هذا كَانَ له سبب، فإنه كَانَ قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى عَلَى البشر فلطمه مسلم، وقَالَ: أتقول هذا ورَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا، فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فَقَالَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا؛ لأن التفضيل إذا كَانَ عَلَى وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كَانَ مذموماً.
بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كَانَ مذموماً، فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ [الإسراء:55] ، وقال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253] ، فعُلمَ أن المذمومَ إنّما هو التفضيلُ عَلَى وجه الفخر أو عَلَى وجه الانتقاص بالمفضول.
وعلى هذا يُحمل أيضاً قولهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كَانَ ثابتاً فإن هذا قد روى في نفس حديث موسى وهو في البُخَارِيّ وغيره.
لكن بعض النَّاس يقول: إن فيه علة؛ بخلاف حديث موسى، فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو: أن قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا تفضلوني عَلَى موسى) ، وقوله (لا تفضلوا بين الأنبياء) ، نهيٌ عن التفضيل الخاص أي: لا يُفضل بعض الرسل عَلَى بعض بعينه: بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد لا ينصب عَلَى أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك، ثُمَّ إني رأيت الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار] اهـ.
الشرح:(1/1677)
يقول الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [وسيدُ المرسلينَ] أي: ونقول: إنّهُ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتمُ الأنبياءِ وإمامُ الأتقياءِ وسيدُ المرسلينَ، وعلى ذلك علّق المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى بذكر هذه الأحاديث الصحيحة التي ورد فيها إثبات هذه الصفة للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومنها الحديث الصحيح المعروف (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) .
الكلام على إضافة كلمة "سيدنا" للرسول صلى الله عليه وسلم
وكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيد ولد آدم لا غبار عليه، ولا إشكال فيه، وإنما الشبهة التي تثار وخصوصاً عند المتأخرين حول إطلاق كلمة سيدنا عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيرى بعضهم: أن هذه الكلمة تصلح لأن تكون شعاراً وتتخذ سنة في الخطب، والمقالات، والمواعظ، حتى أن بعضهم يذكرها في التشهد في الصلاة!
ويقول: لماذا لا نقول: وأشهد أن سيدنا، أو اللهم صلى عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعلى آل سيدنا محمد؟ ويقولون: إن هذا اللفظ قد ثبت من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو سيد ولد آدم! وأن الذي يقول: اللهم صل عَلَى سيدنا مُحَمَّد في صلاته، أو في خطبة الجمعة، أو غير ذلك أفضل من الذي لا يذكر لفظ سيدنا!
بل ليت الأمر وقف عند حدود الأفضلية، وإنما يقولون: عن الذي يقول: أشهد أن محمداً عبده ورسوله ولا يضيف سيدنا، هذا جافٍ يكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعياذ بالله.(1/1678)
وقد سبق أن قلنا: إن مما أجمع عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن من كره شيئاً مما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كَانَ في قلبه أدنى كراهية للرَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كافراً قطعاً، وإن أظهر الإسلام، وأظهر الشعائر، فهو من المنافقين الذين لا يقبل منهم عمل بل هم في الدرك الأسفل من النار، فمن الخطورة بمكان أن يُقَالَ: إن فلاناً يكره الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لإنه لا يقول: أشهد أن سيدنا محمداً رَسُول الله، وإنما يقول: أشهد أن محمداً رَسُول الله!
والقول الصواب في هذه المسألة أننا نقول: أولاً: لا بد أن نعلم أننا متبعون ولسنا مبتدعين، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل هذا الدين اتباعاً قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] وكذلك رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له الله عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] ، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينذرنا بالعقل ولا بالهوى، ولا بالرأي، وإنما هو وحي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] .
وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو قال قولاً أو فعل فعلاً عَلَى خلاف ما يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لنزل عليه العتاب، وينزل تصحيح ذلك الخطأ من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو لا يأتي بشيء من عند نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو متبع لما يوحى إليه وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [الأحزاب:2] فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يأمر رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتبع ما يوحى إليه من ربه، وأن يقول للناس إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] .(1/1679)
وكذلك يأمرنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن نتبعه، لأنه لا ينطق عن الهوى، فالمسألة إذاً اتباع، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله أصحابه قالوا يا رَسُول الله: قد علمنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ علمهم، ولا يوجد في أي حديث صحيح أنه علمهم إضافة كلمة "سيدنا"، فضلاً عن أن تكون شعاراً، بحيث لا يذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وتوضع قبله هذه الكلمة، ونحن نؤمن بثبوت هذه الصفة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ننكرها، بل هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد ولد آدم.
لكن يجب أن نفهم أن هذا لا يقال في أمر تعبدي، فلا يقال في الصلاة، ولا يقال في الأذان كما تفعله بعض الدول، وإذا قيلت اللفظة فلا تقال عَلَى سبيل اللقب، ولا بأس أن يقال خارج الصلاة والأذان، كما لو كَانَ في موعظة أو في درس أو في مقالة، فلا مانع أن يقَالَ: سيد المرسلين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا عَلَى سبيل الالتزام المطلق الذي يجعل شعاراً.
إذاً فهذه الصفة ثبتت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنها لا تدخل في أي أمر تُعبدنا به جاءت صفته الشرعية التعبدية منقولة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيحة بدون هذه الصفة.
الأمر الثاني: أننا إذا قلنا: نشهد أن محمداً عبده ورسوله، أو إذا قلنا: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلتم: لا؛ بل قولوا: سيدنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه أبلغ!
فنقول:
أولاً: تعظيمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون إلا بما ورد، عند البُخَارِيّ ومسلم وغيرهما كالإمام أَحْمَد.
فلم يرد مثلاً عند أَحْمَد في مسنده عن أَبِي هُرَيْرَةَ عن سيدنا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!(1/1680)
وهمُ السلف الصالح الذين يعرفون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحبونه ويقدّرونه أعظم منا، مع أنهم لم ينكروا أنه سيد ولد آدم، كما جَاءَ في الحديث، ولكنهم لم يستخدموه شعاراً ولقباً، فنقف حيث وقف القوم.
والأمر الآخر: الذي يظهر أن هذا اللفظ ليس فيه زيادة توقير، ولا زيادة تعظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن العرب وجميع الأمم تسمي كل من يتزعمها سيداً لها، كَانَ يُقَالَ: أبو سفيان سيد قريش، والأقرع بن حابس سيد بني تميم، وفلان سيد بنى حنيفة، وفلان سيد بنى كذا من قبائل العرب، فليس هناك غرابة أن يقَالَ: فلان سيد قبيلة، أو أمة من الأمم، بل لما جَاءَ الرسل من الفرس إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانوا يحلقون اللحية ويطيلون الشارب، فَقَالَ لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمركم بهذا، قالوا: أمرنا ربنا أي: ملكهم كسرى، ومعنى ربنا أي: سيدنا، كما جَاءَ في القرآن: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ [يوسف:25] .
أي: زوجها وصاحبها، فالمقصود أن هذه الكلمة تطلق عَلَى من يملك عبداً مملوكاً رقيقاً، فيقال له: هذا سيد فلان المملوك، وتقول للزعيم أو للأمير الذي تنتمي إليه هذا سيدنا، ويقول إنسان لأي إنسان آخر ينتمي، إِلَى أمة من الأمم: فلان سيد بني فلان، أو فلان سيد الدولة الفلانية أو الطائفة الفلانية، فليس في هذه العبارة ميزة اختصاص أو تفضيل، اللهم إلا أن هذا الرجل مفضل عَلَى قومه.
وعلى هذا يفهم من قولنا: فلان سيد بني تميم أنه سيد في حدود قرية بني تميم، وأن هذا أفضل رجل فيهم، فإذا قال بنو تميم: سيدنا الأقرع أو سيدنا فلان، وقال أصحابُ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيدنا مُحَمَّد استويا! وليس الأمر كذلك، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم من ذلك، فلقبه أو اسمه أو صفته أعظم من كونه سيداً التي يفهم منها الزعامة الدنيوية العادية.(1/1681)
فلهذا كَانَ الصحابة عَلَى وعي وفهم وسنة واتباع، عندما كانوا يقولون: أمرنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَسُول الله هو رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه ميزته التي لا يشاركه فيها أحد من العالمين في عصره عَلَى الإطلاق، وهذه هي التي بموجبها يلزم جميع العالمين أن يخضعوا لأمره ونهيه، ويتبعوه، لأنه يتكلم بكلام من عند رَبِّ الْعَالَمِينَ، وبوحي من الله تعالى، فإذا قيل: قال رَسُول الله كَانَ هذا الكلام من عند الله عَزَّ وَجَلَّ بواسطة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيجب أن نتبعه، ولذا لما رد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صاحبي كسرىكسرى قَالَ: ولكن ربي أمرني، وما قَالَ: أنا سيد قومي، فأمرتهم بإعفاء اللحى، وسيدكم أمركم بإعفاء الشوارب، فهذان سيدان: هذا يأمر قومه، وهذا يأمر قومه، لكن هذا يقول: إن ربي الذي هو الله عَزَّ وَجَلَّ أمرني بكذا، أما ذاك فهو ربكم أي سيدكم بشر مثلكم، فالذي يختص به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويمتاز به، ويرتفع به عن سائر العالمين هو تمام العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكمال الرسالة التي اختصه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بها دون العالمين أجمعين.(1/1682)
لكننا لو قلنا: إنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ كما جَاءَ في الحديث: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) فيكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هنا حدد أنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وحال يَوْمَ القِيَامَةِ يختلف عن حال الدنيا تماماً، فيَوْمَ القِيَامَةِ ينادي الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أين الجبارون أين المتكبرون، فلا يجيب أحد فيأتوه مهطعين، مخبتين، شاخصة أبصارهم، ويأتيه جميع النَّاس في غاية الانكسار والخضوع، وتشخص أبصارهم فلا تسمع إلا همساً، بل المتكبرون الذين كانوا يتكبرون في الدنيا، يحشرون -كما جَاءَ في الحديث- عَلَى هيئة الذر يطؤهم النَّاس بأقدامهم، فيحشر خلق الله تَعَالَى عَلَى خلقة واحدة إلا المتكبرون، فإنهم يحشرون عَلَى هيئة الذر جزاءً ونكالاً لتعاليهم، وتفاخرهم في الحياة الدنيا، ففي ذلك الموقف الذي لا يتكلم فيه أحد، والذي يخرس فيه جميع المتكبرين، يقف جميع الأنبياء، ومنهم أولو العزم يعتذرون عن الشَّفَاعَة، وحينئذ يقوم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيشفع، وهي السيادة الحقيقية عَلَى العالمين، فلذلك يقول: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وأول مشفع) .
فلهذا جَاءَ الحديث بهذا القيد مع أننا نقول: لا يمنع من استعماله أو من إطلاقه في غير يَوْمَ القِيَامَةِ، لكننا لا ننسى أن هذا اللفظ إنما جَاءَ في معرض يَوْمَ القِيَامَةِ، فإن ليَوْمَ القِيَامَةِ تلك الحالة المخصوصة التي تختلف عن حال الدنيا، ولهذا فَهِمَ الصحابة -رضوان الله عليهم- أنهم لا يتخذون هذا اللقب دائماً، وكذلك العلماء من بعدهم.(1/1683)
وأيضاً إذا قيل: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيد المرسلين، فهو يختلف عن قولنا: إنه سيدنا، لأن المرسلين هم أفضل البشر وأعلاهم درجة ورتبة وشرفاً، فتفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى المرسلين بأنه سيد المرسلين، تفضيل واضح، بخلاف ما إذا قال العامي من الناس: سيدنا، فقد يفهم منها ما يستخدم عادة للعظماء أو للأمراء، أو للملوك، ولهذا إذا قال فلان: سيد العلماء الشَّافِعِيّ، وسيد المحدثين الإمام أَحْمَد، ففيه ميزة.
لكننا لو قلنا سيدنا الإمام أَحْمَد، فإن هناك فرقاً بين هذا وهذا، وإذا قلنا فلان سيدهم أو أمير المؤمنين في الحديث، فهذا تفضيل، فلو فكرنا في هذه الأمور بعقل صائب سليم متزن، لوجدنا أن ما ورد في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو: أولاً: أنه المتبع الذي يجب أن يطاع. وثانياً: أن الأليق والذي فيه توقير وتعظيم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر، أن نقول: إنه عبد الله، ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما قال الإمام الطّّحاويّ: (وسيد المرسلين) ثار هنا إشكال!
وهو كيف يُقَالَ: إنه سيد المرسلين مع أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تفضلوني عَلَى موسى) و (لا تفضلوني عَلَى يونس) ، ولما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوني عَلَى موسى) ، أو (لا تفضلوني على الأنبياء) ، أو (لا تخيروا بين أنبياء الله) ، فإنه يتعارض مع حديث (أنا سيد النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ) ، و (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) .
المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين موسى عليه السلام
ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن لهذا النهي سبباً، وهذا السبب ذكره الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الصحيح في أكثر من موضع.(1/1684)
والقصة التي ذكرها المُصْنِّف هنا، وهي أنه لما تخاصم اليهودي والمسلم، فأقسم اليهودي قائلاً: والذي فضل موسى عَلَى البشر، فلطمه المسلم، وقال له: أتقول هذا ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا، فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوني عَلَى موسى، فإن النَّاس يصعقون يَوْمَ القِيَامَةِ، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي أو كَانَ ممن استثنى الله) .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنه إنما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا لأنه قيل هذا عَلَى سبيل الحمية والعصبية، فالمسلم لما رأى أن الذي دفع اليهودي هي الحمية والفخر في قوله: والذي فضل موسى عَلَى سائر البشر أخذته الحمية، فقَالَ: والذي فضَّل محمداً، فلطمه وقَالَ: أتقول هذا ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيدينا) .
وقد جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه إذا قاتل الإِنسَان وجاهد يريد الدنيا أو حمية وعصبية، فإنه لا يقبل منه، فكذلك هذا القول وإن كَانَ حقاً، لكن إذا كَانَ في مقام العصبية فإنه لا يقبل من صاحبه ويرد عليه، فالذي أنكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هو أن يكون التفضيل عَلَى سبيل الحمية والعصبية.
لكن هل تفضيل الأَنْبِيَاء بعضهم عَلَى بعض، وتفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق أم لا؟
فالجواب نعم هو حق بنص كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حيث يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [البقرة:253] ويقول: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْض [الإسراء:55] .(1/1685)
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتدي ببعض الأنبياء، ويقتدي بهداهم، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90] وقال أيضاً: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]
فيقول له: لا تفعل مثل هذا الفعل المغضوب عليه، وهذا تفضيل لمن أمره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن يقتدي به، وأن يكون مثله، واختص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعض أنبيائه بخصائص كما هو معلوم من اختصاص إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام بأن جعله إماماً للناس، قَالَ: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124] .
واختص موسى عَلَيْهِ السَّلام بكلامه، واختص محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخصائص سبقت معنا، وفي نفس الحديث الذي سبق يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في رواية مسلم: (فضلت عَلَى الأَنْبِيَاء بست) ثُمَّ ذكرها فبهذا يتضح أن تفضيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الأنبياء، وتفضيل بعض الأَنْبِيَاء عَلَى بعض، صحيح وثابت لا شك فيه،.(1/1686)
أما هذه الرواية فإنها تحتمل كما قَالَ المُصْنِّفُ وتخرج عَلَى أحد التخريجات، إما الهوى أو العصبية، وهي مذمومة، ولذلك لا يجوز التفضيل عَلَى هذا السبيل كما ذكر هو رَحِمَهُ اللَّهُ، وإما أن يكون النهي عن التفضيل المعين، أي: لا تقل: نوح أفضل من موسى أو موسى أفضل من عيسى، فالتفضيل المعين يشعر بانتقاص هذا المفضل عليه، كما لو قلت: فلان أفضل من فلان، فإنك تشعر بأنه أنقص، لكنك لو قلت فلان أفضل أهل البلد لكان أولى -كما ذكر مثالاً هنا- فأنت لما عممت لم يكن في هذا التعميم ما يسيء لأحد بعينه، فهو معقول ولا بأس أن تقوله، وبناءً عَلَى هذا نقول: إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء، لكن لا نعين واحداً منهم فنقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من النبي فلان، وهذا الوجه ذكره المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ، وذكر قبله الوجه الآخر.
ثُمَّ ذكر أيضاً مخرجاً ثالثاً وهو: أن زيادة لا تفضلوني عَلَى موسى غير ثابتة، وأنا في الحقيقة لم أجد في هذه الرواية ما يقدح فيها، وهذه الزيادة موجودة في صحيح البُخَارِيّ، مع أنها لم ترد في بعض الروايات، لكنها وردت في البعض الآخر، ومع هذا لم أجد فيها أي مطعن، إذاً هذا الحديث كله في صحيح البُخَارِيّ وفي بعض رواياته، هذه الزيادة وفي بعضه (لا تخيروا بين أولياء الله) وفي بعضها (لا تفضلوني عَلَى موسى) ولم أجد أن الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ذكر فيها أي مطعن.
وكلام المُصْنِّف موهمٌ حيث قَالَ: وعلى هذا يحمل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوني بين الأَنْبِيَاء) إن كَانَ ثابتاً، مع أن هذا ثابت، في كتاب الأَنْبِيَاء من صحيح البُخَارِيّ، لكن الذي يظهر لي أن المُصْنِّف لم يذكر لهذه الرواية علة إلا الشذوذ، حيث إنها لم ترد في جميع الروايات، وأنا لا أذهب إِلَى ماذهب إليه، إلا إذا تيقنا الشذوذ ولم يمكن الجمع.(1/1687)
وخلاصة ما سبق أن الذي ينبغي لنا أن نعلمه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء، وأن التفضيل بين الأَنْبِيَاء حق، كما هو صريح القرآن، وأننا نخرج هذه الزيادة عَلَى أحد هذه المخارج:
إما لأنها لهوى وحمية وعصبية.
وإما لأن فيها تفضيل معين عَلَى معين.
وإما عَلَى كلام المُصْنِّف أن الرواية متكلم فيها.
والذي يبدو والله أعلم أن الرواية لا قدح فيها، وأن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوا بين الأنبياء) ليس تخصيص، ولا معارض لما جَاءَ في القُرْآن من تفضيل بعض الأَنْبِيَاء عَلَى بعض، وإنما هو من باب التعليم والتأدب مع الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، فإذا جاءنا التفضيل عن الله تَعَالَى أو عن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه حق وبه نقول، ولا نَنَصِبَ أنفسنا مفضلين فنقول: فلان أفضل من فلان بدون علم من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه ليس من التأدب مع الأنبياء، فمن باب الأدب، أننا لا نفضل نبياً عَلَى نبي، لكن إذا وجدنا علماً كما جَاءَ أن نوحاً وموسى وعيسى من أولى العزم، وأولوا العزم أفضل من غيرهم، فهذا لا بأس به وهذا حق، أو أن نقول: إن موسى عَلَيْهِ السَّلام هو أفضل أنبياء بنى إسرائيل، هذا أيضا حق، وهكذا....
وقد يقول البعض لم لا يكون ذلك في أول الإسلام؟ وقد خطر لي هذا القول وهو: لم لاتكون الخصومة وقعت بين اليهودي والمسلم في أول الإسلام؟ بدليل أن هذا اليهودي كَانَ يعيش في المدينة، ومعلوم أن اليهودأجلوا من المدينة على فترات، كما حصل لبنى قينقاع، وبني قريظة، وبني النضير، وأن الآية نزلت متأخرة؛ لكننا لا نستطيع أن نقول بهذا القول إلا إذا تأكدنا تماماً من تاريخ نزول الآية، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
والآن ننتقل إِلَى موضوع المفاضلة بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويونس بن متى.(1/1688)
المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يونس بن متى عليه السلام
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما ما يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تفضلوني عَلَى يونس) وأن بعض الشيوخ قَالَ: لا يفسر لهم هذا الحديث، حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله، وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً، وهذا يدل عَلَى جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح (لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) وفي رواية (من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب)
وهذا اللفظ يدل عَلَى العموم أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه عَلَى يونس بن متى، ليس فيه نهي الْمُسْلِمِينَ أن يفضلوا محمداً عَلَى يونس، وذلك لأن الله تَعَالَى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي فاعل ما يلام عليه، وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] .
فقد يقع في نفس بعض النَّاس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إِلَى هذا المقام، إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كما قال أول الأَنْبِيَاء وآخرهم، فأولهم آدم قد قَالَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] .(1/1689)
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية على بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي) إِلَى آخره، (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت) إِلَى آخر الحديث، وكذا قال موسى عَلَيْهِ السَّلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] وأيضاً فيونس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل فيه فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] فنُهي نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم، حيث قيل له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فقد يقول من يقول: (أنا خير منه) وليس للأفضل أن يفخر عَلَى من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل فإن الله لا يحب كل مختال فخور.
وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد، ولا يبغي أحد عَلَى أحد) ، فالله تَعَالَى نهى أن يفخر عَلَى عموم المؤمنين، فكيف عَلَى نبي كريم، فلهذا قَالَ: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى) ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر عَلَى يونس.
وقوله: (من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصير أنقص، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم بل هو تقدير مطلق، أي من قال هذا فهو كاذب وإن كَانَ لا يقوله نبي كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وإن كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال] اهـ.
الشرح:(1/1690)
ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعض التفاسير لحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى) وذكر أن بعض أصحاب الطرق أو بعض أدعياء العلم الباطن من مشايخ الصوفية الذين يدعون العلم الباطن -ولم أستطع أن أعثر عَلَى ترجمته- يقول في معنى هذا الحديث: أنا أفسر لكم معنى هذا الحديث، لكن بشرط أن تعطوني مالاً جزيلاً -وسوف أشرحه لكم بالشرح الإشاري الصوفي- ويسمون تفسيرهم للقرآن تفسيراً إشارياً باطنياً.
فيفسرون الآية عَلَى خلاف ما جاءت به، كما في كثير من تفاسيرهم، مثل تفسير روح المعاني وغيره، فوافقوا عَلَى ذلك فأعطوه مالاً جزيلاً، وقالوا له: اشرح لنا الحديث.
فقَالَ: معناه "إن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج".
فَقَالُوا: يستحق الشيخ أن نعطيه كل المال من أجل هذا المعنى العظيم، وهذا دليل عَلَى جهلهم بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمعاني حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجهلهم بالسنة أيضاً.
وقد قال بعض العلماء: إن هذه اللفظة هي: (لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى) لم تصح وإنما ورد ما يدل عَلَى معناها عند بعض العلماء، كما في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، وقد اختلف العلماء في فهم هذا الحديث، فبعض العلماء فهم من هذا أنه يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لا أحد يقول: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من يونس.
والبعض الآخر قالوا: إن المقصود من قوله: إني -أي المتكلم- خير من يونس بن متى، فقد كذب، ويقول الحافظ ابن حجر: الرواية الأخرى (من قَالَ: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب) هي في صحيح البُخَارِيّ وتدل عَلَى أن المقصود من قوله "إني" أي المتكلم، لأنه يقول: من قال "أنا"، فأي أحد من النَّاس يقول: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب، لكن يُقال له:(1/1691)
أولاً: لم تصح هذه الرواية.
وثانياً: عَلَى فرض أنها ثبتت، فإن هذا المعنى الذي فهمه بعض العلماء، ليس عَلَى إطلاقه، لكن عَلَى فرض ذلك فلا يكون تفسيره بأن قرب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه ليلة الإسراء والمعراج مثل قرب يونس، وهو في بطن الحوت، هذا المعنى باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما اختص الملائكة قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19] وقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب [فاطر:10] .
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرج به إِلَى السماء كَانَ في موضع التكريم، وهناك ما يدل عَلَى أن العلو كلما كَانَ أكثر، كلما كَانَ فيه تكريم، وقرب من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنده، ولهذا سمى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الملأ الأعلى بهذا الإسم، لأنهم أعلى من أهل الدنيا لقربهم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما جَاءَ في الحديث الآخر (وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه) .
فالشاهد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وصل إِلَى ذلك المقام الأعلى الذي لم يصل ولن يصل إليه مخلوق قط، كَانَ هذا تكريماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو في هذه الحالة وبهذا العمل أفضل من كل النَّاس الذين لم يصلوا إليه وكذلك الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يحظوا بأن يصلوا إِلَى هذه الدرجة وإلى هذه المكانة، فهذا تعظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو أفضل من يونس بن متى عليهما الصلاة والسلام.(1/1692)
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يقل أحد: إني خير من يونس بن متى) ليس فيه منع تفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، وإنما الذي فيه النهي بأن أحداً لايجوز له أن يفضل نفسه عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، بأن يقول: إن يونس فعل ما يلام عليه، وأنا لم أفعل ما ألام عليه، ومع ذلك فإن يونس عَلَيْهِ السَّلام قد استغفر وتاب، وقَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] . وفي قوله هذا دليل عَلَى أنه فعل ما يلام عليه، كما خاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] .
وكان سبب لوم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليونس: أنه لما أمره أن ينذر قومه لم يصبر عَلَى أذاهم ولم يكن له العزم عَلَى مواجهتهم، وكذبوه إذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:140-142] ، فكان هذا الفعل سبباً للوم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له، وهذا دليل عَلَى أنه لم يكن من أولي العزم الذين قال الله تَعَالَى فيهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فأولوا العزم أفضل من يونس عَلَيْهِ السَّلام، وأفضل من آدم عَلَيْهِ السَّلام، من هذه الناحية؛ لأن الله تَعَالَى قال في حقه وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه:115] فآدم عَلَيْهِ السَّلام أيضاً لم يكن لديه عزم، ولذلك وقع في معصية الأكل من الشجرة، لكن هل معنى هذا أنه يجوز لأحدٍ من النَّاس أن يقول: إنه فعل ما يلام عليه، وأنا أفضل منه، لأني لم أفعل ما ألام عليه؟ لا يجوز لأحد ذلك.(1/1693)
أما قوله: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يذكر المُصْنِّف أن هذه العبارة يقولها كل عباد الله، قالها آدم عَلَيْهِ السَّلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] معنى قوله ربنا ظلمنا أنفسنا، أي: إقرار منهما بالظلم، وأيضاً قد قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الاستفتاح (أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي) .
وقالها موسى عَلَيْهِ السَّلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16] ، ويقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ إن الفخر محرم ومنهي عنه، ولا ينبغي للفاضل أن يفتخر عَلَى المفضول، فإذا كَانَ كذلك فمن باب أولى أن لا يفتخر المفضول عَلَى الفاضل!
وكيف يكون لأحدٍ من النَّاس كائناً من كَانَ في عبادته أو في ولايته أن يقول: إنه أفضل من يونس بن متى؟!
وقد تستغربون وتقولون: وهل يوجد أحد يقول: إنه أفضل من نبي من الأَنْبِيَاء؟!
نقول: نعم، هناك كثير من فرق وطوائف الصوفية يرون أن الولي أفضل من النبي فما بالكم بنبي الله يونس عَلَيْهِ السَّلام الذي ليس من أولي العزم! والذي ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عنه هذا الفعل ولامه عليه وقَالَ: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] يكون عندهم أقل بكثير جداً.
والخلاصة: أن الأرجح في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب) أنه ليس معناه من قَالَ: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من يونس بن متى فقد كذب، لكن من قَالَ: أنا، أي: من قال عن نفسه ذلك: ويأتي هنا إشكال كما ذكر المُصْنِّف أخيراً وهو لو أن نبياً قال ذلك!!(1/1694)
فنقول: لا يمكن أن يقول أي نبي إنه أفضل من يونس بن متى عَلَى سبيل الفخر والانتقاص ليونس بن متى عَلَيْهِ السَّلام، فإن القول الذي قاله يونس قاله كل الأَنْبِيَاء حتى نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أفضل الأَنْبِيَاء جميعاً.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وإنما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأَنْبِيَاء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله "ولا فخر" كما جَاءَ في رواية (وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إِلَى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقى في بطن الحوت وهو مُليم؟!
وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب، فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إِلَى هذا الإستدلال لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل عَلَى نفي علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية عَلَى علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه التي تزيد عَلَى ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ (محيط بكل شيء وفوقه) ، إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: يأتي إشكال وهو قوله صلى الله علهي وسلم: وقوله: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) مع القول بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الفخر، وعن التفضيل، وأمر بالتواضع، والتفضيل حق وكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأَنْبِيَاء حق، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا سيد ولد آدم) حق، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟(1/1695)
يقول: يكون الجمع بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعلم فضله، ولا يُعلم تفضيله عَلَى الأَنْبِيَاء إلا بالوحي، والوحي يأتينا عن طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يُخبرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فهذا من قبيل الإخبار، وعليه توضحه رواية (ولا فخر) وإن كَانَ فيها ضعفاً.
فقوله: (ولا فخر) أي لم أقل إني سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى سبيل الفخر، فإن الفخر منهي عنه، والأمر والحال والشأن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا عباد الله تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد) فليس قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أنا سيد ولد آدم) من الفخر، وإنما هو من قبيل الإخبار بالواقع وبالحقيقة الذي لا يمكن أن نعلمها إلا عن طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكما أخبر عن يَوْمَ القِيَامَةِ وما يكون فيها، ولا يعلم ذلك إلا بالخبر، فكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيد الناس، أي: أفضل النَّاس في ذلك الموقف.
وهذا يربط الكلام بما قلنا: في أول الحديث: إن يَوْمَ القِيَامَةِ أمر خاص وتفضيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاس فيه له خصوصية، ولهذا قَالَ: (أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) ، بينما لم يقل ذلك مطلقاً ولم يرد هذا اللفظ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أصحابه مطلقاً، وإن كَانَ هو حق في ذاته.
ويقول راداً عَلَى الشيخ الضال: كيف لا يكون هناك فرق بين النبي الذي أسري به مكرماً معززاً مقرباً، وبين الممتحن المؤدب الذي التقمه الحوت تأديباً وعقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
فهذه من حذلقة الصوفية ومن إشارتهم التي يفسرون بها كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ما يقتضيه الهوى لا عَلَى ما يقتضيه الدليل والنص الشرعي.(1/1696)
تنبيه: قَالَ المُصْنِّفُ [قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب) ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصبح نقصاً، فيكون كاذباً!!
وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، وكما مر بنا أنا نفضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جميع الأَنْبِيَاء كما ثبت ذلك، لكنه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل أو غيره من الأنبياء: إني أفضل من فلان من الأنبياء، لأنهم متأدبون صلوات الله وسلامه عليهم، ومثلما نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يفخر بعضنا عَلَى بعض، فإن الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم لا يفخر بعضهم عَلَى بعض، مع أن التفضيل بين المؤمنين حاصل، والتفضيل بين الأَنْبِيَاء حاصل، وهذا هو المراد بهذه العبارة، والله أعلم.
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وكُلُّ دعوى النبوة بعده فغيٌّ وهوى] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[لَمّا ثَبَتَ أنه خاتمُ النبيين، عُلِمَ أن مَنِ ادَّعَى بعدَه النبوةَ فهو كاذبٌ، ولا يُقَالَ: فلو جَاءَ المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة، كيف يُقال بتكذيبه؟ لأنا نقولُ: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأنَّ الله تَعَالَى لمَّا أخبرَ أنهُ خاتمُ النبيين، فَمِنَ المُحال؛ أن يأتي مُدّعٍ يدَّعي النبوة ولا تَظْهَرُ أمارةُ كذبه في دعواه.
والغيُّ: ضدُّ الرشاد، والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي: أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس، لا عن دليلٍ، فتكون باطلة] اهـ.
الشرح:
هذه الفقرة تكميل لما تقدم من فقرات تتعلق بإثبات أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو خاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين، وقد تقدم شيء من ذلك، وتحدثنا عن بعض الفرق المخالفة في ذلك كالقاديانية والبهائية، كما أشرنا إِلَى غيرها من الفرق الضالة، وهذه الفقرة تكميل لما سبق.
كل من ادعى النبوة فهو غيِّ وهوى(1/1697)
يقول الإمامالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وكُلُّ دعوى النبوة بعده فغيٌّ وهوى] أي: كل من ادعى النبوة بعد مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو صاحب غيّ وهوى، ومعنى الغي: الضلالة، وصاحب الهوى: هو صاحب شهوة أو مطمع من مطامع الدنيا يريد أن يحققه بهذه الدعوة، وهذا ينطبق عَلَى الذين ادعوا النبوة بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو شككوا في ختم النبوة به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأمثال الصوفية والشيعة.
الولاية عند الصوفية
الصوفية يرون أن الولاية لا تنقطع، وهذا صحيح، ولكن للولاية عندهم مفهوم مخالف لما اجتمع عليه الْمُسْلِمُونَ وما يُعَرِّفه به أهل السنة، فمفهوم الولاية عندهم هو كما عبر عنه شاعرهم في قوله:
مقام النبوة في برزخ فويق الرَّسُولِ ودونَ الولي
فالنبي عندهم في برزخ، والولاية أعلى منه، فالولي أعلى من الرَّسُولِ عَلَى هذا القول، وخاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، حتى أنه يفهم من كلام ابن عربي في الفصوص والفتوحات أن خاتم الأولياء يكون لبنة من الذهب، كما جَاءَ في الحديث الذي تقدم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مثلي ومثل الأَنْبِيَاء قبلي كمثل: رجل بنى بناءً فأحسنه وكمله، ولم يبق منه إلا موضع لبنة، فكان النَّاس يمرون فيقولون: ما أجمل هذا البناء وما أكمله إلا هذا الموضع فكنت أنا تلك اللبنة) فـ ابن عربي يقول: إن هذه اللبنة، إن كانت لبنة ذهب فهي الولي، وإن كانت لبنة فضة فهي النبي!!
وحتى لو قلنا: إن مدلول كلامه أن النبي لبنة الذهب وأن الولي لبنة الفضة فهو أيضاً لم يخرج من دعوى أن النبوة لم تختم وأن الوحي لم ينقطع فَيَقُولُ: ابن عربي في كتابه فصوص الحكم إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو آخر الأنبياء، بمعنى أن شريعته هي آخر الشرائع؛ فلا يأتي بعد مُحَمَّد نبي مشرع.
الفرق بين الولي والنبي عند الصوفية(1/1698)
جعلت الصوفية الفارق الدقيق بين نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين ادعائهم نبوة أوليائهم أن الوحي لا ينقطع، فيقولون إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنزلت عليه شريعة، فهو نبي مشرع، وأما الأولياء فيأتيهم الوحي لأنفسهم فقط، فليس لديهم شرائع يدعون النَّاس إليها ويبلغونها للناس، والواقع أن هذا القول كذب؛ لأن أولياءهم يشرعون عبادات، وأذكار، وصلوات لم يشرعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
حكم من ادعى نزول الوحي على أحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم
إن دعوى نزول الوحي عَلَى أحد بعد مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفر وردة، وتكذيب لما هو معلوم من الدين بالضرورة، يعلمه كل مسلم إلا من فتنه الله من هَؤُلاءِ الزنادقة الذين جمعوا بين الغيّ والهوى، فقد جمعوا بين الضلال في أنفسهم وبين الهوى الذي يريدون أنه يتمكنوا به، وأن تكون لهم السلطة عند الناس، وأن يحققوا المقام والمنزلة التي يزعمها النَّاس لهم.
فالصوفية، تقول: إن نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوة تشريعية، وكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأَنْبِيَاء أي أن: شريعته آخر الشرائع، ولا يعني هذا أن الوحي لا ينزل عَلَى أحد من بعده!!
ولهذا فإن ابن سبعين -وهو من طواغيتهم الكبار- ذهب وجاور بمكة فترات طويلة: وكان لا يصلي ولا يتنسك بما يتعبد به الْمُسْلِمُونَ في المناسك وإنما كَانَ يطوف بالكعبة.
ويذهب إِلَى غار حراء ويبيت فيه منتظراً نزول الوحي عليه نسأل الله السلامة والعافية، وابن عربي وابن سبعين من كبار الملاحدة الذين يتبعهم عامة الصوفية، ويبجلونهم، ويقدسونهم ويعتقدون أن الفتوحات المكية والفصوص وأمثالهما في درجة لا تقل في التقدير عن كلام الأَنْبِيَاء حقاً.
الفرق بين الرسول والنبي والإمام عند الشيعة(1/1699)
أما بالنسبة للشيعة فمفهوم انقطاع الوحي عندهم يختلف عما هو عليه عند باقي الْمُسْلِمِينَ، تقول الشيعة كما جَاءَ ذلك في كتابهم الكافي: أن أحدهم سأل علياً الرضا عن الفرق بين النبي والرَّسُول والإمام، فقَالَ:
"إن الرَّسُول يأتيه الملك ويراه ويخاطبه ويسمع كلامه؛ ولكنه لا يرى حقيقته، وهذه الدرجة الأولى هي درجة الرسالة.
وأما النبي: فهو إما أن يسمع الكلام فلا يرى المتكلم، وإما أن يرى الملك ولكنه لا يسمع الكلام، وهذه هي الدرجة الثانية.
وأما الدرجة الثالثة فهي درجة الإمام، فهو يسمع الكلام ولكنه لا يرى الملك" هذا هو الفرق فقط.
ولهذا نقلوا عن جعفر الصادق ونسبوا إليه أن أحدهم قال له: "يا أبا عبد الله أليس الله أبرُّ وأرحمُ وأرأفُ من أن يأمر النَّاس بطاعة عبد من عبيده ولا يأتيه الخبر من السماء؟
فقال أبو عبد الله -كما يزعمون-: بل الله أرأفُ وأبرُّ وأرحمُ من أن يأمر عباده بطاعة عبد من عبيده ولا يأتيه الخبر من السماء صباحاً ومساءً"، فهم يعتقدون أن الإمام ما دام أنه واجب الطاعة، وأنه معصوم، فإذاً لا بد أن يأتيه الخبر من السماء، ولذلك فهم يعللون عصمة الإمام بأن الوحي يأتيه، ولا يمكن أن يتصرف أي تصرف إلا وهو موحى به من عند الله حقاً، فلا اعتراض عليه في أية حال من الأحوال، فهذه هي منزلة الوحي عند الشيعة، وهذه عقيدتهم في ذلك قديماً.
وكل هذا كذب، ولهذا نجد أن الأئمة الذين كتبوا عنهم نسبوا ذلك إليهم، فالإمام خُشيش بن أصرم الذي نقل الإمام الملطي كتابه في كتاب الفرق وكذلك الإمامأبو الحسن الأشعري في المقالات ذكروا ذلك عن طوائف من الشيعة، فهذه هي نظرتهم للوحي، ويرون أن أئمتهم معصومون يوحى إليهم.(1/1700)
بل في الحقيقة أعظم من ذلك ففي كتاب الكافي للكليني وفي غيره ما يدل عَلَى أن الأئمة (آلهة) عند الشيعة، وكتابالكافي عندهم بمنزلة صحيح البُخَارِيّ عندنا، إلا أنهم يقدسون كلام الكافي وما فيه عن الأئمة تقديساً عظيماً، بحيث يرجعون إليه وكأنه القرآن، بل لا يفهمون القُرْآن إلا من خلال ما يجدون من كلام أئمتهم، وإن كانوا يقرؤون نفس القُرْآن هذا؛ لكنهم لا يفهمونه إلا من خلال ما يفسر به في الكافي، فهو عندهم بهذه القداسة والمنزلة فهم يجعلونه أبوباً في نفسالكافي مثل باب: " أن الأئمة يعلمون ما كَانَ وما سيكون" -والعياذ بالله- وغير ذلك من الأبواب أو المباحث، التي فيها من الغلو ما يرفع الأئمة إِلَى مستوى ومنزلة الإله، فهذا موجز ملخص لكلام الشيعة في الوحي.(1/1701)
وبناءً عَلَى ذلك، فإن الصوفية والشيعة لا تريان انقطاع الوحي من السماء، وإن كَانَ كل منهما لا يصرح بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس خاتم الأنبياء، لكن مؤدى كلامهم، وصريح عبارتهم، أن الوحي لم ينقطع، وهذا ما يحدث فعلاً، فإن الجو الذي تسيطر عليه الصوفية والشيعة تهيء لأن يتنبأ فيها أي متنبئ، وأن يدعي أن جبريل ينزل عليه من السماء، ويأتي له بشرع جديد وهذا ما حصل عندما خرج أحمد القادياني فيالهند، وعندما خرج البهاء فيإيران والبهائية -كما هو معلوم- خرجت في وسط الشيعة وكان من الطبيعي أن يجد له أتباعاً كثيرين، وما تزال البهائية إلى الآن لها شأن كبير، وكذلك القاديانية؛ لأنها وجدت لها بيئات يدعي الأولياء فيها أن الوحي لم ينقطع ووضعوا لذلك الحجج والشبهات، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرسل الملائكة فتخاطب من يشاء ومع هذا كله فإن الشيعة عندما قالوا هذا القول في الكافي ونسبوه إِلَى علي الرضا وهو أن الإمام يسمع كلام الملك ولا يراه، لم يكتفوا بذلك بل جَاءَ في كتبهم وعند متأخريهم -من الشيعة والصوفية أن بعضهم يرى الله عزوجل، وبعضهم يرى جبريل، وبعضهم يخاطبه الله وتخاطبه الملائكة.(1/1702)
حتى إن واحداً منهم يسمى عبد الجبار النسري ألف كتاباً كبيراً اسمه المواقف والمخاطبات ومع الأسف أنه طبع الطبعة الأولى، ثُمَّ طبع وحقق عَلَى يد جماعة ممن يسمون بالعلماء، ويقول في كتابه: وقفت بين يدي الرب فَقَالَ لي! وقال لي!.. الخ، كذباً وافتراءً عَلَى الله تَعَالَى نسأل الله العافية، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثُمَّ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فجعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى القول عَلَى الله بغير علم في منزلة أعظم من الشرك به.
فالشرك أعظم من الفواحش والافتراء عَلَى الله أعظم من الشرك، ولا شك أن الذي يشرك بالله ويدعو غير الله، أو يعبده بأي شكل من أشكال العبادة، لكنه أقل شراً وضرراً عَلَى الإسلام والدين من الذي يزعم أن الوحي يأتيه من السماء، ويشرع للناس ويقول هذا من عند الله، وما هو من عند الله، فهذا هو حال هاتين الطائفتين ومن اتبعهما ممن يدعون الإسلام، أو من المخدوعين، أو الجاهلين.
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وهو المبعوث إِلَى عامَّة الجِنِّ، وكافَّةِ الوَرَى، بالحقِّ والهُدَى، وبالنُّورِ والضِّياءِ]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:(1/1703)
[أما كونُه مبعوثاً إِلَى عامة الجن، فقد قال تَعَالَى حكايةً عن قَوْلِ الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] وكذا سُورَةُ الجن تَدُّلُ عَلَى أنه أُرسِل إليهم أيضاً، قال مُقَاِتل: لم يبعث الله رسولاً إِلَى الإنس والجن قبله، وهذا قولٌ بعيد، فقد قال تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم [الأنعام:130] الآية والرسلُ من الإنس فقط، وليس مِن الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيرُه من السلف والخلف.
وقالابنُ عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نُذُرٌ، وظاهرُ قوله تَعَالَى حكايةً عن الجن إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30] الآية يدل عَلَى أن موسى مرسل إليهم أيضاً. والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم أنه زَعَمَ أن في الجن رسلاً، واحْتَجَّ بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها عَلَى ذلك نظر لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] والمراد: من أحدهما] اهـ.
الشرح:
انتقل المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إِلَى قضية أخرى وهي عموم رسالة نبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الجن والإنس، فَيَقُولُ: [وهو المبعوث إِلَى عامة الجن، وكافة الورى بالحق، والهدى، وبالنور والضياء] ، ابتدأ الإمام ابن أبي العز الشرح بالكلام عن إرسال الرسل إِلَى الجن.
تقرير بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الجن(1/1704)
وهذه حقيقة ثابتة كما جَاءَ في هذه الآية التي استدل بها قال الله تَعَالَى عن الجن: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [الأحقاف:31] وذلك حينما صرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النفر من الجن إِلَى النبي صلىالله عليه وسلم فسمعوه، كما تَحَدثت بذلك الآيات التي في آخر سورة الأحقاف، وذكر الإمامابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في تفسيره أحاديث كثيرة منها ما رواه البُخَارِيّ.
ومنها ما رواه مسلم.
ومنها ما رواه الإمام أَحْمَد من طرق عديدة تدل بمجموعها عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرسل إِلَى الجن، وأنه أتاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داعي الجن، وأنه ذهب إليهم ليلة كما جَاءَ في إحدى الروايات عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: (افتقدنا رَسُول الله صلىالله عليه وسلم ليلة وبحثنا عنه فلم نجده، فقلنا: استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة، فلما جَاءَ الصباح جَاءَ رَسُول الله صلىالله عليه وسلم فقلنا: يا رَسُول الله! إنا افتقدناك البارحة، فقلنا: استطير أو اغتيل، وإنا بتنا بشر ليلة فقَالَ: أتاني داعي الجن فذهبت إليهم فعلمتهم) ، وفيه أن النبي صلىالله عليه وسلم علمهم في هذه الليلة ما أراد الله تَعَالَى أن يعلمهم من الأحكام، ومرة قبل ذلك، وهي التي رواها الإمام أَحْمَد عن عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وهي المرة الأولى، كما يترجح ذلك بمجموع الروايات كَانَ النبي صلىالله عليه وسلم بعد فراغه من الطائف لا يعلم عن الجن شيئاً بل كَانَ يقرأ القُرْآن والجن يستمعون إليه.(1/1705)
وأما الرواية التي رواها عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فهي أكثر من ليلة، ويذهب النبي صلىالله عليه وسلم إليهم أو يأتيه داعيهم، وفي ليلة أخرى يصطحب النبي معه عبد الله بن مسعود ولا يستجيب من الصحابة إلا هو، فيضع له خطاً ثُمَّ يتقدم النبي صلىالله عليه وسلم فيقول عبد الله بن مسعود وهو يصف لنا -حسب اختلاف الروايات- وصفاً عجيباً أنه رأى الجن تتهافت مثل النسور، ثُمَّ لما انتهى النبي صلىالله عليه وسلم مما أراد الله أن يبلغهم إياه تفرقوا مثل السحب إذا تطايرت، وعاد كل منهم إِلَى بلاده، ثُمَّ أتى النبي صلىالله عليه وسلم وعاد إِلَى أصحابه، هذه الروايات بعضها رواها البُخَارِيّ وبعضها رواها مسلم.
بعض خصائص الجن
ومما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في رواية عند البُخَارِيّ أنهم سألوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً، فأعطاهم العظم، قَالَ: (إن لكم بكل عظم أن يكون كما لو كَانَ قبل أن يؤكل) ، أي: أن أي عظم يجده الجن فإن لهم كحاله قبل أن يؤكل، (ولهم بكل روث أو بعرة كحالها قبل أن تؤكل) ولهذا نهينا أن نستنجي بالعظام وبالروث؛ لأنه طعام إخواننا من الجن الذي أعطاهم إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الليلة، ومن خصائصهم ما في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27] .(1/1706)
فالجن أعطاهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى القدرة عَلَى التشكّل، ويرونا من حيث لا نراهم، فمن الممكن أن يكون من الجن من يجلس في مجالس الذكر عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عند الصحابة، أو من بعدهم من العلماء، ثُمَّ يبلغ إخوانه الهدى والحق والذكر، إذاً فالبلاغ يصل الجن، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث إليهم، لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة الله للعالمين، وهم من ضمن العالمين الذين رحمهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ببعثته هذه هي القضية الأولى، ولزيادة الفائدة ففي هذا الموضوع رسالة خاصة لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولم يخالف في هذا أحد من الْمُسْلِمِينَ ولله الحمد.
هل رسل الجن من الإنس أو من الجن
القضية الثانية: ذكر المُصْنِّف هنا قول مُقاتِل وهو: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يبعث رسولاً إِلَى الإنس والجن قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1707)
والمراد من هذا ليس معناه أن الله لم يبعث إِلَى الإنس والجن رسولاً؛ ولكن المقصود عامة الجن والإنس قبله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكلام حق، فالله لم يبعث أحداً إِلَى الإنس عامة والجن عامة إلا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومقصود مقاتل - رَحِمَهُ اللَّهُ - الذي انتقد عليه: أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يبعث رسولاً من الإنس إِلَى الإنس والجن معاً، وإن كَانَ قد بعث إِلَى قومه من الإنس، فيدعو قومه من الإنس، ويدعو معهم طائفة من الجن أو قوماً من الجن، وهذا مردود بقصة الجن الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الأحقاف: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف:30] فهذا دليل عَلَى أن أُولَئِكَ النفر من الجن كانوا عَلَى دين موسى عَلَيْهِ السَّلام، أو كانوا يسمعون عَلَى الأقل وكذلك كَانَ أجدادهم من قبل عَلَى دين موسى عَلَيْهِ السَّلام.
ثُمَّ جَاءَ بعده هذا النبي فَقَالُوا: إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى قد يقول قائل لماذا قالوا: من بعد موسى مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث من بعد موسى أنبياء، كداود وسليمان وكذلك عيسى عَلَيْهِ السَّلام؟ الجواب -كما هو معلوم- أن شريعة داود وسليمان وعيسى عليهم السلام وكل أنبياء بني إسرائيل هي التوراة التي أنزلت عَلَى موسى، وأما الزبور والإنجيل فإنها مواعظ وحكم وعبر وفيها بعض تقييدات في أحكام الحلال والحرام، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى لسان عيسى بن مريم وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [آل عمران:50] .(1/1708)
فأحل عيسى عَلَيْهِ السَّلام بوحي من الله عَزَّ وَجَلَّ بعض ما كَانَ محرماً عَلَى بني إسرائيل في أحكام التوراة لكنه مكمل ومتمم ومصدق لما بين يديه من التوراة، ثُمَّ يأتي سؤال وهو هل رسل الجن من الجن أم من الإنس، اختلف العلماء في ذلك وقد نقل الإمام ابن أبي العز هنا كلام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الأحقاف وكذلك هو منقول من تفسير الإمام مُحَمَّد بن جرير الطبري في آية الأنعام، وهي قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] .
1) مذهب ابن عباس ومجاهد وابن جريج رَضِيَ اللهُ عَنْهُم في هذه المسألة:
ذهب ابن عباس ومجاهد وابن جريج رَضِيَ اللهُ عَنْهُم إِلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث من الإنس الرسل، ومن الجن النُذُر ومعنى ذلك: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبعث رسله من الإنس فيسمعهم الجن كمثل الجن الذين سمعوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فولوا إِلَى قومهم منذرين، فيكون النذر من الجن، والرسل من الإنس: وهذا الذي قال به ابن عباس ومجاهد وابن جريج وهو قول أكثر السلف، وقال بعضهم: -ولم أجده -ذكر ابن جرير عن الضحاك، فقد ورد أن الضحاك بن مزاحم سأله رجل: هل بعث الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الجن رسلاً؟ فتلا عليه الضحاك هذه الآية نفسها من سورة الأنعام: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] فاستدل بذلك الضحاك على أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول يَوْمَ القِيَامَةِ إذا سأل الجن والإنس: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] ففهم من ذلك أن الإنس تأتيهم الرسل من الإنس، وأن الجن تأتيهم الرسل من الجن.(1/1709)
أما الحافظ ابن كثير - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فإنه أطلق القول، وقَالَ: "ولا شك أن الرسل من الإنس "، ومما استدل به وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء:7] ومن أقوى ما استدل به قول الله - تَعَالَى - في حق إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَاب [العنكبوت:27] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خص إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب، فالقول بأن بعد إبراهيم نبي من الجن ينافي هذا التكريم وهذا الاختصاص الذي اختص الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام.
2) القول الراجح في هذه المسألة:
الذي يظهر أن الأمر ليس قوياً وقاطعاً بأن الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - لم يبعث من الجن رسلاً، وإنما هي وجهة نظر أقوى؛ لأن الذين قالوا بها منالسلف أكثر ونحن يسعنا ما وسعهم.
فلا يعني ذلك أنه ينفى عن الجن هذا الشيء، بل يحتاج نفيه أو إثباته إِلَى دليل خارج فهذا الذي يبدو، والله تَعَالَى أعلم.
لكن نظل نَحْنُ مع ما قاله ابن عباس ومجاهد وابن جريج كما هو ظاهر سورة الأحقاف أن الله يبعث الرسل من الإنس، وأن من الجن من يستمع ذلك الوحي فينذرون أقوامهم بذلك، وأما بقية الأحكام فليس هناك فرق ولا خلاف عَلَى الصحيح بين الإنس والجن، فهم يحاسبون يَوْمَ القِيَامَةِ، ويوقفون بين يدي الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كما في هذه الآية وغيرها.
الجن مثل الإنس في الثواب والعقاب(1/1710)
إن الصالح من الإنس والجن يدخل الجنة، والطالح من الإنس والجن يدخل النار، هذا هو القول الراجح والصحيح، ومن قال بخلافه فإنه يعوزه الدليل عَلَى ذلك، وأما الآية الكريمة التي استدل بها ابن كثير وتبعه الإمامابن أبي العز رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في رد استدلال الضحاك لمَّا استدل بقوله تعالى: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام:130] فقَالَ: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرسل الرسل من الإنس والجن، فقد رد عليه ابن كثير وتبعه الإمام ابن أبي العز: بأن هذا مثل قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] وإنما يخرج اللؤلؤ والمرجان من الماء المالح لا من الماء العذب.
مسألة تتعلق بلغة العرب في التفسير
والعرب تستعمل في كلامها ما يدل عَلَى أنها إذا أرادت أن تخاطب المفرد تأتي بالكلام عَلَى صورة جمع وهي تريد الفرد، حتى يقول الإمام ابن جرير الطبري رَحِمَهُ اللَّهُ: إن الإِنسَان إذا قَالَ: أكلت تمراً ولبناً، فإن ذلك صحيح في لغة العرب، لكن لو أفرده لا يصح أن يقول: أكلتُ لبناً، وإنما يقول: شربتُ لبناً، فهذا دليل عَلَى أن الأمر في حالة الاجتماع غيره في حالة الانفراد، وعليه فيكون المبعوثون من الإنس والجن، بينما يكون في الحقيقة والواقع لم يأت الرسل إلا من الإنس وحدهم، نقول: قد يترجح هذا القول، إلا أن هذه الآية يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] وإن كَانَ قد قال من قال من العلماء بأنه يخرج من أحدهما، إلا أن هذا القول غير صحيح من وجوه:
أولاً: أنه خلاف ظاهر اللفظ؛ لأن اللفظ يخرج منهما، فلا يعدل عن الظاهر إلا بدليل، وليس هناك من دليل إلا أن النَّاس لم يكونوا يستخرجون الزينة واللؤلؤ والمرجان من الأنهار والبحار العذبة، وإنما كانوا يستخرجونها من المالح.(1/1711)
ثانياً: إن التنوين الموجود في قوله تعالى: وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر:12] في كلٍّ يسمى تنوين العوض، أي: عوض عن كلمة، أي: ومن كل واحد من البحرين تأكلون لحماً طرياً، وتستخرجون حلية تلبسونها، إذا: ليس هناك احتمال!
فلماذا نقول: يخرج منهما، أي: من أحدهما؟ والله يقول: ومن كلٍ أي: من كل واحد من البحرين يخرج اللؤلؤ والمرجان، ولذلك أصبح النَّاس في العصر الحديث يستخرجون اللآلئ والحلي والزينة من المياةِ العذبة ومن الأنهار، كما أنها تستخرج من البحار، فمن قال بذلك من العلماء السابقين فإنما قال عَلَى اعتبار أنه في عصره لم يكن معروف لديهم هذا الاستخراج، فَقَالُوا: إذاً يستخرج من أحدهما فقط، لكن نعمة الله عَزَّ وَجَلَّ وامتنانه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا تقتصر عَلَى عصر من العصور.
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يمتن منة عامة قد يتحقق لبعض النَّاس منها شيء في وقت، ولا يتحقق لغيرهم شيء إلا في وقت آخر، وقد تتحقق بعض النعم لبعض النَّاس في بلد ولا تتحقق لهم في بلد آخر وهكذا..
وهذا هو الذي يترجح في هذه الآية، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
قَالَ الإمامُ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/1712)
[وأما كونُه مبعوثاً إِلَى كافة الورى، فقد قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28] وقال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُُ إِنِّي رَسُول لُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158] وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] أي: وأُنْذِرُ مَنْ بِلَغَه، وقال تعالى: وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً [النساء:79] وقال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس:2] ، وقال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] وقال تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران:20] ، وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أُعطِيتُ خَمْساً لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ مِنَ الأنبياءِ قَبْلي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لي الأرضُ مَسْجِداً وطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْركَتْهُ الصلاةُ فَلْيُصلِّ. وأُحِلَّتْ ليَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تُحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكانَ النبيُّ يُبعث إِلَى قَوْمِهِ خاصَة وَبُعثتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّة) أخرجاه في الصحيحين.
وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَسْمَعُ بي رَجُلٌ من هذه الأمَّةِ يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) رواه مسلم، وكونه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوثاً إِلَى النَّاس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة.(1/1713)
وأما قول بعض النَّصارَى: إنه رَسُول إِلَى العرب خاصة، فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قَالَ: إنه رَسُول الله إِلَى النَّاس عامة، والرَّسُول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إِلَى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس، وسائر ملوك الأطراف، يدعو إِلَى الإسلام] اهـ.
الشرح:
قد دلت الآيات الصريحة من كتاب الله تَعَالَى وسنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مبعوث إِلَى النَّاس كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ:28] ، ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُُ إِنِّي رَسُول لُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف:158] ويقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19] وهذا يؤيده ويوضحه قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَسْمَعُ بي رَجُلٌ من هذه الأمَّةِ يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) .
فالأمر يعود إِلَى شيء واحد وهو البلاغ، فمن سمع عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن دعوته، فلا عذر له عَلَى الإطلاق؛ لأنه لم يتبعه ولم يؤمن برسالته ويهتدي بهديه ويدخل في دينه، ولكن الذي لم تبلغه لدعوة، فله حكم أهل الفترة، وأمره إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
بعثته إلى الناس كافة معلوم من الدين بالضرورة(1/1714)
قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وكان النبي يبعث إِلَى قومه خاصة وبعثت إِلَى الخلق عامة) فبعثه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِلَى الخلق عامة، وفي هذه القضية يقول الإمامابن أبي العز: وهذا معلوم من الدين بالضرورة، أي أن: عموم بعثته إِلَى جميع العالمين مسألة مجمع عليها بين الْمُسْلِمِينَ وهي معلومة من الدين بالضرورة، أي أن فيها المعرفة البديهية التي يجدها الإِنسَان في نفسه ضرورة دون حاجة إِلَى استدلال ولا بحث ولا نظر، فكل مسلم يعلم ضرورة من نفسه أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رَسُول الله إِلَى العالمين أجمعين، ولم يخالف فيها إلا طائفتان من غير الْمُسْلِمِينَ.
الطائفتان من غير المسلمين اللتان تخالفان في أن نبينا صلى الله علي وسلم بعث إلى العالمين
الطائفة الأولى: فرقة من اليهود يقال لهم العيسوية، ظهرت في أيام أبي جعفر المنصور وكانوا من يهود إيران أي (من يهود الفرس العجم) واليهود في هذه البلاد كثيرون، وفي الحديث الصحيح يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يتبع الدجال سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة) ، وما يزال اليهودفي هذه المدينة -مدينة أصبهان - ولهم فيها أكبر تجمع يهودي، وأصل وجود اليهودهناك، وهو أنه لما سلط الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم بختنصر كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَار [الإسراء:5] فهو الذي جاس خلال الديار، وأخذ بني إسرائيل وسباهم إِلَى أرض فارس، فتناسلوا هنالك، الشاهد أن هذه العيسوية قامت بثورة في أيام أبي جعفر المنصور، وَقَالُوا: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبعث إِلَى العالمين، وَقَالُوا: حتى لا نكذبه: هو مبعوث إِلَى العرب خاصة.(1/1715)
وقال بهذا القول أيضاً بعض طوائف من النَّصَارَىقالوا: بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى العرب خاصة، وأما نَحْنُ فإننا عَلَى دين عيسى الذي بعث به إلينا، وهذا الكلام من أبطل الباطل، ومن أجلى الكذب وأوضحه، وهذا الكلام يدل عَلَى كذب قائله؛ لأنكم إن صدقتم أنه رَسُول يوحى إليه من عند الله، فهذا الرَّسُول لا يكذب، وهذا الرَّسُول قد قَالَ: إن الله أوحى إليه وحياً عاماً للعالمين، جَاءَ ذلك في القُرْآن الذي أنزله الله عليه، وفي سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسيرته حينما كتب إلى: ملوك الروم والفرس وكتب إِلَى جميع أطراف الأرض يبلغهم دعوته، فهذا دليل واضح عَلَى عموم رسالته، وأنتم قد أقررتم بنبوته، فكيف تدعون أنه كاذب؟ هذا كلام يناقض بعضه بعضا، وإما ألا تؤمنوا بنبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصلاً فيكون لنا معكم شأن آخر.
من أعجب ما يقوله النصارى أن محمداً مبعوث إلى العرب خاصة
من أعجب ما يقوله النَّصَارَى: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبعوث إِلَى العرب خاصة، مع أن في الأناجيل التي بين أيديهم الآن ويقرؤونها ويعتبرونها الكتاب المقدس أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام جاءته امرأة وقالت: يا فلان! أريد أن تعلمني الدين الذي تدعو إليه فقَالَ: من أين أنتِ أيتها المرأة؟ قالت: فينيقية، -ليست من بني إسرائيل- فَقَالَ المسيح -كما يقولون: إنما بُعثتُ إِلَى خراف بني إسرائيل الضالة.
وهذا ما نص عليه القُرْآن وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيل [آل عمران:49] ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد حدد رسالة عيسى عَلَيْهِ السَّلام بأنها إِلَى بني إسرائيل.(1/1716)
كما جَاءَ في هذا الحديث: (وكان النبي يبعث إِلَى قومه خاصة) ، فعيسى عَلَيْهِ السَّلام هو الذي بعث فعلاً إِلَى بني إسرائيل فقط، ولم يبعث إِلَى الروم، ولا إِلَى الفرس، ولا إِلَى العرب، إنما بعث إِلَى بنى إسرائيل، إذاً إذا أتانا نصارى من العرب، أومن الروم، أومن الفرس أومن نحوهم ويقولون: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إِلَى العرب خاصة ونحن ندين بدين عيسى فإن هذا هو العجب، وهذه هي المغالطة، وهذا هو قلب الحقائق، بل يقال لهم: أنتم الذين تدينون بدين لم يبعث إليكم رسوله، وإنما بعثه الله إِلَى بني إسرائيل.
أما الذي بعث إليكم وإلى العالمين جميعاً فهذا هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي أخذ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى العهد عَلَى الأَنْبِيَاء وليس عليكم فقط أن يؤمنوا به قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81] ، فأخذ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الميثاق عَلَى الأَنْبِيَاء أن يؤمنوا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن ينصروه، فكيف تدعون أنتم أنكم من أتباع موسى أو عيسى وتكذبون بنبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكفرون بها؟! أو تقولون كما قالت هذه الطائفة أو هذه الشرذمة: إن نبوته خاصة بالعرب؟! هذا كلام من المحال ومن الباطل والكذب.
ذكر الخلاف في إعراب كافة
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وقوله: وكافَّةِ الورى. في جر (كَافَّة) نظر، فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالا، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28] عَلَى ثلاثة أقوال:(1/1717)
أحدُها: أنها حالٌ مِن (الكاف) في (أرسلناك) وهي اسمُ فاعل، والتاءُ فيها للمبالغة، أي: إلا كافَّاً للناسِ عنِ الباطل، وقيل: هي مصدر (كَفَّ) ، فهي بمعنى (كفّاً) أي: إلا أن تَكُفَ النَّاس كفّاً، ووقوع المصدر حالاً كثيرٌ.
الثاني: أنها حالٌ من النَّاس واعْتُرِضَ بأن حال المجرور لا يَتَقدَّمُ عليه عند الجمهور، وأُجِيبَ بأنه قد جَاءَ عن العرب كثيراً فوجب قَبُولُه، وهو اختيارُ ابنِ مالك رَحِمَهُ اللَّهُ، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.
