شرح العقيدة الطحاوية
مقدمة
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
مقدمة الشرح
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديه ونستغفره، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرور أنُفْسِنَا ومِنْ سَيئاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ َأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا من كرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن عين لا تدمع، ومن دعوة لا يُستجابُ لها.
نبدأ بعونِ الله في موضوعِ شَرحِ هذه العقيدة القيمة المباركة، عقيدة الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ الأزدي المصري الحنفي.
عبرة من حياة الطحاوي
الإمام الطّّحاويّ كَانَ ابن أخت المزني صاحب الشَّافِعِيّ، ونفع الشافعية، ومع ذلك لما بدا له أن الحق في مذهب أبي حنيفة صار عَلَى مذهبه، ومع ذلك أيضاً لم يكن متقيداً بكل ما ورد في المذهب؛ بل كَانَ يُفتي بخلافه.
ولما سُئل: لماذا تفتي بخلاف مذهب أبي حنيفة، وأنت عَلَى مذهبه؟!!
قَالَ: (وهل من مقلد إلا غبي) .
يعني أن رائده العلم وهدفه هو البحث عن الدليل، واتباع الحق مع أي إمام كان، وتحت أي شعار، وفي أي كتاب.
وله رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى مؤلفات عظيمة تدل عَلَى سعته في العلم.
وقد كتب هذه العقيدة ليبين عقيدة الإمام أبى حنيفة وتلميذيه أبي يوسف ومُحَمَّد بن الحسن، وليقول للمسلمين وللحنفية - وهم أكثر المذاهب الأربعة أتباعاً -:
إن العقيدة الصحيحة هي هذه العقيدة أياً كَانَ المذهب الذي يدين به الإِنسَانُ، فإنه لا يجوز له أن يعتقد إلا هذه العقيدة.(1/1)
ثُمَّ بعد ذلك تبقى أحكام الفقه -وخاصة الاجتهادية منها أو النظرية المحضة- فلا حرج عَلَى أحد أن يتخذ منها ما يشاء متمشياً مع القواعد الشرعية والأصول العامة مادام أهلاً لأن يجتهد.
عبرة من حياة ابن أبي العز
ومن العبر التي ينبغي أن نكتسبها من حياة الإمام ابن أبي العز: أنه رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جاهد في الله جهاداً كبيراً من أجل هذه العقيدة، وقد أدى تمسكه بهذه العقيدة التي شرحها إِلَى أن يضطهد ويسجن، مع أنه كَانَ يسمى" قاضي القضاة " أي أكبر القضاة، وإن كَانَ هذا الاسم لا يجوز أن يُسمى به.
وولي قضاء مصر فكان القاضي الأكبر في دولة المماليك، ثُمَّ ظهر أحد أمراء المماليك فَقَالَ قصيدة -إما أنه قالها أو أنها قيلت له- وكان فيها شرك وغلو،، وفي القرن الثالث وما قبله وبعده كثر الغلو في رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والشرك في كلام الشعراء، فأنكر الإمام القاضي ابن أبي العز ما في هذه القصيدة من الشرك، ولم يبال بأن قائلها من الأمراء والأسرة الحاكمة المملوكية، وفي الحديث (إن من أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ، فلما قال كلمة الحق في هذه القصيدة وبيّن ما فيها من الشرك؛ أدى ذلك إِلَى أن يعزل من منصبه ويضطهد ويفقد الجاه.
ولكنه - وهذا هو الأهم - لم يفقد العقيدة الصحيحة التي هي أغلى ما يملك الإِنسَان، فمهما فقد من أعراض الدنيا ومناصبها ومتاعها فإنه ليس بفاقدٍ حقيقةً، إلا إذا فقد العقيدة الحقة التي يدين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بها.
شبهات حول تعيين شارح الكتاب
وقد أثير سؤال وهو أنه يُقَالَ: إن شارح هذه العقيدة مجهول؟
والحقيقة أن هناك لبساً حصل في نسبة هذه العقيدة، سببه أن بعض مخطوطاتها لم يكن مكتوباً عليها اسم المؤلف.(1/2)
والشيخ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ، هو أول من طبع هذه العقيدة -الطبعة القديمة - بناء عَلَى نسخة عثر عليها في مكتبة الحرم في مكة المكرمة، ولم يكن عليها اسم المؤلف، لكن العقيدة نفسها كانت معروفة أنها للإمام ابن أبي العز، وأنه الذي شرحها شرحاً سلفياً.
الأدلة على أن مؤلف شرح الطحاوية هو ابن أبي العز
1- أن الزبيدي في شرح إحياء علوم الدين " نقل قسماً كبيراً من هذه العقيدة ونسبها إِلَى ابن أبي العز، والزبيدي من أكبر العلماء الموثوق بهم إحاطة وعلماً بالرجال وبالمخطوطات - لا سيما وقد كَانَ في مصر، حيث اجتمع له أكبر قدر من المخطوطات - وهذا كَانَ قبل قدوم الحملات الاستعمارية التي نهبت مكتباتنا وثرواتنا العلمية، وأودعتها في خزائن ومكتبات أوروبا. واعتماداً عَلَى هذا رجح الشيخ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ أنها لهذا الشارح.
وممن أثار ضد هذا الشارح الشبهات المبتدعة الذين تعرض لهم، فإنه تعرض للعقائد الباطلة كالصوفية والأشعرية والماتريدية والمعتزلة والجهمية، فكان طبيعياً أن ينشر هَؤُلاءِ أن هذه العقيدة ليست ذات أهمية لأن مؤلفها مجهول.
2- وجدت المخطوطات في تركيا -النسخ التركية- مكتوب عليها اسم المؤلف بوضوح.
سبب إخفاء اسم المصنف
والنسخ التي لم يوجد عليها اسم المؤلف يمكن تفسيرها عَلَى ضوء المحنة التي حدثت له؛ لأنَّ شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -مثلاً- سُجن مِراراً ومات في السجن، وكثير من العلماء الذين تصدوا في تلك الفترة لمقاومة الشرك ذهبوا ضحية تلك المقاومة وذلك الجهاد، فكان هناك اضطهاد أو نوع من الاضطهاد لمن يدين بالعقيدة الصحيحة في تلك الأيام من علماء السوء أولاً، ومن السلاطين ثانياً.(1/3)
فنتيجة لذلك لا يُستغرب أن توجد نسخ من العقيدة ليس مكتوباً عليها اسم المؤلف، لأنه في فترة الاضطهاد التي يتعرض لها بعض العلماء تحمل كتبهم، ولا يكتب عليها أسماؤهم، وهذه الحال حصلت لبعض كتب شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ.
ويكفي طالب العلم الذي حوى هذه العقيدة أن يقرأها وإن كَانَ لا يعرف من هو مؤلفها، والشاهد أنه ينبغي أن لا نغفل الواقع الذي كَانَ يعيشه العالم أثناء كتابته للعلم، والظروف التي كانت تلم به وما يتعرض له من الأذى في كتابته أو في وصول علمه إلينا.
3- ومن الأدلة عَلَى أن المؤلف هو ابن أبي العز رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أن السخاوي - وهو الإمام المؤرخ والمحدث المعروف - كتب ذيلاً عَلَى تاريخ الإسلام للإمام الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سماه ذيل تاريخ الإسلام، وكمَّل الشخصيات التي جاءت بعد وفاة الذهبي أو توفيت قريباً من وفاته، فأكمل أسماء هَؤُلاءِ العلماء وأرَّخ لهم، ومنهم الإمام ابن أبي العز.
وهذه الصورة من كتاب السخاوي موجودة في نسخة مقدمة الكتاب من تحقيق الشيخ مُحَمَّد ناصر الدين الألباني. يقول: "وفي ذي القعدة العلامة -يعني توفي العلامة- الصدر علي بن العلاء علي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي العز الدمشقي قاضيها -يعني قاضي دمشق - الحنفي شارح عقيدة الطّّحاويّ ".
وبذلك لم يبق هناك أي شبهة يصح أن تثار حول مؤلف الكتاب، على أننا نعلم جميعاً أن الذي يهُم في أي كتاب هو محتواه ومضمونه، لكن المبتدعة قد يشككون في المؤلف ليصلوا بذلك إِلَى التشكيك في الكتاب نفسه، وإلا فالْحَمْدُ لِلَّهِ لم يبق هناك أي ريب في أن هذا هو المؤلف.(1/4)
4- ومن الأدلة عَلَى صحة نسبة الكتاب أنه في بعض المواضع -وستأتي معنا إن شاء الله- يقول: وقال شيخنا الحافظ ابن كثير، ومعروف أن ابن أبي العز كَانَ من الخلص والخيرة في تلاميذ الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللَّهُ -صاحب التفسير المشهور المتداول-وكذلك النصوص الكثيرة التي نقلها عن شَيْخِ الإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وشَيْخِ الإِسْلامِ ابنُ القيم، مع أنه لم يشر إليهما، والشيخ عبد الرزاق عفيفي اطلع وأكَّد بعض هذه الإحالات.
حقيقة العقيدة السلفية
هذه العقيدة السلفية -عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ- عقيدة إجماعية ليست عقيدة ابْن تَيْمِيَّةَ ولا عقيدة ابن القيم ولا أَحْمدُ بُن حَنْبَل؛ بل هي عقيدة الصدر الأول، عقيدة السلف الصالح جميعاً.
ولكن شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ جمع كثيراً من النقول، وهذَّب ورتَّب وخاض في قضايا كلامية حدثت بعد الصدر الأول، فأجاد في رد الشبهات وعرض المسائل.
وتكون المسألة هي عقيدة السلف من قديم، لكن شَيْخَ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ يُحسن عرضها ويُحسن الدفاع عنها بعرض الشبهات الواردة عليها، ثُمَّ نقضها شبهة شبهة، وكذا ابن القيم.
فنتيجة للعصر والضغط الذي كَانَ يعانيه ابن أبي العز لم يكن من المصلحة أن يشير إليهما.
فالمبتدعة ينظرون إِلَى أن أي كلام يقوله ابْن تَيْمِيَّةَ فهو باطل، وهذا من أكبر الجهل وأرذل أنواع التعصب.
فكان إذا قيل قال ابْن تَيْمِيَّةَ ... ردوه، وإذا رأوا كتاباً من كتب ابْن تَيْمِيَّةَ ... لم يقبلوه إطلاقاً؛ بحيث أنك لو جئت إِلَى مسألة ولم تذكر ابْن تَيْمِيَّةَ.
فقلت: قال بعض المحققين؛ لوجدت قبولاً ولقيل: هذا التحقيق جيد.
فهنا تجلت مهارة الشيخ القاضي ابن أبي العز، بأنه راعى جانب المصلحة الشرعية عَلَى جانب الأمانة العلمية من العزو إليهما.
سبب اختيار عقيدة السلف(1/5)
عقيدةُ السلف أو عقيدةُ أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يختارها طالب العلم تشهياً، وإنما هي العقيدة التي يجب أن تعتقد، ولا يجوز أن يتعبد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بغيرها.
نقول ذلك واثقين؛ لأن هذا الحكم شرعي قطعي لا يجوز لأحد أن يُخالف فيه، ولدينا من الأدلة عليه ما هو كافٍ -بإذن الله- لإزالةِ كل شبهة، ودحض كلِ افتراء، فهذه العقيدة لها من المميزاتِ العظيمة ما يؤهلها ويجعلها العقيدة الوحيدة، التي لا يجوز أن نتعبد بغيرها ولا يُعتقد غيرها.
من خصائص العقيدة السلفية
أنها العقيدة الوحيدة الربانية -ربانية المصدر- وكل عقيدة غير عقيدة السلف تجد مصادرها إما من كلام اليونان، وإما من كلام ما يسمون بالحكماء القدماء، وإما من كلام دعاة البدعة والضلالة، إلا هذه العقيدة فإنها نقية صافية ليس فيها عن أحد ولا عن بشر إلا الفهم الذي يفهمه بعض العلماء من نصوص الوحي، فمصدرها هو الوحي.
فكما أن الإسلام هو الدين الرباني الوحيد في الأرض الذي مصدره الوحي، ولكن يجتهد العلماء في التفريعات في بعض الفروع العملية ليطبقوها عَلَى ضوء الأصول المنزلة، فكذلك عقيدة السلف هي بأصولها العامة، عقيدة ربانية مصدرها الوحي؛ لكن تجد بعض المسائل يُجتهد فيها من خلال هذه الأصول التي هي ربانية المصدر.
ولهذا قيل: إن أهل السنة في أهل الإسلام مثل أهل الإسلام في سائر الملل، فالعقيدة السلفية هي كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما فهمه الجيل الأول، فهي تعبر عن حقيقة الإسلام، فكل ميزة من ميزات الإسلام فهي في هذه العقيدة.(1/6)
وهي عقيدة إجماعية. فكل العقائد الأخرى عقائد أشخاص وأفراد، فالاعتزال يعرف بالتاريخ العام المحايد؛ وذلك بمعرفة مَن هو أول من أنشأ مذهب الاعتزال وكذا الأشعرية، بل ونأخذ القضايا العلمية -مثلاً- فنعرف من هو أول من قال بالكلام النفسي، وأول من قال بالكسب في القضاء والقدر، فنعرف بالتاريخ المحايد العام متى بدأت هذه العقيدة، إلا عقيدة السلف -والْحَمْدُ لِلَّهِ- لأنها هي نفس القُرْآن والسنة وتربية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفهم الصحابة رضوان الله عليهم، فنجد هذا القول في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يوجد بين أصول مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أي أصل أبداً حدث بعد هذه القرون المفضلة، أو حدث من غير الكتاب والسنة، فهي إذاً عقيدة إجماعية.
أما غيرها فهي عقائد أشخاص وأفراد قد يكون لديهم من الذكاء والامتياز الذهني والتعمق العقلي الشيء الكثير، لكن يخالفهم في عقلهم من هو مثلهم عقلاً وفهماً.
بل كثير من مؤسسي العقائد البدعية نشؤوا وماتوا مقهورين محتقرين، فإن الجعد بن درهم الذي جَاءَ ببدعة نفي الصفات قتل.
وقال خالد بن عبد الله القسري وهو من ولاة بني أمية: أيها الْمُسْلِمُونَ انحروا ضحاياكم -تقبل الله منكم- فإني مضح بالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلَّم موسى تكليماً، وذبحه ونحره يوم النحر، والْمُسْلِمُونَ يومئذ ينظرون، وارتاحت صدورهم لذلك. وهذا الرجل أصل نشأة تعطيل (نفي) الصفات.
وتلميذه الجهم بن صفوان قُتِلَ كما قُتِلَ الجعد، حتى لما جيء به إِلَى سلم بن أحوز وكان عَلَى شرطة بني أمية في خراسان قَالَ: لا تقتلني أرجوك؟!!
فقَالَ: والله يا جهم ما أقتلك لأنك ذو شأن في السياسية أو المعارضة ضد الدولة، لكن بلغتني عنك أقوال أقسمت بالله إن مكنني الله منك لأضربنَّ عنقك.
وهو الذي أسس العقيدة الجهمية.(1/7)
وأيضاًعبد الله بن سعيد بن كلاب الذي أسس عقيدة الكلابية والتزمها الأشعري في الفترة الثانية من حياته قبل أن يرجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وكذاالحارث المحاسبي وكان له ميل إِلَى التصوف والكلام، أمر الإمام أَحْمدُ بن حَنْبَل بهجرهما فهجرا، ولم يكن يقربهما من طلاب العلم إلا القليل النادر؛ لهجر علماء السنة لهم، وعلى رأسهم الإمام أَحْمَد.
وكذلك عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، وأمثالهم ممن أسسوا مذهب الاعتزال، اتفقت كتب الجرح والتعديل عَلَى القدح والطعن فيهم.
فأي عقيدة غير عقيدة السلف الصالح إنما هي محدثة بعد القرون المفضلة أو في أثنائها، وكانت محتقرة ومهجورة من علماء وأئمة الدين.
ومنذ القرن الثالث تقريباً إِلَى اليوم، يتبع أكثر الْمُسْلِمِينَ الأئمة الأربعة، وبطبيعة الحال فإن الشَّافِعِيّ والمزني والأسفرائيني والأصبهاني الذي ألف كتاب بيان الحجة، علماء وراء علماء، وطبقات وراء طبقات، في مذهب الشَّافِعِيّ، كلهم عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وكذلك تجد الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ عَلَى مذهب أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وكان مُحَمَّد بن الحسن الشيباني وأبو يوسف كذلك، ثُمَّ جَاءَ الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ الذي وضع متن هذه العقيدة وهو من الحنفية.
وهكذا كثير ممن ينتمي إِلَى مذهب أبي حنيفة وهم من أئمة المذهب هم عَلَى هذه العقيدة.
ثُمَّ مذهب الإمام مالك وهو إمام أهل الأثر جميعاً، وهو عَلَى مذهب أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- وتلاميذه كابن القاسم وابن الحسن وأمثالهم، ثُمَّ من بعدهم كابن عبد البر وهو من أكبر علماء المغرب وكتبه معروفة ومشهورة، كانوا كلهم عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.(1/8)
ثُمَّ الإمام أَحْمَد -إمام أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - وكذلك أتباعه استمروا عَلَى منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إِلَى القرن العاشر وربما إِلَى اليوم.
وهكذا نجد الإمامالشوكاني والصنعاني وابن الوزير وأمثالهم من علماء الزيدية، لما توسعوا في العلم وتبحروا، انتقلوا من الزيدية إلى مذهب السلف.
فالشاهد أن هذه العقيدة إجماعية من عدة نواحي:
أ- أنها لم يكن غيرها في القرون الأولى، وما وجد في تلك القرون من عقيدة فاسدة فإنها مرذولة مردودة؛ لأن أكثر علماء الأمة كأصحاب الأمهات الست، <=حتى أئمة اللغة الكبار كانوا عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد-.
ب- ولأنها العقيدة الوحيدة التي يمكن أن يجتمع عليها الْمُسْلِمُونَ، والتي يجب أن يجتمع عليها الْمُسْلِمُونَ شرعاً وديناً ولا يقبل غيرها، كما لا تزال هي العقيدة التي تجمع آخراً كما جمعت أولاً، كما قال الإمام مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" فآخر هذه الأمة إن أرادوا الاجتماع والنصر والتمكن والاستخلاف في الأرض، الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لعباده الصالحين من الجيل الأول، فعليهم بهذه العقيدة نفسها، فإنها -بإذن الله- هي الوحيدة الكفيلة بذلك ولا شيء غيرها.
ج-وهي عقيدة فطرية سليمة -ولله الحمد- فكل مسلم يقرأ كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ يؤمن بها بالبداهة وبالفطرة، فالعقيدة السلفية -عقيدة أهْلِ السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - في الإيمان، تكتفي بالإيمان المجمل فيمن لا يستطيع الإيمان المفصل.(1/9)
وهذا الإيمان المجمل يحصل لمن يقرأ القُرْآن أو يسمعه بالبداهة والفطرة، لأنه دين الجميع وقد أنزله الله لجميع البشر، فلم ينزله لعلماء الكلام المتعمقين المكذبين، الذين يكتبون الأوراق والصفحات التي لا يفهمها أحد، وإنما أنزله الله تَعَالَى لكل الناس، للبدوي الجاهل الذي في الصحراء، وللعالم الكيميائي أو الفلكي المتخصص، فيلبي حاجة الفطرة ويتفق معها.
ومما يدل عَلَى وضوحها أن أعداء العقيدة السلفية ينكرون قضايا في الصفات وفي المباحث المهمة ويدَّعون غموضها وهي واضحة للعوام فمثلاً إذا قرأ العامي أو سمع القرآن: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]
وتقول له: هل الرحمن عَلَى العرش؟
فسيقول: نعم.
ولا يخطر عَلَى باله استولى أبداً.
وأعقد من ذلك، أنه لا يخطر عَلَى باله أن يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمينه ولا شماله ولا خلفه ولا قدامه كما هي عقيدة الأشعرية.
وفي قضية الإيمان تقول المرجئة والخوارج معاً: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ ولذلك تقول الخوارج من ارتكب الكبيرة كفر، لأنه مادام أنه نقص من الإيمان شيء فقد ذهب كله.
وبالمقابل قالت المرجئة: مادام أن الزاني يزني ويبقى مؤمناً، فالإيمان لا ينقص إلا بالكفر.
وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فالإيمان عندهم يزيد وينقص، فإذا جَاءَ أحد العوام يقرأ قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانا [المدثر:31] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدى [محمد:17] فبالبداهة والفطرة دون أن يلقن من ذلك شيء، سيقول: الإيمان يزيد.
وكذلك القدر -وهو من أكبر المباحث التي يخوض فيها النَّاس من كل مذهب ويؤلف فيها المؤلفات الطويلة العريضة التي لا تسمن ولا تغني من جوع- كل إنسان يقرأ قوله تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان: 30] إذا سئل هل أنا لي مشيئة وإرادة؟(1/10)
فسيقول: نعم، يقول تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإِنسَان: 30] ، فأنت لك مشيئة والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له مشيئة.
ومن هنا نقول: إن آيات وأحاديث الصفات وأصول العقيدة جملة، ليست من المتشابه؛ بل هي من المحكم الواضح الجلي. وإن كَانَ في بعضها ما قد لا يفهمه إلا أولو العلم أو بعض طلبة العلم، لكنها بالجملة من المحكم، وأما الفهم فتتفاوت الأفهام بما يقدر الله عَزَّ وَجَلَّ لكل إنسان من معرفة اللغة والأهلية عَلَى ذلك.
فهذه المميزات وغيرها تجعلنا جميعاً ندين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهذه العقيدة دون غيرها، ونتعلمها ونتعبد الله عَزَّ وَجَلَّ بها دون غيرها، وإن تعلمنا غيرها فمن باب معرفة الباطل ليجتنب لا من باب معرفته ليعتقد.
وحسبنا ما في هذه العقيدة، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الذي رواه النَّسَائِيُّ لما رأى في يد عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صحيفة من التوراة قَالَ: (أوقد فعلتموه، والله لو كَانَ موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي) ، ولما فتح سعد بن أبي وقاص المدائن -مدائن كسرى - وجدوا من الكتب الضخمة التي كَانَ كسرى يحتفظ بها في سائر العلوم والفنون، فكتبوا إِلَى عُمَر رضى الله عنه وَقَالُوا: هل ترى أن ننقلها إِلَى الْمُسْلِمِينَ أو أن نستفيد منها؟
فقَالَ: أحرقوها أو أغرقوها. فما كَانَ فيها من شر فليرحنا الله منه، وما كَانَ فيها من خير فقد أغنانا الله بما هو أعظم منه، والْحَمْدُ لِلَّهِ.
فلا نحتاج في مصدر ديننا، وفي معرفة ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن نتلقى من غير ما كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يأخذونه، وهو الوحي.(1/11)
فالمسألة خطيرة، لأنها ليست قضية رأي وعقل يفكر به الإِنسَان ويختار؛ بل هي قضية اتباع وتسليم لله عَزَّ وَجَلَّ، فمن أراد الحق، والدين لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالحق فعليه بهذه العقيدة الإجماعية، التي لا يجوز الخروج عليها.
وإلا فإنه كما قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء:115] ، فهذه الآية من الآيات التي تدل عَلَى حجية الإجماع -كما نص عَلَى ذلك العلماء- وأن اتباع غير سبيل المؤمنين هو التفرق عن الدين القويم قال الله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: -
[بسم الله الرحمن الرحيم حسبي الله ونعم الوكيل، وبه نستعين، الْحَمْدُ لِلَّهِ، نستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:
فإنه لما كَانَ علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إِلَى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه] اهـ
الشرح:(1/12)
بدأ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتابه بهذه الخطبة -خطبة الحاجة- التي كَانَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما صح عنه- يستفتح بها، وهذه سنة ينبغي لنا أن نقتدي بها جميعاً.
وكل خطبة لا يذكر فيها الشهادة أو لا يتشهد فيها، فهي كاليد الجذماء، كما جَاءَ في الحديث. وكذلك في الحديث: (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أقطع) أو (فهو أبتر) وإن كَانَ في الحديث ضعف من حيث الإسناد، ولكن هو ثابت من فعل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه ومكاتباته إِلَى الملوك وغيرهم.
فالبداية بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ، أو بالْحَمْدُ لِلَّهِ، أو ببسم الله، أو بخطبة الحاجة، هي سنة ثابتة عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينبغي العدول عنها، وهكذا بدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ.
ثُمَّ قال بعد ذلك: "أما بعد"، وهذه أيضاً سنة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبه وكتبه، كَانَ بعد أن يسمي الله أو يحمد الله، أو يثني عَلَى الله تَعَالَى بما هو له أهل، يقول: أما بعد، ثُمَّ يبدأ في الموضوع الذي يريده.
وعلم أصول الدين أشرف العلوم؛ لأن شرف الشيء من شرف موضوعه، وموضوع علم التوحيد هو معرفة الله وصفاته، وما ينبغي لوجهه من التعظيم والثناء، وما ينبغي لحقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ من العبادة وهو حقه عَلَى العباد.
وبذلك نستنتج قضية مهمة لا ينبغي أن نفوتها -وإن كانت معلومة ومفهومة لدى الجميع- وهي التشكيك في تعليم التوحيد والعقيدة وأصول الدين، والقول بأن هذه الأمور لا داعي لها.(1/13)
فيُردُّ عليهم بمثل ما افتتح المصنف، أن شرف العلم بشرف المعلوم، فمعرفة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هي الفقه الأكبر، وهي أعظم العلوم والغايات، وأشرف ما يسعى إليه المؤمنون جميعاً، فلا يجوز لأحد أن يُهوِّنَ من أمرها أو يشكك فيها، أو يقول: ليس هناك داعٍ إِلَى معرفة توحيد الأسماء والصفات!!
لو قال رجل: ليس هناك داع أن يعلم الناس الصلاة والزكاة، لأنكر عليه جميع الْمُسْلِمِينَ. فكيف بالتوحيد! وهو أعظم؛ لأن معرفة الله تَعَالَى في ذاته أعظم من معرفة حقه، فاعتقادنا فيه أعظم من فعلنا له، وكما سيأتي من كلام المُصنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ وهو يقول: إن القُرْآن كله توحيد، فأفضل ما في القُرْآن هو ما يتعلق بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ.
والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمضى الفترة الطويلة في تعليم التوحيد، ثُمَّ لم يزل في المدينة تنزل عليه أحكام الفروع مرتبطة بالعقيدة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] .
وهكذا الجهاد في سبيل الله عَزَّ وَجَلَّ شرع لتكون كلمة الله هي العليا، ومن أوائل ما شرع وفرض هو قتال أهل الكتاب الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، والذين قالوا: إن الله هو المسيح عيسى ابن مريم.
فأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورةِ التوبة بقتالهم، وهو واجب محتم كقتال الْمُشْرِكِينَ المعطلين، فمن عرف الله ووصفه بغير صفته، أو جعل له خدناً أو صاحبةً أو ولداً، أو أشرك في صفاته في أي نوع من أنواع الشرك، فإنه يقاتل كما يقاتل المشرك المعطل.
الحديث عن كتاب الفقه الأكبر
وهنا ينبغي لنا أن نتجه إِلَى قضية ثبوت كتاب الفقه الأكبر.(1/14)
الواقع أن الإمام أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ نُسِبَتْ إليهِ بعضُ الكتبِ التي لم يكتبها ولم يؤلفها، وإنما كتبها عَلَى ما يبدو أحد أئمة الحنفية المسمى أبي مطيع البلخي الحكم بن عبد الله، ونسبها إِلَى الإمام أبي حنيفة.
وفيها حق كثير لاشك فيه، لكن يهمنا أن نعرف أنها ليست لأبي حنيفة، فرسالة العالم والمتعلم، ورسالة الفقه الأكبر وإن كَانَ أكثرها صحيح، وشرحت عَلَى أنها للإمام أبي حنيفة، لكنها من الناحية العلمية توثيقاً للكتاب ليست لأبي حنيفة.
والحكم نفسه ضعيف؛ بل هو متهم بالوضع.
ولأن المؤلف حنفي -والحنفية هم أكثر الْمُسْلِمِينَ في ذلك العصر بل هم الدولة- انطلق المُصْنِّف في شرحه عَلَى أن هَؤُلاءِ الحنفية يُثبتون ويعتقدون أن الفقه الأكبر صحيح وثابت عن أبي حنيفة، وربما يقولون: إن الحكَم -وهو أبو مطيع البلخي - ثقة.
ونقول لهم: إذا انتسبتم إِلَى هذا الإمام فانظروا ماذا قال، ولا تعتقدوا عقائد بدعية مخالفة لمذهبه حدثت في القرن الرابع عَلَى يد أبي منصور الماتريدي، ثُمَّ عَلَى يد النسفي وغيرهم من الذين أحدثوا في مذهب الحنفية ما ليس منه، في مجال العقيدة.
لا حياة للقلوب إلا بمحبة الله ومعرفته
وأما قول المُصْنِّفِ: وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة وضرورتهم ... إِلَى آخر العبارة.
هذه العبارة هي عنوان باب عقده الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ في إغاثة اللهفان: أنه لا حياة للقلب ولا طمأنينة ولا نعيم إلا أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو معبوده وإلهه، واختصر المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الأسطر من ذلك الكتاب.
مشكلة الإنسان المعاصرة(1/15)
والقرن العشرون أكثر القرون في تاريخ البشرية اضطراباً وحيرة وتفككاً وضياعاً، ومعلوم أن الذي يعبر عن هذا حق التعبير في أي واقع ومجتمع -سواء كَانَ هذا الواقع حقاً أو باطلاً عقيدة أو سلوكاً- بالتعبير الدقيق هم أصحاب الإحساس العميق الدقيق، كالشعراء والأدباء وأمثالهم.
فماذا يقول أدباء وشعراء أوروبا حول قضية أنه لا حياة للإنسان، ولا سعادة ولا هناء إلا بأن يعرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!!
عبروا عن ذلك بما يدل عَلَى الضياع والفراغ والحيرة، ويؤسفني جداً أن أقول: إن بعض أدباء الْمُسْلِمِينَ يسلكون وينتهجون منهج أُولَئِكَ الأدباء الحيارى الضائعين؛ ولذلك نجد كثيراً من الدواوين الشعرية ضائعة تماماً.
فمثلاً شاعر نصراني يقول:
جئت لا أدري من أين؟! ولكني أتيت
وغيره من الشعراء يكتب ديواناً كاملاً تقرأ فيه الحيرة والضياع والألم، فيتألم من شيء لا يدري ما هو.
ونحن والله نعرف أن سببه هو عدم الإيمان بالله عَزَّ وَجَلَّ، وأنه لو عرف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وصلى وقرأ كتاب الله، لما كَانَ في شعراء الْمُسْلِمِينَ من يقول:
ومضى عمري ولا أعرف دربي أبداً.
أما نَحْنُ والله إننا نعرف دربنا وإلى أين المصير، ونعرف أن مردنا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه فرض علينا فرائض وشرع لنا شرائع، فإذا وقفنا عند حدوده ووحدناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأطعناه فمصيرنا إِلَى الجنة والسعادة في الدنيا والآخرة، وإن عصيناه وتعدينا حدوده فمصيرنا إِلَى الشقاء وضيق الدنيا، وإلى النَّار في الآخرة أجارنا الله وإياكم، لكن الحيارى لا يدركون ذلك.
وهذا شاعر فرنسي وهو من أكبر الشعراء أثراً في فرنسا يقول: "حيرة الإِنسَان المعاصرة"!!، طبعاً هم يعممون الإِنسَان لأنهم يظنون أن الْمُسْلِمِينَ حيارى، ونحن في الحقيقة حيارى؛ لأن القليل منّا من يمثل حقيقة الإسلام، فيظنون أننا مثلهم عَلَى هامش الأمم حيارى.(1/16)
يقول: (ومشكلة الإِنسَان المعاصِرة قضية واحدة، وهي أنه يبحث عن سيد، يبحث عن إله) .
فيحدد أول مرة سيداً عاماً لكنه في الأخير يقول: "يبحث عن إله" وهي مشكلة الإِنسَان المعاصرة، فالدمار والحروب المستمرة، والقنابل الذرية، والمصير الرهيب الذي ينذر البشرية، وتحاول أن تتخلص منه ولا تستطيع، هو الذي يلجئ أهل الإحساس وأهل الشعر وأهل النظرات البعيدة إِلَى المخدرات والانتحار، يتخلصون به من رعب المستقبل كما يسمونه، ولذلك نجد أرقى بلاد العالم في الحضارات المادية، وفي الشوارع الفسيحة، والعمارات الضخمة، والترف المادي في معدل المعيشة، هي أكثر بلاد العالم نسبة في الانتحار، لأنه كما قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ وكما قال ابن القيم في إغاثة اللهفان: (لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها) .
والله لا يجد العبد الطمأنينة والراحة واللذة ولا يجد السعادة مهما أخذ من الدنيا وجمع من حطامها، بل يعذبه الله بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون.
كيفية معرفة الله سبحانه وتعالى
قَالَ المُصْنِّفُُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ومن المُحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ عَلَى هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إِلَى آخرها، ثُمَّ يتبع ذلك أصلان عظيمان:
أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
والثاني: تعريف السالكين مالهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم.(1/17)
فأعرفُ النَّاسِ باللهِ عَزَّ وَجَلَّ أتبعهم للطريق الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه، ولهذا سمى الله ما أنزله عَلَى رسوله روحاً، لتوقف الحياة الحقيقة عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فَقَالَ تعالى: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [غافر:15] وقال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ [الشورى:52-53] فلا روح إلا فيما جَاءَ به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به. وسماه الشفاء كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فهو وإن كَانَ هدىً وشفاءً مطلقاً، لكن لما كَانَ المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر اهـ.
الشرح:
بعد أن ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أهمية العلم بالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى نبه إِلَى الأصل العظيم، وبداية انحرافات الفرق جميعاً التي تنتهي بها إِلَى الضلالة والهاوية.
وهي: كيفية معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟(1/18)
إن من المحال أن تنفرد العقول وحدها بمعرفة ذلك وإدراكه عَلَى التفصيل، أما الإدراك المجمل والمعرفة المجملة فهذه موجودة في الفطرة، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف: 173] ، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أخذ الميثاق الفطريفِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]-وسيأتي بحثها عما قريب- وهي موجودة لكنها لا تعطي معرفة تفصيلية، وإنما تكون المعرفة التفصيلية عن طريق الوحي.
وأما العقول والأذهان فلا تستقل بمعرفة ذلك، ولهذا تخبطت الفرق الإسلامية تخبطاً شديداً لما اتبعت آراء المتخرصين المتهوكين بعقولهم.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نتبع الدليل الشرعي والوحيقُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] فنذارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وهذا الذي ميزنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به وكرمنا به، ثُمَّ إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9] فالوحي محفوظ ومعصوم، فينبغي لنا أن ندرك نعمة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا نبحث عن مصدر آخر غير هذا الوحي، وإلا فالضلال والويل والخسارة والتخبط واقع كما وقع لمن خرج عن منهج السلف الصالح.
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فمن ينتهج غير منهج السلف الصالح نجد عادته جمع الأقوال والردود، وقال الحكماء، وقال فلان، ورد عليه فلان وفلان.
لا يصل أبداً إِلَى اليقين والحقيقة؛ لأن هذا الدين ليس مما يدرك بالنظر والعقول، وليس مما تنفرد به الأفهام والأذهان، وإلا لو كَانَ كذلك لما احتيج للأنبياء.(1/19)
حاجة الناس إلى الأنبياء والرسل
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعث الأَنْبِيَاء ليبينوا ذلك التوحيد، وجعله مفتاح دعوة الرسل يدعون أول ما يدعون إِلَى معرفته وتوحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أسمائه وصفاته وأفعاله، وما يستحقه عَلَى العباد من أنواع الطاعات والتعبدات، فلا تستقل العقول ولا تنفرد بمعرفة هذا، ودلائل ذلك من الواقع أكثر من أن تحصر.
فأيام اليونان كانت هناك نظريات عقلية بلا دين، فلما جَاءَ المنتسبون إِلَى الإسلام من الفلاسفة كابن سينا وابن رشد والفارابي والكندي نقدوا تلك النظريات وأبطلوا كثيراً منها، وأضافوا إليها إضافات هي صحيحة بالنسبة لباطل أولئك.
ثُمَّ جاءت النهضة الأوروبيه أو عصر التنوير - كما يسمى- في القرن السادس عشر والسابع عشر، فظهرت نظريات جديدة، ومنها النظريات القديمة سواء ما أضافه المنتسبون إِلَى الإسلام أو نظريات أرسطو وأفلاطون.
ثُمَّ جَاءَ القرن التاسع عشر فظهرت المذاهب التي تسمى المذاهب الوضعية، وفي القرن العشرين ظهرت نظريات أكثر حداثة وأكثر ردة، فيا سُبْحانَ اللَّه!!
وكما قال بعض السلف رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم:من جعل دينه عرضة للهوى أكثر التنقل.
ويكفينا قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51] فأي نظرية غيبية تتحدث عن نشأة الكون، أو ما يتعلق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو نشأة الإِنسَان عَلَى هذه الأرض، وكيف جاء؟ ولماذا جاء؟!
هي باطلة من وضع المضلين الذين لم يشهدهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق السماوات والأرض، ولم يشهدهم خلق أنفسهم فضلاً عن أن يشاركوه في ذلك، فهم مضلون، أضلوا بني الإِنسَانية وأضلوا أهل الديانات القديمة، ثُمَّ أضلوا أهل الإسلام فيما بعد.(1/20)
ويسمونهم فلاسفةً وحكماء، وأصحاب العقول الضخمة، وهم لا قدرة لهم في معرفة ذلك إلا بالوحي، وأما ما يفهمه الإِنسَان من الوحي فيما يتعلق بمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا مدخل للعقل فيه.
أما فيما يتعلق بالفروع فللعقول مدخل عليه، لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نزل هذا القُرْآن للتدبر والفهم والاستنباط، وكذا المعارف الدنيوية، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أوكل أمرها إِلَى الإِنسَان نفسه وسمح له وأفسح له المجال أن يعمل ويكدَّ فيها ويتعلم.
وأما ما يسمى بالعلوم الإِنسَانية أو النظريات الكونية (النظريات الإِنسَانية) فهذه لا يجوز للمسلم أن يستمد منها شيئاً.
أصول المعرفة الكلية
فالأصول ثلاثة:
معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومعرفة الطريق الموصل إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومعرفة العاقبة والمآل لمن أطاع الله ولمن عصاه، وهذه أساس المعرفة بالآخرة.
فالمعرفة الكلية تشتمل عَلَى هذه الأصول والأقسام الثلاثة، وأولها وأشرفها: معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فائدة في كلمة المعرفة
كلمة المعرفة ينكرها بعض الناس؛ لأن الصوفية يسمون الإِنسَان الذي بلغ عندهم درجةً ما "العارف"، وهذا المصطلح غريب عَلَى الإسلام.
لكن معرفة الله ليست غريبة؛ بل وردت في الحديث الصحيح في إحدى روايات حديث معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عندما أرسله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى اليمن قَالَ: (فإذا هم عرفوا الله فأنبئهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات) والشاهد أن هذه اللفظة في ذاتها لا غبار عليها، وإنما الخطأ في إطلاق كلمة العارف في المصطلح المتداول عند الصوفية، فالدرجات عندنا: مسلم ثُمَّ مؤمن ثُمَّ محسن.
وهناك صفات أخرى وهي: المتقون، المفلحون، الفائزون، إِلَى آخره وليس فيها ولا منها العارفون.(1/21)
فمعرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي الأصل الأول من أصول المعرفة ثُمَّ معرفة الطريق الذي يوصل إِلَى رضا وطاعة الله وهو حقيقة الشريعة، ومعرفة أحكام الحلال والحرام.
فنعرف أولاً: التوحيد.
ثُمَّ نعرف ثانياً: الفقه والشريعة -أي: معرفة الحلال والحرام-.
ثُمَّ نعرف ثالثاً: مصيرنا، فنعرف أخبار الآخرة وما يتعلق بها، وما هو حالنا عند الموت وبعده، وما هو حالنا في العالم الآخر.
فمن عرف هذه الثلاث اكتملت معرفته الضرورية في معرفة دينه، وهي وإن كانت -أي: معرفة أخبار الآخرة، وما يتعلق بها- مما لا يتعبد بها عملاً لكنها مما ينبغي معرفتها اعتقاداً.
قَولُ المُصْنِّفِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: ولهذا سمى الله ... إلخ.
الإشارة هنا "ولهذا" تعود إِلَى التعليل، والغرض من التعليل إثبات أن العقول لا تستقل بمعرفة الله وأنه يلزم أن تكون تابعة للشرع، ولهذا سَمّى الله ما أنزله عَلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ روحاً وسماه نوراً، وسماه شفاءً.
أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الكتاب والسنة، أنه خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام نبياً من الأنبياء، وأن ذريته بقيت عَلَى التوحيد، حتى اختلفوا كما قال ابن عباس رضي الله عنه: "إنه كَانَ بين آدم ونوح عشرة قرون "، ثُمَّ وقع الشرك في قوم نوح كما جَاءَ في الحديث الصحيح، ولم يكن هناك أعراف ولا كهان ولا سحرة؛ بل بعث الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النبيين مبشرين ومنذرين ليقاوموا تلك الأعراف وأولئك الكهان. فصار الناس فريقين:
المؤمنون الموحدون.
والكفار المُشْرِكُونَ.
وهذه الحضارات الموجودة آثارها إِلَى اليوم، كحضارة الفراعنة، والروم، وقوم هود، وقوم صالح؛ وكلها كَانَ هلاكها ودمارها بسبب تكذيبها بما جَاءَ به الأنبياء، والوحي الذي جَاءَ من عند الله سبحانه تعالى.(1/22)
وليست العملية تطور علمي: وهو أن البشرية تطورت حتى وصلت إِلَى قمة العلم ثُمَّ الدين، ثُمَّ لما عرفت التوحيد جاءتها الكتب الثلاثة المنزلة كما يقولون.
ومن ذلك نظرية القانون يقولون: إن الإِنسَان بدأ يحتكم إِلَى الأعراف، وكان العُرف هو الذي يحكم الناس، ثُمَّ وجدت ما يسمونها نظرية العقد الاجتماعي ومعناه: أن أفراد المجتمع تعاقدوا فيما بينهم عقداً عرفياً بأنه لا تظالم، وأنه يتم بينهم أخذ وعطاء "ولا تؤذيني ولا أؤذيك"؛ ثُمَّ بعد ذلك جَاءَ الأَنْبِيَاء وجاءت الكتب.
وهذا من الكذب والافتراء عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن هذه النظريات إنما عرفتها البشرية في فترات الانحراف -أزمان الفترة- التي لا يبعث فيها نبي، بل ينحرف الناس عن شريعة الأنبياء، ويتخذون الأحبار والرهبان والملوك والكهان يشرعون لهم من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما يبعث أي نبي إنما يبعثه بشرع ليتحاكم الناس إليه، وليحكموا به، والحاكم هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والحياة؛ إنما هي في القرآن، أحيا الله به العالمين وأخرجهم من الظلمات إِلَى النور ورحمهم به، وشفى ما كَانَ يعتلج ويختلج في صدورهم من الأوهام والظنون والنظريات الباطلة.
وهنا قد يرد سؤال حيث يقول الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ [فصلت:44] فكيف يكون هدى وشفاءً للذين آمنوا فقط؟ أليس القُرْآن هدىً للعالمين جميعاً؟
نقول: بلى، إن القُرْآن هدىً للناس جميعاً، لكن المنتفع بهداية القُرْآن هم المؤمنون الذين يؤمنون به، أما الَّذِينَ كَفَرُوا فهو عليهم عمى.
وقال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة:26] فمع أنه نور، لكنه قد يكون سبباً للضلال.
فإنه إذا رأى الرائي النور أمامه فأعرض عنه فضلاله أعظم من ضلال من جَاءَ في الظلام ولم ير النور من أصله.(1/23)
فالذي يرى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسمع كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ يعرض عنه لا شك أنه لم يخالط قلبه هذا الدواء الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فكان ذلك سبباً لزيادة مرضه وضلاله وهلاكه.
فالدواء دواء، والنور نور، والهدى هدى، والشفاء شفاء، ومن هنا كَانَ للذين آمنوا هدى وشفاء لأنهم يؤمنون به ويطمعون ويسعون للتداوي به والاقتداء والاستضاءة بنوره.
ماذا يجب على الإنسان معرفته من العقيدة
قَالَ المُصْنِّفُُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[والله تَعَالَى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلا فيما جَاءَ به، ولا ريب أنه يجب عَلَى كل أحدٍ أن يؤمنَ بما جَاءَ به الرَّسُول إيماناً عاماً مُجملاً، ولا ريب أن معرفة ماجاء به الرَّسُول عَلَى التفصيل فرض عَلَى الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القُرْآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إِلَى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إِلَى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله عَلَى المؤمنين، فهو واجب عَلَى الكفاية منهم. وأما ما يجب عَلَى أعيانهم: فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب عَلَى العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب عَلَى القادر عَلَى ذلك. ويجب عَلَى من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل مالا يجب عَلَى من لم يسمعها ويجب عَلَى المفتي والمحدث والحاكم مالا يجب عَلَى من ليس كذلك] اهـ
الشرح:
يقول المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: إذا عرفنا أن القرآن، وأن الوحي عامة هو النور، وهو الهدى والشفاء، وهو الذي منه تعرف هذه الأصول الثلاثة، حيث تعرف الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، ومن أسمائه ومن صفاته، ومن حق العبودية علينا.(1/24)
إذا كَانَ ذلك كذلك فما مقدار معرفة كل إنسان بهذا القرآن؛ وكأنه بذلك يحتاط ويحترز عن قول بعض الناس: إنه يجب عَلَى كل إنسان أن يعرف العقيدة كاملةً تفصيلاً، وإلا لم يكن مؤمناً.
وهذا القول قاله بعض المتكلمين والخوارج، وكثير من الزائغين المنحرفين عن منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
أما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فقولهم هو ما يوافق الكتاب والسنة وهو: أن الإيمان عَلَى نوعين:
إيمان مجمل.
وإيمان مفصل.
فأما الإيمان المجمل: فهذا الذي في إمكان كل إنسان أن يعرفه ويتعلمه مثل: معرفة أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد لا شريك له، وأنه أرسل أنبيائه بالهدى، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو رَسُول الله المطاع المقتدى به وحده، وأن الصلاة والزكاة وأشباهها من الأمور الظاهرة المعروفة بالضرورة أنها فرائض، فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العباد، فهذا يسمى الإيمان المجمل، وهو الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث جبريل حين قَالَ: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره من الله تَعَالَى) وهذا الإيمان المجمل يجب أن يعلَّم للعوام حتى يعرفوه ويفهموه، وتقوم الحجة عليهم، وإلا فيأثُمَّ من لم يعلمهم.
وأما الإيمان المفصل: فإن معرفته فرض كفاية، مثل: معرفة الأسماء والصفات بالتفصيل، وأدلة كل منها، ومعرفة الأحكام الشرعية تفصيلاً؛ لأن الإيمان شعب، وكل عبادة وطاعة من فرض أو نفل فهي شعبة من شعب الإيمان.
وأما الخوارج فَقَالُوا: يجب معرفة الإيمان تفصيلاً، لأنه شيء واحد فقط، وهو ما يقوم في القلب.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمرنا أن نتعلم وحثنا عَلَى العلم، لكن العلم التفصيلي لا يجب عَلَى كل إنسان أن يتعلمه، وهو داخل في قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16] .(1/25)
لكنه في حق الأمة كافة فرض كفاية، يجب أن يوجد في الأمة العلماء والمفتون والحكام الذين يحكمون بما أنزل الله، ويفتون النَّاس بما أنزل الله، ويعلمونهم شرع الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التفصيل.
وأما المعرفة العينية فهو متنوع بحسب قُدَرِهِمْ، فكل إنسان بحسب قدرته.
متى يعذر الإنسان بالجهل
وهنا قضية مهمة ينبغي أن نتفطن إليها وهي: هل الإِنسَان معذور بالجهل أو غير معذور به؟
الذي يعرف هذه الحقيقة التي سبق أن ذكرناها الآن، وذكرها الشارح رَحِمَهُ اللَّهُ لا يخفى عليه الجواب، بل يعرف أن مثل هذا السؤال لا يجاب عنه بإطلاق؛ لأننا نفصل فنقول:
أما الإيمان المجمل: فيجب عَلَى كل إنسان أن يعرفه، وهناك ما لا يعذر بجهله أحد من الْمُسْلِمِينَ، فإن كَانَ بإمكانه أن يعلم وجوب الصلاة وفرضية الصلاة وأعرض عنه ولم يبال به، فإنه لا يعذر بجهله هذا في الأصول، أما في الفروع فإنه يُعاقب؛ لأنه فرط ولم يتعلم ما يجب عليه من شعب الإيمان، فعلى حسب قدرته وطاقته يعاقب مادام بإمكانه أن يتعلم، أما من ليس بإمكانه أن يتعلم فلا يُكلف الله نفساً إلا وسعها.
وقد يجهل الإِنسَان بعض الأمور لاعتباراتٍ كثيرة؛ بل قد يجهل الإِنسَان بعض صفات الله عَزَّ وَجَلَّ الأساسية التي لا يليق بأحد أن يجهلها.(1/26)
ومن ذلك: الرجل الذي من بني إسرائيل فقد ثبت في الصحيح بروايات صحيحة كثيرة أنه قال لأهله عندما حضره الموت: (إذا أنا مت فاحرقوني، ثُمَّ اطحنوني، ثُمَّ ذروني في البحر وفي البر، والله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين) فإن هذا الرجل لإيمانه وخوفه من الله عَزَّ وَجَلَّ، ولشدة اعترافه وإقراره بتفريطه لحق الله عَزَّ وَجَلَّ أوصى أهله أن يفعلوا به هذا الفعل، فجهل أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى كل شيء قدير، وأنه يحي الموتى، (فجمعه الله وأعاده خلقاً سوياً كما كان) وهو قادر تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى كل شيء، ثُمَّ قال له: (ما حملك عَلَى ما فعلت؟ قَالَ: خوفك يا رب!!)
فلم يفعل ذلك جرأة عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ أو شكاً في إيمانه أو قدرته، لكن خوف الله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي حمله أن يظن أنه سيتخلص من هذا الهول العظيم إذا أحرق وطحن ووزع في البر والبحر.
فالإِنسَان قد يجهل مثل هذه الأشياء، ولو علم لتفطن أن الله عَلَى كل شيء قدير.
فالشاهد أن قضية العذر بالجهل أو عدم العذر به قضية نسبية متفاوتة، وكل إنسان يحاسبه ربه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بمقدار ما بلغه من العلم وما يمكن أن يتعلمه.
فالمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ بهذا الكلام الموجز يرد بذلك عَلَى هَؤُلاءِ المنحرفين من الخوارج أو من المتكلمين في هذه القضية المهمة، فالواجب أن يعلم الجاهل، وأن يدعى الغافل ويذكر، هذا هو واجبنا، وعلى كل من عرف شيئاً من الحق أن يبذله، وأن يعلم النَّاس العقيدة الصحيحة، ولا يكثر الخوض والجدل في العذر بالجهل أو عدم العذر به.
فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يحاسبهم كلاً منهم بما بلغه من العلم، ونحن سيحاسبنا هل بلّغْنَا دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا؟(1/27)
ولذلك يذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هنا موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إِلَى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ضمن الفروض الكفائية التي يجب أن يقوم بها القادر عليها، وبذلك ينتشر العلم في الأمة ولا يفشو فيها الجهل، وبذلك تقوم الحجة.
أسباب الضلال والحيرة
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق، فإنما هو لتفريطه في اتباع ماجاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إِلَى معرفته فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى [طه: 123-126] .
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (تكفل الله لمن قرأ القُرْآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثُمَّ قرأ هذه الآيات) .
وكما في الحديث الذي رواه التِّرْمِذِيّ وغيره عن عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا إنها ستكون فتن، قلت: فما المخرج منها يا رَسُول الله؟(1/28)
قَالَ: كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، ومن قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إِلَى صراط مستقيم) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، الدالة عَلَى مثل هذا المعنى] اهـ.
الشرح:
لعل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا يجيب عَلَى تساؤل قد يقال وهو: إن الوحي من الكتاب والسنة مع أن فيه الحق والنور والهدى، ولكن نجد أقواماً كثيرين حتى من المنتسبين إِلَى الإسلام قد ضلوا وتخبطوا وتاهوا!
فمنهم من عبر عن حيرته كما قال أحدهم:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم
وكما قال الآخر وهو الرازي:
نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
فعبروا عن حيرتهم وضياعهم مع أن الكتاب والسنة بين أيديهم، وهذا الهدى بين أيديهم؛ لكنهم خاضوا في علم الكلام والعقائد، لمعرفة الله ومعرفة اليوم الآخر ومعرفة صفات الله سبحانه، فتاهوا وحاروا وضلوا، فإذا قيل: كيف يضيع هَؤُلاءِ ويضلون ويتخبطون مع أن الكتاب والسنة بين أيديهم؟
فيجيب المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذلك ويقول:
[إن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز عن معرفته، فإنما بسبب تفريطه في اتباع ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وترك النظر والاستدلال الموصل إِلَى معرفته] .(1/29)
فلم يأخذ الحق من مصدره الصحيح، وإن كَانَ مؤمناً، وإن كَانَ القُرْآن بين يديه، لكنه فرط في اتباع هذا القُرْآن والاقتداء بهديه، فحينئذ عوقب بالضلال والحيرة والعياذ بالله.
أنواع النظر والاستدلال
النظر والاستدلال هو بمعنى المعرفة العقلية، وإذا جاءت كلمة النظر في هذا الشرح فمعناها: المعرفة العقلية، أو الاجتهاد العقلي، أو الاستدلال العقلي.
والنظر نوعان:
النوع الأول: نظر عقلي محض وهو النظر الكلامي: وهو اتباع القواعد المنطقية والفلسفية في التفكير، فهذا النظر لا يأتي إلا بالضلال، ولا يثمر لصاحبه أي علم أو هدى.
وهذا الذي سلكه هَؤُلاءِ المعبرون عن حيرتهم وضياعهم وضلالهم.
النوع الثاني: نظر شرعي وهو: النظر لفهم نصوص الكتاب والسنة بالتدبر والتأمل والتفكر لفهم كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، كما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذا الاستدلال هو الذي يوصل إِلَى اليقين، فطريق اليقين هو: النظر أو الاستدلال الشرعي، لا الاستدلال والنظر الكلامي المنطقي، ومن ذلك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ضرب لنا الأمثلة الكثيرة عَلَى أعظم القضايا وهي قضايا الإيمان، فقضية الإيمان بالله سبحانه مثلاً ضرب الله عليها الأمثلة لإثبات وحدانيته سبحانه، وأنه حق، وعلى أن القُرْآن حق، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق.(1/30)
يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53] فهناك آيات في الكون، وآيات في النفس، فعلماء الفلك والطب مثلاً يعرفون هذه الأمور، والبدوي العامي الجاهل ينظر إِلَى السماء كيف رفعت، وإلى الجبال كيف نصبت، وإلى الأرض كيف سطحت، وبإمكانه أن ينظر إِلَى البعير الذي يركبه كيف خلق، فيصل به نظره وتدبره إِلَى اليقين والاعتقاد الجازم الصادق الذي لا يدخله ريب أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 8-10] كل إنسان ينظر كيف خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيصل عن طريق هذا النظر إِلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق.
وكذلك الإيمان باليوم الآخر، وهو أكثر القضايا الغيبية إنكاراً عند الْمُشْرِكِينَ، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أقسم عَلَى الإيمان باليوم الآخر، لأنه يقابل بالإنكار وبالجحود من كثير من الْمُشْرِكِينَ، فأقسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أن البعث حق في ثلاثة مواضع من كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبين الحكمة العظيمة في ذلك، بحيث لو تأملها الإِنسَان لفطن وتدبر أن الإيمان بالموت حق.
فضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سور كثيرة وآيات عديدة الأمثال بإحياء الأرض الميتة، فإذا جَاءَ المطر، أتت الزهور الخضراء والحمراء، والنباتات الطويلة، والنباتات الممتدة، ولها روائح مختلفة، ولها نسبة من السكر، هذا أكثر، وهذا أقل، وهذا مر، وهذا فيه دواء، وهذا فيه غذاء للناس، وهذا فيه غذاء للدواب.(1/31)
فهو سبحانه ضرب المثل بأنه قادر عَلَى إحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وإِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى [فصلت:39] فيضرب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا هذه الأمثلة لنستيقن، ونعلم أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق، وأن الإيمان بالآخرة يقين لا يتزعزع لذلك يقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * ليُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ [النحل:38-39] .
هنا آيات أخرى تدل عَلَى أن البعث حق؛ وهي: العبرة النظرية، حيث يتفكر الإِنسَان إذا قال المُشْرِكُونَ: "والله لا يبعث الله من يموت" وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [النحل:39] ليبين الحكمة قال تعالى: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ هذه واحدة.
والأخرى وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ لو تأمل الإِنسَان هاتين الحكمتين لاستيقن أنه لا بد من اليوم الآخر.
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهَِ فكم يختلف البشر في قضايا علمية وفي دعاوى وحقوق، بل اختلف النَّاس في أمور أعظم من ذلك وهو ربهم عَزَّ وَجَلَّ، فمنهم من يعبد الأحجار ويقول: هذا ربي، ومنهم من يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق العبادة، ومنهم من يعبد ثلاثة، ومنهم من يعبد عشرة.(1/32)
وهذه الاختلافات الواقعة بين النَّاس ووجود الظالم والمظلوم، والباغي الباطش المتكبر الجبار المحارب لله عَزَّ وَجَلَّ الذي يعيش عمراً طويلاً في عافية وقوة، يظلم عباد الله عَزَّ وَجَلَّ، ويتسلط عَلَى دمائهم وأموالهم، ويفعل ما يشاء ثُمَّ يأتيه الموت، ويوجد من عباد الله الصادقين المخلصين المقربين لله عَزَّ وَجَلَّ الذين يبتلون بأنواع من الآلام والفتن، ثُمَّ يموت.
تنزيه الله تعالى لنفسه
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ولا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً يدينون به؛ إلا أن يكون موافقاً لدينه الذي شرعه عَلَى ألسنة رسله عليهم السلام وقد نزه الله تَعَالَى نفسه عما يصفه العباد، إلا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات: 180-182] فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثُمَّ سلم عَلَى المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثُمَّ حمد نفسه عَلَى تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد] اهـ.
الشرح:
قال تعالى: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من قولهم: إن الملائكة إناث، وإنهم بنات الله، وجعلوا بينه وبينهم نسباً فَقَالَ تَعَالَى بعد ذلك: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ تَعَالَى الله وتبارك وتقدس وتنزه عما يصفون.
إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ يعني: إلا الوصف الذي يصفه به عباده المخلصون، فما يطلقه عليه غيره من الأوصاف، فإنه ينزه عنه، إلا العباد الذين ذكرهم في هذه السورة وفي غيرها -وهم: نوح وموسى وإبراهيم- وأنبياء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذين يصفون الله بأوصاف الحق.(1/33)
أما هَؤُلاءِ الذين يجعلون الملائكة بنات الله والعياذ بالله، ثُمَّ يقولون: إنهم يؤمنون بالله، فقد رد الله عليهم في سور كثيرة فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة النحل: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ * وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [النحل:57-60] .
فهَؤُلاءِ ينسبون لله ما يترفعون عنه، أما عباد الله المخلصون فإنهم يصفونه بما هو أهل له، فغير الأَنْبِيَاء والمرسلين ومن سلك طريقهم هم ضالون مخطئون فيما يصفون به رَبّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ولو تأملنا الأمم والطوائف والفرق لوجدنا أن هذه الآية ترد عَلَى جميع الملل والفرق التي شذت وانحرفت فيما يتعلق بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فاليهود قالوا: يد الله مغلولة! وقالوا في توراتهم المحرفة: إن الله صارع يعقوب إِلَى الفجر والعياذ بالله! وَقَالُوا: إن عزيراً ابن الله -تعالى الله عن ذلك-.
وعن قول النَّصَارَى: إن المسيح ابن الله، وإنه ثالث ثلاثة، وتعالى الله عن قول مشركي العرب: إن الملائكة بنات الله.
وتعالى الله عن قول أمم التتار والمغول واليابانيين وأمثالهم: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى تزوج الشمس، وولد من الشمس هَؤُلاءِ الملوك والأباطرة الذين يتناسلون، وهم يعبدونهم من أجل ذلك.(1/34)
وتعالى الله عن قول الشيوعيين: إنه لا إله، ولا وجود له تعالى، أو إنه أسير، أو هواء، كما يقول أصحاب النظرية الأثيرية وما أشبهها. وتعالى الله أن يكون العقل الكلي -كما يقول أفلاطون وأرسطو-:خلق عشرة عقول تدير الكون وبقي لا يعمل شيئاً.
وتعالى الله أن يكون كما قالت الرافضة: إنه فوض أمر السماوات والأرض إِلَى الأئمة الإثني عشر يعملون ما يشاءون ويديرون الكون، فشابهوا قول اليهود أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثُمَّ استراح في اليوم السابع وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب [ق:38] وتعالى الله عما يقوله المعتزلة: من أنه عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وعزيز بلا عزة، إِلَى آخر ما يقولون ويفترون، وتعالى الله عما يقول الحلوليون: من أنه يحل في كل مكان، حتى في الأماكن القذرة والنجسة، والعياذ بالله.
وتعالى الله عما يقول الأشاعرة وغيرهم: من أنه ليس فوق السماوات ولا مستوياً عَلَى عرشه.
وهكذا نجد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في هذه الآية عندما قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات:159-160] نزه نفسه عن جميع الأوصاف التي يصفه بها جميع الأمم الضالة وجميع الفرق الضالة (إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ) ، وهم الأَنْبِيَاء والرسل، وهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه، وهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، والذين اتبعوهم بإحسان، وهم الذين يصفون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالمحامد، وبالأسماء الحسنى وبالصفات العلا، ويثبتون له ما أثبته لنفسه.
فهذه الطائفة -الفرقة الناجية المنصورة - وحدها هي المستثناة؛ لأنها تعلم أن له المثل الأعلى في السماوات والأرض، وأنه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .(1/35)
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثُمَّ سلم عَلَى المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب] .
فقوله: [من النقائص والعيوب] "من": ترجع إِلَى كلمة سلامة، لا إِلَى كلمة وصفوه، أي: لسلامة ما قالوه في حق الله من النقائص والعيوب، أي أن كلامهم في حق الله سليم من النقائص ومن العيوب، وليس معناها: لِمَا وصفوه من النقائص والعيوب.
ثُمَّ حمد نفسه عَلَى تفرده بالأوصافِ التي يستحق بها كمال الحمد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقَالَ: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:182] فختم السورة، وختم هذه المعاني بقوله: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:182] فهو المستحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لكمال الحمد وكمال الشكر المتفرد به، وكلمة الحمد: تشمل جميع أنواع المحامد؛ لأن "ال" هنا للاستغراق، أي: جميع أنواع الحمد والثناء اللائق بجلال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو يستحقه تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
أهمية البصيرة في الدعوة إلى الله
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ومضى عَلَى ما كَانَ عليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير القرون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يوصي به الأول الآخر ويقتدي فيه اللاحق بالسابق، وهم في ذلك كله بنبيهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، كما قال تَعَالَى في كتابه العزيز: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108] ، فإن كَانَ قوله أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي معطوفاً عَلَى الضمير في "أدعو" فهو دليل عَلَى أن أتباعه هم الدعاة إِلَى الله وإن كَانَ معطوفاً عَلَى الضمير المنفصل فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جَاءَ به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق] اهـ.
الشرح:(1/36)
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: مضى عَلَى الاعتقاد الصحيح -في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصحابه خير القرون، كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108] ويذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الآية معنيين، بحسب الوقوف.
فإذا قلنا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ فوقفنا ثُمَّ قلنا عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي فهذا له معنى، أي: أنا ومن اتبعني عَلَى بصيرة، وغيرنا ليس لديه بصيرة، فالمعنى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أن يقول: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ يخبر فَيَقُولُ: عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي نَحْنُ الوحيدون الذين عَلَى بصيرة، لأن منهجنا هو الحق، وأما غيرنا فهو عَلَى ضلال.
وإذا قلنا: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي دون وقوف فهذا له معنى آخر، أي: أنا ومن اتبعني ندعو إِلَى الله عَلَى بصيرة لا عَلَى جهل. وكلا المعنيين لهما مدلول واضح وجيد.
وإن كَانَ المعنى الثاني هو الأظهر، وهو المتبادر؛ لأن معناه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي أي: إنني وأتباعي المؤمنون بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ندعو إِلَى الله عَلَى بصيرة، وغيرنا يدعو إِلَى الله؛ لكنه لا يدعو إِلَى الله عَلَى بصيرة، فإن أحبار اليهود ورهبان النَّصَارَى يدعون إِلَى الله -كما يظنون-، لكنهم لا يدعون إِلَى الله تَعَالَى عَلَى بصيرة، وإنما يدعون إِلَى الضلال والشرك بالله. وكم تبذل الكنيسة من الأموال ومن الجهود من أجل الدعوة إِلَى دينهم، عَلَى غير بصيرة.(1/37)
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد بلغ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثُمَّ خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم، وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وممن قام بهذا الحق من علماء الْمُسْلِمِينَ: [الإمام أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن سلامة الأزدي الطّّحاويّ، تغمده الله برحمته، بعد المائتين، فإن مولده سنة (تسع وثلاثين ومائتين) ووفاته سنة (إحدى وعشرين وثلاثمائة) ] .
فأخبر رَحِمَهُ اللهُ عما كَانَ عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه: أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومُحَمَّد ابن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين ويدينون به رَبّ الْعَالَمِينَ] اهـ.
الشرح:
يقول المصنف: [وقد بلغ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلاغ المبين وأوضح الحجة] وهذا لا يشك فيه أحد ولو شك فيه أحد لكان كافراً مرتداً، وهذه القضية بديهة ومعلومة عند جميع الْمُسْلِمِينَ.
لكن ما نجعله من لوازمها يخفى عَلَى كثير من الْمُسْلِمِينَ.(1/38)
فإذا آمنا وأيقنا أن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ الدين كاملاً ولم ينقص منه أي شيء، فيترتب عَلَى ذلك أنه إذا وضع أحد قواعد نفهم بها بعض الآيات، أو جَاءَ بإضافات وأعمال جديدة لم يشرعها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ: هذه من حقيقة الدين، فمعنى ذلك أن هذا الإِنسَان يقول بلسان حاله -إن لم يقل بلسان مقاله- أن ما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقص، وأنه لم يبلغ البلاغ، ولم يؤدّ الأمانة التي وكلت إليه وحاشاه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، لكن هذه هي حقيقة قولهم.
ومن ذلك التأويل الذي سيذكره المصنف.
بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم المنع من وضع قواعد وإضافات ليست مستمده منه
فالذين وضعوا قواعد التأويل متفقون ومطبقون ومجمعون عَلَى أن هذا التأويل لم يعرفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة، ويقولون: هذا من أصول الدين التي يجب أن نتمسك بها، ويردون بها كثيراً من النصوص، ويحرفون بها معاني كثير من الآيات لأنها قاعدة ضرورية!
كيف تقولون إنه من أصول الدين مع قولكم: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يذكره ولم يتعرض له ولم يأت به؟!
فلازم كلامكم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بلغ، وقد خان الأمانة والرسالة عياذاً بالله، وبذلك نفهم أهمية توثيق قضايا العقيدة التي خالفت فيها الفرق، وترتيبها وإرجاعها إِلَى القضايا المحكمة.
ولذلك قال الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رَحِمَهُ اللَّهُ في كشف الشبهات: "إن العامي الموحد يغلب الألف من الْمُشْرِكِينَ أو من أصحاب البدع ".
لأنه وإن كَانَ عامياً، وعلمه محدود، لكنه يرجع القضايا المشتبهة الشائكة التي يخوض فيها العلماء إِلَى قضايا واضحة وأصول وضوابط محكمة.(1/39)
فنرد المتشابهات أو المشكلات إِلَى المحكم الواضح الجلي، فإن جَاءَ أحد وقَالَ: نؤول هذه، أو نترك هذه، فعندنا كلمة عامة محكمة وهي: ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنا به، وهكذا ...
فمن جاءنا وقَالَ: هذه زيادة نعمل بها، ولم يعملها بها الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ولم يأت فيها شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالجواب عليه أنه: ما دام كذلك فهي ليست من الدين ولا أجر فيها ولا ثواب، بل فيها العقوبة والرد (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .
وهذا ينطبق عَلَى ما وضع من قواعد علم الكلام، والبدع العملية والفرعية، بل كل بدعة ابتدعت فهي داخلة فيما أحدث بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراق لم يقع في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن هناك معتزلة أومرجئة.
لكن كيف تفرقت الأمة؟ وكيف ظهرت هذه البدع؟
ورد الحديث بذكر ذلك، وإن كَانَ بعضهم يطعن فيه، لأنه ليس في الصحيحين، وإنما ورد في المسند، وعند ابن أبي عاصم، وفي السنن في روايات كثيرة: (إن هذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلا واحدة) وبعضها تذكر (إن اليهود افترقت عَلَى إحدى وسبعين فرقة والنَّصَارَى افترقت عَلَى اثنين وسبعين فرقة، وهذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة) وبعضها لا يذكر زيادة (كلها في النَّار إلا واحدة) وبعض الروايات تذكر صفات الفرقة الناجية وأنها (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .
الشاهد أن مجموع الروايات تدل عَلَى صحة الحديث، حتى إن بعضهم عده من الأحاديث المتواترة مع أنه ليس في أحد الصحيحين، لكن الافتراق في ذاته ثابت وواضح من أدلة قطعية غير هذه الألفاظ، وغير هذه الروايات التي وردت في الحديث.
من أسباب الاختلاف نسيان الحظ(1/40)
ونحن نعلم جميعاً أن اليهود والنَّصَارَى افترقوا إِلَى حد الاقتتال، وأنهم كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر [البقرة:253] فهم اختلفوا وتفرقوا بغياً بينهم فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [المائدة:14] .
وأخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن اليهود والنَّصَارَى اختلفوا، وأخبرنا في هذه الآية من سورة المائدة أن سبب اختلاف النَّصَارَىأنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.
ولو أخذنا هذه الآية فإنها تفسر لنا كثيراً جداً جداً من أسباب وقوع الخلاف بين الْمُسْلِمِينَ، كيف أنهم لما نسوا حظاً مما ذكروا به وقعت العداوة والبغضاء بينهم.
ونطبق هذه الجملة القرآنية عَلَى هذه الأمة، ونعرف أن هذه الأمة افترقت، بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مثلاً:
ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69] وجاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... إلخ) ، وجاء في الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .(1/41)
وهكذا نصوصٌ كثيرة في مقام الوعيد، فجاءت الخوارج فأخذت حظاً مما ذكروا به، حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط، وَقَالُوا: إذاً من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة، وتركوا الأحاديث والآيات التي تفسرها وأخذوا حظاً مما ذكروا به وتركوا الحظ الآخر، مع أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة) ، فقد فُسِّر ذلك بأنه ما كَانَ من قتال في عهدعَلِيّ ومعاوية، وشهد لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان والإسلام مع وقوع القتال، وفي آية الحجرات يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فالقتال يقع بين المؤمنين ولا يخرجهم من الملة، نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد، ولكن لا يخرج من الملة.
وأخذت المرجئة حظاً آخر مما ذكروا به، فأخذوا بآيات وأحاديث الوعد: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ، فأخذوا بروايات مطلقة مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها، منها تكفير تارك الصلاة مثلاً: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) (بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة) ، فتركوا جانب الوعيد كله، وأخذوا بجانب الوعد فقط.
وفي موضوع الصفات: فإثبات صفات الله عَزَّ وَجَلَّ جاءت في آيات كثيرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا كيف نؤمن بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ وأنها عَلَى جانبين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] نفي وإثبات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذا جانب نفي وتنزيه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذا جانب إثبات لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/42)
فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط، وقالوا لا يسمع ولا يبصر، وليس له يد ولم يستو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وإذا أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية، أصبح الإله من المخلوقات الممكنات، وأصبح له أعضاء والعياذ بالله، فقدموا أموراً لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقالوا نَحْنُ ننزه الله وننفي هذه كلها، ولو كانت في الكتاب والسنة، فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها، فأخذوا حظاً مما ذكروا به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ بمثل هذه الآيات.
وبالمقابل جاءتالمشبهة ونسوا حظاً مما ذكروا به، وتركوا الآيات التي جاءت في تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأثبتوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصفات كما يليق بالمخلوق -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- مشابهين في ذلك لليهودعندما قالوا: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى -كما هو مذكور في التوراة- خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع والعياذ بالله!
فجعلوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتعب ويلغب، كما يلغب ابن آدم إذا عمل عملاً ما، ولذلك نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك فقَالَ: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: لم يمسنا التعب ولا النصب ولا اللغب، وردّ عليهم، فجاء هَؤُلاءِ المشبهة، وأخذوا من اليهودالتشبيه وزادوا عليهم فَقَالُوا: له يد كيدنا، فجعلوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مثل صفات المخلوق.(1/43)
فإذا قال لهم أُولَئِكَ المعطلة: أنتم شبهتم، قالوا: أنتم عطلتم، لذا قال السلف الصالح: المعطل عابد عدم، والمشبه عابد صنم، فالمعطل عابد عدم لأنه يقول: إن الله تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله، وليس له يد، وليس له عين، وليس له أي صفة من الصفات، ولا يسمع ولا يبصر.
إذاً: فهذا معدوم غير موجود، فالمعطل عابد عدم، ولكن المشبه عابد صنم لأن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فإنما هو يعبد صنماً، لأن الأصنام نحتت لكي تعبد من دون الله، لكي يقَالَ: هذا هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والشاهد أن سبب الخلاف بينهما هو أن هذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي حظاً، وهذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي الحظ الآخر، فأغرى الله بينهما العداوة والبغضاء.
فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة، وفي كتب المشبهة يكفرون المعطلة، وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج، وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة، أغرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بينهم العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف أن لا يؤخذ الكتاب كله ولا يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك الشهوات وحب الدنيا
ومن أسباب الاختلاف: "الشهوات وحب الدنيا" فإن حب الدنيا يفسد النية والإرادة، وإذا فسدت الإرادة ودخل الدخن إِلَى القلب، فإن الأعمال تفسد، ويترتب عَلَى فساد الأعمال فساد في الاعتقاد، وأسباب ذلك تبدأ بسيطة لكنها فيما بعد تظهر وتبدو، حتى تكون منهجاً من المناهج.(1/44)
فحب الدنيا كَانَ من عوامل الإفساد بين الْمُسْلِمِينَ، ومن عوامل تفرق الْمُسْلِمِينَ وهلاكهم كما جَاءَ في الحديث الصحيح، لما جَاءَ أبو عبيدة من البحرين بالغنيمة أو الجزية إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: (لعله بلغكم ما جَاءَ به أبو عبيدة من هجر) ومع ذلك قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الحديث: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) فالتنافس في الدنيا والتفرق فيها يؤدي إِلَى التفرق في الدين.
ولذلك لما قام بعض النَّاس يريد الخلافة وينازع فيها تفرقت الأمة الإسلامية، حتى أصبح لهم في عام (72 أو 73) أربعة أمراء للحج، حجت طائفة مع بني أمية تحت راية بني أمية في يوم عرفة، وحجت طائفة تحت راية المختار بن أبي عبيد، وحجت طائفة تحت راية عبد الله بن الزبير، وحجت طائفة للخوارج تحت راية نافع بن الأزرق، أربع رايات للحج في وقت واحد وفي يوم واحد يوم عرفة بعد حوالي "60 سنة" من وفاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وذلك لأجل الأهواء والشهوات وحب الدنيا والتنازع عَلَى الملك.
كما قال أبو برزة في الحديث الذي رواه البُخَارِيّ، قَالَ: "والله إني لأحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً عَلَى هذا الحي من قريش، إن هذا الذي في العراق إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن هذا الذي هنا إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن أُولَئِكَ -يعني القراء الخوارج - إنما يقاتلون عَلَى الدنيا ".
فحب الدنيا كَانَ من أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ وتنازعهم واختلافهم.
وكذلك دخول الحاقدين(1/45)
ومن أسباب تنازع الْمُسْلِمِينَ واختلافهم: دخول الحاقدين، وهذا عامل خارجي، والعامل الخارجي لا يأتي إلا عقوبةً لخلل داخلي، كما أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عاقب في يوم أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] .
فكانت العقوبة بسبب ما عند النفس من الذنوب كما جَاءَ في الآية الأخرى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة [آل عمران:152] فبسبب فساد الإرادة، أو بسبب الخلل الداخلي تأتي العقوبة الخارجية، وتسليط الأعداء، وإلا فقد قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] ، فأعداؤنا يكيدون علينا ليل نهار دائماً، فإذا تحدثنا عن أي مصيبة أصابت الْمُسْلِمِينَ قلنا هو بسبب الأعداء، فالشيوعيون والصليبيون واليهود يخططون ويعملون ضدنا.. وهكذا وكأننا قوم مؤمنون صالحون متقون، ولكن هَؤُلاءِ آذونا وامتحنونا وفعلوا بنا!
سُبْحانَ اللَّه!! لماذا لا ننظر إِلَى السبب الأعظم؟ وهو لماذا سلطهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى علينا؟
لأنه لا تقوى ولا صبر لدينا، ولذلك سُلطوا علينا فضرنا كيدهم وأثر فينا، ولله في ذلك حكمة.
فاليوم أكثر الْمُسْلِمِينَ يوالون الكفار مع هذه المخططات الواضحة الجلية، فبالله كيف يكون الحال لو أن كَانَ الكفار لا يخططون ضدنا؟
إذاً لحييناهم ولقبلناهم وبششنا عَلَى وجوههم.(1/46)
ولذلك شاء الله أن يكون مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو من أكبر الفجائع في التاريخ الإسلامي، عَلَى يد رجل مجوسي لنعتبر، وعندما جيء به ليحقق معه، شهد بعض الصحابة بأننفيلة النصراني والهرمزان، وهما من ملوك العجم جاءا وأظهرا الإسلام في المدينة، واتفقا مع أبي لؤلؤة المجوسي، ورآهم قبل ذلك بليال وهم يتحدثون، وسقط بينهم السيف الذي له نصلان، وهو الذي استخدم في قتل عمر الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فالنَّصَارَى والمجوس اتفقوا وبيتوا المؤامرة لمقتل عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، واكتشف الْمُسْلِمُونَ هذه المؤامرة ليعرفوا أن لهم أعداءً، وأن العداوة هذه لن تخمد أبداً، وليحتاطوا من أمثال هَؤُلاءِ.
واليهود وضعوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السم في الشاة -كما جَاءَ في الحديث الصحيح- الشاة المسمومة التي أكل منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قالت الذراع: إنها مسمومة، أنطقها الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهم ألد أعداء الإسلام كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82] ولذلك جَاءَ اليهودي عبد الله بن سبأ وأثار الفتنة عَلَى عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ليكمل الدور الذي قام به أبو لؤلؤة المجوسي عليه، ولما حرقعَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَؤُلاءِ الزنادقة وكانوا من طائفة عبد الله بن سبأ اليهودي، هرب عبد الله بن سبأ ولجأ إِلَى بلاد فارس، حيث بذر الفكر المجوسي، فالتقى الفكر المجوسي مع الفكر اليهودي، وبذروا الفكرة التي أصبحت تؤلّه علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لأن علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إنما حرقهم عندما قالوا: أنت أنت.
قَالَ: من أنا؟
قالوا: أنت الله.
فقال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً(1/47)
قَالَ: أوقدوا لي نيراناً فأحرقوهم، فهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد فارس، وبذر هذه الفكرة في نفوس العجم، وأوجدت الدين السبئي الذي لا يزال قائماً حتى الآن.
فمن أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ، وظهور هذه الفرق، هو المكر اليهودي والنصراني والمجوسي.
وسنأتي أيضاً للتعرف عَلَى هذه الطائفة وغيرها عندما يأتي -إن شاء الله تعالى- الحديث عن الصحابة وما الذي يجب اعتقاده في حقهم رضوان الله عليهم؟
فالمغرور والمخدوع من يظن أن هذه الطوائف الحاقدة التي أنشأها أعداء الإسلام، وبذروها في بلاد الْمُسْلِمِينَ، وفرقوا بها صف الْمُسْلِمِينَ-أنها يمكن أن تحب وتوالي الإسلام والْمُسْلِمِينَ، فإنها قامت عَلَى الحقد وبه تتغذى.
والفرق والطوائف المبتدعة المنحرفة تعتمد في تكونها وتركيبها وتجميع أفرادها عَلَى معادة أهل الحق -الطائفة الكبرى- فليس هناك قضية عقلية خاصة، أو بحث نظري مجرد يجمعها، أو هو الذي أعطاها منهجاً، وإنما الذي يجمعها هو العداوة لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أهل الحق، فيربون أنفسهم وأبناءهم وأجيالهم عَلَى الحقد عَلَى الطائفة الحق، لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو الطائفة المنصورة التي قال عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وفي الرواية الأخرى: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون عَلَى النَّاس) وفي رواية من حديث جابر في صحيح مسلم زيادة مهمة أو تفسير مهم وهي: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من الْمُسْلِمِينَ حتى قيام الساعة) ففيها زيادة أن هذه الطائفة تجاهد النَّاس من أجل إقامة هذا الدين.(1/48)
وجهاد أهل البدع مشروع بالأحاديث المتواترة في قتال الخوارج، فهم من أهل البدع، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الصحيح المتواتر كما قال بعض العلماء: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد) .
ومن هنا أخذ العلماء قاعدة عظمى وهي: "مقاتلة أهل البدع" وهي أن حكم أهل البدع؛ المقاتلة إذا تميزوا وأصبحوا طائفة، وأما إذا بقوا في المجتمع فإنه يجب علينا أن نكبتهم ونمنعهم من نشر بدعهم والدعوة إليها، ومع ذلك نعطيهم أحكام الإسلام الظاهرة عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -لما لجأوا إِلَى جنبات المسجد وَقَالُوا: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فقال-: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم البيت، ولا نمنعكم المساجد، يعني تصلون معنا وتأخذون حصتكم من الفيء من بيت مال الْمُسْلِمِينَ، إلاّ إذا أحدثوا حدثاً، أي: إذا عملوا عملاً يخل بأمر المجتمع المسلم والجماعة المسلمة، وأحكام أهل البدع طويلة ولعله يأتي بعضها إن شاء الله.
والطائفة المنصورة هي التي عَلَى مثل ما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كما فسرتها روايةالتِّرْمِذِيّ: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ولما سئل الإمام أَحْمَد عن الطائفة المنصورة قَالَ: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) وذلك أن لأهل الحديث مصطلحين:
مصطلح علمي.
ومصطلح شرعي.
فالاصطلاح العلمي المراد به هم الذين يشتغلون بدراسة الحديث، ونقد الرجال والمتون ومعرفتها وتخريجها، فهَؤُلاءِ يسمون علماء الحديث، كما تقول علماء النحو، وعلماء البلاغة، وعلماء اللغة، وعلماء التفسير، وليس هذا هو المعنى المراد من الإمام أَحْمَد، لأنه يوجد من المحدثين من هو عَلَى بدعة خاصة في القرون الأخيرة، ويوجد من المشتغلين بالرجال ودراسة الأسانيد من لا يمثل عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ حق التمثيل.
والاصطلاح الشرعي: هم الذين يأخذون بالأحاديث ويعملون بها.(1/49)
ولذلك أطلق السلف عَلَى الذين لا يأخذون بالحديث والأثر من طوائف أهل البدع: أهل الكلام وأهل الجدل، لأن بدعهم لا تقوم عَلَى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما تقوم عَلَى الجدل وعلم الكلام، فبقيت الطائفة المنصورة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يأخذون بالأحاديث.
ولذلك يُسمون: أهل الأثر وأهل الحديث، أي: المتبعون لِمَا كَانَ عليهِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ فكلام الإمام أَحْمَد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري منهم" أي المتبع للأثر، حتى وإن كَانَ من أهل اللغة، فقدماء أهل اللغة عموماً النضر بن شميل والخليل بن أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام من علماء اللغة والحديث هَؤُلاءِ من أهل اللغة وهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أيضاً.
فأهل الحديث المراد بهم أهل الأثر المتبعون لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا نستطيع أن نفهم أن الطائفة المنصورة هي المتبعة لما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وهي الناجية الوحيدة، وهي التي قامت بإبلاغ ونقل ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذا يقول المصنف: [وممن قام بذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ] .
فقد نقل عقيدة السلف، وبالذات عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلميذيه، وهكذا كل من يأتي ويتكلم في عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما ينقل كلامهم ويشرحه ويوضحه، ولو جاءنا أحد بشيء من عنده لرددناه كما نرد عَلَى أهل البدع، فهذا هو الطريق المتبع وهذا هو طريق أهل الأثر.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/50)
[وكلما بعد العهد ظهرت البدع، وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليقبل، وقلّ من يهتدي إِلَى الفرق بين التحريف والتأويل، إذ قد سُمِّى صرف الكلام عن ظاهره إِلَى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلاً، وإن لم يكن ثَمَّ قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلاً قُبل وراج عَلَى من لا يهتدي إِلَى الفرق بينهما. فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إِلَى إيضاح الأدلة، ودفع الشُبَه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إِلَى شُبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه، والاشتغال به والإصغاء إليه، امتثالاً لأمر ربهم، حيث قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه [الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم. وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين واتباع ما أنزله الله عليهم وقد ختمهم الله بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعله آخر الأَنْبِيَاء وجعل كتابه مهيمناً عَلَى ما بين يديه، من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب، والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والأنس، باقية إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وانقطعت به حجة العباد عَلَى الله، وقد بين الله به كل شيء وأكمل له ولأمته الدين، خبراً وأمراً وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إِلَى غيره، وأنهم إذا دعوا إِلَى الله والرَّسُول -وهو الدعاء إِلَى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدوداً وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا.(1/51)
وكما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نُحس الأشياء بحقيقتها، أي: ندركتها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقية جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرَّسُول أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة.
وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين يما يدعونه من الباطل الذي يسمونه: حقائق وهي جهل وضلال وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك.
وكل من طلب أن يُحكم في شيء من أمر الدين غير ما جَاءَ به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جَاءَ به الرَّسُول وبين ما يخالفه، فله نصيب من ذلك، بل ما جَاءَ به الرَّسُول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلموا ما جَاءَ به الرَّسُول في كثير من الأمور الكلامية الاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الأمارة السياسية، أو نسبوا إِلَى شريعة الرَّسُول بظنهم وتقليدهم ما ليس منها وأخرجوا عنها كثيرا من ما هو منها.
فبسبب جهل هَؤُلاءِ وظلالهم وتفريطهم وبسبب عدوان أُولَئِكَ وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة.
بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل في ما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُعلم ويعتقد ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تُلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء] اهـ.
الشرح:
كلما بعد العهد كثرت الانحرافات والتأويل الذي سماه أهله "تأويلاً" فإن من المعلوم أنه قد كثر التعطيل والتشبيه.
التأويل(1/52)
والتأويل هو أصل به هُدمت الشريعة، ويوضح ذلك: أن الذين ينفون صفات الله عَزَّ وَجَلَّ كالمعطلة والباطنية والرافضة، وأمثالهم من الذين يضربون كتاب الله بعضه ببعض، هَؤُلاءِ هم قوم مجاهرون ومعادون لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بوضوح، ويعادون الأمة الإسلامية وجماعة الْمُسْلِمِينَ، ويعادون الأصول الشرعية، فيردون الآية والحديث، وأمرهم واضح جلي، لكن المؤول أخطر وجنايته أكثر، لأنه يقول: أنا أؤمن بالآية والحديث، ويقول: أنا من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهكذا يدعي المؤولون: أنهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
والتأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح قرينة،
والتأويلات كثيرة جداً، وبعضها مضحك، وبعضها يستدعي التعجب، فمثلاً بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [ص:75] هنا "يدَي"، وهناك "يداه"، فالمؤول يقول: نؤول اليد، مع أن ظاهر اليد صفة معروفة.
فالذين يثبتون لله عَزَّ وَجَلَّ هذه الصفة يقولون: اليد حقيقية تليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا نعرف كيفيتها، فيقول المؤولة هذا الظاهر، ونحن مسلّمون بأنه ظاهر اللفظ وأنه تدل عليه الآية، لكن نصرف هذا الظاهر إِلَى وجه واحتمال مرجوح، وهو أن لفظة اليد معناها النعمة أو القدرة، لقرينة وهي: تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ، فالقواطع والبراهين العقلية دلت عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منزه عن الجارحة.
فهناك قواعد عقلية وضعوها هم:
منها: أن الله ينزه عن الجارح، واليد جارحة، فتنفى عن الله ويصرف اللفظ من الاحتمال الراجح المتبادر الذي يعرفه كل من يقرؤه إِلَى احتمال مرجوح يقال فيها بوجود القرينة، وهي البرهان العقلي الذي قام عَلَى تنزيه الله تعالى.(1/53)
وأولوا وحرفوا بتأويلات عجيبة، نذكر فقط بعض الامثلة، ففي الحديث الصحيح: (لا تزال النار تقول هل من مزيد حتى يضع الله تَعَالَى قدمه في النار) وروايات كثيرة في أن النَّار لا تمتلئ حتى يضع الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها قدمه، وفي رواية: (رجله) كلها في صحيح البُخَارِيّ ومسلم، (يضع الله تعالى قدمه في النَّار فتقول: قط قط) وفي إحدى الروايات كلمة (الجبار) وفي روايات كثيرة: (يضع الله) (يضع الرحمن) فَقَالُوا: الجبار إما أنه أحد الملائكة اسمه "الجبار"، وإما أنه أحد الظلمة من أهل الأرض، فلا تمتلئ حتى يضع هذا الجبار الطاغوت قدمه أو رجله في النار، فتقول: قط قط قد امتلأت.
وهذا تأويل أبي المعالي الجويني، وقد رجع عن ذلك، وتبعه عليهأبو حامد الغزالي، وهو موجود في كتابه المصقول في علم المعقول، وهم قالوا بذلك هروباً من أن يقولوا: هو الله عَزَّ وَجَلَّ.
والروايات الأخرى التي فيها (الله، الرحمن) قالوا: عندنا قرينة وهي: أن الله ينزه عن الأبعاض والجوارح، وهذا قد قامت عليه البراهين العقلية والأدلة القطعية من العقل، فتنفى.
وحديث الحبر اليهودي، رواه الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم وغيرهم، أنه جَاءَ إِلَى النبي وقَالَ: (أما علمت يا مُحَمَّد أن الله يَوْمَ القِيَامَةِ يضع السماوات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والثرى عَلَى إصبع، والشجر عَلَى إصبع، وبقية الخلائق عَلَى إصبع) وفي رواية الإمام أَحْمَد: (أنه يضع الأرض عَلَى ذه وأشار إِلَى السبابة) ثُمَّ استمر في بقية الأصابع.
وفي الحديث: (فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله) هكذا نص الحديث "على إصبع" فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله.(1/54)
ومثله الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك تصديقاً لقوله، وأن هذا حق، لكن كيفية الصفة غير معلومة لنا، فله من الصفات ما يليق به كما أن للمخلوق ما يليق به.
وأما المؤولة فقالوا هذا الحديث يؤول، وذلك كابن فورك، فإنه قَالَ: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك تعجباً من تشبيه هذا الكافر اليهودي.
فيقال هل ضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعجباً من كفره؟!!
تأويلات غريبة ليس عليها أي دليل، إلا أنه كما قالوا: قامت القواطع والبراهين العقلية عَلَى أن هناك قرينة تمنعنا من أن نقول بظاهر هذا اللفظ.
ومن الأدلة عَلَى بطلان التأويل، ما قاله: أبو المعالي الجويني نفسه -شيخ الغزالي - في آخر عمره لما رجع عن الأشعرية، وقد كَانَ إمامهم، وألف كتاباً سماه الرسالة النظامية "إني اطلعت فرأيت السلف مطبقين عَلَى عدم التأويل مع كثرة اهتمامهم بفروع الشريعة، فلما رأيتهم قد نقلوا إلينا الشريعة كاملة، وأنهم أكثر منا اهتماماً بأصول الشريعة وفروعها، ورأيتهم مطبقين عَلَى عدم التأويل، علمت أن التأويل غير حق، فتركت التأويل ".
خطر التأويل
ينبغي أن نعرف خطر التأويل، فإنه أخطر من قضية الأسماء والصفات، وإن كانت الأسماء والصفات تتعلق بالله عَزَّ وَجَلَّ وتوحيده، وهي ركن عظيم من ديننا، لكن القول بالتأويل، نقض للدين كله أصوله وفروعه.(1/55)
فاالروافض والباطنية قيامهم وتعلقهم وتطاولهم إنما هو بسبب انتشار التأويل بين الْمُسْلِمِينَ، تقول الرافضة: إن الله أمرهم أن يذبحوا عَائِِِشَةَ بنت أبي بكر، ولكنهم عصوه وأمّروها عليهم، وأركبوها جملاً، وذهبوا بها لتحارب أمير المؤمنين على بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في معركة الجمل.
والدليل عَلَى ذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهل يُعقل أن الله تَعَالَى وهو العظيم الجليل يأمر في القُرْآن بذبح بقرة من التي تمشي في الأرض؟ لا. وإنما المسألة أعظم من ذلك.
قال أهل السنة: هذه ليست في أم المؤمنين، وإنما هي في اليهود من بني إسرائيل، لأن موسى قال لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
وقالت الباطنية للمسلمين: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟
قالوا: هذا ديننا، وهي من أركان الإسلام.
فقالوا: هذه نؤولها عن ظاهرها، فالصلوات الخمس: عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين والإمام المنتظر، وتأويلنا هذا ليس بناءً عَلَى قرينة عقلية، بل بناءً عَلَى خبر يقين.
وَقَالُوا: الإمام الغائب الذي في السرداب، وهو الإمام المعصوم هو المصدر العلمي اليقيني عندنا، وينقله إلينا الباب، فالباب ينقل كلام الإمام الغائب الذي في السرداب إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فنحن نتكلم بيقين، لأن هذا الإمام المعصوم ينقل لنا الكلام عن طريق الباب، والباب يعطي الحجاب، والحجاب أو نواب الأمير ينقلون إلينا هذه المعاني، فعرفنا أن الصلوات الخمس هي هذه الأسماء الخمسة.
والصوم هو: أن يحفظ أسرار الطائفة، والحج: أن تقصد الأئمة وتتلقى عنهم وحدهم، فما هناك طواف بالكعبة، ولا هناك حجر.
وكذلك الفلاسفة أولّوا كما أولّ الرافضة والباطنية، فقالت الفلاسفة: إن البعث لا حقيقة له.(1/56)
فقيل لهم: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر بالبعث في كتابه، والأحاديث الصحيحة ذكرت البعث ووضحته، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحشر النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ حفاة عراة غرلا، وتدنوا منهم الشمس فيكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان.
فقالوا: هذا البعث حشرٌ روحاني للأرواح فقط، ولا تعاد إِلَى البدن، لأن العقل يدل عَلَى أن هذا محال، وأن هذه الجثة بعد أن دخلت الأرض وصارت هباءً لا تعود حية.
ونعيم الجنة نعيم روحاني فقط، وهذا الكلام يكفرهم به المؤولة وغير المؤولة، فالْمُسْلِمُونَ جميعاً يكفرون من يقول بهذا الكلام حتى المؤولة يكفرونهم.
لكن يرد الفلاسفة عَلَى المؤولة فيقلون: أنتم أوّلتم اليد والاستواء ونحن نؤول البعث أيضاً.
قال المؤولة نحن أولّنا بقرينة.
قال الفلاسفة: ونحن عندنا قرائن عقلية مثل ما عندكم قرينة عقلية، فالقواطع والبراهين العقلية تدل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يتصف بهذه الصفات، وهو منزه عنها.
هذه جناية التأويل وخطره عَلَى عقيدتنا، فلو فتحنا هذا الباب فمن يسده؟ وإذا أوّلنا وأوّلت جميع الطوائف فماذا بقي من القُرْآن والدين؟
فهذا التأويل قبل وراج لما سمي تأويلاً، وإلا فهو تحريف، فالله تَعَالَى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ويقول المؤولة: الرحمن عَلَى العرش استولى زيادة تأويل، لكنه يحول ويغير المعنى، وإن كانوا لم يغيروا الآية، فهم لم يزيدوا في الآية إلا "لام" لكن إذا تركوها بهذا المعنى لم يبق من حقيقة الآية إلا ما هو مكتوب في المصحف فقط، أما ما تفهم به فهو المعنى الذي وضعوه، وهو بزيادة اللام.
سبب التأليف في العقائد
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [من أجل ذلك احتاج المؤمنون إِلَى دفع الشبه] أي: من أجل انتشار التأويل وأمثاله، احتاج المؤمنون إِلَى التأليف في العقيدة، ليردوا عَلَى هذه العقائد.(1/57)
والأصل هو كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ والسنة، وهذا ما كَانَ عليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فاضطرنا هَؤُلاءِ أن نسلك هذه الطريقة وذلك لما كثرت البدع والتأويلات والانحرافات، فبدأنا نضطر أن نقاوم هذه البدع، ونبينها ونكشفها، لا نكتفي ببيان الحق، وإنما نبين ما يضاده من الباطل.
ثُمَّ يقول: [وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ ... ] .
هذه قاعدة مهمة، وهذا من إنصاف المُصْنِّف وعدله رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] .
مراتب التأويل
للتأويل ثلاث مراتب: قد يكون التأويل كفراً، مثل التأويلات الباطنية، وتأويلات الفلاسفة، وبعض التأويلات الكفرية، وبعض تأويلات الرافضة، كمن يؤول الصلوات الخمس بأنها الأئمة الخمسة، ويؤول الصوم بأنه حفظ الأسرار إِلَى غير ذلك، هذا التأويل كفر يخرج من الملة.
وقد يكون معصية يخرج صاحبه إِلَى البدعة، يُحكم عَلَى صاحبه أنه مبتدع ومُنحلٌ، وذلك مثل التأويلات التي ذكرناها -تأويل صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مع نية تنزيهه.
وقد يكون خطأً، فبعض النَّاس لا يتعمد التأويل، وهذا موجود حتى في بعض كتب التفسير لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.، وكتب الحديث لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عندما يؤول بعض الصفات خطأ، فهذا لا يخرجه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
فبعض علماء الْمُسْلِمِينَ المعتبرين قد يخطأ ويؤول بعض الصفات، فهذا خطؤه مغفورٌ له إن شاء الله، فقد يخطأ بعض الأئمة في فهم بعض الأحاديث في الصفات مع سلامة المنهج.(1/58)
وأما من كَانَ منهجه وأصوله بدعية، فهذا من أهل البدع المتوعدين بعقوبة الله، إلاّ أن يتوب أو يغفر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له، ولا نقطع له بجنة ولا نار.
والتأويل المكفر، الذي ذكرنا إنما عد كفراً لأنه مضادة للقرآن، وتعمد في تحريفه كما تعمدت اليهود، لما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىوَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] فقالت اليهود: "حنطة".
قال بعض العلماء: النون التي زادها اليهودفي "حطة" وجعلوها "حنطة" مثل: اللام التي زادها المؤولة، فقالوا في استوى: "استولى" هذا وجه الشبه بينهم، فالذي يزيد بنية المضادة أو الاستهزاء أو المحادة، فهذا يصبح من التأويل المكفر، أما الذي زاد لاعتماد أصول بدعية، فهو يدخل في باب التأويل المذموم المبتدع المتوعد عليه، وأما الذي أصوله صحيحة، لكن يقع منه خطأً كما يقع من سائر العلماء في سائر النصوص والأحاديث، فهذا يسمى خطأ، وهذا نرجو ألاّ يؤاخذ عليه عند الله تعالى، أما في الدنيا فنبين له؛ لأن الله تعهدنا بأن نبين الحق، وليس كلام أحد حجة وصواب إلا كلام مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما من عداه فإن كلامه يُبيّن وخطأه يوضح، دون أن ننتقص من قدره، ولا نخرجه من دائرة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
تاريخ ظهور البدع(1/59)
وهذه الفرق انشقت عن الجماعة، وخالفت قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه [الأنعام:153] فاتخذت دينها شيعاً، وتفرقت عن الدين، وأقدم هذه الفرق على ما يظهر لي هي الخوارج، لأن فكرة الخوارج بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين (كان النبي يقسم غنائم حنين، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويترك بعض المهاجرين والأنصار، حتى وجد بعض الأنصار في أنفسهم) ، فكان بعض الأعراب يذهب بالألف أو الألفين من الغنم والإبل، فخرج منهم رجل له كساء، غائر العينين، شعث الشعر -كما في الحديث- (فقَالَ: اعدل يا محمد! إنها لقسمةٌ ما أريد بها وجه الله -والعياذ بالله- فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟) فهو الذي شرع شريعة العدل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمنا إياها من عند ربه عَزَّ وَجَلَّ، ولكن هذا من ضيق لبه وجهله وقلة علمه، وعدم مراعاته للمقاصد والأحكام التي يراعيها الشارع في أحكامه فقد رأى أن هذه القسمة ليست عادلة، فاعترض عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) لما اتهمه قومه بأنه آدر، فما زالوا يتهمونه حتى برأه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذب قولهم، وغير ذلك مما أوذي به موسى عَلَيْهِ السَّلام.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ، ثُمَّ قَالَ: (يخرج من صلب هذا أقوام تحقرون صلاتكم إِلَى صلاتهم، وقراءتكم إِلَى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) .(1/60)
وثبت قوله في أحاديث كثيرة في قتال الخوارج (لئن أدركتهم لأقتلنهم) فأول فرقة مستقلة لها غاية، وتجمع كانت هي الخوارج. ومن مبادئهم التكفير بالذنب، وهم أصحاب الوعيد، حيث يأخذون الوعيد ويتركون الوعد، فيكفرون الزاني وشارب الخمر والسارق ونحو ذلك.
ويجاب عن ذلك أن الله قد جعل للمرتد عقوبة القتل، وللزاني الرجم، فإن كَانَ بكراً فعقوبته الجلد، وللسارق عقوبة القطع، فلو كَانَ الجميع يكفرون لكان الحد واحداً وهو القتل، والردود عليهم كثيرة.
وخرج هَؤُلاءِ في عهد عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما حكّم الحكمين، فَقَالُوا: لا حكم إلاّ لله، حكمت الرجال في دين الله؟ فخرجوا وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب الواحدي وقيل غيره، لكن هذا الذي اشتهرت إمرته، ورفضوا بيعة عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: لا نبايع إلاّ مثل عُمَر، وإلاّ فلن نبايع، فبايعوا عبد الله بن وهب، وهو أعرابي جلف ليس له صحبة، ولا شهد له الله بخير كما يقول ابن حزم.
وظهرت الشيعة بمبدأ التعطيل، كفكرة أولى هي موجودة في أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسس دينالشيعة منذ أن أثار الفتنة عَلَى عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فبداية الفرقة موجودة، لكن ظهرت كفرقة واضحة عندما خرج الخوارج وكفّروا علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أقسام الشيعة
الشيعة ثلاثة أقسام:
" الغالية، المؤلهة " الذين غلوا في عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: أنت أنت.
قَالَ: من أنا؟
قالوا: أنت الله، وسجدوا له -والعياذ بالله-.
وهَؤُلاءِ أمر عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بإحراقهم، وهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد العجم، وهناك بدأ الدين السبئي.(1/61)
الفرقة الثانية: "السبّابة": الذي يسبون ويشتمون الشيخين، فهم لم يخرجوا من الإسلام ولم يؤلهوا علياً، ولكنهم سبوا الشيخين رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وقد قال بعض الأئمة: إن سب الشيخين كفر لأن هذين كما قال علي بن الحسين زين العابدين الذي رفضته الرافضة قَالَ: كيف أسبهم وهما وزيرا جدي؟
فالذي يسب وزيري النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد سب النبي، والذي يقول: إن أبا بكر عدو للإسلام فهو متهم لرَسُول الله، ومتهم للأمة كلها.
كيف يكون هذا الرجل منافقاً عدواً للإسلام ويوليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة إشارة إِلَى تولية الإمامة العظمى؟
وكان هو وعُمَر أفضل الصحابة؟
فإذا كَانَ هذان كذابين -كما يقول هَؤُلاءِ المغترون- فالدين كله كذب، وما نقلت لنا السنة والشريعة إلاّ عن طريق الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وعلى رأسهم أبُو بَكْرٍ وعُمَر.
وأما الفرقة الثالثة: وهي: "المفضلة": فهَؤُلاءِ هم الزيدية الذين وافقوا علي بن الحسين، فَقَالُوا: لا نشتم الشيخين، ولكنهم يفضلون علياً عليهما، ويقولون: إن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.
فعَلِيّ P> الأفضل، ولكن إمامة أبِي بَكْرٍ وعُمَر جائزة، وهذا الذي أنكره عليهم علماء السلف، وهو من البدع، ويكفينا في بدعيته أنه صح عن عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: "ما جاؤني بأحد يفضلني عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَر إلا جلدته حد الفرية ثمانين جلدة، وقال عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كما في البُخَارِيّ: "والله ما من رجل وددت أن ألقى الله بعمله إلا هذا " وكان يشير إِلَى "عُمَر وهو في سكرات الموت" وهذا الأثر معروف ومشهور ومتواتر بين الصحابة.(1/62)
ولما اشتهر الخوارج وكفروا صاحب الذنب، كشارب الخمر والزاني والسارق، خرجت منهم فرقة تقول: لا نكفر أحداً يقول لا إله إلا الله، وكانوا مع الخوارج وجلسوا معهم فترة، فرجعوا إِلَى غلو آخر شديد وَقَالُوا: لا نكفر أحداً أبداً ما دام يقول لا إله إلا الله، حتى وإن سب الله ورسوله، وأنكر القرآن، فجنحوا إِلَى الطرف الآخر، وهَؤُلاءِ هم "المرجئة "، وظهروا في أواخر العهد الخامس.
ثُمَّ ظهرت القدرية، وكان ظهورها في العراق أيضاً، في عهد الصحابة بتأثير النَّصَارَى الذين كانوا في الشام، وكان لهم كلام في القدر والخوض فيه، فنقلوه إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وقال به معبد الجهني، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث جبريل الطويل المشهور المعروف: (أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقَالَ: يا مُحَمَّد أخبرني عن الإسلام؟ ... ) ، رواه عبد الله بن عمر عن أبيه عُمَر حيث جَاءَ بعض التابعين إِلَى عبد الله بن عمر وسأله فقَالَ: إن هناك أقواماً في العراق ينكرون القدر، فَقَالَ لهم: حدثني أبي، فذكر حديث جبريل الذي يدل عَلَى أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة.
فالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية هذه الفرق جميعاً ظهرت في عهد الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْه ُرَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وهذه الفرق الأربع هي أصول الفرق التي تشعبت منها فرق صغيرة، وظهرت المعتزلة في أوائل المائة في عهد الحسن البصري، فاعتزلوا مجلسه، وهم في الحقيقة امتداد لفكر الخوارج، لكنهم لا يقولون: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة، وإنما قالوا: يخرج من الإسلام ولا يدخل الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، فَقَالُوا: يخرجونه من الإسلام لأن الآيات والأحاديث التي في المؤمنين لا تنطبق عليه، ولا يدخلونه في الكفر لأن الآيات والأحاديث التي في الكافرين لا تنطبق عليه، فجعلوه في منزلة بين المنزلتين.(1/63)
ثُمَّ ظهر الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بعد المائة والعشرين، وقَالَ: أيها النَّاس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، ثُمَّ نزل من المنبر وذبح الجعد بن درهم.
ثُمَّ تلميذه الجهم بن صفوان، وخرج مع الحارث بن سريج عَلَى بني أمية سنة 128هـ، وكان كاتباً له فنشر فكر المرجئة، والجهم كَانَ ينفي جميع الصفات عن الله، وكان في نفس الوقت مرجئاً، يقول: إن الإيمان هو المعرفة القلبية فقط، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن -عند جهم -، ولهذا فالمرجئة غلو في هذا الباب، لأن إبليس يعرف الله بقلبه، بل بلسانه قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وكان الجهم كثير الجدل بلا علم، لم يتفقه، ويخالط العلماء، ويقرأ كتب العلم، ويحفظ من كتاب الله وسنة رسوله، وإنما كَانَ يجادل فقط، فجاءه قوم من الهنود من عباد الأبقار، فَقَالُوا: جئنا نناظرك، فقالوا له: صف لنا ربك؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ هل شممته؟
فبقي أربعين يوماً يفكر، كيف يرد عَلَى هَؤُلاءِ؟
فقَالَ: هو كالهواء، ليس له أي صفة، لا يرى ولا يشم، ونتج عن ذلك نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ تلقى عن الجهم بشر المرّيسي، وهو يهودي في الأصل، لم يلق الجهم، ولكن لقي تلاميذ تلامذته، وتعلم مذهب الجهم
ثُمَّ تلقى عنه عبد الله بن سعيد بن كلاّب، وهو المؤسس الحقيقي للمذهب المسمى مذهب الأشعرية، ولذلك هجره الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لأنه وافق مقالة بشر وجهم، لكن ابن كلاب لم ينف جميع الصفات، كما قال جهم بأن الكلام كلام نفسي، ولكن أثبت ما يثبته العقل، ونفى ما ينفيه العقل، وحكّم العقل.(1/64)
وهذا الذي قالته الأشعرية والماتريدية، فَقَالُوا: ما قامت القواطع العقلية عَلَى إثباته فإننا نثبته، وهي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام -الكلام النفسي- فهذه يدل العقل عَلَى إثباتها.
وأما الأخرى فالعقل يحكم باستحالتها في حق الله تعالى، فلا نثبتها لله تعالى، وأصل هذا العقل هو عقل الجهم لما اختلى أربعين يوماً.
والقدرية تشعبت، فكان منها القدرية الغلاة الذين ينكرون العلم، ومن أنكر علم الله للأشياء قبل وقوعها فقد كفر، وهَؤُلاءِ أكفر القدرية فإنهم قالوا: لو كَانَ الله يعلم أنه يفعل المعصية، إذاً هو قدّر عليه المعصية، فكيف يجازيه عليها؟ وهكذا سوّل لهم الشيطان.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا أن هذه الحجة قديمة، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] ويقول الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة النحل: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35،36] وقال في الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] ثُمَّ قَالَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] فالله تَعَالَى ذكر هذه الشبهة وردّ عليها بأنه لو كَانَ يلزم من ذلك أنه أراد الشرك -يعني قضاه وقدره- لما أرسل الأنبياء، ولما أقام الحجة البالغة.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/65)
[وقد بلغ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثُمَّ خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم، وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وممن قام بهذا الحق من علماء الْمُسْلِمِينَ: [الإمام أبو جعفر أحمد بن مُحَمَّد بن سلامة الأزدي الطّّحاويّ، تغمده الله برحمته، بعد المائتين، فإن مولده سنة (تسع وثلاثين ومائتين) ووفاته سنة (إحدى وعشرين وثلاثمائة) ] .
فأخبر رَحِمَهُ اللهُ عما كَانَ عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه: أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومُحَمَّد ابن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين ويدينون به رَبّ الْعَالَمِينَ] اهـ.
الشرح:
يقول المصنف: [وقد بلغ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البلاغ المبين وأوضح الحجة] وهذا لا يشك فيه أحد ولو شك فيه أحد لكان كافراً مرتداً، وهذه القضية بديهة ومعلومة عند جميع الْمُسْلِمِينَ.
لكن ما نجعله من لوازمها يخفى عَلَى كثير من الْمُسْلِمِينَ.
فإذا آمنا وأيقنا أن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ الدين كاملاً ولم ينقص منه أي شيء، فيترتب عَلَى ذلك أنه إذا وضع أحد قواعد نفهم بها بعض الآيات، أو جَاءَ بإضافات وأعمال جديدة لم يشرعها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقَالَ: هذه من حقيقة الدين، فمعنى ذلك أن هذا الإِنسَان يقول بلسان حاله -إن لم يقل بلسان مقاله- أن ما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقص، وأنه لم يبلغ البلاغ، ولم يؤدّ الأمانة التي وكلت إليه وحاشاه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك، لكن هذه هي حقيقة قولهم.(1/66)
ومن ذلك التأويل الذي سيذكره المصنف.
بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم يستلزم المنع من وضع قواعد وإضافات ليست مستمده منه
فالذين وضعوا قواعد التأويل متفقون ومطبقون ومجمعون عَلَى أن هذا التأويل لم يعرفه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا الصحابة، ويقولون: هذا من أصول الدين التي يجب أن نتمسك بها، ويردون بها كثيراً من النصوص، ويحرفون بها معاني كثير من الآيات لأنها قاعدة ضرورية!
كيف تقولون إنه من أصول الدين مع قولكم: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يذكره ولم يتعرض له ولم يأت به؟!
فلازم كلامكم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بلغ، وقد خان الأمانة والرسالة عياذاً بالله، وبذلك نفهم أهمية توثيق قضايا العقيدة التي خالفت فيها الفرق، وترتيبها وإرجاعها إِلَى القضايا المحكمة.
ولذلك قال الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب رَحِمَهُ اللَّهُ في كشف الشبهات: "إن العامي الموحد يغلب الألف من الْمُشْرِكِينَ أو من أصحاب البدع ".
لأنه وإن كَانَ عامياً، وعلمه محدود، لكنه يرجع القضايا المشتبهة الشائكة التي يخوض فيها العلماء إِلَى قضايا واضحة وأصول وضوابط محكمة.
فنرد المتشابهات أو المشكلات إِلَى المحكم الواضح الجلي، فإن جَاءَ أحد وقَالَ: نؤول هذه، أو نترك هذه، فعندنا كلمة عامة محكمة وهي: ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنا به، وهكذا ...
فمن جاءنا وقَالَ: هذه زيادة نعمل بها، ولم يعملها بها الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ولم يأت فيها شيء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالجواب عليه أنه: ما دام كذلك فهي ليست من الدين ولا أجر فيها ولا ثواب، بل فيها العقوبة والرد (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) .(1/67)
وهذا ينطبق عَلَى ما وضع من قواعد علم الكلام، والبدع العملية والفرعية، بل كل بدعة ابتدعت فهي داخلة فيما أحدث بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والافتراق لم يقع في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يكن هناك معتزلة أومرجئة.
لكن كيف تفرقت الأمة؟ وكيف ظهرت هذه البدع؟
ورد الحديث بذكر ذلك، وإن كَانَ بعضهم يطعن فيه، لأنه ليس في الصحيحين، وإنما ورد في المسند، وعند ابن أبي عاصم، وفي السنن في روايات كثيرة: (إن هذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النَّار إلا واحدة) وبعضها تذكر (إن اليهود افترقت عَلَى إحدى وسبعين فرقة والنَّصَارَى افترقت عَلَى اثنين وسبعين فرقة، وهذه الأمة تفترق عَلَى ثلاث وسبعين فرقة) وبعضها لا يذكر زيادة (كلها في النَّار إلا واحدة) وبعض الروايات تذكر صفات الفرقة الناجية وأنها (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) .
الشاهد أن مجموع الروايات تدل عَلَى صحة الحديث، حتى إن بعضهم عده من الأحاديث المتواترة مع أنه ليس في أحد الصحيحين، لكن الافتراق في ذاته ثابت وواضح من أدلة قطعية غير هذه الألفاظ، وغير هذه الروايات التي وردت في الحديث.
من أسباب الاختلاف نسيان الحظ
ونحن نعلم جميعاً أن اليهود والنَّصَارَى افترقوا إِلَى حد الاقتتال، وأنهم كما قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَر [البقرة:253] فهم اختلفوا وتفرقوا بغياً بينهم فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [المائدة:14] .
وأخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن اليهود والنَّصَارَى اختلفوا، وأخبرنا في هذه الآية من سورة المائدة أن سبب اختلاف النَّصَارَى أنهم نسوا حظاً مما ذكروا به.(1/68)
ولو أخذنا هذه الآية فإنها تفسر لنا كثيراً جداً جداً من أسباب وقوع الخلاف بين الْمُسْلِمِينَ، كيف أنهم لما نسوا حظاً مما ذكروا به وقعت العداوة والبغضاء بينهم.
ونطبق هذه الجملة القرآنية عَلَى هذه الأمة، ونعرف أن هذه الأمة افترقت، بسبب "نسيان الحظ" وذلك بآيات وأحاديث الوعيد مثلاً:
ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى الوعيد فيمن قتل وزنى وسرق: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:68-69] وجاء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ... إلخ) ، وجاء في الحديث الآخر: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) .
وهكذا نصوصٌ كثيرة في مقام الوعيد، فجاءت الخوارج فأخذت حظاً مما ذكروا به، حيث أخذوا بأحاديث الوعيد فقط، وَقَالُوا: إذاً من ارتكب كبيرة فهو كافر خارج من الملة، وتركوا الأحاديث والآيات التي تفسرها وأخذوا حظاً مما ذكروا به وتركوا الحظ الآخر، مع أنهم لو أخذوا هذا وهذا لفهموا ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان دعواهما واحدة) ، فقد فُسِّر ذلك بأنه ما كَانَ من قتال في عهدعَلِيّ ومعاوية، وشهد لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان والإسلام مع وقوع القتال، وفي آية الحجرات يقول تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فالقتال يقع بين المؤمنين ولا يخرجهم من الملة، نعم هو كبيرة وعليها وعيد شديد، ولكن لا يخرج من الملة.(1/69)
وأخذت المرجئة حظاً آخر مما ذكروا به، فأخذوا بآيات وأحاديث الوعد: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) ، فأخذوا بروايات مطلقة مع وجود روايات تقيدها وتفسر معناها وتدل عليها، منها تكفير تارك الصلاة مثلاً: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر) (بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة) ، فتركوا جانب الوعيد كله، وأخذوا بجانب الوعد فقط.
وفي موضوع الصفات: فإثبات صفات الله عَزَّ وَجَلَّ جاءت في آيات كثيرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا كيف نؤمن بصفات الله عَزَّ وَجَلَّ وأنها عَلَى جانبين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] نفي وإثبات لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ هذا جانب نفي وتنزيه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ هذا جانب إثبات لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فجاءت المعطلة فأخذوا بجانب النفي والتنزيه فقط، وقالوا لا يسمع ولا يبصر، وليس له يد ولم يستو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وإذا أثبتنا اليد والعين والنزول والرؤية، أصبح الإله من المخلوقات الممكنات، وأصبح له أعضاء والعياذ بالله، فقدموا أموراً لم ترد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وقالوا نَحْنُ ننزه الله وننفي هذه كلها، ولو كانت في الكتاب والسنة، فإننا نأولها ونردها وننفيها حتى ننزه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عنها، فأخذوا حظاً مما ذكروا به لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ بمثل هذه الآيات.(1/70)
وبالمقابل جاءتالمشبهة ونسوا حظاً مما ذكروا به، وتركوا الآيات التي جاءت في تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأثبتوا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصفات كما يليق بالمخلوق -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- مشابهين في ذلك لليهودعندما قالوا: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى -كما هو مذكور في التوراة- خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع والعياذ بالله!
فجعلوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتعب ويلغب، كما يلغب ابن آدم إذا عمل عملاً ما، ولذلك نفى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك فقَالَ: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] أي: لم يمسنا التعب ولا النصب ولا اللغب، وردّ عليهم، فجاء هَؤُلاءِ المشبهة، وأخذوا من اليهودالتشبيه وزادوا عليهم فَقَالُوا: له يد كيدنا، فجعلوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مثل صفات المخلوق.
فإذا قال لهم أُولَئِكَ المعطلة: أنتم شبهتم، قالوا: أنتم عطلتم، لذا قال السلف الصالح: المعطل عابد عدم، والمشبه عابد صنم، فالمعطل عابد عدم لأنه يقول: إن الله تَعَالَى لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا يمينه ولا شماله، وليس له يد، وليس له عين، وليس له أي صفة من الصفات، ولا يسمع ولا يبصر.
إذاً: فهذا معدوم غير موجود، فالمعطل عابد عدم، ولكن المشبه عابد صنم لأن الذي يقول يد الخالق كيد المخلوق، ووجهه كوجه المخلوق، وقدمه كقدم المخلوق، فإنما هو يعبد صنماً، لأن الأصنام نحتت لكي تعبد من دون الله، لكي يقَالَ: هذا هو الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والشاهد أن سبب الخلاف بينهما هو أن هذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي حظاً، وهذا أخذ حظاً مما ذكر به ونسي الحظ الآخر، فأغرى الله بينهما العداوة والبغضاء.(1/71)
فتجد في كتب المعطلة أنهم يكفرون المشبهة، وفي كتب المشبهة يكفرون المعطلة، وفي كتب المرجئة يكفرون الخوارج، وفي كتب الخوارج يكفرون المرجئة، أغرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بينهم العداوة والبغضاء، وهذا من أعظم أسباب الاختلاف أن لا يؤخذ الكتاب كله ولا يتلقى العلم والدين كله من عند الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكذلك الشهوات وحب الدنيا
ومن أسباب الاختلاف: "الشهوات وحب الدنيا" فإن حب الدنيا يفسد النية والإرادة، وإذا فسدت الإرادة ودخل الدخن إِلَى القلب، فإن الأعمال تفسد، ويترتب عَلَى فساد الأعمال فساد في الاعتقاد، وأسباب ذلك تبدأ بسيطة لكنها فيما بعد تظهر وتبدو، حتى تكون منهجاً من المناهج.
فحب الدنيا كَانَ من عوامل الإفساد بين الْمُسْلِمِينَ، ومن عوامل تفرق الْمُسْلِمِينَ وهلاكهم كما جَاءَ في الحديث الصحيح، لما جَاءَ أبو عبيدة من البحرين بالغنيمة أو الجزية إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقَالَ: (لعله بلغكم ما جَاءَ به أبو عبيدة من هجر) ومع ذلك قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر الحديث: (فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم) فالتنافس في الدنيا والتفرق فيها يؤدي إِلَى التفرق في الدين.
ولذلك لما قام بعض النَّاس يريد الخلافة وينازع فيها تفرقت الأمة الإسلامية، حتى أصبح لهم في عام (72 أو 73) أربعة أمراء للحج، حجت طائفة مع بني أمية تحت راية بني أمية في يوم عرفة، وحجت طائفة تحت راية المختار بن أبي عبيد، وحجت طائفة تحت راية عبد الله بن الزبير، وحجت طائفة للخوارج تحت راية نافع بن الأزرق، أربع رايات للحج في وقت واحد وفي يوم واحد يوم عرفة بعد حوالي "60 سنة" من وفاة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!(1/72)
وذلك لأجل الأهواء والشهوات وحب الدنيا والتنازع عَلَى الملك.
كما قال أبو برزة في الحديث الذي رواه البُخَارِيّ، قَالَ: "والله إني لأحتسب عند الله أني أصبحت ساخطاً عَلَى هذا الحي من قريش، إن هذا الذي في العراق إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن هذا الذي هنا إنما يقاتل عَلَى الدنيا، وإن أُولَئِكَ -يعني القراء الخوارج - إنما يقاتلون عَلَى الدنيا ".
فحب الدنيا كَانَ من أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ وتنازعهم واختلافهم.
وكذلك دخول الحاقدين
ومن أسباب تنازع الْمُسْلِمِينَ واختلافهم: دخول الحاقدين، وهذا عامل خارجي، والعامل الخارجي لا يأتي إلا عقوبةً لخلل داخلي، كما أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عاقب في يوم أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] .
فكانت العقوبة بسبب ما عند النفس من الذنوب كما جَاءَ في الآية الأخرى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة [آل عمران:152] فبسبب فساد الإرادة، أو بسبب الخلل الداخلي تأتي العقوبة الخارجية، وتسليط الأعداء، وإلا فقد قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً [آل عمران:120] ، فأعداؤنا يكيدون علينا ليل نهار دائماً، فإذا تحدثنا عن أي مصيبة أصابت الْمُسْلِمِينَ قلنا هو بسبب الأعداء، فالشيوعيون والصليبيون واليهود يخططون ويعملون ضدنا.. وهكذا وكأننا قوم مؤمنون صالحون متقون، ولكن هَؤُلاءِ آذونا وامتحنونا وفعلوا بنا!
سُبْحانَ اللَّه!! لماذا لا ننظر إِلَى السبب الأعظم؟ وهو لماذا سلطهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى علينا؟
لأنه لا تقوى ولا صبر لدينا، ولذلك سُلطوا علينا فضرنا كيدهم وأثر فينا، ولله في ذلك حكمة.(1/73)
فاليوم أكثر الْمُسْلِمِينَ يوالون الكفار مع هذه المخططات الواضحة الجلية، فبالله كيف يكون الحال لو أن كَانَ الكفار لا يخططون ضدنا؟
إذاً لحييناهم ولقبلناهم وبششنا عَلَى وجوههم.
ولذلك شاء الله أن يكون مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهو من أكبر الفجائع في التاريخ الإسلامي، عَلَى يد رجل مجوسي لنعتبر، وعندما جيء به ليحقق معه، شهد بعض الصحابة بأننفيلة النصراني والهرمزان، وهما من ملوك العجم جاءا وأظهرا الإسلام في المدينة، واتفقا مع أبي لؤلؤة المجوسي، ورآهم قبل ذلك بليال وهم يتحدثون، وسقط بينهم السيف الذي له نصلان، وهو الذي استخدم في قتل عمر الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
فالنَّصَارَى والمجوس اتفقوا وبيتوا المؤامرة لمقتل عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، واكتشف الْمُسْلِمُونَ هذه المؤامرة ليعرفوا أن لهم أعداءً، وأن العداوة هذه لن تخمد أبداً، وليحتاطوا من أمثال هَؤُلاءِ.
واليهود وضعوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السم في الشاة -كما جَاءَ في الحديث الصحيح- الشاة المسمومة التي أكل منها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قالت الذراع: إنها مسمومة، أنطقها الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/74)
فهم ألد أعداء الإسلام كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82] ولذلك جَاءَ اليهودي عبد الله بن سبأ وأثار الفتنة عَلَى عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ليكمل الدور الذي قام به أبو لؤلؤة المجوسي عليه، ولما حرقعَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ هَؤُلاءِ الزنادقة وكانوا من طائفة عبد الله بن سبأ اليهودي، هرب عبد الله بن سبأ ولجأ إِلَى بلاد فارس، حيث بذر الفكر المجوسي، فالتقى الفكر المجوسي مع الفكر اليهودي، وبذروا الفكرة التي أصبحت تؤلّه علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لأن علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إنما حرقهم عندما قالوا: أنت أنت.
قَالَ: من أنا؟
قالوا: أنت الله.
فقال رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً
قَالَ: أوقدوا لي نيراناً فأحرقوهم، فهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد فارس، وبذر هذه الفكرة في نفوس العجم، وأوجدت الدين السبئي الذي لا يزال قائماً حتى الآن.
فمن أسباب تفرق الْمُسْلِمِينَ، وظهور هذه الفرق، هو المكر اليهودي والنصراني والمجوسي.
وسنأتي أيضاً للتعرف عَلَى هذه الطائفة وغيرها عندما يأتي -إن شاء الله تعالى- الحديث عن الصحابة وما الذي يجب اعتقاده في حقهم رضوان الله عليهم؟
فالمغرور والمخدوع من يظن أن هذه الطوائف الحاقدة التي أنشأها أعداء الإسلام، وبذروها في بلاد الْمُسْلِمِينَ، وفرقوا بها صف الْمُسْلِمِينَ-أنها يمكن أن تحب وتوالي الإسلام والْمُسْلِمِينَ، فإنها قامت عَلَى الحقد وبه تتغذى.(1/75)
والفرق والطوائف المبتدعة المنحرفة تعتمد في تكونها وتركيبها وتجميع أفرادها عَلَى معادة أهل الحق -الطائفة الكبرى- فليس هناك قضية عقلية خاصة، أو بحث نظري مجرد يجمعها، أو هو الذي أعطاها منهجاً، وإنما الذي يجمعها هو العداوة لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، أهل الحق، فيربون أنفسهم وأبناءهم وأجيالهم عَلَى الحقد عَلَى الطائفة الحق، لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أو الطائفة المنصورة التي قال عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين عَلَى الحق لا يضرهم من خذلهم) وفي الرواية الأخرى: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون عَلَى النَّاس) وفي رواية من حديث جابر في صحيح مسلم زيادة مهمة أو تفسير مهم وهي: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من الْمُسْلِمِينَ حتى قيام الساعة) ففيها زيادة أن هذه الطائفة تجاهد النَّاس من أجل إقامة هذا الدين.
وجهاد أهل البدع مشروع بالأحاديث المتواترة في قتال الخوارج، فهم من أهل البدع، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الصحيح المتواتر كما قال بعض العلماء: (لو أدركتهم لقتلتهم قتل عاد) .(1/76)
ومن هنا أخذ العلماء قاعدة عظمى وهي: "مقاتلة أهل البدع" وهي أن حكم أهل البدع؛ المقاتلة إذا تميزوا وأصبحوا طائفة، وأما إذا بقوا في المجتمع فإنه يجب علينا أن نكبتهم ونمنعهم من نشر بدعهم والدعوة إليها، ومع ذلك نعطيهم أحكام الإسلام الظاهرة عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -لما لجأوا إِلَى جنبات المسجد وَقَالُوا: لا حكم إلا لله، لا حكم إلا لله، فقال-: إن لكم علينا ألاّ نمنعكم البيت، ولا نمنعكم المساجد، يعني تصلون معنا وتأخذون حصتكم من الفيء من بيت مال الْمُسْلِمِينَ، إلاّ إذا أحدثوا حدثاً، أي: إذا عملوا عملاً يخل بأمر المجتمع المسلم والجماعة المسلمة، وأحكام أهل البدع طويلة ولعله يأتي بعضها إن شاء الله.
والطائفة المنصورة هي التي عَلَى مثل ما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، كما فسرتها روايةالتِّرْمِذِيّ: (ما أنا عليه اليوم وأصحابي) ولما سئل الإمام أَحْمَد عن الطائفة المنصورة قَالَ: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم) وذلك أن لأهل الحديث مصطلحين:
مصطلح علمي.
ومصطلح شرعي.
فالاصطلاح العلمي المراد به هم الذين يشتغلون بدراسة الحديث، ونقد الرجال والمتون ومعرفتها وتخريجها، فهَؤُلاءِ يسمون علماء الحديث، كما تقول علماء النحو، وعلماء البلاغة، وعلماء اللغة، وعلماء التفسير، وليس هذا هو المعنى المراد من الإمام أَحْمَد، لأنه يوجد من المحدثين من هو عَلَى بدعة خاصة في القرون الأخيرة، ويوجد من المشتغلين بالرجال ودراسة الأسانيد من لا يمثل عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ حق التمثيل.
والاصطلاح الشرعي: هم الذين يأخذون بالأحاديث ويعملون بها.(1/77)
ولذلك أطلق السلف عَلَى الذين لا يأخذون بالحديث والأثر من طوائف أهل البدع: أهل الكلام وأهل الجدل، لأن بدعهم لا تقوم عَلَى دليل من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما تقوم عَلَى الجدل وعلم الكلام، فبقيت الطائفة المنصورة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ يأخذون بالأحاديث.
ولذلك يُسمون: أهل الأثر وأهل الحديث، أي: المتبعون لِمَا كَانَ عليهِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه؛ فكلام الإمام أَحْمَد إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري منهم" أي المتبع للأثر، حتى وإن كَانَ من أهل اللغة، فقدماء أهل اللغة عموماً النضر بن شميل والخليل بن أحمد وأبو عبيد القاسم بن سلام من علماء اللغة والحديث هَؤُلاءِ من أهل اللغة وهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أيضاً.
فأهل الحديث المراد بهم أهل الأثر المتبعون لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلى هذا نستطيع أن نفهم أن الطائفة المنصورة هي المتبعة لما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وهي الناجية الوحيدة، وهي التي قامت بإبلاغ ونقل ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذا يقول المصنف: [وممن قام بذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ] .
فقد نقل عقيدة السلف، وبالذات عقيدة الإمام أبي حنيفة وتلميذيه، وهكذا كل من يأتي ويتكلم في عقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ إنما ينقل كلامهم ويشرحه ويوضحه، ولو جاءنا أحد بشيء من عنده لرددناه كما نرد عَلَى أهل البدع، فهذا هو الطريق المتبع وهذا هو طريق أهل الأثر.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/78)
[وكلما بعد العهد ظهرت البدع، وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلاً ليقبل، وقلّ من يهتدي إِلَى الفرق بين التحريف والتأويل، إذ قد سُمِّى صرف الكلام عن ظاهره إِلَى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلاً، وإن لم يكن ثَمَّ قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلاً قُبل وراج عَلَى من لا يهتدي إِلَى الفرق بينهما. فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إِلَى إيضاح الأدلة، ودفع الشُبَه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إِلَى شُبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه، والاشتغال به والإصغاء إليه، امتثالاً لأمر ربهم، حيث قال: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه [الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم. وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين واتباع ما أنزله الله عليهم وقد ختمهم الله بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعله آخر الأَنْبِيَاء وجعل كتابه مهيمناً عَلَى ما بين يديه، من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب، والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والأنس، باقية إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وانقطعت به حجة العباد عَلَى الله، وقد بين الله به كل شيء وأكمل له ولأمته الدين، خبراً وأمراً وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إِلَى غيره، وأنهم إذا دعوا إِلَى الله والرَّسُول -وهو الدعاء إِلَى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدوداً وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا.(1/79)
وكما يقول كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نُحس الأشياء بحقيقتها، أي: ندركتها ونعرفها ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقية جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرَّسُول أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة.
وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين يما يدعونه من الباطل الذي يسمونه: حقائق وهي جهل وضلال وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة والتوفيق بينها وبين الشريعة ونحو ذلك.
وكل من طلب أن يُحكم في شيء من أمر الدين غير ما جَاءَ به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جَاءَ به الرَّسُول وبين ما يخالفه، فله نصيب من ذلك، بل ما جَاءَ به الرَّسُول كافٍ كاملٌ يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلموا ما جَاءَ به الرَّسُول في كثير من الأمور الكلامية الاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الأمارة السياسية، أو نسبوا إِلَى شريعة الرَّسُول بظنهم وتقليدهم ما ليس منها وأخرجوا عنها كثيرا من ما هو منها.
فبسبب جهل هَؤُلاءِ وظلالهم وتفريطهم وبسبب عدوان أُولَئِكَ وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة.
بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل في ما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُعلم ويعتقد ويعمل به ظاهراً وباطناً، فيكون قد تُلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء] اهـ.
الشرح:
كلما بعد العهد كثرت الانحرافات والتأويل الذي سماه أهله "تأويلاً" فإن من المعلوم أنه قد كثر التعطيل والتشبيه.
التأويل(1/80)
والتأويل هو أصل به هُدمت الشريعة، ويوضح ذلك: أن الذين ينفون صفات الله عَزَّ وَجَلَّ كالمعطلة والباطنية والرافضة، وأمثالهم من الذين يضربون كتاب الله بعضه ببعض، هَؤُلاءِ هم قوم مجاهرون ومعادون لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بوضوح، ويعادون الأمة الإسلامية وجماعة الْمُسْلِمِينَ، ويعادون الأصول الشرعية، فيردون الآية والحديث، وأمرهم واضح جلي، لكن المؤول أخطر وجنايته أكثر، لأنه يقول: أنا أؤمن بالآية والحديث، ويقول: أنا من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهكذا يدعي المؤولون: أنهم من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
والتأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إِلَى المعنى المرجوح قرينة،
والتأويلات كثيرة جداً، وبعضها مضحك، وبعضها يستدعي التعجب، فمثلاً بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [ص:75] هنا "يدَي"، وهناك "يداه"، فالمؤول يقول: نؤول اليد، مع أن ظاهر اليد صفة معروفة.
فالذين يثبتون لله عَزَّ وَجَلَّ هذه الصفة يقولون: اليد حقيقية تليق بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا نعرف كيفيتها، فيقول المؤولة هذا الظاهر، ونحن مسلّمون بأنه ظاهر اللفظ وأنه تدل عليه الآية، لكن نصرف هذا الظاهر إِلَى وجه واحتمال مرجوح، وهو أن لفظة اليد معناها النعمة أو القدرة، لقرينة وهي: تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ، فالقواطع والبراهين العقلية دلت عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منزه عن الجارحة.
فهناك قواعد عقلية وضعوها هم:
منها: أن الله ينزه عن الجارح، واليد جارحة، فتنفى عن الله ويصرف اللفظ من الاحتمال الراجح المتبادر الذي يعرفه كل من يقرؤه إِلَى احتمال مرجوح يقال فيها بوجود القرينة، وهي البرهان العقلي الذي قام عَلَى تنزيه الله تعالى.(1/81)
وأولوا وحرفوا بتأويلات عجيبة، نذكر فقط بعض الامثلة، ففي الحديث الصحيح: (لا تزال النار تقول هل من مزيد حتى يضع الله تَعَالَى قدمه في النار) وروايات كثيرة في أن النَّار لا تمتلئ حتى يضع الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها قدمه، وفي رواية: (رجله) كلها في صحيح البُخَارِيّ ومسلم، (يضع الله تعالى قدمه في النَّار فتقول: قط قط) وفي إحدى الروايات كلمة (الجبار) وفي روايات كثيرة: (يضع الله) (يضع الرحمن) فَقَالُوا: الجبار إما أنه أحد الملائكة اسمه "الجبار"، وإما أنه أحد الظلمة من أهل الأرض، فلا تمتلئ حتى يضع هذا الجبار الطاغوت قدمه أو رجله في النار، فتقول: قط قط قد امتلأت.
وهذا تأويل أبي المعالي الجويني، وقد رجع عن ذلك، وتبعه عليهأبو حامد الغزالي، وهو موجود في كتابه المصقول في علم المعقول، وهم قالوا بذلك هروباً من أن يقولوا: هو الله عَزَّ وَجَلَّ.
والروايات الأخرى التي فيها (الله، الرحمن) قالوا: عندنا قرينة وهي: أن الله ينزه عن الأبعاض والجوارح، وهذا قد قامت عليه البراهين العقلية والأدلة القطعية من العقل، فتنفى.
وحديث الحبر اليهودي، رواه الإمام أَحْمَد والبُخَارِيّ ومسلم وغيرهم، أنه جَاءَ إِلَى النبي وقَالَ: (أما علمت يا مُحَمَّد أن الله يَوْمَ القِيَامَةِ يضع السماوات عَلَى إصبع، والأرضين عَلَى إصبع، والثرى عَلَى إصبع، والشجر عَلَى إصبع، وبقية الخلائق عَلَى إصبع) وفي رواية الإمام أَحْمَد: (أنه يضع الأرض عَلَى ذه وأشار إِلَى السبابة) ثُمَّ استمر في بقية الأصابع.
وفي الحديث: (فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله) هكذا نص الحديث "على إصبع" فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقاً لقوله.(1/82)
ومثله الآية: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] ، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك تصديقاً لقوله، وأن هذا حق، لكن كيفية الصفة غير معلومة لنا، فله من الصفات ما يليق به كما أن للمخلوق ما يليق به.
وأما المؤولة فقالوا هذا الحديث يؤول، وذلك كابن فورك، فإنه قَالَ: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك تعجباً من تشبيه هذا الكافر اليهودي.
فيقال هل ضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تعجباً من كفره؟!!
تأويلات غريبة ليس عليها أي دليل، إلا أنه كما قالوا: قامت القواطع والبراهين العقلية عَلَى أن هناك قرينة تمنعنا من أن نقول بظاهر هذا اللفظ.
ومن الأدلة عَلَى بطلان التأويل، ما قاله: أبو المعالي الجويني نفسه -شيخ الغزالي - في آخر عمره لما رجع عن الأشعرية، وقد كَانَ إمامهم، وألف كتاباً سماه الرسالة النظامية "إني اطلعت فرأيت السلف مطبقين عَلَى عدم التأويل مع كثرة اهتمامهم بفروع الشريعة، فلما رأيتهم قد نقلوا إلينا الشريعة كاملة، وأنهم أكثر منا اهتماماً بأصول الشريعة وفروعها، ورأيتهم مطبقين عَلَى عدم التأويل، علمت أن التأويل غير حق، فتركت التأويل ".
خطر التأويل
ينبغي أن نعرف خطر التأويل، فإنه أخطر من قضية الأسماء والصفات، وإن كانت الأسماء والصفات تتعلق بالله عَزَّ وَجَلَّ وتوحيده، وهي ركن عظيم من ديننا، لكن القول بالتأويل، نقض للدين كله أصوله وفروعه.(1/83)
فاالروافض والباطنية قيامهم وتعلقهم وتطاولهم إنما هو بسبب انتشار التأويل بين الْمُسْلِمِينَ، تقول الرافضة: إن الله أمرهم أن يذبحوا عَائِِِشَةَ بنت أبي بكر، ولكنهم عصوه وأمّروها عليهم، وأركبوها جملاً، وذهبوا بها لتحارب أمير المؤمنين على بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في معركة الجمل.
والدليل عَلَى ذلك إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] فهل يُعقل أن الله تَعَالَى وهو العظيم الجليل يأمر في القُرْآن بذبح بقرة من التي تمشي في الأرض؟ لا. وإنما المسألة أعظم من ذلك.
قال أهل السنة: هذه ليست في أم المؤمنين، وإنما هي في اليهود من بني إسرائيل، لأن موسى قال لقومه: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
وقالت الباطنية للمسلمين: لماذا تصلون وتصومون وتحجون؟
قالوا: هذا ديننا، وهي من أركان الإسلام.
فقالوا: هذه نؤولها عن ظاهرها، فالصلوات الخمس: عَلِيّ وفاطمة والحسن والحسين والإمام المنتظر، وتأويلنا هذا ليس بناءً عَلَى قرينة عقلية، بل بناءً عَلَى خبر يقين.
وَقَالُوا: الإمام الغائب الذي في السرداب، وهو الإمام المعصوم هو المصدر العلمي اليقيني عندنا، وينقله إلينا الباب، فالباب ينقل كلام الإمام الغائب الذي في السرداب إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، فنحن نتكلم بيقين، لأن هذا الإمام المعصوم ينقل لنا الكلام عن طريق الباب، والباب يعطي الحجاب، والحجاب أو نواب الأمير ينقلون إلينا هذه المعاني، فعرفنا أن الصلوات الخمس هي هذه الأسماء الخمسة.
والصوم هو: أن يحفظ أسرار الطائفة، والحج: أن تقصد الأئمة وتتلقى عنهم وحدهم، فما هناك طواف بالكعبة، ولا هناك حجر.
وكذلك الفلاسفة أولّوا كما أولّ الرافضة والباطنية، فقالت الفلاسفة: إن البعث لا حقيقة له.(1/84)
فقيل لهم: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبر بالبعث في كتابه، والأحاديث الصحيحة ذكرت البعث ووضحته، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحشر النَّاس يَوْمَ القِيَامَةِ حفاة عراة غرلا، وتدنوا منهم الشمس فيكلمهم ليس بينهم وبينه ترجمان.
فقالوا: هذا البعث حشرٌ روحاني للأرواح فقط، ولا تعاد إِلَى البدن، لأن العقل يدل عَلَى أن هذا محال، وأن هذه الجثة بعد أن دخلت الأرض وصارت هباءً لا تعود حية.
ونعيم الجنة نعيم روحاني فقط، وهذا الكلام يكفرهم به المؤولة وغير المؤولة، فالْمُسْلِمُونَ جميعاً يكفرون من يقول بهذا الكلام حتى المؤولة يكفرونهم.
لكن يرد الفلاسفة عَلَى المؤولة فيقلون: أنتم أوّلتم اليد والاستواء ونحن نؤول البعث أيضاً.
قال المؤولة نحن أولّنا بقرينة.
قال الفلاسفة: ونحن عندنا قرائن عقلية مثل ما عندكم قرينة عقلية، فالقواطع والبراهين العقلية تدل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يتصف بهذه الصفات، وهو منزه عنها.
هذه جناية التأويل وخطره عَلَى عقيدتنا، فلو فتحنا هذا الباب فمن يسده؟ وإذا أوّلنا وأوّلت جميع الطوائف فماذا بقي من القُرْآن والدين؟
فهذا التأويل قبل وراج لما سمي تأويلاً، وإلا فهو تحريف، فالله تَعَالَى يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ويقول المؤولة: الرحمن عَلَى العرش استولى زيادة تأويل، لكنه يحول ويغير المعنى، وإن كانوا لم يغيروا الآية، فهم لم يزيدوا في الآية إلا "لام" لكن إذا تركوها بهذا المعنى لم يبق من حقيقة الآية إلا ما هو مكتوب في المصحف فقط، أما ما تفهم به فهو المعنى الذي وضعوه، وهو بزيادة اللام.
سبب التأليف في العقائد
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [من أجل ذلك احتاج المؤمنون إِلَى دفع الشبه] أي: من أجل انتشار التأويل وأمثاله، احتاج المؤمنون إِلَى التأليف في العقيدة، ليردوا عَلَى هذه العقائد.(1/85)
والأصل هو كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ والسنة، وهذا ما كَانَ عليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فاضطرنا هَؤُلاءِ أن نسلك هذه الطريقة وذلك لما كثرت البدع والتأويلات والانحرافات، فبدأنا نضطر أن نقاوم هذه البدع، ونبينها ونكشفها، لا نكتفي ببيان الحق، وإنما نبين ما يضاده من الباطل.
ثُمَّ يقول: [وكلٌ من التحريف والانحراف عَلَى مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ ... ] .
هذه قاعدة مهمة، وهذا من إنصاف المُصْنِّف وعدله رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] .
مراتب التأويل
للتأويل ثلاث مراتب: قد يكون التأويل كفراً، مثل التأويلات الباطنية، وتأويلات الفلاسفة، وبعض التأويلات الكفرية، وبعض تأويلات الرافضة، كمن يؤول الصلوات الخمس بأنها الأئمة الخمسة، ويؤول الصوم بأنه حفظ الأسرار إِلَى غير ذلك، هذا التأويل كفر يخرج من الملة.
وقد يكون معصية يخرج صاحبه إِلَى البدعة، يُحكم عَلَى صاحبه أنه مبتدع ومُنحلٌ، وذلك مثل التأويلات التي ذكرناها -تأويل صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مع نية تنزيهه.
وقد يكون خطأً، فبعض النَّاس لا يتعمد التأويل، وهذا موجود حتى في بعض كتب التفسير لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.، وكتب الحديث لـ أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عندما يؤول بعض الصفات خطأ، فهذا لا يخرجه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
فبعض علماء الْمُسْلِمِينَ المعتبرين قد يخطأ ويؤول بعض الصفات، فهذا خطؤه مغفورٌ له إن شاء الله، فقد يخطأ بعض الأئمة في فهم بعض الأحاديث في الصفات مع سلامة المنهج.(1/86)
وأما من كَانَ منهجه وأصوله بدعية، فهذا من أهل البدع المتوعدين بعقوبة الله، إلاّ أن يتوب أو يغفر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له، ولا نقطع له بجنة ولا نار.
والتأويل المكفر، الذي ذكرنا إنما عد كفراً لأنه مضادة للقرآن، وتعمد في تحريفه كما تعمدت اليهود، لما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىوَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ [البقرة:58] فقالت اليهود: "حنطة".
قال بعض العلماء: النون التي زادها اليهودفي "حطة" وجعلوها "حنطة" مثل: اللام التي زادها المؤولة، فقالوا في استوى: "استولى" هذا وجه الشبه بينهم، فالذي يزيد بنية المضادة أو الاستهزاء أو المحادة، فهذا يصبح من التأويل المكفر، أما الذي زاد لاعتماد أصول بدعية، فهو يدخل في باب التأويل المذموم المبتدع المتوعد عليه، وأما الذي أصوله صحيحة، لكن يقع منه خطأً كما يقع من سائر العلماء في سائر النصوص والأحاديث، فهذا يسمى خطأ، وهذا نرجو ألاّ يؤاخذ عليه عند الله تعالى، أما في الدنيا فنبين له؛ لأن الله تعهدنا بأن نبين الحق، وليس كلام أحد حجة وصواب إلا كلام مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما من عداه فإن كلامه يُبيّن وخطأه يوضح، دون أن ننتقص من قدره، ولا نخرجه من دائرة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
تاريخ ظهور البدع(1/87)
وهذه الفرق انشقت عن الجماعة، وخالفت قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه [الأنعام:153] فاتخذت دينها شيعاً، وتفرقت عن الدين، وأقدم هذه الفرق على ما يظهر لي هي الخوارج، لأن فكرة الخوارج بدأت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حين (كان النبي يقسم غنائم حنين، فكان يعطي المؤلفة قلوبهم، ويترك بعض المهاجرين والأنصار، حتى وجد بعض الأنصار في أنفسهم) ، فكان بعض الأعراب يذهب بالألف أو الألفين من الغنم والإبل، فخرج منهم رجل له كساء، غائر العينين، شعث الشعر -كما في الحديث- (فقَالَ: اعدل يا محمد! إنها لقسمةٌ ما أريد بها وجه الله -والعياذ بالله- فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل؟) فهو الذي شرع شريعة العدل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلمنا إياها من عند ربه عَزَّ وَجَلَّ، ولكن هذا من ضيق لبه وجهله وقلة علمه، وعدم مراعاته للمقاصد والأحكام التي يراعيها الشارع في أحكامه فقد رأى أن هذه القسمة ليست عادلة، فاعترض عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) لما اتهمه قومه بأنه آدر، فما زالوا يتهمونه حتى برأه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكذب قولهم، وغير ذلك مما أوذي به موسى عَلَيْهِ السَّلام.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر) ، ثُمَّ قَالَ: (يخرج من صلب هذا أقوام تحقرون صلاتكم إِلَى صلاتهم، وقراءتكم إِلَى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) .(1/88)
وثبت قوله في أحاديث كثيرة في قتال الخوارج (لئن أدركتهم لأقتلنهم) فأول فرقة مستقلة لها غاية، وتجمع كانت هي الخوارج. ومن مبادئهم التكفير بالذنب، وهم أصحاب الوعيد، حيث يأخذون الوعيد ويتركون الوعد، فيكفرون الزاني وشارب الخمر والسارق ونحو ذلك.
ويجاب عن ذلك أن الله قد جعل للمرتد عقوبة القتل، وللزاني الرجم، فإن كَانَ بكراً فعقوبته الجلد، وللسارق عقوبة القطع، فلو كَانَ الجميع يكفرون لكان الحد واحداً وهو القتل، والردود عليهم كثيرة.
وخرج هَؤُلاءِ في عهد عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما حكّم الحكمين، فَقَالُوا: لا حكم إلاّ لله، حكمت الرجال في دين الله؟ فخرجوا وأمّروا عليهم عبد الله بن وهب الواحدي وقيل غيره، لكن هذا الذي اشتهرت إمرته، ورفضوا بيعة عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: لا نبايع إلاّ مثل عُمَر، وإلاّ فلن نبايع، فبايعوا عبد الله بن وهب، وهو أعرابي جلف ليس له صحبة، ولا شهد له الله بخير كما يقول ابن حزم.
وظهرت الشيعة بمبدأ التعطيل، كفكرة أولى هي موجودة في أمثال عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أسس دينالشيعة منذ أن أثار الفتنة عَلَى عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فبداية الفرقة موجودة، لكن ظهرت كفرقة واضحة عندما خرج الخوارج وكفّروا علياً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أقسام الشيعة
الشيعة ثلاثة أقسام:
" الغالية، المؤلهة " الذين غلوا في عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَالُوا: أنت أنت.
قَالَ: من أنا؟
قالوا: أنت الله، وسجدوا له -والعياذ بالله-.
وهَؤُلاءِ أمر عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بإحراقهم، وهرب عبد الله بن سبأ إِلَى بلاد العجم، وهناك بدأ الدين السبئي.(1/89)
الفرقة الثانية: "السبّابة": الذي يسبون ويشتمون الشيخين، فهم لم يخرجوا من الإسلام ولم يؤلهوا علياً، ولكنهم سبوا الشيخين رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وقد قال بعض الأئمة: إن سب الشيخين كفر لأن هذين كما قال علي بن الحسين زين العابدين الذي رفضته الرافضة قَالَ: كيف أسبهم وهما وزيرا جدي؟
فالذي يسب وزيري النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد سب النبي، والذي يقول: إن أبا بكر عدو للإسلام فهو متهم لرَسُول الله، ومتهم للأمة كلها.
كيف يكون هذا الرجل منافقاً عدواً للإسلام ويوليه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة إشارة إِلَى تولية الإمامة العظمى؟
وكان هو وعُمَر أفضل الصحابة؟
فإذا كَانَ هذان كذابين -كما يقول هَؤُلاءِ المغترون- فالدين كله كذب، وما نقلت لنا السنة والشريعة إلاّ عن طريق الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وعلى رأسهم أبُو بَكْرٍ وعُمَر.
وأما الفرقة الثالثة: وهي: "المفضلة": فهَؤُلاءِ هم الزيدية الذين وافقوا علي بن الحسين، فَقَالُوا: لا نشتم الشيخين، ولكنهم يفضلون علياً عليهما، ويقولون: إن إمامة المفضول جائزة مع وجود الأفضل.
فعَلِيّ P> الأفضل، ولكن إمامة أبِي بَكْرٍ وعُمَر جائزة، وهذا الذي أنكره عليهم علماء السلف، وهو من البدع، ويكفينا في بدعيته أنه صح عن عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ: "ما جاؤني بأحد يفضلني عَلَى أبِي بَكْرٍ وعُمَر إلا جلدته حد الفرية ثمانين جلدة، وقال عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، كما في البُخَارِيّ: "والله ما من رجل وددت أن ألقى الله بعمله إلا هذا " وكان يشير إِلَى "عُمَر وهو في سكرات الموت" وهذا الأثر معروف ومشهور ومتواتر بين الصحابة.(1/90)
ولما اشتهرالخوارج وكفروا صاحب الذنب، كشارب الخمر والزاني والسارق، خرجت منهم فرقة تقول: لا نكفر أحداً يقول لا إله إلا الله، وكانوا مع الخوارج وجلسوا معهم فترة، فرجعوا إِلَى غلو آخر شديد وَقَالُوا: لا نكفر أحداً أبداً ما دام يقول لا إله إلا الله، حتى وإن سب الله ورسوله، وأنكر القرآن، فجنحوا إِلَى الطرف الآخر، وهَؤُلاءِ هم "المرجئة "، وظهروا في أواخر العهد الخامس.
ثُمَّ ظهرت القدرية، وكان ظهورها في العراق أيضاً، في عهد الصحابة بتأثير النَّصَارَى الذين كانوا في الشام، وكان لهم كلام في القدر والخوض فيه، فنقلوه إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وقال بهمعبد الجهني، وقد ثبت في صحيح مسلم في حديث جبريل الطويل المشهور المعروف: (أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسند ركبتيه إِلَى ركبتيه، ووضع يديه على فخذيه، وقَالَ: يا مُحَمَّد أخبرني عن الإسلام؟ ... ) ، رواه عبد الله بن عمر عن أبيهعُمَر حيث جَاءَ بعض التابعين إِلَى عبد الله بن عمر وسأله فقَالَ: إن هناك أقواماً في العراق ينكرون القدر، فَقَالَ لهم: حدثني أبي، فذكر حديث جبريل الذي يدل عَلَى أن الإيمان بالقدر هو أحد أركان الإيمان الستة.
فالخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية هذه الفرق جميعاً ظهرت في عهد الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُرَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وهذه الفرق الأربع هي أصول الفرق التي تشعبت منها فرق صغيرة، وظهرت المعتزلة في أوائل المائة في عهد الحسن البصري، فاعتزلوا مجلسه، وهم في الحقيقة امتداد لفكر الخوارج، لكنهم لا يقولون: إن مرتكب الكبيرة يخرج من الملة، وإنما قالوا: يخرج من الإسلام ولا يدخل الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، فَقَالُوا: يخرجونه من الإسلام لأن الآيات والأحاديث التي في المؤمنين لا تنطبق عليه، ولا يدخلونه في الكفر لأن الآيات والأحاديث التي في الكافرين لا تنطبق عليه، فجعلوه في منزلة بين المنزلتين.(1/91)
ثُمَّ ظهر الجعد بن درهم، فضحى به خالد بن عبد الله القسري بعد المائة والعشرين، وقَالَ: أيها النَّاس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلم موسى تكليماً، ثُمَّ نزل من المنبر وذبح الجعد بن درهم.
ثُمَّ تلميذه الجهم بن صفوان، وخرج مع الحارث بن سريج عَلَى بني أمية سنة 128هـ، وكان كاتباً له فنشر فكر المرجئة، والجهم كَانَ ينفي جميع الصفات عن الله، وكان في نفس الوقت مرجئاً، يقول: إن الإيمان هو المعرفة القلبية فقط، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن -عند جهم -، ولهذا فالمرجئة غلو في هذا الباب، لأن إبليس يعرف الله بقلبه، بل بلسانه قَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وكان الجهم كثير الجدل بلا علم، لم يتفقه، ويخالط العلماء، ويقرأ كتب العلم، ويحفظ من كتاب الله وسنة رسوله، وإنما كَانَ يجادل فقط، فجاءه قوم من الهنود من عباد الأبقار، فَقَالُوا: جئنا نناظرك، فقالوا له: صف لنا ربك؟ هل رأيته؟ هل لمسته؟ هل شممته؟
فبقي أربعين يوماً يفكر، كيف يرد عَلَى هَؤُلاءِ؟
فقَالَ: هو كالهواء، ليس له أي صفة، لا يرى ولا يشم، ونتج عن ذلك نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ تلقى عن الجهم بشر المرّيسي، وهو يهودي في الأصل، لم يلق الجهم، ولكن لقي تلاميذ تلامذته، وتعلم مذهب الجهم
ثُمَّ تلقى عنه عبد الله بن سعيد بن كلاّب، وهو المؤسس الحقيقي للمذهب المسمى مذهب الأشعرية، ولذلك هجره الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، لأنه وافق مقالة بشر وجهم، لكن ابن كلاب لم ينف جميع الصفات، كما قال جهم بأن الكلام كلام نفسي، ولكن أثبت ما يثبته العقل، ونفى ما ينفيه العقل، وحكّم العقل.(1/92)
وهذا الذي قالتهالأشعرية والماتريدية، فَقَالُوا: ما قامت القواطع العقلية عَلَى إثباته فإننا نثبته، وهي: الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام -الكلام النفسي- فهذه يدل العقل عَلَى إثباتها.
وأما الأخرى فالعقل يحكم باستحالتها في حق الله تعالى، فلا نثبتها لله تعالى، وأصل هذا العقل هو عقل الجهم لما اختلى أربعين يوماً.
والقدرية تشعبت، فكان منها القدرية الغلاة الذين ينكرون العلم، ومن أنكر علم الله للأشياء قبل وقوعها فقد كفر، وهَؤُلاءِ أكفر القدرية فإنهم قالوا: لو كَانَ الله يعلم أنه يفعل المعصية، إذاً هو قدّر عليه المعصية، فكيف يجازيه عليها؟ وهكذا سوّل لهم الشيطان.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا أن هذه الحجة قديمة، قال تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا [الأنعام:148] ويقول الله عَزَّ وَجَلَّ في سورة النحل: كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35،36] وقال في الأنعام: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [الأنعام:149] ثُمَّ قَالَ: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] فالله تَعَالَى ذكر هذه الشبهة وردّ عليها بأنه لو كَانَ يلزم من ذلك أنه أراد الشرك -يعني قضاه وقدره- لما أرسل الأنبياء، ولما أقام الحجة البالغة.
قَالَ المُصنِّفُ رحمة الله:(1/93)
[وإن كَانَ العبد عاجزاً عن معرفة عض ذلك أو العمل به فلا ينهى عما عجز عنه مما جَاءَ الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك ويود أن يكون قائماً به، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه بل يؤمن بالكتاب كله، وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه من رواية أو رأي، أو يتبع ما ليس من عند الله اعتقاداً أو عملاً كما قال تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون [البقرة:42] وهذه كانت طريقة السابقين الأولين وهي طريقة التابعين لهم بأحسان إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين ثُمَّ من بعدهم، ومن هَؤُلاءِ أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة] .
الشرح:
إن الذي ينبغي عَلَى المسلم أن يتفقه في دينه، ويعرف تفاصيل معتقده عَلَى وفق منهج الأنبياء، فإذا قال أحد: أنا لا أستطيع الاعتقاد المفصل، ولا أستطيع أن أعتقد بجميع أحاديث العقيدة، وبآياتها وأجمع بين المتعارضات منها، خاصة في موضوع القدر والصفات، فنقول له: العاجز عن ذلك قد يسقط عنه لعجزه، لكن لا يجوز لك أن تحارب أو تعادي أو تلوم من قال بهذا الأمر، وإنما ينبغي عليك أن تؤيده وتناصره وتتعلم منه ما استطعت، وأن تفرح بقيام غيرك به؛ لأن هذا من باب الدفاع عن الدين، ومن ذلك: معرفة الفِرَقْ، فكثير من النَّاس لا يريد أن يتعلم الفرق، ويكره أن يعرف عنها شيئاً، فنقول له: إن لم تتعلم فعليك ألا تعايش شيئاً من هذه الفرق، وألا تعيب عَلَى من تصدى لها، بل عليك أن تفرح إذا وجد في الأمة من يتصدى لهذه الفرق، ويحارب هذه الضلالات.(1/94)
ومما يجب عَلَى من لم يستطع الإيمان المفصل: أن يؤمن بالكتاب كله ويسلم له ولا يؤخذ بعضه ويترك البعض الآخر، وقد سبق أن ذكرنا في موضوع تعارض العقل والنقل أنهم لا يعارضون النقل بالعقل دائماً، وإنما يعارضون به في المواضع التي يرون وجوب التأويل فيها، وإعمال العقل فيها فقط، وهذا يتنافى مع التسليم، فإنه ليس هناك مواضع يجب أن نسلم فيها، ومواضع لا نسلم فيها بل نؤولها ونحكِّم العقل فيها، بل يجب علينا أن نسلم ونؤمن بالجميع ونؤمن بالكتاب الذي أنزله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كله.
وإذا كنا نعرف أن الوحي هو نعمة الله الكبرى عَلَى العالمين، وتخيلنا بأذهاننا كيف يكون حال البشرية لو أن الله لم ينزل هذا الوحي عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فإننا لا نستطيع أن نحصر الضلالات والشركيات في الأرض اليوم مع وجود الوحي فكيف مع عدم وجود الوحي، فإن العالم فيه أمم تعبد أنواعاً من المعبودات مما لا يكاد الخيال يصدقه، حتى حدثني بعض الإخوة ممن ذهبوا إِلَى الهند أنهم وجدوا فيها أقواماً يعبدون الذر الصغير - فسُبْحانَ اللَّه - إذا كَانَ هذا حال البشرية مع وجود هذا النور وهذا الوحي، فكيف لو لم ينزل هذا النور وهذا الوحي المبين؟!(1/95)
فيجب أن نقدر هذا الوحي حق قدره، فلا ندخل فيه ما ليس منه، فكل حديث موضوع ننزه عنه الشريعة وننزه عنه الرسل، ولا تجوز روايته إلا عَلَى سبيل بيانه للناس، وكذلك تنزهه عن الآراء، فهو بذاته محفوظ بإذن الله تعالى، وقد كانت طريقة علماء السلف من التابعين ومن بعدهم هي اتباع السبيل، والحذر الشديد من البدع وأهلها، ولذلك كانوا رحمهم الله تَعَالَى لا يجادلون أهل البدع، بل إنهم يرفضون أن يكلموهم أصلاً، حتى أن أيوب السختياني رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عرض عليه أن يسمع من بعض أهل البدع كلمة فقَالَ: لا ولا نصف كلمة وخرج وتركه، وبلغ بعض علماء السلف بدعة من بعض النَّاس فأقسم بالله أنه لا يؤيه وإياه سقف واحد إلا سقف المدينة.
وقيل إن الحسن البصري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى كما روى عنه الآجري في كتاب الشريعة، جاءه رجل وقال له تعال يا حسن أناظرك، فَقَالَ الحسن رضي الله عنه: "أما أنا فقد عرفت ديني، وأما أنت فإن كنت أضللت دينك، فاذهب فالتمسه حيث شئت ".
وجاء آخر إِلَى الإمام مالك فقال له: تعال أناظرك.
فَقَالَ له مالك: أرأيت إن غلبتني؟
قَالَ: اتبعتني، قال: فإن اتبعتك، فجاء رجل ثالث فغلبني وإياك.
قَالَ: نتبعه، قَالَ: سبحان لله! إن دين الله واحد أنزله عَلَى مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرنا باتباعه قصداً، فقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل " فمتى يثبت وعلى أي دين يستقر.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/96)
[فعن أبي يوسف رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنه قال لبشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة. أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه أو ترك الالتفات إِلَى اعتباره. فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علماً بهذا الاعتبار. والله أعلم.
وعنه أيضاً أنه قَالَ: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
وقال الإمام الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقَالَ: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل عَلَى الكلام.
وقال أيضاً رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
كل العلوم سوى القُرْآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كَانَ فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده: لا يدخل المتكلمون، ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية.
فكيف يرام الوصول إِلَى علم الأصول، بغير اتباع ما جَاءَ به الرسول؟!
ولقد أحسن القائل:
أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول
تطلب الفرع كي تصحح أصلا كيف أغفلت علم أصل الأصول
]
الشرح:(1/97)
يذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ كلام السلف والتابعين، ويحتج بأقوال الأئمة المتبوعين الذين يحتج بكلامهم،، وربما قدمه البعض منهم عَلَى أحاديث صحيحة ثابتة عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الفروع، أو في المعاملات ونحو ذلك، فإذا جَاءَ إِلَى علم أصول الدين الذي هو أجل وأشرف من الفروع رمى بما قاله إمامه، وما ثبت عن السلف، واتبع كلام علماء الكلام، ولذلك ظهرت ازدواجية ثلاثية فتجد أحدهم علىعقيدة الأشعري، وفقه مالك وطريقة نمير كما قال أحد المتأخرين في منظومة له فوصل الأمر بهم إِلَى هذا الحد فسُبْحانَ اللَّه! كَانَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ يريد أن يقول: إن كنتم صادقين أنكم تتبعون مالكاً والشَّافِعِيّ وأبا حنيفة فهذا كلامهم في أصول الدين وهو أعظم من الفروع، وهذا منهجهم في العبادة، ولا يقول أحد من أئمة النقد وعلم الرجال والجرح والتعديل أن ابن المودع أفضل من مالك في العبادة وأكثر منه اتباعاً للسنة، وكما يقول آخر: الفقه فقه أبي حنيفة، والدين دين مُحَمَّد بن كرَّام، فكان كرامياً في العقيدة لكنه حنفي في الفروع، فهذه الازدواجية، هي التي فرقت الأمة، وإلا فإن الأئمة الأربعة رضوان الله تَعَالَى عليهم أجمعين، وباقي الأئمة المتبوعين هم في أصول الدين سواء عَلَى عقيدة السلف إلا فيما ندر من بعض المسائل، كالإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في الإيمان كما سيأتي. وهذه من بدع الأقوال لا من بدع الأعمال كما قال الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ، فالأئمة الأربعة هم في أصول الدين ولله الحمد عَلَى مذهب واحد، وهو مذهب السلف والفرقة الناجية: أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين هم أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن سار عَلَى منهاجهم.
موقف الإمام أبو يوسف من علم الكلام(1/98)
وقد ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ قول أبي يوسف الإمام المشهور المعروف -وهو تلميذ أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ- لبشر المريسي الذي كَانَ أبوه يهودياً، ودخل في دين الإسلام ليفسده عَلَى أهله، كما قالت أمه كما نقله الإمام الدارمي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في رده عَلَى ـبشر المريسي، وقد اشتهر بشر بالضلالة وكان تلميذاً لأبي يوسف، فَقَالَ له أبو يوسف هذه العبارة: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم.
فهذا أبو يوسف الذي كَانَ في وقته متهماً من قبل العلماء -في الفروع فقط- لأنه من أهل الرأي، وينصر مذهب أهل الرأي، وهذا كلامه في المبتدعة في أصول الدين، فما بالك بكلام الذين يتمسكون بمنهج أهل السنة والحديث في الأصول والفروع! وكما قيل: من طلب علم الكلام تزندق. وقد ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الأقوال عن علماء الكلام أنفسهم في ذم علم الكلام وأهله، وأنه لم يحصد منه إلا الحيرة والشك والندامة باعتراف أصحابه أنفسهم فضلاً عن غيرهم.
وممن نقل عنهم ذلك الرازي والجويني وأبو حامد الغزالي، وغيرهم، وقوله: "من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس" لأنه يضيّع ما معه من مال في شراء هذه المعادن وفي شراء الآلات، وفي النقل، وفي الغليان بدون فائدة.
وقَالَ: "ومن طلب غريب الحديث كذب" أي أن الذي يتتبع الشواذ والروايات، فإنه يكذب كما حصل في العصور المتأخرة، حيث كَانَ الرجل يريد أن يثبت أن لديه سنداً عالياً إِلَى حافظ مثلاً، فيكذب ويجعل بينه وبين ذاك رجلاً واحداً أو رجلين.
موقف الإمام الشافعي من علم الكلام(1/99)
وقد نقل الحافظ ابن رجب رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه فضل علم السلف عَلَى علم الخلف عن الشَّافِعِيّ أنه قَالَ: "ما فسد النَّاس إلا لما تركوا لسان العرب، واتبعوا لسان أرسطو "، فالمقصود أن الأمة الإسلامية إنما فسدت وانحرفت لما تركت المنهج الفطري، والمنطق العربي هو المنطق الفطري واللغة العربية هي لغة فطرية، ومنهجنا في الاستدلال فطري، ولغتنا فطرية، لا تكلف فيها ولا تعقيد، امتن الله تَعَالَى بها علينا فلماذا نعقد الأمور؟!.
وهذه العبارة العجيبة من الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تدل عَلَى أن الإمام الشَّافِعِيّ قد خبر علم المنطق الذي جَاءَ به أرسطو، فعلماء السلف ليسوا يجهلون المنطق لا الشَّافِعِيّ ولا أَحْمَد ولا أبو يوسف، فقد كانوا يعرفونه، ولكنهم لما عرفوا حقيقة الموقف استغنوا عنه وهم مقتنعون تمام الاقتناع أنه لا حاجة لأي عاقل إليه، "فلا يستفيد منه البليد ولا يحتاج إليه الذكي"، فمن هذا المنطلق قال الشَّافِعِيّ وقال علماء السلف هذه المقول وليس كما يشترط المُصْنِّف هنا عندما يقول السلف: لم يحبوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض لأنه السلاح البديل. أو لأنهم كانوا عاجزين عن فهمه، أو كانوا منشغلين بالجهاد والفتوحات، ولم يحرروا مسائل العقيدة ومسائل العلم والعبادة، هذه النظريات التي أكدها علماء اليونان وصلت إِلَى علماء الْمُسْلِمِينَ وترجموها
واشتهر ذلك في عصر المأمون، وبناءً عليها ابتلي الإمام أَحْمَد في القول بخلق القرآن، وفي غيرها من الضلالات، كإذاعة أن الإيمان هو المعرفة القلبية المجردة، فجائتنا هذه الضلالات نتيجة نقل هذا العلم. ثُمَّ قال الإمام الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في المنسوب إليه:
كل العلوم سوى القُرْآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين
العلم ما كَانَ فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين(1/100)
وقال الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ في تعريف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والطائفة المنصورة: "إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم"، وأهل الحديث هم الذين يتبعون الحديث وليس المراد بهم أنهم الذين يحكمون عَلَى متن الحديث والرجال ونحو ذلك ولو كانوا مبتدعة.
موقف الأصحاب من هذا العلم
قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ [قال الأصحاب] إذا قَالَ: الحنفي، قال الأصحاب، أي: فقهاء الحنفية، وإذا قال ابن قدامة في المغني قال أصحابنا فيعني علماء مذهب الحنابلة، وإذا قال في شرح المنهاج قال الأصحاب يعني: علماء الشافعية.. وهكذا، ولأنالشارح حنفي ولأن الحنفية أكثر المذاهب إتباعاً، وقد كثرت فيهم هذه الضلالات فننبه إِلَى ما هو موجود في كتبهم، فيقول المصنف: قال الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده بشيء فلا يدخل في ذلك المتكلمون، فعالم الكلام لا يدخل في ركب العلماء، فهو يشتغل في الجدل وفي المناظرات والمنطق، ولا تدخل كتبهم في كتب العلم فلو أن رجلاً قَالَ: كتبي كلها وقف لمكتبة الحرم، فننظر فما كَانَ من كتب الفقه والحديث والأصول والمصطلح، ونحو ذلك أدخلناه، وما كَانَ من كتب الجاهلية والفلسفة ونحو ذلك رميناه، إذاً فأصحاب علم الكلام لا يدخلون في العلماء ولا كتبهم تدخل في كتب العلم، ثُمَّ بعد ذلك ننتقل إِلَى موضوع أن نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتي جوامع الكلم.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:(1/101)
[ونبينا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أوتي فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية عَلَى أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل، كثير البركة " لا " كما يقول ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم، وإن طريقتنا أحكم وأعلم وكما يقول من لم يقدّرهم قدرهم من المنتسبين إِلَى الفقه: أنهم لم يتفرغوا لاستنباطه، وضبط قواعده، وأحكامه، اشتغالاً منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه!! فكل هَؤُلاءِ محجوبون عن معرفة مقادير السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف، التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إِلَى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر وقد جعل الله لكل شيء قدرا]
الشرح:(1/102)
رحم الله المصنف! فقد أتى بكلام عظيم حتى نعرف قدر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدرالسلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، والأئمة الذين كَانَ كلامهم درراً وإمامهم هو مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله ورسوله الذي بعث بهذه الشريعة العظيمة، وأوتي جوامع الكلم كما في الحديث الصحيح: ((أعطيت جوامع الكلم) فكلام النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالضد والنقيض لكلام هَؤُلاءِ الفلاسفة والمناطقة، الذين يتكلمون بالكلام الطويل المعقد من أجل قضية مدنية، بينما رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجوامع الكلام يقول قولاً واحداً، أو جملة واحدة، فتكون منهاجاً ودستوراً إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، وبآلافٍ من آحاد القضايا والوقائع العينية، والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة من أحاديث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمثلاً يقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كل بدعة ضلالة) فما أوجز هذه العبارة، ويدخل فيها كل ما يمكن أن يحدث في الدين، فكل بدعة أياً كانت ضلالة، وهذه العبارة قاعدة تشمل آلاف الوقائع، ومثل ذلك في الفقه قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا ضرر ولا ضرار) وهذه العبارة البسيطة لو تأملها الإِنسَان لعجب، فأنت تحتاجها عندما تحكم بين اثنين، أو تصلح في أي قضية، أو تحكم في أي مسألة، وهكذا، ومثل ذلك في التعبد قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الدين النصيحة) فبهذه الكلمة نذكر كل ما أمر الله به ورسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفسر هذه الكلمة فقَالَ: (لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة الْمُسْلِمِينَ وعامتهم) وهكذا أمثلة كثيرة من أحاديث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تدل عَلَى أنه بعث بجوامع الكلم، عبارات وألفاظ وكلمات محدودة لكنها جامعة لمعانٍ عظيمة.
كلام المتأخرين كثير قليل البركة(1/103)
لو اجتمع أهل الأرض جميعاً، وأعملوا عقولهم عَلَى أن يأتوا بمثل هذا الإعجاز، ومثل هذه الذكرى ومثل هذا الشمول، واقتراب القاعدة لجميع الوقائع لعجزوا عن ذلك عجزاً بيناً، وفوق ذلك عجزهم عن كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو أعظم.
ثُمَّ إن السلف الصالح كانوا كذلك، وكما سبق أن تحدثنا في مبحث الفرق، فالخوارج والقدرية والشيعة وجدوا في عهد السلف الصالح، وكذا المرجئة وجدوا أواخر عهد التابعين.
فرد عليهم علماء السلف بكلمات قليلة ولكنها مفحمة غاية الإفحام، لكن المتأخرين لو أراد أحدهم أن يرد عَلَى الخوارج فقد يؤلف مجلدات، فتقرأها ولا تكاد تحصد منها شيئاً، لكن تجد أن ابن عباس ناظر الخوارج، فرجع ابن عباس ومعه الآلاف إِلَى معسكر عَلِيّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بهذه الكلمات.
وبهذا نعرف فضل علماء الصحابة والسلف رضوان الله تَعَالَى عليهم، فكانت كلما تهم من الجوامع بالنسبة لمن جَاءَ بعدهم، فكانت قليلة العبارات كثيرة البركة، فعندما يناظرون القدرية أو الشيعة أو أية فرقة فإنهم يأتون بعبارة واحدة موجزة، أو عبارتين فتغني عما وراءها وتكفي وتشفي من أراد الشفاء بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/104)
وأما المتأخرون فتعمقوا وتنطعوا، ولما جَاءَ رجل إِلَى الإمام مالك وقال له: كيف استوى؟ قال له عبارات ما زلنا نستخدمها إِلَى الآن في جميع الصفات، وإذا تحدثنا عن صفات الله عَزَّ وَجَلَّ فلو ألفنا كتباً ما خرج كلامنا عن هذه العبارات التي قالها الإمام مالك وهي: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة " سُبْحانَ اللَّه! كيف أعطاهم الله عَزَّ وَجَلَّ هذا الملكة لأنهم كانوا يتلون كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حق تلاوته، ويؤمنون بحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبالإيمان فجَّر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قلوبهم ينابيع الخير والتقوى والعلم النافع، وأعطاهم فراسة المؤمن وقوة النظر، فيأتون بهذه العبارات الجامعة الدقيقة، فمهما خضنا في الصفات فنحن لا نتكلم في أي صفةٍ إلا عَلَى ضوء هذه القواعد الأربع، لأن معانيها واضحة جلية لكل أحد أما أن كيفيتها مجهولة فلأننا نجهل ذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإذا جهلنا ذاته جهلنا صفاته، وأما أن السؤال عنها بدعة فكل الطوائف التي خالفت ما أخبر به الله ورسوله فهي طوائف بدعية، وهذا من الأدلة الكثيرة الدلالة عَلَى ما ذكره المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى من فضل السلف.
ولذلك عندما نقول ويقول كل مؤمن بالله وبرسوله: إن علينا أن نتبع آثارهم وأن نقتفي خطاهم، وننظر فيما خاضوا فيه فنخوض في كل ما خاضوا، وما سكتوا عنه نسكت عنه، وما أجابوا عنه بجواب فإننا نجيب عليه بمثل ما أجابوا، حينئذٍ نعرف أن هذا هو الصواب، كما فعل البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في باب الإيمان عندما رد علىالمرجئة.(1/105)
يقوليزيد اليانق: سألتأبا وائل شقيق بن سلمة وهو التابعي المشهور تلميذ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ عن المرجئة فقَالَ: حدثني عبد الله -وهو ابن مسعود - أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) انتهت العبارة وانتهى الجواب وفهم السامع، ونستخرج من هذه العبارات أعظم رد عَلَى المرجئة، وأمثلة كثيرة جداً، فانظر! كيف كَانَ رد هَؤُلاءِ العلماء، وكيف أوتوا هذه المقدرة العقلية الهائلة.
فالذين يقولون مثلاً في الفقه: إننا أفقه من الصحابة لأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد، ولم يتفرغوا لاستنباط القواعد الفقهية ولم يعرفوا أصول علم الفقه، فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية نستطيع من طريقها معرفة الدليل، فهَؤُلاءِ في الحقيقة ما قدروا الصحابة حق قدرهم.
إن الاشتغال بما ورد عن الصحابة رضى الله عنهم، وتتبع فقههم وآثارهم، تُنزل عَلَى صاحبها الحكمة بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأصحاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت الأمور تأتيهم عَلَى الفطرة، ويفهمون ما يقوله رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الفطرة، فعرفوه علماً وجاهدوا عليه عملاً، ودعوا إليه ثُمَّ ماتوا وهم ثابتون عليه رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين.
فمن قال من أهل علم الكلام: إن علم السلف أسلم ونحن أعلم وأحكم، فهذا ضال مضل، وقد أساء وظلم نفسه، ولم يرع ما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الثناء عَلَى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأئمة السلف، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما جعل لنا الخير في أن نتبع هَؤُلاءِ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة:100] .(1/106)
ويقول سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10] وهَؤُلاءِ يقولون: نَحْنُ أعلم وأحكم.
وأهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق الإِنسَان المسلم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، كما صح ذلك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وهو إنما خاطب به خالد بن الوليد وأمثال خالد، وهو صحابي أيضاً بالنسبة لمن آمن قبل الفتح، فالخطاب في هذا الحديث إنما هو لأولئك الذين أسلموا بعد الفتح، أو ممن كَانَ من المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم ولمتقدمهم.
فما بالك بالتابعين؟ فكيف بأتباعهم؟! فكيف بمن أتى بعدهم من القرون المتأخرة بعد القرون الثلاثة التي ظهر فيها قول الزور وأصبحوا يتهوكون في البدع، وتتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه -كما ورد في الحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!!.
إن المجوس والبوذيين وغيرهم هم في الحقيقة ما قدروا الله حق قدره بعدم تقديرهم رسول الله حق قدره، أو الصحابة حق قدرهم، فالذين يقولون مثلاً في الفقه: إننا أفقه من الصحابة لأن الصحابة كانوا مشغولين بالجهاد ولم يتفرغوا لاستنباط القواعد الفقهية وما عرفوا أصول علم الفقه، فلما أتينا وضعنا قواعد أصولية نستطيع من طريقها معرفة الدليل، فهؤلاء في الحقيقة ما قدروا الصحابة حق قدرهم.
إن الاشتغال بما ورد عن الصحابة رضى الله عنهم وتتبع فقههم وآثارهم تنزل على صاحبها الحكمة بإذن الله سبحانه وتعالى، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت الأمور تأتيهم على الفطرة ويفهمون ما يقوله رسول صلى الله عليه وسلم على الفطرة فعرفوه علماً وجاهدوا عليه عملاً، ودعوا إليه ثم ماتوا وهم ثابتون عليه رضي الله عنهم أجمعين.(1/107)
فمن قال من أهل علم الكلام: إن علم السلف أسلم ونحن أعلم وأحكم، فهذا ضال مضل، وقد أساء وظلم نفسه، ولم يرع ما قال سبحانه وتعالى من الثناء على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف، فإن الله سبحانه وتعالى إنما جعل لنا الخير في أن نتبع هؤلاء وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [التوبة: 100] .
ويقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10] وهؤلاء يقولون: نحن أعلم وأحكم.
وأهل السنة يؤمنون أنه لو أنفق الإنسان المسلم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو إنما خاطب به خالد بن الوليد وأمثالخالد، وهو صحابي أيضاً بالنسبة لمن آمن قبل الفتح، فالخطاب في هذا الحديث إنما هو لأولئك الذين أسلموا بعد الفتح، أو ممن كان من المفضولين بالنسبة لفاضلهم ولسابقهم ولمتقدمهم.
فما بالك بالتابعين؟ فكيف بأتباعهم؟!! فكيف بمن أتى بعدهم من القرون المتأخرة بعد القرون الثلاثة التي ظهر فيها قول الزور وأصبحوا يتهوكون في البدع، وتتجارى بهم الأهواء كما يتجار الكلب بصاحبه كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/108)
[وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلىأهل الكلام المذموم، واستمد منهم، وتكلم بعباراتهم، والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلومٍ صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق، والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمورٍ كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين، فضلاً عن علمائهم ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل، كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه..] .
وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم، وأنسج على منوالهم، متطفلاً عليهم، لعلي أن أُنظم في سلكهم، وأدخل في عدادهم، وأحشر في زمرتهم مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا [النساء:69] ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار، آثرته على التطويل والإسهاب وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود: 88] وهو حسبنا ونعم الوكيل] اهـ.
الشرح:
انظر إلى هذا التواضع من المصنف بالنسبة لمن يقولون: نحن أعلم وأحكم حيث يقول: [وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم، وأنسج على منوالهم، متطفلاً عليهم، لعلي أن أنظم في سلكهم، وأدخل في عدادهم، واحشر في زمرتهم] .
ونحن نسأل الله تعالى أن ننظم في سلكهم، وندخل في عدادهم، ونحشر في زمرتهم.(1/109)
يذكر المصنف رحمه الله تعالى أن هذه العقيدة -يعني عقيدة الإمام الطحاوي أبي جعفر - شرحها غير واحد، لكن بعض من شرحها أصغى إلى أهل الكلام المذموم، كما في معنى الربوبية، ونقل ما فهمه من قول الإمام الطحاوي: [ولاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] ، فقال: هو قولنا: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا يمينه ولا شماله، ولا فوقه ولا تحته.
ملاحظات ابن أبي العز حول الشروحات السابقة
وجد المُصْنِّف من شرح عقيدة الإمام الطّّحاويّ شرحاً أشعرياً ماتريدياً، فنبه الشارح هنا إِلَى أنه لما رآهم مالوا وشرحوها هذا الشرح أحب هو أن يشرحها شرحاً سلفياً.
فما قالوا في هذه المواضع وفي غيرها خطأ، أو أوّلوا كلامه عَلَى غير ما أراده الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فإننا ننبه عَلَى الخطأ.
ولا نقول إن أحداً معصوم إلا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وممن شرح هذه العقيدة ابن منكوبه ولا أحفظه إلا مخطوطاً، حيث شرحها شرحاً ماتريدياً.
وممن فسرها تفسيراً أشعرياً ابن السبكي في طبقات الشافعية، وهو كتاب عظيم في التراجم وتاريخ العلماء ومؤلفاتهم، ولكنه أشعري متعصب -غفر الله لنا وله- فهو شديد التعصب عَلَى أن لديه علماً وفضلاً كأبيه، لكن وقع منه -أي: من أبيه- الحسد لشَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ، حتى جره ذلك إِلَى التعصب لغير عقيدة السلف.
فلما جَاءَ ابن السبكي صاحب الطبقات إِلَى ترجمة أبي الحسن الأشعري أثبت أن الأشعري مات عَلَى عقيدةالأشاعرة مع أنه رجع عنها.
ثُمَّ عقد مقارنة بين عقيدة الأشعري وبين عقيدة الطّّحاويّ، ليثبت أن الكلام متطابق، وأن الاثنين متفقان.
والعجيب أنه ذكر في مواضع الافتراق مواضع كثيرة جداً فوق العشرين، وعبارة العقيدة الطحاوية مائة جملة تقريباً، وبعض الجمل فيها مكررة، فإذا كَانَ الأشعري يختلف معه في ذلك، فأين الاتفاق أصلاً.(1/110)
فهو يريد أن يجعل العقيدة الطحاوية -وهي عقيدة مشهورة، ومجمع عَلَى فضلها بين الناس- هي عقيدة الأشعرية، ومعلوم أن عقيدة أبي الحسن الأشعري، ليست موافقة لعقيدة أبي جعفر الطّّحاويّ.
ولذلك رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أنا أشرحها سالكاً منهج السلف.
كراهية السلف للتكلم بالكلمات المجملة
ثُمَّ قَالَ: إن السلف لم يكرهوا التكلم في العرض والجوهر والحيز والجسم لأنه اصطلاح جديد، وإنما لأنها تشتمل عَلَى أمور كاذبة، وهذه قضية مهمة لئلا يأتي معترض ويقول: لماذا تنكرون عَلَى علم الكلام، ولا تنكرون عَلَى غيره من العلوم المستحدثة كعلم النحو وعلم الأصول، فالعرب كانوا يتكلمون اللغة بدون معرفة مبتدأ ولا خبر، ولا نواسخ، ولا مضاف ومضاف إليه، والفقهاء كانوا يقولون حرام وحلال، ولم يكونوا يعرفون الأحكام التكليفية والوضعية، والعلة والمناط، وغير ذلك من مباحث علم الأصول.
فنحن جئنا بمثل ما جَاءَ به النحويون وضبطنا العقيدة، فوضعنا جسم وعرض، وحيز وجوهر، وتركيب وغير تركيب، أتينا بها حتى نفهَّم النَّاس العقيدة.
وقالت الصوفية: نَحْنُ أتينا ورتبنا طريق السلوك، وجعلنا له مقامات، وأحوالاً، والحال له تعريف، والمقام له تعريف، وكيف نجمع بين هذا المقام وهذا الحال، فما أتينا إلا بمصطلحات نُفهم النَّاس كيف كَانَ الصحابة يتعبدون.
فرد عليهم المُصْنِّف هذه الشبهة فقَالَ: [السلف لم يكرهوا ذلك لمجرد كونه اصطلاحات جديدة عَلَى معان جديدة، لكن أنكروا عليهم لأنها تشتمل عَلَى أمور كاذبة، ولأنها عبارات منقولة عن مشركي اليونان والمجوس، وتعبر عن عقائد جاهلية قديمة باطلة، وكل مصطلح منها له دلالة تختلف عند أهله عنها في لغة العرب.
فالجسم في لغة العرب غير الجسم في تعريف المناطقة ... وهكذا بقية الأمور كالعرض، والجوهر.(1/111)
فهي تعبر عن عقائد زائفة، وتشتمل عَلَى مقدمات باطلة، وتؤدي إِلَى نتائج كاذبة مبتدعة في الدين، لم يكن عليها السلف الصالح رضوان الله تَعَالَى عليهم، وإنما انتشر القيل والقال والجدال لما انتشرت مثل هذه الأقوال، وإلا فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا النَّاس إِلَى عبادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ودعا أصحابه النَّاس فأدخلوهم في دين الله، وأقنعوهم إقناعاً عقلياً حتى ولد منهم أكبر الدعاة إِلَى الله، وأكبر العلماء المؤلفين كالإمام البُخَارِيّ وغيره، فما أقنعوهم وناظروهم وأفهموهم بالمنطق اليوناني، وإنما أفهموهم بمنطق الوحي الذي يعطي الحجة، فيأتونهم بالوحي والمحجة الواضحة.
كما مر أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمنا منهج الدعوة، فكتب إِلَى هرقل عظيم الروم: هرقل عظيم الروم، أسلم تسلم، فإن أبيت فإنما عليك إثُمَّ الأريسيين) ثُمَّ كتب: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64] وختم الكتاب.
وهذه الآية تهدم جميع المعتقدات التي كانت تدين بها الإمبراطورية الرومية وأولها: وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً كَانَ الرومان يعبدون الإمبراطور، وكانوا يتلقون عن الأحبار والرهبان في الدولة كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] ولذلك لما جاءت هذه الآيات وهذا الكتاب إِلَى هرقل هزته -وهو أعظم ملوك الأرض- وأيقن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الحق، ولولا أنه آثر الدنيا عَلَى الأخرى لآمن بالله واتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/112)
هذا هو أسلوب الدعوة الصحيح، أن ندعوهم بمنطق القرآن، لا أقول: نكتب الآية فقط! لكن نشرح الآية شرحاً فنوضح حجة القُرْآن للناس فهي التي تقنعهم، فإن لم تقنعهم فلا أقنعهم الله عَزَّ وَجَلَّ، وإن لم تهدهم فلا هداهم الله عَزَّ وَجَلَّ فإننا أمرنا أن ندعوهم قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْي [الأنبياء:45] فننذر النَّاس أيضاً بالوحي، فمن آمن به واهتدى فالْحَمْدُ لِلَّهِ، ومن لم يهتد فإنما علينا البلاغ؛ بل نقول: يارب، بلغناهم ما أوحيت به إلينا فكفروا، لكن لو أنذرناهم بمنطقهم وبفلسفاتهم وجدالهم، فبم نجيب ربنا يَوْمَ القِيَامَةِ إذا قال لِمَ لم تنذروهم بالوحي، وأنا قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْي [الأنبياء:45] وأنتم تقولون أنكم من اتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فنسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن يرزقنا البصيرة في الدين، وأن يجعلنا من المتبعين له ولأصحابه، المتمسكين بسنته السائرين عَلَى منهجه.(1/113)
شرح العقيدة الطحاوية
الأسماء والصفات
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
موضوع التشبيه وما يتعلق به من أهم الموضوعات التي خاض فيها النَّاس قديماً وحديثاً، ولا يزالون يخوضون وفي ربهم يختصمون.
فمنهم: من يشبه المخلوق بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ومنهم: من يشبه الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالمخلوق.
ومنهم: من ينفي بعض صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو كلها بدعوى التشبيه.
ومنهم: من يثبت إثباتاً مغالياً فيه، فيقع في التشبيه وهو يظن أنه من أهل الإثبات.
ومنهم: من يشتط ويغلو في نفي الشبيه عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكنه ينفي بذلك ما ثبت وصح لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الأسماء والصفات.
وهذا الموضوع جدير بأن نتأمله ونتفهمه ونعيه، فإنه من أهم أبواب العقيدة لاسيما وأن الذين ضلوا في أبواب العقيدة والإيمان في توحيد المعرفة والإثبات؛ إنما ضلوا لعدم فهمهم حقيقة التشبيه من حقيقة الإثبات والتنزيه، وهذا ما سوف نشرحه بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
التشبيه
قال الإمامالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ولا شيء مثله] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/114)
[اتفق أهل السنة عَلَى أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام النَّاس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن، ودل عليه العقل، من أن خصائص الرب تَعَالَى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، رد عَلَى الممثلة المشبهة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، رد عَلَى النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النَّصَارَى في كفرهم، ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقَالَ: له قدرة، ولا علم، ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذا كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك، وهم يوافقون أهل السنة عَلَى أنه موجود، عليم قدير، حي. والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قدير، ولا يقَالَ: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمى فسمى نفسه: حياً، عليماً، قديراً، رؤوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، سميعاً، بصيراً، ملكاً، مؤمناً، جباراً، متكبراً. وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقَالَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95] وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:28] فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم [الصافات:101] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128] فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإِنسَان:2] قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ [يوسف:51] وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ [الكهف:79] أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً [السجدة: 18] كَذَلِكَ يَطْبَعُ(1/115)
اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ [غافر:35] ومعلوم أنه لا يماثل الحيُّ الحيَّ، ولا العليمُ العليمَ، ولا العزيزُ العزيزَ، وكذلك سائر الأسماء، وقال تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِه [البقرة:255] أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ [النساء:166] وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ [فاطر: 11] إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 58] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [السجدة:15] ، وعن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: {كَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثُمَّ ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قَالَ: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثُمَّ بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قَالَ: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثُمَّ رضني به. قَالَ: ويسمي حاجته} رواه البُخَارِيّ.(1/116)
وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النَّسَائِيُّ وغيره، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يدعو بهذا الدعاء: {اللهم بعلمك الغيب وقدرتك عَلَى الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إِلَى وجهك الكريم، والشوق إِلَى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين} . فقد سمى الله ورسوله صفات الله علماً وقدرة وقوة، وقال تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الروم:54] وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاه [يوسف:68] ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة، وهذا لازم لجميع العقلاء] اهـ.
الشرح:
موضوع التشبيه من أهم الموضوعات التي ينبغي أن يعرفها المسلم، ليعرف حقيقة التشبيه، وماذا ينفى عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من التشبيه، والفرق بين التشبيه والإثبات، فإن فيه أموراً دقيقة لا يدركها كل أحد.
ومن الأمور التي ينبغي معرفتها في مبادئ وأوليات موضوع التشبيه، أن أكثر الخلق وقعوا في تشبيه المخلوق بالخالق.
فلو تأملنا قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح أو نحو ذلك من الأمم، لوجدنا أن أكثر شرك الأمم هو أنهم جعلوا المخلوقين كالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه حقيقة مهمة، ينبني عليها معرفة أن كثيراً من الخوض الذي خاض فيه المتكلمون، وأجهدوا أنفسهم فيه، هو فيما يتعلق بتشبيه الخالق بالمخلوق فقط؛ حتى أنهم نفوا الصفات الثابتة، وتركوا مع ذلك الجانب الأهم الذي وقع فيه أكثر النَّاس.(1/117)
فأول أمةٍ وقع فيها الشرك هم قوم نوح -عَلَيْهِ السَّلام- حيث شبهوا المخلوقات بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسراً، وهم أُناسٌ صالحون عبادٌ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فصوروهم ليتذكروا بهم عبادة الله، ثُمَّ غلوا في التعظيم حتى عبدوهم، ثُمَّ جعلوهم آلهة، وجعلوا لهم مما لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من الخصائص: وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا [نوح:23] فهم شبهوا هذه المخلوقات بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما رفعوها إِلَى منزلة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وكذلك عُبّاد الأصنام من سائر الأقوام إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان العرب يفعلون ذلك، ومن أعظم الطواغيت الذي ذكرهم الله تعالى في القرآن فرعون، وقد قَالَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فشبّه نفسه بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولم يُشبه الله بنفسه. وهكذا كَانَ أكثر الأمم، إما أن يجعلوا الحجارة كالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو يجعلوا الملوك والأباطرة كالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو يجعلوا الأحبار والرهبان كالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] .
وهذا ما وقعت فيه طائفة الصوفية من هذه الأمة وما شابهها من الطوائف، ولا سيما الرافضة.(1/118)
ومن هذه الأمة من شبه الله بخلقه، وهذا ينسب لبعض من لهم دراية بالتفسير كمقاتل ونحوه، واشتهر عن طوائف من الرافضة، وقد فصّلها أبوالحسن الأشعري في كتابه: مقالات الإسلاميين فقليل من النَّاس من يقول: "إن الله تَعَالَى مثل المخلوق"، وأكثر من اشتهر عنه ذلك هم اليهود، كما في أول صفحة في التوراة الموجودة اليوم -والكلام بالمعنى-: (وإن آدم وحواء لمّا أكلا من الشجرة بدت لهما عورتهما، فاختبئا في ظل شجرة في طرف جنة عدن، وهي أرض تقع بين البصرة والفرات.
فجاء الرّبُ يتمشى في الجنة فلم ير آدم وحواء وسمع صوتهما، وهما لما سمعا أقدام الرب اختبئا تحت الشجرة ليهربا منه، فسألهما الرب: كيف أصبحتما عارفين الخير والشر؟
ما أدراكما أنكما عريانين؟
أأكلتما من الشجرة؟
فيقولان: نعم يا رب) .
فالرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يدرِ أنهما أكلا من الشجرة إلا بعد أن رآهما قد سترا العورة، وهم يصورون الإِنسَان أنه كَانَ جاهلاً تماماً، ولا يبالي أنه كَانَ عارياً أو متستراً أو نحو ذلك، إلا بعد أن أكل من "شجرة معرفة الخير والشر".
فتسميها التوراة المحرفة: (شجرة معرفة الخير والشر) التي إذا أكل منها الإِنسَان صار يعرف الخير والشر، وهذا كله باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم آدم الأسماء كلها، وعلمه الخير والشر، وفطره عَلَى ذلك قبل أن يأكل من الشجرة. فنجد عدة معاني باطلة في مثل هذا النص تقطع بأن هذا ليس من كلام الله ولن يكون أبداً كلام الله، ومن أعظم الأدلة عَلَى أن هذا الكتاب ليس من عند الله أن الإِنسَان يقرأ في آخر السفر الخامس من الأسفار الخمسة: (ثُمَّ مات موسى ودُفِن في مكان كذا، ولا يزال قبره معروفاً حتى اليوم ولم يأتِ بعده نبيٌّ مثله) فهل يعقل وهل يصدق عاقل أن الله ينزل عَلَى موسى هذا الكلام؟!.(1/119)
وإنما هو كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّه [البقرة:79] .
وفي موضع آخر تقول التوراة المحرفة: (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نزل من السماء، وتصارع هو ويعقوب طول الليل إِلَى الفجر، وفي الصباح يرى يعقوب هذا الذي صارعه، وإذا به الرب، ويقول: أأنت الرب الذي كنت تصارعني طول الليل؟) .
ومما فيه أيضاً: أن موسى عَلَيْهِ السَّلام قال للرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لما أن غضب عَلَى بني إسرائيل وعاقبهم: يارب ارجع عن حموّ غضبك، واندم عَلَى ما فعلت بشعبك قَالَ: فندم الرب عَلَى ما فعل بشعبه.
وقد بين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لنا جانباً من تشبيه اليهود حينما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وقوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181] .
فتشبيه الخالق بالمخلوقين إنما أصله من اليهود، والذين نفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ التي في القُرْآن أو في السنة -بزعمهم-، وَقَالُوا: ننفي التشبيه عن الله، قد شبهوا القُرْآن بالتوراة المحرفة التي كتبها الأحبار والرهبان بأيديهم، وغيروا فيها وبدلوا.
ولم يُنَزِّل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في أي كتاب من كتبه ما فيه تشبيه له بخلقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. بل أعظم الحقائق التي يبينها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في كتبه هي ما يتعلق به وبمعرفته، وما يستحقه من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وبما يجب له من حقٍ عَلَى العباد وهو توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإفراده وحده دون أحد سواه.(1/120)
وأصل دين الرافضة من اليهود، وليس غريباً أن تكون الطائفة المشتهرة بالتشبية في أمة الإسلام هي الرافضة، لأن عبد الله بن سبأ الذي أسس دين الرافضة هو يهودي، خرج من يهود صنعاء اليمن، وجاء وبذر الفتنة والشقاق عند العوام، ولم يستجب له إلا: منافقٌ كَانَ مختفٍ بنفاقه عَلَى عهد النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عَلَى عهد أبِي بَكْرٍ وعُمَر إِلَى أول صدر خلافة عثمان، أو جاهل، أو الذين أسلموا خوفاً وحقداً، أو من المجوس الفرس -العجم- لأن هَؤُلاءِ القوم دكَّ الإسلام ملكهم، وشتت قوتهم وأباد دولتهم، وهدم معابدهم وسحقهم سحقاً تاماً، بخلاف النَّصَارَى؛ لأن الإسلام في أول أمره إنما احتل بلاد الشام وبقيتالقسطنطينية، لم تفتح إلا في عهدمُحَمَّد الفاتح، وبقيت لهم روما مقر البابوية فلم تُمس، فكأن الديانة النصرانية -العدو الغربي للإسلام- اقتِطعت منه بعض الأطراف، ولذلك لم تكن الصدمة عليه قوية وعميقة. لكن العدو الشرقي للإسلام طحن ودمر تدميراً كاملاً؛ ومن هنا كَانَ حقدهم أعظم وأكثر عَلَى هذا الدين.
قالوا: أنت أنت!! لعَلِيّ أمير المؤمنين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ـ قَالَ: ومن أنا؟
ـ قالوا: أنت الله.
ـ فقَالَ: أعوذ بالله.
فحفر الحفر، وأوقد فيها النيران ورماهم فيها، وقَالَ:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبراً
فلما فعل عَلِيّ >ٌ رضيَّ الله تَعَالَى عنه ذلك هرب عبد الله بن سبأ من الكوفة إِلَى كرمان في بلاد الشرق، وهنالك بذر دين التشييع والرفض، وأوجد في دينهم التشبيه، فقال عنهم أئمة الإسلام -أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في عصرهم- أنتم كفار؛ لأنكم تُشبِّهون الله بخلقه.
وهذا من أعظم الأدلة عَلَى أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة ونحوهم ليسوا مشبهة؛ لأنهم يُكفِّرون المُشبهة.(1/121)
ولكن عقائد الرافضة المعاصرين في القرون المُتأخرة هي عقيدة المعتزلة ينفون الصِّفات جميعاً، ومن أسباب ذلك:
1ـ أن التشبيه نبذته الأمة الإسلامية نبذاً شديداً، ورفضته رفضاً قاطعاً، وكفَّر علماء السلف أصحابه.
2ـ وأن الذين كانت لهم الجولة والصَّولة ضد أهل السنة إنما كانوا معطلة، كالذين عذبوا الإمام أَحْمَد وسجنوه وآذوه، وهم الذين دخلوا في الدولة وفي الوزارة وتمكنوا منها، حتى كَانَ منهم البرامكة وأمثالهم من المعطلة، الذين كانوا يجحدون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولا يؤمنون إلا بدين مزدك، وتمكنوا وأظهروا السلاح الذي كَانَ بأيديهم يحاربون به الإسلام، فتحولت الرافضة من التشبيه إِلَى التعطيل، وذلك لأن الرافضة ليس لديهم في الأصل دين من عند الله ثابت، بل الثابت عند الرافضة هو: عداوة الإسلام، فهم يدورون مع عداوة أهل السنة ومع عداوة الإسلام الحقيقي حيثما دارت، وقد نص عَلَى ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه العظيم منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية الذي ألفه رداً عَلَى ابن المُطَهِّر -كما سمى نفسه، وهو ابن المُنجِس- في كتابه منهاج الكرامة.
بل المعتزلة أنفسهم كانوا يفسقون أو يكفرون الطائفتين المختلفتين، طائفة أهل العراق - عَلِيّ ومن معه- وطائفة أهل الشام معاوية ومن معه رضي الله عن الصحابة أجمعين؛ حتى قال عمرو بن عبيد: [[لو شهد عندي]] عَلِيّ ومعاوية وعَائِِِشَةَ والزبير وعمرو -يعني أصحاب الجمل، وأصحاب صفين- لو شهد عندي واحد من هَؤُلاءِ عَلَى درهم لرددت شهادته " لأنه فاسق، والفاسق ترد شهادته، ثُمَّ بعد ذلك صاروا شيعة في العقيدة في مجال الصحابة، فالمعتزلة ليس اسمهم المعتزلة، بل هم نفس الشيعة، إما زيدية وإما إثنى عشرية، وذلك لأن المعتزلة أصل دينهم مرض في القلب وشبهات ونفاق، فدخلوا في طائفة الشيعة؛ لأنها طائفة عاطفة بلا عقليات.(1/122)
فالتقت عاطفة بلا عقل صحيح سليم مع الجدليات-أي: الشيعة - وكلام بلا عاطفة -أي: المعتزلة - وأصبحا خطاً واحداً ومنهجاً واحداً، بينما لو قارنَّا كلام الشيعة المتأخرين لوجدناه يخالف كلام الشيعة الأولين في موضوع التشبيه؛ لأن الأولين مشبهة والآخرين معطلة، ولو نظرنا إِلَى المعتزلة الأولين لوجدناهم يكفرون أو يفسقون عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وهم أقرب إِلَى رأي الخوارج، بينما المعتزلة المتأخرين نجد أنهم متشيعين يثبتون الإمامة والخلافة لعَلِيّ أمير المؤمنين وحده، ويبطلون خلافة من عداه.
أما أهل السنة فقد اتفقوا عَلَى أن الله تَعَالَى ليس كمثله شيء، وهم وسط بين المعطلة والمشبهة، فعرفوا حقيقة الإثبات وحقيقة التنزيه؛ لأنهم اتبعوا ما جَاءَ في الكتاب والسنة.
وموقف أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ من التشبيه أنهم ينفونه عن الله كما نفاه الله تَعَالَى عن نفسه حيث قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ونحوها من الآيات، لكن لفظة التشبيه صارت كلمة مجملة تحمل معنيين: أحدهما صحيح، والآخر باطل.
فأهل السنة ينفون التشبيه بمعنى أنه نفي مالا يليق به -سبحانه- مما هو من صفات المخلوقين.
والمعطلة ينفون التشبيه عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بمعنى نفي بعض صفاته، ويقولون: إننا ننفيها عنه؛ لأنها تقتضي أو تستلزم أو توهم التشبيه، ونحو ذلك من العبارات.(1/123)
يقول الشيخ الشنقيطي رَحِمَهُ اللَّهُ في معنى كلامه: "إثبات الصفات التي تشترك فيها أكثر المخلوقات، فيها دليل عَلَى أن الله أولى بإثبات هذه الصفات وهذا الكمال، وهذا الإثبات ليس فيه تشبيه؛ لأنه قال في أول الآية:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فنفى التشبيه، ثُمَّ أثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يليق به من الإثبات، فقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد عَلَى الممثلة المشبهة، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد عَلَى النفاة المعطلة.
فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، مثل ما قلنا في اليهود والرافضة وأمثالهم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النَّصَارَىفي كفرهم حيث قالوا: إن عيسى إله.
والنَّاس في هذا عَلَى مراتب: منهم من ينفي جميع الأسماء والصفات، ومنهم من يثبت الأسماء وينفي جميع الصفات، ومنهم من يثبت الأسماء وبعض الصفات، وينفي بعض الصفات؛ لكن يجمعهم جميعاً شبهة واحدة، وهي ما ذكره المُصْنِّف - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا أنهم يقولون: إذا أثبتنا له شيئاً وللمخلوقات نظيره ففي هذا تشبيه.
ونبدأ في الرد عليهم بأهم وأول صفة لا نختلف نَحْنُ وإياهم عليها، وإن كَانَ فيهم من خالف؛ لكن معظم أهل القبلة المنتسبين للإسلام لا يخالفون فيها، وهي: وجود الله ووجود المخلوقات، فالله موجود والمخلوقات موجودة وليس الوجود كالوجود، وبما أن الوجود ليس كالوجود، فنقول ذلك في جميع الصفات فالحياة ليست كالحياة، واليد ليست كاليد، والاستواء ليس كالاستواء، والعلو ليس كالعلو، وهكذا في جميع ما أثبته الله لنفسه وما أثبته الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/124)
الاشتراك في الاسم هو الذي أوقع الشبهة لدى بعضهم، ولهذا أورد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كثيراً من الآيات والأحاديث التي تثبت أن الاشتراك في الأسماء أو الصفات إنما هو اشتراك لفظي، وأن إثبات أسماء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يستلزم التشبيه؛ لأنه لو كَانَ يستلزمه لما أثبت الله لنفسه أسماء وأثبت نفس الاسم للمخلوق أبداً.
فمثلاً سمى الله سبحانه نفسه حياً، عليماً، قديراً، رؤوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، إِلَى آخر ما مر من الآيات. وسمى المخلوقات بذلك، كما قال الله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام:95] وقَالَ: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:128] وليس الحي مثل الحي، ويقول تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات:101] ويقول عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ووصف نفسه في آيات كثيرة بأنه غفور ورحيم، ورؤوف رحيم.
وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإِنسَان:2] ويقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، فليس السميع كالسميع، وليس البصير كالبصير.
وحديث الاستخارة جَاءَ فيه العلم: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر) ففيه إثبات صفة العلم والقدرة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإبليس اللعين أثبت لله صفة العزة فقَالَ: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] فكيف ينفيها عنه بعض من يدعي أنه من الْمُسْلِمِينَ.
ا- دلالة المطابقة:
ب- دلالة تضمن.
جـ- دلالة التزام.
فمثلاً: اسم: "الله" هذا الاسم من أسماء الله يدل على ذات الله سبحانه وتعالى دلالة مطابقة، وهو يدل على الصفة المشتقة منه بالتضمن، وهي الألوهية.(1/125)
فالاسم يدل على المسمى -وإن كثرت وتعددت- دلالة مطابقة.
واسم القدير: يستلزم إثبات القدرة له، والحي: يستلزم إثبات الحياة له، والرحيم: يستلزم إثبات الرحمة له، فهذه دلالة التزام.
ودلالته على بقية الصفات بالتضمن، فعندما نقول: الله قدير وعليم، فهذا الاسم يدل على أن الله حي، فدلالة الاسم على صفة أخرى غير الصفة التي تشتق منه تسمى: دلالة تضمن.
وسوف نقرأ كلام المصنف عند تقسيم الطوائف الأربع في موضوع التشبيه، وأن الطوائف التي نفت جميع الأسماء ونفت جميع الصفات خارجة من الملة كالجهمية؛ لأنها نفت ما ثبت في القرآن والسنة. فهي لم تثبت إلا وجوداً مطلقاً لا يوصف بأي شيء.
والذين قالوا: نثبت الأسماء فقط كالمعتزلة، والأسماء تدل على الذات دلالة واحدة فقط وهي المطابقة، فلا تضمن ولا لزوم، فالأسماء كلها مترادفات لا تدل على صفات، ولا يشتق منها صفات لله سبحانه وتعالى فلا يصفون الله سبحانه وتعالى بشيء من الصفات التي تشتق من أسمائه سبحانه وتعالى بطريقة اللزوم عند أهل السنة والجماعة.
وأما الأشاعرة فقالوا: نحن نثبت الأسماء ونثبت سبع صفات أو إحدى عشرة أو ثلاثة عشر، وبعضهم يجعلها عشرين، لكن أصلها سبع، يركب منها حتى تصير عشرين فقط، وهي الصفات العقلية: العلم والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصروالقدرة، ولا يثبتون الصفات الخبرية لله، كالغضب والرضا، واليد والاستواء والعلو، إنما يثبتون الصفات العقلية لأن العقل دل عليها.