الثالث: أنها صفةٌ لمصدر محذوف، أي: رسالةً كافَّة، واعْتُرِض بما تَقَدَّم أنها لم تُسْتَعمَلْ إلا حالاً.
وقوله: [بالحق والهدى، وبالنور والضياء] هذه أوصافُ ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الدِّينِ والشرع المؤيَّدِ بالبراهين الباهرة من القُرْآن وسائر الأدلة. والضياءُ: أكمل من النور، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً [يونس:5]] اهـ.
الشرح:
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وهو المبعوث إِلَى عامة الجن، وكافة الورى] ينقده المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ من حيث اللغة، فنحن لا نقول: إِلَى كافِةِ الورى، والصحيح أن لم نقل الواجب أن نقول: إِلَى الورى كافةً، فكلمة كافَّة لا تستعمل إلا حالاً، ومعناها: الكل والجمع، فلا تأتِ إلا حالاً دائماً، فلا تُجر ولا تُرفع ولا تُنصب أو نحو ذلك، وأما قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس [سبأ:28] فقد اختلف في إعرابها، فقيل إنها حال من الكاف في "أرسلناك" لأن الحال لابد أن يكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول به، أو حال من متعلق في الفاعل أو المفعول به.
وذهب بعضهم إِلَى أن كلمة كافة تتعلق بالكاف أي: وما أرسلناك إلا كافة للناس، فأنت الكافة للناس، أي: الكاف لهم والتاء للمبالغة، كما يقال في (علامَّة) ، و (فهَّامة) أي: رجل كثير العلم والفهم، وهذا قول ضعيف.(1/1718)
والثاني: أنها حال من النَّاس في قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس [سبأ:28] واعترض عليه بأنها تقدمت، وأن الحال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، والصواب: أن ذلك جائز وهو الذي رجحه الإمام ابن مالك وهذه الآية دليل له، فيقول إن معنى قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاس [سبأ:28] أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة، فهي حال من النَّاس المجرور والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
القول الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف وهذا قول مرجوح وضعيف؛ لأنها -كما قلنا سابقاً- ولا تكون إلا حالاً.(1/1719)
شرح العقيدة الطحاوية
الرؤية
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد ذكر الشيخ رَحِمَهُ اللهُ من الأدلة قوله تَعَالَى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] وهي من أظهر الأدلة، وأما من أبى إلا تحريفها بما يُسميه تأويلاً: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنَّار والحساب أسهل من تأويلها عَلَى أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرِّفها عن مواضعها إلا وجد إِلَى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنَّصارَى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد عَلَى الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد؟ ! وكذا ما جرى في يوم الجمل وصِفِّين، ومقتل الحسين رضي الله عنه، والحرة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة عَلَى ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!
وإضافة النظر إِلَى الوجه الذي هو محله في هذه الآية، وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل عَلَى خلاف حقيقته وموضوعه، صريحٌ في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إِلَى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه. فإن عدي بنفسه فمعناه: التوقف والانتظار، كقوله: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف:185] وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأَبصار، كقوله تعالى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر [الأنعام:99] فكيف إذا أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل البصر؟!(1/1720)
وروى ابن مردويه بسنده إِلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] قَالَ: من البهاء والحُسن إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قال في وجه الله عَزَّ وَجَلَّ.
عن الحسن قَالَ: نظرت إِلَى ربها فنُضِّرت بنوره.
وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قَالَ: تنظر إِلَى وجه ربها عَزَّ وَجَلّ.
وقال عكرمة: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قَالَ: من النعيم إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ، قَالَ: تنظر إِلَى ربها نظراً َ.
ثُمَّ حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله.
وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث] اهـ.
الشرح:
يثبت الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ- أن من اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أن الرؤية حق لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الجنة، فأهل الجنة المؤمنون -جعلنا الله وإياكم منهم- يرون ربهم جل وعلا عياناً بالأبصار، كما جَاءَ في الحديث الصحيح، وهذا هو النعيم الأعلى والأعظم في الجنة، وهو أعظم نعيم يتنعم فيه أهل الجنة بل هو ألذ من جميع أنواع النعيم التي لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر عَلَى قلب بشر، ثُمَّ يقول: [بغير إحاطه ولا كيفية] ، أي: أنه لا يستلزم من هذاالنظر الإحاطة.
والذين نفوا الرؤية كالمعتزلة وغيرهم قالوا: إن مما يدل عَلَى نفي الرؤية قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] فما دام أن الأبصار لا تدركه؛ فهو لا يُرى وما علموا أن هناك فرقاً بين الرؤية والإدراك، فإن الإِنسَان قد يرى الشيء لكن لا يحيط به ولا يدرك حقيقته، والذي نفى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وقوعه هو الإحاطة به وإدراكه وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] فإذا كَانَ العلم لا يحيط به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -ومجاله أرحب وأوسع من الرؤية- فكيف تحيط به الرؤية؟!(1/1721)
قوله: [ولا كيفية] أي: لا نعلم الكيفية التي يرى بها المؤمنون ربهم جل وعلا، وكما قَالَ: [وتفسيره عَلَى ما أراد الله تَعَالَى وعلمه] يعني: تفسير الكيفية لا يعلمها إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فنحن نؤمن بالرؤية وأما كيفية وقوع هذه الرؤية فإن الذي يعلمها هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونحن لا نعلمها، وعماد استدلاله كَانَ بهذه الآية وبالأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى الرؤية فقَالَ: [كما نطق به كتاب ربنا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: في شرح هذا الكلام: [وقد ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ من الأدلة قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] . وهي من أظهر الأدلة] .
ومن أوضح وأبين وأجلى الأدلة عَلَى رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ولهذا فإن الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللهُ- في صحيحه جعل هذه الآية هي عنوان الباب، ثُمَّ أورد بعد ذلك أحاديث كثيرة في إثبات رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن عدد من الصحابة الكرام: عن جرير بن عبد الله البجلي، وأَبِي هُرَيْرَةَ، وأبي سعيد الخدري، وأورد أحاديث كثيرة في الحشر ويَوْمَ القِيَامَةِ، تثبت رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، منها الأحاديث التي ستأتي إن شاء الله تعالى. ٍٍ
فالآية لوضوح دلالتها، ولوضوح معناها الذي لا يلتبس فيه عقل أحد كانت دليلاً عَلَى هذا الأصل العظيم، الذي هو أصل من أصول عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، لكن الجهمية والمعتزلة ومن اتبع مذهبهم أبوا إلا الانحراف.
استطرد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- هنا في بيان خطر التأويل، هكذا يسميه أهل البدع وهو في الحقيقة تحريف، وقد سبق توضيح معاني التأويل.(1/1722)
وقلنا: إذا كَانَ التأويل بمعنى التفسير فهذا هو المعروف في كلام العرب، كقولهم: هذه الآية تأويلها كذا، يعني: تفسيرها كذا، كما هو ملاحظ في تفسير الإمامابن جرير الطبري وأمثاله من كتب السلف، فإنهم يطلقون التأويل بمعنى التفسير، لكن التأويل المصطلح عليه عند المتأخرين: هو صرف دلالة اللفظ من المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح، وهذا في الحقيقة تحريف للكلم عن مواضعه، فالله تَعَالَى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالوا: نؤولها فنقول: استولى! وهذا تحريف، حرفوا كلمة "استوى" التي قالها الله وفهمها الصحابة إِلَى "استولى"، وأمثال ذلك من التحريفات.
ثُمَّ بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أن تأويل هذه الآية مع وضوح دلالتها، فإن تأويل آيات المعاد والبعث والحشر وآيات الجنة والنَّار والجزاء أسهل؛ لأن هذه الآية واضحة كوضوح تلك الآيات، بل هذه الآية أوضح في بعض الجوانب، فالذي يؤول قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] . ويحرفها عن معناها إِلَى معنى بعيد، لا يصعب عليه أن يؤول أيضاً كل الآيات التي تدل عَلَى البعث والنشور والحشر وأحوال يَوْمَ القِيَامَةِ بل حتى آيات الأحكام، كالصلوات الخمس: قالوا: هي عَلِيّ والحسن والحسين وفاطمة ومحسن!
فإذا فتحنا باب التأويل في الأمور الواضحة الجلية، فإنه لن يبق هناك شيء لا يؤول من ديننا فيمسخ الدين والعياذ بالله، وهذا هو الذي فعله هَؤُلاءِ المؤولون؛ لأن التأويل كما ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هو الذي أفسد الدنيا والدين.
رد النصوص أو رفضها لا يخلو من أحد أمرين
رد النصوص أو رفضها وعدم قبولها لا يخلوا من أحد أمرين في الغالب:(1/1723)
إما رداً واضحاً مباشراً، وإنكاراً كلياً، كَانَ ينكر الإِنسَان ثبوتها، كما كذَّبَ بالقرآن من قبل، وأنكر أنه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وهذا ردٌ واضحٌ مباشر، أو إنكار المعنى إنكاراً كلياً، هذا أحد الوجوه.
الوجه الثاني: تأويلها وتحريفها، والاحتيال عليها، حتى تخرج عن المعنى الذي أراده الله ورسوله، إِلَى معنى آخر لم يرده الله ورسوله بهذا الخطاب، ولم يفهمهالسلف الصالح.
وكلاهما رد، والرد الواضح يجرؤ عليه الملحدون والكفار المجاهرون، أما التأويل فإنما يلجأ إليه المتأولون الذين يزعمون أنهم ينزهون وكما قال المنافقون من قبلهم! إن نريد إلا إحسانا وتوفيقا.
وهَؤُلاءِ يقولون: نَحْنُ نثب ألفاظ النصوص كما هي؛ لكن ننفي دلالاتها وننفي معانيها! فما الفائدة من وجود الألفاظ إذاً؟! أتجعل هذه الألفاظ رسماً في المصحف بدون معاني حقيقية، وبدون المدلولات، التي من أجلها جَاءَ هذا الخطاب، ونزل عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو تكلم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
وبهذا التأويل هدمت الأديان التي من قبلنا، وهو الذي شتت هذه الأمة وفرقها.(1/1724)
فإذا قلنا: إن التأويل سائغ وجائز، فإن المُصْنِّف يقول: [فهل قتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد] ، وذلك لمَّا خرج عبد الله بن سبأ اليهودي ومن اتبعه، وعملوا في السراديب وفي الظلام عَلَى إذكاء نار الفتنة بين الْمُسْلِمِينَ، ولم يكونوا يقولون للناس: نَحْنُ نعادي الإسلام، ونكره الدين، ونريد أن نقتل الخلفاء! لا؛ بل ألبسوها بتأويل العدل، والمطالبة بالعدل، والمطالبة بسنة عُمَر؛ لأن عثمان -كما يزعمون- انحرف عن منهج عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فكانوا يقولون: نريد منهج عُمَر! نريد منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! ونريد أن لا يتولى أقارب الخليفة الإمارة بل يتولى الْمُسْلِمُونَ الآخرون! إِلَى أخر ما تأولوا به حتى قتلوه رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وكذلك في يوم الجمل ما خرجت الخوارج إلا بالتأويل، يقولون: إن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36] والضلال المبين هو الكفر، وعلى هذا فمن عصى الله بزناً أو خمرٍ أو سرقةٍ فإنه كافر، وتأولوا بقية الآيات والأحاديث مثل: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وتركوا جميع الأحاديث الصحيحة الدالة عَلَى أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار.
وكذلك الرافضة، أتوا إِلَى الآيات التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المنافقين فجعلوها في أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل الآيات التي نزلت في عبد الله بن أُبيَّ بن سلول ومن معه، فجعلوها في أبي بكر الصديق صاحب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار ومن ماثله من الصحابة وهكذا.(1/1725)
فتفرقت الأمة بناءً عَلَى هذا التأويل. فلو فتحنا المجال لِكُلِ إنسان بأن يؤول كما شاء في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ لَمَا بقي من ديننا شيء، فلا بد من إغلاق هذا الباب واتباع منهجالسلف الصالح في فهم كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك فهم هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] التي أنزلها الله عَلَى نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقرأها عَلَى أصحابه، وقرأها الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، وقرأها السلف جميعاً فما سمعنا أن أحداً أولها، أو أخرجها عن معناها، بل في الآية نفسها ما ينفي وما يقطع أي تأويل يؤوله الجهمية ومن اتبعهم فيها.
والجهمية عندما أولوا هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قالوا: إن "إلى" مفرد آلاء كما في قوله تعالى: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13] فـ"إلى" بمعنى النعمة، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني: منتظرة، تنتظر نعمة ربها، فمعنى الآية عندهم -على تأويلهم-: أن هذه الوجوه تنتظر نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها! فانظروا إِلَى هذا التكلف والتلاعب بكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ! ولذلك لما أخذ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يردون عليهم قالوا: أولاً: إضافة النظر إِلَى الوجه الذي هو محله من القرائن الدالة عَلَى أن المقصود هو المعنى الحقيقي: وهو النظر. فالنظر أضيف إِلَى الوجه الذي هو محل النظر، أي: أسند إليه، فهو الفاعل: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فهو نظر حقيقي حسي، ثُمَّ "إلى" حرف جر وليست كما زعموا بأنها مفرد "آلاء" وإذا تعدى النظر بإلى لم يكن في معنى الانتظار إنما أصبح بمعنى النظر، نظرت إِلَى كذا، يعني: رأيته بالعين الحسية المعروفة.
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/1726)
[وإخلاء الكلام من قرينة تدل عَلَى خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إِلَى الرب جل جلاله] .
ولو أخذنا كلمة نظر في اللغة العربية واستعمالاتها لوجدنا أنها تختلف بحسب ما بعدها وبحسب تعديها بالحرف أو بغيره، وبما يأتي بعدها من الصفة فيقول المصنف: فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار:انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُم [الحديد:13] فإذا قلت: انظر فمعناها توقف لي، وتمهل، وانتظرني، " وإن عدي بـ (في) فمعناه التفكر والاعتبار "، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] أي: أولم يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، وهذا في القُرْآن الكريم كثير أَفَلا يَنْظُرُونَ [الغاشية:17] ، أي: يتفكرون، فالنظر بمعنى التفكر وبمعنى الاعتبار.(1/1727)
أما إن تعدى إِلَى مفعوله بـ"إلى" فهذا هو النظر الحسي الحقيقي بالعين والبصر، كما في قوله تعالى: انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99] فانظروا بمعنى: تأملوا وشاهدوا وطالعوا ذلك بالعين لتتأملوا ذلك وتعلموا دقيق صنع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعجيب خلق الله في هذه الثمار إذا أظهرها، وفي هذا الينع إذا أطلعه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إضافة إِلَى أن التعدي كَانَ بـ"إلى" في هذه الآية: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فقد أُسند الفعل إِلَى الوجوه، والوجه محل النظر، وهو محل العينين، فلم يعد هناك أي احتمال لأن يكون معنى النظر الانتظار أو التفكر أوالتوقف. وهناك دليل آخر دل على هذا وهو الدليل الذي نعتمد عليه دائماً في كل أمر من الأمور، وهو أن أعلم الناس بكتاب الله عز وجل وبتفسيره هم السلف الصالح رضوان الله عليهم، فبماذا فسر السلف الصالح هذه الآية؟ فضلاً عن الأحاديث الأخرى التي جاءت تدل على رؤية الله سبحانه وتعالى، ولقد روى ابن مردويه بسنده إِلَى عبد الله بن عمر رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قَالَ: من البهاء والحُسن، وناضرة من النضارة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قَالَ: ناظرة في وجه الله عَزَّ وَجَلَّ، وسواء ثبت هذا مرفوعاً أو كَانَ من تفسير الصحابي فإنه -ولله الحمد- هو المعنى الذي لا يحتمل الكلام غيره، وعلى كلا الحالين فهو مقبول.
وعن الحسن البصري رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: نظرت إِلَى ربها فنظرت بنوره يعني: وجوه يومئذ ناضرة عليها البهاء، وعليها الحُسن وعليها النضارة، لأنها نظرت إِلَى ربها فنضرت، وطلع عليها البهاء والحسن والجمال بنوره تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هكذا فسرها هذا التابعي الجليل.(1/1728)
وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ أيضاً أنه فسر: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ فقَالَ: تنظر إِلَى وجه ربها عَزَّ وَجَلَّ.
وقال عكرمة تلميذ ابن عباس وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ قَالَ: ناضرة من النعيم، أي: متنعمة إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قَالَ: تنظر إِلَى الله نظراً، يعني: تراه رؤية حقيقية، ثُمَّ حُكي عن ابن عباس مثله.
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث] فنقول لأهل البدع الذين أولوا هذه الآية: ائتونا بواحد من علماء السلف صح عنه أنه قال في هذه الآية: إنها ليست في الرؤية الحقيقية، بل هي في الانتظار أو بأي معنى من المعاني التي تبتدعونها! وإنهم لن يستطيعوا ذلك، ونحن يسعنا في كل أمر من الأمور ما وسع السلف الصالح والقرون المفضلة، فنقف حيث وقفوا، ونفسر كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ كما فسروا، ثُمَّ انتقل المُصْنِّف إِلَى دليل آخر من الأدلة عَلَى إثبات رؤية الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] ، قال: الطبري: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك: هو النظر إلى وجه الله عز وجل.(1/1729)
وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه وهي الزيادة) ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل.
وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير عن جماعة، منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس رضي الله عنهم.
وقال تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي، وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرتمحمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] ؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا] اهـ.
الشرح:
هنا دليلان:
الدليل الأول: الزيادة.
والدليل الثاني: حجب الكفار عن الله تبارك وتعالى مما يدل على رؤية المؤمنين لربهم جل وعلا.
وكما هو واضح أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم فسروا المزيد وفسروا الزيادة برؤية الله تبارك وتعالى.(1/1730)
فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنس بن مالك، وأبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وابن عباس -وهؤلاء أعلم الصحابة بالتفسير وبغيره من العلوم- كل هؤلاء فسروا المزيد بأنها رؤية الله تبارك وتعالى قال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [قّ:35] ، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ.
فإذا كانت الحسنى هي الجنة، وإذا كان لأهل الجنة ما يشاؤون من النعيم -كما هو متفق عليه بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة وغيرهم- وفيها ما يشاء الإنسان مما تشتهيه الأنفس وتلذ به الأعين من أصناف النعيم وأنواع الملذات، وهي الحسنى التي وعد الله تبارك وتعالى بها عباده الصالحين، فما هي الزيادة على الجنة؟ والجنة نعيمها لا ينفذ ولا ينقطع وإنما هو متجدد دائم متصل.
فَسَّرَ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث الصحيح الذي رواه صهيب رضي الله تعالى عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وقال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟) لأنهم يرون أنهم قد زحزحوا عن النارفَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] .
فالفوز الذي كانوا دائماً يحلمون به والأمنية العظمى التي كانت تراود أنفسهم وقلوبهم قد تحققت، فما أن اجتازوا وعبروا الصراط وأنجاهم الله تبارك وتعالى من الكلاليب التي مثل شوك السعدان والتي تخطف الناس وتهوى بهم إلى النار، فلما جاوزوا ذلك إلى الجنة، وجدوا فيها مالا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فعند ذلك تعجبوا، وماذا بقي بعد هذه الجنة؟! وماذا بقي من موعد وعدنا الله تبارك وتعالى به ولم يحققه لنا تبارك وتعالى؟!(1/1731)
(فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا؟) يعمل المؤمن الحسنة فيجعلها الله تبارك وتعالى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، ويفعل الفعل من أفعال الخير ويأتي يوم القيامة وإذا به مثل الجبال ويجعله الله تعالى في الميزان عظيماً ثقيلاً وهو من فضله تبارك وتعالى.
(ألم يبيض وجوهنا؟) يوم تبيض وجوه أهل الإيمان والسنة وتسود وجوه أهل الكفر والنفاق والبدعة هكذا يسألون ربهم عز وجل.
(فيكشف الله سبحانه وتعالى الحجاب عن وجهه الكريم فينظرون إليه) ثم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه) كل ذلك النعيم الذي رأوه من الحور العين ومن الولدان ومن النعيم الذي لا ينقطع، والأنهار التي من العسل واللبن ومن ماء غير آسن ومن الخمر وكل ما في الجنة من نعيم ولذة وبهجة، كل ذلك لا يساوي لذة النظر إلى وجه الله الكريم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن يمتعون بذلك إنه سميع مجيب.
قال: (فوالله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) وقرة عين المؤمنين في الدنيا هي في معرفة ربهم سبحانه وتعالى من صفاته ونعوت جلاله، واتباع دينه وعبادته، ومناجاته والتضرع إليه والعمل لوجهه الكريم، هذه قرة أعينهم في الدنيا، وقرة أعينهم يوم القيامة بالنظر إلى وجهه الكريم سبحانه وتعالى، وهذه أعظم نعمة. والإنسان في هذه الحياة الدنيا ينعم ويرتاح ويسعد بقدر ما يكون إيمانه ومناجاته لله سبحانه وتعالى، وقوة صلته بالله جل شأنه، وقوة يقينه بالله ومعرفته لنعوت جلاله وصفات كماله سبحانه وتعالى، فهذه غاية السعادة وغاية الطمأنينة والراحة في هذه الحياة الدنيا.(1/1732)
يقول الإمام ابن القيم عن شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى أجمعين: (إني لأكون في حال، أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذه الحال إنهم لفي نعيم) ، ما هي هذه الحال؟ إنها حال تلذذ القلب بذكر الله سبحانه وتعالى والأنس به، ومناجاته والتضرع إليه سبحانه وتعالى، وقرة عينه في الآخرة التي هي قرة العين العظمى والغاية الكبرى ليست في نعيم الجنة: من الحور والولدان والمتاع والفاكهة واللحم، وإنما تكون قرة العين العظمى والكبرى والنعيم الأعظم واللذة التي لا يعدلها لذة، هي رؤية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي تقر به العين ورؤيته تعدل جميع أصناف وجميع أنواع النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم في الجنة.
فذكر بعد ذلك المصنف رحمه الله أن هذه الزيادة فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها النظر إلى وجهه الكريم، وهذه الطريق جاءت مرفوعة صحيحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي نفس الوقت جاءت عن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، كما روى ذلك الإمام ابن جرير الطبري عن أبي بكر وحذيفة وأبي موسى وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين، بالإضافة إلى أن علي بن أبي طالب وأنس بن مالك فسروا قول الله تعالى وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ بأنها رؤية الله سبحانه وتعالى. فالآية من كتاب الله واضحة جلية، فلم يبق بعد ذلك مجال لمؤول ولا لمنكر وهذا الدليل الثاني.
والدليل الثالث على رؤية الله تبارك وتعالى هي قوله جل شأنه في حق الكفار: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ َ [المطففين:15] وهذه الآية احتج الشافعي رحمه الله بها على الرؤية كما ذكر ذلك المصنف فقالالشافعي: (لما حجب هؤلاء بالسخط -أي: عن رؤيته- كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا) فمقتضى رضاه أن يراه أولياؤه وأحباؤه المؤمنون كما كان من مقتضى سخطه وغضبه على الكافرين أن يمنعهم عن رؤية وجهه الكريم.(1/1733)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] هل المسلمون والمجرمون سواء في الحجب عن رؤية الله سبحانه وتعالى؟
وفي كلام الشافعي والإمام مالك: دليل وتصريح بأن المؤمنين يرون ربهم جل وعلا يوم القيامة، وهذا من الأدلة التي تبطل دعاوى المؤولين والمحرفين. ثم ذكر المصنف مناقشة المعتزلة وما استدل به المعتزلة والجهمية المنكرون لرؤية، وكما قلنا: لا بد لهم من تأويلات ولا بد لهم من شبهات.
فمن ذلك أنهم استدلوا بقوله سبحانه وتعالى: قَالَ لَنْ تَرَانِي وبقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام: 103] وقد أطال المصنف -رحمه الله تعالى- هنا في إبطال استدلالهم بآية الأعراف وهي قوله تعالى: لَنْ تَرَانِي.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] وبقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصار [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم:
أما الآية الأولى: فالاستدلال منها عَلَى ثبوت رؤيته من وجوه:
أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم النَّاس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال.
الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح عَلَيْهِ السَّلام ربه نجاة ابنه أنكر عليه سؤاله، وقَالَ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46]
الثالث: أنه تَعَالَى قَالَ: لَنْ تَرَانِي ولم يقل: إني لا أُرى، أو لا تجوز رؤيتي أو لستُ بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كَانَ في كمه حجر فظنه رجل طعاماً، فَقَالَ أطعمنيه، فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل، أما إذا كَانَ طعاماً صح أن يقَالَ: إنك لن تأكله، وهذا يدل عَلَى أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى عَلَيْهِ السَّلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى، يوضحه:(1/1734)
الوجه الرابع: وهو قوله: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143] فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خُلق من ضعف؟!
الخامس: أن الله سبحانه قادر عَلَى أن يجعل الجبل مستقراً وذلك ممكن وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء.
السادس: قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا [الأعراف:143] فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لا ثواب له ولا عقاب فكيف يمتنع أن يتجلى لرسله وأوليائه في دار كرامته؟ ولكن الله تَعَالَى أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم، وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز، ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأبيد النفي بـ (لن) وأن ذلك يدل عَلَى نفي الرؤية في الآخرة: ففاسد، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل عَلَى دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت؟
قال تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة:95] مع قوله: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جَاءَ ذلك، قال تعالى: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] فثبت أن (لن) لا تقتضي النفي المؤبد، قَالَ: الشيخ جمال الدين ابن مالك، رَحِمَهُ اللهُ:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا
] اهـ.
الشرح:(1/1735)
إن المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ مثله في ذلك مثل أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الآخرين، فقد قلبوا ما جَاءَ به الجهمية دليلاً للنفي عليهم وأثبتوا أنه دليل للإمكان وللإثبات، وأعظم ذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف: 143] وهذه الآية أخذ المعتزلة منها لَنْ تَرَانِي فقط وَقَالُوا: إن رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محال فلا يمكن أن يرى لا في الدنيا ولا في الآخرة لأن "لن" لفظة للتأبيد إِلَى الأبد، يعني: لو قلت في شيء "لن " فمعناه إِلَى الأبد ولا يمكن أن يقع، فإذاً لَنْ تَرَانِي جَاءَ فيها النفي بلن مؤبداً فلا يمكن أن تقع الرؤية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا في الدنيا ولا في الآخرة وهذا إفكهم وتأويلهم.
فبين المصنف: أن الآية دليل عليهم، يعني: دليل عَلَى إثبات الرؤية من عدة وجوه، ذكر سبعة أوجه نأخذها واحداً واحداً، إن شاء الله.
الأول: أنكم إذا قلتم إن رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى محال كما هو مذهبكم، فيُقَالُ: هل يظن بنبي الله وكليم الله وأعلم الخلق بالله في زمانه وهو موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يسأل أمراً محالاً في حق الله عَزَّ وَجَلَّ. فسؤال موسى عَلَيْهِ السَّلام دليل عَلَى الإمكان، والأنبياء هم أعلم النَّاس وأعرفهم بصفات ربهم عَزَّ وَجَلَّ، أرسلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليعلموا النَّاس صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما ينبغي له وما لا يجوز أن يطلق عليه وما لا يجوز أن يقال في حقه، فإذا جَاءَ النبي وسأل ربه ذلك، فهذا في ذاته دليل عَلَى أنه ليس بمحال، ومنكرو الرؤية لا يجعلونه ممكن، بل يجعلونه محال استحالة مطلقة، فكأنهم أعرف بالله عَزَّ وَجَلَّ وبما يليق به وما لا يليق من نبيه موسى عَلَيْهِ السَّلام!!.(1/1736)
الثاني: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم ينكر عَلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام سؤال الرؤية، بينما نجد أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينكر ولو عَلَى الأَنْبِيَاء إذا سألوه وطلبوه أمراً محالاً، لا نقول: إحالة كلية لأن المحال بالمرة لا يسأله الأنبياء، ولكن إذا سألوا أمراً يظنون أنه ممكن وهو مما لم يشأ الله عَزَّ وَجَلَّ أن يفعله، كما سأل نوح عَلَيْهِ السَّلام ربه نجاة ابنه فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] يستعطف ويسترحم ويسأل ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن ينجي ابنه، فرد الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46] فسؤال الله عَزَّ وَجَلَّ أمراً قد قطع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه لا يتحقق هذا مما يفعله الجاهلون، ولهذا قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنوح عَلَيْهِ السَّلام: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، فهو ليس من الجاهلين عَلَيْهِ السَّلام، ولكن الرحمة والشفقة الفطرية جعلته يدخل الابن في عموم من ينجو من الأهل فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَق ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أن الابن خارج عن الوعد وليس داخل فيه، ووعظ نبيه نوحاً أن يسأله مثل ذلك، فلو كَانَ سؤال نبي الله تَعَالَى موسى الكليم من هذا القبيل لقال له أيضاً، لا تفعل ذلك ولا تسألني مثل هذا ولا تطلب مني شيئاً من هذا، وهذا لم يقع ولم يحصل في سؤال الكليم موسى عَلَيْهِ السَّلام.
الثالث: أنه تَعَالَى قَالَ: لَنْ تَرَانِي ولم يقل: إنني لا أُرى، أو إنني لا تجوز رؤيتي، أو إنني لست بمرئي، ففرق بين هذا وبين قوله: لَنْ تَرَانِي فهو مجرد نفي لوقوع الفعل، ليس نفياً لإمكان الوقوع مطلقاً.(1/1737)
ثُمَّ ضرب المُصنِّفُ مثالاً شاهداً لذلك: أنه من كَانَ في كمه حجر فَقَالَ له إنسان أطعمنيه، فالجواب الصحيح أن يقول: إنه لا يؤكل، وليس الصحيح أن يقول له: إنك لن تأكله، فالحجر لا يمكن أن يؤكل أصلاً، حتى يبين للطالب أو للسائل أن هذا محال نهائياً، لكن لو كَانَ في كمه طعاماً، وقال له إنسان: أعطني، فقَالَ: لن تأكل منه، فبهذا نعرف أنه طعام لكن لن يعطيه إياه، فمن الممكن أن يعطيه غداً، ويمكن أن يعطيه بعد غدٍ أو يمكن أن يعطى غيره، لأن هناك فرقاً بين نفي الفعل ونفي الإمكان بشكل مطلق وعام.
وهنا حكمة عظيمة وهي أن موسى عَلَيْهِ السَّلام في هذه الدار لا تستطيع قواه ومداركه أن ترى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك جَاءَ التعليق بالرؤية للجبل المخلوق العظيم القوي، الذي يراه الإِنسَان فيعجب من قوته ويعجب من صلابته، بالنسبة إِلَى هذا الضعف المشاهد في المخلوق المسكين الضعيف.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال: وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فعلق الرؤية بشيء ممكن وهو استقرار الجبل، وقوة الجبل أقوى من قوة موسى عَلَيْهِ السَّلام في التحمل، فلما علق الرؤية بذلك كَانَ دليلاً واضحاً عَلَى أن عدم إمكان رؤية موسى عَلَيْهِ السَّلام لربه جل وعلا، هو بسبب ضعفه في هذه الحياة الدنيا، فقواه تضعف عن احتمال رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيقول المصنف: فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف فهو لا يثبت لتجلي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يتحمل ذلك، فإذا كَانَ الجبل أصبح دكاً فإن الإِنسَان البشر يسحق أعظم من ذلك بمجرد أن يتجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه وهذا هو الوجه الرابع.(1/1738)
الخامس: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادر عَلَى أن يجعل الجبل مستقراً وذلك ممكن وقد علق به الرؤية فالله تَعَالَى قادر عليه وليس بمحال أن يجعل الجبل مستقراً يعني: في تلك اللحظة لما قال الله عَزَّ وَجَلَّ لموسى: لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي وبهذا يكون هناك بقية الأمل عند موسى عَلَيْهِ السَّلام، فلو استقر الجبل -وهذا ممكن- فسيرى ربه، فهناك نوع من الأمل ممكن أن يتحقق، وليس هناك نفي للوقوع مطلقاً فتعليقه بأمر ممكن غير تعليقه بأمر محال عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، كما لو قَالَ: إن استقر الجبل فسوف آكل أو فسوف أنام أو أشرب أو غير ذلك مما تنزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنه، [والكل عندهم سواء] فكونه عندهم يُرى مثل كونه: يأكل أو ينام أو يسهو أو يغفل تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
السادس: قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد تجلى للجبل، فلما تجلى للجبل وهو مخلوق جماد لا ثواب له ولا عقاب عليه، فتجليه سبحانه لأوليائه ولأهل كرامته ولأحبائه وعباده الصالحين أمر ممكن ولا يجوز ولا يصلح بأي حال من الأحوال أن نجعله من قبيل المحال.
السابع: أن الله تَعَالَى كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز في حقه التكليم جاز في حقه الرؤية؛ لأن كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى وخطابه له أمر عظيم فإذا جاز ذلك فلا يمتنع أن يكشف الحجاب فيراه، ولتلازمهما نفت المعتزلة والجهمية الكلام والرؤية معاً.
لا يستغرب أن أعداء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين لا يريدون الحق، ولا يريدون الهدى يبحثون عن أية شبهة مهما كانت ضعيفة أو بعيدة لتساند بدعتهم.
الرد على استدلالهم بقوله تعالى: ((لَنْ تَرَانِي))(1/1739)
ومن ذلك أنهم اخترعوا هذه الشبهة التي لا أصل لها في لغة العرب وهي قولهم: إن (لن) في لغة العرب تنفي نفياً مؤبداً، يعني: نفياً قطعياً إِلَى مالا نهاية، فكأنك إذا قلت -لن أدخل بيت فلان- فمعنى ذلك: النفي المؤبد الذي لا يمكن أن يكون فيه استثناء.
ولكننا نجد أن هناك من يقول: " لن أفعل كذا " ويفعله في ذلك اليوم أو في اليوم الثاني، ويكون منتهى ما يدل عليه ذلك النفي، أنه لن يفعل في ذلك الوقت الذي عرض عليه أن يفعله، ولا أكثر من ذلك، أما أن يحمل هذا الأسلوب -وهو استخدام "لن" مع الفعل- عَلَى النفي المطلق إِلَى ما لا نهاية، فهذا من الغلو ومن التعسف الذي لا أصل له، ولكن القلوب المريضة تتصيد الشبهات وتتبعها لتزيغ وتزداد زيغاً وضلالاً.
وهكذا فعل المعتزلة ومن وافقهم فَقَالُوا: إن "لن" للتأبيد المطلق، ولما قَالَ: " لن تراني " أي لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تراني لا في هذه الدنيا، ولا في الآخرة إِلَى أبد الآبدين وما لا نهاية، ولذلك أخذ المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يرد عليهم.
فبين رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذا القول باطل وفاسد لوجوه عديدة منها:
الوجه الأول: أنه حتى لو قيد بالأبد لما دلت عَلَى ذلك. فلو أنه قَالَ: "لن تراني أبداً" لما دل ذلك عَلَى نفي الرؤية مطلقاً إِلَى ما لا نهاية له؛ لأن "الأبد" هنا له غاية محدودة هو هذه الحياة الدنيا، فإن الكلام إنما هو في الدنيا. وقد سأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عبدُه وكليمُه موسى عَلَيْهِ السَّلام الرؤيةَ في الدنيا، فأجابه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في حدود هذه الدنيا، ولم يتَعرض لقضية الآخرة والأزل في هذا الموضوع. فكيف وقد جاءت مطلقة لا مقيدة، فلم يأت فيها " أبداً "، ولم يقل الله "لن تراني أبداً" وإنما قَالَ: لَنْ تَرَانِي مع أنه في لغة العرب حتى ولو قال أحد: لن أفعل أبداً. لما دلّ ذلك عَلَى أن النفي سيستمر إِلَى قيام الساعة، وما بعد قيام الساعة.(1/1740)
وقد بين المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- أنه قد جَاءَ في القُرْآن النفي بـ"لن"، وجاء مع ذلك ما يدل عَلَى عدم التأبيد، ومن ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أخبر عن الْمُشْرِكِينَ من اليهود وغيرهم أنه تحداهم إن كانوا عَلَى الحق والعقيدة الصحيحة والدين الصحيح أن يتمنوا الموت؛ لأن اليهود كما قال تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّر [البقرة:96] فهم يخافون من الموت خوفاً لا نظير له، والواثق من دينه لا يخاف من الموت، نعم كل البشر يخافون من الموت لكن الذي يثق بدينه، وأنه إن مات عَلَى هذا الدين والإيمان، فإنه سيتلقاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالرحمة والرضوان؛ لأنه عَلَى هدى من ربه ويقين من دينه لا يخاف.
لكن هَؤُلاءِ يخافون لأنهم ليسوا واثقين مما هم عليه من الدين، فلهذا قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنهم: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة:95] أما في الدنيا فنعم ولكن في الآخرة أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن أهل النَّار أنهم سيقولون: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ويتمنوا ذلك وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً [النبأ:40] ولكن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد كتب أنهم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخرجون منها - عافانا الله من عذابها -فلما أخبر تَعَالَى أنهم في الدنيا لن يتمنوه، وأخبر أنهم في الآخرة يتمنون ذلك علمنا أن "لن" ليست للتأبيد المطلق وإنما غاية ما تدل عليه أنهم لن يتمنوه في هذه الحياة الدنيا، فقوله: لَنْ تَرَانِي، غاية ما يدل عليه أن الرؤية لن تقع في حدود الحياة الدنيا.(1/1741)
الوجه الثاني: أن "لن" لو كانت للتأبيد لما جاز أن يحدد الفعل بعدها، فلو كانت هذه الأداة في لغة العرب كما يزعمون للتأبيد المطلق لما صح أن يقع بعدها استثناء أو تحديد للفعل، بينما نجد أنه قد جَاءَ ذلك في القرآن، كما في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى لسان أخي يوسف فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي [يوسف:80] إذا حصل الإذن من أبيه فإنه سيبرح الأرض، فحصل النفي بـ "لن" وحصل معه التحديد، فالنفي يستمر إِلَى حالة حصول الإذن، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي.
إذاً: ليست "لن" للتأبيد المطلق الذي لا تحديد فيه، وإنما تأتي للتأبيد المحدد بقدر محدد، وهذا معلوم من لغة العرب، ولا يمكن لأي إنسان سليم الفطرة ونقي العقل يقرأ كلام العرب ويتخاطب به إلا فهم أنه لا يمنع أحداً أن يقول: " لن أفعل كذا حتى يكون كذا " بل هذا سائغ ووارد من كلام العرب.
واستدل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذلك بقول الإمام الشيخ " جمال الدين ابن مالك "صاحب" الألفية " وغيرها من الكتب النحوية المشهورة، الذي بلغ صيته الآفاق في النحو وكان -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- من النحاة الكبار الذين أحيوا وجددوا هذا العلم في العصور المتأخرة، فابن مالك هذا -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- يقول:
ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا
أي: والقول الآخر قوّه، ورد قول من يقول إن النفي "بلن" مؤبد.
فهذا رجل من المشهود لهم بالمنزلة العالية في النحو وهو يشهد بما عليه مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من أن "لن" ليست لتأبيد النفي، فبطل بذلك قول أُولَئِكَ المعتزلة -ولله الحمد- وبذلك نكون قد انتهينا من الكلام عن الآية الأولى وهو قوله تَعَالَى لموسى: لَنْ تَرَانِي.
الرد على استدلالهم بقوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ
الآية الثانية التي استدل بها المعتزلة: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ.(1/1742)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما الآية الثانية فالاستدلال بها عَلَى الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو: أن الله تَعَالَى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية.
وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تَعَالَى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السِّنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيتة وألوهيتة وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشَّفَاعَة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته.
ولهذا لم يتمدح بعدم محض لا يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه.
فإذاً المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] ، يدل عَلَى كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن "الإدراك" هو الإحاطة بالشي -وهو قدر زائد عَلَى الرؤية- كما قال تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62،61] ، فلم ينف موسى عَلَيْهِ السَّلام الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تَعَالَى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها عَلَى ما هي عليه] اهـ.
الشرح:(1/1743)
أما قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ فإنها أيضاً تدل لمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهو إثبات الرؤية، ولا تدل عَلَى ما ذهب إليه المعتزلة من نفي الرؤية، وتفصيل ذلك أن يقَالَ: إن هذه الآية جاءت في سياق التمدح والثناء من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نفسه، وهو أولى شيء بالثناء، وهو المستحق لصفات الثناء والإجلال والمدح والكمال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلما أن أثنى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى نفسه وتمدح بقوله: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ دلَّ ذلك عَلَى أن هذا المعنى يندرج تحت قاعدة عظيمة من قواعد الأسماء والصفات وهي: "ليس في صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نفي -مطلق- عدمي، وإنما النفي يأتي لإثبات كمال وجودي" فلا نصف الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالنفي المطلق، ولا يُمدح الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالنفي المجرد؛ لأنه عدم.
وإنما يأتي النفي في القُرْآن والسنة في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لإثبات متعلقه ومتضمنه وهو إثبات صفة وجودية ثبوتية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالمدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وذكر المُصْنِّف أمثلة عَلَى ذلك، مثلاً: قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] هذا نفي يتضمن كمال حياته وقيوميته، فمن كمال حياته وقيوميته أنه لا تأخذه سنة ولا نوم، وقد سبق أن هذه الآية هي أعظم آية في كتاب الله، وهاتان الصفتان " الحي القيوم " تضمنتا جميع صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ودلتا عليها، فالحي: دليل عَلَى جميع الصفات الذاتية، والقيوم: دليل عَلَى جميع الصفات الفعلية.(1/1744)
ونفي اللغوب والإعياء كما قال تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [قّ:38] ، وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ [الأحقاف:33] ، ونفيه للإعياء يتضمن كمال القدرة، وهذا لا يكون إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير -المعين- مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً [الجن:3] ، وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ [سبأ:22] هذا يتضمن كمال الربوبية والألوهية وكمال القهر، وليس مجرد نفي.
وقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3،4] نفي يتضمن كمال صمديته وأحديته.
وكما أن آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن، فسورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] هي: أفضل سورة في القرآن، وهي {تعدل ثلث القُرْآن} كما قال ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيهما إثبات عظيم وبعده نفي يؤكد كمال الإثبات ففي آية الكرسي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ثُمَّ أكد كمال الحياة والقيومية بقوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] ، وفي سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) ثُمَّ أكد الله كمال وحدانيته وصمديته بقوله: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3،4] .
وهذه هي أصول الصفات، وأصول المدح والثناء، فيأتي بصفة صفة ثبوتية ثُمَّ يعقبها نفي يؤكد كمال تلك الصفة الثبوتية، فلا مدح في النفي العدم المطلق المحض.(1/1745)
ونفي الأكل والشرب المتضمن لكمال صمديته وغناه، ونفي الشَّفَاعَة عنده إلا بإذنه: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] فذكر أولاً كمال الحياة وكمال القيومية، ثُمَّ ذكر ثانياً كمال الغنى وتوحده، فإن المخلوقين جميعاً مربوبون ومقهورون، فقراء إليه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهو الغني عن كل أحد، ومن فضله ورحمته أنه يأذن لمن شاء أن يشفع عنده، فيأذن للشافع المرضي عنه كالأنبياء والملائكة والصالحين والشهداء أن يشفعوا لمن شاء من خلقه من أصحاب الكبائر ومن شاء الله.
ونفى الظلموَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] لإثبات كمال عدله وقسطه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، فلا يظلم أحداً لأنه المتفرد بكمال العدل والقسط والغنى أي: غني عن أن يظلم أحداً من خلقه، وهذا أيضاً يتضمن كمال علمه فإنه يعلم ذنوب العبيد جميعاً، فلا يخفى عليه منها شيء، ويعلم حسناتهم، فلا يخفى عليه منها شيء، وهو في غنى مطلق عنهم، فَلِم يظلمهم؟!
ونفى النسيان وعزوب الشيء عن علمه المتضمن لكمال علمه وإحاطته، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] .
وكذلك نفي المثل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] المتضمن كمال ذاته وصفاته، فهو نفى أن يكون له مثل، ليس لمجرد النفي كما يقول هَؤُلاءِ الجهمية، والقرامطة الباطنية.
وهم درجات، فمنهم من ينفي الأسماء والصفات، ومنهم من ينفي الصفات ويثبت الأسماء، ومنهم من ينفي بعض الصفات ويثبت بعض الصفات، ويثبت بعض الأسماء، ومنهم من يثبت جميع الأسماء منفصلة.
أما أهل الحق أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فإنهم يثبتون جميع الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة.
أماالقرامطة، الباطنية، الإسماعلية: فهَؤُلاءِ ينفون جميع الصفات والأسماء ووصل بهم الغلو إِلَى أن قالوا: " لا يقال موجود ولا غير موجود!(1/1746)
وهذا مما أوجب أن يحكم العلماء بالإجماع عَلَى كفرهم، حتى المعتزلة والأشاعرة وغيرهم يكفرونهم فهم خارجون عن ملة الإسلام والعياذ بالله، متبعون لمذهب بعض كفار اليونان، يقولون: "إن الله لا تدركه العقول فلا يوصف الإله بشيء فلا يُقَالَ: موجود ولا غير موجود".
فالنفي المحض العدمي هو من شأن هَؤُلاءِ الإسماعليين، وغلاة الجهمية شاركوهم في ذلك، فلا يصفون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا بالصفات السلبية، ولا يثبتون الصفات الثبوتية، فيقولون: الله ليس بجاهل، ولا يقولون: عالم، فهم يظنون أن الإثبات يدل عَلَى حقيقة وصفة لا يستطيعون إدراكها، وهذا من الإفك والافتراء عَلَى الله عزوجل.
وأولئك الذين لا يصفونه إلا بالعدم المحض، والذين يصفونه بغير صفاته، ويثبتون له الصاحبة والولد، أو يشبهونه بأصنامهم ومعبوداتهم، أو يقولون بأن يده مغلولة، وما أشبه ذلك، رد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليهم بالمنهج الذي ذكرناه بالقاعدة المذكورة، وهي: " أنه يأتي بالنفي المتضمن مدحاً، ولذا قال المصنف: [فلم يمتدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ لأن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه] .
أي: إذا كانت الصفة عدم محض فإنه لا يوصف بها شيء موجود فضلاً عن الذي هو في كمال الوجود سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن العدم المحض هو صفة الشيء المعدوم الذي لا وجود له، فكيف يجعل هذا الذي لا وجود له مطلقاً مثل الذي له كمال الوجود، هذا لا يليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وعلى ضوء هذه القاعدة نفهم هذه الآية وندرك الاستدلال بها عَلَى خلاف فهم المعتزلة فمعنى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فهذا نفي يتضمن كمال عظمته وكبريائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي أنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يُحاط به.(1/1747)
فلا ينفي الرؤية وإنما ينفي الإحاطة به إدراكاً، وإثبات ضد ذلك هو كمال العظمة، وأنه أعظم شيء وأكبر من كل شيء، فلا تدركه الأبصار؛ ولأنه قد يظن بعض النَّاس بإثبات الرؤية أن الرائين يحيطون به -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إدراكاً إذا رأوه؛ فجاء نفي الإدراك والإحاطة، فلا تدركه الأبصار لكمال عظمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإحاطة بالشيء قدر زائد عَلَى الرؤية.
واستدل المُصْنِّف عَلَى ذلك باستدلال واضح وهو قوله تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61] .
فلما رفض فرعوندعوة نبي الله موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يرسل معه بني إسرائيل وجادله بالمجادلة المعروفة في سورة الشعراء، وأرسل فرعون وحشر الجند والجمع وقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:54،55] واستثار فرعون الشعب ضد هَؤُلاءِ القلة، وهم بني إسرائيل وموسى عَلَيْهِ السَّلام فخرج موسى كما أمره ربه ببني إسرائيل فأتبعهفرعون وجنوده، وهرب بنو إسرائيل وأولئك عَلَى آثارهم فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ يعني: لما رأى بعضهم بعضاً، رأى قومفرعونأصحاب موسى، ورأى أصحاب موسى جيش فرعون.
في هذه اللحظة بالحسابات المادية المجردة انتهى موضوع قوم موسى، لأن الجيش العرمرم القوي الفرعوني سوف يسحقهم، ليس هناك إمكان للنجاة، ولهذا قال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قضي علينا وانتهى أمرنا، فحصلت الرؤية ولكن لم يحصل الإدراك، فهم متراؤن يرى بعضهم بعضاً، قَالَ: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62] قد رأونا ولكن لن يدركونا.(1/1748)
وعليه فالرؤية شيء والإدراك شيء آخر، ولم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك يوجد كل منهما مع الآخر وبدونه، يعني: قد ترى شيئاً فتدركه، وقد تراه ولا تدركه، وقد تدرك شيئاً ولا تراه مثل الأمور الغيبية المعنوية، فتعرف صفاتها ولكن لا تراها بالعين، فالرب تَعَالَى يرى ولا يدرك، كما أنه في هذه الدار في الدنيا نعلم بصفاته وأسمائه ونعوت كماله ولكنه لا يحاط به علماً لا في الدنيا ولا في الآخرة، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والتابعون من هذه الآية.
ثُمَّ قال المصنف: [بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها] يعني: من إدراك صفتها، لقوة الشعاع والعلو والارتفاع والكبر والعظمة، فلا أحد يدرك حقيقة ما عليه الشمس، وبذلك تكون الآية بخلاف ما استدل به المعتزلة وإنما هي شاهد لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ولله الحمد.
فتدل بالدلالة اللطيفة الحسنة عَلَى إمكان رؤية الله وثبوت تلك الرؤية وأنه لا تدركه الأبصار، بل إنما تراه بالكيفية التي يعلمها، لكنها لا تدرك حقيقته، ولا كيفية ذاته من جميع الوجوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما الأحاديث عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم، الدالة عَلَى الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن، فمنها: حديثأَبِي هُرَيْرَةَ: (أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك) الحديث أخرجاه في " الصحيحين " بطوله.(1/1749)
وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً " في الصحيحين " نظيره، وحديث جرير بن عبد الله البجلي قَالَ: (كنا جلوساً مع النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة فقَالَ: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته) الحديث أخرجاه في "الصحيحين ".
وحديث صهيب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ المتقدم، رواه مسلم وغيره.
وحديث أبي موسى عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلا رداء الكبرياء عَلَى وجهه في جنة عدن) أخرجاه في "الصحيحين ".
ومن حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً، فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟! فَيَقُولُ: بلى يا رب) الحديث أخرجه " البُخَارِيّ " في " صحيحه ".
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرَّسُول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء، وإذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يَوْمَ القِيَامَةِ، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك إِلَى غير ذلك من الصفات التي سماعها عَلَى الجهمية بمنزلة الصواعق] اهـ.
الشرح:(1/1750)
الأحاديث التي تدل عَلَى رؤية المؤمنين لربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الدار الآخرة متواترة، قد رواها نحو ثلاثين صحابياً، وتواتر ذلك نقله التابعون وتابعوهم ومن بعدهم، واتفقت الأمة عَلَى ذلك إِلَى أن ظهر أهل البدع الذين لا يعتد بخلافهم، والإجماع أيضاً عَلَى فهم هذه الأحاديث متواتر، فكلالسلف الصالح فهموا من هذه الآيات والأحاديث، حقيقة إثبات رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ويكفينا ذلك دلالة عَلَى أن من خالف هذا الإجماع وهذا التواتر، أنه مكذب لله ولرسوله، وهو ضال مبتدع.
ولهذا عقَّب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في الأخير ببيان أن هَؤُلاءِ يقولون في دين الله برأيهم، وأنهم لا يتبعون الكتاب والسنة في ذلك، فمن الأحاديث التي ذكرها:
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- الطويل في البُخَارِيّ في كتاب التوحيد في باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23] ونفس هذا الحديث يأتي في باب إثبات الرؤية التي أولها وحرفها أُولَئِكَ المبتدعة الضلال، وفيه: أن ناساً سألوا النبي -صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو العليم بربه- قالوا: هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل تضارون في القمر ليلة البدر؟
جاءت برواية "تضارون" بالراء، وفي أخرى "تضامون" بالميم، ولا تعارض بينهما، فلعله لتعدد القصة، وكل منهما يدل عَلَى معنى صحيح، فقَالَ: (هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يارَسُول الله، قَالَ: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قَالَ: فإنكم ترونه كذلك......) ثُمَّ ذكر الحديث وهو حديث طويل.(1/1751)
ثُمَّ ذكر حديث أبي سعيد الخدري الذي يسمى حديث الشَّفَاعَة أو حديث الجهنميين، رواه أَبو هُرَيْرَة وأبوسعيد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأخرجه البُخَارِيّ ومسلم وهو حديث طويل يتضمن أهوال المحشر والموقف إِلَى أن ينتهي الأمر بالشَّفَاعَة وإخراج آخر أهل النَّار وهم المسمون "الجهنميون" الذين يخرجون من النَّار بشفاعة الصالحين الذين يتحنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم برحمته، ويشفعهم فيهم فيكونوا آخر أهلها خروجاً. وفي كل منهما إثبات رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأيضاً حديث جرير بن عبد الله البجلي في الصحيحين قَالَ: كنا جلوساً عند النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إِلَى القمر ليلة أربع عشرة، فَقَالَ لهم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا القمر) ، وهم أفهم النَّاس وأعلم الناس، وهذه إشارة وخطاب يفهمه البدوي والأمي الساذج لأنه كلام واضح، فليس هناك أي لبس يستدعي أدنى شبهة من التأويل أو من تحريف المعنى.
وحديث عدي ابن حاتم الذي أخرجه الإمام البُخَارِيّ -وهذا الحديث ليس فيه دلالة واضحة عَلَى الرؤية- يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وليلقين الله أحدكم يَوْمَ القِيَامَةِ وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فَيَقُولُ: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب، فَيَقُولُ: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فَيَقُولُ: بلى يا رب) .
ويأتي إن شاء الله أن هذا الخطاب ليس خاصاً بالمؤمنين؛ بل هو أقرب أن يكون في مخاطبة الكافرين المنكرين، وأما المؤمنون فمن فضل الله عليهم أنهم مقرون بالرسالة.
واستدل النفاة المعتزلة علىنفي الرؤية بثبوت اللقاء من الله للكافرين والمؤمنين.
فقال بعضهم لأحد أهل السنة: أنتم تثبتون الرؤية؟
قَالَ: نعم.(1/1752)
قال فما تفعل بقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ [التوبة:77] ، فهَؤُلاءِ المنافقون نفاقاً أكبر، وجعل الرؤية لهم كاللقاء..
والجواب: أن اللقاء غير الرؤية، فاللقاء يكون للمؤمنين والمنافقين والكافرين، ولكن الرؤية أمر آخر ولا سيما رؤية النعيم، وأما الرؤية التي تحصل في الموقف والتي يكون المنافقون مشاركون فيها فهذه رؤية الاختبار والامتحان، سيأتي إن شاء الله ذكرها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يُكلم من شاء] فهذه الأحاديث تتضمن أصولاً عظيمة من أصول الصفات، منها الرؤية والكلام، والإتيان والعلو؛ لأنه كما مر أن الله تَعَالَى يكلم الأنبياء، ويكلم الصالحين، يقول: اذهبوا فأخرجوا من وجدتم فيه أثر السجود، فيعرفونهم بعلامة السجود، ويكون لهم علامة. يقول: هل لكم من علامة؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن الساق، ففيه خطاب بين الله عزو جل وبين أهل المحشر، وفيه إثبات الرؤية والكلام، يكلم من شاء بما شاء، وفيه إثبات الإتيان، وأنه يأتي لفصل الموقف يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّاً [الفجر:22] فإنه يأتي إِلَى المحشر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بكيفية لا نعلمها، وفيه إثبات العلو، وأنه فوق العالم كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17] .
كلام الله يكون بصوت خلافاً لتعليق الأرنؤوط
قَالَ: [وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب] . لكن في طبعة الشيخ الأرنؤوط بعد أن ذكر الروايات قَالَ: ولم تثبت صفة الصوت في كلام الله عزوجل أو في حديث صحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذا الحديث الذي رواه البُخَارِيّ تعليقاً بصيغة التمريض. وليس بنا ضرورة إِلَى إثباته.(1/1753)
الرد على من أنكر الصوت من كلام شيخ الإسلام
لأن هذا الشرح قد يلتبس عَلَى بعض الناس، ولأن المسألة أهم من قضية أن إنسان أخطأ أو اجتهد أو علق تعليقاً خطأً، أحببت أن أنقل إليكم كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في مجموع الفتاوى (6/513) ورده عَلَى هذا الزعم بنفسه، -وهو نفي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم بصوت- قَالَ: (.. وليس في الأئمة والسلف من قَالَ: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي، إن قوماً يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت، فقَالَ: "يا بني هَؤُلاءِجهمية، إنما يدورون عَلَى التعطيل".
ثُمَّ ذكر بعض الآثار المروية في ذلك؛ أي: ثُمَّ ذكر عبد الله بن أحمد عن أبيه بعض الآثار، وهي موجودة في كتاب السنة لعبد الله بن أحمد.
ثُمَّ ذكر شَيْخ الإِسْلامِ مصدراً آخر قَالَ: ذكر ذلك البُخَارِيّ في كتابه " خلق أفعال العباد " وذكر أيضاً أن البُخَارِيّ ترجم لذلك في الصحيح الذي أنكره ونفاه الشيخ الأرنؤوط، قَالَ: وليس من طوائف الْمُسْلِمِينَ من أنكر أن الله يتكلم إلا ابن كلاب ومن اتبعه، يعني من الأشعرية، فنخشى أن يكون الشيخ هنا قد اتبع ابن كلاب في هذه القضية.
يقول شَيْخ الإِسْلامِ أيضاً: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف -أي: في نفيه- وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمسانيد، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة، ثُمَّ استدلشَيْخ الإِسْلامِ بأدلة أخرى:(1/1754)
أولاً: ما جَاءَ في القُرْآن من آيات مناداة الله تَعَالَى للمشركين " وناداهم، ويوم يناديهم، ويوم يحشرهم فيناديهم ... وما أشبه ذلك كثير في القُرْآن "، فيقول شَيْخ الإِسْلامِ: إن المناداة تكون بصوت مسموع يسمعه المخاطب، وغير هذا لا يمكن أن يتصور، فالمناداة إنما هي بالصوت والكلام.
الأمر الثاني: تكليم الله تَعَالَى لموسى، فإذا كَانَ النداء والكلام بدون صوت، فما الفرق بين كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لموسى عَلَيْهِ السَّلام وبين وحيه إِلَى أي نبي من الأَنْبِيَاء عن طريق الإلهام، أن يلهمه الله في قلبه كما قال تعالى: وَمَا كَانَ َ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51] .
فهو أحد الحالتين: إما الوحي، أو من وراء حجاب، وأما إرسال الرَّسُول فهو وحي غير مباشر، وأما الوحي المباشر فيكون بالإلقاء أو الإلهام إِلَى الرَّسُول من دون سماع للصوت من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من وراء حجاب أي كلام وصوت من غير رؤية، فحصل لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه نودي بصوت من غير رؤية، فإذا قلنا: لم يسمع موسى صوتاً، فالأمر كله إذاً من القسم الأول وهو مجرد الوحي ولم يسمع شيئاً.
وهذا مما يدل عَلَى بطلان هذا الكلام الذي تكلم به الشيخ الأرنؤوط غفر الله له.
وأيضاً يقول شَيْخ الإِسْلامِ: "إن السلف -المفسرين من السلف - اتفقوا عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلم موسى بصوت، وأيضاً من الأدلة ما جَاءَ في قوله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبه سماع الصوت كأنه سلسلة عَلَى صفوان.(1/1755)
يقول: فمن أراد الوقوف عَلَى الحقائق، وأراد اتباع الدليل الصحيح، ومعرفة ما يصف به ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يدل عَلَى ذلك وما لا يدل، فليواظب عَلَى سماع الأحاديث النبوية، فهو الدليل والمنهج الصحيح الهادي إِلَى الرشاد في معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي معرفة الحلال والحرام والأحكام والآداب والفضائل والسنة.
ففيها إثبات هذه الأحاديث التي إثباتها وسماعها علىالجهمية، بمنزلة الصواعق؛ لأن القوم قد أعموا أبصارهم ولا يريدون أن يسمعوا بأي حال من الأحوال ما يخالف ما استقرت عليه قلوبهم المريضة وعقولهم الضالة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وكيف تُعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله، وسنة رسوله؟ وكيف يُفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم ": من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " وفي رواية: " من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31] . ما الأب؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟
وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله؛ بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال: يُرى لا في جهة فليراجع عقله!! فإما أن يكون مكابراً لعقله أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة] اهـ
الشرح:
حديث: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) حديث ضعيف لأن مدار سنده على عبد الأعلى بن عامر الثعلبي وهو ضعيف، والحديث الآخر أيضاً: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار) حديث ضعيف.(1/1756)
وننبه إلى أن الشيخ ناصر الدين الألباني لما ذكر هذا قال: رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب، فاستدرك عليه الشيخ الأرنؤوط فقال: وقول الشيخ: ناصر الدين الألباني رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث جندب وهم منه! فإن لفظ رواية جندب: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) أخرجه الطبري، فرواية حديث جندب ليست فيها هذا النص وإنما هي (من قال بالقرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) .
ولكن ضعف السند لا يعني بطلان المعنى، والمعنى الذي أراده المصنف رحمه الله صحيح ولا شك فيه، وهو أنه قال: [فكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسول صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟]
فكون القرآن لا يجوز أن يفسر بالرأي ولا بالهوى حتى ولو أصاب من فسره بمجرد الرأي، هذا أصل صحيح وقاعدة صحيحة تدل عليها الآيات والأحاديث الأخرى غير هذا الحديث الذي في سنده من ضُعِّفَ.
ومن ذلك أن نفهم أصل ذلك كله ونعلم أن القرآن هو كلام الله عزوجل، وأن تبيينه وإيضاحه وتفسيره بغير علم، وبالرأي والهوى؛ هو قول على الله عز وجل بغير علم، وحكم ذلك التحريم، قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] وهذه الآية ذكرت فيها المنكرات والكبائر بالتدرج، وأكبر شيء بعد الشرك هو القول على الله عز وجل بغير علم، كأن يأتي إنسان فيضع ديناً جديداً من عنده، ويقول: هذا هو دين الله، وهذا الذي نتعبد الله به هذا أكبر وأعظم من مجرد الإشراك بالله في العبادة.(1/1757)
وكذلك ما ورد في الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يُسئل صلى الله عليه وسلم في الأمر فلا يتكلم حتى ينزل عليه الوحي، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31] ما هو الأب؟
فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم!
وهم أعلم الناس بالقرآن وأفصح العرب وأعلمهم بلغة العرب.
فهؤلاء الذين يعلمون حق العلم ما قاله الله ورسوله، ويفسرونه قد اتفقوا على إثبات رؤيته سبحانه وتعالى وعلى إثبات صفات الله، كما مر عن ابن عباس، وعلي ابن أبي طالب، وأنس بن مالك، وأبي بكر، وحذيفة، وأبي موسى رضي الله عنهم وكلهم - ولله الحمد - فسروا الآيات لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [قّ:35] ووُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22،23] ولِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] .
فسروا النظر وفسروا الزيادة بالرؤية الحقيقية، وكذلك في كل باب من أبواب العقيدة نجد إجماع السلف الصالح، فلا يجوز لنا أن نتقدم عليهم.
وليس المقصود من كلام النبي صلى الله عليه وسلم تشبيه المرئي بالمرئي، وإنما هو تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: رؤيتكم لربكم كرؤيتكم للقمر، ولم يقل: إن ربكم كالقمر أو كالشمس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وهي حقيقية مؤكدة قطعية ليس فيها شك ولا غيم ولا قتر ولا حجاب.
وفيه دليل على علو الله على خلقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر والشمس، ومعلوم أنها في جهة العلو.
والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو، فيقولون: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا أمامه، وينكرون جميع الجهات -كما يسمونها- ويقولون: إنه يُرى لا في جهة!(1/1758)
فنقول لهم كما قال المصنف: من قال: يُرى لا في جهة من غير إثبات الجهة، يعني: من غير إثبات العلو، فليراجع عقله! فإما أن يكون مكابراً لعقله، وإما أن يكون في عقله خلل.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية، وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية بغير جهة.
وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي؛ بل لعجز الرائي، فإذا كَانَ في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته.