وقد مر أن اشتراك المخلوق والخالق سبحانه وتعالى في لفظ الاسم لا يدل أبداً على الاشتراك في الحقيقة.
فنقول للأشاعرة قولوا في صفة الغضب والرضا واليد مثل ما تقولون في صفة العلم والحياة والإرادة والكلام، فله -سبحانه- علم وإرادة ليستا كعلم المخلوقين وإرادتهم، فكذلك له غضب ورضىً لا كغضب المخلوقين ورضاهم، ويجيء وينزل ليس كنزول المخلوقين ومجيئهم.(1/126)
ونقول للمعتزلة: كما أنكم تثبتون الأسماء فأثبتوا أيضاً الصفات، فكما تقولون: الأسماء لا تشبه الأسماء، فكذلك الصفات لا تشبه الصفات.
ونقول للجهمية: بما أنكم تقولون وجود لا يشبه وجود المخلوقين، فقولوا في الحياة والإرادة والعلم واليد مثل ما قلتم في الوجود.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب، والمحبة والبغض، ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد.
فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه، فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود، حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.(1/127)
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه. وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه.
فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم، والآخر حادث، أحدهما غني، والآخر فقير، أحدهما خالق، والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً.
ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك، لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه.
والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما: خالق، والآخر: ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير. فلو تماثلا، للزم أن يكون كل منهما واجب القِدم ليس بواجب القِدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعُلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع. فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل، والله أعلم وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه.(1/128)
فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه] اهـ.
الشرح:
علم الكلام ثمرته قليلة، والمصنف رحمه الله أطال في الرد هنا، يريد أن يلزمهم بجنس كلامهم، وإلا فالأسلوب الفطري أخصر وأسهل للفهم.
فمن لا يثبت وجود الله لا بد أنه يثبت وجود المخلوقات، وهذه المخلوقات الموجودة كانت بعد أن لم تكن، وما كان بعد أن لم يكن فهو مفتقر إلى من أوجده، ومن أوجد يستلزم العقل أن يكون كائناً أزلياً لا أول لوجوده، أما هذا الذي كان بعد أن لم يكن فإنه مخلوق لخالق هو الله سبحانه وتعالى، وافتقار المخلوق إليه فهو افتقار إلى غني وإلى خالق أزلي لا أول لوجوده، وهذا أمر مقطوع به لا يكابر فيه إلا من سلب نعمة العقل بالكلية، فهذا شيء موجود وهذا شيء موجود، وتماثلهما ممتنع؛ لأنه اجتماع للضدين.
بل لهذا وجود مستقل وصفات مستقلة، ولهذا وجود مستقل وصفات مستقلة عن الآخر، فالاشتراك في كونهما موجودين لا يستلزم الاشتراك في الصفات، فهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه، متفقان في الاسم: أن هذا يسمى شيء ويسمى موجود، ولكن مختلفان في الحقيقة؛ فهذا وجوده وجود كمال وأزلي، وهذا وجوده حادث وناقص، فاتفقا من وجه واختلفا من وجه.
فهذا كله لا يستلزم التشبيه ولا يقتضيه -ولله الحمد- فليس إثبات ما أثبته الله لنفسه أو رسوله مما يقتضي التشبيه أو يستلزمه.
والطائفة الأخيرة "الرابعة" هي: التي قالت بقضية الاشتراك الكلي والوجود الكلي، وكونه في الأعيان أو كونه في الأذهان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/129)
[وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد.
وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال: بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا وعلى كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً؛ بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها، كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد، لكن بوجهين مختلفين.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى، وزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه، فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر. والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] اهـ.
الشرح:(1/130)
قضية المشترك المطلق الكلي قد سبق أن قلنا: إنه لما وجد أناس ينكرون الحقائق رد عليهم آخرون، وأثبتوا الحقائق بإثبات المطلقات الكلية، ثم إثبات المعينات في الخارج.
فمثلاً: الوجود المطلق، علمه كلي، والوجود أمر مطلق في الذهن لم يعين ولم يخصص، ويتحول هذا المطلق إلى الحقيقة إذا عين بآحاده، فنقول: الله سبحانه وتعالى موجود، فكل ذلك يشمله لفظ الوجود، وهو يطلق على جميع معناه دون استثناء، وكذلك كلي -أي: أن جميع آحاده تدخل فيه كل الموجودات.
وكلمة الوجود: هو الذي جعل المعطلة ينفون صفات الله سبحانه وتعالى بزعم التشبيه، قالوا: لأن هذه كلها تشترك في حقيقة واحدة وهي الوجود.
فمثلاً: الله عليم والمخلوق عليم، إذاً يشتركان في العلم لكن الاشتراك المطلق الكلي ما لم يعين أو يخصص لا يستلزم التشبيه أبداً حتى يتعين؛ لأن هذه قضية معينة لا وجود لها في الأعيان "الذوات الخارجية"، وإنما توجد في ذهن الإنسان، فقولك -مثلاً- "الوجود ". لا يتصور به شيئاً معيناً أبداً، فإذا عينت وقلت: هذا موجود، أو زيد موجود، أو الله موجود، تعين هذا الموجود.
فمجرد الاشتراك في هذا الشيء المطلق الذهني الذي لا وجود له خارج الذهن لا يستلزم التشبيه بحال من الأحوال بدليل أننا عندما نقسم الوجود نقول: ينقسم إلى قسمين: خالق ومخلوق؛ لأن مجرد الوجود هو عام لا يدل على شي معين بإطلاق، فالفرق بين الموجود الكلي والمشترك اللفظي هو: اسم يطلق على شيئين مختلفين في الحقيقة لكن اللفظ واحد، مثل المشتري والعين، فلفظة العين -مثلاً- تطلق على العين التي هي الباصرة، وتطلق على الماء الذي يجري، وتطلق على الذهب. وكذلك المشتري، يطلق على المبتاع الذي يشتري شيئاً، ويقال للكوكب مشتري، ولكن ليس المشتري كالمشتري، وليست العين كالعين.(1/131)
لكن إثبات الصفات ليس من باب المشترك اللفظي فقط، بل ثبت أن علم المخلوقات غير علم الله، لكن يشتركان في مطلق كلي لا مجرد الاشتراك اللفظي، الذي يستخدم في علم البلاغة أو الأصول، بل علم الإنسان يعرف به الأشياء ويدرك حقائقها، ولكن بشكل محدود جداً، أما الله سبحانه وتعالى فإن علمه أكمل وأعظم وأعم.
فهناك اشتراك في الجنس، ولكنه لا يستلزم الاشتراك في الحقيقة أو الذات.
فالقضية ليست من باب المشترك اللفظي، وإنما هي من باب الاشتراك في المطلق الكلي الذي يوجد في الأذهان، ولا يوجد في الواقع إلا معيناً مختصاً، فمثلاً: الإنسان مطلق كلي موجود في الأذهان، لكن عندما نقول: زيد وعمر والملك والخادم، فليس الملك كالخادم، فهما يشتركان في الإنسانية، لكن يختلفان في الصفات والحقيقة.
وأعظم منه ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، كالعلم والحياة والقدرة، وهي ثابتة لله عز وجل، وأثبتها الله للمخلوقات، فلا يستلزم الاشتراك في الإطلاق الكلي، وهو ذهني مجرد، فإذا عين المراد به وعين المسمى به ـ الله أو المخلوق ـ اختلف اختلافاً بيناً.
فالفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي والكندي من فلاسفة اليونان أو المنتسبين للإسلام لهم اصطلاح.
والمتكلمون الذين هم: المعتزلة والأشعرية وأمثالهم لهم اصطلاح، فالفلاسفة يستخدمون عبارة واجب الوجود أو ممكن الوجود أو مستحيل الوجود، والمتكلمون يستخدمون عبارة قديم وحادث.
والفرق بينهم في الاستخدام والاصطلاح، أن الفلاسفة يقولون: العقل يدل على أن الأشياء إما واجبة بذاتها، وإما ممكنة، وإما ممتنعة الوجود لذاتها. فمثلاً يقولون: الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، لا يفتقر وجوده إلى أحد غيره، فالناس لا ينفون الوجود، وليست هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ولا مشكلة أهل السنة مع الطوائف الضالة، لأن الفلاسفة لا ينكرون الوجود، وإنما يسمونه واجب الوجود.
وإنما القضية: "قضية الألوهية".(1/132)
فواجب الوجود عندهم هو ما كان وجوده لذاته، لا يحتاج ولا يفتقر وجوده إلى غيره وهو الله.
وممتنع الوجود هو وجود شريك ومماثل لواجب الوجود.
ووجود أمثال الشجر والحجر يسمونها الممكنات، وبهذا نفهم اصطلاح الفلاسفة، الذي يريد به أصحابه ما نسميه نحن المربوبات كما سماه الله في كتابه قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -فالمخلوقات أو العالمين: كلمة تشمل كل ما سوى الله -سبحانه- فكل ما عدا الله فهو مربوب، والرب هو الله عز وجل، والمربوبات هي الممكنات، فهذا تقسيم الفلاسفة.
وأما تقسيم المتكلمين فيقولون: الأشياء الموجودة إما أنها موجودة بعد أن لم تكن، وإما أنها أزلية الوجود، فالأزلي هو القديم الذي لا أول لوجوده وهو الله، والموجود بعد أن لم يكن هو الحادث.
وما دام أن الله سبحانه وتعالى موجود ومادام أنه واجب الوجود فلنثبت له ما شئنا والإثبات هذا وارد ومثبت في الكتاب السنة لكنه إثبات بلا تشبيه. فهم زادوا وغلوا في الإثبات حتى أثبتوها بما يشبه صفات المخلوقين وأما المعطلة فإنهم عرفوا جانباً من الحق وهو جانب عدم المشابهة وعدم المماثلة وهو حق وأن الله سبحانه وتعالى لا يشابه ولا يماثله شيء لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا حق عرفوه ولكنهم زادوا عليه بأن نفوا ماله من الحق سبحانه وتعالى وقالوا: إذاً لا نثبت له شيء حتى لا نقع في التشبيه.(1/133)
قول المُصنِّفُ في آخر عبارة: [فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤا في نفي المعاني الثابتة لله تَعَالَى في نفس الأمر. والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] وهذا الكلام يقتضي أن كل المعطلة وكل المشبهة وقعوا في التشبيه بنية حسنة، فمجرد التشبيه لا شك أن فيه إثباتاً، ومجرد التعطيل لا شك أنه متضمن للتنزيه هذا مجرد الحكم عَلَى العمل، لكن هل يعني أن المشبهة أو النفاة محسنوا النية، بحيث لا يوجد أحد ممن نفى الصفات إلا ونيته حسنه؟
ليس كذلك؛ لأن من أعظم المشبهة اليهود.
وهل نيات اليهود حسنة بحيث أنهم أرادوا الإحسان في الإسلام وَقَالُوا: نشبه؟
لا يمكن ذلك لكن وجد في الْمُسْلِمِينَ من أخذ هذا الكلام بحسن نية بغير فهم ولا عقل.
فالنفاة المعتزلة وهم أشهر هذه الطوائف ليسوا كلهم عَلَى حسن نية وعلى تنزيه لله، فإبراهيم النظام على سبيل المثال لو قرأتم ترجمته في سير أعلام النبلاء وغيرها من الكتب التي ذكرت ترجمته كَانَ عَلَى دين البراهمة الذين في الهند وهم موجودون إِلَى اليوم وكان في البراهمة فلاسفة ينكرون النبوات والوحي فدخل إبراهيم النظام في دين الإسلام وعنده هذه العقيدة، ولهذا قال عنه بعض العلماء: "وواقع حاله ينطق بذلك" -أي: أنه دخل في الإسلام ليفسد دين الإسلام- وأفسده بطريق المبالغة في العقل؛ لأن البراهمة أو طائفة منهم يقولون: إن العقول تغني عن الشرائع.(1/134)
جاء إبراهيم النظام ودخل في المعتزلة وصار من رؤسائهم وقَالَ: إن العقل هو المعيار في إثبات أي شيء لله وفي نفي أي شيء ويكتفى به عن الشرع، وقال بعضالفلاسفة مثل: ابن رشد في كتاب فصل المقال بما بين الحكمة والشريعة من الاتصال يقولون: الشريعة لا تنافي الحكمة -والحكمة هي الحقيقة نفسها عند الصوفية - لكن العقل أو الحكمة لا تتنافى مع الشريعة؛ لكنهم لو صرحوا لقالوا: الشريعة تنافي الحكمة فحينئذ يكفرهم العوام وتنبذهم؛ لأنهم سوف يقولون: نَحْنُ مع الشريعة ولسنا مع الحكمة، وهذا شيء طبيعي عند الناس؛ لكنهم قالوا: الشريعة لا تتنافى مع الفلسفة، أي: الحكمة.
ويقولون: أعظم شريعة جاءت عَلَى ظهر الأرض وعرفها العالم شريعة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن لو قرأنا هذا الكلام لقلنا: هَؤُلاءِ طيبون يمدحون الإسلام، ولكن هَؤُلاءِ في الحقيقة يقصدون شيء آخر.
يقولون: نَحْنُ عندما عرضنا الشرائع القديمة عرضنا اليهودية والنصرانية عَلَى العقل، أي: عَلَى الحكمة التي هي الميزان فوجدنا فيها الخلل والاضطراب والتناقض، فمثلاً عندما يقرأ أي إنسان التوراة وعنده عقل. فأول ما يقرأ في سفر التكوين يقرأ عن قضية خلق آدم وأن جنة عدن في البصرة وأن الرب يمشي في الجنة، ولا يدري أين ذهب آدم وحواء، وأنهم كانوا مختبيئن، ثُمَّ طلعهم ثُمَّ كذا.. هذا الكلام لا يقبله العقل حتى الفلاسفة الأولين لما قرأوا هذا الكلام، قالوا: هذه الشريعة باطلة ينقضها العقل، وَقَالُوا: لما قرأنا القُرْآن وجدناه جَاءَ بحكمة عجيبة، ثُمَّ قالوا: لو نقول: إن في القُرْآن تشبيه، هكذا بصراحة لنفر منها الْمُسْلِمِينَ، لكن نقول لهم: الشريعة والحكمة كلاهما حق وكلاهما يدل عَلَى شيء واحد؟ ثُمَّ قالوا: إن الشرائع جاءت للعوام، والعوام لا يفهموا إلا أن تقول لهم يد وغضب ورضى ورحمة وخوف ورجاء وكذا لكي يفهموا؛ لكن العقلاء الحكماء هَؤُلاءِ جاءت لهم الحكمة.(1/135)
أي: أن شريعة الله وحي رَبّ الْعَالَمِينَ الذي نزل به جبريل للضعفاء والبسطاء؛ ولكن نَحْنُ عندنا ما هو أعظم مما أنزل الله عياذاً بالله هذا كلامهم أعظم مما نزل الله في الكتب، وأعظم مما بعث به جبريل، وأعظم مما أرسل به مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من كلامأرسطو وأفلاطون وفرخريون إِلَى ابن سينا والكندي والفارابي يقولون: هذا للطبقة العليا المثقفة وهذا يشبه قول الصوفية عندما قسموا الدين إلى: حقيقة وشريعة. وَقَالُوا: لا يوجد تعارض بين الحقيقة والشريعة. فالحقيقة للخاصة ولخاصة الخاصة أما الشريعة فهي للعامة.
نرجع فنقول: هذا لأن كلمة المُصنِّفُ هنا قد توهم: لأن النَّاس قد يقولون: أنتم تهاجمون المعطلة وتهاجمون المشبهة والمصنف يقول: إن المعطلة والمشبهة أحسنوا، لكننا نقول: العمل في ذاته فيه حق وتبعه كثير من الباطل لكن لا يستلزم ذلك القول بأن هَؤُلاءِ النَّاس جميعاً جاؤا وأرادوا الحق وأرادوا الإحسان، بل الذين كانوا في عهد النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين لما أقسموا بالله أنهم لا يريدون إلا الإحسان والتوفيق لم يقبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منهم ذلك؛ بل رده عليهم وأمر رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عنهم وأن لا يصدقهم في هذا القول، فكثير من النَّاس يدعي الإحسان ويدعي التوفيق [إما التوفيق بين العقليات والنقليات، وإما الإحسان، وإما الإصلاح بين الحقيقة والشريعة، أو بين الحكمة والشريعة] كما يزعم هَؤُلاءِ، والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(1/136)
إن وجود الاقتران أو الاشتراك اللفظي هو سبب ضلال الفرق في معرفة الله سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى خاطبنا ووصف نفسه بكلامنا ولغتنا، فهذه اللغة أوهمت بعضهم حتى قال: نحن لا نتصور الاستواء إلا بالشكل الحسي المعروف، ولا نتصور النزول إلا بالشكل الحسي المعروف، وهو انتقال جسم من مكان إلى مكان، ولا نستطيع أن نتخيل اليد إلا جارحة، ولا نتخيل السمع إلا بأذن وصماخ ... الخ.
هذا هو منشأ الخطأ في حق الله تبارك وتعالى، مع أن الله تعالى أخبرنا عن الجنة أن فيها حوراً عيناً، وأن فيها أنهاراً من خمرٍ وأنهاراً من لبن وأنهاراً من عسل، وأن فيها فضةً وحريراً وذهباً، وأن فيها ولداناً وأشجاراً وثماراً، وغير ذلك من أنواع النعيم الذي في الجنة، ومع ذلك نعتقد أن ما عندنا من نعيم الجنة إنما هو الأسماء، فنؤمن به مع اعتقادنا أنه يكون لأهل الجنة، ونرجوا الله سبحانه وتعالى أن نذوق هذا النعيم، ونؤمن أنه نعيم لا يشبهه في الدنيا، ولا يشبهه شيء مما تراه أعيننا في الدنيا، ولا يمكن أن تتخيل عقولنا وأذهاننا شيئاً يشبهه.
فكيف نقول: إننا لا نفهم من صفات الله سبحانه وتعالى إلا ما نعلمه من صفات المخلوقين، وأنه يجب أن نؤولها وننفيها، فخفاء صفات الله سبحانه وتعالى عنا أعظم وأكثر من خفاء نعيم الجنة، وكذلك أحوال يوم القيامة، وغير ذلك من العوالم الغيبية التي نعلمها.
فإن الشبهة الكبرى التي وقع فيها من أوّلَ في باب الصفات هي قولهم: إن الله أنزل هذا القرآن بلغة العرب، وخاطب العرب بما يفهمون، ونحن لا نفهم من لغة العرب إلا أن اليد جارحة، وأن النزول والمجيء هو الانتقال من مكان إلى مكان، وأن العين هي هذه الباصرة، وأن الغضب ثوران القلب، والرحمة استعطاف وانكسار في القلب، وهذه شبهه كبيرة، ولكنها ليست بشيء عند أصحاب العقول السليمة والفطر القويمة.(1/137)
فصفات الله سبحانه وتعالى جاءت بلغة العرب، فلو خوطبنا بشيء لا ندركه تماماً لما فهمنا أي شيء تماماً، فلا بد أن يكون هناك قدراً معيناً بين الألفاظ الموضوعة وبين المعاني التي وضعت لها الألفاظ، وهذا القدر المعين لا يستلزم بحال من الأحوال أن يكون كل من أطلق عليه اللفظ مساوياً للآخر في الحقيقة.
قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] وقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فالله سبحانه وتعالى له سمع يسمع به وبصر يبصر به فيحيط به المسموعات والمرئيات والمبصرات.
فنستطيع فهم الصفات واللوازم، وأما العين والحقيقة والذات فهذه لا نستطيع أن نفهم كيفيتها أبداً، فنؤمن أن الله سميع وبصير، وأنه على العرش، وأنه ينزل، وأنه يغضب، وأنه يرحم، مع الاعتقاد بأننا لا نستطيع معرفة كيفية الغضب والرحمة والاستواء وسائر الصفات؛ ولهذا عندما نفى علماء السلف الكيف وقالوا: نؤمن بلا كيف، ومعناه: إثبات شيء وبمعناه مع جهل كيفيته؛ لأنا إذا كنا ننفي نفس المعنى، فلا نحتاج أن نقول ليس له يد بلا كيف.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد، ويشار له إلى معناه إن كان مشهوداً بالإحساس الظاهر أو الباطن.(1/138)
فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر أول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه فلا يعرف باللفظ ابتداء. ولكن يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولاً أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك، ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه] اهـ
الشرح:
إن الألفاظ وضعت لتدل على معان معينة، وهذه المعاني لا بد أن يكون بينها وبين اللفظ قدراً مشتركاً ومن هنا كانت اللغة محتاجة إلى التعليم السماعي، ولذلك لو عاش طفل بين بعض الحيوانات -كما في علم الاجتماع - وصار يرضع منها، ويعيش معها، فإنه لا يتكون لديه لغة، لأن اللغة سماعية، ولها مراحل.
الدرجة الأولى: وهي أبسط مراحل تعلم اللغة كأن تشير للطفل وتقول: هذا جبل، هذا قمر، هذا أب، هذه أم. والطفل يرتبط في ذهنه المعنى بالإشارة فيحفظ، ولذلك لو حفظ الطفل خطأ، وخاطب الناس فسيشير إلى الجبل ويقول: هذا ماء؛ لأنه أخذها تعلماً سمعياً.
ولهذا يذكر المصنف -رحمه الله-: أنه لا يمكن لأحد أن يستغني عن السماع، لأن أبانا آدم عليه السلام علمه الله سبحانه وتعالى أسماء كل شيء، وعلمه كيف يطلق الأسماء على مسمياتها، الموضوعه لها.(1/139)
والدرجة الأولى أقل درجات الخطاب ومعرفة المخاطب، فالمتكلم إذا كان له معنى في نفسه يريد أن يعبر عنه ويشرحه لغيره، فأوضح شيء في الشرح أن يقول: لو سألك أحد عن شيء لا تعرفه تماماً فقل: مثل هذا، فاللفظ هنا يدل على المعنى الذي فهم عن طريق الإشارة، فهذه الدرجة أدنى درجات الإفهام، ولو ذهب أحدنا إلى أي بلد من البلدان وأراد أن يتعلم لغة ما، لتعلمها بهذه الطريقة، بل حتى في الكتب التعليمية تكتب الكلمة، ويرسم شكلها جوار الاسم، فيعرف أن المقصود بالكلمة المكتوبة هي هذه الصورة.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:
[وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده، أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا. والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عيَّنه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه. أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره] اهـ.
الشرح:
الدرجة الثانية: هي الشيء غير المحسوس كالجوع والظمأ.(1/140)
عندما يكون الشيء معقولاً، وليس أمراً مشاهداً؛ فإنه يفهمه إذا أحس من نفسه هذا الشيء أو من غيره، واحتفت قرائن تدل على أن هذا هو الشيء المراد، فمثلاً. الطفل يفهم معنى كلمة الجوع أو العطش، إذا أحس في نفسه هذا الشيء ووجد أن أمه تقول: أنت جائع، فتقدم له الطعام أو الحليب، وفي كل مرة يتكرر هذا العمل، أو تقول: أنت عطشان، وتأتي بالماء، فيقترن في ذهنه أن الماء للعطش، وأن الطعام للجوع، فيفهم أن هذا الشيء الذي ينشأ في داخله وهو الحاجة إلى لطعام يسمى جوعاً، والحاجة إلى الشراب تسمى عطشاً، فيفهم الطفل هذا الشيء ويتلقاه، مع أنه غير مشار إليه، فهذا النوع عقلي باطني يدرك بالعقل، فعندما يرى الطفل إنساناً عليه ملامح التجهم والانقباض ويقول أبوه: هذا غضبان، ويأتي إنسان عليه علامات الانشراح والابتسام فيقول الأب: هذا فرح، يفهم الطفل أو غيره معنى كلمة غضبان، ومعنى كلمة فرح.
قال المصنف -رحمه الله تعالى:(1/141)
[إذا عرف ذلك، فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلوا إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله , وإما أن لا يكون كذلك، فإن كانت من القسمين الأولين، لم يحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:9،8] أو قيل له: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78] ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه. وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لم يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل.
فالرسول -صلوات الله وسلامه عليه- لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر. وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قالربيعة بن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم] ا. هـ
الشرح:(1/142)
إذا أردت أن تبين معنى من المعاني، فعليك باللفظ الذي يعرفه الناس إما معرفة حسية أو معرفة عقلية، كالأمثلة التي ضربها المصنف ومنها قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ [البلد:9،8] فاللغة كفت لبيان الأمور المحسوسة والمشاهدة، كما تكفي لمعرفة الأشياء المعقولة لدى الإنسان، كالعلم والرضا والجهل والكرم والغضب وأمثال ذلك من الأمور غير المشاهدة، وهي معلومة بعقول بني آدم.
مثاله: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل: (لا تغضب) فعرف الرجل معنى: لا تغضب؛ لأن الغضب معروف لديه ولدى غيره من المخاطبين، وكذلك العلم والرحمة معروفة عند بني آدم.
ومن أمثلة ذلك أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه الله سبحانه وتعالى بمعان جديدة، كالصلاة؛ فإنها في لغة العرب بمعنى: الدعاء، والزكاة في لغة العرب بمعنى: التطهير، والصيام عند العرب بمعنى: الإمساك، وكذا الحج بمعنى: القصد إلى الشيء.
فلما جاء الشرع من عند الله سبحانه وتعالى وخاطب الناس بلغتهم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4] عبر عن المعاني الجديدة التي لم يعرفوها قط عن طريق التمثيل والتقريب، وكلما كان المخاطِب أبلغ كان بيانه أجلى، وتمثيله أعظم.
فأتى بالقدر المشترك، كالصلاة فطبقها النبي صلى الله عليه وسلم أمامهم فبدأ بتكبيرة الإحرام، وانتهى بالتسليم، بما في ذلك من قراءة وركوع وسجود، وكذلك الحج: قصد البيت الحرام وأداء النسك.(1/143)
فقربت هذه المعاني من جنس كلام العرب حتى يفهموها، وأصبح الإنسان بعد ذلك لا يفهم من الصلاة أنها الدعاء، وإنما يفهم منها الصلاة المعروفة، مع أن الصلاة المعروفة الآن بأركانها لا تشبه في مدلولها مجرد الدعاء، الذي يعرفه العرب في الجاهلية، فخوطب الإنسان بما يؤديه، ومن الممكن أن يفهمه، فكيف بما يتعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والآخرة؟ وما يتعلق بالأمور الغيبية المطلقة التي لا يعلمها الإنسان ولا يمكن أن يفهمها.
فلا بد أن هناك قدراً مشتركاً بين ما خوطب به الإنسان، وبين حقائقها الغيبية، فمثلاً: النار أو جهنم -والعياذ بالله- إذا قرأها الإنسان في القرآن، فإنه يعلم أنها لا تشبه نار الدنيا، لكن هناك قدر مشترك يجعل هذه تشبه هذه، وكذا الجنة وردت في القرآن بمعنى: الروضة الجميلة، والبستان -مثل أصحاب الجنة في سورة القلم وصاحب الجنتين في سورة الكهف- وليست هي مثل جنة الخلد، والعلاقة بين الطرفين أن فيهما نعيم ورخاء، وكلتاهما تستلذ وتستطاب، ومن أجل هذا القدر المشترك قرب لنا اللفظ، وسميت الجنة لنفهم ونعرف أن فيها نعيم.
والذين أنكروا الصفات قالوا: إن الجنة في كلام العرب لا تعقل، إلا أنه هذا النخل والعنب والشجر والماء، فجنة الآخرة مثلها، وهذه الجنة تفنى؛ لأنها أجسام معينة ونباتات، والنباتات من خواصها ولوازمها الفناء، فدخلوا في قضايا عقلية قياسية بسبب قولهم: إن اللغة وضعت هذه اللفظة هكذا.(1/144)
ونرد عليهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن نعيم الجنة: فيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) ، وكما قال ابن عباس: (ما عندكم في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) أي: الاشتراك اللفظي فقط، فهذه جنة وهذه جنة، وهذا نهر وهذا نهر، وهذا خمر وهذا خمر، لا يعني أن جنة الدنيا كجنة الآخرة، ولا أن أنهارها كأنهارها، ولا أن خمرها كخمرها؛ لكن لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يفهمنا ويُعْلمَنا بهذه الجنة، وكانت مما لا ندركه بحواسنا ولا بعقولنا، خاطبنا بأمر نعقله عن طريق التمثيل للتقريب.
وصفات الله سبحانه وتعالى أعظم من ذلك وأجل، فإن الله سبحانه وتعالى عليم، سميع، بصير، رحيم، كما أخبر عن نفسه، فهناك قدر مشترك لفظي فقط، بينها وبين صفات الإنسان، وهو أن الإنسان يدرك المسموعات التي تليق به، والله تبارك وتعالى يدرك المسموعات التي تليق به، وهو سبحانه قد أحاط بكل شيء علماً، ولا يفوته شيء، ولا يعجزه شيء، بخلاف الإنسان فإن سمعه محدود.
وكذلك البصر فإنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- شيء، وأما الإنسان فبصره محدود.
فخوطبنا بهذه الكلمة من كلام العرب لكي نعرف حقيقة المعنى، ونميز بين هذا المعنى والمعنى الآخر، فكون الله سبحانه وتعالى سميعاً غير كونه بصيراً، وكذلك الإنسان له سمع وبصر، وكونه سميعاً يفرق عن كونه بصيراً، فإذا قلت لك: هذا إنسان بصير، فإنك تفهم أن له عيناً يبصر بها.
وإذا قلت لك: هذا إنسان سميع، فإنك فهمت شيئاً آخر، ولذلك جاءت الألفاظ في القرآن والسنة لتبين هذه المعاني، ونعرف القدر المشترك البسيط من إدراك المسموعات أو إدراك المبصرات، ولكن ليس الإدراك مثل الإدراك، أما حقيقة الذات المعني بها اللفظ فلا يمكن إدراكها، ولا يمكن للعقول أن تتخيلها أو تتوهمها، لأنك لا تستطيع أن تتخيل ما هو أهون من ذلك، وهو نعيم الجنة الذي هو أقل من ذلك بكثير.(1/145)
فالدرجة الثالثة: إذاً هي درجة الأشياء التي لا تدخل تحت معرفة البشر الحسية أو العقلية، ولكن الخطاب يكون بما يماثلها ليقربها، وكلما كان البيان أكمل كلما كان تقريب المعنى لديه أعظم.
وهذا يستعمل حتى في الأشياء البشرية المستجدة؛ فلو أن هناك جهازاً اُخترع، وتريد أن تعرفه لإنسان وتشرحه له، وهو لم ير هذه الآلة من قبل، ولم يفكر فيها، فتضرب له مثلاً وتقول: هذه الآلة مثل الطائره -مثلاً- ليعرف أو يتصور شيئاً معيناً يميز به هذا الشيء، فإذا أريته الآلة، وقلت له: هذه الآلة التي كنت أشرحها لك، فإنه سيجد شيئاً غريباً لم يخطر على باله، والذي خطر على باله أولاً إنما هو شيء يميز به هذه عن غيرها.
وهذا هو فائدة الاسم في اللغة العربية، أن يميز به الشيء عن الآخر، فالأسماء توضع للتمييز بين الأشياء فقط، فهذا أحمدُ، وهذا عليٌ وهكذا، ولكن قد يكون هناك شخصان كلاهما اسمه علي، وتختلف حقيقة كل منهما، فالألفاظ تأتي للتقريب والدلالة، وأسماء الله تعالى وصفاته وضعت لها ألفاظ ليميز بعضها عن بعض.
وكذلك القدر المشترك اللفظي بين ما وصف الله سبحانه وتعالى به نفسه، وما وصف به خلقه من بنى الإنسان، أمر معقول في كل ذهن، لا في الحقيقة والواقع والذوات؛ فليس هناك أي تشابه على الإطلاق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:(1/146)
[وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد، وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية. ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: لَقَدْ كَانَ فِي قَصصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [يوسف:111] وقد يكون الذي يخبر به الرسول مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه، لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه، كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ألفاظ ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به، يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة، فينبغي أن تعرف هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب.(1/147)
فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة، فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والاشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها، لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها، بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك، وإذا تقدر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع منه وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط] اهـ
الشرح:-
لكي نفهم هذه المراتب الثلاث: المعرفة الحسية، والمعرفة العقلية، ومالا يدخل تحت الحس أو العقل، ينبغي أن نعرف الرد على الذين ينفون صفات الله سبحانه وتعالى ويقولون: الألفاظ الموضوعة لا يفهم منها إلا هذا الشيء، فنحن لا نفهم من اليد إلا الجارحة، ولا نفهم من النزول إلا الانتقال، ولا نفهم من المجيء إلا الانتقال وهكذا، فنقول: ما أتفه هذه العقول وما أضلها، يقول تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فنحن لا نستخدم أي لفظ لم يأت به الشرع، بل هذا دليل على أن التشبيه في قلوبنا إن استخدامنا غير الألفاظ الشرعية، أما علماء الكلام ونفاة الصفات ففي قلوبهم وأنفسهم تشبيه فهم يحرفون كلام الله، ويضيفون إليه ما لم يضفه.
قال الطحاوي رحمه الله:
[ولاشيء يعجزه] .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[لكمال قدرته، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] : وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45] وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] .(1/148)
لا يؤده أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه. فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [الكهف:49] ، لكمال عدله، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ:3] لكمال علمه. وقوله تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38] لكمال قدرته. لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا يرى أن قول الشاعر:
قُبَيِّلة لا يغدرون بذمةٍ ولا يظلمون الناس حبة خردل
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: "قُبيلة" عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم، وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، عُلم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضاً.
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل.(1/149)
يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عَرَض ولا بذي لون ولا طعم، ولا رائحة، ولا مجسة، ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجرى عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة، ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناهٍ، ولا يُوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدودٍ، ولا والد ولا مولود، ولا تُحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ... إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك، لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي، فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلم منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي، أجملت في الأدب] ا. هـ.
الشرح:-
يقول الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى:
[ولا شيء يعجزه] .
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [لكمال قدرته ... إلخ....](1/150)
وهذا من دقيق فهم ابن أبي العز "الشارح" رحمه الله، وهو أن الله سبحانه وتعالى إذا وصف بنفي شيء، فإنما يكون لكمال ضده، فكل آية فيها نفي يأتي بعدها ما يدل على الكمال، كما قال: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوب [ق:38] وذلك لكمال قدرته سبحانه وتعالى في خلق السماوات والأرض، وقال: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْم [البقرة:255] لكمال حياته وقيوميته التي وردت في أول الآية، وقال: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] أي: لكمال جلاله وعظمته أن يحيط بها أي شيء.
فالنفي الصرف المطلق لا يقتضي المدح، أي: لا مدح فيه في لغة العرب، قال أحد الشعراء يهجو قبيلة:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
فهذا ليس مدحاً لهم، وإنما أراد أن يقول: إنهم ضعفاء عاجزون لا يؤذون أحداً لضعفهم، ولا يغدرون إذا عاهدوا، ولا يظلمون الناس ولو حبة خردل لضعفهم وجبنهم، كما قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
أي: أن هناك علة، كعدم قدرة أو خوف، وذلك لأن الظلم من شيم النفوس، وهذا هو المعنى الجاهلي، وكما قال آخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
كأن ربك لم يخلق لخشيته سواهم من جميع الناس إنسان
أي: كأن الله لم يخلق أحداً يخافه إلا قومه، ينفي عنهم الشر، وهذا ليس مدحاً لقومه، بل يهجوهم ويتهمهم بالضعف والخور والجبن والعجز.
فالله سبحانه وتعالى وهو أعظم من يُوصف ويُثنى عليه الثناء اللائق بجلاله، لا يوصف بمجرد السلوب.
فلا نقول: لا يظلم فقط؛ وإنما: لا يظلم لكمال عدله، والذين يصفون الله بالنفي المجرد فقط فقد وقعوا في ضلال في صفات الله سبحانه وتعالى، ووقعوا في إساءة الأدب مع الله سبحانه وتعالى.(1/151)
فلو دخل أحد على ملك وأراد أن ينزه الملك، فقال: أيها الملك أنت لست بزبال، ولا كناس ولا طباخ، ولا حجام، فإن الملك سيؤدبه، والناس سيسخرون منه ويقولون: الملك في درجة عالية وأنت تخاطبه هكذا، فتنفي عنه أشياء حقيرة.
فكيف يوصف مالك الملوك بصفة سلبية أو إضافية، فيقولون: ليس بجاهل، أو يقولون: له علم، أو عنده علم، فيضيفون له العلم، ولا يقولون: إنه عليم.
لأنه يخيل إليهم أنهم إذا قالوا: "عليم"، أنهم قد أثبتوا شيئاً فيه تشبيه، أما إذا قالوا: "ليس بجاهل" فهذا مجرد نفي ولا يقتضي إثبات شيء.
وقد ذكر المصنف رحمه الله ألفاظاً كثيرة جداً فقال عنها: فيها حق وباطل، فقولهم: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم، هذه نفيها حق، وقد يكون فيها باطل، كما نفوا عن الله صفة ثابتة له بقولهم: وليس فوق، وأما قولهم: وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، فهذه توهم الباطل؛ فإنهم يريدون بقولهم هذا أن يوهموا ويجعلوا الصفات من باب الأعضاء والجوارح.
وكقولهم: الحمد لله الذي تنزه عن الزمان والمكان، وأصرح منه: ولا يسأل عنه بالأين، فهذا كله باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أعرف الخلق بالله سأل الجارية (أين الله؟) ، وقولهم: ولا والد ولا مولود، هذا حق كما جاء في كتابه سبحانه وتعالى، فبعض كلامهم في النفي حق، وبعضه باطل، وبعضه يوهم الباطل أو قد يؤدي إليه.
وأما في الثناء والمدح والإثبات فإننا نفصل، كما فصل الله ورسوله، فالآيات والأحاديث في الإثبات مفصلة، فيخبر الله سبحانه وتعالى عن نفسه بأخبار مفصلة، كما في أواخر سورة الحشر، وآية الكرسي، والفاتحة، والإخلاص ونحو ذلك، وأما النفي فإنه مجمل، كما قال تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وهو استفهام بمعنى النفي، وهو نفي مجمل، وقال تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:3-4] .(1/152)
وأما لفظ: الجوهر والعرض والرطوبة والحرارة والعمق والارتفاع ونحوها.
فهذا من إساءة الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المعطلة هم في أصلهم مشبهة، وأن تعطيلهم نابع من التشبيه، فشبهوا الله بفهمهم ثم نفوا ما فهموه، فعندما قالوا: ليس بذي حرارة ولا رطوبة، كان هذا ما توهموه، وأن إثبات أسماء الله وصفاته يستلزم حرارة ورطوبة وطولاً وارتفاعاً، ثم قاموا بنفي ما فهموه، فالقاعدة المهمة في باب الصفات عند أهل السنة والجماعة أن نثبت لله سبحانه وتعالى الصفات إثباتاً مفصلاً، وننفيها نفياً مجملاً.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية، هو سبيل أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هَؤُلاءِ إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به عَلَى الكتاب والسنة. والمقصود: أن غالب عقائدهم السُلوب، ليس بكذا، ليس بكذا.(1/153)
وأما الإثبات، فهو قليل، وهي أنه عالم قادرٌ حيٌ، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة ولاعن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات، فإن الله تَعَالَى قَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي، ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القُرْآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي) .
وسيأتي التنبيه عَلَى فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى.
وليس قول الشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ولا شيء يعجزه] من النفي المذموم، فإن الله تَعَالَى قَالَ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] .
فنبه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في آخر الآية عَلَى دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تَعَالَى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو عَلَى كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز، لما بينه وبين القدرة من التضاد؛ ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً] اهـ.
الشرح:(1/154)
قاعدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الأسماء والصفات أنهم يثبتون ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إثباتاً مفصلاً، وينفون نفياً مجملاً، وأما طريقة أهل البدع فإنهم ينفون نفياً مفصلاً، ويثبتون إثباتاً مجملاً، والجهمية والباطنية الغلاة والمتفلسفة ينفون جميع الصفات ويوافقون في إثبات صفة واحدة وهي الوجود، وكلامهم خارج عن الكتاب والسنة؛ لأنه لم يرد فيهما الاقتصار عَلَى النفي فضلاً عن النفي بالسلب فقط، وكذلك هو خارج عن الطرق العقلية التي يتخذها بعض مثبتة الصفات -أي: الطرق العقلية التي سلكها الأشاعرة في إثبات الصفات السبع- بل بعضهم يقول: لا نقول موجود، بل نقول: ليس بمعدوم فقط، فهم لا ينفون إلا بالسلب.
وبعضهم يقول: موجود، ويسميه واجب الوجود.
فيُقَالُ لهم: إذا أثبتم وجوداً لا يشبه وجود غيره وهي صفة ثبوتية، فكذلك أثبتوا له استواءً لا يشبه استواء غيره، ويداً لا تشبه يد غيره، وهكذا في جميع الصفات.(1/155)
وفي هذا الحديث دعاء عظيم فمن دعا بهذا الدعاء فكأنما دعا الله باسمه الأعظم؛ لأنه يقول: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحد من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ... إلخ) وفي الجملة الأخيرة يدخل الاسم الأعظم وإن كَانَ ورد أنه في آية الكرسي أو نحو ذلك، لكن حقيقة الاسم الأعظم، أو حقيقة أن لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفات وأسماء لا نعلمها، هذه ثابتة بنص هذا الحديث، ولذلك فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يثبت له ما أثبت لنفسه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبعض صفاته التي لم يخبرنا بها، فاعتمادنا عَلَى ما ثبت به الدليل وليس للعقل أو غيره مجال في ذلك، ثُمَّ عاد المُصنِّفُ معقباً عَلَى قول الإمام الطّّحاويّ الذي هو جزء من الآية "لا يعجزه شيء" وهل يدخل في النفي المحض أم لا؟ ونحن نقول: لا يدخل في ذلك لأن هذا جزء من الآية، التي في آخر سورة فاطروَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] ويكون العجز من الإِنسَان بسبب الجهل وقد يكون عالماً بالشيء؛ لكنه لا يقدر عليه، أما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه نفى عن نفسه العجز، وأثبت العلم والقدرة، فمن كَانَ لديه كمال العلم وكمال القدرة -وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله- تعالى: [ولا إله غيره]
قال المصنف -رحمه الله-:(1/156)
[هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها كما تقدم ذكره، وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال، ولهذا - والله أعلم - لما قال تعالى: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] قال بعده: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] فإنه قد يخطر ببال أحدٍ خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.
وقد اعترض صاحب " المنتخب " على النحويين في تقدير الخبر في " لا إله إلا هو " فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره، والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في " ري الظمآن " فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب فإن " إله " في موضع مبتدأ على قول سيبويه وعند غيره اسم "لا" وعلى التقديرين، فلا بد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد.(1/157)
وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين "لا ماهية" و"لا وجود". وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهيةً عاريةً من الوجود. و"إلا الله" مرفوع، بدلاً من "لا إله" لا يكون خبراً لـ"لا" ولا للمبتدأ، وذكر الدليل على ذلك، وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: " في الوجود " ليس تقييداً، لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] . ولا يقال: ليس قوله: "غيره" كقوله: "إلا الله" لأن "غيراً" تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد "إلا" فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا] اهـ.
الشرح:
هنا المبحث ذو شقين، الشق الأول يتعلق بمعنى لا إله إلا الله وبأهميتها، والشق الآخر يتعلق بإعرابها وما أثاره بعضهم حول إعراب "لا إله إلا الله"، ونحن كما ذكر المصنف -رحمه الله- لا يهمنا الإعراب والخلاف فيه، أو الخلاف في التقدير، وإنما الذي يهمنا هو معرفة حقيقة لا إله إلا الله، لكن مع ذلك لا بد أن نشرح هذا الكلام بقدر ما نستطيع من التبسيط والتقريب إن شاء الله.
أهمية معنى (لا إله إلا الله) .
يقول المصنف -رحمه الله-: [هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل] ، أي: كلمة الشهادة، فكلمة لا إله إلا الله هي الشهادة لله سبحانه وتعالى بالوحدانية أي أن يكون الله تعالى هو وحده المعبود دون ما سواه من المعبودات والآلهة، هذا هو ما جاءت به جميع الرسل ودعت إليه أقوامهم.(1/158)
وقوم لوط عليه السلام هم الأمة الوحيدة التي كانت دعوتها إلى ترك الفاحشة، وإلى التقوى والإيمان بالله سبحانه وتعالى ولكن مرد ذلك إلى أن هؤلاء القوم كانوا موحدين، لكنهم كانوا يرتكبون الفاحشة، وإلا فعموم قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] يدخل فيه قوم لوط وغيرهم فإن التوحيد يدعى إليه الموحد أيضاً، لكن قد يأتي نبي كما هو الحال في لوط عليه السلام، أو يأتي أي داعية من الدعاة إلى ناس من أهل التوحيد يرتكبون منكراً ظاهراً، فيكون همّ دعوته هو القضاء على هذا المنكر وإن كان أقل من الشرك.
ومع ذلك لا ينبغي لأي داعية أن يُغفل جانب الألوهية والدعوة إلى تصحيح أنه لا معبود إلا الله سبحانه وتعالى وأنه لا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة، من الدعاء أو الرجاء أو الخوف أو النذر أو الرغبة أو الرهبة أو المحبة أو الخشوع أو الذبح أو نحو ذلك من أنواع العبادات لغير الله تعالى؛ بل تصرف كل هذه العبادات لله وحده، وكذلك الطاعة والتسليم والانقياد في التحليل والتحريم واتباع الأمر لا يكون ذلك إلا لله سبحانه وتعالى وحده، فالمراد أن هذا هو ما دعى إليه الأنبياء، فكل نبي جاء إلى قومه وقال لهم: اعبدوا لله ما لكم من إله غيره، وجميع الأنبياء قالوا ذلك، وإن كان بعضهم أو بعض الدعاة قد يدعو ويجعل محور دعوته أمراً غير ذلك إذا كان التوحيد متحققاً، ولكن بعض لوازمه غير متحققة كالمجتمع الذي تفشوا فيه المنكرات وتنتشر فيه الرذيلة، مع وجود القدر المطلوب من التوحيد، ومع ذلك فإن هذا من مقتضيات التوحيد ومن لوازمه وهو الانقياد لأمر الله سبحانه وتعالى.
أركان كلمة لا إله إلا الله(1/159)
تتكون كلمة التوحيد من ركنين هما النفي (لا إله) والإثبات (إلا الله) ، ومن هذين الركنين يتكون معنىً أعم وأبلغ وأدق من المعنى المثبت بدون نفي، فلو قلنا: الله الإله، أو الإله الله، فقط من دون النفي والإثبات لم يكن أدق ولا أبلغ من قولنا: (لا إله إلا الله) ، ولذلك يقول المُصْنِّف مثلاً لما قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البقرة:163] هذه الآية جاءت إثبات فقط دون نفي، لكن قال عقب ذلك: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163] فأعقب ذلك بالنفي لحكمة كما قال المصنف: [إنه قد يتبادر خاطر شيطاني] وهذا الخاطر الشيطاني كأن يقول: هذا إلهكم إله واحد، فلغيركم إله آخر، فتأتي الآية فتنفي هذا الخاطر الشيطاني وتشمل وتعم نفي جميع المعبودات من دون الله، فيقول الله سبحانه وتعالى بعد ذلك: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وإلهكم معاشر المخلوقين أو المخاطبين إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، فدل ذلك عَلَى نفي ألوهية غير الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنه لا إله سواه جل شأنه، فهذا الذي يدل عَلَى أن اللفظة ما دامت مركبة من النفي والإثبات، فهي أبلغ وأدل مما لو كانت فقط للإثبات، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) تكون من ركنين "النفي والإثبات"، هذا النفي المقرون بـ "إلا" يسمى في اللغة العربية: "الحصر" أو "القطع" وهو في قوة "إنما" وهي أداة حصر، تسبق المبتدأ والخبر، فكأنه يقول: إنما الإله الله، هذه أساليب الحصر، و"إنما" من أدوات الحصر، ولذلك جَاءَ في القرآن: "إنما الله إله واحد" والأسلوب الثاني من أساليب الحصر هو النفي "بلا" والاستثناء بعد "لا" "بإلا"، فهذان الركنان النفي والإثبات هما ركنا شهادة أن لا إله إلا الله.
شروط لا إله إلا الله(1/160)
أما شروط لا إله إلا الله، فقد قلنا: إنها سبعة، لو تأملناها لوجدنا أنها أعمال القلوب الرئيسية، أي: أصول أعمال القلوب من "العلم، واليقين، والصدق، والإخلاص، والمحبة والانقياد، والقبول"، هذه الشروط أعمال قلبية، وهي أساس أعمال القلوب، فلو أن إنساناً عنده شك ففي المقابل ليس عنده يقين، كَانَ يكون عنده شك في الله! هل يكون هذا مؤمناً أو مسلماً؟ لا يكون أبداً، وإذا كَانَ إنسان ليس عنده علم بأن الله هو الإله وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا لا يكون مسلماً أيضاً، فهو يقول: (لا إله إلا الله) لكنه غير صادق في قول (لا إله إلا الله) إنما يقولها كما يقولها المنافقون نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [المنافقون:1] ، فلا تنفعه؛ لأنه يقولها وهو غير محبٍ لها ولقائلها وغير منقادٍ لها وللوازمها ولمقتضياتها، وغير قابل لها أيضاً، وهذا لا ينفعه، ولذلك نقول: ليس المطلوب منا هو مجرد لفظة (لا إله إلا الله) .
بعض المفاهيم الخاطئة من مفهوم لا إله إلا الله(1/161)
غلط من غلط في معنى (لا إله إلا الله) ، وظن أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد اللفظ، وقال من قال لا إله إلا الله، أو من نطق بلا إله إلا الله، فإنه يكون مسلماً وإن عمل ما عمل، وإن اعتقد ما اعتقد، وهذا من أبطل الباطل، ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك: أن المنافقين عَلَى كثرتهم في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يقولون: لا إله إلا لله، ويغزون، ويحجون ويتصدقون ويصلون ويصومون لكن لا ينفعهم ذلك؛ لأنهم كانوا كاذبين، وكانوا غير مخلصين، فلو أنهم صدقوا الله في قولهم (لا إله إلا الله) وصدقوا في قولهم: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّه [المنافقون:1] وأخلصوا دينهم لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لكانوا من المؤمنين، وإن كانت فيهم بعض المعاصي، لكن لما أنهم لم يكونوا كذلك لم ينفعهم مجرد أن قالوا: (لا إله إلا الله) أو شهدوا أنه (لا إله إلا الله) فهذا أحد أنواع الغلط في شهادة (لا إله إلا الله) وذلك لظنهم أنها مجرد لفظ.(1/162)
النوع الثاني من أنواع الغلط في شهادة أن (لا إله إلا الله) : قول من ظن أن معناها: (لا رب إلا الله) بمعنى: الربوبية أي: (لا خالق إلا الله) ، و (لا رازق إلا الله) ، و (لا فاعل إلا الله) ، وهذا يقول به طوائف من الناس، وسبق أن تحدثنا عن ذلك، وتحدث عنه المُصْنِّف وهذا قول بعض طوائف من المتكلمين وبعض الصوفية الذين يقولون: إنه لا فاعل إلا الله، ولا موجود إلا الله، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم هو الفاعل لكل شيء، وأن غيره كالسراب لا وجود له ولا فعل ولا تأثير له، وهذا أيضاً قول باطل، فإن إثبات أن الله هو الخالق، وهو الرازق -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وأنه المحيي والمميت لم يخالف فيه العرب في الجاهلية؛ بل كانوا يقولون في تلبيتهم: (لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك) ، وكما تقرأون في آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] فهذا التوحيد في الحقيقة جزء من توحيد الربوبية، كَانَ يؤمن به المُشْرِكُونَ الذين بعث فيهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجزء المتعلق به هو جانب الألوهية وهو الذي كانت فيه المعركة بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم، ولهذا لا يجوز لأحد كائناً من كَانَ أن يجعل همه من الدعوة إِلَى (لا إله إلا الله) أن يدعو النَّاس إِلَى أن يعتقدوا أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا نافع إلا الله ويقف عند هذا، نعم هذا جزء من الحق لكن ليس هو الحق كله؛ بل يجب علينا أن نبين ونوضح معنى شهادة أن (لا إله إلا الله) كاملةً، كما وضحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن ذلك: نفي اتخاذ شفيع أو وسيط من دون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تصرف بعض من أنواع العبادة له، ومن ذلك أيضاً نفي اتخاذ متبوع أو مطاع، يقدم كلامه وأمره ونهيه عَلَى أمر الله ورسوله،(1/163)
وكلام الله ورسوله، ونهي الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا بد أن نكون عالمين بهذه المعاني، عَلَى أن التعرض لمثل هذه الجوانب هو جزء من الحق كما قلنا، وقد يوجد عند الإِنسَان اليقين بأن الله هو الرازق، وبأنه هو الخالق، وبأنه هو الضار النافع المحيي المميت، وهذا اليقين مطلوب بلا شك، وهو يثمر في القلب الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويثمر عند الإِنسَان من الخوف، ومن الرجاء الشيء العظيم، ولكن الاعتراض هو عَلَى الاكتفاء بهذا فنحن يجب علينا أن نبين للناس حقيقة الربوبية، ونقول هذا الكلام؛ لأن بعض النَّاس قد يفهم خطأ وربما أيضاً وجد ممن يتكلم ويقول: بأن توحيد الربوبية مفروغ منه، لأن كل العرب في الجاهلية يثبتونه، فلا يتحدث عنه، وإنما نتكلم فقط في الألوهية، فنقول: ليس الأمر كذلك، بل يجب أن يعرض أيضاً توحيد الربوبية، لكن الخطأ هو أن يكتفى به عن الألوهية، فيجب تعليم النَّاس حقيقة أن الله هو الخالق الرازق، وأن الله هو الضار النافع، ويربط ذلك بواقع حياة الناس، فكثيراً من عوام الْمُسْلِمِينَ لو ناقشته في هذا الموضوع فإنه يقول لك: نعم الله هو الخالق، وهو الرازق، والضار، والنافع، لكن ليس هناك أثر لهذا الكلام في حياته، ولا بد أن يظهر أثر ذلك عظيماً جداً في حياة المسلم، وهو أنه لا يأخذه الهلع والجشع عَلَى الدنيا، ولا يأخذه الحرص واللهث وراء هذا المتاع الفاني، ولا يتعلق بالأسباب ويظن أن الرزق يأتيه من هذه الأسباب، أو يأتيه من كدحه أو من عمله أو من اجتهاده أومن مصادر الثروة التي يظنها مصادر للثروة أو من أي شيء، يستيقن أنه لا رازق إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فيصل إِلَى اطمئنان، وإلى إيمان ويقين يدفع به هلع النفس وحرصها الشديد؛ لأن الإِنسَان شديد في حب الخير، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما هو معلوم أن الإِنسَان يحب المال حباً جما، ويأكل التراث أكلاً لما، كما(1/164)
أخبر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وغير ذلك من الصفات التي هي صفات متأصلة في النفس الإِنسَانية، فإذا أيقن أن الرازق هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فإنه يزكي نفسه ويطهرها وينقيها من رواسب هذه الصفات السيئة، التي هي من صفات غير الموقنين بأن الله هو الرازق وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا شريك له، ولذلك فلا يجوز أن تصرف العبادة إلا له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما دام أنه هو الذي يرزق الخلق فهو الذي يجب أن يعبد وحده تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فنعلم النَّاس توحيد الربوبية وإن كانوا مقرين به في الأصل، لكن نعلمهم حقائقه ومقتضياته الواقعية، التي يجب أن تطبق عَلَى نفوسنا، ومن ذلك الدعاة، فإذا دعا الداعية إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيجب أن يعلم هذا التوحيد، أن الله هو الرازق، فلو آمن به الدعاة جميعاً حق الإيمان لما رأينا الإحجام والتردد في الدعوة، فإذا علمت أن الله هو الرازق فإنك تدعو إِلَى الله، وتنكر المنكر، وتقول الحق ولا تخاف عَلَى رزقك ولا عَلَى طعامك ولا عَلَى رزق أولادك من بعدك، لأنك تعلم أن الله هو الذي يرزقك وأن الله هو الذي يرزقهم، وأن سبيل الدعوة محفوف بالأذى واالمخاطر، ومنها قطع هذا السبب الذي هو سبب ظاهر جعله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مصدراً لرزقك، فكثير من النَّاس يقول: لولا عملي، أو لولا رزقي، أو لولا وظيفتي، أو لولا خشية أن ينقطع راتبي لقلت الحق، ولأمرت بالمعروف، ولدعوت إِلَى الله، فيا سُبْحانَ اللَّه! هل يكون مثل هذا الإِنسَان مؤمناً حقيقة بتوحيد الربوبية، وأنه لا رازق إلا الله.
فلا بد من الصبر ولا بد من المجاهدة، فهذا الجانب من التوحيد مهم وينبغي الحث عليه وينبغي الإيمان به.(1/165)
وكذلك من أسمائه الضار النافع، وهذا جزء من توحيد الربوبية ولا يجوز إهمالها، فكثير من النَّاس يقول: إن الله هو الضار وهو النافع ومع ذلك تراهم يلتمسون أسباب الشفاء، وأسباب النفع من الوسائل المحرمة، ومن غير الطريق المشروع وهذا دليل عَلَى أنهم لم يستيقنوا فعلاً أن الضار النافع هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي يوقن بأن الله هو الضار النافع هل يذهب إِلَى الكهان والسحرة والمشعوذين، ويأخذ منهم أنواعاً من العلاجات والأدوية وهو يعلم أن فيها شركيات؟ إن الذي يوقن بأن الله هو الضار النافع يكون قلبه كما قال النبي؛ (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا عَلَى أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك) فهناك فرق بين من يعرف حقيقة معنى الضار النافع، وبين من يجهله، وقس عَلَى ذلك بقية أمور الربوبية، فهذان النوعان من أنواع الغلط في مفهوم لا إله إلا الله والآن ينتقل المُصْنِّف إِلَى ما يتعلق بكلمة (لا إله إلا الله) من ناحية الإعراب.
صاحب المنتخب وانتقاده على بعض النحويين من إعراب لا إله إلا الله
يقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وقد اعترض صاحب المنتخب عَلَى النحويين في تقدير الخبر] .(1/166)
أولاً: صاحب المنتخب لم أستطع أن أعرف من هو فكتاب المنتخب بعضها في الأدب وبعضها في اللغة، ولعله الحسن بن صالح المتوفى 568هـ الملقب بملك النحاة، نقول ذلك ولا نجزم به حتى نطلع عَلَى الكتاب ونجد هذا اللفظ فيه، ويبدوا أن هذا الكتاب مفقود، أو مخطوط قال صاحبه فيه: "إن النحويين أخطأوا في إعراب (لا إله إلا الله) " "النحويون يقولون لا إله موجودٌ إلا الله " يقدرون خبر (لا) بأنه موجود، بينما الصحيح أن لا يكون هناك تقدير، ولا نقدر الموجود؛ لأننا إذا قلنا لا إله موجود، فالمنفي هو وجود الإله، يقول: ولكن المفروض أن ينفى ماهية الإله (ذاته) وليس وجوده، فنقول: (لا إله) أي: لا ماهية إله بدلاً من أن نقول: وجود إله، وكلمة "موجود" نلغيها ونجعل النفي منصباً عَلَى كلمة إله، (وإلا الله) تكون بدلاً، هذا الكلام في حقيقته فيه نوع من الصواب، من حيث عدم التقدير، وإن كَانَ المُصْنِّف مال إِلَى غيره وقَالَ: إنه كلام المعتزلة، وهذه القضية تحتاج إِلَى شيء من الدقة والتبسيط، فقوله (لا) هذه تسمى لا النافية للجنس، وتدخل عَلَى المبتدأ والخبر، وهي تفيد النفي المطلق، ولذلك قيل لنفي الجنس أي: لا يمكن أن تقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان؛ لأن قولك لا رجل في الدار يعني: أنك تنفي نفياً مطلقاً أن يكون في الدار رجل، إذا كانت لمجرد النفي نقول: لا رجلٌ في الدار بل رجلان، فنفينا وجود "رجل" وأثبتنا رجلين، وهذه (لا) قد لا تحتاج إِلَى خبرٍ أصلاً فتستغني عن الخبر بالكلية، ومن ذلك قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى:، َفَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجّ [البقرة:197] فلا تحتاج إِلَى خبر وقد يضمر الخبر أو يحذف، عَلَى خلاف في لغات العرب بين لغة الحجازيين ولغة الطائيين أو الشماليين هل يحذف وجوباً؟ أو يحذف جوازاً؟، الشاهد: أنه قد تستغني "لا" عن الخبر نهائياً أو يحذف خبرها مطلقاً، وإن ذكر خبرها فهي تدخل عَلَى المبتدأ وعلى(1/167)
الخبر، فلو حذفنا (لا) وحذفنا (إلا) من كلمة (لا إله إلا الله) وتركنا المعنى يبقى (الإله الله) المبتدأ والخبر، كلمة "الإله" ندخل عليها "أل" لأنه لا يجوز الابتداء بالنكرة فنقول: (إله الله) ، ومن أجل زيادة التأكيد ينفى الجنس فنقول: (لا إله) فحذفنا (إلا) لأن لا النافية للجنس لا تدخل إلا عَلَى النكرات فنحذف (الأل) فنقول: (لا إله إلا الله) إذاً فالكلام ليس فيه تقدير.
فكون صاحب المنتخب هذا معتزلياً، أو غير معتزلي، لا يجعلنا نخطأه إذا كَانَ قوله صواباً، نعم أخطأ المعتزلة عندما فرقوا بين الوجود وبين الماهية، لكن كلام الرجل بعضه صحيح، وقوله: " إن النحويين قالوا: تقديره لا إله في الوجود إلا الله وهذا يكون نفياً لوجود الإله ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود " معناه: نَحْنُ لا نقدر موجود فننفي نفس ماهية الإله وقَالَ: " فكان إجراء الكلام عَلَى ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى " وكلامه هذا الأخير صحيح، لأن إجراء الكلام عَلَى ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى، لكن كلامه الأول في كون العلة هي أن نفي الوجود ليس أقوى من نفي الماهية خطأ، أما إذا نظرنا إِلَى المسألة نظرة لغوية بحتة فإننا نجد أن كلام هذا الرجل صحيح في أنه لا إضمار في الكلام، فالشهادة تتكون من مبتدأ وخبر فأدخلنا عليها "لا" النافية وأدخلنا الحصر الذي يفيد التأكيد وهو أكثر من مجرد الإثبات كما قلنا، فصار الكلام (لا إله إلا الله) ، مثل قولنا: لا حولا ولا قوة إلا بالله، فليس في الكلام تقدير في هذا الباب عَلَى هذا الوجه اللغوي البحت.
المرسي يرد على صاحب المنتخب(1/168)
أراد أبو عبد الله مُحَمَّد بن أبي الفضل المرسي أن ينتصر لمذهب أهل السنة، ضدالمعتزلة ولا نعلم حقيقة ما إذا كَانَ هذا الرجل سنياً بمعنى: أنه من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أم أنه أيضاً متأثر بإحدى المذاهب المنتسبة إِلَى السنة، لكن هذا الرجل يقول عن كلام صاحبالمنتخب: [هذا كلام من لا يعرف لسان العرب] فخطأه؛ لأن (إله) في موضع مبتدأ عَلَى قول سيبويه وعند غيره اسم (لا) وكلاهما لا فرق بينهما، أي سواء قلنا هي مبتدأ أو اسم "لا" "وعلى كلا التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد"، يقول المرسي:" الاستغناء عن الإضمار خطأ "، نبدأ بالكلام الصواب من كلام المرسي الذي يبين لنا الخطأ من كلام صاحبالمنتخب، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية، فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي للوجود، فلا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، هذا مذهبأهل السنة خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود.
الماهية هي ذات الشيء أو حقيقته، وهي مشتقة بما يُسئل عنها (بما) ، وقد سبق هذا معنا، عندما خاطب فرعون موسى فقَالَ: وما رَبُّ الْعَالَمِينَ، قال المتكلمون: إنفرعون سأل موسى عن الماهية، أي: أنفرعونمن المتكلمين الباحثين في الصفات، فهو من المناطقة حيث سأل عن الماهية بـ "ما"، قَالَ: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] ، أي: ما كنهه وما ذاته وما حقيقته؟(1/169)
ثُمَّ قال المتكلمون، إن موسى عَلَيْهِ السَّلام حاد عن الجواب حينما قَالَ: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:26] فلم يجب له بالأجوبة المنطقية، وسبق أن قلنا: إن هذا الكلام خطأ من المتكلمين؛ لأن فرعون لا يعرف المنطق ولا الفلسفة، ولا يتدخل في هذا الكلام كله، ف، فرعونيقول: وما رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى سبيل الاستخفاف والعناد، فهو لا يؤمن به؛ بل ينكره، ولهذا قَالَ: فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص:38] ففرعون لا يريد أن يؤمن بإله.
وليست القضية عندفرعون قضية ماهية هذا الإله، أو السؤال عنه بـ "ما"، فلم يخطر لفرعون أن المناطقة يقولون: إن السؤال عن الماهية هو بحرف "ما"، ومعنى قول المرسي أنا إذا قلنا (لا إله) موجود فقد نفينا وجود الإله، وإذا قلنا: (لا إله) بدون تقدير نفينا ماهية الإله، إذاً عدم التقدير أفضل.
فنقول: هذا التفريق بين الوجود وبين الماهية خطأ؛ لأن أي شيء نقول: إنه موجود، فمعنى ذلك أن له ماهية بطبيعة الحال، أما أن عدم التقدير صحيح فهذا الكلام أيضاً صحيح؛ لأن عدم التقدير هو الأولى.
الإعراب الصحيح لـ" لا إله إلا الله"(1/170)
وإعراب "لا إله إلا الله": (لا) : نافية للجنس، و (إله) : اسم (لا) أو المبتدأ، و (إلا) أداة استثناء، و (الله) : خبر، فهذا النفي والاستثناء أسلوب من أساليب الحصر المراد به تأكيد أبلغ وآكد في إثبات العلاقة بين الموضوع والمحمول أي: بين المبتدأ والخبر، وأن الإله وحده هو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا إله غيره تَبَارَكَ وَتَعَالَى، هذا مختصر إعراب (لا إله إلا الله) وليس هناك تقدير فيها؛ لأن المبتدأ والخبر يدخل عليها الحروف (لا) و (إلا) فلا تقدير في الكلام بالكلية، هذا هو الراجح والصحيح في اللغة. قوله: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب فالمراد هو رفع الإشكال الوارد عَلَى النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة وهو ثابت وقلنا: إن المنتقد من المعتزلة إذا كَانَ انتقاده صواباً قبلناه وإن كَانَ معتزلياً وفيلسوفاً ومتكلماً، فنحن نتبع الحق حيث كان، ولا يضرنا أن يكون قائله من غيرأهل السنة لا سيما وأن الموضوع موضوع لغة وليس موضوع دين وإيمان، قَالَ: " فإن قولهم في نفي الوجود ليس تقييداً لأن العدم ليس بشيء" يقول المُصْنِّف عندما قال النحاة (لا إله موجود) لم يقيدوا النفي بالوجود فقط حتى نقول: إنهم لم ينفوا الماهية، وإنما نفوا الوجود فقط، وإنما قال ذلك؛ لأن العدم ليس بشيء، وما دام أن العدم ليس بشيء فنفي الوجود هو العدم، والعدم ليس بشيء، إذاً ليس هناك شيء يقيده، فليست كلمة (في الوجود) قيداً، وإنما نفي أن يكون شيء في الوجود هو عدم، والعدم لا قيد فيه بإطلاق؛ لأنه ليس بشيء [كما قال الله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] ولا يقال ليس قولهم "غير" كقوله: (إلا الله) ] ، أي: بدلاً من أن نقول: (لا إله إلا الله) نقول: "لا إله غير الله"، يقول المصنف: " لا نقول إن (غير) مثل (إلا) " وكلامه هنا خطأ، بل الواقع أنها مثلها والمعنى واحد؛ لأن كلمة غير الله في قوة (إلا الله) ، فـ (لا إله غير(1/171)
الله) أو (لا إله إلا الله) بمعنى واحد؛ لكن كلمة "غير" نفيها في ذاتها، وهي تنفي الشيء الآخر، وأما (لا إله إلا الله) فنفيها من (لا) وليس من "غير"، فلما اجتمع الحصر (لا) و (إلا) صار المعنى (لا إله إلا الله) فلما أخذنا (إلا) انتقل الحصر في عموم كلمة "غير"، وهي في ذاتها عامة تنفي؛ لأنها من ألفاظ العموم المطلقة الكلية، فأصبح (لا إله غيره) ، أو (لا إله إلا الله) ، بمعنى واحد، هذا هو ملخص ذلك.
قال الإمام الطحاوي: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء]
قال المصنف -رحمه الله- تعالى:
[قال الله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر [الحديد:3] وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء) فقول الشيخ -رحمه الله-: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء] هو معنى اسمه: الأول والآخر.
والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطرة، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعاً للتسلسل.
فإنّا نشاهد حدوث الحيوان، والنبات، والمعادن، وحوادث الجو، كالسحاب والمطر، وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة، ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35] .
يقول سبحانه: أحَدَثوا من غير محدثٍ أم هم أحدثوا أنفسهم؟
ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه بل إن حصل ما يوجده، وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه، وعدمه بدلاً عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.(1/172)
وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق، ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [الفرقان: 33] .
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية، والأدلة الطويلة، فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حالٍ أخرى.
وأيضاً فالمقدمات وإن كانت خفية، فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع، ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية] اهـ.
الشرح:
انتقل المصنف رحمه الله إلى شرح قول الإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- تعالى: [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] والإمام أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله- في هذه العقيدة يريد أن يرد على الطوائف الضالة، ويأتي بكلام مبسط وواضح يعتقده المسلمون ويفهمونه.
ويقول: [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] وهذا من المعاني الضرورية الفطرية عند الناس في حق الله سبحانه وتعالى، إلا أن لفظ (القديم) إطلاقه على الله تعالى خطأ، وسيأتي هذا في آخر كلام المصنف وهو أنه لم يرد في أسماء الله تعالى القديم وورد بدل هذه العبارة في القرآن ما هو أجلى وأعظم وهو قول الله تبارك وتعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] فهذا الإطلاق هو الأصح بل هو الواجب؛ لأنه هو الذي ورد في كتاب الله سبحانه وتعالى فهو أبلغ لأنه هو الدرجة العليا في الفصاحة والبلاغة.(1/173)
وجاء تفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدعاء قبل النوم (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وهذا هو الذي يسميه المتكلمون قطع التسلسل في الأول وكذلك في الآخر، فهم يقولون: يمتنع أن يكون لله سبحانه وتعالى بداية كان قبلها عدماً , وكذلك يمتنع أن يكون له نهاية ويكون بعدها عدما، فقالوا إذاً نقول: التسلسل ممنوع في الأول وممنوع في الآخر، وهذا الكلام جاء في القرآن والسنة بأوفر بيان وأفضله، فقال الله سبحانه وتعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء) وهذا يغني عن كلام الفلاسفة والمناطقة والمتكلمين، لكن المصنف هنا يريد أن يثبت ذلك من واقع كلامهم.
فالفلاسفة ينظرون إلى الوجود من حيث إنه ثلاثة أقسام: واجب الوجود أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، فيقولون: إن هذه الأقسام الثلاثة، تحوي كل متعلقات الوجود، فإن الأشياء إما واجبة الوجود لذاتها، وإما ممتنعة الوجود لذاتها، وإما ممكنة الوجود والعدم، وذكر المصنف: أن هذه المخلوقات المشاهدة لا شك أن لوجودها بداية بدليل أننا نراها وجدت قبل أن لم تكن موجودة، فنحن -مثلاً- جئنا والأرض موجودة لكننا نرى السحاب كيف يوجد، ونرى الشجرة كيف تنمو وتوجد، فكثير من الأشياء توجد بعد أن لم تكن موجودة، إذاً هذه الأشياء لا نقول ممتنعت الوجود لأنها موجودة، ولا نقول: إنها واجبة الوجود لأنها كانت من قبل في العدم، إذاً فهي من القسم الآخر وهو ممكن الوجود، وأنتم متفقون معنا أي: الفلاسفة والمتكلمون على أن ممكن الوجود يفتقر إلى واجب وجود أوجده.(1/174)
إذاً فواجب الوجود هذا لا بد أن يكون أزلياً يعني: لا أول لوجوده، لأنه إذا كان لوجوده أول أصبح من جملة الموجودات الممكنات التي تحتمل الوجود والعدم، إذاً ثبت بالدليل العقلي من كلامكم ومن نظرياتكم أن الله سبحانه وتعالى لا أول لوجوده أو لا بداية له وهذا مثل ما قطعه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يزال الشيطان يأتي أحدكم فيقول: هذا خلق الله حتى يقول له: من خلق الله فإذا وجد ذلك فليستعذ بالله) ونحن نشاهد هذا الكلام لا ميزان له في العقل، هذا الشعور أو هذا الخاطر أو الهاجس لا وجود له ولا صحة له في نظر العقل السليم حتى عقولالفلاسفة أنفسهم نجد -على كلامهم هذا- أن الممكنات أو المحدثات لا بد لها من محدث فهي مفتقرة إلى واجب الوجود، ولو قلنا: إن واجب الوجود مثلها مخلوق أو ممكن أو محدث لاحتاج إلى واجب يوجده وهكذا يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، إذاً لا بد أن نقول هناك موجودات وجدت ولوجودها بداية، وهناك خالق مُوجِدٌ أوجدها ولا أول لوجوده ولا بداية له.
ولهذا يقول المصنف: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر ذلك في أوجز مما يقول هؤلاء ولم يذكر مصطلحاتهم لا الوجود ولا الإمكان وإنما قال سبحانه وتعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] .(1/175)
قال بعض السلف: "لما قُرأت علي هذه الآية أو لما سمعت هذه الآية كاد قلبي أن ينصدع" فكثير من الناس يمر عليها ولا يبالي، مع أنها على وجازتها شملت الرد على كل هذه الطوائف، وعلى كل هذه ضلالات أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] فأي ملحد أو أي إنسان ينكر وجود الله سبحانه وتعالى فإن هذا السؤال يوجه إليه بأسلوب القرآن لا بأساليب الفلاسفة ولا المتكلمين وإنما يقال له: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] هؤلاء البشر وهذه الأجرام وهذا الكون كله، هل خلق من غير خالق؟ لا يمكن ذلك، أم هو الخالق؟
أيضاً لا يمكن ذلك، إذاً النتيجة أنه مخلوق وأن الخالق هو الله سبحانه وتعالى فنقول: هذه الآية تدل على نفي أن يكون غير الله سبحانه وتعالى يشارك الله في أنه لا بداية لوجوده وأنه هو الأول، فالأول من أسمائه سبحانه تعالى، وهو بدلاً من قوله هنا قديم.
وسيأتي كلام المصنف في معنى القديم وإطلاقه على الله سبحانه وتعالى؛ لكن يريد المصنف أن يقول: الشاهد من مثل هذه الآية ومثل هذا الحديث أننا نعرف أن المتكلمين ما يأتون به من طرق ومن مقدمات عقلية.
فالحق والصواب من هذه المقدمات قد جاء به الكتاب والسنة في أوجز عبارة وأبلغها فبدلاً من قولهم -وهو كلام غايته حق- إن هذا الموجود ممكن والممكن مفتقر إلى واجب وجود، والواجب الوجود لا أول له، فبدلاً من هذه المصطلحات جاء القرآن بما هو أوجز منه وأفضل.
لا مانع من استخدام الأدلة النظرية للتفكر والتأمل(1/176)
ثُمَّ يقول المُصْنِّف يقول: [ولا نقول لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة النظرية] فكلامنا السابق لا يعني أننا نعترض عَلَى أي أحد يستدل بمقدمات أو بكلام خفي؛ لأن الظهور والخفاء أولاً من الأمور النسبية، وحتى في الأمور الواضحة وضوحاً كاملاً تجد بعض النَّاس يقتنع بالأمر الخفي الدقيق ولا يقتنع بالأمر الظاهر الجلي.
فالذي يهمنا أن يقتنع الإِنسَان وأن يعرف الحق مثال ذلك: إذا جَاءَ أحد وقَالَ: أنا أستدل عَلَى عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ وآياته بخلق الإِنسَان، فإن الله تَعَالَى جعل له العيون وجعل له الفم، وأعطاه الأعضاء كالسمع والبصر وكذا وكذا، فهذا الاستدلال بالأمور الظاهرة أكثر وهو الذي ورد الاستدلال به في القرآن؛ لأن العوام وهم أكثر النَّاس ليسوا كلهم فلاسفة ولا كيميائيين ولا أطباء والعبرة واحدة، والتعمق فيها تعمق في نفس العبرة، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] كلام واضح أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:17-18] كلام واضح أيضاً فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [الأنبياء:32] آيات كثيرة جداً في القُرْآن تلفت النظر إليها وأن عَلَى الإِنسَان أن يتأمل في ملكوت السماوات والأرض، ويتأمل في خلق السماوات والأرض في الجبال والنبات والإبل والدواب والشجر وغير ذلك.(1/177)
لكن مع ذلك ما دام أن الاستدلال بالأدلة الخفية ينفع بعض النَّاس فلا بأس من أن نستخدم المقدمات الخفية ولا بأس بأن نستدل بها، ولذلك كما قلنا لما قيل: إن الإمام أحمد أوالإمام الشَّافِعِيّ أحدهما قَالَ: إن من الأدلة عَلَى وجود الله، وعظمته هذه البيضة التي ظاهرها عَظْم وباطنها الماء ثُمَّ يخرج منها هذا الحيوان وله منقار وله سمع وله بصر، وهذا المثال من الأمثلة الكثيرة جداً عَلَى وجود الله وعظمتة وحكمتة سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا المثال يذكره الإمام كمثال من أمثلة كثيرة، وربما ذكره لخفائه عَلَى بعض الناس، وكذلك هو من ضمن مدلول الآيات القرآنية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: (فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] ؛ لأن كثيراً من النَّاس يأكل ولا يذكر أن يتفكر في هذا الشيء، إذاً فما الفرق بين الإِنسَان وبين الحيوان الذي يهجم عَلَى أي شيء فهو يأكل ولا يفكر ما أصل هذه الشجرة ومم تركيبها، المهم عنده أن يأكل، فالإِنسَان لا ينبغي ولا يجوز له أن يكون كذلك، فليتأمل في هذا الطعام كيف سخر الله عَزَّ وَجَلَّ له من زرعه وحصده وخبزه، حتى وصل إليه رزقاً مقسوماً مكتوباً في ساعة معينة، لم يكتب الله أن هذا الرغيف يقع في يد غيره، ولم يكتب الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكون هذا الرغيف غداء أو فطوراً وإنما كَانَ عشاء.
إذاً فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانسَانُ إِلَى طَعَامِهِ [عبس:24] تشمل كل هذه الأشياء، فتشتمل أيضاً الماء الذي يشربه، ثُمَّ ذكر الله تَعَالَى بعد تلك الآيات كيفية نشأة الطعام منذ أن شق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الأرض إِلَى أن يخرج منها الحب إِلَى أن أكله الإِنسَان وهكذا النظر في السماوات أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية: 17، 18] والنظر في السماء كيف رفعت معناه: أن يتأمل الإِنسَان في عظمة هذه المخلوقات.(1/178)
فبعض النَّاس قبل تطور العلم يتعجبون من القمر يرون أنه أكبر شيء في السماء فيتعجبون من ضوءه ومن كبر حجمه، ويستدلون بذلك عَلَى عظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الآن عرف النَّاس أن هذا القمر جرم صغير وأن هناك أجراماً أخرى أكبر وأعظم، لكن لأنها أبعد ترى أصغر، كل ذلك داخل في النظر والتفكر في السماوات، وإنما أصبح أكثر تفصيلاً، فلا يضر الجاهل الأول أنه لا يعرف حجم القمر.
ولم يزد المعاصر معرفته بما هو أكبر من القمر إنما العبرة واحدة، وهكذا سائر الآيات والأحاديث التي فيها ما يدل عَلَى إثبات أمر من الأمور.
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَار وَالْأَفْئِدَةَ [النحل:78] فكل إنسان تقرأ عليه هذه الآية يفهم ماذا تريد منه، لكن هناك أناس متخصصون متعمقون يدرسون الأعصاب، ويعرفون جهاز الإحساس عند الإِنسَان وكيف ينشأ عنده العلم بالأشياء، وكيف تسقط من ذاكرته الأشياء يتعمقون جداً، فهذا الكلام قد ينفع بعض الناس، وقد لا يجدي معهم إلا هذه الأشياء المتعمقة، ولكن أكثر النَّاس يفهم هذا الاستدلال بمجرد الأمر الظاهر وكذلك نجد عالماً كبيراً جداً.
ومع هذا لما خلق من بطن أمه لم يكن يعلم شيئاً فمن الذي علمه وأعطاه السمع والبصر والفؤاد؟ إنه الله سبحانه تَعَالَى فالعبرة واحدة وإن أخذها بعضهم بالتفصيل وبعضهم بغير ذلك.
الاقتصار على دلائل الكتاب والسنة هو الأفضل
إن ما يتعلق بالمقدمات وخفاء الأدلة، نَحْنُ نقول: إن الطريقة الصحيحة الواجب اتباعها هي طريقة القُرْآن والسنة، وهي أجلى وأوضح من كل طريق، لكن مع ذلك لو استُخدمت طريق أخرى أقل جلاءً أو طريق خفية.
ودلت عَلَى المراد الذي دل عليه الكتاب والسنة فلا بأس بها نظراً لمرض يقع في قلوب النَّاس وفي تفكيرهم فيفهمون بالخفي ولا يفهمون بالجلي.(1/179)
وهذا حتى عند بعض النَّاس الذين ينكرون الحقائق نهائياً ويستدلوا عَلَى وجود الشمس بالحرارة التي يحس بها الإِنسَان في النهار ولا يحس بها في الليل، وحقيقة الأمر أن هذا الدين أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى أمة فطرية، ليس عندها تعمقات ولا تعقيدات الأمم اليونانية، مثلاً أو الهندية.
فالفطرة السليمة نزل القُرْآن عليها وخاطبها، فآمنت واعتقدت ما يتلى عليها، ولذلك انظروا كيف غير في معاني الكتاب والسنة لما دخل فيه أُولَئِكَ الذين تأثروا بغير منطق العرب، كما قال الإمام الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: " ما فسد النَّاس وتناقضوا واختلفوا إلا عندما تركوا منطق العرب ومالوا إِلَى منطق أرسطو طالين " فالمنطق معناه أسلوب التفكير العربي فلما تركه النَّاس -حتى من كَانَ عربياً منهم- ومالوا إِلَى طريقة المتكلمين الفلاسفة كـ، المتكلمين الذين أخذوا طريقة الفلاسفة أو كَانَ هو أعجمي الفطرة، ثُمَّ دخل في الإسلام، مثل: الإمام فخر الدين الرازي عَلَى عظمته وعلى سعة علمه وعلى مؤلفاته لولا لاحظتم كتابه التفسير الكبير ستشاهدون التأثر الكبير بالفلاسفة لأنه من أئمة الكلام، فكان إمام الأشعرية في عصره.
تجد هذا الشيء الذي يتنافى مع الفطرة العربية التي هي فطرة العربي الجاهلي في فهم الألفاظ -مثلاً- يقول في قول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ [البقرة:35] يقول: ربما فهم آدم وحواء أن النهي عن الأكل من الشجرة منصب عليهما مجتمعين، لأن اللفظ مثنى "لا تقربا" لكن لو أكل كل واحد منهم وحده لكان جائزاً، ولذلك أكل.(1/180)
كلام لا يمكن لأي إنسان عنده أدنى فطرة من كلام العرب أن يصدقه، فضلاً عن عالم كبير؛ لكنه يقول: هذا ليبين أن آدم معصوماً لا يخطأ، أمثلة كثرة جداً إذا قرأها أي إنسان منكم يتعجب، وسبب وقوع هذه العقول الكبيرة الضخمة في مثل هذا الشيء هو فساد الفطرة في هذه الفلسفات، بينما العرب الذين نزل عليهم القُرْآن قريش وغيرهم كانوا يعاندون، ويكابرون وينفون نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآن آنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31] ، ويقولون: لولا أنزل معه ملك، جاءوا بحجج كبيرة جدّاً فيها عناد،، لكن لم يأتوا أبداً بمناسبات أو بردود من جنس هذا الكلام الذي فيه مماحكات أو مماطلات ليس لها معنى، بل لا يقبلها العقل ولا تقبلها الفطرة، فهم إما أن يؤمنوا به عالمين حقيقته، وإما أن ينكروه مكابرة وعناد.
قال المصنف -رحمه الله- تعالى:(1/181)
[وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى " القديم " وليس هو من الأسماء الحسنى فإن " القديم " في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق وهذا حديث للجديد، ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم كما قال تعالى: حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] . والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تعالى:وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيم [الأحقاف:11] . أي: متقدم في الزمان وقال تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء:76،75] . فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله، وقال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار [هود:98] ، أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعدياً كما يقال: أخذني ما قدم وما حدث ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه، ومنه سميت القدم قدماً لأنها تقدم بقية بدن الإنسان، وأما إدخال "القديم" في أسماء الله تعالى فهو المشهور عند أكثرأهل الكلام وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف منهم ابن حزم ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها، فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى، وجاء الشرع باسمه" الأول ". وهو أحسن من "القديم"، لأنه يشعر بأن ما بعده آيلٌ إليه وتابع له بخلاف "القديم"، والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة] اهـ
الشرح:(1/182)
لما قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى: [قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء] أخذ المصنف -رحمه الله- يشرح ذلك، فتحدث عن إطلاق وصف القديم على الله سبحانه وتعالى، وهل هو من أسماء الله الحسنى؟ فالإمام الطحاوي قال: [قديم بلا ابتداء] يريد أن يوضح حقيقة الأزلية، فاستخدم لفظة مفهومة عند الناس وفسرها فقال: [قديم بلا ابتداء] لأن القديم في كلام العرب هو الشيء المتقادم البعيد وإن كان له بداية، فكلام الإمامالطحاوي هنا هو مجرد إخبار ولم يسم الله تعالى قديماً، وإنما أخبر فقط، قال: [قديم بلا ابتداء] حتى لا يدخل في الوهم أن القديم في اللغة العربية الذي يكون له بداية، وإن كان قديم العهد لكن المصنف هنا لم ينتقد الإمام الطحاوي فلم يقل وقد أخطأ الإمام في أنه جاء بهذا الاسم وإنما هو استطراد لبيان الحقيقة في ذلك، وهو أن أحداً يأتي ويقول: ما حكم إطلاق اسم القديم على الله؟ لأن الطحاوي يقول: [قديم بلا ابتداء] فيكون الجواب عليه: أن قوله: [قديم بلا ابتداء] هذا خبر أطلقه عليه أما "القديم" المستخدم في كتب علم الكلام فهو الذي يمتنع كما في عبارةالجنيد أنه سأل ما التوحيد؟ قال: التمييز بين القديم والمحدث، وغير ذلك كثير في كلامالصوفية وفي كلام المتكلمين يقول المصنف رحمه الله: " المتكلمون الذين أدخلوا اسم القديم من أسماء الله مخطأون في ذلك؛ لأن القديم في لغة العرب يطلق على الشيء البعيد العهد وقد يكون له بداية ولا يختص بما لا بداية له، بل الذي ورد في القرآن يدل على أنه كان له بداية أي: قد سبقه العدم، كقول الله تبارك وتعالى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] فلا شك أن القديم سبقه عدم، وليس هذا هو المراد بالإطلاق على الله سبحانه وتعالى الذي يريده المتكلمون فهم يريدون القديم أي الذي لا أول لوجوده ولم يسبقه عدم، فالدلالة تختلف بين هذا وبين هذا، كما قال(1/183)
تعالى: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ [الشعراء: 75-76] من كلام إبراهيم -عليه السلام- لقومه، أي: مهما كان آباؤكم موغلين في هذا الشرك ومتقدمين في فعله، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه مذهب الشافعي القديم والجديد] ، فالشافعي -رحمه الله- لما كان في العراق كان له مذهب لأنه تعلم الحديث وهو مذهب أهل المدينة، فانتقل إلى العراق وتعلم مذهب أهل الرأي فأصبح لديه فقه مستقل، فانتقل إلى مصر وصار له مذهب جديد غير ما كان يفتي به في العراق فصار يُقال للشافعي مذهبان، وهذا من أعظم الأدلة على أنه لا يجوز أن يقلد رجل في كل كلامه، ويؤخذ جميع ما يقول لأن الإمام الشافعي حتى وهو إمام -رضي الله تعالى عنه- رجع عن بعض آرائه فله شيء في القديم وشيء في الجديد، إذاً القديم معناه ما تقدم الجديد،أي:ما تقدمه غيره، وليس المقصود أنه الذي يسبقه عدم، ولهذا أنكر كثير من العلماء إدخال اسم القديم في أسماء الله سبحانه وتعالى، والذي نقوله: إنه لا يطلق على الله اسماً بمعنى الاسم إلا ما ثبت إطلاقه وتسمية الله سبحانه وتعالى به، أما مجرد إخبار بدون تسمية فهذا يجوز، أو قد يتساهل فيه، لأنك تخبر مجرد خبر لا أن تسمي الله سبحانه وتعالى اسماً بغير ما أنزل في كتابه ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودليل ذلك ما ذكره المصنف في كلامه الأخير: [أن أسماء الله حسنى وليست حسنة] ، لأن الحسنى أعظم وأعلى من مجرد أنها أسماء حسنة، فقولنا: إنه متقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره هذا معنىً حسن، وهذا الذي يريده المتكلمون ولهذا يسمون الله تعالى القديم، لكن الحسنى تأنيث الأحسن، فالأحسن من ذلك "الأول" الذي جاء في القرآن لأنه يدل على أعظم من كون أنه مجرد متقدم على الحوادث، فدلالة اسم "الأول" أعظم بدليل أنه قد يدخل في ذلك معاني كثيرة، ويدخل في ذلك أنه(1/184)
سبحانه وتعالى خالقها، فقد نقول: فلان أقدم من فلان، أو قديم بالنسبة لفلان دون أن يكون هو الذي أوجده، لكن في حق الله عز وجل لا يقال هذا، فالأول هو الذي أوجد هذه المخلوقات سبحانه وتعالى، أما كلمة القديم فإنها غاية ما تدل عليه أنه متقدم عليها في الوجود فقط، فلذلك لا نسمي الله سبحانه وتعالى إلا بما ثبتت تسميته به أما في الإطلاقات فقد يتساهل في ذلك إذا كان المعنى حقاً، وصحيحاً، لكن لا نعدل عما جاء به القرآن أو السنة، إلا على سبيل الشرح أو الإيضاح هذا هو الأفضل والأوجز.
ونحن لم نستخدم كلمة "القديم" إلا لأن المتكلمين استخدموها في معنىً على قواعدهم هم لا يؤديه إلا هذه الكلمة، لكن كلمة العتيق ليست كلمة اصطلاحية حتى نقول هذا المصطلح يؤدي نفس المعنى ولاجاءت في الشرع حتى نقول: إنها كلمة، وشرعية هذه الكلمة "القديم" لولا أنها دخلت في اصطلاح المتكلمين لما بحثناها هنا، لكن لأنهم أطلقوها واستعملوها، فنظرنا فإذا المقصود منها معنىً صحيحاً، وهو أنه لم يتقدمه شيء من المخلوقات، قلنا: إذاً هذا هو موضع البحث، وكلام الإمام الطحاوي -رحمه الله- لما قال: [قديم بلا ابتداء] هو من هذا الباب إذاً فلا حرج، لأن هذا مجرد إيضاح لأولية الله سبحانه وتعالى لكن التسمية لا نسميه إلا بما ثبت في الكتاب والسنة.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [لا يفنى ولا يبيد]
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تعالى:
[إقرار بدوام بقائه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال عز من قائل: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27،26] والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقررٌ ومؤكدٌ لقوله: " دائم بلا انتهاء "] ا. هـ.(1/185)
هذه الفقرة الأخرة لا يفنى ولا يبيد واضحة، وهو أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ يقول: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفنى ولا يبيد، وهذا لكمال حياته ولكمال قيوميته، كما قلنا: إن النفي المحض ليس مدحاً في حق الله، لكن إذا نفي شيئاً فهو لكمال الصفة المتعلقة به، أي: لكمال حياته ولكمال قيوميته، ولهذا يستدل المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تَعَالَى بقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:26-27] ويبين أن الفناء والبيد متقاربان في المعنى وهذا لا إشكال فيه.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:
[لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام] .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] قال فيالصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته.
فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم.
قيل الوهم: ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به، والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحدٌ، صمدٌ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض [البقرة:255] هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الحشر:24،23] اهـ.
الشرح:
موضوع نفي أو تشبيه الله بخلقه، قد سبق الحديث عنه عند قول المصنف رحمه الله:(1/186)
[فلا شيء مثله] ، وهذا استكمال وإيضاح لذلك؛ لأن الطحاوي رحمه الله قد يأتي بعبارات مترادفة، والمقصود منها هو تجلية المعنى وإيضاحه وتحقيقه لدى السامع.
ولكن المصنف رحمه الله يشرح كل جملة بما يراه مناسباً للفظها.
وقوله: [لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام] في هذا نفي لجميع أنواع العلم؛ لأن العلم إما يقين يفهمه العقل ويعقله ويستوعبه ويتأمله، وإما ظن يتخيله العقل ويتوهمه ويحسبه.
والله سبحانه وتعالى قد نفى إحاطة البشرية له علماً وعقلاً وفهماً ويقيناً، وكذلك ظناً وخرصاً وتوهماً، فالعقول لا تستطيع أن تعرف حقيقة الله وكنه ذاته تبارك وتعالى بحقائقها التي تفهم بها، ولا بظنونها وتخييلاتها وأوهامها وفي هذا النفي دليل على أنه سبحانه وتعالى لا سبيل إلى معرفته إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فما جاء في الكتاب والسنة يفهمه العقل؛ لأن الله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نعقل، والرسول صلى الله عليه وسلم شرح ذلك الخطاب، وخاطبنا أيضاً بما نفهم وبما نعقل، ومهما حارت عقولنا في فهم ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فإننا لا نحيله، فقد تحار العقول في فهم إدراك حقائقه، ولكن لا تحكم باستحالته لا في إدراك معانيه اللغوية -كما مر معنا إيضاح الفرق بينهما.
والشرع جاء بمحارات العقول ولم يأت بمحالات العقول، فلم يأت الشرع بما تحيله العقول وتقطع وتجزم بنفيه، ولكن جاء بما قد تحار العقول في إدراك حقيقته وفهمه، مع العلم بأن الألفاظ من جنس الخطاب والكلام الذي يعهده العرب ويعرفه السامعون، فالله سبحانه وتعالى لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الأفهام، فليس هناك من سبيل إلى معرفة صفاته -عز وجل- إلا ما جاء في الكتاب أو السنة.
وهناك مثلان مشهوران ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية يبينان ذلك:(1/187)
الأول: نعيم الجنة، فقد صح الحديث أن (فيها مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) ومعنى هذا أن الإنسان مهما توهم أو تخيل أنهار الجنة أو عسلها أو مياهها أو أشجارها أو مسكها أو زعفرانها، فإن هذا مجرد خيال يتخيله، وليست الجنة بما تصوره؛ لأن الحقائق التي فيها لا يستطيع الإنسان أن يتخيلها كما هي أبداً، وإنما هذه ألفاظ جاءت في القرآن أو السنة، كما قال عبد الله بن عباس -رضي الله تعالى عنهما-:"ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء" فهو اشتراك في الاسم فقط، أما في الحقائق فمختلفة تماماً.
الثاني: الروح، فكل إنسان حيٍ له روح، يحس بهذه الروح، ويجزم بوجودها في الأحياء جميعاً، ومع ذلك لا ندري كنه هذه الروح، ولا كيف تعمل وتتأثر، ولا كيف حالها حال اليقظة وحال النوم، ومع ذلك إذا جاء أجل الإنسان فإن روحه تقبض، والناس ينظرون، كما قال عز وجل: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ [الواقعة:84] ، فحقيقة الروح مجهولة، مع أننا نؤمن بها ونعرف من أوصافها ما جاء في الكتاب والسنة، ونسلم بحقيقة وجود الروح، ونعيم الجنة، مع أننا لا ندرك الحقيقة ولا الذات.
فهذان مثلان مضروبان في مخلوقات الله عز وجل، فكيف يكون الحال مع ذاته سبحانه وتعالى الذي هو أجل وأعظم من كل شيء، الذي عجزت العقول عن أن تدركه، وأن تعرف حقيقة ذاته، سبحانه وتعالى، فما علينا إلا التسليم والانقياد والإذعان، ولنعرف ربنا بما أخبر سبحانه وتعالى كما قال: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص] وكما قال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض [البقرة:255] ، وكما قال:(1/188)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:23] ونحو ذلك من الآيات، وكما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام) وأنه ينزل سبحانه وتعالى في الثلث الأخير، وأنه يضحك، ويعجب ونحو ذلك، مما يجب علينا أن نؤمن به دون أن يخطر ببالنا لحظة واحدة أن نطلب إدراك حقيقة اتصافه سبحانه وتعالى وكيفيتها؛ لأنه أمر حجب عنه العقل البشري تماماً، ومن تخوض في ذلك فقد كلف نفسه مالا تطيق، ومصيره إلى الزيغ والضلال، وهذا من أخطر الأمور التي وقعت فيها الفرق، فلم يقفوا بالعقل البشري عند حدود ما شرع الله سبحانه وتعالى وإنما تجاوزوا ذلك وتقحموا الحديث في أمور لا قبل لهم بها، ومن تكلف علم أمر لا قبل له به، فإنه يقع في الضلال حتماً ويقيناً سواء كان في المحسوسات، أو المعلومات، أو المرئيات.
فالأفهام البشرية لم تحط علماً بالكون الذي تعيشه، ولم تدرك حقيقته، ولا كيفيته الكاملة، ولا نهايته، رغم المراصد ووسائل الاستكشاف.
فيا سبحان الله مَن كان حائراً في معرفة حقيقة ما يرى ويسمع ويحس ويشاهد، فما باله يقحم نفسه في معرفة ما لا يمكن إدراكه قط؟! هذا من أعظم الأدلة على أن الإنسان ظلوم كفار كما قال الله تعالى في سورة الأحزاب، وهذا من أعظم الأسباب التي أوقعت الفرقة بين المسلمين، وجعلتهم شيعاً من المعتزلة والجهمية والرافضة وأمثالهم؛ فإنهم لم يقفوا عند ما أمر الله به، بل تجاوزوا الحد ونظروا إلى ما قاله علماء الكلام، وأخذوا يخوضون فيما خاض فيه أولئك، فكانت النتيجة أن وقعوا في الحيرة التي وقع فيها أولئك من قبل.
قالالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولا يشبه الأنام] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/189)
[هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، قال عَزَّ وَجَلَّ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ثُمَّ قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى. وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه، فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم. وقَالَ: علامة جهم وأصحابه: دعواهم عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة. وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقَالَ: إن الله لا يقال له: عالم ولا قادر، يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه، لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقَالَ: هو مجاز، كغالية الجهمية، يزعم أن من قَالَ: إن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة، فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقَالَ: إن الله ليس له علم، ولا قدرة ولا كلام، ولا محبة ولا إرادة، قال لمن أثبت الصفات: إنه مشبه، وإنه مجسم؛ ولهذا كتب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم: المالكية، ينسبون إِلَى رجل يقال له: مالك بن أنس! وقوماً يقال لهم: الشافعية، ينسبون إِلَى رجل يقال له:(1/190)
مُحَمَّد بن إدريس حتى الذين يفسرون القُرْآن منهم، كعبد الجبار، والزمخشري وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئاً من الصفات، وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف؛ ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين: أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة: أنه تَعَالَى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، فنفى المثل، وأثبت الوصف، وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات، تنبيهاً عَلَى أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات] اهـ.
الشرح:
موضوع نفي المثل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ونفي الشبيه قد تقدم في قول الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [ولاشيء مثله] وشرح هناك قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .
أما التشبيه فإنه خلق وعقيدة من أخلاق وعقائد اليهود، وأصل التشبيه هو عند اليهود، والتوراة المحرفة الموجودة إِلَى اليوم في أيدي الناس، فيها تشبيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلقه.
وأول فرقة عرفت التشبيه وأظهرته في الإسلام هي فرقة الرافضة، وسبب ذلك عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أخذ ما كَانَ يعتقده -هو وقومه- من التشبيه، فأدخلوه في دين الرفض، واشتهر ذلك عن رجل من الرافضة يقال له: هشام بن الحكم.
فكان يصف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بصفات المخلوقين، ويقول: هو مثل واحد من المخلوقين، ويشبه يد الله بيد المخلوق، وقد كفره علماء السلف وذكروا بدعته.
وهذا من أعظم الأدلة عَلَى أن علماء السلف ليسوا مشبهة، ولكن هَؤُلاءِ الذين نفوا الصفات هم الذين اتهموهم بالتشبيه، لأسباب سيأتي إيضاحها.(1/191)
ثُمَّ تطور معنى التشبيه حتى غلب -في القرن الثالث فما بعد- عَلَى إثبات الصفات، وأصبح الذي يثبت صفات الله عَزَّ وَجَلَّ كما جاءت في الكتاب والسنة يسمى مشبهاً، وقد ذكرنا أن الرافضة تحولت من التشبيه إِلَى الاعتزال بعد المحنة والفتنة التي حدثت للإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فاجتمع الرافضة -أصحاب عاطفة بلا عقل- والمعتزلة -أصحاب عقل بلا عاطفة- وكوَّنا منهجاً واحداً، ولا يوجد الآن فرقة اسمها: المعتزلة.
فيقولون: إن الإمامأَحْمَد روى في مسنده أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا وإلى الأرض، وأنه يركب عَلَى حمار ويمشي، وهذا كذب وبهتان، ولا يمكن لأحد عرف مسند الإمام أَحْمَد أن يخطر بباله أن هذا الحديث موجود في المسند، لكن يقولون لعوامهم هذا.
فهَؤُلاءِ ينتقمون ويثأرون لما حصل لهم من الإمام أَحْمَد وأهل السنة، الذين كانوا يغلب عَلَى تسميتهم في بغداد الحنابلة فإنهم كانوا لا يدعون رافضياً إلا ضربوه أو قتلوه أو أخرجوه.
فيفترون عَلَى الإمام أَحْمَد مثل هذا الحديث الذي لا يوجد -ولله الحمد- في مسنده، وهكذا انقلبت التهمة عند هَؤُلاءِ والرافضة قوم بهت، كما أن اليهود قوم بهت، كما في الحديث الصحيح لما جَاءَ عبد الله بن سلام -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وقَالَ: يا رَسُول الله (إن اليهود قوم بهت إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك فجاءت اليهود ودخل عبد الله البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أي رجل فيكم عبد الله بن سلام قالوا أعلمنا وابن أعلمنا وأخيرنا وابن أخيرنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيتم إن أسلم عبد الله قالوا أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله إليهم فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقالوا شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه) .(1/192)
وأول من أطلق كلمة: "الجسم" في هذه الأمة هوهشام بن الحكم الرافضي، فالتشبيه والتجسيم كلمة لم ترد في حق الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأول من أطلقها هم الرافضة.
وعقيدة الإمامالطّّحاويّ مثل غيرها من عقائد أهل السنة شرحها بعض الماتريدية شرحاً ماتريدياً، فكما أولوا القُرْآن وأولو السنة، أولوا كلام الطّّحاويّ، فَقَالُوا: قول الطّّحاويّ: [لا يشبه الأنام] فيه نفي للصفات، مع أنه يريد نفي الشبيه والمثيل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو مثبت للصفات.
ومثلها عقيدة الإمام ابن أبي زيد القيرواني، الإمام المشهور عند المغاربة المالكية، ومن عادة كتب المالكية أنها في أول كتب الفقه، تُقدم بمقدمة في العقيدة، ثُمَّ تبدأ بأحكام الطهارة وأحكام الوضوء والصلاة، وهذه عادة حسنة؛ لأن الإِنسَان أول وأهم ما يجب أن يتعلمه هو العقيدة، فإذا صلحت العقيدة تعلم الوضوء والطهارة عموماً، وهذا ترتيب جيد في باب البحث والعلم والتصنيف.
والإمامابن أبي زيد رَحِمَهُ اللهُ كتب عقيدة مبسطة سلفية واضحة في أول كتابه: الرسالة فشرحوا هذه العقيدة شرحاً أشعرياً تماماً.
فيقول مثلاً: [ولا شيء مثله] فيقول الشارح وهو منهمالشنقيطي، في القرن الحادي عشر، والأزهري صاحب الفواكه الدواني هذا النفي إشارة إِلَى الصفات السلبية، وقوله: "وهو الحي القيوم": هذا الإثبات إشارة إِلَى الصفات الثبوتية.
وقَالَ: [وهو عَلَى عرشه المجيد بذاته] فَقَالُوا: وهو عَلَى عرشه، والمجيد بذاته، فالله تَعَالَى مجيد بذاته ليس مجيداً بأحد من خلقه، ويحتمل أن "بذاته" يعود عَلَى العرش -يعني بذات العرش- فهو عَلَى عرشه المجيد بذات العرش.(1/193)
ولهذا نبه المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى هذه القضية فقَالَ: وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ثُمَّ قال بعد ذلك: وصفاته كلها بخلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، فالإمام أبو حنيفة يثبت لله الصفات وينفي التشبيه، وهذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ عامة، لكن بدأ بالإمام أبي حنيفة؛ لأن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ حنفيٌ، ولأن الذين شرحوا العقيدة وأولوها عن معانيها هم من الأحناف.
وقال نعيم بن حماد رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ -شيخ الإمام البُخَارِيّ في مصر وإن كَانَ في روايته ضعف- وهو من أشد النَّاس عَلَى الجهمية، فلما سُئل عن ذلك؟ قَالَ: لأني كنت عَلَى منهجهم في أول أمري، فلما تعلمت الحديث عرفت الحق، فكان من أشد علماء الحديث والسنة عَلَى أهل البدع، لأن من عرف بدعة من البدع ثُمَّ هداه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للرجوع إِلَى حقيقة الدين فإنه يكون أشد عَلَى أهلها ممن لا يعرفها.