ولهذا لما تجلى الله للجبل وَخَرَّ مُوسَى صعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف 134] بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كَانَ البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله، كما أيد نبينا قال تَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8] .
قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا إليه ملكاً لجعلناه في صورة بشر وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم عَلَى أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في وجهه.(1/1759)
ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟ فإن أراد بها أمراً وجودياً كَانَ التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة ولا دليل عَلَى إثباتها بل هي باطله، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر، وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً كانت المقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقاه من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده؛ بل نقلوا نظمة ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن، كما يتعلم الصبيان؛ بل يتعلمونه بمعانية ومن لا يسلك سبيلهم، فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله، ولم يتلقَ ذلك من الكتاب والسنة، فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة، فهو مأجور وإن أخطأ؛ لكن إن أصاب يُضَاعفُ أجره] اهـ. .
الشرح:
موضوع إثبات الرؤية له علاقة بنفس الأحاديث بموضوع إثبات علو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فلما ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا) في الحديث المتفق عليه أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أن يستدرك أن هذا الحديث لا يقتضي أن يشبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالقمر ولا بالشمس، وإنما التشبيه تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي.(1/1760)
ثُمَّ قَالَ: وفي ذلك دليل عَلَى علو الله عَلَى خلقه لأن كلام النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كلا الحالتين -عندما أشار إِلَى الشمس أو أشار إِلَى القمر في الليلة التي كَانَ فيها القمر أو لما قَالَ: (هل ترون الشمس أو ترون القمر ليس بينكم وبينها قتر ولا سحاب) كان يشير إِلَى شيء أعلى وهو هذا المخلوق - الشمس أو القمر - وهو في جهة العلو، فدل ذلك عَلَى علو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى خلقه.
وإثبات علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أعظم ما تدل عليه النصوص والفطر والعقول حتى أن الأدلة عَلَى العلو من القُرْآن والسنة وكلام السلف لا تعد بالمئات فقط، بل قد تكون بالآلاف فالعلو ثابت بالأدلة، وبالنصوص وبالعقول وبالفطر، وأما الاستواء فهو الذي ثبت بالنص فالنَّاس قبل إرسال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى العرب في الجاهلية وغيرهم أصحاب الفطرة كل من يؤمن بالله بفطرته يعلم أنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى فوق المخلوقات ويثبت له العلو، لكن الاستواء لا يثبته له تَعَالَى إلا من قرأ وسمع الوحي ينزل عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا لا يعلم بالعقل ولا بالفطرة وإنما يعلم عن طريق الوحي، وكلاهما يدل عَلَى الآخر.
مذاهب الناس في الرؤية والعلو.
ولما ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ موضوع الرؤي والعلو ناسب أن يذكر الفرقتين اللتين لهما كلام فيه، وهاتان الفرقتان هما: المعتزلة والأشعرية.
فالمعتزلة: ينكرون الرؤية والعلو، والأشعرية يثبتون الرؤية وينكرون العلو.
فقال المعتزلة للأشعرية: مادام أنكم تنكرون العلو إذاً فلتنكروا الرؤية مثلنا.
فالأشعرية قالوا: لا، نَحْنُ نثبت الرؤية.(1/1761)
فقال لهم المعتزلة: إذا أثبتم الرؤية فكيف يُرى أي شيء إلا في جهة، إذاً يلزمكم أن تثبتوا الجهة وأنتم لا تثبتون الجهة، حتى قالوا قولةً أصبحت شبيهة بالمثل، قالوا: (من أثبت الرؤية وأنكر الجهة فقد أضحك النَّاس عَلَى عقله) وهي التي نقلها المُصْنِّف هنا فقَالَ: [من قَالَ: يُرى لا في جهة فليراجع عقله] ووجه ذلك أن الرائي -بغض النظر عن كون المرئي تثبت له الجهة أو لا تثبت- لا بد أنه ينظر من جهة ما، في مكان ما ينظر منه، ولا بد أن يكون المرئي في جهه ما مِنهُ، إما أمامه مباشرة، وإما فوقه، وإما عن يمينه، وإما عن شماله، المهم أنه لا بد أن هناك جهة، فالقول بأن الرؤية تقع وتكون بالعين حقيقة وبدون جهة هذا فيه مكابرة للعقل.
وقالأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ: يلزمكم أيها الأشعرية وأنتم تثبتون الرؤية أن تثبتوا العلو، وقالت المعتزلة للأشعرية: يلزمكم وأنتم تنكرون العلو أن تنكروا الرؤية، فهذه ثلاثه مذاهب: أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يثبتون العلو ويثبتون الرؤية، وهذا هو الذي يتفق مع جميع النصوص، ومع العقل السليم والفطرة السليمة.
والمعتزلة ينكرون العلو وينكرون الرؤية، والأشعرية يثبتون الرؤية ويقولون من غير جهة ولا مقابلة، فأصبحوا يتعاورهم الفريقان: أهل السنة يقولون: يلزمكم أن تثبتوا العلو مادمتم تثبتون الرؤية، وأما المعتزلة فقالوا لهم: ما دمتم مثلنا موافقون لنا في إنكار العلو فيلزمكم أن تنكروا الرؤية أيضاً، فينتهي حكاية كلام المعتزلة إِلَى عند قوله بغير جهة.(1/1762)
يقول: [ولهذا ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات بنفي الرؤية] وقال كلمة [بالذات] ؛ لأن الأشعرية يقولون: العلو بالقهر وبالغلبة وبالسلطان وبالتمكينوَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِه [الأنعام: 18] يقولون: قاهر فوقهم مثل أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاء [الملك:16] يعني سلطانه وقهره وقوته، فلا يثبتون علو الذات وإنما علو القهر والغلبة والملك والتمكين، فلهذا قَالَ: (الذات) لأن الرؤية محلها أو متعلقها الذات وهذا الكلام هو عن الذات وليس عن أي شيء أخر من متعلقات الذات فهو متعلق بالرؤية فَيَقُولُ: [ألزم المعتزلة من نفى العلو بالذات نفي الرؤية] أي يلزمه أن ينفي الرؤية، [وَقَالُوا: كيف تعقل رؤية -بلا مقابلة- بغير جهة] .
والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قال بعد ذلك: وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام -يعني المعتزلة ما ألزموا الأشعرية والماتريدية أيضاً وهم في ذلك تبع لهم- إلا لما وافقوهم عَلَى أنه تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، يعني لم يثبتوا له أية جهة من الجهات، ولكن يستدرك المُصْنِّف فَيَقُولُ: [لكن قول من أثبت موجوداً يُرى لا في جهة، أقرب إِلَى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يُرى ولا في جهة] يقول: مع هذا الإلزام القوي من المعتزلة للأشعرية إلا أن المعتزلة أبعد، فهم يثبتون ذاتاً عَلَى الحقيقة قائمة بنفسها، ومع ذلك ليست في جهة، ولا يمكن أن تُرى، وأما أُولَئِكَ فإنهم أنكروا الجهة وأثبتوا الرؤية فهم أخف منهم في هذا الجانب، وإن كَانَ من حيث العقل المجرد -بالنسبة للمعتزلة على الأقل ومن نحا نحوهم- يرون أن مذهب الأشعرية هو الذي أبعد عَلَى العقل، لكن المُصْنِّف يرى أن الذي نفى الجهة ونفى الرؤية معاً أبعد في العقل من الذي أثبت أحدهما، وينتهي كلامه عن المعتزلة عند قوله: بلا مقابلة بغير جهة.(1/1763)
يذكر المُصنِّفُ أننا لم نر الله في الدنيا لعجز أبصارنا، يعني هذا من الأدلة العقلية والحجج والبراهين التي يقولها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أثبتوا الرؤية بالأدلة الشرعية وناقشوا أدلة المعتزلة فيها.
ثُمَّ أخذوا أيضاً يكلمونهم بالعقل السليم الصريح، فيقولون: إنما لم نره في الدنيا لضعف أبصارنا، فإن قُوْىَ الإِنسَان وإدراكاته في الحياة الدنيا محدودة، فلا تستطيع أن ترى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وليس لأن الرؤية مستحيلة.
وضرب لذلك مثالاً بهذا المخلوق الذي يبعث النور في الأرض وهو الشمس فإن الإِنسَان لا يستطيع أن ينظر إِلَى الشمس ويتأكد من حرها وحجمها؛ لأن شعاعها ونورها يُعشي عينه، فهو أقوى من أن يطيقه بصره وحاسته، وليس ذلك لأن الشمس ليس بالإمكان أن ترى لكن لضعف الحاسة، فإن قويت وتضاعفت فإنها تستطيع أن ترى الشمس عَلَى حقيقتها وجرمها كما تشاء.(1/1764)
أما بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فنقول: إنه لا يرى في هذه الدار التي فيها هذا الضعف، وإنما يرى في الدار الآخرة حيث يكون الإِنسَان خلقاً آخر في قواه وفي إدراكاته، فذلك عالم آخر والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يمن عَلَى المؤمنين بأن يعطيهم القدرة عَلَى أن يروه جل شأنه كما يليق بجلاله وعظمته، فيطيقون ذلك يَوْمَ القِيَامَةِ مع أنهم لا يطيقون هذا في الدنيا، فيستدل المُصنِّفُ عَلَى ذلك بنفس الآية التي سبقت وهي آية الأعراف عندما طلب موسى عَلَيْهِ السَّلام أن يرى ربه، فَيَقُولُ: ولهذا لما تجلى الله للجبل خر موسى صعقاً، فلما أفاق قَالَ: سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143] أي: يقول: وأنا أول المؤمنين بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا جمادٌ ولا يابس إلا تدهده، والجبل عَلَى عظمته لما حصل له التجلي، فإنه تدهده وتحول إِلَى حطام، وهذا لعجز الإِنسَان ولعجز حتى الجماد في هذه الحياة الدنيا عن تحمل تجلي الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1765)
ثُمَّ يستدل عَلَى ذلك بشيء آخر فَيَقُولُ: ولهذا كَانَ البشر لا يطيقون أن يروا الملك عَلَى حقيقة الملائكة الذين هم من خلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن أجسامهم نورانيه عظيمة، لا يستطيع الإِنسَان أن يتحملها وأن يراها في هذه الحياة الدنيا فكيف برؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا من أقدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رؤية الملك كما أقدر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقدره عَلَى أن يرى جبريل، وقد رآه مرتين عَلَى خلقته التي خلقه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليها، له ستمائة جناح كل منها ملء الأفق، وهذا شيء لا يمكن للإنسان أن يتصوره ولا أن يستوعبه، حتى قال الإمام عبد الله بن المبارك -وهو من أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (ما هَؤُلاءِ الذين يخوضون في الصفات؟! إن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا أن لجبريل ستمائة جناح، وإنما يعلم النَّاس أن للطائر جناحين فأين يكون الثالث) يعني: أن العقل البشري حينما يريد أن يتخيل طائراً فإنه يتخيله بجناحين هذا هو الذي يتخيله الإِنسَان، فأين يكون الثالث؟ فضلاً عَلَى الرابع، فضلاً عن الستمائة جناح، كيف تكون؟ هذا شيء لا يستطيع الإِنسَان أن يتخيله عَلَى حقيقته، فكيف ينكر فيما هو أعظم من جبريل ومن كل المخلوقات وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: 67] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أن تدركه الأبصار أو تحيط به العقول والأنظار.
يقول المُصنِّفُ في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ [الأنعام: 8] قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته.(1/1766)
إنَّ من العلل الواهية التي تعلل بها المكذبون للأنبياء أنهم قالوا: مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [الشعراء: 154] ، إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [إبراهيم:10] فكيف نؤمن بأنكم أنبياء من عند الله؟ نريد أن يكون النبي ملكاً من الملائكة، فرد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم في مواضع منها هذا الموضع في سورة الأنعام وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ [الأنعام:8] يُحتمل المعنى: أنه لو أنزلنا ملكاً لم يستطيعوا أن يروه فيموتوا، ويحتمل: أنه لو أنزلنا ملكاً أن يروه كَفَرُوا به لاستحقوا العقوبة العاجلة بخلاف ما إذا كَانَ المخاطب لهم من أنفسهم؛ لأن الملك هذا من عالم الغيب، فأصبح في عالم الشهادة، يكلمهم ويخاطبهم، فحينئذ لا ينفع التكذيب ولا الرد ولا الجدال ولا يقبل عَلَى الإطلاق، إما أن يؤمنوا ويذعنوا فوراً وإما إن يحيق بهم العذاب من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن عندما يأتي بشر مثلهم فيدعوهم إِلَى الله فَيَقُولُ: إنه يوحى إليّ من الله، إذا أمنوا بنبوته فإنهم يؤمنون فعلاً عَلَى الغيب لا عَلَى الشهادة، فإذاً لم تأتهم الآية وإذا أتت الآية ورأوها عياناً فما بعدها إلا العذاب كما رأى قوم صالح الناقة مبصرة، فماذا حصل لهم لما عقروها؟ أهلكوا.
أصحاب المائدة توعدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه بعد أن ينزلها عليهم فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة: 115] لأنهم يرون الغيب شهادة، فكذلك بالنسبة للأنبياء فمن رحمة الله عَزَّ وَجَلَّ أنه أرسل الرسل من البشر ليكون هناك مجال للأخذ وللجدال وللنقاش، ولا يأتي العذاب المفاجئ، هذا أمر.(1/1767)
والأمر الآخر وهو أظهر وأوضح في الحكمة أن النبي إذا كَانَ من الملائكة، وقال لهم: اتقوا الله لا تسرقوا ولا تزنوا ولا تخونوا الأمانة ولا تفعلوا كذا وكذا، ورأوه يلتزم بعمل ذلك لأنه بطبيعة الحال لابد أن النبي يلتزم ويعمل بما يدعو إليه، قالوا: هذا ملك ولكن نَحْنُ بشر مركب فينا الشهوة، والضعف، والذنب، إذاً لا تناسب.
فمن حكمة الله ورحمته ولطفه أنه جعل الأَنْبِيَاء أيضاً من البشر، فليس هناك مجال للاعتذار، صحيح أنه لن يبلغ أحد من غير الأَنْبِيَاء مبلغ الأنبياء، ولكن مع ذلك تظل القدرة، وتظل إمكانية المتابعة والتأسي، ويبرز في الأمم التي بعث فيها الأَنْبِيَاء صديقون يقربون من درجة النبوة، كالأئمة العشرة المبشرين بالجنة ومن قاربهم من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الأمة، فهَؤُلاءِ أقرب النَّاس إِلَى مرتبة النبوة لأنهم كانوا في أخلاق وإحسان وتقوى الأَنْبِيَاء وتأسوا بخاتم الأَنْبِيَاء والمرسلين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاربوهم في هذه الدرجة -درجة البشرية- فيكون الاقتداء وارداً وممكناً بخلاف ما إذا كَانَ هذا النبي من جنس آخر، ومن الحيوان المخلوق من لا يستطيع الإِنسَان رؤيته فضلاً عن الملك، أي أن الإِنسَان قدرته ونظرته محدودة وهذا لا يناسب موضوع الرؤية هنا، وقد قال ابن قتيبة -رَحِمَهُ اللهُ-: إن من الحيات نوع يموت الإِنسَان بمجرد أن يراه نوع مفزع مخيف وفي عينه شعاع خاص بمجرد أن يراه الإِنسَان يموت من عدم تحمل رؤية هذا الحيوان.
يقول المصنف: [ويُقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها -وهو الجهة- وهم المعتزلة: أتريدون بالجهة أمراً وجودياً أم أمراً عدمياً؟]
ما المقصود بالجهة؟(1/1768)
إما أن تكون أمراً وجودياً أي: شيئاً موجوداً اسمه الجهة، أو حيزاً معيناً يُقال له الجهة من ضمن الموجود في هذا الكون، هذا شيء، وإما أن تكون الجهة أمراً عدمياً، يعني شيئاً مثلياً إضافياً، لا شيئاً موجوداً بذاته أو مميزاً بذاته.
لا يخلو مرادهم بالجهة من هذين الاعتبارين، وعلى ذلك نقول لهم: إن كَانَ المقصود بالجهة الحيز والشيء الوجودي، فنحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا نثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجهة بهذا الاعتبار؛ لأننا في الأصل لا نقول كلمة "الجهة" كما سبق، وإنما نقول: العلو، فنثبت له العلو، لأن الكلمات التي فيها لبس والتي تُحتمل معنيين لا نثبتها ولا نذكرها إلا مبينين أو مفسرين لِمَا نريد أن نقول.
فـ"الجهة" هنا ليس أمراً وجودياً، يعني ليس ظرفاً أو حيزاً معيناً، فالأرض جميعاً قبضته يَوْمَ القِيَامَةِ والسماوات مطويات بيمينه، والكون كله في يده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالخردلة في يد أحدكم، إذاً ليس هناك شيء يسمى جهةً أو ظرفاً وجودياً بمعنى أنه يحويه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس هذا مرادنا، فلا حجة علينا بقولكم لنا: إنكم تثبتون الجهة فيلزم منها كذا ويلزم منها كذا ... إلخ لا حجة لكم علينا لأنا لا نثبت ذلك، ومع ذلك فإن كون الجهة أمراً وجودياً كما ذكر المُصنِّفُ هنا لا يعني النفي.
لأنه يقول: تقدير دليلكم أن تقولوا: كل ما ليس في شيء موجود لا يُرى، يعني كأنهم يقولون: أي شيء ليس في شيءٍ موجودٍ لا يرى، فَيَقُولُ: هذا ليس بلازم، لا يلزم أنه لا يرى بمجرد أنه ليس في شيء موجود، ويستدل عَلَى ذلك بقوله: إن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر، يعني سطح العالم يمكن أن يرى، وهو ليس في شيء آخر بل هو ذاته نفسه يمكن أن يرى، فهذا إن قلنا: إن الجهة أمر وجودي.(1/1769)
وأما إذا قلنا: إن الجهة أمر عدمي أو أمر اعتباري -وهذا هو الذي يقوله أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقولون: إن الجهة أمر اعتباري وليس أمراً وجودياً- فالنملة إذا كانت تسير في هذا السقف فأين العلو بالنسبة لها؟ وبيتها وحبها وحياتها وكل شيء فوق -كثير من الحشرات تعيش فوق- فالعلو بالنسبة لها نحن، لكن نَحْنُ العلو بالنسبة لنا فوق، بالعكس إذاً الجهة عندما نقول: "العلو" هل هي أمر وجودي حقيقي أم أمر نسبي باعتبار إضافي؟ فبالنسبة للنملة نَحْنُ أسفل، لكن بالنسبة لنا هذا هو الفوق ونشير إِلَى النملة، ولكن النملة فوق بالنسبة لِمَا هو أسفل، وهكذا هذه قضية نسبية اعتبارية، والذي يجلس عَلَى يمينك يقول: فلان عَلَى يميني، وآخر يقول: فلان عَلَى يساري؛ لماذا؟
لأن الجهة ليست شيئاً موجوداً، ليس هناك شيء موجوداً اسمه الشمال، ولا شيء موجود محدود اسمه اليمين؟ ولا فوق ولا تحت؟ كلها أمور اعتبارية نسبية، فهذا يمين بالنسبة لهذا، وهذا يسار بالنسبة لهذا، وهذا فوق بالنسبة لهذا، وهذا تحت بالنسبة لهذا.
وبهذا نعرف أنه لا يلزم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من إثبات أن الله تَعَالَى فوق المخلوقات وإثبات العلو له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون محصوراً أو محدوداً في حيز وجودي يُسمى الجهة، ولكن بالنسبة للمخلوقات هو أعلى منها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما الجهة بذاتها فليست شيئاً وجودياً مادياً محسوساً خارجاً، ومن هنا فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرى.(1/1770)
وقولكم بأنه يلزم من إثبات الرؤية إثبات الجهة لا معنى له، مادام أن الجهة أمر نسبي اعتباري، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرى، وتجوز رؤيته، هذا بالأدلة العقلية، ولقد أثبتنا ذلك بالأدلة الشرعية، ولكن نتكلم الآن بالأدلة العقلية وننقض أدلتهم العقلية، فالمخلوق الرائي لابد أنه في جهة، فباعتبار المخلوق الرائي الناظر لابد أن يرى شيئاًٍ في جهةٍ ما، ففي أي جهة يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ وهي الجهة التي يدعى في الدنيا فيها نقول: في جهة العلو، يعني: بالنسبة للإنسان، لا بالنسبة لكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحيط به شيء وجودي معين اسمه الجهة بمعنى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -كما يقولون- مثل المخلوقات التي تكون في حيز، تَعَالَى الله عن ذلك علو كبير.
ونجد أن أهل العلم من أهل السنة كالمصنف هنا أو شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أو غيرهما يضطرون إِلَى الإثبات بهذه الأدلة، وهذه الأمثلة العقلية، لنبين فساد أقوالهم بالعقل والنقل لا لأننا نحتاج إِلَى أن نقرر ونثبت صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه الطرق، ولكن لأننا نقول: نَحْنُ نثبت بطلانها في الجهتين العقلية والنقلية، ولنثبت أن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هو الذي يستقيم مع الأدلة، ومع العقول السليمة، ومع الفطرة المستقيمة في آن واحد.
أصل الضلال الانحراف في منهج التلقي
ثُمَّ أخذ المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يعقب عَلَى هذا فَيَقُولُ: [وكيف تكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة] .
وأساس الخلاف والإشكال وأساس ظهور الفرق وخروجها عدم التلقي، والأخذ من الكتاب والسنة فبعضهم أخذ بالعقل مثل المعتزلة، والاشعرية، والماتريدية، وبعضهم قَالَ: نأخذ بالكشف والذوق والوجدان مثل الصوفية ومن نحى نحوهم.(1/1771)
وبعضهم كـ الباطنية، والرافضة قالوا: لا من الكتاب ولا من السنة ولا من العقل ولا من الكشف، ولكن عن طريق الإمام المعصوم، وهذا الإمام المعصوم هو بالنسبة لالرافضة الذي في السرداب، ومعه العلم الباطني، ويأخذون علمه عن طريق النواب والحجاب الذين جعلهم نواباً وحجاباً له، ولهذا فمنهج التلقي عندهم أنهم لا يأخذون من كتاب الله ولا من صحيح البُخَارِيّ ولا من صحيح مسلم وهم ينكرون الرؤية وينكرون هذه الصفات، ولكنهم يتلقون من الرقاع، وكيفية ذلك: أنهم ينامون وفي الصباح يذهبون إِلَى شجرة من الشجر ويجدون فيها رقاعاً، تقول: اعملوا أو اتركوا، ويقولون: إن الإمام المعصوم ألقى ذلك، أو أوحى به إِلَى بعض النواب ويكتبون هذه الرقاع ويلقوها، فتتلقى الأتباع منها العلم وينفذونه، ولهذا حصل أن أحد اليهود وكان يكتب لهم رقاعاً يقرؤنها، فكتب مرة من المرات: استوصوا بفلان اليهودي خيراً ووضعه في رقعة في شجرة، فلما قرأها الرافضة في اليوم الثاني ملأوا بيت ذلك اليهودي من الذهب والفضة وفرحوا به لأنهم وجدوا رقعة من العلم من الإمام المعصوم المحجوب أنه قال:استوصوا بهذا اليهودي خيراً، هكذا يبلغ سخف العقول.
إن الله عَزَّ وَجَلَّ أعطانا المصدر الكتاب والسنة الصحيحة أفنعدل عنها إِلَى أمثال هذه التوافه؟!(1/1772)
وكذلك هَؤُلاءِ الصوفية وأمثالهم -كما ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ- يظنون أن الصحابة إنما كانوا يتلقون القُرْآن كما يتلقى الأطفال الصبيان، يحفظون ألفاظاً لا معنى لها، ولذلك يحتاجون إِلَى مصدر آخر يقول أحدهم: بحثت وفكرت في الصفات فوجدت أن النَّاس ما بين مجسم، ومشبه، ومعطل، ومؤول، فيحتار في أمرهم فَيَقُولُ: فلا سبيل إِلَى معرفة ذلك إلا بالكشف، فيتعبد ويذكر الله وينام لعله يرى رؤيا في المنام أو يلقى في قلبه شيء، وأبو حامد الغزالي في كتاب قواعد العقائد، وهو أحد الكتب من كتب إحياء علوم الدين رجح طريق الكشف، وقَالَ: إن الإِنسَان يحتار بين أهل التأويل وبين أهل التجسيم، والطريق الصحيح لمعرفة ما يؤول لا يعلم إلا بالكشف، سُبْحانَ اللَّه! قد ينكشف لواحد إثبات أشياء لم ترد لا في كتاب ولا في سنة، والآخر انكشف له ثلاث صفات أو صفتين، فكيف نعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذاً؟
رد المصنف -رحمه الله- على هؤلاء المنحرفين
يرد المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَى هَؤُلاءِ جميعاً فَيَقُولُ: [كيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة وإنما يتلقان من قول فلان؟ وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسيركتاب الله من أحاديث الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة الذين تخيرهم النقاد] .(1/1773)
فالذين لا يأخذون الدين من المصدر الصحيح فمن أين يأخذونه؟ ولهذا فإن كل أحد يمكن له أن يسأل أي إنسان واجهه من المعتزلة أو الاشعرية أو الماتريدية هذا السؤال: ما الدليل من كتاب الله أو من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته؟ ولا يوجد أبداً، فيقال لهم: إذاً أنتم لا تأخذون من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!.
وإما أن يأخذوا من القرآن، ولكن لم يأخذوا تفسير كتاب الله عن الصحابة وعن علماء السلف، وهذا يمكن أن تزل فيه الأقدام وتضل فيه الأفهام؛ لأن القُرْآن حمالُ وجوهٍ " كما قال عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وغيره، فالقرآن حمال وجوه، أي: بعض الآيات تحتمل وجوهاً فمن يبين لنا؟ قال تَعَالَى:وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ [النحل: 44] فالذي يبين للناس ما نزل إليهم هو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن أعلم النَّاس بالكتاب والسنة؟ لا شك أنهم الذين قرأوه وفهموه وعرفوا معانيه ومعاني السنة أقصد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ العلماء الذين من بعدهم، فما شرحوا به كتاب الله نقوله، وما لم يشرحوه، ولم يبينوه لا نبينه، فنجدهم يقولون: إن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يدين حقيقة، صفة من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن هَؤُلاءِ الضلال يقولون مثلاً: إن اليد تأتي بمعنى القدرة، وتأتي بمعنى النعمة، وتأتي بمعنى كذا، ومع أنهم قد يأتون بما يدل عَلَى ذلك من شعر العرب لكن لا يستطيع الواحد منهم أن يأتي بواحد من الصحابة نفى اليد عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ففهم الصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم مقدم وهو الحجة وكذلك العين والساق وأمثال ذلك من صفات الله.(1/1774)
فالمسالة في أصلها تعود إِلَى التلقي إما من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من الفهم لها كما فهمها الصحابة وكما فهمها العلماء الثقات الذين يؤخذ عنهم هذا العلم ويؤخذ منهم الدين، فالصحابة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، والسلف لم ينقلوا نظم القُرْآن وحده، -يعني الألفاظ وحدها- وإنما نقلوا اللفظ والمعنى، ولم يكونوا يتعلمون كتاب الله كما يتعلم الصبيان الذين لا يستطيعون أن يستوعبوا المعاني، وإنما يحفظون الألفاظ؛ فهذا سوء ظن بأفضل جيل.
وذكر المُصْنِّف أن من لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه وبالهوى المجرد، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب، وبالعكس من أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لأنه ليس كل إنسان يوفق للفهم الصحيح في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل قد يفهم خطأ، كما وقع ذلك حتى في جيل الصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم، لكن إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، أما من أخذ من غير الكتاب والسنة فهو آثم، وإن أصاب، فلو جَاءَ أحدهم وقَالَ: أنا أثبت العلو لله كابن رشد مثلاً فإنه يثبت كثيراً من الصفات التي تنكرها الأشعرية -وكان عدواً شديداً للأشعرية.
يقولون: نثبت بالعقل وبالرأي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العالم.
ولو قيل: ما رأيكم في الكتاب والسنة؟
لقالوا: لا، هذه تحتمل وظاهرها فيه تشبيه، نَحْنُ نثبت بالعقل.
فيقال لهم: هذا أثم، وإن كَانَ الكلام صواباً؛ لأنه لم يتبع الحق من منبع المحق ومن مصدر الحق وهو الكتاب والسنة، فنقول: ليس عقلك هو مصدر التلقي ولا مصدر الإثبات إلا في المجالات التي هي من شأن العقل وهي المجالات الاجتهادية لكن كلامنا في الدين وفي الاعتقاد، وفي الصفات، فلا يستطيعها العقل وليس في مجاله ولا من اختصاصه.
قال المصنف رحمه الله:(1/1775)
[وقوله: [والرؤية حق لأهل الجنة] تخصيص أهل الجنة بالذكر، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌA> [الأحزاب:44] .
واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال:
أحدها أنه لا يراه إلا المؤمنون.
الثاني يراه أهل الموقف مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف] اهـ.
الشرح:-
قد مر معنا حديث عدي بن حاتم وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: أولم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب، يقول: ألم أزوجك؟ فيقول: بلى يا رب) إلى أخر الحديث الذي سبق وقد ذكرنا أن اللقاء لا يستلزم الرؤية، يعني: أن الاستدلال بهذا الحديث على إثبات الرؤية فيه نظر؛ لأن مجرد اللقاء لا يستلزم الرؤية، لأن في الحديث: (ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك) وهذا يقال في حق الكافر، فهل نستفيد من هذا الحديث أن الكافر يرى الله عز وجل أم لا؟(1/1776)
فالمسألة موضع نظر، ولهذا لا يذكر هذا الحديث ضمن الأحاديث التي نستدل بها على رؤية الله تبارك وتعالى، وإنما ضمن الأحاديث التي هي محل نظر، والإمام الطحاوي توفي في أوائل القرن الرابع، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية إن الخلاف -هل يرى الكفار الله عز وجل أو لا يرونه- إنما نشأ بعد المائة الثالثة، يعني نستطيع أن نقول: إن الإمام الطحاوي لم يدرك هذا الخلاف وإنما تكلم بما كان عليه عامةالسلف، وهو أنهم يتكلمون بأن المؤمنين يرون ربهم وكان أهل البدع ينكرون ذلك، ويقولون: إن الله لا يُرى، فكان الخلاف محصوراً في هل يُرى أولا يُرى؟ والذين يقولون يُرى وهم أهل السنة يقولون: المؤمنون يرون ربهم، وأولئك قالوا: لا يرى مطلقاً.
وبعد الثلاث مائة نشأت قضية أخرى وهي: هل يراه الكفار والمنافقون أو لا يرونه؟ وهذه قضية اجتهاد ونظر، أي: ليست هذه من الأمور التي تؤثر في الاعتقاد والدين سواء قيل الكفار يرونه أو لا يرونه ولكن بالقيد الذي سنذكره، وليست مسألة محنة ولا فتنة، وهنا سنقف قليلاً لذكر قصة وقعت في زمنشيخ الإسلام ابن تيمية حول هذا الموضوع لنأخذ منها العبرة.
فأهل البحرين في زمنشيخ الإسلام ابن تيمية كان فيهم علماء وصلحاء، فحصلت بينهم فرقة وشقاق، وتهاجر وعداوة من أجل هذه القضية، هل الكفار يرون الله أم أنهم لا يرون الله وهم متفقون على أنه ليس في الجنة قطعاً، فالكفار لا يدخلون الجنة، لكن قالوا: في أثناء الحشر قبل الحساب، هل يرونه أو لا يرونه؟ وتهاجروا وتقاطعوا واختلفوا في هذه المسألة فكتبوا إلىشيخ الإسلام ابن تيمية ولما بلغه ذلك رضي الله تعالى عنه كتب إليهم ليهون عليهم الأمر.(1/1777)
ويقول: إن من أمور الدين ما هي أمور معلومة بالقطع، وبالدليل الجلي وهذه هي الأمور التي يجب على الإنسان أن يظهرها وأن يدعو إليها، ولو أوذي في سبيل ذلك وأن يجاهد في ذلك ويتحمل الأذى أو أن يقاطع وأن يهجر من أجل ذلك، وهناك أمور ليست من هذا القبيل، وإنما هي محل نظر واجتهاد، فلا يمتحن فيها الإنسان، ولا يهجر من أجلها ولا يؤدب ولا يعزر، بل غاية ما يقال: إنه مخطئ ومنها هذه القضية.
فنحن في حاجة دائمة إلى أن نعرف ما هي الأصول التي نوالي ونعادي فيها، وما هي الأمور التي تقبل الخلاف، فلا نجعلها هي محل الإثارة والإشكال في مجالسنا أو مع العلماء، هل هذا هو المخطئ أم هذا هو المصيب، هل نضع اليدين قبل الركبتين أو العكس، هل نضع اليدين بعد الرفع من الركوع أم لا نضع ... الخ.
هذه الأمور التي لا يترتب عليها شيء وليس على المسألة امتحان ولا ابتلاء ولا هجران ولا تبديع ولا تفسيق، يجب أن نحذر من الخلاف فيها، وأن نضع الشيء في موضعه، فنحن أحوج ما نكون إلى أن يكون شباب أهل السنة والجماعة يداً واحدة على أهل الشرك والبدعة والفجور، بدلاً من أن يكون موضوع أحاديثهم وموضوع لقائهم مع علمائهم هو أمثال هذه القضايا، أقول الذي يقرأ رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية يجد الناحية التربوية والدعوية فضلاً عن الناحية العلمية، فهي في الجزء السادس من مجموع الفتاوى تبتدئ من صفحة (465) .
ترجيح شيخ الإسلام بأنه لا يراه إلا المؤمنون.
ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ثلاثة أقوال:(1/1778)
القول: بأنه لا يراه إلا المؤمنون ومن أقوى الأدلة عَلَى ذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15] وكل ما سبق أن ذكرناه من الآيات والأحاديث يستدل به هَؤُلاءِ ويقولون: إن الكفار لا يدخلون في ذلك، أي: لا يدخلون في النعيم ولا فيما يتعلق بالنعيم، وهو أمر معلوم، إذاً فلا يرون ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أي موقف من مواقف يَوْمَ القِيَامَةِ.
أما الذين قالوا: إن الكفار يرونه فيقولون: نَحْنُ نقول: إنهم يرونه وقت الحساب فقط، ويستدلون بعموم ما جَاءَ في الأحاديث، منها: حديث أبي سعيد الخدري وحديث أَبِي هُرَيْرَةَ الذي أوله أن ناساً قالوا: يا رَسُول الله هل نرى ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تضارون في رؤية القمر ... الخ.
وحديث جرير وأبي سعيد (كنا جلوساً عند رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأشار إِلَى القمر وقال لهم ذلك، الحديث بطوله وفيه يقول الله عَزَّ وَجَلَّ بعد ذلك: من كَانَ يعبد شيئاً فليتبعه، فيذهب الذين يعبدون الطواغيت، ويأتي اليهود والنَّصَارَى فيمثل لهم شيطان عزيز وشيطان المسيح.....) الخ كما جَاءَ في الحديث، فيقولون: إن هذه الرؤية تحصل لأهل المحشر جميعاً والحديث فيها عام.
وأيضاً في حديثأبي رزين العقيلي قَالَ: يا رَسُول الله: كيف يرى الخلائق ربهم وهو واحد؟ فَقَالَ ألا ترى أنهم جميعاً ينظرون إِلَى القمر وهو واحد قَالَ: بلي فيستدلون بنفس الأحاديث في الرؤية لكن بعمومها، وأنها تدل عَلَى أنه لا فرق بين المؤمنين وبين الكفار في الرؤية التي قبل الحساب.(1/1779)
وفصلت فرقة ثالثة وقالت: إن نفس هذه الأحاديث جَاءَ في بعضها ما يفصل وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يأتي الخلائق في صورة غير الصورة التي يعرفون، فيسألهم ويمتحنهم، ثُمَّ ينفض الكفار، وتذهب كل فرقة أو طائفة من الكفار مع طاغوتها الذي كانت تعبده، فتبقى هذا الأمة ومعها منافقوها، فيتجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا رأوه خروا سجداً، والمؤمنون يسجدون والمنافقون تكون ظهورهم كالخشبة فلا يسجدون، فهذا دليل عَلَى أن المنافقين يرون الله وأن الكفار لا يرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والكلام كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وكما ذكر المُصْنِّف هنا أن الأمر فيه هين -ولله الحمد- وذلك بأن يقالأهل السنة جميعاً: متفقون عَلَى أن رؤية الإنعام والتكريم والتلذذ لا تكون إلا للمؤمنين في الجنة هذا أمر معلوم وقطعي متفق عليه.
فبقي إذاً مسألة الرؤية أثناء الحساب وأثناء العرض، إن وقعت للكفار فليست تكريماً ولا تنعماً، وإنما هي إقامة للحجة، وإن لم تقع لهم، فهي أيضاً من ضمن العقوبات، هذا ما يجعلنا نخرج من الخلاف، حتى أن شَيْخ الإِسْلامِ في آخر هذه الرسالة قَالَ: إن الوقت لا يتسع للترجيح فيها، ولكن ليست بذات الأهمية التي لا بد أن نرجح فيها، فنحن يكفينا هذا، وهو أن نعلم: أنه إن ثبتت الرؤية للكفار في حال الحساب وما قبله، فهي ليست رؤية التنعم والتلذذ والإكرام، وإنما هي رؤية لإقامة الحجة وللمحاسبة وللعقوبة.
وأما التي بالإجماع ولا ينالها الكفار ولا المنافقون إنما هي للمؤمنين، فهذه الرؤية التي هي للنعيم، وهي رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، هذه الرؤية التي تُنَضِّرُ الوجوه، وهذه هي الزيادة التي يعطيها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهل الجنة، ويحسن بها إليهم فوق إحسانه إليهم بإدخالهم الجنة، هذا ما يقتضيه المقام هنا.
من سوى النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى الله في الدنيا بعينه بالاتفاق(1/1780)
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى:
[واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة، منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- ومن بعدهم في رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنكار عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها أن يكون صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لمسروق حين سألها: هل رأى مُحَمَّد ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت، ثُمَّ قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب.
ثُمَّ قَالَ: وقال جماعة بقول عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- وهو المشهور عن ابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ واختلف عنه وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين، وعن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينه.
وروى عطاء عنه: رآه بقلبه ثُمَّ ذكر أقوالاً وفوائد ثُمَّ قَالَ: وأما وجوبه لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه عَلَى آية النجم والتنازع فيها مأثور والاحتمال لهما ممكن، وهذا القول الذي قاله القاضي عياض -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنه إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عَلَيْهِ السَّلام؛ لكن لم يرد نص بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعين رأسه بل ورد ما يدل عَلَى نفي الرؤية، وهو: ما رواه مسلم في صحيحه عنأبي ذر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سألت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ فَقَالَ: (نور أنَّى أراه) وفي رواية (رأيت نورا) .(1/1781)
وقد روى مسلم أيضاً عنأبى موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قَالَ: (قام فينا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات، فقَالَ: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النَّار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فيكون -والله أعلم- معنى قوله لأبى ذر (رأيت نوراً) أنه رأى الحجاب ومعنى قوله: (نورٌ أنى أراه) النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟ أي: كيف أراه والنور حجاب بينى وبينه يمنعنى من رؤيته؟ فهذا صريح في نفي الرؤية والله أعلم، وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة عَلَى ذلك ونحن إِلَى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة.
وقوله: بغير إحاطة ولا كيفية -هذا لكمال عظمته وبهائه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يحاط به علما، قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام: 103] وقال تَعَالَى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه: 110] اهـ.
الشرح:(1/1782)
يقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: [واتفقت الأمة عَلَى أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه] هذه قاعدة عظيمة وإجماع متواتر لا يشك فيه عالم بدين الله تعالى، ولا يماري فيه ولا يدعي خلافه إلا زنديق أو جاهل، وهو أنه لا يرى الله تَعَالَى أحد في هذه الدنيا جهرة، ولو كَانَ ذلك حاصلاً لأحد من الأولياء أو من العباد لكان كليم الله موسى أولى به، بل الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم الخلق عَلَى الله وأعظمهم ولاية وقربة من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وأرفعهم درجة وهو الذي وصل عنده في ليلة الإسراء والمعراج إِلَى الغاية التي لم يصل إليها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ومع ذلك فإنه لم ير ربه بعينه في الدنيا وعلى هذا يدل الحديث الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت) ،(1/1783)
ولم يخالف في ذلك أحد من أئمة الإسلام وعلمائه المعتبرين -والْحَمْدُ لِلَّهِ- وإنما وردت في كتب الصوفية الزنادقة -الذين يتمسحون بالتعبد والتأله والتزهد، وهم زنادقة فجرة- نقل عنهم أنهم يرون ربهم وأنهم يثبتون ذلك للأولياء أو الأقطاب، وقد أفتى العلماء ومنهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، بأن من قَالَ: إن أحداً من الأقطاب أو الأولياء أو الأوتاد يرى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعينه في هذه الحياة الدنيا، فإنه يبين له الدليل، فإن تاب وإلا قتل، ويكفر إذا كَانَ يعتقد أن في ذلك تفضيلاً، فإذا بُين له أنك بهذا القول تفضل القطب أو الولي عَلَى أنبياء الله؛ لأن الله منع الرؤية عن موسى عَلَيْهِ السَّلام، فإذا اعتقد أن هذا الولي أو القطب أياً كَانَ أفضل من موسى عَلَيْهِ السَّلام، أي: حصل له ما لم يحصل للنبي، وكان ممن يعتقد تفضيل الأولياء عَلَى الأَنْبِيَاء كما كَانَ يقول ابن عربي وأمثاله، فعليه أن يرجع ويعود إِلَى حظيرة الإيمان ولا يعود إِلَى هذا القول، فإن أصر عَلَى هذا القول، فإنه يقتل كفراً وردة، وينطبق عليه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، وذكر منها: التارك لدينه المفارق للجماعة) فهذا ترك الدين وفارق الجماعة بعد قيام الحجة عليه، هذا بخصوص رؤية غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
النزاع في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه جل وعلا(1/1784)
النزاع في رؤية النبي لربه قديم من أيام الصحابة -رضوان الله عليهم- وبعض العلماء ينفى التنازع ويقول: إنه لم يحدث، ولم يقع خلاف بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رؤية الله عياناً بالبصر وكلهم متفقون عَلَى أنه لم يقع، وما نقل عن بعضهم كابن عباس وابن مسعود وأَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنهم، إما أنه لم يثبت وإما أن المقصود به الرؤيا بالقلب وليست بالعين، وهذا القول رجحه كثير من العلماء، وهو الذي رجحه الإمامعثمان بن سعيد الدارمي وقَالَ: إن الصحابة اتفقوا عليه، وهو أيضاً القول الذي اختاره الحافظ ابن كثير في أول كلامه عَلَى سورة النجم وإن كَانَ بعد ذلك ذكر ما يشعر بخلافه، وكأنه -رَحِمَهُ اللَّهُ- اضطرب في ذلك، فالمقصود أن الذي عليه الأغلب والذي تجتمع به الأدلة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به لم ير ربه تَعَالَى بعينه فضلاً عما سوى ذلك. وإنما حصل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رؤية أخرى بالقلب، وهي التي ذكرت في حديث اختصام الملأ الأعلى (رأيت ربى في أحسن صورة) ، وهو من رواية ابن عباس التى سندها سند البُخَارِيّ لما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه في المنام في أحسن صورة فقَالَ: (يا مُحَمَّد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى، فقَالَ: لا، فقَالَ: في الكفارات والدرجات) وهو الحديث الذي ذكر طرقه ورواياته الإمام الحافظ ابن كثير في تفسير سورة (ص) عند قوله تعالى: مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ [صّ:69] وشرحه الحافظ ابن رجب في كتاب منفرد وهو (اختيار الأولى في شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) والمصنف -رَحِمَهُ اللَّهُ- اختصر ما جَاءَ في كتاب الشفا في أحوال المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقاضي عياض المالكي، وقد تحدث وأطال في موضوع الرؤيا، ولخص المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- كلامه، كما أطال في ذلك الشرح،(1/1785)
وقد شرحه اثنان أحدهما شهاب الدين الخفاجي وسمي شرحه نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض2 والشرح الآخر للملا عَلَى القاري الحنفي. وأصل الخلاف في موضوع رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -هل حصلت بالعين أم لم تحصل- هو اختلاف العلماء من عهد الصحابة في تفسير سورة النجم في قوله تعالى: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:1] وإذا تأملنا الآيات نجد أنها أثبتت رؤيتين لما قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] هذه هي الأخرى، وكلمة (نَزْلَةً) اسم مرة، يعنى: مرة أخرى، والمرة الأولى كانت قبل ذلك، والفهم الذي يمكن أن نفهمه قبل أن ندخل ونخوض في الخلاف أن القول الصحيح الراجح يتبين من سياق الآيات نفسها، فإن الله تَعَالَى أقسم بالنجم إذا هوى بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بضال ولا غاوي عن الطريق كما يزعم أولئك، وأن ما يقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما هو وحي يوحى علمه شديد القوى، وقد جَاءَ في القُرْآن في مواضع أخرى أن الذي علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآن والوحي هو جبريل الأمين كما قال تَعَالَى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] والمقصود بالرؤية هنا بلا شك هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام. وفي صحيح(1/1786)
البُخَارِيّ وغيره أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَى خلقته التي خلقه الله تَعَالَى عليها، له ستمائة جناح قد سد الأفق وفي القُرْآن يقول الله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ إذاً الآية والأحاديث الصحيحة تدل عَلَى أن المرئي هنا جبريل وعلى أن الذي يعلم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو جبريل عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالأفق الذي ورد هنا ورد في الآية الأخرى وفي الأحاديث، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] إذاً جبريل عَلَيْهِ السَّلام دنا فتدلى من رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:9] أي: لا يزيد عن ذلك، فـ (أو) ليست للشك وإنما هي لنفي الزيادة، أي: تكون أقل من ذلك كما قال تَعَالَى وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات:147] فقوله (أو) ليست للشك؛ لكن المعنى أنهم لا ينقصون عن المائة ألف بل يزيدون. فالمقصود أن جبريل عَلَيْهِ السَّلام دنا فتدلى وهو بهيئته وخلقته العظمى التي خلقه الله تعالىعليها بعد أن كَانَ يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في صورة إنسان من البشر، كما أتى في صورة دحية الكلبي، فإن الله تَعَالَى أعطى الملائكة قوة التشكل والتصور كما يشاء تَعَالَى أن يأتوا، ولكن من حكمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن رحمته، وليثبت نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذهب عنه الروع والخوف مما لقيه لما نزل عليه الملك بحراء، وليطمئنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن هذا ليس بجني وليس بشيطان، وأن هذا حق وهو رسوله إِلَى رسله وأمينه الذي ائتمنه عَلَى وحيه، فجاءه جبريل في تلك الصورة فتأكد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستيقن أن هذا هو رَسُول الله وأمينه، وهو روح(1/1787)
الله تعالى؛ لأن تلك الصورة العظمى لا يمكن ولا يتخيل أن يكون عليها أي مخلوق من المخلوقات، فإنها من العظمة بما تعجز عنه العقول، حتى قال في إحدى الروايات في المسند (فكان له ستمائة جناح يسقط منها التهاويل والدر والياقوت) يعنى: الجواهر والياقوت الملون العظيم تتساقط من ستمائة جناح قد سدت الأفق كله، وهذا دليل عَلَى عظم خلق جبريل عَلَيْهِ السَّلام التى خلقه الله عليها وإذا شاء الله عَزَّ وَجَلَّ جَاءَ في صورة رجل كما جَاءَ في حديث جبريل المعروف، وجلس بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلسة المتعلم السائل وهو في الحقيقة المعلم كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في قوله (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) . إذاً قوله تعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:8-10] معناها: فأوحى جبريل إِلَى عبد الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد جَاءَ هذا التعبير كما في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه [الإسراء: 1] والعبودية هي أشرف وصف يوصف به المخلوق، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك ونص عليه وقَالَ: (لا تطروني كما أطرت النَّصَارَىابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله) فأشرف وصف يقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه عبد الله ورسوله العبد الذي تحققت فيه كل معاني العبودية ففي مجال التكريم والتعظيم والتشريف يقول الله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه ويقول: فَأَوْحَى إِلَى6005822 عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] كأنه هو وحده العبد، وإلا فالخلق كلهم عباد، ولكن اختصاصه بهذا لأنه بلغ الدرجة العليا في العبودية، وهو أيضاً عند الله بمنزلة عليا لا يشاركه فيها أحد. والتعبير فيه إشارة لطيفة جداً إِلَى أن الرؤيتان حصلتا لجبريل: رؤية في العالم السفلي(1/1788)
حيث رآه في أجياد أو في الأبطح وهنالك مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فهي ليست مجرد رؤية بالعين بل حقيقة استيقنها القلب، ورؤية حصلت في الملأ الأعلى عند سدرة المنتهى وهناك مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] فلم يزغ البصر ولم يطغ مما رأى لأنه فوق طاقة البشر لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] ومنها رؤية جبريل عَلَى خلقته فالرؤيتان كلاهما لجبريل فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خلقته التي خلقه الله عليها مرتين. إذاً: إذا تأملنا آوائل سورة النجم التي حصل فيها الخلاف لم نجد الظاهر والراجح إلا القول بأن الرؤية لجبريل عَلَيْهِ السَّلام، وأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس فيه إشارة إِلَى أنه رأى ربه، يعنى: لا يدل عَلَى ذلك، فالكلام كله في الوحي، وفي نزول جبريل عَلَيْهِ السَّلام بالوحي، وفي الرؤية التي حصلت ثُمَّ قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] فالمرأي في الأخرى هو المرأي في الأولى، وهناك إجماع عَلَى أن هذا المرأي في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] الضمير يعود عَلَى جبريل عَلَيْهِ السَّلام. إذاً يكون كل ما ورد بخلاف ذلك فهو مرجوح، مثل ما ورد في رواية شريك بن عبد الله (ثُمَّ دنا الجبار فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى) هذه رواية مرجوحة مضطربة كما سيأتي إن شاء الله الكلام عَلَى ضعفها واضطرابها بالتفصيل في مبحث الإسراء والمعراج. وكيف حصل النزاع؟ الذي يبدوا -كما أشرنا- أنه حصل لبس في فهم الرؤية وفي الضمير عَلَى من يعود في قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى وليس فيما روي عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- ما وعن أَبِي هُرَيْرَةَ وإن كَانَ لا يثبت عنه، وعن ابن مسعود من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه؛ لأنه قد روى النَّسَائِيُّ وغيره(1/1789)
عن ابن عباس قَالَ: (إن الله اختص موسى بالتكليم، واختص إبراهيم بالخلة، واختص مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرؤية) . وأيضاً ما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [الإسراء:60] قَالَ: (رؤيا عين أريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به) ، فحصل اللبس في مثل هذا. إما أن يكون صح عن ابن عباس أنه قَالَ: إنه رآه بعينه ويكون اللبس حصل في فهمه -فلا يمنع ذلك- وهو الحبر العالم الجليل المشهور، ولكن العصمة إنما هي لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخطأ في مثل هذه الأمور وما عداه فالخطأ عليه وارد. وإما أن يكون الخطأ حصل من الرواة ومن بعد الصحابة كعكرمة ومسروق ومن روى عنهم هذا القول، وقصةمسروق مع أم المؤمنين في هذا الحديث الصحيح الذي رواه البُخَارِيّ تدل عَلَى أن اللبس في الفهم وقع من مسروق، كما في الحديث المتفق عليه، وهذا لفظ مسلم قال مسروق:كنت متكئاً عند عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- فقالت: (يا أبا عَائِِِشَةَ ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية) ثلاثة أمور مهم جداً أن نعلم هذه الأمور، ولا سيما وأن أم المؤمنين قد قالتها وهي جازمة متأكدة، لنعلم أن احتمال الغلو في رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ من قديم، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتوقعونه إن لم يكن قد ظهر بوادره في أيامهم، وعالجوه بمثل ما عالجت به أم المؤمنين بقولها هذا: قالت لمسروق (أبا عَائِِِشَةَ ثلاث من تكلم عَلَى الله بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية، أي: افترى عَلَى الله افتراءً عظيماً. (قلت: ما هنَّ؟ قالت: من زعم أن محمداً رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية، وكانمسروق متكئاً فجلس فمسروق) ، أحس أنها صدمته بقول كَانَ يظن ويعتقد خلافه. قَالَ: (فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعذريني) أي: يا أم(1/1790)
المؤمنين سأقول كلاماً يخالف كلامك تبيني ما أقول ثُمَّ أجيبيني. (قالتأم المؤمنين: نعم قَالَ: ألم يقل الله عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [التكوير:23] وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى. أي: أن مسروقاً كَانَ لديه لبس وهو أن هذا المرئي بالأفق المبين وفي النزلة الأخرى هو الله. (فقالت أم المؤمنين: أنا أول هذه الأمة سأل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما هو جبريل) أي أن الذي رأيته بالأفق المبين، والذي رأيته نزلة أخرى إنما هو جبريل، ولم أرَه عَلَى صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، ثُمَّ قالت أم المؤمنين: (ألم تسمع أن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103] ألم تسمع أن الله يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51] . ثُمَّ قالت أم المؤمنين (ومن زعم أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من كتاب الله فقد أعظم عَلَى الله الفرية) إذاً فقد كَانَ يوجد في أيامها من يفهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه ولهذا ردت عليه بالأولى، وكان في أيامها من يشيع أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من العلم ولم يبينه للأمة، وقد وجد ذلك فكانت بداية الرفض في أيام عَائِِِشَةَ رضى الله عنها بل قبل أن يراها مسروق. وفي إمارة أمير المؤمنين عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ الرافضة يشيعون بأن هناك علماً خاصاً أوحاه الله إِلَى محمد؛ ولكنه كتمه عن الأمة جميعاً، واختص به علياً وآل البيت، وهو علم الجفر الذي يزعمون أن علياً أخذه،(1/1791)
وأخذ الأئمة من بعده يتداولونه سراً حتى وصل إِلَى الإمام الثاني عشر، فأخذه ودخل به السرداب، ولن يرى النَّاس هذا العلم المكتوم إلا إذا خرج من السرداب، فحينئذ ينشر شيئاً من علم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لم يعلمه أحد من الأمة، وهذه الإشاعات كانت لها بدايات موجودة في أيام أمير المؤمنين عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. ولهذا صح عنه في الصحيح وغيره لما سُئل هل خصكم رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم؟ وهذا دليل عَلَى أنه قد أشيع، وإلا فكيف يسئل عنه؟ قَالَ: (لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة: ما خصنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم، إلا فهماً في كتاب الله يؤتيه من يشاء، وما في هذه الصحيفة، فلما أخرجها وإذا فيها الديات وفكاك الأسير، ولعن الله من آوى محدثاً وأن المدينة حرم) عَلَى اختلاف الروايات. وهذا الحديث وما فيه من الأحكام، كانت مكتوبة واحتفظ بها علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، ولم تكن خاصة لأنها قد رويت عن غير عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهي معلومة عند الأمة من طرق ومن أحاديث أخرى، فليس فيها اختصاص إلا أنها كانت مكتوبة، وكان أمير المؤمنين يضعها في قراب السيف ليحتفظ بها. والقضية الثالثة التي من قال بها فقد أعظم عَلَى الله الفرية تقولأم المؤمنين (ومن زعم أنه -أي: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخبر بما يكون في غدٍ فقد أعظم عَلَى الله الفرية) ، وفي رواية أيضاً صحيحة: (ومن زعم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) ، وهذا افتراء عظيم عَلَى الله، فقد كانت هناك أيضاً بوادر غلو في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت الجارية تنشد (وفينا رَسُول الله يعلم ما في غد) فنهاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقول ذلك، وقد ظهر وانتشر في الأعصار المتأخرة حتى وجد من يقول: أنه(1/1792)
عَلِمَ كل شيء حتى أنه علم متى تقوم الساعة -نعوذ بالله - أيُّ غلو وأي افتراء عَلَى الله وأي تكذيب لكتاب الله أعظم ممن يقول: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم الغيب كله حتى أنه يعلم متى تقوم الساعة؟ فماذا بقي لله عَزَّ وَجَلَّ؟ بل قال قائلهم وهو البوصيري: ومن علومك علم اللوح والقلم
الكتاب المبين الذي أحصى الله فيه كل شيء ما كَانَ وما سيكون يجعلونه جزاءً من علوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأي غلو وأي افتراء أعظم من ذلك؟! وهذا تكذبه الآيات من كتاب الله وتكذبه سنة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما نطقت به أم المؤمنين وقد أعظموا عَلَى الله الفرية بقولهم هذا. ثُمَّ استشهدت أم المؤمنين الفقيهه عَلَى القضية الأولى بنفي الرؤية بآيتين، وقد سبق شرح الآيتين وجاءت الآية الثانية وهي البلاغ فقالت: (يَا أَيُّهَا الرَّسُول ولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] فمن يقول إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً من العلم فإنه يتهمه بأنه لم يبلغ الرسالة. واستدلت عَلَى القضية الثالثة وهي أنه لا يعلم الغيب أيضاً بآية من كتاب الله وهي قوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ * وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:58-59] وتقديم الضمير والظرف للاختصاص. والمراد أنه بهذه الأحاديث وبالحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي ذر يتضح لنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرَ ربه وأن ما قيل عن رؤيته لربه يحمل عَلَى الرؤية القلبية. يعنى ما جَاءَ عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أنه قَالَ: (رآه بفؤاده مرتين) فنحمل المطلق عَلَى المقيد، ونقول: ما أثبته ابن عباس(1/1793)
هو رؤيته لربه بفؤاده وقد يرد سؤال فيقول بعضهم: الرؤيا بالفؤاد ثابتة لجميع الأَنْبِيَاء والصالحين؟ ومن حقيقة هذا كلام يطلق ويقال ولو دقق فيه الإِنسَان لوجد أنه غير صحيح إذ كيف تحصل الرؤيا بالفؤاد لجميع المؤمنين؟! وإذا وجدنا أن ابن عباس نفسه قد جَاءَ عنه بالسند الصحيح الذي هو سند البُخَارِيّ حديث الرؤيا المنامية (رأيت ربى في أحسن صورة) فنعلم حينئذ أن ابن عباس لم يتناقض، وإنما يقصد أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بفؤاده ورآه في المنام ورؤيا الأَنْبِيَاء حق، فيكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى ربه في المنام مرتين بفؤاده، وليس مجرد العلم بالله أو بصفاته بالقلب بل رآه حقاً بفؤاده مرتين ورأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام بعينه بخلقته التي خلقه الله عليها مرتين، وبذلك تجتمع النصوص والأدلة. أما ما روي عن ابن مسعود وأبى هريرة، فإنه لا يصح كما يظهر من الروايات التي رويت عنهما، وحديث أبي ذر الذي رواه مسلم في صحيحه، وهذا يدل عَلَى أنه إن صح عن أبي ذر احتمال للرؤية، فإنه كَانَ قبل أن يسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد أن سأل فلم يعد هنالك احتمال؛ لأن الحديث صحيح صريح (قَالَ: سألت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل رأيت ربك؟ فَقَالَ نور أنى أراه) ، وفي رواية (رأيت نوراً) أي: لا أستطيع كيف أراه؟ ورواية أبي موسى الأشعري -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في صحيح مسلم تؤيد هذا، وهو قوله قام فينا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس كلمات، أي: خمس كلمات عظيمة جداً، وهذا الحديث فيه (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته. وذكرنا أنه ليس هناك نفي مطلق مجرد وإنما يأتي النفي المطلق لإثبات مقابله من الصفات الثبوتيه، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ(1/1794)
سِنَةٌ وَلا نَوْم [البقرة: 255] لكمال حياته وقيوميته وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ [فاطر: 44] أي لكمال قدرته، فكل نفي يأتي في القُرْآن لا يأتي مجرداً، إنما يأتي لإثبات الصفة الثبوتية التي يدل عليها ذلك النفي. وتمام الحديث (يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره) . والصحابة مجمعون عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه بأم عينه، وقد تقدم الكلام عَلَى المراد بآيات سورة النجم. قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تعالى: [وأما وجوبه -وجوب الرؤيا- لنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول بأنه رآه بعينه] المقصود بالوجوب في كلام القاضي عياض أي الوقوع فالمعنى: وأما وقوعه كما قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا [الحج: 36] . لكن الذين يقولون: إنها قد وقعت فإنه يجب الإيمان بها، لأن ما صح في الحديث يجب أن نؤمن به، فإن الوجوب فرع عن الثبوت. والشاهد من قول القاضي عياض "فليس فيه قاطع ولا نص إذا المعول فيه عَلَى آيتي النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، ولا أثر قاطع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك" قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى تعليقاً عليه: [وهذا القول الذي قاله القاضي عياض هو الحق فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عَلَيْهِ السَّلام] فالأنبياء لا يجهلون ما ينبغي في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى حد أن يسألوا الرؤية وهي مستحيلة، وإنما هي ممكنة، ولكنها في هذه الدنيا لم تقع ولم يوقعها الله له، وإنما تقع في الآخرة.
تقرير رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام(1/1795)
يقول المصنف: [ونحن إِلَى تقرير رؤيته - أي: رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى وإن كانت رؤية الرب تَعَالَى أعظم وأعلى فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها ألبتة] .
معنى كلامه نَحْنُ أحوج إِلَى أن نثبت ونقرر رؤية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل، ولا شك أن رؤية الله أعظم من ذلك، ولكن لا تتوقف النبوة عَلَى إثبات أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه، إذ من المعلوم لدى جميع الأمم التي تؤمن أن الله يرسل رسلاً وأولئك الرسل لم يقل أحد منهم إني رأيت ربي.
فمعلوم عند بني الإِنسَان أن رؤية الله تَعَالَى ليست شرطاً في النبوة، لكن نَحْنُ أحوج إِلَى تقرير أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل، وهذا تقريره عظيم ومهم؛ لأن فيه علاقة بإثبات النبوة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن من النَّاس من قالوا: إن الشياطين تنزلت بالقرآن فنفى الله ذلك وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء:210-211] . قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [النحل:24] ولم يكن المُشْرِكُونَ ينفون الوحي من ربه، وأنه لم يرى ربه؛ بل كانوا يقولون إن هذا الوحي ليس عن طريق ملك، وإنما هو شيطان يلقي إليه هذا القول.(1/1796)
فإذا أثبتنا وقررنا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد رأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام في خلقته الحقيقة الكاملة له التي خلقه الله عليها، فهذا رد واضح عَلَى مزاعم أُولَئِكَ الكفار الذين يزعمون أنه تلقاه عن الشياطين وقد أثبت الله تَعَالَى أنه قول رَسُول كريم نزل به الروح الأمين وهو جبريل عَلَيْهِ السَّلام، ولهذا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى جبريل في صورته التي خلقه الله عليها اطمئن وتيقن أن هذا ملك مرسل من عند الله عَزَّ وَجَلَّ وخاصة بعد أن نزل الوحي، ولم يكن لديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شك أصلاً، ولكن بلغ ذروة اليقين بأن هذا ملك من عند الله، وهذا هو الملك الذي لا يمكن أن تتخيل صورته بأي مخلوق آخر من المخلوقات، فحينئذ وصل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطمأنينة الكاملة.
وقوله فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ورد أن الذي أوحى به إليه هو أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، أو الضحى وبنزول هذه الآيات عليه زادته اطمئنانا، خاصة بعد أن زعم الكفار أن شيطانه قد كذبه فَقَالَ الله: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] إذاً فنحن إِلَى تقرير رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل أحوج منا إِلَى تقرير رؤيته لربه تَعَالَى.
أما قوله [بغير إحاطة ولا كيفية] فقد سبق شرحها، وقلنا: إنه إذا جَاءَ في الكتاب أو السنة نفي مجرد فإن الله لا يوصف به؛ بل لإثبات كمال ضده [بغير إحاطة ولا كيفية] لكمال عظمته فالله تَعَالَى يُرى بغير إحاطة ولا كيفية؛ أي معلومة من جنس الكيفيات التي يرى بها المخلوقون.(1/1797)
ثُمَّ قال فيما سبق أيضاًً: [وهذا لكمال عظمته وبهائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يُعلم ولا يُحاط به علماً] فهو كذلك يُرى، ولا تدركه الأبصار ثُمَّ قَالَ: قال تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103] وقَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وهذا مما سبق شرحه وإيضاحه.(1/1798)
شرح العقيدة الطحاوية
الإسراء والمعراج
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
هذا باب جديد من أبواب العقائد، وهو باب الغيبيات التي يسميها أهل الكلام السمعيات، والمقصود عندهم بالسمعيات ما ثبت بالخبر أي: بالدليل السمعي -كما يسمونه- أي ما ورد في القرآن أو في السنة، والعقل لا يثبته ولا ينفيه، بخلاف الكلام والرؤية وأمثالها مما سبق بحثه فإنهم يقولون: إن تلك يثبتها العقل ويدركها أي: يدرك إثباتها ويقر بها ويحكم بأن الله سبحانه وتعالى يوصف بها.
وهناك صفات خبرية وأخبار مجردة كأحوال يوم القيامة، من الصراط والحوض والميزان، وكما هنا في الإسراء والمعراج، وأمثال ذلك مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنون به ويقرون به على الشرط الذي سنذكره وسموه بالسمعيات، فأبواب العقيدة عندهم على نوعين:
الأول: العقليات عموماً، وهي مباحث الإلهيات والصفات وما أشبه ذلك، وهذه تدخل جميعاً ضمن العقليات أي: التي يبحثها العقل ويثبتها ويدركها، وأما مباحث السمعيات فهي التي جاء بها النص وجاء بها الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم والعقل عندهم لا ينفيها.
فنحن سنتحدث إن شاء الله عنها ونبين أولاً: مذهبأهل السنة والجماعة في إثبات هذه الغيبيات.
ومذهب المتكلمين في ذلك ثم نتحدث عن الإسراء والمعراج إن شاء الله.
قال الطحاوي رحمه الله:
[والمعراج حق وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يُعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.(1/1799)
وقوله: [وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة] اختلف الناس في الإسراء فقيل كان الإسراء بروحه، ولم يُفْقَد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه؛ لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا كان مناماً، وإنما قالا: أُسري بروحه ولم يُفْقَد جَسدُه، وفرق ما بين الأمرين، إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذُهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد، ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديثشريك وقوله: (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات.
وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق!! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين ذكره ابن عبد البر، قال الشيخشمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً، وكيف ساغ لهم أن يظنوا أن في كل مرة تٌفرض عليهم الصلواتُ خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: (أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي) ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟!(1/1800)
وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: " فقدم وآخر وزاد ونقص " ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله، انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله] اهـ.
الشرح:
نبدأ كما ذكرنا بالفقرة الأولى وهي ما هو مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان بالغيبيات، أو ما يسميه أهل الكلام بالسمعيات؟
فالجواب هو: أنأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما صح به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكل ما ثبت آمنوا به وسلموا، والشرط الوحيد عندهم هو أن يصح ذلك فقط، وأن يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ثبت شيء من الأمور الغيبية في الكتاب أو السنة آمن به أهل السنة والجماعة، كما كان يؤمن به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من القرون المفضلة، قبل ظهور أهل البدع والضلال، إذاً لا يوجد عندهم أي شرط في أي شيء إلا أن يثبت ذلك ويصح بالشروط المعروفة، أي: أن يصح السند إذا كان حديثاً ولا يكون فيه شذوذ ولا نكارة، وغيرها من شروط الحديث الصحيح التي يذكرها الأئمة المعروفون في ذلك، فإذا أثبتوا أمراً من الأمور فإن كان ذلك الخبر عن أحوال يوم القيامة، أو الجنة أو النار، أو من صفات الله عز وجل، فكل ما جاء وصح نؤمن به.(1/1801)
ولا نعرضه على عقل ولا على رأي، ولا نقول هذا يخالف العقول، أو يخالف البراهين أو القواطع العقلية، ولا نقول: لا نؤمن به حتى تثبت سلامته من المعارضة العقلية أو نحو ذلك، ولا نقول أيضاً كما يقول الطرف الآخر، فالطرف الأول هم الذين يعارضون بالعقل وهم المتكلمون، والطرف الآخر هم الصوفية وأمثالهم الذين يقولون: ثبت بطريق الكشف، أو ثبت بطريق الذوق أن هذا لا ينبغي، أو أن هذا لا يجوز، وأن ذلك لا يصح أو ما أشبه ذلك، كما تقول الصوفية مثلاً في الحكم لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بأنهما في الجنة، ويردون الأحاديث الصحيحة في ذلك، ويقولون: هذا لا يليق وقد ثبت عن أرباب المعرفة وأرباب الكشف والذوق أنهم في الجنة، هذا كلام لا يقبل عند أهل السنة والجماعة لأن العبرة عندهم هي: أن يصح الدليل هذا هو الشرط في أي حكم وفي أي أمر من الأمور، ولهذا أهل السنة والجماعة لا يفصِّلون في الأبواب، ولا يفّرقون فيجعلون أبواباً عقلية، وأبواباً سمعية، فكل ذلك عندهم شيء واحد، كله إذا ثبت به الدليل وصح به النقل آمنوا به وسلمت له عقولهم، وأيقنوا به في قلوبهم دون أي معارضة ولا أي تردد.
هذا بإيجاز مذهب أهل السنة والجماعة وأما غيرهم فإنهم في مثل هذا الباب -في باب السمعيات- إما أن يردوا ذلك مطلقاً، ويقولون: إن العقل يعارضها، كما نقل عن المعتزلة ومن اتبعهم من الروافض: أنهم ينكرون عذاب القبر أو ينكرون الميزان أو ينكرون الصراط، وسيأتي تفصيل الكلام في الصراط والميزان إن شاء الله.
ومنهم أيضاً من أنكر الإسراء والمعراج الذي هو موضوعنا وأخذوا يقولون: لا يعقل ذلك، وقال بعض المعتزلة نؤمن بالإسراء ولا نؤمن بالمعراج، أي يقولون: الذهاب من مكة إلى بيت المقدس ثم العودة هذا ممكن أن يقع عقلاً؛ لكن الصعود والعروج إلى السموات السبع، هذا يحيله العقل فلا يؤمنون به.
إنكار الفلاسفة والزنادقة وبعض الفرق الضالة للمغيبات(1/1802)
فالزنادقة والفلاسفة عموماً ينكرون الغيبيات إنكاراً باتاً، وتبعهم بعض المعتزلة والروافض وبعض المرجئة وبعض الأشعرية والخوارج والكرامية ومن ضل من هذه الفرق، ينكرون بعض الغيبيات تبعاً للفلاسفة والمعتزلة، ويقولون: العقل لا يثبت ذلك فكيف نثبت عذاب القبر ونحن نرى أناساً يغرقون في البحر، وأناساً تأكلهم الدواب، وأناساً كذا وكذا؟ فينكرون ما صح في ذلك من الأحاديث.
ويقولون: لا نثبت الميزان. كيف توزن الحسنات، وكيف توزن الصلاة وقراءة القرآن، وهي ليست أشياء مادية محسوسة؟
إذاً الميزان لا حقيقة له، وهكذا المعراج فإنهم يقولون: كيف يستطيع بشر أن يرقى إِلَى السموات العلى، وأن يدخلها سماءً بعد سماءٍ؟ فبأمثال هذه التراهات ينكرون السمعيات.
مذهب الأشاعرة في الغيبيات
والذين يثبتون الغيبيات ولكن عَلَى غير منهج السلف الصالح هم أغلب الأشعرية، أو من يسمون أنفسهم مُتكلميأهل السنة؛ لأنهم يقولون: نَحْنُ أهل الكلام من أهل السنة، فيجعلون المعتزلة أهل كلام بدعي، وأنفسهم أهل كلام سني، وقد سبق أن رددنا عَلَى هذه الشبهة.
وقد ذم الأئمة أهل الكلام وعابوهم كالإمام أبي حنيفة وأبي يوسف والشَّافِعِيّ وغيرهم، فهَؤُلاءِ أئمةأهل السنة، وغيرهم كثير قد أطلقوا الذم عَلَى علم الكلام، ولا يوجد علم كلام سني وعلم كلام بدعي والباقلاني -وهو الذي أشهر وأظهر مذهب الأشعرية في بلاد المشرق- يقول: نؤمن بالحوض والصراط والميزان كما صح بذلك الحديث؛ لأن ذلك غير مستحيل في العقل، هذا كلامه في رسالة له اسمها رسالة الإنصاف.(1/1803)
فيعلل ذلك القبول والإيمان بأن ذلك غير مستحيل في العقل، إذاً هذا قيد، ثُمَّ جَاءَ من بعده أبو المعالي الجويني وله كتاب الإرشاد فأخذ يذكر هذه الأبواب باباً بابا، ويقول في آخر كل باب نؤمن به لأن النص قد ثبت به، ولأنه غير مستحيل في العقل، وبهذا نعرف مذهب أهل الكلام في الغيبيات التي يسمونها بالسمعيات وهو الإيمان بها بشرطين:
الأول: أن يصح بها النقل.
والثاني: عدم الاستحالة عقلاً، أي: يعللون الإيمان بها؛ لأنها غير مستحيلة في العقل، أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إذا قيل لهم: لماذا آمنتم بها؟ فإنهم يقولون: لأنه قد صح بها النقل وثبت بها الحديث، إذاً هناك فرق بين المذهبين، فالمسألة ليست مجرد أن يثبت الإِنسَان شيئاً وإن كَانَ إثباته حقاً، لكن يجب عليك أن تثبته عَلَى منهج أهل الإثبات، وهو أن تثبته لأن ذلك هو الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما أن تثبته وتقربه لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر به والعقل لا ينفيه فقد زدت قيداً من عندك.
يقول شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في الرد عَلَى هذا المذهب في شرح العقيدة الأصفهانية، وهو أيضاً في درء تعارض العقل والنقل في الجزء الأول صـ 177، وهذا ملخص بسيط لما ذكره، وإلا فكل الكتاب رد عليهم، لكنه ذكر ملخصاً بسيطاً في هذا، وقاعدة عظيمة يقول فيها: أن من قال أؤمن بما جَاءَ وبما ثبت لأن عقلي يسلم به، ولا أقر ولا أومن بكذا لأن عقلي يرده ولا يسلم به، فهذا قد رد النَّاس إِلَى أمر غير منضبط، فمثلاً أنا قرأت حديثاً ولا أدري هل تقبله عقول هَؤُلاءِ أو لا تقبله؟ وأيضاً قد أقرأ هذا الحديث وفيه كلام، فيأتي أحدهم ويقول: أنا عقلي يقبل ذلك، ويأتي آخر ويقول: أنا والله عقلي لا يقبل ذلك، فبأي شيء نؤمن والأمر غير منضبط.(1/1804)
وقبل فترة نشر في إحدى الجرائد أن رجلاً قَالَ: إن في صحيح البُخَارِيّ أحاديث موضوعة، ودليله أنها موضوعة: أن العقل لا يقبلها، وذكر أمثلة، منها: حديث أن ملك الموت جَاءَ إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام فلطمه ففقأ عينه، وقَالَ: هذا الحديث لا يقبله العقل إذاً هو موضوع، حتى لو كَانَ الذي رواه الإمام البُخَارِيّ ولا كلام في سنده؟!
ولو طبقنا هذه القاعدة فكم سيبقى عندنا من أحاديث؟ كل إنسان يمكن أن ينفي ما شاء، فإذاً نَحْنُ بهذه الحالة لسنا عبيداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وإنما نَحْنُ أنداد -عياذاً بالله- فالعبد شأنه أن يطيع سيده وأن يصدقه، لكن إذا كَانَ يقول: هذا أقبله وهذا لا أقبله فهذا ندُُ لله. إذاً فما الحاجة إِلَى أن يبعث الله الأَنْبِيَاء والرسل؟ كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ في شرح الأصفهانية، ما الحاجة إِلَى أن يبعث الأَنْبِيَاء ما دام أنهم لا يأتونا بشيء إلا ونعرضه عَلَى العقل فإن أقره آمنا به وإن لم يقره رفضناه، فيشتغل النَّاس بكلام الرسل نفياً وإثباتاً ودراسة وتمحيصاً.
إذاً: كانت الرحمة بالنَّاس أن لا تبعث الرسل؛ لأن النَّاس عندهم العقول يقيسون بها، وعندهم البراهين العقلية التي يتناقلونها عن اليونان ويتبعونها، ولا يتبعون أنفسهم في رد ما ثبت عن الأَنْبِيَاء وفي تأويله وفي إقرار بعضه ونفي بعضه.
وممن أنكر الإسراء والمعراج مُحَمَّد حسين هيكل في كتابه حياة محمد، وهذا الرجل يفسر سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تفسيراً عصرياً كما يقولون! وليس هو وحده، لكن هو أشهر من كتب في ذلك، والسبب أن كثيراً من الكتاب اتبعوا بعض المستشرقين.
من خطط المستشرقين تجريد النبي صلى الله عليه وسلم من وصف النبوة(1/1805)
رأى المستشرقون أن الصواب في الحط من قدر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو بإنكار نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغمط ما أظهره الله تَعَالَى عَلَى يده من الحق، وجحد ذلك، والطعن في شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباباً وشتماً كما كانت تفعل الكنيسة ورجال الدين، الغربيون في القرون الوسطى منذ الحروب الصليبية وقبلها وبعدها، فلقد كَانَ همُّ كل منهم أن يخطب فيشتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسبه سباً فاحشاً وحاشاه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عما يقولون.
ومن قولهم: إنه كذاب ودجال وليس بنبي فعل وفعل وهكذا، حتى أوجدوا في العقلية الغربية الأوروبية مناعة غريبة جداً، فلا تريد أن تسمع عن هذا النبي أي شيء، كما هو حالهم إِلَى اليوم، ولا يريدون أن يقروا بأي فضل له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا المنهج وجده بعض النَّاس -من المفكرين الغربيين- أنه أولاً: غير علمي، لأنه مجرد شتم.
وثانياً: أن مردوده عند الْمُسْلِمِينَ عكسي، فالمسلم إذا قرأ ما كتب سوماس لامنس وأمثاله من المجرمين من شتم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه ينفر من الغربيين، ومن النَّصَارَىنفوراً شديداً، ويشتمهم وتتوثب نفسه ولو لقتلهم أو قتالهم؛ لأن هذا لا يقر به أي مسلم مهما كَانَ ضعيفاً أو جاهلاً أو ساذجاً، فرأوا أن هناك طريقة أفضل من هذه وأجدى، لأن المستشرقين يخططون ويغيرون الخطط: وهي أن يمدحوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن يجردونه من صفة النبوة، فيقولون: هذا رجل عظيم فتح جزيرة العرب، ووحد العالم، وأسس ديناً لم تعرف البشرية مثله، وأوجد شريعة لا يوجد في الأرض مثلها، جَاءَ بكذا ... ، ويصفونه بكل شيء إلا أنه لايكون نبياً.(1/1806)
فيجعلونه مجرد رجل عظيم كسائر العظماء، وعلى هذا كتب المؤرخ والكاتب الإنجليزي المشهور توماس كارل كتاب الأبطال، وجعل من جملة الأبطال محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو كتاب قديم في آخر القرن التاسع عشر فهلل واستبشر له أكثر المغفلين من الْمُسْلِمِينَ؛ لأنهم في ذلك اليوم كانوا في فترة ضعف وذل وهوان، وما صدقوا أن رجلاً غربياً يجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطلاً من الأبطال مثله مثل نابليون والقائد الإنجليزي الذي هزم نابليون، وعدة أبطال من إنجليز وفرنسيين وألمان، ومن جملة الأبطال الشرقيين مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تأثر العصرانيين والعقلانيين بمنهج المستشرقين
وعلى هذا المنهج سار بعض الناس، وهم الذين ينتهجون المنهج العقلي أو المنهج العصري من الْمُسْلِمِينَ، وهم من تلاميذ أو من أتباع مدرسة الشيخ مُحَمَّد عبده العقلية، ومنهم مُحَمَّد حسين هيكل هذا، ومنهم أيضاً عبد الرحمن عزام وغيرهم.
فكتب أحدهم بطل الأبطال، والآخر كتب الرسالة الخالدة، وآخر كتب حياة محمد، وآخر كتبمحمد هكذا فقط، وطه حسين كتب على هامش السيرة، كل هذا الكلام يكتبونه عَلَى أساس أن هذا رجل مفكر، داهية، سياسي، عسكري، عبقري، إِلَى آخر ذلك، إلا أنه لا يعمل بأمر من الله أو بوحي من الله، فهذا وإن كانوا لا يصرحون بإنكاره لكنهم لا يكادون يأتون عليه ولا يذكرونه.
وكذلك أيضاً كتب العقاد العبقريات، فهي من هذا القَبِيْل، عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية علي وعبقرية عمر إِلَى آخره، فكل هَؤُلاءِ المذكورون ومن شاكلهم متأثرون بمنهج المستشرقين من قريب أو من بعيد.(1/1807)
يقول: مُحَمَّد حسين هيكل: إن الإسراء والمعراج، هو استجماعة نفسية وروحية، حصلت ولا تحصل إلا لمن بلغ درجة عالية من الروحانية، فكأنه استجمع في نفسه الوجود منذ أو ل الوجود إِلَى آخره، وإذا جئت تنظر في معاني ألفاظ هذه الكلمات لا تجد تحتها أي معنى، ولا تجد لها أي قيمة، إلا أن المقصود هو أن يجرد الإسراء والمعراج عن كونه آية جعلها الله لهذا النبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد رد عليه الشيخمُحَمَّد الغزالي، وأنكر عليه ذلك، لكن الشيخ نفسه فيه نوع من التأثر بالمنهج العصري، فلهذا جَاءَ في كلامه أيضاً ما يلمح بأن من الممكن أن يفسر الإسراء والمعراج تفسيراً مادياً أو شبه مادي، لأنه يقول: إن كلمة البراق مشتقة من البرق.
يقول: فكأن الحديث يشير إِلَى أن سرعة البراق مشتقة من البرق؛ لأنه كما جَاءَ في الحديث -يضع حافره عند منتهى طرفه من سرعته- وكأنه يسير بسرعة الضوء وفي ذلك دليل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتطى القوة الكهربائية في عروجه إِلَى السماء، وهذا نفس الشيء: مع أنه رد عَلَى أولئك، لكنه قريب مما قالوا.
فلا ينبغي لنا أن نخوض في هذه الأمور بمجرد الآراء، إنما يجب علينا أن نسلم ونؤمن بما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ والبراق هي دابة كما جاءت صفتها في الحديث وكما سنذكره -إن شاء الله تعالى-، فنؤمن بها كما جاءت، وعليها ركب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صعد إِلَى السماء بكيفية لا تدركها عقولنا، وليس من شأننا أن نفكر لماذا لا تدركها عقولنا؟ أو هل تدركها أو لا؟ نَحْنُ عبيد مأمورون بأن نصدق، وأن نسلم بما جاء.
من لم يصدق بالإسراء والمعراج فليس مؤمناً برسالة محمد صلى الله عليه وسلم(1/1808)
إذا استنكرت عقولنا أن يقع الإسراء والمعراج، فما الفرق بيننا وبين كفار قريش الذين سخروا وضحكوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونادى بعضهم بعضاً حتى أن أبي جهل استوثق من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: أتحدث القوم بما أخبرتني به؟
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم، فلم يشأ أن ينفره حتى أخذ منه وعداً بأن يحدث القوم حتى يجمع قريشاً، فإذا حدثهم يكون التكذيب والسخرية والضحك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جماعياً، فانطلق في قريش يقول: يا معشر قريش قد جاءكم مُحَمَّد بالداهية الدهياء، فجاءوا واجتمعوا وَقَالُوا: ماذا لديك يا محمد؟
فقَالَ: إنه قد أسري بي إِلَى بيت المقدس، وعرج بي إِلَى السماء.
فسخروا وضحكوا وأنكروا وَقَالُوا: إن الراكب منا ليضرب في الأرض مسيرة شهر ليذهب إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ مسيرة شهر ليعود، وتزعم يا مُحَمَّد أنك تذهب إليه في ليلة.
وجاءوا إِلَى الصديق أبي بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فلم يستطيعوا أن يزعزعوا إيمانه، أما بعض من آمن فإنهم فتنوا -عافانا الله وإياكم- وقد ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذلك في القُرْآن فقَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] ففتن بعض من آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصدق برسالته، لما رأى أن هذا خبراً غريباً، وقصة عجيبة ومذهلة، ويحار العقل فيها، وكفار قريش، يضحكون ويسخرون، فكان ضعيف الإيمان من هَؤُلاءِ لا يستطع أن يثبت -عافانا الله وإياكم- من الزلل فكفروا وارتدوا، ومنهم من قتل معأبي جهل ببدر نسأل الله الثبات والسلامة والعافية.(1/1809)
فإذاً لو قال أحد كهَؤُلاءِ- إماهيكل وإما أمثاله من المستشرقين وليس بعد الكفر ذنب-: كيف نؤمن بالإسراء والمعراج؟ كيف نصدق؟! فهذا بلا شك مشابه لموقف كفار قريش، فالذي يناقش في ذلك أو يماري أو لا يؤمن، فهو في الحقيقة لم يؤمن إِلَى الآن بالإسلام ولم يؤمن برسالة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو آمن أنه نبي مرسل من عند الله، وأن هذا القُرْآن من عند الله حقاً، لما كَانَ لديه أي شك ولا أي ريب، عافانا الله وإياكم من الزيغ والشك والريب والضلال.
وبهذا نكون قد عرفنا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الغيبيات، ومذاهب الذين خالفوهم في ذلك، وقلنا: إنهم عَلَى فرقتين: من أنكره بالكلية، أو من أنكر بعضاً وأثبت بعضاً، أو من أثبته بشروط.
سبق أن تحدثنا عن الإسراء والمعراج وعن والأقوال في ذلك، وتقدم الكلام عن متى كَانَ الإسراء والمعراج في موضوع الرؤية، عندما تحدثنا عن مسألة هل رأى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه ليلة الإسراء أو لم يره؟
ونحتاج إِلَى أن نعرف ما يقع اليوم في واقعنا الإسلامي، وفي أكثر الدول من احتفال بليلة السابع والعشرين من رجب، والقول بأنها ليلة الإسراء والمعراج، أو عيد الإسراء والمعراج، فهل هذا حق؟ وهل هذا صحيح؟ فعندنا مسألتان:
أولاً: ثبوت التاريخ.
ثانياً: حكم ذلك.
هل ثبت تحديد تاريخ الإسراء والمعراج وهل لمعرفته فائدة؟(1/1810)
أما ثبوت تعيين تاريخ الإسراء والمعراج فلم يثبت عَلَى الإطلاق أي دليل صحيح صريح في تحديد وقت الإسراء والمعراج، وكل ما نعرفه من خلال السيرة هو أن الإسراء والمعراج كَانَ قبل الهجرة، هذا هو القول الراجح، والمشهور والمستفيض أن الإسراء والمعراج كَانَ بعد موت أبي طالب عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد موت خديجة، وبعد أن ذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطائف ورده أهلها، وهو العام الذي يسمى عام الحزن، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقى فيه الأذى الشديد والألم والتعب، فمنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه بهذه الآيات العظيمة، وهذه المشاهد وهذا المقام الرفيع الذي لم يصل إليه بشر، تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت آيات عظيمة قال الله تعالى: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:18] فأراه الله عَزَّ وَجَلَّ آياتٍ عظيمة ففُرج عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهمَّ وسُرِّي عنه، وعاد وقد استيقن بربه وبلقائه، وأن ما يوحى إليه هو الحق أكثر من ذي قبل، وعاد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد شد العزم عَلَى أن يبلغ دعوة ربه، وأن لا يبالي بالنَّاس مهما صدوه، بعدما رأى ما رأى من الأَنْبِيَاء ومن الكرامة التي نالها، فوقوعه في ذلك التاريخ فيه حكم عظيمة، لكن لا ندري بالضبط متى كان؟ فقد اختلف في أي يوم كان؟ وفي أي شهر؟ وفي أي سنة؟
حتى قال الحافظابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ كما في الجزء السابع من فتح الباري صـ203: والأقوال في ذلك أكثر من عشرة أقوال، حتى أن منها: أن ذلك قبل البعثة، ومنها: بعد الهجرة، وقيل: قبلها بخمس، وقيل: قبلها بست، وقيل: قبلها بسنة وشهرين كما قال ابن عبد البر.
هذه خلافات كثيرة، ولا يوجد أي حكم شرعي يترتب عَلَى المعرفة الدقيقة لتاريخ الإسراء والمعراج.(1/1811)
إذاً -الْحَمْدُ لِلَّهِ- لا يهمنا من معرفة التاريخ شيء، وما دام أنه لم يثبت منها شيء فنحن لا نثبت أي شيء منها، إلا أننا نقول: أنه كما يترجح ويظهر من عموم الأدلة أنه كَانَ قبل الهجرة، وأنه كَانَ بعد أو في عام الحزن.
حكم الإحتفال بليلة الإسراء والمعراج
مع أنها لم تثبت ولم يثبت لها تاريخ معين، بل قال بعض المتأخرين كما ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في نسيم الرياض في شرح الشفا للقاضي عياض يقول: قال بعض العلماء المتأخرين: "وأما ما هو منتشر اليوم في بعض الديار المصرية من الاحتفال بليلة سبع وعشرين، ودعوى أنها ليلة الإسراء والمعراج، فذلك بدعة] وهذا متأخر، يعني: أن هذه البدعة مع أنها بدعة؛ لكنها أيضاً بدعة متأخرة وينكرها النَّاس الذين لديهم اطلاع وفهم للسيرة والتاريخ، ولم يثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه احتفل بيوم إسرائه ومعراجه؟! وهل احتفل بذلك الصحابة أو التابعون؟! لا يثبت في ذلك شيء عَلَى الإطلاق، ونتحدى أن يأتي أحدٌ بشيءٍ في ذلك، ثُمَّ مع هذا يأتي المتأخرون فيحتفلون، بل ويجعلونه سُنة أو عيداً كما يسميه البعض: عيد رجب، ولم يكتفوا بذلك بل حددوا ليلة معينة في ذلك، وجزموا بأنه وقع فيها، وفي تلك الليلة يجتمعون في المساجد، فيأتي القارئ ويفتتح ويقرأ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] حتى أن الإذاعات والتلفزيون ذلك اليوم تستفتح بها كذلك! نَحْنُ نقول: سورة الإسراء من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ وتقرأ، لكن لماذا تخصص في ذلك اليوم حتى تعطى النَّاس إيحاءً وإشعاراً بأن هذه هي ليلة الإسراء والمعراج، وكل هذا من البدع ما دام أنه لم يثبت (ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
هل الإسراء والمعراج كان بالروح أم بالجسد؟
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في شرح قول الطّّحاويّ: [والمعراج حق](1/1812)
المعراج: مِفْعال من العروج، أي: عَلَى وزن مِفْعال، ومِفعال من أسماء الآلة كمِفْعَل ومفعلة كما نقول: "مِسَبر ومِبَرد ومِنَجل، ومِطَرقة " ومعراج من أسماء الآلة، فَيَقُولُ: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد فيها، وهو بمنزلة السُّلم، وقد جَاءَ ذلك في بعض الروايات.
وروايات حديث الإسراء والمعراج جمعها الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في كتاب التفسير عند أول الآية من سورة الإسراء سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الاسراء:1] حيث جمع الروايات في الإسراء والمعراج منالمسند ومن الصحيحين ومن المسانيد الأخرى كأبي يعلى وروايات البيهقي وعبد الله بن أحمد كما في زياداته عَلَى المسند وابن جرير وغير ذلك.
وابن جرير رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر روايات كثيرة لكنها بسنده هو، والحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- ذكر روايات المسند والصحيحين ثُمَّ ما في السنن والمسانيد الأخرى، ومنها ما ورد في صفة هذا المعراج كأنه أمر محسوس، أي: شيء مشاهد يتبعه الإِنسَان ببصره إذا قبضت روحه؛ لأنه يعرج بها إِلَى السماء، ولكن لا يعلم كيف هو؟ لأنه غيب، وحكمه كحكم غيره من المغيبات نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته عَلَى القاعدة المتبعة في هذه الأمور.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وقوله وقد أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرج بشخصه في اليقظة، اختلف النَّاس في الإسراء فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه] هنا قولان مشهوران وأحدهما هو الصحيح، وهو الأشهر والآخر لا يثبت عند التحقيق، بل قد يكون احتمال الخطأ من ابن إسحاق -رَحِمَهُ اللَّهُ- أكثر من كونه اجتهاد خطأ من الصحابة.
الراجح أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وأدلة هذا الترجيح(1/1813)
القول الأول الذي عليه جماهير الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً: أن الإسراء والمعراج كَانَ بروح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجسده معاً، كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] فهو أسرى بعبده، يعني: بذات عبده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس فقط بالروح والأدلة عَلَى ذلك متظافرة ولو أنا قرأنا الأحاديث في ذلك وتأملنا معانيها لوجدنا أن هذا القول هو الصحيح الذي لا ينبغي العدول عنه إِلَى غيره، ونذكر بعض الأدلة عَلَى ذلك.
الدليل الأول: أن هذا هو الأصل في الكلام عند الإطلاق، وقوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الاسراء:1] ، الأصل إذا قرأنا هذه الآية أو سمعناها أن نفهم أنه أسرى بعبده، أي: بروحه وجسده، فلا يصح أن نقول: بروح عبده هذا خلاف الأصل، وإذا جئنا بشيء في الكلام عَلَى خلاف الأصل، فإننا نحتاج إِلَى دليل، وليس هناك دليل يدل عَلَى ذلك، بل الأصل عند الإطلاق الخالي من كل قيد: أن ذلك عَلَى الحقيقة أي: عَلَى ذات الإِنسَان روحه وجسده معاً.
الدليل الثاني: وهو دليل واضح في هذا: أن قريشاً أنكرت واستغربت وشهَّرت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفتن بذلك بعض من كَانَ قد آمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الاستنكار لا يكون عَلَى رؤيا حلم في المنام، فلو أن أحداً قال مثلاً: لقد رأيت أن القيامة قد قامت، فرأيت الجنة والنار، فهل يستنكر هذا أحد؟ كلا؛ لكن لو أنه ادعي أنه رأى الجنة والنَّار يقظة لاستنكر عليه، ولما وافقه أحد، فقريش لما أنكرت عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم تنكر عليه رؤيا منام، وإنما أنكرت عليه؛ لأنه أخبرها أنه ذهب حقيقةً إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ من هناك عرج به إِلَى السماء.(1/1814)
ولذلك جَاءَ قائلهم وقَالَ: يا مُحَمَّد إن كنت قد ذهبت إِلَى بيت المقدس فصفه لي فأنا أخبر النَّاس به، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأول مرة يذهب، وفي الليل وبسرعة خاطفة، فلو قال: لم أتفحص ولم أدقق تماماً، لما كَانَ عليه لوم وكلامه صحيح؛ لكن الله عَزَّ وَجَلَّ يريد أن يقيم عليهم الحجة وأن يكذب قريشاً، فجلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأظهر أمامه بيت المقدس كأنه دون بيت بني عقيل.
ثُمَّ أخذ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصف بيت المقدس كما يراه أمامه، وذلك الرجل ومن معه ممن رأوا بيت المقدس يقولون: نعم صدقت هو كذلك، المقصود أن هذا الكلام -لما قالوا له: نذهب مسيرة شهر ذهاباً ومسيرة شهر إياباً ويزعم مُحَمَّد أنه ذهب في ليلة- لا يكون إلا إذا كَانَ الذهاب حقيقة، لكن لو قال لهم: أنا ذهبت في المنام إلىبيت المقدس لما أنكرت عليه قريش، لأنهم قد يذهبون هم في المنام إِلَى أبعد من ذلك، ولا غرابة في ذلك.
وأيضاً لما قالوا: ائتنا بعلامة -وقد ورد ذلك أيضاً في بعض الروايات- فأخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه رأى لهم بعيراً عليه مزادتان إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، وأن البعير جفل من البراق فوقع فانكسر، وفي بعض الروايات أيضاً في السيرة أنه قَالَ: سيأتونكم في يوم كذا يقدمهم البعير الذي عليه كذا وكذا، فذهبت قريش تترقب، فجاء الوصف كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذاً هذه أمور وقعت حقيقة، وليست مجرد رؤيا أو أمر منامي أو بالروح(1/1815)
وأيضا قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما ذكر المصنف، وإن كَانَ قد ذكر من آية في الاستدلال بها بعض الخطأ، وهي قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فاستدلال المُصْنِّف هنا ليس بظاهر، لأن الآية التي نستدل بها عَلَى الإسراء والمعراج هي مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] ولتوضيح أن آية مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى أدل من آية مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى نقول: لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى تلك الآيات العظيمة فقَالَ: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى فهذا هل يكون بالروح أم برؤية حقيقية؟ لا شك أنها برؤية حقيقية، لأن البصر إنما يكون إذا عرج بالجسد ومنه هذا البصر، فيقول تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:17،18] .
إذاً: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رأى سدرة المنتهى ورأى الأَنْبِيَاء والملائكة، لما رأى تلك العوالم العجيبة كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراها بعيني رأسه حقيقة، وأيضاً لو تأملنا نفس القصة "حمل عَلَى البراق" فهل تحتاج الروح أو يحتاج الإِنسَان في المنام أن يحمل عَلَى شيء؟
إن النائم يمكن أن يذهب بدون أي شيء، لكن كونه يُحمل؛ بل أُخرج من بيته -حتى نجمع بين الروايات- ثُمَّ ذُهب به إِلَى الحرم، ثُمَّ شُق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغسل بماء زمزم في طست، ثُمَّ جيء بتور، أي: بإناء كبير محشو بالحكمة فحشي صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه كلها تهيئة لهذا العالم العجيب الذي لا تطيقه النفوس التي لم تصل -ولن تصل أي نفس- إِلَى ذلك، ثُمَّ جيء بالبراق، ثُمَّ ركب عليه، ثُمَّ ذهب، ثُمَّ صلى بالأنبياء، هذا الكلام كله يدل عَلَى أن الأمر حقيقي وليس بالروح فقط ولا في المنام.(1/1816)
والأدلة عَلَى صحة هذا القول كثيرة، ولكن ما ذكرناه فيه الكفاية -إن شاء الله- عَلَى أن الأمر كَانَ عَلَى الحقيقة وهو قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين.
الرد على من زعم أن الإسراء والمعراج كان بالروح فقط
القول المخالف للقول الصحيح، نقله ابن إسحاق في السيرة في أول الجزء الثاني من سيرة ابن هشام، نذكر كلام المُصْنِّف أولاً، ثُمَّ نبين اللبس الذي حصل فيه، يقول: [فقيل: كَانَ الإسراء بروحه ولم يُفقد جسدُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقله ابن إسحاق عن عَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، ونقل عن الحسن البصري نحوه] .
وقد نقل كلام ابن إسحاق الإمامأبو جعفر مُحَمَّد بن جرير الطبري في تفسير آية سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً [الإسراء:1] ونقده ونقضه، ونقله أيضاً الحافظ ابن كثير ونقده، ورجحوا مذهب جمهور السلف.
ونعود إِلَى التفصيل فنقول: من قرأ كلام ابن إسحاق لا يجد فيه جزماً بأن الإسراء والمعراج كَانَ بالروح أو بالجسد، في اليقظة أو في المنام؛ بل قال والله أعلم أي ذلك كان، والله قادر عَلَى أن يسري بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في اليقظة أو في المنام، فالحقيقة أن ابن إسحاق نفسه متردد ولم يجزم.
وثانياً: أنه لما نقل كلام من قال من السلف إنه كَانَ بالروح، نقل كلام معاوية وعَائِِِشَةَ والحسن، فأما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فقَالَ: رُوي عنه أنه قَالَ: كانت رؤيا من الله صادقة، والجواب عَلَى ذلك من وجهين:
الأول: أن هذا لم يثبت عن معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.(1/1817)
ثانياً: لو فرضنا ثبوته فإنه لا ينفي أن تكون الرؤيا هذه هي إسراء ومعراج بالحقيقة بالروح والجسد، لأن عبد الله بن عباس حبر هذه الأمة وترجمان القُرْآن قد قال كما روى الإمام البُخَارِيّ عنه في قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الاسراء:60] قَالَ: رؤيا عين أُريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني: ليست رؤيا منام، وإنما هي رؤيا عي.
والرؤيا في كلام العرب تطلق عَلَى رؤيا العين وإن كانت أكثر ما تطلق عَلَى رؤيا المنام، أما "الرؤية": فإنها هي التي بالعين فـ ابن عباس فسر ذلك بأنها رؤيا صادقة، وبأنها رؤيا عين، فلا يشترط في قول معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:"هي رؤيا صادقة" أنها مجرد منام.
وأما قول عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها فقد قال ابن إسحاق: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول ذلك، يعني: أن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها كانت تقول: كَانَ الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، وابن إسحاق يقول: حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ أن عَائِِِشَةَ كانت تقول.
إذاً: في السند مجهول لا ندري من هو الذي حدثه، أثقة أم غير ثقة، فلا يصح عنها ذلك، وكذلك البيهقي رواه من طريق أخرى بنفس السند، قال حدثني بعض آل أبِي بَكْرٍ، فلا ندري من هو هذا البعض.
إذاً: لا نستطيع أن نقول: إن عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها قالت ذلك، انتهينا من كلام معاوية وعَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما.
وأما الحسن البصري فاستدل ابن إسحاق بكلامه في آية (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ [الإسراء:60] ولم يأت أنه أنكر أن يكون الإسراء والمعراج حقيقة، وإنما قال الحسن في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ "بأنها رؤيا فتن النَّاس بها".(1/1818)
إذاً: هذا الذي ذكره ابن إسحاق تفسير لكلام الحسن أن هذه رؤيا أي في المنام، والحسن لم يقل ذلك، لأنه يمكن أن يُحمل كلام الحسن عَلَى كلام ابن عباس فتكون الرؤيا حق ورؤيا عين، كما قال ابن عباس رضي الله تَعَالَى عن الجميع، فالحقيقة أنه لا يثبت لدينا قول نعتمد عليه عن السلف في أن الإسراء والمعراج لم يكن بروحه وجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاً.
الفرق بين أن يقال الإسراء كان مناماً أو كان بالروح والجسد
ثُمَّ يذكر المُصْنِّف قضيةً مهمةً جداً ينبغي أن تُعلم، وهي: أنه ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال كَانَ الإسراء مناماً، وبين أن يُقَالَ: كَانَ بروحه دون جسده، حتى القائلين بأن الإسراء لم يكن بالروح والجسد معاً قالوا: لا بد أن نفرق بين قول من يقول: إنه منام -كما فهم ذلك بعض المتأخرين- وبين قول الصحابة مثلاً: إنه لم يُفقد جسده، يقول: وبينهما فرق عظيم، فعَائِِِشَةَ ومعاوية رَضِيَ اللهُ عَنْهُما لم يقولا كَانَ مناماً، هذا عَلَى فرض ثبوت القول وإلا فهو لم يثبت، وإنما قالا أُسري بروحه ولم يُفقد جسده، وهذا في الحقيقة إنما هو الرواية المروية المنقولة عن عَائِِِشَةَ وحدها.
أما كلام معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فهو: كانت رؤيا من الله صادقة، ولم يقل لم يُفقد جسدُه وفرق ما بين الأمرين.
فإنه إذا كَانَ الإِنسَان نائماً، فإنه قد يرى ما يراه أي النائم، وقد يكون ذلك أمثالاً خيالية مضروبة للمعلوم المحسوس، فتضرب له الأمثال من غير الواقع في صورة محسوسة واقعية مشاهدة، فيرى مثلاً كأنه قد عُرج به إِلَى السماء، وذُهب به إلىبيت المقدس، ثُمَّ رُجع به إِلَى مكة يرى ذلك، وفي الحقيقة أن روحه لم تصعد ولم تذهب ولم تغادر، وإنما هذا مجرد تصوير أو تخييل حصل له في أثناء النوم، ولم تذهب روحه ولم تفارق الجسد لتذهب وتطوف في تلك الأماكن، وإنما هذا أمر تخيلته النفس والإِنسَان نائم في مكانه.(1/1819)
يقول: وإنما ملك الرؤيا ضرب له الأمثال، فما أراد أن الإسراء كَانَ مناماً، وإنما أراد أن ملك الرؤيا ضرب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمثال، وهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم بجسده وروحه، لكن هذا القول عَلَى فرض أن ملك الرؤيا ضرب له الأمثال.
نحن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ جميعاً سلفاً وخلفاً، نؤمن بكل ما ثبت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الآيات الباهرات، والأخبار البينات، وما جَاءَ منها في الكتاب أو السنة، وذلك كافٍ لأن نؤمن ونصدق، سواء كَانَ ذلك مما ألفته عقولنا أم هو مما لم تألفه ولم تعهده، هذا هو القول الصحيح الذي عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ
علو منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعُروجه إلى السماء السابعة
وهذه الآية الكبرى جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى آيةً خارقة خاصة لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن نبي الله موسى -وهو كليم الرحمن وأحد أولي العزم، وهو من قص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا سيرته ودعوته وجهاده وصبره- بكى عندما رأى علو منزلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حينما ارتفع إِلَى ما لم ولن يبلغه بشر قط إلا هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أن جبريل الرَّسُول الأمين تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ومن القرب والدنو من حضرة جلاله جل شأنه، ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ تلك الدرجة فبكى نبي الله موسى، قيل: وما يبكيك قَالَ: أبكي لأن غلاماً بعثه الله من بعدي وقد بلغ ما لم أبلغه، فهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يختص به من يشاء.(1/1820)
ويجدر بنا أن نتعلم ونتذكر سيرة هذا النبي العظيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنقرأ مثل هذه الآيات البينات، ونجعل سيرته وسنته قدوة لنا في أعمالنا جميعاً، وأن نعلم أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذ شَّرفه بهذه المنزلة العظيمة، والدرجة الرفيعة، فإن من اتبع دينه واقتدى به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا إِلَى مثل ما دعا إليه خالصاً لوجه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإن الله سوف يرفعه ويكتب له من المنزلة والمكانة بقدر ما يجتهد في ذلك، ومن أعرض عن سنته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضرب صفحاً عنها، ولم يبالِ بأمره ولا بمحبته، فإنه مكتوب عليه الذل والصغار؛ لأنه حقر تلك الآيات البينات، ونكص عَلَى عقبيه، نسأل الله أن يعافينا وإياكم.
فهذه الميزة العظيمة لو استعرضنا أحداث السيرة لوجدنا أنها وقعت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر عام الحزن بعد أن توفيت زوجته خديجة التي كانت نعم الزوج ونعم البار والمعين عَلَى الدعوة، وبعد أن توفي عمهأبو طالب الذي جعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى رغم شركه درعاً للدعوة وناصراً لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الله قد يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواء كَانَ مشركاً أم مسلماً فاجراً.
وبعد أن رجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الطائف ولاقى ما لا قى من الأذى، سلاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعوضه عن هذه العوالم السفلية، وعما لقيه فيها من عدم التقدير وعدم معرفة منزلته ومكانته؛ بأن بلغ به تلك الدرجات العلى.
عظيم منزلة الصلاة(1/1821)
ومما يجب أن نعتبر به وأن نجعله نصب أعيننا عظم شأن الصلاة، هذه الفريضة التي لم يشرعها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأرض ولو شاء لفعل ذلك، ولكن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حكمة في أن تشرع في الملأ الأعلى، ويستدعى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك، ولا يكون ذلك إلا في أعظم المهمات، وأفضل الطاعات.
فمثلاً: ولله المثل الأعلى، لو أن ملكاً أوسلطاناً أهمه أمر يحب أن يبلغه من يقوم في شأن من الشؤون، فإنه إذا كَانَ الأمر عظيماً فإنه سيستدعيه ليبلغ إياه، وبهذه العبرة العظيمة نعرف قدر الصلاة وشأنها، ورسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يدور في خلده، ولا يخطر بباله أن أمته سوف تضيع الصلاة، ولهذا سأل جبريل عَلَيْهِ السَّلام، أتترك أمتي الصلاة؟ وهي آخر ما يفقد من الدين كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تنقض عرى الإسلام عروة عروة، فكلما نقضت عروة تشبث النَّاس بالتي تليها فأولهن نقضاً الحكم بما أنزل الله وآخرهن الصلاة) .
وفي الحديث الآخر: (أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخره الصلاة) هذه آخر ما يفقد من الدين وقد فقدت إلا من رحم الله، وقد ظهر التهاون في شأنها وعدم المبالاة بها.
ومما يجب أن نستشعره ونستحضره ونحن نقرأ هذه الآيات البينات، ما جرى في الإسراء والمعراج من بيان عظمة الصلاة، وعظمة الدعوة إليها، وشأن الصابرين عليها، وضرورة أن يكون في هذه الأمة من يدعو إِلَى الصلاة ومن ينصح بإقامتها كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] فلو أقيمت الصلاة حق إقامتها وصليت حق صلاتها لتغيرت حياة النَّاس اليوم، ولكن ضيعت الصلاة.(1/1822)
ثُمَّ إن كثيراً من الدعاة لا يبالي بتضييع الصلاة فلا يجعل الصلاة أكبر همه بعد التوحيد، وهذا مخالف لهدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدعوة، فإنه لما بعث معاذا ً إلىاليمن، أخبره (إنك تأتي قوماً أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا ألا إله إلا الله) ، وفي رواية (توحيد الله) وفي رواية (عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ) وكلها صحيحة؛ لأن عبادة الله لا تكون إلا بتوحيد الله وكلمة لا إله إلا الله هي كلمة التوحيد فالمعنى كله واحد.
(فإن هم أجابوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة) هذه درجة ثانية ندعو إليها بعد التوحيد.
(فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم فترد عَلَى فقرائهم) فدعوتنا إِلَى أن يعبد الله وحده فلا يُدعى ولا يُخاف ولا يُخشى ولا يُرجى إلا هو وحده لا شريك له، ولا ينذر ولا يذبح إلا له سبحانه، وتكون له الطاعة، ولا كلام لأحد بين يدي كلام الله، ولا بين يدي كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل توحيد مطلق، ثُمَّ بعد ذلك ندعو إِلَى الصلاة، فإنها من شعائر التوحيد، ومما يمكِّن التوحيد في القلوب. .
وليس من العبر الاحتفال بذكرى الإسراء والمعراج، إذ لو كَانَ مشروعاً لما فات الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فعله، ثُمَّ يأتي خوالف في القرن التاسع أو العاشر فيقولون لا بد أن نحتفل.
الكلام على رواية شريك بن عبد الله المدني
وأما بالنسبة لرواية شريك فإن فيها ألفاظ غريبة وشاذة، وشريك نفسه اختلف في توثيقه وتضعيفه.
وسبق أن ذكرنا رد الإمامابن القيم فيزاد المعاد 3/34 عَلَى من قَالَ: إن الإسراء والمعراج، وكلام المصنف-رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا أكثره ملخص منه.(1/1823)
وبمناسبة الكلام عَلَى رواية شريك هذا، فقد وجدت عبارة الحافظ ابن حجر في الجزء 13/486 في شرح كتاب التوحيد من الفتح يقول: إن ابن القيم في الهدي النبوي ذكر بأن في رواية شريك عشرة أوهام. لكنه يجعل مخالفته في مواضع الأَنْبِيَاء من السماء واحدة من أربع، ويبقى أنه زاد ثلاثة.
ولم أجد في الزاد ذكراً بالتفصيل لمخالفات شريك بن عبد الله، وإنما وجدت نفس العبارات التي هنا وهي قوله: [وقد غلَّظ الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثُمَّ قَالَ: وقدم وأخر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد رَحِمَهُ اللَّهُ انتهى كلام الشيخشمس الدين رَحِمَهُ اللَّهُ] نعم، انتهى كلام ابن القيم عند ذلك، ولم يذكر تلك المخالفات العشر، فالله أعلم هل هي في نسخة لم نطلع عليها، أم أن الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- قد وهم في ذلك ويكون قد قرأها من كتاب آخر.
وشريك بن عبد الله هذا ليس هوالقاضي؛ لأنهما اثنان وكلاهما إمامان تابعيان:
أحدهما: شريك بن عبد الله النخعي من النخع قبيلة يمنية معروفة، منها إبراهيم النخعي وكان قاضيالكوفة، وليس هو هذا.
فإن هذا هو: شريك بن عبد الله بن أبي نمر المدني، وهو الذي روى هذا الحديث عن أنس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وقد سبق أن قلنا: إن الروايات الصحيحة أثبتها متناً وأصحها سنداً وأتمها سياقاً روايتان:
الأولى: رواية قتادة عن أنس؛ فإنالحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في شرحه لكتاب التوحيد منفتح الباري يميل إِلَى تقديمها، وقد رواها الإمامأَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم.(1/1824)
والثانية: رواية ثابت عن أنس رواها الإمام أَحْمَد ومسلم، إلا أنَّ رواية قتادة الأولى الوافية رواها قتادة عنأنس عن مالك بن صعصعة، وأنس إنما روى الحديث عنمالك، لأنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ صغيراً في المدينة، وهو من الأنصار وربما لم يدرك الواقعة، وربما أنها وقعت قبل ولادته كما يبدو من تاريخ حياته، فهو قطعاً رواها عن أحد الصحابة، لكن مرسل الصحابي مرفوع متصل لا شك في ذلك.
وهذه هي أتم الروايات وأصحها سنداً وأتمها ألفاظاً، وليس فيها مخالفات، وكذلك رواية ثابت عنأنس وإن كَانَ بينهما اختلاف، فالاختلاف وقع بين الروايات، ويمكن أن يجمع بينها، إلا أن الرواية التي فيها الاختلاط والاضطراب هي روايةشريك بن عبد الله المدني وهي أكثر ما عول عليها الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الزاد وإن كَانَ لم يأخذ ببعض ألفاظها، والمصنف نقل تقريباً كلامابن القيم بنصه، فلم يأتنا برواية كاملة منفصلة.
وإنما ذكر من عنده رواية مدرجة، ذكر فيها من هنا وهناك، وإن كَانَ أكثر التعويل فيها في الحقيقة هي عَلَى روايةشريك، ويبدو أن فيها نوعاً من التفصيل، وهي الرواية التي علق عليها الحافظ في الجزء 13 في آخر الصحيح في كتاب التوحيد ونحن الآن نذكر إن شاء الله تَعَالَى ما ذكره المُصْنِّف مما هو ملخص أو منقول حرفياً تقريباً من كلام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وكان من حديث الإسراء أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسري بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، من المسجد الحرام إِلَى المسجد الأقصى، راكباً عَلَى البراق، صحبة جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك ألبتة.(1/1825)
ثُمَّ عُرِجَ به من بيت المقدس تلك الليلة إِلَى السماء الدنيا، فاستفتح له جبريل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر فسلم عليه، فرحب به ورد عَلَيْهِ السَّلام وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، فلقيهما فسلم عليهما فردا عَلَيْهِ السَّلام، ورحبا به وأقرا بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به، وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به، وأقر بنبوته.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى.
ثُمَّ رفع له البيت المعمور.
ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر عَلَى موسى فقَالَ: بم أُمِرتَ؟
قَالَ: بخمسين صلاة.
فقَالَ: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إِلَى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن نعم إن شئت، فعلى به جبريل حتى أتى به إِلَى الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في صحيحه.
وفي بعض الطرق فوضع عنه عشراً، ثُمَّ نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقَالَ: ارجع إِلَى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف.(1/1826)
فقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي] اهـ.
الشرح:
هنا إضافة بعد قوله: [وهو في مكانه، هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق] ، وهي في الحقيقة من طريقشريك بن عبد الله المنتقدة التي فيها ألفاظ شاذة مخالفة [فوضع عنه عشراً] هذه تكملة للكلام الأول وهو مجموع من عدة الطرق.
لكن عَلَى القراءة من النسخة التي بتعليق الشيخ الألباني كأن هذا هو لفظ البُخَارِيّ في صحيحه وكأن ما بعده "في بعض الطرق" خارج البُخَارِيّ مثلاً، وهذا بالعكس، والطريقة السليمة أن يقول: هذا لفظ البُخَارِيّ في بعض الطرق، أما الطرق الأخرى عند البُخَارِيّ وغيره فليس فيها وهو مكانه، وسيأتي إيضاح هذا.
قال المصنف-رَحِمَهُ اللهُ- تعالى:
[وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعين رأسه وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه، وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى] النجم:11 [وَلَقَدْ رَآهُ نزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا المرئي جبريل رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها.
وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه قال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه.(1/1827)
وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين، مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى. ومما يدل عَلَى أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى [الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإِنسَان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] اهـ.
الشرح:
مكان وجود جميع الروايات في الإسراء والمعراج هو تفسير الحافظابن كثير رَحِمَهُ اللهُ، وأيضاً ابن جرير؛ لكن ابن كثير جَاءَ بجميع الروايات، ما فيالمسند، وما في الصحيحين، وما فيتفسير ابن جرير، فهو جمع جميع الروايات.
ومنها روايةقتادة، ورواية ثابت كلاهما عن أنس، وكذلك غيره من الصحابة كأَبِي هُرَيْرَةَ وابن عباس وغيرهم عَلَى اختلاف وتفاوت في طول تلك الروايات أو قصرها
والمصنف هنا ذكر ملخصاً لذلك منقولاً من كتاب زاد المعاد، وهو أولاً: أنه أسري بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجسده في اليقظة عَلَى الصحيح، وقد سبق ذكر الأدلة عَلَى هذا، ومنها نص الآية: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى [الإسراء:1] راكباً عَلَى البراق: والبراق ورد بيان صفتها في نفس الحديث، وهي أنها دابة دون البغل وفوق الحمار، وهي آية من آيات الله -عَزَّ وَجَلَّ- جعلها تَبَارَكَ وَتَعَالَى دليلاً ومركباً لنبيه محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1828)
وقد ورد في بعض هذه الروايات ما يشعر بأنه قد ركبها غيره؛ لأنه لما أراد النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يركبها اضطربت، فَقَالَ جبريل: اثبتي فوالله ما ركبك بشر قط أكرم عَلَى الله منه، يعني: النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد يفهم من هذا أن غيره من الأَنْبِيَاء ركبها، وقد يفهم أن غيره لم يركبها، وإنما المراد بيان كرم رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يشترط في قوله: (ما ركبك بشر أكرم عَلَى الله منه) أن غيره قد ركبه، وإنما هي خاصة به صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تَعَالَى أعلم بذلك.
ولما حصلت له هذه الآية العظيمة ركب هو وجبريل، وقيل: "بصحبة جبريل" أو "وصحبه جبريل" كلا المعنيين صحيح فنزل هناك أي: فيبيت المقدس) وصلى بالأنبياء إماماً.
الراجح في الروايات أن الصلاة بالأنبياء كان قبل المعراج
والذي يترجح من الروايات أن صلاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأنبياء كانت قبل عروجه إِلَى السماء، وإن كَانَ قد ورد في بعضها أنها بعد رجوعه، لكن الذي يظهر أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أسرى به أولاً إِلَى المسجد الأقصى، ومن هناك إِلَى السماء، وعاد من السماء إِلَى المسجد الحرام هذا الذي يبدو.(1/1829)
وصلاته بالأنبياء إماماً هذه فيها دليل عظيم واضح جلي عَلَى فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى ما هو معلوم من أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد أخذ العهد عَلَى كل نبي أن يؤمن بالنبي مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ َ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ [آل عمران:81] فهذا عهد وميثاق أخذه الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى الأنبياء، أن يؤمنوا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أفضلهم، وهذا الموقف يذكرنا بما يجري يَوْمَ القِيَامَةِ حين يتراجع الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم، كلهم يتخلون وكلهم يقول: نفسي نفسي، فيتقدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشفاعة العظمى ويقول: أنا لها أنا لها، ثُمَّ يكون بعد ذلك ما يكون من التكريم العظيم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبول شفاعته في أهل المحشر، وذلك هو المقام المحمود الذي لم يجعله الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لبشر غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وربط البراق بحلقة باب المسجد) وقد ذكر الحافظ ابن كثير رواية وهي مما يذكر ويستأنس بذكرها هنا بهذه المناسبة وهي: حديثأبي سفيان مع هرقل عندما كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع دحية الكلبي إِلَى ملك الروم هرقل بكتاب يدعوه فيه إِلَى الإسلام) كما في أول صحيح البُخَارِيّ قَالَ: ائتوني بأي رجل من قوم هذا الرجل أو من أتباعه، فوُجد أبو سفيان وهو قائد قوى الشرك ورائده، فجيء به إِلَى هرقل وكانت المساءلة والمناظرة التي ذكرناها، في موضوع النبوات.(1/1830)
وفي هذه الرواية يقول: إن أبا سفيان قَالَ: فهممت أن أقول له أمراً لعله مما يكذبه به، يعني يريد أن يقول لهرقل شيئاً ليستفظعه ويصدق، فيكون ذلك مما يثبط عزمه فلا يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يصدقه، فكان أن قال له: وقد أخبرنا أيها الملك أنه جَاءَ في ليلة واحدة من مكة إلى بيت المقدس، ثُمَّ عرج به إِلَى السماء، وترقى إِلَى السماوات السبع، ثُمَّ رجع في ليلة واحدة.
فتعجب هرقل فقال له قسيس كَانَ جالساً عند هرقل: وما يدريك أن ذلك وقع؟ قَالَ: وكيف؟ فَقَالَ القسيس وكان سادناً "مسؤولاً" لبيت المقدس: أيها الملك أنا أخبرك بذلك: إني في ليلة من الليالي أمرت الحرس والعمال أن يوصدوا الأبواب، فأقفلوها إلا باباً من الأبواب، فإنهم قد حاولوا وبذلوا جهدهم، فلم يستطيعوا أن يقفلوه، فقلنا: نتركه إِلَى غد حتى نأتي بالنجار أو من يصلحه فبقي الباب مفتوحاً.
فلما كَانَ الصباح جئنا فوجدنا آثار ناس قد صلوا، ورأينا في الصخرة نقرة وأثر مربط دابة من الدواب) وهذه الرواية مما يؤخذ من الأخبار التي لا نشترط صحة سندها، فهي منقولة عن قسيس نصراني، إِلَى ملك من ملوك النَّصَارَى، وليس فيها حكم من أحكام ديننا، ولكن فيها عبرة وعظة لإثبات صدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أكرمه بذلك، وأن هذه الآية قد رآها أُولَئِكَ القوم هذا بالنسبة لقوله: (وربط البراق بحلقة باب المسجد) .
وقد قيل: إنه نزل بيت لحم وصلى فيه أتى ذكر ذلك في روايات ضعيفة، وكما قال ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- لم يصح ذلك عنه البتة.
ثُمَّ عرج به تلك الليلة منبيت المقدس عَلَى البراق إِلَى السماوات السبع، فأتى أول سماءٍ وهي السماء الدنيا فاستفتح له جبريل الملائكة فقيل ومن معك قَالَ: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: أوقد بعث قَالَ: نعم، قالوا: مرحباً بك وبمن معك ففتح لهم.(1/1831)
دليل على كذب من يدعي الغيب
من المعلوم أن الملائكة حراس السماوات الذين لا يتنزل الأمر من الله -عَزَّ وَجَلَّ-أو يصعد إلا ويأتيهم منه خبر، كما في الحديث (إن الله إذا قضى الأمر سمع له كضرب سلسلة عَلَى صفوان فيغمى عليهم فيكون أول من يفيق جبريل، فيتلقى الأمر ثُمَّ يمر جبريل عَلَى أهل كل سماء فيقولون: ماذا قال ربكم؟ فَيَقُولُ: الحق وهو العلي الكبير) وهَؤُلاءِ يقولون: من معك؟ أوَ قد بعث؟ فلم يعلموا أنه قد بعث صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي ذلك دليل عَلَى كذب من يدعي علم الغيب ويقول: إنه من الأولياء، فهَؤُلاءِ عباد الله الصالحون في ذلك المكان العظيم حرس السماء لا يدرون من الذي مع جبريل، ولا يدرون أقد بعث أم لا، لكن يعلمون أنه رسول؛ لأن قولهم: أو قد بعث فيه دليل عَلَى أنهم يعلمون أن هناك نبياً سيبعث يقال له مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا يدرون عنه شيئاً حتى جَاءَ يستفتح ومعه جبريل عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
فلما فتحوا له ورحبوا به رأى هناك آدم أبا البشر عَلَيْهِ السَّلام في السماء الدنيا، وفي روايات أخرى أنه ورآه عَلَى تلك الحالة وعن يمينه أسودة وعن يساره أسودة، وفسرها المُصْنِّف -كما في نسخ أخرى- فقَالَ: الذين عن يمينه، هم أرواح السعداء، والذين عن يساره هم أرواح الأشقياء -عافانا الله وإياكم من الشقاوة ومن طريقها- فكان عَلَيْهِ السَّلام إذا نظر عن يمينه ضحك واستبشر؛ لأنهم من ذريته، وهم من أهل السعادة، ومن أهل الجنة والنجاة -جعلنا الله وإياكم منهم- وإذا نظر إِلَى شماله نظر إِلَى أهل النَّار ممن استوجبوا غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وعذابه، ومقته فيبكي أبونا آدم لمآل هذه الذرية الذين عصوا الله وأعرضوا عن دعوة الله وما جَاءَ عَلَى لسان أنبيائه، فكانت هذه عاقبتهم وهي النَّار عافنا الله وإياكم منها.(1/1832)
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الثانية فاستفتح له جبريل، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم، وفي وجودهما معاً شيء من الحكمة، وفيه شيء من الكرامة لهما؛ لأنهما كما جَاءَ في الرواية أبناء الخالة، وكانا معاً في السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، وأيضاً رحبا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقرا بنبوته.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف عَلَيْهِ السَّلام فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام، وأقر بنبوته عليه وعلى نبينا مُحَمَّد أفضل الصلاة والتسليم.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الرابعة، فرأى فيها نبي الله تَعَالَى إدريس عَلَيْهِ السَّلام، فذلك قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً [مريم:57] كما جَاءَ في الروايات الأخرى، هذا المكان العلي هو السماء الرابعة، فسلم عليه رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به وأقر بنبوته.
ثُمَّ عُرِجَ به إِلَى السماء الخامسة فرأى فيها هارون بن عمران أخا موسى عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السادسة فرأى فيها موسى بن عمران.
وما تقدم من السماء الدنيا إِلَى الخامسة هذه هي الرواية الواضحة التي لا ينبغي أن تعارض بما جَاءَ في رواية شريك ولا غيره؛ لأن شريكاً اضطرب في الرواية.
وفي رواية أيضاً للزهري أنه قَالَ: لم يضبط ولم يحفظ ولم يدر الأَنْبِيَاء في أي سماء وهذه أرجح وأوضح الروايات.
ثُمَّ تختلف الروايات الصحيحة الثابتة التي يصعب علينا أن نرجح أحدها عَلَى الأخرى.
هل موسى في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة أم العكس؟
هناك مسألة وهي: هل كَانَ موسى عَلَيْهِ السَّلام في السماء السادسة وإبراهيم في السابعة، أم العكس؟.(1/1833)
والجواب: أن إبراهيم كَانَ في السابعة وموسى في السادسة، ومما يرجح كون إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام في السابعة، أنه هناك عند البيت المعمور؛ لأنه هو الذي بنى الكعبة في الدنيا.
وأيضاً قدر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام وكونه خليل الرحمن يرجح ذلك، وكون رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشبه النَّاس به، هذا أيضاً دليل مما قد يرجح علو إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام.
وأما كون موسى عَلَيْهِ السَّلام أعلى من إبراهيم فيرجحه ما جَاءَ في آخر الحديث، أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما فرضت عليه خمسين صلاة كَانَ يرجع، فيقابله موسى عَلَيْهِ السَّلام فيقول له: ارجع، فكأن موسى هو الذي في السماء السابعة فلذلك يراجعه في ذلك، حتى فرضت خمس صلوات، والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
والذي اختاره ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- تَعَالَى وتبعه المُصْنِّف هنا أن الذي في السادسة هو موسى بن عمران عَلَيْهِ السَّلام، ولا يمنع ذلك أن ينزل من عند إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام ولا يعترض عَلَى شيء؛ لأنه لم يعالج الأَنْبِيَاء أممهم كما عالج موسى أمته، ثُمَّ إذا وصل إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام في السماء السادسة قال له: ارجع إِلَى ربك عَزَّ وَجَلَّ، أقول ذلك لا يمنع، ولكن الله أعلم ونسبة العلم إليه أكمل.