قال -أي- نعيم بن حماد -: "من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه"، فهذا كلام واضح وجلي بأن نفي الصفات شيء، وإثبات الصفات شيء، والتشبيه شيء آخر، فالمشبه هو الذي يقول: يد كيدي، أو رجل كرجلي، أو نزول كنزولي، وأما المثبت: فهو الذي يثبت ما يليق بجلاله فَيَقُولُ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير [الشورى:11] ، فيثبت له الصفات وينفي عنه التشبيه، كما جَاءَ في الكتاب والسنة.
وكيف يقولون: إن من شبه الله تَعَالَى بخلقه فقد كفر، ثُمَّ يكونون مشبهة؟!(1/194)
وقال إسحاق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -شيخ الشيخين الإمام البُخَارِيّ ومسلم وقرين الإمام أَحْمَد، ومن أجل أئمة الإسلام وأعلامه-: مَن وصف الله، فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله، فهو كافر بالله العظيم.
وهذه الأقوال هي جزء من أقوال كثيرة ذكرتها روايات كتب العقيدة، التي كانت تسمى كتب السنة أو الشريعة، مثل كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وكتاب الشريعة للآجري، وكتاب شرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لللالكائي بالسند المتصل إِلَى هَؤُلاءِ الرجال الأعلام الذين هم حجة في دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-، وأئمة من أئمة السلف، الذين ورثوا العقيدة والإيمان والعلم النبوي الصحيح في عصرهم، وقاوموا هذه البدع التي نشأت في أيامهم مثل:
ابن الماجشون، وإسحاق، وابن المبارك، ونعيم بن حماد، والإمام أَحْمَد، والفضيل ابن عياض، ووكيع بن الجراح، ويحي بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي ... وغيرهم كثير.
وكلها نقولٌ تبين حقيقة ما هم عليه من الاعتقاد قي ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنهم يثبتون الصفات، وينفون التشبيه عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكلامإسحاق: علامة وقاعدة على أن الجهمية يسمون أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة، ولا يزال هناك قائلون بها منذ ظهور هذه البدع إِلَى هذا اليوم، حتى من المؤلفين الأحياء في هذا الزمن، كالكوثري وتلاميذه، كالدكتور على سامي النشار، ومثلهم كثير، ولا نريد أن نذكر الأسماء؛ وإنما لنبين أن هَؤُلاءِ يقولون: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة؛ لأنهم يثبتون الصفات، وأحياناً يقولون: إن الحنابلة مشبهة، أو أن ابْن تَيْمِيَّةَ تعلم التجسيم والتشبيه.(1/195)
وكما قال الإمام إسحاق بن راهويه: علامة الجهمية تسمية أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مشبهة، قَالَ: بل هم المعطلة، عطلوا ونفوا الصفات عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فهم مثبتة وليسوا مشبهة.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى بيان تدرج الفرق في إنكار الصفات، واشتراك جميع هذه الفرق في إطلاق التشبيه عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. الفرقة الأولى: الغلاة، الذين لا يثبتون أي صفة ولا اسم، وهم القرامطة والفلاسفة، وهم الطبقة الأولى من المنكرين، ولا يثبتون إلا الوجود المطلق، لا صفة له عَلَى الإطلاق، فكل من أثبت شيئاً من صفات هذا الموجود المطلق قالوا: هذا مشبه ومجسم. الفرقة الثانية: الجهمية، الذين قالوا: هذه الأسماء الموجودة مجازات لا حقيقة لها، فمن قَالَ: إن هذه الأسماء حقيقة، قالوا عنه: مشبه. الفرقة الثالثة: المعتزلة، الذين قالوا: هذه أسماء وليس له صفة تشتق منها، فمن قَالَ: إن له صفات فهو مشبه. الفرقة الرابعة: الأشعرية، الذين يثبتون العلم والإرادة والكلام عَلَى معنى يفهمونه ويفسرونه، لكن ينفون الصفات الخبرية -كما يسمونها - مثل اليد، والنزول، والاستواء ونحو ذلك، فهَؤُلاءِ يقولون: من أثبت له اليد، أو النزول، أو الغضب، أو الرضا، أو الضحك، أو العجب ونحو ذلك، فإنه مشبه. وهكذا ... فكل طائفة من طوائف أهل البدع تسمي من أثبت ما نفته هي مشبهاً، فهي تعتقد أن ما هي عليه هو الحق وغاية التنزيه، وإثبات شيء غيره تشبيه وتجسيم. ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: إن كثيراً من الرافضة والمعتزلة أصبحوا يستخدمون هذا الكلام العجيب المضحك، فيقولون: المشبهة هم الذين يثبتون لله يداً وقدماً وساقاً وعيناً ونزولاً وكذا وكذا، يعنون أهل السنة، وهم عَلَى أنواع: أولاً: الشافعية: وهم ينتسبون إِلَى مُحَمَّد بن إدريس. ثانياً: الحنفية: وهم طائفة ينتسبون إِلَى(1/196)
أبي حنيفة. ثالثاً: الحنابلة، وهكذا ... ! فأهل السنة جميعاً -بما فيهم الأئمة الأربعة ومن هم أعظم منهم- كلهم مشبهة، كما في كتاب الزينة لأبي حاتم الرازي الرافضي، وهو غيرأبي حاتم الإمام المعروف، وكتاب الغلو والفرق الغالية وكلاهما مطبوع متداول. والقاضي عبد الجبار -وهو كبيرالمعتزلة - ألف أضخم مؤلفات المعتزلة التي ما تزال موجودة إِلَى اليوم، ومنها "المغني "، وهو أضخم كتب علم الكلام المطبوعة البدعية، وكتاب الأصول الخمسة -أصول المعتزلة الخمسة-، ونشر كتب هَؤُلاءِ المبتدعة والرافضة المعتزلة وأمثالهم من المبتدعة لا تجوز، خاصة في بلاد الْمُسْلِمِينَ، ولا يقَالَ: إنها مراجع ليعلم النَّاس باطلهم، لأنها تنشر محققةً مفهرسةً موضحةً، وتقذف إِلَى الأسواق. وكثير من النَّاس يعتمدون في كلامهم في التفسير عَلَى كلام عبد الجبار، ومحمود جار الله الزمخشري صاحب كتاب الكشاف الذي هو مليء بالاعتزاليات، ولأن الاعتقادات الضالة التي فيه، قد يأخذها الإِنسَان وهو لا يريد الضلال، ولكنه يقع في الضلال ويوقع غيره فيه؛ لأنه ينقل عن أمثال هَؤُلاءِ الذين يعتبرون أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ والأئمة الأربعة مشبهة. نعم لا بأس أن يؤخذ عنهم بعض المعاني اللغوية، أو بعض المعاني البلاغية التي لا علاقة لها بالعقيدة، ولا تتعارض معه، لكن أن يرجع إليهم في فهم آيات كتاب الله -وخاصة في فهم آيات الصفات- فهذا لا يجوز أبداً. قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ثُمَّ غلب ذلك -يعني هذه التسمية وهي: "نفي التشبيه"- عند المتأخرين لما غلبت البدع وفشت وانتشرت، لكن علماء السنة -أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - قديمهم وحديثهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، فهم يثبتون الصفات، وإنما ينفون التشبيه الذي هو تشبيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بخلقه، أو تشبيه خلقه به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. كما في كتب أهل السنة، ككتاب السنة لعبد الله بن(1/197)
الإمام أحمد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلٍ يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياسٍ شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية، لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافئها.
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] .
مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للممكن أو للمحدث لا نقص فيه بوجه من الوجوه ـ وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه ـ: فالواجب القديم أولى به.
وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات، فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى.
ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء. ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا، ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) ، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟!(1/198)
وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله. ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته. فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: ولا يشبه الأنام. والأنام: الناس وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان.
وظاهر قوله تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم] ا. هـ.
الشرح:
مما يوضح ويجلي حقيقة إثبات صفات الله تعالى أن العلم الإلهي -وهو العلم بالله سبحانه وتعالى- لا يستدل فيه بقياس تمثيلي، ولا بقياس شمولي، والقياس التمثيلي توضيحه ببساطة: هو إلحاق أصل بفرع، أو: مساواة الشيء بنظيره، إذا كان لهذا النظير حكم معين، وله ما يناظره ويشابهه نلحق هذا بهذا، وهذا هو المعروف في أصول الفقه، وهو قياس الفقهاء، قال العلماء: كيف يصلي إنسان في الطائرة؟ قالوا: كما يصلى على السفينة، فتقاس الطائرة على السفينة مثلاً، ونحو ذلك من أنواع القياس المعروفة.
الأرز مثلاً يقاس على الأصناف الستة في الربا أو في زكاة الفطر؛ لأن هذا مطعوم وهذا مطعوم، وهذا حب وهذا حب مقتاتان. فنلحق هذا بهذا بجامع مشترك وهو -مثلاً- القوت أو الحبوب أو نحو ذلك، والنتيجة: أن يأخذ الرز حكم البر -مثلاً- أو حكم الحبوب.
فقياس التمثيل: أن يستوي فيه الأصل والفرع، الأصل: هو ما تبين حكمه لدى المخاطب أو السامع، والفرع: هو ما ألحق بذلك الأصل.
قياس الشمول: هذا يستخدم عند المناطقة في علم الكلام، وليس في علم الفقه والأصول، وهو مساواة الشيء بالمستوي معه المماثل في الحقيقة بجامع اندراجهما معاً تحت أصل كلي شامل لهما.(1/199)
فقياس التمثيل: أن نلحق شيئاً بما يشبهه، لكن في قياس الشمول نلحق الشيء بما هو مثله تماماً، والجامع هو اسم مشترك أو كلي -كما يسمونه- يشمل هذا وهذا، فمثلاً: نقول زيد مثل علي، فهذا قياس شمول؛ لأن زيداً إنسانٌ وعلياً إنسانٌ، وكل إنسانٍ حيوانٌ ناطق.
والشيء الكلي: هو ما كان له إفراد مستوون في الحقيقة، مثل الإنسان، هذا يسمونه كلى؛ لأن له أفراداً متساوون في الحقيقة، فما أثبت لأحدهم يثبت للآخرين بجامع أن الكلي يشملهم، ولهذا يسمى قياس الشمول الكلي.
فالمناطقة "فلاسفة اليونان " -الذين استخدموا قواعد المنطق- يعتمدون في إثبات الصفات أو نفيها على قياس الشمول، فيقولون مثلاً: إذا قلنا: إن له يداً، فمعنى ذلك أن له جسماً، وإذا قلنا: إنه مستو على العرش أو يسأل عنه "بأين"، فمعنى هذا أنه جسم، وكل جسم هو جواهر وأعراض، إذاً فله جواهر وأعراض، فجعلوا حقيقة الله -سبحانه- فرداً من كلي معين يتخيلونه هم.
وهذا القدر هو أصل ضلالهم، فلا نستخدم في العلم الإلهي لا قياس التمثيل ولا قياس الشمول؛ لأنه تعالى ليس كمثله شيء، فالمثلية منفية عن الله سبحانه وتعالى فما هو الأصل الذي نقيس الله تعالى عليه ونلحقه به بجامع علةٍ بينهما؟! وما هو الكلي؟ وما هو الكلي الذي تستوي أفراده في الحقيقة بحيث نجعل الله -تبارك وتعالى- جزءاً أو واحداً من أفراده المتساويين في حقيقته المشتركة؟! نحن لا نعلم حقيقة الله سبحانه وتعالى حتى نجعل له حقيقة مشتركة، وذات تشترك مع غيرها من الذوات في كلي له حقيقة واحدة، بحيث نلحق هذا بهذا في الأحكام.(1/200)
والعلم بإلحاق المجهول بالمعلوم لا يخرج عن هذين الطريقتين عندهم، إما القياس بمصطلح الأصول الفقهي، وإما القياس بالمصطلح الكلامي المنطقي، فما دام أننا قد قررنا أنه لا تبلغه الأوهام ولا تدركه الإفهام، ولا يحيطون به علماً -كما أخبر سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن يستدل في باب العلم الإلهي، لا بقياس الشمول ولا التمثيل.
وإنما يستخدم قياس الأولى -وهو الذي لم يتنبه ولم يفطن له هؤلاء المعطلون للصفات- وهو: أن كل كمال للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به، فمثلاً: العلم صفة كمال للمخلوقين، فكل عامي من عوام المسلمين يدرك بفطرته أن الله عليم، فهذا قياس فطري جلي؛ لأن العلم صفة كمال لا نقص فيها، فالله -تبارك وتعالى- أولى وأحق بها من المخلوق.
وقلنا: لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأن الإنسان يتزوج، وهي صفة كمال في حق الإنسان، فالذي لا يتزوج حصور، لكنها بالنسبة لله -عز وجل- نقص؛ لأنه ليس له صاحبة ولا ولد سبحانه وتعالى.
وهذا من الأدلة الفطرية العقلية التي تتفق مع الأدلة النصية النقلية على إثبات صفات الله سبحانه وتعالى.
أما قياس الشمول أوالتمثيل، فإنما أورث علماء الكلام الحيرة والشك والتناقض؛ لأنهم يقيسون على ما لا يعلمون حقيقته، ويجعلون هذه الذات -التي لا يدركونها ولا يمكن أن يدركوا حقيقتها- أفراداً من كلي تستوي في الحقيقة ثم يقيسون ويتكلمون في الاسم والتركيب والأعراض والجواهر وكذا وكذا، وكأنهم قد علموا حقيقته سبحانه، وعرفوا ذاته، وجعلوها كسائر الذوات.
والله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبصفاته سبحانه وتعالىقُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّه [البقرة:140] ، فلذلك لا نثبت لله إلا ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا نخوض فيها بهذين القياسيين الباطلين في موضوع العلم الإلهي، وإن كان في مجال الأصول أو المنطق قد يصحان وقد يبطلان.(1/201)
وإنما القياس الذي يسمى قياساً اصطلاحاً، وإلا فهو معرفة فطرية بدهية -إن صح التعبير عنه- هو قياس الأولى، فكل كمال للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله أولى به؛ لأن مصدر هذا الكمال للمخلوق هو الله سبحانه وتعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فالعلم صفة كمال، فإذا جاء أحد من المعتزلة أو المعطلة نلزمه بقياس الأولى، نقول: إذا كان العلم صفة كمال للمخلوقين ومدح وثناء فهو في حق الله أوجب وألزم؛ لأن هذا الكمال الموجود في الإنسان إنما أعطاه الله، فالذي أعطاه هذا الكمال - في نظرك - يكون هو ناقصاً خالياً منه.
فغاية ما تقولون: ليس بجاهل، ولو قيل لكم: كيف علم الشيخ؟ وقلتم: إنه ليس بجاهل، كان هذا حطٌ من قيمته، فهذا غاية ما يصفون به الله عز وجل: أنه ليس بجاهل، ولا يقولون: هو عليم ولا عالم.
ومن أعجب العجب أن غلاة نفاة الصفات الذين ينفون جميع الصفات عن الله، يقولون -في كتبهم القديمة-: غاية الفلسفة هي التشبه بالله على قدر الطاقة، والتخلق بأخلاق الله، وجاء المتفلسفون من المسلمين ومن اقتفى نهج هؤلاء من الصوفية، وأخذوا ينقلون هذا الحديث الذي هو "تخلقوا بأخلاق الله"، كما في إحياء علوم الدين وأمثاله، فكيف قلتم: ما له صفة، وإنما هو وجود مطلق فقط، ولا يوصف بشيء، فنتشبه بأي شيء إذن؟! وهذا من أعجب العجب، تناقض هؤلاء النفاة في مثل هذه الأقوال التي يقولونها.
ويقولون: إن الله موجود مطلق ليس له أي صفة، فغاية الكمال ـ وهذا خاص بالفلاسفة الذين يسمون في الإسلام صوفية -أن تمحى صفات المخلوق ويفنى حتى تتحد ذاته بذات الحق الخالق سبحانه وتعالى، فلا يبقي للإنسان صفة.(1/202)
فكيف يمكن أن يدافعوا عن أنفسهم بهذا الكلام، وهو يخرجهم من الملة والدين لاعتقاد زوال البشرية بالاتحاد بذات الخالق الإله سبحانه وتعالى، وهذا الكلام في غاية الكفر، والله سبحانه وتعالى قد كفر النصارىفي ما هو أقل من ذلك فكيف بهؤلاء؟
وقد سبق الحديث بالتفصيل عن الحلولية والاتحادية، وأمثال هؤلاء القوم الذين يشبهون المخلوق بالخالق فالتشبيه نوعان:
1-تشبيه الله بخلقه.
2-وتشبيه المخلوق بالخالق سبحانه وتعالى.
وأكثر ما وقع فيه الناس وبسببه عبدت الأصنام أنهم شبهوا المخلوق بالخالق، فعبدوا الأحجار وشبهوها بالله، وظنوا أنها تنفع أو تضر أو تشفع عند الله إلى آخر ما ظنوا فيها من صفات الألوهية، مع أنها أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً، فشبهوها بالله سبحانه وتعالى وكذلك عندما أطاعوا الملوك أو الأحبار أو الرهبان، وعبدوا الكهان والأحبار والرهبان وشبهوهم بالله سبحانه وتعالى، وزادوا بأن شبهوا المخلوق بالخالق في نفس صفات الألوهية مثل ما قالالنصارى عن عيسى أنه هو إله بذاته، وأنه يحي الموتى ولا يعتريه الفناء السابق ولا اللاحق، وكذلك الحلولية والاتحادية الذين يشبهون المخلوقات أو الأقطاب أو الأغواث بالله سبحانه وتعالى ويطبقون عليهم صفات الألوهية، حتى أن بعضهم يقول: تركت قولي للشيء كن فيكون، تأدباً مع الله تعالى -والعياذ بالله-.
فنفي مشابهة شيء من المخلوقات لله مستلزم لنفي مشابهته لشي من مخلوقاته، فكل منهما يستلزم الآخر، فلا يشبه الأنام سبحانه وتعالى ولا يشبهه الأنام سبحانه وتعالى، والأنام هم الناس أو المخلوقات، كما ذكر في الخلاف في تفسير هذه الآية.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[حي لا يموت، قيوم لا ينام]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255] .(1/203)
فنفي السنة والنوم دليل عَلَى كمال حياته وقيوميته، وقال تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ [آل عمران:1-3] وقال تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] وقال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ [الفرقان:58] وقال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُو [غافر:65] وقَالَ: صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) ، الحديث.
لما نفى الشيخ رَحِمَهُ اللهُ التشبيه، أشار إِلَى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه، بما يتصف به تَعَالَى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تَعَالَى دون خلقه، فإنهم يموتون.
ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد به نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال، لكمال ذاته.
فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَان [العنكبوت:64] ، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقَالَ: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها، هو الذي وهب للمخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.(1/204)
واعلم أن هذين الاسمين -أعني الحي القيوم- مذكوران في القُرْآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم عَلَى معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً عَلَى كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود. والقيوم أبلغ من "القَيَّام" لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه، باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل تفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك، وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه، لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب، ولا ينقص، ولا يفنى، ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل، ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.
واقترانه بالحي، يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل عَلَى بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً. ولهذا كَانَ قوله: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها، فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تَعَالَى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
وأما القيوم، فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إِلَى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام] ا. هـ.
الشرح:
ابتدأ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ بذكر الآيات الثلاث التي ورد فيها هذان الاسمان الحي القيوم وهي:(1/205)
1ـ آية الكرسي من سورة البقرة: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] .
2ـوأول سورة آل عمران: الم*اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1،2]
3ـ وفي سورة طه قوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] .
وجاء في حديث صحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن اسم الله الأعظم في ثلاث سور: البقرة، وآل عمران، وطه) ثُمَّ شرح ذلك هشام بن عمار -شيخ الإمام البُخَارِيّ بدمشق بالشام - فقَالَ: أما البقرة فقوله تعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] وأما آل عمران فقوله تعالى: الم*اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:1،2]
وأما طه فقوله تعالى: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ [طه:111] .
فدل ذلك عَلَى أن هذين الاسمين هما: "الاسم الأعظم"، وقد سبق أن حقيقة الاسم الأعظم بالتعيين فيها اختلاف، وأن لله تَعَالَى حكمة في إخفاء هذا الاسم وتعيينه، كما أن هنالك حكمة في إخفاء ليلة القدر، ومن حكمة هذا الاسم أن يُدعى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع أسمائه، لأن من دعا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع أسمائه فقد دعا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باسمه الأعظم، كما إن من قام رمضان، بل قام العشر، بل قام الوتر من ليالي العشر، فقد أدرك ليلة القدر، فهذا الإخفاء فيه ترغيب وحث وحض حتى يديم الإِنسَان الطاعة.
ولو تأملنا هذه الآيات الثلاث لوجدنا فيها العجب العجيب من المعاني، فمثلاً: آية الكرسي التي تتكون من عشر جمل كلها في تعظيم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وفي توحيده بأنواع التوحيد، ولا سيما في معرفة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما له من حق عَلَى العباد، ومعرفة عظمته تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/206)
فابتدأها الله بقوله اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] ولفظ الجلالة: أعرف المعارف، واختلف النحويون في أعرف المعارف فَقَالَ بعضهم: العلم، وقال بعضهم: اسم الإشارة، وقال بعضهم: الضمير، وقال بعضهم: المعرف بـ "الـ"، وكل منهم نظر من زاوية ولكن سيبويه -إمام النحاة- قَالَ: أعرف المعارف لفظ الجلالة "الله"، وقيل: إنسيبويه رؤي في المنام. فقيل: ما حالك عند الله؟ فقَالَ: قد غفر لي، لأني جعلت أعرف المعارف "الله".
واسم الجلالة: "الله" هو أعرف المعارف حقيقة وواقعاً، بحيث أنك مع أي بشر تخاطبه إما باللغة العربية -وهو الله- وإما بأية لغة ينطقها ويعرفها، فإنه هو أعرف المعارف عنده.
فإذا قلت له: الله.
فإنه يعرف تمام المعرفة ولا يختلط عليه، بخلاف لو قلت مثلاً: الملك أو الأمير أو كذا فربما يلتبس عليه.
و"لا إله إلا الله" هي أعظم كلمة ذكر ودعاء، بعث بها رسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنزلت بها الكتب من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقام لأجلها الجهاد بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وبين المؤمنين والكافرين.(1/207)
ثُمَّ قال تعالى: الْحَيُّ الْقَيُّومُ فذكر هذين الاسمين اللذين ترجع إليهما جميع نعوت الجلال والكمال، وجاء هذان الاسمان أيضاً في أحاديث صحيحة عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها: (كان النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر -يعني أهمه- يقول: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث) ، يجمع بين هذين الاسمين معاً -يا حي يا قيوم- وهذه من الأدعية الجوامع التي بإمكان كل إنسان منا أن يحفظها ويرددها أيضاً، فيقول إذا أهمه أمر -يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، وفي حديث آخر: (أنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم بعض أصحابه أن يقول: يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، لا تكلني إِلَى نفسي طرفة عين) هذا تمام التوكل والتفويض والانقياد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ولهذا يكون هذا الدعاء حرياً بالإجابة بإذن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وجاء في الآيات اسم الله الحي مقروناً بتوحيد الألوهية والعبادة، كما في قوله تَعَالَى في سورة غافر: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر:65] فلو تأمل الإِنسَان في هذه الآية مع الآيات السابقة، لعرف وتحقق أن اسم الله: "الحي" يوضح أن كمال الحياة لا يكون إلا في الله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا لا يجوز أن نصرف العبادة إِلَى أحد غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أياً كَانَ المعبود من دون الله.
فالذين يعبدون الكواكب يعبدون الآفل؛ لأن هذه الكواكب تغيب وتأفل وتزول ويعتريها الكسوف والخسوف ونحو ذلك، وتتفتت وتتطاير في الفضاء، ثُمَّ إن مصيرها إِلَى الفناء، وليس لها الحياة المطلقة.(1/208)
والذين عبدوا اللات والعزى إنما عبدوا أحجاراً صماء ليس فيها حياة. وهكذا كل ما عُبد من دون الله من ملك أو نبي أو ولي أو حجر أو شجر أو كوكب، نجد أنه ما كَانَ له أن يُعبد من دون الله لو أن العابدين له كانت لهم عقول، فلو أنهم تأملوا في حقيقة هذا الاسم، وقدروا الله حق قدره، وعرفوا حقيقة اسم الله: "الحي" لما عبدوا من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أحداً سواه بإطلاق.
ومن كمال حياة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، أما البشر فلأن حياة الإِنسَان ناقصة، وله جسم يتعب ويلغب ويمسه النصب، فإنه يحتاج إِلَى أن ينام ويصحوا ويحيا ويموت، فلا يمكن أن يكون معبوداً، ولا يمكن أن يكون إلهاً.
أما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تعتريه غفلة ولا سهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الذي فسره النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع القسط ويخفضه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) .
فهكذا من يقرأ هذه الآيات وهذه الأحاديث، ويستيقن حقيقة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويحاول أن يتعرف عَلَى صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه يعظم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في قلبه، فيخشع له ويخبت وينيب إليه وحده سبحانه لا شريك له، فمن كمال حياته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم، ولا يعتريه سهو ولا غفلة، ولا آفة من الآفات التي هي علامات نقص الحياة، ودلالات عَلَى أن حياة صاحبها ليست الحياة الكاملة المطلقة.
ولما نفى الشيخ رَحِمَهُ اللهُ التشبيه، أشار إِلَى ما تقع به الفرقة بينه وبين خلقه بما يختص به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت.(1/209)
قَالَ: لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تَعَالَى دون خلقة، فإنهم يموتون: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27،26] فلا بد أن يموتوا كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35] ، وفي ذلك إشارةٌ إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات.
ومنه: أنه قيوم لا ينام، وفي ذلك إشارة إِلَى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال؛ لكمال ذاته.
وقَالَ: لا يشبهه الأنام، ثُمَّ قَالَ: حي وقيوم، فهذا دليل عَلَى أن المنفي هو التمثيل لا حقيقة الأسماء والصفات.
وبعض الشراح من الماتريدية فهموا أن المؤلف لما قَالَ: [لا يشبه الأنام] أنه ينفي الصفات التي ينفونها هم، فالمصنف رَحِمَهُ اللهُ وضح أن الإمام الطّّحاويّ لا ينفي الصفات، بدليل أنه بعد نفي التشبيه في الصفات أثبت فقَالَ: [حي لا يموت قيوم لا ينام] .
والفرق بين حياة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبين حياة غيره. كالفرق بين الحياة الكاملة الباقية وبين أية حياة يمنحها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويعطيها لمن يشاء من الحياة الناقصة، ولهذا قارن بين الحياة الدنيا وبين الحياة الآخرة، فالحياة الدنيا سميت في القرآن، "لهو، ولعب، وغرور"، لكن الحياة الآخرة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيها: وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] أي: الحياة الحقيقية.
فالدنيا كالمنام، والآخرة كاليقظة، كما جَاءَ في الأثر عن عَلِيّ رضي الله عنه: "النَّاس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا" فكأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية التي تكون فيها معاني الحياة كاملة، فإن قيل: أليست الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، والملائكة والولدان والحور العين الذين في الجنة يعيشون الحياة الكاملة؟ فما الفرق بين هذه الحياة وبين حياة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟(1/210)
فنقول: الفرق عظيم بين ما يتصف به المخلوق وبين ما يتصف به الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن حياة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي من لوازم ذاته، فهو الحي بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما ما في الجنة من الملائكة وغيرهم إنما هم أحياء بإحياء الله لهم، فالله هو الذي أحياهم وهو الذي وهبهم الحياة، وإن كانت هذه الحياة هي فعلاً أكمل من الحياة الدنيا، وهي حياة حقيقية بالنسبة للحياة الدنيا العارضة الزائلة العابرة.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الحي بذاته، وأما غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنما هو حي بإحياء الإله له، وليس الأحياء في الجنة ذاتهم من لوازم ذواتهم أن يكونوا أحياءً، ولكن الله هو الذي يمنحهم الحياة، ولو شاء لأهلكهم جميعاً تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فما يليق بالخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له شأن، وما يليق بالمخلوق له شأن آخر.
والقيوم: يدل عَلَى معنى الأزلية والأبدية، يعني: عَلَى معنى: ما لا أول له ولا بداية له في الأزل، وعلى معنى: ما لا نهاية له في الأبد، فهو أعظم دلالة من اسم القديم، فإن اسم القديم وإن دل في الاصطلاح -لا في أصل اللغة- عَلَى ما لا أول له، فإنه لا يدل عَلَى ما لا آخر له.
وقد سبق أن الاسم الذي جَاءَ في القُرْآن ويدل عَلَى معنى القديم عند المتكلمين هو اسم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى "الأول"، والأول والآخر فسرها النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: " (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) فالقيوم: يدل عَلَى معنى الأزلية والأبدية بما لا يدل عليه أي اسم.
ومنها: القديم، ويدل عَلَى كونه قائماً بنفسه، موجود بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يدل عَلَى معنى كونه واجب الوجود -أي في اصطلاح الفلاسفة - والقيوم أبلغ من القيام؛ لأن الواو أقوى من الألف، فالقيوم بما أنه ورد في القُرْآن فلا شك أنه أبلغ من القيام؛ وإن كَانَ معناها واحداً.
وهل ورد القيام في شيء من الكتاب أو من السنة؟(1/211)
نعم ورد القيام في حديث دعاء النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشهور: كَانَ إذا قام إِلَى الصلاة في جوف الليل قَالَ: (اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض وما فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن ... ) إِلَى آخر الحديث.
والمعنى واحد، لكن الأبلغ هو القيوم، وهو أيضاً يفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين، وأهل اللغة، وذلك معلوم بالضرورة.
لكن هل كونه قيوماً يفيد أن غيره لا يقوم إلا به؟
في المسألة قولان، وأصحهما أنه يفيد ذلك، أن غيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يقوم إلا به، فهو قريب من اسمه الصمد في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ [الإخلاص:1-2] والصمد: هوالذي تعتمد عليه الخلائق في حوائجها، والذي لا يستغني عنه أي مخلوق، وهو غني عن جميع المخلوقات.
وكذلك القيوم الغني الغنى المطلق عن كل من عداه، ومع ذلك فإن ما عداه لا يقوم إلا به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه -كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل.
وأخذ المُصنِّفُ ذلك من نظر إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام لما أراه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ملكوت السموات والأرض، وناظر قومه فجادلهم، فرأى كوكباً. فقَالَ: هذا ربي.(1/212)
فلما أفل قَالَ: لا أحب الآفلين، ثُمَّ رأى القمر، ثُمَّ رأى الشمس -كما في سورة الأنعام-، فالآفل لا يمكن أن يكون رباً معبوداً من دون الله، فالقيوم ينفي الأفول وينفي الزوال عن الله عَزَّ وَجَلَّ، فهو قيوم قائم بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا قوام لغيره إلا به، وهو الذي قامت له السموات والأرض بإقامته لها، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو ربها، وهو الصمد الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، والذي لولاه لما كانت هذه المخلوقات جميعها، فهو الدائم الباقي الذي لم يزل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يفنى ولا يعدم ولا يزال موصوفاً بصفات الكمال.
فالحي: يدل عَلَى كمال الحياة، والقيوم يدل عَلَى كمال الغنى، ومن هذين الاسمين معاً نفهم أن جميع صفات الكمال ونعوت الجلال ترجع إليهما، ولهذا كانت آية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في حديث أبي بن كعب لما سأله النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يا أبا المنذر! أي آية أعظم في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فَقَالَ له: آية الكرسي. فَقَالَ له: ليهنك العلم أبا المنذر) وهذا دليل عَلَى علم أبي بن كعب -رضي الله عنه- حيث عرف أعظم آية في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليها ترجع معانيها.
فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة من الصفات إلا لضعف الحياة، فمثلاً: ضعيف القدرة دليل عَلَى أن حياته غير كاملة، وكذلك ضعيف الإرادة، فهذا يدل عَلَى أن حياته غير كاملة، وهكذا كل صفة.
لكن الذي يتحقق فيه كمال الحياة يستلزم أن يكون لديه كمال القدرة، وكمال الإرادة، وكمال الحكمة، فترجع هذه الصفات جميعاً إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويكفي غير الله أنه فانٍ وهالكٌ وميتٌ، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحي.(1/213)
فغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يمكن أن يكون قيوماً، ولا يمكن أن يكون قَيَاماً؛ لأن غير الله محتاج مفتقر بذاته إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأنه لولا الله لما وجد، فهو مفتقر إِلَى الله في إيجاده وفي كل أمر من أموره.
فينبغي للمؤمن أن يتأمل في معاني هذه الاسمين، وأن يدعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بهما، وأن يتقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بمعرفة أسمائه وصفاته، ومنها هذان الاسمين: "الحي القيوم "، وهذه المعرفة هي التأمل والتفكر في عظمة الله المستلزمة للإخبات والخشوع والتذلل والرهبة والرغبة إِلَى الله.
وقال بعض الضُّلال: مادام أن هذا الاسم فيه خصائص عظيمة فنحن نجعله الاسم الذي يردد في غالب الأذكار عَلَى طريقتهم البدعية التي ورثوها عن قدماءالمجوس والهنود وأمم الشرك والضلال.
فتجدهم يقولون: الله حي، الله حي، الله حي، ويرددونها آلاف ومئات المرات، ويرقصون رقصاً شديداً، ويقولون: هذا من خواص هذا الاسم "الحي"، كما يروى عن يحي بن معاذ الرازي كما في ترجمته في الحلية أنه أنشد يقول:
دققنا الأرض بالرقص على غيب معانيك
ولا عيب عَلَى الرقص لعبد هائم فيك
وهذا دقنا الأرض إذا طفنا بواديك
1
إن حقائق اسم الله تَعَالَى ليست لمثل هذه التعبدات الضالة، وليس استخدامها أيضاً فيما يسمى بالرقى أو الحجب، وهو أن يكتب: يا حي يا قيوم، أو الحي عدة مرات، ويظن صاحبه أنه يتحقق بذلك الشفاء أو نحو ذلك، وإنما هي في استشعار عظمة الله تَعَالَى والخضوع والتذلل له وطاعته، ولهذا نجد أن أبا العلاء المعري - الشاعر الزنديق الذي اعترض حتى عَلَى أحكام الله يقول:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وأمثال ذلك من الضلالات أو الشركيات الموجودة في ديوانه.(1/214)
وقال لما سمع أن هَؤُلاءِ القوم يجلسون ويجتمعون في المساجد، وتحضر لهم الموائد -تهدى لهم من الأمراء والملوك- فإذا أكلوا وشبعوا قاموا يرقصون ويقولون: حي حي، هو هو، إِلَى آخره لما بلغه هذا قال:
أرى جيل التصوف شر جيل فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وأبو العلاء هذا الزنديق يطعن في الدين؛ لأنه يظن أن هَؤُلاءِ هم أهل الدين.
فأولى بهَؤُلاءِ أن يتأملوا ويتفكروا إذا كَانَ الزنادقة عرفوا أن محبة الله ليست بأن يملؤا بطونهم ويرقصوا له، فكيف بمن يدعون الولاية العظمى، أو القطبية، أو الدرجات العلى ومرتبة الإحسان كما يسمونها؟!
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خالق بلا حاجة، رازق بلا مُؤنة] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/215)
[قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15] وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء [محمد:38] قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) الحديث رواه مسلم. وقوله: بلا مؤنة: بلا ثقل وكلفة] اهـ.
الشرح:
إن الله تَعَالَى خالق بلا حاجة، وهو الذي خلق الخلق ولم يخلقهم لحاجة منه إليهم، لا لحاجة أن يعبدوه، ولا أن يرزقوه، ولا أن يطعموه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو الغني الغنى المطلق عنهم، كما سبق في قوله: القيوم، فقيوميته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تستلزم غناه المطلق عن أن يخلق الخلق لحاجة، وإنما خلقهم لحكمة عظيمة -ليبتليهم، وليعبدوه- ثُمَّ جعل منهم فريقاً في الجنة، وفريقاً في السعير، وليصطفي منهم من يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويتخذهم أولياء وأحباباً، ويرفعهم في الدرجات العلى، وليذل ويهين من شاء منهم في معصيته، فيسكنهم في جهنم وساءت مصيراً.(1/216)
فلله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِكم عظيمة في إيجاد الخلق، ليس منها أنه تَعَالَى محتاج أو مفتقر إِلَى وجود هذا الخلق، أو إِلَى أي مخلوق كائن من كان، كما بين ذلك في الحديث العظيم الذي رواه أبو ذر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-، وقال الإمام أَحْمَد: هذا أشرف حديث حدثه أهل الشام: (يا عبادي إني حرمت الظلم عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا ... إلى أن قَالَ: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا عَلَى أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً) سُبْحانَ اللَّه تعالى! هو الغني سبحانه ونحن الفقراء إليه، فهو في غنى عن عبادتنا وتقوانا.
وفي المقابل: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا عَلَى أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا) سُبْحانَ اللَّه! فهو في غنى عن طاعتنا وعبادتنا ولا يضيره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في شيء معصيتُنا أو كفرنا يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-16] فنحن الذين في وجودنا وحياتنا وكل أمورنا وفي كل طرفة عين فقراء إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/217)
أما هو جل شأنه، فهو الغني الغنى المطلق التام، قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الأنعام: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام:14] سُبْحانَ اللَّه! هو يطعم المخلوقات جميعاً، وهو الذي يربيهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنعم ولا يُطعم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهل يعبد المطعوم ويترك من يطعمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! ولهذا كما جَاءَ في الحديث القدسي (أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: إني والإنس والجن لفي أمر عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إلي بالمعاصي) هذا هو حال العالمين مع رَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخلق ويعبد سواه سُبْحانَ اللَّه وهذا من جهل الإِنسَان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72] هكذا طبع الإِنسَان قُتِلَ الإِنسَانسَانُ مَا أَكْفَرَهُ [عبس:17] فمن جهل الجنس البشري وظلمه وكفره: أن الله هو الذي يرزقه، ومع ذلك فإنه يشكر ما سواه، ينظر إِلَى الأسباب التي أعطته الرزق وينسى الذي خلق الأسباب وهيئها وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6] .
فمن اقتران الخالق مع الرازق أيضاً نفهم كمال الغنى لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكمال افتقار المخلوقين إليه؛ فإنهم مخلوقون والله هو الذي خلقهمأَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35] .(1/218)
وقوله: " بلا مؤنة " يدل عليه ما جَاءَ في حديثأبي ذر هذا، من قوله سبحانه: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد منهم مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط -يعني الإبرة- إذا غمس في البحر) فهذا دليل عَلَى كمال غنى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96] وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21] .
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً.
وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنَّار) وهو وإن كَانَ عرضاً، فالله تَعَالَى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح: (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح عَلَى أقبح صورة) .
وورد في القرآن: (أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون) الحديث، أي: قراءة القارئ.
وورد في الأعمال: (أنها توضع في الميزان) ، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض، وورد في سورة البقرة وآل عمران: (أنهما يَوْمَ القِيَامَةِ يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) .
وفي الصحيح: (أن أعمال العباد تصعد إِلَى السماء) . وسيأتي الكلام عَلَى البعث والنشور إن شاء الله تعالى] اهـ.
الشرح:(1/219)
قوله رَحِمَهُ اللهُ: [مميت بلا مخافة باعث بلا مشقة] ، هذا استمرار للنعوت والصفات في حق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فهو يحي ويميت سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من يشاء بلا مخافة، ولا يبالي متى أهلكه، وإنما جَاءَ في حق العبد الصالح المؤمن المتقرب إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أن الله تَعَالَى يقول كما في الحديث القدسي: (وما ترددت في شيء كترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، هو يكره الموت وأنا أكره مساءته) أما غير ذلك فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يبالي بأن يهلك أياً كَانَ من المخلوقين، وهو كذلك "باعث بلا مشقة" يبعثهم سبحانه تَعَالَى بلا مشقة.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: إن الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم من متكلمي الْمُسْلِمِينَ؛ فإنهم يقولون: الموت ليس شيئاً وجودياً، إنما هو شيء عدمي لا وجود له، فعدم الموت عندهم هو عدم الحياة.
لأن الله تَعَالَى يقول: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] خلق الموت وخلق الحياة يعني: أن هذا أمر وجودي مخلوق؛ لأن العدم لا يوصف بكونه مخلوقاً، (أنه يؤتي بالموت يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنَّار) فيذبح الموت بهذا الشكل، حتى يستيقن كلٌ من هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ بالخلود، ويعلم أهل الجنة أنهم في نعيم ولا فناء ولا موت ولا خروج، ويعلم أهل النَّار أنهم في شقاء وعذاب أبدي؛ إلا من ورد في حقه الخروج من العصاة في شفاعة النبيين والصالحين، أو بتحنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم من بعد ذلك.
فالموت إذن أمر وجودي، ولهذا يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، فَيَقُولُ: هل تعرفون هذا الكبش؟ فيقولون: نعم.
هذا الموت وكلهم قد رآه، فيذبح.(1/220)
ثُمَّ يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النَّار خلود فلا موت، ثُمَّ قرأ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39] هذه رواية الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللهُ للحديث، وله روايات أخرى.
وقد يُقَالُ: ولكن الموت عرض فكيف يوصف بأنه جسم؟
والجوهر عندهم: ما قام بذاته، والعرض: ما قام بغيره، فالإِنسَانُ جوهر، واللون لا يقوم بذاته فهو عرض، وهكذا الحياة والموت.
والجواب: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقلب هذه الأعراض فتصير أعياناً، فمن ذلك: أن العمل الصالح يأتي صاحبه بصورة الشاب الحسن، والعمل القبيح يأتي في صورة الشاب القبيح، وذلك ضمن الحديث الطويل الذي رواه الإمام أَحْمَد فيالمسند في صفة موت المؤمن والكافر أو المنافق.
فمن صفات المؤمن: (أنه إذا وضع في قبره يأتيه شاب حسن فَيَقُولُ: من أنت؟ فوجهك الوجه يبشر بالخير، أو وجهك الوجه الحسن، ويستبشر بوجوده، فَيَقُولُ: أنا عملك الصالح، وأما المنافق أو الكافر -والعياذ بالله- فإنه يأتيه في أقبح صورة، فَيَقُولُ: من أنت؟ قبحك الله أو قاتلك الله فوجهك الوجه ينذر بالسوء، فَيَقُولُ: أنا عملك القبيح) فصور الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأعمال التي كَانَ يعملها هَؤُلاءِ في صور محسوسة.(1/221)
ومن ذلك أيضاً: ما ورد في القُرْآن أنه يأتي عَلَى صورة الشاب الشاحب اللون. ويقول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة) والبطلة: هم السحرة؛ ولذلك من يقرأ سورة البقرة فإنه يعصم -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وينجو من شر السحرة وأعمالهم، ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان يظلان صاحبهما يَوْمَ القِيَامَةِ، كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) و (إن القُرْآن يلقى صاحبه يَوْمَ القِيَامَةِ حتى ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فَيَقُولُ: ما أعرفك.
فَيَقُولُ: أنا صاحبك الذي أسهرت ليلك وإن كل تاجر وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة ... إلى آخر الحديث) ، الشاهد في هذا، هو قوله: "إن القُرْآن يأتي في صوره الشاب الشاحب"، وفي الحديث الآخر: (إن البقرة وآل عمران يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف) .
فهذا من أعمال الإِنسَان التي توضع في الميزان، وتصعد إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مع أنها أعراض، لكي يُعرف أنه لا استدلال للجهمية القائلين بأن القُرْآن مخلوق بأمثال هَؤُلاءِ الآيات؛ لأن قرآتي مخلوقة وقرآتك مخلوقة، وأما القُرْآن الذي هو كلام الله فهو ليس بمخلوق، فالذي يأتي كل إنسان منا هو قرآته لا القُرْآن الذي هو كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا مما أبطل به الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى استدلالالجهمية الذين قالوا: إن القُرْآن مخلوق.(1/222)
وهذه الأعمال توزن يَوْمَ القِيَامَةِ في الموازين، كما ثبت ذلك وورد في أحاديث كثيرة صحيحة منها: حديث المفلس لما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رَسُول الله! المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار -هذا العرف المادي البشري- فَقَالَ النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكن المفلس من يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بحسنات كالجبال، أو قال بصلاة وصيام وجهاد وحج ثُمَّ يأتي وقد ظلم هذا وسرق هذا وأخذ مال هذا -حين تنصب الموازين- فيؤخذ من حسناته فيعطى هَؤُلاءِ الذين ظلمهم وضربهم من حسناته، فإذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، فيلقى في النَّار) .
وكما في حديث الرجل الذي يقول الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له يَوْمَ القِيَامَةِ بعد أن توزن جميع أعماله، وإذا بحسناته طائشة، وإذا بسيئاته عظيمة وثقيلة، فتجعل سيئاته في تسعة وتسعين سجلاً، فيقول له الرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: (هل بقي لك من شيء) ، فَيَقُولُ: لا يا رب ما بقي شيء، فيقول الله: (ولكن لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد، بقي لك هذه البطاقة) ، فيرى بطاقة مكتوب فيها: "لا إله إلا الله" فَيَقُولُ: يا رب! وما تصنع هذه البطاقة بتسعة وتسعين سجلاً؟! فتوضع البطاقة فترجح عَلَى هذه السجلات جميعاً) التوحيد يرجح بجميع السجلات، فهذا كانت عنده حقيقة التوحيد، ولكنه كَانَ يرتكب ويفعل من الآثام ما الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى به عليم، وقد أحصاه عليه وعده، ثُمَّ أراه إياه، ثُمَّ تجاوز عليه بفضل تحقيقه للتوحيد.
وسنتحدث عن الميزان في آخر الكتاب -إن شاء الله- ضمن الحديث عن البعث، وهناك نبين الرد عَلَى مثل هذه الشبه، وهي قول الفلاسفة والمعتزلة ومن وافقهم بأن الأعمال أعراض، والأعراض لا توزن، وانكروا لذلك الميزان، مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْناً [الكهف:105] .(1/223)
من المشكلات التاريخية التي أثيرت عَلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بشكل عام وعلى شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رحمة الله بشكل خاص هذه المسألة: حتى أن كثيراً من النَّاس لا يزالون يعادون شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ويطعنون فيه، ويسيئون الظن فيه لا لذاته، وإنما للعقيدة التي يدعو إليها، والمبدأ الذي أحياه.
ومن أعظم المسائل التي يذكرونها -كمثال عَلَى أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ خارج عن مذهب السلف وغيره، وأنه مبتدع، ويأتي بأفكار لم يسبقه إليها أحد، ويخرق الإجماع- مسألة: القول " بجواز حوادث لا أول لها " حتى الشيخ شعيب مع أنه مهتم بالسنة والحديث؛ إلا أنه في هذا الموضوع -في مكان غير محتاج إِلَى التعليق نهائياً- أقحم هذه المسألة، وأخذ يتكلم في شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ بالكلام الذي نرده ونبين بطلانه وخطأه -بإذن الله تعالى- فالقضية أصبحت كأنها مسألة تشفي عَلَى شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، مع أن ما كتبه شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في هذه القضية تعجز عنه جميع العقول الفلسفية، فمن استطاع أن يفهمه فقد حاز عَلَى فضل كبير أما نقضه فإنه من المُحال.
وقد ذكر الفخر الرازي أنه استقصى أعظم الأدلة في هذه المسألة في كتاب له اسمه المباحث المشرقية ذكر فيه عشرة براهين، ويقول: هذه هذه البراهين العشرة ليس بعدهها أي برهان ولا دليل عَلَى بطلان حوادث لا أول لها، وأن الحوادث كانت مسبوقة بالعدم المحض الكلي.
وقد نقض شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في منهاج السنة هذه البراهين العشرة برهاناً برهاناً، وبيّن بطلانها وخطأها، وأضاف عليها، فنقض كلام الرافضي وغيره.(1/224)
واستطرد في ذكركل ما في هذه المسألة من الفلاسفة المتقدمين أمثال أرسطو ومن شايعه وابن سينا، ومن كَانَ عَلَى منهجهم، ومن خالفهم في هذه المسألة، كابن رشد وغيره، فجاء عَلَى جميع أقوالهم في هذه المسألة وفندها جميعاً.
فقضية بهذا العمق والطول، ليس من البساطة أن يأتي الإِنسَان فيجازف بالطعن في شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أو يتهمه وينتقده، فلا نرضى لمن كَانَ سنياً أن يجازف بالطعن والرد عَلَى أي مبتدع مجازفة بدون علم، مع أن هذا سني يرد عَلَى مبتدع، فكيف بإمام من أئمة السنة؟! ثُمَّ نقول بأنه خارج عن الإجماع في هذه المسألة، أو أنه موافق للكرامية، أو أنه موافق للصائبة الحرانية.
وهذا مما يدل عَلَى أن المسألة ينبغي لنا أن نفهمها بما يقدره الله من الفهم، ونحاول أن نستوضح ونعرف الخلفية التي وراءها، وما الذي يمكن أن يجر من لوازم؟
قَالَ الطّّحاويُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كَانَ بصفاته أزلياً، كذلك لا يزال عليها أبدياً] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات، وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها، لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كَانَ متصفاً بضده.(1/225)
ولا يرد عَلَى هذا، صفات الفعل، والصفات الاختيارية، ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء، والإماتة، والقبض، والبسط، والطي، والاستواء، والإتيان، والمجيء، والنزول، والغضب، والرضا ونحو ذلك مما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك -رضي الله عنه- لما سئل عن قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] .
كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول.
وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت، كما في حديث الشَّفَاعَةِ: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) .
لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن. ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس، لا يقَالَ: إنه حدث له الكلام، ولو كَانَ غير متكلم، لآفة كالصغر والخرس، ثُمَّ تكلم يقَالَ: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حالة الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته الكتابة] اهـ.
الشرح:
إن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- متصف بصفات الكمال قبل أن يخلق الخلق، وكذلك لا تزال هذه الصفات له بعد خلق الخلق، وهي أزلية وأبدية؛ لأن له الكمال المطلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الكمال لا يجوز أن يقَالَ: إنه حدث له بعد أن لم يكن لديه؛ لأن عدم الكمال نقص، فلا يقَالَ: إنه موصوفٌ بالنقص، ثُمَّ حدث له الكمال، فالله لم يزل متصفاً بصفات الكمال -سواء صفات الذات أو صفات الفعل- ولا يجوز أن يُعتقد أن الله وُصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها.
ولا ترد عَلَى هذه القاعدة صفات الفعل والاختيار.
2-أنواع الصفات:
والصفات عَلَى نوعين:(1/226)
1ـ صفات ذاتية.
2ـ صفات فعلية.
فالصفات الذاتية
هي الصفات الملازمة لذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، التي لا تنفك عنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل: الحياة، والقيومية، والقدرة، والسمع، والبصر وأمثال ذلك.
وأما الصفات الفعلية
فهي الصفات المتعلقة بالإرادة، فهو يتكلم متى يشاء -مثلاً- ويغضب ويرضى، فهذه صفات فعل يفعلها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متى شاء بإرادته، لكنها ليست ملازمة لذاته، ولا يعني هذا أنه تحصل له هذه الصفة بعد أن خلق الكون، ولم يكن متصفاً بها من قبل.
لكن قد يقال -مثلاً- نزوله إِلَى السماء الدنيا، كَانَ بعد أن خلق السماء الدنيا، أو إتيانه لفصل القضاء يَوْمَ القِيَامَةِ؛ فإنه كَانَ بعد أن خلق المخلوقين وكذلك بعد أن تقوم الساعة، فكأن هذه الصفات وُصف بها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بعد، واستفاد هذه الصفة من وجود المخلوقات.
والجواب أن نقول: إن هذه الصفات الاختيارية وإن كنا لا ندرك حقيقتها -كما هو معلوم، كما قال الإمام مالك في ذلك- لكنها تحدث في وقت دون وقت، ولا ينفي ذلك أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- متصف بالفعل وبالقوة.
والفرق بين القوة والفعل: أن الإِنسَان منا إذا كَانَ يجيد القرءاة أو الكتابة نقول: هذا الإِنسَان كاتب، ونصفه بأنه كاتب، فهذا يسمى: "كاتب بالقوة"، يعني: أن هذه الصفة والملكة موجودة فيه، فيستطيع أن يكتب، فإذا أمسك القلم وكتب سُمي كاتباً بالفعل.(1/227)
فلا شك عندنا أن صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الاختيارية يتصف بها الله بعد أن لم يكن متصفاً بها من حيث وقوعها في الفعل، لا من حيث أصل الاتصاف بها، والدليل عَلَى أن هذه الصفات الاختيارية أو الفعلية تكون في وقت دون وقت قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله} ، وحديث النزول نفسه؛ {ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر} ، بخلاف غيره من الأوقات، وهذه الأمور تحدث في وقت دون وقت.
وكذلك رضا الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الإِنسَان حال الطاعة، ثُمَّ غضبه عليه حال المعصية، فهذا الشيء يحدث في وقت دون وقت، والقول بأن هذا يستلزم حلول الحوادث بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كَانَ مدخل نفاة الصفات حين قالوا: إن -الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتنزه عن الزمان، والمكان، والانتقال، والتغير، وفي الحقيقة كل كلمة من هذه الكلمات تحتوى في ضمنها هدم لصفة من صفات الله أو أكثر، فقولهم: "يتنزه عن المكان " معناه: لا تقل أين الله؟
لأنهم يظنون أنك تثبت له مكاناً يحويه ويحيط به، وقولهم:"يتنزه عن الانتقال" معناه: إبطال حديث النزول، والإتيان يَوْمَ القِيَامَةِ.
وقولهم:"يتنزه عن التغير" معناه: لا يغضب ولا يرضى؛ لأن الغضب والرضا فيه تغير وأمثال ذلك من الصفات، كالخلق، والتصوير، والإماتة، والقبض، والبسط، والاستواء، والإتيان، والمجيء، والنزول، والغضب، والرضا. ويقولون: القواطع العقلية أو البراهين العقلية التي تدل عَلَى نفي التغير عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أقوى في الاستدلال من ظواهر بعض الآيات، أو من الأحاديث التي هي آحادية وإن كانت صحيحة.(1/228)
وهذه الصفات وإن كانت تحدث في وقت دون وقت، فإن الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كلم موسى، وتكلم بالقرآن، وليس هذا من حدوث شيء بعد أن لم يكن مطلقاً، وإنما يقَالَ: هذا في الذي كَانَ أخرساً مريضاً، ثُمَّ عولج فتكلم، أو طفل بلغ مرحلة من العمر لم يكن ينطق ثُمَّ تكلم، فهذا الذي حدث له الكلام بعد أن لم يكن؛ لكن من كَانَ ساكتاً ثُمَّ تكلم فلا نقول: حدث له الكلام، وإنما نقول في حقه: تكلم فقط.
فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لم يزل متكلماً كما يشاء بما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومن كلامه: ما خاطب به موسى وآدم، وما أنزله من الكتب.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وحلول الحوادث بالرب تعالى، المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال، فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن، فهذا نفي صحيح، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضي لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل.
وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، عَلَى ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي، ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل، لم ينقطع معه] اهـ.
الشرح:
المثال الأول: حلول الحوادث بالله.(1/229)
لا شك أن استخدام واستعمال الألفاظ الشرعية الصحيحة مثل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] يغنينا في التنزيه عن كل ما يقولون، فإذا أريد بنفي الحوادث بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لا يحل به شيء من مخلوقاته؛ لأن الحوادث تطلق عَلَى المخلوقات، فالله تَعَالَى يتنزه أن يحل به شيء من مخلوقاته، فنوافقكم عليه، وهو كلام صحيح؛ لكن لا نجعله من لوازم صفات الله التي نصفه بها، بل عندما نقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ونعلم أن ذاته ليست كالذوات، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بائن من خلقه، يغنينا هذا عن القول المجمل الذي فيه احتمال حق وباطل.
وإن كنتم تريدون بنفي حلول الحوادث فيه نفي الصفات الاختيارية فهذا باطل، فلا نسلم لهم، وإنما نفصل القول، فننفي من جهة ونثبت من جهة. .
وهناك معركة تاريخية قديمة بدأها أعداء شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ في حياته منهم: الإمام السبكي رَحِمَهُ اللهُ، الذي رد عَلَى شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في رده عَلَى الرافضي بالأبيات المعروفة -التي ذكرها طابع كتاب منهاج السنة - ومن جملتها أن ابْن تَيْمِيَّةَ يقول: بحوادث لا أول لها، وأن هذا الكلام يدل عَلَى أنه يقول: إن الحوادث تحل بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والشيخ الأرنؤوط لم يفهم الفصل بين القضيتين، وكأنه كَانَ في النفس شيء، فمجرد أن جاءت فرصة انتهزها، فأخذ يعلق هذا التعليق، وسنقرأ هذا التعليق، وسنبين ما فيه من الخطأ، وليس هو بياناً لخطأ رجل، وإنما هو بيان لأخطاء كثير من النَّاس الذين يشنعون عَلَى شَيْخ الإِسْلامِ زوراً وظلماً.
يقول الشيخ الأرنؤوط: "جمهور المتكلمين من أشاعرة وماتريدية ومعتزلة وفلاسفة، اتفقوا عَلَى منع قيام الحوادث بذاته تعالى، وجوز قيامها بذاته تَعَالَى الكرامية، ففرقوا بين الحادث والمحدث.
فالأول عندهم: هو ما يقوم بذاته تَعَالَى من الأمور المتعلقة بمشيئته واختياره.(1/230)
وأما الثاني: فهو ما يخلقه عَزَّ وَجَلَّ منفصلاً عنه، وقد تبعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في تجويز قيام الحوادث بالذات، والمؤلف هنا يختصر كلامه المذكور في منهاج السنة وقد غلا رَحِمَهُ اللهُ في مناصرة هذا المذهب والدفاع عنه ضد مخالفيه من المتكلمين والفلاسفة، وادعى أنه هو مذهب السلف مستدلاً بقول الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ وغيره: [لم يزل الله متكلماً إذا شاء] ، لأنه إذا كَانَ كلامه تَعَالَى -وهو صفه قائمة به- متعلقاً بمشيئته واختياره، دل ذلك عَلَى جواز قيام الحوادث بذاته؛ لأن ما يتعلق بالمشيئة والاختيار لا يكون إلا حادثاً، ثُمَّ يقول: وقد انتهى به القول إِلَى أن كلام الله تَعَالَى قديم الجنس حادث الأفراد، وكذلك فعله وإرادته ونحو ذلك من الصفات غير اللازمة للذات، وبما أن القول بذلك يستلزم التسلسل، فقد جوزه في الماضي والمستقبل جميعاً، وادعى أن مثل هذا التسلسل ليس ممتنعاً.
ثُمَّ أخذ يرد عليه، يقول: وغير واحد من العلماء -ولم يذكر أسماء- يعدون هذا الذي انتهى إليه شَيْخ الإِسْلامِ من جملة ما ندَّ فيه عن الصواب، وينكرون عليه، ويقولون: كيف يقول بقدم جنس الصفات والأفعال مع حدوث آحادها؟ وهل الجنس شيء آخر غير الأفراد المجتمعة؟ وهل يتركب الكلي إلا من جزئياته؟ فإذا كَانَ كل جزئي من جزئياته حادثاً، فكيف يكون الكلي قديماً؟
وكان عَلَى المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ -كما يقولالأرنؤوط - أن يتجنب الخوض في هذه المسألة، ويكف عنها ويكتفي بما قاله الإمام أَحْمَد وغيره من السلف -رحمهم الله- في ذلك".(1/231)
وهذه النصيحة ليت الشيخ الأرنؤوط لم يذكرها، بل كَانَ عليه هو أن يتجنب الخوض في هذه المسألة؛ لأن كلام المُصنِّفُ هنا ليس فيه اعتراض ولا إشكال، فالمصنف يشرح متناً معيناً؛ فإن كَانَ في هذا المتن خطأ فإنه لا بد أن يشرحه، ولا يكون هذا خوضاً؛ لأن هذا لابد منه سواء كَانَ مقراً أو غير مقرٍ، فمن لوازم كونه شارحاً أن يشرح هذا الكلام ويبين ما فيه، لكن المخرِّج والمعلق عَلَى الأحاديث لماذا يأتي بهذه المسألة، ثُمَّ يتمنى من غيره عدم الخوض؟
فقول الشيخ شعيب: إن الأشاعرة والماتريدية والمعتزلة. والفلاسفة اتفقوا عَلَى منع قيام الحوادث بذاته تَعَالَى] لا حجة فيه؛ لأنه مهما اجتمع هَؤُلاءِ عَلَى أي شيء فليس اجتماعهم بحجة في دين الله عَزَّ وَجَلَّ، إنما الحجة هي فيما كَانَ من كتاب الله أو سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو مذهب السلف، ومن الفخر لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أن يقَالَ: إنه خالف ما اتفق عليه الأشاعرة والماتريدية والفلاسفة والمعتزلة.(1/232)
ثُمَّ يقول: [وجوز قيامها بذاته تَعَالَى الكرامية] ، وهي فرقة من الفرق المبتدعة وأكبر ما تظهر بدعتها في مسألة الإيمان، وشَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ قد رد عَلَى الكرامية في مواضع كثيرة جداً فهو -ولله الحمد- متبع لمذهب السلف، وقد توجد مسائل عند الكرامية والمعتزلة والأشاعرة وافقوا فيها أهل السنة، حتى الرافضة والفلاسفة في بعض القضايا يوافقون شيئاً مما جاء به دين الإسلام، فهل يعني هذا أننا أخذنا منهم؟ لكن يريد بعض النَّاس تشويه ما يدعو إليه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ فقَالَ: إن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في عقيدته إنما ينقلها عن الكرامية والصائبة الحرانية، والذي تولى كبر هذا القول من المعاصرين هو الكوثري، ثُمَّ تبعه الدكتور علي سامي النشار رَحِمَهُ اللهُ، وفي آخر أمره تبين له الحق -إن شاء الله- وجمع مجموعة رسائل وسماها عقائد السلف، فنرجو أن تكون هذه توبة له من كلام خطير وقع في كتابه: نشأه الفكر الفلسفي في الإسلام وقد كَانَ أكبر أستاذ للعقيدة فيمصر، وتتلمذ عليه مجموعة كبيرة من الأساتذة في العقيدة مثل الدكتور مصطفى حلمي، والدكتور عمار طالبي، والدكتور نصار، والدكتورة فوقية حسين، والدكتور سهير مختار، سلسة كبيرة جداً من المؤلفين في العقيدة تتلمذوا عَلَى الدكتور علي سامي النشار، وهذا الدكتور اعتمد عَلَى الكوثري كثيراً، وكان من هَؤُلاءِ: الشيخ مُحَمَّد خليل هراس رَحِمَهُ اللهُ وكان عَلَى هذا القول حتى جَاءَ إِلَى المملكة، واتصل بأهل السنة وتبين له خلاف ذلك، وكتب كتابه ابْن تَيْمِيَّةَ السلفي ورد عليهم في هذه المسألة.(1/233)
فالقضية إذاً ليست منقولة عن الكرامية، وللعلم؛ فإن الكرامية فرقة منقرضة، بل حتى على أيام شيخ الإسلام ابن تيمية لم يكن لها ذلك الوجود، وإنما كَانَ لها وجود أيام الفخر الرازي في جهة بلاد ما وراء النهر، والفخر الرازي هو الإمام المتأخر للمذهب الأشعري الذي يعتبرونه أعظم فلاسفة هذا المذهب، عَلَى ما فيهم من تناقضات، وله ردود كثيرة جداً عَلَى الكرامية، وابْن تَيْمِيَّةَ ما هو إلا كرامياً، -على حد زعمه- فهو من الفرقة التي سبقللرازي أن هزمها وانتصر عليها.
فكأنهم يقولون: ابْن تَيْمِيَّةَ ما زاد عَلَى أن ابتدع بدعة جديدة أخذها من مذهب الكرامية، والكرامية قد كفينا أمرها بالإمام الفخر الرازي الذي من كلامه ومن قواعده استنبط كتاب المواقف، الذي لا يزال هو إِلَى الآن عمدة مذهب الأشاعرة، والمقرر الذي يدرس في الكليات المعتبرة الآن في معظم العالم الإسلامي تقريباً.
وأما قوله: "إنه غلا رَحِمَهُ اللهُ في مناصرة هذا المذهب والدفاع عنه ضد مخالفيه من المتكلمين والفلاسفة، فنعم الموقف موقف الرجل الذي يناصر السنة ضد شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللهُ في هذا، وإنما ذكر ما يراه هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، بل لم يقل هذا مذهب مجمع عليه، بل قَالَ: هذا مذهب أكثر أهل الحديث.
ثُمَّ أخذ يبين الرد ويتفلسف ويقول: "إنه انتهى به القول إِلَى أن كلام الله تَعَالَى قديم الجنس حادث الأفراد وكذلك فعله وإرادته، وبما أن القول بذلك يستلزم التسلسل، فقد جوزه في الماضي والمستقبل جميعاً ... إِلَى آخر كلامه".
نقول: ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ في منهاج السنة: أن التسلسل والدور عَلَى نوعين:
باطل، وصحيح، فإما أن يكون في العلل والمعلولات -يعني في الفاعلين والمفعولات، وإما أن يكون في اسم الآثار والحادثات.(1/234)
والتسلسل الباطل: هو ما كَانَ في العلل وفي المعولات- أي: في الفاعلين والمفعولات، مثل ما جَاءَ في ذلك الحديث الصحيح: {يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا، من خلق كذا حتى يقول: من خلق الله؟) يعني أنت تقول: هذا خلقه مخلوق، والمخلوق خلقه مخلوق، هذا تسلسل باطل؛ فلا بد أن ينتهي إِلَى أنه خلقه خالق.
وأما التسلسل بالآثار؛ فهذا غير باطل، فهو أن يكون حادث إثر حادث، وحادث إثر حادث؛ لأنها آثار من آثار الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ ولأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل خالقاً أزلاً وأبداً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو يخلق شيئاً، ثُمَّ يخلق بعده شيئاً ثُمَّ يخلق بعده شيئاً إِلَى ما لا نهاية، لما لا بداية له، ولا نهاية له، فلا يمتنع ذلك ما دمنا أننا قلنا: إن صفة الله -عَزَّ وَجَلَّ- أزلية لا بداية لها، فإن آثارها ولوازمها التي تستلزمها أيضاً لا بداية لها.
لكن هل يعني هذا أن هناك مخلوقاً أزلياً لا أول لوجوده؟ يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: لا، ليس هناك مخلوق أزلي لا أول لوجوده، لكن هناك مخلوق يحدث بعده مخلوق، ويحدث بعده مخلوق، أو مخلوق حدث قبله مخلوق، وهذا حدث قبله مخلوق. إِلَى آخره، فهذا تسلسل بالآثار، التي هي آثار الصفة التي يتصف بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فالحوادث لا أول لها من حيث النوع والجنس، لكن الأفراد حادثة، فكل مخلوق بذاته هو حادث، لكن الجنس قديم -بمعنى: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خالق أزلاً، وكونه خالقاً ومريداً ومتكلماً، لأنه قد خلق أشياء وأراد أشياء، وهذه الأشياء ليست أزلية بذاتها، لكن لما كَانَ لا أول لصفة من صفاته، فإن آثارها ولوازمها مما لا أول له كذلك.(1/235)
ولهذا يرد علينا كما سياتي إن شاء الله تَعَالَى حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- المعروف في وفد اليمن، لما جاءوا إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: يا رَسُول الله! جئناك نسألك عن أول هذا الأمر، أو عن هذا الأمر كيف كان؟ "فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما أخبر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استأنف خلق المخلوقات بعد أن لم يكن معه شيء، وقد كفى ابْن تَيْمِيَّةَ الرد عَلَى هذه المسألة بأن شرح رسالة مستقلة طبعت في رسائل المسائل، وفي مجموع الفتاوى في حديث عمران بن حصين، وذكر فيه الروايات الثلاث:
(ولم يكن قبله شيء) .
(ولم يكن غيره شيء) .
(ولم يكن معه شيء) .
وذكر أن الذي ترجح من هذه الروايات هي رواية (قبله) !
لأنها تتفق مع قول الله: هُوَ الْأَوَّلُ..، وتتفق مع الحديث الصحيح أيضاً "أنت الأول فليس قبلك شيء".
وكذلك الدور نوعان:
1- دور قبلي.
2- ودور اقتراني، أو معي من المعية والاقتران.
فالدور القبلي: مثل قولك: لا يكون زيد إلا بعد عمرو، ولا يكون عمرو إلا بعد زيد، بمعنى توقف كل واحد من الشيئين عَلَى الآخر، فهذا باطل. فمثلاً نقول: أنا لا أقدر أن آتيك إلا بسيارة، وما أقدر أن أحصل عَلَى سيارة إلا عندما آتيك.
وأما الدور الاقتراني: فهو صحيح، مثل قولك: أنا لا أقدر أن آتيك إلا مع محمد، ولا يقدر أن يأتيك مُحَمَّد إلا معي، فهذا صحيح؛ فإن اقتراني هذا يعني أن نجيء مع بعض أو نقعد مع بعض، ويُمثل هذا بالأبوة والبنوة، فلا تتصور الأبوة إلا بالنبوة، ولا بنوة إلا بالأبوة، فعندما نقول: هذا الشيء فوق، فإنه لا تتصور الفوقية إلا بالتحتية، ولا تحتية إلا بالفوقية، فكلمة فوق تستلزم بذاتها وجود تحت، وكذلك كلمة أب.(1/236)
وأما التسلسل في المستقبل: فإنه متفق عليه عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وأهل الملل، ما عدا الجهمية الذين قالوا: إن الجنة والنَّار تفنيان -كما سيأتي إن شاء الله- فمثلما قيل: إن التسلسل لا يمتنع في المستقبل فَلِمَ يمتنع في الماضي، وكلها متعلقة بإيجاد الله لها، وبإبقاء الله لها؟!
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة عَلَى الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كَانَ أئمة السنة -رحمهم الله تعالى- لا يطلقون عَلَى صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره، لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذ كَانَ لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل.
فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها، منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا غير صحيح.
وإن أريد به أن الصفات زائدة عَلَى الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة، كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال. ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كَانَ الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً، ويتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.(1/237)
وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد، والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله فإن الثاني باطل لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته بخلاف مسمى الذات، فإنه لا يدخل فيه الصفات، لأن المراد أن الصفات زائدة عَلَى ما أثبته المثبتون من الذات والله تَعَالَى هو الذات الموصوفه بصفاته اللازمة ولهذا قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ-[لا زال بصفاته] ولم يقل "لازال وصفاته" لأن العطف يؤذن بالمغايرة وكذلك الإمامأَحْمَد -رضي الله عنه- في مناظرته الجهمية لا نقول الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه، وقدرته ونوره، هو إله واحد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإذا قلت: أعوذ بالله، فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه.
وإذا قلت: أعوذ بعزة الله فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى، ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ "الذات"، فإن "ذات" في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إِلَى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى صاحبة كذا.
تأنيث ذو، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كَانَ الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات، كما يفرض المحال.
وقد قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) .
وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) . ولا يعوذ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير الله.
وكذا قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك) .(1/238)
وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) .
وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات) ] اهـ.
الشرح:
المثال الثاني: هل الصفة زائدة عَلَى الذات أم لا؟
أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لم يستخدموا هذه الفلسفات ولم يتساءلوا: هل صفات الله هي ذاته أو ليست بذاته؟ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى طهر عقولهم، وزكاها عن الخوض في مثل هذه الأمور الجدلية الفلسفية، التي هي في الحقيقة منقولة عن قدامى اليونان الذين تقعروا في أمثال هذه المسائل، لكن لما اضطر أهل السنة أن يردوا عليهم ويبينوا لهم خاضوا في هذا المجال.
فنقول: ماذا تقصدون بقولكم الصفة زائدة عن الذات أو هي غير الذات؟
إن أردتم أن هناك ذات مجردة من الصفات فهذا مستحيل ولا يوجد في الخارج، وإن أردتم أن هناك ذاتاً، وهذه الذات لها صفات موصوفة بها من باب التفرقة الذهنية فقط، فهذا المعنى صحيح.
فلا يوجد في خارج الذهن شيء لا صفة له مطلقاً؛ لأن صفات الشيء ملازمة لذاته، وأقل شيء صفة الوجود، فكونه موجود، فلا بد أن له من صفة الوجود، وهذه الصفة لا يجوز أن تنفك عنه إلا إذا عدم الشيء، فهذا هو التفصيل.
ومن أمثلة ذلك عندما يقول الإِنسَان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. يستعيذ بالله، وعندما يقول: أعوذ بعزة الله، أو أعوذ بقدرة الله من شر ما أجد وأحاذر ... فالعوذ بعزة الله وقدرته عوذ بالله؛ لأن القدرة أو العزة هي عين الذات.
فإذا استعذنا بصفات الله دل ذلك عَلَى تلازم صفات الله لذاته، فمن استعاذ بشيء من صفات الله فقد استعاذ بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فلا انفكاك بينهما.
وكذلك: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) .
و (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك) .(1/239)
وكذلك (أعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) ، فمن استعاذ بشيء من صفات الله، فإنما يستعيذ بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يجوز الحلف بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيَقُولُ: وعزة الله، وقدرة الله، وهكذا ... فإن هذا يدل عَلَى أن الصفات -علاقتها بالذات- خارج الذهن لا تنفك عن الذات، وأما في داخل الذهن، فالذهن يتصور التقسيم النظري، بأن هذا ذات وهذه صفات.
ويستدل عَلَى ذلك بالمعنى اللغوي، فكلمة "ذات" في لغة العرب هي: تأنيث لـ"ذو"، فعندما نقول: ذو المال، أو ذات الولد، أو ذو السلطان -أي: صاحب السلطان، ونقول ذات المال، أو ذات الولد، أو ذات كذا- بمعنى صاحبة كذا، فكلمة "ذات" في أصل اللغة هي: تأنيث لكلمة "ذو"، وهذه من الكلمات التي لا تستعمل إلا مضافة، فلا يمكن أن تستغني عن الإضافة، بل لا بد أن يُذكر بعدها مضاف إليه، فكيف يُقال إذاً بالتفريق بين الذات والصفات، مع أنها في أصل اللغة لا بد أن توصف بنفسها؟! فتقتضي بذاتها ولفظها أن لها موصوفا مضافاً.
وقد مر بنا أن العقل والذهن يتصور أشياء هو يتخيلها، مع أنه لا حقيقة ولا وجود لها في الواقع الخارجي بإطلاق -فمثلاً- يقولون إن الشيء قد يكون جائزاً عقلاً، لكنه مستحيلاً عادة، فالشاعر إذا ذكر في قصيدته شيئاً مستحيلاً عادة، لكنه جائز عقلاً، كَانَ هذا من الأمر الممدوح الذي يدل عَلَى أن الشاعر لديه شاعرية عظيمة، كقول المعري:
فلولا الغمد يمسكه لسالت يذيب منه كل عظم فلولاً
أي لو أن الغمد مسك السيف لسال ولذاب، يعني: من شدة دقة السيف، مبالغة في وصف السيف بأنه حاد دقيق، وما عُلم أن سيفاً ذاب، فهذا مستحيل ولا يقع، لكن العقل يجوز ذلك.
فالعقل يجوز أن المعادن تذوب، فلذلك يقولون: هذا ممدوح وليس عليه غبار.
لكن قول أبي نواس:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه لتخافك النطف التي لم تخلق(1/240)
قالوا عنه: هذا لا يجوز وهو خطأ، لأن كلامأبي نواس مستحيل عقلاً وعادة، فالنطف التي لم تخلق تخاف من الخليفة؟! هذا لا يمكن عقلاً ولا عادة.
الشاهد: أنهم يوافقون أن الذهن قد يتصور أشياء في الذهن فقط، لكنها ليست موجودة في الواقع، ومن ذلك قولهم: بأن الصفة هل هي عين للذات أو غير الذات؟
وقال بعض السلف قَالَ: نَحْنُ ننفي أن الصفة لا هي عين الموصوف ولا هي غيره، فننفي الاثنين، فليست الصفة هي عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن، بل هي شيء آخر، وكذا ليست غير الموصوف؛ لأنها متعلقة به، فهي وإياه كالشيء الواحد.
فالاصطلاحات المجملة لا نستخدمها ولا نذكرها، ونعتبرها بدعية، أما وقد ذكرها غيرنا، فنبين ونفصل ما فيها من الحق والباطل، فالوجه الصحيح لا ننكره لمجرد أن اللفظة مجملة، واللفظ الباطل ننفيه، ولكن لا ننفي الكلمة كلها بإطلاق، وهذا من الإنصاف؛ لأن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- هو المذهب الوحيد الذي يقوم عَلَى الاتباع، لا عَلَى الحقد والعدواة، ولا عَلَى ردود الفعل، ولا هو موجه في الأصل ضد أحد، وإنما هو اتباع لما جَاءَ به الدليل، ومن جَاءَ بأي كلمة -وإن كَانَ أرسطو وأفلاطون - نقول: الكلام الذي قلته في هذه المسألة فيه خطأ وصواب، مع أننا نقول -ونحن واثقون- لا نحتاج إِلَى هَؤُلاءِ النَّاس مطلقاً، لا فلاسفة ولا متكلمين.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/241)
[وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من النَّاس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه: فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك، فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله: اسم عربي، والرحمن: اسم عربي، والرحمن من أسماء الله تَعَالَى ونحو ذلك، فالاسم هاهنا للمسمى، ولا يُقال غيره، لما في لفظ الغير من إجمال: فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كَانَ ولا اسم له، حتى خلق لنفسه أسماءً، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى] اهـ.
الشرح:
المثال الثالث: هل الاسم هو المسمى أو هو غيره؟ وهذا قريب من المثال السابق:
قال الطبري رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وهذه المسألة نحمد الله أنه عافانا منها، ولم يخض فيها أحد ممن قبلنا، ولا تعرض لها السلف لأنها من الخوض الباطل.
أما وقد قيلت، فنقول كما قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: ما المراد بالاسم؟ وما المراد بالغيرية -بكونه غيره-؟ لأن كلمة "غيره" تطلق عَلَى ضده، كما نقول: فلان غير الشيء، فمعناه: مباين له وضده، وتطلق عَلَى ما ينفك عنه، فنقول: لا نقول الاسم غير المسمى، ولا نقول الاسم هو المسمى، لأن لفظ الجلالة: "الله" قد يراد به الاسم، وقد يراد به المسمى، فإذا قلنا: سمع الله لمن حمده، أو أي شيء ننسبه إِلَى الله، فإن المراد به المسمى، أما إذا قلنا: الله مبتدأ، فالمقصود به لفظ الجلالة الاسم لا المسمى.
وهذه الفلسفات والمماحكات التي أطال فيها أُولَئِكَ ويمهدون بها لأشياء أخرى، فقد يريدون أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ ولا اسم له، ثُمَّ خلق لنفسه أسماء، أو سماه خلقه بأسماء، أو بعد أن خلق الخلق استفاد أسماء، فهذه اللوازم باطلة.(1/242)
وأصل القضية هو ما سبق معنا من قول الفلاسفة: الوجود المطلق الذي لا صفة له.
ونعود إِلَى لب الموضوع وهو مسألة الحوادث التي لا أول لها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[والشيخ رَحِمَهُ اللهُ أشار بقوله: [مازال بصفاته قديماً قبل خلقه ... ] إِلَى آخر كلامه إِلَى الرد عَلَى المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تَعَالَى صار قادراً عَلَى الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه، لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كَانَ ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي! وعلى ابن كُلاب والأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكنا له بعد أن كَانَ ممتنعاً منه. وأما الكلام عندهم، فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته.
وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ، لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري -عَزَّ وَجَلَّ- لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته، بل يمتنع أن يكون قادراً عَلَى ذلك، لأن القدرة عَلَى الممتنع ممتنعة!
وهذا فاسد، فإنه يدل عَلَى امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً، فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادراً عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.(1/243)
قالت الجهمية ومن وافقهم: نَحْنُ لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها، ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث.
فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقَالَ: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا، بعد أن لم يكن ممكنا وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إِلَى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث، أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إِلَى الإمكان، هو يصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كَانَ ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل.
وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً! وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه! فإنه يعقل كون الحادث ممكنا، ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً، فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه] اهـ.
الشرح:
هذا المقطع ملخص من أوائل منهاج السنة لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ.(1/244)
نحن نؤمن جميعاً -وأهل السنة يقولون ذلك، وكل العقلاء في العالم- بأن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لم يكن قبله شيء، وهي الرواية الحديثية الراجحة التي رجحها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، حتى تتفق مع اسم الله: "الأول" فلم يكن قبل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شيء، وهو الأول الذي لا بداية لوجوده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ليس قبله شيء، وهو أزلي لا بداية لوجوده، كما هو معلوم قطعي لدى جميع العقلاء.
وصفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل متصفاً بها، فصفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أيضاً لا ابتداء لها، فلم يكن في وقت من الأوقات عاطلاً عن الخلق ثُمَّ خلق فصار اسمه الخالق؛ لأن صفات الكمال لم يكن الله في وقت من الأوقات غير متصف بها؛ لأن معنى ذلك أنه كَانَ في وقت من الأوقات ناقص، وهذا لا يجوز ولا يليق في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقياساً عَلَى المستقبل، وهو أننا نؤمن ونقطع جزماً أن أهل الجنة وأهل النَّار سيظلون في المستقبل خالدين مخلدين فيها، وهم مخلوقون ومحدثون، ومع ذلك لا نهاية لهم، فكذلك لا يمتنع أن توجد أنواع وجنس -لا آحادها- مخلوقات لا بداية لها في الماضي، فحيث كانت هذه الصفة قديمة لا بداية لها، فتقتضي وجود مخلوقات بعده، يخلق مخلوقاً، ثُمَّ يخلق بعده مخلوقاً آخر.
ويقول علماء الطبيعة عن الكون والمادة: لا تفنى ولا تستحدث، فنلزمهم من كلامهم، فنقول لهم: إذا كنتم تقولون هذا في حق المادة التي هي من مخلوقاته، فما بالكم في حق صفات الله أو آثار صفات الله تخالفون في ذلك؟(1/245)
فنقول: ما دامت صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باقية ولا تحدث بعد إذ لم تكن، إذاً آثارها كذلك، وأوضح من ذلك ما يتعلق بصفة الكلام، فقد نص الجهمية والشيعة: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ ذاتاً بلا صفات، ثُمَّ حدثت له الصفات، فلما خلق الكون صار خالقاً بعد أن لم يكن خالقاً، فكان بذلك في زمن ليس متصفاً بهذه الصفات، فلم يفرقوا بين القوة والفعل، وإنما نظروا فقط إِلَى الفعل، فَقَالُوا: صار قادراً عَلَى الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً.
والأشعرية نصوا عَلَى ذلك في الفعل دون الكلام، لأن الكلام عندهم صفة ذاتية متعلقة بالذات، قديمة بقدم الذات.
بينما الكلام عند أهل السنة -نوعه وجنسه- قديم، لكن الآحاد حادثة، فالقرآن نزل بعد نزول التوراة والإنجيل، وهذا معلوم لجميع العقلاء، فدل ذلك عَلَى أنه يقع بعد أن لم يكن.
إذاً فلا غبار في إثبات حوادث لها أول، ولا نخرج في ذلك عن الشرع ولا عن العقل، لأنه ما من وقت يقدر فيه إمكان الحدوث إلا وغيره ممكن أن يقع فيه وما من دليل يمنع حدوث حوداث قبل الوقت الذي حددتموه.
وكل الفرق الإسلامية تقول: إن هذا العالم حدث بعد أن لم يكن، عدا الفلاسفة الذين يقولون: إنه قديم.
وكلام المانعين لحوادث لا أول لها يدل عَلَى امتناع حدوث العالم؛ لأنه ما من وقت يقدر فيه الحدوث إلا وأمكن أن يقع قبله، وكذلك حديث عمران بن حصين هو نفسه دليل عَلَى أن الكلام ليس عن فترة لم يكن فيها، أيُّ مخلوق أبداً، وإنما يتكلم عن أمر هذا العالم والكون الأرضي الدنيوي، ولهذا لما سألوه قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟(1/246)
فقولهم: "نسألك عن هذا الأمر" إشارة إِلَى الكون الحاضر المشهود، فلم يأت الجواب عن جنس الحوادث والمخلوقات، وإنما جَاءَ الجواب عن هذا العالم المخلوق، فقَالَ: كَانَ الله ولم يكن قبله شيء، وكان عرشه عَلَى الماء، وخلق السموات والأرض، وقوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ.. [فصلت:11] يدل ذلك عَلَى أن العرش والماء والدخان من مخلوقات الله عَزَّ وَجَلَّ قبل ذلك.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فالحاصل: أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟
فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من الْمُسْلِمِينَ وغيرهم:
أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف.
وثانيها قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام، ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.
والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل، كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار. ولم يقل أحد يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل] اهـ.
الشرح:
علق الشيخ الأرنؤوط عَلَى كلمة ابن كلاب فقَالَ: هو عبد الله بن كلاب المتوفى بعد سنة مائتين وأربعين، كَانَ إمام أهل السنة في عصره، وإليه مرجعها إِلَى آخر كلامه.
ومعلوم أنه كَانَ معاصراً للإمام أَحْمَد، فكيف يكون هو إمام أهل السنة ومرجع السنة في عصره؟
فهذا الكلام من الخطأ أن يقال في حق إمام فعلاً من أئمة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ معاصر للإمام أَحْمَد، فكيف برجل ليس من أئمة أهل السنة.
وهو الذي هجره وأمر بهجره الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللهُ، وقَالَ: إنه مبتدع. فهجره أهل العلم نتيجة هذه البدع -وهي اشتغاله بعلم الكلام-، ونتيجة لهجر الإمامأَحْمَد له، فتضاءل تلاميذه وأثره.(1/247)
إن هذه العبارة "إنه إمام أهل السنة في عصره وإليه مرجعها" هو كلام الكوثري، نقله عنهالدكتور علي سامي النشار، ويبدو أن الشيخ شعيب نقل هذا الكلام من كلام الدكتور علي سامي النشار في مقدمة كتاب الشامل للجويني، أو نقله عن الكوثري مباشرة.
فالقسمة العقلية المجردة النظرية تقتضي أن تكون المذاهب في هذا الموضوع أربعة، ولكن الموجود منها ثلاثة:
القول الأول: -وهو أضعفها- أنه لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، وهذا قول الجهم بن صفوان، وأبي الهذيل العلاف من شيوخ المعتزلة.
وهذا القول تفرد به الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف، وهو قول شاذ حتى عند جميع أهل الملل، والفلاسفة، واليهود، والنَّصارَى، فلم يقولوا: بأن الحوادث لا تدوم لا في الماضي ولا في المستقبل، وينبني عليه أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن خالقاً، ولا متكلماً، ولا فعالاً لما يريد في زمن من الأزمان، ثُمَّ حدث له ذلك - كما يقولون - فانتقل الأمر من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، ومن ذلك قولهم: إن الجنة والنَّار تفنيان، وعالم الملأ الأعلى يفنى.
والقول الثاني: يمكن دوامها في المستقبل الذي لا آخر له، ويسمى الأبد، ولا يمكن دوام نوع الحوادث في -الزمن الذي لا أول له- الأزل.
وهَؤُلاءِ هم الكرامية والأشعرية والشيعة وبعض المعتزلة وبعض المنتسبين للمذاهب الأربعة، يقولون: لم يكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الماضي خالقاً، ولا رازقاً، ولا مُحيياً، ولا مميتاً؛ لأنه لم يكن هناك خلق يخلقهم، ولا يرزقهم، ولا يحييهم أو يميتهم قبل أن توجد هذه الحوادث، وأما في المستقبل فالإمكان وارد؛ لأن أهل الجنة وأهل النَّار يبقون أبد الآبدين ولا يفنون.(1/248)
القول الثالث: وهو الذي عليه أكثر أهل السنة والحديث من العلماء، وهو الذي انتصر له الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللهُ-: وهو أن أنواع الحوادث دائمة عَلَى طرفي الزمان بحسب الماضي والمستقبل، وهناك فرق بين هذا القول وبين قول الفلاسفة فإنهم يقولون: إن الكون أو بعضه، أو الأفلاك، أو العقول العشرة التي سماها أفلاطون، وما أشبه ذلك، قديمةٌ كقدم الله تعالى، ويسمونه واجب الوجود أي: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إن الأفلاك أو العقول أو هذا الكون المشهود إذا قيل: إنه لا أول له، هو كفر، وتكفر به الفلاسفة، ومنهم: ابن سينا والفارابي وأمثالهم.
وأما أهل السنة فإنهم لا يتكلمون عن عين من أعيان المخلوقات، فلا يقولون: العرش قديم، ولا القلم قديم أي أزلي، وإنما يقولون: الجنس -جنس الحوادث- وأما الأعيان فكل مخلوق بذاته فهو مخلوق خلقه الله بوقت ما، وسيفنيه متى شاء.
فنفترض أن هذا المخلوق كَانَ قبله شيء مخلوق وكلها مخلوقة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي ابتدأ خلقها لا أحد سواه، أما هو جل شأنه. فإنه لا شيء قبله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
القسم الرابع: قلنا: إنه لم يقل أحد أنه يمكن أن تكون الحوادث لا أول لها في الماضي، ولا يمكن أن تكون في المستقبل، والقسم الرابع قسمة عقلية لم يقل به أحد.
والمسألة طويلة ومعقدة، وتعتمد عَلَى قضايا كثيرة لا يستطيع العقل أن يستوعبها، مثل: قضية الأزل، وتصور شيء لا أول له.
والزمان مخلوق من مخلوقات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نقدره في الأرض بالليل والنهار الذي جعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لنا، لنعرف بها مواقيت عبادتنا والآجال والأعمار.
ولو تصورنا ما معنى الأزل قبل أن تخلق السماوات والأرض، وكيف يكون الزمان بعد أن تفنى السماوات والأرض وتكور الشمس والقمر، لأدركنا حينئذ أننا لا ندري حقيقة الزمان، ولا نستطيع أن نفهمها، ومع ذلك فإنه مما خلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/249)
والفخر الرازي المتوفى في أوائل القرن السابع، - إمام الأشعرية في عصره، وحوى وتبحر في العقليات والكلام الشيء الكثير -، فكتب كتاباً أسماه المباحث المشرقية وهو كتاب مطبوع وذكر عشرة براهين في نفي حوادث لا أول لها، وأنه لا يصلح القول: بحوادث لا أول لها.
فجاء شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ ولم يكن قصده أن يرد عَلَى الفخر الرازي، لكن جَاءَ الذي سمى نفسه ابن المطهر الحلي وهو رافضي أبعد شيء عن الطهارة في الاعتقاد والعمل، فألف كتاباً أسماه " منهاج الكرامة " فأخذ ابْن تَيْمِيَّةَ يستعرض أقواله، فلما جَاءَ بمسألة الحدوث تطرق للبراهين العشرة التي للرازي، فنقضها شَيْخ الإِسْلامِ نقضاً طويلاً.
وما ذكره المُصنِّفُ هنا في هذه المواضع إنما هو اختصار لها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تَعَالَى مخلوق، كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من الْمُسْلِمِينَ واليهود والنَّصارَى وغيرهم.(1/250)
ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً -لفاعله لم يزل ولا يزال معه- ممتنع محال ولما كَانَ تسلسل الحوادث في المستقبل. لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء، ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] وقال تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد [البقرة:253] وقال تعالى: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16،15] وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه [لقمان:27] وقال تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ َ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف:109] ، والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذ فإذا كَانَ النوع دائماً، فالممكن والأكمل هو التقدم عَلَى كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه. وأما دوام الفعل، فهو أيضاً من الكمال، فإن الفعل إذا كَانَ صفة كمال فدوامه دوام الكمال] اهـ
الشرح:(1/251)
كل من يؤمن بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من أصحاب الملل، كاليهود والنَّصارَى والمجوس من الفلاسفة ومن غيرهم، يقولون: بأن كل ما سوى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو مخلوق، ومع ذلك يقولون بدوام نوع هذه المخلوقات إِلَى ما لا نهاية له في المستقبل، كما قلنا: إن الجنة والنَّار تبقى إِلَى الأبد، وهذا لا ينافي أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الآخر كما جَاءَ في الحديث: (وأنت الأخر فليس بعدك شيء) ، فإذا أمكن ذلك، فما المانع من مقابله أيضاً، أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومع ذلك فإن نوع حوادث المخلوقات قديم.
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَانَ ولم يزل فعالاً لما يريد، متكلماً كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [آل عمران:40] وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد [البقرة:253] فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] وهناك آيات متعلقة بكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه [لقمان:27] ، والكلمات هي أوامر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التي تكون بها المخلوقات وغير ذلك، فهذا دليل عَلَى أن أفعال الله وكلماته لا تتناهى أزلاً ولا أبداً، وهذا من صفات كماله سبحانه.
وإنما يكون النقص والعيب لو أننا افترضنا مخلوقاً من مخلوقاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متقدماً عليه أو متأخراً عنه، وأما القول بأن كل مخلوق يخلقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ثُمَّ يفنيه إذا شاء أن يفنيه؛ فهذا لا يقتضي نقصاً، بل النقص أن يقَالَ: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يكن متكلماً، ولم يكن مريداً لما يشاء في ذلك الزمن سواء كَانَ الأزل أو الأبد.(1/252)
فالكمال الذي نريد إثباته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو: أنه فعال لما يريد، متكلم بما يشاء في أي زمن من الأزمان، ونفي ما سوى ذلك هو النقص، إذا افترضنا أنه كَانَ ممتنعاً عليه من الكمال.
ثُمَّ ابتدأ المُصنِّفُ يرد عليهم في قولهم: إن هذا يلزم منه التسلسل.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قالوا: والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إِلَى واجب وممتنع وممكن.
وكالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره ممن قبله لا إِلَى غاية.
والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيماً آخر لا نفاد له.
وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلماً إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت بالفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف الحي الفعال. وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تَعَالَى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل.
وأما التسلسل الممكن، فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف. كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً -وذلك من لوازم ذاته- فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم عَلَى كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن] اهـ
الشرح:(1/253)
أولاً: كلمة التسلسل ليست كلمة شرعية، فلم ترد في الكتاب ولا في السنة لا بنفى ولا إثبات حتى نراعيها، لأن اللفظ الذي يجب علينا أن نراعيه هو ما جَاءَ في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما جَاءَ في الكتاب نفيه يجب أن نراعي نفيه دائماً، وما جَاءَ في الكتاب إثباته فيجب أن نراعي إثباته دائماً، لكن ما لم يأت نفيه ولا إثباته فنحن ننظر فيه ونقيسه بالمقاييس الشرعية الكتاب والسنة، فإن كَانَ الأمر يقتضي نفيه نفيناه، وإن كَانَ الأمر يقتضي إثباته نثبته، وإن كَانَ فيه تفصيل فصلنا.
وهذه الكلمة مما فيه تفصيل، فنقول: لا نطلق القول بأن التسلسل ممنوع، فإنا لو نظرنا إِلَى ما في الكتاب والسنة من البراهين لوجدنا أن التسلسل ثلاثة أقسام، وترد عليه الأحكام الثلاثة وهي: الوجوب أو الامتناع أو الجواز.
وهذه الأحكام يسمونها: "الأحكام العقلية الثلاثة التي ترد عَلَى كل شيء"، فإما أن يكون واجب الوجود، أو ممتنع الوجود، أو ممكن الوجود، أي: جائز أن يوجد وجائز أن لا يوجد.
وهذه الأحكام العقلية الثلاثة ترد عَلَى التسلسل، فمنه واجب يجب أن نثبته لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومنه ممتنع يجب أن ننفيه عنه، ومنه ما هو ممكن وجائز.
التسلسل الممنوع
فالممتنع هو التسلسل في المؤثرين أي: في المفعولات، مثلما جَاءَ في الحديث: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله؟) ، هذا خلق هذا وهذا خلق هذا ... فالمفعولين أو المؤثرين، التسلسل فيهم ممنوع، بل لابد أن نصل إِلَى نهاية، وهذه النهاية في المفعولين أو المؤثرين هي إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهذا أحد ما يدل عليه قوله تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى [النجم:42] .
التسلسل الواجب(1/254)
وأما التسلسل الواجب فهو: ما دل عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تَعَالَى في الأبد، والتى هي محل الاتفاق عند الجميع؛ إلا الجهم والعلاف، وهذان لا يؤبه لخلافهما، وهي أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يديم نعيم أهل الجنة، وكذلك -والعياذ بالله- عذاب أهل النَّار الكفار إِلَى ما لا نهاية، فكلما انقضى نعيم أحدث لهم نعيما آخر، وهكذا تتسلسل إِلَى ما لا نهاية.
وهذا تسلسل يجب أن نثبته، وبهذا يتضح أن القول بأن التسلسل ممتنع أو أنه غير جائز عَلَى الإطلاق ليس بصحيح.
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ التسلسل في أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالنسبة إِلَى الأزل، أي: في الماضي، وأنه واجب في أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وواجب في كلامه، وإلا لزمكم -والعياذ بالله- أن تفترضوا أنه كَانَ أخرساً ممنوعاً من الكلام، ثُمَّ حدث له الكلام وتكلم، ومقتضى الكلام أفعال، بل مقتضى الحياة؛ لأن كل حي فعال، حتى أدق الكائنات، فكيف بالحي القيوم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي له مطلق الحياة وكمالها؟ إذاً فكونه حياً، وكونه متكلماً في الماضي إِلَى ما لا نهاية، يجب أن نثبته له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإن كانت آثار أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تكون مخلوقات، لكن لا ضير في أن نثبت ذلك، بل هذا كمال الحق لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
التسلسل الممكن(1/255)
ثُمَّ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: وأما التسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما تتسلسل من طرف الأبد، أي: أنه مثل ما قلنا: إن التسلسل في الماضي واجب، فإنه في المستقبل ممكن غير ممتنع؛ لأنه لم يزل حياً، قادراً، مريداً، متكلماً، فكونه يفعل أكمل من كونه لا يفعل، وكونه يتكلم أكمل من كونه لا يتكلم، وكونه يريد أكمل من كونه لا يريد، إذاً فإثبات هذا الكمال له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ممكن ليس ممتنع، كما يقولون هم بامتناعه، والخلاف بيننا وبينهم بالامتناع، امتناع حوادث لا أول لها، أو إمكان حوادث لا أول لها.
يقول: وهذا الشيء لا يلزم منه أنه لم يزل الخلق كلهم معه، وإن افترضنا ذلك، فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متقدم عليهم تقدماً لا أول له، فإن لكل مخلوق أول، والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي لا أول له، وهو خالق كل شيء، وهو رب كل شيء؛ لأن الأزل نفسه ليس أمراً وجودياً، وليس بشيء، إنما هو ما لا أول له، فكل ما افترضناه نفترض أن قبله شيء آخر، فهذا هو الأزل.
فنتج من هذا: أن التسلسل منه ما هو واجب اتفق الجميع عليه، وهو تسلسل أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في المستقبل، ومنه ما هو ممتنع -يتكلم فيه النَّاس عادة- وهو تسلسل المؤثرين أو المخلوقين، ومنه ما هو ممكن، وهو تسلسل أفعاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في الزمن الماضي، إذاً فهذه القسمة الثلاثية تنفي أن القول بوجود حوادث لا أول لها يؤدي إِلَى التسلسل، هذا ملخص ما يريد المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أن يقوله.
الرد على المتكلمين
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب تَعَالَى لم يزل قادراً عَلَى الفعل لزمه أحد أمرين لا بد له منهما:(1/256)
إما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكناً، وإما أن يقول لم يزل واقعاً، وإلا تناقض تناقضاً بيناً، حيث زعم أن الرب تَعَالَى لم يزل قادراً عَلَى الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال. وهو مقدور له، وهذا قول ينقض بعضه بعضاً.
والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تَعَالَى لم يزل معطلاً عن الفعل ثُمَّ فعل، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل عَلَى نقيضه] اهـ.
الشرح:
معنى قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أن من اعترف بأن الرب -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قادر، وأن هذه القدرة من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -وكل المتكلمين عن الإسلام إلا من شذ يقولون ذلك- إما أن يقول: إن الفعل لم يزل ممكناً، فإن قَالَ: نعم. إن العقل يقتضي أنه ممكن، قلنا: هذا هو المطلوب، فلا جدال إذاً بيننا وبينك، وإن قَالَ: لا، إنه لم يزل الفعل واقعاً، قلنا هذا تناقض، يعني: إذا قلت أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قديرٌ عَلَى كل شيء، وفعله أو مقدوره وقع وحصل، وأنه متصف بالقدرة أزلاً وأبداً، فكيف تنفي أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يخلق، ولم يكن له هذه المقدورات أو هذه المخلوقات؟ أو أنه في وقت من الأوقات كَانَ فعلُ المقدور ممتنع؟ وإن قلت: إنه واقع فهذا زيادة في الإثبات أكثر، وهو أنه كَانَ واقعاً.
وننبه إِلَى قضية وهي: أن الفلاسفة تصوروا أن العالم كله أو أن بعضه قديم، ويجعلون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علة فقط، وليس خالقاً مريداً، وكذبهم واضح من كلامهم؛ لأن العلة تستلزم وجود المعلول، فلو كَانَ مجرد علة لوجدت جميع المخلوقات دفعة واحدة، أما وأن هناك من يحي ويموت، ثُمَّ يحي غيره ثُمَّ يموت هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ [فاطر:39] .(1/257)
فهذا دليل عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي يحيي ويميت، ويكون الليل ثُمَّ النهار، ثُمَّ فناء الليل والنهار، ويكون المطر، ثُمَّ يكون الصحو، والصحة والمرض، وهكذا سائر التغيرات في الكون دليلٌ عَلَى أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل يوم هو في شأن، وأنه يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويأمر بما يشاء، ويغير كما يشاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا معقب لحكمة ولا راد لأمره.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وقد أورد أبو المعالي في إرشاده وغيره من النظار عَلَى التسلسل في الماضي، فَقَالُوا: إنك لو قلت: لا أعطيك درهماً إلا أعطيك بعده درهماً، كَانَ هذا ممكنا، ولو قلت: لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهماً، كَانَ هذا ممتنعاً.
وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة، بل الموازنة الصحيحة أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، فتجعل ماضياً قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلاً بعد مستقبل.
وأما قول القائل: لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله.
فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع، لم ينفِ الماضي حتى يكون قبله ماض فإن هذا ممكن، والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي، والمستقبل الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لانهاية له فإن ما لانهاية له فيما يتناهى ممتنع] اهـ
الشرح:
[والعطاء المستقبل ابتداؤه من المعطي] في بعض النسخ، وهذه أوضح، يعني: جعلنا ابتداءه من المعطي وهو أفضل.
وأبو المعالي الجويني هو صاحب كتاب الإرشاد والشامل، وهو إمام الأشعرية في زمنه، وأراد بهذا المثال أن يستدل عَلَى امتناع الحوادث بالنسبة للماضي.(1/258)
وكان المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فطناً ولبيباً في رده -وما أحسبه إلا أنه نقله من كلام شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فبين أن هذا التمثيل غير صحيح، لأن الماضي يعبر عنه بفعل الماضي لا بالمستقبل، فالصحيح أن تقول: ما أعطيتك درهماً إلا أعطيتك قبله درهماً، أما أن تعلق شيئاً في مستقبل بوقوع شيء في المستقبل، فإن هذا لم يقع!
أما أن تعلق شيئاً بوجود شيء قبله في الماضي، فهذا غير ممتنع، بل هو ممكن من حيث القسمة العقلية. هذا ملخص الكلام، وبذلك نكون انتهينا من هذه الفقرة الكلامية.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ليس بعد -في نسخة منذ- خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ظاهر كلام الشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل عَلَى أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: والجنة والنَّار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار، لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.
وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها، من القائلين بحوادث لا آخر لها فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما، فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد، كما وصف بذلك نفسه، حيث يقول: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16،15] . والآية تدل عَلَى أمور:
أحدها: أنه تَعَالَى يفعل بإرادته ومشيئته.(1/259)
الثاني: أنه لم يزل كذلك، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء عَلَى نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17] ولما كَانَ من أوصاف كماله ونعوت جلاله، لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن.
الثالث: انه إذا أراد شيئا فعله، فان "ما" موصولة عامة أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شان آخر؛ فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا، لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا.
وهذه هي النكتة التي خفيت عَلَى القدرية والجبرية، وخبطوا في مسألة القدر، لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد، وإرادة أن يجعله فاعلا، وسيأتي الكلام عَلَى مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى.
الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعل فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريده، فما ثُمَّ فعال لما يريد إلا الله وحده.
الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد عَلَى الدوام، ويفعل ما يريد.
السادس: أن كل ما صح أن تتعلق به إرادته، جاز فعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا، وأن يجيء يَوْمَ القِيَامَةِ لفصل القضاء، وأن يري عباده نفسه، وأن يتجلى لهم كيف شاء، ويخاطبهم، ويضحك إليهم، وغير ذلك مما يريد سبحانه لم يمتنع عليه فعله، فإنه تَعَالَى فعال لما يريد. وإنما تتوقف صحة ذلك عَلَى إخبار الصادق به، فإذا أخبر وجب التصديق، وكذلك محو ما يشاء، وإثبات ما يشاء، كل يوم هو في شأن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/260)
والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل غير فاعل، ثُمَّ صار فاعلاً. ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تَعَالَى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تَعَالَى له، ليس له من نفسه إلا العدم، والفقر، والاحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تَعَالَى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى] ا. هـ.
الشرح:
هذه الأوجه الكثيرة يذكرها المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ في شرح قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] لبيان عموم دلالة هذه الآية عَلَى إثبات ما يريده، وذكر أن ظاهر كلام الطّّحاويّ أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، إلا أنه يثبت اسمي الخالق واسمي الباري لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا لا نقاش فيه، لكن معنى كلامه: أنهما ثابتان له حتى في الفترة التي لم يكن فيها مخلوق بإطلاق، وهذا هو محل الخلاف، والذي رجحه المُصنِّفُ عدم القول بأن هناك فترة ليس فيها مخلوق بإطلاق، وهذا القول قوي، لأنه ما دام أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موصوف في كل وقت بأنه خالق، وقادر، وفعال لما يريد، فإن مقتضى ذلك أن تكون له مخلوقات بأي وقت من الأوقات.