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قد اختص موسى بكلامه، وكتب له التوراة بيده.(1/1834)
قوله: (بكى فقيل له: ما يبكيك، فقَالَ: أبكي؛ لأن غلاماً بعث بعدي، يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي) وهو عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يريد أن تكون أمته أكثر الأمم، وكما في حديث السبعين الألف، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فنظرت فإذا سواد عظيم فظننت أنها أمتي فقيل: لا. هذا موسى وقومه، ثُمَّ رفع له سواد أعظم وأكثر، فقيل: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب) ، فأمة موسى عَلَيْهِ السَّلام أمة عظيمة ولكن شتان بين من أوحى الله إليه أن أخرج قومك من الظلمات إِلَى النور، وبين من أوحى الله إليه أن يخرج النَّاس من الظلمات إِلَى النور.
فمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسالته إِلَى النَّاس كافة، هذا من حيث عموم المبعوث إليهم، ثُمَّ من حيث الزمان فثبوت رسالة موسى عَلَيْهِ السَّلام مؤقتة. أما رسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنها للزمان كله إِلَى أن تقوم الساعة، فمن الطبيعي إذاً أن تكون أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر عدداً من أمة موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم.
ثُمَّ عرج به إِلَى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه فرد عَلَيْهِ السَّلام ورحب به وأقر بنبوته وهو كما ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أشبه النَّاس به عليهما الصلاة والسلام قَالَ: (وأما إبراهيم فانظروا إِلَى صاحبكم) أي: من أراد أن يعرف كيفية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ: فانظروا إلي.
ثُمَّ رفع إِلَى سدرة المنتهى، وهي سدرة عظيمة، أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عنها، وأخبر بها الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نعلم عنها إلا ما في ذلك من الوحي، وهي آية من الآيات العظمى، التي جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في ذلك الملأ الأعلى.
ثُمَّ رفع له البيت المعمور.(1/1835)
ثُمَّ عرج به إِلَى الجبار، فوصل إِلَى مالم يصله أحد من البشر قط، حتى أن الرَّسُول الأمين جبرائيل عَلَيْهِ السَّلام تضاءل حتى أصبح كالعصفور من خشية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فدنا منه حتى كَانَ قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إِلَى عبده ما أوحى.
ونقف مع هذه الرواية عند هذه الجملة التي هي من ضمن الروايات الشاذة أو المنكرة، وهي رواية شريك بن عبد الله، وليس في بقية الروايات ما فهم منها المُصْنِّف ما قاله بعد: [وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتدليه] وليس الأمر كذلك، فنتجاوزها؛ لأنها من ضمن الروايات المخالفة التي هي إما شاذة أو منكرة وسيأتي الكلام عليها فيما بعد إن شاء الله.
وفرض عليه خمسين صلاة ثُمَّ خففت إِلَى خمس فرائض وقَالَ: قد استحييت من ربي ولكن أرضى وأسلم، فلما قال ذلك نادى منادٍ من قبل الله -عَزَّ وَجَلَّ-أن قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، فكان ما اختاره ورضي به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو ذلك الذي قضاه الله -عَزَّ وَجَلَّ-ولا مبدل لكلماته، ولا معقب لحكمه فهي خمس في العمل وخمسين في الأجر، وهذا فضل من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، وتكرمه لها ولنبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه أيضاً بيان عظمة الصلاة وأهميتها، ثُمَّ ينتقل المصنف-رَحِمَهُ اللَّهُ- بعد ذلك إِلَى قضية الرؤية.
تقدم ذكر اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في رؤية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه وقوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] .(1/1836)
يقول: [صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذا المرئي جبريل، رآه مرتين عَلَى صورته التي خلق عليها] ومر في مبحث الرؤية ذكر اختلاف الصحابة رضوان الله تَعَالَى عنهم، فلا نستطيع أن نجزم بخلاف الصحابة رضوان الله عليهم في رؤية النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه، لأن ما قيل عن ابن عباس مثلاً يحتمل، ونقل عن عثمان بن سعيد الدارمي -رَحِمَهُ اللهُ- اتفاق الصحابة عَلَى أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ير ربه بعين رأسه، وفي كلام الحافظ ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- ما يشير إِلَى ذلك.
وأما الرؤية بفؤاده فإنها قد ثبتت في غير ليلة الإسراء والمعراج، وهي الرؤية المنامية التي ذكرها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث اختصام الملأ الأعلى (رأيت ربي أو أتاني ربي الليلة في أحسن صورة فقَالَ: يا مُحَمَّد فيما يختصم الملأ الأعلى -فأخبره بعد ذلك- فقَالَ: في الكفارات والنذور) فهذه الرؤية رؤية منامية.
توجيه ما نسب إلى ابن عباس أنه قال: "رآه العين"
وأما ما نُسب إِلَى ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من أنه قَالَ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] قال في هذه الآية: هي رؤيا عين أُوريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به كما في كتاب التفسير منصحيح البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ.(1/1837)
فإن هذه تدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن كلمة الرؤيا هنا تطلق رؤيا عَلَى المنام، وعلى الرؤية الحقيقية البصرية، وأكثر إطلاقها عَلَى المنامية، فخشي عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أن يفهم أحد من قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] أن يفهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرج به في المنام فقَالَ: رؤيا عين أُوريها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به، يعني: عرج به بجسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أنه عرج في المنام.
ولا يدل عَلَى أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه -عَزَّ وَجَلَّ-أي: أنه لم يخالف في ذلك ابن عباس وسائر الصحابة والأدلة عَلَى ذلك واضحة، كحديث أبي ذر وغيره، والمقصود أننا لا نستطيع أن نقول: إنابن عباس رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -بناءاً عَلَى هذا الحديث- يرى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه بعينيه، وإنما يقول: رؤيا عين أي: كانت في اليقظة عَلَى الحقيقة، هي وكل ما وقع في ليلة الإسراء عامة، وليس خصوص رؤية الله عَزَّ وَجَلَّ.
الأدلة على عدم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بعينه
وأما رؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ فإن من أصرح الأدلة عَلَى امتناعها وعدم وقوعها حديث أبي ذر في الصحيح، وهو سؤال صريح في محل النزاع: وهو أنأبا ذر سأل رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: هل رأيت ربك يارَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه) وهذا تصدقه رواية أخرى وهي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .(1/1838)
ومن ذلك أيضاً الحديث المتفق عليه وهو حديث عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: "ثلاث من حدثك بهن فقد أعظم عَلَى الله الفرية " تعني: ثلاثاً عظيمات جداً، والثنتين الأخريين أعظم من هذه؛ لأن هذه قضية خبريه لكن تلكما قضية اعتقادية وهي أهم.
أما الأولى قالت: "من حدثك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتم شيئاً مما أوحى إليه فقد أعظم عَلَى الله الفرية" فرية عظيمة لأن الله -عَزَّ وَجَلَّ-يقول: يَا أَيُّهَا الرَّسُول ولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67] وفي ذلك رد عَلَى الذين يقولون بالعلم الباطن، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختص به بعض الناس، كما يقولون: إن عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتحدث مع أبِي بَكْرٍ وكنت كالزنجي بينهما" يعني: مثل الأعجمي لا يفهم شيئاً؛ لأنهم يتكلمون في أمور الأحوال والمقامات كما تقول الصوفية.
وكما تقول الروافض أنه كتب العلم في الجفر واختص بهذا الجفر علياً وبعض آل البيت، وهذا الجفر مخبوء وتناقلوه إِلَى جعفر ثُمَّ إلىمُحَمَّد بن الحسن العسكري صاحب السرداب ولا يعلم أحد ما فيه، سُبْحانَ اللَّه!
إذاً: هذا علم مكتوم فهذا من أعظم الفرية عَلَى الله وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقول بأن شيئاً من الشريعة إما باطن وإما العلم اللدني أو الجفر كتمها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا لا بد فيه من أحد أمرين:
إما أن يقول: إن هذا الشيء كتمه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي ذلك ما قد قلنا.(1/1839)
وإما أن يكون ذلك خرافة لا أصل لها، وهذا هو الصحيح، وذلك أنه لما سُئل عنه عَلِيّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- "هل خصكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم قَالَ: لا والذي فلق الحبة وبرء النسمة ما خصنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء من العلم "، فالمقصود أن هذه هي الأولى.
وأما الثانية: فهي قولها رَضِيَ اللهُ عَنْها: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم الغيب فقد أعظم عَلَى الله الفرية) لقوله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] .
وقولها: فقد أعظم عَلَى الله الفرية أي: افترى عَلَى الله -عَزَّ وَجَلَّ-افتراءاً عظيماً، إذاً هل الأولياء أو السحرة أو الكهان يعلمون الغيب؟
الجواب: لا. لأنه مادام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعلم الغيب فكيف يعلم الغيب هَؤُلاءِ؟ وأما ما يخبر به الكهان من أمور المغيبات فقد سبق الحديث عنه.
وأما الثالثة: (ومن أخبرك أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى ربه فقد أعظم عَلَى الله الفرية، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إذاً: لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه(1/1840)
وأما آيات النجم فلو تدبرناها لعلمنا أنها واضحة الدلالة إن شاء الله والآيات هي: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:1-5] فالقضية قضية هذا الوحي، فالكفار يقولون: إنما يعلمه بشر، أساطير الأولين اكتتبها، ويقولون في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كاهن، ساحر، شاعر، كل ذلك قد قاله الكفار فالله -عَزَّ وَجَلَّ- يُقسم بالنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، ومن الذي يعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ تبين ذلك الآيات الأخرى إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40]
إذاً: الرَّسُول الكريم هو رَسُول شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [لنجم:5-10] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أتاه جبريل بالوحي خاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحصلت له فترة من الوحي، كما جَاءَ في الحديث الصحيح كما في كتاب بدء الوحي في البُخَارِيّ، فخاف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يدر ما هذا، فقد يكون شيطاناً وقد يكون ملكاً، وقد يكون ... فلا يعلمه لأول مرة، فمنّ الله تَعَالَى عليه في المجيء الثاني لجبريل بعد فترة الوحي بأن أتاه جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق، ويتقاطر منه مثل الدر والياقوت عَلَيْهِ السَّلام فرآه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حقيقته فاطمأنّ.
رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام(1/1841)
هذا الوصف ثابت لجبريل عَلَيْهِ السَّلام في صحيح البُخَارِيّ إِلَى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [قد سد الأفق] كما في كتاب التفسير عند هذه الآية وفي الكتب الأخرى، فاطمأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك أن هذا رَسُول من عند الله حقاً، وأنه نبي لله حقاً، بعد هذه الهيئة التي نزل عليها، وجاء بها جبرائيل عَلَيْهِ السَّلام، وهذه هي المرة الأولى بالنسبة لرؤية الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل عَلَيْهِ السَّلام عَلَى صورته الحقيقية.
وهناك لطيفة في قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] ذكرها الطّّحاويّ وسبق أن ذكرنا أنّ الأصل في هذه الآية أن يوضع محلها في الشرح قوله تعالى: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] لأن قوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] في الرؤية الدنيوية، وهذه الدقيقة اللطيفة يوضحها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ في شعب أجياد، كما في هذه الرواية الصحيحة، ورأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام في صورته التي خلقه الله تَعَالَى عليها استيقن فؤاده واطمأن، فالقضية هنا أنسب إِلَى نظر الفؤاد، وليس إِلَى نظر العين، نعم رأته العين لكن قوله: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى [النجم:11] فيها تواطئ القلب والعين فحصل بذلك اليقين عَلَى أن هذا وحي من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه هي الوجهة الأولى.(1/1842)
ثُمَّ قال تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:13-17] إذاً الإسراء والمعراج يناسبهامَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] فهناك وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَيْهِ السَّلام عَلَى خلقته التي خلقه الله عليها مرتين:
الأولى: هذه التي في أجياد بعد فترة الوحي.
والثانية: عند سدرة المنتهى، وهذا من فضل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عليه، وفيها حكم يضيق المقام عن شرحها، ولكن نذكر منها: كونه يكون عَلَى خلقته التي خلقها الله تعالى، ومع ذلك يتقاصر دون درجة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا أعظم من أنه كَانَ عَلَى خلقة رجل ثُمَّ يكون أقل؛ لكن عَلَى نفس الخلقة التي هي أعظم خلقة له، ومع ذلك فإن رَسُول الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبلغ إِلَى درجة أعلى منه عَلَيْهِ السَّلام، فهذا تكريم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبعدها رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند هذه السدرة الآيات العظيمة العجيبة مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى كونه في الملأ الأعلى هذا، ولهذه المناظر المهيبة العجيبة مدعاة أن يزيغ البصر، أو أن يذل، أو أن يطغى، ويتجاوز الحد، فرأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الآيات رؤية حقيقية بصرية. وبملاحظة هذا التفسير الموجز السريع للآيات نجد أنها جميعاً في جبريل عَلَيْهِ السَّلام، وليست في الجبار سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والروايات الصحيحة كرواية قتادة وأنس أيضاً تدل عَلَى ذلك، إذاً قول شريك هذا لا يعتد به.(1/1843)
فمن الأخطاء التي فيشرح العقيدة الطّّحاويّة هذا الخطأ، وهو أن قوله: [وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في الإسراء] الواقع أنه واحد فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عَائِِِشَةَ وابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فإنه قَالَ: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه، وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبريل رآه مرتين مرةً في الأرض ومرةً عند سدرة المنتهى] الواقع أن هذه العبارة: [وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] هذه العبارة لو حذفناها بالمرة ثُمَّ قرأنا الكلام فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوي] .
ثُمَّ يقول: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، وهو جبريل رآه مرتين، مره في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى] فتكون العبارة صحيحة والكلام سليم ولا غبار عليه، وأُدخلت هذه العبارة نتيجة لرواية شريك، وهي الرواية المنتقدة التي لم يوافقه عليها بقية الرواة [فدنا منه فكان قاب قوسين أو أدنى] إلا أن الحافظ ابن حجر ذكر عنابن عباس رواية قَالَ: إنها حسنة فيها إثبات ذلك؛ ولكن غاية ما في الأمر إذا صح سندها أن نقول: إنها شاذة، وإذا كَانَ المخالف ضعيفاً، قلنا: إنها منكرة عَلَى الاصطلاح المشهور في علم المصطلح.(1/1844)
وقد ذكرنا الأوهام العشرة التي ذكرتها رواية شريك ذكرها المُصْنِّف هنا نقلاً عن الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ، وكما قلنا: إن الحافظ ذكر أنابن القيم ذكر أن فيها عشرة أوهام إذاً: لا يعول عَلَى رواية شريك هذه.
والخلاصة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة الإسراء والمعراج لم ير ربه -عَزَّ وَجَلَّ-بعينه، ولم يثبت أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، وإنما هذه رواية شاذة أو منكرة، ونبقى عَلَى ما في الروايات الصحيحة، أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرب من ربه -عَزَّ وَجَلَّ- ودنى منه إِلَى درجة لم ولن يبلغها أحد، ففرض عليه الصلوات الخمسين التي أصبحت فيما بعد خمس، وما يتعلق بكون الإسراء بالجسد في اليقظة هذا قد سبق أن شرحناه.
يقول المصنف: [إن ما يدل عَلَى أن الإسراء كَانَ بجسده صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حال اليقظة لا المنام: أن الله تَعَالَى قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى [الإسراء:1] والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح] .
فإذا أُطلق فإنَّه يطلق عَلَى الروح والجسد معاً كقوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19] أي: أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قام بروحه وجسده [كما أن الإِنسَان اسمه مجموع الروح والجسد] فلا نفهم أنه روح فقط, فإذا قلنا: جَاءَ إنسان، فلا يمكن أن يفهم أحد أنه جاءت روح إنسان ,وإنما المقصود أنه جَاءَ بذاته، أي: بجسده وروحه, [هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح.(1/1845)
فيكون الإسراء بهذا المجموع -وهذا ما تقدمت الأدلة عليه بالتفصيل- ولا يمتنع ذلك عقلاً] بل لا نأبه أن يكون هناك من يقول: إن العقل يثبت هذا الشي أو ينفيه مادام أنه قد صح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعقولنا: إنما هي آلات أعطانا الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إياها لنستعين بها عَلَى فهم ما ينزله علينا، فإذا جعلناها معارضة لما أنزل فقد خرجنا بها عن طورها، وظلمنا أنفسنا كما قال تَعَالَى عن الشرك: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] والبدعة: ظلم؛ بل المعصية أيضا ظلم؛ لأنها وضع للشي في غير موضعه، ومن أكبر الظلم: أن يظلم هذا العقل -الذي جعله الله أداة لنفهم طريقنا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما بين وشرع- فنجعله أداة معارضة ومضادة للوحي الذي أنزله الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فإنه أعطانا إياه لنفهم به هذا الوحي لا لنرد به الوحي.
لكن المُصنِّفُ ذكر ذلك عرضاً من باب التنزل والجدل واستدراج الخصم، وإلا فإننا -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - كما أننا في المأثور والمنقول نستطيع أن نتكلم ونبين الحق، فكذلك أيضاً في المعقول والنظر نَحْنُ أصدق النَّاس وأنصحهم في النظر والعقليات يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولا يمتنع ذلك عقلاً] أي: ما المانع العقلي أن يكون الإسراء بالروح والجسد، وأن يتحقق في هذه السرعة، وفي هذا الوقت، وبهذه الكيفية التي ثبتت عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/1846)
يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إِلَى إنكار النبوة وهو كفر] يريد أن يُلزم الذين ينكرون الإسراء والمعراج عامة، والذين ينكرون كون ذلك بالجسد والروح بلازم وهو: أن كل مؤمن بالإسلام وبنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقر بأن جبريل عَلَيْهِ السَّلام ينزل إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، بل قد نزل إِلَى من قبله، وهناك ملائكة آخرون ينزلون إِلَى الأرض، ثُمَّ يصعدون إِلَى السماء؛ فإذا كَانَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين ذلك، وكلنا مقرين بأن الملائكة تنزل من السماء إِلَى الأرض، ثُمَّ تصعد وتعرج، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعلى تفاوت في أحوالها ووظائفها وأعمالها بهذه القدرة العظيمة، وكل الذين يؤمنون بالرسل وبالأنبياء حتى من غير الْمُسْلِمِينَ مقرون بهذا الأمر، فما المانع من الإقرار بصعود البشر ثُمَّ نزولهم، كما حدث ذلك لنبينا مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا سيما وهو أفضل الخلق وسيد ولد آدم وهو أفضل الأَنْبِيَاء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه عليهم أجمعين.
فإنكار نزول الملائكة يؤدي إِلَى إنكار النبوة، وقد سبق في مبحث النبوة أن كل الدين مركب عَلَى قضية أساسية، وهي إثبات نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن من ينكرها معناه أنه لا يؤمن بالسنة، ولا يؤمن بالملائكة، ولا بالله ولا باليوم الآخر فهذا كافر، كحال من أنكر نبوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من اليهود والنَّصارَى وغيرهم، ومن أقر بنبوته، فإنه تلقائياً يجب عليه أن يقر بكل ما صح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأخبار، وكذلك يجب عليه أن يعمل بكل ما صح من الأوامر والنواهي.
الحكمة من الاسراء إلى بيت المقدس
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/1847)
[فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟
فالجواب والله أعلم: أنه ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كَانَ عروجه إِلَى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطَّلاعهم عَلَى ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا علىبيت المقدس فأخبرهم بنعته. وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] اهـ.
الشرح:
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إِلَى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب -والله أعلم-] نسب العلم إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونسبة العلم إليه أسلم وهو أدب من الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها العالم والمتكلم في هذه الأمور التي لا يستطيع الجزم فيها، ولاسيما ما يتعلق بالحكمة، فنحن لا نعرف ولا ندرك هذه الحكمة، فمنها ما هو ظاهر يدرك بالفهم وبالنظر السليم الصحيح، ومنها أمور خفية ودقيقة لا يمكن أن ندركها بنفس القوة في القطع والجزم، ومنها ما لا يدرك أصلاً.
فعلى الإِنسَان أن يرد العلم إِلَى الحكيم العليم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَيَقُولُ: والله أعلم، هذا خير وأفضل وأسلم في أمثال هذه الأمور، فهو من الآداب التي ينبغي علينا أن نتحلى بها، فلا نجزم في شيء لا نملك عليه دليلاً نستطيع معه أن نجزم.(1/1848)
فَيَقُولُ: [أن ذلك كَانَ إظهاراً لصدق دعوى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المعراج] ، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى كل شيء قدير ويستطيع أن يعرج به إِلَى السماء، وأن يأتي بأي دليل آخر عَلَى إثبات هذه الواقعة غير الإسراء، قبله أو بعده، أو بأي أمر من الأمور، فلا نستطيع أن نحد قدرته ومشيئته وإرادته، لكن هذا جانب من جوانب الحكمة التي تظهر لنا، أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يريد إظهار صدق دعوى المعراج، فكان الإسراء مهداً له
فلذلك حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس نعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، وهذا بعض الحكمة، لأن قريشاً تعرف بيت المقدس وتسافر وترتحل إليه وهذا أمر مشهود معروف عندهم، كما في حديث أبي سفيان مع هرقل، حين قبض عليه أعوان هرقل كان في أرض الشام، وهم يعرفون ذلك المسجد، فحينما يخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه أسري به إِلَى بيت المقدس ثُمَّ يخبرهم أنه عرج به إِلَى السماء، نجد أن هناك نوعاً من النقلة النفسية، وهو خارق بلا شك، فلذلك قالوا: نَحْنُ نضرب إليها أكباد الإبل الشهر والشهرين، ويذهب مُحَمَّد إليها في ليلة، لكن أعظم منه وأدهى وأشد أن يعرج به من ذلك المسجد إِلَى السماء، فهذا شيء بعيد جداً؛ لأنهم يجادلون ويمارون في هذا الأقل.(1/1849)
لكن عندما يكون لديك أمران: أحدهما مستحيل في نظرك، ثُمَّ يأتي بعده ما هو أكثر استحالة منه، فإن هذا يدفعك إِلَى أنك تكاد أن توافق بالأمر البسيط، وتقول: ما دام أن فيها كذا نسلم بهذا الأقل والأهون، وهذا أمر يمكن أن يجادل فيه، فلهذا جاءوا يجادلون كيف ذهبت؟ فلما طلبوا منه وصف المسجد أظهره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمامه المسجد، فأخذ يراه رأي العين ويصفه لهم حتى أيقنوا وصدقوا أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أسري به، وكان ذلك تصديقاً قلبياً وليس تصديقاً إيمانياً، ووقر ذلك في قلوبهم، كما قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33] فجحدوه بعد أن وقر في قلوبهم.
ومن الحِكَمِ الأخرى أنبيت المقدس هو مهبط النبوة قبل نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنبياء بني إسرائيل بعثوا في تلك الأرض المقدسة، وهناك القبلة الأولى التي كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يستقبلونها، إذاً فهناك ربط بين هذا النبي الجديد وبيئته وبلدته الجديدة -النبوة الخاتمة- وبين مهبط النبوة السابقة لها أيضاً، وفيه إشعار بأن هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكمِّل ومتمِّمٌ لرسالات الأَنْبِيَاء قبله، فهو خاتمهم، ولم يأتِ في باب التوحيد والإيمان بجديد عما جاءوا به في أصَلِ القضية، وإنما دعا إِلَى ما دعوا إليه.(1/1850)
فعلى كل من يقر بنبوة الأَنْبِيَاء ويثبتها من أهل الكتاب بالأخص أن يؤمنوا بهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذلك ما حصل فيه من صلاته بجميع الأَنْبِيَاء صلَى الله عليم وسلم في ذلك المكان، وهذا أيضاً تحصل به الحكمة، إذا كَانَ الإسراء أولاً، ثُمَّ بعد ذلك المعراج، وأن العبادة موضعها هي هذه الأرض في هذه الدنيا، لا سيما في مثل هذا المقام الذي يراد منه أن يظهر فضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبودية عَلَى بقية الأنبياء، ولهذا صلَّى بهم إماماً فجمعهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له، وأمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهبط الدعوة، فكان بذلك إيذاناً بأنه أكملهم في العبودية.
فالنبوة حصرت في ذرية إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ كانت النبوة في فرع إسحاق فنقلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى فرع إسماعيل، وكلاهما أبناء إبراهيم الخليل عليه وعليهم أفضل الصلاة والتسليم، ويمكن أن نستنبط حِكَماً كثيرة غير التي ذكرها المُصْنِّف وإن كانت هذه التي ذكرها المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ من أظهر وأجلى الحكم.(1/1851)
ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [وفي حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره وبالله التوفيق] موضوع إثبات العلو من أجلى وأبين موضوعات الصفات، فإثبات علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هو أحد الموضوعات المهمة في باب الصفات، وكل صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجب علينا أن نؤمن بها، لكن هناك بعض الصفات كثر فيها الحديث، وكثر فيها الاختلاف، مع جلاء دليلها وبيانه وظهوره، ومن ذلك العلو، وتليها صفة الكلام، وقد سبقت إشارات كثيرة في موضوع العلو وسوف يأتي -إن شاء الله- تفصيل البحث في آخر الكتاب، فقضية العلو من أهم القضايا في الصفات، وهي من أجلى أمور العقيدة من حيث الأدلة، لأنه كما نقل الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: أن الأدلة عَلَى إثبات علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تعد بالمئات؛ بل بالألوف، وجميعها تثبت علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مخلوقاته، ومنها هذا الحديث العظيم.
والأحاديث الكثيرة التي تثبت الإسراء والمعراج كلها تثبت علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مخلوقاته، فيقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [إن في حديث المعراج دليل عَلَى إثبات صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبره] وهذا الاستطراد الذي ذكره المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: يدلنا عَلَى أن عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عقيدة متكاملة يصدق بعضها بعضاً، فإذا تحدثنا في موضوع الإسراء والمعراج، نجد ما يؤيد العلو، ونجد ما يؤيد الكلام، ونجد ما يؤيد النبوات، فكلها يدل عليها حديث الإسراء والمعراج، وكلها يُصدّق بعضها بعضاً، أما المتكلمون والفلاسفة والمجادلون فلابد أن يتناقضوا فعندما يثبتون قضية ما يتناقضون إذا تعرضوا لموضوع آخر.
بعض الأدلة البديهية على إثبات علو الله تعالى وبيان تناقض أهل البدع
من أمثلة تناقض أهل البدع:(1/1852)
الفخر الرازي ينكر العلو عَلَى مذهب الفلاسفة، كما ذكر ذلك في أساس التقديس، وهو من المصرحين بالقول: بأنه لا داخل العالم، ولا خارجه، وأن إثبات الجهة يخالف دين الإسلام، وهو مما يجب أن تؤول الأدلة فيه، ويقول وهو في مجال النسيان والغفلة والذهول عما قرره فيأساس التقديس وغيره من إنكار العلو: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رفع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كَانَ منه قاب قوسين أو أدنى، وخسف بقارون حتى تجلجل في أعماق الأرض) وهو يتحدث عن موضوع: كيف أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يرفع من يشاء ويخفض من يشاء!! فنسي أنه هو الذي يقول: إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يثبت له العلو.
إذاً: هناك بُعدٌ عنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهناك قرب منه، فهذا الذي كتبأساس التقديس، وهو الذي دافع الدفاع الطويل العريض لإثبات أن تأويل آيات وأحاديث العلو ضرورة شرعية لابد منها وقع في التناقض، وتأبى الفطرة إلا أن تظهر نفسها، وتقر بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عالٍ عَلَى جميع المخلوقات.
وكذلك قصة أبي جعفر الهمداني مع أبي المعالي الجويني عندما كَانَ أبو المعالي الجويني يخطب عَلَى المنبر فسئل عن العلو، فقَالَ: كَانَ الله ولا عرش، وهو الآن عَلَى ما عليه كان، أي: أنه تَعَالَى لا يحتاج إِلَى العرش، ولا يحتاج إِلَى مكان ولا يحتاج إِلَى زمان، فإذاً ليس هو مستوٍ عَلَى العرش، وليس هو عالٍ فوق المخلوقات، وكانأبو جعفر الهمداني رَحِمَهُ اللَّهُ جالساً بين القوم في الحلقة، فَقَالَ له أيها الشيخ: دعنا من الجدال ومن قضية العلو والحاجة إِلَى العرش وعدمها، ولكن ما هذه الضرورة التي يجدها الإِنسَان في نفسه إذا أراد أن يدعو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فإنه لا يتجه إلا إِلَى السماء إِلَى جهة العلو؟ فكيف ندفع هذه الضرورة؟(1/1853)
والضرورة عند علماء الكلام ينبغي التسليم لها بدون حاجة إِلَى تفكير، لأن من العلم ما يسمى بالعلم الضروري، وهو ما يسبق إِلَى الذهن الإيمان به قبل التفكير فيه، كما تعلم أن الواحد أقل من الاثنين، وهذه ضرورة يجدها كل إنسان في نفسه وهي: أنه إذا أراد أن يدعو الله، أو يتوجه إليه، أو يستغيث به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل إذا ذكر الله بقلبه، فإن شعوره وإحساسه بالضرورة يتجه إِلَى جهة العلو قبل أن يعرض الموضوع عَلَى عقله. فضرب أبو المعالي بكُمِه ولطم وتحير، وقَالَ: حيرنيالهمداني حيرني الهمداني، ونزل من عَلَى المنبر. ثم تاب
فهذا الموضوع تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة والفطرة السليمة ولا يحتاج أمره إِلَى نبوة فهناك أناس كانوا يعيشون في الفترات بين بعثات الأَنْبِيَاء يُقرون بالعلو، منهم أمية بن أبي الصلت فإنه أقر بذلك في شعره، ولم يكن مؤمناً، والعرب تقر بذلك إقراراً في جميع أشعارها وأخبارها، حتى أنعنترة الشاعر المشهور يقول في أول قصيدة له:
يا عبل أين من المنية مهرب إن كَانَ ربي في السماء قضاها
وعنترة جاهلي مشرك كافر لكنه أثبت أمرين مهمين مما جادل فيه المجادلون: العلو والقدر.
أما الاستواء فإنما ثبت بالنقل، أي أنه: لو لم يخبرنا الله أنه استوى عَلَى العرش لما عرفنا أن له عرشاً استوى عليه، والقول بأنه في كل مكان ليس عليه دليل حقيقة، لكن قد يشتبه أمره عَلَى ضعاف العقول، الذين لم يفهموا حقيقة هذا الدين، ولم يفهموا حقيقة الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، فيشتبه عليهم قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] وهذه شبهة ضعيفة جداً، لكنها قد تقع، فإذا جليت الشبهة، ذهبت أمام الحقائق الواضحة، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليس معنا بذاته، وإنما بعلمه فهذا الموضوع الثالث فيه شبهة ضعيفة.(1/1854)
أما الموضوع الرابع الذي لا دليل عليه ولا شبهة عَلَى الإطلاق، هو قول من يقول: إنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن شماله فهذا القول ليس عليه دليل من الكتاب والسنة، ولا من العقل ولا شبهة في التفكير، وإنما هو قول اختلقه فلاسفة اليونان ثُمَّ تبعهم من تبعهم، وبقي عليه أكثر المعتزلة والأشاعرة وأهل الكلام.
العروج: تَجَاوزَ السماوات السبع، حتى كَانَ بتلك المنزلة العظيمة التي لم يبلغها ولن يبلغها بشر بعده، وبعد ذلك: نزوله إِلَى موسى، ثُمَّ رجوعه إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ وقوف جبريل عند حد معين، ثُمَّ مجاوزة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له، هذا دليل عَلَى أن القرب من الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بلغ منه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزلة لم يبلغها أحد، ولو كانت المسألة كما قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه فكيف يتصور هذا عقلاً!!
وكذلك إذا كَانَ في كل مكان، كيف يكون هذا أقرب من هذا، أو هذا بلغ درجة أعلى من هذا، واستفتاح جبريل لمن في السماوات، وفي كل مرة يفتح له عَلَى من هو أعلى منها، وهما في الطريق إِلَى سدرة المنتهى، الذي يشعر اسمها: المنتهى بأنه ليس وراءها شيء من هذه المخلوقات، ولم يبق وراءها إلا الحجاب الذي قال عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نور أنى أراه) أو (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجل جلاله.
إن من أنكر الإسراء والمعراج، فإنه ينكر شيئاً ثابتاً في القرآن، وهناك قاعدة معروفة صحيحة يجب أن نعرفها جميعاً، وهي أن من أنكر شيئاً ثبت في القُرْآن فإنه كافر، وكذلك في السنة.(1/1855)
وأما دلالات الآيات التي في القُرْآن فقد تختلف، وأعظم دليل عَلَى الاختلاف اختلاف أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القُرْآن وهم أفضل النَّاس عقلاً وفهماً فقوله سبحانه: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب [آل عمران:7] هذه آية واضحة وجلية لا نقاش فيها ولا خلاف، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ [آل عمران:7]
فمذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما عليه السلف: هو الإيمان والتصديق بالمحكم، والإيمان بالمتشابه ورده إِلَى المحكم ولهذا فإن أهمية السنة أنها تفسر القُرْآن فتبينه وتحدد مدلولاته، فهي كالشرح والإيضاح للقرآن، أما القُرْآن فهو حمال وجوه، قد تحتمل الآية أكثر من معنى وأكثر من وجه.
نقول: ما الذي ذكره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في القُرْآن صريحاً؟ وما الذي ذكره ضمناً؟ فالإسراء ذُكِرَ صريحاً سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1] إذاً لو أن أحداً أنكر الإسراء فإنه يكفر رأساً، لأنه بمجرد أن يقرأ الآية أو يسمعها يفهم دلالتها، فيكون منكر الإسراء كافراً.
وإنما حصل الخلاف والإشكال فيمن ينكر المعراج، لأن الدلالة ليست جلية، وهذا يستلزم منا أن نجليها وأن نوضحها من خلال سورة النجم، فمنها نستطيع أن نبين هذه الحقيقة، فتصبح أيضاً يدل عليها القُرْآن دلالة لا شك فيها ولا شبهة، فقوله سبحانه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] أين رآه؟ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصرُ وَمَا طَغَى [النجم:14-17] .(1/1856)
فجملة مَا زَاغَ الْبَصرُ تبين أن العروج ليست بمجرد الروح كما يقولون، بل هي حقيقة واضحة ببصره صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى تلك الآية الكبرى التي أراه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك الموضع، فنستطيع أن تجلي دلالة القُرْآن فتكون دلالته صريحة، ثُمَّ نؤيد ذلك بالأحاديث الكثيرة المتواترة التي تثبت الإسراء والمعراج، فنقول: إن من أنكر المعراج فهو أيضاً كافر بعد بيان الحجة عليه.
ومن المعتزلة من فرق بين الإسراء والمعراج وهذا من الحماقة والغباوة، وهم أعمى من قريش في موضوع الإسراء والمعراج؛ لأن قريشاً لم تجادل فيه، إنما أرادت أن تجادل في الشيء الواضح الذي تعرفه، ولا تعرف خبر السماء، ولا تدري ما هي سدرة المنتهى ولا أي شيء، لكنها تعرف بيت المقدس، وتعرف أن المسافة إليه قد تصل إِلَى شهر أو شهرين بالإبل، فلما أثبته النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تولوا وأفحموا ولم يستطيعوا أن يستمروا في المناظرة ولا في المحاورة، لكن هَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم فتنوا كما قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاس [الإسراء:60] فُتنوا كما فتن بعض دعاة الإيمان، وكذلك المُشْرِكُونَ الذين فتنوا بها.
فبعض الْمُشْرِكِينَ ازداد بعداً عن الإيمان لما سمع بقصة الإسراء والمعراج، لأن موضوع النهي عن عبادة الأصنام لأنها حجارة لا تضر ولا تنفع كل هذا كلام عقل، لكننا الآن دخلنا في متاهة أخرى وهي موضوع السماوات، فازداد بُعداً عن الإيمان، ومن ضعاف الإيمان من كَانَ قد أعلن إسلامه، فلما جاءت هذه الحادثة تركه وتخلى عنه، وهَؤُلاءِ المعتزلة وأمثالهم الذين أخذوا يمارون ويجادلون في مسألة الإسراء والمعراج، فحكمهم -إذا أقمنا الحجة عليهم- أنهم يكفرون بعد ذلك، وهذا هو القول الذي لا يجوز العدول عنه إِلَى قول آخر.(1/1857)
لكن مبدئياً نقول: إن من أنكر المعراج، أو تأوله بأنه بالروح أو غير ذلك بناءً عَلَى أن العقل ينفيه، نستطيع أن نطلق عليه الضلال، لأن كلمة الضلال تشمل الكفر ولا تقتضيه بالضرورة، فالضلال يطلق عَلَى الخروج عن الطريق المستقيم عامة، فيدخل فيه الكفر وقد لا يقتضيه بالضرورة، فقد لا يكون الإِنسَان كافراً وإن كَانَ ضالاً، وكذلك الفسق، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] وفي آية: فَفَسَقَ [الكهف:50] .
إذاً: الفسق قد يطلق عَلَى معنى الكفر، فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه [الكهف:50] أي: كفر به وخرج عنه، والخروج عن أمر الله قد يكون خروجاً كلياً وقد يكون خروجاً عن الاتجاه المستقيم إِلَى البدع والضلالات، ومن أطلق عليهم الضلال، فإنه لا يعني أنه ينفي عنهم الكفر، لكن أطلق عليهم أو حكم عليهم بالحكم الذي يرى أنه قد يعفيه من تبعة إقامة الحجة، وهم بلا شك عَلَى ضلال، لكن إذا محصت الأدلة، وقامت الحجة، فإن من ينكر الإسراء والمعراج أو أحدهما يكون كافراً.
<= (11,1924) فالجهمية وبعض المعتزلة قد ينكرون المعراج، لكن غالبهم أو بعضهم يثبت الإسراء، لأنه جَاءَ في القرآن. ثُمَّ يؤول المعراج بأنه كَانَ في المنام، أو أنه بالروح، أو ما أشبه ذلك، لدلالة أن العقل يمنع أن بشراً يخترق هذه السماوات ثُمَّ يعود في ليلة، هذه شبهتهم وهذا دليلهم، كما أولوا العلو بنفس الاستدلال. وقد بينا أن المسألة إذا كانت مجادلة بالعقل، فالمُشْرِكُونَ أيضاً جادلوا، وأنكروا الإسراء والمعراج وَقَالُوا: هذا غير معقول، كيف نضرب إليها أكباد الإبل في الشهر أو الشهرين، ويبلغها في ليلة. وهذه هي شبهة المعتزلة نفسها، أمر مستحيل لا يمكن أن يقع.(1/1858)
حقيقة النبوة براهين يُصدِّقُ بعضها بعضاً، فالسحرة الذين ناظروا موسى عَلَيْهِ السَّلام وبارزوه تلك المبارزة العظيمة، فجاءوا بشيء في أول الأمر -أن الحبال والعصي تسعى وتتحرك- فسحروا أعين النَّاس بها، وظن النَّاس أنها حق، حتى أن موسى عَلَيْهِ السَّلام خاف، وهو الذي جَاءَ بأمر من الله وواثق من الله، ومتأكد من صحة نبوته وصدق آيته التي أعطاه الله.
كما قال الله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67] فلما ألقى العصا قال الله تعالى: فَأَلْقَى مُوسَى عَصاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء:45] فذهب الزيغ وانكشف الباطل، فالذي لا يريد أن يقر بهذه ليس مقراً بنبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من يريد أن يعرض كل شيء عَلَى عقله وعلى فكره وعلى رأيه! إذاً فنقول له: أنت ما آمنت بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآمنت بما قاله أفلاطون وأرسطو وجعلته حكماً ومعياراً لما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ملاحظات حول بعض ما كتب في الإسراء والمعراج
ما وقع فيه بعض النَّاس من أخطاء في موضوع الإسراء والمعراج في الكتب وغيرها كثير، كثيرة، ولكنني اخترت كتاباً اسمه الإسراء والمعراج، إعداد وتقديم رياض العبد الله وهو أعده من كلام الشيخ مُحَمَّد الشعراوي، وفيه بعض الأخطاء بلا شك، منها نفس الكلام الذي ذكره الشيخمُحَمَّد الغزالي، وهي من تعليقات رياض العبد الله فيه (وكلمة البراق يشير اشتقاقها من البرق، أي: أن قوة من الكهرباء قد سخرت في هذه الرحلة العجيبة والخارقة لقوانين البشر، ولكن كيف تم ذلك والجسم في حالته المعتادة يتعذر عليه النقل في الآفاق بسرعة البرق الخاطف.(1/1859)
إذاً: لا بد من أن يكون هناك إعداد خاص يحصن أجهزته ومكان لهذا السفر البعيد، ولتلك السرعة الخارقة وما أحسب أن ما روي من شق صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغسل القلب وحشوه إنما هو رمز لهذا الإعداد المحفوظ) هذا نفس كلام الشيخمُحَمَّد الغزالي في فقه السيرة.
والشيخ الشعراوي ينفي أن يكون هناك زمن لحالة المعراج العملية فهو لم يستغرق أي زمن.
يقول: (وكما يقولون: إن المسافة تتناسب مع القوة تناسباً عكسياً فكلما ازدادت القوة قصرت المسافة، والقوة التي فعلت هي قوة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فنجد عندئذٍ أن النتيجة لا زمن فعندما يأتي شخص ويقول لك ما دام أنه لا زمن، فلماذا أخذ ليلة للرحلة؟ نقول له: هناك فرق بين حدث الإسراء في ذاته كنقله، وبين مرائي تعرض لها الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تعرض لمرائي رآها هو ببشريته وبقانونه فالمرائي المشاهد التي تعرض لها هي التي احتاجت للزمن، أما النقلة ذاتها فلا تحتاج إِلَى زمن، لأنها محمولة عَلَى قانون ليس يتحكم فيه الزمن. فالذين ناقشوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هم جماعة يعطون صورة من عقلهم بأنهم قارنوا مقارنة غير موضوعية) ونفي الزمن سواء في الانتقال بالبراق إِلَى بيت المقدس أو إِلَى السماء هذا معنى كلامهم.
وليس هناك ما يستدعي، أننا ننفي الزمن نهائياً لكي نبرهن ونثبت للمشركين أن الإسراء والمعراج ممكن، وأن مقارنتهم كانت غير موضوعية، فما المانع في أن تكون المسافة إلىبيت المقدس شهراً، وتكون فرضاً دقيقة أو عشر ثوانٍ عَلَى البراق؟(1/1860)
حقيقةً ليس هناك أي دليل، ولا يجوز القول في أي مسألة بغير علم، وهذه المسألة تشكل عَلَى الذين يدرسون النظريات الحديثة التي تتعلق بموضوع الزمن، فالشيخ هنا فيما يبدو تأثر بالنظرية التي تسمى "النسبية العامة" التي تحدث عنها إنشتاين، يقول إنشتاين: "إنه ما دام أن سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلو في الثانية إذاً الضوء عندما ينتقل في مسافة تعدل قطر الأرض -مثلاً- فهذه العملية تمت في ألاّ زمن"
والمقصود من كلامه هذا ليس إنكار وجود الزمن، وإنما المقصود السرعة العظيمة ليبرهن عَلَى سرعة الضوء العجيبة، وأنها تنتقل في سرعة لا يمكن أن نقيسها بمعيارنا الزمني الذي نتعارف عليه، فهذا شيء لا يدل عَلَى نفي الزمن في الواقع، بل نفس نظرية النسبية التي اشتهر بها إنشتاين وهي: "النسبية العامة، والنسبية الخاصة".
فالنسبية العامة: أضافت إِلَى الأبعاد الثلاثة، البعد الرابع: وهو الزمن، فالنظرية مركبة عَلَى قضية الزمن، وعلى إثبات الزمن، لكن فحوى النظرية أن الزمن المعهود لنا يتلاشى مع هذه الأبعاد الهائلة مع سرعة الضوء. فأرقامنا وأحاسيسنا وشعورنا هو في حدود عالمنا الذي نعيش فيه، هذا بالنسبة لعالمنا، لكن بالنسبة إِلَى الكون: الأمر أكبر من أن نستطيع أن ندركه أو أن نفكر فيه، فمثلاً: لو مرت سيارة فإنك تستطيع أن تراها، مهما كانت سرعتها ولو مرت طائرة فإنك أيضاً تستطيع أن تراها في مسافة معينة، لكن لو تضاعفت سرعة الطائرة حتى صارت مثل سرعة الضوء فلا تستطيع أن تراها لأن رؤيتك للشيء تحتاج إِلَى زمن ولو ثانية.(1/1861)
وسرعة الضوء في الثانية ثلاثمائة ألف كيلو، هذا مجرد الأفق الذي أمامك، فهو لا ينفى الزمن، وإنما يقول: إن الزمن نسبي، فبالنسبة لنا الزمن شيء، وبالنسبة إِلَى ما عدانا شيء آخر، فعلى هذا لا نستطيع أن ننفي الزمن بلا دليل عندنا، وكما جَاءَ في الأحاديث أن الله تَعَالَى بين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرج به في أول الليل، ثُمَّ عاد في آخره، وحصلت هذه المشاهد.
القضية الأخرى: وهي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بثلاث مراحل، يقول رياض العبد الله صـ51: "إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه المسألة تعرض لثلاث مراحل، المرحلة الأولى: كَانَ بشراً وجبريل عَلَيْهِ السَّلام يعرض عَلَى مُحَمَّد الأشياء، ثُمَّ يقول: ما هذا يا جبريل فَيَقُولُ: هذا كذا وهذا كذا، وجبريل يعرف أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراها فيسأل عنها جبريل، المهم أن هذه حالة البشرية.
المرحلة الثانية: لما صعد في السماء كَانَ يرى المرائي فلا يستفهم جبريل عنها ويسمع فيفهم إذاً: فقد تحول شيء في ذاتية مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لم يذكرها لكنه ربما نواها- وأصبحت له ذاتية فاهمة بلا واسطة جبريل عَلَيْهِ السَّلام، وهذه الحقيقة ليس لها أساس عند تأمل الحديث، فالقضية واحدة فهو يسأله في الطريق كلها، يقول: (أصبحت له ذاتية فاهمة بلا واسطة جبريل عَلَيْهِ السَّلام ورائية بلا واسطة أحد -أي: فاهمة ورائية من غير واسطة- ففي الأرض إرائة وأما في السماء فقد رأى بالرؤية، ثُمَّ بعد ذلك نجد أنه بعد أن انتقل إِلَى مرحلة يكون فيها ملائكياً كالملائكة فهو يراهم، ويتكلم معهم، ويخاطبهم ويفهم منهم) .
المرحلة الثالثة: ويدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرحلة ثالثة فوق مرحلة الملائكية.(1/1862)
يقول: (يزج بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبحات النور، ولم يكن جبريل معه، وهذا دليل عَلَى أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ارتقى ارتقاءً آخر، ونُقِلَ من ملائكية لا قدرة لها عَلَى ما وراء سدرة المنتهى، إِلَى شيء من الممكن أن يتحمل ما وراء سدرة المنتهى، ودون مصاحبة جبريل عَلَيْهِ السَّلام.
إذاً فسيدنا مُحَمَّد كَانَ بشراً في الأرض مع جبريل وبعد ذلك كانت له ملائكية مع الرسل ومع جبريل في السماء، وبعد ذلك كَانَ له وضع آخر ارتقى به من الملائكية حتى أن جبريل نفسه يقول له: أنا لو تقدمت لاحترقت، وأنت لو تقدمت لاخترقت ... إلخ) .
وهذا الكلام ليس عليه أي دليل من الأحاديث ولا من الآيات عَلَى الإطلاق بأن شخصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرت بثلاث مراحل، وتحولت ثلاث تحولات بشرية ثُمَّ ملائكية ثُمَّ أعلى من الملائكية، لأن الأعلى من ذلك هو الألوهية، وقد يخطر ذلك عَلَى كثير من الناس، وهذا مما نهى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو من الإطراء والغلو ونتيجة استخدام مجرد النظر والرأي والتفكير في أمر ليس هو موضع تفكير، وإنما هو موضع تسهيل وبحث في الأدلة، فنقرأ الأدلة ونؤمن بها ونصدق بما جاءت به، ولا نجعل الخيال يشطح ليتصور ويتفلسف من عنده دون أي دليل ولا برهان من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والعجيب أن المقدم والمعدرياض العبد الله أراد أن يوثق الموضوع ويبرهن عَلَى كلامه من شجرة الكون للشيخمحيي الدين ابن عربي، الذي ليس بحجة ولا يرجع إليه؛ لأنه كافر بإجماع كل من كتب عنه من أئمة الْمُسْلِمِينَ الموثوقين، فهو من أصحاب وحدة الوجود.(1/1863)
يقول ابن عربي: (إنه يقول: يا مُحَمَّد إذا كَانَ العرش مشوقاً إليك فكيف لا أكون خادماً بين يديك، فقرب له مركبه الأول وهو البراق إِلَى بيت المقدس، ثُمَّ المركب الثاني وهو: المعراج إِلَى السماء الدنيا، ثُمَّ المركب الثالث وهو: أجنحة الملائكة من سماء إِلَى سماء، وهكذا إِلَى السماء السابعة، ثُمَّ المركب الرابع وهو: أجنحة جبريل عَلَيْهِ السَّلام إِلَى سدرة المنتهى، وهنا تخلف جبريل عَلَيْهِ السَّلام عند سدرة المنتهى، فقَالَ: يا جبريل نَحْنُ الليلة أضيافك، فكيف يتخلف المضيف عن ضيفه أهاهنا يترك الخليل خليله، فقَالَ: يا مُحَمَّد أنت ضيف الكريم ومدعو القديم، ولو تقدمتُ الآن بقدر أنملة لاحترقت، كقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164] ) .
ثُمَّ قَالَ: (قال: يا جبريل إذا كَانَ كذلك ألك حاجة؟ قَالَ: نعم، إذا انتهى بك الهوج حيث لا منتهى، وقيل لك: ها أنت وها أنا، فاذكرني عند ربك، ثُمَّ زج به جبريل عَلَيْهِ السَّلام زجة فخرق سبعين ألف حجاب من النور ... إلخ) وهذا الكلام كله لا دليل عليه، والآية: وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164] أي: الملائكة، كما في تفسير ابن كثير أو الطبري فكل ملك من الملائكة له مقام معلوم، فما من موضع شبر في السماء إلا وفيه ملك راكع أو ساجد، كما أمرهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فالحفظة لهم مقام معلوم، والكرام الكاتبون لهم مقام معلوم، والكربيون لهم مقام معلوم، والذين يوكلون بالغيث والقطر والجبال لهم مقام معلوم، وكل منهم له مقام معلوم.
وإنما أحببنا أن ننبه إِلَى مثل هذه الأخطاء لشيوعها وانتشارها ولكثرة من سأل عنها من الإخوان.(1/1864)
أشرنا فيما مضى إِلَى ملاحظات عَلَى كتاب الإسراء والمعراج لرياض العبد الله ولكن نظراً للشبهات التي تثار في هذا الموضوع وفي أمثاله، فسنزيد في ذلك، وقد وجدنا أن كثيراً ممن كتب في هذا الموضوع وقعوا في أخطاء ينبغي أن ننبه النَّاس عليها، فلهذا أحببنا أن نجعل من حديثنا هذا مراجعةً نراجع فيها معلوماتنا السابقة عن الإسراء والمعراج من خلال نقدنا لبعض ما كتبه هَؤُلاءِ الناس.
ولكي نعرف أن أمور العقيدة وأمور الغيب ضرورية، لابد من معرفتها، ولابد أن يتكلم فيها بالعلم، وأنه لا بد أن ترفع شبهات الملحدين والجاهلين والشاكين في العلم، فإنه لا يُصلِح الجدلَ والبدعة والانحرافَ إلا العلم الصحيح. فإذا كَانَ الأمر متروكاً لكل من شاء أن يتكلم كما يشاء، فهذا هو الذي دمر الأمة الإسلامية، وفرقها، وضيعها، فلم تستبن معالم دينها، وأصبحت تتخبط عَلَى غير هدى، حتى أصبح كل ناعق ينعق بما يشاء، ويمكنه أن يجتال عَلَى طائفة من هذه الأمة، ويذهب بها بعيداً عن الصراط المستقيم.
فقد كتب مجموعة من النَّاس وتحدثوا عن الإسراء والمعراج ولا سيما الموضوعين المهمين وهما، الأول: موضوع رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وكثير من النَّاس لا يستطيع أن يفهم هذه الرؤية ولا يتبينها، لأنه لم يرجع إِلَى المصادر الصحيحة من كتب العقيدة الصحيحة، فيعرف حقيقة هذه الرؤيا كما قد سبق.
والقضية الثانية: قضية العلو، وقد تقدم قول المصنف: إن في حديث المعراج دليل عَلَى ثبوت صفة العلو لله تَعَالَى من وجوه لمن تدبر، فهذان الموضوعان: موضوع الرؤية، وموضوع العلو كثيراً ما يلتبس عَلَى النَّاس فهمهما وفقههما، حتى أصبحنا نسمع ونجد من يزعم أنه يرى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - في هذه الحياة الدنيا كما يشاء أو يرى العرش، وأن ذلك نتيجة ولايته أو أنه كرامة له.
كتاب الإسراء والمعراج لمحمد سعيد(1/1865)
في هذا الكتاب وهو الإسراء والمعراج لمؤلفه مُحَمَّد سعيد زبير -الطبعة الثانية- 1405 هـ.
جمع فيه أقوال بعض المشايخ الذين أخطأوا في هذه الأمور، كنموذج لنراجع معلوماتنا، ونعرف كيف نستطيع من خلال العلم الصحيح والمعرفة الصحيحة أن ننقد ما يخطئ فيه بعض الناس، نتيجة الجهل أو نتيجة الانتماء إِلَى منهج من مناهج أهل البدعة والضلال.
وقد اقتصرنا في النقد عَلَى الأشياء الأساسية المتعلقة بالعقيدة، في صـ 10 يقول المؤلف مفخماً العنوان: "كيف تلقت قريش نبأ الإسراء والمعراج".
فَيَقُولُ: "في صبيحة السابع والعشرين من شهر رجب الخير، وقبيل الهجرة تقريباً عَلَى أرجح الأقوال" ذكر المؤلف هذا التاريخ، ولم يثبت أن هناك تاريخاً معيناً للإسراء والمعراج لا يوماً ولا شهراً ولا سنة محددة؛ بل نَحْنُ مع الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ حيث يقول: إن هناك أكثر من عشرة أقوال مختلفة في تحديد هذا اليوم.
وإذا قلنا: إنه في اليوم السابع والعشرين من رجب فمعنى ذلك أننا نفتح مجالاً للبدعة المعروفة وهي بدعة الرجبية، والاحتفال بهذه الليلة، ويسمونها: ذكرى الإسراء والمعراج، وهذه البدعة منتشرة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، فلماذا لا يكتب عنها ولا يتحدث عنها بالتفصيل؟! وسؤال آخر: لو ثبت أنها كانت في ليلة السابع والعشرين فهل يجوز أن نحتفل بها؟ فالقضية مركبة من أمرين:
أولاً: لم تثبت.
وثانياً: لو ثبتت لما جاز لنا أن نحتفل بها، وكذلك لا تجوز صلاة الرغائب التي تخصص في هذه الليلة.
فالبدع إذا فتح بابها لا تنتهي عند حد، والطريق المستقيم واحد وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فإذا خرج المرء أو الطائفة عن الصراط المستقيم، فمن الممكن أن يذهب ذات اليمين وذات الشمال، فلا يبالي به الله في أي وادٍ هلك.(1/1866)
وفي صـ40 خطأ بسيط ولكن نذكره حتى يكْشف لنا عن مدى علم صاحبه يقول عن قضية الرؤية: "ويرد عَلَى ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ فيزاد المعاد "، فإذا كَانَ لا يدري أن زاد المعاد لابن القيم فهذا دليل عَلَى أنه لا يوثق بمثل هَؤُلاءِ الذين لا يعرفون أبسط وأسهل المراجع التي يعرفها كل طالب علم.
وقفة مع الشيخ الشعراوي
وفي صـ 42 يقول: "يقول الشيخ الشعراوي: "أنا شخصياً لست مع المفسرين الذين يفسرون بأن المدنو منه هو جبريل؛ والدنو منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن جبريل كَانَ مع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما دام جبريل معه فكيف يدنو منه، فكان قاب قوسين أو أدنى؟ ذلك ملحظ آخر يعطينا أن الدنو في دَنَا فَتَدَلَّى شيء آخر من ربه أو ربه منه إيناساً بما يكون من رؤيته للحق أو من كلام الحق له" هذا الكلام موجود في صفحة 63 من كتاب الإسراء والمعراج اعداد وتقديم رياض العبد لله من كلام الشعراوي، ووجه الخطأ في هذا الموضوع هو أولاً: يقول أنا شخصياً لست مع المفسرين الذين يفسرون دنا بأن المدنو منه هو جبريل، يقول: لأن جبريل كَانَ مع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما دام أنه معه فكيف يدنو منه؟!
والجواب أن الآية في دنو جبريل من مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غير الإسراء والمعراج.(1/1867)
وقد سبق أن قلنا: إن المُصْنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: [وأما قوله تَعَالَى في سورة النجم ثُمَّ َ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء -المذكور في حديث شريك الذي هو ضعيف مضطرب- فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه كما قالتعَائِِِشَةَ وابن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فإنه قال سبحانه: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ َ دَنَا فَتَدَلَّى [النجم:5-8] فالضمائر كلها راجعة إِلَى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء؛ فذلك صريح بأنه دنو الرب تَعَالَى وتدليه] وجواب الإشكال الذي ذكره بعض المفسرين من أنه: كيف يدنو منه جبريل وهو معه عُرِجا معاً؟ بأن هذه الآية في قضية أخرى غير قضية الإسراء والمعراج.
وهي المرة الأولى التي رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها جبريل في الأرض عَلَى خلقته التي خلقه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليها في الأرض، ولو استمرينا في الآيات لوجدنا أن هذا واضح وجلي يقول سبحانه: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم:13] أي: نزلة ثانية كما في الصحيحين، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل عَلَى خلقته التي خلقها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق، ينزل من السماء فدنى من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذه هي النزلة الأولى، ثُمَّ رأى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبريل عَلَيْهِ السَّلام مرة أخرى عند سدرة المنتهى وليس هناك دنو ولا تدلي فزال هذا الإشكال.
ثُمَّ يقول في صفحة 43: والقائلون بالرؤية يقولون: إن الرؤية ثابتة والكيفية مجهولة كما يرون أن رؤية الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا تكون عَلَى حقيقته جل شأنه، بل تكون عَلَى صورة تتناسب مع قوة احتمال المشاهد وإيمانه.(1/1868)
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الحليم محمود: " أنا أقول برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبدنوه منه سبحانه عَلَى الوجه اللائق، ويقول: إن كلمة عَلَى الوجه اللائق تفض كل نزاع، والله أعلم" نقل المؤلف عن الدكتورعبد الحليم محمود وهو معروف بالتصوف وأكثر كتبه في ذلك، فَيَقُولُ: "أنا أقول برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه سبحانه" وقبل هذا يقول المؤلف: إن رؤية الله -تعالى- لا تكون عَلَى حقيقته، فهي تقع ولكن تكون عَلَى كيفية أو عَلَى هيئة تتناسب مع قوة إدراك المشاهد، وهذا الكلام فيه إجمال، ما المقصود بهذه الرؤية؟ إن كانت الرؤية في الدنيا فلها كلام، وإن كانت في الآخرة فلها كلام، فإذا قلنا: إن المقصود هو رؤية الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الدنيا فإن الأولياء والأقطاب -كما هو في كثير من كتب الصوفية -يزعمون أنهم يرون الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في هذه الدنيا فبماذا نجيب هَؤُلاءِ الناس؟
نقول: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من عهد الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- إِلَى اليوم مجمعون عَلَى أنه لن يرى أحدٌ ربَّه -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه الحياة الدنيا بالإطلاق، إلا أن الخلاف قد وقع في حق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط، ولم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى ربه - عَزَّ وَجَلَّ - حتى في المنام، إذاً كلامهم هذا باطل، ولا شك في ضلال من زعم ذلك، وإنما قد يكون الشيطان لبسَّ عليه فأراه أشياء أو ظهرت له أنوار أو خيالات، فَقَالَ له: إني أنا الله أو أنا ربك أو زعم أن هذا هو ربه.(1/1869)
بل حتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرَ ربه بعينه كما في حديث أبي ذر لما سأله (هل رأيت ربك يا رَسُول الله؟ فقَالَ: نور أنَّى أراه) وفي الحديث الآخر يقول: (حجابه النور) فهو محتجب بالنور -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فلم يره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعين، وإن من قَالَ: إنه رآه كابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما- مقصوده: أنه رآه بفؤاده أي: رآه بقلبه.
ومن ذلك حديث: (رأيت ربي في أحسن صورة) فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير ربه - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بعينه في الحقيقة، وإنما كَانَ يقول في ليلة الإسراء (رأيتُ نوراً)
والمقصود أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يقول رؤيا عين، أي: ليست رؤيا منام في قوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60] أي: ما حصل ليلة الإسراء والمعراج كَانَ رؤيا عين بالحقيقة وليس مناماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والكلام هنا ليس في رؤية الله، وإنما رؤية ما حدث في ليلة الإسراء والمعراج من المرائي التي رآها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدنيا، وفي كل سماء إِلَى أن وصل إِلَى سدرة المنتهى.(1/1870)
وإن كَانَ المقصود رؤية الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في الآخرة، فهذا أمر خارج عن موضوع السياق هنا والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إنما يتجلى الله لعباده وينعم عليهم بلذة النظر إِلَى وجهه الكريم في الآخرة، وبلا شك أن حال الآخرة غير حال الدنيا، فأهل الجنة يعطون من القوة عَلَى الإدراك -والقوة عامة- غير هذا الضعف الذي يعيشونه في هذه الحياة الدنيا، ثُمَّ نقل أن الدكتور عبد الحليم يقول: "أنا أقول برؤيته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبدنوه منه سبحانه عَلَى الوجه اللائق" أيضاً يقول: إن الله تَعَالَى دنى من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكلام أيضاً موافق لما سبق أن بينا خطأه، ثُمَّ يقول: " إن كلمة عَلَى الوجه اللائق تفض كل نزاع" والصحيح أننا نستخدم كلمة عَلَى "الوجه اللائق" في الشيء الثابت نقله، كصفة تثبت لله تعالى، نقول في ذلك عَلَى الوجه الذي يليق بجلاله بلا تكييف، لكن هذا لم يثبت، فإن ما ورد في تلك الرواية المضطربة لا يصلح به الاستدلال عَلَى مثل هذا القول، وأصل الخطأ في مثل هذه الأمور، هو الرجوع إِلَى غير هدي السلف الصالح الذين يأخذون كلامهم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع سلف الأمة.(1/1871)
فهذا كلام أئمة التصوف ويدلنا عَلَى ذلك ما نقرأ في صفحة 78 يقول في فقرة عنوانها: "الوصول إِلَى الله" أي: أن من حِكَم الإسراء والمعراج موضوع الوصول إِلَى الله، يقول: عبد الحليم محمود: "بعد وصول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه تعالى، أصبح هدف السالكين إِلَى الله الوصول إِلَى جنابه، والوصول إِلَى الله يعني زوال القلق والاضطراب النفسي، وزوال همَّ الرزق والخوف من الموت، وزوال كل ما يصرف الإِنسَان عن الله تعالى، وزوال كل ما يشغل بؤرة تفكيره عنه، كما يعني من جانب آخر الرقي الروحي الدائم، والفيوضات الإلهية المستمرة، والمعرفة اللدنية المتتالية، والرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصل إِلَى هذا المنتهى وأمر أن يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] وزيادة العلم في عرف أولياء الله إنما هو زيادة السعادة، من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم".
فهذه جملة من الأخطاء المركبة التي ينبغي أن توضح، وأمثال هذه العبارات الأدبية المجملة الموهمة تدخل تحتها منافذ البدع المؤدية إليها، فأول شيء يفهم من قوله: "بعد وصول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه أصبح هدف السالكين إِلَى الله الوصول إِلَى جنابه" معنى ذلك: أن الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- قبل حادثة الإسراء والمعراج كَانَ هدفهم أن يعبدوا الله من أجل أن يدخلوا الجنة ويفوزوا برضوان الله، فلما جاءت هذه الحادثة وبلَّغهم إياها -النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قالوا من الآن- يصبح هدفنا أننا نصل إِلَى جناب الله وهذا الكلام غير صحيح، لأن الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- لم يكونوا يعتقدون ذلك.(1/1872)
فالسالكون أناس غير الصحابة، فالصوفية في القرن الثالث وما بعده سموا أنفسهم "السالكين" ويقولون: إن أهم شيء هو الوصول، فأول ما يبتدأ الإِنسَان به في طريق التصوف يسمى مريداً ثُمَّ سالكاً ثُمَّ واصلاً، فيكون هدف السالكين الوصول، والوصول له معنى آخر لا علاقة له بقضية الإسراء والمعراج، ولا بما حصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بين الوصول بكلام آخر يقول: "والوصول إِلَى الله يعني زوال القلق والاضطراب النفسي وزوال هم الرزق والخوف من الموت، وزوال كل ما يصرف الإِنسَان عن الله تعالى، وزوال كل ما يشغل بؤرة تفكيره عنه".
وهنا انتقل إِلَى موضوع آخر هو: زوال القلق والهم والاضطراب وكل ما يصرف الإِنسَان عن الله تَعَالَى -مع التجاوز عن العبارات التي تحتمل معانٍ مجملة- هذا الذي ذكره يمكن أن يقع لكل إنسان يعبد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويؤمن به ويطمئن بقدره -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- راضياً بما كتبه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كما قال تعالى: "أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وهذا أمر يحصل لكل من آمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ بل يحصل ذلك للإنسان بقدر ما يزداد إيمانه، لكنه يريد أن يربط القضية بشيء آخر.(1/1873)
يقول: "كما يعني من جانب آخر" أي: ليس هذا هو الجانب الذي كل المؤمنين يشعرون به، وإنما هناك جانب آخر للمسألة "الرقي الروحي الدائم، والفيوضات الإلهية المستمرة، والمعرفة اللدنية المتتالية" التي يسمونها أحياناً التجليات والفيوضات والمشاهدات والكشوفات، ألفاظ مترادفة، تعني ما يقع في قلوب هَؤُلاءِ العباد الزهاد، أو في خيالاتهم عندما يظنون أنهم في تلك الحالة يبلغون درجة عالية من الإيمان بالله سبحانه، ومن هذا المدخل تدخل قضايا خطيرة جداً، كما مر معنا في مسألة التوحيد أنهم يقسمون التوحيد إِلَى ثلاثة أنواع: توحيد العامة، وتوحيد الخاصة، وتوحيد خاصة الخاصة، وهذا هو الوصول.
فالواصلون: هم الذين بلغوا توحيد خاصة الخاصة. يعني: أصبح الأمر عندهم كما يذكر هنا "أمر رقي روحي" فأصبحت هناك فيوضات، وكشوفات، وتجليات، ومشاهدات، ينقطعون بها عن الدنيا والخلق، حتى يصل الأمر من بعضهم - نسأل الله العفو والعافية - إِلَى أن يترك الجمعة والجماعة ويقول: "الذي قلبه مع الله دائماً: كيف يشتغل بهذه العبادات؟! " وهذا غاية الضلال.
وجعلوا توحيد الأَنْبِيَاء من نوع توحيد العامة، وإن ترقَّوا: قالوا من توحيد الخاصة، أما خاصة الخاصة: فهم الذين يتلقون من الله مباشرة، ويبلغ بهم الكفر إِلَى أن يقول أحدهم: ذات الحق سبحانه تجلت فيه، أو أنه هو الله، تَعَالَى الله عما يقول المبطلون والظالمون علواً كبيراً.
فأمثال هذه العبارات المجملة الموهمة: هي التي يدخل منها هَؤُلاءِ، ليقرروا عند النَّاس تلك الضلالات الخطيرة، التي لو اعتقدها الإِنسَان ووقرت في قلبه لكان خارجاً من دين الإسلام!!(1/1874)
ثُمَّ يقول الكاتب: والرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصل إِلَى هذا المنتهى، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى [النجم:14] فكأن المسألة فيها تأويل لقضية المعراج من أصلها فالمعراج رقي روحي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترقى في الوصول إِلَى الله بالفيوضات، وبالمعرفة اللدنية حتى وصل إِلَى المنتهى.
ثُمَّ يقول: وأُمر أن يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] والذي يدل عَلَى أن المسألة تأويل قوله: "وزيادة العلم في عرف أولياء الله إنما هو زيادة السعادة" أين العلم من السعادة؟ يعني: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: ربي زدني سعادة من فيوضاتك وتجلياتك ومعرفتي اللدنية بك والأمر ليس كذلك، فقوله تَعَالَى لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ::وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) .
وليس الأمر مجرد السعادة أو النشوة الروحية التي تحصل للإنسان، إنما هو العلم الذي هو علم بالله وبأحكامه من الحلال والحرام، فلا شك أن معرفة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هي رأس العلم، كما أن الفقه في ذلك هو الفقه الأكبر، المتلقى عن طريق الوحي والأدلة، والإيمان به إيماناً صحيحاً كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس مجرد تأملات ولا نشوات، يُقَالَ: إنها فيوضات وتجليات ترد عَلَى القلب، ولذلك يدعي كل قطب أو ولي أنه تجلى له مالم يتجلى للآخر، وكلامهم في هذا يختلف، فكل منهم يدعي أن ربه تجلى له وقال له شيئاً لم يقله لغيره، وهذا الاختلاف يدل عَلَى أنها تصورات ذاتية خيالية، بحسب ما يفكر الواحد منهم وما يهتم به، تأتيه هذه الأمور، أما العلم بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العلم الحقيقي، فإنه يأتي في القُرْآن وفي السنة، ويفهمه الصحابة والسلف الصالح فهماً صحيحاً فلا يختلف أبداً.(1/1875)
كلمات نورانية لشيخ الإسلام ابن تيمية
وأما قول الكاتب: من أجل ذلك قال أحد العارفين: نَحْنُ في سعادة لوعرفها الملوك لجالدونا عليها بسيوفهم، هذه العبارة منقوله عن بعض السلف الصالح.
يوضح ذلك قول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كما نقل عنه ذلك ابن القيم - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدارج يقول: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، والمقصود أن السلف الصالح يذكرون الله ويناجونه بالمشروع من العبادات، كقيام الليل، وذكراً بما ورد، فتحصل لهم الطمأنينة التي ذكرها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28] وتحصل هذه السعادة لمن يتبع الذكرفَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124] .
تكفل الله تَعَالَى للمتقين أن لا يضلوا عن الطريق المستقيم ولا يشقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: "ما يصنع أعدائي بي". ينتقمون مني بأي طريقة: ثُمَّ بين ذلك فقَالَ: "سجني خلوة" أي: إذا سجنه أعداؤه، فهذه خلوة يتمناها العلماء، ولا سيما العارفين العباد، الذين يعرفون حقيقة العلم وحقيقة العبادة وحقيقة التقوى، فهم يتمنون أن تحصل لهم الخلوة من مشاكل الدنيا، ومشاغلهم من هموم الأبناء والزوجة والناس، فيخلون في مكان يذكرون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
"ونفيي سياحة" أي أنه لو نفي ربما يكون انتقلت أعماله وأعباؤه فلا يستطيع أن يرى ما هو خارج بيته، لأن النَّاس يفدون عليه ويأتون إِلَى بيته، وفي مسجده، فلا يرى شيئاً. فإذا نفي إِلَى جزيرة نائية، قد يرى من عجائب خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- ما يكون فيه راحة ومتعة وسعادة.(1/1876)
قَالَ: "وقتلي شهادة" أي: وإذا قتل فالْحَمْدُ لِلَّهِ هذه الشهادة، وماذا يريد المؤمن أعظم من أن ينال الشهادة نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجعلنا من أهلها.
فهذه هي السعادة التي يتكلم عنها علماء السلف فيقولون: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف" يعني: لو يعلم أصحاب الدنيا والمال والملك والجاه والسلطان لقاتلونا عليها، لأن السعادة في نظرهم هي التمتع بملاذ الدنيا من أكل وشرب ونساء، وهذه هي الغاية التي يريدونها من السعادة.
وأكثر النَّاس يبحثون عن السعادة، لكن طريقهم ليس هو طريق السعادة؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جعل الحياة الدنيا طريق الشقاوة، "شقاوة المعيشة والضنك" عَلَى أرجح التفسيرين: ومعايش: جمع معيشة وهي الحياة، وبعدها وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] .
الحياة الدنيا معيشة ضنكا، وهذا أرجح من أن نقول: إنها في القبر، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يحشر أعمى، فأين السعادة وأين الطمأنينة!! يبحثون عنها فلا يجدونها ولو أن أحداً من هَؤُلاءِ النَّاس في أثناء بحثه عن السعادة قيل له: صلِّ في جوف الليل، واحضر مجالس الذكر والعلم، وحافظ عَلَى صلاتك في الجماعة، وغير ذلك من الطاعات، فإن الشيطان يخيل له أن هذا هو غاية الشقاوة.
فهو فار من الشقاوة، ويريد الرفاهية والطمأنينة والسعادة، ووالله لو دخل في الطاعة لوجد ما يسعى إليه، ولو قيل لمن أقبل عَلَى الله يذكره ويطيعه: ما هي السعادة التي تشعر بها؟ لقَالَ: نَحْنُ في سعادة ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نَحْنُ فيه لجالدونا عليه بالسيوف.(1/1877)
وهذه السعادة ليست مرئية واضحة، لكن إذا كَانَ عندك عمارة ثلاثين دوراً فإن كل النَّاس - التجار والأغنياء والملوك - يقولون: ليت عندنا مثله؛ لأنهم يرونها، لكن طمأنينة القلب لا يراها أحد، فيتصورون أنك تعيش في ضيق، وفي ألم، ولا يعلمون أنك تجد الراحة العظيمة في ترفعك عن هذه الشهوات التي لو عرضت عليك عرضاً لأبيتها، ولو عرضت عليك وأعطيت معها ملايين الدنيا لأبيت.
ولو وجدتم مَنْ مَنَّ الله عليه بالهداية لتعجبتم منه، يخبركم: كيف كَانَ في حالة المعصية! وكيف كَانَ يبحث عن اللذة والشهوة في كل مكان! فلا يجد إلا الشقاء والخسارة والنكد والضيق في الحياة، والهم الذي لا يفارقه، فلما آمن واطمأن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أصبح يرى السعادة الحقيقية، ولو فقد هذا المؤمن التقي ابنه أو زوجه فإنه يطمئن إِلَى قول الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157] ويفرح لأنه موعود بصلوات من الله، ورحمة، وهداية، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن لله ما أخذ وله ما أعطى، فيجد الطمأنينة والراحة في موقف ألم وبكاء وحزن، لكن الذي لا يؤمن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يشعر بهذه السعادة، فإذا غيرته المعشوقة وعشقت أو هويت غيره انتحر.(1/1878)
وهذه الصفقة التجارية التي كَانَ يؤمل فيها حصلت فيها الخسارة فانتحر والعياذ بالله، فكل شخص غير مؤمن قابل أن يبيع نفسه بأرخص الأثمان؛ لأنه كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19] ، لما نسي الله أنساه نفسه، فيعيش في قلق واضطراب وتخبط، يعمل لكل شيء إلا لنفسه، فلما نسي ربه، أنساه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- نفسه، فهو يجمع المال للورثة يقول ابن آدم: مالي مالي -هكذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هكذا حال النَّاس والحقيقة: ليس لك يا ابن آدم إلا ما قدمت فأبقيت، أو أكلت فأفنيت، والباقي للورثة، لا يهنأ بلذة في ماله وملكه.
كيف كانت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه؟
لم ير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا مناماً بفؤاده، والرؤية بالفؤاد: هي التي تفسر لنا أنه رآه مرة في المنام في الدنيا، ومرة عند سدرة المنتهى وإذا قلنا: إن موسى -كليم الله- قد سأل ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يراه، ومع ذلك قَالَ: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] .
ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أحدكم لن يرى ربه -عَزَّ وَجَلَّ- حتى يموت) فهذا مما يدل عَلَى أنه لا يرى أحد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الدنيا ولو كانت الرؤيا ممكنة فلماذا نقول: لم يره موسى عَلَيْهِ السَّلام؟ فهو لما منع من الرؤية، قال الله تَعَالَى له: لَنْ تَرَانِي وكان من الممكن أن يعوض عنها في المنام؛ لأن رؤيا الأَنْبِيَاء عليهم السلام حق ووحي.
فإذا جَاءَ في آخر الزمان رجل وقَالَ: أنا أرى الله -عَزَّ وَجَلَّ- وصدقناه فقد قلنا: إنه يحصل له مالم يحصل للأنبياء، وكذلك نفهم من إطلاق حديث: (إن أحدكم لن يرى ربه عزوجل حتى يموت) أنه لن يراه في الدنيا أحد، ويدل عَلَى هذا أيضاً اختصاص المؤمنين برؤية الله في الجنة.(1/1879)
وهناك كتاب اسمه الرؤى والأحلام تأليف الشيخ أحمد عز الدين يقول فيه: "اتفق العلماء عَلَى أن الصالحين يرون الله تَعَالَى في المنام" فقوله: "اتفق العلماء" هذه كلمة عظيمة وخطأ كبير فاحش، لا يجوز أن يقَالَ: وقع الاتفاق، وإنما وقع في كلام بعض العلماء ما قد يشعر بذلك، ولكن لو عرضنا ذلك عَلَى الأدلة الصحيحة -كما سبق- لما ثبت من ذلك شيء، ونقول: يكفينا أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة والتابعين أنه رأى ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في المنام، ولو أن أحداً حصلت له وكانت رؤيا حقيقة أي: مناماً حقيقياً وليست تلبسيات شيطانيه لشارك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك.
فنقول: إنه لا يصح أن أحداً رأى ربه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - في المنام، وما قاله بعض العلماء فإنه عَلَى سبيل التنزل مع أصحاب التصوف وأمثالهم، ولعله يأتي لها موضع آخر نبسط الكلام فيه -إن شاء الله- أما قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا [طه:124] فالإعراض عن ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقع من الكفار: وهو الإعراض الكلي، ويقع من الْمُسْلِمِينَ: وهم العصاة، وهو إعراض جزئي، فبقدر الإعراض عن ذكر الله تكون الشقاوة، والإعراض الكلي يسبب الشقاوة الكلية، كما هو حال أهل الكفر اليوم، والإعراض الجزئي يسبب الشقاوة الجزئية كما قال بعضالسلف: "إني لأرى أثر معصيتي في خُلق خادمي ودابتي".
فالإعراض عن ذكر الله، والمعصية بصفة عامة يظهر أثرها عَلَى الإِنسَان في الدنيا بقدر ما يكون إعراضه، ولا ينافي ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يستدرج بعض النَّاس ويمدهم بأموال وبنين، ويظنون أنهم يسارع لهم في الخيرات، وليس هو بمسارعة في الخيرات وإنما هو استدراج.(1/1880)
ثُمَّ يقول: "لعل النَّاس لم يختلفوا في شيء كما اختلفوا في شأن الإسراء والمعراج" وهذا كلام غير صحيح! أين الخلاف الذي وقع؟ فالذين خالفوا في الإسراء والمعراج -كما أوضحنا- هم أهل ضلال، وإذا قامت عليهم الحجة، وكذبوا بالإسراء والمعراج، فإنهم كفار مرتدون؛ لتكذيبهم لما ثبت في الكتاب والسنة وهذه العبارة ليست في محلها.
ومن المهم في ذلك ما قال في صفحة (84، 85) ومعناه: "إن الأمر يشكل عَلَى بعض النَّاس فيقولون: وهل لله -عَزَّ وَجَلَّ- مكان يعرج إليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انظروا إِلَى العقول القاصرة!!
إذا أراد أن يتكلم عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكأنما يتكلم عن أي مخلوق، أو عن أي أحد منَّا، فَيَقُولُ: "هل لله مكان يعرج إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ثُمَّ يجيب، فَيَقُولُ: إن الله تَعَالَى ليس بعيداً عن رسوله حتى يقطع للقاءه هذه الأبعاد الشاسعة في السماوات العلى، بل هو معه حيث ما كَانَ وهو أقرب إليه من حبل الوريد؛ بل قريب من عباده جميعاً" وإذا كَانَ قريباً منهم جميعاً فلماذا الإسراء والمعراج؟ وما فَضْل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما هو اختصاصه، انظروا إِلَى الاضطراب كيف يقع!!
ثُمَّ جَاءَ بالآيات وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:186] ثُمَّ أخذ يبين المجموعة الشمسية والسماء وما إِلَى ذلك من كلام لا ضرورة له أصلاً.(1/1881)
والمقصود أن هذا الكاتب خلط بين المعيتين: المعية العامة، والمعية الخاصة، وخلط في العلو، فلم يستطع عقله أن يوفق بين إثبات علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما أخبر وبين معيته، ولذلك فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرج به، بلغ تلك المنزلة التي لم يبلغها أحد أبداً فلو كَانَ الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قريب من جميع الخلق بذاته فما وجه الاختصاص للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعندما عُرج به إِلَى السماء كَانَ قريباً من ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والمعية الخاصة هي بمعنى: النصر والتأييد والتوفيق، وهذه ثابتة للمؤمنين، وأخصهم في ذلك الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُم [الحديد:4] وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب [البقرة:186] هذه المقصود بها: قرب النصر والتأييد والإجابة -إجابة الداعي إذا دعاه- فهو قريب من المؤمنين بهذه الحال، وبعيد عن الكفار أي أنه لا يسمعهم ولا يستجيب لهم أبداً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه قَالَ: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] هذا بالنسبة لمعيته ولقربه، أما ذاته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو كما أخبر أنه فوق العرش -فوق المخلوقات- في السماء.(1/1882)
شرح العقيدة الطحاوية
الشفاعة
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[والشَّفَاعَةُ التي ادَّخرها لهم حقٌ، كما رُوي في الأخبار] .
الشرح:
يقصد الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ بالضمير في قوله: [ادَّخرها] أي: الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكما في فقرة: [والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غِيَاثاً لأمته حق] فكل الضمائر تعود إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في فقرة [وقد أُسري بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرج بشخصه في اليقظة] ثُمَّ قَالَ: [والشَّفَاعَةُ التي ادخرها لهم حق كما رُوي في الأخبار] وهذه الفقرة أطال المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في شرحها وتعرض فيها لموضوعين أساسيين في الجملة:
الموضوع الأول: إثبات شفاعته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان أنواعها.
والموضوع الآخر هو: ما يتعلق بالتوكل وهو الذي ذكره في آخر موضوع الشَّفَاعَةِ.
باب الشَّفَاعَةِ بابٌ مهمٌ وعظيم؛ لأن النَّاس نتيجة غلطهم وجهلهم وانحرافهم في موضوع الشَّفَاعَةِ، وقعوا في الشرك الأكبر، وخرجوا من التوحيد، والصراط المستقيم إِلَى السبل المنحرفة والضلالات. فالمُشْرِكُونَ الذين بُعِثَ فيهم الأَنْبِيَاء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، كانوا يعبدون الأصنام بذريعة الشَّفَاعَة، والذين يعبدون الأولياء والصالحين، وينتسبون إِلَى هذه الأمة يتذرعون أيضاً بالشَّفَاعَة أو بالتوسل، فهذا أمر عظيم يجب أن نتفطن له.
وهناك أمور ينبغي أن نعلمها أولاً: أن النَّاس في الشَّفَاعَةِ عَلَى ثلاثة أقسام: طرفان ووسط.
أهل الغلو في إثبات الشفاعة
أما الطرفان:(1/1883)
فأولهما: المثبتون للشفاعة في غير موضعها ولغير أهلها، سواء كَانَ ذلك في الشافع أو في المشفوع له، فهَؤُلاءِ غلوا في إثبات الشَّفَاعَةِ، وجعلوها في غير ما أنزل الله تَعَالَى إما أنهم جعلوا من ليس أهلاً في الشَّفَاعَةِ شافعاً، والله لم يجعله شافعاً، أو جعلوه مشفوعاً له، ولم يأذن الله تَعَالَى بأن يُشْفَع له، وغلوا في ذلك حتى آل بهم الأمر إِلَى الشرك الأكبر.
وهَؤُلاءِ: هم المُشْرِكُونَ قديماً وحديثاً، فأما المُشْرِكُونَ في الجاهلية وقبل بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد أخبر الله عنهم في آيات كثيرة من ذلك قوله سبحانه: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] أي: يعبدون الأصنام والأحجار التي لا تضر ولا تنفع، كما خاطب إمام الموحدين إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام قومه بقوله: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72،73] لا ينفعون ولا يضرون ولكن العلة هي الشَّفَاعَة، ومن ناحية أخرى الوسيلة، ولهذا فموضوع الشَّفَاعَةِ والوسيلة له ارتباطات، فهَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ اتخذوا من غير الله آلهة وعبدوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم من الأصنام الجامدة، أو من الصالحين، أو من الموتى الهالكين الغابرين، وكل ذلك بحجة أن هَؤُلاءِ شفعاؤنا عند الله.(1/1884)
وفي الآية الأخرى مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] هي أيضاً بهذا المعنى، فإن الذي يقرب إِلَى الله هو الشافع الوسيط المتوسل به الذي يصل الإِنسَان إِلَى مراده وغايته، فهَؤُلاءِ جعلوهم شفعاء عند الله، وهذا شرك في حقيقته، وإن كانت هذه الأصنام لا تخلق وترزق، ولا تستحق العبادة وحدها؛ لكن يقولون: نعبد الله وهو إله واحد وهذه الآلهة تشفع لنا عند الله، وقد كانوا في الجاهلية يقولون: "لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك" فلا يجعلون هذا الشفيع واسطة فقط يقرب ويشفع عند الله؛ بل مع ذلك يجعلونه مملوكاً لله فقد قالوا: "تملكه، وما ملك" ومع ذلك فهذا بعينه هو الشرك الأكبر.
والشَّفَاعَةُ إذا نظرنا إليها من أصلها اللغوي وجدنا أن الشفع في اللغة هو: ضد الوتر، بمعنى: الاقتران أو الضم فمثلاً (2،4،6، ... ) هذه الأعداد تسمى الأعداد الشفعية فتقول: شفعت هذا بهذا، ضممت هذا إِلَى هذا، فالواحد وتراً لكن الاثنان شفعاً؛ لأنك ضممت واحد إِلَى واحداً فأصبحت شفعاً.
فالذي يحصل أن الْمُشْرِكِينَ يضمون مع الله تَعَالَى غيره، وذلك: بأن يدعو الله، ويدعو غير الله، ويقول قائلهم: هذا يشفع لي عند الله، فأنا عندما أدعو الله أنا ضعيف، ومذنب، ومقصر، كيف أدعو الله وأتقرب وأتوسل إليه بعملي أنا؟ فماذا أصنع؟! أشفع دعائي بدعاء رجل صالح! أو بدعاء الولي الفلاني، أو النبي الفلاني، أو بالأصنام أياً كانت، فأضم هذا إِلَى عملي، فيصبح الأمر أرجى للقبول عند الله تعالى، وهذا ما يفعله المتعلقون بالأموات والقبوريين في الجاهلية والإسلام.(1/1885)
فهَؤُلاءِ الذين أثبتوا الشَّفَاعَة، وغلوا في إثباتها، جعلوها في غير موضعها لأن هذه الأصنام لا تشفع، لأنها أحجار صماء بكماء، لكن الأنبياء والأولياء يشفعون لمن ارتضى كما قال الله عنهم: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] وقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِه [البقرة:255] فالشَّفَاعَةُ لمن ارتضى ولمن أذن الله تَعَالَى ولمن شهد بالحق وهم يعلمون، لأهل التوحيد والإيمان يشفع الله ما شاء له أن يشفع.
أهل التفريط والإنكار
وهم الذين أنكروا الشَّفَاعَة بالكلية، وهَؤُلاءِ هم المعتزلة والخوارج، فهم ينكرونها بناءاً عَلَى أصلهم الفاسد في حكم مرتكب الكبيرة.
فأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والسلف الصالح رَضِيَ اللهُ عَنْهُم كلهم أجمعوا عَلَى أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، كما صرحت بذلك الآيات من كتاب الله، والأحاديث الثابته من كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو قول وعمل واعتقاد أي: اعتقاد بالباطن وانقياد وإذعان بالظاهر، وقد نقل الإجماع عَلَى ذلك عدد من أئمة السلف منهم الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ، كما روى عنه اللالكائي بسند صحيح قَالَ: "رويت عن أكثر من ألف من أهل العلم ولم أنقل إلا عمن يقول الدين قول وعمل". وهذا هو قول الأمة قبل أن تظهر بدعة المرجئة والخوارج فهذا معنى قولنا: إن السلف قالوا: إن الإيمان قول وعمل.(1/1886)
الإيمان يزيد وينقص: يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فزيادة الإيمان وردت في كتاب الله مثل قوله تَعَالَى وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً [الأنفال:2] وكما حكى الله عن المنافقينفَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:125,124] كَانَ إيمانهم ناقص، ثُمَّ ازداد الرجس وذلك لنقص الإيمان.
فالإيمان يزيد وينقص عند النَّاس بالفطرة السليمة. فمن يصلي الفريضة، ويسمع الآيات التي تقشعر لها الأبدان، فيخشع في صلاته، فيشعر أن إيمانه قد ازداد وقد يخرج إِلَى الحياة فيرى المتبرجات، ويرى أهل الدنيا، ويرى ما حرم الله، فيقسوا قلبه، فيحاول أن يعيد بعض الخشوع، فيقرأ نفس الآيات التي كَانَ قد تأثر بها فيما سبق، فلا يكاد يجد شيئاً من ذلك إذا كَانَ إيمانه زائداً ثُمَّ نقص.
وعكس ذلك فقد يكون الإِنسَان يصلي ويصوم ويحج، ولكنه غافل عن أمر دينه، وعما يجب أن يكون المؤمن عليه من مراقبة الله وتقواه، فيجلس فيسمع شيئاً من كتاب الله، أو يصلي فيخشع في صلاته، أو يجد من يعظه ويذكره بالله عَزَّ وَجَلَّ، وإذا به يشعر أنه ولد من جديد، تنورت بصيرته، فيخرج فينظر إِلَى الأمور بنظرة غير التي كانت قبل أن يسمع هذه الموعظة، وأحياناً تجد نفسك متشجعاً للطاعة في أمر من أوامر الله، وأحياناً تجد أنك تتثاقل عن واجب من الواجبات التي ترغم وتكره عليها إكراهاً.
إذاً زيادة الإيمان ونقصانه أمر معلوم.(1/1887)
والمسلمون ألا يرتكبون الكبائر ألا تقع منهم الأخطاء و (كل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون) هكذا خلق الله الإنسان؛ لأن الابتلاء والامتحان إنما مناطه هذه الأخطاء، ولو أن الإنسان لا يخطئ ولا يذنب لكان ملكاً، ولو أنه كان مذنباً مخطئاً بإطلاق لكان شيطاناً، لكن الإنسان هكذا وهكذا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإِنسَان:3] فالإِنسَان يقبل هذا ويقبل هذا، وهكذا خلقه الله تعالى.
ولهذا يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأعلاها: قول لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان) فلو تأملنا هذا الحديث لوجدناه يدل عَلَى الواقع وعلى كلام السلف تماماً، وهو أن الإيمان يزيد وينقص، فهناك شعب لا يأت بها بعض الناس، وعدم إتيانه بها يجعله لا يعد من الْمُسْلِمِينَ أصلاً، مثال ذلك، الشعبة الأولى: لا إله إلا الله: فمن لم يأتِ بها فليس بمسلم أصلاً، مثل: اليهود والنَّصارَى والْمُشْرِكِينَ، الذين لم ينطقوا بهذه الشهادة، ولم يلتزموا بها، فأولئك ليسوا بمؤمنين أصلاً، فلا يوجد عندهم من الإيمان ولا مثقال ذرة، وهناك شعب أخرى قد يتركها الإِنسَان ولا يأتِ بها فتنقص من إيمانه، مثل إماطة الأذى عن الطريق، فإذا استكمل رجلٌ الشُعَبَ وترك هذه الشعبة، نقص من إيمانه هذا شيء، ولا يعلم قدره الله تعالى.
اختلفت المذاهب والأنظار فيمن ترك شعبة من شعب الإيمان دون الشعبة العليا التي يكفر من تركها، وغير هذه التي ينقص إيمانه بها قليلاً؛ كأن يكون شرب خمراً ومات عَلَى ذلك فما حكمه؟
مرتكب الكبيرة عند الخوارج والمعتزلة(1/1888)
الخوارج والمعتزلة جعلوا مرتكب الكبيرة، كمن ترك شهادة أن لا إله إلا الله، كافراً خارجاً عن الملة في الدنيا، وفي الآخرة خالداً مخلداً في النَّار أيضاً، وَقَالُوا: الشَّفَاعَة لا تنفع الكافر الخارج عن الملة، واختلفوا في اسمه في الدنيا -فقط- فالخوارج قالوا:كافر في الدنيا وفي الآخرة خالد مخلد في النار.
وقالت المعتزلة: لا نسميه في الدنيا كافراً ولا مؤمناً؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين لأنه يوجد في نظرهم أدلة ترجح أنه كافر، وأدلة ترجح أنه مؤمن فعجزوا عن الترجيح بينهما، وهو في الآخرة خالد مخلد في النار، فحينئذ لا تنفعه الشَّفَاعَة، فشفاعته عمله فقط، يعمل الطاعات فيدخل الجنة، أما أن يشفع له شخص آخر وهو لم يعمل فلا شفاعة له، ولا يدخل الجنة، فأغلقوا الباب نهائياً.
مذهب أهل السنة في مرتكب الكبيرة
أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَقَالُوا: هذا الذي فعل محرماً أو ترك واجباً، هو مؤمن ناقص الإيمان ينقص إيمانه بقدر نقصان شعب الإيمان وتركه لها، والنَّاس كلهم يتفاوتون في الإيمان، فبعضهم يرتفع إيمانه حتى يصل إِلَى درجة عليا ثُمَّ يفتر عن العبادة والطاعة فينقص إيمانه، ولذلك فالإِنسَان يحتاج دائماً إِلَى تذكير؛ لأنه كلما تذكر زادت شعب الإيمان وطاقة الإيمان عنده فيزيد إيمانه.
مذهب المرجئة في مرتكب الكبيرة
وأما المرجئة فيقولون: الإيمان كامل في القلب، أما الأعمال فسواءً زادت أو نقصت، فلا تأثير لها عَلَى ما في القلب.
أدلة أهل السنة والجماعة في حكم مرتكب الكبيرة
يستدل أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بأحاديث كثيرة، منها: حديث الرجل الذي شرب الخمر فسبه الصحابة، ومع هذا شهد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا ينطق عن الهوى بأنه يحب الله ورسوله.(1/1889)
إذاً فقد تقع من المؤمن المعاصي كحالة استثنائية خارجة عن أصل المنهج الطريق الذي يمشي عليه، فتقع منه المعصية بالطبيعة البشرية لإغواء الشيطان له، أو لأي أمر من الأمور؛ لكنه لا يكفر صاحبها بمجرد أنه فعل المعصية، فهذا رجل يحب الله ورسوله، وقد وقع منه أن شرب الخمر.
ولقد وقع زنا من بعض الصحابة مثل ماعز والغامدية فلم يكفرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن أقام عليهم الحد، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ومن عوقب به في الدنيا، فهو كفارة له) كما في حديث البيعة الصحيح لما بايعهم، ولذا قال ماعز: طهرني يارَسُول الله! والمرأة تقول: طهرني يا رَسُول الله يرجون التطهير في الدنيا.
فهل التطهير ينفع في حق الكافر من غير أن يؤمن! ولو زنى الكافر هل نجلده أم لا؟
اختلف العلماء، والصحيح أنه يجلد كما في قصة اليهوديان اللذان نزلت فيهما الآيات العظيمة، واللذان بسببهما كانت القصة المشهورة لما وضعوا أيديهم عَلَى حد الرجم، وأقيم عليهم الحد، فأحكام الإسلام وحدوده تجري حتى عَلَى الكفار، وإلا فكيف يقَالَ: إذا زنى المسلم جلدناه، وإذا زنى الكافر قلنا له: أنت كافر لانقيم عليك الحد!! بل نقول: الإيمان بينه وبين ربه، لأن الله أمرنا أن نأخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون، وأن يكون حالنا معهم مثل حال الرَّسُول مع اليهودحين حالفوه وكانوا مواطنين في حكم الدولة المسلمة، فما داموا تحت حكم الْمُسْلِمِينَ فعلى الْمُسْلِمِينَ أن يقيموا عليهم الحدود، ولا يسمحوا لهم بالزنا ولا بشرب الخمر.
فالمقصود أن تقام حدود الإسلام حتى عَلَى الكافر، ومن عوقب في الدنيا فهو كفارة له، وإذا زنا المسلم أو شرب الخمر أو فعل معصية من المعاصي ثُمَّ مات عَلَى ذلك ولم يتب فحكمه عندأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الآخرة أنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(1/1890)
ومغفرة الله تنال الإِنسَان يَوْمَ القِيَامَةِ بعدة أسباب منها: شفاعة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذ يشفع الشافعون لأهل الكبائر، ويشفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما سيأتي تفصيل ذلك في قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [ويشفعون لأهل الكبائر] .
ومنها: أن يكون عفو الله مقابل التوحيد وإن لم يتب، فإن تاب تاب الله عليه، وقد يغفر الله لمن شاء من أهل المعاصي جاهر بالمعاصي من غير الشَّفَاعَة، كما قال الله تعالى: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ [غافر:3] لكن المعتزلة والخوارج قالت: غَافِرِ الذَّنْبِ لمن تاب، فنقول: إذا كَانَ غافر الذنب لمن تاب فقط فما معنى قوله: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ فمعنى غَافِرِ الذَّنْبِ أي: أنه يتكرم ويتجاوز من عنده من غير توبة ولا شفاعة، مثل: صاحب البطاقة التي لا يوجد فيها غير التوحيد، وتسع وتسعون سجلاً من المعاصي، ويغفر الله له مقابل التوحيد بلا شفاعة (يا ابن آدم لو أنك لو لقيتني بقراب الأرض خطايا -أي: بملئ الأرض من الذنوب والخطايا- ثُمَّ لقيتني لا تشرك بي شيئاً، لقيتك بقرابها مغفرة) فإذا لقيه لا يشرك به شيئاً فإنه يغفر له بأنواع المغفرة، إما أن يغفر له برحمته وفضله، وإما أن يغفر له بشفاعة الشافعين، وهذا من كرمه وفضله، وهو من جملة تكريمه للشافع أن قبل شفاعته كقبول شفاعة الشهداء والصالحين.
وأيضاَ فيها مَنُ الله عَلَى المشفوع بأن جعله ممن تدركه هذه الشَّفَاعَة.
إذاً: فمذهبأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيه التناسق والعمل بجميع النصوص الواردة، وفيه عدم رد آية أو حديث صحيح.
شبهة المعتزلة والخوارج والرد عليها(1/1891)
يقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في مرتكب الكبيرة: لا ننفي عنه اسم الإسلام بالكلية لكن تسلب عنه أسماء المدح، فشارب الخمر لا نقول: إنه من المحسنين ومن المقربين، ولكن يستحق أن يقَالَ: إنه فاسق وعاصي وفاجر وغيرها من أسماء الوعيد، فتسلب عنه أسماء المدح، ولا يطلق عليه اسم الكفر أبداً، والخوارج لهم شبهات لعل تفصيلها سيأتي إن شاء الله، ومن أهم ما خفي عَلَى الخوارج والمعتزلة أنهم جعلوا الفسق والضلال والفجور والكفر بمعنى واحد، وهل هو كذلك في ديننا؟!
الجواب: أن الكفر معناه واحد، ولكن الضلال قد يكون كفراً وقد يكون عصياناً، والفسق قد يكون كفراً مثل فسق إبليس كما قال الله عنه: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف:50] وقد يكون معصية وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4] أي: الذين يقذفون المحصنات.
وكذلك الظلم فتارة يطلق عَلَى الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] وتارة يطلق عَلَى المعاصي التي دون الشرك: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر:32] أي من هذه الأمة، فيطلق عَلَى من ارتكب كبيرة أنه ظالم: لأنه وضع الشيء في غير موضعه، ويطلق عَلَى الكافر ظالم: لأنه صرف العبادة لغير الله، وحقها أن تكون لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإنما أنكرت المعتزلة والخوارج هذه الشَّفَاعَة لأنها تتناقض مع أصل مذهبهم في الإيمان وهو: أن صاحب الكبيرة كافر مخلد في النَّار ولا يقَالَ: إنه ناقص الإيمان بل ذهب إيمانه بالكلية، والذين أثبتوا الشَّفَاعَة وغلوا في إثباتها حتى خرجوا عن الصراط المستقيم: هم المُشْرِكُونَ الواقعون في الشرك الذين جعلوا عبادة غير الله شفاعة، فأخلوا بالشَّفَاعَة الشرعية الصحيحة التي سوف يأتي تفصيلها بإذن الله.(1/1892)
ومذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في مرتكب الكبيرة أنه في الدنيا لا يخرج من الملة وإنما يسلب عنه أسماء المدح فقط مثل التقوى والإيمان وغير ذلك، ومع ذلك يبقى له اسم الإيمان بمعنى الإسلام، ولا يخرج من الملة، وفي الآخرة يكون من أهل الشَّفَاعَة، ابتداءً من القوم الذين يغفر الله لهم أو يشفع فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثناء الحساب، وانتهاءً بالجهنمين، وهم آخر من يخرج من النار، بعد أن يشفع الشفعاء كما سيأتي في حديث الشَّفَاعَة الطويل. فهذه هي الفرق والمذاهب في مسألة الشَّفَاعَة، وأما شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي ذكرها الإمام الطّّحاويّ هنا فما هي إلا فرع واحد من أنواع الشَّفَاعَة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
[والشفاعة التي ادخرها لهم حق كما روي في الإخبار]
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول: الشفاعة الأولى وهي العظمى، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين، ففي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين أحاديث الشفاعة منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَحْمٍ، فَدُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ، فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً، ثُمَّ قَالَ أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهَلْ تَدْرُونَ مِمَ ذَلِكَ؟
يَجْمَعُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمْ الْبَصرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ، فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنْ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَلَا يَحْتَمِلُونَ.(1/1893)
فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟
أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟
أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ؟
فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَبُوكُمْ آدَمُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ.
فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ.
فَيَأْتُونَ نُوحًا صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ نُوحٌ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ عَلَى قَوْمِي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ.
فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُونَ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟(1/1894)
فَيَقُولُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، فَذَكَرَ كَذِبَاتِهِ نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام.
فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ اصطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى.
فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ قَالَ هَكَذَا هُوَ، وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسَى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْبًا، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ذَنْبَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ وَمَا تَأَخَّرَ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟(1/1895)
فَأَقُومُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَبْوَابِ.
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَمَا بَيْنَ مِصرَاعَيْنِ مِنْ مَصارِيعِ الْجَنَّةِ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَبُصرَى} أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد] اهـ. .
الشرح:
قول المصنف: [الشفاعة أنواع، منها ما هو متفق عليه بين الأمة ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع] ، لم يتعرض المصنف رحمه الله فيه للصنف الذين تقدم ذكرهم، وهم الذين غلوا في الشفاعة فجعلوها للآلهة المعبودة من دون الله من الأصنام والأحجار، ولغير أهلها من المشركين، لأن أمر هؤلاء معروف ولأن هذه الشفاعة إنما هي ذريعة أو وسيلة، زعموها للإشراك بالله فصورتها الحقيقية أكبر من أن تكون ذنباً فيشفع فيه، فهذا وقوع في الشرك الأكبر.
أسباب إنكار الشفاعة:(1/1896)
وأما الشفاعة التي اختلفت فيها فرق الأمة الإسلامية فمنهم من أنكرها بالكلية وهم المعتزلة والخوارج وسبب إنكارهم لها هو الغلو، فالذين غلوا في نفي الشفاعة هم في الأصل ممن غلا في العبادة والطاعة بزعمه، فخرج به ذلك عن الصراط المستقيم، والشيطان يخرج المرء عن الصراط المستقيم وعن الجادة، إما بالغلو في الطاعة، فيفعل ما لم يشرع الله تعالى، وإما بالتقصير في العبادة حتى يتركها بالكلية عافنا الله وإياكم من ذلك.
وأهل السنة والجماعة دائماً وسطاً بين غلو الغالين، وبين تفريط المفرطين فقد كان الخوارج من أعبد الناس، حتى أن ركبهم كانت كركب الإبل من كثرة الركوع والسجود، وشحوب اللون في وجوههم من كثرة السهر بالقراءة والتلاوة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم ((تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم وعبادتكم إلى عبادتهم) وكذلك المعتزلة قد يقول قائل: المعتزلة زنادقة في الغالب وبالأخص المؤسسين، فكيف يكونو مجتهدين في العبادة؟
ولكن في الحقيقة أن أوائل المعتزلة كانوا من الغلاة في التعبد.
ومنهم: عمرو بن عبيد إمام المعتزلة الأول مع واصل بن عطاء وكان عمرو بن عبيد من أشد الناس زهداً في الدنيا، وكان شديد التنسك وشديد العبادة كأنه من الخوارج -وهو كذلك- فهم في الحقيقة فرقة من الخوارج، أو أقرب الناس إليهم، واختلط المذهبان فيما بعد حتى أصبحا شيئاً واحداً، فكان هذا هو حال أولئك المعتزلة، ولكن الأمر ليس أمر اجتهاد في العبادة، ولكن الأمر أمر اتباع، فمهما اجتهد المجتهد ولم يتبع، فإنه سيخرج ويضل، فهؤلاء لم يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، ولذا غلوا في الحكم على مرتكب الكبيرة.(1/1897)
فقالوا: إن الزاني كافر، وشارب الخمر كافر، وكلهم محرومون من الشفاعة وهذا غلو، وقد يقال: إن هذا الغلو من شدة نفورهم من الزنا، وشرب الخمر والمعاصي، ولكن نفور النفس من الشيء لا تجعلني أجعل المكروه محرماً أو أجعل المحرم كفراً، وكذلك رغبة النفس في الشيء لا تجعلني أجعل الحرام مجرد مكروه أو حتى أقول مباح -والعياذ بالله كما نقول اليوم الأمر بسيط- فإخلاص الدين لله تعالى لا يكون إلا باتباع أمر الله سواء وافق الهوى أم خالفه في أي أمر من الأمور، وإلا فإن من الناس من يكره الزنى؛ لأنه لا يريده وفي الغرب يسمون هؤلاء الناس معقدين جنسياً، لأنه لا يستطيع أن يزني ولا يتزوج، فهل نقول: إنه يؤجر أو أن ينسب إلى أي فضيلة، كما يقال: هذا إنسان مترفع ومتسامي عن هذه الفاحشة والرذيلة، والقضية ليست قضية عقد ولا قضية أهواء.
ولكن يجب أن يكون حب الإنسان وكرهه موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فتحب من أمرك الله بحبه، فشارب الخمر فيه جانبان، جانب إسلامه، فيراعى أنه مسلم، فتعطى له حقوق المسلم العامة، وجانب المعصية فيراعى فيه أنه عاص فلا تعامله معاملة التقي البار ولا معاملة الكافر، ولكن بين ذلك.(1/1898)
وله عليك بعض الحقوق، ومن هذه الحقوق: حق النصح، وحق التذكير والوعظ، وعدم التشهير، وعدم الفضح، وإلا أعنت الشيطان عليه، ثم هذا الإنسان العاصي نأمل ونرجو له الشفاعة -شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره- ولا سيما إذا كان عند الموت، فالأمل والرجاء في رحمة الله وفي مغفرته فهذه من الأسباب التي قد تفيد العاصي وترده إلى الجادة، فإنك إذا سألت بعض الناس، فإنه يقول لك: أنا لا تنفعني الشفاعة لأني غلطت وفعلت كذا وكذا، وكأنه يريد أن يقول: أنا أريد أن أستمر على المعصية، فإذا قلت له: إن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، ويقبل توبة عبده فتب وأنب إليه، رغّبه فقد يكون من أسباب رجوعه هنا الترغيب. لكن إذا يأس في الدنيا والآخرة كما فعلت الخوارج والمعتزلة عندما يأست العباد، فكيف تريد منه أن يتوب؟ لكن أهل السنة والجماعة يرغبون الإنسان ويهدونه إلى الطريق المستقيم، ثم هم يعملون بالسنة، ويتبعون الحق.
فلو أن أهل الكبائر كلهم كفار ولا شفاعة لهم يوم القيامة، فلماذا النبي صلى الله عليه وسلم يقتل الرجل من الكفار؛ لأنه كافر، ويقتل الرجل من المسلمين؛ لأنه قتل، ثم يأخذ هذا حكم وهذا حكم، ويصلي على المسلم صلاة الجنازة ولا يصلي على الكافر ... ، إلى آخر الأحكام، وغيرها مثل: شارب الخمر، والزاني، والسارق، فهذا التفاوت دليل على تفاوت أحوال الناس، ولو كان الأمر كما يقول هؤلاء الناس، لكان حكم الجميع هو القتل، وهذا الكلام كافٍ لإيضاح مذهبأهل السنة والجماعة ومذهب المخالفين لهم.
الشَّفَاعَة لها شرطان: وبعض العلماء يذكر أكثر من ذلك، لكن الأمر يرجع إِلَى شرطين:
الأول: هو إذنُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للشافع، سواءً كَانَ هذا الشافع ملكاً، أو رَسُولاً، أو عبداً صالحاً، أو شهيداً، أو غير شهيد، أو مَنْ شاء الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- من الشفعاء.(1/1899)
الثاني: رضى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عن المشفوع له، فالشَّفَاعَة تتركب من شافع ومشفوع له ومشفوع لديه، وهو الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
أدلة ذكر الشفاعة من القرآن
الأدلة عَلَى الشَّفَاعَة جلية من كتاب -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكذلك من سنة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول في آية الكرسي: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ألا بِإِذْنِه [البقرة:255] في هذه الآية العظيمة التي هي أعظم أية في كتاب الله لِمَا اشتملت عليه من صفات الألوهية وخصائصها التي هي صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والتي لا يشاركه فيها أحد نفي الله الشَّفَاعَة عن كل أحد إلا بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن أذن له من العباد أن يَشْفَع فإنه يَشْفَع بإذنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وفي سورة النجم يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن الملائكة الذين هم عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ولا يرتكبون ما يرتكبه بنو آدم من الذنوب والخطايا يقول عنهم: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26] فجعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذنه شرطاً لشفاعة الملائكة وهم من عباد الله المكرمين الذين كانت بعض الأمم يعبدونهم ويظنون أن فيهم خصائص الألوهية، ويصرفون بعض أنواع العبادة لهم، فبين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنهم لا يشفعون إلا من بعد أن يأذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمن يشاء ويرضى، وذكر من صفاتهم أيضاً في الآية الأخرى قوله: وَلا يَشْفَعُونَ ألا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] فإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للملائكة أو للرسل أو لغيرهم هو الشرط الأول. ورضاه عن المشفوع له هو الشرط الثاني.(1/1900)
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] فالله تَعَالَى لا يرضى عن الكافرين ولا يحبهم؛ ولذا لا تنفعهم شفاعة الشافعين كما أخبر الله بذلك، وخص الشَّفَاعَة بقوله: إلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86] فالشَّفَاعَة خاصة ومحصورة في أهل التوحيد فيمن شهد بالحق وهم يعلمون، فمن شهد شهادة أن لا إله إلا الله، وهو عالم بمعناها، عامل بمقتضاها، فهَؤُلاءِ هم الذين يستحقون الشَّفَاعَة، هذه بعض الآيات في ذلك.
الأدلة من السنة على ثبوت الشفاعة
أما من السنة: فالحديث العظيم حديث الجهنميين الذي رواه أكثر من صحابي ومنهم: أَبو هُرَيْرَة وأبو سعيد الخدري كما في الروايات التي في صحيح البُخَارِيّ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه (فيخرجون من النَّار وهم آخر النَّاس خروجاً) وهَؤُلاءِ هم الذين يقال لهم: الجهنميون، (فيخرجون من النَّار وقد امتحشوا وصاروا فحماً فيلقيهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحميلة في طرق السيل -كما ينبت النبات الذي يكون عَلَى طرف السيل- ثُمَّ يدخلهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الجنة برحمتهً) .
وهذا يكون بعد أن يشفع الشافعون من الملائكة وعباد الله الصالحين ويتحنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من بعد ذلك عَلَى من يشاء كما في رواية المسند (ثُمَّ يتحنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من بعد ذلك، فيخرج أقواماً لم يعملوا خيراً قط) فهَؤُلاءِ جميعاً الذين هم آخر من يخرج من النَّار تنالهم الشَّفَاعَة وهَؤُلاءِ كلهم من الموحدين.(1/1901)
فلا حظَّ ولا نصيب في الشَّفَاعَة لمشرك إلا في حالة خاصة سيأتي شرحها إن شاء الله تَعَالَى وهي حالة أبي طالب مع العلم أن الإخراج من النَّار لا يكون أبداً لمشرك وإنما هو خاص بالموحدين، ولهذا فإن الجهنميين -كما ورد في نص الحديث الصحيح- يعرفهم الشافعون بعلامة السجود؛ لأن النَّار تأكل ابن آدم إلا آثار السجود.
كما يدل الحديث أن تارك الصلاة ليس من الْمُسْلِمِينَ ولا يعامل معاملة الموحدين ولا تنفعه شفاعة الشافعين، قال الله تَعَالَى في شأنهم: قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر:43-46] .
فهَؤُلاءِ الذين ليس لهم علامة السجود كيف يخرجون من النار؟
وكيف يعرفهم الشافعون ليخرجوهم من النار؟
وأما من يتحنن الله تبارك عليهم ويخرجهم بعد ذلك، فهم إما أنهم كانت فيهم علامة سجود ضيقة ضعيفة لا تكاد تُرى -مثلاً- أو ممن كانت لهم حالة خاصة كمن يعيش في آخر الزمان حيث لا يدري النَّاس ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وحيث يندرس العلم، فالمسلم في ذلك الزمان هو الذي يقول لا إله إلا الله فقط، لا يعرفون إلا هذه الشهادة -لا إله إلا الله- ومع ذلك هم خير ذلك الزمان، وشر الخلق بالنسبة لمن بعدهم، ثُمَّ يهلكون، ولا تقوم الساعة حتى لا يبقى في الأرض من يقول: لا إله إلا الله، كما أخبر بذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا له تفصيله إن شاء الله في مبحث الحشر والجنة والنار.
والمقصود هنا: أنَّ الذين بلغت بهم المعاصي إِلَى أن تركوا الصلاة أو ارتكبوا أي معصية تخرج صاحبها من الملة فهَؤُلاءِ ليسوا من أهل التوحيد. فكل من ليس من أهل التوحيد وكان من أهل الكفر: إما كفراً أصلياً أو كفر ردة. فهَؤُلاءِ لا تنالهم الشَّفَاعَة ولا يخرجون من النار.
إثبات الشفاعة بالإجماع(1/1902)
أما ثبوت الشَّفَاعَة بالإجماع: فقد أجمع أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ على إثبات الشَّفَاعَة كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما وقع الخلاف من أهل البدع ومَنْ حذا حذوهم أو تأثر بهم.
ثُمَّ بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنواع الشَّفَاعَة: وذكر أن منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع، ومن هذه الأنواع ما يلي:
الشفاعة العظمى
وهذ الشَّفَاعَة هي الخاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين سائر إخوانه من الأَنْبِيَاء والمرسلين صلوات الله عليهم أجمعين، وهذه الشَّفَاعَة العظمى أجمعت عليها الأمة: أهل السنة وأهل البدع من المعتزلة والخوارج وغيرهم، وهي: شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحشر عند اشتداد الكرب والهول وعندما يفزع النَّاس إِلَى آدم، ثُمَّ إِلَى نوح، ثُمَّ إِلَى إبراهيم، ثُمَّ إِلَى موسى، ثُمَّ إِلَى عيسى، ولا يجدون من يشفع لهم ويضيق الخلق أجمعون ويشتد الكرب عليهم جميعاً، فيلجئون إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ يريدون منه أن يفصل الموقف، وأن يُدْخِلَ أهل الجنة الجنة وأهل النَّار النار، ففي هذا الموقف العظيم حين يتراجع كل الأَنْبِيَاء أولوا العزم وغيرهم من الخلائق يكون المقام المحمود للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الشفاعة في رفع الدرجات
هناك أيضاً نوع أخر من أنواع الشَّفَاعَة: وهو شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع درجات من يدخل الجنة فوق ما كَانَ يقتضيه ثواب أعمالهم.
موافقة الخوارج والمعتزلة لأهل السنة في هاتين الشفاعتين(1/1903)
وافقت المعتزلة والخوارج أهل السنة في النوعين السابقين من أنواع الشَّفَاعَة، والسبب في ذلك أنه ليس في هذه الشَّفَاعَة إخراج أحد من النَّار فقاعدتهم -التي سبقت معنا- أن صاحب الكبيرة خالد مخلد في النار، والشَّفَاعَة الكبرى شفاعة المحشر، يثبتهاالمعتزلة، لأنهم لا يرون فيها تعارضاً مع ما أصَّلوه وهو: أن صاحب الذنب لا بدَّ أن يُجازى بذنبه وجوباً، فيدخل النَّار ولا يخرج منها عياذاً بالله، هكذا قررت عقولهم دون الرجوع إِلَى الآيات وإلى الأحاديث، ووافقهم عَلَى ذلك الخوارج.
بل وافقهم بعض التابعين مثل: يزيد بن الفقير كما في صحيح مسلم، وطلق بن حبيب كما في الأدب المفرد للبخاري يقول: "كنت أرى رأي الحرورية -أي: رأي الخوارج -ولا أؤمن بالشَّفَاعَة"، أو قَالَ: "وكنت من أشد النَّاس إنكاراً للشفاعة".
فبعض التابعين الذين لم يكونوا من الخوارج انقدحت في أذهانهم هذه الشبهة وهو أن صاحب المعصية لا بد أن يجازى فكيف يشفع فيه أحد، وذهلوا وغفلوا عن الآيات والأحاديث الواردة في هذا الشأن، حتى بيَّن لهم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين أدركوا ظهور هذه الشبهة وهذه البدعة، وممن أدرك ظهور بدعة إنكار الشَّفَاعَة من الصحابة جابر بن عبد الله رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، وأنس بن مالك وعبد الله بن عباس.
وقد أخبر عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أنه سيأتي قوم ينكرون الشَّفَاعَة " والقصد أن هَؤُلاءِ الخوارج والمعتزلة أثبتوا هذه الشَّفَاعَة لأنه ليس فيها إخراج أحد من النَّار وإنما فيها زيادة استحقاق.
مسألة فعل الأصلح عند المعتزلة(1/1904)
المعتزلة عندهم قاعدة خبيثة وهي: (أنه يجب عَلَى الله أن يفعل الأصلح وأن يختار لعبده الأصلح) هكذا قرر إبراهيم النظام وأصحابه من البراهمية الذين هم في الأصل براهمية مجوس ثُمَّ أرادوا أن يخدموا دين الإسلام، فجاءوا بهذه المعاذير التي ينفر منها المؤمن، فمن الذي فرض عَلَى الله فعل الأصلح؟! وتجدهم يأتون بهذه القاعدة عندما ترد النصوص والأحاديث الدالة عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أناس من أهل الجنة لينالوا درجة أعلى! فيقولوا: هذا من باب وجوب فعل الأصلح
وأعظم شيء خالف فيه المعتزلة ومن تبعهم هي الشَّفَاعَة التي تقتضي الإخراج من النار، وذلك بناءً عَلَى أن مرتكب الكبيرة خالد مخلد في النَّار. وَقَالُوا: لا يليق أن يفعل عبد الكبيرةَ ثُمَّ يدخل الجنة بشفاعة الشافعين فيصير مثل التقي الزاهد الورع، فهذا ليس من باب العدل! وأخذوا يحاكمون أفعال الله -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَى عقولهم الكليلة القاصرة، ويخصون المغفرة بالتوبة، فلا يغفر الله لصاحب الكبيرة إلا إذا تاب، فلو مات وهو مرتكبٌ لكبيرة فإنه يكون من أهل النَّار خالداً فيها مخلداً، واختلفوا في اسمه في الدنيا -كما تقدم- فسماه الخوارج كافراً، والمعتزلة جعلوه في منزله بين منزلتين لا كافر ولا مؤمن.
وهذا يرجع إِلَى اعتقادهم الفاسد وهو أنَّ التقي يستحق دخول الجنة عِوَضاً عن عمله الصالح، ويستحق دخول النَّار عوضاً عن عمله الطالح فجعلوا المسألة مسألة أخذ وعطاء وبيع وشراء ولم يجعلوا لرحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا لشفاعته ولا لمغفرته شيئاً من ذلك.(1/1905)
وقد سبق أن ذكرنا في الرد عليهم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصف نفسه في أول سورة غافر فقال: غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ ألا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غافر:3] فوصف نفسه في هذه الآية بصفتين عظيمتين أنه غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ فإذا كَانَ لا يغفر إلا لمن تاب فيكفي ذكر صفة واحدة، وهو: أنه قابل التوب فقط، فإذا عرفنا الله وعرفنا صفاته تعالى، عظَّمناه وقدرناه حق قدره، وعرفنا ماذا نعتقد في حقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمن تاب قَبِلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى توبته حتى وإن تان من الشرك.
الجمع بين آيات الرجاء وآيات الوعيد
الله تَعَالَى عندما قال في آيات الرجاء وآيات الوعيد يظن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر:53] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] وأيضاً قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] .
فكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يغفر للمشركين وأنه حرم عليهم الجنة، هذا حق وكونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقبل التوبة من أي أحد، هذا حق أيضاً، ولا تعارض بينهما؛ فإذا تاب المشرك فقد انتقل من هذا الحكم -عدم المغفرة للمشرك- إِلَى حكم إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً.(1/1906)
وهذا يدخل في ضمن صفة (قابل التوب) فيقبل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى التوبة حتى من المشرك، فإذا تاب وأسلم فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقبل توبته وهذا حكم ظاهر معلوم، عمل به الصحابة الكرام كما أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في أخر آيات الأحكام -التي نزلت في أول سورة التوبة- أحكام المنافقين والْمُشْرِكِينَ حين أظهر الله دينه وأعزه.
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5] وقال في سورة الفرقان بعد أن ذكر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفات عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الفرقان:68] هذا هو الشرك وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ألا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68] وهذه أعظم الكبائر.
ثُمَّ قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * ألا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً [الفرقان:68-70] وهذا أصل عظيم وواضح ولكن إذا عميت البصيرة، فإنه يخفى عليها مثل هذا الأمور الواضحات، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ فكما أنه اتصف بقبوله التوبة فإنه متصف أيضاً بغفران الذنوب وبالعفو وبالمغفرة وبالكرم.(1/1907)
فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجازى العبد عَلَى العمل الصالح بأضعاف أضعاف ما يستحق والأصل أن العبد لاحق له عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا [النمل:89] وفسرتها الآية الأخرى فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] وهذا كرم من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ يضاعف الله لمن يشاء إِلَى سبعمائة ضعف، وبعد الوزن وبعد أن ترجح سيئات أناس عَلَى حسناتهم، ويستحقون دخول النَّار يغفر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَن يشاءُ منهم بمنِّه وفضله وكرمه، ولا أحد يُحجِّرُ عَلَى رحمة الله الواسعة، فهذا ما ذهب إليهأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وأما أهل البدع، فإنهم يجعلون المسألة مسألة عوض ومسألة مقابلة.
المعتزلة وجزاء الأعمال
نجد أهل البدع وعلى سبيل الخصوص المعتزلة يضطربون اضطراباً عظيماً في فهم بعض النصوص فمن ذلك:
الحديث الصحيح الثابت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: ((إنه لن يدخل الجنة أحد بعمله) فالمعتزلة ينكرون مثل هذا الحديث ويقولون: كيف لا يدخل أحد الجنة بعمله وهو الذي يقول: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105] (بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129] ، وكان الواجب عليهم أن يردوا ما أشكل عليهم من نصوص الكتاب والسنة إِلَى أهل العلم فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] هذا ما أرشدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إليه، لكنَّ هَؤُلاءِ يستفتون عقولهم وأراءهم.(1/1908)
والجواب عَلَى هَؤُلاءِ أن تقول: إن قوله تعالى: بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، أن الباء هنا باء السببية أي: بسبب العمل الصالح يدخلون الجنة فعباد الله الصالحين في هذه الحياة الدنيا يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله، وكل هذه أسباب يبذلونها لتوصلهم إِلَى رضى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى جنته، فلو كانت المسألة مسألة مبادلة وعوض فلن يدخل الجنة أحد بعمله، فما هي أعمالنا؟ أعمالنا لا تكافئ موضع في الجنة، فليست هناك مكافئة، وإنما ندخلها برحمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبمنه وفضله وكرمه.
شرح حديث الشفاعة العظمى
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[النوع الأول: الشَّفَاعَة الأولى وهي العُظْمَى، الخاصَّةُ بنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين سائر إخوانه من الأَنْبِيَاء والمرسلين، صلواتُ الله عليهم أجمعين.
ففي الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين أحاديث الشَّفَاعَة منها:
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (أُتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فَدُفِعَ إليه مِنْهَا الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ منها نهسة، ثُمَّ قَالَ: أنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وهل تدرون مِمَّ ذاك؟ يَجْمَعُ اللهُ الأولينَ والآخرينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَسْمَعُهُم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض النَّاس لبعض: ألا ترون إِلَى ما أنتم فيه: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إِلَى ربكم؟
فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوكم آدم.(1/1909)
فَيَأْتُونَ آدم، فَيَقُولُونَ: يا آدمُ أَنْتَ أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إِلَى ربك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فيقول آدم: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنه نهاني عن الشجرة فعصينه، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى نُوحٍ.
فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ: يا نُوح أَنْتَ أولُّ الرسل إِلَى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ نوح: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها عَلَى قومي نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى إبْرَاهِيْمَ.
فيأتون إبْرَاهِيْمَ، فَيَقُولُونَ: يا إبْرَاهِيْمُ، أَنْتَ نبي الله وخليله مِنْ أَهْلِ الأرض أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وذَكَرَ كذباته، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذهَبُوا إِلَى غَيْرِى، اذَهبُوا إِلَى مُوسَى.
فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُونَ: يا مُوسَى، أَنْتَ رَسُول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه عَلَى الناس، اشفع لنا إِلَى ربك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟(1/1910)
فَيَقُولُ لهم موسى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى عِيسَى.
فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يا عِيسَى أَنْتَ رَسُول الله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه قَالَ: هكذا هو، وكلمت النَّاس في المهد، فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ لهم عِيسَى: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذَهبُوا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يا مُحَمَّد أَنْتَ رَسُول الله وخاتم الأنبياء، غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقدمَ من ذَنْبِكَ وما تَأخر، فاشفع لنا إِلَى ربك، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟
فأَقُومُ فآتي تحت العَرْشِ فَأَقَعُ ساجداً لربي عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يفتح الله علي ويُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسنِ الثناءِ عليه ما لم يفتحه عَلَى أحد قبلي، فيُقَالُ: يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشفَّعْ، فَأَقُولُ: يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيُقَالُ: أَدْخِلْ من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء النَّاس فيما سواه من الأبواب، ثُمَّ قَالَ: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مَصَارِيعَ الجنَّة كما بين مَكَّةَ وهَجَرَ أو كما بين مَكَّةَ وبُصْرَى) أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أَحْمَد](1/1911)
هذا الحديث هو أحد الأحاديث الكثيرة الواردة في إثبات الشَّفَاعَة العظمى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
يقولأَبو هُرَيْرَة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: [أُتى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فَدُفِعَ إليه مِنْهَا الذِّرَاعُ، وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ] وهو أطيب ما في الشاة وأهناؤه، [فَنَهَسَ منها نهسة] أي: نهش والمعنى متقارب.