وقد يتساءل بعض الناس: لماذا لم يرد في الكتاب أو في السنة ما يدل عَلَى أن شيئاً من الأشياء هو أول المخلوقات عَلَى الإطلاق؟ وإنما يرد ما يدل عَلَى أولوية بعض المخلوقات عَلَى بعض أولوية نسبية، كالعرش والقلم بالنسبة لهذا الكون الذي نراه؟ هذا ما سوف نشرحه -إن شاء الله- في حديث عمران بن حصين بعد أن نتكلم عن عموم دلالة قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] .
والشاهد هنا أن عموم قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] يدل عَلَى أنه تَعَالَى يفعل بإرادته ومشيئته، هذا هو الوجه الأول.(1/261)
والوجه الثاني: أنه لم يزل كذلك فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] في الماضي، وفَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] في المستقبل، فلو قدر وقت من الأوقات أنه لم يكن فيه فعال لما يريد، لكان ذلك نقص في حقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن له الكمال المطلق في كل وقت.
الوجه الثالث: -أي من أوجه دلالة قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]- أنه إذا أراد أي شيء فعله، فيدخل فيها كل شيء لعموم كلمة "ما"؛ لأنها اسم موصول من ألفاظ العموم، مثل كلمة "شيء"، تدل عَلَى الإطلاق وعلى العموم في سائر الزمان والأوقات.
ثُمَّ استطرد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في ذكر إرادة الله المتعلقة بفعله، وهي: أن الله تَعَالَى قادر، فعال لما يريد فعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقوله: أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شان آخر. هذا الشأن الآخر سبق معنا مجملاً في باب الإرادة، عندما أشار بكلمة الإرادة، ويأتي مفصلاً -إن شاء الله- في شرح أبواب القدر.
لكن الشاهد هنا هو: التفريق بين هاتين الإرادتين، الإرادة الكونية التي في قوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، والإرادة الشرعية التي هي: ما هو مطلوب من العبد أن يفعله من الأوامر والنواهي، فإن أراد الله أن يوفق العبد ويهديه لفعل من الأفعال أعانه عليه، وإن أراد خذلانه فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يعينه عليه، فيجب أن نفرق بين فعل يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يفعله بنفسه، وبين فعل يريد من غيره أن يفعله.
الرابع: أن فعل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإرادته متلازمان لا ينفك بعضهما عن بعض، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقد أراده، لا معقب لحكمه ولا راد لفعله، لأنه لا يفعل إلا ما يريد، بخلاف إرادة المخلوق وفعله فإنهما ينفكان، لأنه يريد ما لا يفعل -وهذا واضح- وأيضاً يفعل ما لا يريد.(1/262)
فان قال قائل: هل كلما أراد الله شيئاً لا بد أن يفعله، أم أنه إذا أراد شيئاً فإنه قادر عَلَى فعله، قد يفعله وقد لا يفعله؟
قلنا له: إذا أراد أن يفعل شيئاً فعله، وإن لم يرد أن يفعله لم يفعله، وما لم يرد فعله، فإنه لا يفعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا لا إشكال فيه.
أما أنه إذا أراد شيئاً فإنه قادر عَلَى فعله، ولكن قد يفعله وقد لا يفعله، فلا؛ لأننا متفقون عَلَى أنه القادر عَلَى أن يفعله فكل شيء متى أراد أن يفعله فعله، وما لم يرد أن يفعله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يفعله، ولا يملك أي مخلوق عَلَى الإطلاق أن يفعل ذلك فإن المخلوق يريد ما لا يفعل، ويفعل ما لا يريد..
أما الخامس فمعناه: أن كل ما أراده الله في الكون من الموجودات فله إرادة تخصه، كما هو واضح في الفطرة وظاهر في الأدلة، فإذا قلنا أراد الله أن توجد هذه الشجرة، وأراد الله أن يوجد هذا الجبل، وهكذا في بقية الأمثلة، فإنها إرادات متعددة، لا أنها إرادة واحدة فقط، كما يقول الفلاسفة -وهي عندهم العلة التامة الموجبة التي تقتضي إيجاد كل معلول لها- بل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء.
ولكننا لا نعلم كيفية اتصاف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالإرادة، كما هو معلوم في جميع الصفات، وإنما الذي نثبته ما دلت عليه عموم النصوص والفطرة والبداهة: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له في كل فعل إرادة تخص ذلك الفعل، وباطل قطعاً قول من يقول: إنها إرادة واحدة اقتضت كل شيء دفعة واحدة، ثُمَّ بقيت الأمور تتسلسل هكذا في الطريق.(1/263)
أما السادس: فهو يربط الموضوع بما سبق، عندما شرح المُصنِّفُ قول الطّّحاويّ: [ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه] . وذكرنا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يزال متصفاً بصفات الكمال، من صفات الذات وصفات الفعل، وأن صفات الذات تتعلق بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا تنفك عنه، والصفات الفعلية تتعلق بإرادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد شرحناهما باستفاضة.
لكن المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أراد أن يدخل من هذا الباب لإلزام هَؤُلاءِ بأصولهم في صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الفعلية؛ لأنهم يقولون: إن هذه الصفات يلزم منها الجسمية، والانتقال، والتبعيض، كما سبق أن أوضحنا بأن كل ما صح أن تتعلق به إرادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جاز أن يفعله، فما المانع عقلاً أن تتعلق إرادة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه ينزل كل ليلة إِلَى السماء الدنيا؟
وبما أن ذلك جائز عقلاً، فكيف تنفونه؟ وكذلك: أنه يرضى، أو يغضب، أو يضحك، أو يفعل ما يشاء من الأفعال التي وردت؟
ولكن الذي تتوقف عليه إثبات هذه الأمور في الأصل هو صحة الخبر، فإن جَاءَ الخبر الصادق، كما في قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صفّاً صَفّا) ً) [الفجر:22] ، وكما في الحديث الصحيح: (ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا كل ليلة) وأمثال ذلك، فهذا لا اعتراض عليه، ولا يحيده العقل، بل حينما يخالفه العقل يكون صاحبه غير عاقل.
فما الذي يجعلكم تقولون: إنه لا ينزل، أو لا يضحك، أو لا يرضى، أو لا يغضب، وإرادته عامة، فقد قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] وما تقولونه: إنها القواطع العقلية أو البراهين النظرية، أو إمكان كذا واستحالة كذا، كل هذا الكلام يسقط أمام الحق والنور الواضح المبين من كلام الله وكلام رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/264)
هذه الستة الأوجه كل منها عظيم، وهي مأخوذة من هذه الآية الموجزة اللفظ، ولكنها عظيمة ككل القُرْآن في معناه، وهي قوله تعالى: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16] ، ولو تأمل المتأمل لربما زادت عَلَى ذلك.
ثُمَّ يستدرك المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ فَيَقُولُ:
[وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟
واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟
وقد قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] .
وروى البُخَارِيّ وغيره عن عمران بن حصين -رضي الله عنه-، قَالَ: (قال أهلاليمن لرَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقَالَ: كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) .
وفي رواية: (ولم يكن شيء معه) .
وفي رواية: (غيره) .
(وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض) ، وفي لفظ: (ثُمَّ خلق السموات والأرض) ، فقوله: (كتب في الذكر) ، يعني: اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ [الأنبياء:105] سمى ما يكتب في الذكر ذكرا، كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا.
والنَّاس في هذا الحديث عَلَى قولين، منهم من قَالَ: إن المقصود إخباره بأن الله كَانَ موجودا وحده، ولم يزل كذلك دائماً، ثُمَّ ابتدأ إحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلاً بعد أن لم يكن يفعل شيئاً من الأزل إِلَى حين ابتداء الفعل ولا كَانَ الفعل ممكناً.
والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام، ثُمَّ استوى عَلَى العرش، كما أخبر القرءان في غير موضع.(1/265)
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (قدر الله تَعَالَى مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء) . فأخبر صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كَانَ قبل خلقه بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تَعَالَى كَانَ حينئذٍ عَلَى الماء] اهـ.
الشرح:
قوله: [والقول بأن الحوادث لها أول يلزم منه التعطيل قبل ذلك ... الخ] يحتاج إِلَى تفصيل؛ لأن الأنواع تختلف عن الذوات، فأما الذوات والأعيان، فكل شيء من المخلوقات بعينه، مخلوق حادث بعد أن لم يكن، وأما أنواع هذه الحوادث - وهو الذي نقول: إنه أثر صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهذا الذي لا أول له؛ لأن صفات الله عَزَّ وَجَلَّ لا أول لها.
والكلام في أن أعيان الحوادث لها أول، ينقلنا إِلَى النقطة المهمة التي هي هذا العالم الموجود، وهذا الكون المخلوق الذي نراه ونعيش فيه الآن، هل خلق من مادة، أو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلقه من العدم بغير مادة؟ وما هو أول شيء خلق فيه؟
وسنذكر بعض ما قيل في شرح حديث عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو حديث صحيح، رواه الإمام البُخَارِيّ في أول كتاب بدء الخلق، وفي كتاب التوحيد من صحيحه، وله روايات كثيرة.(1/266)
وذكر فيه أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عَلَى وفد بني تميم فقَالَ: (اقبلوا البشرى يا بني تميم اقبلوا البشرى يا بني تميم) فَقَالُوا: قد بشرتنا فأعطنا -فرفض بنو تميم البشرى- فقَالَ: (اقبلوا البشرى يا أهل اليمن) قالوا: قد قبلنا يا رَسُول الله -قبل أهل اليمن البشرى وجلسوا مع رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: يا رَسُول الله، جئنا نسألك عن أول هذا الأمر كيف كان؟ فَقَالَ لهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان الله ولم يكن شيء غيره) ، وفي رواية: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء، ثُمَّ خلق السموات والأرض) .
ثُمَّ اختلفت الروايات، وكلها تُجمع عَلَى أن رجلاً قَالَ: (يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت، قَالَ: فخرجت فإذا السراب يقطع دونها، فوالله وددت لو أني تركتها) .
أما عمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ - فهو من خزاعة، كَانَ جالساً قبل أن يكمل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث، فهربت ناقته، فجاءه رجل يقول: أدرك ناقتك يا عمران، فخرج يظن أنه قد يلحقها ويدرك بقية الحديث، فإذا السراب يحول بينه وبينها، وقال مقولته التي في الحديث، لما فاته بقية مجلس النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لم يفت شيء من العلم والْحَمْدُ لِلَّهِ، لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قرره في مواضع، وما قاله هنا بهذا القدر هو كافل لمعرفة الجواب الصحيح في هذه المسألة الشائكة.
والمتأمل للأقوال التي ذكرها المُصنِّفُ هنا، يجد أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقتصر في الجواب عَلَى العالم الذي جاءنا خبره، ولا نستطيع أن نقول أن هذا كل العالم، أو هذا كل خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ-.(1/267)
وحديث عمران قد شرحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- شرحاً مستفيضاً وافياً، وكلام المُصنِّفُ هنا ملخص منه، وهذا الشرح موجود في المجلد "18" من مجموع الفتاوى ابتداءً من صفحة "210"، وهي رسالة طبعت أيضاً في مجموعة الرسائل والمسائل اسمها، شرح حديث عمران بن حصين.
والروايات التي ذكرها المُصنِّفُ هنا في الشرح هي قول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) . ورواية: (ولم يكن شيء معه) . ورواية: (ولم يكن شيء غيره) .
وحتى يعرف وجه الحق في هذه المسألة، يرجع إِلَى كلام عالم السنة الحافظ ابن حجر في الجزء "6" من فتح الباري، في أول كتاب بدء الخلق، فقد ذكر روايات منها ما رواه الإمام أَحْمَد وغيره، (أن أول ما خلق الله العرش) ، ونقل أنه قول الأكثر.
إلا أن ابن حجر يرى أن هناك أول مخلوق بإطلاق، ومعنى كلامه أن الروايات اختلفت أهو العرش أم القلم؟ وأن أكثر الروايات عَلَى أنه العرش، وذكر الرواية التي فيها الترتيب بأن الله خلق الماء، ثُمَّ العرش، ثُمَّ القلم.
أول ما خلقه الله تعالى من هذا الكون المشهود هو العرش
وإذا رجعنا إِلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وجدناه يقول: وقول أكثر السلف أن أول ما خلقه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو العرش.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ لم يخض في هذا الموضوع بهذا الشكل، لأنه يرى أن ليس هناك ما يسمى بأول مخلوق بإطلاق، وإنما هناك مخلوقات قبلها مخلوقات، منها ما نعلمه ومنها ما لا نعلمه.
أما الأحاديث التي جاءت، فهي في بيان أولية المخلوقات المعلومة لنا، وحديث عمران بن حصين نفسه يدل عَلَى أن العرش قبل القلم، لأن فيه (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء) ، إذاً كَانَ هناك ماء، وكان هناك عرش قبل أن تخلق السموات والأرض.(1/268)
ومعنى قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في حديث: (أول ما خلق الله القلم ... ) -كما سيأتي في موضعه- أن كلمة "أول" هنا:
إما أن تأتي مبتدأ والقلم خبرها، فنقول: أولُ ما خلق الله القلمُ -بضم آخر كلمتي أولُ والقلمُ- وهذا معروف، وعليه كلام الشيخ ناصر الدين الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ.
وإما أن تأتي كلمة أولَ منصوبة، فتكون ظرفاً، بمعنى: عندما خلق الله القلمَ، أي: أول ما خلقه الله قال له: اكتب.
ومن جمع الروايات تبين له أنها تصير عَلَى الوجه الأخير.
وإنما قلنا العالم المشهود، لأن وفد اليمن قالوا: جئنا نسألك عن أول هذا الأمر، أي: أهو العرش، أم الماء، أم هما معاً؟ فيخبرهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بعد أن خلق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- العرش خلق القلم، وعندما خلق القلم -قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كما جَاءَ في صحيح مسلم - أمره أن يكتب كل شيء.
إذاً؛ فهذا لا يتعارض مع ذلك، بأنه خلق هذا، ثُمَّ خلق القلم، وهو ظاهر ما في صحيح مسلم، والقول بتقدم خلق القلم عَلَى جميع المخلوقات فيه خلاف، والظاهر من روايات حديث عمران بن حصين أن العرش متقدم عليه، ويشهد لهذا روايات أخرى جاءت في المسند وفي غيره، دلت عَلَى أن العرش هو أول المخلوقات من هذا الكون الحسي المشهود، ومن القرءان قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] ، فقوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، يدل عَلَى أن العرش وهذا الماء غير داخلين في العالم المشهود الذي هو السموات والأرض.
وذكر الشيخ العلامة المحدث مُحَمَّد ناصر الدين الألباني رَحِمَهُ اللَّهُ في الجزء الأول من سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم "133" حديث: (أول ما خلق الله القلم) ، تحت عنوان: أول مخلوق.(1/269)
وتعرض هناك لنفس الكلام الذي قاله الشيخالأرنؤوط فيما سبق، وهو أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ أخطأ ووهم، لأنه خالف المذهب المشهور والصحيح، بقوله: بحوادث لا أول لها وليس هذا موضوعنا في الحقيقة، لكن المقصود أننا لما قرأنا تعليق الشيخ الأرنؤوط هنا، وتعليق الشيخ ناصر الألباني، وكلامه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، وجدنا نوعاً من التعجل في تخطئة شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ، وكان الواجب التروي والتأكد أولاً.
والشيخ ناصر -جزاه الله خيراً- عالم جليل له قدره، وله مكانته، وكذلك أي عالم، فلا نتسرع ونقول: وهم أو أخطأ، أو خالف الحق، أو ندَّّ عن الصواب، كما قال الأرنؤوط في تخريج الحديث، إنما نتأكد ونبحث، حتى نتبين ونصل إِلَى الصواب، فإن ظهر لنا شيء قلنا: لعله -رَحِمَهُ اللَّهُ- أراد كذا أو كذا.
خاصة علماء الإسلام من أهل السنة، والأئمة الحفاظ، أما علماء البدعة -وإن كنا لا نظلمهم ولا نكذب عليهم- إذا رأينا قولا من أقوالهم الباطلة، خطأناهم وضللناهم لأنهم مبتدعة، وهذا ليس علينا فيه حرج -والْحَمْدُ لِلَّهِ- ثُمَّ لا ننسى أن النسخ تختلف، وأن ما وصلنا من النسخ قد لا يكون الكلام فيها كاملاً، بدليل أن بعض هذه الكتب قد تطبع في المرة الأولى، ثُمَّ تطبع في مرة أخرى عَلَى عدة نسخ، فيظهر أن الطبعة الأولى فيها نقص.
وإن كَانَ لا بد من تبيين الخطأ فبأسلوب فيه أدب، وإنما قلت هذا الكلام لأن بعض النَّاس يتخذون من هذه القضية محلاً للتشينع والتشهير بشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، ولا غرابة أن يفعل ذلك أهل البدع وهم كثير، ومن أعظمهم في هذا العصرالكوثري، ومن تلاميذه من قد ذكرناهم فيما سبق من الشرح، لكن نأسف أن يتبعهم بعض أهل السنة الأجلاء كالشيخناصر مثلاً، كما في هذه المسألة، وإن كَانَ لا يوافقهم في ما يفعلونه من التشهير والتشنيع
الترجيح بين روايات حديث عمران رضي الله عنه(1/270)
ومعنى كلام شَيْخ الإِسْلامِابن حجر وابْن تَيْمِيَّةَ، أن هذا الحديث قيل في موضع واحد، والجواب كَانَ في وقت واحد، لأن القصة واحدة، فلا بد إذاً أن أحد الروايات الثلاث -"قبل" أو "مع" أو "غير"- هي التي قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن الروايتين الأخريين رويتا بالمعنى، والذي رجحاه كلاهما من حيث الرواية هي رواية:
(كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) ، وهي رواية الإمامأَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ، وإحدى روايتي البُخَارِيّ، كما في كتاب بدء الخلق من صحيحه.
وتُرجَّح رواية "قبل" بدلالات: منها: قوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ [الحديد:3] وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث قيام الليل: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) .
ومنها: أنها وردت من طرق صحيحة، بل يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: إنها رواية الأكثرين والأحفظ، ومنهم الحميدي وهو من أشهر حفاظ مشايخ الإمام البُخَارِيّ.
ومنها: أنها متفقة مع القرآن، ومتفقة مع الأحاديث الأخرى الصحيحة التي لا شك ولا غرابة فيها.
أما الحافظ ابن حجر رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه يميل إِلَى أن رواية: (غيره) أولى من حيث المعنى، لأنه أصرح في نفي العدم، بمعنى كَانَ الله ولم يكن شيء غيره، ونفي الغير له أقوى في نفي العدم، ولكن ليس المقصود نفي العدم، فإن هذا هو عين القول الأول الذي سبق بعض ما فيه، وسنبين أنه خطأ فيما يأتي أيضاً. 1
1. في مجموع الفتاوى (216/18) قال شيخ الإسلام: الوجه الثالث: أنه قال: (كان الله ولم يكن شيء قبله) وقد روي: (معه) وروي (غيره) والألفاظ الثلاثة في البخاري اهـ. مع العلم أن لفظة غيره هي في رواية غير البخاري. انظر الفتح (333/6)
سبق أن أشرنا إِلَى أن البشرية كانت وتزال تخوض وتبحث في قضيتين مهمتين:
القضية الأولى: تتعلق بنشأة الكون وبأصله.(1/271)
القضية الأخرى: قضية أصل الإِنسَان، وكيف وجد؟ وما هي وظيفته؟ مع أن التاريخ أمامهم بما فيه من آثار، وحفريات، وشواهد مكتوبة أو مرئية، ومع ذلك كله لم يصلوا إِلَى يقين، ولا إِلَى حقيقة، ولن يصلوا مطلقاً.
وإن وصلوا إِلَى شيء فقد جَاءَ به الوحي، وقدمه إليهم غضاً طرياً بلا عناءٍ ولا كلفةٍ ولا مشقة، يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51] ، فأخبر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه لم يشهد هَؤُلاءِ المضلين خلق السموات والأرض، فكل كلام يقولونه عن نشأة الكون، وعن كيفية خلق السماء والأرض، وعن تكون المجرات أو النجوم وما إِلَى ذلك، فهو كله افتراضات وتخمينات وظن.
وكذلك خلق أنفسهم، فلم يشهد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هَؤُلاءِ المضلين كيف خلق الإِنسَان، وكيف ابتدأه، وإنما أخبرنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أنه خلق آدم من الطين، ونفخ فيه من روحه ثُمَّ جعله بشراً سوياً، وجعل ذريته من سلالة من ماء مهين.
هذا هو الذي جَاءَ في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكل خوض بعد ذلك عن أصل الإِنسَان، وما إِلَى ذلك، إما باطل لا حقيقة له بإطلاق، وإما خوض فيما لا نتيجة من وراءه ولا غاية ولا ثمرة.
وقد أغنانا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأعفانا عن البحث في أول خلق الأشياء، بأن نتفكر في خلق الكون، لنصل بذلك إِلَى معرفة الله وتوحيده، وإلى إفراد العبودية كلها له سبحانه، وإلى انتظار اليوم الآخر الذي يجمع الله تَعَالَى فيه الأولين والآخرين.
وهنالك يحاسبهم ويجازيهم عَلَى ما عملوا في هذه الحياة الدنيا، فالذين يضيعون أعمارهم في البحث عن أول نشأة الحياة، ثُمَّ يخرجون منها وهم لم يصلوا إِلَى يقين ولا إِلَى نتيجة في ذلك، نسوا الله فأنساهم أنفسهم، لماذا جاءوا.(1/272)
ومن أعظم الأدلة عَلَى ذلك ما ترونه من اشتغال كثير ممن يسمَّون علماء الآثار، أو علماء التاريخ القديم، أو علماء الحفريات، حيث يقطعون الفيافي والقفار، ويجهدون أنفسهم، وينفقون الملايين في الحفر والتنقيب والبحث، لعلهم أن يجدوا أثراً من آثار الماضين، ثُمَّ هذا الأثر يقدر عمره بعشرة آلاف سنة، وهذا بخمسة عشر ألف، وهكذا تمضي أعمارهم.
فإذا خرجوا يَوْمَ القِيَامَةِ من قبورهم، يسألهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- عن أعمارهم فيما أفنوها؟ مالكم وللقرون الأولى، فإن: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى [طه:52] ، وإنما عليكم أن تعتبروا بمصير هذه القرون، وتتعظوا بإهلاك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لها، مع ما فيها من قوة الخلق، ومن الشدة والبطش.
وكان سبب إهلاكهم أنهم لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم، كما تفرح كل أمة من الأمم بما عندها من الحضارة والثقافة، وبما عندها من الفن، وتقول: إن نُظُمنا وآدابنا وأخلاقنا وحضارتنا، تغنينا عن اتباع شرع الله، وعن الاقتداء بالأنبياء، فلسنا بحاجة إليهم أن يقولوا لنا: هذا حرام، وهذا حلال.
هذا نموذج من نماذج كثيرة، من الضياع والفراغ الذي يعيشه الإِنسَان بعيداً عن الوحي، مصدر اليقين والمعرفة، سواء ما أنزله الله تَعَالَى من كلامه، أو ما قاله رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا ينطق عن الهوى.(1/273)
فهذا الحديث العظيم، حديثعمران بن حصين -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يبين لنا هذه الحقيقة، ويجب أن يعلم أن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يتكلم ولم يخض في مسألة: هل هذا العالم خلق من مادة أو لم يخلق من مادة؟ ولم يجبهم عن أول المخلوقات بإطلاق، ولا عن بداية تأثير قدرة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وإنما سأله وفد اليمن عن هذا العالم المشهود الذي يرونه ويعيشون فيه، فأجابهم النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أول نشأته، وكيف خلقه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في جواب لا يمكن أن يهتدي إليه أو يعرفه أي إنسان عَلَى الإطلاق، إلا الأمين الذي يأتيه خبر السماء صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا غيره.
أما هَؤُلاءِ فليس عندهم إلا مقولات أرسطو وأفلاطون، وما يسمونهم بأصحاب الحضارات والعلوم القديمة، الذين يقولون: إن العلة الأولى خلق عشرة عقول ثُمَّ استراح، ولم يعد ينظر في الكون؛ لأنه كامل -كما يقولون- والكامل لا يفكر في الناقص، والعقول العشرة خلقت الأفلاك، والأفلاك خلقت السموات والأرض، وهذه مقولات نظرية ليس لها أي أساس من الصحة، ولا حتى في عقول الذين جاءوا بها.
وهكذا كل ما قالوه أو يقولونه غير هذه النظرية، فهو أبطل منها، أو هو الجهل المطلق قبل بعثة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلأنه لا ينطق عن الهوى، وإنما بما يوحي إليه ربه، فأخبر كما في هذا الحديث بهذه الأمور الغيبية التي يتقاصر دونها علم البشر، كائناً من كان، وفي أي زمان أو مكان، ولن يصل الإِنسَان بإطلاق إِلَى أن يعرف هذه الحقائق أبداً.(1/274)
وهذه المقدمة بين يدي الحديث، لنعلم أن أهميته تتجاوز قضية معرفة هل الأصح هو القول بأن الحوادث لها أول أم لا؟ بل لنعرف ما هو أكثر عبرة وأكثر عظة، خاصة ونحن نعيش في عصر تكاثرت فيه النظريات عن الكون، وعن الإِنسَان، وهذه النظريات لم تعد حديث أذهان الفلاسفة، كما كَانَ أرسطو وأفلاطون وأمثالهم، وإنما أصبحت مصورة ومقربة تدرس في مناهج التعليم، حتى في البلاد الإسلامية، وتقدم للناس عَلَى أنها حقائق وعلم، تحتوي عَلَى كيفية نشأة الكون والإِنسَان.
ولا يجوز لنا أن نستسلم لها، وأن نقررها ونلقنها أبناءنا، لأنها كلها خبط عشواء، وقول عَلَى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بغير علم.
سبق الكلام عَلَى تخريج حديث عمران -رضي الله عنه- واختلاف الروايات، وأن الراجح منها هو رواية: (ولم يكن شيء قبله) ، لأنها موافقة للقرآن، وموافقة لقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحاديث الأخرى الثابتة عنه.
أما الذين ينكرون علو الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عرشه -من الجهمية ومن تابعهم- بأدلة وهمية هي عبارة عن تخرصات تخيلوها من عند أنفسهم.
فقد رد عليهم أهل السنة وأفحموهم، وألزموهم بآلايات الصريحة الواضحة من كتاب الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] وغيرها من آيات الاستواء، وهي سبع آيات ذكر فيها استواء الرحمن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العرش، فضلاً عن آيات وأحاديث العلو، فإن من أكثر صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- التي دل عليها العقل والنقل والفطرة، بما لا يحصى ولا يعد من الأدلة هي: صفة علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى جميع المخلوقات، فهي من أخص الصفات بعد صفة الحياة، لأن من يؤمن بالله فإنه يؤمن بأنه حي لا يموت تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لكون هذه الصفة تشهد بها الفطرة السليمة.
من شبه أهل البدع في إنكار العلو(1/275)
ومن أدلة أهل البدع العقلية التي يستدلون بها عَلَى أهل السنة، قولهم: أنتم تقولون: إن الرحمن استوى عَلَى العرش، إذاً هو عال عَلَى جميع المخلوقات، فقبل أن يخلق العرش أين كان؟ أما نَحْنُ فنقول: إنه الآن عَلَى ما كَانَ عليه، قبل أن يخلق السماوات والأرض، ولم يكن في علو، فيلزمكم ياأهل السنة أنه لما خلق السموات والأرض تغير، لم تكن له جهة وأصبحت له جهة.
هذا إفكهم وما كانوا يفترون، وتقولهم عَلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بغير علم، ليردوا كتاب الله وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولكن كلامهم هذا لما كَانَ مقولة نظرية، لم تقبله العقول السليمة، ولم تستسغه قلوب أهل السنة، الذين يتكلمون بالأدلة من كتاب الله وسنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويطالبونهم بمثل ذلك، فما كَانَ من بعض كذابيهم إلا أن وضعوا هذه الزيادة: وهو الآن عَلَى ما عليه كان، وبعضهم يرويها كحديث مستقل، يقول: كَانَ الله ولا مكان، وهو الآن عَلَى ما عليه كان.
وهذه زيادة مكذوبة، لم يقلها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم تصح في أي كتاب من كتب الحديث عَلَى كثرتها، فلم يخرجها أحد منهم، ولم يسندها إِلَى أحد حتى نبحث بعد ذلك في سندها، وإنما هو قول ليس له أصل ولا إسناد عَلَى الإطلاق، لا صحيح ولا ضعيف.
ومن شبههم أن العرش أو القلم أول مخلوق مطلقاً
والشبهة الأخرى أنهم قالوا: قولكم يا أهل السنة خلاف أقوال النَّاس في هذا الحديث، فإنهم عَلَى قولين:
القول الأول: أن هذا الحديث هو إخبار عن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أنه كَانَ وحده، ولا شيء غيره من المخلوقات، لا جنسها ولا أعيانها.(1/276)
ثُمَّ إنه ما يزال دائماً كذلك، ثُمَّ ابتدأ فخلق هذا الكون المشهود، وبذلك يكون أول المخلوقات هو إما العرش أو القلم عَلَى ما سبق أن أوضحنا، ورجحنا هناك أن العرش هو أول هذا الكون المشهود المسئول عنه، إلا أنهم يقولون: الأولية هنا بإطلاق أول شيء وجد، ولم يكن قبله من المخلوقات إلا العدم المحض.
القول الثاني: أن هذا الحديث لم يتعرض لمسألة كونه تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ وحده بذاته، ولم يكن هناك مخلوق قط، فلم يتعرض لهذه المسألة من قريب ولا من بعيد، وإنما تعرض لجواب السؤال الذي سأله أهل اليمن، وكان سؤالهم عن هذا العالم المشهود الذي جَاءَ في القُرْآن بيان خلقه، منها آية سورة هود هذه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] وجاء الحديث موافقاً للفظ هذه الآية، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وكان عرشه عَلَى الماء) ، ثُمَّ لم يتعرض لما قبل ذلك.
فدل ذلك عَلَى أن أسبقية القلم هي بالنسبة للسموات والأرض، أما العرش فإنه هو والماء سابقان لوجود القلم.
وهذه إنما هي مجرد مسألة علمية تذكر لتعلم، لكن الذي يهم هو أن نفهم خطأ من انتقد شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في هذه المسألة، وقَالَ: إنه يقول: إن العرش أول المخلوقات، بينما القلم هو أولها.
الرد على القائلين أن العرش أول مخلوق مطلقاً
وخطؤه كما ترى من وجهين:
الوجه الأول: أن الراجح هو القول بأن أول المخلوقات هو العرش، أي في هذا العالم المشهود -كما أسلفنا الآن-.
والوجه الثاني: أن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -كما في شرح حديث عمران بن حصين في مجموع الفتاوى، وكذلك في منهاج السنة في الجزء الأول- يقول: لا يوصف مخلوق بأنه الأول مطلقاً عَلَى جميع المخلوقات، فالأولية مقيدة بهذا العالم المشهود الذي سأل عنه أهل اليمن، أما قبل ذلك فلم يأت لا ما يثبته ولا ما ينفيه.(1/277)
ومما سبق تقريره يتبين أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أزلي بصفاته، خالق، ورازق، وقدير إِلَى ما لا بداية له، فآثار هذه الصفات ومفعولاتها تظهر في حوادث يرسلها تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا علم لنا بها، ولا نستطيع أن ندركها، لكننا لا ننفيها أيضاً، لأنه ليس في الدين ولا في العقل ما ينفيها، وإنما نؤمن بأنه سبحانه (لم يكن قبله شيء) ، كما في الرواية الراجحة المختارة.
ثُمَّ يشرع المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في بيان الأدلة الدالة عَلَى صحة القول الثالث، وهذه الأوجه هي بعض ما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ فقد ذكرها بتوسع وتفصيل أكثر، فمن أراد الاستفادة فليراجع شرح حديث عمران ضمن مجموع الفتاوى (18/210)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[ودليل صحة هذا القول الثاني من وجوه:
أحدها: أن قول أهل اليمن: (جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر) ، وهو إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي: الذي كونه الله بأمره، وقد أجابهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بدء هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السموات والأرض حال كون عرشه عَلَى الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السموات والأرض. وأيضاً فإنه قَالَ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) ، وقد روي (معه) ، وروي (غيره) ، والمجلس كَانَ واحداً، فعلم أنه قال أحد الألفاظ، والآخران رويا بالمعنى، ولفظ "القَبْل" ثبت عنه في غير هذا الحديث.
ففي صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) الحديث.
واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كَانَ كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ "القَبْل"، كالحميدي والبغوي وابن الأثير.(1/278)
وإذا كَانَ كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
وأيضاً فإنه قَالَ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) أو (معه) ، أو (غيره) ، (وكان عرشه عَلَى الماء وكتب في الذكر كل شيء) .
فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و (خلق السموات والأرض) روي بالواو وبثم، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السموات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا ابتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السموات والأرض بما يدل عَلَى خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل عَلَى كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له] اهـ
الشرح:
توضيح كلام المُصْنِّف في الوجه الأول: فيه أن كلمة [هذا الأمر] إشارة إِلَى حاضر مشهود موجود، والأمر بمعنى الكون، أي: أول هذا الكون المعروف المشهود، لأن النَّاس يعيشون فيه فتتطلع العقول والقلوب إِلَى نشأته، وكيف كَانَ أوله، وهذه فطرة في النفس الإِنسَانية.
فمثلاً لو أدخلت أي إنسان إِلَى قصر كبير، فسيظل يسأل لمن: هذا القصر؟ ومن الذي بناه؟ وكيف جاء؟ وهكذا جميع البشر، حتى الطفل الصغير، فهي فطرة بشرية جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الناس، وهذه الفطرة في الإِنسَان دائماً تبحث عن العلم ومزيد من الفقه.
فسؤال هَؤُلاءِ دلالة عَلَى كمال عقولهم ونضج تفكيرهم، وذلك لأنهم يتفكرون في خلق السموات والأرض، وقد أمر الله بالتفكر فيهما، فلم يخوضوا بأنفسهم كما خاض الفلاسفة من اليونان والهنود وغيرهم، بل ذهبوا إِلَى مصدر العلم اليقين -رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتفقهوا في الدين، فسألوه هذا السؤال، فأجابهم بما هو مذكور في الحديث.(1/279)
الوجه الثاني: الروايات، فقد سبق أن ذكرنا أن هذه الروايات الثلاث التي قال شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ: إنها في البُخَارِيّ وغيره، وقال ابن حجر: وفي رواية غيرالبُخَارِيّ: (معه) ، وأشار إليها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في أول كلامه عن هذا الحديث، فإنهما كلاهما اتفقا عَلَى أن هذا الحديث قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موقف واحد، وعلى ذلك فلا يحتمل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال هذه الروايات الثلاث، وإنما قال واحدة.
فرجح شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رواية (قبله) بإطلاق؛ لأنها موافقة للحديث الآخر الصحيح، وموافقة للآيات الأخرى المعلومة، ولأنها رواية الحميدي، ورواهاالبغوي وابن الأثير أيضاً، وذكر المحقق أنها رواية الإمام أَحْمَد، فهي أوثق رواية وأكثر، وأرجح من حيث المعنى، وأما الحافظابن حجر فكأنه يرجح رواية (غيره) لأنها أصرح في نفي العدم، وهو صادق في أنها أصرح في نفي العدم المحض، وإثبات أنه لم يكن شيء موجود مطلقاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الحافظ ابن حجر لم يتعمق في هذه المسألة، فلم يبين رأياً قاطعاً، وإنما مال إِلَى ذلك، والصواب ما رجحه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الوجه الثالث: لو نظرنا إِلَى نفس الألفاظ: (كَانَ الله ولم يكن شيء قبله) أو (غيره) ، (وكان عرشه عَلَى الماء، وكتب في الذكر كل شيء) -هذه معطوفة كلها بالواو- (ثُمَّ خلق السموات والأرض) ، وفي رواية: (وخلق السموات والأرض) ، وسواء كانت بالواو أو بثم، فإن هذا المسئول عنه قبله أشياء، فقبل خلق السموات والأرض كتابة الذكر، وقبلها العرش والماء، فأجابهم بما فيه زيادة بيان منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبين لهم الحقيقة التي لا يمكن أن تصل إليها مجرد العقول البشرية بإطلاق، في نشأة هذا الكون.(1/280)
ومن هنا كَانَ في المسألة إثبات لعظمة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بمعرفة عظمة مخلوقاته ولاسيما العرش، وفيها إثبات للقدر، وأنه سابق لخلق السموات والأرض، فوجب عَلَى الإِنسَان أن يؤمن بالقدر خيره وشره من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كتب هذا قبل أن يخلق السموات والأرض، فمن ذا الذي يعترض عَلَى أقدار الله أو يأباها؟!
ثُمَّ فيها بيان بدء خلق السموات والأرض وإنشائها إنشاءً، وأنه ليس هناك مجال للخوض البشري في ماهيتها، كما خاض فيه الفلاسفة وأمثالهم، فَقَالُوا: هل وجد من مادة؟ أو من غير مادة؟ بل هذه الأمور لم يسأل عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يجب عليها، هذا ملخص الثلاثة الأوجه الأولى.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأيضاً فإنه إذا كَانَ الحديث قد ورد بهذا وهذا، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما، فمن جزم بأن الرَّسُول أراد المعنى الآخر، فهو مخطئ قطعاً، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل عَلَى المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد (كَانَ الله ولا شيء معه) مجرداً، وإنما ورد عَلَى السياق المذكور، فلا يظن أن معناه: الإخبار بتعطيل الرب تَعَالَى دائماً عن الفعل حتى خلق السموات والأرض. وأيضاً، فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كان الله ولم يكن شيء قبله) ، أو (معه) أو (غيره) ، (وكان عرشه عَلَى الماء) ، لا يصح أن يكون المعنى أنه تَعَالَى موجود وحده لا مخلوق معه أصلاً، لأن قوله: (وكان عرشه عَلَى الماء) ، يرد ذلك، فإن هذه الجملة وهي: (وكان عرشه عَلَى الماء) إما حالية، أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود] اهـ.
الشرح:(1/281)
ومن الوجوه أن يقَالَ: لو افترض أن الحديث ورد بهذا وهذا، فإن الحديث يحتمل القولين، ولا يجوز أن يجزم بأحدهما إلا بدليل قاطع خارق.
والجزم الذي يقوله أُولَئِكَ أن الحوادث لها أول، وأن هذا الأول المذكور في هذا الحديث مسبوق بعدم محض، لم يخلق الله تَعَالَى فيه أي شيء، يقتضي تعطيل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عن الخلق في ذلك الزمن، الذي لم يرد الحديث فيه بنفي ولا إثبات، وإنما هو محتمل للأمرين، وترجيح ما فيه تعطيل لصفات الله وما لم يرد به الدليل ترجيحٌ بلا مرجح، فلو أن المسألة مستوية الطرفين لكان الأولى ترجيح ما يدل عَلَى إثبات صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكونه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- موصوفاً بالخلق وبالحكمة.
والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يخلق ما يشاء، ويتكلم متى شاء بما شاء، وإذا قلنا: إنه يتكلم، فمعنى ذلك أن له مخلوقات، كما سبق بيانه، وكما هو في قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر [الأعراف:54] ، فإن كلمات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الكونية التي ينشئ بها المخلوقات لا حصر لها، كما سبق أن بينا ذلك، لأن الله تَعَالَى يقول للشيء: كن فيكون، فلا يُقَالَ: إن الكلام كَانَ ممتنعاً أو مستحيلاً عليه، ثُمَّ ابتدأ الكلام عندما أراد أن يخلق السموات والأرض فقط، فانتقل الحال من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي -كما يقولون- بلا دليل ولا مرجح، بل لو لم يكن في الأمر إلا أن يتوقف الإِنسَان في هذه المسألة ولا يرجح شيئاً لكفى.
أما الجزم بالوجه المرجوح المتضمن لتعطيل صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن هذا خطأ.(1/282)
ولو نظرنا للدليل من وجوه أخرى، وقد ذكرها المُصْنِّف عن شَيْخ الإِسْلامِ هنا، عَلَى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَانَ الله ولا شيء قبله، وكان عرشه عَلَى الماء) ، علمنا أنه لا يصح أن يفهم أن المقصود بهذا الحديث: أن الله تَعَالَى كَانَ موجوداً ولم يكن شيء غيره موجوداً إلا العدم المحض، لأن قوله: (وكان عرشه عَلَى الماء) ، يحتمل أن يكون مجرد عطف جملة عَلَى جملة، أو أن الواو حالية، فيكون المعنى حال كون عرشه عَلَى الماء كَانَ ولم يكن قبله شيء، وهذا لا يقتضي أنه كَانَ هنالك مخلوق قبل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
والذي عليه أهل السنة الجماعة أنه لم يتقدم شيء عَلَى وجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأن وجوده تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا أول له، كما هو ثابت لدى جميع الفطر والعقول، فغاية ما في الحديث إثبات أنه لم يكن هناك عدم متقدم عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، سواء كانت الواو عاطفة أو كانت حالية، هذا ما اقتصر عليه المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- مما ذكره شَيْخ الإِسْلامِ من الأوجه، وقد أطال فيها شَيْخ الإِسْلامِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ومن أراد الاستفادة أكثر فليراجعها هناك، وفيما ذكرت الكفاية -إن شاء الله-.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/283)
[يعني: أن الله تَعَالَى موصوف بأنه "الرب" قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه "خالق" قبل أن يوجد مخلوق؛ قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قَالَ: (له معنى الربوبية ومعنى الخالق) دون الخالقية، لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إِلَى الوجود لا غير، والرب يقتضي معاني كثيرة، هي: الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي: تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهو الربوبية. انتهى. وفيه نظر لأن الخلق يكون بمعنى التقدير
أيضاً] اهـ.
الشرح:
في هذه الفقرة الخامسة عشر من كلام الإمام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: الحديث عن الصفات، وفي معنى هذه العبارة أراد بعض الشارحين المتأخرين التعمق، فقَالَ: إنما قال هنا: الخالق، وهنا: الربوبية، ولم يقل: الخالقية؛ لأن الرب له عدة معاني: الملك، والحفظ، والتدبير، فكلمة الرب لم يستخدمها بمفردها، فإنها تطلق عَلَى المالك، فعبر بالربوبية.
وأما الخالق فجاء به مفرداً لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم، ورد المُصْنِّف في شرح العبارة الآنف الذكر بكلمة لطيفة ولكنها كافية وذلك أن الخلق أيضاً له معاني منها: التقدير، كما أنه يطلق على: الإنشاء، والابتداء من العدم، فعلى هذا ليس في كلام الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما يدل عَلَى أنه تعمد أن يفرق بين هذا اللفظ وذاك، وإنما هو كلام خرج عَلَى سجيته لم يقصد به معنى آخر.
وبغض النظر عن هذا التفريق اللفظي، فمعنى هذه الفقرة الخامسة عشر، لا يخرج عن معنى الفقرة الرابعة عشر، والثالثة عشر في الجملة.
اتصاف الله بالكمال في الأزل
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم] .
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/284)
[يعني: أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موصوف بأنه محيي الموتى قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم، إلزاماً للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم. وتقدم تقرير أنه تَعَالَى لم يزل يفعل ما يشاء] اهـ.
الشرح:
إن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يخلق هذه الأجيال جيلاً بعد جيل، ثُمَّ يجمع الأولين والآخرين، ويحي الموتى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومع ذلك نصفه الآن بأنه محيي الموتى، قبل أن يحييهم، وكذلك نصفه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنه الخالق، قبل أن يخلق هذا الكون، وهذا هو المقصود والمراد؛ أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- موصوف بصفات الكمال في الأزل، وهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى متصفاً بها حتى قبل أن يخلق هذه الأعيان المشهودة المرئية لنا، وهذا إلزام للمعتزلة ومن قال بقولهم.
وقد تقدمت مسألة أن الخلق متعلق بالإرادة، وكذلك أن كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- متعلق بالإرادة، والمعتزلة والرافضة وأمثالهم خالفوا في الإرادة، إرادة الفعل، وإرادة الكلام، أما الأشعرية فإنما خالفوا في الإرادة فقط، وَقَالُوا: إن الكلام أزلي قائم بالنفس، وسيأتي تفصيل هذا الكلام إن شاء الله تعالى.
والمقصود: أن هذا إشارة إِلَى ما سبق في شرح الفقرة الثالثة عشر، عندما ذكرنا هنالك المذاهب في قدم صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي أزليتها.
قال الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ذلك بأنه عَلَى كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إِلَى شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[ذلك إشارة إِلَى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه، والكلام عَلَى "كل" وشمولها وشمول "كل" في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن، يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.(1/285)
وقد حرّفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] ، فَقَالُوا: إنه قادر عَلَى كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد، فلا يقدر عليها عندهم. وتنازعوا: هل يقدر عَلَى مثلها أم لا؟! ولو كَانَ المعنى عَلَى ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقَالَ: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته عَلَى كل شيء.
وأما أهل السنة، فعندهم أن الله عَلَى كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته. مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء، ومن هذا الباب خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه، وأمثال ذلك من المحال.
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر عَلَى تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه عَلَى كل شيء قدير] اهـ.
الشرح:
المقصود بقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: [ذلك بأنه عَلَى كل شيء قدير وكل شيء إليه فقير] أن ذلك إشارة إِلَى الفقرات السابقة المتضمنة لأزلية صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكونه لم يزل متصفاً بصفات الكمال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قبل إنشاء المخلوقات، ولم يزده خلق هذه المخلوقات صفاتاً أخرى لم يكن متصفاً بها من قبل.
من معاني كلمة "كل" في اللغة والرد على المعتزلة
ويشير المُصْنِّف إِلَى أن كلمة "كل" تطلق في اللغة العربية عَلَى معانٍ كثيرة سيذكرها فيما بعد.
أقول:
ومنها: العموم، ولذلك يسمونها في المنطق: ألفاظ العموم، وهي التي تصور الشيء وتحيط بجميع ما تدل عليه، فإذا قلت: كل الطلاب.(1/286)
معنى ذلك أنك لا تستثني منهم أحداً، ولكنها أيضاً تأتي أحياناً لعموم مقيد، وهو لا يعني العموم المطلق من كل وجه، ولهذا لما جَاءَ المعتزلة وغيرهم، يناظرون الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ في مجلس الخليفة، قالوا له: يا أَحْمَد! أليس القُرْآن شيء؟. قَالَ: بلى. قالوا: أليس الله تَعَالَى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] ؟ قَالَ: بلى، قالوا: إذن القُرْآن مخلوق.
فرد عليهم الإمام أَحْمَد بإلزام يوضح أن كلمة كل هنا ليست بمعنى الإطلاق.
وذلك أنه لما قال الإمام أَحْمَد: أو ليس الله تَعَالَى يقول في الريح التي أرسلها عَلَى عاد: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] ؟ فهل دمرت السماوات؟ وهل دمرت الأرض؟ وهل دمرت الرمال؟ إنما تدمر كل شيء أمرت بتدميره، وهو هَؤُلاءِ الناس، وما يتعلق بهم من أموالهم وأمتعتهم، أو مساكنهم أو نحو ذلك.
فكلمة "كل" إذاً ليس مدلولها الشمولية الكاملة في كل وقت، وإنما تأتي هذه الكلمة بحسب السياق الذي تدل عليه، فعمومها قد يكون مطلقاً، وقد يكون مخصوصاً، أو خاصاً بما يقيده، وتعينه القرائن الحافة به.
ثُمَّ انتقل إِلَى تحريف المعتزلة لمعنى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284] ، بأنه: وهو عَلَى ما يقدر عليه قدير، أو عَلَى ما يشاء قدير، ومقصودهم بذلك أنه لا يشاء أفعال العباد القبيحة، وأن الله لا يشاء معاصي العباد، كما سبق في بحث الإرادة، قالوا: وهو عَلَى ما يشاء قدير، ولا يقولون: عَلَى كل شيء قدير، حتى لا يدخلوا أفعال العباد هذه، وَقَالُوا: وهو عَلَى كل شيء مقدور له قدير، وأفعال العباد ليست مقدورة له.
فرد عليهم المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا بأنك إذا قلت: فلان بما يعلمه عليم، وفلان بما يقدر عليه قدير، أنها لا تثبت فائدة في حق المخلوق، فكيف في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؟!(1/287)
والمعنى الصحيح أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قدير عَلَى كل شيء بإطلاق، حتى أفعال العباد، فهي من مشيئته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا أذكر قصة وهي أشبه بالنكتة:
دخلالزمخشري عَلَى أحد الأمراء، وعنده رجل جالس منأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فأراد الزمخشري -وهو معتزلي- أن يغيظ هذا العالم السني، فقَالَ: سبحان من تنزه عن الفحشاء كلام عادي لو سمعه أي واحد، فإنه يقول: جزاه الله خيراً يذكر الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن هذا الخبيث يقصد أن الله ليس هو الذي خلق أفعال العباد، من المعاصي والأفعال السيئة- فَقَالَ السني: سبحان من يفعل ما يشاء. فألجمه وأفحمه، بأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يفعل ما يشاء، يخلق الشر كما يخلق الخير سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وذاك ينزهه عن أن يكون خالقاً للشر، بينما الله يفعل ما يشاء، يخلق الخير ويخلق الشر.
فكان إفحاماً سريعاً، وبنفس اللفظة، وعلى نفس السجعة، وهذا توفيق من الله عَزَّ وَجَلَّ.
الشاهد أن قدرة الله -عَزَّ وَجَلَّ- تتضمن كل شيء كلية مطلقة، لكن الذين طمس الله عَلَى بصائرهم، وأضل عقولهم، وختم عَلَى قلوبهم، دخلوا في أسئلة من الكلام المتناقض الذي يريدون به التشكيك، وبذر الشبهات في قلوب الْمُسْلِمِينَ.
هل المحال يدخل في عموم كلمة "كل"
جاء سؤال في إذاعة لندن، قبل زمن: إذا كَانَ الله عَلَى كل شيء قدير، فهل يقدر أن يخلق أكبر منه، أو أعظم منه؟
وهذه شبهة قديمة -كما ترون ذكرها المُصْنِّف هنا- وهذه الشبهة لا يقولها إنسان عاقل؛ لأن هذا الإِنسَان العاقل إن كَانَ مؤمناً بالله، فإن كل من يؤمن بالله من مسلم أو يهودي أو نصراني أو غير ذلك، يؤمن بأنه عَلَى كل شيء قدير، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا شيء مثله، ولا شيء أكبر منه، ومن قال أن هناك ما هو أكبر من الله، فالإله عنده هو الأكبر وليس الأصغر، فبطبيعة الحال يقال له: كيف تعبد الأصغر مع وجود الأكبر؟(1/288)
والمعتزلة وأمثالهم يقولون: وجود مثيل لله من المحال، لأن واجب الوجود واحد لا يتعدد، وقولهم من المحال. أي: مما يحيله العقل. فيقال لهم: شيء يحيله العقل كيف تسألون عنه؟ هل يفعله الله أو يقدر عليه؟ فقد تناقضتم مع اعترافكم، ومع إقراركم بأنه محال، لا يمكن هذا أبداً، فالسؤال إنما يكون عن الأمور الممكنة، ولا يحتاج أن يرد عليكم إلا ليبين تناقضكم في نفس سؤالكم من نفس كلامكم وما تعقدونه.
وأنتم تقولون وكل العقلاء: أن المحال شيء، والممكن شيء آخر، وأن الوصفين لا يجتمعان في حق أي شيء، فنقول: ممكن ومحال في نفس الوقت، فسؤالك هذا هو عن الإمكان، والسؤال عن الإمكان لا يكون بالمحال.
وهذه من فلسفات الزنادقة، وتمويهات السفسطائية، يريدون أن يلبسوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وخاصة العوام بأمثال هذه الفلسفات، التي لا أصل لها، ولا حقيقة لها.
والحق ما أجمله المُصْنِّف بقوله: هو الإيمان بربوبية الله تَعَالَى العامة والتامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر عَلَى تلك الأشياء. انتهى.
ومن قَالَ: إنه رب كل شيء، يجب عليه أن يؤمن بأنه رب جميع هذه الأشياء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو ما دام ربها فهو خالقها وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكذلك لا يؤمن بتمام ربوبيته وكماله إلا من آمن بكمال قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فالمعتزلة حينما يخرجون شيئاً عن قدرة الله، سواء كَانَ فعل الشر، أو أفعال العباد، أو غير ذلك، فإنهم ينقصون من قدر الربوبية، فكأن الله ليس رباً لكل شيء لما أخرجوا ذلك عن قدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلا ما دام أنه رب كل شيء كما تقولون، فإذاً كلها تخضع لقدرته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
هل المعدوم الممكن يسمى شيئاً
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/289)
[وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب، لا في الخارج، كما قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، وقال تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] ، أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كَانَ شيئاً في علمه تعالى، وقال تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1]] اهـ.
الشرح:
يعني: أن الشيء الذي اختلفوا فيه هو المعدوم الممكن، هل يسمى شيئاً أولا يسمى شيئاً؟
وذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أن التحقيق في المعدوم في ذاته أنه ليس بشيء، فالمعدوم لا يسمى شيئاً، لكن ما كَانَ في علم الله أنه سيوجد يسمى شيئاً، باعتبار أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم أنه سيوجد، لأنه -جل شأنه- يعلم بالشيء متى يوجد؟ وكيف يكون؟ قبل أن يوجده.
فما وجد وما لم يوجد بعد، هو سواء في علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد يسمى شيئاً عنده، أما بالنسبة لنا نحن، فإن ذلك متعذر علينا ولا نسميه شيئاً، ومن الأدلة عَلَى تسمية ما لم يوجد بعد شيئاً عند الله قوله تعالى: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1] ، والساعة لم تقم بعد، وقد وصفها الله بأنها شيء عظيم؛ لأنها ستوجد، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يعلم بكيفيتها إذا حدثت، وقد أخبرنا بذلك. أما بالنسبة لنا نحن، فإن ذلك متعذر علينا ولا نسميه شيئاً،(1/290)
وكذلك قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] ، أي: إذا أراد الله شيئاً يكون عَلَى وفق ما يعلمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه يعلم الشيء قبل وجوده.
وكذلك قوله تعالى: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً [مريم:9] وقوله: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1] ، أي: لم يكن شيئاً في الوجود الخارجي، أو في العالم المشهود عند الناس، أما في علمه تَعَالَى فإنه موجود.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] رد عَلَى المشبهة. وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] رد عَلَى المعطلة، فهو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه، فالمخلوق وإن كَانَ يوصف بأنه سميع بصير، فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه، إذ صفات المخلوق كما يليق به، وصفات الخالق كما يليق به.
ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه، وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنصحهم لأمته وأفصحهم وأقدرهم عَلَى البيان؛ فإنك إن نفيت شيئاً من ذلك كنت كافراً بما أنزل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا وصفته بما وصف به نفسه، فلا تشبهه بخلقه، فليس كمثله شيء. فإذا شبهته بخلقه، كنت كافراً به.
قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البُخَارِيّ: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه، ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً.
وسيأتي في كلام الشيخ الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه] . اهـ.
الشرح:(1/291)
هذه الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، قد سبق شرحها، وأيضاً ذكر المُصنِّفُ شرحها هنا، وهي من الأدلة القطعية العظيمة، الدالة عَلَى صحة مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإن قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ رد عَلَى المشبهة، وقوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد علىالمعطلة.
فنحن نثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، في كتابه أو عَلَى لسان رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي هو أفصح الخلق وأعلمهم بما ينبغي لجلال وجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفات الكمال والجلال، وأقدرهم عَلَى البيان، وننفي مع هذا الشبيه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبذلك نكون عَلَى المنهاج القويم والقسطاس المستقيم.
أما الذين استدلوا بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فقط، فنفوا الأسماء والصفات، ولم يثبتوا إلا الوجود المطلق، والذين لم يثبتوا إلا أسماءً مجردةً من الصفات، والذين لم يثبتوا إلا صفات عقلية معينة، فإنهم قد ضلوا في فهم هذه الآية، وعموا عن آخرها الذي هو واضح في إثبات هذه الصفات، كما سبق بيانه.
وقد ذكرنا كلام الشيخ الأمين الشنقيطي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في أن صفتي السمع والبصر من أكثر الصفات عموماً، حتى في أدنى الحيوانات، فهذا حد كل المخلوقات، فكل من له صفة الحياة نجد أن صفة السمع والبصر موجودة لديه، إلا القليل النادر، وفي هذا الدليل قوة عَلَى إثبات الصفة، لكن ليست في المخلوقات كمثلها في الله، لأن الله قد قال قبل أن يثبتها: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وهذا فيه قوة النفي المطلق للمثلية، وكذلك في آخر الآية قوة الإثبات لصفتي السمع والبصر، ومعلوم لجميع النَّاس أن عدم الاتصاف بها نقص.(1/292)
فلو رأينا -مثلاً- حيواناً أعمى، أو لا يسمع، فإنه يقال فيه: حيوان ناقص، هذا وهو حيوان، فكيف بمن له المثل الأعلى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
فيُقَالُ: ليس له سمع، أو ليس له بصر؟ هذا غاية النقص لقدره وجلاله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ثُمَّ يذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أن من نفى شيئاً من صفات الله الثابتة له فقد كفر، ومن شبه الله بخلقه فقد كفر، واستدل عَلَى ذلك بقول الإمام نعيم بن حماد شيخ الإمام البُخَارِيّ -رحم الله الجميع- وقد سبق أن أوردنا هذا القول له وشرحه فيما مضى.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ إِلَى شرح آية: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] ، مع أن الطّّحاويّ لم يذكرها إنما ذكر آية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... ، وذلك لأن نفاة الصفات عارضوا بين الآيتين، فأراد رَحِمَهُ اللهُ أن يبين أنه لا تعارض بين الآيتين كما سيأتي.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقد وصف الله تَعَالَى نفسه بأن له المثل الأعلى، فَقَالَ تعالى: لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] ، وقال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الروم:27] ، فجعل سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل السوء -المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال- لأعدائه الْمُشْرِكِينَ وأوثانهم، وأخبر أن المثل الأعلى -المتضمن لإثبات الكمال كله- لله وحده.
فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى، فقد جعل له مثل السوء، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كَانَ بها أكمل وأعلى من غيره.(1/293)
ولما كانت صفات الرب تَعَالَى أكثر وأكمل، كَانَ له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه؛ بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان، لأنهما إن تكافآ من كل وجه، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير] اهـ.
الشرح:
هذا المثل الأعلى المذكور في الآيتين لا يدل عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشبهه شيء، أو يماثله شيء، كما يظن الظانون، وإنما يدل عَلَى أن الكمال المطلق في أي صفة من صفات الكمال له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فقوله سبحانه: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] ، أي: الكمال المطلق الذي ليس فوقه شيء، أما مجرد الوصف فهو لجميع المخلوقات، كالوصف بالعلم والقدرة والحياة للإنسان مثلاً، لكن المثل الأعلى في هذه الصفات هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وهذا يتضمن أن نثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل صفة كمال، فأي صفة يكون عدم إثباتها نقصاً لله -عَزَّ وَجَلَّ- فيجب أن نثبتها له، لأنه هو الذي له المثل الأعلى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وأي كمال يخطر ببال الإِنسَان في أن يصل به أي أحد، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو المتصف بغاية هذا الكمال، ولا يشاركه فيه أي مخلوق من العالمين.
فهو وحده له الكمال الأعلى؛ لأن له المثل الأعلى، وأما الذين من دونه، الذين لا يؤمنون بالآخرة، فأمثالهم أمثلة السوء، كما ذكر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/294)
وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله إما أنها حجارة لا تسمع ولا تنطق، وهذا من أدل الأدلة عَلَى أنها ليست آلهة، لأنها لا تتصف بالسمع ولا بالكلام، كما حآجَّ إبراهيم قومه في ذلك، كما في آخر سورة الأعراف، وكذلك العجل لمَّا اتخذه اليهود، احتج الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليهم بقوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] ، فالرب الذي لا يكلم ولا يهدي اتباعه كيف يكون رباً؟
وهكذا نقول: إن مثل السوء -كل نقص في الصفات- فإنه يأتي في حق المعبودات التي عبدت من دون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وفي حق الذين لا يؤمنون بالآخرة.
أقوال أهل العلم في تفسير المثل الأعلى
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى، ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله وهداه، فقَالَ: المثل الأعلى يتضمن: الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تَعَالَى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فهاهنا أمور أربعة:
الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه، من معرفته وذكره، ومحبته وإجلاله وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه.
وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته.(1/295)
وهذا معنى قول من قال من المفسرين: إن معناه: أهل السموات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [الروم:26] .
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها، وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كَانَ الإيمان بالصفات أكمل، كَانَ هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعباراتالسلف كلها تدور عَلَى هذه المعاني الأربعة. فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] ، وبين قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ؟ ويستدل بقوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ عَلَى نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي.
إلى أن أشار عَلَى الخليفة المأمون أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، حرّف كلام الله لينفي وصفه تَعَالَى بأنه السميع البصير، كما قال الضال الآخر جهم بن صفوان: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] ، فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، بمنه وكرمه] اهـ.
الشرح:
هذا الذي ذكره المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في تفسير المثل الأعلى، وأثنى عَلَى قائله هو من كلام الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وهو موجود في مختصر الصواعق.
ومعنى ما ذكره المُصْنِّف هنا: أن عبارات السلف التي اختلفت في تفسير المثل الأعلى تدور عَلَى أربعة معانٍ:
فمنهم من فسره بأنه صفاته التي يوصف بها.(1/296)
ومنهم من فسره بإدراك المخلوقين، أو إحساس كل مخلوق بأن الله هو الأعلى في كل شيء.
ومنهم من فسره بأنه ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
ومنهم من فسره بأنه توحيده وإخلاص العبادة له.
والمثل الأعلى -هذه: الجملة العظيمة- يتضمن هذه الأمور جميعاً.
واختلاف أقوال السلف من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد، فإن قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] يتضمن هذه الأمور الأربعة:
الأول: ثبوت الصفة العليا لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، أي صفة عليا، وأي صفة كمال، فهي ثابتة لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سواء علمها العباد أو لم يعلموها، فما علمه الإِنسَان وما لم يعلمه من صفات الكمال، فإنه ثابت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو المتصف بالكمال المطلق وحده.
والثاني: وجودها في العلم والشعور، أي أنها توجد لدى الملأ الأعلى، ولدى الناس، حتى لدى الكافر منهم، كما قلنا -مثلاً- أن من يعبد الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويؤمن بوجوده، فلا بد أن يتصور أنه حي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن له كمال الحياة، وأن هذا الإله الحي يفعل ما يشاء، وأنه قدير عَلَى كل شيء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهذه كلها تدل عَلَى أنه قد استقر في نفوس البشر، وفي أحاسيسهم وإدراكهم أن الذي له هذه الصفات بإطلاق، ولا ينازعه فيها شيء، ولا يقارنه في تمامها وكمالها شيء، هو الله وحده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-؛ ولذلك فإنك تجد أن أي إنسان إذا أعجزه أمر من الأمور يقول: هذا شيء لا يقدر عليه إلا الله. أما الكافر وإن كَانَ يقول أنه لا يؤمن بوجود الله، فإنه يُعبر عن هذا بالفطرة، فإنه مستقر في الذهن أن القدرة المطلقة التي لا يغلبها أي شيء، هي لله وحده، وهكذا بقية الصفات.
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.(1/297)
ومعنى هذا أن لله -عَزَّ وَجَلَّ- من الصفات ما لا يترتب عليها عمل -أي بالجوارح- حسب فهم بعض الناس، فيُقال لهذا: مجرد علمك بها يزيد إيمانك بالله، ويزيد معرفتك به، ويجعل في القلب علم ونور.
ومثل هذا بعض الصفات التي جاءت في الأحاديث من أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يخفض القسط ويرفعه، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق العرش، وخلق القلم، وأنه قدر المقادير، ولكن نقول: إن هذه الصفات قد يكون لها بعض الأثر المباشر أو غير المباشر في أعمال الجوارح، وقد قلنا: إن مجرد المعرفة القلبية نفسها عمل، ثُمَّ إنها قد تورث عملاً بالجوارح، وهذا من ثمرة معرفتك ربك سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فعلى هذا: إذا سمعت من يقول لك: لا تتعلم الصفات، فاعلم أنه كأنما يقول لك: لا تقرأ القرآن، ولا تقرأ السنة، ولا تعرف ربك، كما قال بعضهم في كتاب له حق الله عَلَى العبا
وحق العباد عَلَى الله: المهم أن الإِنسَان يطيع الله، فلو أني -مثلاً- أطعت الملك، وسواء كنت أعلم أن هذا الملك هو في هذا البلد أولاً.
المهم أنني أطعته، فكذلك الله -سبحانه- المهم أني أطعت أمره.
فيأتينا بهذا المثال الذي فيه تشبيه بربنا -عَزَّ وَجَلَّ-، ويخبرنا الله أنه عَلَى العرش، لكنه يقول: لا يهم معرفة كونه عَلَى العرش أولا، فليس لنا دخل، المهم أن نطيعه، نصلي له ونعبده.
فنقول له: -سُبْحانَ اللَّه! - أليست الصلاة نفسها نقول فيها: سبحان ربي الأعلى؟! إذاً فالصلاة مرتبطة بالإيمان، ومرتبطة بالأسماء والصفات.
فهل يجوز لإنسان أن يقول: أنا حر في أن ألغي هذه الآيات التي في العلو، وهذه الآيات الكثيرة التي في الاستواء، والمهم أنني أصلي لله وأصوم له؟!
-سُبْحانَ اللَّه! - كيف يعرض هذا الإِنسَان عن الفقه الأكبر -كما سماهأبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ- وهو معرفة الله، ويعمل بالفقه الأصغر، الذي هو الأحكام، والحلال والحرام؟!(1/298)
ونعود إِلَى الكلام عن توحيد العبد، حول الكلام عَلَى أن من عارض بين قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [النحل:60] ، وبين قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... [الشورى:11] ، فهو كما قال المصنف: ليس هناك أحد أضل منه.
لأن مثل هذا الضلال أفضى بابن أبي دؤاد -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- إِلَى أن قال للمأمون لما عمل لباساً للكعبة: اكتب عَلَى سترالكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم. وذلك لأنه يرى أن في قوله سبحانه: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] تشبيه، وهذا لقلة عقله وفجوره.
-سُبْحانَ اللَّه! - أوليس للبشر أيضاً عزة وحكمة، كما لهم سمع وبصر؟ بلى والله، ولكنه الضلال والافتراء والبهتان، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] ، فيهم أيضاً صفة الحكمة، قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12] ، كما أن فيهم صفتي السمع والبصر، قال الله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإِنسَان:2] .
إذاً الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين: أن صفات الله تَعَالَى لائقة بجلاله وعظمته، وأن صفات المخلوقين لائقة بهم، لجهلهم ونقصهم وعجزهم.
كما قال أحد المعتزلة أيضاً: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]-نعوذ بالله من الضلال-.
وهذا المعتزلي قيل إنه: عمرو بن عبيد، ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً إذا قرأ هذه السورة يتضجر، ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقل هذا الفاجر الضعيف -سواء كَانَ هو عمرو أو غيره-، يقول: كيف ينزل الله هذه السورة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]-وفيها دليل عَلَى أنأبا لهب سيموت كافراً- وأبو لهب لا يزال حياً وكأن فيها تعجيز؟!(1/299)
وأصل هذا السؤال أورده عليه الفلاسفة فَقَالُوا: كيف يكون موقف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا آمن أبو لهب، وكان مصيره الجنة؟
فاحتار ولم يعرف الجواب فقَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف، فنرتاح من المشكلة ومن الجواب، نسأل الله العفو والعافية.
وكان الواجب عليه أن يسأل أهل العلم، كما قال الله تعالى: فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] .
ثُمَّ إن هذه الصفات التي ذكرها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في القرآن، وذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السنة، صفات كمال ليس فيها نقص من وجه من الوجوه.
والمعنى الرابع: أن إثبات المثل الأعلى لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتضمن توحيده، وعبادته وحده لا شريك له بإخلاص؛ لأنه كلما كَانَ إيمان الإِنسَان بأن لله المثل الأعلى أكثر، كلما كانت عبادته لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أكثر وأعظم، وهذا أمر محسوس.
ولذلك قال كثير من السلف في قوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء:17] ، ليس المقصود بالذي يعمل السوء: الذي يرتكب الفاحشة وهو جاهل، كَانَ يزني وهو لا يدري أن الزنى حرام، إنما المقصود أن كل من عصى الله فهو جاهل، أي: جاهل بقدر الله -عَزَّ وَجَلَّ- حين ارتكب هذه المعصية فإن من كَانَ يعلم أن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مطلع عليه، عالم بأحواله، رقيب عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل حركاته، ولا يخفى عليه من أمره شيء، وأنه تَعَالَى شديد العقاب، قد أعد النَّار لمن يعمل هذه الفاحشة، فكل هذه الأمور التي وصف الله بها نفسه، من كَانَ يعلمها حقيقةً في تلك اللحظة، فإنه لا يفعل الفاحشة أبداً، فهو جاهل بقدر الله لا بحكمه، كما في حديث قصة الرجل الذي قيل له: (اتقِ الله، ولا تفض الخاتم إلا بحقه) .(1/300)
فإن معنى اتق الله: تذكر هذه المعاني كلها، فكف عنها الرجل ولم يفعل شيئاً؛ لأنه في تلك اللحظة كَانَ جاهلاً بقدر الله عَزَّ وَجَلَّ، فأراد أن يرتكب المعصية فلما ذكرته بذلك تذكر الله وعظمته، وعظمة وعيد الله فلم يفعل.
ولذلك نقول: إنه كلما كَانَ الإِنسَان أعلم بالله، كَانَ أبعد عن معصية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
مثال آخر: وهو ذلك الرجل الذي مر ذكر قصته قبل، وأنه قال حين موته: (إذا أنا مت فأحرقوني، ثُمَّ ذروني فضعوا نصفي في البحر ونصفي في البر ... ) ؛ والذي حمله عَلَى ذلك جهله بمعنى: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:20] ، فما بالك بمن يجهل كثيراً من صفات الله ولا يعلمها؟
والرد عَلَى شبهات أهل الباطل من باب الجهاد بالقرآن، وهذا مما ابتلى الله به العلماء وقبلهم الأنبياء، وهذا لا بد منه، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعثه الله، وكذلك جميع الأَنْبِيَاء -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يتمنون أن يأتي أحدهم فيقول لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه) ُ [هود:50] ، فيؤمن القوم، وينتهي الأمر، لكن لم يكن ذلك، بل وجد من يعادي، ومن يجادل، حتى قال القائل: صف لنا ربك؟ وكثرت الشبهات والأقاويل في الله سبحانه، وفي الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه ساحر ومفتر وكذاب، وَقَالُوا: أساطير الأولين اكتتبها، فكان لا بد من رد عَلَى هذه الشبهات، ولذلك رد القُرْآن عليها وبين بطلانها.
والكلام هنا عن الصفات من هذا القَبيل؛ لأن حقيقة معرفة صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- ثمرتها أن يعرف الإِنسَان ربه، وهذا أشرف العلوم جميعاً؛ حتى ولو علمت صفة لا يترتب عليها عمل؛ لأن العلم بها يزيد إيمانك بالله، ويزيد معرفتك بالله عَزَّ وَجَلَّ.(1/301)
قد تقدم الحديث عن معنى قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] والمؤلف هنا استطرد في بيان أن قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ، مع دلالته عَلَى إثبات الصفات لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونفي المثيل عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لا يعارض قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] ، فإثبات المثل الأعلى شيء، ونفي المثيل له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شيء آخر.
واستطرد تبعاً لذلك في شرح معنى: الْمَثَلُ الْأَعْلَى.
وموجز ذلك أن المثل الأعلى هو الكمال المطلق، والغاية العليا للصفة التي ليس وراءها شيء، فلله تَعَالَى المثل الأعلى في العلم فمهما كَانَ عند المخلوقين من علم، ومهما وصفنا أي مخلوق بأنه عالم، فإن لله المثل الأعلى في ذلك؛ بمعنى أن له الكمال المطلق في العلم الذي ليس وراءه أي شيء، وليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه، وذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- الأمور الأربعة التي عبر بها السلف عن معنى المثل الأعلى، وتضمن كون المثل الأعلى لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأمور الأربعة التي هي ثبوت الصفات العليا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والشعور بها، وعلمها، وإدراكها، ثُمَّ ذكر صفاته والخبر عنها.
ثُمَّ الرابع محبته وتوحيده وإخلاص العمل لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتجريد متابعة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/302)
ثُمَّ يبين المؤلف أن هذه الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فيها خلاف بين النحاة والشُّراح المفسرين من الناحية الإعرابية ويذكر هذه الأوجه، ويجيب في أثناء ذلك عَلَى الشبهة التي قد تطرح وهي دخول الكاف عَلَى المثل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيظن أن ليس في الآية نفياً مثلياً مباشرة، وإنما هي نفي شبيه المثلية، فهل هذه الآية عَلَى ظاهرها؟ أو ما المقصود من هذه الكاف الزائدة؟ هذا ما سوف نتحدث عنه فيما بعد.
والقول بأن هناك معارضة بين قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى [الروم:27] .
دعا المؤلف إِلَى نوع من الاستطراد البياني، وأن هناك من يتلقون القُرْآن عَلَى غير ما أمر الله تَعَالَى به من التلقي والقبول؛ وهم الذين في قلوبهم مرض؛ الذين ذكرهم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7] وذكرهم في قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26]
وهنا مرضان من أمراض القلوب في تلقي القرآن، سواء ما كَانَ من الصفات أو غيرها، فالأول:
اتباع المتشابه ورد المحكم
وهو أن الإِنسَان يتبع المتشابهات ليحرف ويرد بها المحكمات، ويؤول معاني المحكمات لأجل المتشابهات، وهذا نوع من أنواع المرض والعياذ بالله.
كراهية بعض ما أنزل الله(1/303)
والثاني: أن يكره الإِنسَان بعض ما أنزل الله ويجامل أعداء الله ويقول: سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [محمد:26] فلا يسلم تسليماً كلياً قاطعاً لما أنزله الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولما جَاءَ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا قدر موجب لإحباط العمل، فلذلك قال في آخر الآية: فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28] لأن كراهية بعض ما أنزل الله سبب من أسباب إحباط العمل.
فلو أن أحداً آمن بدين الإسلام كله وبشريعة الإسلام كلها، إلا أنه لم يؤمن بحرمة الربا -مثلاً- أو يكره في نفسه كون الربا حرام، أو كون الزنا حرام، أو يكره ويتضجر من أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شرع للمرأة أن تقرَّ في بيتها وأن لا تتبرج وهو يريد هذا التبرج، أو يكره هذه الآيات، ويكره هذا الحكم، وإن كَانَ مسلماً منقاداً لبقية الشريعة فإن هذا كله يؤدي إِلَى إحباط عمله - والعياذ بالله؛ لأن هذا اعتراض وكراهية لبعض ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ومن هذا أيضاً ما كَانَ في نفاة الصفات كالذين تحدث عنهم المؤلف كابن أبي دؤاد حيث أشار عَلَى الخليفة المأمون -وكان وزيراً للمأمون مقرباً عنده- أن يكتب عَلَى ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم والعياذ بالله فقد كره أن يكتب وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] ؛ لأن في نظره أن السمع والبصر من صفات المخلوقين، فيكون فيها تشبيه، أما العزة والحكمة، فلا تدل عَلَى التشبيه، وهذا من جهله، وعقله الفاجر.(1/304)
فإن البشر أيضاً فيهم العزة وفيهم الحكمة، كما أن فيهم السمع وفيهم البصر، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أثبت العزة له ولرسوله وللمؤمنين، وكذلك أثبت الحكمة لبعض عباده فَقَالَ تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة [لقمان:12] وعليه فليس الفرق بين صفات الله وصفات المخلوقين أن نرد بعض الصفات ونؤمن ببعض! وإنما الفرق أن نقول: إن ما يتعلق بذات الله من صفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يختلف اختلافاً كلياً عن صفات المخلوقين، فلله تَعَالَى صفات لائقة بجلاله، وللمخلوق صفات لائقة به وهو الجاهل والناقص والعاجز.
وكذلك ما ذكره عن الجهم بن صفوان أنه قَالَ: وددت أني أحُكُّ من المصحف قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] أعاذنا الله من الغواية والضلال، ومثله امرأةجهم فقد سمعت رجلاً يقرأ قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فقالت: محدود عَلَى محدود ليس هكذا.
لذلك قال بعض العلماء: إن الجهمية يريدون أن يثبتوا أنه ليس في السماء شيء، وليس فوق العرش شيء، وهم -كما ذكرنا- يثبتون مجرد وجود مطلق لا يوصف بأي شيء، وهذا من الجرأة عَلَى الله، ومن الزيغ، ومن مرض القلب والضلال.
ومثال ثالث: وهو عمرو بن عبيد ومما نقل عنه أنه كَانَ دائماً لما يقرأ قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] يتضجر ويريد أن لا تكون من القرآن، وسبب ذلك أن عقله الفاجر الضعيف يقول كيف ينزل الله هذه الآية تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وفيها دليل عَلَى أن أبا لهب سيموت كافراً.(1/305)
وأبو لهب مازال حياً؟! وهذا السؤال يورده الفلاسفة علىالجهمية فيقولون: إن من آمن دخل الجنة، فكيف يكون موقف الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعلأبو لهب ذلك؟ ولما سمع عمرو بن عبيد هذه الشبهة ولم يعرف لها جوباً، قَالَ: ليتني أحك هذه السورة من المصحف فنرتاح من المشكلة وشجوابها! نسأل الله العفو والعافية.
عدم رد الأمر إلى ولي الأمر عند التنازع
والقاعدة التي يعرف بها وقوع الضلال والزيغ هي: أنه يأتي من عدم رد الأمر إِلَى أولي العلم، كما قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7] ، وقَالَ: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُول ولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83] فلذلك إذا جاءنا أمر أي أمر كان: علمي، أو أمر من أمور الدعوة ومصالح الدعوة الإسلامية كما في بداية الآية:وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ [النساء:83] .
فيسأل فيه العلماء عند الإشكال ويتنبه إِلَى أنه قد لا يكون هناك إشكالٌ أصلاً مثل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] فليس فيه إشكال عَلَى الإطلاق؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق أبا لهب ويعلم عناده وكرهه للدين، وأنه لن يؤمن فمن المحال أن يقع خلاف ما قدره الله عَزَّ وَجَلَّ.(1/306)
فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنزل القُرْآن بمقتضى ما علمه وقدره، مِنْ أن عناد هذا الرجل لن يجعله يوماً من الأيام يتوب إِلَى الرشد ويسلم، فيظل أبو لهب عَلَى الكفر حتى يموت، فهذا علمه الله عَزَّ وَجَلَّ وقدره، ومن المحال أن يقع شيءٌ خلاف ما قدره الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وليست المسألة بهذا الإشكال الذي يجعل الإِنسَان عندما يعجز عنها أو تواجهه القضية يتمنى أن هذه الآية ليست موجودة، أو أن هذا الحديث لم يصحَّ عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بل الذي يتحتم عند مرور الآية والحديث الصحيح أن نتلقى ذلك بالإيمان، وبالقبول، وبالتصديق؛ فإن أشكل علينا شيء في معنى أحدهما رددناه إِلَى أولي العلم من الأحياء، أو من الأموات من خلال كتبهم، فإن لم يكن بعد ذلك معرفة رددنا علمه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويجب أن نعترف دائماً بعجزنا، وجهلنا، وقصورنا، عن فهم كثير مما جَاءَ به الوحي. هذا هو نهاية الاستطراد ثُمَّ بعد ذلك ينتقل المُصْنِّف إِلَى إعراب قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وفي إعراب كمثله وجوه، أحدها أن الكاف صلة زيدت للتأكيد.
قال أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير
خلق يوازيه في الفضائل
وقال آخر:
ما إن كمِثْلِهِمُ في النَّاس من بشر
وقال آخر:
وقَتْلى كمثل جذوع النخيل
فيكون (مثله) خبر (ليس) ، واسمها (شي) .
وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها إذا خوطبت به، وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم: (وصاليات ككما يُؤْثَفَين) .
وقول الآخر:
فأصبحت مثلَ كعصف مأكولِ
الوجه الثاني: أن الزائد مثل أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد؛ لأن "مثل" اسم، والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.(1/307)
الوجه الثالث: أنه ليس ثُمَّ زيادة أصلاً، بل هذا من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا، أي: أنت لا تفعله، وأتى بمثل للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس لمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له، وقيل غير ذلك والأول أظهر] . اهـ.
الشرح:
هذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- في إعراب: كَمِثْلِهِ، من الآية لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] تتفاوت.
أصح أوجه الإعراب أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد
وهذا هو الوجه الأول: وهو أن الكاف حرف صلة زيدت للتأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا المعنى: (ليس) فعل ناسخ والكاف زائد (مثل) اسم مجرور، وهذا المثل في موضع خبر ليس، بحيث لو كَانَ غير قرآن لقلنا: ليس مثله شيء، وإعراب (شيء) اسم (ليس) متأخر.
وهذا الإعراب عَلَى أساس أن الكاف زائدة، ومن المعلوم أن زيادة المبنى -أي: زيادة اللفظ- لا بد أن تقتضي الزيادة في المعنى، وهذه الزيادة لتأكيد نفي المثل في قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] وقد ذكر المؤلف: أن هذا الوجه قوي، وهو الذي اختاره، ويقويه ويستدل عَلَى ذلك بما ورد في كلام العرب مما يدل عَلَى زيادة الكاف كما في الأبيات التي أوردها: (ليس كمثل الفتى زهير
) .
ومقصود الشاعر بهذا أن نقول: ليس مثل الفتى زهير أحد من الخلق، فقَالَ: ليس كمثل الفتى زهير، وذلك زيادة لتأكيد أنه ليس هناك من يشبه زهير في الخلق.
وقال آخر (ما إن كمثلهم في النَّاس من أحد) ، أو (ما إن كمثلهم في النَّاس من بشر) .(1/308)
والكاف في هذا المثال زائدة، ومراد الشاعر أن يقول: ليس مثلهم في النَّاس من أحد، لكنه جَاءَ بحرف الكاف الزائد لزيادة التأكيد، فيكون إعراب الآية عَلَى هذا الوجه متكون من فعل ناسخ، وخبر مقدم، ومبتدأ مؤخر، وزيدت الكاف في الخبر المقدم وهو "مثل" للدلالة عَلَى تأكيد المعنى، وحرف الصلة الزائد يعمل لفظاً، وإن لم يكن يغير الحقيقة، وزيادته تدل عَلَى أنه لا بد أن يكون له معنى، وتكون دلالته عَلَى التأكيد غالباً، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّه [فاطر:3] أي هل خالق غير الله؟ فـ (مِنْ) هنا حرف جر زائد، زيادته للتأكيد، ولهذا يأتي التابع الذي بعده معطوفاً مرفوعاً بناءً عَلَى المحل هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] فجاء بحسب المحل؛ لأن المحل مرفوع ولم يأت بحسب اللفظ.
وإن كانت (من) في اللفظ أدت إِلَى خفض قوله (خالق) ، كما أن الكاف هناك خفضت قوله: (مثل) ، لكن هذا الأثر اللفظي لا يغير من مقصود الألفاظ والعبارات شيئاً، وهذا المعنى واضح إن شاء الله.
يقول: (وقد جَاءَ عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:"وصاليات ككما يُؤْثَفَيْن"، أي كما أن الكاف تزاد في (مثل) ، فإنها تزاد أيضاً في (كما) ، وأصل البيت أن يقول: (وصاليات كما يؤثفين) ، فزاد الكاف وقَالَ: (وصاليات ككما يؤثفين) ، وهذا أيضاً من الشواهد الدالة عَلَى أن الكاف قد تأتي زائدة، ويذكر أيضاً البيت الآخر وهو المنسوب إِلَى رؤبة بن العجاج الرجّاز العربي المشهور فيقول:
فأصبحت مثل كعصف مأكول
ومراد الشاعر أن يقول: أصبحت مثل عصف مأكول، أو فأصبحت كعصف مأكول لكنه جَاءَ بمثل وبالكاف معاً للدلالة عَلَى التأكيد، لا سيما وأنَّ وزن الرجز يقتضي أن يأتي بكلمة، فجاء بكلمة فيها زيادة معنى.(1/309)
والرجز من البحور الشعرية الستة عشر التي أصّلها الخليل بن أحمد وهو من أكثر أشعار العرب.
والعرب يستخدمون الرجز كثيراً وخاصة في مواضع القتال، أو في المواقف التي فيها الحمية والحماس.
ومعظم الرجز يأتي في المعارك ومثاله ما تمثل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكره:
هل أنتِ إلا أصبع دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ
ومنه قول جعفر الطيار:
يا حبذا الجنةُُُ واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابُها كافرة بعيدة أنسابها
عليَّ إن لاقيتها ضرابها
والقصد أن الراجز أتى بالحرف الزائد من أجل وزن البيت، وهذا الحرف فيه زيادة في المعنى.
إذاًً تأتي (الكاف) زائدة كما في قول رؤبة: (فأصبحت مثل كعصف مأكولِ) ومثله قوله تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] .
الوجه الثاني من الأعراب: أن الزائد هو كلمة (مثل) ، فمعنى لَيْسَ كَمِثْلِهِ أي ليس كهو أي كذاته - تَعَالَى - شيء وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فـ (مثل) هنا زائدة؛ لأنه ليس لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مثل، فننفي هذه المثلية.
ويكون (الكاف) هو حرف التشبيه و (مثل) اعترضت بين الجار والمجرور بحيث لو كَانَ في غير القُرْآن لقلنا ليس كهو شيء وهو السميع البصير، وعلى هذا يرد قوله تعالى: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا [لبقرة:137] فإن المقصود: فإن آمنوا بالقرآن، أو فإن آمنوا بالله عَزَّ وَجَلَّ فتكون "مثل" في هذه الآية زائدة المعنى زائدة اللفظ.
ولعل من الملاحظ أن هناك فرق بين هذه الآية وبين الآية التي في الشورى ففي آية الشورى نجد أن الحرف هو "الكاف" والاسم هو "مثل" والأحق أن حرف الكاف هو الزائد وأن "مثل" أصل في الكلام.
وعلى هذا كَانَ هذا القول -أي القول الثاني- قولاً بعيداً لأن القول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.(1/310)
الوجه الثالث من الإعراب: أنه ليس في الآية زيادة أصلاً، فعندما تقول العرب: (مثلك لا يفعل كذا) فكأنهم قالوا: (أنت لا تفعل كذا) ، أي: مثلك لا يليق به القبائح، ويأتوا بكلمة " مثل " والمقصود بها أنت المخاطب، فقوله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي ليس كذاته شيء، ليس كهو شيء، وعلى هذا تكون " مثل " غير زائدة وإنما جرت عَلَى أسلوب العرب وأتى بـ "مثل" للمبالغة وقالوا في معنى المبالغة: ليس كمثله مثل -لو فرض له مثل- فكيف ولا مثل له، أي: ليس لله عَزَّ وَجَلَّ مثل، لكن لو فرض ذلك فإنه ليس لمثله مثل، فيكون هذا المعنى أقوى في نفي المثلية عن الله عَزَّ وَجَلَّ.
وأصحاب هذا القول لا يريدون أن يثبتوا الزيادة في كلام الله تَعَالَى لأن بعض النَّاس عندما يسمع بعضهم يقول: " لا " زائدة في قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1] يقول: لا يجوز أن نقول: إن في القُرْآن شيء زائد.
وكذلك في هذه الآية إنما فيها معنى أصلي والآن نعرف المقصود بالزيادة في كلام الله.
المقصود بالزيادة في كلام الله(1/311)
والحقيقة أن قولهم: هذه الكلمة زائدة، لا يعني أن في القُرْآن شيئاً زائداً يمكن أن نستغني عنه أو لا قيمة له، كلا، إنما المقصود أن هذه الاصطلاحات وضعت لمعرفة معاني الألفاظ، ومعاني الكلمات والجمل لا أكثر ولا أقل، ولا شك أن قوله تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمَ القِيَامَةِِيَامَةِ [القيامة:1] أبلغ وآكد من قوله: أقسم بيَوْمَ القِيَامَةِ، ومثله قوله تعالى: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ [فاطر:3] ففي أصل الكلام ليس هناك خالق غير الله فلفظة (مِن) زائدة من ناحية لفظية، وأما من ناحية المعنى فلها فائدة عظيمة وهي: التعميم، فإن جملة: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ أقوى من قول: (هل خالق غير الله) فظهر بهذا أن هذه الكلمات الزائدة تعطي معانٍ عظيمة لولاها لما حصلت هذه المعاني، وكما تحصل الفائدة في زيادة بعض الكلمات أيضاً تحصل الفائدة في الحذف، وهذا معروف في لغة العرب. وبهذا نكون قد أوضحنا الثلاثة الأوجه الواردة في الآية.
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خلق الخلق بعلمه] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[خلق: أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي خلق أيضاً بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق، وقوله (بعلمه) في محل نصب عَلَى الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [لملك:14] وقال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار [الأنعام:59-60] وفي ذلك رد علىالمعتزلة.(1/312)
قال الإمامعبد العزيز المكي صاحب الإمام الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللهُ - وجليسه، في كتاب الحيدة الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فَقَالَ بشر: أقول: لا يجهل.
فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم، تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فَقَالَ الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح، فإن قولي هذه الأسطوانة لا تجهل، ليس هو إثبات العلم لها وقد مدح الله تَعَالَى الأَنْبِيَاء والملائكة والمؤمنين بالعلم، لا بنفي الجهل.
فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تَعَالَى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه.
والدليل العقلي عَلَى علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد: هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم، ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها؛ لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم؛ ولأنُ من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالماً وهذا له طريقان:
أحدهما: أن يُقَالَ: نَحْنُ نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين، أحدهما: عالم والآخر: غير عالم، كَانَ العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.(1/313)
الثاني: أن يُقَالَ: كل علم في الممكنات، التي هي من المخلوقات، فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه بل هو أحق به. والله تَعَالَى له المثل الأعلى، ولا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيلٍ، ولا في قياس شمولٍ، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى] اهـ.
الشرح:
انتقل المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - إِلَى الفقرة الثامنة عشرة، وموضوعها إثبات صفة العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
والأدلة عَلَى ذلك من الكتاب والسنة والفطرة والعقل.
فأبو جعفر الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللهُ - تَعَالَى يقول: (خلق الخلق بعلمه) كما قال الشارح: أي: خلقهم عالماً بهم، أي خلقهم حال كونه عالماً بهم، وفي هذا إثبات العلم لله سبحانه.
العرب في الجاهلية يؤمنون بصفة العلم لله
لقد كَانَ العرب في الجاهلية يؤمنون بذلك وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه [لقمان:25] فكل من يثبت أن الله هو الخالق عليه أن يثبت أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عالم، وفي هذا رد عَلَى من ينكر هذه الصفة -صفة العلم- ويستدل عَلَى ذلك أيضاً بما ورد من الآيات كقوله تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] ، وقوله: وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [التحريم:2] ، وقوله: وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء:92] .
الأدلة النقلية والعقلية في إثبات صفة العلم لا تحصى(1/314)
وأمثال ذلك من الآيات والأحاديث والأدلة العقلية كثيرة لا تحصى ولا تحصر في إثبات علم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومنها ما تقدم الحديث عنه وهو المرتبة الأولى من مراتب القدر: وهو العلم بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يعلم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كَانَ كيف يكون، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد كتب ذلك كله وقدره وهو عليم به -جل شأنه- وأن وقوع الشيء وفق ما قضاه وقدره لا يزيد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- علماً بالشيء، فإنه يعلمه عَلَى صفته التي سيكون عليها قبل أن يكون.
ومن ذلك آيات علم الغيب قاطبة، ولهذا استدل المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بآية الأنعام:وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59] وأمثال ذلك من الآيات الدالة عَلَى أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو المتفرد بعلم الغيب.
فهذا إثبات لصفة العلم، والذين ينكرون صفة العلم: هم الجهمية، ومن هَؤُلاءِ الجهمية بشر المريسي ولذلك نقل المُصْنِّف نصاً عن عبد العزيز الكناني -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- وعبد العزيز الكناني أو المكي تلميذ من تلاميذ الإمامالشَّافِعِيّ، وكان من جلسائه وخاصته.
وتوفي الإمامالشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- قبل أن تفشو فتنة القول بخلق القرآن، ويظهر أمرالجهمية، وبعضهم يقول: إنه أدرك ذلك؛ لكنه اتخذ سبيل التورية ونجا، لكن الأظهر أن الإمام الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لم يدرك ذلك وإنما أدركه تلاميذه، ومنهم عبد العزيز المكي أو الكناني، فلما ظهرت هذه الفتنة وفشت عند المأمون، رحل عبد العزيز الكناني - كما بين ذلك في كتابه الحيدة - إِلَى الخليفة المأمون، واستعد لمناظرة ـبشر المريسي أمام النَّاس عَلَى الملأ، ومناظرة الذين ينكرون صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ويحرفون كتاب الله.(1/315)
ثُمَّ كتب الإمام عبد العزيز المكي خلاصة ما دار بينه وبين هَؤُلاءِ القوم في كتابه المسمى الحيدة.
مع العلم أن هناك من يقول: إن كتاب الحيدة لا تصح نسبته للإمام عبد العزيز الكناني.
وأقول: قد لا يكون الكتاب بهذا الشكل المتكامل له؛ لأن فيه بعض زيادات غيره، لكن الكتاب والقضية لهما أصل، والحوار هذا قد جرى ووقع، فقد يكون الذي كتب هذا الكتاب والمناظرة ابن عبد العزيز الكناني الذي اصطحبه معه من مكة إِلَى بغداد ليناظربشر المريسي.
أما بشر فهو رجل يهودي، كَانَ أبوه صباغاً يهودياً - كما قال ذلك الإمام أحمد.
وهذا الرجل تعلم الفلسفة وتعلم الكلام ليفسد به دين الإسلام،
وكان زميلاً للقاضيأبي يوسف المعروف، وكان القاضي يقول له: يا بشر! إما أن تدع الكلام، أو تفسد علينا خشبة، يعني: نصلبك عَلَى خشبة فنخسر هذه الخشبة، لكنَّ بشراً عاند، وأخذ يتعلم هذه العلوم، وهذه الثقافات، يعارض بها كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان عَلَى مذهب الجهم بن صفوان في نفي صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
حتى أنه ورد أن أم بشر جاءت إِلَى أحد علماء الْمُسْلِمِينَ فقالت له: إن أباه كَانَ يهودياً، وإنه عَلَى دين أبيه، وإنما يريد أن يفسد دينكم بهذا العلوم (بعلم الكلام) الذي جَاءَ به.
وقد رد الإمام المحدث الجليل عثمان بن سعيد الدارمي عَلَى بشر المريسي في كتابه المشهور المعروف: الرد عَلَى بشر المريسي العنيد، أو (رد الإمام عثمان بن سعيد على بشر المريسي العنيد) ، فرد عليه، وأثبت كثيراً من الصفات التي كَانَ بشر ينكرها ومنها صفة العلم، فبشر والجهمية عموماً يقولون في صفة العلم: ليس بجاهل، وهذا كما قلنا: أولاً: وجود مطلق لا يوصف بشيء إلا بالسلوب، يعني النفي فقط.(1/316)
فينفون عن الله الجهل ولا يثبتون له العلم، كما كَانَ يقول الإمام عبد العزيز في مناظرته لبشر: الله عالم أو الله يعلم، فيقولبشر: لا يجهل، فهذا يكرر السؤال وذاك يكرر الجواب لا يزيد عَلَى قوله: لا يجهل لا يجهل.
فقال له الإمام عبد العزيز الكناني بعد ذلك: لو قلت هذه الأسطوانة لا تجهل لم يكن ذلك مدحاً لها بأنها تعلم.
وكما قال المصنف: نفي الجهل لا يعني إثبات العلم ولكن إثبات العلم يعني نفي الجهل، فكان هذا مما أفحم به الإمام عبد العزيز الكناني بشراً في مجلس الخليفة.
وقد مدح الله تَعَالَى الأَنْبِيَاء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تَعَالَى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه، ما أجمل هذه العبارات التي قالها الإمامعبد العزيز وأرشد الخلق إليها "أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه" وهذه هي القاعدة العامة في مثل هذه الصفات: صفة العلم وغيرها.(1/317)
ثُمَّ انتقل المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى الدليل العقلي، وهذا الدليل قد سبق معنا عَلَى شكل قاعدة من القواعد التي نعرف بها إثبات الصفات، والتي نستدل بها عَلَى أن الفطرة الإِنسَانية والعقل الإِنسَاني يثبت صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأن له الكمال المطلق -عَزَّ وَجَلَّ- وهذه القاعدة هي: (كل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه فالله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - أحق بها) فلو أخذنا صفة العلم وجدناها صفة كمال، والمخلوق يمدح بأنه عالم، وكلما كَانَ المخلوق أكثر علماً كلما كَانَ هذا زيادة في مدحه، فنقول: هو أكثر علماً من فلان، فالذي له المثل الأعلى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجب أن يثبت له العلم من باب الأولى، والمخلوق إنما استمد علمه مما أعطاه الله إياه من العلم، وهذه القاعدة فصلها المُصْنِّف فيما سيذكره، يقول: (الدليل العقلي عَلَى علمه -تعالى- أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل) هذا الأمر الأول، لأن الذي يؤمن بأن الله هو الذي خلق الكون، وخْلقُ هذه الأشياء يثبت لله صفة العلم، لاستحالة وجود هذه الأشياء مع الجهل، ولا يخلقها إلا من يعلمها كما قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الأمر الثاني: أن الإيجاد والخلق لا يكون إلا بإرادة، فالإِنسَان عندما يريد أن يعمل أي عمل، فإن ذلك العمل لا بد أن يُسبق بإرادة وتصور، وهذا معنى قول المصنف: ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، فالإرادة تستلزم تصور المراد، وأن يكون معلوماً عند الفاعل، فتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، وعليه فالإيجاد مستلزم للعلم، فإيجاد الله تَعَالَى للمخلوقات يقتضي أن يكون عالماً بها، وإن كنا لم نعرف الحقيقة الكاملة لعلم الله عَزَّ وَجَلَّ؛ لكن المقصود حقيقة الإيمان بعلم الله عَزَّ وَجَلَّ.(1/318)
وأن الناظر إِلَى الآيات الكونية والآيات النفسية والآيات الآفاقية، يجد أنها تدل دلالة قاطعة ليس معها شك ولا ريب عَلَى أن الذي خلق هذه متصف بصفة العلم، وأن هذا العلم لا يمكن للمخلوق أن يتصوره ولا يمكن للإدراك البشري أن يصل إليه عَلَى الإطلاق. هذه أدلة فطرية وحسية وعقلية يسقط معها ويتهافت. قول من يقول: إننا لا نثبت لله تَعَالَى العلم، بل ننفي عنه الجهل.
ولا يدخل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تحت قياس البشر لا في قياس التمثيل، ولا في قياس الشمول، يقول: (بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق أحق به وكل نقص تَنزّه عنه مخلوقاً ما فتنزيه الخالق عنه أولى) ، وهذه القاعدة يمكن أن نضيف إليها قيداً فنقول: (كل ما ثبت للمخلوق من كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أولى به) .
هذه هي الفقرة الثامنة عشر المتعلقة بإثبات صفة العلم لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والرد عَلَى من أنكرها. والأدلة عَلَى إثبات العلم أكثر من هذا وإنما المقصود هنا التعرض لمذهب الجهمية النفاة وبيان بطلانه عقلاً ونقلاً.
ثُمَّ تأتي الفقرة التاسعة عشرة.
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وقدَّر لهم أقداراً]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[قال تعالى:: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2] وقال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً [الأحزاب:38] وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:3،2] ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء) ] اهـ.
الشرح:
أقول: إن جملة: [وقدر لهم أقداراً] .(1/319)
فيها دليل عَلَى إثبات القدر والمقادير أو التقدير.
فأول ما خلق الله القلم قال له: اكتب فكتب مقادير كل شيء، فلا يقع بعد ذلك شيء في الدنيا إلا وهو موافق ومطابق لما كتبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يمكن أن يرد أحد من النَّاس ما قدره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقضاه.
وقد سبق شرح هذا في مبحث الإرادة.
ومن أركان الإيمان الستة: أن يؤمن الإِنسَان بالقدر أي: بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عالم بكل شيء، وذلك قبل أن توجد هذه الأشياء وقبل أن تخلق، وأنه قدر كل ما كَانَ وما سيكون وكتب ذلك عنده، وأن الخير والشر من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا يتنافى هذا مع ما قد سبق تقريره من أن سبب الخير فضل من الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وسبب الشر ذنب العبد، ثُمَّ إن ما كتبه - سبحانه - وقدره لا معقب له، ولا راد لقضائه بأي وجه من الوجوه، بل كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت عَلَى أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا عَلَى أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف) .
فهذا دليل من أدلة كثيرة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد كتب القدر، وقدر المقادير أو التقدير.
الفرق بين القدر والتقدير
والتقدير بمعنى: الخلق ومقادير المخلوقات بمعنى الموازين التي توزن به، وخلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل شيء بقدر قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (الفرقان:2] فقوله: فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً هو من هذا الباب أيضاً من باب التقدير الذي هو بمعنى وضع الأمور أي بخلق كل شيء، عَلَى مقتضى الحكمة التي قدرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وشاءها، فهذه مقادير المخلوقات من الحياة والموت، ومن الحجم والطول والعرض.(1/320)
وتقدير الأمور هو أيضاً من خلق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كما قال سبحانه: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:2-3] فهذا من "التقدير" لا من "القدر"، وإن كَانَ المعنى اللفظي واحد، والفرق بينهما أن القدر الذي هو ركن من أركان الإيمان وهو الإيمان بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علم كل شيء، وكتبه، وقضاه، وقدره، وأنه لا يقع إلا وفق ما علمه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكتبه وقدره وقضاه، وأنه لا يخرج عن هذا الأمر شيء، وأما إيماننا بتقدير الله مقادير المخلوقات فهذا جزء من إيماننا بأنه هو وحده الخالق، الحكيم، البارئ، المصور سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا الحديث قد سبق أن شرحناه وشرحنا قوله: وإن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه عَلَى الماء.
ولم يخالف في إثبات القدر إلا القدرية ومن المعلوم أن مراتب القدر أربع: ومن القدرية من خالف في إثبات المرتبة الأولى وهي العلم، وهذه أقل فرقهم وقد سبق أن ذكرنا أن من أنكر العلم من القدرية فهو كافر.
أكثر الاختلاف في القدر هو في باب أفعال المخلوقين
أكثر الخلاف في القدر هو في أفعال المخلوقين وليس في العلم، ولهذا جَاءَ بالجملة التالية وهي امتداد لهذه الجملة، ليرد بذلك علىالمعتزلة الذين يقولون: إن الآجال ليست من تقدير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو أن الآجال تقع خلاف ما كتب الله عَلَى النحو الذي سنفصله.
يقول أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وضرب لهم آجالا]
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:(1/321)
[يعني: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. قال تعالى: إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [يونس:49] وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران: 145] ، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قَالَ: (قالت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورَضِيَ اللهُ عَنْها: اللهم أمتعني بزوجي رَسُول الله، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، قَالَ: فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئاً قبل حله، ولن يؤخر شيئاً عن حله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل) فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تَعَالَى وقدَّر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إِلَى غير ذلك من الأسباب، والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة.
وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إِلَى أجله فكأن له أجلان.
وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إِلَى الله تَعَالَى أنه جعل له أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه ألبتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صلة الرحم تزيد في العمر) أي: سبب طول العمر.
وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب إِلَى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إِلَى هذه الغاية.
ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إِلَى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه] اهـ.
الشرح:(1/322)
قول أبي جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: (وضرب لهم آجالاً) هذه الجملة مأخوذة ومستنبطة من الآيات الكثيرة الدالة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد جعل للخلق آجالاً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61] كما هو معلوم من آي كثيرة.
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [يعني أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر آجال الخلائق بحيث إذا جَاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61] . وقال تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً [آل عمران:145] وذكر الحديث الذي في صحيح مسلم، وفيه إثبات الآجال، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل لكل مخلوق أجلاً، وهذا ثابت بنفس الآيات والأدلة التي تثبت القدر، ومنها الحديث الصحيح عنعبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في أن الجنين (يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أم سعيد) فيؤمر الملك بكتب أربع كلمات، منها: الأجل، أي: أجل الإِنسَان، فليس هناك أي مجال لأن يتوقع أحد أن هذا الأجل يمكن أن يُغَيَّر ويمكن أن يُبَدَّل وقد كتبه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الإِنسَان وهو لا يزال في بطن أمه؛ ليقطع الأمل؛ ويقطع تعلق النَّاس بأن أحداً غير الله يملك أن يمد في عمر فلان أو يقصر من عمر فلان، أو أنه إذا قتل فلاناً فإنه قد انتقصه شيء من عمره.(1/323)
والآجال والأرزاق قد قدرت وكتبت كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر، يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن روح القدس -وهو جبريل عَلَيْهِ السَّلام- نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب) ، أي: إذا طلب الواحد شيئاً من أمور الدنيا فليطلبه بإحسان وليجمل في الطلب ولا يلح؛ فإنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها حتى آخر لحظة من لحظات الدنيا وهي ساعة الاحتضار فإن بقي له في تلك الساعة لقمة من طعام أو شربة من حساء أخذها، وكذلك العمر لن تموت نفس حتى تستوفي ما كتب الله لها من العمر وإن كَانَ لحظة واحدة أو نفساً واحداً، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد أحصى كل شيء، وهو العليم بكل شيء، وهو الذي قدر مقادير كل شيء، طويت الصحف ورفعت الأقلام، وما عَلَى العباد إلا التسليم والانقياد والإذعان والإيمان بكل ما يقدره الله عَزَّ وَجَلَّ ويقضيه.