[ثُمَّ قَالَ: أنا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وهل تدرون مِمَّ ذاك؟] أي: لم أكون سيد النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ؟! [يَجْمَعُ اللهُ الأولينَ والآخرينَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَسْمَعُهُم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون] ففي يَوْمِ القِيَامَةِ أهوال عظيمة لا تعد ولا تحصى، والذي يوجد في هذا الحديث من هذه الأهوال هو أحد ما ورد في ذلك، وإلا فهي كثيرة في القرآن، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سمى هذا اليوم بأسماء كثيرة منها: الحاقة والقارعة والواقعة، ثُمَّ في مواضع متفرقة من القُرْآن يعرض مشاهد يَوْمَ القِيَامَةِ، وذلك لعظم الأهوال في ذلك اليوم وشدة الكرب.
ثُمَّ يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [فيبلغ النَّاس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون] في ذلك الموقف (حيث تكون الشمس عَلَى مسافة ميل، فمن النَّاس من يلجمه العرق إلجاماً، ومنهم من يبلغ إِلَى منكبه، ومنهم من يبلغ إِلَى سرته، ومنهم من يبلغ إِلَى حقويه ومنهم من يبلغ إِلَى ركبتيه) ، موقف عظيم وعطش شديد وكرب وهول لا تكاد العقول تتخيله، فضلاً عن أن تتحمله، فحينئذٍ يضج الخلق أجمعون، ويبحثون عن مخرج وعن حيلة من هذا الكرب ومن هذا الموقف.(1/1912)
[فيقول بعض النَّاس لبعض: ألا ترون إِلَى ما أنتم فيه] والنَّاس في ذلك الوقت في حيرة عن التفكير وشدة تذهلهم عن أي فكرة ورأي صواب، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكرم في ذلك اليوم، ويظهر فضل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جميع العالمين، ويظهر هذا الدين في ذلك اليوم، ويُصدق ما شهد وأخبر به الأَنْبِيَاء من قبل في ظهور هذا الدين، وظهور هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحقق له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما اختبأ وادخر لأمته.
فإنَّ لِكُلِ نبيٍ دعوة مستجابة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختبأ وادخر دعوته لأمته يَوْمَ القِيَامَةِ كما صح ذلك عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد خيَّره ربه في هذه الحياة الدنيا بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشَّفَاعَة، فاختار رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّفَاعَة، وذلك لعلمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنها أفضل وأجدى لأمته من أن يدخل نصفهم الجنة، وذلك من فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعظيم حقه عَلَى أمته، فيكرمه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويظهر سيادته عَلَى النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ بأن يلهم النَّاس فيقولون: لم لا نستشفع إِلَى ربنا، ونطلب ممن لهم مكانة ومقام عنده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يشفعوا إِلَى الله ليفض ما نَحْنُ فيه من هذا الكرب ومن هذا الموقف العظيم، ويفصل بين النَّاس فيقولون: بمن نبدأ؟
[فَيَقُولُ بعض النَّاس لبعض: أبوكم آدم] الذي خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بيده وفضله، لعله أن يشفع لنا عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى [فَيَأْتُونَ آدم] ويثنون عليه ويذكرون منزلته عند الله رجاء أن يقبل في أن يشفع لهم.(1/1913)
[فَيَقُولُونَ: يا آدمُ! أَنْتَ أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا، إِلَى ربك أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول آدم عَلَيْهِ السَّلام: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ] نعوذ بالله من غضبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُبارَزُ ويُحاَربُ ويُجَاهرُ بالمعاصي في هذه الحياة الدنيا، وتُرتكب المحرمات جِهَاراً وعلانية في أكثر الأرض والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْلُمُ عنَّا ويمهلنا ويؤخرنا إِلَى أجل مسمى، لكن في ذلك اليوم يشتد غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيغضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نسأل الله أن يجيرنا من غضبه، ويقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك اليوم: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر:16] ثُمَّ ينادي: أين الجبارون! أين ملوك الأرض! أين المتكبرون لمن الملك اليوم؟ فيخرسون ولا يجيب أحد لشدة ما هم فيه من الهول والكرب حتى يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16] يجيب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نفسه، بل يُحشَر المتكبرون كما في الحديث الصحيح (يحشر المتكبرون كأمثال الذر يَوْمَ القِيَامَةِ) فيذهب الكبرياء، ويذهب الفخر، فلا ينفع مال ولا بنون ولا أحساب ولا أنساب ولا قرابات في ذلك الموقف، فيغضب الله غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وقد غضب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أمم وأهلكهم، فأهلك قوم نوح، وأهلك عاداً الأولى، وثمود فما أبقى، وأهلك قوم فرعون، وأهلك قوم لوط، ومع ذلك فإن غضبه يَوْمَ القِيَامَةِ أشد؛ لأنه ادخر العذاب الشديد، وأجله إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وأما من كَانَ من المؤمنين ولكنه عصى الله وبارزه وحاربه بالمعاصي، فإنه أيضاً حذَّر وأنذَّر في الدنيا، فيأتيه(1/1914)
يَوْمَ القِيَامَةِ فيكون الغضب الشديد في ذلك الموقف الذي يخرسون ولا ينطقون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
ثُمَّ يبين آدم عَلَيْهِ السَّلام عذره بقوله: [وإن ربي نهاني عن أكل الشجرة فعصيته] وهذه المعصية قد غفرت له عَلَيْهِ السَّلام قبل أن ينزل إِلَى هذه الدنيا، ولكن هذا الموقف لا يتقدم له إلا عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وآدم عَلَيْهِ السَّلام غُفِرَ له لكنه يقول: إني حينما أتذكر هذه المعصية لا أستطيع أن أشفع لكم [نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذَهبُوا إِلَى نُوحٍ] وهذا الترتيب حكمة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيتقدم نوح وهو أول الرسل من أولو العزم [فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ: يا نُوح أَنْتَ أولُّ الرسل إِلَى أهل الأرض] وهذا دليل عَلَى أن نوح عَلَيْهِ السَّلام هو أول الرسل لأن بني آدم كانوا عَلَى التوحيد عشرة قرون؛ حتى وقع الشرك في قوم نوح، وذلك بعبادة الصالحين، فانحرفوا فأرسل الله إليهم أول الرسل نوح عَلَيْهِ السَّلام كما أخبر بذلك حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس قَالَ: [وسماك الله عبداً شكوراً] إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً [الإسراء:3] [فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول نوح: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ] يعيد ما قاله آدم عَلَيْهِ السَّلام، ثُمَّ يقول: [وإنه كانت لي دعوة دعوت بها عَلَى قومي] كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن لكل نبي دعوة) فدعوة نوح عَلَيْهِ السَّلام دعا بها عَلَى قومه فقَالَ: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً [نوح:26] .(1/1915)
وأمَّا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه اختبأ وادخر دعوته إِلَى هذا الموقف، وهذا من فضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أمته، ثُمَّ يقول: [نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي، اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذَهبُوا إِلَى إبراهيم] فدلهم عَلَى أفضل الأَنْبِيَاء بعده في الزمن وهو إبراهيم أبو الأَنْبِيَاء وإمام الموحدين عليه وعلى نبينا وعلى جميع الأَنْبِيَاء أفضل الصلاة والسلام، [فيأتون إبْرَاهِيْمَ، فَيَقُولُونَ: يا إبْرَاهِيْمُ، أَنْتَ نبي الله وخليله مِنْ أَهْلِ الأرضِ] اشفع لنا إِلَى ربك يا خليل الرحمان اشفع لنا إِلَى العزيز الجبار المتكبر، [أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول -كما قال الأَنْبِيَاء من قبله-: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ] نعوذ بالله من غضب الله عَزَّ وَجَلَّ، [وذَكَرَ كَذِباته] وهي لما قَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا [الأنبياء:63] وأشار إِلَى الصنم، وأنه هو الذي كسَّر الأصنام، ولما قال هذه أختي وهي زوجته، وهذه ليست في الواقع كذباً بالمعنى المعروف، وإنما هي تعريض وتلميح يفهم منه السامع غير الحقيقة وغير الواقع، فأتى إبراهيم الخليل عَلَيْهِ السَّلام بما يبرر عندهم أنه ليس أهلاً لذلك الأمر.(1/1916)
ثُمَّ قَالَ: [نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا، إِلَى موسى، فيقولون: يا موسى أنت رَسُول الله اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه عَلَى النَّاس اشفع لنا إِلَى ربك ألا ترى ما نَحْنُ فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟] فيعيد موسى عَلَيْهِ السَّلام نفس المقالة: [إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وإني قَتلتُ نَفْسَاً لم أُؤمر بِقتلِهَا] كما قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15] ثُمَّ يقول: [نَفْسِي نَفْسِي نَفْسِي] كما قال غيره من الأنبياء.
ثُمَّ يقول: [اذهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذَهبُوا إِلَى عيسى، فيأتون عيسى عَلَيْهِ السَّلام فيقولون: يا عيسى أنت رَسُول الله وكلمته ألقاها إِلَى مريم وروح منه فاشفع لنا إِلَى ربك أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول لهم عيسى عَلَيْهِ السَّلام: إنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ اليَوْمَ غَضَبَاً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ ولم يذكر -عيسى عَلَيْهِ السَّلام في هذه الرواية- ذنباً] ولكن في بعض الروايات يقول: (إني قد عُبدت من دون الله عَزَّ وَجَلَّ) فكأن ذلك يمنعني، وما ذلك إلا لكي يتأخر.
ويتقدم الشفيع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يقول: [اذَهبُوا إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1917)
فَيَأْتُونِي فَيَقُولُونَ: يا مُحَمَّد أَنْتَ رَسُول الله وخاتم الأنبياء، غَفَرَ اللهُ لكَ مَا تَقدمَ من ذَنْبِكَ وما تَأخر، فاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيْهِ؟ أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟] يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [فأَقُومُ فآتي تحت العَرْشِ] وفي الرواية الأخرى يقول: (أنا لها أنا لها) حينما يتخلى ويتأخر الجميع يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا لها أنا لها) هذا هو المقام المحمود العظيم الذي يختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره من الناس، ثُمَّ يقول: [فأَقُومُ فآتي تحت العَرْشِ فَأَقَعُ ساجداً لربي عَزَّ وَجَلَّ] فالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستشفع إِلَى ربه بهذا العمل فإن (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) فيسجد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لربه عَزَّ وَجَلَّ، يقول: [ثُمَّ يفتح الله علي ويُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ، وَحُسنِ الثناءِ عليه ما لم يفتحه عَلَى أحد قبلي] فثناء العبد عَلَى الله موجب أو سبب لحصول الخير والفضل.
فعند ذلك يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشفَّعْ] وهذا فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإكرام، حتى إن الخلق جميعاً يفرحون أنَّ الله تَعَالَى قد شفَّع فيهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [يا رَبِّ أُمتي أُمتي] كل الأَنْبِيَاء يقولون: نفسي نفسي إلا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يقول: [يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء النَّاس فيما سواه من الأبواب] .(1/1918)
وقد جَاءَ في الحديث المتفق عليه أنهم سبعون ألفاً، وصح في الحديث الأخر: أن مع كل واحد سبعون ألفاً من أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهَؤُلاءِ يدخلون الجنة من باب خاص من المصراع الأيمن يكرم الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك ويرى النَّاس ذلك.
وهذه الطائفة من أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي هي آخر الأمم فيدخلون الجنة قبل الحساب، وقبل أن تنصب الموازين، وقبل أن يفصل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين العباد.
ثُمَّ يقول: [وهم شركاء النَّاس فيما عداه من الأبواب، والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مَصَارِيعَ الجنَّة كما بين مَكَّةَ وهَجَرَ أو كما بين مَكَّةَ وبُصْرَى] وهذا من سعة الجنة وسعة مصارعيها، وفي الحديث أن الكلام عَلَى الأكل سُنَّة، وليس كما يزعم النَّاس من أن الكلام عَلَى الطعام من قلة الأدب، ويقولون: لا كلام عَلَى طعام.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والعجبُ كُلُّ العجبِ من إيرادِ الأئمةِ لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشَّفَاعَة الأولى في أن يأتي الرب تَعَالَى لفصل القضاء كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن النَّاس إنما يستشفعون إِلَى آدم فمن بعده من الأَنْبِيَاء في أن يفصل بين النَّاس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إِلَى المحز إنما يذكرون الشَّفَاعَة في عصاة الأمة، وإخراجهم من النار.
وكأن مقصود السلف في الاقتصار عَلَى هذا المقدار من الحديث هو الرد عَلَى الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة الذين أنكروا خروج أحد من النَّار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث.(1/1919)
وقد جَاءَ التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: (أنهم يأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ يأتون رَسُول الله محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفَحْصُ، فيقول الله: ما شأنك؟ وهو أعلم، قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقول: يارب، وعدتني الشَّفَاعَة فشفعني في خلقك، فاقض بينهم فيقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شفَّعْتُكَ أنا آتيكم فأقضي بينهم، قَالَ: فأرجع فأقف مع الناس.
ثُمَّ ذكر انشقاق السموات وتنزل الملائكة في الغمام ثُمَّ يجيء الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحونه بأنواع التسبيح، قَالَ: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثُمَّ يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إِلَى يومكم هذا، أسمع أقوالكم وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إِلَى أن قَالَ:
فإذا أفضى أهل الجنة إِلَى الجنة قالوا: من يشفع لنا إِلَى ربنا فندخل الجنة؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم إنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه وكلمه قُبلاً، فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، وذكر نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... إِلَى أن قَالَ:
قال رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآتي الجنة فآخذ بحلقة الباب، ثُمَّ استفتح فيفتح لي، فأحيى ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة، فنظرت إِلَى ربي عَزَّ وَجَلَّ خررت له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثُمَّ يقول الله لي: ارفع يا مُحَمَّد واشفع تشفع وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي قال الله -وهو أعلم-: ما شأنك؟(1/1920)
فأقول يارب وعدتني الشَّفَاعَة فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عَزَّ وَجَلَّ: قد شفعتك وأذنت لهم في دخول الجنة) ...
الحديث رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي وغيرهم] اهـ.
الشرح:
لم أرَ وجهاً لتعجب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- من الحديث الذي رواه البُخَارِيّ ومسلم وأَحْمَد، وهو قوله: (يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثُمَّ يقول بعض النَّاس لبعض: ألا ترون إِلَى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إِلَى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إِلَى ربكم؟ فيقول بعض النَّاس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ، وفي الرواية الأخرى (عندما يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ النَّاس من الغم والكرب والضيق ما لا يحتملون) .
ومن هذا الموقف العظيم تجأر الخلائق إِلَى الأَنْبِيَاء وتفزع لتطلب منهم أن يشفعوا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذه هي الشَّفَاعَة الأولى في هذا الموقف للفصل بين النَّاس في أمر الحساب، سواء منهم من يستحق الجنة فيدخلها، أو من يستحق النَّار فيدخلها، فالقضية ليست شفاعة خاصة بأهل الجنة ولا شفاعة خاصة لإخراج العصاة من النَّار وإدخالهم الجنة، كما هو ملاحظ من السياق.
فقول المصنف: [لا يذكرون أمر الشَّفَاعَة الأولى في أن يأتي الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء كما ورد في حديث الصور] هذا الكلام صحيح، فهم لم يذكروا أول الحديث أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يبدأ الحشر بالنفخ في الصور، ثُمَّ يأتي الكروبيون والملائكة، وليس في هذا مطعن في أنهم لم يذكروا الشَّفَاعَة الأولى، وإنما لم يأتوا بأول المحشر.(1/1921)
والواقع أنه لم يرد في وصف المحشر حديثاً صحيحاً كاملاً من أوله إِلَى آخره، وإنما الذي حصل أن بعض الوعاظ جمعوا كل ما ورد في الأحاديث وركبوا منها قصة واحدة وجعلوها كأنها حديث واحد.
وسوف يأتي إن شاء الله تَعَالَى أحاديث عن أنس بن مالك وأبي سعيد رضي الله عنهما وغيرهما تدل عَلَى إخراج عصاة المؤمنين أهل التوحيد من النَّار وإدخالهم الجنة، وهي أحاديث صحيحة رواها الشيخان وقد روى الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ كثيراً من هذه الأحاديث وكذلك رواها غيره من الأئمة الحفاظ، والسبب في عدم ورود حديثاً كاملاً صحيحاً من أوله إِلَى آخره -والله أعلم- أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يحدث أصحابه حديثاً واحداً في المحشر بأكمله، وإنما كَانَ يحدثهم ببعض ما سيحصل في المحشر كما في هذا الحديث، الذي أوله: (أتي بلحم فدفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة) وذكر فيه أمر شفاعته (وأنه سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ) ، وفي حديث آخر ذكر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حوضه، وفي حديث ثالث ذكر الميزان، وفي حديث رابع ذكر دخول أهل الجنة الجنة وفي حديث خامس ذكر شفاعته لأبي طالب، وهكذا.
فأحاديث يَوْمَ القِيَامَةِ كآيات يَوْمَ القِيَامَةِ، فهي متفرقة في سور متعددة وفي كل سورة نجد مشهداً وموقفاً وحدثاً قد يرى أنه يختلف عن الآخر، وما ذلك إلا لعظمة هذا اليوم وسعته وكثرة ما فيه من الحوادث والوقائع والأهوال، وكذلك تأتي في السنة أحاديث متفرقة كل حديث فيه مشهد من مشاهد يَوْمَ القِيَامَةِ، فالأحاديث الصحيحة التي وردت ليس فيها حديثاً كاملاً من أوله إِلَى آخره يصف اليوم من أول النفخ في الصور إِلَى آخر شيء من أمور الشَّفَاعَة.(1/1922)
حديث أَبِي هُرَيْرَةَ هو من أكمل الأحاديث وأطولها، وأما هذا التعليق فلعل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ نقله عن إمام آخر، وكأنه من كلام ابن القيم ولم أتمكن من التحقق من ذلك، أو لم ينقله ابن القيم تعقيباً عَلَى هذا الحديث، وإنما تعقيباً عَلَى اقتصار بعض العلماء عَلَى إثبات الشَّفَاعَة الأخيرة وعدم إتيانهم بأول الحديث، والله أعلم.
ثُمَّ يقول المصنف: [فإذا وصلوا إِلَى المحز إنما يذكرون الشَّفَاعَة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار] وهذا ليس في هذا الحديث؛ بل هو في الشَّفَاعَة العظمى، ثُمَّ يقول: [وكان مقصود السلف في الاقتصار عَلَى هذا المقدار من الحديث هو الرد الخوارج، ومن تابعهم من المعتزلة] والواقع أن التعميم بالسلف لا ينبغي؛ لأنهم لم يقتصروا عَلَى هذا اللفظ، كما في روايات الصحيحين وغيرها، وإنما قد يكون بعض العلماء الذين أرادو الرد عَلَى الخوارج اقتصروا عَلَى ذلك؛ لكن التعميم لا ينبغي؛ فضلاً عن أن يتعجب من ذلك الفعل؛ لأنه إذا كَانَ المقصود بالسلف هنا علماء الحديث، فليس من عادتهم كلهم اختصار الحديث للرد عَلَى أهل البدع.
والبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ يذكر الحديث مجزأً وقد يختصره بحسب الأبواب وهذه طريقته في صحيحه، لكن الإمام مسلم والإمامأَحْمَد وأبو داود الطيالسي وغيرهم من أصحاب السنن لا يختصرون الحديث بقصد الرد، وإنما يأتون في الغالب بالحديث كاملاً، فإن كَانَ قصده أئمة الحديث فليس بصحيح، وإن كَانَ قصده الأئمة الذين كتبوا في الرد عَلَى أهل البدع فاقتصارهم عليه أيضاً لا يطعن في أهل الحديث أو في عملهم أو ينتقدون من أجله.(1/1923)
فكان ينبغي للمصنف هنا أن يفصل ذلك فَيَقُولُ: وقد ورد في الصحيحين وغيرهما كاملاً، ولكن بعض الأئمة الرادين يقتصرون عليه، ولم يفعل المُصنِّفُ هذا، بل أتى برواية الصحيحين، ثُمَّ يأتي بعد ذلك بالحديث الذي يظن أنه حديثاً كاملاً، والحق أن الحديث الذي ذكره فيه ضعف، ففيه اضطراب في متنه، بل فيه أيضاً شذوذ كما سنبين ذلك إن شاء الله.
وأما الرد عَلَى الخوارج والمعتزلة ومن تابعهم من الذين أنكروا خروج أحد من النَّار بعد دخولها: فإنكارهم كاذب والرد عليهم حق وقد فعله السلف والأئمة رضوان الله تَعَالَى عليهم وممن فعل ذلك الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ وكذلك الإمام مسلم كما تدل بذلك تراجم هذه الأحاديث، ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللهُ: [وقد جَاءَ التصريح بذلك في حديث الصور ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله ... ] .
تحقيق حديث الشفاعة
أخذ المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يذكر الحديث، والحديث ضعيف كما قال الشيخ ناصر: "ضعيف أخرجه ابن جرير في تفسيره -كما ذكره المصنف- من حديثأَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً وإسناده ضعيف؛ لأنه من طريق إسماعيل بن رافع المدني عن يزيد بن أبي زياد وكلاهما ضعيف، بسندهما عن رجل من الأنصار وهو مجهول لم يسم.
وقول الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/248، 4/63) : إنه حديث مشهور ... إلخ، لا يستلزم صحته كما لا يخفى عَلَى أهل العلم.
والمقصود أن هذا الحديث وأمثاله ليست ثابتة فيما روي في وصف المحشر كاملاً ولكنها مركبة، وقد تكون مركبة من أحاديث صحيحة، وأحاديث ضعيفة.(1/1924)
فقول المصنف: [لكن من مضمونه أنهم يأتون آدم ثُمَّ نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى، ثُمَّ يأتون رَسُول الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيذهب -يعني رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفَحْصُ، فيقول الله تعالى: ما شأنك؟ -وهو أعلم- قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقول: يارب! وعدتني بالشَّفَاعَة فشفعني في خلقك فأقض بينهم] هذا المضمون يتفق مع الحديث الأول، وليس إِلَى هنا أي تعارض، لكن بعد ذلك يأتي ما يدل عَلَى أن متن هذا الحديث يخالف متن الأحاديث الصحيحة.
يقول: [فيقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم قَالَ: فأرجع فأقف مع الناس، ثُمَّ ذكر انشقاق السماوات، وتنزل الملائكة في الغمام، ثُمَّ يجيء الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح، قَالَ: فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه] .
ومعنى هذا: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يأت بعد لفصل القضاء عندما سجد الرَّسُول في أول مرة، فيكون عَلَى هذا: أن النَّاس ذهبوا إِلَى آدم، ثُمَّ إِلَى نوح، ثُمَّ إِلَى إبراهيم، ثُمَّ إِلَى موسى، ثُمَّ إِلَى عيسى، ثُمَّ إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذهب إِلَى تحت العرش، فسجد وخاطبه ربه وقَالَ: أنا الآن سآتي لفصل القضاء، ثُمَّ تنشق ... فإذا كَانَ السجود تحت العرش قبل أن يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لفصل القضاء.
إذاً: فأي مكانٍ يسجد فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غيره، فهو ساجد تحت العرش ضرورة، لأن العرش فوق المخلوقات وهو أعظمها أو أكبرها، فلا اختصاص إذاً.(1/1925)
والروايات الصحيحة الثابتة تدل عَلَى أن ذلك إنما يكون بعد أن يأتي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للحساب ولكن لا يفصل بينهم؛ بل كما قال الأنبياء: (إن ربنا غضب في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) ، هذا هو الذي يتفق مع الأحاديث الصحيحة، والاضطراب والشذوذ يعرف في قوله: (فإذا أفضى أهل الجنة إِلَى الجنة قالوا: من يشفع لنا إِلَى ربنا فندخل الجنة، وهذه شفاعة أخرى فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم عَلَيْهِ السَّلام إنه خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمة قبلاً، فيأتون آدم: فيطلبون ذلك إليه وذكر نوحاً ثُمَّ إبراهيم ثُمَّ موسى ثُمَّ عيسى ثُمَّ محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) .
وهذا اضطراب آخر، فالنَّاس بعد أن يطلبوا من آدم عَلَيْهِ السَّلام أن يشفع لهم الشَّفَاعَة العظمى فيعتذر، ثُمَّ يعتذر نوح، ثُمَّ يعتذر إبراهيم، ثُمَّ يعتذر موسى، ثُمَّ يعتذر عيسى عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، فلما يعتذروا كلهم يفض الموقف، ولم يبق إلا أن يدخل أهل الجنة الجنة، فكيف يأتون إِلَى آدم من جديد وقد اعتذر من الأصل؟
فالمقتضى -لو كَانَ بغير حديث- أنهم يأتون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا هو الواقع لأنا نجد بعد ذلك أن المُصْنِّف نفسه يذكر أن من الشفاعات شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل الجنة أن يدخلوها، فذكر ذلك، والأدلة عليه، فهذا إذاً هو المختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الأليق: أن النَّاس بعد ذلك يأتون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/1926)
أما من اعتذر في الأول فكيف يرجعون فيأتونه مرة أخرى، ثُمَّ بعد ذلك يستمر الحديث وكأنه قطعة من الحديث الصحيح الثابت أولاً، فبهذا يتبين لنا أن المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وغفر لنا وله- قد أخطأ فيما أورده من تعليق عَلَى هذا الحديث، وليس وجهة نظره فيما يبدو لنا بمكان من الصواب والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أعلم.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[النوع الثاني والثالث من الشَّفَاعَة: شفاعته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إِلَى النَّار أن لا يدخلوها.
النوع الرابع: شفاعته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كَانَ يقتضيه ثواب أعمالهم، وقد وافقت المعتزلة عَلَى هذه الشَّفَاعَة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات، مع تواتر الأحاديث فيها.
النوع الخامس: الشَّفَاعَة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا لهُ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب، والحديث مخرج في الصحيحين.
النوع السادس: الشَّفَاعَة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه، ثُمَّ قالالقرطبي: في التذكرة بعد ذكره هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] قيل له: لا تنفعه في الخروج من النَّار كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.
النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عنأنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أنا أول شفيع في الجنة) .(1/1927)
النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النَّار فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث، وقد خفي علم ذلك عَلَى الخوارج والمعتزلة فخالفوا في ذلك جهلاً منهم بصحة الأحاديث وعناداً ممن علم ذلك واستمر عَلَى بدعته، وهذه الشَّفَاعَة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً، وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] اهـ.
الشرح:
بعد أن ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى الشَّفَاعَة الأولى، وهي الشَّفَاعَة العظمى في أن يأتي الرب لفصل القضاء بين الناس، ذكر بعد ذلك بقية الشفاعات.
وأهم ما ينبغي أن نعلمه هنا أن المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ ذكر هذه الأنواع للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأصل الكلام هو في حقه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه ذكر قول الإمام الطّّحاويّ [والحوض الذي أكرمه الله تَعَالَى به غياثاً لأمته حق] أي: للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قال بعد ذلك: [والشَّفَاعَة التي ادخرها لهم حق كما روي في الأخبار] فكلام الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ هو عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقط.
والمصنف هنا تبعه في ذلك وذكر هذه الشفاعات الثمان منسوبة إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أنه قال في الشَّفَاعَة الثامنة: [وهذه الشَّفَاعَة يشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً] أي: إخراج العصاة من النَّار وإدخالهم الجنة، وهذا الكلام ثابت وصحيح والأدلة عليه ستأتي إن شاء الله ومنه حديث الجهنميين، ولكن قد يفهم من كلام المُصنِّفُ أن هذه الشفاعات خاصة بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا الشَّفَاعَة الثامنة. فهل هذا صحيح؟
هل الشفاعات: الثانية والثالثة والرابعة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم أم يشاركه فيها غيره(1/1928)
الواقع أن النوع الأول: -الشَّفَاعَة العظمى- خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا مراء في ذلك ولا نزاع فيها بين الأمة؛ لأن الرسل الكرام يتخلون عنها ابتداءً بآدم، وانتهاءً بعيسى عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.
أما الشَّفَاعَة الثانية: وهي شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع لهم فيدخلون الجنة.
والشَّفَاعَة الثالثة: وهي في أقوامٍ رجحت سيئاتهم عَلَى حسناتهم فاستحقوا بذلك دخول النَّار فيشفع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم ليدخلوا الجنة ويعاملون كما لو كانت حسناتهم هي الراجحة.
والشَّفَاعَة الرابعة: وهي شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوم من أهل الجنة في درجة دنيا من الجنة أن يرفعهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى درجة عليا لا تبلغها أعمالهم، ولكن يبلغونها برحمة الله ثُمَّ بشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، هذه ثلاثة أنواع.
وإذا تأملنا في هذه الأنواع لا نجد وجهاً يدل عَلَى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختص بها دون غيره، وإن كَانَ بعض العلماء ينصون عَلَى ذلك -يعني عند شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة- الحقيقة أنه لا يوجد دليل ثابت عَلَى خصوصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فلا يمنع أن يشفع الشهداء والملائكة والصالحون في هَؤُلاءِ النَّاس من باب الأولى، وذلك إذا كَانَ الأَنْبِيَاء والملائكة والصالحون من المؤمنين، يشفعون فيمن دخل النَّار أن يخرج منها، فأيهما أحق بالشَّفَاعَة؟(1/1929)
أليس الذي لم يدخل النَّار أولى أن يشفع فيه غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ومع هذا فإنه لم يثبت دليلٌ في اختصاص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده بذلك، وقد حصل خلاف بين العلماء الذين نقلوا أو تكلموا في الخصائص، فبعضهم يجعلها من خصائصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعضهم لا يجعلها.
والذي يتبين لنا من عموم الأحاديث أن ذلك ليس خاصاً به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
النوع الخامس: اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بها دون غيره
بعد أن يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا محمد، ارفع رأسك، سَلْ تُعْطَه، اشْفَعْ تُشفَّعْ، فَأَقُولُ: يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، يا رَبِّ أُمتي أُمتي، فيُقَالَ: أَدْخِلْ من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء النَّاس فيما سواه من الأبواب) ، وبهذا يتبين أن هذه الشَّفَاعَة خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنها تعد وكأنها جزء من الشَّفَاعَة العظمى، فهذه تختص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما يترجح، وذكر المُصْنِّف استشهاداً لها بحديث عكاشة بن محصن رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
النوع السادس: شفاعته في عمه أبو طالب
وأما النوع السادس: فشفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه فهذه الشَّفَاعَة خاصة له من جهتين: الأولى: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي يشفع، ولا يشفع أحد من النَّاس في قريبه المشرك.(1/1930)
والجهة الثانية: أنه ليس هناك مشرك يخرج من النَّار بإطلاق ولا يخفف عنه لا بشفاعة شافع ولا برحمة من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لأن رحمته تَعَالَى أعظم وأشمل من شفاعة الشافعين كما في حديث الجهنميين، حتى أن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، يحاول ويريد يَوْمَ القِيَامَةِ أن يدخل أباه الجنة، ولا يدخل النار، فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: انظر إِلَى موضع قدمك، فينظر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام إِلَى موضع قدمه، فإذا هو ملطخ بالدماء فعندما ينظر في هذا الدم يقذف بأبيه في النَّار نسأل الله العفو والعافية.
فلم تقبل شفاعة الخليل إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام وهو خليل الرحمن في أبيه، ولا يكون ذلك إلا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه الشَّفَاعَة شبيهة بالشَّفَاعَة العظمى في أنها واضحة الاختصاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحديثأبي طالب هذا رواه الشيخان، ولفظ مسلم: أن العباس بن عبد المطلب أخا أبي طالب سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: يا رَسُول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كَانَ يحوطك ويحميك؟ يعني: هل من مقابل لتلك الحماية والنصرة للدعوة، بل إن أبا طالب حوصر في الشعب وجعل نفسه مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل بقية المؤمنين وهو ليس منهم فقَالَ: رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نعم هو في ضحضاح من النَّار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النَّار) .(1/1931)
وفي الرواية الأخرى قَالَ: (له شراكان من النَّار يغلي منهما دماغه وهو يظن أنه أكثر أهل النَّار عذاباً) -نسأل الله العفو والعافية- فهو مخفف عنه بالنسبة إِلَى حال جميع الْمُشْرِكِينَ، ومع ذلك يظن من شدة حر النَّار -عافانا الله من حرها- أنه أعظم أهلها عذاباً، فهذه خاصة مستثناة إكراماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخصوصية لأبي طالب لما قام به من حماية الدعوة وهذه الشَّفَاعَة مستثناة من قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] .
وبما ورد من النهي عن الاستغفار للمشركين كما قال تعالى: مَا كَانَ َ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى [التوبة:113] فالاستغفار للمشركين، لا يجوز وإنما الذي جاز وورد فقط هو هذه الشَّفَاعَة وَمَا كَانَ َ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْه [التوبة:114] وهذا هو الذي حصل، لكن في يَوْمِ القِيَامَةِ يأخذ الحزن والأسى قلب الخليل عَلَيْهِ السَّلام ويحاول أن يخاطب ربه عَزَّ وَجَلَّ في أبيه.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطب ربه في عمه أبي طالب فتكون من الخصوصية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعمه الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها، إلا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يوفقه لأن يشهد شهادة الحق عند الموت وفي ذلك حكمة عظيمة وآية بالغة لمن أراد أن يتذكر ولمن أراد أن يتفكر في هذه العبرة، والقصد أن هذه الشَّفَاعَة واضحة أنها من خصوصياته.(1/1932)
وأما القوم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فهَؤُلاءِ هم -كما فسرهم حبر الأمة عبد الله بن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- أهل الأعراف، فقد قال -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "أما السابقون بالخيرات فيدخلون الجنة برحمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى"، وهم الذين قال الله تَعَالَى فيهم لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن قَالَ: أمتي أمتي: (أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من الجنة) ثُمَّ قَالَ: (وأما المقتصدون -أو أهل الأعراف- من تساوت حسناتهم وسيئاتهم فيدخلون الجنة بشفاعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهَؤُلاءِ أهل الأعراف يمكثون عَلَى مكان بين الجنة والنَّار فيها أشجار وماء فيشفع فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدخلون الجنة، وكما أسلفنا سابقاً: أنه لا يمتنع أن يشفع فيهم غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قال المصنف: [وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إِلَى النَّار ألاَّ يدخلوها] وهذا أيضاً كما سيأتي في حديث الجهنميين ثابت، وحق لمن دخل النَّار أن يخرج منها، فأولى منه ذلك الذي لم يدخلها بعد.
موافقة المعتزلة في الشفاعة في رفع درجات المؤمنين!!
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وقد وافقت المعتزلة على هذه الشَّفَاعَة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات] إن كَانَ يقصد المُصْنِّف رحمه ما عدا الأولى فلا بأس، وإن كَانَ يريد أن هذا عَلَى الإطلاق فنستدرك عليه ونقول: بل وافقوا أيضاً عَلَى الشَّفَاعَة الأولى فيكون الذي وافقت عليه المعتزلة: الشَّفَاعَة الأولى والرابعة
والسبب في ذلك: أنهم لا يريدون أن يخالفوا ما أصلوه وقرروه في حق أهل الكبائر والمعاصي، وأنه يجب -والعياذ بالله- عَلَى الله أن يعاقبهم -تعالى الله عن ذلك- فهاتان هما الشفاعتان اللتان وافقت المعتزلة فيها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.(1/1933)
ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [النوع الخامس: وهي الشَّفَاعَة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن حين دعا له رَسُول الله أن يجعله الله من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب] .
وصفة هَؤُلاءِ السبعين ألفاً: أنهم لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، وهل هم فقط سبعون ألفاً؟ صح أن مع كل واحد منهم سبعون ألفاً وهذا من فضل الله ومن رحمته وكرمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والنوع السادس: هو ما أشرنا إليه في الشَّفَاعَة الخاصة لأبي طالب، ثُمَّ يقول: قال القرطبي في التذكرة -بعد ذكر هذا النوع- "فإن قيل: فقد قال تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] أي: لا تنفع الْمُشْرِكِينَ والكفار، كما في أول الآيات: فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:40-47] ما حكمهم؟
قَالَ: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] فيقول القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قيل: فقد قال الله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ قيل له: لا تنفعهم في الخروج من النار، كما تنفع عصاة الموحدين" فالكفار لا تنفعهم الشَّفَاعَة في أن يخرجوا من النار، وكذلكأبو طالب، لا يخرج من النار، وإنما الشَّفَاعَة في حقه هي في تخفيف العذاب عنه فقط، فالآية إذاً عَلَى عمومها ثُمَّ قَالَ: "لا تنفعه في الخروج من النَّار كما تنفع عصاة الموحدين الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة".
النوع السابع: الشفاعة في دخول المؤمنين الجنة(1/1934)
هذا النوع السابع من أنواع الشَّفَاعَة وهو: [شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة كما تقدم، وفي صحيح مسلم عن أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أنا أول شفيع في الجنة] .
ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنا أول شفيع وأول مشفع) .
هل جبريل أول من يشفع؟
وهذا الحديث فيه رد عَلَى ما يذكره بعض النَّاس من أن أول الشافعين هو جبريل عَلَيْهِ السَّلام، ويستدلون عَلَى ذلك بحديث ضعيف (إن أول من يشفع جبريل) ، لكن هذا الحديث مردود بالأحاديث الصحيحة: (أنا أول شافع وأول مشفع) أو: (أنا أول شفيع في الجنة) ، فأول شفيع وأول مشفع هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتقدمه عَلَى ذلك، لا جبريل ولا أحد من الخلق إطلاقاً.
النوع الثامن: وهو معترك الخلاف
الأنواع السابقة من أنواع الشَّفَاعَة ليست هي التي جرى فيها الخلاف بين الأمة، وإنما أكثر ما وقع الخلاف والإشكال والتنازع فيه هو في النوع الثامن، وهذا هو المحل الذي ذكر العلماء لأجله موضوع الشَّفَاعَة في كتب العقيدة وكرروا ذلك لأهميته بالنسبة للرد عَلَى أهل البدع، ولا يزال أهل البدع إِلَى اليوم ينكرون هذا النوع، وهو شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النَّار أن يخرجوا منها.
فالشيعة بجميع أصنافها: الإمامية والجعفرية، والزيدية هم عَلَى منهج المعتزلة واتفقوا في ذلك مع الخوارج على ما بينهم من خلاف، كل هَؤُلاءِ متقدموهم ومعاصروهم إِلَى اليوم ينكرون الشَّفَاعَة لأهل الكبائر وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يأذن لأحد أن يشفع في أهل الكبائر فيخرجون من النَّار،، قال المصنف: [وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث] .
سبب رد هذا النوع من الشفاعة
وقد خفي علم ذلك عَلَى الخوارج والمعتزلة فخالفوا في ذلك وعلل المُصْنِّف ذلك بأمرين:(1/1935)
الأول: جهلاً منهم بصحة الأحاديث، وهذا ينطبق عَلَى بعض من خالف في ذلك حتى بعض السلف من التابعين وغيرهم، قبل أن يتبين لهم وجه الصواب ووجه الحق.
والوجه الآخر: هو العناد والمكابرة، وقد دار النزاع والنقاش بين المعتزلة وبين أهل السنة منذ القرن الثاني، وتكلم السلف في أمر الشَّفَاعَة ثُمَّ صنفوا فيما بعد مصنفات في إثبات ذلك والرد عليهم، فما بقي للمعتزلة ومن حذا حذوهم إلا العناد نسأل الله العفو والعافية.
فقالوا: هذا يخالف مقتضى العقل؛ لأن العقل يقتضي ويوجب معاقبة من فعل المعصية، كما يوجب أيضاً إثابة من فعل الطاعة، ومن المعلوم من عموم الآيات والأحاديث أن إدخال المؤمنين الجنة فضل من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فمعاملة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للمؤمنين معاملة الفضل ومعاملة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للمجرمين وللعصاة هي معاملة العدل، وكرم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ورحمته سبقت غضبه، كما ذُكِرَ ذلك في الحديث الصحيح.
فلهذا لا أحد يحجر عَلَى رحمته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يخرج العصاة الموحدين وأن يقبل فيهم شفاعة الشافعين، وأما أهل النَّار الذين هم أهلها، أي: الكفار والمُشْرِكُونَ، فهَؤُلاءِ دلت الآيات من كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أنهم لا يخرجون منها أبداً ويناسب هذا المقام أن نتعرض للحديث الذي ذكره المُصْنِّف وهو قوله: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) .
تحقيق حديث: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)(1/1936)
حديث (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) سبق أن قلنا: إن هذا الحديث كل طرقه تقريباً ضعيفة، ولكن بعض العلماء قَالَ: هو بمجموع طرقه يتقوى ويصح، وبعضهم يقول: هو ضعيف، ومن قَالَ: إنه ضعيف، فهو إما أنه لم يجمع طرقه، أو رأى أن طرقه ولو اجتمعت فهي كلها ضعيفة؛ لكن معناه صحيح وحق وهو أنه يشفع لأهل الكبائر من أمته، كما سيذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البُخَارِيّ والذي سوف نتعرض له بإذن الله في ما سيأتي..
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ومن أحاديث هذا النوع حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) رواه الإمام أحمد رحمه الله. وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنامعبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني يسأله لنا عن حديث الشفاعة فإذا هو في قصره فوافيناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه فقلنا لثابت: لا تسأله عن شي أول من حديث الشفاعة فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض فيأتون آدم فيقولون اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن.
فيأتون إبراهيم فيقول: لستُ لها؛ ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله فيأتون موسى فيقول: لست لها ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته.
فيأتون عيسى، فيقول: لستُ لها، ولكن عليكم بمحمدز
فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط.
فأقول: يارب أمتي أمتي.(1/1937)
فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان فأنطلق فأفعل.
ثم أعود فأحمدُه بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً.
فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط.
فأقول: يارب أمتي أمتي.
فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان فأنطلق فأفعل.
ثم أعود فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً.
فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع.
فأقول: يارب أمتي أمتي.
فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل.
قال: فلما خرجنا من عند أنس قلت: لو مررنا بالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة وهو جميع فحدثناه بما حدثنا أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة.
فقال: هيه؟
فحدثناه بالحديث فأتينا إلى هذا الموضع.
فقال: هيه؟
فقلنا: لم يزد لنا على هذا.
فقال: لقد حدثني وهو جميع منذ عشرين سنة، فما أدري أنسي أم كره أن تتكلوا؟
فقلنا: يا أبا سعيد فحدثنا.
فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم حديثي كما حدثكم.
قال: ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يارب ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله؟
فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله} .
وهكذا رواه مسلم.
وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء) .(1/1938)
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاًقال: فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضةً من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط الحديث] اهـ.
الشرح:
هذا النوع من أنواع الشفاعة هو الذي وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وبين أهل الضلال والبدعة، واشتد النزاع بينهم، ولا يزال أهل البدع إلى اليوم ينكرون هذه الشفاعة، ويمارون ويجادلون فيها، رغم ثبوتها بالأحاديث الصحيحة المتواترة، ورغم أن دلالتها على كرم الله تعالى وفضله أعظم مما يُخيل إليهم أن فيها ما ينقص وما يغض من قدر الإلهية، لأن الله سبحانه وتعالى لا يحسن به -كما يقولون-: إلا أن يعاقب المذنب؛ بل قالوا: يجب عليه ذلك، كما تجرأ على ذلك من تجرأ.
هذه الشفاعة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم
هذا النوع من الشَّفَاعَةِ وهو: إخراج أهل الكبائر من النَّار بعد أن دخلوها، ليست خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل هي أيضاً للملائكة ولعباد الله الصالحين، وفي هذا دليل عَلَى فداحة الخطأ الذي ذهب إليه من أنكرها، وقد سبق أن ذكرنا أن المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ استدل عَلَى هذا النوع بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (شَفَاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي) ، والحديث بهذا اللفظ من جهة المعنى لا شك أنه صحيح، لأن الأحاديث في أن الشَّفَاعَة ثابتة لأهل الكبائر كثيرة جداً.
لكن هذه اللفظة قد تشعر بالاختصاص كأنه يقول: (شَفَاعَتِي لِأهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي) وهي ليست كذلك وإن كانت قد تشعر بذلك، فالشَّفَاعَة ليست خاصة بأهل الكبائر بل هي أنواع -كما سبق- وهذا الحديث بهذا اللفظ ضعفه بعض العلماء، وبعضهم مال إِلَى تصحيحه أو تحسينه لكثرة شواهده وطرقه، ومن قال بصحته فهو مصيب لتعدد طرقه من جهة ولصحة معناه وثبوته في الأحاديث الصحيحة المتفق عَلَى صحتها من جهة أخرى.(1/1939)
قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا: [وهذه الشَّفَاعَةُ تُشاركُه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً] ، فلو أخر المُصْنِّف هذه الجملة إِلَى آخر حديث أنس عندما يقول: وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، ثُمَّ يأتي بالأحاديث الأخرى حتى يكون الكلام متصلاً، وقال بعد ذلك: وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات.
كان ينبغي بعد ذلك، أن يذكر رأس حديث أنس الذي وقعت فيه الشَّفَاعَة أربع مرات حتى تُفهم وتكون أحسن في التنسيق والترتيب، أي: بعد أن يقول: (استمر عَلَى بدعته) يقول: [وهذه الشَّفَاعَة تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] ثُمَّ ينتقل إِلَى حديث البُخَارِيّ، أو نأتي من أحاديث هذا النوع حديث (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وإن كَانَ تقديم الصحيح المتفق عَلَى صحته أولى، ثُمَّ بعد ذلك يذكر ما فيه احتمال، وبعد أن ينتهي من الحديث يقول: [وهذه الشَّفَاعَةُ يشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون] .
هذه الشفاعة تتكرر منه صلى الله عليه وسلم أربع مرات
وقوله: [وهذه الشَّفَاعَةُ تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مرات] أي: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في أهل الكبائر الذين استحقوا دخول النَّار ودخلوها حقيقة أربع مرات فيذهب ويأتي أربع مرات، كما جَاءَ في هذا الحديث، بخلاف الشَّفَاعَة العظمى فإنها مرة واحدة، وكذلك شفاعته عند دخول أهل الجنة الجنة مرة واحدة.(1/1940)
فهذا الحديث وبهذه الصفة من أعظم الأدلة الدالة عَلَى أن الإيمان يزيد وينقص، وأن النَّاس متفاوتون في الإيمان، ولهذا يذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرة الأولى ويأذن له ربه في أن يشفع فيمن في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، ثُمَّ ما هو أقل إِلَى الرابعة، فهذه أربع مرات تتكرر منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحسب تفاوت أهل النَّار في أعمالهم، حتى أن آخر من يخرج منها الذي ليس عنده إلا مجرد التوحيد والإقرار لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالوحدانية وللنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، وغلبته الذنوب والمعاصي فيما دون ذلك.
هذا الحديث الذي رواه الإمام البخاري بسنده إلى معبد بن هلال العنزي قال: [اجتمعنا ناس من أهل البصرة فذهبنا إلى أنس بن مالك وذهبنا معنا بثابت البناني] وهذا من خاصة تلاميذأنس.
وأنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفه الله سبحانه وتعالى بهذه المهنة العظيمة وهذه المنقبة الجليلة التي يتمناها كل مؤمن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشرف بخدمة الرسول صلى الله عليه وسلم وقد روى عنه روايات كثيرة، فهو من المكثرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رغم صغر سنه، ولكن الله عز وجل أعطاه الفقه وأعطاه الذكاء والفهم واستجاب الله دعوة نبيه عندما دعا له في أن يطيل عمره فأطال عمره، فكان في ذلك منقبة عظيمة وخير عظيم للأمة الإسلامية، النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم المؤمنين عائشة وكانت لا تزال فتاة في ريعان الصبا فتوفي عنها صلى الله عليه وسلم وهي كذلك فبقيت تحدث الناس عما كان يفعل في حياته صلى الله عليه وسلم نحواً من خمسين سنة بعد وفاته عما كان يفعل صلى الله عليه وسلم.(1/1941)
وهذا أنس خادم النبي عاش بعدعائشة ما يقارب الأربعين سنة أو يزيد فكان يحدث الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان السلف الصالح حريصين على طلب العلم، فاخذوا ثابت لمكانته من أنس وقالوا: نذهب نزور خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ونسأله عن حديث الشفاعة، [فذهبوا إليه، فإذا هو في قصره] أي: في بيته، وكانت تعد لما هم عليه من شظف العيش قصوراً، ولكنها بالنسبة لما كانت عليه قصور كسرى وقيصر وملوك الدنيا لا تساوي شيئاً من ذلك، فكان في منزلة رضى الله عنه [فوافيناه يصلى الضحى فاستأذنا] وفي ذلك دليل على مشروعية صلاة الضحى.
قال: [فأذن لنا وهو قاعد على فراشه، فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة] أي لا تقدم على حديث الشفاعة شيئاً آخر؛ لأن ذلك كان في آخر عُمْرِ أنس، وفي أيام الحجاج، وكانت الخوارج قد ظهر أمرها وكانت تحارب الحجاج حتى كان لهم دول في جهة فارس وعمان، وكانوا ينكرون الشفاعة، ولهذا ذهبوا يسألوا عن هذه القضية المهمة فيخشون أن يسألثابت عن شيء من الأحكام الأخرى، والباقون ساكتون وهذا من الأدب.
فتقدم ثابت فقال: [يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة] بدأ يقدم لهذه الزيارة في هذا الوقت، وأن المقصود بها العلم، وأن هؤلاء ما قصدهم إلا ذلك وكما مر معنا من أن طلق بن حبيب ويزيد الفقبر وهما من مشاهير التابعين يقولطلق: " كنت أرى رأي الخوارج وكنت أنكر حديث الشفاعة حتى ذهبت إلى جابر "، وبعضهم ذهب إلى أنس وبعضهم ذهب إلى غيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(1/1942)
فهذه القضية كانت رائجة، خاصة في البصرة والكوفة لأنها موطن الخوارج. وكانوا يقولون: كيف يفعل الكبيرة، ثم يغفر له، أو يُشفع فيه، فهذه شبهة روجها الخوارج، فلاقت آذانا عند بعض الناس ولكن شفاء العي السؤال، وشفاء الجهل العلم، فإذا سمع الإنسان بأمر وأشكل عليه، فلا يجتهد بآرائه الشخصية، ويقول: هذا حلال وهذا حرام وهذه بدعة وهذه سنة ولكن الله يقول: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] فذهبوا ليأخذوا العلم من أهله، فقال أنس رضي الله عنه حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال: [إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض] من الهول والكرب [فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لستُ لها ولكن عليكم بإبراهيم فإنه خليل الرحمن] ولم يذكر نوح لكن في الأحاديث الأخرى ذكر نوحاً عليه السلام وهذا هو الراجح، فهو إما سقط، وإما خطأ من الحفاظ [فيأتون إبراهيم فيقول: لستُ لها ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله، فيأتون موسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنه روح الله وكلمته]
فنحن نشهد أن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضى الله عنه المتفق عليه (فمن شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبد الله ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح، منه وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) .
معنى قوله: (روح الله وكلمته)
قوله: [فإنه رُوحُ الله وكَلِمَتُهُ] إضافة الروح إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هنا لأنها متفردة ومتميزة عن غيرها، والإضافة إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نوعين:
إما أن يُضاف إِلَى الله تَعَالَى معنىً من المعاني.(1/1943)
وإما أن يُضاف إليه ذوات وأعيان، فإذا أضيف إِلَى الله تَعَالَى معاني، مثل: "علم الله، وعزة الله، وحكمة الله، ورحمة الله" فهذه المعاني لا تقوم بذاتها وليست أعياناً وذواتاً مستقلة، فإذا أضيفت إِلَى الله تعالى، فإنها تكون صفاتاً لله عَزَّ وَجَلَّ.
فإذا أضفنا إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذوات وأعيان مخلوقة، فإنها تكون عَلَى نوعين: نوع منها خاص، ونوع آخر عام يشترك فيه كل من أضيف إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فمثال العام: السماء والجبال والأرض تكون سماء الله، وأرض الله، وجبل الله وغيرها كثير؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي خلقها.
وأما إذا أضيف إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الذات أو العين بالمعنى الخاص، مثل الناقة: إذا لقيتُ أنا ناقةً في الصحراء قلتُ: هذه ناقة الله. هذا المعنى العام ناقة الله، بمعنى: مخلوقه، خلقها الله، لكن نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا التي قالها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى لسان نبيه صالح هذه ناقة خاصة، لأن فيه اختصاص، فمن العبادة ما لا تفعل عند غيره فهي تطلق بالمعنيين وروح كل إنسان يُقال لها: روح الله، أي: المخلوقة لله، لكن: عيسى عَلَيْهِ السَّلام روح الله فيه اختصاص.
ووجه الاختصاص: أن عيسى خلق من أم بلا أب فهذه ميزة يختلف بها عن جميع الأرواح، حيث أوكل بها الروح الأمين فنفخها إِلَى الموضع الذي يخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيه الأجنة، ثُمَّ وضعته أمه مريم عليها السلام. وقوله: [وكَلِمَتُهُ] : أي أنه وجد بكلمة "كن"، وهذه أيضاً فيها اختصاص؛ لأن عيسى كَانَ بهذه الكلمة من غير أبٍّ، كما قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] وقوله: [فَيَأْتُونَ عيسى فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا، ولَكِنْ عَلَيْكُم بمحمد.(1/1944)
فَيَأْتُونِي فأقول: أَنَا لَهَا، فَأَستأذِنُ عَلَى ربِّي، فَيُؤذَن لِي، ويُلهِمُني مَحَامِد أَحْمَدُهُ بها لا تَحْضُرُنِي الآنَ] ، فالإِنسَان إذا أخلص وتضرع إِلَى الله وأثنى عليه، فإن ذلك أرجى بقبول الدعاء.
سجود النبي صلى الله عليه وسلم لربه تحت العرش
ثُمَّ يقول: [فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ وأَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفَعْ تُشْفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فيُقَالُ: انطلِقْ فَأَخرِجْ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرةٍ مِنْ إيمانٍ، فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ] هَؤُلاءِ أصحاب الصنف الأول، وهذا بعد أن يدخل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أهلُ النَّارِ النارَ ويَدخلُ مَعَ أهلِ النَّارِ العصاة من الموحدين.
فيقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: [انطلِقْ فَأَخرِجْ مَنْ كَانَ في قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرةٍ مِنْ إيمانٍ، فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ] أي: ما كَانَ فوق مثقال الشعيرة هذا أولى أن يخرج، فهذا هو الحد الأدنى، [فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ] يعود فيحمد ربه، هذه المرة الثانية [ثُمَّ أَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفَعْ تُشْفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي] ، هذا دليل شفقته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورحمته بأمته وهذه هي التي ادخرها واختبأها كما ورد ذلك في حديث حسن له طرق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لكل نبي دعوة مستجابة)(1/1945)
قَالَ: [فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ] ، وهو لا يزال يأمل من ربه الخير والكرم وهو أعلم وأعرف النَّاس بربه -عزوجل- وبكرمه وبسعة رحمته -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيعود للمرة الثالثة فَيَقُولُ: [ثُمَّ أَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ واشفَعْ تُشْفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فيُقَالُ: مِثْقَالُ أدنى أدنى أدنى مِثْقَالِ حَبَّة خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ، فَأَخْرِجْهُ مِنْ النَّارِ، فَأنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ] ، وفي رواية أخرى أيضاً في الصحيح (أدنى أدنى مثقال حبة من خردل، فأنطلق فأفعل) فيخرجهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون قد فعل ذلك ثلاث مرات.
فهنا توقف أنس في حديثه لمعبد وزملائه، قال معبد: فلما خرجنا من عند أنس قلتُ لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوارٍ في منزل أبي خليفة، أي: متوارٍ من أصل الفتنة التي كانت في أيامالحجاج وكان يقبض عَلَى العلماء ويعذبهم ويقتلهم كما قتلسعيد بن جبير وغيره.(1/1946)
فقَالَ: [لو مررنا عليه] كَانَ في قلب ثابت شيء لم يفصح عنه أمام إخوانه قَالَ: [فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك فأتيناه فسلمنا عليه فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك فلم نر مثلما حدثنا في الشَّفَاعَة، فقَالَ: هيه] أي: هاتوا وأعطوني [فحدثناه بالحديث فانتهى إِلَى هذا الموضع] إِلَى الثلاث الشفاعات التي انتهى إليها الحديث، [فقَالَ: هيه] أي: وماذا بعد ذلك، قالوا: [فقلنا: لم يزد لنا عَلَى هذا قَالَ: لقد حدثني وهو جميع، أي: وهو شاب منذ عشرين سنه، فلا أدري أنسي أم كره أن تتكلوا] وهذا من الأدب فلم يقل هذا غلط، وإنما قَالَ: [فلا أدري أنسي] وهذا يمكن أن يقع من البشر حتى من الصحابة الكرام. [فقلنا: يا أبا سعيد فحدثنا، فضحك] من هذه العجلة ومن هذه السرعة في الطلب [وقَالَ: خلق الإِنسَان عجولاً] وهذا هو حال الإِنسَان، قَالَ: [ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به] أي: القدر الأول الذي رويتموه عنه في الثلاث الشفاعات الأولى حدثني إياه كما نقلتم.
قَالَ: [ثُمَّ أَعُودُ الرَّابِعَةَ] أي: يعود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المرة الرابعة إِلَى ربه عزوجل [فَأَحْمدُهُ بِتَلْكَ المَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ له ساجداً، فيُقَالُ:: يا مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ وَسَلْ تُعْطَه واشفَعْ تُشْفَّعْ، فأقول: يَارَبِّ ائْذَنْ لي فيمَنْ قَالَ: لا إله إلا اللهُ، فَيَقُولُ: وَعِزّتي وَجَلالي وَكِبْريائي وَعَظَمَتي لأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ:: لا إله إلا الله] وهذا يدل عَلَى عظمة وأهمية فضل التوحيد، فيأذن له الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيخرج جميع الموحدين الذين شهدوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالوحدانية ولنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرسالة.
المحرومون من الشفاعة(1/1947)
وبعد أن يخرجوا من النَّار لا يبقى فيها بعد ذلك إلا من حبسه القرآن، وهم المُشْرِكُونَ، كما في الروايات الأخرى الصحيحة، وهم المُشْرِكُونَ، كما قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72] .
فالشرك هنا هو المانع والحابس الذي يحبس والذي يمنع الإِنسَان من الخروج من النار، وكذلك المنافقون النفاق الأكبر قال الله: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء:145] وهَؤُلاءِ كذلك محرومون ومحجوبون عن شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الله له في الدنيا إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80] فما بالكم بيَوْمَ القِيَامَةِ، فهَؤُلاءِ الذين ارتكبوا الكفر الأكبر والنفاق الأكبر وسائر نواقض الإسلام المعروفة محرومون من الشَّفَاعَة، ولهذا فإن أول وأعظم ما يجب أن ندعو إليه النَّاس هو ما دعى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأنبياء قبله وهو: توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا هو أساس النجاة في الدنيا والآخرة، وما بعد ذلك فهو تبعٌ وفرعٌ له وشعبٌة من شعبه، ثُمَّ نقول بعد ذلك: وهذه الشفاعة يشاركه فيه الملائكة والنبيون والمؤمنون، والدليل عَلَى ذلك.(1/1948)
قَالَ: [روى الحافظأبو يعلى عنعثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَشْفَعُ يَوْمَ القِيَامَةِ ثَلاثَةٌ: الأنبِيَاءُ، ثُمَّ َ العُلَمَاءُ، ثُمَّ َ الشُّهَدَاءُ) وهذا الحديث استدل به المُصْنِّف وهو حديث ضعيف؛ بل في سنده وضّاع فهو مما لا يحتج به بهذا اللفظ، ولكن المعنى صحيح فلذلك كَانَ ينبغي للمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أن يقدم الصحيح الذي بعده، وهو يغني عن ما ذكره الحافظ أبو يعلى وغيره، وقوله: [وفي الصحيح من حديثأبي سعيد رضى الله عنه مرفوعاً قَالَ: فيقول الله تعالى: شَفَعَتِ الملائكة، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشَفَعَ المُؤمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إلا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمَاً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرَاً قَطُّ] ، هذه رواية مسلم.
وفي رواية عند البُخَارِيّ في كتاب التوحيد يقول: (فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون فيقول الجبار: بقيت شفاعتي فيقبض قبضةً من النَّار) فهذا الحديث متفق عليه، فإذاً يشفع النبيون والملائكة والمؤمنون ثُمَّ بعد ذلك كما في مسلم قَالَ: (فيتحنن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى من يشاء فيخرج منها أقواماً لم يعملوا خيراً قط) .
معنى قوله: (لم يعملوا خيراً قط)
قوله: [فيخرج منها أقواماً لم يعلموا خيراً قط] معنى وذلك: أنهم عملوا حسنات ولكن أكلتها السيئات، حتى لا يأتي أحد فَيَقُولُ: تارك الصلاة يدخل في الشَّفَاعَة ولم يعمل خيراً قط، فالقضية ليست هكذا، لأن في رواية البُخَارِيّ: (الشفعاء يعرفون المشفوع لهم بآثار السجود) كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل ابن آدم تأكله النَّار إلا أثر السجود) .(1/1949)
فقد يأتي أناس ولا يرون فيه العلامة، وهو ليس بتارك للصلاة، لكن صلّى صلاه وجودها كعدمها، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قال للمسيئ صلاته: (ارجع فصل فإنك لم تصلِ) ، فهذا ليس من أهل الصلاة في الحقيقة، ولأنه لا يُرى لها أثراً في نفس الوقت، وهو ليس تاركاً للصلاة؛ لأنه أدى شيئاً وليس مثل الذي لم يؤدِها بالكلية، والله تَعَالَى لا يظلم أحداً شيئاً كما قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40] .
ومثل هذه الحالة، حال الذين في آخر الزمان إذا اندرس الإسلام، فلم يبق إلا اسمه ولم يبق من الدين إلا رسمه، فيأتي القوم الذين لا يدرون ما صلاة، ولا صيام ولا نسك، ولكن يقول الرجل منهم أو المرأة: أدركنا آباءنا يقولون: لا إله إلا الله فنحن نقولها -فهذا الزمان زمان شر- فهو لم يسمع إلا هذه الكلمة ففالها، أفيظلمهم الله عزوجل ويجعلهم مع الذين لم يقولوها؟! إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
ومثل هَؤُلاءِ: الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين وكمّل المائة بالعابد، فلما اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، قالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيراً قط -وهو كذلك لم يعمل؛ لكنه نوى أن يعمل الخير- فتقول ملائكة الرحمة: إنه جَاءَ تائباً مقبلاً عَلَى الله عزوجل، فكلمة: [لم يعمل خيراً قط] لانفهمها عَلَى أنه لم يعمل أي حسنة بإطلاق، وكان تاركاً للصلاة عَلَى علم، والقرآن موجود والمساجد يؤذَّن فيها، وهو لا يصلي ولا يقرأ القرآن، وهذا حتى لا يفهم بعض النَّاس أن ذلك يعارض ما ورد في تكفير تارك الصلاة.
أسبابُ استحقاقِِ الشَّفَاعَةِ.
تحقيق التوحيد(1/1950)
يتحقيق توحيد العبد لله تَعَالَى بالإخلاص له وإفراده بالعبادة، هذا هو أول الأسباب التي يتوسل بها العبد إِلَى ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أن يشفع فيه نبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذا من فضل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، ومن عظيم منته عليها وعلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فيختص الله من حقق التوحيد من هذه الأمة بهذه الأفضلية وبهذه الأسبقية وهم السبعون ألفاً الذين حققوا التوحيد، وهم: (الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) وقد ورد بطرق حسنة: (إن مع كل ألف سبعون ألفاً) بل ورد أيضاً من طريق حسن (أن مع كل واحد من السبعين ألفاً سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) فهَؤُلاءِ السبعون ألفاً هم الخلاصة، وهم أول من يدخل الجنة من هذه الأمة، وهم أفضلها، ثُمَّ يلحق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع الواحد منهم سبعون ألفاً فضلاً وكرماً من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ثُمَّ بعد ذلك يدخل النَّاس من هذه الأمة ومن غيرها فيشتركون في أبواب الجنة الباقية.