أما حديث أم حبيبة بنت أبي سفيان - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما - فهو حديث صحيح، وقد دعت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهى تدعو الله أن يمتعها بزوجها رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبأبيها وبأخيها، وهكذا النفس البشرية تتمنى وتتعطش إِلَى الخلود، وتدعو وترجو أن تخلد أو يخلد من تحب، وهذا شيء موجود في النفس البشرية، وليس هذا بذاته بمحظور مادام أن الله تَعَالَى قد جعله، وله فيه حكم.(1/324)
وهذا الشيء هو الذي جعل أبانا آدم يطيع الشيطان في قوله: إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ [الأعراف:20] لما أغراه الشيطان بالخلود ولأن النفس الإِنسَانية تكره الموت والانقطاع وهذا هو الذي أشغل أبانا عن قضية أنه إذا أكل وقع في معصية الله عَزَّ وَجَلَّ، وأنساه عما أمر به الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فالشاهد أن أم حبيبة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها لما دعت بذلك وسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قد دعوت الله بآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة) ، فلن يزيد عمر أحد يوماً واحداً، ولن يزيد رزقه ذرة واحدة، ولن يتأخر أجله ولو لحظة واحدة بسبب هذا الدعاء الذي قد يدعو به الإِنسَان، أو بأي سبب من الأسباب التي يلجأ إليها الإِنسَان. وأرشدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأولى والأحرى والأجدى فقال لها: (لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئاً عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النَّار وعذاب في القبر كَانَ خيراً وأفضل) وهذا من آداب الدعاء، وهو أن الإِنسَان يسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يعيذه من عذاب النَّار ومن عذاب القبر، ويسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما يتعلق بالنجاة وبالفوز الأخروي، هذا أهم وأولى ما يدعو به الإِنسَان، أما أن يدعو الإِنسَان بأمر فيه اعتداء، كالدعاء بطول العمر -مثلاً- وهو يعلم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد ضرب أجلاً محدوداً، فهذا محرم، ومثله من يدعو الله بجميع أنواع الأدعية التي فيها اعتداء كدعاء الله أن يحي ميتاً من الأموات؛ بل عَلَى الإِنسَان أن يدعو بما فيه خيري الدنيا والآخرة، والأولى أن يدعو الله بما فيه علاقة بالفوز بالجنة والنجاة من النار.
الرد على الجهمية والمعتزلة في قضية تقدير الله للآجال(1/325)
ثُمَّ انتقل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعد ذلك إِلَى بيان الرد عَلَى الجهمية والمعتزلة وخاصة المعتزلة في هذه القضية فذكر: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق الخلق وخلق أعمالهم، وخلق الموت وأسباب الموت، وخلق الحياة وأسباب الحياة، فهو الخالق لذلك كله، بخلافالمعتزلة الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، فعلى قولهم: لو أن أحداً قتل أحداً، فإن هذا القاتل قد قطع أجل المقتول الذي لو لم يقتله لعاش حتى يبلغه، ولهذا يقتل القاتل!
فرد عليهم المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي خلق الموت، وخلق أسباب الموت، وهو الذي قدر أن هذا يموت بالحرق، وهذا بالغرق، وهذا يقتل بالسيف وهذا بالمرض.
أما المعتزلة فقولهم واضح البطلان؛ لأنه يستلزم إثبات أجلين: أجلاً حقيقياً: وهو الذي قدر كما يقولون، وأجلاً واقعياً: وهو الوقت الذي بقي للمقتول.
وهذا باطل؛ لأنه لا يليق أن ينسب إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أنه جعل للعبد أجلاً يعلم أنه لا يعيش إليه! وما الفائدة أن يجعل الله له أجل وهو يعلم أنه سيقتل دون أن يدركه، أو أن يجعل أجله أحد الأمرين كفعل الجاهل بالعواقب، وهَؤُلاءِ المعتزلة يقولون: إن الله أذن أن يعيش العبد ستين سنة -وأصل ضلالهم أنهم يقولون: إن أفعال العباد لا يخلقها الله- فلما قُتلَ وعمره أربعين سنة، فمعنى هذا أن الله عَزَّ وَجَلَّ جعل له أجل أربعين، وأجل ستين إن لم يقتله أحد.
وإذا قتله أحد فيما دون ذلك فيكون هذا هو الأجل الحقيقي، فكأنهم والعياذ بالله ينفون العلم عن الله عَزَّ وَجَلَّ بدليل أنه لا يعلم أنه سيقتل، كل ذلك حتى يهربون من قضية أن الله هو الذي خلق أفعال العبد؛ لأنهم قالوا: إذا كَانَ الله هو الذي خلق فعل العبد فكيف يجازيه عليه؟ وإنما يجازى القاتل بالقتل حداً؛ لأنه قطع الأجل وهذا دلالة عَلَى الفعل إذا كَانَ الله خلق الفعل.(1/326)
والرد عليهم كما ذكر المصنف: وجوب القصاص والضمان عَلَى القاتل وذلك لارتكابه المنهي عنه ومباشرته إياه برضاه وباختياره، فالذي قتل مسلماً معصوماً بريء الدم برضاه وباختياره مستوجب للقتل ومستحق له؛ لأنه ارتكب ما نهى الله تَعَالَى عنه، ولهذا فإن القاتل إذا كَانَ مجنوناً - مثلاً - فإنه لا يقتل وهذا دليل عَلَى أن القاتل يقتل، لا لأن القاتل قطع أجل الله الذي قدره للمقتول، كما تزعم المعتزلة، بل من أجل أن القاتل ارتكب ما نهى الله عنه ومباشرته السبب المحظور.
ثُمَّ يقول: (وعلى هذا يخرج قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صلة الرحم تزيد في العمر) أي: سبب طول العمر) ولفظ الحديث: (من أراد أن يُنسأ له في عمره، ويبارك له في رزقه، فليصل رحمه) .
وقد يشكل فهم هذا الحديث عَلَى كثير من النَّاس مع ما قد قدره الله وكتبه من الآجال - كما في حديث ابن مسعود - وحتى يزول ذلك الإشكال لا بد أن يعلم أن الله خلق النتائج مثل الموت والحياة، وخلق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأسباب: فقدر أن عمر هذا الإِنسَان ستين سنة -مثلاً- وقدر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن من أسباب كون عمره ستين سنة أنه يصل رحمه، كما لو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قدر عمر إنسان ثمانين سنة، فلا يسلط عليه وباء ولا داء بل يرزقه الصحة والعافية، فهذه أسباب خلقها بها طال عمر هذا الإِنسَان إِلَى الثمانين، وما قيل في هذا الإِنسَان يُقال في الإِنسَان الأول الذي عمر ستين سنة فكانت صلة الرحم سبباً لطول عمره إِلَى هذا القدر، وعلى هذا فلا يفهم أن من المفترض أن يكون عمر إنسان ما خمسين سنة، فلما جَاءَ بصلة الرحم زاد عمره إِلَى السبعين مثلاً.
قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:(1/327)
[ثبت له صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى مراتب المحبة وهي الخلة، كما صح عنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) وقَالَ: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرحمن) والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قَالَ: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومُحَمَّد حبيبه.
وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إِلَى كل خليل من خلته) والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران: 76] ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 222] .
فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه التِّرْمِذِيُ الذي فيه: (إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت.
والمحبة مراتب:
أولها: العَلاقَةُ، وهي تعلق القلب بالمحبوب.
والثانية الإرادةُ، وهي ميل القلب إِلَى محبوبه وطلبه له.
الثالثة: الصَبابةُ، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور.
الرابعة: الغَرَامُ، وهي الحب اللازم للقلب ومنه الغريم لملازمته، ومنه: إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] .
الخامسة: المَوَدَّةُ، والود، وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم: 96] .
السادسة: الشَّغَفُ، وهي وصول المحبة إِلَى شغاف القلب.
السابعة: العِشقُ، وهو الحب المفرط الذي يخاف عَلَى صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تَعَالَى ولا العبد في محبة ربه وإن كَانَ قد أطلقه بعضهم، واختلف في سبب المنع، فقيل: عدم التوقيف، وقيل: غير ذلك، ولعل امتناع اطلاقه: أن العشق محبة مع شهوة.(1/328)
الثامنة: التَّتَيُّمُ، وهو بمعنى التعبد.
التاسعة: التَّعَبُّدُّ.
العاشرة: الخُلَّة، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه.
وقيل: في ترتيبها غَيْرُ ذلك.
وهذا الترتيبُ تَقْرِيبٌ حسن يعرف حسنه بالتأمل في معانيه.
واعلم أن وصف الله تَعَالَى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تَعَالَى وعظمته، كسائر صفاته تَعَالَى وإنما يوصف الله تَعَالَى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص.
وقد اختلف في تحديد المحبة عَلَى أقوال، نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيديها إلا خفاء.
وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إِلَى تحديد كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:
يقول الإمام: الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [وحبيب رَبِّ الْعَالَمِينَ] هذه الجملة معطوفة عَلَى الجمل السابقة في وصفه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحديث عنه.
وموضوع المحبة وعلاقتها بصفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الموضوعات التي ستأتي إن شاء الله في آخر الكتاب، وإن كانت أيضاً لا تأتي بالتفصيل اللازم، وإنما تأتي في مبحث الحديث عن الخُّلة والمحبة في الفقرة التي يقول فيها الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ: [ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً وكلم الله موسى تكليماً إيماناً وتصديقاً وتسليماً] .
الرد على من نفوا محبة الله
صفة المحبة اختلف فيها أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مع الجهمية والمعتزلة، فأما الجهمية ومن اتبعهم، فإنهم قالوا: إن الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لا يُحِب ولا يُحَب، فنفوا العلاقة من الطرفين، قالوا: فالله تَعَالَى لا يجوز أن نصفه بأنه يحب أحداً من خلقه، لأن هذا مما لا يليق في حقه، كما يزعمون.(1/329)
وقالوا أيضاً: إن الله تَعَالَى لا يُحَبُّ، فلا نقول إن أحداً يحب الله، لأن الله يتنزه أيضاً عن ذلك بزعمهم، وقولهم هذا ليس عليه أي دليل لا من كتاب ولا من سنة ولا عقل، إلا أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى حجب عقولهم وقلوبهم عن أشرف شيء، كما يقول ذلك الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: هَؤُلاءِ الذين أنكروا محبة الله قد جعلوا عَلَى قلوبهم هذا الحجاب الغليظ الكثيف بينهم وبين الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وأي حجاب وأي غفلة أعظم من أن يعتقد الإِنسَان [أنه لا يحب الله وأن الله لا يحبه] ، نسأل الله السلامة والعافية وهذا من طمس القلوب، وهذه عقيدة ليس عليها أي دليل، إنما هي مقولة منقولة عن علماء وفلاسفة اليونان الأقدمين -وهم مُشْرِكُونَ- نقلها عنهم الجهمية وجعلوها ديناً يدينون به وأرادوا أن يفرضوها عَلَى الأمة الإسلامية أيضاً، فَقَالُوا: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتنزه عن أن يُحِب أو أن يُحَب، ورد عليهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بما لا يخفى من الأدلة.
ومنها ماذكره المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ من الآيات وهي: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [آل عمران:76] إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] .
فالآيات والأحاديث الكثيرة صريحة في أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُحِبُ ويُحَب.(1/330)
بل إن المحبة هي أساس كل عمل وكل عبادة قلبية، كما أن أسس كل عبادة عملية هو الصدق، فالمحبة أساس لجميع العبادات، وبيان ذلك أن الإِنسَان إذا صلى وهو لا يجب الصلاة ولا يحب من يصلي له، فإن صلاته لا تكون مقبولة، وكذلك إذا زكى أو حج وهو لا يحب من زكى له ولا من حج له فهذه الزكاة وهذا الحج ونحوهما من الأعمال لا تُقبل، وهكذا لوتأملنا لوجدنا أنه كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في مجموع الفتاوى: "إن المحبة هي أساس كل عمل باطن، من أعمال القلب، ثُمَّ بعد ذلك تتفرع منها بقية الأعمال " فأي عمل تعمله الجوارح ولا يرتكز عَلَى المحبة القلبية، فإنه مثل ما لو كَانَ لا يرتكز عَلَى الصدق، فلو أن أحداً صلى، وهو غير صادق في صلاته كَانَ يصلي صلاة كذب واستهزاء، فإن صلاته لا تقبل.
ولهذا يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] فالمُشْرِكُونَ يحبون الله، ويحبون أصنامهم سواء، ولكن المؤمنين يحبون الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أكثر من محبة الْمُشْرِكِينَ لله تَعَالَى ولأصنامهم عَلَى القولين المذكورين في الآية، فالمؤمنون أشد حباً لله والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يحب من يتقرب إليه باتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وطاعته كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31](1/331)
وكما جَاءَ في حديث الولي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبُّ إلي مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها ... ) الخ، وهذا الحديث أيضاً من الأدلة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحب وأن محبته تَبَارَكَ وَتَعَالَى درجة عالية، يحظى بها الإِنسَان بالاجتهاد في طاعة الله، والاجتهاد في اتباع رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا ما يتعلق بإثبات صفة المحبة، لكن الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ قال في وصف نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [وحبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ] فهل معنى هذا أنه هو وحده حبيب رَبِّ الْعَالَمِينَ، أو أن معناه أن صفة المحبة أكمل من غيرها حتى تقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الواقع أن محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يشترك فيها المؤمنون جميعاً، وإن كَانَ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحظ الأوفر من محبة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
إذاً القضية ليست من أجل الاختصاص، فإذا كَانَ الإمام الطّّحاويّ اختارها؛ لأنها أكمل وأعلى، فإن هذا القول مرجوح؛ لأن المحبة ليست هي أعظم الصفات في بابها حتى نقول إن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو حبيب رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بل أعظم صفة في هذا الباب أن نقول: هو خليل الله وهو خليل الرحمن.
الخلة أعلا من المحبة(1/332)
فقولنا: إن محمداً خليل الله أو خليل الرحمن أعلى وأفضل من قولنا: حبيب الله أو حبيب الرحمن، ولهذا استدل عليه المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فقَالَ: إنه قد ثبت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلى مراتب المحبة، كما سيأتينا بيان أنواع المحبة وأعلى مراتبها وهي الخلة، وهي ثابتةٌ له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) فهما خليلان للرحمن جل شأنه،
ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الذي رواه مسلم: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) هذا لو كنت، أي: لو كَانَ لي من البشر خليل، لما في الروايات الأخرى: (إني أبرأ إِلَى الله أن يكون لي منكم خليل) فليس له من المخلوقين خليل، ولو أنه كَانَ متخذاً أحداً خليلاً من الصحابة لاتخذ أبا بكر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خليلاً، ولهذا لما (سُئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيُّ النساء أحب إليك؟ قال: عَائِِِشَةَ، قَالَ: ومن الرجال؟ قَالَ: أبوها) وهوأبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حبيب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأحب النَّاس إليه من المخلوقين، ولو كَانَ متخذاً خليلاً غير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لاتخذ أبا بكر خليلاً، لأنه أحب أصحابه إليه، ولكنه خليل الله فقط، كما أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اتخذ إبراهيم خليلاً، فهما خليلان إبراهيم ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولهذا قَالَ: (ولكن صاحبكم - يعني نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خليل الرحمن) .(1/333)
وهذا معلوم لا ينكره أحد إلا الجهمية كما قلنا، لكن الذين اختلفوا فيه من غير الجهمية قالوا: إن إبراهيم خليل الله ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب الله، واضطرهم هذا إِلَى أن يقولوا: إن المحبة أفضل من الخلة؛ لأنهم يرون أن ما يثبت لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل مما يثبت لإبراهيم وأعلى.
فَقَالُوا: إن المحبة أعلى من الخلة؛ لأن إبراهيم خليل الله ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حبيب الله، واستدلوا بحديث رواه ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما أن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إن إبراهيم خليل الله ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) وهو حديث في سنده ضعاف لا تثبت به حجة، ولا ينهض لمعارضة الأحاديث الصحيحة التي سبقت.
وهذا القول أن المحبة أعلى من الخلة قاله بعض الصوفية لأنهم يتعلقون بكلمة المحبة.
وقد ذكرنا عبارةالسلف في ذلك وهي: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: خارجي- ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله تَعَالَى بالحب والخوف والرجاء فهو المؤمن الموحد" فالخوارج يعبدون الله تَعَالَى بالخوف وحده، والمرجئة يعبدون الله بالرجاء وحده والصوفية يعبدون الله تَعَالَى بالمحبة وحدها كما يزعمون.
ولهذا يستحلون كثيراً من المحرمات ويتركون الواجبات إِلَى حد أن بعضهم يترك جميع التعبدات ويقول: إن الحبيب لا يعذب حبيبه حتى أن بعضهم يقول: إن قلبي مشغول بمحبة الله، وإذا أشغلتني محبته عن عبادته وعن الصلاة له فإنه لن يؤاخذني عَلَى شيء من ذلك لأنه يعلم أنه ما أشغلني عن طاعته وعن صلاته إلا محبتي له، هكذا يزعمون وهذه هي الزندقة، ولذلك قال العلماء هذه المقالة: "من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق"، وهكذا كَانَ حالهم.(1/334)
إذاً يبطل القول بأن الخلة خاصة بإبراهيم عَلَيْهِ السَّلام، وأن المحبة خاصة بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سيما وأنَّا قد عرفنا أن الله تَعَالَى يحب المتقين، ويحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب المحسنين، إِلَى غير ذلك مما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فليست المحبة خاصة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل يدخل معه فيها كل من عمل عملاً صالحاً يرضاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويحبه.
ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- مراتب المحبة ليبين لنا أن الخلة هي أعلى مراتب المحبة، والمحبة مراتبها كثيرة، ولكلٍ فيها وجهة نظر من حيث ترتيبها وتقسيمها.
فبعض العلماء يرى أن هذه الدرجات من قبيل المترادفات؛ لأن الشعراء العرب عندما يذكرون الحب أو العشق أو الصبابة أو الخلة أو التتيم يذكرونها عَلَى أنها مترادفات، يعطف بعضها عَلَى بعض حسبما تقتضيه ضرورة البيت الشعري، فَيَقُولُ: إنه يحبه أو متيم به ... إلخ.
لكن بعض العلماء حاول أن يتلمس فروق بين هذه الأنواع ويجعلها درجات، وهذا هو ما ذكره المُصنِّفُ هنا نقلاً عن الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، فإنه حاول أن يُفصّل هذه الأنواع وهذه الأقسام، وأشار إِلَى ذلك أيضاً شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ.
العلاقة
أول مراتب المحبة هي: التعلق، أو العلاقة ومعناها: وجود علاقة بين طرفين، وهذه هي الدرجة الدنيا في المحبة، وقد وردت في شعر العرب، كما يقول قال الأعشى:
عُلّقتها عرضا وعَلِّقت رَجُلاً غيري وعُلِّق أخرى ذلك الرَّجُل
فعُلق وتعلَّق بمعنى أحب.
وعُلِّقتها: أي حُبِّبْت إلي وأحببتُها وحُبِّبْتُ فيها.
وعُلِّقت رجلاً غيري، أي وهي تعلقت رجلاً آخر.(1/335)
وعُلِّق أخرى ذلك الرجل: والرجل تعلق امرأة أخرى، أي: أحب تلك المرأة الأخرى، والعلاقة لم ترد في صفات الله تعالى، فلا يجوز لأحد أن يقول تعلقت الله، ولا يقول: إن الله تعلقه.
الإرادة
والثانية: الإرادة وهي ميل القلب إِلَى المحبوب وطلبه له، وقد وردت الإرادة بمعنى المحبة لله، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقولوَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:28] فجاءت الإرادة في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو أعظم مراد، ولهذا كَانَ أيُّ عملٍ خالص لوجه الله، فإنه يُقَالَ: إنه أريد به وجه الله، فالذين يريدون وجهه في قوله تعالى: ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّه [الروم:38] أي: يحبونه ويطلبونه، فهو مرادهم ومتمناهم وغايتهم، فأعظم غاية وأعظم مراد وأعظم مطلوب هو وجه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وكذلك إذا قلنا: إن الله يريد منا الصلاة أو يريد منا الصيام، أو يريد كذا مما شرعه الله.
فمعنى ذلك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحبه ويطلبه منا، كما سبق في أقسام الإرادة.
الصبابة
والثالثة: الصبابة وقد جاءت في أشعار العرب، والعرب كانوا يسمون المحب صباً، فيُقَالُ: فلانٌ صبٌ، أي: محب عاشق مُتيّمٌ إِلَى آخر هذه الأوصاف؛ لأنها مشتقة من انصباب القلب وتوجهه وميله.
فكأن صاحبه لا يملكه وإنما هو منصب مثل انصباب الماء في المنحدر فلا يملكه صاحبه، والصبابة لا تطلق عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ لا منه ولا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الغرام(1/336)
والمرتبة الرابعة: الغرام، ومعناه: الحب الملازم للقلب كملازمة الغريم للغريم، يُقالُ: فلانٌ غَرِيمُ فلان، يعني خصمه الملازم له، الذي لا يدعه ولا يفكه، ولذلك قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في سورة الفرقان في الحديث عن جهنم: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً [الفرقان:65] أي: ملازماً دائماً، نسأل الله العفو والعافية، ولهذا لا يوصف الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالغرام وكذلك لا توصف محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالغرام.
ويجب أن يعلم أن هذه الكلمات: الغرام والعشق والصبابة والعلاقة والتعلق، تستخدمها الصوفية، في حق الله سبحانه وتعالى، ولذلك يأتون إلى قصيدة قالها بعض الشعراء في معشوقته الحسية وهي المرأة فأخذوها وجعلوها في حق الله سبحانه وتعالى كما هي تماماً مثل البيت الذي كانوا يرددونه دائماً وينسبونه إلى الشبلي يقول:
إنَّ بيتاً أنتَ ساكنُهُ غيرُ محتاجٍ إِلَى السُرج
وجهكَ المأمونُ حُجتنَّا يومَ يأتي النَّاس بالحججِ
هذه أصلها قصيدة قالها أحد الشعراء في محبوبته، يقول: إن البيت الذي هي فيه لا يحتاج إِلَى سراج، وأن وجهها حجته يوم يأتي النَّاس بالحجج، يعني: إذا سأله الله لماذا ضيعت الفرائض وضيعت الطاعات، ما هي حجتك في دنياك؟ فَيَقُولُ: هذه هي الحجة، فوجدوا أن الأنسب في المعنى أن يكون وجه الله هو الحجة يوم يأتي النَّاس بالحجج، وفعلاً من حيث المناسبة إن الشاعر بالغ حيث جعل وجه محبوبته هو الوجه المأمون وهو الحجة، لكنهم جاءوا بها كما هي وجعلوها في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ونتج عن معنى البيت الأول:
إنَّ بيتاً أنتَ ساكنُهُ غيرُ محتاجٍ إِلَى السُرج(1/337)
اعتقادُ أنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يحل في البيوت، كما يحل غيره تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهم إذ يقولون هذا البيت وأمثاله، إن جاءهم أحد من أهل السنة وسألهم: لماذا تطلقون هذا عَلَى الله؟
قالوا: نَحْنُ لا نعتقد هذا، ولا نقصد الحلول، وإنما استشهدنا ببيت من كلام العرب.
بينما التلاميذ والمريدون حينما يقولونه تقع في قلوبهم هذه المعاني وتثبت وهو أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يحل حيثما كانوا موجودين وأمثلة ذلك كثيرة.
فكانوا يأتون إِلَى أرق الأشعار مثل أشعار مهيار الديلمي وأشعار عمر بن أبي ربيعة، ويجعلون أبياتهم الشعرية التي تغزلوا بها في من أحبوها من النساء العشيقات في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك ينبغي لنا أن نعرف ما هي الألفاظ التي يجوز أن تستخدم في حق الله عَزَّ وَجَلَّ، وما هي الألفاظ التي لا يجوز أن تستخدم في حقه تعالى.
المودة
الخامسة مرتبة المودة: والود: هو صفو المحبة ولُبُّها؛ لأن خلاصة المحبة يسمى وداً، وقد جَاءَ هذا في القُرْآن يقول تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96] ومن صفاته تَعَالَى الودود، فهو ودود جل شأنه، وهذه من الصفات التي وردت وثبتت له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
الشغف
والمرتبة السادسة هي الشغف، يقولون: باطن القلب الرقيق جداً هذا هو شغافه، فما ملك شغاف القلب، ووصل إليه فهذا غاية المحبة وأعلى مما سبق من المراتب، وقد جَاءَ ذلك في القُرْآن الكريم عند الحديث عن امرأة العزيز في حبها ليوسف عَلَيْهِ السَّلام عَلَى لسان النسوة اللاتى في المدينة، قلن: قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً [يوسف:30] يعني وصلت محبته في قلبها إِلَى شغاف القلب وباطنه، فتمكنت بحيث لا يمكن أن تخرج، ولا يمكن أن تغادره، ولا يمكن أن تنسى هذا الحب ولا أن تلتفت عنه.
العشق(1/338)
المرتبة السابعة العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف عَلَى صاحبه منه، وقد وقع غرائب منه لكثير من الشعراء مثل قيس وليلى، وأمثالهم من العشاق حتى يصل بهم الأمر -نسأل الله السلامة والعافية- إِلَى حد أنه يكون كالمجنون يتبعها أينما ذهبت، يهيم بها فينشد الأشعار فيها وهو في كل مكان؛ لأن عشقها قد تمكن في قلبه حتى قالالمجنون:
أُصلي فلا أدري إذا ما ذكرتها أثنتين صليت العشاء أم ثمانيا
وما بي إشراك ولكن حبها وعظم الهوى أعيى الطبيب المداويا
نسأل الله العافية، يقول: أنا لا أشرك بالله؛ لكنني عندما أصلي لا أدري أصليتُ اثنتين أو ثمانيا؛ لأن قلبه قد شغله العشق ومحبة هذه المعشوقة حتى نسي كل شيء، هذا الوصف بهذه اللفظة أيضاً لا يطلق عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يُقَالَ: إن الله يعشق أحداً، ولا يجوز أيضاً أن يُقَالَ: إن أحداً يعشق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا لا يليق؛ لأن هذه الكلمة بالذات هي أكثر الأسماء دلالة عَلَى المحبة الشهوانية والحب الإباحي.
فإذا قيل: عشق أو معشوق فهو الحب الشهواني الإباحي وهذا ينزه عنه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى علواً كبيراً- وكذلك بالنسبة للمخلوقين، ومع ذلك فإن الصوفية يستخدمون هذه اللفظة كثيراً جداً في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علواً كبيراً، ويستخدمونها في حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً، حتى أن بعضهم يكتبها عَلَى ورقة ويلصقها عَلَى البيت وعلى السيارة هكذا (عاشق النبي يصلي عليه) سُبْحانَ اللَّه!
كيف يُقال عاشق النبي؟ كيف تُستخدم هذه اللفظة التي يستخدمها الإباحيون والشهوانيون في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فضلاً عن كون هذه الطريقة بدعية، وحجتهم أنهم يقولون: لنذكرالنَّاس بالصلاة عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/339)
ولذلك لما قَالَ المُصْنِّفُ هنا: [وإن كَانَ قد أطلقه بعضهم] يقصد الصوفية، ثُمَّ يذكر أن العلماء أو الباحثين اختلفوا في سبب منع اطلاق العشق عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منه وإليه، فقيل: لأنه لم يرد وهذا كلام صحيح.
وقيل: غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة، ولا تعارض بين السببين؛ لأنه أولاً: لم يرد، وما لم يرد لا نطلقه عَلَى الراجح، والأمر الثاني أيضاً: أن العشق كما بينا لا يكون إلا مع الحب الشهواني الإباحي، فهذه اللفظة مستهجنة ومستقذرة في حق الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فلا يجوز أن تطلق عليه.
التَّتِّيم
المرتبة الثامنة: وهو بمعنى التعبد، وكأن محبة المحبوب قد استعبدت هذا المحب حتى صار متيماً وكثيراً ما ترد هذه الكلمة أيضاً في أشعار العرب، وفي أخبار العشاق، فيُقَالُ: متيم بها، أو تيمتني، ومن أشعار الصوفية في مجالسهم: تيموني هيموني، أي جعلوني متيماً متعلق القلب ... الخ.
وتَيَّم: معناها عَبَّد، ولذلك يُقَالَ: بنوا تيم الله، وتيم الله قبيلة من أحد أفخاذ قريش التي منها أبو بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فتيم الله معناها: عبد الله، وفلان متيم بالحب أي: مستعبد بالحب وصلت به محبته إِلَى درجة العبودية للمحبوب.
التعبد
المرتبة التاسعة التعبد: ومعناها أن يصل به الحب إِلَى أن يتعبد تعبداً ويقول إنه عبد، كما في البيت المشهور عن عنترة بن شداد:
وأنا يا عبل عبد في الهوى ملك يمناك وفي القرب ابن عم
يعني هو ابن عمها في النسب، ولكنه في الحب عبد، وكثيراً ما يذكر ذلك الشعراء.(1/340)
يقول: وأصبحت في الحب عبدا، أي: أنه قد أصبح في الحب عبداً رقيقاً يملكه المحبوب أو المحبوبة، نسأل الله أن يعافينا وإياكم من هذا الداء الخبيث، فداء العشق داء عضال، والمناسبة فإن كتاب الجواب الكافي لابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ، كَانَ سبب تأليفه أن رجلاً عشق واجتهد في أن يزيل هذه المصيبة عن قلبه، فلم يستطع ويريد السبيل إِلَى علاجها أو إِلَى حلها.
فكتب إِلَى ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ سؤالاً فيه الحياء وفيه اللطف والرقة، قَالَ: ما تقولون رحمكم الله أو ما رأيكم في رجل ابتلي ببلية فصبر وسكت ... الخ، ففهم ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ المعنى بأنه ابتلي بعشق امرأة وتمكن ذلك من قلبه ولم يستطع أن يفارقه فما هو الحل؟ فكتب الإمام ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي وكان هذا جواباً كافياً فعلاً، تحدث فيه عن أضرار المعاصي جملة وخطرها، ثُمَّ فصل الكلام في ضرر العشق - ومفاسده وفيما يجره عَلَى الإِنسَان، ومن أعظم ما ذكره وما نبه عليه في ذلك أن الإِنسَان إذا تعلق قلبه شيئاً ما وعشقه وأحبه فإنه يذكره عند موته، وعند الخروج من هذه الدنيا والإقبال عَلَى الآخرة، وينسى الأمور الثانوية، ولا يكون في قلبه إلا الشيء الذي كَانَ في دنياه والأساس الذي كَانَ متمكناً من قلبه وشاغلاً ذهنه هو الذي يذكره عند الموت، ولذلك يخشى عَلَى هَؤُلاءِ العشاق أن يموتوا عَلَى غير الإسلام؛ لأن أحدهم يأتيه الموت وهو لا يتذكر إلا هذه المعشوقة أو هذه الحبيبة.(1/341)
وذَكَرَ عَلَى ذلك أمثلة من واقع التاريخ مثل الرجل الذي جاءته امرأة تريد حمام، والحمام معروف عند العرب قديماً أنه مكان كبير فيه أدوات النظافة والاستحمام وما أشبه ذلك، فكانت تريد الحمام، وكان بجواره حمام منجاب فوقفت وسألت هذا الرجل، فقالت له: أين حمام منجاب، فَقَالَ لها من هنا، ودلها عَلَى بيته فدخلت البيت ودخل هو معها البيت وأراد أن يفعل بها الفاحشة ولم يستطع، المهم أنه تعلقها من ذلك الوقت، فابتلاه الله بمحبتها فوقعت في قلبه فعمل في ذلك أبياتاً:
يارب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إِلَى حمام منجاب
وكان يكرر هذه القصيدة، فلما جاءه الموت -نسأل الله السلامة والعافية ونسأل الله لنا ولكم حسن الختام- قالوا له: قل لا إله إلا الله، اذكر الله، فقَالَ:
يارب قائلة يوماً وقد سألت أين الطريق إِلَى حمام منجاب
وما زال والعياذ بالله يكرر هذا البيت حتى قبضه ملك الموت - نسأل الله السلامة والعافية - فهذا داء خطير ابتلى به النَّاس في كل زمان وفي كل مكان، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ السَّلام في القُرْآن ذكر من العبر المستفادة: كيف تتمكن هذه الشهوة، وكيف يكون العشق، وما هو العلاج الذي يتخذ في علاج هذا المرض، وسبق أن قلنا: إن التعبد هو: أن يستشعر المحب أنه قد صار عبداً لمحبوبه، وهذه اللفظة تطلق عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى منا وهذا معلوم ولا خلاف فيه، لكن -كما تعلمون ولا خلاف في ذلك- لا يطلق عَلَى محبة الله لنا أنها تعبدية، تَعَالَى وجل شأنه عن ذلك.
الخلة
المرتبة العاشرة الخلة: وهي التي من أجلها جئنا بهذه المراتب، لنصل إِلَى أعلى درجات المحبة وهي الخلة، فالخلة هي أعلى ما يتصور من درجات المحبة، حتى في كلام العرب، يقول الشاعر:
قد تخللتِ مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً(1/342)
أي الذي تخللت محبته مسالك القلب ومسالك الروح فهذا يسمى خليل، وأما بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندما قَالَ: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) لأنه قد اتخذا الله خليلاً، فمحبة الله قد تخللت مسالك الروح منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يزاحمه أحد من المخلوقين عَلَى الإطلاق، وكذلك بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإن الله تَعَالَى يحبه محبة لا يحبها أحداً من العالمين، يحب إبراهيم ويحب محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محبة لا يحبها غيرهما من الناس.
وأما المعنى اللغوي وهو: التخلل، فلا يكون إلا في حق المخلوقين ليس في حقه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
هذه هي المراتب العشر، وكما يقول المصنف: [إنه قد قيل فيها غير ذلك] ، فقد قيل: إنها من باب المترادفات، وقيل: إن لها تفسيراً آخر، لكن هذا الترتيب من أفضل أنواع الترتيب، ومن تأمله وجد أنه من أحسن ما ذكر في الترتيب.
لما ذكر المُصنِّفُ المراتب العشر للمحبة بيّن أنها لا تطلق كلها عَلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنما يطلق ما ورد، فقَالَ: [واعلم أن وصف الله تَعَالَى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تَعَالَى وعظمته كسائر صفاته تعالى] .
نثبت له أنه يُحب، ونثبت أنه اتخذ إبراهيم خليلاً، واتخذ محمداً صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خليلاً، لكن خلته تَعَالَى ومحبته تليقان بجلاله، لا تشبه خلة المخلوقين ولا محبتهم.(1/343)
إنما يوصف الله تَعَالَى من هذه الأنواع الأربعة فقط: بالإرادة، وبالود، وبالمحبة، وبالخلة فالإرادة قد جاءت في الوحي كما ذكرنا في مبحث الإرادة وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ [النساء: 27] وهي بمعنى: يُحب ذلك، فهذه مرتبة من مراتب المحبة التي هي الإرادة فقد ورد النص بها في حق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ووردت صفة الود إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً [مريم:96] وصفة المحبة: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] ، وصفة الخلة (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً) هذه الأربع فقط هي التي يوصف بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والسِّتُ الباقية لا يوصف بها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهي: الغرام، والصبابة، والعشق، والتتيم، والشغف، والعلاقة.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وقد اختُلفَ في تحديد المحبة عَلَى أقوال نحو ثلاثين قولاً] والتحديد معناه: التعريف للمحبة، والمتكلمون اختلفوا في ذلك، فمنهم من يقول: تعلق القلب، ومنهم من يقول: ميل القلب وإرادته الشيء، ومنهم من يقول غير ذلك، إِلَى أن أتوا بثلاثين تعريفاً.
وكلها لا فائدة فيها؛ لأن توضيح الواضح من المشكلات، والمحبة أوضح من أن نُعرّفها الطفل الصغير جداً، فلو قلت له: تُحب كذا، فيقول لك: نعم، فهو يعرف معنى المحبة.(1/344)
فلا داعي إِلَى القول أنه لا بد أن نعرف المحبة، ونضع لها حداً منطقياً، وهذا الحدّ يكون جامعاً مانعاً لا يدخل عليه اعتراض؛ لأن المحبة شيء واضح لا يحتاج إِلَى أن يُعرَّف، وهذه القضية من القضايا التي نُعرَفُ بها -نحنأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ - بطلان ما يُسمى بعلم المنطق، وننقض بها هذا الذي يسمونه المنطق؛ لأن المناطقة يقولون: إن الأشياء لا تدرك حقائقها إلا بالحدود والتصور، كما يقولون: لا ينال التصور إلا بالحد، فلا بد أن نضع حداً عَلَى الطريقة المنطقية، وذلك بأن تضع التعريف، ثُمَّ بهذا التعريف تعرف الشيء وتميزه عن غيره، وبغير ذلك لا نعرف أي شيء.
فرد عليهم شيخ الاسلام ابْن تَيْمِيَّةَ؛ بل رد عليهم جميع العقلاء أن النَّاس يدركون حقائق الأشياء ويعرفونها من غير تعريف، والنحويون الأولون لما أرادوا أن يعرفوا ما هو الاسم؟ وما هو الفعل؟ كانوا يعرفون الأشياء تعريفاً بسيطاً، كقوله: الفعل مثل: ضرب، والاسم مثل: زيد، والحرف مثل: من، وفي، وعلى، فلما دخل علم المنطق النحو، عرَّفوا الاسم بأكثر من سبعين تعريفاً، وكذلك تكلم الفقهاء في تعريف الزكاة قبل أن يعرفوا علم المنطق، فلما دخل المنطق قالوا في تعريف الزكاة: إخراج مالٌ مخصوص في وقت مخصوص لطائفة مخصوصة.
فإذا قلنا لهم: إن الزكاة معروفة، قالوا: لا، هذا هو التعريف الجامع المانع، وهو ليس فيه فائدة، إنما هو كلام كله لا ينفع.
وهكذا المحبة ولذلك نقول: إن الأشياء الواضحة لا تحتاج إِلَى تحديد، كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك، فتعريف الجوع عجز عنه الأطباء والفلاسفة، وقالوا عن الماء: إنه سائل شفاف ... سُبْحانَ اللَّه!(1/345)
إن الماء لا يجهله أي إنسان، وهذا مما نعرف به فساد ما يُسمى علم المنطق، والمناطقة إنما جاءوا بهذا العلم لمواجهة مجانين السفسطة الذين أنكروا حقائق الأشياء، فتثبت لهم الحقائق عن طريق التعريف العقلي المنطقي، حتى يؤمنوا بها ويثبتوها، هكذا كَانَ يريد علماء اليونان لمَّا وضعوا علم المنطق.
والمنطق قسمان:
القسم الأول: الحدود وهو هذا الذي تكلم عنه المُصنِّفُ هنا.
والقسم الثاني: في البراهين عَلَى صدق القضايا.
وخلاصة ما سبق أن المحبة أوضح وأجلى من أن تعرف أو يكون لها حد، فمحبته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي عَلَى المعنى الذي يليق بجلاله مثل سائر صفاته، ومحبة المخلوقين له سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معروفة ولا تحتاج إِلَى إيضاح ولا تحديد ولا تقييد.
قالأبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء، والأدوات، لاتحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] .
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[أذكر بين يدي الكلام عَلَى عبارة الشيخ رَحِمَهُ اللهُ مقدمة، وهي: أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها فهو ثابت، وما نُفي بها فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كَانَ النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتيها مالا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنىً باطلاً مخالفاً لقول السلف، ولما دل عليه الكتاب والميزان.(1/346)
ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن نصف الله تَعَالَى بما لم يصف به نفسه، ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نَحْنُ متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني: باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني.
وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كَانَ معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:(1/347)
المقصود من كلام المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ هو إيضاح وتبيين قاعدة من القواعد المهمة التي ينبغي لطالب العلم أن يعرفها وهي: ما يتعلق باستخدام الألفاظ أو الإطلاقات التي تطلق في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ما الذي نستعمل؟ وما الذي لا نستعمل من الألفاظ في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ فكل أحد من النَّاس يعبر عن المعني الذي يريده باللفظ الذي يريده، والنَّاس متفاوتون في المعاني، وقد يتفق الكثير من النَّاس عَلَى المعنى الواحد في أنفسهم، لكن يتفاوتون في التعبير عنه بالألفاظ فمثلاً: لو وقع أمر من الأمور أمام مجموعة من النَّاس وأخذتَ هَؤُلاءِ النَّاس واحداً واحداً وسألتهم لوجدت أن هذا عبر بتعبير يختلف عن هذا، وهذا أبلغ من ذاك وهكذا، والجميع يعبرون عن شيء واحد رأوه، فما بالك بالتعبير عن معانٍ غيبية لا تدرك بالحواس فإذاً لم يترك الأمر لاختيار البشر أو إِلَى الرأي الذي يرى الإِنسَان أنه ينزه به الله عَزَّ وَجَلَّ أو يصفه به، إنما كَانَ الأمر كما هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أمراً توقيفياً.
والمقصود هنا هو هذه الألفاظ التي يستخدمها المتكلمون والفلاسفة والتي وقع فيها صاحب المتن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ فإنه استخدم هذه العبارات، كما قال في هذه الفقرة [وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات] أو كسائر المبدعات، فاستخدم عبارات نفى فيها عن الله عَزَّ وَجَلَّ أمراً لم يرده نفيه في الكتاب ولا في السنة فما هو موقف علماء السلف وغيرهم من أمثال هذه العبارات؟
موقف الناس من إطلاق الألفاظ المجملة:
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [أن للناس في إطلاق هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: طائفة تنفيها بإطلاق] يعني: يقولون نَحْنُ لا نستخدم هذه العبارات، بل ننفيها نهائياً، أو ننفي ما دلت عليه هذه العبارات بإطلاق.(1/348)
[وطائفة تثبتها] فيقولون: نَحْنُ نثبت هذه العبارات أو نثبت نفيها سواءً كانت سلباً أو إيجاباً، لأن المراد بها معنىً حسناً يقصد به تنزيه الله عَزَّ وَجَلَّ، فلماذا ننفيها؟ والأولون قالوا: إنها تحمل معنى غير لائق بالله عَزَّ وَجَلَّ، فلماذا نثبتها؟ فهما قولان متقابلان متناقضان.
[وطائفة تُفصِّل وهم المتبعون للسلف] تقول: هذه العبارات المستحدثة لا ننفيها بإطلاق ولا نثبتها بإطلاق، بل نُفصِّل في ذلك.
ومن عمدة هَؤُلاءِ الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فإنه لما وقعت فتنة والقول بخلق القرآن، أُتي بالإمام مقيداً بالأغلال، وأُتي بأئمة الاعتزال والبدع، الذين كانوا قد زينوا الأمر للخليفة وأن هذا عَلَى بدعة -يعنون الإمام أَحْمَد - فكانوا يسألون الإمام أَحْمَد، وكان الإمام أَحْمَد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ورحمه يضع قاعدة عامة في كل مناظرة ثُمَّ بعد ذلك يناقش عَلَى هذه القاعدة يقول: [ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة، يقولون له: يا أَحْمَد قُل القُرْآن مخلوق، فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة، فجاءه رجل من هَؤُلاءِ يدعى برغوث وهو من المعتزلة ومن الجهلة، لا علم له في الكتاب ولا في سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما هو رجل تعلم من كلام اليونان ومن فلسفة المجوس والصابئين، فأصبح يرى ويظن أن هذه الأمور العقلية أعظم مما جَاءَ في الكتاب والسنة وما عرفه السلف، ولهذا تصدى لمناظرة الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ ليفحمه وليبين له أنه عَلَى خطأ.
فقال له برغوث يا أَحْمَد! يلزمك إن قلت: إن القُرْآن غير مخلوق أن تثبت أن الله جسماً؛ لأنه إذا كَانَ غير مخلوق يكون عرضاً، والأعراض والأفعال لا تقوم إلا بالأدوات أو بالأجسام.(1/349)
فقال الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ: أقول في ربي عَزَّ وَجَلَّ أنه كما قَالَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:1-4] وأما الجسم وأمثاله فلا نقول فيه لا نفياً ولا إثباتاً؛ لأن هذا شيء لم يأت لا في الكتاب ولا في السنة ولم يبلغنا عن السلف فلا يلزمني شيء، ولا يلزمني أنه جسم، وهكذا استمر الأمر في أكثر المناظرات.
فهذه قاعدة عظيمة أرساها الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ، وقد أخذها عمن قبله من العلماء ونقلوها لنا، وهي: أننا في كل المعاني المحدثة أو الألفاظ التي تحتها معاني محدثة، فإننا لا ننفي ولا نثبت إلا ما جَاءَ في الكتاب أو السنة أو أقوال السلف هذا هو الذي نستخدمه، وما عدا ذلك فإننا نستفصل: ماذا تريد أيها المثبت؟ وماذا تريد أيها النافي؟ فإن ذكر معنىً حقاً، وقَالَ: أنا أريد بنفي الحدود نفي الجهة، أنا أنزه الله تَعَالَى عن الحلول عن الحركة، وأقصد تنزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن أن يشبه المخلوقات، قلنا: المراد صحيح ولكن عبارتك خاطئة، فعليك أن تنزه الله بما نزه به نفسه أو نزهه به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تتعدي ذلك ولا تخرج عنه.
وإن قَالَ: أنا أقصد بنفي الانتقال ونفي الحركة به أن الله لا ينزل إِلَى السماء الدنيا في الثلث الأخير من كل ليلة، قلنا له: أخطأت وهذا كلام أهل البدع: يردون الحديث الصحيح الثابت المتواتر بأمثال هذه الجدليات والعقليات التي لا أصل لها من الشرع، فلفظك مبتدع ومعناه مبتدع، فنرد اللفظ والمعنى معاً.(1/350)
وإذا نظرت في أي كتاب من كتب الكلام وكتب العقائد البدعية كالأشعرية والاعتزالية فإنك لا بد أن تجد هذه العبارات عنده، ومن الممكن أن تسأل أيّ واحد منهم السؤال البسيط الذي سأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارية التي كانت ترعى الغنم، فعدا الذئب عليها وأخذ منها غنمة فجاء معاوية بن الحكم فصكها، ثُمَّ ندم عَلَى ضربها واستشعر الظلم؛ فأراد أن يكفر عن هذه اللطمة بأن يعتقها، وكانت أمهُ قد نذرت أن تعتق أمة مؤمنة، فيكون بذلك قد أرضى أمه حيث أعتق عنها ووفَّى بنذرها، وأحسن إِلَى هذه الجارية، لكنه لا يدري أتجزئ هذه الرقبة أو لا تجزئ لأنها أعجمية، ولا يدري حقيقة إيمانها؟! فذهب بها إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: (يا رَسُول الله! إن أمي عليها عتق رقبة وإن هذه الجارية ترعى لي الغنم، وإن الذئب قد عدى عَلَى الغنم فأخذ منها شاة، وأنا بشر آسف كما يأسفون، فصككتها صكة فهل تجزئ في العتق) ؟!
والحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه ورواه الإمام أَحْمَد في أكثر من موضع من المسند ورواه كثير من العلماء ولا شك في صحة هذا الحديث، والمراد معرفة أن هذه الجارية مؤمنة أم غير مؤمنة؟ وليس المراد هنا أعلى درجات الإيمان، وإنما إثبات إسلامها، فسألها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أوضح شيء في العقيدة (فَقَالَ لها: أين الله؟ فقالت: في السماء، وأشارت بإصبعها إِلَى السماء) هذا هو السؤال الأول أجابت عليه بالإجابة الصحيحة.
والسؤال الثاني: (قَالَ: من أنا؟ قالت: أنت رَسُول الله، قَالَ: أعتقها فإنها مؤمنة) أي: مسلمة فعتقها يجزئ؛ لأنها من هذه الأمة ومن الْمُسْلِمِينَ.(1/351)
ومن أعظم معرفة الله عَزَّ وَجَلَّ أن يعرف أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق المخلوقات، والقصد أنهم يقولون: وهو تَعَالَى يتنزه عن المكان والزمان والجهة بلا أين؟ ولا متى؟ ويذكرون في ذلك أثراً مكذوباً موضوعاً عَلَى أمير المؤمنين على بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه سأله رجل أين الله؟ فقَالَ: لا يُقال لِمَن أيّن الأين: أين؟ كأن معناه لا يُقال لِمَن خلق المكان الذي هو "أين" وجعله "أيناً": أين؟ أي: لا يُسأل عن الله بالأين، وكثير من النَّاس يظن أن من تنزيه الله أنك لا تسأل عنه بأين، فإذا قلت: أين الله؟ يقول: استغفر الله أنت تقول: إن الله في جهة وإن الله محصور -مع أنك لم تقل: إن الله محصور أو إنه في جهة- والسؤال بـ"أين" قد فعله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل أحد أعلم بالله من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
إذاً: نقول: إن الله فوق المخلوقات، في العلو، ولا نضيف من عند أنفسنا عبارات -بلا مماسة، ولا محاسبة- لم تأت لا في كتاب ولا في سنة فهو سبحانه في السماء أي: في العلو، كما أخبر تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50] وقال: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر:10] ، وهكذا في حديث الإسراء لمَّا عُرِج به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أن صار في المقام العظيم الذي سيأتي الكلام عنه إن شاء الله، والأدلة كثيرة ومتواترة تعد بالآلاف كما ذكر ذلك ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في الصواعق المرسلة، من الآيات والأحاديث والبراهين العقلية والفطرية.
هذه الألفاظ في اصطلاح المتأخرين فيها إجمال وإيهام(1/352)
يقول المُصْنِّف في تعليل الاستفصال من القائل بهذه العبارات البدعية: [لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي] هذا مع أن المعاني اللغوية تتفاوت، وهذه شبهة يجب أن نتنبه لها، وهي: أن بعض النَّاس يقول القُرْآن نزل بلسان عربي مبين ولغة العرب مفهومة، فلو أردنا أن نفهم معاني الصفات أو غيرها التي في القرآن، فلنرجع إِلَى لغة العرب، فنقول: هذا الكلام بإطلاق خطأ، لماذا؟
لأن مجرد الإحالة إِلَى اللغة، إحالة إِلَى أوجه واحتمالات لا ضابط لها، فلغة العرب أوسع اللغات، فإنه يقَالَ: إن للأسد خمسمائة اسم، وللشمس كذلك خمسمائة أو ثلاثمائة، وهكذا كثير من الأشياء، فاللغة واسعة. فإذا قلنا: نفهم القُرْآن كما يفهم من لغة العرب، فإننا سنجد أن الكلمة القرآنية أو النبوية لها عدة معانٍ في اللغة العربية.
فإذا أردنا أن نفهم القُرْآن فإننا نرجع إِلَى فهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إِلَى تفسيره، وإلى فهم الصحابة وفهم السلف الصالح سواء كَانَ ذلك فهماً خاصاً تناقلوه من عند أنفسهم أو عن أثر مرفوع إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالفهم الذي فهموه لا نتعداه لأن عندهم اللغة وزيادة، ولأنهم أفصح العرب، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من أفصح العرب، وعندهم الوحي الذي علمهم الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، فلا نعدل عن أي معنى فهموه إِلَى أي معنى آخر، وإن كَانَ ذلك المعنى وارداً صحيحاً في لغة العرب(1/353)
يقول المصنف: [ولهذا كَانَ النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً] فنرد عَلَى الطائفة التي تنفي هذه الألفاظ بأنكم أيها النفاة تنفون بها حقاً وباطلاً، فعندما يقول أحدهم: أنفي عن الله الأعضاء والجهة، ثُمَّ يأتي أحدهم ويقول: نَحْنُ ننفي هذا النفي؛ فإن هذا النافي يكون قد نفى حقاً وباطلاً في نفس الوقت؛ لأنه يحتمل أنه نفى مراد ذلك، وهو حق وصحيح وهو نفي التشبيه والتمثيل، ونفى معه المعنى الباطل وهو إنكار صفة العلو مثلاً، فهو نفي حقاً وباطلاً معاً، ويذكرون عن مثبتها مالا يقول به.
يقولون: إن من يثبت العلو -مثلاً- لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه يثبت له المكان أو الجهة، ويقولون: أنت تقول: إن الله تَعَالَى محصور -تعالى الله عن ذلك- مع أنك لم تقل ذلك، لكن بناءً عَلَى الإثبات قالوا: أنت تثبته، والطرف الآخر من المثبتين يقول: نثبت هذه العبارات بإطلاق؛ لأنها صحيحة؛ ولأن فيها تنزيه لله عَزَّ وَجَلَّ، فأثبت مع المعنى الصحيح الذي يريده؛ المعنى الباطل الذي يحتمله هذا التعبير.
الموقف الصحيح من الألفاظ المستحدثة
والموقف الصحيح في الألفاظ المجملة أننا نفصل فيها كما قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [وليس لنا أن نصف الله تَعَالَى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نَحْنُ متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب أعني: باب الصفات فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني] .(1/354)
فنقول في النفي كما قال الله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] ، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255] ، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [الأنعام:103] ونثبت ما أثبت في كتابه كاليد والوجه والنفس، وفي السنة كالنزول والقَدم التي أولها أهل البدع.
قال المصنف: [وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها] مثل كلمة الجسم، أو الجهة، أو لا تحل فيه الحوادث، أو تنزه تَعَالَى عن الحوادث، أو نفي الحركة، أو نفي الانتقال، أو لا تتغير أحواله، وأمثال تلك العبارات التي يستعملها أهل البدع.
فيقول المصنف: [لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كَانَ معنىً صحيحاً قبل] فنقبل هذا المعنى، ولكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، وينبغي أن يعبر عنه بما ورد دون الالتجاء إِلَى الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد، قَالَ: [والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها] .
ومن أراد التفصيل في هذا فليرجع إِلَى منهاج السنة (1/258) فقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِم قصةَ الإمام أَحْمَد مع برغوث وذكر استخدام كلمة الجسم، وذكر القاعدة في مثل هذه الألفاظ، وكلام المُصْنِّف هذا قريب من كلام شَيْخ الإِسْلامِ.
ومن الحاجة أن يكون الرجل أعجمياً لا يفهم من لغة العرب شيئاً، فعندما تريد أن تعلمه ما يعرف به ربه عَزَّ وَجَلَّ، فلا بد أن تعلمه بلغته لكي يفهم، فهذه هي الحاجة وبلا شك أن المعنى الذي في اللغة الأردية أو اليابانية أو الإنجليزية يستخدم في حق المخلوقين، وقد ينصرف ذهنه إِلَى أننا نصف الله بما يتصف به المخلوق، لكن نبين المعنى مع الإتيان بقرائن تبين المراد.(1/355)
ونقول له: إن الأصل أن الإِنسَان يستخدم اللغة العربية، وحتى هو لو شرحها لغيره فعليه يشرحها لهم مع القرائن بأن أي لفظ نستخدمه نَحْنُ في حق المخلوق فإنه في حق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير ذلك لكن المعنى المقصود هو نفي أن يكون لله تَعَالَى مثيل وهكذا.
وقد يشكل عَلَى بعض النَّاس أن المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ ذكر في مقدمة الكلام ما نصه [وليس لنا أن نصف تَعَالَى الله بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً وإنما تحن متبعون لا مبتدعون] .
فقوله: [ليس لنا أن نصف] أي: -نفياً ولا إثباتاً- فإذا نفى أحد -مثلاً- اللسان لله فإنه قد نفى ما لم ينفه الله عن نفسه، وخالف كلام المُصْنِّف في قوله: [ليس لنا] ثُمَّ قوله: [نفياً ولا إثباتاً] فيُقَالُ: ننفي ذلك لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يثبت ذلك لنفسه في القُرْآن ولم يصح بذلك حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذه قضية.
وهناك قضية أخرى وهو إذا أتى أحد فقَالَ: أنا أنفي عن الله تَعَالَى الجهة، وهذا نقول له كما سبق فصَّل ماذا تريد بالجهة؟ يقول: أنا أريد بالجهة أن أنفي عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مشابهة مخلوقاته؛ لأن المخلوقات لا تكون إلا في جهة، فيقال هل تثبت علو الله؟ فإن قَالَ: نعم أنا أثبت علو الله لكن أنفي الجهة، نقول: المعنى صواب، ولكن الخطأ في اللفظة لأنها لم ترد، وإن قَالَ: أنا أقصد بنفي الجهة نفي العلو فنقول له: أخطأت في اللفظ وفي المعنى، فهناك فرق بين الألفاظ المحتملة التي تحتمل معنيين: أحدهما حق والآخر باطل.
والإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ لا يقصد هنا معناً باطلاً؛ لأنه من أئمة أهل السنة ويتكلم في عقيدة لأهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ولذلك هو يرى أن هذا زيادة في تنزيه الله: أن ينفي عنه ما نفاه هنا من الأركان والأعضاء والأدوات والجوارح.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:(1/356)
[والشيخ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أراد الرد بهذا الكلام عَلَى المشبهة، كداود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم، وإنه جثة، وأعضاء وغير ذلك! تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً.
فالمعنى الذي أراده الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إِلَى بيان ذلك. وهو أن السلف متفقون عَلَى أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته. قال أبو داود الطيالسي: كَانَ سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز عن الإحاطة خلقه. فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحّده، لا أن المعنى أنه غير متميز عن خلقه، منفصل عنهم مباين لهم.
سُئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟
قَالَ: بأنه عَلَى العرش، بائن من خلقه.
قيل بحد؟
قَالَ: بحد، انتهى.
ومن المعلوم أن الحد يُقال عَلَى ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره والله تَعَالَى غير حالٍّ في خلقه، ولا قائم بهم؛ بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته. وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتفٍ بلا منازعة بين أهل السنة.(1/357)
قال أبو القاسم القشيري في (رسالته) سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي سمعت أبا منصور بن عبد الله، سمعت أبا الحسن العنبري سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول، وقد سئل عن ذات الله فقَالَ: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى، ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار، من غير إحاطة ولا إدراك نهاية] اهـ.
الشرح:
أراد المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أن يبين لنا مأخذ صاحب المتن الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ في إطلاق هذه العبارات، أو أن يبرر له استخدام هذه العبارات مع أنها لم ترد، ومن المعلوم أن نفاة الصفات يتهمون أتباع السلف الصالح دائماً بأنهم مشبهة مجسمة حشوية، وكأن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ يريد أن يرد عليهم وأن يسد هذا الباب وأن يقول: نَحْنُ لسنا بمشبهة ولا مجسمة ولا يصدق علينا ما تتهمونا به.
ولتأكيد ذلك قَالَ: نَحْنُ نقول: إنه تَعَالَى عن الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، والعلماء يقولون في مثل هذا المقام: لا نقصد نفي ما تدل عليه أو إثبات ما تدل عليه هذه المعاني -التي هي كما قلنا معاني محتملة للحق والباطل- إنما لهم مقصد آخر وهو بيان أننا لسنا مشبهة ولا مجسمة؛ لأن المشبهة والمجسمة يثبتون هذه كما هي عند المخلوق مع أننا نقول: إن هذا خطأ؛ لكن لماذا وقعوا في هذا الخطأ، وما المعنى الذي قصدوه حتى وقعوا في ذلك؟
ذكر المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أنه أراد الرد بهذا الكلام عَلَى المشبهة؛ لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً يعني: جَاءَ نفر من الشرَّاح الذين شرحوا كلامه وهم من الماتريدية، فشرحوها عَلَى الاحتمال الخطأ.
أهل السنة ليسوا مشبهة(1/358)
نحتاج هنا أن نقف عند المشبهة لنعرف مذهبهم وفرقهم بإيجاز مع معرفتنا أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -ولله الحمد- ليسوا مشبهة ولا ممثلة بل يثبتون ما أثبته الله ورسوله مع نفي التمثيل قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فلا يقولون بكيفية ولا بمثلية والمشبهة أو الممثلة الحقيقيون هم الذين يُطلق عليهم هذا الوصف، وهذه المعرة، وهذا الذم بحق وحقيقة، كما سبق أن أشرنا إِلَى أن التشبيه غلو ومجاوزة للحد.
أول من أحدث التمثيل هم الروافض القدماء أما المتأخرون فهم معتزلة
أول من أحدث التمثيل الذي يسمونه التشبيه في هذه الأمة هم الروافض وذلك لأنهم أخذو دينهم عن اليهود، ولهذا نجد أن أكثر المشبهة هم الرافضة.
وكل من كتب عن الفرق الإسلامية مثل مقالات الإسلاميينن لأبي الحسن الأشعري، والفصل في الملل والنحل لابن حزم يذكرون في الممثلة قدماء الروافض، ونحن نأتي بكلمة قدماء الروافض؛ لأن المتأخرين منهم صاروا معتزلة.
أما من القرن الرابع وإلى اليوم فالإمامية الإثني عشرية والزيدية هم معتزلة في باب الأسماء والصفات، وفي باب القدر.
وقدماء الروافض كانوا عَلَى التمثيل والتشبيه ومتأخروهم عَلَى الاعتزال، فمن قدماء الروافض هشام بن الحكم الرافضي، إمام فرقة الهشامية من الرافضة وكان في القرن الثاني وهو مشهور بأنه يشبه الله تَعَالَى بخلقه تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.(1/359)
وهذا المذهب مشهور عند الهشامية والبيانية أصحاب بيان بن سمعان التميمي، وهناك فرقة تسمى المغيرية، نسبة إِلَى المغيرة بن سعيد العجلي من بني عجل، وكان هذا الرجل يقول: إن ربه أو معبوده مثل الإِنسَان له أعضاء وله جوارح يد وعين كالإِنسَان، وبعضهم يذكر طوله وعرضه وارتفاعه -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإن كانوا هم يثبتون ذلك لمعبودهم لا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وينسب التشبيه إِلَى مقاتل بن سليمان المفسر والله أعلم بصحة ذلك، لكن ينسب إليه أنه كَانَ يقول: اعفوني عن اللحية والفرج، وما عدا ذلك فأنا أثبته، ونحن لا نجزم بصحة ذلك عنه، فهو مفسر كبير مشهور له قدره وإن كانت روايته ضعيفة.
وأيضاً لم ترد هذه العبارات عنه من طريق إمام من أئمة السلف، وإنما أوردتها كتب المقالات ومن أقدمها مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري، وهو ينقل غالباً عن المعتزلة وأمثالهم فيحتمل أن المعتزلة زيفوا عليه فلا بد من التأكد، لكنهشام بن الحكم، وبيان بن سمعان والمغيرة بن سعيد فهَؤُلاءِ ثبت ذلك عنهم؛ لأن الإمام ابن قتيبة رَحِمَهُ اللَّهُ في كتابه عيون الأخبار يقول عن المغيرة بن سعيد إنه كَانَ سبئياً، والإمام ابن قتيبة عالم مشهور وهو ثقة من أئمةالسلف.
والسبئية -أتباععبد الله بن سبأ اليهودي - ممثلة أو مجسمة؛لأنهم هم الذين قالوا لأمير المومنينعلى بن أبي طالب أنت، فقَالَ: من أنا، قالوا: أنت الله.
فإذاً هم يعتقدون أن الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- يكون في صورة بشر، ولهذا لما قيل لعبد الله بن سبأ وهو منفي فيبلاد فارس إن علياً قد قتل، ضحك!
وقَالَ: والله لو جئتمونا بدماغه في صرة ما صدقنا، وإنما رفع كما رفع المسيح، وإنه في السحاب، وإن الرعد صوته إذا تكلم، والبرق سوطه هذا هو عقيدة الفرقة التي تسمى السحابية وهذا هو أصل مذهب التمثيل والتشبيه.
الكرامية مشبهة ومجسمة(1/360)
الفرقة الثانية التي ينسب إليها المشبهة: الكرَّامية أتباع ابن كرّام، قيل: عبد الله وقيل محمد، وعبد الله هو الأشهر، وقد عاش في القرن الثالث وتوفي في 250 تقريباً وهو أول من أسس المذهب الذي يُقال لهم: الكرَّامية، وإذا صح ما نسب إليه فكلامه في الجملة قريب مما نسب إِلَى الروافض لأنه لم يكن رافضياً؛ بل كَانَ زاهداً متعبداً متنسكاً لكن وقع في هذا الخطأ، وهو التشبيه أو التمثيل والمشهور عنهم أنهم مجسمة فيقال الكرامية المجسمة.
ولهذا أعداء العقيدة السلفية كالكوثري -مثلاً- وتلاميذه يقولون: إن ابْن تَيْمِيَّةَ ومُحَمَّد بن عبد الوهاب عَلَى مذهب ابن كرام أو عَلَى مذهب الكرامية، فمن يثبت عقيدة السلف يجعلونه عَلَى مذهب الكرامية، قالوا: لأنهم يثبتون الجسم، فإنهم يقولون: إن لله يد وأن لله عين وأمثال ذلك.
ومذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الألفاظ المجملة كما نقلنا عن الإمام أَحْمَد قوله: هذا اللفظ لم يرد إثباته ولا نفيه، فنحن لا نستخدمه فمثلاً الجسم إن كَانَ قصدهم معنىً باطلاً رد هذا المعنى، وإن كَانَ المراد به معنىً حقاً قبل، لكن هذه اللفظة نَحْنُ لا نستخدمها لعدم ورودها في الشرع، فلهذا لا يرد عَلَى أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أي تهمة بأنهم مجسمة لأن هذه العبارات نفسها لا يقُّروْنها ولا يستخدمونها، إذاً فالفرقة الثانية من طوائف المشبهة بعد الرافضة هم الكرامية.
غلاة قدماء الصوفية مشبهة مجسمة(1/361)
والطائفة الثالثة: غلاة الصوفية القدماء، أما المتأخرون فبعضهم عَلَى هذا المذهب وعبارة الإمام أبي الحسن الأشعري يقول: قدماء النساك، ويقصد طائفة القدماء منهم؛ لأن هَؤُلاءِ كانوا يقولون: إن الله تَعَالَى يَحِلُّ في مخلوقاته -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- أو يتحد بهم وهذا تمثيل وتشبيه، ويزعم أحدهم أنه عانق ربه، أو أنه رآه، أو أنه صافحه إِلَى آخر ما يدل عَلَى أن هَؤُلاءِ ليسو عَلَى ملة الإسلام؛ لأن علماء الملة اتفقوا عَلَى أن من يقول بالحلول أو الإتحاد أو التمثيل أو التشبيه أو أن الله يشبه خلقه بأنه كافر لا شك فيه.
فكانت طائفة من الصوفية ولا تزال تطلق ذلك ولولا خشية الإطالة لفصلنا القول في هذه المسألة، كيف نشأت؟ ولماذا جاءتهم هذه الشبهة في الحلول؟ وكيف أن المتأخرين منهم أمثالعبد الغني النابلسي الذي توفي بعد الألف سنة (1143) وكذلك عبد الكريم الجيلي، وعبد االفتاح الجيلاني وهم متأخرون ولكنهم عَلَى هذه العقيدة الباطلة وذلك ظاهر في قصائدهم كعقيدة ابن الفارض التائية يقول:
وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته
وهذا يعدونه من الأئمة الأقطاب، وله كتاب اسمه: الإِنسَان الكامل ويوجد أعيان بأسمائهم اشتهر عنهم ذلك وهم مقاتل بن سليمان وهذا الله أعلم بنسبة ذلك إليه.
والثاني: هشام بن الحكم الرافضي وهذا تقدم الحديث عنه ضمن الرافضة، والثالث: داود الجواربي نسبة إِلَى الجوارب، وترجمته موجودة في لسان الميزان (2/ 427) والميزان (2/23) .
قال الذهبي في الميزان داود الجواربي رأس في الرفض والتجسيم.(1/362)
ونقل الذهبي عن الإمام المحدث يزيد بن هارون رَحِمَهُ اللَّهُ أنه كَانَ يقول: الجواربي والمريسى كافران، ثُمَّ قال يزيد بن هارون إنما مثله -أي: داود - مثل طائفة كانوا في سفينة فعبروا جسر واسط فسقطوا في النهر، وكان معهم داود فخرج شيطان من النهر، فقَالَ: أنا داود الجواربي، فنشر هذا الضلال وهذه البدع.
ولما رأوه من بعد ما وقعت له هذه الواقعة -سقوطه في النهر- أصبح يهذي بهذه الأقوال الضالة فَيَقُولُ: إن ربه ومعبوده جسم وجثة وأعضاء إِلَى آخر ما ذكره عنه العلماء.
وممن ذكر عنه ذلكابن حزم في الملل والنحل، وكذلك البغدادي في الفرق بين الفرق وذكره في مقالات الإسلاميين وفي اللسان والميزان، ونقلوا عنه هذا المذهب الخبيث تَعَالَى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
يذكر المُصنِّفُ في قول الإمام الطّّحاويّ: [وتعالى عن الحدود والغايات، فالمعنى الذي أراده الشيخ رَحِمَهُ اللهُ من النفي الذي ذكره هنا حق؛ لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إِلَى بيان ذلك -فبين أولاً كلمة الحد- وهو أن السلف متفقون عَلَى أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته.
قال أبو داود الطيالسي: كَانَ سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر] .
والمصنف نسب هذا القول إلىأبي داود الطيالسي، ولم يشر أين ذكره، ولم أستطع أن أعرف في أي كتاب ذكره أبو داود الطيالسي، ولكن سفيان وشعبه وحماد، كل هَؤُلاءِ الأئمة لا يمثلون ولا يشبهون ولا يحدون وأمثال هذه العبارات موجودة ومنقولة بكثرة.(1/363)
وأشمل مرجع في ذلك هو كتاب شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ المُسمى الحموية الكبرى لأن الفتوى الحموية المعروفة هذه تسمى صغرى، ثُمَّ سميت كبرى لأنه أضاف إليها كلاماً جديداً ونقولاً طويلة، فسميت الحموية الكبرى، وهي موجودة في أول المجلد الخامس من مجموع الفتاوى وذكر شَيْخ الإِسْلامِ نقولاً طويلة عن عدد من الأئمة الذين ينقلون عن السلف بالسند مثل الهروي وأبي عبد الرحمن السلمي وأبي الشيخ الأصفهاني وابن عبد البر وابن أبي زمنين وغيرهم كثير.
وممن نقل وتوسع في ذلك أيضاً: الإمام اللالكائي فيشرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ نقل عن عدد كبير ما يدل عَلَى هذا
السلف كانوا لا يحدون
الشاهد لِمَا يريد الشيخ هي كلمة الحد "كانوا لا يحدون" ما معنى أن السلف كانوا لا يحدون أو لا يثبتون الحد؟ يروون الحديث ويقولون بلا كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر.
قال المصنف: [وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز عن الإحاطة خلقه، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده] يعنى أن مراد المُصْنِّف في نفي الحد عن الله، أن الله سبحانه يتعالى أن يحيط أحد بحده، أي: أن يحيط أحد بصفته وبكيفيته، والمعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم.
ولهذا يقول السلف الصالح: وإنه تَعَالَى فوق عرشه بذاته بائن من خلقه، وهذه العبارة تدخل فيما قاله المصنف: [إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد] كما احتجنا أن نقول: هو عَلَى العرش بذاته، فزدنا كلمة (بذاته) كما قال ذلك الإمام ابن أبي زيد القيرواني في مقدمة الرسالة: وهو عَلَى عرشه المجيد بذاته؛ لأن من النَّاس من يقول: وهو عَلَى عرشه في الأرض، والدليل قال تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام:3] .(1/364)
فقال هو هنا وهنا، هو فوق العرش وفي الأرض والمعنى الصحيح للآية: هو الله الإله المعبود في السموات وفي الأرض ومثل هذه الإشكالات عند الحلولية وأمثالهم، فاحتاج السلف إلى إيضاح ذلك فقالوا وهو عَلَى عرشه بذاته، وهو مع مخلوقاته بعلمه، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] أي: بعلمه وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ [قّ:16] فالآيات في العلم ثُمَّ قَالَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [قّ:16] "إذ" ظرف، والظرف متعلق بالفعل إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ [قّ:17] أي: الملكان اللذان يكونان لقبض الروح.
إذاً: الله مع المخلوق بعلمه وبملائكته، لكن بذاته هو عَلَى العرش، فأراد السلف أن يزيلوا اللبس عن العبارات التي هي حق ويستخدمها أعداء المذهب الصحيح والمخالفون له في معنىً باطل، فوضحوا الأمر أكثر بقولهم: بائن من خلقه.
معاني الحد
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ:
[سئل عبد الله بن المبارك بم نعرف ربنا؟ قَالَ: بأنه عَلَى العرش، بائن من خلقه، قيل بحد؟ قَالَ: بحد] فكيف ينفي الحد؟ وهنا قول لبعض السلف بأنه يُحد.
يقول: [ومن المعلوم أن الحد يقال عَلَى ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره] وهذا المعنى الأول، وهو ما يتميز به الشيء وينفصل به عن غيره.
المعنى الذي لا يجوز أن يكون فيه منازعة
[والله تَعَالَى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى] بالمعنى الأول [لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً] فهو تَعَالَى مباين للخلق منفصل عنهم ليس شيء من خلقه في ذاته وليس شيء منه أو ذاته في خلقه [فإنه ليس وراء نفيه] نفى الحد بهذا المعنى [إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته] إذا قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه، فهذا معدوم وليس بموجود.(1/365)
والمعنى للحد الثاني [وأما الحدَّ بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتفٍ بلا منازعة بين أهل السنة] .
التوفيق بين ماورد عن السلف من نفي الحد وإثباته
وقد ورد عن الإمام أَحْمَد وعبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعن غيرهم من أئمة السلف عبارات فيها إثبات الحد وعبارات فيها نفي الحد، فكيف توفق بين النفي والإثبات للحد؟
الجواب: أننا نقول: الحد له معنيان، المعنى الأول بمعنى المباينة والانفصال، وهذا هو مراد من أثبته، فإذا قالوا: بحد، أي: نثبت أن الله عَلَى العرش يُحد، أي: بمباينة وانفصال عن المخلوقات، لأن المخلوقات محدودة بلا شك ولها نهاية، وهو سبحانه لا يحل فيها ولا تحل فيه، والمعنى الآخر هو: معنى القول أو العلم، وهو المعنى المنفي، هل يحده المخلوقون؟
فَيَقُولُ: ومرادهم بقولهم ليس له حد، أي أن المخلوقين لا يستطيعون أن يحدوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أي أن يعلموا له حداً، بمعنى أن يعلموا أن له كيفية لأن عقولهم تتقاصر عن ذلك، فإذا لا تناقص في كلام السلف، رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم، فهم أعلم النَّاس وأثبتهم وأوثقهم، ولكن المسألة أن كلمة الحد لها معنيان.
قول أئمة التصوف: نحن على مذهب الإمام أحمد في العقيدة
قال أبو القاسم القشيري في رسالته، الرسالة وهي من أقدم الكتب المؤلفة في شرح أحوال أهل التصوف وأقدم منه كتاب اللمع للطوسي، قيل توفي في نهاية القرن الرابع.
ثُمَّ تلاه القشيري فألف كتاب الرسالة ينقل عن أئمة الصوفية أمثال الجنيد وسهل بن عبد الله ورويم، والمحاسبي وأمثالهم ما يقولونه وهَؤُلاءِ كانوا -بعضهم أو كثير منهم- يظهرون عباراتالسلف الصالح في الأسماء والصفات؛ لأنهم كانوا ينتسبون إِلَى أهل الحديث إما حقيقة وإما ادعاءً والله أعلم بالبواطن، أمثال هَؤُلاءِ يقولون: إنهم عَلَى مذهب الإمام أَحْمَد في العقيدة.(1/366)
ولكننا نهتم بالتربية والتزكية وبالأذكار والأوراد، لكننا في باب الصفات عَلَى عقيدة الإمام أَحْمَد ومنهم القشيري وهو ينقل عن الشيخ أبى عبد الرحمن السلمي وهو أقدم طبقة من طبقة القشيري وقد ألف في التصوف، وهو من الناحية الحديثة رجل وضاع وكذاب، لكن عند الصوفية إمام جليل معتبر لا يداني رتبته عندهم إلا قليل.
وهو ينقل بالسند عن أئمة التصوف ونحن لا نأخذ منه الحديث، لكن نأخذ نقوله عن أئمة الصوفية على أنه رجل من الصوفية يكتب عنهم، وله من الكتب المطبوعة مثلاً الملامية أو الملامتيه [يقول: سمعت أبا منصور بن عبد الله بسنده إِلَى سهل بن عبد الله التستري وهو الإمام المتصوف المشهور، يقول وقد سئل عن ذات الله فقَالَ: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى، ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه ينظر إليه المؤمن بالأبصار، من غير إحاطة، ولا إدراك نهاية] اهـ.
وهذا الكلام يسوقه القشيري لغرض، ويسوقه المُصْنِّف هنا لغرض، أما القشيري فيسوق هذا الكلام ليدلل عَلَى أن أئمة التصوف هم في العقيدة عَلَى مذهب السلف وهذا هو مقصوده.
فَيَقُولُ: إن ذات الله تَعَالَى موصوفة بالعلم وليس مجرد إثبات لصفة العلم لله؟ لا. لكن توصف بالعلم، أي نَحْنُ نعتقد في الله عَزَّ وَجَلَّ صفات من خلال العلم أي من خلال ما يرد إلينا من الكتاب أو السنة وليست بالرأي، وإنما يوصف الله بالعلم أي بالدليل والله أعلم، هذا ظاهر العبارة.
قوله: [غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا] كلام حسن مأخوذ من معاني القرآن، وقوله: [وهي موجودة بحقائق الإيمان] أي: وجودها ثابت بحقائق الإيمان في القلب، من غير حد ولا إحاطة ولا حلول.(1/367)
فسهل يريد أن يقول: نَحْنُ معاشر الصوفية وأئمة الصوفية لسنا حلولية ولا اتحادية، يقصد نفسه ومشائخه وطبقتهم ومن قبلهم كالجنيد والمحاسبي وأمثاله.
فَيَقُولُ: نَحْنُ عَلَى مذهب أهل السنة ونحن نصف الله بهذا الشيء وينقل ذلك عنه القشيري لهذا الغرض، والمصنف ينقل هذا الكلام لغرض أن السلف ورد عنهم إثبات الحد وورد عنهم نفي الحد، هذا هو المقصود، ونحن -أهل السنة - لنا نقولات غير هذا النقل، فقد نقل الشيخ سليمان بن سحمان في حاشيته عَلَى كتاب لوامع الأنوار البهية (1/201) نقولاً كثيرة عن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وغيره أنه ورد عن السلف إثبات الحد ونفيه، وهذا يدلل عَلَى صحة ما ذهب إليه المصنف.
الخطأ الذي وقع فيه بعض شراح كلام الطحاوي
أطلق الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ النفي فقَالَ: [وتعالى عن الحدود] والعبارة تحتمل الحق وتحتمل الباطل، مما فتح الباب لأي رجل مبطل بأن يقول: إن الإمام الطّّحاويّ ينفي الحد بمعنى ينفي المباينة وهذا ما وقع لبعض الشراح فَقَالُوا: إن الإمام الطّّحاويّ ينفي الحد لأنه قَالَ: [تعالى عن الحدود] .
إذاً هو يقول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته، أو أنه في كل مكان؛ لأنه نفى عنه الحدود، وهذا خطأ ولبس في فهم العبارة جَاءَ نتيجة استخدام لفظة محتملة، والألفاظ المحتملة لا تستخدم -كما قلنا- إلا ومعناها مبين أو مفصل، فإذا احتجنا أن نستخدم عبارة لم ترد في الكتاب والسنة فلا نستخدمها إلا مفصَلة أو موضَّحة، فلما أرادوا أن يوضحوا أن الله تَعَالَى فوق العرش وأن ينفوا الحلول والممازجة بينه وبين خلقه، قالوا كما قال ابن المبارك: هو فوق العرش، بائن من خلقه بحد، أي: مباينة بانفصال، والحد في اصطلاح المناطقة هو التعريف.(1/368)
يقول لك ما حد الإِنسَان؟ أي: ما تعريفه؟ وما حقيقته؟ وتجد في كل علم حده أو تعريفه أو صفته أو ما أشبه ذلك، هذا تابع للمعنى الثاني أو مشتق منه، من غير حدٍ ولا إحاطة ولا حلول، أي: من غير كيفية، ومن غير معرفة يعرفها البشر أو يطلع عليها البشر، فيما تعلق بذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما هي موصوفة بالعلم، أي: عن طريق الخبر الغيبي الذي جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومعنى قوله: [وتراه العيون في العقبى] أي في الآخرة.
يقول: [ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته] وهذه أيضاً معاني صحيحة وردت في الكتاب والسنة، فيريد أن يقول: نَحْنُ عَلَى هذا المذهب الصحيح، وهو أن الأدلة الشاهدة عليه سبحانه في ملكه وفي قدرته ظاهرة، أما ذاته تَعَالَى فقد حجبها وحجب الخلق عن معرفتها.
يقول: [وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه آياته -الليل والنهار وكافة المخلوقات- فالقلوب تعرفه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والعيون لا تدركه] ثُمَّ قَالَ: [ينظر إليه المؤمنون بالأبصار] أي: تراه العيون في العقبي. كما قَالَ: [من غير إحاطة ولا إدراك نهاية] .
كما قال عَزَّ وَجَلَّ: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ [الأنعام: 103] فكأنه يشرح هذه المعاني القرآنية الصحيحة بألفاظ من عنده ويقول: إننا لم نخرج عن مذهب السلف. هذا هو المقصود.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات، فيستدل بها النفاة عَلَى نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه. قال أبو حنيفة -رضي الله عنه- في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تَعَالَى في القُرْآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يُقَالَ: إن يده قدرته ونعمته، لأن فيه إبطال الصفة انتهى.(1/369)
وهذا الذي قالهالإمام -رضي الله عنه- ثابت بالأدلة القاطعة قال تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي [صّ:75] وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67] وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وقال تعالى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] وقال تعالى: وَاصطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] .
وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الشَّفَاعَة لما يأتي الناسُ آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) الحديث.
ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ: 75]
لا يصح أن يكون معناه بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له عليّ بذلك، فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية ولا دليل لهم في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71] لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع، ليتناسب الجمعان اللفظيان، للدلالة عَلَى الملك والعظمة. ولم يقل "أيديَّ" مضاف إِلَى ضمير المفرد ولا "يدينا" بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع فلم يكن قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] نظير قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ(1/370)
[صّ: 75] وقال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه -عَزَّ وَجَلَّ-: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تَعَالَى هو الأحد الصمد، لا يتجزأ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية، تَعَالَى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91] والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع.
وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة، ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله -تعالى- فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً، لئلا يثبت معنى فاسد، أو يُنفى معنى صحيحٌ. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] اهـ.
الشرح:
الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة وهي ألفاظ مجملة تحتمل معنيين: أحد المعنيين حق، والآخر باطل، فإننا لا نطلقها ولا نستعملها في حق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأننا إن استخدمناها وأردنا المعنى الصحيح، فإن غيرنا قد يفهم الاحتمال الآخر الباطل، وإن استخدمها أيضاً غيرنا في المعنى الباطل، ونفينا نَحْنُ ذلك المعنى، أو قلنا: له إن كلامك صحيح، فقد يفهم من ذلك إقرارنا معناه الباطل، ونحن إنما نقصد الإقرار للمعنى الذي في أذهاننا.
فنتيجة لهذا اللبس، فإن الإِنسَان لا يستعمل في حق الله تَعَالَى إلا الألفاظ الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعدل عنها إِلَى غيرها إلا لضرورة البيان، أو لما تقتضيه الحاجة، أو بأن نذكر اللفظ الشرعي، ثُمَّ نوضحه ونبين دلالته بأي معنىً آخر من المعاني التي يعبر عنها لغرض الإيضاح لمعنى اللفظ الشرعي لا بإحلال معنىً آخر محله.(1/371)
بطلان ما فهمه الشراح من نفي الصفات عن الله والسبب في هذا الفهم
هذه العبارات التي اهتم المُصْنِّف هنا بشرحها، وبرد الجانب الآخر الباطل الذي فهمه منها بعض الشرّاح، لأن الإمام الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ عندما استخدم هذه العبارات فنفاها عن الله؛ قَالَ: [وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات] وذلك بغرض تنزيهه لله تعالى.
لكن جَاءَ الشُرَّاح المؤولون من الماتريدية وغيرهم فأولوا كلام الطّّحاويّ على أنه موافق للعقيدة التي يعتقدونها، وهي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، لذلك اهتم المُصْنِّف بأن يثبت هذه الصفات وأن يبين خطأ استخدام هذه الألفاظ التي قد تؤدي إِلَى نفي الصفات، ولهذا يقول: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات فيستدل بها -أي بنفيها- النفاة عَلَى نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية] .
فهم يقولون: نَحْنُ ننزه الله عَزَّ وَجَلَّ عن الأعضاء والجوارح والأركان والجهات، فإذا أقررت لهم بذلك، استدلوا عليك بأنه لا يجوز أن تثبت أن لله يداً ولا وجهاً، ولا أنه فوق المخلوقات إِلَى آخر ما يثبت له من الصفات.
قالوا: لأن هذه أعضاء أو أدوات أو جوارح، وأنت قد سلمت أن الله عَزَّ وَجَلَّ ينزه عن ذلك، إذاً فنحن ننفيها عن الله عَزَّ وَجَلَّ، وينسبون ذلك إِلَى الإمام أبي حنيفة، وإلى عامة السلف ولاسيما أبي حنيفة لأن صاحب المتن حنفي وصاحب الشرح حنفي، والذين شرحوا المتن شرحاً ماتريدياً هم أيضا حنفية(1/372)
فيريد المُصْنِّف أن يبين بطلان ما ذهبوا إليه، ولهذا بدأ بالاستدلال عَلَى ذلك بكلام الإمام أبي حنيفة نفسه في كتابالفقه الأكبر، الذي جمعه أبو مطيع الحكم بن عبد الله البلخي الحنفي كما سبق بيانه وهو من حيث الرواية ضعيف بل نسب إِلَى الوضع، والحنفية كمذهب فقهي يقولون: إن هذا الكتاب صحيح فيصححون نسبته إِلَى أبي حنيفة ويعتقدون أن أبا مطيع البلخي لم ينقل شيئاً غير الحقيقة، فهم من الناحية المذهبية يثبتون هذا الكلام للإمام أبي حنيفة.
كما أننا نعلم جميعاً أن المغني لابن قدامة أو العمدة وما أشبهها من الكتب في الفقه الحنبلي لم يؤلفها الإمام أَحْمَد، وقد يكون فيها من الأقوال ما لا يصح نسبتها إِلَى الإمام أَحْمَد، لكن الحنابلة يقولون: هذا فقه الإمام أَحْمَد فمن الناحية المذهبية أي حنفي يسلم لك إذا استدللت عليه بما في كتاب الفقه الأكبر لأنه يعتقد أن نسبة هذا الكتاب إِلَى الإمام صحيحة.
فنحن الآن لسنا في مقام تقرير إثبات الكتاب أو عدم إثباته بقدر ما نَحْنُ في مقام إلزام الحنفية بما في هذا الكتاب، لأنهم يقرون به ويعتمدونه في المذهب، ويقولون: نأخذ فروع ديننا من كتب الفروع المعروفة ككتاب القدوري أو الهداية وفتح القدير، ويقولون: نأخذ أصول ديننا من كتاب الفقه الأكبر، فنقول: قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر: له -أي لله عزوجل- يد ووجه ونفس، فما ذكر الله في القُرْآن من ذكر اليد والوجه والنفس فهو له صفة بلا كيف "ولا يقَالَ: إن يده قدرته ونعمته لأن فيه إبطال الصفة" انتهى.
يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [وهذا الذي قاله الإمام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ثابت بالأدلة القاطعة، من الكتاب والسنة قال تعالى: [مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ: 75] .] هذا استدلال؟ عَلَى اليد أو اليدين.(1/373)
[وقال تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]] وهذا أيضاً فيه إثبات اليد.
[وقال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27]] وهذا إثبات لصفة الوجه.
[وقال تَعَالَى - عَلَى لسان المسيح عَلَيْهِ السَّلام -: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [المائدة:116] ، وقال تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] ، وقال تعالى: وَاصطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41] ، وقال تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28] وقال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الشَّفَاعَة لما يأتي النَّاس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء) الحديث] .
هذه الآيات وكذلك الحديث صريحة في إثبات هذه الصفات لله عَزَّ وَجَلَّ وهي الصفات التي ينكرها المبتدعة بدعوى أنها جوارح، أو أعضاء، أو أركان، أو ما أشبه ذلك، لكن الصفات التي في القُرْآن أثبتها الإمام أبو حنيفة لأنها ثابتة في القرآن، والمصنف جَاءَ بهذه الآيات ليستدل بها عَلَى ما ذكره الإمامأبو حنيفة.
فكل ما ثبت لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الصفات في كتابه، أو في سنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإننا نثبته، وهذا هو الواجب، وإن قال من قَالَ: إن هذا يقتضي الجسمية، أو يقتضي التحيز، أو يقتضي أنه عضو، أو أنه ذو أجزاء وأنه مركب! فأي اقتضاء يأتون به نَحْنُ لا نلتزم بما يلزموننا به ولا نبالي بهم، وإنما نثبت ما أثبته الله ورسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تأويل الصفات بناءً على توهم التعارض بين العقل والنقل(1/374)
ولهذا أخذ المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يرد عَلَى الذين يقولون بتأويل هذه الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، الذين يقولون: ننفي الأعضاء والجوارح والأركان عن الله عَزَّ وَجَلَّ بزعمهم فيقول القائل: هل تريدون بذلك إنكار اليد والوجه والعين فيقولون: نعم، نَحْنُ ننكر ذلك، فيقول لهم: فما تقولون في آيات الله عَزَّ وَجَلَّ قالوا: يجب أن تؤول، ولماذا يجب أن تؤول؟ قالوا: حسب القاعدة التي ذكرنها في معارضة ظواهر الأدلة للبراهين العقلية، وظواهر الأدلة عندنا هنا هي الآيات.
يقولون: هذه الآيات ظواهر نقلية، يعني: ظواهر من النقل، والمعارض العقلي لها هو: كونه تَعَالَى ليس له شبيه ولا مثيل، وليس له أعضاء ولا جوارح ولا أدوات هكذا يقولون، هذا معارض عقلي راجح وقوي وقاطع عندهم، فنعرض ظواهر النقل عَلَى العقل والبراهين العقلية، فما أثبته أثبتناه وما نفاه نفيناه، كلهم يقولون هذا!
ولذا وضع الفخر الرازي القانون الكلي في تعارض العقل والنقل، وقد ذكره مَنْ قبله؛ لكنه ذكره كقانون في كتاب أساس التقديس، الذي نقضه ورد عليه شَيْخ الإِسْلامِ في كتابه نقض التأسيس أو بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية.
وقد ألف شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ كتاب درء تعارض العقل والنقل، وهو أعظم كتاب عقلي كتب في الإسلام، حتى قال بعض العلماء: إنه لم يكتب في تاريخ الفكر العالمي كتاب أدق وأعمق من هذا الكتاب؛ لأنه ما بقي من أنواع الفسلفات والآراء والنظريات التي يمكن أن تصعب أو يدق فهمها ولا يستطيع كل عقل أن يخوض فيها؛ إلا وتعرض لها شَيْخ الإِسْلامِ في هذا الكتاب بإسهاب عظيم، ويبقى هذا الكتاب حجة قائمة إِلَى قيام الساعة.(1/375)
فأي نظرية تأتي بعدها نظريات لا تخلو عن أن يُقَالَ: إنها براهين أو قواطع عقلية، فهي من وضع عقول البشر فهو يبين كيف أنه لا يمكن أبداً أن يتعارض الوحي الصحيح الصريح مع العقل الصحيح الصريح، ويرد عَلَى كل الأقوال التي أوردها أُولَئِكَ النَّاس في هذا التعارض.
ابتدءشَيْخ الإِسْلامِ كتابه بذكر هَؤُلاءِ المؤولين الذين يقولون بهذا القانون الكلي؛ " قانون التعارض "، ثُمَّ أخذ في بسط الكلام في هذه المسائل بما يشفي ويكفي رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
فإذا نَحْنُ نقول: هذه التأويلات المبنية عَلَى هذا الزعم باطلة تردها النصوص الصريحة وتردها أيضاً العقول الصريحة.
تأويلات المبتدعة وتلبيساتهم في اليد
قولهم في اليد: ليس لله يد، وما ورد من إطلاق اليد فإنما المراد به القدرة، وقولهم مركب من جملتين قالوا أولاً: ليس لله يد، ثُمَّ قالوا: ما ورد في اليد فإنا نفسره بالقدرة.
وإنما قلنا من جملتين لأننا قد نجد أنه منسوب إِلَى بعض السلف أنهم فسروا اليد بالقدرة.
لكن لا يمكن أبداً أن ينقل عن أحد من السلف نفي اليد، ولا نفي صفة العين عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - لكن قد تجد من قال في تفسير قوله تعالى: بِأَعْيُنِنَا [هود:37] من قَالَ: بحفظنا أو برعايتنا أو بعنايتنا إِلَى آخر ذلك، وهنا قضية مهمة جداً يجب أن نعلمها أن أهل البدع يقولون: أنتم تقولون: إننا أهل بدعة، وأهل ضلال وخارجون عن السنة وعن الطريق القويم؛ لأننا ننفي صفة اليد أو نؤولها.
فانظروا إِلَى ما قاله مجاهد -مثلاً- وهو تلميذ ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمعين - في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] قال قدرته فقالوا: إما أن تقولوا: إن مجاهداً ضال وخارج عن السنة والجماعة إِلَى آخره.(1/376)
وإما أن نكون نَحْنُ مثله، ونفي اليد وتفسيرها بالقدرة صحيح ولا منازعة فيه، وهكذا في صفة العين والوجه وغيرها من الصفات، فلذلك قلنا يجب أن نفهم هذه القضية.
الفرق بين هؤلاء المؤولة وبين ما ورد عن السلف في تفسير بعض الآيات
المبتدعة ينفون اليد ثُمَّ يفسرون اليد الواردة في النصوص بالقدرة والنعمة والقوة والنصر، كما في قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] نصره وتأييده إِلَى آخره، أما مجاهد أو سفيان أو ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأمثالهم ممن ورد عنهم أمثال هذا الكلام الذين وردت عنهم ألفاظ قليلة في تفسير بعض الآيات، فإنهم لم ينفوا أي صفة من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ -فمجاهد لم يقل ليس لله يد، وأن المراد باليد: النعمة والقدرة، إنما فسر قوله سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] بالملك في قدرته، وهل أخطأ مجاهد في المعنى؟!
لو تأملنا كلامه لوجدنا أنه لم يخطئ ولم يؤول؛ لأن إثبات اليد قضية مفروغ منها، لكن معنى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] أن السماوات السبع تحت قدرته لا تخرج عن أمره، وأي معنى من هذه المعاني صحيح ولا غبار عليه، وقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] معناها ينصرهم ويؤيدهم، ويجعل الغلبة لهم.(1/377)
فالمعنى صحيح وحق وهذا هو المراد بهذه الآية، وهذا المعنى الذي يريد أن يقوله الله عَزَّ وَجَلَّ للكفار، وهذا هو الذي فهمه الصحابة من هذه الآيات، ولا يعني هذا نفي صفة اليد عن الله تعالى، فالمعنى الإجمالي للعبارة وللاستعمال شيء، ونفي الصفة التي تدل عليها لفظة من الألفاظ في هذه العبارة شيء آخر، فإذا قلنا مثلاً: المملكة بيد الملك أو الجامعة بيد المدير، المقصود بذلك أنها تحت أمره وتحت قدرته، فنقول: نعم كلامكم هذا صحيح يفهمه أي عربي أن المقصود بـ"المملكة بيد الملك": أن المملكة في ملكه وفي قدرته وتحت أمره، لكن من فهم من هذه العبارة -من قولك: إن المملكة بيده أو الجامعة بيده- أنه أقطع ليس له يدان، نقول: هذا فهم خاطئ جداً، فهم المجانين لأن هذا لا يمكن أن يُفهم من هذه العبارة.
وهم يقولون: ليس لله يدان، لأن معنى: بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] وما أشبهها مثل قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10] معناها القدرة أو النصرة أو الحفظ فهذا خطأ، فمع أن للملك يده، وللمدير يده، لكن أيضاً الجامعة بيده والمملكة بيده، بمعنى: أنها تحت أمره وتحت حكمه وتحت قدرته هذا معنى واضح ولا تختلف العقول فيه؛ فكذلك نفهم هذا عَلَى ضوء لغة العرب.
ويقولون: إن القُرْآن نزل بلسان عربي مبين، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ، نقول: نعم، ونحن لا نتهم لغة العرب، ولا نخطئها، بل نتهم أفهامكم أنتم، فلغة العرب لا تقتضي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن أنتم فهمتم منها ما يقتضي نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، وهكذا حتى في باب الكناية إذا قالوا -مثلاً-: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يقولون: هذا كناية عن القهر والغلبة والتمكن إِلَى آخره، فنقول لهم: الكناية لا تنفي الحقيقة في لغة العرب، والبيت الذي يأتون به في البلاغة دائماً في الدلالة عَلَى الكناية بيت الخنساء، وهي ترثي أخاها صخراً تقول:(1/378)
رفيع العماد طويل النجاد ساد عشيرته أمردا
رفيع العماد، طويل النجاد، كثير الرماد، وما أشبه هذه الاصطلاحات كناية عن كرمه وعن شجاعته وعن قوته هذا الذي تريد أن تقوله عن أخيها، لكن لا يعني هذا أنه ليس عنده نجاد، أو بنية طويلة أو رمح طويل أو ليس كثير الرماد، فلا تنفي المعنى، فكثير الرماد تقصد أنه كريم، ولا ينفي أنه كثير الرماد فعلاً أنه يطبخ كثيراً ونتيجة الطبخ يكون الرماد، فالكناية لا تمنع الحقيقة.
إذاً هم يخطئون في فهم الأساليب العربية ويحملونها مالا تحتمل من أجل نفي صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
الرد على نفاة صفة اليد
يقول المصنف: [ولا يصح تأويل من قَالَ: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتي] والمصدر في لغة العرب لا يثنى فمثلاً كلمة الضرب تطلق عَلَى أي ضرب في أي زمان وفي أي مكان من أي إنسان صدر، فهي كلمة تستغرق كل الحدث الذي تدل عليه هذه الكلمة، والقدرة مثلاً: تستغرق كل ما يدل عَلَى ذلك المعنى؛ ولا يصح في لغة العرب بأي حال من الأحوال أن يثنى المصدر، وهذا شيء معلوم في لغة العرب.
ولو قال قائل: وكلمة " بيع " مصدر، فلماذا يقولون في كتب الفقه كتاب البيوع، وهذا جمع للمصدر فيجاب عنه: بأن هذا الاصطلاح حادث في اللغة العربية، فالأصل أن تقول: كتاب البيع، ثُمَّ تقول: والبيع أنواع، ولو كانت ألف نوع أو أكثر، فكلها تدخل تحت كلمة البيع، لأن البيع يشملها، وأيضاً فهذا الجمع باعتبار الأنواع، مثلاً -بيع النقد بالنقد هذا بيع، والبيع المحرم والجائز، وبيع الغرر، فيقول المصنفون: كتاب البيوع، كأنه يقول لك: هذا الباب أو هذا الكتاب يشمل بيع كذا وبيع كذا، فهذه ألفاظ اصطلاحية وهي ليست مما يحتج به في لغة العرب، وقيلت للدلالة عَلَى غرض معين وهو التنوع والتعدد، لأن كل بيع منها مصدر، ويستغرق كل ما يقع تحته لفظ ذلك المصدر.(1/379)
فالمقصود: أنه لا يصح بأي حال من الأحوال أن تفسر قول الله: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [صّ:75] بأنها لما خلقت بقدرتيّ لأنه إن كَانَ المقصود الحصر فهل ليس له إلا قدرتان، فلماذا لا تكون ثلاث أو أربع، أو أكثر؟
وإن أردنا أنها واحدة فلا يصح أن نقول: قدرَتَي بالتثنية وهي قدرة واحدة، ولو صح ذلك، وسلمنا جدلاً أنها قدرة، وأن المعنى ما منعك يا إبليس أن تسجد لما خلقت بقدرتي، لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، وكل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله، فإذاً ينتفي الاختصاص.
ولا يصح لغة ولا يصح معنىً وتفسيراً أن يُقَالَ: إن اليد بمعنى القدرة؛ لأن القدرة صفة أخرى من صفات الله عَزَّ وَجَلَّ وهو عَلَى كل شيء قدير ومن أسمائه القدير، وكذلك فإن اليد من صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا تفسر هذه بهذه ولا نلغي تلك أبداً.
إبليس أعرف بربه من الجهمية
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية] ، يعني: هو يعرف أن لربه يدين، والجهمية لا يقولون بذلك إذاً هو أعرف بربه منهم.
والمقصود بالجهمية هنا: من ينفون هذه الصفات فليس الأمر خاصاً بالجهمية الذين هم أصحاب جهم.
حقيقة الجهمية في هذا الموضوع بالذات
الجهمية تطلق عَلَى جميع نفاة الصفات؛ لأن أصل نفي الصفات إنما هو من جهم، وقد سمى شَيْخ الإِسْلامِ رده عَلَى الرازي بـ"بيان تلبيس الجهمية ".
مع أن الرازي يقول: نَحْنُ لا ننتسب إِلَى جهم إنما نَحْنُ أشعرية ولسنا جهمية، لكنهم في الحقيقة جهمية لأنهم ينفون الصفات، والتجهم درجات كما سبق.(1/380)
وتلخيص ذلك: أن نفاة صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الذين يطلق عليهم الجهمية في كلامالسلف الصالح، فممن كتب من المؤلفين من السلف في الرد عَلَى الجهمية كالإمام البُخَارِيّ في صحيحه، كتب كتاب التوحيد والرد عَلَى الجهمية والإمام أبو داود ذكر في سننه كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام أَحْمَد شيخ البُخَارِيّ وأبو داود له كتاب الرد عَلَى الجهمية، والإمام عثمان بن سعيد الدارمي له كتاب الرد عَلَى الجهمية وغيرهم كثير.
المهم أنهم درجات المقصود أنه يطلق عَلَى نفاة الصفات جهمية لكنهم درجات.
درجات الجهمية
الدرجة الأولى: الذين ينفون جميع الأسماء وجميع الصفات، وهم الباطنية وغلاة الجهمية، وهَؤُلاءِ فرق كثيرة يقولون: لا نثبت له لا اسماً ولا صفة، حتى أنهم قالوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، فالباطنية يقولون: ننفي الصفة وننفي ضدها، فالنفي عندهم شامل للسلب والإيجاب معاً، لا نقول موجود ولا غير موجود، فلا يوصف الله بشيء، وهذا أعلى درجات الكفر، وهم بلا شك خارجون من الملة.
الدرجة الثانية: المعتزلة: وهَؤُلاءِ يثبتون الأسماء وينفون جميع الصفات، يقولون -مثلاً-: عزيز بلا عزة، حكيم بلا حكمة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، عليم بلا علم.
الدرجة الثالثة: الذين يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون بعضها، وهَؤُلاءِ هم الأشاعرة وهم مضطربون فالباقلاني -مثلاً- وهو من أقدم أئمتهم يثبت بعض الصفات كالوجه واليد والعين، لكن أتى من بعده الجويني إمام الحرمين فنفى ذلك.
ثُمَّ استمر من بعده يتدرجون في النفي والتجهم، إِلَى أن جَاءَ الرازي، الذي يكاد أن يكون معتزلياً، ثُمَّ بعد ذلك يأتي الإيجي صاحب المواقف فيصبح المذهب مذهباً فلسفياً وكذا الآمدي والأرموي وأمثالهم، فهم يتدرجون ويتفاوتون.(1/381)
المقصود: أنهم كمجموعة يثبتون الأسماء ويثبتون بعض الصفات وينكرون البعض الآخر أو يؤولونه، ومما يثبتونه من الصفات سبع وبعضهم يجعلها أحد عشرة وبعضهم ثلاثة عشر، وبعضهم عشرين، مع التفريعات والتشققات، والباقي يؤولونه.
والاستواء والوجه وأمثالهما مما يطلقون عليه أنه جوارح وأعضاء وأركان هذا من أعظم ما تنفيه الأشعرية وبالتالي ينفيه المعتزلة بطبيعة الحال؛ لأنهم ينفون جميع الصفات، وبطبيعة الحال تنفيه الجهمية لأنهم ينفون الكل وكذلك الباطنية، فكل النفاة وكل المؤولين يشتركون جميعاً في نفي الصفات.
قال المصنف: [فإبليس -مع كفره- كَانَ أعرف بربه من الجهمية] ، هذا القول إذاً ينطبق عَلَى جميع هَؤُلاءِ، وإن كَانَ إبليس قد كفر به ولكن كفره من كفر الكبر والإباء إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34] .
الكفرة ملة واحدة وأسبابه تختلف
فالكفر أنواع: كفر يتعلق بالطاعة، وكفر يتعلق بالمعرفة، وهَؤُلاءِ الجهمية وغيرهم من نفاة الصفات كَفَرُوا بمايتعلق بالمعرفة، " أي: معرفة الله " لأنهم جحدوا أسماء الله وجحدوا صفاته، والكفر يختلف في سببه ودافعه فإبليس أبى واستكبر أن يقر بالأمر في ذاته ونفاه ونفى حكمته.
واليهود كفرهم من باب الحسد وهو قريب من كفر إبليس، لأن إبليس حسد آدم عَلَى المنزلة من حيث الدافع، لكن اليهود لا ينكرون النبوة في ذاتها بل يقرون بالنبوة والأنبياء، لكنهم كانوا يريدون أن يكون النبي من بني إسرائيل، فكفروا بمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال أبو جهل: من بني هاشم إذاً كفرنا، فليست القضية قضية حق أو باطل، بل ما دام أنه من بني هاشم إذاً كفرنا، لأننا كنا وإياهم كفرسي رهان، ولأنهم قالوا: منا نبي ولا نستطيع أن نأتي بنبي وهكذا.
إذاً فأبواب الكفر مختلفة، والمقصود هنا: أن إبليس في باب المعرفة أعرف بربه من نفاة الصفات.
شبهة في إثبات صفة اليد وردها(1/382)
يأتي هنا إشكال قال المصنف: [ولا دليل لنفاه الصفات فيه، وهو في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [يس:71]] .
فيقولون: ليس لله يد عَلَى الحقيقة، ولا يتصف الله باليد كما تقولون؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذكر في هذه الآية أنه خلق الأنعام فقال: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يس:71] فَجَمَعَ اليد، وأنتم تقولون: إن لله يدين، وتقولون: إن المصدر لا يُثَنّى ولا يجمع.
المقصود هنا هو قوله: أَيْدِينَا فَقَالُوا: أنتم تقولون: إن لله يداً وتقولون: إن لله يدين وتقولون: إن لله أيدي، وهذا ما وردت به النصوص، فكيف تقولون: إن الله يدين كما ذكر، فنحن نقول لهم: ما ذكره الله في الآية: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] فنحن نقول لهم: هذا فيه إثبات أن لله تَعَالَى يدين، كما يقول في الآية الأخرى رداً عَلَى اليهود في قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَة [المائدة:64] فلما كَانَ المقام مقام رد عليهم من جهة إثبات الصفة لله عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فعلمنا بذلك قطعاً وصراحة أن لله تَعَالَى يدين، وأن الصفة بلفظ اليدين، ولم يَقُل أيديه مبسوطة.
وكما جَاءَ في الأحاديث الصحيحة (وكلتا يديه يمين) أي: هما يدان، ويأتي في لغة العرب إطلاق المفرد وهو في الحقيقة مثنى وهذا معروف، ولأن جميع النَّاس لكل واحد منهم يدان من حيث العدد، فإذا قال رجل: أخذت بيدي أو عملت بيدي؛ فإنه لا يعني بذلك أنه ليس له إلا يد واحدة، وهذا واضح جداً، ولله المثل الأعلى.
وإذا استخدم الجمع فما معناه وكيف نفهمه؟(1/383)
نقول: بما أن القُرْآن جَاءَ بأرقى وأفصح الأساليب العربية بلا شك، ولا ينازع في ذلك أحد من هَؤُلاءِ المناظرين، فالإضافة لمَّا جاءت إِلَى ضمير الجمع جُمع المضاف، لأن أول الآية أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا [يّس:71] بلفظ الجمع. لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] لأن المضاف إليه ضمير الجمع "نا" فيجمع إذاً المضاف لمناسبة المضاف إليه، فليس في ذلك نفي لكون اليدين اثنتين وهذا باب معروف في اللغة العربية، كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا [التحريم:4] وهذا لا يناقشون فيه من جهة اللغة.
والمصنف هنا قَالَ: [لأنه تَعَالَى جمع الأيدي لما أضافها إِلَى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان، فاللفظان للدلالة عَلَى الملك والعظمة -كلاهما- ولم يقل "أيديَّ"] لأنه إذا أراد أن يجمع المضاف والمضاف إليه مفرد، كما لو كَانَ التعبير هكذا لقَالَ: "أيدي" فهذا المضاف جمع والمضاف إليه مفرد "أيديَّ" فليس هذا هو المراد بذلك، وإلا لو قال "أيدي" لفهمنا أنها أيدي، فلم يقل "أيديَّ" مضافاً إِلَى ضمير المفرد، ولم يقل يدينا بتثنية اليد مضافة إِلَى ضمير الجمع [فلم يكن قوله: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] نظير قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75]] .
أي: ليست آية مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا [يّس:71] مما ينفي دلالة لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ [صّ:75] أو بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] وأمثال ذلك مما ورد في إثبات اليدين، لأنها وردت بهذا اللفظ في المقام الذي لا يحتمل التأويل في الآيات، وكذلك في الأحاديث الصحيحة الثابتة في الصحيحين وغيرهما.(1/384)
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى إثبات صفة الوجه لله تعالى، وقد سبق أن ذكر الآيات الدالة عَلَى إثبات الوجه كقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه [القصص:88] وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ [الرحمن:27] وغير ذلك مما يدل عَلَى إثبات الوجه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأنه صفة له تعالى، ولا نقول: إنه ذاته، ولا نقول: إن ذلك يقتضي أن له أعضاء أو جوارح، أو أركاناً، وإنما هو صفة عَلَى الحقيقة بلا كيف، كما قال الإمام أبو حنيفة: "له وجه ويد ونفس، وقَالَ: كل ذلك فهو له صفة بلا كيف" يعني: أننا نجهل الكيفية.
ويستدل عَلَى ذلك بالحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد ومسلم وغيرهما (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وورد في رواية (حجابه النار) والمعنى واحد ولا منافاة بينهما، لأنه قَالَ: (لو كشفه لأحرقت سبحات) أي: لأحرقت أنوار وجهه (ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، لأن المخلوقات لا تصمد ولا تقف أمام نور الله عَزَّ وَجَلَّ، فهو نار محرق بالنسبة لها فحجابه النور أو حجابه النار، لا منافاة بينهما
ولو كشف سبحانه هذا الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وهذا دليل عَلَى عظمة الله عَزَّ وَجَلَّ، وعلى أنه لا يستطيع البشر أن يتخيلوا ولا أن يدركوا كنه ذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهو كما قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] وهو أقوى في الدلالة عَلَى النفي منلا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ [الأنعام:103] ، لأن الإدراك العلمي أوسع من الإدراك الحسي البصري، فإن كثيراً من الأشياء نسلم بها علمياً وذهنياً، وإن كنا لا نستطيع أن نراها لأن هذا مجال أوسع.(1/385)
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نفى الإحاطة به علماً في الدنيا وفي الآخرة، ولما كَانَ سيرى في الآخرة عَلَى الحقيقة نفى الإدراك مع إثبات النظر والرؤية فقال: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصار [الأنعام:103] مع أنه ثابت أن المؤمنين يرونه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
لا يقال لصفات الوجه واليدين وغيرها أعضاء وتعليل ذلك
وبعد إثبات هذه الصفات قَالَ: [ولكن لا يُقال لهذه الصفات إنها أعضاء] فنحن نثبت الوجه واليد والعين وكل هذه صفات، ولا نقول: إنها أعضاء أو جوارح أوأركان أو أدوات، ثُمَّ أخذ يعلل لهذا، يقول: [لأن الركن جزء الماهية] يعني في حق الماهيات المعروفة، أي: في المخلوقات المعروفة الركن هو جزء الماهية الذي إذا ذهب ذهبت الماهية، وهو معروف، فمثلاً:
نحن نقول: الركوع ركن في الصلاة، فلوصلى أحد ولم يركع فليس له صلاة، وكذلك الفاتحة ونحوها من الأركان إذا لم يأتي بها فلا صلاة له، لأن الركن هو الجزء من الماهية، وكذلك لو قلنا بالتعريف المنطقي المجرد أن الإِنسَان حيوان ناطق، فيقولون: الركنان هما الحيوانية والناطقية، فإذا انتفت الحيوانية انتفى ركن الماهية، فلم يعد هناك شيء اسمه إنسان، فمثلاً النباتات ليست إنساناً لانتفاء أحد أركان الماهية، وإذا انتفى ركن منها انتفت الماهية، لكن المقصود أننا لا نقول عن الصفات الإلهية هذه أركان، ويكفينا أنه لم يرد في حق الله عَزَّ وَجَلَّ إثبات كلمة الركن فلا نقولها، والله تَعَالَى هو الأحد الصمد سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/386)
يقول: [والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية] ونقول في كلمة العضو مثلما قلنا في كلمة الركن، لأن معنى العضية: التفريق [ومن هذا المعنى قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91]] يعني: أعضاء، ففرقوا القُرْآن آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، فجعلوه عضين أي: أعضاء، فالشيء العضوي هو الذي يتكون من عناصر أو عدة أشياء يمكن أن يوجد البعض منها وننفي البعض منها، فنحن لا نطلق ذلك في حق الله عَزَّ وَجَلَّ. [والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع] وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ [الأنعام:60] ما جرحتم أي: اكتسبتم وعملتم، وفيها نوع من معنى الاكتساب، فنقول: اليد الجارحة فيها أيضاً معاني الاكتساب فنلاحظ أن هناك معاني لهذه الألفاظ ودلالات لا تليق بالله عَزَّ وَجَلَّ، مثلاً معنى الاكتساب ومعنى الانتفاع.
ويكفينا أنها لم ترد لكن لا بد أنها لا تخلو من خطأ، وكذلك الأدوات، لماذا؟ لأن الأدوات بالنسبة للإنسان كما هو معلوم هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة أو دفع المضرة، فالسيف آلة والرمح آلة والمحراث آلة، فهل نقول: نثبت آلات لله عَزَّ وَجَلَّ وننفي آلات عن الله عَزَّ وَجَلَّ؟ نقول: هذه الألفاظ لم ترد ولهذا نَحْنُ نتجنبها.
يقول: [وكل هذه المعاني منتفية عن الله، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تَعَالَى] وهكذا العبرة عندنا بالورود [فالألفاظ الشرعية -التي جاءت في الكتاب والسنة- صحيحة المعنى، سالمة من الاحتمالات الفاسدة] دائماً [فلذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً لئلا يثبت معنى فاسد، أو ينفي معنى صحيح وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل] .(1/387)
وهذا التلخيص من المُصْنِّف في الأخير هو الذي يردنا إِلَى أصل القضية، وهو أن كل لفظ مجمل في حق الله عَزَّ وَجَلَّ لا نستخدمه ولا نستعمله، لأنه ما دام يحتمل معنيين أحدهما حق والآخر باطل، فإننا لابد أن نخطأ إذا أثبتناه بالكلية، أو نفيناه بالكلية، ولهذا لا نطلقه بالمرة، وإنما نقف عندما ورد، ونثبت ما ورد.
هذه هي القاعدة الأساسية، وقد استثنى من ذلك -كما سبق- أنه قد يُوضح المعنى الشرعي بكلام آخر، أو بعبارات أخرى، المراد منها إيضاح دلالته مثل ما قلنا: استوى بذاته، ثُمَّ وضحناه وقلنا مباين لخلقه، من غير اختلاط ولا ممازجة، وهذه العبارات يستخدمها بعض السلف بقصد إيضاح المعنى الأساسي لا بقصد استخدام معنى جديداً له دلالة مجملة، فنقف حيث وقف السلف الصالح وهو أن ما ورد به النص قلناه وما نفاه نفيناه.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وأما لفظ الجهة، فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمرٌ موجودٌ غير الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، تَعَالَى الله عن ذلك.(1/388)
وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار، فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم، حيثُ انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع، عال عليه، ونفاة لفظ "الجهة" الذين يريدون بذلك نفي العلوّ يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كَانَ قبل الجهات، وأن من قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجوديَّاً؛ بل أمر اعتباريّ، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بموجود] اهـ.
الشرح:
موضوع الجهة وما يتعلق به لا يخرج عما سبق؛ لكن لعلاقته بإثبات صفة العلو لله تَعَالَى -وهي ستأتي وقد سبقت أيضاً- فنحن نقدم للكلام فيها ببيان مذاهب النَّاس في إثبات هذه الصفة.
مذهب السلف وهو إثبات صفة العلو
المذهب الأول: إثبات صفة العلو لله سبحانة وتعالى، وصفة العلو دل عليها القُرْآن والسنة، ودل عليها إجماع السلف الصالح وتدل عليها العقول والفطر السليمة جميعاً، عند المؤمنين وعند الكفار، بل ذكر بعضهم أن ذلك حتى عند الحيوان لمن تأمل، وهو أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق المخلوقات.(1/389)
وكل ما يمكن أن تتصور من الأدلة فإنه يدل بوضوح وجلاء عَلَى علو الله تَعَالَى فوق مخلوقاته، وأما استواؤه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العرش فهذا دل عليه الوحي، ولو لم يأتنا نص لما علمنا أنه استوى أو لم يستو؛ لكن نَحْنُ نعلم أنه فوق المخلوقات، لكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أخبرنا بالوحي أن له عرشاً هو أعظم من جميع المخلوقات، وأنه سبحانه مستو عَلَى ذلك العرش بكيفية لا نعلمها والعرش فوق جميع المخلوقات والله فوق العرش الذي هو أكبر من جميع المخلوقات؛ هذا المذهب الجلي الواضح الذي لا ينكره عقل ولا فطرة إلا إذا تلوث العقل أو فسدت الفطرة.
مذهب بعض الخلف وهو إنكار العلو
المذهب الثاني: هو مذهب الذين أنكروا علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى خلقه، وقد انقسموا في هذه الصفة إِلَى قسمين أساسيين:-
(أ) أهلالحلول والاتحاد.
وهم الذين يقولون: إن الله في كل مكان -والعياذ بالله- وأنه يحل في كل شيء، وهو حقيقة كل شيء، وأن الكون ما هو إلا مظاهر له، وهذا كفر صريح باتفاق فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ، وهذا مذهب الاتحادية والحلولية الذي أصله من المجوس والبوذيين في الهند ثُمَّ انتقل إِلَى بعض من ينتسبون إِلَى الإسلام كابن عربي وابن الفارض والتلمساني وابن سبعين وأمثالهم.(1/390)
ويستدلون بما يُنسب إِلَى أبي حنيفة من مناظرة مكذوبة ومع الأسف أنها رائجة، حتى أن بعض النَّاس يطبعها ويتركها في برواز، وهي أن الإمام أبو حنيفة ناظره دهري زنديق لا يؤمن بالله واتفقوا أن يكون موعد المناظرة في مسجد معين ومكان معين، وتأخر الإمام أبو حنيفة ثُمَّ لما وصل إليه قالوا له: ما الذي أخرك يا أبو حنيفة؟ قَالَ: كنت واقفاً وجاء خشب وتجمع ثُمَّ تكونت منه سفينة، ثُمَّ كذا ثُمَّ قادتنا السفينة إليك فتأخرتُ، فَقَالَ له الرجل: كيف يتجمع بذاته؟ وكيف يمشي بذاته؟ قَالَ: فكيف بهذا الكون من يسيره ويدير شؤونه؟! ثُمَّ يقول الدهري الزنديق للإمام أبي حنيفة أين الله؟! قَالَ: الله في كل مكان، قال له: كيف يكون في كل مكان؟ قَالَ: مثل الزبدة في اللبن.
هذا الكلام لا يصح، ولا تصح القصة من أصلها.
وهل يمكن لأحد في زمن الإمام أبي حنيفة أن يأتي يناظر النَّاس وينكر وجود الله علناً؟! وإذا كنا الآن في زمن السوء الذي نعيش فيه لا يستطيع أحد أن يأتي ويقول: أنا أنكر وجود الله، فإن العوام يقتلونه قبل أن يصل إليه العلماء، فكيف بذلك الزمن؟ فلا يمكن حصول هذه القصة أصلاً، ثُمَّ كيف ينكر وجود الله، ثُمَّ يقول له: أين الله؟! فَيَقُولُ: هو كالزبدة في اللبن.
وكيف يقول الإمام أبو حنيفة هذا، وهو الذي يقول كما في الفقه الأكبر وفي طرق أخرى غير الفقه الأكبر: من أنكر أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى العرش فقد كفر، هذا ثابت عنه في عدة كتب من كتب المناقب، مثل مناقب أبي حنيفة.
فالمقصود أن الذين يقولون: إن الله في كل مكان بهذا المعنى، فإنه مخالف ومنافٍ لما عليه السلف الصالح، فإنهم أجمعوا عَلَى أن الله فوق العرش، كما أجمع عَلَى ذلك المفسرون، ونقل الإجماع ابن كثير وغيره؛ أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فوق العرش وأنه وفي كل مكان بعلمه.(1/391)
نعم علم الله تَعَالَى في كل مكان، فهو يعلم ما يدور في هذا الكون في أي مكان كان، ولو كَانَ في باطن الأرض، كما ذكر العبد الصالح لقمان: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [لقمان:16] وقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] وأمثال ذلك كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] أي: بعلمه، لكن ذاته سبحانه في السماء، كما أقر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجارية عندما قالت في السماء.
ويستدلون أيضاً بما ذكرنا سابقاً يقولون مثلاً قال الله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام:3] وما أشبه ذلك من الأدلة المجملة التي لا دليل لهم فيها، والمقصود هنا عرض المذهب إجمالاً لا تفصيل الرد عليها.
ب/ الفلاسفة والباطنية والأشاعرة ينفون عن الله جميع الجهات.
والفرقة الثانية من نفاة العلو: الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته ولا قدامه ولا وراءه، ولا عن يمينه ولا عن شماله، فينفون جميع الجهات، وهذا مذهب حكماء اليونان -كما يسمونهم - أو فلاسفة اليونان أو بعضهم.(1/392)
ثُمَّ قال به الباطنية وأمثالهم من الذين غلو في النفي فيقولون: لا نقول داخل العالم ولا خارجه، وهذا هو مذهب الأشعرية الذي ذكر في كتاب المواقف، الكتاب المعروف الذي يُدرس الآن في الجامعات خارج المملكة عَلَى أنه كتاب العقيدة، فيقولون: قالت الحشوية أنه فوق المخلوقات، ونقول نحن: إنه لا داخل العالم ولا خارجه، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ عبارة عظيمة، وهي: "عند العقلاء سواء أن تقول، فتشت عنه في كل مكان، وفي كل جهة فلم أجده، أو تقول: هو معدوم" أي: إذا قلت لك ما رأيك في كون هذا الشيء لا يوجد لا داخل العالم ولا خارجه؛ لفهمت كلامي هذا أنني أنفي وجوده نفياً مطلقاً.
إذاً: أنا قصدي ليس موجود عَلَى الإطلاق، فنقول لك: أي عاقل لا يفرق بين قولك: إن الشيء معدوم نهائياً، وبين أنك تقول: لا داخل العالم ولا خارجه، إذاً ليس له وجود، وحقيقة قولهم نفي وجوده، ولكنهم يريدون تنزيهه كما يزعمون أو كما يعتقدون.
إذا قال المؤمن السني الذي يتبع السلف الصالح: إن الله تَعَالَى فوق المخلوقات، أو قال في السماء، كما جَاءَ في القُرْآن والسنة، فسيأتيه المجادلون من أهل البدع، فيقولون له: يلزمك من هذا أن الله له مكان، أو أن الله له جهة، ونتيجة لذلك يقولون: نَحْنُ ننفي الجهة عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
المعنى الحق والمعنى الباطل لكلمة جهة
كلمة الجهة محتملة وفيها لبس، ولابد من التفصيل فيها لنعرف المعنى الصحيح والمعنى الباطل أو الخطأ لهذه الكلمة فإذا قال أحد: إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له جهة، قلنا له: ماذا تريد بقولك: إن الله له جهة، فإن قَالَ: أريد العلو، أي: أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عال عَلَى المخلوقات.(1/393)
وهذه الكلمة وردت في بعض كلام الأئمة من السلف فإنهم يقولون: نعم لله جهة، ويقصدون بها (جهة العلو) ، أي: أنه فوق المخلوقات؛ فنقول لمن يقول ذلك إثباتك للعلو حق وصواب، لكن كلمة الجهة تحتمل معنى آخر يلزمك به أهل البدع فلا تستخدم هذه الكلمة وقل: هو فوق المخلوقات كما أخبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وإن جَاءَ أحد: وقَالَ: ليس لله جهة قلنا: ماذا تريد بذلك؟ فإن قَالَ: أريد أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحصره شيء وأنه فوق كل شيء، وأعظم من كل شيء، ومحيط بكل شيء، قلنا: هذا المعنى حق لكن هذه الكلمة (ليس له جهة) يستخدمها نفاة العلو، فيقولون: ليس له جهة أي: أنه ليس فوق المخلوقات، فلا تستخدم هذه الكلمة التي قد تلتبس عَلَى بعض الناس، واستخدم الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها ولا لبس.
ونقول: هو فوق المخلوقات كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18] يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم [النحل:50] أو هو في السماء، كما قال تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أو كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) والأمثلة كثيرة، وموضوع العلو والاستواء سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى.(1/394)
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق] والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي أوجد كل موجود فالموجودات خَلْقُ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما العدم فهذا لا وجود له [فإذا أريد بالجهة أمر موجود غيرُ الله تَعَالَى كَانَ مخلوقاً، والله تَعَالَى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات تَعَالَى الله عن ذلك] أي: إذا أردنا بالجهة شيئاً موجوداً غير الله كَانَ هذا المكان أو الحيز مخلوقاً، فإذا قلنا: الله في جهة، ونقصد به الجزء الأعلى من الكون، أي: داخله، فيكون بهذا قد حصرنا الله سبحانه وجعلناه في شيء من مخلوقاته معين.
كيف يحد الله وهو أعظم من كل شيء؟
لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يصح في الأذهان أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يحصره شيء أو يحده شيء من مخلوقاته، كيف وهذه المخلوقات جميعاً ما هي في قبضته - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إلا كالخردلة في يد الإِنسَان، فعلى أي اعتبار نظرنا فهو فوقها وهو أعظم منها.
وإذا أردت إيضاح ذلك فتأمل معي هذا العالم الذي نعيش فيه الآن عَلَى هذه الأرض وفوقنا السماء الدنيا، وهي أقرب سماء إلينا، أو هي التي نراها ونرى العالم الذي داخلها، هذه السماء الدنيا وسائر السماوات السبع ما هي في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أكبر وأعظم من كل شيء، فكيف يكون حالنا في هذا الكوكب ونحن في هذه الأرض التي لا تكاد تكون بالنسبة إِلَى عالم السماء الدنيا إِلَى الكون المنظور إلا هباءة أو ذرة؟!(1/395)
فلو نظرنا إِلَى ما يقول علماء الجغرافيا، الذين لا يؤمنون بأن السماوات سبعاً، ولا يؤمنون بوجود الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولا يؤمنون أصلاً بأن هناك شيئاً اسمه السماء الدنيا، لأن النظرة عندهم نظرةٌ مادية فقط، فبالمنظار المقرب والمكبر الذي يمتد عبر المراصد إِلَى آفاق الكون ينظرون به إِلَى آفاق السماء ويتخيلون أن السماء فراغ، وليس هناك جرم محسوس مخلوق يُقال له: السماء!
هكذا أكثرهم، حتى بعض الْمُسْلِمِينَ مع الأسف -ممن كتب في هذا الموضوع- تجد من كلامه أن هذا الكون فضاء وفراغ يتمدد، وليس هناك جرم يسمى سماء.
السماء جرم حقيقي بدلالة الكتاب والسنة
ونحن بطبيعة الحال ما دمنا عند قضية وجود السماء، فإن نصوص الكتاب والسنة قطعية وواضحة في إثبات أن السماء جرم حقيقي موجود، وإلا فما معنى قوله تعالى: سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً [الملك:3] ، وما معنى ما جَاءَ في حديث الإسراء والمعراج، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصعد إِلَى السماء الدنيا ويستأذن ملائكتها هو وجبريل، ثُمَّ يصعدان إِلَى السماء التي تليها ثُمَّ إِلَى التي تليها ... ، بل هذا كله يدل عَلَى أن السماء أجرام حقيقية.
وفي القُرْآن ما يدل عَلَى هذا دلالة واضحة قال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج:8] والمهل: هو الرصاص المذاب أو هو الزيت السائل المعروف عند العرب، فكونها تتحول إِلَى حالة سائلة فيه دلالة بينه عَلَى أنها جرم حقيقي، وأنها في حالة صلبة، وأن هذه السماء جسم، أو شيء موجود حقيقة وليس مجرد فراغ أو هواء ننظر إليه ونظن أنه لا نهاية له، وبهذا نعلم خطأ من يقول: هذا الكون اللانهائي، وهذه العبارة غير صحيحة، فالسماء الدنيا لها نهاية بل الكون كله له نهاية، وكل المخلوقات لها نهاية، فكيف بهذه الدنيا التي هي محوية بالسماء التي فوقها؟!
وأعظم من هذه السماء الكرسي، وأعظم من الكرسي العرش.(1/396)
لا يلزم من إثبات علو الله انحصاره في مكان
الذين خاضوا في مسألة نفي علو الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بحجة أنه يلزم من ذلك أن الجهة تحصره، أو أن مكاناً يحويه من هذه الدنيا، هَؤُلاءِ قاصري النظر والإدراك بالنظرة إِلَى العلم الحديث، فما بالك بالنظرة إِلَى الكتاب والسنة؟!
ما أوسع هذا الكون!
يقول أصحاب العلم الحديث: هذا الكون فيه سعة وفيه امتداد لا يستطيع العقل أن يتخيله ولا يدري أين جهاته ولا يدري أين نهايته، وكما هو معلوم أن الأرض هي مثل الهباءة بالنسبة إِلَى هذا الكون الكبير جداً، فمن أي جهة من الأرض انطلقت المركبة الفضائية -مثلاً- فإنها تحتاج إِلَى أن تقطع في أعماق هذا الكون المسافات العظيمة، وما يزال الفضاء أوسع وأبعد مما يُتخيل، ونتيجةً للضخامة وكبر هذا الكون الهائل العظيم، فهم يعلنون أن هذا الكون أعظم من أن يكون نجماً أو كوكباً بل هو مجرة ومجرات ومجرات.
والمجرة تحوي ملايين من النجوم، والشمس -مثلاً- من أصغر النجوم في الكون، والشمس تتبعها المجموعة الشمسية، فإذا كانوا يكتشفون بعد الحين والحين مجرة، والمجرة فيها ملايين النجوم، والنجم أكبر من الشمس بأضعاف، والنجم له كواكب وتوابع كثيرة قد تبلغ أحياناً عشرات أو أكثر! فكيف سيكون حجم هذا الكون؟!
وإن مثل علماء الفلك، كما قال بعضهم: مثل أناس كانوا محصورين في سور معين فأخذوا يعالجون الباب حتى فتحوه، ولما فتحوا الباب وإذا بسور آخر وفيه باب، وَقَالُوا: متى فتحنا هذا الباب وصلنا إِلَى النهاية، فكلما فتحوا باباً يكتشفون باباً آخر وهكذا، كلما تقدم العلم يفتحون باباً جديداً ويكتشفون أنهم ضاعوا، وفي النهاية أصبحوا عاجزين، فوضعوا مراصيد ضخمة جداً لكنها تكل تماماً، وترجع إليهم وهي حاسرة كسيرة لا تعرف هذه السماء الدنيا ولا تدري أين نهايتها، فسُبْحانَ اللَّه! إذا كَانَ عجزهم هذا عن سماء الدنيا، وعجزوا عن تصورها وهم بهذا العلم وبهذه المراصيد.(1/397)
فهل يصح بهذا ما يقوله علماء اليونان من أنه سبحانه: لا داخل العالم ولا خارجه؟! بحجة أنَّا لو قلنا: إنه فوق للزم أنه في جهة، وأخذ بهذا القول علماء الكلام ومنكرو العلو، فكانوا يعتقدون أن السماء هذه مشابهة للأرض؛ أو قريبة للأرض في حجمها، وأن النجوم والكواكب هي مثل القناديل المعلقة في هذا المسجد أو في أي مكان، هكذا كَانَ تصور الذين نفوا علو الله ونفوا صفات الله عَزَّ وَجَلَّ.
والآن أصبح العلم الحديث يعجز ويحار في فقه ذلك ولا يستطيع أن ينفي أي شيء؛ لأنه لم يفقه هذه الحياة الدنيا، ولا هذه السماء الدنيا، فأصبحوا لا يستطيعون أن يوجدوا لغة يفهمونها للأطوال والأبعاد الكونية، ولذلك تجدون الأبعاد الفلكية تختلف جداً عن الأبعاد المعروفة لنا في الأرض، نَحْنُ نقيس المسافات -مثلاً- بالميل وبالكيلو، لكن علماء الفلك يقيسون المسافات بالسنة الضوئية، فالقمر -مثلاً- يستغرق نوره حتى يصل إِلَى الأرض ثانية واحدة تقريباً، لأن القمر يبعد ثلاثمائة ألف كيلو متر، فالقمر في ثانية واحد يصل نوره إِلَى الأرض، لكن الشمس يصل نورها إِلَى الأرض بعد ثمان دقائق، لأنها تبعد "93" مليون ميل من الأرض تقريباً، فإذا كَانَ نور الشمس يصل إلينا وهي عَلَى بعد "93" مليون ميل من أميالنا المعروفة في الأرض في ثمان دقائق.(1/398)
فإذا قسناها بالسنة الضوئية فكم ستكون ملايين؟ لا نستطيع أن نُعبر عنها إلا عن طريق الأس أو القوة، يقول إنشتاين: إن حجم الكون تقريباً 10 أُس 82، يعني: عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة، وليس هناك اصطلاح رياضي نعبر عنه، وإنما بلغة الأرقام فقط نعبر عنها، عشرة مضروبة في نفسها اثنين وثمانين مرة من السنين الضوئية، ومع هذا فما يزال هذا الكون في تمدد واتساعٍ ولا يعنون بذلك -أي: أهل العلم الحديث- إلا ما كَانَ دون السماء الدنيا، أي: الفراغ بين هذه الأرض التي نعيش عليها وبين السماء الدنيا هو فقط الذي لا يتمدد، ولذلك أوجدوا وحدات جديدة للقياس.
أهل الكلام لم يعرفوا حقيقة هذا الكون
إن عقولنا تعجز عن تصور عظمة الكون، ومع ذلك تجد من يخوض في عظمة الله ويقول يلزم أن يكون في جهة وأن تخلو منه باقي الجهات، سُبْحانَ اللَّه العظيم! ما أجهل الإِنسَان! إذا أنت لم تعرف هذا المخلوق ولم تقدره، فكيف تتكلم في الخالق وتقول: يلزم ويلزم؟! وهذا الكلام لو قاله إنسان في حق المجموعة الشمسية، أو في غيرها لسخر منه الناس، فضلاً عن الكون، فضلاً عن خالق الأكوان جميعاً.
فعلى المخلوق أن يعرف قدره، ويعرف عجزه وضعفه.
هذه النجوم يقدر أعمارها كما يقال بملايين من السنين، ومع ذلك كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا النجم الذي يبقى ملايين ثُمَّ ينطفئ أو يتناثر في الفضاء، عبرة للإنسان المسكين لينظر كم سيعيش في هذه الدنيا؟ ستين سنة تقريباً، وستين سنة لا تساوي بالنسبة إِلَى هذه الأبعاد الكونية أي شيء حتى يُقال إن بعض النجوم كالشعرى مثلاً المذكور في قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى [النجم:49] يُقدر بُعده عنا بنسبة ستة ملايين سنة ضوئية، أي لو أن الشعرى انطفأت في هذه اللحظة فإننا نفقد نورها بعد ستة ملايين من السنين، لأن النور يستمر في المجيء ستة ملايين سنة ضوئية!(1/399)
ثُمَّ نجد بعد هذا من يتكبر عَلَى الله تعالى، ويتطاول عَلَى أوامر الله وعلى نواهيه، ويتجرأ عَلَى حدوده، ويتكلم في ذات الله وفي صفاته، ينفي ما يريد ويثبت ما يريد، ومع الأسف فإن بعض العلماء كتب كتاباً اسمه هموم داعية يقول: ما دام أن الكون بهذه الأبعاد، والنَّاس اكتشفوا علو الفلك فلا داعي من أن نخوض ونتكلم في العلو ولا في الفوقية ولا في الاستواء! وينتقص مذهب السلف بناءً عَلَى أن الفلكيين توصلوا إِلَى آفاق جديدة في علم الفلك، فيا سُبْحانَ اللَّه! أليس ما وصلوا إليه هو دليل لمذهبالسلف أم أنه دليل عليه؟
ولا تقف ما ليس لك به علم
وترى من علماء الفلك وغيرهم من يقول: ثُمَّ ماذا وراء ذلك؟!
نقول لهم: نَحْنُ نعلم ما وراء ذلك، فإن كنتم لا تعلمون ما وراء ذلك فقفوا عند حدود ما تعلمون، ولا تتطاولوا عَلَى ما بعد ذلك، سواء في ذلك من غلط من فلاسفة اليونان ومن اتبعهم، أو من تكلم في هذا من فلاسفة العصر الحديث -الجغرافيين المتفلسفين- ومن يتبعهم في قولهم ممن خاض في هذه المسألة، كل أُولَئِكَ خالفوا قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ ِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الاسراء:36] فأولئك قفوا ما ليس لهم به علم فوقعوا في الضلال ووقعوا في التخبط.
والمقصود أنه إذا أريد بالجهة أمر وجودي، أو جهة من الجهات الموجودة، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أعظم من كل هذه الموجودات، ونحن لا نثبتها لك ولا يصح ذلك، وإن أُريدَ بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع عالٍ عليهم.(1/400)
فلم نقصد بكلمة الجهة حيزاً معيناً، وإنما أردنا شيئاً اعتبارياً أي: بالنسبة للكون فإنه توجد جهة ينتهي إليها فنقول ما فوق الكون، فلو قلنا: الكرسي فوق السماوات السبع، وفوقه العرش والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فوق العرش، إذاً الجهة هنا ليست شيئاً وجودياً وإنما شيئاً اعتبارياً، وقد قلنا -ونعيد-: إن الجهة يمكن أن تكون أشياء اعتبارية فقط، فنحن -مثلاً- نقول للسقف: إنه عالٍ علينا وما ذلك إلا باعتبارنا نَحْنُ لأننا تحته.
ولو أن هنالك بيتاً للنمل في سقف، والنمل يمشي فيه، فبالنسبة للنملة يكون العلو ما نَحْنُ عليه ونعده أسفل، فالقصد أن هذا شيئاً اعتبارياً.
فباعتبار الكون وأنه كله ضئيل وحقير بالنسبة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، هل هناك جهة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟ نعم، جهة الفوقية، أي: أن الله فوق هذا الكون، ولكن نفاة لفظ الجهة نفوا الاحتمال الصحيح ويريدون بذلك نفي العلو.
اللازم الباطل
يذكر نفاة العلو من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة -وهذا في جميع كتب الأشعرية والمعتزلة - فكيف نثبت له جهة وهو موجود قبل الجهات؟ وهو الذي خلق الجهات؟ ولو قلنا: إنه في جهة للزم أن يكون شيء من العالم محيطاً به!!
وهَؤُلاءِ يتكلمون عن الجهة باعتبارها حيزاً معيناً في طرف من أطراف الكون، وهذا من ضعف الخيال الإِنسَاني ومن قصور العقل البشري، نعم. الجهات كلها مخلوقة إذا قُصِدَ بالجهات الحيز، وأما إذا كنا نريد بها شيئاً اعتبارياً فليس بلازمٍ أن يكون في حيز، وإنما الجهة التي يمكن -على كلامهم- أن تمنع هي أن تكون من هذا الكون نفسه، بحيث لا يكون في جهة أخرى.(1/401)
ثُمَّ يقولون: ومن قَالَ: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أي قدم الجهة التي هو فيها أو أنه كَانَ مستغنياً عن الجهة ثُمَّ صار فيها! فبين الشيخ: أن هذه الألفاظ ونحوها إنما تدل عَلَى أنه ليس في شيء من المخلوقات، فهم يريدون أن يقولوا: إن الله ليس حالاً في شيء من المخلوقات ولا يحويه شيء من المخلوقات -تعالى الله عن أن يكون حالاً أو محصوراً في شيء من مخلوقاته- وكل خلقه بالنسبة له كالخردلة في يد الإِنسَان، ولله المثل الأعلى.
وبناءً عَلَى قولهم السابق قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته ولا أمامه ولا خلفه وهذه عقيدة فلاسفة اليونان، أو بعضهم وهي التي عليها الأشاعرة كما في كتاب المواقف وغيره:
ثُمَّ يقول المصنف: [ما لا يوجد فيما لا نهاية له ليس بموجود] ، فإذا قلنا: إن الجهة لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فهو معدوم، وبمعنى أوضح: نفي التعيين كَانَ نقول: هذا الشيء لا داخل ولا خارج، هو نفي للماهية، أي: نفي للوجود.
وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: "لو قال أحد: ما هو العدم لقال لك: العدم هو الشيء الذي لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته"، وهذا تعريف صحيح باعتبار التعريفات السلبية، فالذين يصفون الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالعدم هروباً من إثبات العلو ما فعلوا ذلك إلا لأنهم ما فهموا معنى إثبات العلو، وما فهموا من إثبات الجهة -كما يسمونها- إلا حيزاً محصوراً موجوداً مخلوقاً.
ثُمَّ يأتي الحديث عن النزول والاستواء لما بينها من العلاقة، فإذا تكلموا في النزول قالوا: هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ نقول لهم: أثبتوا أولاً أنه عَلَى العرش، ثُمَّ اسألوا هذا السؤال، وهذا دليل التناقض الفكري الذي لا بد أن يقع فيه كل من أعرض عن الكتاب والسنة. وما مذهب أهل البدع إلا مجموعة أمور متناقضة.
هل الإمام أبو جعفر على مذهب الماتريدية؟(1/402)
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-:
وقول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: [لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]
[هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- لما يأتي في كلامه: أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه، فإذا جمع بين كلاميه، وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" عُلم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء، كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء، العالي عَلَى كل شيء.
لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال- كَانَ تركه أولى، وإلا تُسِلَطَ عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية، ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي!! وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي، فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره، كالسموات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات، كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل، كما تقدم، ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه: " السؤر " وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، إذ " السائر " عَلَى الغالب أدل منه عَلَى الجميع، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي -كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء- تَعَالَى الله عن ذلك.(1/403)
ولا يُظن بالشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أنه ممن يقول: إن الله ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين، كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تَعَالَى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، أو أن يكون مفتقراً إِلَى شيء منها، العرش أو غيره] اهـ.
الشرح:
من منهج أهل البدع أنهم يأتون إِلَى المتشابه من الكلام ويؤولونه، فأولوا كلام الله، وأولوا كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما بالكم بكلام البشر فبعض الماتريدية الحنفية المتأخرين في شروحاتهم عَلَى هذه العقيدة أو في كتبهم الأخرى يقولون: إن الإمام أبا جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ عَلَى العقيدة الماتريدية أي: عَلَى القول بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ويستدلون عَلَى ذلك بأنه قَالَ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات"، يقولون: والمعنى واحد.
وعليه: فالإمامأبو جعفر عَلَى مذهبنا، وهذا الكلام الذي نقوله هو مذهب الإمام أبى جعفر الطّّحاويّ، وهو مذهب الإمام أبى حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ كما سيذكر المصنف، والسبب الذي أوقعهم في ذلك هو اللبس والإجمال في العبارة ولهذا ينتقد المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هذه العبارة لأنها تؤدي إِلَى هذا اللبس فأخذ في إبطال ذلك فقَالَ: [إن قول الشيخ: "لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات" هو حق باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه، وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ لما يأتي في كلامه أنه تَعَالَى محيط بكل شيء وفوقه] .
وهذا الكلام مشابه لقوله في موضع آخر: [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه] .
فتركوا هذا الكلام الصريح المحكم وأخذوا بقوله المتشابه: "لا تحويه الجهات الست" وبناءً عليه قالوا: لا هو داخل العالم ولا خارجه ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا فوقه وتحته!
توجيه كلام الإمام الطحاوي(1/404)
يقول المصنف: [فإذا جمع بين كلاميه وهو قوله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وبين قوله: "محيط بكل شيء وفوقه" علم أن مراده أن الله تَعَالَى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تَعَالَى هو المحيط بكل شيء العالي عَلَى كل شيء، ولا يظن -نحن ولا كل منصف- بالشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه ممن يقول: إن الله تَعَالَى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين] لأن هذا الإطلاق نَفْيٌ للنقيضين، ويقول علماء المنطق، النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان معاً، فلا يمكن أن نقول: لا داخل العالم ولا خارجه ولا يمكن أن يكون داخل العالم وخارجه في نفس الوقت فالنقيضان لا يجتمعان معاً ولا يرتفعان معاً.
ثُمَّ يقول المُصْنِّف مستدركاً: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ -مع ما فيه من الإجمال والاحتمال -كان تركه أولى. وإلا تسلط عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
الثاني: أن قوله: "كسائر المبتدعات" - يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي] لأنه يقول: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وما زال الإشكال قائماً في العبارات وبهذا نعلم أنه ينبغي للإنسان أن يزن كلماته وعباراته فلا يأتي بعبارات خاطئة أو محتملة، فالمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أراد أن يؤكد أن الله لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات (أي: المخلوقات) .(1/405)
ثُمَّ بيَّن المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أنه إذا كَانَ قصد الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ بالجهات الست أشياء وجودية وأمكنة حقيقية، وإن المخلوقات تحويها أشياء مخلوقه وكل مخلوق يحويه مخلوق إِلَى ما لا نهاية، وهذا لا يصح أن يكون فلذلك يقول: [وفي هذا نظر! فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم] ، وإذا كَانَ قصده المعنى العدمي لأن الجهة -كما قلنا- لها معنيان: معنى وجودي، ومعنى اعتباري أو عدمي- فنقول: ليس كل موجود في العالم هو في العدم، فمثلاً هذا المسجد في المدينة، والمدينة في الأرض، والأرض في السماء الدنيا وهكذا.
فبعض الموجودات هي داخل موجود آخر، إلا الكون فلا يحويه موجود آخر، وإنما ينتهي بذلك إِلَى نهاية الكون أو سطح العالم، فيكون بعد ذلك العرش، وبعد العرش يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الذي استوى عَلَى العرش، وهو محيط به وبجميع المخلوقات عَلَى كيفية لا نعلمها يقول المصنف: [بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي] فإنها في الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة-[ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم] .
ومما يمكن أن يكون جواباً للإشكال الحاصل في قوله: "كسائر المبتدعات"، بأن كلمة "سائر" بمعنى: البقية، أو بمعنى الغالب، وهذا الأصح في لغة العرب، أن تكون بمعنى البقية لا بمعنى الكل، ونحن نستخدمها في معنى الكل، ونقول: أنا مثل سائر النَّاس أي: مثل كل النَّاس.(1/406)
فمن الناحية اللغوية كلمة "سائر" لا تطلق إلا عَلَى الباقي، لكن النَّاس استخدموها في معنى الكل، مثلاً في حديث الغسل من الجنابة "ثُمَّ أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: بعد أن غسل رأسه أو بعد أن توضأ "أفاض الماء عَلَى سائر جسده" أي: عَلَى بقية جسده، وكان ذلك بعد وضوئه كما هو ثابت في الصحيحين.
وهذا هو التعبير الصحيح في اللغة العربية؛ فيقول المصنف: [ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن "سائر" بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، هذا أصل معناها، ومنه "السؤر" وهو ما يبقيه الشارب في الإناء] فسؤر القطة ما بقي في الإناء بعد أن تشرب منه [فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، فيكون المعنى: أن الله تَعَالَى غير محوي] وأكثر المخلوقات محوية بمخلوق آخر إِلَى نهاية العالم.
وهذا الكلام الذي ذكره المُصْنِّف لعله منقول بالنص من كلام شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ الذي في التدمرية صـ 45، أو فيمنهاج السنة (1/250) ، وهذا يبين أن شارح العقيدة الطّّحاويّة يعتمد اعتماداً شبه كلي عَلَى كلام شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم، وكذا الحافظابن كثير والذهبي، ولكن اعتماده الأكثر عَلَى كلام ابْن تَيْمِيَّةَ، وابن القيم رحم الله الجميع.
وكان يترك التصريح بالأسماء خشية أن ينسب إليهم ثُمَّ يرد الحق الذي معه.
ماذا قال أبو حنيفة في علو الله تعالى؟
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به.(1/407)
وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى سماء الدنيا، كما أخبر الصادق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
فقوله مخالف لإجماع السلف، مخالف للكتاب والسنة، وقال شَيْخ الإِسْلامِأبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاذ بعد روايته حديث النزول يقول: سُئل أبو حنيفة؟ فقَالَ: ينزل بلا كيف. انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك، لِضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوالالسلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء عَلَى العرش.
ويقول بعضهم: بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تَعَالَى زيادة بيان، عند الكلام عَلَى قول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ: "محيط بكل شيء وفوقه" إن شاء الله تعالى] اهـ.
الشرح:(1/408)
قول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نظر، فإن أضداده قد شنعو عليه بأشياء أهون منه؛ فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به] في هذا نقدٌ لمن ينسب إِلَى الإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ قوله بنفي الجهات، سواء كَانَ التعبير بنفي الجهات كما قال الطّّحاويّ: [لا تحويه الجهات الست] أو أنه قَالَ: لا داخل العالم ولا خارجه، فيقول -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن ذلك لا يصح عنه وفي نسبة ذلك إليه نظر.
لأن أضداد الإمام أبي حنيفة شنعوا عليه بأشياء أهون من هذا، ولو سمعوا عنه أو بلغهم عنه هذا لشنعوا عليه به؛ لأنه أشنع وأعظم وأخطر، فنجد مثلاً في كتاب السنة، للإمام عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل -رحم الله الجميع ورضي عنهم-كلاماً طويلاً عن الإمامأبي حنيفة، وأقوالاً كثيرةً جداً، منها الثابت، ومنها غير الثابت، ومنها ما أخذ عليه شيء في عقيدته.
وذكر ذلك أيضاً ابن حبان في كتاب المجروحين وغيرها من الكتب التي تعرضت له وجمعت ما له وما عليه، كما جمع الخطيب في تاريخ بغداد أشياء له وعليه، فلو بدر عن الإمام أبي حنيفة نفي العلو عَلَى أي تعبير جاء، لكان ذلك من أشنع ما ينسب إليه، كيف وقد نسب بعضهم إليه ما لم يقل؟
فلا يمكن ولا يصح أن الإمام أبا حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ أو أحداً من السلف أنكر العلو، بل أورد الشيخ وأورد يره ما يدل عَلَى أن الإمامأبا حنيفة يثبت العلو فذكر من ذلك: [وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره - إن شاء الله تعالى-] في كتاب الفقه الأكبر.
فكان مما قَالَ: "من أنكر أن الله فوق العرش فقد كفر"، هكذا قال الإمام أبو حنيفة، من نفى أو من أنكر أن الله تَعَالَى فوق العرش فقد كفر، لأن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] .(1/409)
ثُمَّ بيَّن المُصْنِّف أن العبارات المجملة الأولى أن لا تطلق، ويكتفى بما ورد عن الله ورسوله كالاستواء والنزول ونحو ذلك.
ثُمَّ استطرد يقول: [ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل إِلَى السماء الدنيا] كما ورد بذلك الحديث الصحيح المتواتر الذي رواه جمع من الأئمة، ومن أكثر من أطال في نقل رواياته الإمام ابن عبد البر في كتاب التمهيد، وكذلك شرحه شرحاً مستفيضاً طويلاً شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه شرح حديث النزول، فمن ظن أنه عندما ينزل في الثلث الأخير من الليل، ويكون العرش فوقه، أو يكون محصوراً بين طبقتين من العالم.
فإن مثل هذه التصورات الجاهلية السخيفة الساذجة، أساسها سذاجة العقل وضيق الأفق، والإِنسَان مسكين لا يستطيع أن يتخيل شيئاً إلا عَلَى الكيفيات التي يعرفها، كما يُقَالَ: "لو أنّ رجلاً ولد في السجن أو عاش في السجن وهو صغير ولا يرى إلا الصراصير، وأكبر حيوان يراه في السجن هو الفأر، وما خرج إِلَى الدنيا ولا رآها، ويسمع أباه والسجناء يقولون: الفيل، الثور، البقرة، فإنه سيسأل أباه: يا أبي! الفيل أكبر من الفأر أم مثل الصراصير؟!! " وهكذا الفكر والعقل البشري محصور مسجون، فإذا جاءنا نصٌ فيه "ينزل ربنا إِلَى السماء الدنيا " قيل: معناها أنه بين سمائين!! ثُمَّ يتبادر سؤالٌ هل خلا منه العرش أم لا؟!
وهذه تفكيرات ساذجة سطحية تدل عَلَى ضعف إدراك الإِنسَان.
ولهذا أول ما وصف الله به المؤمنين، وهو أعظم وصف لهم في جميع أبواب العقيدة قوله تَعَالَى:الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] فنؤمن بالغيب، ونؤمن بأن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صادق فيما أخبر وأن رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذلك، وأن عقولنا عاجزة وكليلة عن إدراك أمور الغيب، وعلى هذه العقول أن تؤمن سواء فهمت حقيقة ذلك وكيفيته أو لم تفهمه، فإذا جادلت وما طلت وكيفت وحُرِفت، فإنها لا تكون مؤمنة بالغيب.(1/410)
ثُمَّ ينقل المُصْنِّف كلام شَيْخ الإِسْلامِ أبي عثمان الصابوني، وله كتاب في إثبات الصفات حققه الشيخ علي ناصر فقيهي وفيه يقول: "سئل أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عن حديث النزول، فقَالَ: ينزل بلا كيف"، فأبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ يثبت علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويثبت نزوله، كما ورد في الأحاديث، وينفي الكيفية، كما يقول ذلك سائرالسلف،
ثُمَّ يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإنما توقف من توقف في نفي ذلك -أي: من الشراح الذين توقفوا في نفي مثل هذه العبارات- لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش!] ينكر علو الله عَلَى عرشه! [بل يقول: لا مباين ولا محايث لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء عَلَى العرش ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود، ونحو ذلك تَعَالَى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيرا] ثُمَّ أشار المُصْنِّف إِلَى أنه سيأتي تفصيل ذلك.
إحالة إلى ما قاله الشنقيطي في العلو والاستواء
وبخصوص هذه القضية هناك مرجع سهل وميسر ومبسط جداً في مسألة العلو والاستواء، وهو كلام شيخنا الشيخ مُحَمَّد الأمين الشنقيطي رحمة الله عليه في كتاب أضواء البيان، عند قوله تَعَالَى في سورة الأعراف: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش [لأعراف:54] فقد تكلم بكلام رائع وعظيم ومفهوم وواضح.
البدعة بريد الكفر(1/411)
تقدم ذكر مذاهب النَّاس في مسألة العلو، لكن ينبغي أن نعرف خطر البدع وتسلسل بعضها من بعض، فإن أول ما يبدأ به الشخص أنه ينكر علو الله عَزَّ وَجَلَّ، ويقول: لا داخل ولا خارج ... ، فإذا أقر بهذا ودرسه وفهمه واستوعبه، أتاه الحلولي فقَالَ: ما دام أنك قلت: لا داخل ولا خارج ... ، فليس هو إلا هذا الكون فينتهي به الأمر إِلَى أن يقول: إن الله هو هذا الكون، أو إن الله حالٌ في هذا الكون، أي: إما اتحادي يقول اتحد في هذا الكون، أو يقول بوحدة الوجود، وأن ما في الوجود إلا هو، كما يقول ابن عربي في تفسير قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] يقول: عَلَى أي شيء استوى، وما في الوجود إلا هو؟! فهو المستوي وهو المستوى عليه، عياذاً بالله.
ونحن نقول ويقول معنا الأشعرية والمعتزلة وأمثالهم: إن من قال إن الله تَعَالَى هو عين الموجودات كافر خارج عن الملة.
لكن من الذي يمهد لهذا الإِنسَان هذه الطريق ليصل به إِلَى الكفر؟ إنه من يقول من أهل البدع: إن الله في كل مكان، أو إنه لا داخل العالم ولا خارجه، أما المؤمن الذي يقرأ كتاب الله ويقرأ سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنك تجده يعرف ربه حق المعرفة؛ لأنه يقرأ سبعة مواضع في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ في إثبات الاستواء، فما بالك بالعلو الذي أدلته لا تحصى؟!
وكما سبق أن قلنا: إن العلو ثابت بالآيات والأحاديث، والعقل والفطرة والإجماع، لكن الاستواء بالذات ثابت بالنص أي بالآيات والأحاديث ونعلم أنه عال عَلَى المخلوقات حتى من غير النص ومن قبل أن يرد النص، يقول عنترة الشاعر المشهور:
يا عبل أين من المنية مهرب إن كَانَ ربي في السماء قضاها
فهو يثبت العلو ويثبت القدر، والذين ينفون العلو وينفون القدر خالفوا حتى المعاني الجاهلية، فالعلو ثابت بالعقول والفطر، والاستواء ثابت بالنص، وكل منهما يؤيد الآخر.(1/412)
شرح العقيدة الطحاوية
الإتباع والتسليم
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
العبودية: هي الدرجة العليا في حقيقة كل مخلوق كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56] .
إفتقار الإنسان إلى الله تعالى، وعبوديته له سبحانه شرعاً أو كوناً
فكل مخلوق: هو عبد لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الحالتين، إما عبد من الناحية الاختيارية الشرعية، أو من الناحية الإجبارية الكونية، وذلك أن كل إنسان هو مخلوق بلا شك، ومحتاج، ومضطر، وفقير إِلَى من يطعمه، ويسقيه، ويسيِّر له هذا الجهاز الذي يحمله في المخ والقلب والمعدة والدورة الدموية وكل الأعضاء.
فمن الذي يسير كل هذا ويحركه؟! إنه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
ففي الحقيقة أن جميع المخلوقين في هذا الجانب -من حيث التدبير والتصريف والقهر- بل جميع من في هذا الكون هو عبد خاضع لله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، إذ هو الذي يحرك هذا الجسد، ويعطيه الغذاء، وهو الذي يسير كل أعماله.
ومع كل هذه النعم إلا أن بعض النَّاس في جانبهم الإرادي: يصرفون هذه الإرادات والحركات في غير طاعة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وفي غير تحقيق العبودية له سبحانه، وهذا هو سبب الشقاء الذي يقع فيه الكفار -أن الإِنسَان منهم مضاد لفطرته- فلو أنك جئت إِلَى إنسان فشققته شطرين، فكيف يمكن أن يستقر هذا الإِنسَان، وأي آلة من الآلات أو جهاز من الأجهزة يمشي في غير اتجاهه، فإنه يتقلب ويتصادم ويتمزق.
ولذلك نجد أن الإِنسَان الذي لا يطيع الله، ولا يحقق العبودية له سبحانه إنسان ممزق مضطرب، وكلما ازداد عبوديةً لله ازداد سكينة، وطمأنينة، وأمناً، وسلاماً، ورخاءً، وكلما بعد عن ذلك كلما زاد فيه الخوف، والشقاء، والتمزق، والاضطراب. فهذه حقيقة العبودية من الناحية الكونية.(1/413)
أما من الناحية الإرادية؛ فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ميز الإِنسَان عن سائر الكائنات والمخلوقات؛ بأنه هو الذي يمكن أن يختار، وأن يفعل، وأنه قد يقتنع بالعمل ويفعله، ثُمَّ يندم ويحاسب نفسه لماذا أفعل أو العكس كما قال تعالى: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2] بخلاف غير الإِنسَان كالحيوان حتى لو أنه عمل عملاً من الأعمال بدافع الغريزة، وكان عليه فيه ضرر أو ألم، فإنه لا يحس في داخل نفسه أن هذا الشيء مرجعه الندم القريب.
فيعمل ويستمر في العمل ثُمَّ غريزة التراجع عن العمل هي التي ترده إذا رأى فيه ما يضره، كل ذلك بدافع واحد هو: دافع الغريزة فقط.
أمَّا الإِنسَان فالدوافع مختلفة فيه، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أصدق الأسماء حارث وهمام) وقوله (أصدقها) لا يدل عَلَى أفضليتها؛ لأن أفضلها عبد الله، وعبد الرحمن، وإنما أصدقها من حيث إنها ليس فيها مدح ولا ذم، أي كما نقول: فلان إنسان فهو كلام صرف ليس فيه زيادة ولا نقص، والإِنسَان حارث وهمام في طبيعته، فأي إنسان مثلاً سميته هماماً، مسلماً كَانَ أو كافراً فهو صادق عليه؛ لأن كل إنسان يهم، ويريد، ويفكر، ويتحرك قلبه، وشعوره، وإرادته.
وهو أيضاً عامل يعمل في أي نوع من أنواع العمل فأصدق الأسماء: يعني الاسم الذي ينطبق عليه عَلَى الحقيقة البشرية هو: أنه حارث، وهمام، وفي كل الأوقات لا يخلو الإِنسَان من الحرث، ومن الهم.
حقيقة العبودية ومتى تتحقق في الإنسان(1/414)
حقيقة العبودية أن الإِنسَان المسلم المؤمن بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يصرف الحرث، والهم لوجه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيجمع بين الشطر الإرادي، واللاإرادي في حياته، فيكون موحداً، والنفس البشرية تتوحد لذلك التوحيد بأنها تتوجه إِلَى إله واحد وتعبد رباً واحداً يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39] كما ضرب الله تَعَالَى المثلين -المؤمن والكافر بأن المؤمن مثل (رجلٍ سلماً لرجل) أي: عبد خاص بإنسان واحد فقط، وأما الآخر: فهو عبد مملوك فيه شركاء متشاكسون، يتنازعونه هذا يقول: نعم، وهذا يقول: لا، فهذا إنسان ممزق، وموزع.
المهم: أن حقيقة العبودية تتجلى بهذا كلما كَانَ عبداً لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- واجتهد فيها، كما جَاءَ في الحديث عند التِّرْمِذِيّ وغيره قوله تَعَالَى في الحديث القدسي (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه -هذه الدرجة الأولى- ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) هنا درجات، فإذا وصل الإِنسَان إِلَى درجة محبة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- له، ومحبته لله إِلَى درجة اليقين، وإلى درجة الصبر عَلَى الطاعة، والصبر عن معصية الله والصبر عَلَى أقدار الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حينئذ تحقق فيه كمال العبودية.
أكمل الناس عبودية(1/415)
وأعلى النَّاس مقاماً في العبودية هم الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم، وأعلى الأَنْبِيَاء وأعلى البشر في ذلك هو نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو أعلى النَّاس في درجة العبودية؛ ولهذا كما مر معنا أنه في مواضع التكريم، والثناء يأتي وصفه بالعبودية كما قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء:1] هنا كلمة العبد كأنها تشير أنه الذي حقق العبودية، والذي أعلى صفة له العبودية.
ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله) ، فاختار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآخرة عَلَى الدنيا، واختار العبودية لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى الملك.
فحقيقة العبودية في تعريف العبادة: أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الظاهرة والباطنة، فكلما حقق الإِنسَان ذلك كلما كَانَ أعلى في الكمال، وأكثر اقتداءً بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو الغاية، والذروة في كمال العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وقد ادعى قوم الخروج عن دائرة العبودية ومقتضاها إِلَى شيء آخر وهم فئتان: الأولى: الفلاسفة، والثانية: الصوفية الغلاة، هذا في القديم، وفي عصرنا هذا برز غير ذلك -مما سنذكره إن شاء الله- ممن ادعو الخروج عن مقتضى العبودية، وزعموا أن الكمال؛ إما أنه في درجة الأعلى من العبودية، أو أن الكمال يتحقق بغير العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهاك بيان موقف هذه الفرق:
الفلاسفة والعبودية(1/416)
يقول الفلاسفة: كمال النفس في أن تعلم، وأن تكون عَلَى مقتضى الحكمة، أي: أن يكون لديها علم، وأن تكون أخلاقها وتصرفاتها عَلَى مقتضى الحكمة العقلية التي يرونها، قالوا: فليس هناك من ضرورة، ولا داعٍ يوجبُ أن يكونَ الإِنسَانُ عبداً لله، وأن يندرج تحت العبودية الشرعية إذ لو أن إنساناً بمقتضى حكمته العقلية يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والمعاملات الجميلة التي يتكلم عنها الحكماء في كتبهم وتزين بها، وطبقها لاستغنى عن أن يكون عبداً ولما احتاج أن يدخل تحت هذه العبودية.
وبالغ بعضهم في ذلك فقَالَ: إن النَّاس أكثرهم جهال وعوام، والحكمة العقلية لا يفهمها كل أحد ولا يمكن أن يكون النَّاس عَلَى مستوى يفهمون فيه كلام الحكماء والفلاسفة.
فجاء الأَنْبِيَاء بالوعد والوعيد، والأمر والنهي، والجنة والنار؛ لأنها هي التي تشوق الجماهير وتجذبهم وتجعلهم يعملون الخير، بخلاف ما لو كَانَ كلاماً عقلياً فإنه لا يؤثر، فلذلك فإن هذه الشرائع التي جَاءَ بها الأَنْبِيَاء تصلح للجمهور؛ لكن الإِنسَان الفاهم -الذي يفهم بعقله كل شيء- لا يحتاج إِلَى أن يندرج تحت شرائع الأنبياء، هذا إفكهم وما كانوا يفترون، وهذا كلامهم الذي قالوه من قبل بعثته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ قاله فلاسفة اليونان، ثُمَّ جَاءَ من يسمون فلاسفة الإسلام، فادعوا ذلك وزعموه ومنهم: ابن سينا والفارابي ومنهم إِلَى حد ماابن رشد.
ولذلك قال بعضهم: إن الشريعة -التي هي الدين- والحكمة -التي هي الفلسفة- شيء واحد وتدعونا إِلَى شيء واحد وطريق واحد، وأنهم اختبروا جميع الشرائع، ووجدوا أن أفضلها: هي شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولذلك يرتاحون لها ويقولون: لو أخذ بها الإِنسَان لكان حسناً.(1/417)
فكل مكارم الأخلاق التي يتكلم عنها جاءت في هذه الشريعة وهذا منهج صحيح؛ لكنهم لا يوجبون دخول الإِنسَان تحت هذه الشريعة، كما نلاحظ اليوم من بعض المستشرقين، أو الكتاب الأوروبيون، فإنهم يثنون عَلَى الإسلام أنه جَاءَ بالأخلاق الراقية في حقوق المرأة، وفي أنظمة الحكم، ويمدحونه مدحاً طويلاً قد لا يكون لنا عليهم مأخذ في نفس المدح، وبقدر ما يكون الكلام كله مدحاً حقيقياً وصحيحاً؛ لكن لا يرى أنه يلزمه أن يدخل في هذا الدين.
غلاة الصوفية والعبودية
موقف غلاة الصوفية قد أوضحناه في أول الكتاب عندما تحدثنا عن توحيد الربوبية حيث ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن: غلاة الصوفية: يجعلون توحيد الربوبية هو غاية التوحيد، ومما أوضحنا به ذلك وشرحناه أننا قلنا: إنهم يرون أن العبد يترقى في مشاهدة الحقيقة -ويسمونها مشاهدة القدر أو شهود الحقيقة الكونية- حتى يصل به الأمر إِلَى أن يرى أن كل شيء في هذا الوجود إنما يحركه في الحقيقة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: فالله هو الذي يسيره ويحركه، قالوا: إذا آمن الإِنسَان بهذا الشيء، وازداد الإيمان حتى يصل إِلَى أنه لا تأثير لشيء ولا فاعل في الوجود إلا الله، فحينئذ لا فرق بين أفعال من يصلي وبين أفعال النائم فكلها في الحقيقة بالتأمل وبالفهم العميق: أفعال لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فهم بهذا الزعم -التوحيد الحقيقي شهود الحقيقة الكونية وتوحيد الربوبية الذي هو الكامل كما يزعمون ويسمونه توحيد خاصة الخاصة- يضيعون حقيقة الدين ويسقطون التكاليف، وبعضهم يصل به الأمر في هذا إِلَى الحلول والاتحاد -والعياذ بالله- فينتقل من دعوى أن فعله هو فعل الله إِلَى دعوى أعمق من ذلك فَيَقُولُ: تعمقتُ فترقيتُ فرأيتُ أنه ما في الوجود إلا هو فقط.
فيصل والعياذ بالله إِلَى الكفر، وإن كَانَ الأول كفراً لكن هذا القول الأخير يصل بهم إِلَى الكفر الصراح التي تترفع عنه أية نفس.(1/418)
فلذلك يخيل لهم الشيطان هذه الأمور، ويزينها لهم بسوء أعمالهم وبتركهم للعبادات، فينقطعون عن العبادات وعن الفرائض، وعن الجمع والجماعات، ويقولون: نَحْنُ بلغنا الحقيقة فرأيناها، ووصلنا إِلَى اليقين الذي قال الله تَعَالَى فيه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] .
فقالوا: إن العبادة لها أمد فإذا جَاءَ اليقين انتهت، وهذا من أكذب أنواع الافتراء عَلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأن الذي أمر بهذه الآية هو: نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد طبقها وقد عمل بها وظل عَلَى العبادة من صلاة وذكر وغير ذلك، ولم يخرج عن العبودية إِلَى أن جاءه اليقين الذي هو الموت، كما جَاءَ في الحديث الصحيح الآخر: (أما فلان فقد جاءه اليقين من ربه) أي جاءه الموت؛ لأن اليقين: هو الموت، فمعنى الآية: واعبد ربك حتى يأتيك الموت، وحتى يقبضك ربك إليه، فهَؤُلاءِ الملاحدة يقولون: إن حقيقة العبودية -عندهم- هي: شهود الحقيقة الكونية، ولذلك لا يرون أن الصلوات الخمس والعبادات التي نفعلها نَحْنُ الآن؛ إلا مجرد مظاهر أو وسائل عَلَى الطريق التي عندهموهم يقسمون الطريق إِلَى ثلاث مراحل:
المتعلم وهو الذي يسمى مريداً وهو: المبتدئ.
ثُمَّ السالك: وهو الذي مشى في الطريق مراحل.
ثُمَّ الواصل: وهو الذي سقطت عنه التكاليف، ولم يعد بحاجة إِلَى أن يعمل أعمال المريدين، أو السالكين الذين هم بحاجة للعبادة ليريحوا أنفسهم.
1) أحوال الخارجين عن دائرة العبودية عند الموت:(1/419)
مما يكشِف ويدل عَلَى أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد جعل أمثال هَؤُلاءِ النَّاس فتنة لغيرهم وابتلاهم وفتنهم في أنفسهم ما يروى من أحوالهم عند ما جَاءَ الموت لابن الفارض ولابن سبعين وهما من كبار الدعاة إِلَى هذا المذهب، وهو سقوط العبادات والتكاليف، والوصول إِلَى الحقيقة الكونية، والحلول والاتحاد أو الفناء كما يسمونه، كلها مترادفات أو متداخلات في التعبير عن هذه القضية وابن الفارض هو في الحقيقة من الدرجة الأولى في الشعراء، حتى قال شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ - ومنزلة شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في اللغة والشعر معلومة ليس فقط في العلوم الشرعية، بل هو في سائر العلوم حتى في علوم اللغة وتذوق الشعر -: إن هذا الرجل وأمثاله قدموا لحم الخنزير في طست من الذهب، فهَؤُلاءِ أتوا بالشعر الراقي الجميل - أي ابن عربي وابن الفارض - لكن؛ الذي يتضمن الحلول والاتحاد ووحدة الوجود والشرك والزندقة -نسأل الله العافية- فالآلة عاليةٌ قيمةٌ لكن المضمون والمحتوى سيء وخبيث وقبيح فلما حضرت وفاة ابن الفارض قَالَ:
إن كَانَ منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيعت أحلامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمناً واليوم أحسبها أضغاث أحلام(1/420)
عندما عاين ملائكة العذاب؟ أراد الله أن يدينه بلسانه ليسمع المريدين الذين حوله. فقَالَ: كَانَ يظن أنه يترقى حتى حلت فيه الألوهية، وإذا به في الأخير يكتشف أنه عبد مخلوق ذليل حقير، وأن ملائكة العذاب قد دنت لتنتزع منه هذه الروح، فهذا المسكين متى صار إله ومتى حل في الله ومتى اتحد في الله؟! كله كلام فارغ لا قيمة له، عند الموت تتجلى الحقائق تماماً، ولذلك لا يَثْبُتَ إلا من ثبته الله -عَزَّ وَجَلَّ- من كَانَ في الدنيا ثابتاً عَلَى الإيمان والتقوى والاستقامة، ثبته الله -عَزَّ وَجَلَّ- عند الموت كما أخبر تَعَالَى بقوله يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27] .
ولكن أُولَئِكَ الزائغون المنحرفون الضالون، مهما تصنعوا في الدنيا ومهما جاءوا بالتأويلات والشبهات والعلل وادعوا أنهم أهل الحق، فعند الموت تتطاير وتتبخر وتتلاشى ولا يبقى إلا الحق واليقين فابن الفارض رأى ملائكة العذاب ورأى أن الأجل قد قرب منه فأظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذلك عَلَى لسانه، وقال هذين البيتين: الأمنية التي عاش عمره كله يحلم بها أصبحت أضغاث أحلام، ليس فيها أي حقيقة عَلَى الإطلاق.
وأما ابن سبعين فإنه يُحكي عنه مريدوه: أنه لما جاءه الموت وأراد أن يفيض اضطرب وخاف أو جزع، فَقَالَ له أحد مريديه: مالك يا شيخ؟ ما الذي تخاف منه؟ وأنت الذي كَانَ المريد يدخل عندك فيجلس ثلاثة أيام فيخرج وهو ولي من الأولياء في الطريقة، فما الذي يخيفك؟ فَقَالَ له: كل ذلك الآن لا حقيقة له.(1/421)
الآن لما رأى سكرات الموت لما بدأ يشعر بالانقطاع من الدنيا والإقبال عَلَى الآخرة قَالَ: كل ذلك لا حقيقة له، وليس بصحيح، لا الخلوات ولا الأذكار المنقولة ولا الدرجات كل تلك الفلسفات سقطت، وهو الذي بلغ به الفجور وركوب الرأي عَلَى غير هدى وبصيرة -نسأل الله العافية والسلامة- إِلَى عمى البصيرة، حتى أنه جاور بمكة وذهب إِلَى غار حراء وكان ينام فيه الليالي ويطمع أن ينزل عليه الوحي، ولما سمع رجل قال له: إن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لا نبي بعدي قال - والعياذ بالله -: (لقد حجَّر واسعاً) أي: ضيق شيئاً واسعاً؛ لأنه -نسأل الله العافية- كَانَ عَلَى نظرية الفلاسفة الذين يقولون: إن النبوة مكتسبة، وليست موهوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما هي مكتسبة يجتهد الإِنسَان كما يزعمون حتى يصل إِلَى الولاية، والولاية عندهم أعظم من النبوة، الولي عندهم فوق النبي وأعظم -فنسأل الله السلامة- وهكذا كَانَ ابن سبعين يفعل بمكة، فلما جاءه الموت تلك اللحظة وجاء التلميذ يريد أن يطمئنه كما طمئن عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عمرَ بن الخطاب قال له: أبشر يا عُمَر، فوالله لقد كنت تحكم بالعدل، وقد بشرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة فأخذ يبشرعُمَر ويقول له، ذلك لأنه عَلَى الحق والحقيقة فصدقه عُمَر ولكن قال له أيضاً: إنما خوفي عليك وعلى أمثالك.
فكأنعُمَر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يقول: إنما أجزع وأخاف عَلَى الرعية وعُمَر لما كَانَ مبشراً بالحق، رضي واطمأن، ومن السنة أن الإِنسَان إذا حضر إِلَى رجل قربت وفاته، أن يأتيه بالرجاء، ولا يذكر له الخوف والترهيب وإنما يأتيه بالترغيب، وما وعد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- للمؤمنين (وأن الله تَعَالَى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) وأنه لو كَانَ آخر كلامه لا إله إلا الله، دخل الجنة وأمثال ذلك.(1/422)
فتلاميذ هذا المسكين الضال الزائغ جاؤا من هذا الباب: أرادوا أن يذكروه، فَقَالُوا: أنت الذي في ثلاثة أيام يأتيك المريد ويخرج ولياً من أولياء الله؛ تخاف من أي شيء؟ فقَالَ: كل ذلك الآن لا حقيقة له تبين له أنه لا حقيقة له، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
2) شبهة من يقول بالخروج عن العبودية والرد عليهم:
ومما استدل به من يخرج عن العبودية، أن موسى -عَلَيْهِ السَّلام- لما ذهب إِلَى العبد الصالح الخضر وكان عَلَى غير شريعة موسى وهو حق فَقَالُوا: إذاً الولي لا يدخل تحت شريعة النبي، لأنه قد تلقى العلم اللدني
وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف:65] .(1/423)
وهذا القول يعلم بطلانه، لأدلة كثيرة منها أن شريعةَ موسى عَلَيْهِ السَّلام شريعةً محدودة بعثه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إِلَى قومه، أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّه [إبراهيم:5] ، فموسى لم يقل له: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [إبراهيم:1] ، وإنما: أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ والذي أمره الله أن يخرج النَّاس من الظلمات إِلَى النور، هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعث للناس كافة وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيرا [سبأ:28] فالعالمية في الرسالة لمُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما موسى فإنه في نفس الحديث الذي جَاءَ فيه قصة الخضر وموسى، قال له الخضر: (يا موسى أنت عَلَى علم علمك الله إياه لا أعلمه، وأنا عَلَى علم علمني الله إياه لا تعلمه) فهذا نبي وهذا نبي، وليس هناك شك في أن موسى هو أعلى درجة عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- من الخضر؛ لأنه من أولي العزم -رغم ما فعل موسى -عَلَيْهِ السَّلام- حينما ألقى الألواح، ورغم أنه لما وجد أبانا آدم أنكر عليه فقَالَ: أنت الذي خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ويكون موسى -عَلَيْهِ السَّلام- في هذه المواقف عَلَى غير الأولى أو في جانب الخطأ، ورغم كل ذلك لم تنزل درجته؛ لأنه من أولي العزم الذين جاهدوا في الله الجهاد العظيم الذي تلاه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفصله علينا، وقاوم أكبر طاغوت في تاريخ الأمم الماضية، وهو فرعون.
فالحاصل أنه ليست درجة الخضر كدرجة موسى، مع أن هذا نبي وهذا نبي، وإنما أراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- لموسى أن يتلقى عن الخضر لحكمٍ عظيمة ذكرها العلماء منها أن لا يدعي أحد العلم المطلق، أو أنه يعلم كل شيء.(1/424)
لكن نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن قبله ولا بعده، ولا في عصره من يمكن أن يتلقى عنه الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أية حال من الأحوال، لأنه هو المبلغ العام للبشرية عامة عن الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فلا أحد أعلم منه بالله أو بدينه في أي أمر من الأمور، وهذا مما يفضل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سائر الأنبياء.
فهذه شبه القوم، وردها واضح -إن شاء الله- ولهذا ذكر الشيخ مُحَمَّد بن عبد الوهاب -رَحِمَهُ اللَّهُ- من جملة نواقض الإسلام العشرة: من اعتقد أن أحداً يسعه الخروج عن شريعة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى؛ ونص عَلَى المثال ليعلم المراد من قوله أن هذا الاعتقاد مخرج لصاحبه من الملة؛ لأن من ادعى أنه خارج عما ذهب إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يحكم تلقائياً عَلَى نفسه بالخروج من الملة والخروج من الدين.
3) شبهات الفلاسفة والرد عليهم:
أما الفلاسفة فمن الواضح كونهم يزعمون أن الحكمة العقلية تغني عن الشرائع الدينية والنبوية، وهذه الرد عليها واضح؛ لأن العرب الذين بعث الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، كَانَ لديهم الحكماء وكان عندهم ذو الأصبع العدواني وأكثُمَّ بن صيفي وقس بن ساعدة، كل هَؤُلاءِ كَانَ عندهم الحِكَم في أشعارهم، وأقوالهم ولكن لا قيمة لهذه الحكمة ولا قيمة للتحلي بأمثال هذه الأخلاق في نجاة العبد من عذاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- لأنها مثل شجرة مقطوعة لا صلة لها بالحياة، ولا صلة لها بالأرض فلا تنمو، فهي خشبة جوفاء، بخلاف الإيمان الذي هو شجرة نامية.(1/425)
فأخلاق العرب مقطوعة عن الإيمان والإخلاص لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فلا يترتب عليها فلاح في الدنيا، ولا نجاة يَوْمَ القِيَامَةِ من عذاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما غاية ما فيها أن يُقال عن الإِنسَان: إنه حسن الأخلاق، وجزاؤه يأخذه في الدنيا مقدماً كما جَاءَ في حديث الثلاثة الذين قاتل أحدهم ليقال له شجاع، قيل له: إنما قاتلت ليُقال لكَ شجاع، فقد قيل أي: أخذت الجزاء. والآخر المنفق يُقال له: إنما أنفقت ليقال لك جواد وقد قيل، ما الذي تطمع فيه بالآخرة كيف ترجو الآخرة.
وكذلك القارئ ليُقَالَ: قارئ وقد قيل، إذاً ما دام أنه قد قيل انتهى؛ لأن هذا هو المراد.
فمهما قلنا عن هَؤُلاءِ الناس، فإنما ينالون جزاءهم في الحياة الدنيا والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لما بعث الأَنْبِيَاء بعث أكمل النَّاس عقولاً, فإنه جعلهم هم الأَنْبِيَاء وآتاهم الحكمة، وأعظم الحكمة هي توحيد الله وطاعة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذه هي الحكمة الحقيقية ولذلك في سورة الإسراء بعد أن ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الوصايا التي تزيد عَلَى ثمانية عشر وصية قال في آخرها ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَة [الإسراء:39] الحكمة تعني: أن ترك الشرك، والتوحيد، وبر الوالدين والإنفاق المعتدل -لا إسراف ولا تقتير- من الحكمة، والوفاء بالكيل والوزن، وترك الفواحش من الحكمة، كل ما ذكره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في تلك الآيات هي الحكمة الحقيقية، والتي من عمل بها بلغ غاية الحكمة فنجد أن ما يقوله الفلاسفة ويتكلمون به من المثاليات الجوفاء.(1/426)
ونجد أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأولياء الله وعباده الصالحون: يحققونه واقعياً، حتى أن العامي من الْمُسْلِمِينَ يفعل من الأخلاق مالا يفعله غيره ممن يعلم ضرر وخطأ وخطر البعد والخروج عن مقتضى العقل والحكمة، ومع ذلك يفعله لوجه الله وعلى منهج صائب وطريق مستقيم.
لكن لو تركت العقول كما تشاء، لاختلف النَّاس فيقول أحدهم مثلاً: من الحكمة أن الإِنسَان لا يتزوج إلا زوجة واحدة، بالمقابل، هناك عقول أخرى قالوا: ما المانع من أن الإِنسَان يتزوج مائة لو استطاع، ليس هناك مانع في العقل ولا في الحقيقة، لكن الدين حدد أربعاً.
إذاً عرفنا أن الخمس خارجة عن الحكمة، والذي يدعي أن الأربع منافية للحكمة فهذا قد نافى الدين، فهنا أمر ديني حدد لغير مقتضى عقلي يفرض الأربع أو الثلاث، وإنما هذا تشريع رباني فوق العقول البشرية، وفوق إدراكها، فجعل هناك حداً فما بعده لا يجوز الزيادة عليه.
الطائفة الثالثة دعاة الحرية وموقفهم من العبودية
وهي ليست طائفةً بالمعنى الصحيح، ولكن هي اتجاه فكري، ولم تكتب عنهم الكتب السابقة، لأنهم لم يكونوا قد برزوا في هذا الوضوح.
دعاة الحرية أو التحرر في العصور الأخيرة عصور الإلحاد في أوروبا، والتي انتقلت إِلَى بلاد الْمُسْلِمِينَ فإذا قلت لأحدهم: هذا حرام يقول لك: أنا حر، ولو دققنا في الكلام لوجدنا أن مفهوم كلامه: أنه خارج عن مقتضى العبودية والشرع ودائرة الحلال والحرام، الذي جَاءَ في الشريعة، فيقول لك: انا حر إذا قلت له يا أخي ألبس زوجتك الحجاب، وإذا قلت: يا أخت تحجبي، قالت: أنا حرة سُبْحانَ اللَّه!(1/427)
فما معنى ذلك؟ إنه التمرد، وعلى من هذا التمرد هل هو عَلَى الأب الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويقول لكَ أو لها: اتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ؟ لا هذا تمرد عَلَى شرع الله -عَزَّ وَجَلَّ- وخروج وفسوق عما أنزل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يدعي أحد كائناً من كَانَ أنه حر، ثُمَّ يفعل ما يشاء، أبداً، هذا كما قال الله عَزَّ وَجَلَّ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] ولو قدرنا أن المليار كل واحد منهم حر، فكيف ستكون الحياة الإِنسَانية، وأين تقف حريتك؟ وحرية كل فرد؟
1- الحرية الحقيقية هي حرية العبودية لله عز جل:
إن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد بين أحكام الحلال والحرام، وأعطانا الحرية الحقيقية وهي حرية العبودية لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فالحر الحقيقي هو من لم يمتلك قلبه أي شيء إلا محبة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أما من ملكته شهوة أو فتنة أو شبهة فهذا عبد حقير ذليل مقيد، وإن كَانَ يقول أنا حر، فمن أراد الحرية الحقيقية فليتق الله وليتمسك بدينه وليحقق العبودية له تعالى، فكلما كَانَ عبداً له وحده خالصاً كلما كَانَ أكثر حرية، ولهذا تجدون عباد الله الصالحين -الأحرار الحقيقيين- لا يحدهم أي شيء؛ لأن كل ما في الكون من العبيد هم عبيد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وما يصنعه العبيد لا يضرهم في شيء.
فشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ مثلاً لما سجنوه ثُمَّ أخذوا الأقلام عنه، فتركوه حتى لا يكتب، قَالَ: " ما يصنع أعدائي بي، أنا قتلي شهادة، ونفيي سياحة، وسجني خلوة" فهذه غاية في الحرية، لا يمكن أن يخشى من أحد.(1/428)
فالحرية الحقيقية هي في التمسك بما أنزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وبالثبات عَلَى دين الله عَزَّ وَجَلَّ، أما الإِنسَان الذي إذا أراد شيئاً من الدنيا يجد أنه يشعر بشيء من العبودية لصاحب هذه الحاجة، وإذا لم تكن لك عنده أي حاجة فإنك تجد نفسك عزيزاً حراً فلا تشعر أنك تتقرب إليه أو تخضع له بأي نوع من أنواع الخضوع، مهما كانت درجته وأياً كَانَ منصبه.
فإذا جرد الإِنسَان التوحيد، ونقى قلبه من الخضوع والعبودية لغير الله؛ فإنه يكون في غاية الحرية التي ينشدها هَؤُلاءِ.
2- دوافع ظهور ومجيء فكرة التحرر(1/429)
نحن في ما يسمى بالعالم الشرقي -العالم الإسلامي- أخذنا هذه الفكرة دون أن ندرك ما الذي جعل الغربيين يدعون إليها ويؤمنون بها؟ ومن أين استقوا هذه الكلمة وكيف جاءتهم؟ نَحْنُ أخذناها من باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لتتبعن أو لتركبن سنن من كَانَ قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) هذا الإِنسَان الأوروبي تمرد عَلَى دينه وعلماء دينه، فقَالَ: أنا حر فجئنا نَحْنُ لنقول: نَحْنُ أحرار وعلى من نتمرد وعلى أي دين؟ عَلَى دين الله -عَزَّ وَجَلَّ-. فالإِنسَان الغربي لم يأت بكلمة الحرية هذه إلا من الضغوط التي كَانَ يعاني منها، أما أنت أيها المسلم فالله -عَزَّ وَجَلَّ- أنعم عليك وأنقذك بهذا الدين وبعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعلمك وعلم شعوب الأرض حقيقة الحرية فأنت الذي تُعلِّم جميع شعوب العالم الحرية، فأنت الحر الوحيد في هذا الكون لعبوديتك لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو خرجت عنها لوقعت في الذل، لأن الإِنسَان إذا لم يعبد الله -عَزَّ وَجَلَّ- يعبد الشيطان كما قال الخليل -عَلَيْهِ السَّلام- يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ [مريم:44] ويقول الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- في الشيطان أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يّس:60] فإذا عصيت الله عَزَّ وَجَلَّ، فقد وقعت في عبودية الشيطان.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
[والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر، تقرير نبوة الأَنْبِيَاء بالمعجزات، لكن كثير منهم لايعرف نبوة الأَنْبِيَاء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر، ونحو ذلك ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات]
الشرح:(1/430)
أهل الكلام جميعاً: المعتزلة، والأشعرية، وأمثالهم، ينصون عَلَى أنه لا دليل عَلَى صدق النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا المعجزة.
إن المتكلمين يريدون أن يدفعوا شبهة ألقاها إليهم الفلاسفة وأمثالهم، وهذه الشبهة مجملها: أن الأديان كلها تقليد، ويقولون: إن اليهودي ولد يهودياً، والنصراني ولد نصرانياً، والمسلم ولد مسلماً، ولا يوجد هناك دين بالعقل أو بالنظر، ويقولون: إن المسألة ليس فيها دليل عقلي وإنما هي تقليد وإرث واتِّباع، فجاء هَؤُلاءِ غلاة المعتزلة، وغلاة الأشعرية وأمثالهم من الذين يسمون أنفسهم المدافعين عن الإسلام، وأرادوا أن يردوا عَلَى هَؤُلاءِ فَقَالُوا: إن النبوة عندنا ليست مجرد تقليد، وإنما نؤمن بالأنبياء وأنهم يأتون بدليل مادي ظاهر لا يملك العقل أن يرده، وهذا الدليل هو المعجزة -وسموها معجزة- والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يسمى ذلك حتى عَلَى لسان القوم بينة أو آية، والبينة أو الآية: هي التي بها تثبت صحة النبوة، وتثبت نبوة الأَنْبِيَاء بآيات بينات، وبراهين واضحات، وما يزعمه هَؤُلاءِ هو جزء من هذه البينات، وهي أن يجري الله -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى يديه خارقاً من خوارق العادات، فالدليل عَلَى نبوة موسى -عَلَيْهِ السَّلام- ليس فقط أنه ألقى العصا فإذا هي حية تسعى هذه هي آية قامت بها الحجة علىفرعون، لكن ليست هي الدليل الوحيد عَلَى نبوة موسى -عَلَيْهِ السَّلام- وهذا بين من أصل نشأته لو فكر هَؤُلاءِ!
من الذي أوحى إِلَى أمه أن تضعه في التابوت؟ ومن الذي ساق التابوت إِلَى أن أوصله إِلَى قصرفرعون؟ ومن الذي ألقى في قلب امرأة فرعونأن تحبه؟ ومن الذي سخر فرعون أن يطيع امرأته لتربى هذا الولد وتحتضنه؟
ثُمَّ يأتي هذا الولد ويقف أمام الطاغوت الأكبر الذي يقول: َأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] فيقول له: أعبد الله، وأنت عبد مخلوق؛ هذا بنفسه: بينة بل بينات وبراهين.(1/431)
إذاً فالدليل عَلَى نبوة النبي براهين وبينات وأدلة كثيرة ليست محصورة في الخارق الذي يسمونه معجزة، وهى كما أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضع أصبعه في الماء ففاض، وأعطى سمرة السهم ووضعه في بئر الحديبية ففاضت البئر، وأنه انشق له القمر أو نحو ذلك.
هذه ليست الدليل الوحيد، والدليل عَلَى أنه نبي من عند الله عَزَّ وَجَلَّ؛ بل يعرف بالقرائن والأحوال، ومن رأى حياته وسيرته وسلوكه عرف صدق نبوته صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قالالطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[وتفسيره عَلَى ما أراد الله وعلمه] .
وهذا الموضوع وإن كَانَ جَاءَ به ضمن بحث الرؤية، إلا أنه مع ذلك من الموضوعات الأساسية في مباحث العقيدة، وهو معرفة حكم ألفاظ الشارع ومعانيها ودلالتها، وكيف فهمها أهل البدعة والرد عليهم في ذلك، فموضوع التأويل وأخذ الكلام عَلَى ظاهره من أساسيات موضوعات العقيدة ومباحث الصفات التي ينبني عليها: إما حق صراح وإما باطل محض، فعليها ركبت الضلالات والبدع عند أهل البدع، وعلى أساس فهمها الصحيح فهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صفات الله، وكان منهجهم في ذلك واضحاً جلياً، ووضعوا في ذلك قواعد عامة يهتدي بها طالب العلم لمعرفة ما يثبت لله تَعَالَى وما لا يثبت، وكيف يستدل عَلَى إثبات ذلك ولماذا لا يؤول؟ ولا يصرف اللفظ عن ظاهره؟
فيقول أبو جعفر الطّّحاويّ:
[وتفسيره عَلَى ما أراده الله تَعَالَى وعلمه، وكل ما جَاءَ في ذلك من الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو كما قال، ومعناه عَلَى ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وحل ولرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد ما اشتبه عليه إِلَى عالمه] .(1/432)
هذا العبارات تعطينا قاعدة عظيمة جداً من قواعد الأسماء والصفات وإثباتها: وهو أننا نثبت ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك ونقول: تفسيره عَلَى ما أراده الله وعلمه، يعني: مع الإيمان بها وبمعناها الظاهر لنا، فإننا نقول: إن الكيفية وحقائق هذه المعاني يعلمها الله، أما المعاني فنحن ندركها ونعلمها من كلام العرب. وكان السلف الصالح أعلم النَّاس بلغة العرب وقد فهموا الآيات والأحاديث في صفات الله من كلام الله ومن كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستفسروا عما كَانَ قد أشكل عليهم، وهم أعلم النَّاس في هذا الباب.
أما حقائق الكيفيات التي لا يدركها الإِنسَان بعقله، ولا يمكن أن ينالها بنظره وفكره، فهذه نؤمن بها عَلَى ما أراد الله ولا ندخل في ذلك متأولين، كما أشار المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ- وبين في القاعدة العظيمة والأصل العظيم "أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله ولرسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" فهذه القاعدة تشمل الأحكام، فلا نعترض عَلَى أحكام الله - عَزَّ وَجَلَّ- إذا أردنا أن يسلم لنا ديننا نسلم لله - عَزَّ وَجَلَّ- كل حكم يحكم به في الأحكام الشرعية، وحتى في الأحكام الكونية القدرية نسلم لله، ولا نعترض عَلَى أي قدر من أقدار الله في أنفسنا أو في الكون، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فإذا كَانَ هذا هو الواجب علينا في هذه الأحكام فكيف بما يخبرنا به - سبحانه- عن نفسه؟ بل هو أولى؛ لأنه من الغيب المحض الذي لا تناله العقول وتتقاصر دونه الأفهام، فنسلم به لله ولرسوله، وكل ما أتانا من الوحي نؤمن به ولا نعارضه أبداً.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:(1/433)
[وقوله: وتفسيره عَلَى ما أراده الله وعلمه إِلَى أن قَالَ: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. أي: كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه.
فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة والفاسد المخالف له، فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحفَّ بالكلام قرائن تدل عَلَى المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل عَلَى المعنى الذي يتبادر غيره إِلَى فهم كل أحد، لم يكن بياناً ولا هدى. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم، لا إنشاء] اهـ.
الشرح:
الجهمية والمعتزلة الذين ينكرون صفات الله، أنكروا رؤية الله في الدنيا والآخرة، وكذلك من تبعهم من الخوارج ينكرون رؤية الله في الدنيا والآخرة، وكذلك الإمامية فإنهم أخذوا بعقيدة المعتزلة منذ القرن الرابع تقريباً فما بعد فكل هذه الفرق نفت وأنكرت الرؤية، ولم تعمل بما جَاءَ في كتاب الله وفي حديث رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يتعلق بإثبات رؤية الله وحرفوا معناها، ولهذا ذهب المُصنِّفُ تبعاً للطحاوي إِلَى أن التأويل باطل، وقوله هنا: [وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مواضعه] هذا هو التعريف الصحيح للتأويل الذي يدعيه ويزعمه المتأخرون، فهو في الحقيقة تحريف، ولكنهم سموه تأويلاً.
من معاني التأويل
1- أنه بمعنى التفسير: وهو أكثر ما كَانَ يستخدمهالسلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم مثل: تفسير الطبري فعند تفسيره للآية يقول: وتأويل قوله تَعَالَى: ... وكان السلف إذا سأل أحدهم عن معنى آية يقول: ما تأويلها. هذا هو معنى التأويل في كلامهم.(1/434)
2- هو ما تؤول إليه حقيقة الشيء وقوعه، كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:53] أي: يوم يقع هذا الذي ينكرون، وفي قصة يوسف هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] أي: وقت وقوع الرؤيا التي رآها وهو صغير وهي قوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4] .
وبعد أربعين سنة جَاءَ أبوه وأمه وإخوانه الأحد عشر، ورفعوه عَلَى العرش وخروا له سجداً فقَالَ: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ [يوسف:100] ولهذا فقوله تعالى: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7] يجوز للقارئ أن يقف هنا، وهو قول طائفة من السلف. والمقصود أن كيفية وقوعه وتحققه لا يعلمها إلا الله.
فجاء المتأخرون ووضعوا معنى جديداً وسموه تأويلاً وهو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إِلَى الاحتمال المرجوح، لأن اللفظ يحتمل معنيين فيصرفونه عن المعنى الظاهر الراجح إِلَى المعنى المرجوح يضعونه من عند أنفسهم وهذا هو التأويل المذموم، وهو الذي مشى عليه الذين أولوا صفات الله تَعَالَى، وهو من أعظم الأبواب التي هُدم الدين بها، ولهذا جعله ابن القيم في كتاب الصواعق المرسلة عَلَى الجهمية والمعطلة: طاغوتاً من الطواغيت الكبرى، ورد عليه وهدمه؛ لأنه باب دخل منه المؤولة، فنفوا صفات الله: فنفوا اليد والعين والنزول والرضا والغضب وغيرها، وهذا المدخل لما دخل منه نفاة الصفات، وأقروه قالوا: هذا هو دين الإسلام وحقيقته، ولا يجوز لأحد أن يعتقد ظاهر هذه النصوص.(1/435)
ثُمَّ جَاءَ أناس شر منهم وأخبث، ودخلوا من باب التأويل، وهدموا دين الإسلام بالكلية، وهم الباطنية فقالوا: لا يوجد قيامة ولا بعث، ولا نشور، فيُقال لهم: في القُرْآن والسنة أحاديث تدل عَلَى وجود قيامة وعلى نعيم الجنة، وعذاب القبر ونعيمه، فيقولوا: نؤوله مثلما أولتم آيات الصفات، فذهبوا إِلَى أبعد من ذلك، فأولوا الصلاة والزكاة والحج حتى الأشياء التي تناقلها النَّاس بالعمل.
فالصلوات الخمس عند الباطنية عَلِيّ وحسن وحسين وفاطمة، ومحسن هذه هي الصلوات، وعلى هذا لم يبق من الدنيا شيء يتمسك به، فهَؤُلاءِ القوم أولوا مثلما أول غيرهم، وكان السبب أُولَئِكَ الذين فتحوا باب التأويل وأقروه؛ لأن الإِنسَان عندما يقر مبدأ معيناً ويستخدمه، كيف يمنع خصمه أن يستخدمه، يقول الشاعر:
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها وأول راضٍ سيرة من يسيرها
أول من يرضى بها من سار بها، فلا تغضب إذا سار غيرك هذه السيرة، فكان هذا من أبواب الشر الكبرى التي فُتحت في دين الإسلام، ثُمَّ احتار النَّاس بعد ذلك ماذا يؤولون، وماذا لا يؤولون؟ ووقعت الأمة في خلاف عظيم كما في كتاب قواعد العقائد وقد طبع مستقلاً، وهو جزء من كتاب إحياء علوم الدين للغزالي فعند موضوع التأويل قَالَ: الخلاف في التأويل عظيم: فمن النَّاس من أول كل شيء حتى الصلوات، ومنهم من قَالَ: لا نؤول أي شيء، ومن ذلك الحنابلة، ثُمَّ احتاروا ولو أنهم ردوا الأمر عَلَى ما كَانَ عليه السلف لما كَانَ هناك حيرة.(1/436)
ثُمَّ هو بين انحلال الباطنية والقائلين بالكشف، أي: الذين يذكرون الله كثيراً حتى يأتيهم الكشف! ثُمَّ يلقي في قلب أحدهم أن هذه الآية أولها، وهذه الآية لا تؤولها، أو يكون في المنام فيأتيه شخص فَيَقُولُ: أنا رَسُول الله أو أبُو بَكْرٍ أو عُمَر أو الشيخ الفلاني وهذه الآية لا تؤولها، وهذه الآية أولها، إِلَى هذا الحد يصل ديننا، فنحتاج إِلَى مكاشفات ومنامات وخيالات حتى نعرف حقيقة ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!!
هل أنزل الله القُرْآن هدى وبياناً وشفاءً لما في الصدور وجواباً قاطعاً لكل شبهة إِلَى قيام الساعة أم أنزله في وضع محير للعقول لا بد له من الكشف؟ وكم هم من يستطيع أن ينال الكشف من الناس؟! وإلا تحتار العقول كيف تؤول؟ والحل والمخرج الصحيح هو ما كَانَ عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من غلق باب التأويل بالكلية.
وقوله: [فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة والفاسد المخالف له] . يعني: أن التفسير الصحيح هو الذي يفسر الآيات أو أحاديث الصفات عَلَى مايوافق السنة، أو عَلَى فهم الصحابة والتابعين النابع من فهمهم لكلام العرب.(1/437)
ثُمَّ قال المصنف: [فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه] والمبين الهادي هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي أنزل الله إليه الذكر ليبين للناس ما نُزِّل إليهم، وهو الذي يشرح ويوضح كلام الله تعالى، فإذا جَاءَ معنى من المعاني فلا بد أن يكون إما ظاهراً واضحاً بنفسه لمن تأمله، وأما أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تعتقدوا ظاهر هذا النص وهذا المعنى الواضح، الذي إذا قرأتموه فهمتموه، فإذا كَانَ هذا الأخير، فإنه يجب عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبين هذا، فإذا كَانَ العرب يفهمون من استوى: استقر وعلا وارتفع وصعد وأمثال هذه المعاني الواضحة من لغة العرب، وفهمها السلف وفسروها بذلك، بينما يكون المعنى الصحيح هو استولى، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أنزل عليه هذا القُرْآن وقرأه بين أظهرهم، وأوجب الله عليه أن يبين لهم، كَانَ ينبغي عليه ولو مرة من المرات في جلسة من الجلسات أن يقول لهم: انتبهوا إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله أو قلت لكم حديثاً في الصفات، فلا تأخذوه عَلَى ظاهره؛ بل لا بد أن تؤولوه وتخرجوه عن كلام العرب، وهذا في الحقيقة لم يحصل ولا يمكن أن يحصل.
ولهذا فالذين تراجعوا عن التأويل من المؤولين استدلوا بهذا الدليل الجلي الواضح كما فعل ذلك أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية والتي رجع فيها عن مذهب التأويل مستدلاً بهذا الدليل فقَالَ: وجدنا السلف مطبقين مجمعين عَلَى عدم التأويل، وهم أعلم النَّاس بالدين وأشدهم فهماً وأحرصهم عليه، فلو كَانَ هذا التأويل، حقاً لسبقونا إليه فلما وجدنا إطباقهم جميعاً عَلَى عدمه علمنا أنه باطل، فهذا استدلال صحيح.(1/438)
لكن تأتينا قضية أخرى لا بد من بيانها: وهي كلمة الظاهر في آيات وأحاديث الصفات، وقولنا تفهم عَلَى ظاهرها فما هو ظاهرها؟ وكيف نفهم هذا الظاهر؟ وما هي أقوال النَّاس في ذلك؟ وهذه القضية من أخطر القضايا التي ضل فيها كثير من الناس، ولم يفهموها حق فهمها.
فنجد في كتاب العقائد من علم الكلام يقولون: (ونؤمن بهذه الصفات ونقرها مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد!) ويأتي بعضهم فَيَقُولُ: "اتفق السلف والخلف عَلَى أن ظاهر الآيات غير مراد ولكن افترقوا فريقين: فالسلف فوضوا والخلف أولوا وطريقة السلف أسلم وطريق الخلف أعلم وأحكم، فعندما يقرأون قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى فالظاهر الذي فهموه من هذه الآية أن الاستواء هنا مثل استواء المخلوقين، ولهذا قالوا: إن السلف والخلف متفقون عَلَى أن الظاهر غير مراد، فنقول لهم: أخطأتم في إطلاق كلمة الظاهر هنا؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مراد! ومقولتكم هذه كانت بسبب ما تقرر لديكم ومن ثُمَّ أوجبتم تأويل ظاهر النصوص.(1/439)
فيذكر المُصْنِّف هذه القاعدة فَيَقُولُ: فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه إذ لو قصده -يعني: الهادي المبين وهو الرَّسُول الذي يبين كلام الله وكلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو قصده أو حتى القُرْآن لو قصد المعنى غير المتبادر إليه- لحف بالكلام قرائن تدل عَلَى المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ -لأنه إذا لم يبين ذلك وقع السامع في اللبس والخطأ- فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدى فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم يحف به قرائن تدل عَلَى المعنى الذي يتبادر غيره إِلَى فهم كل أحد، لم يكن بياناً ولا هدى فإذا كَانَ الله تَعَالَى يريد بهذه الكلمة معنى من المعاني، ولم يدل عليه ولم يجعل قرينة تدل عَلَى صرفه عن المعنى الذي يفهمه النَّاس منه، ولم يبين رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فعلى هذا لا يكون القُرْآن هدىً ولا بياناً بل يصبح ذا حيرة ومتاهة، وهذا لا يكون في كلام الله ولا في كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً.(1/440)
والسلف الصالح لم يكن يتبادر إِلَى أذهانهم عند قراءتهم لآيات الصفات أن الظاهر الذي يثبتونه لله هو ما يوافق وما يشابه صفات المخلوقين. فالخطأ عند المبتدعة كأهل الكلام والمعطلة أنهم تصورا أن هذا هو الظاهر، ومن ثُمَّ أخذوا يأولون عَلَى ما تصوروا، لكن السلف الصالح فهموا قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ فكانت قاعدة مقررة لديهم وكل مسلم تُرك عَلَى فظرته السليمة، فإنه يوقن بذلك، فإذا قلت لأحدهم: هل علمك مثل علم الله وحياتك مثل حياة الله؟ فسيقول: أعوذ بالله، وهذا هو لسان العوام الذين لم يعلموا من الدين إلا ما عليه الفطرة السليمة، فكيف يظن بأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسلف الصالح أنهم فهموا آيات الصفات أنها تعني مشابهة الله للمخلوقين، بل ظاهرها اللائق بجلال الله تَعَالَى وعظمته هو المعنى الظاهر عند السلف.
وشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ له رسالة مستقلة في موضوع الظاهر ومعناه، وأدلة السلف على أن ظاهر الصفات هو ما فهمه السلف الصالح وهو اللائق بجلال الله تعالى، وهذه الرسالة تسمى الرسالة المدنية طبعت مستقلة، وكذلك موجودة في الجزء السادس من مجموع الفتاوى والرسالة المدنية كتبها شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ إِلَى بعض أهل المدينة من أهل العلم يبين لهم حقيقة مذهب السلف الصالح في صفات الله، ورد فيها عَلَى القائلين بالتأويل والمجاز الزاعمين أنه خلاف الظاهر، ثُمَّ بين لهم ما معنى الظاهر وما حقيقته؟ ومن جملة ما بين لهم ما أخذ منه المُصْنِّف هنا بعض المقتطفات
احتياج صرف النصوص عن ظاهرها إلى أمور أربعة
قَالَ: [إن صرف النصوص والأحاديث في الصفات عن معانيها اللائقة بجلال الله إِلَى أي معنى أخر يحتاج فيه إِلَى أربعة أمور] وهذه الأمور لم تتحقق:(1/441)
الأمر الأول: لا يستطيع أحد أن يثبت أن هذا الظاهر أو أن هذا اللفظ الذي استعمله فيما يتعلق بالصفات استُخدم في القُرْآن وفي السنة بالمعنى المجازي لا بالمعنى الحقيقي، وهذا الذي أشار إليه المُصْنِّف هنا وهي قضية مهمة جداً.
فيقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء] والفرق بين الإنشاء والخبر: أن الخبر ما يحتمل الصدق والكذب، كقولك: جَاءَ مُحَمَّد فهو محتمل للصدق والكذب، والإنشاء ما لا يحتمل الكذب أو الصدق كقولك: هل جَاءَ زيد؟ فهذا لا يحتمل الصدق ولا الكذب فالذي يقرأ قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ويقول: إن استوى بمعنى استولى ويقرأ قوله تعالى: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255] ويقول: العلو هنا علو القهر لا علو الذات يقال له: لقد قلت خبراً من عندك فهو إخبار بمراد المتكلم فكأنك تقول: إن ربكم تَعَالَى لما أنزل عليكم هذه الآية يقول لكم اعتقدوا أني عالٍ عليكم بقهري وغلبتي ولا تعتقدوا أني عالٍ عليكم بذاتي، وهذا كلام خطير جداً، هذه القضية الأولى أن يقول قائل: بأن المعنى الذي جَاءَ في الكتاب أو في السنة هو المعنى المجازي أو المعنى الذي يؤولونه به وليس غيره.(1/442)
القضية الثانية: أن يكون معه دليل يوجب صرف المعنى عن ظاهره، فيقول مثلاً: " العلي": تحتمل العلو بالذات، وتحتمل العلو بالقهر والغلبة؛ و" الاستواء " يحتمل الاستيلاء ويحتمل العلو والارتفاع، وأنا لدي دليل يوجب صرف المعنى الذي يقولهالسلف وهو: الاستواء الحقيقي، بحيث لو قال أحد: إن الله علا عَلَى خلقه بذاته قَالَ: هذا مشبه ومجسم، والاعتقاد الصحيح والراجح الذي يجب عَلَى كل مسلم أن يعتقده أنه علو بالغلبة فقط! أو أنه الاستيلاء وليس الاستواء! فإذا جئت إِلَى الدليل الصارف الذي يصرف المعنى من هذا إِلَى ذلك قال لك: البراهين العقلية تثبت أن الله لا يتصف بعلو الذات أو الاستواء، أي: أنه لا يتصف بصفات المخلوقين، والرد عليهم من وجهين:
الوجه الأول: أن الظاهر -كما سبق أن قلنا- لا يدل عَلَى المشابهة.
والوجه الثاني: أن الذي ينفي هذه المعاني لو احتملها الخيال ليس القواطع أو البراهين العقلية، وإنما هو كتاب الله نفسه قال تَعَالَى:لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] .
فمنهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ هو إثبات ونفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فما ننفي شيئاً إلا لأن الله نفاه، لا لأن العقول أو القواطع أو البراهين دلت عليه، وما نثبت شيئاً إلا لأن الله أثبته، هذا هو المنهج المتوازن، وليس فيه خلل ولله الحمد.(1/443)
وأما هم فالخلل كبير جداً عندما أتوا ووضعوا قانون التأويل هكذا يسمونه، وقالوا به نعرف ما الذي يؤول وما الذي لا يؤول، وبمعنى آخر ما هي المواضع التي تقدم فيها البراهين العقلية، وماهي المواضع التي يؤخذ بها بظواهر الآيات، ولقد تكلموا في ذلك وأطالوا، وممن تكلم في ذلك إمامهم فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير، وقد ذكر الرازي هذا المبدأ في التأويل ورجح أنه إذا تعارض الدليل العقلي مع الدليل النقلي قدم الدليل العقلي، فرد عَلَى هَؤُلاءِ الذين يرون أنه يمكن أن يتعارض دليل عقلي مع دليل نقلي شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ، في كتابه الكبير الذي لم يكتب في بابه مثله أبداً أي مؤلف لا منأهل السنة ولا من أهل البدعة وهو كتاب درء تعارض العقل والنقل، ذكر في أوله القانون الكلي للتأويل ثُمَّ أخذ يرد عليه من وجوه طويلة جداً استغرقت هذه المجلدات الطويلة، فالحاصل أن دعواهم باطلة، وحجتهم داحضة، فليس هناك دليل يوجب صرف اللفظ عن المعنى الراجح وعن الظاهر المتبادر إِلَى الاحتمال المرجوح.(1/444)
القضية الثالثة: أن يسلم الدليل الصارف من المعارض، فنفرض وجود لفظ له احتمالات فأتى القوم بدليل يصرفه عن الاحتمال الراجح فيقال لهم: هل تجزمون أن دليلكم هذا سالم من المعارض؟ والجواب إن المعارض موجود وقوي في كل ما أولوه، هذه هي العقبة الثالثة التي لا يستطيعون أن يتجاوزوها. العقبة الرابعة: وهي أنه يجب عليهم أن يأتوا قبل أن يؤولوا ببيان عن رَسُول الله يبين أن الله أو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد من اللفظ خلاف الظاهر وهذا لا يمكن أن يقع، فالنصوص التي يريد فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى غير المعنى المتبادر، فإنه يوضحها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سواءً أحاديث الصفات أو غيرها فمثلاً حديث: (مرضت ولم تعدني) لم يقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل جَاءَ بعده فَيَقُولُ: (أتمرض يا ربي! وأنت رَبّ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: مرض عبدي فلان ولم تعده) .(1/445)
فبين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن المرض ليس من صفات الله، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بد له أن يبين حتى في غير نصوص الصفات، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال لأصحابه: (أتدرون من المفلس؟ قالوا يا رَسُول الله: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع) والرَّسُول يريد معنى آخر بين لهم ذلك بقوله: (المفلس من يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بحسنات مثل جبال تهامة، ولكن يأتي وقد ضرب هذا، وظلم هذا، وأخذ مال هذا، فيؤخذ من حسناته فتعطى لهم حتى إذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه فوضع في النَّار) فلما كَانَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد معنى غير المتبادر، وغير المفهوم عند النَّاس بين لهم. فالقصد أنه عندما نأتي إِلَى آيات وأحاديث الصفات، ولا نجد مرة واحدة قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تفهموها عَلَى ظاهرها، فليس العلو مثلاً علو الذات بل هو علو القهر، وليست اليدان حقيقة بل هي الحفظ والرعاية، وليس الرضى والغضب عَلَى الحقيقة بل هو إرادة الانتقام فإن ذلك كله يدل دلالة واضحة عَلَى أن مذهبهم في التأويل باطل ومذهبهم في صرف اللفظ عن ظاهره باطل ولا يعول عليه هذه عقبات أربع لا يمكن أن يتجاوزوها أبداً.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-:(1/446)
[وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] و (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) ] اهـ.