ولهذا تعرف جناية أعداء التوحيد الذين يريدون أن يبطلوا هذا الاستحقاق وذلك بدعوة النَّاس إِلَى فساد العقيدة بالأقوال الباطلة التي تدعو الْمُسْلِمِينَ إِلَى التعلق بذوات المخلوقين من الأَنْبِيَاء والصالحين، والتعلق بآثارهم والتوسل بها -كما يزعمون- وترك التوسل الحقيقي الذي أعظمه ورأسه توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1951)
فهَؤُلاءِ الذين يربطون الْمُسْلِمِينَ بالأموات الغابرين الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً هم أكبر الجناة عَلَى هذه الأمة؛ لأنهم يفسدون عليهم أعظم وأرجى ما عندها، وهو تحقيق التوحيد لله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فمن حقق التوحيد نال هذه الشَّفَاعَة، ومن لم يحققه فإنه يهلك هلاكاً يحرمه من الشَّفَاعَة كما قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72] ، فهذا هو أول الأعمال وأعلاها وأفضلها وأرجاها، وهو الذي يجب علينا جميعاً أن نحققه قولاً وعملاً واعتقاداً، وأن ندعو إليه، وأن يكون هو أساس دعوتنا، كما كَانَ أساس دعوات الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم فلا يعبد ولا يطاع إلا الله، ولا يقدم بين يدي الله ورسوله، ولا يرتفع صوت فوق صوت رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهذا هو تحقيق التوحيد وتحقيق الإيمان.
قراءة القرآن
والعمل الثاني الذي ينال صاحبه به الشَّفَاعَة هو:
قراءة القُرْآن كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (اقرءوا القُرْآن فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً لأصحابه) ، ولو تأملنا حال هذه الأمة مع كتاب الله سبحانه وتعالى ومع هذا الذكر الحكيم والنور المبين لرأينا الهجر الواضح الجلي لكتاب الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُول ولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآن آنَ مَهْجُوراً [الفرقان:30] ، وكذلك هجرنا العمل به فنرى من يقرأ القرآن بدلاً من أن نراه محققاً لمقتضى ذلك من الخوف من الله ورجاء الدار الآخرة، والرغبة عن هذه الحياة الدنيا.(1/1952)
بل الواقع المشاهد هو الحرص والجشع والتنافس والتكاثر في هذه الحياة الدنيا، فهذا من أعظم ما هجر من القرآن، وكذلك هجرنا أحكامه فلم نُحل حلاله ولم نُحرم حرامه إلا من رَحِمَهُ اللَّهُ.
فأصبحنا نرى أن الأحكام التي تحكم حياة الْمُسْلِمِينَ في الغالب هي الأحكام الوضعية، وكذلك الذي يحكم أعرافهم وآدابهم الاجتماعية هو ما نقل عن الغرب من آداب وعادات وتقاليد وليست هي أحكام القُرْآن وآدابه، وهذا من الهجر الذي فعلته الأمة، ولهذا استحقت هذه الأمة ما نزل بها من الذل والهوان.
فكيف نتوقع لمن يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ ورَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكوه إِلَى ربه ويقول: وَقَالَ الرَّسُول ولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا القُرْآن آنَ مَهْجُوراً كيف ينال الشَّفَاعَة من هذه حالته؟ ولو نظرنا إِلَى حياتنا اليوم، أين نَحْنُ من هذا العمل؟ وأين من يتلو كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ أناء الليل وأناء النهار في البيوت؟! لقد استبدلت بما يسمع من قرآن الشيطان وهو هذه المعازف والمزامير واللهو واللعب في كل بيت وفي كل سيارة وفي كل وقت من أناء الليل وأناء النهار إلا ما شاء الله، أما القُرْآن فلا يتلوه ولا يقرءوه -ولا سيما في البيوت- إلا القلة الذين وفقهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لذلك.(1/1953)
أما أكثر الْمُسْلِمِينَ فهم عنه غافلون وكثير من الْمُسْلِمِينَ لا يهمه أنه قرأ القُرْآن أو لم يقرأه، فحال الشيطان بينه وبين مصدر النور والهدى والحق والطمأنينة والتقوى واليقين والإيمان، ولهذا أصبحنا أمة ضائعة لا مكان لها في الدنيا بين الأمم ونخشى أن لا يكون لها عند الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ مكان أيضاً بين المرحومين وبين المشفوعين لهم، ولو قارنا بين الأشرطة الخبيثة من أفلام الفيديو وما أشبهها في البيوت أو في محلات البيع بالمصاحف من حيث الكم والعدد، ومن حيث إقبال النَّاس عَلَى هذا وعلى تلك، فسنجد الفرق واضحاً.
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أَحْمَد ومسلم رحمهما الله تعالى: (اقرءوا القُرْآن فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً لأصحابه) ، ثُمَّ خص من القُرْآن تلك السورتين العظيمتين البقرة وآل عمران، ثُمَّ خص سورة البقرة بالذات وهي مشتملة عَلَى آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله وأواخرها أيضاً من أعظم ما نزل في كتاب الله عز وجل.
وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفاضل بين الصحابة بالقرآن، وكان معيار المفاضلة بين النَّاس هو القُرْآن فأكثر النَّاس حفظاً للقرآن هو أجدر بأن يولى قيادة الجيش، وهو أجدر بأن يقدم حتى عند الدفن، هذه هي الأمة القرآنية حقاً، ولهذا فضلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العالمين وأثنى عليها في الذكر المبين ونصرها وأورثها الدنيا شرقاً وغرباً لما كَانَ معيار التفاضل فيها هو القُرْآن وكان مرجعها في كل أمرها هو القُرْآن مع السنة التي هي شارحة ومبينة ومفسرة.
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم(1/1954)
الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال حين يسمع النداء (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حلت له شفاعتي يَوْمَ القِيَامَةِ) فما أيسر وما أسهل هذا العمل وما أعظم بركته وثمرته عند الله.
الإِنسَان يسمع النداء، الذي يهز الأعماق، ويهز الأسماع ويدقها، في كل يوم خمس مرات الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلاّ الله، أشهد أن لا إله إلا الله هذه الشهادة العظيمة الركن الأول من أركان الإسلام.
أشهد أن محمداً رَسُول الله، أشهد أن محمداً رَسُول الله، ثُمَّ الدعوة إِلَى الصلاة وإلى الفلاح، ثُمَّ إعادة تكبير الله عَزَّ وَجَلَّ وتعظيمه فوق كل عظيم، والشهادة له أيضاً بالوحدانية لا إله إلا الله، يقول العبد المسلم مثل ما يقول المؤذن، وإنما استثنى أن نقول إذا قَالَ: حي عَلَى الصلاة حي عَلَى الفلاح: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
ثُمَّ بعد ذلك نصلي عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونسأل الله له الوسيلة والدرجة العظيمة التي ليست إلا لرجل واحد هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن قال ذلك حلت له شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليس في هذا العمل مشقة ولا صعوبة؛ ولكن الشيطان يحرص عَلَى أن يشغلنا عن هذا الذكر العظيم، ليحرمنا من الشَّفَاعَة.(1/1955)
وكم يحرص قطاع الطريق إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من دعاة الشرك والضلال عَلَى حرماننا منه قيقولون: إن كنتم تريدون شفاعة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومحبته فهاكم هذه الصلوات، وكم من الأيام تقرأ أنواعاً وألواناً من الصلوات البدعية التي يفتعلها أصحابها ويكتبونها من عند أنفسهم ظانين أنها تقربهم إِلَى الله، وأن هذا دليل وعلامة محبتهم لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا من تلبيس الشيطان عليهم ليصرفهم من الدعاء الوارد الذي يستحق صاحبه هذا الفضل العظيم إِلَى تلك البدع التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) فالبدعة مردودة غير مقبولة وصاحبها مأزور غير مأجور فهذا مما يوجب علينا مزيداً من الحرص عَلَى الاتباع وعدم الابتداع، وأن نعرف خطر هَؤُلاءِ قطاع الطريق إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
سكنى المدينة
من الأعمال التي صحت الأحاديث في أن صاحبها ينال بها شفاعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي:
سكنى المدينة والموت فيها، هذا البلد العظيم مهاجر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي انبثقت منه أنوار التوحيد والهدى، وأسست فيه دولة الإسلام الأولى.
وما زالت المدينة المنورة ولله الحمد تشع بالنور والخير في سائر العصور، ولم ينقطع منها الخير ولن ينقطع بإذن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وهذا كما روى الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري وابن عمر وأَبِي هُرَيْرَةَ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يصبر أحد عَلَى لأواء المدينة فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يَوْمَ القِيَامَةِ) .(1/1956)
واللأواء هي: الشدة والمرض والنصب الذي قد يصيب ساكن المدينة، وقد أصيب الصحابة الكرام بها، ومنهم: أبُو بَكْرٍ وبلال وغيرهم بهذه اللأواء أول ما سكنوها، ودعا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يبارك الله في المدينة وأن يبارك في مدها وصاعها وأن تنقل حماها إِلَى الجحفة، وأيضاً أصيب عدد من الناس، وكذلك الأعرابي الذي جاءه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزاره وقال له: طهور، فقَالَ: بل حمَّى تفور ... إلى آخر ما صدع به، فَقَالَ له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكذلك إذاً، وهذا كَانَ مما يعيق هجرة المهاجرين إلا من كَانَ فيهم قوي الإيمان ثابت العزيمة.
أن يصلى عليه جمع من المسلمين
ومن الأعمال التي تكون سبباً لحصول الشفاعة لصاحبها يوم القيامة:
أن يصلي عليه جمع من الْمُسْلِمِينَ، وقد ثبت ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في صحيح مسلم عن عَائِِِشَةَ وأنس وابن عباس أنه قال: (ما من ميت يصلى عليه أمة من الْمُسْلِمِينَ يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه) هذه الرواية "مائة" وفي رواية ابن عباس وحده "أربعون".
ولو أخذنا بالرواية الأكثر فنقول: إن من صلى عليه مائة من الْمُسْلِمِينَ المؤمنين الموحدين فإنهم يشفعون فيه فيغفر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له بشفاعتهم، وهذا يدلنا عَلَى فضل صلاة الجنازة وعلى أن العبد المسلم -ينتفع بإذن الله- بدعاء إخوانه له وبصلاتهم عليه، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، فلهذا كَانَ من أفضل الأعمال ومن خيرها، ومن حق المسلم عَلَى المسلم أن يشيع جنازته وأن يصلى عليه.(1/1957)
وهذا من فضل التعاون عَلَى البر والتقوى، ومن فضل قيام الْمُسْلِمِينَ كل منهم بحق أخيه عليه، وما أكثر ما ضيعت حقوق الْمُسْلِمِينَ بعضهم عَلَى بعض، فالجار لا يقوم بحق جاره، والزوج لا يقوم بحق زوجته، والأخ لا يقوم بحق أخيه، والابن لا يقوم بحق أبيه، وهكذا إلا ما رحم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقليل ما هم.
هذه الأعمال تشمل جميع الأعمال
لو تأملنا الأعمال السابقة لوجدنا أنه قد نبه عليها لعظمها، ولأنها تشمل جميع الأعمال في الحقيقة؛ فتحقيق التوحيد يشمل كل الأعمال لأنه لا يحقق التوحيد تحقيقاً كاملاً إلا من اجتنب الكبائر، ولهذا كَانَ بعض السلف يسمي الذنوب جميعاً شركاً، ويقول: ما عصى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحدٌ إلا وقد اتبع هواه، وهذا نوع دقيق من الشرك، فهو عبودية القلب لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باتباع الهوى، فهذا وإن كَانَ لا يسمى شركاً في الاصطلاح ولا يترتب عليه أحكام الشرك لكنه نوع دقيق من الشرك.
ومن حقق التوحيد، أي: من كَانَ قلبه متمسكاً بالتوحيد، والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رجاءً وخوفاً وإنابةً ورغبةً ورهبةً وتوكلاً وإجلالاً وتعظيماً؛ فإنه لا يرتكب هذه الكبائر والموبقات، وإن ارتكب شيئاً منها، فإنه سرعان ما يعود، ويستغفر ربه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويتوب إليه، ويمحو تلك السيئات بهذه الحسنات.
وكذلك قراءة القرآن: فالذي يقرأ القُرْآن سوف يقرأ التوحيد، والوعد والوعيد والحلال والحرام، والآداب والعبر، وقصص الأَنْبِيَاء ويقرأ الحكمة التي أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذا الذكر الحكيم، ويقرأ كل ما من شأنه أن يجعله مطيعاً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في جميع أموره، فيقرأه قراءة المتفقه المتدبر العامل به فيكون يَوْمَ القِيَامَةِ شفيعاً له، فالقرآن يرجع الخير كله إليه.(1/1958)
وكذلك الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخاصة في هذا المقام بعد الأذان، وعندما يقولها الإِنسَان بعد سماع هذا النداء وهذا الذكر، ولما أن تعودنا عليه أصبحنا لا نستغربه، وإلا فهو أمر عجيب لمن تأمله، فكلمة "الله أكبر" تتردد في هذه البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، تتردد في أرجاء الفضاء في كل يوم خمس مرات، هذا الذكر بهذه القوة وبهذا الارتفاع وبهذا العلو حدث عجيب.
والذين لم يعرفوا هذا الذكر ولا قيمته كمن كَانَ في الجاهلية قبل أن يشرع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا الآذان أو في الجاهلية الحديثة إذا ذهب الإِنسَان إِلَى بلاد الكفر وافتقد الأذان عندما يعود إِلَى بلاد الإسلام ويسمع الأذان يشعر برهبة هذا الصوت ويتمنى أن يرتفع اسم الله وذكر الله في أجواء الدنيا ويسمعه النَّاس جميعاً.
ولهذا بعده يقول المؤمن هذه الصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي جاءنا بهذا النور وبهذا الذكر والذي رفع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اسمه وقرن اسمه به في هذا النداء العظيم، فالصلاة عَلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الموضع العظيم موضع حث للنفس عَلَى أن تجيب نداء الله وتجيب داعي الله، وتذهب إِلَى بيت الله وتأتي بهذا الركن العظيم الذي هو عمود الإسلام كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45] فهذه الصلاة من أداها حق الأداء وحافظ عليها، فإنها تكون له حصناً من الوقوع في الفواحش ما ظهر منها وما بطن، إذاً فلها علاقة بمعظم الأعمال الصالحة.(1/1959)
وكذلك من سكن المدينة أيضاً وهذه فضيلة لهذه البلدة الطاهرة، وبالأخص للجيل الأول الذي كَانَ يهاجر إِلَى المدينة ويصبر عَلَى لأوائها فإنه بطبيعة الحال يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويطلب العلم من هذا البلد الذي لم ينقطع منه العلم ولن ينقطع بإذن الله، فيكون أقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإلى العمل بالكتاب والسنة منه في أي بلد آخر، عندما يكون في هذه البلدة التي شهدت قيام المجتمع الإسلامي الأول، وشهدت دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياته من المهاجرين والأنصار، ولا تزال فيها تلك الأماكن التي أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن تزار فضلاً عن المسجد النبوي، وكذلك هناك قباء وهناك البقيع وهناك شهداء أحد وأمثال ذلك، وهذا يستدعي منه المداومة عَلَى الأعمال الصالحة والقربات التي فعلها أُولَئِكَ الجيل الفاضل.
وكذلك الصلاة عَلَى جنازة المؤمن: هذا الجمع من المؤمنين -الذين يصلون عَلَى أخيهم الميت- إذا صلوا عليه، وهم بقلوب خالصة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبدعاء وتضرع إليه؛ فإن هذا لا يكون أيضاً إلا ممن حقق الإيمان وممن حقق التوحيد، فهذا يقتضي أن يكون هَؤُلاءِ الداعون عَلَى هذه الدرجة من الفضيلة، وليس أي داعٍ أو مصل كمن صلّى ودعا وهو من أهل الدرجة الفضلى في التقوى والإحسان والإيمان.
ما يمنع من الشفاعة يوم القيامة(1/1960)
بقي أمر نُص عليه في الأحاديث يمنع صاحبه من أن يكون شفيعاً، فقد روى الإمام مسلم عنأبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (إن اللعانين لا يكونوا شهداء ولا شفعاء يَوْمَ القِيَامَةِ) واللعانون بصيغة المبالغة أي: الكثير اللعن؛ لأن اللعن لا يكون إلا من التشكي والغضب ومن ضيق النفس فيكثر الإِنسَان من اللعن، حتى يلعن الرجل زوجته، ويلعن ابنه، ويلعن ثوبه والعياذ بالله، فهذا اللاعن المتسخط الغضوب، الذي يأتي الشيطان عَلَى لسانه بهذه الكلمة، لا يكون يَوْمَ القِيَامَةِ شهيداً ولا شفيعاً.
ومن هذا أيضاً نستنتج كما استنتجنا في الأول أنه ليس هذا هو العمل الوحيد الذي إذا فعله صاحبه أنه لا يشفع، فجدير بمن ارتكب الكبائر أن لا يكون شهيداً ولا شفيعاً؛ لأن من أتى بالموبقات والكبائر، فإنه يستحق دخول النَّار، إلا أن تشمله رحمة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا دخل النَّار، فهذا غاية ما يرجى له أن ينال الشَّفَاعَةَ.
أما أن يشفع فذلك لا يكون، فمن ارتكب هذه الموبقات، فقد وضع نفسه في منزلة المحروم من أن يكون شفيعاً عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه الخصلة التي نبه عليها هذا الحديث تدلنا عَلَى ما ورائها، وأن العبد لا يكون شفيعاً إلا بمقدار قربه من الله، ولهذا أعظم الشفعاء هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه أكثر الخلق عبادةً وتقوى ومعرفة بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ من بعده الأمثل فالأمثل من الأَنْبِيَاء والصالحين، نسأل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يجعلنا من المقربين إليه ومن عباده الصالحين إنه سميع مجيب.
يقول المصنف رحمه الله:(1/1961)
[ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارىوالمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا، والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر.
وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح، حديث الشفاعة {إنهم يأتون آدم، ثم نوحاً ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد ارفع رأسك، وقل يُسمع، واشفع تشفع، فأقول: ربي أمتي فيحدُّ لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد فيحد لي حداً) ذكرها ثلاث مرات] اهـ.
الشرح:
يقول رحمه الله: ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال.
فذكر النوع الأول وهم: (المشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم، فهؤلاء يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا) وهؤلاء هم الذين أثبتوا الشفاعة، ولكنهم غلوا فيها حتى جعلوها لغير أهلها وفي غير موضعها، فجعلوا شفاعة من يعظمونه من نبي أو عبد لله صالح كالحال مع من يشفعون في الدنيا إلى ملوك الدنيا، وهذه الشبهة التي يرددها الشيطان دائماً على لسان عباد القبور أو عباد الأولياء، تجد الإنسان منهم إذا قلت له: يا فلان لا تدعو غير الله، يقول لك: أنا ضعيف وجاهل، وذنوبي كثيرة فأنا لا أجرؤ أن أدعو الله سبحانه وتعالى مباشرة، ومن جهلي لا أستطيع أن أدعو الله بالدعاء الذي يليق بالله سبحانه وتعالى.(1/1962)
فيقول: فأنا أتوسل إلى الله بالشيخ فلان، فهو يوصل إلى الله سبحانه وتعالى حالي، ويشرح له سؤالي، لما له من المنزلة العظيمة عند الله التي ليست لي، فيستجيب الله لي بواسطة فلان من الناس، حتى أنهم جعلوا الدعاء الصريح مجرد توسط كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله، فهو يدعو غير الله بـ"يا فلان" وهذا دعاء صريح كما يقول العبد المؤمن: يا رب! وهذا يقول: يا فلان! فإذا قلت له: لم تفعل ذلك؟
قال: أنا لم أدعه بذاته بل أنا أقصد التوسط والتوسل به إلى الله سبحانه وتعالى، فهؤلاء جعلوا أن شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا وهي أن الملوك أرباب السلطة ومن شابههم لا يعرفون حال الناس جميعاً بطبيعة الحال ولا يعرفون حاجة فلان أو غناه ولا يعرفون صدقه أو كذبه، فكيف يعطون أو يمنعون؟ فيأتيهم من يعرفوه ويعظموه ويثقوا فيه فيقول: أيها الملك! هذا فلان من الناس حاله كذا، وشأنه كذا، فأعطه فيعطيه، وقد تكون الشفاعة بالعكس فيطلب منعه فيمنعه فإما أن يعطي وإما أن يمنع بناءً على ما أخبره به ذلك الوسيط، الذي لولاه لما علم بحقيقة حال ذلك الرجل، فهذا لا يعلم الحال، بل هو محتاج بطبيعته إلى من يخبره عن حال هؤلاء السائلين، ولأنه لا يملك كل شيء فيعطي كل الناس فتقتصر عطاياه، على من يحبون لكن كيف الحال مع الله سبحانه وتعالى والخلائق كلها تطلب الرزق وتسعى وتغدوا إليه؟
أولاً: رزقها جميعاً على الله، ويعلمها وهي أمم أمثالنا كما أخبر الله سبحانه وتعالى فهو الذي يرعاها ويرزقها ويعلم أحوالها وكل ما تحتاج إليه وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان فاجراً كافراً.
فمن دعاه دعاء اضطرار في ظلمات البر أو البحر استجاب له ونجاه من الكرب وكشف عنه الغم بفضله لأنه هو رب العالمين، فلو لم يرزقهم ولو لم يتفضل عليهم ولو لم يكشف كربهم وينجيهم، فمن الذي يفعل ذلك غيره هل من رب سواه يفعل ذلك؟!(1/1963)
لا؛ حتى وهم كفار فجار يحاربونه إذا صدقوا في أنه ملجأ منه إلا إليه، فإنه لا يردهم خائبين، فالتوحيد كما يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب الفوائد: مفزع أوليائه، ومفزع أعدائه، فإذا جاءت الشدة والكرب والغم والضنك لجأ إليه أولياؤه ولجأ إليه أعداؤه ويتوسلون إليه بالتوحيد ويدعونه وحده فيكشف عنهم ذلك الغم والكرب كما قال تعالى: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:41] .
ثانياً: أن الله سبحانه وتعالى عنده خزائن كل شيء لا تنفذ، فليس مثل ملوك وأغنياء الدنيا الذين لا بد أن يعطوا وأن يحرموا، وهذا في حق الله، فهو الذي لا تنتهي خزائنه وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21] وقال في حديث أبي ذر: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد، ثم سألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) سواء كانوا على هدى، وتقى، أو على ضلال وعصيان، فالله سبحانه وتعالى يتفضل عليهم جميعاً كما قال: كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] فهو الغني سبحانه وتعالى كل الغنى يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] فهو الذي غناه غنىً مطلقاً، وهو الذي لو سأله الخلق جميعاً فأعطى كل واحد مسألته ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.(1/1964)
إذاً: كيف يشبه بملوك الدنيا بأن يطلب ما عنده من الرزق والفضل والخير عن طريق الوسطاء، وأعظم من ذلك: أنه جل شأنه قد أمر الناس أن يدعوه مباشرة كما قال: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] ، بل جعل دعاء غيره شركاً أكبر وجعله محبطاً للأعمال ومبطلاً لها، فمع هذا البيان في كتاب الله عز وجل بأن هذا شأنه وهذه صفته وأنه سبحانه وتعالى يأمر عباده أن يدعوه كما قال تعالى:وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186] فما حال من يذنب فلا يدعو ربه، بل يدعو غيره سبحانه وتعالى!
ولو زعم أنه يتوسط به إلى الله سبحانه وتعالى فهذا من الضلال الذي قال الله تعالى فيه: وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14] ولهذا يأتي هؤلاء المشركون يوم القيامة فيؤمرون بأن يدعو شفعاءهم ويدعو شركاءهم، ولكن أنَّى لهم ذلك: قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً [غافر:74] أين هم؟
فيقولون: لم نكن ندعو أي مخلوق، ولم نكن نعبد شيئاً، فما هي إلا أسماء سموها، وأوهام توهموها لا حقيقة لها أبداً، فهي ظنون وخيالات باطلة ليس لها من حقيقة وليس لها من واقع، فلا يجدون يوم القيامة من شفيع ولا ولي ولا حميم يطاع، ولكن أهل التوحيد يجدون ذلك الرب الرحيم الكريم سبحانه وتعالى الذي يدخل من حقق التوحيد منهم وأخلص له وحده الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهنالك يندم المجرمون ويتحسر المشركون.
اعلم أن الشَّفَاعَة التي يثبتها النَّصارَى والمُشْرِكُونَ من الغلو في المشايخ وغيرهم لا تكون إلا ممن لم يقدر الله حق قدره، فهم يظنون أنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى كالمخلوق، ويشبهونه بذلك.(1/1965)
ويقولون: نطلب الشَّفَاعَة إليه بواسطة غيره ظناً وتوهماً منهم إما أنه لا يسمعهم ولا يعلم بحالهم، وإما أنه لا يقبل الضعفاء والمذنبين وأصحاب المعاصي والكبائر فيتشفعون ويتوسطون بالمقبولين لديه كما يزعمون.
الشبهة التي يستدلون بها والرد عليها
إن هذه الشبهة الشيطانية ألقاها الشيطان عَلَى أفواه كثير من الناس، فترى أحدهم إذا دعا غير الله أو توكل بذات من الذوات الصالحة إِلَى الله، وأنكرت عليه ذلك، يقول: أنا مسكين، وأنا مذنب، وأنا كثير الخطايا! كيف أدعو الله! وكيف أخاطبه وأصل إليه مباشرة وأنا في هذه الحالة وفي هذه المثابة، فلا بد أن أتوسل إليه أو أجعل بيني وبينه وساطة من أحد عباده الصالحين المقربين من الأَنْبِيَاء أو الأولياء.
فأصل هذه الشبهة أنهم ما قدروا الله حق قدره، وما عرفوه حق معرفته، وأعرضوا عما في كتابه وعما في سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيان حال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع عبادة الصالحين، فإن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186] .
إجابة الله دعاء المضطر ولو كان كافراً
إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قريب ممن يدعوه أياً كَانَ ذلك الداعي؛ حتى أن الكافر المضطر إذا دعا الله أجابه، وهو الذي يغيثه، فيكشف ما يدعون إليه إن شاء.(1/1966)
كما ورد ذلك في آيات كثيرة من القرآن حيث ألزم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بضرورة إخلاص الدين له، وتوحيده وعبادته وحده، بأنهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين، فإذا هاج بهم البحر وماج واضطرب وظنوا أن لا ملجأ لهم ولا منقذ من الله إلا أن يتوجهوا إليه وحده فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65] ، فهم في حال الشدة يوحدون ويخلصون، وفي حال الرخاء يُشركون.
فهذا إلزام ألزمهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به، فإجابة المضطر من خصائص الله سبحانه وتعالى لأنه ربهم، فهو الرزاق. فمن الذي يرزق الناس إلا ربهم سبحانه وتعالى، فمقتضى ربوبيته لهم أنه يرزقهم ويطعمهم كما قال تعالى: كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِِ وَهَؤُلاءِِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ َ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء:20] نمد أهل اليمين المؤمنين، وأهل اليسار الكافرين، فلو لم يرزقهم الله فمن الذي يرزقهم؟
ولو لم يكشف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الضر عن المضطر ويكشف السوء عمن دعاه مؤمناً كَانَ أو كافراً فمن الذي يكشف ذلك؟! لا أحد، فهذا مقتضى ربوبيته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وخاصيته وألوهيته أنه يفعل ذلك جل شأنه وهذا الإله الكريم الذي بيده خزائن كل شيء والذي إليه المنتهى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والذي يملك كل شيء في هذه الدنيا، والذي يكشف السوء ويرفع البلاء ويجيب المضطر، قد فتح الباب عَلَى أوسع ما يمكن لقبول توبة التائبين والمستغفرين، وكيف يتوسط إليه بخلقه، وهو كما قال الشاعر:
الله يَغضبُ إنْ تَرَكتَ سُؤالهُ وبُنيَّ آدَمَ حِينَ يُسألُ يَغضبُ
غضب الله على من لم يدعه ويسأله(1/1967)
ثبت في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (من لم يدع الله يغضب عليه) فالإِنسَان لو كَانَ أباً حنوناً رحيماً ودوداً عطوفاً وكان له ابن مدلل لا يرد له أي طلب -يحبه غاية الحب- ولكن إذا كرر عليه الابن الطلب فالأب يغضب، ويزجر ولده من كثرة ما يطلبه ويلح عليه في الطلب.
فهذا هو حال المخلوق؛ لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلما ندعوه يرضى عنا، وبقدر ما ندعوه يكون الرضى عنا، فأكثرنا عبودية لله عَزَّ وَجَلَّ أكثرنا دعاءً له كما صح في الحديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (الدعاء هو العبادة) هذه هي حقيقة العبودية.
وأما المعتزلة والخوارج الذين أنكروا الشَّفَاعَة، فقد ذكر المُصنِّفُ أصل شبهتهم والرد عليها مع بيان مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ
ويعيد المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هذا المذهب فَيَقُولُ: [وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقرون بشفاعة نبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً] .
الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد
تقدم أن ذكرنا أن شرطي الشَّفَاعَة هما: رضا الله عن المشفوع له، وإذنه للشافع، فلذلك لا تكون الشَّفَاعَة، إلا لأهل التوحيد؛ لأن الله تَعَالَى يرضى أن يشفع لأهل التوحيد، ولا يرضى أن يشفع لأهل الكفر والشرك، وإذن الله تَعَالَى للشافع بأن يأذن للملائكة أو الأَنْبِيَاء أو الصالحين من المؤمنين أن يشفعوا لمن شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولذا قال: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255] ، وقَالَ: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28] فلا يشفعون إلا لمن ارتضى، ولا يشفعون إلا بإذنه.
حد الله لنبيه صلى الله عليه وسلم حداً في الشفاعة لا يتجاوزه(1/1968)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً] وهذا الشرط ليس زيادة عَلَى الشرطين السابقين، وهو: أن يحد له حداً، لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يملك من الأمر شيئاً، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحد له حداً ليشفع في العصاة فيخرجهم من النار، ولا يستطيع أن يتجاوز ذلك الحد [كما بين ذلك في حديث الشَّفَاعَة (إنهم يأتون آدَمَ، ثُمَّ نُوحاً ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، فيقول لهم عِيسَى عليه السَّلامُ: اذهبوا إِلَى مُحَمَّدٍ، فإنَّهُ عَبْدٌ غُفر له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَرَ، فَيأتُونِي، فَأَذهَبُ، فَإذَا رَأَيْتُ رَبِّي خَرَرْتُ لهُ سَاجِدَاً، فَأَحْمَدُ رَبِّي بِمَحَامِدَ يَفْتَحُها عَلَيَّ، لَا أُحْسِنُها الآنَ، فَيَقُولُ: أيْ مُحَمَّدُ، ارفَعْ رَأَسْكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، واشفَعْ تُشْفَّعْ، فأقول: رَبِّي أُمَّتِي، فَيَحُدُّ لي حَدّاً، فَأُدْخِلُهُم الجنَّةَ، ثُمَّ َ أَنْطَلِقُ فَأَسْجُدُ، فَيَحُدُّ لي حَدّاً) ذكرها ثلاث مرات] .
وهذا الحديث مروي في باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] الجزء الثالث عشر من فتح الباري صـ392، وقد ذكر الشيخ الأرناؤوط في تحقيقه أن هذه الزيادة لم ترد في صحيح البُخَارِيّ وهي ثابتة في الباب المذكور.
فالبُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أورد الحديثين في بابين مختلفين، أورد الرواية السابقة التي ليس فيها لفظة [فَيَحُدُّ لي حَدّاً] في باب "كلام الرب عزوجل مع الأنبياء"، وأما هذه الرواية [فَيَحُدُّ لي حَدّاً] فذكرها في باب قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [صّ:75] .
فائدة زيادة (فيحد لي حداً)(1/1969)
هذه الزيادة في الرواية فيها فائدة تأكيد بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يشفع إلا بإذن الله، وفيمن أذن الله له أن يشفع له، فهذا وهو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أفضل الخلق لا يشفع إلا بعد أن يأذن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له، ويأذن له في أناس معينين مخصوصين.
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ الاستشفاع بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغيره إِلَى الله تَعَالَى في الدنيا، وهذا الذي نريد أن نمهد له للدخول في موضوع الألوهية والشَّفَاعَة.
افتقار العباد إلى الله
نقول: إن كل بني آدم فقراء محتاجون ومضطرون إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وأصل وأساس العبودية مبني عَلَى افتقار المخلوق الضعيف المرهوب المقهور العاجز الذي لا حيلة له إلا بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن النَّاس من يدرك هذه الفاقة وهذه الحاجة إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وكثيرٌ منهم لا يدركها، ولكنه لو فكر وتأمل لوجدها قائمة، فالإِنسَان الذي يدرك هذه الحاجة -وكل بني آدم لا بد أن يدركها يوماً ما- في ذهنه وفي فطرته الضعيفة العاجزة.
فهو يسعى ليحقق ما يطمح إليه من النفع ويدفع ما يخافه من الضُر الذي ينزل به والعوارض التي تعرض له، فتحول بينه وبين تحقيق الآمال التي يسعى إليها، فأياً كَانَ دينه، وأياً كانت بيئته سواء كَانَ معترفاً بربه أو منكراً له، تجده دائماً يعمل من أجل ذلك، ولذلك تجده في أي وقت من الأوقات لابد أن يدعو ربه، فالإِنسَان ضعيف فقير محتاج لا يستطيع أن يقوم بنفسه، ولا أن يحقق لها ما تريده أبداً، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متفرد بأنه إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يّس:82] فهذا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده، أما بقية النَّاس فهم محتاجون مخلوقون فلا بد أن يلجئوا إِلَى من يدعونه ليحقق لهم حاجتهم ومرادهم.(1/1970)
الإِنسَان محتاج وفقير ومضطر، ولا بُدّ أن يدعو غيره وأن يلجأ إليه وأن يتوسل به، وهذا هو أصل عبودية أي عابد، ولهذا فإن العبودية لا تكون عبودية إلا أن يتحقق فيها شرطان هما: الحب من جهة، والخضوع والذل من جهة أخرى.
فإذا أحب إنسان شيئاً ولم يخضع له وينقاد فهذا لا يسمى عابداً، ولو أن أحداً خضع وذل وانقاد لأمر وهو كاره له فهذا لا يسمى عابداً أيضاً، فالعبودية: معناها أن يجتمع في الإِنسَان كمال الحب مع كمال الذل والخضوع، فالنّاس هذا حالهم وهذا شأنهم، أما أهل التوحيد فإنهم أخذوا الأسباب والأمور من مصادرها الصحيحة وعملوا بالأسباب وطلبوها من خالقها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأهل التوحيد من الأَنْبِيَاء والصالحين ومن اتبعهم يعلموا أن كل شيء بيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن افتقاره هذا لا يكون إلا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن كل مخلوق مفتقر إِلَى من يقضي له حاجاته، فكلنا فقراء لله تَعَالَى.
الموحد الحقيقي الصادق
الموحد الحقيقي المخلص هو من يدعو ويرفع حاجته إِلَى الغني الحميد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قال الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] (يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم) .(1/1971)
ويقول بعد ذلك: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا عَلَى صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي شيئاً إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) هذا هو غاية الكرم، مع غاية الغنى، فالغنى والكمال المطلق هو لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهو الغني الحميد، فأهل التوحيد والإيمان أدركوا أن الله بيده خزائن كل شيء -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وهو الذي بيده مفاتح الغيب وهو وحده الرزاق ذو القوة المتين كما قال عن نفسه: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا [هود:6] .
إن دُعيَّ الملائكة، فهم عباد مكرمون عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولكنهم لا يعصون الله ما أمرهم أبداً، هم عباد من عباد الله يرجون الله، وهم من خشيته مشفقون، ولا يعصون أمره، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، وإن عبد الأنبياء، فالأنبياء بشر مثلنا، عاشوا عَلَى هذه الأرض كما نعيش، ولاقوا من المحن والشدائد ماجعلهم يلجأون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليكشف عنهم ذلك الكرب وذلك الضر، والأولياء أو الصالحون لا شك أنهم أدنى درجة من الأنبياء، فقضية التوحيد واضحة لِمَن بصَّره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وتفكر وتأمل، أمرٌ جلي واضح أن المسئول المدعو هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواء كَانَ ذلك دعاء عبادة أو دعاء مسألة فالأمر يرجع كله إِلَى حاجة المخلوقين واضطرارهم وافتقارهم إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
حقيقة وقوع الناس في الشرك(1/1972)
إذا لجأ الفقير إلى فقير مثله، ولجأ الضعيف إلى ضعيف مثله، أو نصب الضعيف نفسه إلهاً من دون الله، وقَالَ: ادعوني وأنا أجيبكم، فهذا إخلال بالتوحيد، وهذا لا يفعله إلا من لم يقدِّر الله حق قدره، ولم يفقه حقيقة التوحيد ولا آمن بالله تَعَالَى حق الإيمان، وإن زعم ذلك كما قال تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] هذه حقيقة واقعة، ووقوع النَّاس في الشرك ظناً منهم أن غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحقق لهم ما يريدون، هو الذي جعلهم يجرون وراء السراب وظنوا أن هذا الغير أياً كَانَ يُتوسط ويتوسل به إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيحقق لهم ما يريدون.
فإذا اعتقد العبد المؤمن وعرف واستيقن أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو وحده المدعو المرجو الذي يخاف ويرجى ويدعى ويستغاث ويلاذ ويستجار به، فإنه بعد ذلك لا يحتاج إلى أن يدعو غير الله، ولا أن يتوسط أو يتوسل إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغيره، وهو الذي يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، فليس هنالك أكرم ولا أحلم من هذا الإله.
وبعد ذلك ذكر حال المدعوين المعبودين من دونهم فقَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [الإسراء:57] .
فهذه الوسيلة إلى هذا الإله الجليل العظيم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومع هذا الكرم والفضل والمنِّة هل يسد الطرق الموصلة إليه التي يتوسل أو يتوسط بها العبد إليه فلا يبقى إلا أن يُدعَى ويعبد غيره أو يستشفع إليه بغيره. هل يليق ذلك بكرمه وبفضله وإنعامه، وهو الذي يمد هَؤُلاءِ وهؤلاء، وهو الذي يغيث الكفار إذا دعوه فضلاً عن المؤمنين؟! لا يليق به سبحانه أبداً؛ ولكن هذا من عمى البصائر.
تفسير المبتدعة لقوله تعالى: ((وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ))(1/1973)
لقد فسر المُشْرِكُونَ قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة:35] بقولهم أي: ابحثوا عن مخلوق تتوسلون به إِلَى الله سُبْحانَ اللَّه!
ولما ذكر الله حال عبادة المؤمنين من الأَنْبِيَاء والملائكة والصالحين قَالَ: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء:57] يدعونه بأسمائه الحسنى، كما في الحديث (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك) أي أن تسأل الله بأسمائه.
المسألة: هو أن ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأسمائه الحسنى، وهذا أعظم شيء ندعوه بها، ودعاء العبادة هو أن ندعو الله بأعمالنا التي نتعبده بها كصلاتنا له وذكرنا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الوصول إلى الله يكون بدعاء المسألة أو دعاء العبادة
نستطيع أن نصل إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأن نحقق له وحده التوحيد، وأن لا ندعو غيره بوسيلتين: إما أن ندعوه بأسمائه الحسنى، وإما أن نتوسل إليه بعبادتنا:
ففي الحالة الأولى: دعوناه وحده، وفي الحالة الثانية: دعوناه بعمل عبدناه وحده به، ولو كَانَ هذا العمل فيه شائبة من الشرك لما تقبل منا ذلك الدعاء؛ ولهذا فالثلاثة الذين دخلوا الغار، لما سألوا الله، سألوه بأعمال عملوها خالصة لوجهه تعالى، فهي من تحقيق الإيمان ومن تحقيق الطاعة ومن تحقيق التوحيد؛ ولذا لمّا سألوا الله بتلك الأعمال استجيب لهم.
التوحيد مفزع الأولياء ومفزع الأعداء وأساس كل خير(1/1974)
التوحيد هو مفزع الأولياء كما هو مفزع الأعداء، فالمؤمن إذا حزبه أو همه أمر يفزع فيسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خالصاً من قلبه، فيتحقق له دعاؤه بتوحيد الله في الدعاء، أو بدعائه بأمر أخلص فيه فيدعوه وحده، ويدعوه بعمل طاعة أخلص فيها لله، فهذا مفزع أوليائه وأصفيائه، وهو كذلك مفزع أعدائه، فإذا حز بهم أو أهمهم أمر وأرادوا أن يستجاب لهم دعوا الله مخلصين له الدين فيستجاب لهم.
إذاً: التوحيد هو أساس كل خير، فهو الذي يحقق للإنسان الخير سواء كَانَ مؤمناً أو كافراً، لأن الكافر يخلص في تلك اللحظة لكنه بعدها ينتكس عَلَى عقبيه، وهذا أيضاً يكون للمؤمنين ولكن فيما دون الشرك بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
عدم إظهار النفس البشرية افتقارها إلى الله
النفس البشرية لا تظهر افتقارها إِلَى الله في كل حال من الأحوال، ولو أننا أظهرنا فقرنا وتضرعنا وانكسارنا وذلنا لربنا عَزَّ وَجَلَّ في كل وقت، لكنا عبيداً له في كل وقت، لكن هذه مشكلتنا وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس:12] .
فالإِنسَان في حالة الشدة يعترف ويقر بفقره إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، فيعاهد نفسه عَلَى أن يستمر عبداً لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا عافاه الله بعد المرض أو أغناه بعد الفقر نكص عَلَى عقبيه، كما قال الله عن المنافقين وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [التوبة:75-76] وهذا ليس خاصاً بالمنافقين بل حتى المؤمن قد يقع منه ما يشبه ذلك أو يقاربه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/1975)
[فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر، كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى: أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه والله تعالى وتر لا يشفعه أحدٌ، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى، فقال له الله: (ارفع رأسك وقل يسمع وسل تعط واشفع تشفع، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة) ، فالأمر كله لله كما قال تعالى: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154] وقال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128] وقال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) .
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف لا أملك لكم من الله من شيء يا صفية عمة رسول الله لا أملك لك من الله من شيء يا عباس عم رسول الله لا أملك لك من الله من شيء) .
وفي الصحيح أيضاً (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء أو شاة لها يعار أو رقاع تخفق فيقول: أغثني أغثني فأقول: قد أبلغتك لا أملك لك من الله من شيء) فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به (لا أملك لك من الله من شيء) فما الظن بغيره؟!(1/1976)
وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر وأن الله خالق كل شيء] اهـ.
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله: [الحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب بمعنى: أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً] .
يريد المصنف رحمه الله تعالى أن يبين الفرق بين الشفاعة الشركية التي ظنها المشركون وبين الشفاعة الحقيقية وذلك أن الله تبارك وتعالى ليس كأحد من خلقه، وأن ما يفعله الناس من الشفاعات عند أهل الملك أو المال أو الشأن في الدنيا، ليست كالشفاعة لديه، لأن الرجل إذا أراد حاجةً من الخلق وكانت علاقة هذا المحتاج بالرجل المقصود ضعيفة، فإنه لعدم معرفته أو ضعف علاقته به لا يستطيع أن يرفع حاجته بنفسه ولا يتصل به، فيحتاج إلى رجل معُروف عند ذلك الإنسان ليتوسط له، فيضم صوته مع صوته، وطلبه مع طلبه، حتى تُقضى حاجته، ولهذا سميت الشفاعة بهذا الاسم -على أحد الأقوال- لأنها من الشفع وهو: الضم كما في اللغة.(1/1977)
ثم يقول المصنف: [والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه] بمعنى: أن هذا الإنسان الذي طلب حاجته من صاحب السلطان، وفي نفس الوقت طلب من الرجل الوسيط أن يشفع له، فهو في الحقيقة قضى غرضه وحاجته عن طريق اثنين وليس عن طريق واحد، وهما الوسيط الشافع والمشفوع إليه، وهذا لا ينطبق -بأية حال- على الله تبارك وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى متفرد بالأمر والخلق والرزق والنفع والضر وعنده وحده خزائن كل شيء، وهو وحده الذي إذا أراد أمراً قال لهكُنْ فَيَكُونُ [البقرة:117] فليس لهذا الإنسان أو الوسيط أي أثر، ولذا فإن قول المشركين هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] هو من أبطل الباطل وأقبح القبيح، وهو الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تبارك وتعالى.
يقول المصنف: [فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه سبحانه وتعالى، فلا شريك له بوجه] ثم يستدل على ذلك بالأمر المشهور المعلوم لدى جميع المسلمين وهو: أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: [فسيد الشفعاء يوم القيامة] الذي اختصه الله تعالى بالوسيلة التي لم تعط إلا لرجل واحد وهو: الرسول صلى الله عليه وسلم [إذا سجد وحمد الله تعالى يقول له ربه عز وجل: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع] وهذا بعد أن يلهمه ربه عز وجل من أنواع الثناء والمحامد ما لم يعلمه من قبل، فهو يستأذن ربه، ثم يجيبه ربه تبارك وتعالى، أما هو فلا يملك من عند نفسه شيئاً؛ بل جميع الأنبياء -حتى أولوا العزم- يتراجعون عن الشفاعة، فضلاً عمن عداهم، ويبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتقدم ويقول: (أنا لها أنا لها ثم يكون منه السجود، ثم يكون من ربه تعالى الإجابة) .(1/1978)
وبعد أن تكون الشفاعة العظمى التي سبق تفصيلها، وبعد أن يفض الموقف، وبعد أن يدخل الجنة السابقون الأولون ومن معهم (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) ،فيحد الله تبارك وتعالى له حداً من أهل النار ويكون ذلك ثلاث مرات وأيضاً تكون الرابعة كما سبق في حديث أنس يقول المصنف: [فيحد له حداً فيدخلهم الجنة] أما هو فقد قال له: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188] فخصه الله تبارك وتعالى بأنه نذير وبشير، وليس له أبعد من ذلك فيتصرف في أُمور الناس وقلوبهم فيدخل هذا الإيمان ويمنع هذا منه، ليس ذلك من شأنه صلى الله عليه وسلم ولا قدرة له عليه لعجزه عن نفع نفسه أو حمايتها، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب لا ستكثر من الخير؛ لأن الذي يعلم الغيب يعلم ما تؤول إليه عواقب الأمور.
فهل الذي يعلم الغيب يخرج يوم أحد إلى المشركين ويصيبه ما أصابه، ويقتل عمه وتكون تلك الكارثة، وهل يرسل سبعين من القراء من خيار أصحابه وأفضلهم لتقتلهم تلك القبيلة المجرمة؟!
وأحداث كثيرة تتلاحق في السيرة تدل على أنه لا يعلم الغيب، وإنما هو بشر تجري عليه الأقدار كما تجري على أي مخلوق وميزته أنه بشير ونذير، كما يقول الله له قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110] .
النبي صلى الله عليه وسلم بين غلو الصوفية وإجلال أهل السنة
في معرض الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا نجد أن له صفتين مختلفتين تماماً.
الأولى: هي صفة الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتاب وفي السنة.(1/1979)
والأخرى صفة من نسج الخيال، وشخصية أسطورية وهمية، لا وجود لها في القُرْآن ولا في السنة والواقع، إنما هي من أوهام وخرافات الذين اخترعوا هذه الأوصاف التي لا أصل لها من أهل الغلو كالصوفية ومن تبعهم.
أما الصفة الأولى: فهو كسائر البشر تصيبه العوارض مثلهم، بل قد يكون ما يصيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العوارض أشد، كما ثبت في الحديث الصحيح أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم) وهذا لفضله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولِرَفعِ درجتهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند ربه، ونجد أنه يأكل ويشرب وينام ويتعَب ويفكر ويهتم ويغتم ويتخذ الأسباب مثل سائر البشر، رغم أن الله تَعَالَى خصه بهذه الميزة العظيمة وهي الرسالة وجعله سيد ولد آدم، وهذا كله نجده واضحاً جلياً.
فإذا انتقلنا إِلَى الصورة الأخرى التي تذكرها الصوفية وهي: أنه مخلوق من نور، موجود قبل المخلوقات، بيده مقاليد السماوات والأرض يعلم الغيب ... ، وأمور غريبة يذكرونها له التي لو تأملها الإِنسَان لعلم أنها لا توجد في دنيا البشر ولا عالمها أبداً وليس لها من كتاب الله ولا من سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصل يُرجع إليه، وإنما الحال أن قوماً أرادو هدم الإسلام، والطعن فيه عن طريق الغلو الذي اتخذوه كما فعل النَّصَارَى وكما فعل اليهود بأنبيائهم، وكما غلت الشيعة من هذه الأمة في الإمام عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ حتى ادعوا أنه إله في حياته.
ومرت القرون وفُضح هَؤُلاءِ القوم وحوربوا وتميزوا عن سائر الأمة الإسلامية، حتى أصبحت الأمة منقسمة إِلَى سُني وشيعي، وأصبحت كلمة السنة، تعني: من ليس شيعياً فكأنهم اختصوا بمخالفة السنة مع أن المخالفين للسنة كثير، وظل الهدامون وأعداء الإسلام يريدون هدم عقيدة التوحيد والإيمان عندأهل السنة، فاخترعوا الأقطاب والنقباء والندباء وشيوخ التصوف.(1/1980)
ومن نفس مدخل الغلو وحُبِّ النبيِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخلوا، فألّهوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورفعوه عن منزلةِ البشرية إِلَى منزلةِ الألوهيةِ، وجعلوه نداً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يعلم الغيب، ويُدخِلُ الجنة من شاء -عياذاً بالله- وعندما نَعرِضُ هذهِ الأمور عَلَى الآياتِ والأحاديثِ يَظهرُ لَنَا كَذِبَ هَؤُلاءِ، وإن زعموا ما زعموا من المحبة.
وهذا يذكرنا بما عليه كثير من النَّصَارَىالذين زعموا أن عيسى إله، ويسمونه الرب "يسوع" ويؤلفون الكتب في ذلك، ويذهبون إِلَى غابات إفريقيا وآسيا ليدعو النَّاس إِلَى دينه، وهم صادقون مع أنفسهم في محبته؛ لكن هذه المحبة أفضت بهم إِلَى الكفر والشرك ولم تنفعهم محبتهم له عند الله، وكذلك عيسى عَلَيْهِ السَّلام لم يرض بها لنفسه أبداً.
ومثله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يرض بهذا الغلو، بل نهى عنه فقد قَالَ: (لا تطروني كما أطرت النَّصَارَى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله) .
ثُمَّ يقول المصنف: [وقال الله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54]] فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المتفرد بالخلق والأمر، وفي هذه الآية دليل لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى إثبات صفة الكلام لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه يتكلم بما شاء متى شاء.
فمن ذلك مثلاً كلمة "كن" فالله تَعَالَى يتكلم بالأمر، فإذا قَالَ: "كن"، فهذا أمره، فإذا كَانَ ما أمر به فهو خلقه، وفي هذه الآية دليل عَلَى أنه لا يجوز لأحد غير الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يشرع للناس بأي حال من الأحوال، فالشرع المتبع إنما هو شرع الله ودينه، لأن الله تَعَالَى هو الذي خلق الخلق، فكيف يكون له الخلق ويكون لغيره الأمر والنهي؟(1/1981)
وهذا ما فعله النَّاس في الجاهلية الأولى وفي كل جاهلية في كل زمان ومكان، يؤمنون بأن الله له الخلق، ولكن يجعلون لغيره الأمر، فيشرعون ويسنون القوانين، ويحلون ما يشاءون، ويحرمون ما يشاءون، وهذا من الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وهو حقيقة الطاغوت الذي أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يكفر به، ولا يكون الإِنسَان مؤمناً إلا إذا كفر بالطاغوت الذي يشرع من دون الله تعالى؛ لأن الخلق جميعاً مأمورون بأن يطيعوا أمر الله، كما هم مخلوقون بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا انفصال بينهما بأي حال من الأحوال.
الحكمة من قبول الله لشفاعة الشفعاء
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإذا كَانَ لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) ] .
لما نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تلك الشَّفَاعَة الشركية بيَّن الشَّفَاعَة المثبتة التي تكون لعباده المؤمنين -كما سبق- وفي هذه الشَّفَاعَة حكم عظيمة، منها إكرام الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما يشفع للخلق أجمعين في الموقف، وكذلك إذا شفَّع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الشهيد في أهل بيته فهو تكريم له، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يريد أن يظهر فضل الشهيد فيشفعه، وكذلك شفاعة الابن الصالح في أبيه أو العكس ومنها حصول الخير للمشفوع الذي رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فتفضل عليه بقبول الشَّفَاعَة فالأمر إذاً كله لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/1982)
وفي قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّه مَا يشَاءُ) دليل على أن الشَّفَاعَةَ الشرعية في الدنيا من أسباب الخير والإعانة التي يعين العبد المسلم بها أخاه، فإذا شفع أجر على هذه الشَّفَاعَةِ، ويقضى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ما يشاء، فلا يخسر الشافع شيئاً؛ بل له أجر شفاعته وإن لم يتحقق كانت له شفاعته، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا [النساء:85] أي: وزر منها، هذا بالنسبة في الدنيا.
وفي الآخرة يقول: [وفي الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لا أمْلِكُ لَكُم مِنَ اللهِ مِنْ شيء يا صفية عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لا أَمْلِكُ لَكِ مِنْ اللهِ مِنْ شيء يا عباسُ عَمَّ رَسُولِ اللهِ لا أَمْلِكُ لَكَ مِنْ اللهِ مِنْ شيء) ] .
فاللهُ سبحانه ليس بينه، وبين أحد من الخلق نسب، ولذا يقول تَعَالَى لإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما أن أتم الكلمات: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً [البقرة:124] أكرمه الله ومَنَّ عليه فجعله إماماً للناس، فأراد إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الخير لذريته فقَالَ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124] أي تبقي الإمامة في ذريتي: قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124] فكرامة الله لا تنال المجرمين، وإن كانوا أبناء الأَنْبِيَاء والمرسلين، فلا بد من عمل صالح يعمله الإِنسَان حتى ينال هذا الرتبة.(1/1983)
ولم يكن هنالك أحد أعزُ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن لم يعمل صالحاً من عمه أبي طالب الذي حمى الدعوة ونصرها وأيدها وحوصِر مع النبي في الشِّعْبِ، وتحمل الأذى كل ذلك من أجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك لم يأذن له ربه أن يستغفر له، بل أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عليه إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] فحينئذٍ يأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شأن عمه، ولكن الله أذن له في أن يشفع له الشَّفَاعَةَ التي سبقت، وهي: أن يكون في ضحضاح من نار، له شراكان من نار يغلي منهما دماغه، وهو يظن أنه أشد أهل النَّار عذاباً، وهو أهونهم عذاباً عافانا الله من ذلك، أما أن يدخل الجنة فلا وهذه خاصة بأبي طالب وحده دون غيره من النَّاس.
فالأمر ليس أمر وساطة أو نسب مجرد، وإنما هو عمل صالح يفعله الإِنسَان وأن يرضى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه بأن يشفع له.
ثم يقول المصنف رحمه الله: [وفي الصحيح أيضاً (لا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُم يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أو شَاةٌ لَهَا يَعَارٌ، أو رِقَاعٌ تَخْفِقُ، فَيَقُولُ: أَغِثْنِي أَغِثْنِي فَأَقُولُ: قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيء) ] .(1/1984)
هذا المال إذا أخذه الإِنسَان من الغلول من بيت مال الْمُسْلِمِينَ أو من الحق العام فلا يجوز له وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران:161] بفتح الياء وضم الغين المعجمة، وفي قراءة بضم الياء وفتح العين، فلو أن أحداً أخذ من الفيء أو من المال العام للمسلمين شيئاً، فإنه يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ وهو يحمل ذلك على رقبته نسأل الله العفو والعافية، هذا الذي تهاون فيه كثير من النَّاس -إلا من رحم الله- وأصبحوا يرون أنه مباح وحلال لا شيء فيه، فسيعاقبون عليه، فهذا الرجل الذي كَانَ مولى لرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغلَّ شملةً، أي: ملحفةً فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده إنها لتشتعل عليه ناراً) وقد تكون لا تساوي شيئاً مع أنه خرج وجاهد مع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومع ذلك يعذب ويعاقب عليها!
فإذا كَانَ الصحابي الذي جاهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج معه ومع ذلك بسبب فساد نيته يعاقب، فما بالكم بمن يغل وهو ليس في جهاد ولا عمل صالح ولم يقدم شيئاً للإسلام وللمسلمين إلا الخيانة والسرقة، وربما تكون وظيفته هذه أخذها بوسائل غير مشروعة، ومع ذلك يرى وكأن بيت مال الْمُسْلِمِينَ من حقه يأخذ منه كما يشاء ويصرفه كما يشاء، وهذا من عمى البصيرة ونسيان الآخرة.
والشاهد من القصة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: (لا أملك لك من الله من شيء) . لكن هل يتعارض هذا مع كونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع لأصحاب الكبائر؟(1/1985)
والجواب أنه لا تعارض فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو سيد الشفعاء لا يملك من عند نفسه أن يشفع، لكن إذا أذن الله تَعَالَى له أن يشفع في الذي غل أو سرق أو زنى أو أذنب بأي ذنب فإنه يشفع، ولهذا قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإذا كَانَ سَيِّدُ الخلقِ وأَفْضَلُ الشفعاء يقول لأخصِّ النَّاس به (لا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيء) فما الظن بغيره؟!] نعم، فما الظن بغيره وإن كَانَ صالحاً أو شهيداً أو براً أو تقياً.
ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء وقبل الشَّفَاعَة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه، كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف شأنه عن شأن غيره من المخلوقين والعالمين جميعاً، لأنه هو الذي خلق الأسباب، وأما غيره فهو من الأسباب، ولو أن مخلوقاً شفع لك عند مخلوق آخر فحصل لك الخير فإنك حينئذ تقول: كَانَ هذا الشيء بفضل الله، ثُمَّ بفضل فلان وفلان فاجتمع سببان: الشافع، والمشفوع لديه، ويسر الله الخير أو الفضل على يديهما، فهذا شفع وهذا استجاب فكان لك المطلوب، لكن بالنسبة لله تَعَالَى فإن الأمر يختلف.
ونتيجة لذلك نعرف أن باب الشَّفَاعَة من أعظم الأبواب التي نتعرف بها على حقيقة توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأن الدعاء هو العبادة وتوحيد الألوهية يُعرف عندما نعرف حقيقة الشَّفَاعَةِ المنفي منها والمثبت.
ثُمَّ يتطرق المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مسألة لها علاقة بموضوع القدر فَيَقُولُ:
[وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة، ثُمَّ قبلها، وهو الذي وفقه للعمل، ثُمَّ أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء، ثُمَّ أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء] .(1/1986)
الإيمان بالقدر له أربع مراتب: سنذكرها إن شاء الله تفصيلاً فيما بعد، لكن نوجزها الآن لكي نصل إِلَى مرتبة الخلق، ومعنى الإيمان بالقدر: أن نؤمن بأنه ركن من أركان الإيمان كما في حديث جبريل ومن معانيه أن يؤمن بمراتبه الأربع.
وأول المراتب: العلم: فنؤمن بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم ما كَانَ وما سيكون وأدلتها مستفيضة.
ثُمَّ المرتبة الثانية: الكتابة، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب ذلك كله أيضاً في اللوح المحفوظ كما في الحديث عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (أول ما خلق الله القلم أمره أن يكتب فكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) وقبل ذلك يقول الله تعالى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَاب [الحديد:22] وقَالَ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يّس:12] .
ثُمَّ المرتبة الثالثة: وهي المشيئة والإرادة: فكل ما وقع فالله قد شاء أن يقع، ولا يقع في خلقه ما لم يشأ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سواء من الشر أو من الخير، وشاء وقوع الشر ولم يرض به، وشاء وقوع الخير ورضي به.
والمرتبة الرابعة: وهي مرتبة الخلق والإيجاد: فلو أن فلاناً من النَّاس صلّى في وقت معين فإن الله سبحانه قد علم أنه سيصلي في هذا الوقت المعين قبل أن يخلقه، بل قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنه سيصلى كذلك، وشاء اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يصلي، وخلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في هذا العبد هذا الفعل كما قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فهو الذي خلق هذا العمل، والعبد فاعل له، وهذا مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يقرر المسألة بوضوح أن لا خالق إلا الله اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] .
من أعظم الردود على القدرية(1/1987)
والذين خالفوا في المرتبة الرابعة من مراتب القدر هم القدرية ولهذا ذكر الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عبارة عظيمة في حق القدر فقَالَ: "ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن أنكروه كَفَرُوا" وهذا يدل عَلَى دقة فهم السلف الصالح.
فنقول لهم: هل يَعلمُ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن هذا الفعل سيقوم؟ فإذا قالوا: نعم، الله تَعَالَى يعلم ذلك. فنقول لهم: فما المانع أن يكون كتبه، فإن قالوا وكتبه، فنقول لهم: فما المانع أن يشاءه، فإن قالوا لا مانع أن يشاءه، لكن العبد هو الذي يفعل، فنقول لهم: أهو الذي خلقه؟ فإما أن تقولوا إن الله علمه وكتبه وشاءه والعبد خلقه وهذه لا يقرها عقل سليم، أو يقولوا: والله خلقه، فيستسلموا، ويلزموا الحجة، فإن لم يقروا فنتجادل معهم في العلم.
فإذا لم يقر القدري بأن الله يعلم كل شيء فقد كفر، لا لأنه أنكر أن العبد يخلق فعل نفسه، بل لأنه أنكر شيئاً واضحاً، يعلم العامي والجاهل من الْمُسْلِمِينَ أن من قاله يكفر.
مذهب أهل السنة في إثبات القدر
ومذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله تَعَالَى خالق كل شيء، ومنها أفعال العباد، وهذا يُجلي لنا حقيقة عظيمة يريدها المصنف، وهي حقيقة التوحيد، وأنه لا شأن لأحد ولا فضل إلا من بعد فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الذي خلقك أولاً، ثُمَّ أعطاك الهداية، ووفقك للعمل الصالح وللدعاء، وأثابك عليه، وهو الذي خلق هذا العمل فيك وأعطاك القدرة عليه، ثُمَّ هو بعد ذلك يمتنُّ عليك بالجنة جزاء لك عَلَى هذا العمل.(1/1988)
فالفضل كله من أول الأمر إِلَى آخرِهِ للهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والعبد دائرٌ بين منزلتين منزلة إِيَّاكَ نَعْبُدُ ومنزلة إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وهو في الحالتين لا يملك شيئاً. فالعبادة لله وحده، والاستعانة عَلَى أداء هذه العبادة وتحقيقها هي من عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتطلب منه وحده، ولذلك كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو الله ويقول: (ولا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين) نعوذ بالله أن يكلنا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى أنفسنا، فإن العبد لو خلى بينه وبين نفسه فإنه يخذل ولا يوفق للخير أبداً.
ولهذا فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يظلم الكفار والعصاة أبداً بل بين لهم الحق وأنار لهم الطريق، وغاية ما في الأمر أنه تَعَالَى لم يوفقهم للخير، فسلكوا طريق الشر، ثُمَّ أقام عليهم الحجة فازدادوا كفراً، وكلما ظهرت الدلائل القوية المؤكدة لهم أنهم عَلَى باطل وكفر ازدادوا كفراً وعتواً وجبروتاً، كما حصل لقوم فرعون ولكفار قريش ولكل المكذبين الجاحدين في كل زمان ومكان.
ولهذا يجب علينا أن نسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دائماً أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن لا يكلنا إِلَى أنفسنا طرفة عين، ونعلم ونوقن أن الفضل لله وحده، وأن الخير من عنده وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأننا لا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً، فهو الذي يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت عند سؤال الملكين، وهو الذي يمن عليهم بأن يجوزوا الصراط، وهو جل شأنه الذي يدخلهم الجنة بفضله تَعَالَى وكرمه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رَسُول الله! قَالَ: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) .(1/1989)
فالخير والفضل كله إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ومنه جل شأنه، وهو الذي عنده خزائن كل شيء، وبهذا نكون قد أكملنا الباب المتعلق بالشَّفَاعَةِ وما تبعه من الاستطراد في مسألة التوسل والْحَمْدُ لِلَّهِ.(1/1990)