الشرح:
عندما يتكلم أي متكلم فالمطلوب منا إذا استمعنا له أن نفهم ماذا يريد بكلامه على ظاهره الذي يفهمه أي إنسان مخاطب به، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا كان إخباراً به عن المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، لأنك قد قلت كلاماً ما أراده عندما تكلم به.
وهنا سؤال وهو كيف يعرف مراد المتكلم؟
هناك أوجه عقلية يعرف بها مراد المتكلم:
الأولى: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، بحيث لو اشتبه المعنى على بعض الناس تجده يقول: والمعنى الذي قصدته كذا وكذا، أو لو كانت كلمته مجملة تحتمل عدة معاني فإنه يقول: أنا أردت هذا المعنى ولم أرد ذلك المعنى.(1/447)
الثاني: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهراً في الوضع الذي وضع له في اللغة ولا يأتي بقرينة تدل على صرفه: فمثلاً كلمة العين في لغة العرب تطلق على الذهب وعلى عين الماء وعلى العين العادية، فلو أن شخصاً قال -بدون أي قرينة-: أنا عندي عين فمن الممكن أن يقصد أن عنده هذه العين التي في رأسه، أو عنده ذهب، أو عنده ماء، لأنه لا يوجد قرينة تدل على أحد هذه الأشياء فلو قال: أنا عندي عين أنظر بها فيكون بهذا قد اتضح المراد فلا يمكن أن تقول بعد ذلك لعل قصده الذهب أو الماء ... لوجود القرينة التي تدل على أنه قصد العين التي في رأسه وهي قوله: "أنظر بها"، فإذا دل ظاهر الكلام على المراد ولم تأت قرينة تصرفه عن ذلك، فهذا هو الأصل وهو: أن يؤخذ بظاهر الكلام.
ومن خالف فقد خالف ما هو معهود في كلام الناس فمثلاً يقول تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [البقرة:113] فاليهود عندما قالت: يد الله مغلولة، فهم يقصدون بذلك اليد المعروفة، ولما ردَّ اللهُ عليهم قال: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة:64] وهي الأيدي المتصف بها اليهودالمعروفة أيضاً في اللغة، ثم قال: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] فهل هذا المعنى يحتمل التأويل؟ لا يحتمل التأويل لأنه واضح ومحدد حتى في اللغة العربية، فإذا قال قائل معناها: نعمتاه مبسوطتان، قلنا له: هذا معنى بعيد جداً ولا يمكن أن يتصور في هذه الآية إذ المصدر لا يثنى، فلا يمكن أن يحمل قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] إلا على المعنى الحقيقي، فكيف يصرف عن المعنى الظاهر والمتكلم قد جاء بالقرائن التي تدل على أنه يريد الظاهر الذي يفهمه كل إنسان من اللفظ.(1/448)
يقول المصنف رحمه الله: [فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقتة وما وضع له كقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وقوله هذا لا يمكن أن يحتمل أن يكون مراده الكلام النفسي أو أنه خلق الكلام في الشجرة، والشجرة خاطبت موسى كما تقول الأشعرية وغيرهم من المؤولة.
فعندما تقول: قابلت فلاناً مقابلةً فإنه لا يمكن أن يكون بالتلفون ولا بالبريد، فإنك قد أتيت بالفعل وأتيت بالمصدر لتؤيد ذلك وتؤكده وعليه تكون قد نفيت أي احتمال، كذلك نصوص الصفات، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم ترون ربكم عيانا ً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) ، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون المراد منه: إنكم ترون نعمة الله، وفي الحديث الآخر: (كما ترون هذا القمر) فأشار بإشارة حسية إلى شيء معروف لدى جميع المخاطبين، حتى يفهم أقل الناس تفكيراً ونظراً وبهذا يتضح أنه لا يحتمل المعنى الذي ذهبت إليه الفرق التي تنفي رؤية الله سواء كانت المعتزلة أو الجهمية أو الإباضية أو أي فرقة من فرق الضلال.
يقول المصنف -رحمه الله تعالى-:
[فهذا مما يقطع به السامع فيه بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة كان صادقاً في إخباره وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي وتوهم بالهوى] اهـ.
الشرح:(1/449)
ومعنى هذا الكلام أنك إذا قلت: إن الله تعالى أو إن رسوله صلى الله عليه وسلم يريد بالرؤية الرؤية الحقيقية البصرية، فأنت تخبر عن الله فلا بد أن تقول هذا بعلم، فإن كنت قلته بناء على أن هذه الآيات والأحاديث واضحة بهذا المعنى فإخبارك عن الله صادق، فمن قال: إن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب) أننا نرى الله في الآخرة حقيقة بأبصارنا، فهو صادق في إخباره عن رسول الله أو عن الله تعالى، ولو أتى شخص وقال المراد بالرؤية النعمة، أو المراد انتظارها فإننا نقول: هذا كاذب في إخباره عن الله وعن رسول الله؛ لأنه ليس إنشاءاً بل خبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب.
يقول المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[وحقيقة الأمر: أن قول القائل نحمله عَلَى كذا، أو نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده، دفع معناه، وقَالَ: أحمله عَلَى خلاف ظاهره] اهـ.
الشرح:
هذه قاعدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ التي بها عرفوا مدخل أهل البدع، وأصل أهل البدع في جميع الصفات، ولماذا ينفونها؟ وهو أنهم لما قالوا في آيات الصفات نحملها عَلَى كذا ونحملها عَلَى كذا أرادوا أن ينفوا المعنى.(1/450)
فمثلاً علو الله تَعَالَى نفوه وعندما أتوا إِلَى الآيات التي تثبت العلو لم يقولوا: إن الله لم يقل في القُرْآن أنه العلي، أولم يقل في القرآن: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] لأنهم لو فعلوا ذلك لوقعوا في الكفر الصريح الواضح، فهم لا يريدون إثبات المعاني ويريدون أن تبقى الألفاظ، حتى لا يُقَالَ: إنهم أنكروا ألفاظ الكتاب والسنة، فَقَالُوا: لفظ العلو يحتمل معنيين معنى كذا ومعنى كذا، فنحن نصرفه عن المعنى هذا، ونأخذ المعنى الآخر، وهذا مدخل يريدون به أن يبقى اللفظ مجرد رسم وينفوا حقيقته التي أرادها الله تعالى، هذا هو حقيقة مذهبهم وهكذا فهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ مرادهم، فهم لا يستطيعون أن ينفوا الآيات لكن يأتون بما يخلي الآية ويفرغها من مضمونها ومحتواها.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[فإن قيل: بل للحمل معنى آخر، لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره عَلَى أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالةً لا ابتداءً] اهـ..
الشرح:
رد أهل البدع والمتكلمون عَلَى ما قلناه فَقَالُوا: نَحْنُ لم نقصد ما قلتموه بل للحمل معنى آخر لم تذكروه ولم تنتبهوا له ياأهل السنة وهو: [أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره عَلَى أن مجازه هو المراد فحملناه عليه دلالة لا ابتداء] .
أي: أننا لم نرد من أول الأمر أن نغير النصوص ونفرغها من معانيها، ولكن عندما قرأنا هذه النصوص استحال بالعقل أن نقول إن الله فوق العالمين بذاته! هكذا قالوا! فاضطررنا أن نؤوله هذا حال المؤولين.
من مداخل المؤولين والرد عليهم
والرد عليهم واضح ومعلوم للجميع، أنه إذا كانت العقول تدرك ما يجب لله وما لا يجوز قبل أن تأتي النصوص، فما الحاجة إِلَى الوحي؟(1/451)
أما الآخرون فيقولون: نَحْنُ قرأنا الآيات والأحاديث لأننا نريد أن نفهم منها ما يجب لله وما لا يجوز، فلما قرأناها وجدنا أن فيها نصوصاً يستحيل إثباتها عقلاً، ولهذا أولناها، ووجدنا نصوصاً أخرى لا يحكم العقل باستحالتها فأثبتناها.
وإذا قالوا: نَحْنُ مضطرون إِلَى التأويل، فنرد عليهم بأن الله تَعَالَى أنزل في كتابه هذه الآيات الكثيرة وبلغها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر جملة من الصفات وفهمها هو والصحابة، والصحابة تعلموها وعلموها غيرهم، وما اضطروا إِلَى تأويلها حتى جئتم أنتم في القرن الخامس وفي القرن السابع والثامن، وقلتم: نَحْنُ مضطرون إِلَى التأويل!!
إذاً: الخطأ في فهمكم أنتم عندما قلتم: يستحيل عقلاً إثباتها، ومعارضتكم للنص -أصلاً- خطأ ولو جعلتم عقولكم تابعة للكتاب والسنة ما وقع عندكم هذا، ولا اضطررتم إليه، وبعضهم يقول: نَحْنُ مضطرون إِلَى أن نؤول حتى لا يكون في كتاب الله تصادم وتناقض! سُبْحانَ اللَّه! ينزل الله في كتابه الهدى والبيان، وأنت أيها العبد الضعيف تأتي بعد قرون تؤول بعضه وتترك بعضه حتى لا يكون متناقضاً! كَانَ الأحرى بك عند توهمك التعارض أن تتهم عقلك وفهمك وأن تسأل أهل العلم كيف يجمعون بين الآيات وبين الأحاديث عند توهم التعارض. وبهذا يعلم أن القوم منهجهم التحريف في نصوص الكتاب والسنة ولا ضابط لهم إلا الهوى والتحكم بغير دليل، وهم فروا من التشبيه ووقعوا في شر منه وهم لا يشعرون.
ذكر استدراك يستخدم في لغة العرب
ولهذا أجاب المُصْنِّف فَقَالَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:(1/452)
[قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده؛ بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره إذا قصد التعمية عَلَى السامع حيث يسوغ ذلك، ولكن المنُكَر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده، كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز ويكرره غير مرة ويضرب له الأمثال] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصْنِّف أن الاستدراك الأخير جائز، وقد يقع في لغة العرب أو عند بعض النَّاس وذلك مثل الألغاز اللغوية أو الألغاز النحوية، وهو أن يأتي الشخص بكلامٍ ولا يقصد ظاهره ليعمي عَلَى النَّاس وحتى لايعرف المعنى الذي قصده صاحب اللغز وهو يريد التعمية عليك، ويقع هذا -أيضاً- في المعاريض، فلو سألك شخص أين فلان؟ وهو عندك، وتخشى عليه من صاحب ظلم وشر يريد أن يبطش به، فتقول: ليس هنا! وتشير إِلَى أصبعك فهذا وأمثاله يسمى المعاريض، وهي جائزة في الشرع إذا كانت المصلحة راجحة، فتستخدم مثل هذه الأمور من أجل التعمية والتورية.
لكن هل ينطبق هذا عَلَى الكتاب والسنة؟ بمعنى هل ينزل الله شيئاً في كتابه ويريد به التعمية علينا حتى لا نفقه ظاهره؟ أو أنه جَاءَ بأوضح البيان وقال الله فيه: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً [آل عمران:138] ؟
والجواب واضح وهو: أن هذا البيان والهدى والرحمة الذي أنزله الله تَعَالَى ما كَانَ يجعل فيه تعمية عَلَى العقول! بل حدى التأويل ببعض المؤولة إلى أن يؤولوا أحاديث الدجال فَقَالُوا: المقصود بالدجال الحضارة الغربية؛ لأنها حضارة عوراء فيها الجانب المادي وليس فيها الجانب العملي!(1/453)
والأحاديث التي فيها أنه رجل وأنه يخرج من المشرق ويمشي إِلَى المغرب ثُمَّ يقابله فتى يقول له كيت وكيت ومكتوب عَلَى جبهته كفر، قَالَ: هذه نؤولها! فيا ترى ما حال هَؤُلاءِ المؤولة عندما يظهر الدجال ويرونه بالوصف الذي أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وماهو موقفهم إذا تجلى الله لأهل الجنة ثُمَّ كشف الحجاب عن وجهه ورأوه؟ ماذا يكون موقف الذين ينكرون الرؤيا ذلك الوقت؟ فعلى الإِنسَان أن يحتاط لدينه.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[وقوله: فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عَزَّ وَجَلَّ ولرسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد علم ما اشتبه عليه إِلَى عالمه، أي: سلَّم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو يقول: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل! والعقل أصل النقل! فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط، لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثلَ ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً فذلك الذي يدَّعي أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك.(1/454)
وإن كَانَ النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيُقَالَ: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل عَلَى صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه، وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل عَلَى صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل، لزم ألا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل.
فالواجب كمال التسليم للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق دون أن يعارضه بخيال باطل، نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً أو نقدم عليه أراء الرجال وزبالة أذهانهم فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسِل بالعبادة، والخضوع والذل والإنابة والتوكل.(1/455)
فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرسول، فلا يحاكم إِلَى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره عَلَى عرضه عَلَى قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته، ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفَّذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم، وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً فقَالَ: نؤوله ونحمله فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب ما خلا الإشراك بالله خير له من أن يلقاه بهذه الحال؛ بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه، كأنه سمعه من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل يسوغ له أن يؤخر قبوله والعمل به، حتى يعرضه عَلَى رأي فلان وكلامه ومذهبه؟ بل كَانَ الفرض المبادرة إِلَى امتثاله من غير التفات إِلَى ما سواه ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسه وتلغى نصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول قوله عَلَى موافقة فلان دون فلان كائناً من كان] اهـ.
الشرح:
هذا كلام عظيم جداً ينبغي لنا دائماً أن نعرفه، وأن نتعلمه ونعلمه للناس بهذه الألفاظ أو بأي ألفاظ أخرى.(1/456)
إن ديننا هو دين اتباع وتسليم، ولو أننا كنا لا نؤمن إلا بما تقبله عقولنا لما دخلنا في دين الله تعالى. فعقل هذا لا يقبل عذاب القبر، وعقل هذا لا يقبل العلو، وعقل الثالث لا يتصور كيف ينزل الوحي من السماء، وعقل الرابع لا يتصور أن يكون الرَّسُول من بشر بل لا بد أن يكون عنده من الملائكة أو النور، وعقل هذا يريد أن تكون السنة كلها متواترة، وعقل الآخر يقول: لا داعي للسنة، والقرآن يكفي، كم عقول وكم أراء تواجه دين الله تعالى، فديننا اسمه (دين الإسلام) أي: أن نستسلم لله تَعَالَى بقلوبنا وعقولنا وجوارحنا، ونوحد الله تَعَالَى توحيد المرسل بعبادته والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتحاكم إِلَى دينه، والرغبة والرجاء وكل أنواع التوحيد المعروفة وكل أنواع العبادات تصرف له وحده، ونوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطاعة. وبالاتباع، فعنه نأخذ، وعنه نتلقى، ولا نعارض كلامه بكلام أي أحد من النَّاس كائناً من كان، ولا نوقف الإيمان بشيء جَاءَ في الكتاب أو في السنة حتى نرى ما قال فيه عقل أفلاطون أو ما قال فيه أصحاب الكلام أو ما ذكر الإمام أو المذهب فهذه معصية.
إن من أعظم أسباب انحراف الْمُسْلِمِينَ وحلول الهزائم والمصائب بالأمة الإسلامية أنها أعرضت عن هذا الأصل، فإنك قد تقول لأحدهم: قال الله؛ قال رَسُول الله فيقول لك: أخر ذلك حتى نرى ما قالوا لعلهم أولوها!! سُبْحانَ اللَّه، أنزل الله كلاماً واضحاً ليتعبد به وليؤمن به، وهذا يحيل إِلَى معارض محتمل وإلى معارض متوهم ليعارض به ما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو أساس المصائب والبلايا.(1/457)
والانحراف في الأسماء والصفات سببه كالانحراف في حياة الْمُسْلِمِينَ العامة، الانحراف في العبادات، فلو أنك ذهبت إِلَى بعض البلاد ونظرت إِلَى الصلاة التي يصلونها وما يكون من الأذكار البدعية قبل الصلاة وبعدها ماظننت أنها الصلاة التي يصليها الْمُسْلِمُونَ، مع أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما جاءنا إلا بدين واحد، وما علم أصحابه إلا صلاة واحدة وما هذه النتيجة إلا لأنه لم يوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاتباع وبالطاعة وبالتحكيم، ويقدم كلامه عَلَى كلام أي أحد كائناً من كان، فضعنا في عباداتنا وفي أحكامنا وقضاءنا ومعاملاتنا واعتقادنا وفي كل شيء، وسبب الضياع هو عدم التسليم لرَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يخبر، وعدم الإذعان لأمره، وعدم الانقياد للوحي والإيمان بأنه لا خير ولا نور ولا هدى ولا حكمة إلا فيما أنزل عَلَى رَسُول الله، وما عداه إن عارضه فإننا نضرب به عرض الحائط ولا نبالي به، كما علمنا أئمة الإسلام الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
ومعنى ما ذكره المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ- يدور عَلَى موضوع تعارض العقل والنقل وهو من أكبر الأبحاث، وأعظم الموضوعات المهمة في أبواب العقيدة.
بل إننا نقول الآن: إن مسألة المصدر الذي نتلقى منه الحق ونقيس به الأمور، فيعرف صحيحها من سقيمها والتي يجب عَلَى الإِنسَان أن يعرفها، هي أعظم المسائل التي خاضت فيها العقول البشرية والآراء والأفهام منذ القدم، فليس هناك من كتاب في الفلسفة أو التاريخ أو في أي فن من الفنون العلمية، إلا وهو يقول: إن ما نكتبه ونقوله هو الحق، ومعيارنا في ذلك هو الحق وكذلك ما من خطيب أو متكلم إلا ويقول: أنا الذي عَلَى الحق في هذا الرأي ودليلي ومعياري في هذا الحق هو كذا وكذا من الأدلة، ويأتيك بمصدره الذي استقى واستمد منه هذا الحق، ومن هنا نعرف أهمية مصدر الاستمداد والتلقي لكل إنسان.(1/458)
كل فكرة ومذهب -في اعتقادنا- لا تخرج بأي حال من الأحوال عن مصدرين:
المصدر الأول: الوحي، وهو الكتاب والسنة وما تفرع منهما واتبعهما، من الفهم والفطرة القويمة السليمة.
والمصدر الآخر، باطل: وهو إما الجهل وإما الهوى أو وحي الشياطين، وإن سماه أهله فلسفة أو أموراً عقلية.
وقد ذكر الله ذلك عن الأمم السابقة حين قَالَ: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] ، فكل نبي يأتي قومه فإنهم يجادلونه وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَق [غافر:5] فالملأ المستكبر في الأرض وأصحاب الديانات في الأمم السابقة. وفي كل مكان يجادلون بما عندهم من الباطل، وكما تقول الحضارة الغربية اليوم: (إن فلسفتنا، إن العلم البشري، إن التجارب، إن الأنظمة البشرية، إن علوم الاجتماع وعلوم النفس، تقول غيرما تقولون أنتم في كتاب الله أو في السنة، فالديمقراطية والاشتراكية تقول هذا وغيرها من الأفكار التي قُدست أو عظمت، وهي في الحقيقة أصنام ولكنها ليست أختاماً منحوتة كتلك التي نحتها قوم إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- فكسرها وحطمها، ولكنها أصنام من المبادئ والأفكار والشعارات المضللة، وكهانها يختلفون عن كهان الأصنام السابقة؛ لأنهم يلبسون ثياب العلم والحضارة والرقي والتمدن، وما أشبه ذلك.(1/459)
وهذان المصدران قائمان -منذ أن أمر الله الملائكة بالسجود ورفض إبليس ذلك وعصى وقَالَ: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]- إِلَى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأصحاب الوحي الشيطاني يقابلون الوحي والأمر الشرعي بالأدلة العقلية أو بالأقيسة، أو بالآراء المخالفة له، كما قال إمامهم في ذلك بعد الأمر الصريح من الله عَزَّ وَجَلَّ اسْجُدُوا لِآدَمَ [البقرة:34] فامتنع إبليس، لماذا لا تسجد إذ أمرتك؟ قَالَ: أنا خير منه؛ لأنه تصور أن المسجود له هو أفضل من الساجد!.
يقول تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإِنسَان:1] بلى ولكن الله نفخ فيه من روحه فأصبح شيئاً عظيماً، وكرمه الله عَلَى مخلوقاته ولكن إبليس رجع إِلَى القياس قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12] وهي العناصر الأساسية.
يقول هذا لشيطان: لو حللنا قضية الإِنسَان، وقضية الشيطان فرجعنا إِلَى العناصر الأساسية التي يتكون كل منهما، -فسنجد حسب القياس الشيطاني- أن النَّار عنصر أفضل من عنصر التراب..!.
إذاً: أنا محق عندما أرفض أو أعترض عَلَى أمر الله!! ثُمَّ أخذت الأمم طريق إبليس فكل من كذب رسل الله قالوا: ما جَاءَ به الأَنْبِيَاء معارض للعقول أو للحقائق أو للعلمفَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] ولا غضاضة في أن يسمى علماً؛ لكن هل هو علم يوصل إِلَى الحق؟! والسحر يقال له علم ولكنه كفر وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُر [البقرة:102] فهو كفر وضلال بشهادة الأستاذين الذين هم أول من علم النَّاس ذلك فهذه المعارضة معارضة قديمة، وهي التي أشار إليها المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- هنا.(1/460)
وقد سبق أن قلنا: إن الذين أنكروا صفات الله تَعَالَى وأولوا دين الله وحرفوا كتابه، إنما اعتمدوا في ذلك عَلَى ما يسمونه الأقيسة والآراء وسبق معنا هذا عند قول المصنف: [وهذا الذي أفسد الدنيا والدين -يعني التأويل والتحريف- وهكذا فعلت اليهود والنَّصارَى في نصوص التوراة والإنجيل وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم وكم جنى التأويل الفاسد عَلَى الدين وأهله من جناية.
يقول: [فهل قُتل عثمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى يوم الجمل وصفين ومقتل الحسين والحرة، وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة عَلَى " ثلاثة وسبعين " فرقة، إلا بالتأويل الفاسد.؟!] .
بل إن عباد الأصنام، إنما عبدوها -أيضاً- بالتأويل الفاسد، والشبهات الباطلة.
فالقضية ليست مجرد شبهات إنما هي: هل هذا وحي من عند الله، أو هو آراء وظنون، وتخرصات، سماها أصحابها آراء عقلية أو براهين أو قواطع عقلية؟!
فالأصل الذي يجب أن نعلمه، ويعلمه كل مسلم، هو أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال أن يتعارض دليل نقلي صحيح، ودليل عقلي صريح أبداً، فإذا رأينا أن ذلك قد وقع فلا بد أن ننظر، فإما أن يكون الدليل الذي ظنناه عقلياً غير صريح، وإما أن يكون الدليل النقلي غير صحيح، وبسبب الجهل بهذه القاعدة، وقع كثير من الاضطراب في هذه الأمة قديماً.(1/461)
مثلاً: أتى قوم من رواة الحديث المنتسبين إِلَى علم الحديث والسنة فرووا في باب صفات الله وغيره أحاديث مكذوبة عن ضعفاء، ومجاهيل، ووضاعين، ومن المعلوم أنه لا يجوز أن يستشهد بالحديث الضعيف فضلاً عن الواهيات والموضوعات في أبواب العقيدة، فما بالك إذا كَانَ في أخص الأمور -كصفات الله تعالى- التي هي من أمور الغيب؟! بل لا يجوز ذلك في الفروع -أي: الأحكام- فضلاً عن الأصول، لكن وقع من بعض المنتسبين إِلَى الحديث، والسنة أنهم ذكروا هذه الأحاديث ورووها، فجاء الذين في قلوبهم مرض منأهل الكلام والفلسفة والمنطق وأمثال ذلك.
وقالوا: الوحي لا يؤخذ به في هذا الباب ولا نأخذ العقيدة بحال من الأحوال إذا عارضت القواطع العقلية، والبراهين النظرية التي ذكرها العلماء الثقات في المنطق والفلسفة، وسار عليها النَّاس في هذا المجال، وما هذا إلا لأنهم قرأوا هذه الموضوعات، فَقَالُوا: إذا تعارضت هذه الأحاديث مع ما عندنا من قواطع، ومقررات عقلية نرد النقل ونرد السنة، ولا نأخذ بالأحاديث، وهذا من جهلهم؛ لأن هذه الأحاديث غير صحيحة، أو مكذوبة.(1/462)
وكان من أسباب وضعها الرافضة، وقدماء الصوفية الذين ذكروا أموراً تتعلق بصفات الله تَعَالَى لا أصل لها، فمثلاً ما يرويه هَؤُلاءِ الوضاعون من أن فلاناً من النَّاس رأى ربه فعانقه وبعضهم يقول: إنه صافحه، ومن هذا الكلام الذي جعل علماء الكلام يقولون: هَؤُلاءِ مجسمة، ومشبهة، وكأنهم هم أهل السنة وهم الذين يتكلمون باسم الإسلام، وهم غير ذلك في الحقيقة، وسبب ذلك هذه الأحاديث الموضوعة، التي قد توجد في بعض كتب أهل العلم الموثوقة كما في كتاب أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ -مثلاً- وكذلك رد الدارمي عَلَى بشر المريسي، وغيرها من الكتب التي هي موثوقة في الجملة لكن فيها أحاديث ضعاف وقد يكون فيها - أحياناً- موضوعات، فأهل الكلام رأوا تلك الأحاديث فردوا كل ما في هذه الكتب بناء عَلَى هذه الموضوعات الموجودة، وَقَالُوا: كيف تأخذون من التوحيد لابن خزيمة أو من السنة لعبد الله بن أحمد أو من اللالكائي أو غيره وقد رووا كذا وكذا؟!
وفي الحقيقة هل عارضوا الدليل الصحيح أم عارضوا شيئاً مكذوباً؟! وفي المقابل هناك آخرون ممن لديهم علم، وحب للسنة وللعقيدة الصحيحة، وجدوا أن بعض ما يقوله المتكلمون.
كقولهم: إنه لا يجوز أن نصفه تَعَالَى بالتغير، ولا بالحلول، ولا بالتركيب، ولا بالتمثيل، ولا بالتبعيض.
فقالوا: هذه قواعد عقلية صحيحة وسليمة، وهذا حق وأقروا بها، فلما جاءوا ينظرون في بعض الأدلة مثل حديث النزول وهو حديث صحيح، وهم يعلمون أنه صحيح، قالوا: هذه براهين عقلية قطعية ثابتة وعليه فهذا الحديث لا بد أن نؤله.(1/463)
فالحقيقة أنهم عارضوا النقل الصحيح، وكان الأصل أنه لا تعارض بين نقل صحيح وعقل صريح قطعي الدلالة أبداًَ، وقد حصل تعارض بين صحيح وغير صحيح أو بين صريح وغير صريح، أما إذا كَانَ الدليلان ظنيين فهذا قد يكون من أسباب الخلاف، وذلك أنه قد يوجد حديث يفهمه بعض النَّاس عَلَى أنه مخالف لما يظنه هو -كما مر معنا في حديث التربة- ويقول: أنا أفهم أن هذا الحديث يخالف ما عليه النظريات العلمية الكونية في نشأة الكون -مثلاً- وفهمه لهذا الحديث هو فهمٌ ظني، لأنه ليس هناك قطع بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام بالأيام التي نعرفها نَحْنُ اليوم، وهذا الإِنسَان عارض هذا الأمر بنظريات ظنية واحتمالات وتخمينات، فيكون بهذا تعارض ظني بظني، وتعارض ظني بظني أهون وأيسر، وما علينا إلا أن نفكر وأن نمحص، فمتى ترجح أحدهما وتحول إِلَى قطعي أو كَانَ ظناً راجحاً أرجح من الآخر عملنا به، ولا غضاضة ولا حرج في ذلك، ولله الحمد.
فيقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [أو بقوله: العقل يشهد بضد ما عليه النقل، والعقل أصل النقل فإذا عارضه قدمنا العقل] نقول: هذا لا يكون قط؛ لكن إذا جَاءَ ما يوهم مثل ذلك، فإن كَانَ النقل صحيحاً، فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك إذا كَانَ النقل صحيحاً لا يمكن أن يعارضه شيء من ذلك أبداً -فمثلاً- عندما يثبت عندنا حديث النزول وفيه: (أن الله تَعَالَى ينزل كل ليلة في الثلث الأخير من الليل) ويثبت عندنا أيضاً الحديث الذي رواه مسلم وأَحْمَد وغيرهما أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سأل الجارية أين الله؟ قالت: في السماء.
فهل نقول: إن هذه الأحاديث تعارض قولهم: (إنه - عَزَّ وَجَلَّ - تَعَالَى أن تحيط به جهة، أو أن يكون في مكان، أو يدرك وصفه بعلو أو بغيره، بل نرفع النقيضين ونقول: لا داخل العالم ولا خارجه وهذا هو قاطع عقلي وبرهان عقلي!) .(1/464)
لا يمكن أن يقال هذا؛ لأن هذا القول لا يصلح أن يكون معارضاً في أي حال من الأحوال لهذه الأحاديث الثابتة، أما إذا كَانَ النقل غير صحيح مثل الأحاديث الموضوعة أو الضعاف الواهيات التي ذكرها بعضهم في صفات الله - عَزَّ وَجَلَّ- والتي كانت مطية لأن يتطاول علماء الكلام والفلسفة وأهل التأويل عَلَى أهل السنة ويقولون: أنتم تروون أمثال هذه الأحاديث. وتقولون: إننا نأخذ صفات الله من الحديث، ولا نأخذها من العقل، فلا تصلح للمعارضة البتة، فإنه لا يمكن أن يتعارض نقل صحيح وعقل صريح أبداً.
ثُمَّ بين المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ - أننا نستطيع أن نرد عَلَى هذه القاعدة: وهي أنه إذا تعارض النقل والعقل قدمنا العقل فنعارض كلام هذا القائل بقاعدة عقلية نظير كلامه، بل هي أقوى: وهي أننا نقول إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم النقل؛ لأنه قد ثبت بالدليل العقلي والبرهان العقلي الصحيح أنه إذا تعارض العقل والنقل قدمنا النقل؛ لأن العقل قد شهد بصحة النقل والجمع بين المدلولين بين مدلول هذا النقل الصحيح وبين مدلول المعارض العقلي جمع بين النقيضين ورفع النقيضين محال في العلوم العقلية، والنقيضان: هما اللذان لا يمكن أن يرفع أحدهما إلا بوجود الآخر، بخلاف الضديين مثل: الأسود والأبيض، فإذا سألك أحد ما لون هذا؟ فلا تستطيع أن تقول: أسود وأبيض بل إما أن تقول أبيض أو تقول أسود فلا يمكن أن يجتمعا لكن يمكن أن يرتفعا بأن تقول لا أسود ولا أبيض بل هو أحمر أو أخضر.(1/465)
فالضدان ممكن أن يرتفعا، أما النقيضان إذا ارتفع أحدهما فبالضرورة أن يوجد الآخر، فإذا قلت لك: أزيد داخل البيت أم خارجه؟ فبالضرورة إذا قلت داخله أنه ليس خارجه مطلقاً وهذا معلوم بالضرورة العقلية، وبهذا نعرف بطلان مذهب الأشاعرة، وغيرهم من المؤولين في العلو لأنهم يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه فرفعوا النقيضين، ورفع النقيضين محال في العقول البشرية، فإنه لا بد أن يوجد الشيء داخل أو خارج، ولا بد أن يكون كذلك أسفل أو فوق.
ومن أوضح الأمثلة عَلَى النقيضين أن نقول موجود أو غير موجود فإذا كَانَ موجوداً فلا يمكن أن تقول: إنه غير موجود أو العكس فالباطنية وغلاة الجهمية لا يرفعون النقيضين في جميع الصفات فيقولون: لا نقول موجود ولا غير موجود وهذا مذهب الباطنية ومذهب غلاة الجهمية.
والأشاعرة لا يقولون ذلك في جميع الصفات إنما يقولون ذلك في صفة العلو فهم يأخذون بشعبة من التجهم والباطنية والمقصود هنا، كيف نثبت هذه القضية؟
يقولون: إن العقل هو الذي دلنا عَلَى صحة النقل ومن ثُمَّ وجب عند التعارض أن نحكم العقل ونحن عكسنا عليهم القضية وقلنا: العقل قد دل عَلَى صحة النقل، ومن ثُمَّ وجب عند التعارض أن نحكم النقل؛ لأننا إذا حكمنا العقل أبطلنا العقل والنقل معاً؛ لأن العقل هو الدليل، وهو الآلة التي عرفنا بها صحة النقل، فإذا قلنا: إن الدليل الذي دل عَلَى صحة شيء من الأشياء وكان هذا الشيء باطلاً، فإن الدليل الذي دل عليه باطل، فيكون النقل غير صحيح ويقدم عليه العقل، وكيف يدلنا عَلَى صحته وهو باطل؟(1/466)
وعليه فإن هذا العقل غير صحيح وفي هذه الحالة نكون قد أبطلنا النقل لأن العقل دل عَلَى بطلانه، وعطلنا العقل لأنه دلنا عَلَى شيء باطل إذاً فهو باطل، فيتبين بهذه القاعدة العقلية السليمة أن تقديم العقل عَلَى النقل إبطال للعقل وللنقل معاً. لكن تقديم النقل عَلَى العقل بخلاف ذلك؛ لأن الدليل العقلي دل عَلَى صحة النقل، فنقدم النقل؛ لأنه قد دلنا العقل عَلَى صحته قطعاً فإذا وجد في العقل ما يعارض فإننا نرد هذا القول بنفس القاعدة التي قررها هذا العقل وهي: أن النقل صحيح مقدم.
ويضرب لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ مثلاً فَيَقُولُ: كمثل رجل جَاءَ إِلَى مدينة فيها عالم كبير حجة، يرجع إليه في العلم والدين، ووجد رجلاً سليماً صحيحاً معافىً يعرف أهل البلد فوجده وقال له: أريد عالماً أطلب عنده العلم فقَالَ: أنا أعرفه، وأخذ بيده وذهب به إِلَى ذلك العالم الكبير المشهور في البلد وقال له: هذا هو العالم ولما رأى ذلك الرجل هذا العالم واسع العلم، ووجد التعظيم له عند الناس، ووجد الكتب، ووجد النَّاس يرجعون إليه في الفتاوى تيقن صدقاً وقطعاً أن هذا فعلاً عالم، وأن الرجل الذي دله عليه كَانَ فعلاً صادق لم يكذب عليه فأخذ هذا الرجل العلم من العالم وتلقاه منه فلما فهم هذا الرجل مسألة من مسائل العلم الكبرى، وأخذ يبلغها ويدعو النَّاس إليها جَاءَ ذلك الرجل الذي دله وقال له: هذا الكلام غير صحيح، قَالَ: كيف يكون هذا الكلام غير صحيح وأنا أخذته من الشيخ الذي أنت دللتني عليه؟
قَالَ: الذي دللتك عليه قال لك هذا؟!
قَالَ: نعم.
قَالَ: بما أنني أنا الذي دللتك عليه، فأنا أقول لك: لا تأخذ هذا الكلام، فإنه يتعارض مع كلامي ويجب أن تقدم كلامي؛ لأنني أنا الذي دللتك عليه!
فماذا يكون الجواب الصحيح؟(1/467)
الجواب الصحيح أن يقول له: أنت أصبت عندما دللتني عليه، ولكنك أخطأت عندما عارضت ما عنده من العلم بكلامك، فكونك أصبت بالدلالة عليه لا يعني أنك تحكم في كل شيء يقوله الشيخ! وإلا لو كَانَ كذلك لم يجتمع النَّاس عَلَى الشيخ ولم يأخذوا العلم منه وأنت موجود، فلنرجع إليك ولنأخذ منك العلم ما دمت أنت واقف بالباب وكل من أتى بمسألة من عند الشيخ قلت له: اعرضها عليَّ فإن وافقت عليها وإلا ردها لأنني أنا الذي دللتكم عليه! وهذا كلام -بلا شك- فاسد.
هذا أقرب وأوضح الأمثلة في مسألة التعارض الذي يزعمونه بين النقل وبين العقل.
وقد عُرف صدق الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم بالفطرة السليمة، فكل ذي لب من خلق الله يرى نبياً ويسمع ما عنده من البينات يؤمن بأن هذا النبي صادق، وكل من كَانَ لديه عقل سليم من العرب -مثلاً- وسمع آيات من كتاب الله فإنه يوقن بأن هذا لا يمكن أن يقوله بشر بأي حال من الأحوال.
إذاً: بهذه الآلة التي أعطانا الله إياها وهي الفهم والعقل عرفنا صحة النقل، وميزنا بين مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله ورسوله وبين مسيلمة الكذاب والأسود العنسي حتى عندما قيل للرجل: لماذا تتبعونمسيلمة وتعلمون أنه عَلَى الكذب؟ قَالَ: كذاب اليمامة خير من صادق مضر! فقد شهد النَّاس بصحة نبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحة الدين الذي جَاءَ به، ولكن للأهواء أو الحظوظ الدنيوية أو لأي أمرٍ من الأمور لم ينقادوا.
وبهذا يتضح أن هذه الآلة التي أعطانا الله إياها بعد أن أثبتت صحة الدليل النقلي - الوحي من القُرْآن والسنة -لم يبق إلا أن نسلم لما في الوحي.(1/468)
ولو أتى أحد وقَالَ: نَحْنُ لا نسلم بالأدلة النقلية إلا إذا عرضناها عَلَى الأدلة العقلية! قلنا: معنى ذلك: أن ترك النَّاس بلا دين وبلا وحي خير وأنفع لهم في دنياهم وأخراهم من أن ينزل عليهم هذا الكتاب ما دام أننا كلما قرأنا آية من هذا الكتاب عرضناها عَلَى العقل، فإذا قرأنا قوله تعالى: وَجَاءَ رَبُّك [الفجر:22] قلنا: يا عقل! أصحيح أنه يجيء؟! وقل ذلك في قوله: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان [المائدة:64] وغيرها من الآيات في كل ذلك يقول العقل: لا، فيا ترى ما الفائدة من هذه النصوص التي نحفظها ونكتبها ونرويها بالسند ونتعب فيها ونحن لا ندري خطأها من صوابها! إذاً: لا داعي لها، وتعال يا عقل فأخبرنا عن الله مباشرة هذا هو لازم هذه المقالة.(1/469)
بل لازم ذلك: أن هَؤُلاءِ النَّاس لا يؤمنون بصدق نبوة النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولبيان ذلك: لنفترض كما ذكر الشيخ هنا -وهذا الكلام منقول من درء التعارض وكلام ابن القيم في مدارج السالكين - لنفترض أن ثلاثة رجال جاءوا إِلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حي بين ظهرانيهم فأخبرهم بأمر من الأمور، وقَالَ: أنا رَسُول من عند الله، كما ثبت ذلك عنه في أحاديث كثيرة يأتيه الوفد من العرب فيأمرهم وينهاهم ويخبرهم عن الإيمان وعن المغيبات وأمثال ذلك -فقال الأول منهم: هذا الذي قلته يا محمد! لن أؤمن به ولن أصدقك حتى أرجع إِلَى بلادي وأسأل شيخ القبيلة! والآخر قَالَ: أنا أصدق أنك رسول، لكن ما قلته لا أؤمن به حتى أعرضه عَلَى عقلي! والشخص الثالث قَالَ: يا محمد! هذا الكلام الذي قلته مع تصديقي بنبوتك وبرسالتك لا أستطيع أن أؤمن به حتى أتأكد أن ليس له معارض، فأنا أتوقف فيه، فقد يكون هناك شيء معارض له! فهل يُقال في دين الإسلام: إن أحداً من هَؤُلاءِ الثلاثة مؤمن مسلم؟ لا ليسوا بالمؤمنين ولا بالْمُسْلِمِينَ أبداً. ولهذا قال رَحِمَهُ اللهُ: [ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام] فهذا أبو طالب ما منعه من أن يسلم وهو في آخر لحظة عند الموت- إلا بسبب المعارض الذي أتى له: وهو ملة عبد المطلب، مع أنه مصدق للنبوة ومقر بأن هذا رسول، لكن المعارض الذي يعارض الإذعان والاستسلام هو ملة عبد المطلب، وهكذا فهَؤُلاءِ لا يسمون مسلمين بأي حال من الأحوال ولا يدخلون في دين الإسلام، فيا أيها المؤولون والمعطلون، والذين تقدمون عَلَى شريعة رَسُول الله شيئاً غيره كيف تدعون الإيمان بدينه ثُمَّ تقولون: صح الحديث ورواه البُخَارِيّ؟!.(1/470)
وإذا سألت أحدهم هل تؤمن بهذا الحديث؟ قَالَ: اتركني أتأكد هل قال علماء المذهب به؟ وماذا قال شيخ الطريقة؟! هذا هو مثال حال الرجل الأول الذي قرأت له حديثاً صحيحاً عن رَسُول الله وقَالَ: هذا غير معقول فدعني أتأكد فلعل له معارض من العقول أو من العلوم أو من كلام البشر! ثُمَّ يقول بعد هذا: أنا مؤمن برَسُول الله! نقول له: لو آمنت أنه رَسُول من عند الله لقبلت ما جَاءَ به، أما لو تبين للشخص فيما بعد أن هناك دليل شرعي أقوى فهذا شيء آخر، لكن هذا رده أول ما سمعه زاعماً أنه قد يكون له معارضاً، والآخر الذي يقول: لا أستطيع أن أقول بهذا حتى أفكر فيه وأعرضه عَلَى عقلي؛ فيُقَالُ له: أنت إِلَى الآن في مرحلة الشك لم تؤمن برَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكثير من النماذج عَلَى هذا حتى في عصرنا الحاضر، ولكن بطرق ملتوية ومن ذلك حديث الذباب وهو حديث صحيح وفيه: أن في أحد جناحيها داء وفي الآخر دواء، قالوا: كيف نغمسه وكيف نعتقد أن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء؟ فنقول لهم: هل عندكم ما يطعن في إسناده أو في متنه؟ الجواب: لا. وهم ليسوا بعلماء حديث فَقَالُوا: نرى ما تقول معامل الكيمياء ومعامل الأحياء فأوقفنا الإيمان والعمل بحديث صح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تؤكد لنا الكيمياء صحة ذلك؟!.(1/471)
فلماذا التعب والحفظ للسند والمتن؟ فهذا ليس إسلاماً بل الإسلام لا يثبت إلا عَلَى قدم التسليم والاستسلام، وأكثر النَّاس تسليماً واستسلاماً هم أكثر النَّاس وأقواهم إيماناً بما جَاءَ عن رَسُول الله، ولهذا لما قيل للصديق -رضي الله عنه-: إن صاحبك زعم البارحة شيئاً عجيباً أنه ذهب إِلَى بيت المقدس ثُمَّ عرج به إِلَى السماء -قالته قريش لأبِي بَكْرٍ - فقَالَ: إن كَانَ قال ذلك فقد صدق، مع أنه قال شيئاً لا تصدقه العقول لكنه صادق ولا يمكن أن يعارض، وفي يوم الحديبية لما لم تكن القلوب قد بلغت السكينة منها مبلغها أخذ الفاروق عُمَر -رضي الله عنه- يصيح ويقول ألست رَسُول الله؟! ألسنا عَلَى الحق؟! ألسنا الْمُسْلِمِينَ أليسوا بمشركين؟! نرضى بالدنية في ديننا؟ فكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يقول يا عُمَر! "إنه رَسُول الله "، يعلم أنه مادام رَسُول الله فإنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعارض قوله بما يخيل إلينا أنه مصلحة، فنلغي العقل ونلغي المصلحة إذا كَانَ في مقابل النص ومقابل قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهنا تكون حقيقة الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.(1/472)
فإذا كنا قد أبطلنا دلالة العقل فإنه لا يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه عَلَى القاعدة العكسية التي قلناها، يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [تقديم العقل يوجب عدم تقديمه ... إلى أن قَالَ: [لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال فضلاً عن أن يقدم فصار تقديم العقل عَلَى النقل قدحاً في العقل] بل هو كما قلنا قدح في العقل والنقل معاً وبهذا نخلص إِلَى أنه لا بد من تقديم النقل ولا بد من تجريد المتابعة ولهذا عقب المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ - عَلَى هذا الكلام بالنص الذي هو منقول في أصله؛ وقريب من حروفه من مدارج السالكين لـ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
يقول الإمام مالك إمام دار الهجرة -رَحِمَهُ اللهُ ورَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: (أو كلما جاءنا رجل ألحن بحجته من الآخر أخذنا بقوله وتركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إذا جعلنا الدين مرتهناً بالجدل والآراء والحجج والبراهين العقلية، فإنه لا بد أنه كلما أتانا رجل ألحن بالحجة ممن قبله، نترك ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونأخذ بكلام هذا أو ذاك، فإذا كَانَ لدينا المنهج الواضح، فلنتمسك به، وندع تلك الآراء، وتلك الجدليات جميعاً.(1/473)
وابن القيم رَحِمَهُ اللهُ لمَّا ذكر هذا الكلام قَالَ: وأنا سألت أحد هَؤُلاءِ الذين يقدمون عقولهم أو آراء مشايخهم عَلَى النص الثابت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: أنشدك بالله لو أن رَسُول الله حي اليوم بين ظهرانينا، وقال لك: افعل كذا. أيجوز لك ويحق لك أن تقول: انتظر حتى أعرض هذا القول عَلَى قول الشيخ أو الإمام أو المذهب؟ قَالَ: لا ودهش. قَالَ: فقلت: أو إن كَانَ قد غاب بشخصه، وسنته باقية توقف القول والاعتقاد وما كانت عليه سنته حتى تعرضها عَلَى الإمام أو الشيخ أو المذهب؟! ما الفرق بين كونه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشخصه يأمرنا وبين كون سنته تأمرنا؟ أما هو صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد لحق بالرفيق الأعلى لكن دينه وسنته وشرعه باق فإذا بلغنا الحديث الصحيح عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالواجب المبادرة للامتثال والطاعة بدون أي تردد هذا هو الذي يجب عَلَى كل مسلم.
أما أهل الضلال فيأتيهم الحديث عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول القائل: وهذا الحديث مع صحته قد ثبت لدى أرباب الكشف خلافه، عجيب!! ومن أرباب الكشف؟ يقول هَؤُلاءِ الذين خوطبوا وكوشفوا بالعلم اللدني!
والآخر يقول: وهذا الحديث وإن رواه الشيخان أو غيرهما إلا أن القواطع العقلية قد قامت عَلَى رده!
بل ذكر بعضهم أن الأخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر -عافانا الله وإياكم- يريد دون أن يعرضها عَلَى ما يدعونه من البراهين العقلية، إذاً فهَؤُلاءِ ليسوا موحدين في الحقيقة لأنهم عارضوا ما جَاءَ به النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما بخيال -يسمونه كشفاً وهو في الحقيقة خيال وضلال- أو بأوهام وظنون وتخرصات ويظنون أنها آراء عقلية وقواطع وبراهين نظرية.(1/474)
يقول المصنف: [فنوحده بالتسليم والتحكيم والانقياد والإذعان] أي: نوحد الرَّسُول r بالتسليم والتحكيم والانقياد والإذعان كما نوحد الله تَعَالَى بالعبادة والخضوع والإنابة والتوكل فهما توحيدان لا نجاة للعبد إلا بهما قال جل شأنه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول لٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه [النساء:64] وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] فهذا هو الواجب في حقه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يحاكم إِلَى غيره ابتداء ولا يرضى بحكم غيره -إذا بلغه حكمه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن كَانَ عالماً من أهل الاجتهاد من الصحابة أو ممن دونهم، لانقدم قول أحد منهم عَلَى قول رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نعم، له أجر الاجتهاد ولكن ليس له أجر الصواب؛ لأنه أخطأ عندما قال قولاً يخالف قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن كَانَ لهذا المعارض مصدراً آخر غير الدين وغير الاجتهاد كَانَ يكون كشفاً أو عقلاً أو فلسفةً أو منطقاً أو علوماً من العلوم التي قال الله عنها: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [غافر:83] علم النفس، أو علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو أي شيء قيل عنه: إنه علم فإننا نكذبه ونرده.(1/475)
ثُمَّ يقول المصنف: [ولا يوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره عَلَى عرضه عَلَى قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه] فإن أصحاب الطرق يقولون هذا الحديث لا بد أن نعرضه عَلَى شيخ الطريقة، ويقولون: كن بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، فما لك أمر ولا نهي حتى تأتي بالحديث تعرضه عَلَى الشيخ، إذاً فالمرجع هنا الشيخ وأصحاب المذهب يقول فيهم المصنف: [إن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره] يقول: نَحْنُ نريد الحق وهَؤُلاءِ الأئمة الأربعة لا يأخذون إلا من الكتاب والسنة فنحن نفوض الأمر إليهم ونتبعهم، أو يقول أنا مفوض أمري إِلَى شيخ الطريقة وهذا الحديث لابد أنه بلغ صاحب المذهب أو شيخ الطريقة وهو أعرف مني، فما قاله الشيخ أنا أقول به! وكأن المُصنِّفُ يصف ويشرح حالهم قديماً وحديثاً هذا إن طلب السلامة وأكثر من ذلك وأشد ما قاله الرازي: وإلا اشتغلنا بتأويلها عَلَى سبيل التبرع، يعنى: عند ذكر حديث النزول وغيره من أحاديث الصفات فإنه سوف يردها مباشرة لأنها ستعارض القواطع العقلية فيكون ردها جملة بناءً عَلَى القانون الذي ذكره -أي الرازي - أو يقول: عَلَى سبيل التبرع يأخذ هذه الأحاديث واحداً واحداً ويؤولها! وفي هذا غاية الاحتقار للوحي وللنص.(1/476)
يقول: [وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً] فقَالَ: نؤوله ونحمله [فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب -ما خلا الإشراك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحالة] بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه صح عنه وثبت، كأنه يقول له: افعل كذا، ولا يؤخر العمل به إن كَانَ مما يعمل به، أو يعتقده اعتقاداً جازماً إن كَانَ خبراً، فلا يؤخر العمل حتى يعرضه عَلَى الشيخ أو المذهب والأصحاب، ولا عَلَى العقل ولا عَلَى أي رأي من الآراء [ولا يستشكل قوله لمخالفة رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله] فيستشكل كيف خالف فلان الحديث وإن كَانَ عالماً؟ فلا نقول: وهذا الحديث يشكل لأنه خالف ما عليه المذهب، أو القياس! كما يقولون في حديث المصراة وهو أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر الإِنسَان إذا اشترى ناقة أو بقرة أو شاة صريت أن يردها مع صاع من تمر) حديث صحيح لا شك في صحته، فَقَالَ أصحاب القياس: هذا الحديث مشكل؛ لأنه يخالف القياس وحاولوا أن يردوه أو يؤولوه! وأمثال ذلك من الأحاديث التي تجدونها في أبواب الفقه ابتداء من الطهارة وانتهاء بالشهادات والإقرار، وكثير جداً من يقدم محض القياس -كما يسمونه- عَلَى الحديث الصحيح الثابت عن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/477)
فَيَقُولُ: [ولا يعارض نصه بقياس بل تهدر الأقيسة وتتلقى نصوصه] إذا كَانَ هذا في الفقه فما الظن في أمور الاعتقاد وأمور الغيب، حتى في الفقه لا شك أن النص يجب أن يقدم وذلك ضرورة عَلَى القياس؛ لأن القياس يقوم عَلَى النص ولهذا فضل شَيْخ الإِسْلامِ في رسالته تفضيل مذهب آراء أهل المدينة عَلَى أهل العراق لأن الأول: مبني عَلَى الحديث والنص، والثاني: عَلَى الرأي والقياس، ويدل عَلَى ذلك المناظرة التي جرت بين أبي يوسف الحنفي، والشَّافِعِيّ وكان شيخهمالك في الحديث وهو معلوم أنه كَانَ متبع للسنة ويعمل بعمل أهل المدينة، وأبو يوسف من تلاميذ الإمام أبي حنيفة على مذهب أهل العراق الذين يأخذون بالرأي.
فَقَالَ الشَّافِعِيّ أنشدك الله أصاحبنا أعلم بالقرآن أم صاحبكم؟
قَالَ: بل صاحبكم.
قَالَ: أنشدك الله أصاحبنا أعلم بالسنة أم صاحبكم؟
قَالَ: بل صاحبكم.
قَالَ: فعلى أي شيء يكون القياس إذا كنا أخذناه القاعدة من الكتاب والسنة، وكان هذا أعلم بالكتاب والسنة؛ فيقدم مذهبه؛ لأن القياس فرع لا يصار إليه إلا عند فقدان الأصل، كما لا يُصار إِلَى التيمم إلا عند فقدان الماء، وكان علماء السلف كالإمام أَحْمَد وإسحاق بن راهويه وأمثالهم من العلماء كابن المبارك، وابن عيينة ممن كانوا عَلَى الأثر، والحديث يعدون أهل الرأي من جملة أهل البدع الذين يردون الحديث بآرائهم، مع أن هذه مسألة أصولية اجتهادية.
فما بالكم بالذين جاؤوا من بعدهم وردوا الدين والغيبيات وأحوال اليوم الآخر وصفات الله بالأقيسة والعقول لا شك أن هَؤُلاءِ أشد بدعة وضلالاً من أُولَئِكَ فالتسليم للوحي هو الأصل الذي يجب أن يكون عليه كل مسلم.(1/478)
ولا يحاكم إِلَى غير رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا بالأمور الخبرية ولا بالأمور الغيبية الشرعية، فهذا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثبت لدينا أنه حكم عَلَى الزاني الثيب بالرجم فيقول عبد الله بن عباس رضي الله عنه: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن حقيقة، وإن لم يذكر في القُرْآن ولكن لأدلة تفصيليه كثيرة، فالذي يعارض ذلك بالقوانين الوضعية المنقولة عن الأمم المتحضرة، التي ترى أن علاقات الحب علاقات سليمة لا غبار عليها، وأن الرجم لرجل وامرأة زنيا بالتراضي بينهما وحشية وكيف يرجما؟ ! هذا هو الكفر الصراح.
وقد كفر العلماء من قال بذلك، وفي القديم جيء إِلَى نصير الكفر الذي يسمونهنصير الدين الطوسي -الذي كَانَ وزيراً للتتار- وقد جيء إِلَى السلطان الوالي برجلين فعلا فاحشة -اللواط- فَقَالَ لا بد أن يقام عليهما الحد فقَالَ: الفاعل منهما إنما فعلت ذلك برضى ذلك المفعول، فَقَالَ نصير الكفر الذي أظهر الله كفره في ذلك المجلس، قَالَ: نعم، وماذا نصنع بشريعة نبي العرب؟! نعوذ بالله فكفره العلماء بذلك فكل من يعلم -منأهل السنة - بحقيقة نصير الكفر الطوسي فإنه يحكم بكفره؛ لأنه مع كفره وزندقته كَانَ رافضياً وعلى دين الفلاسفة الذين يرون هذه الآراء وأصبح هذا الأمر هو القاعدة المعمول بها حتى في ديار الإسلام يزعمون الإيمان بمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم لا يقيمون حدود الله التي أمر بها وأقامها بحجة أنهما ماداما متراضيين فلا حرج، وشارب الخمر لا حرج من شربه لها ما لم يحدث حادثا -أي: حادثاً مرورياً- أو اعتداء عَلَى أي شخص، فلا حرج في ذلك أبداً.(1/479)
فتحكيم أو قبول كلام هَؤُلاءِ وتحكيم أي قانون من هذه القوانين هو محض الكفر والردة عن دين الله تعالى، وتكذيب لمُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا قال علماؤنا فيمن يقدم القياس -وهو اجتهاد من الشرع- عَلَى النص ما قد سبق أن نقلناه فكيف بمن يقدم قوانين الكفار؟! كما يقَالَ: أثبت علماء النفس أن الاختلاط يهذب الجنسين، فهل نُقدم كلام علماء النفس أم نُقدم كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لذا قال المصنف: [فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عقاب الله إلا بهما: توحيد المرسل وتوحيد متابعة الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا يحاكم إِلَى غيره ولا نرضى بحكم غيره] .(1/480)
فمثلاً: الاختلاط شر ومعصية حتى لو كَانَ بين الأطفال المميزين الذين قد لا يرتكبون هذا الفاحشة، وحتى ولو من المثقفين الكبار، لا كما يقولون: من الممكن أن تكون الفاحشة بسبب الأمية أو الجهل إذا اختلت المرأة بالرجل، لكن فتاة مثقفة في الطب أو في الجامعة في المراحل النهائية تقع في الفاحشة مع رجل مثقف لا يمكن! وهذه معارضة لقول رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما خلا رجل بامرأة) أيا كَانَ هذا الرجل مثقفاً أو غير مثقف وأياً كانت هذه المرأة مثقفة أو غير مثقة (إلا كَانَ الشيطان ثالثهما) بل هذا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ ماشياً ومعه أم المؤمنين ورآه الأنصاريان قَالَ: على رسلكما إنها صفية وهذا لكي يعلمنا الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأمور بالغة الدقة والحساسية ويجب عَلَى الإِنسَان أن يبتعد عن أي شبهة في هذا المجال، فكل من قدم، أو قال قولاً أو رأى رأياً، أو دعى إِلَى رأي، وهو يعلم مخالفته لما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لم يوحد الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتحكيم والمتابعة، وهذا هو الذي ينطبق عليه قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] والأمثلة عَلَى ذلك كثيرة جداً.
ومجمل القول وصفوته هو كلام رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما صح عنه عملنا به وما قاله من خبر آمنا به وصدقناه واعتقدناه عَلَى الغيب فهذا ما يجب أن يكون عليه المؤمنون كما قال في أول سورة بعد الفاتحة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] ثُمَّ قَالَ: وَيُقِيمُونَ الصَلاةَ [البقرة:3] .
قَالَ المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:(1/481)
[قال الإمام أَحْمَد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قَالَ: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القُرْآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً قد أحمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه) .
ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36] فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر النَّاس يعرضه عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم: هل خالفه، أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جَاءَ الرَّسُول بتصديقه أو بتكذيبه فإنه يمسك عنه ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ماجاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها؛ ما أخذ عن الرَّسُول لا غير] اهـ.
الشرح:(1/482)
هذا الحديث استدل به المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عَلَى القضية الأساسية وهي قضية عدم معارضة شيء مما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرأي، ومن هنا نهي عن الجدال؛ لأنه مدعاة لأن يتعصب الإِنسَان لرأيه فيتعسف في الأدلة ويأخذ منها ما يوافق هواه ورأيه ويرفض ما عداها ويقول هذا هو الصحيح فيضرب كتاب الله -تعالى- بعضه ببعض وهذا هو الذي حصل في جميع الفرق التي ضلت وانحرفت.
أهل الوعد وأهل الوعيد
جاء الخوارج والمعتزلة فأخذوا النصوص في الوعيد فقط: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) فَقَالُوا: لا يمكن أن يقع الزنا من المؤمن. إذاً: من زنا فهو كافر!
وجاءت المرجئة فأخذت النصوص في الوعد (من قال لا إله الله دخل الجنة) قالوا: وإن عمل ما عمل فهو كامل الإيمان.
أهل القدر بصنفيه
وجاءت القدرية الذين ينفون القدر فأخذوا من الآيات والأحاديث ما يدل عَلَى إثبات القدر، وعلى إثبات الفعل للإنسان فنفوا قدر الله تعالى، وأخذوا ما يثبت عَلَى أن الفعل من الإِنسَان وجعلوا الإِنسَان هو الذي يخلق فعل نفسه، وقابل القدرية الجبرية فأخذوا الآيات التي تدل عَلَى أن الله تَعَالَى هو المتصرف وهو الذي يخلق، فجعلوا الإِنسَان معطلاً عن الفعل والإرادة، ونسوا أن العباد هم الذين يفعلون بإرادتهم واختيارهم، فأخذت كل فرقة بشيء من الدين وضاربوا النصوص بعضها ببعض.
سبب تفرق المسلمين وكثرة الفتن(1/483)
كانت نتيجة ذلك أن تفرق الْمُسْلِمُونَ وكثرت الفتن في الدين والاختلاف فيما أنزل الله تعالى، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فهذا يقرأ آيات الوعيد، ويضرب بها آيات الوعد، وهذا يقرأ آيات الوعد، ويضرب بها آيات أو أحاديث الوعيد، وكذلك في القدر، وفي الصفات فقد جَاءَ بعضهم فأخذو من قوله تَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] نفي الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ويأتي الآخر فيثبت الاستواء ويقول: إنه يستوي كإستواء المخلوقين وينسىلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ( [الشورى:11] فالفِرق المنحرفة عن منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ تضرب كتاب الله بعضه ببعض، وتضرب سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضها ببعض وتماري في الدين بالهوى الذي يزعمون أنه عقل.
مقالة أهل الكشف والذوق
بعد ذلك ظهر من يماري ويجادل في الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالكشوفات والخيالات والمنامات والأذواق والمواجيد، ويقولون: إن الحق إنما يلتمس فيها، ومن قَالَ: إن الفاصل بين ما يؤول من الصفات وما لا يؤول إنما هو الكشف، فهذا الحديث الآتي أحد الأحاديث التي تنفي ذلك وترد عَلَى هذه المقالات جميعاً يقول: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس عند باب من أبوابه) هذا المتكلم هو عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القُرْآن -أي: جلسوا في ناحية منهم إذ ذكروا آية من القرآن- فتماروا فيها أي: تجادلوا في هذه الآية هذا يقول معناها كذا وهذا يقول: معناها كذا، حتى ارتفعت أصواتهم.(1/484)
(فخرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً) أي سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدالهم فخرج مغضباً (قد احمر وجهه -يرميهم بالتراب-) فأنكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم بشدة لاختلافهم في القرآن، وقد ورد في بعض الآثار أن الخلاف كَانَ في القدر، فالصحابة خير النَّاس وأفضلهم وأتقاهم، فلما أن وصل بهم الجدال إِلَى أن ارتفعت الأصوات هذا يقول الحق ما أراه، وهذا يقول: أنت أخطأت في فهم الآية، فخرج عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: (مهلاً يا قوم بهذا قد أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً؛ بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه) .
الاختلاف على الأنبياء سبب الفتن والهلاك
بين لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الإنكار الشديد كيف اختلفت الأمم من قبلنا ووقعت فيهم الفتنة وهلكوا باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وما أكثر اختلاف النَّاس عَلَى أنبيائهم، ففي سورة المائدة عندما دعى نبي الله موسى عَلَيْهِ السَّلام قومه لأمر الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فاختلفوا عليه، وَقَالُوا: إن فيها قوماً جبارين، إِلَى أن آل به الحال أن يقول عَلَيْهِ السَّلام رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] .(1/485)
واختلفوا حتى في الأمر البين الواضح الجليإِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة [البقرة:67] أمرٌ إلهي واضح صريح، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لأجزأ، ولكنه الاختلاف والتنطع والتشدد ومحبة العناد والإخلاد إِلَى الدنيا والتحايل عَلَى أمر الله تعالى، والله لم يشدد عليهم أول الأمر فلما شددوا عَلَى أنفسهم شدد الله عليهم، ومثله حديث الرجل الذي في الصحيح لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حجوا فإن الله قد كتب عليكم الحج والعمرة فقام رجل فقَالَ: يا رَسُول الله أفي كل عام؟ قَالَ: لو قلت: نعم لوجبت) ثُمَّ ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الأمم قبلنا وأنهم إنما هلكوا بكثرة سؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم، فالإِنسَان يقف عند حدود ما أنزل الله تَعَالَى ولا يجادل ولا يماري ولا يقف ما ليس له به علم فقَالَ: (باختلافهم عَلَى أنبيائهم) هذا أولاً.
أهل الكتاب يضربون كتاب الله بعضه بعض
وقوله: [وضربهم الكتب بعضها ببعض] أي: يأتون إِلَى ما أنزل الله عليهم فيضربون بعضه ببعض، وهكذا كَانَ حال الأحبار والرهبان الذين كانوا يفسرون التوراة والإنجيل، فكانوا يضربون بعضها ببعض، فتفرقت النَّصَارَىواليهود إِلَى ما هم عليه اليوم شيعاً وطرقاً؛ حتى أنهم كتبوا أناجيل من عند أنفسهم، وكذلك أسفاراً للتوراة، فضاعت التوراة الحقيقية وضاع الإنجيل الحقيقي، ولما بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالوحي المبين ودعاهم إِلَى الدين وإلى الشريعة الناسخة، وكانت كتبهم الماضية قد حرفت جميعاً وتعرضت للتغيير والتبديل، حتى لم يبق منها نسخة يعتمد عليها في الصحة بسبب هذا الاختلاف والشتات والتفرق، وبعض الأناجيل كتبت عمداً لتثبت قضية من القضايا.(1/486)
فمثلاً: إنجيل يوحنا الذي يجادل به النَّصَارَىإلى اليوم ويفسرونه في إذاعاتهم؛ كتب ليثبت أن المسيح ابن الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- يكتبون الإنجيل ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله -نعوذ بالله من البهتان ومن الافتراء عَلَى الله عزوجل- فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بهذا أهلكت الأمم قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض) .
إن القُرْآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً -حتى نأخذ آية ونعارض بها الآية الأخرى- بل يصدق بعضه بعضاً فكله من عند الله وكله حق، ولكن منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات، فالمؤمنون الذين وفقهم الله للحق والخير والهدى يردون المتشابه إِلَى المحكم، فيفهم المتشابه من خلال المحكم، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهَؤُلاءِ يتركون الآيات الواضحات المحكمات ويذهبون إِلَى المتشابهات ويضربون كتاب الله تَعَالَى بعضه ببعض.
أمثلة لضرب النصوص الشرعية بعضها ببعض
صاحب كتاب أساس التقديس الرازي وأمثاله يستدلون عَلَى نفي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية ونفي الاستواء، وأمثاله بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَ6002314يْءٌ [الشورى:11] وقوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الاخلاص:1] إِلَى آخرها وقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] وأمثال ذلك من المعارضة.
وكثير من النَّاس اليوم يعارضون كلام الله ورسوله بعضه ببعض فمثلاً: حرم الله الربا فَقَالُوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، البيع حلال فإذا اشتريتُ هذا بـ (1000) ريال، فأبيعه بـ (1500) ريال ورضي المشتري فهذا حلال، ثُمَّ قَالَ: ما الفرق بين هذا وبين من أقرضته (1000) ريال ثُمَّ ردها إليّ بـ (1500) ريال؟!! إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا فعارضوا بهذا القياس الباطل كلام الله ورسوله.(1/487)
ومثال آخر يكاد يكون يومياً: كثيراً ما نقرأ الآيات والأحاديث الصحيحة الثابتة التي تأمر المرأة أن لا تخرج من بيتها إلا لضرورة، وأنه يجب عليها أن تستتر عن الأجانب، وأن صلاتها في قعر بيتها أفضل منها في المسجد فكل هذ الأدلة، وما كَانَ عليه واقع الصحابة وواقع الْمُسْلِمِينَ في القرون الماضية شاهد عَلَى ذلك، فيلغون هذا كله ويعارضونه بأن فلانة من الصحابيات اشتركت في غزوة كذا، وأن فلانة خرجت إِلَى العراق وأن فلانة كانت تتعلم العلم وكانت تفتي، فيهدرون جميع الأحاديث الصحيحة بل الآيات الصريحة والواقع الضخم الذي كَانَ معاشاً مقابل أنهم جاؤوا بهذه الجزئية ويضربون كتاب الله بعضه ببعض.
ويأتون إِلَى الآيات التي تحث عَلَى العمل حتى الآية التي أنزلها الله في المنافقين وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105] .
فيقولون: لا بد أن تعمل المرأة، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض وينزلون الآيات والأحاديث في غير موضعها، وهذا كثير حتى عند العامة، وكل هذا مرجعه إِلَى القضية الأساسية، وهي: أنه لم يوحد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاتباع والطاعة والتحكيم، ولم يقدر القُرْآن والسنة حق قدرهما، فأصبحت القلوب والعقول خاوية من الفهم الصحيح والتقدير لِمَا جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله ولمعرفة قيمة هذا الوحي والتمسك به.(1/488)
وقد بين النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواجب في مثل هذا الشأن فقَالَ: (إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا بل يصدق بعضه بعضاً) فالواجب علينا عمله هو في قوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به) وقد عرفنا الآيات في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتحريم الربا وفي تحريم التبرج، في كل ما جَاءَ من الآيات الواضحة الجلية التي نعرفها إما بلغة العرب كما يقرأ القُرْآن ويفهمه العرب، وإما بتعليم أهل العلم لنا (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه) .
الواجب عدم الخوض فيما لا تدركه العقول، وما لا فائدة منه
أما ما جهلناه من كتاب الله فلا نماري ولا نجادل ولا نخوض فيه بعقولنا الكليلة العاجزة؛ لنبحث في حقائقه ومعانيه وغيبياته التي لن تدركها عقولنا، وقد خاض النَّاس في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- في أمور وفي مسائل قد لا يحتاجون إليها عَلَى الإطلاق وتركوا ما هو أولى وأجدى (فما عرفتم منه فاعملوا به) .
فأولاً: أن نبدأ بما عرفنا فنعمل به، ونترك ما تركه الله تَعَالَى وأخفاه عنا من أمور ليس فيها مصلحة وإنما يشير إليها إشارة، كبعض القصص القرآنية، ثُمَّ تأتي كتب التفسير فتضخم هذه القصة وتذكر فيها الآثار الإسرائيلية وتفصيلات ما أنزل الله بها من سلطان ولا دليل عليها. فالقرآن أنزل للعبرة والاتعاظ فإذا قرأ الإِنسَان القصة عرفها وأخذ العبرة منها.(1/489)
لكن يأتي أُولَئِكَ النَّاس الذين يتكلفون ويخوضون فيما لا علم لهم به، فيضيعون الأعمار عَلَى أنفسهم وعلى النَّاس فيما لا فائدة منه، مثل: معرفة فرعون؟! واسم أخي يوسف الأكبر والأصغر؟ ومقدار الدراهم التي بيع بها يوسف، وسد ذي القرنين أين يوجد في الشرق أو الغرب؟ ومتى عاش قبل موسى أم بعده؟ أمور متكلفة والفائدة التي منها لا تتجاوز بأي حال من الأحوال تصحيحاً لمعرفة من المعارف التي قيمتها لا تتقدم عَلَى معرفة الأمور الجلية، التي تنقص كثيراً ممن خاضوا في هذه الأمور؛ مثل أمور التوحيد، والفرائض التي فرضها الله وأمثالها، فهذا أيضاً من الخطأ في منهج دراسة القُرْآن الكريم وفي أخذه وتلقيه، فيجد الإِنسَان من الأقوال العظيمة والخلافات الكثيرة، في مسائل لو أغفلت وأغلقت تماماً ما نقص شيء، ولسنا بحاجة إِلَى بحثها أصلاً.
ولهذا يجب أن نمتثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه) ولا حاجة إِلَى إضاعة الأعمار وإلى الجدل في كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دون نتيجة.
الجدال والمراء مدعاة إلى القول على الله بغير علم
لهذا عقب المُصْنِّف بقوله: [ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم] ولما كَانَ الجدال والمراء والخوض والتكلف فيما لا تدركه العقول؛ موصلاً إِلَى الافتراء عَلَى الله والقول عليه بغير علم، عقب المُصْنِّف ببيان ذلك فقَالَ: ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [الأعراف:33] وكثير من النَّاس يجتنبون الفواحش الظاهرة مثل (الزنى -السرقة- شرب الخمر) لكن يغفلون عن الفواحش الباطنة.(1/490)
وبعض المفسرين يقول: المقصود من هذه الآية ما أُعلن به وما استخفي به، لكن الذي يظهر ويترجح في معنى "ماظهر": يعني الأعمال الظاهرة، وما "بطن" يعني: الأعمال الباطنة ومن الفواحش الباطنة الأعمال القلبية التي نهى الله عنها.
فالله قد نهى عن الحسد الذي يأكل الحسنات كما تأكل النَّار الحطب وهو عمل باطني في القلب، فقد لا يزني الإِنسَان ولا يسرق ولا يشرب الخمر؛ لكنه يحسد ويحقد عَلَى أخيه المسلم، ولا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه بل يتمنى له الضرر؛ بل قد يكون أكبر من ذلك وهو أن يكون في قلبه شك فيما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يكون فيه مرض من أمراض النفاق، أو أن تكون فيه نكتة من نكت المعاصي والذنوب فهذه من الفواحش الباطنة وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33] وفي هذه الآية كلما أتى معطوف جديد، فإنه يأتي أكبر من المعطوف الذي قبله وَالْأِثُمَّ َ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33] فالشرك أعظم من الإثُمَّ وأعظم من البغي بغير الحق، والإثُمَّ والبغي من أجمع الأسماء الدالة عَلَى المعاصي وعلى الموبقات وأسباب الهلاك، والبر: اسم جامع لكل خير، والإثم: اسم جامع لكل شر.
كذلك البغي إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90] فهذه الآية من أشمل الآيات التي تبين أصول ما يفعل ويستحب، وأصول ما يجتنب وينتهي عنه، قال تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [الأعراف:33] هذا هو الذنب الأعظم من الآثام.
بيان عظم خطر القول على الله بغير علم(1/491)
وأكبر مما سبق وأعظم وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169] هذا الذنب أعظم من الشرك وهو من الشرك ومن الكفر، لكن الكفر بعضه أكبر من بعض، وفي الكفر زيادات كما قال تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا [التوبة:37] فالقول عَلَى الله بغير علم أعظم جرماً وبهتاناً من مجرد شرك وهما مقترنان، أي: الافتراء واتباع غير ما أنزل الله تعالى، كما في قصة موسى عَلَيْهِ السَّلام لما قال للسحرة وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [طه:61] فالسحرة لم يقولوا: إن الله أحل السحر لنا أو أحل لنا عبادة فرعون، لكن كل من شرع سنة أو طريقة، وقَالَ: إنها هي الحق أو هي الصواب ويعلم مخالفتها لدين الله، فإنه قد افترى عَلَى الله الكذب؛ لأنه لا يملك أن يقول للناس: هذا هدىً وهذا ضلال إلا الله عَزَّ وَجَلَّ، فإذا جَاءَ أحد وقَالَ: هذا هو الهدى وهذا هو الضلال، فكأنه ينسب ذلك إِلَى الله، أو يجعل نفسه مكان الله تعالى، ويتلبس بصفات الألوهية فمن هنا كَانَ افتراءً عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ؛ أن يدُعو إِلَى غير الحق وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 169] الشاهد هنا هو: في النهي عن الجدال بغير الحق، وفي ضرورة اتباع ما أنزل الله تَعَالَى ورد مالم تعلمه العقول وما لم تدركه الافهام إِلَى الله تعالى، كما ثبت ذلك عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مثل ما سُئلالصديق وَفَاكِهَةً وَأَبّاً [عبس:31] قيل: ما الأبّ؟ قَالَ: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم، مع أن هذا من كلام العرب، ولا أثر في اعتقاد صاحبه إن قيل الأبّ هو ما تأكل الأنعام، أو ما تأكل الدواب، أو هو الأخضر، أو هو الحشيش كل ذلك لا يؤثر في إيمان قائله أو معتقده.(1/492)
فكيف بمن يخوض في معاني أسماء الله وصفاته؟! وفي القدر وفي أمر أعظم من هذا الأب وأمثاله، ويقولون: هذا هو الحق، وهذا هو الذي جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! ويقول تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وكثير من النَّاس ينسى هذه الآية فيقف ما ليس له به علم، والله تَعَالَى لما نهانا عن ذلك ختم الآية بالمسؤولية عن هذه الأعضاء التي هي منافذ العلم والإحساس، فلا تسمع ولا تبصر ولا تفكر إلا فيما أراد الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفيما رضي وشرع، وأما فيما سوى ذلك فرد الأمر إِلَى عالمه؛ هو الطريق الأسلم والأجدى.
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا
العلم البشري محدود، لذا جَاءَ في آخر سورة الإسراء: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] فهل يستطيع علماء التشريح والطب والنفس وما إِلَى ذلك أن يجيبوا ما هي الروح؟ فضلاً عن النَّاس في القرون الماضية؟ لم ولن يستطيعوا أبداقُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] وفي قصة الخضر وموسى عليهما السلام المعروفة بعد أن انتهيا وبين له الخضر لماذا فعل هذه الأمور؛ جَاءَ طائر فنقر في البحر بمنقاره فأخذ قطرة من الماء، فَقَالَ الخضر لموسى أرأيت ذلك الطائر ما عندي وعندك من العلم في جانب علم الله إلا مثلما أخذ ذلك الطائر من ذلك البحر.(1/493)
هذا وهو الخضر الذي قال الله عنه وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: 65] وهو الذي أعلمه الله وأطلعه أنّ خرق هذه السفينة أولى وأجدى لأصحابها وأن هذا الغلام لو كبر سيكون كذا وكذا فليقتل وأن تحت هذا الجدار كنز، وأنه لغلامين يتيمين وأنهما سيكبران ثُمَّ يأخذانه، أمور غيبية عجيبة لا يستطيع الإِنسَان أن يعرفها ولا يصل إليها عَلَى الإطلاق، وكل ما عنده من العلم مما أعطاه الله من علمه لا يتجاوز ما أخذ ذلك الطائر الصغير من هذا البحر العظيم الكبير، حتى تقف العقول البشرية أمام القُرْآن والسنة ذليلة عاجزة خاضعة، ويستسلم الإِنسَان بقلبه وعقله وجوارحه لربه تَعَالَى.
الموقف الشرعي من أقوال الرجال
فكل ما جاءه عن الله ورسوله فليقابله بالتسليم والانقياد والإذعان، وهذا هو منهج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الكرام الذين هم أعلم وأذكى وأفهم الناس، فيجب أن يكون حال من بعدهم هو أكثر انقياداً وإذعاناً للنصوص.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه فيصدق بأنه حق وصدق وما سواه من كلام سائر النَّاس يعرضه عليه] .
يقول: إذا جاءك الكلام من النَّاس الآخرين، ابتداءً من صحابة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم أفضل النَّاس ثُمَّ العلماء ثُمَّ من بعدهم إِلَى أن نصل إِلَى أهل البدع والضلال، كل من جاءنا بقول نعرضه عَلَى كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل مردود لا يؤخذ به.(1/494)
[وإن لم يُعلم] أي جاءك قول لا تدري أهو موافق للكتاب والسنة أو مخالف؟ يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه يكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه] قد يكون السبب أن هذا الكلام مجملاً، مثل: كلمة الجهة كلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً، ونفي الجسم كلام مجمل قد يحتمل الحق وقد يحتمل الباطل، وغير ذلك في باب الصفات وغيره، ففي هذا الكلام المجمل ينظر في مراد صاحبه هل يريد جانب الحق أو الجانب الآخر.
كما كَانَ يدلس بعض المعتزلة ويقول: فلان ليس بمؤمن، فماذا يقصد بها؟ إن قصد بها أنه مسلم لكنه عاصٍ فاسق فاجر فهو محق، وإن قصد أنه ليس بمسلم بل كافر خارج عن الملة لمجرد أنه أذنب ذنباً من الذنوب، عرفنا أن هذا من أباطيل الخوارج ومن شايعهم، فالكلام المجمل إن لم نعرف مراد صاحبه فإنه يتوقف فيه ويمسك عنه، ونقول: إن احتمل كذا كَانَ كذا، وإن احتمل كذا كَانَ كذا، وإن عرفنا مراده ولم يكن الكلام مجملاً بل كَانَ كلامه واضحاً، لكن لا ندري هل هذا الكلام مما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وهل يدل عليه دليل من الكتاب والسنة؟ أم لا؟ وهل هو حق أم باطل؟ وهذا الأمر صعب ولا يعرف ذلك إلا العلماء وبعد البحث والتنقيب أحياناً.
فالخلاصة أنه إذا عرفنا مراد المتكلم ولم نعرف هل الرَّسُول جَاءَ بتصديقه أو بتكذيبه، فإن الإِنسَان يمسك عنه ويتركه ولا يتكلم فيه إلا بعلم وهذا كثير، فقد تأتي أخبار أو نظريات علمية، فلا ندري أفي كتاب الله ما يوافقها أو يخالفها؟! فالموقف من هذه الإمساك عنها، وعدم إشاعتها بين الناس، وعدم الخوض فيها وألا نجهد أنفسنا، ولا نجهد النَّاس في معرفتها وفي الاستدلال لها أو عليها، فضلاً عن أن نتفرق، فهذا ينفي وهذا يعارض وهذا يؤيد، وما أكثر ما يحدث وخاصة في أمثال هذه الأمور في هذا الزمان.(1/495)
قول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: [ولا يتكلم إلا بعلم] العلم هو ما قام عليه الدليل، هذه هي حقيقة العلم أما ما عدا ذلك مما لم يقم عليه دليل فإنه ظن، والظنلا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس:36] وهذه الكلمة -أي: العلم- تشمل العلم الشرعي وغير الشرعي، والعلم الشرعي يقوم عَلَى الدليل من الكتاب أو السنة أو القياس أو الفهم الصحيح للأدلة.
تعريف العلم الدنيوي
العلم الدنيوي الحقيقي هو: الذي قام عليه الدليل من تجربة أو برهان من البراهين الذي يكفي مثلها لصحة هذا العلم.
النافع من العلم
قول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: [والنافع منه ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] .
أي: أن أنفع العلوم وأفضلها هو ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولأن عليه تتوقف سعادة الإِنسَان في الدنيا والآخرة وعليه يتوقف الهدى والضلال، وهذا أعظم مطلب، فحاجة النَّاس إِلَى معرفة الهدى والضلال أعظم من حاجتهم إِلَى معرفة علم الطب مثلاً لأن حاجتك إِلَى أن تعرف ما يدلك إِلَى طريق الجنة ويباعدك عن طريق النَّار أعظم من حاجتك إِلَى معرفة ما يدلك إِلَى طريق السلامة والعافية مما يدلك إِلَى طريق المرض والهلاك، فإن الإِنسَان لو هلك وكان من أهل الجنة لما خسر شيئاً، ولكن لو سلم وعوفي في بدنه وكان من أهل النَّار فإن هذا هو الخسران المبين.
وبذلك نعلم أهمية هذا العلم الشرعي دون أن ننقص من الأهمية للعلم الدنيوي الآخر، وقد يقول قائل: أنتم تقولون: لا نأخذ العلم إلا من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فهل الطب والفلاحة، والهندسة، والكيمياء، والفيزياء، أتت من طريق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا نأخذها إلا من طريقه؟(1/496)
نقول ليس هذا هو المراد؛ لأن الأصل في بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو تبيين طريق الهداية لنا، وكذلك القُرْآن هو هدى ونور وشفاء وموعظة وذكرى، وما عدا ذلك من الأمور فهي بالتبع وليست بالأصالة.
إذاً: فأصل ما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس أمور الدنيا، ومن هنا يكون قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) . ولو أن الفلاسفة والمفكرين أجهدوا أنفسهم في معرفة الزراعة والطب والهندسة لأحسنوا إِلَى الإِنسَانية -لأن لديهم عقولاً ضخمة جبارة- ولأراحوا أنفسهم من العناء، لكن تركوا هذه التي أمروا أن يفكروا فيها، وأخذوا يفكرون في أمور الرسالة.
مثل من يعرض عن ما أنزل الله
ومثل النَّاس الذين يعرضون عن الحق والهدى مع وضوحه مثل رجل جَاءَ وقَالَ: أنا أريد أن أعرف علم الجغرافيا فقيل له: إن الجغرافيا علم موجود من القديم، وهذه الخرائط والأنهار والجبال والنباتات والجغرافيا الطبيعية والاقتصادية موجودة، فقَالَ: حتى نصدق بهذا العلم لا بد أن نعرض هذا العلم عَلَى عقولنا وعلى أنظارنا وأن نفكر، ثُمَّ أخذ يقيس خط الاستواء وأخذ الذراع، ويريد أن يذرع خط الاستواء! وكم خطوط الطول وكم خطوط العرض! وكم طول البحر الأحمر، وكم تبعد مدينة القاهرة عن ,بغداد فهذا الرجل يكون مدعاة للسخرية، بل هو شخص مسكين ضعيف العقل يرثى له! وهذا هو واقع وحال الذين يتركون ما أنزل الله تَعَالَى.(1/497)
ومعنى قول الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم - لقد تركنا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا أنبأنا منه علماً أي: أخبرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يصلحنا في دنيانا وفي أخرانا وأخبرنا وبما يصلح قلوبنا، ومعاملاتنا مع أهلينا ومجتمعنا، والمعاملة الناجحة بين الراعي والرعية، وبين الجار وجاره، وبين العبد وربه، وأخبرنا كيف يأتينا الموت؟ وكيف ننتقل إِلَى القبر؟ وماذا يحدث لنا في القبر؟ وكيف تقوم الساعة؟ وكيف نحاسب؟ وكيف نرد الصراط؟ وكيف يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النَّار النار؟ فهذا كلام لا يمكن أن تتخيله العقول ولا تصل إليه، مع ذلك فقد وضحه رَسُول الله لنا توضيحاً شافياً كاملاً، حتى كأننا نرى كل هذه الأمور، وما بقي إلا يقع حقيقة هذا الذي أنت قد رأيته بقلبك وإحساسك، ثُمَّ يأتي هَؤُلاءِ ويقولون: نلغي كل هذه العلوم، ويفكرون في الروح، وما هي الروح؟ وكيف تخرج؟ وأين تذهب؟ وأين يذهب الإِنسَان؟ ومن أين جاء؟ والله قد كفانا ذلك، أخبرنا عن ذلك كله.
وقس عَلَى هذا كثيراً من الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قد بينها الله حق البيان، ثُمَّ تأتي الدول الاشتراكية والرأسمالية وغيرها، ويتنازعون في وضع قوانين ونظم ينطلقون من خلالها في تعاملاتهم وحياتهم، فيختلفون في ذلك أشد الخلاف، ويعقدون المؤتمرات تلو المؤتمرات ولا يخرجون بنتيجة عَلَى الإطلاق مع أن الحق والهدى بين أيديهم. هذا في الأمور التي تدرك بالعقول وتنضبط بالمعايير المحسوسة، فكيف بأمور الغيب والتي لاتدرك بالحس ولا بالعقول؟!(1/498)
وصدق الله إذ يقول: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] لقد رحمنا الله وأعطانا هذا الدين القويم، وأرسل إلينا هذا النبي العظيم، وأنزل إلينا القُرْآن هذا الذكر الحكيم، وأعطانا كل الخير والهدى واضحاً جلياً، فهذا هو الحق وهذا هو العلم الصحيح الذي هو أعظم وأشرف هذه العلوم، فيجب علينا أن نتمسك بالكتاب والسنة، وأن نعبد الله عَلَى بينة وبرهان، وإن أعرضنا فإننا سوف نلتمس الهدى من عند الذين يخوضون ويبحثون، ولن يعرفوا حقيقة الروح ولن يعرفوا نشأة الكون ولا نهايته، ولن يعلموا الغيب وما يؤول إليه الإِنسَان بعد موته، وكيف يعيش في الدار الآخرة؟
لا يمكن أن يصلوا إِلَى شيء من هذا؛ بل هم خراصون في ذلك كما قال الله، ويفترون عليه الكذب ويضيعون في أودية الكذب، حتى يأتي أحدهم الموت، وهو لم يخرج من هذه الدنيا بخير ولا فائدة.
الأمور الإلهية لا مجال للعقل فيها
وقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها، ما أخذ عن الرَّسُول لا غير] أي: العلم في هذه الأمور الإلهية وهي ما يتعلق بالله -عَزَّ وَجَلَّ- والمعارف الدينية؛ نأخذه من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن رحمة الله أن أرشدنا إِلَى القواعد العامة التي تتعلق بأمور الدنيا، والتي فيها صلاح أبداننا وصلاح عقولنا، فهل نعارض هذا بهذا ونقول مثلاً حديث الذباب لا يصلح؟
ونقول: كون السماوات جرم ولها أبواب وتفتح نرده؟
ونقول: هو اللانهاية، كما يقول علماء الفلك؛ بل نقول: كل ما جَاءَ عن الله ورسوله إن كَانَ من الأصل وهو الهداية أو كَانَ من الأمور التي جاءت تبعاً، وهي الكونية والمعارف والعلوم الدنيوية، فإنه حتى فيما جاءت به هذه العلوم يقدم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ما قالوه، ولا يتعارض -بإذن الله- نقل صحيح مع عقل صريح.(1/499)
قال أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
[ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام]
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
[هذا من باب الاستعارة، إذ القدم الحسي لا تثبت إلا عَلَى ظهر شيء، أي: لا يثبت إسلام من لم يسلِّم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه.
روىالبُخَارِيّ عن الإماممُحَمَّد بن شهاب الزهري -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قَالَ: من الله الرسالة، ومن الرَّسُول البلاغ، وعلينا التسليم، وهذا كلام جامع نافع.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثُمَّ اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله عَلَى قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لمَّا شهدت له بأنه مفت ودللت عليه شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتٍ، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطىء] اهـ.
الشرح:(1/500)
قول الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ -: [ولا تثبت قدم الإسلام إلا عَلَى ظهر التسليم والاستسلام] معناه: أن الإسلام هو: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك، أي: أن يلغي الإِنسَان كل شك أو شبهة تعارض ما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتمثل قوله تعالى:] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة: 208] أي: ادخلوا في دين الله كله، وعلى ذلك قاتل النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأُمر أن يقاتلوَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ [الأنفال:39] ويكون الإذعان والانقياد والطاعة لله تَعَالَى.
وما قاله المُصنِّفُ عن كلام الطّّحاويّ: إنه من باب الاستعارة، وهي: التشبيه الذي حذف أحد طرفيه، بدلاً من أن نقول: مثل إسلام الإِنسَان كالإِنسَان الذي يقف عَلَى قدميه لا بد أن يقف عَلَى شيء، وهذا الشيء يجب أن يكون ثابتاً مثل التسليم والاستسلام، فنحن حذفنا أحد الطرفين، وهذه تسمى الاستعارة، فَيَقُولُ: القدم الحسي لا تثبت إلا عَلَى ظهر شيء فأخذ ذلك وقَالَ: لا يثبت إسلامك ولا إيمانك إلا عَلَى شيء، وهو: التسليم والاستسلام لله تعالى، فلا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين -أي: الكتاب والسنة- وينقاد إليهما، فلا يعترض عليهما ويعارضهما برأيه ومعقوله وقياسه.(1/501)
ثُمَّ استشهد عَلَى ذلك بما قاله الإمام العظيم مُحَمَّد ابن شهاب الزهري فيما رواه الإمامالبُخَارِيّ عنه قال هذه الكلمة الجامعة "من الله الرسالة" وهذه من رحمته أنه منَّ بها وأرسل رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فالله رحمنا وأرسل الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنزل الرسالة فمن الله الرسالة "ومن الرَّسُول البلاغ" أي: الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبلغ ومبين لِمَا أنزل الله، وعلينا نَحْنُ التسليم، فهذا الكلام العظيم كلام من تأدب بأدب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأُعطي العلم النافع الصحيح، كما أخذه عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت له مثل هذه الكلمات وهذا هو الواجب الذي يجب علينا؛ لأن الله قد منَّ علينا بالرسالة ورحمنا بها، والرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وبين لنا كل خير وكل شر إِلَى أن نلقى الله، وبقي علينا التسليم والانقياد والإذعان.
المثال المضروب للنقل مع العقل
ثُمَّ ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ المثل المضروب للنقل مع العقل وقد ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في درء التعارض فإن الذين يقولون: نقدم العقل عَلَى النقل حجتهم هي: أن العقل هو الذي دلنا عَلَى صحة النقل، فلولا العقل لم نعرف أن هذا رسول، ولم نعرف أن القُرْآن حق، فالعقل هو أصل النقل، وهو الذي دل عليه، والمجنون لا يكلف، ولا يحتاج إِلَى الحق، ولا يعرف صدق رَسُول من كذبه، ولا يفهم آية من غيرها.(1/502)
فأراد شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يزيل هذا اللبس الذي حصل عندهم في علاقة هذا الدليل مع المدلول عليه، فقَالَ: هذا المثل الذي هو للتقريب -وإلا فإنه ليس تشبيهاً من كل جهة- وهو أن مثل العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، فهذا العامي المقلد كلما أمره العالم بشيء فكر فيه وفهمه، ثُمَّ نفذه هذا هو الدور الحقيقي الذي يجب أن يكون عليه هذا.
وليس في هذا المثل مطابقة من كل وجه؛ لأن هذا العامي المقلد يمكن أن يتعلم فيصير عالماً مجتهداً، بخلاف العقل فإنه لن يصل إِلَى رتبته؛ لأن الوحي أو الغيب لا تصل إليه العقول أبداً، فالعالم العاقل مهما أعمل عقله لن يصبح نبياً ولن يعرف علوم الأَنْبِيَاء أبداً، يقول: فإذا عرف العامي المقلد عالماً، ثُمَّ جَاءَ هذا العامي المقلد ودل عامياً آخر عَلَى هذا العالم، وقال له: خذ منه العلم، وكل شيء يقوله لك الشيخ لا بد أن تعرضه عليَّ، فإما أن أوافق عليه وإما أن أخالفه.
فيقول ذلك العامي الغريب: أنت دللتني عليه عَلَى أساس أنه عالم آخذ منه العلم، وإذا كَانَ الأمر كذلك فأنت العالم! فلماذا تدلني عَلَى الشيخ؟ لا حاجة إذن إِلَى العالم أصلاً، وهذا الذي نقوله لمن يقول: تقدم العقول عند التعارض، فنقول: ما فائدة الوحي إذن إذا كنا سنحكم بآرائنا وعقولنا؟!(1/503)
يقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي] أي: يجب عَلَى هذا المستفتي أن يسمع قول المفتي العالم ولا يسمع كلام الذي دله عليه، فلو قال الدال: إن الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفتي، فإذا قدمت قوله عَلَى قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفتي، ولزم من ذلك القدح في فرعه وهو النقل، فيقول له المستفتي الغريب: أنت لما شهدت له بأنه مفتي ودللت عليه شهدت له بوجوب تقليده دونك، ولا أتبعك أنت، فأنت لا تتجاوز قدرك وطورك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطأك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفتي.
أي: نَحْنُ عندما نقول للعقل أيها العقل بما أنك قد دللتنا عَلَى صحة الوحي وعلى صحة النقل، فهذه شهادة منك بأن الوحي هو الذي يرجع إليه، وأن المتَّبع هو الوحي، ولا نهدر قيمة العقل، وخطأك أيها العقل في أمر تخالف فيه الوحي لا يستلزم خطأك في قولك إن الوحي هو الصواب، فهو قد جَاءَ بحق وجاء بباطل، فالحق قوله: إن الوحي هو الصواب، والباطل هو قوله: إن ما جَاءَ به الوحي لابد أن تعرضوه عليَّ لأخبركم ما تأخذون منه وما لا تأخذون.
فنقول: لا يلزم منا هذا، فلا يلزم من صوابك في الدلالة أن نأخذ كلامك دون الوحي، ولا يلزم من خطئك فيما عارضك فيه الوحي أنك مخطئ في دلالتك عَلَى صدق الوحي، وهذا من أحسن الأجوبة والأمثلة التي يتضح بها قيمة عقل الإِنسَان مع ما أنزل الله من الوحي الذي تعبدنا الله تَعَالَى به دون ما سواه.
حقيقة المعارض لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:(1/504)
[والعقل يعلم أن الرَّسُول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره، وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القُرْآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك، لكان قدحاً في ما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه لا نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جَاءَ به الرسول، ولم يرض منه الرَّسُول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوساس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرَّسُول وما أمر به!!(1/505)
وقد قال تعالى: وَمَا عَلَى الرَّسُول ولِ إِلَّا الْبَلاغُ [النور: 54] ، وقَالَ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل: 35] وقَالَ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول لٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [إبراهيم:4] ، قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ [المائدة: 15] ، حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الزخرف:1، 2] ، تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ [يوسف:1] ، مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111] ، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل: 89] ، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرَّسُول تكلم فيه بما يدل عَلَى الحق أم لا؟ والثاني باطل، وإن كَانَ قد تكلم بما يدل عَلَى الحق بألفاظ مجملة محتملة، فما بلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين، فقد افترى عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] اهـ.
الشرح:(1/506)
نسأل الله تَعَالَى أن يوفقنا جميعاً إِلَى أن نعرف قدر رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن نحبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونطيعه كما أمر الله، وكم في هذا القول وهو تقديم العقل عَلَى النقل وأمثاله من المخالفات واللوازم الباطلة التي ألقاها الشيطان في النفوس، وألقتها الطواغيت من الجن والإنس، وألقتها الشهوات والعقول الفاسدة، من قوانين أو مناهج أو براهين أو علوم أو ما أشبه ذلك من الأباطيل؛ ليعارض بها ما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمثلة التي ذكرت هنا أو هذه القواعد هي مما لا يزال ينخر في كيان الأمة الإسلامية إِلَى اليوم، فقد يحسب بعض النَّاس أنه إنما خاض في ذلك علماء الكلام وانحرفوا عن الجادة، والحقيقة أن كل متبع للشيطان أو للهوى فإنه معارض لما أنزل الله عَلَى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكل شيء مما هو مخالف لما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قيام الساعة فإنه يشمله هذا الحكم وتدل عَلَى بطلانه هذه القواعد.
من لوازم معارضة ماجاء به النبي صلى الله عليه وسلم
ومن لوازم معارضة ماجاء به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما أنه لم يبلغ -عياذاً بالله- أو أنه بلغ غير ما أوحي إليه، أو أن بلاغه لأي أمر يتوقف تنفيذه عَلَى شيء سواه، وهذا كلام ليس مجرد بحوث عقلية؛ بل قد صار في الواقع العملي، فإنك ترى كثيراً ممن يدَّعون الإسلام يعرض عليهم تحريم الخمر وأن الله تَعَالَى أنزل حرمتها في كتابه، فيقولون نعرض الأمر عَلَى مجلس كذا وكذا، فإذا أقر المجلس أنها حرام حرمت، وإذا لم يقرها تعرض في الدورة التي بعدها أو التي بعدها أو تسقط قانونيتها.(1/507)
وأمثال هذه المصائب والبلايا التي هي السبب في انحطاط الْمُسْلِمِينَ، وذلك أن يأتي الأمر من الله أو من رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيوقف تنفيذه لآراء البشر أو لأهواء الناس، والأصل أن كل أحد دونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه يجب أن يخضع وأن يلتزم لأمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُول ولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] وهذا هو الأولى والأجدى فإن المسلم لا يكون مسلماً حقاً إلا إذا التزم بالعمل به وبتنفيذه، حتى من لم يعمل فإنه يجب عليه أن يلتزم بالعمل، أما أن يقول: ندع العمل به نهائياً؛ لأنه يخالف كذا وكذا، أو يقول: يمكن أن نعمل به بعد أن نأخذ رأي فلان؛ فإن معنى ذلك -عياذاً بالله- أن ثُمَّ إله غير الله -عَزَّ وَجَلَّ- يستدرك عليه، وبهذا نجد الجرأة البالغة عَلَى الله ورسوله.
فحياة الْمُسْلِمِينَ في كل مكان أصبحت تقوم عَلَى هذه الأمور إما ظاهرة وإما خفية، فأين المسلم الذي إذا قلت له: هذا حرام يقف عند النهي؟ أو أن هذا فيه حديث لعله ما بلغك، قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كذا فيقف. أين هذا في الأمة الإسلامية؟
وبعض النَّاس إذا قلت له قال الله ورسوله، قال لك: بلاد الغرب يفعلون كذا والقوانين تقول كذا، والمجلس الفلاني يقول: كذا، والقضية لم تعرض عَلَى كذا؛ سُبْحانَ اللَّه! فيعارضون أمر الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذه المحقرات، فلازم ذلك أن كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما أنه غير ملزم لهم، إذاً فهم لم يدخلوا في دين الله ولا آمنوا بالرسول، لأنهم يقولون: نؤمن به بعد أن يثبت لنا شيء آخر وكأنه شرط مفقود للإيمان بالرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/508)
أو أنهم يقولون: إن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبلغ، وفي هذا إفك وافتراء وبهتان عَلَى الله ورسوله، فإن قالوا: بلغ ولا يلزمنا طاعته فهي مصيبة أعظم، وإن قالوا: لم يبلغ فهي أيضاً مصيبة أخرى، ولا فكَاكَ منهما، والسبب هو: أن الانتساب إِلَى الإسلام أصبح عند كثير من النَّاس إنما هو بالاسم ولا حقيقة وراء ذلك.
فكما قال الإمام الطّّحاويّ: [ولا تثبت قدم الإسلام، إلا عَلَى ظهر التسليم والإستسلام] فمن لم يكن كذلك فإن إيمانه غير ثابت بل مزعزع أو مفقود، حتى يكون الإِنسَان منا إذا بلغه عن رَسُول الله شيء فكأنما يخاطبه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطبه ويناديه بالاسم ويقول له: يا فلان دع الربا، ويا فلان دع الزنى، ويا فلان أرجم الزاني والزانية ويا فلان حرم كذا أو أحل كذا، هكذا يجب أن يكون حالنا؛ لأن غياب شخصه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنا لا يعني انقطاع الدين، فإن سنته قائمة ودينه وبلاغه قائم إِلَى أن تقوم الساعة.
من أعظم أمور العقيدة، ومن أعظم الأصول التي يجب عَلَى كل مسلم أن يدركها وأن يعيها بقدر ما يفتح الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عليه، وهي أن الإِنسَان كليل العقل، محدود الإدراك، لا يستطيع أن يعلم كل شيء، ولا أن يحيط بكل ما جَاءَ في الكتاب أو السنة من أمور الغيب، وأن هذا الدين مبناه عَلَى الاستسلام لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى والإذعان والانقياد للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعدم الاعتراض عليه بالعقول، أو الأهواء أو الآراء والأقيسة، أو الأذواق، أو المواجيد، أو الكشوف، أو بأي نوع من أنواع الاعتراض.
وقد ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: توحيدين لا نجاة للعبد إلا بها:
الأول: توحيد المرسل: أي توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعبادته وطاعته.(1/509)
والثاني: توحيد متابعة الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكما أننا لا نعبد إلا الله، فكذلك لا نتبع اتباعاً مطلقاً بلا اعتراض إلا رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا الأصل تدل عليه الآيات والأحاديث الكثيرة جداً، كما قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول لٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه [النساء:64] .
حقيقة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
كما قال جل شأنه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] الآية.
وبهذا نعرف حقيقة محبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه المحبة التي هي من أصول الإيمان، فلو أن بشراً كائناً من كَانَ وقع في قلبه مثقال ذرة من كره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما كَانَ من الْمُسْلِمِينَ أبداً، إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يجتمع في قلب العبد كراهيةً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإيمان بالله وبرسوله، وبما جَاءَ من عنده، فهو ليس بمسلم عَلَى الإطلاق.
من لوازم محبة الله محبة النبي صلى الله عليه وسلم
ومن هنا نعرف حقيقة محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل من لازم محبة الله محبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31] فالاتباع أصل عظيم من أصول الدين، وهو قاعدة الإسلام التي يقوم عليها؛ بل هو حقيقته ولبه، فلا يكون الإِنسَان مسلماً أبداً إلا إذا اتبع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظاهراً وباطناً، فإن حصل من العبد انقيادٌ واستسلامٌ ظاهري لِمَا جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع خلو باطنه من ذلك.(1/510)
فهَؤُلاءِ هم المنافقون الذين كرهوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكرهوا ما أنزل إليه، ولذلك خرجوا من الملة كلهم أو أكثرهم بسبب ذلك.
وأما الطرف الآخر: وهو من يزعم أن محبة الله، ومحبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قلبه، ولكن أعماله تكذب ذلك، ولا ينقاد ولا يستسلم لأوامر الله، ولا يطبق سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو يعارض ماجاء عنه بأي نوع من أنواع المعارضات، فإن هذا كاذب في دعواه، ونستدل عَلَى ذلك بما قاله بعضالسلف: لما قرأ قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ قَالَ: هذه آية الامتحان، ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية الامتحان ليمتحنهم، وليبين من يحبه حقيقة ومن لا يحبه، وما يدعيه بعض النَّاس من محبة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن واقع حالهم مخالف لما جَاءَ به الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقولون: إننا مع مخالفة السنة نتعرض للّوم، ولهذا يقال لهم: الملامية أو الملامتية، ويستدلون بقول الشاعر كعادتهم في هذا الشأن:
أجد الملامة في هواك لذيذة حباً لذكرك فليلمن اللوم
ويغلون فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنواع الغلو، ويستجلبون اللوم بذلك ويقولون: لا تكون المحبة إلا باللوم فنقول لهم: إن المحبة الحقيقية لله ولرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هي مدعاة للوم وليس في ذلك شك، فمن اتبع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جهاده ودعا إِلَى الله ليلاً ونهاراَ وسراً وعلانية، في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.(1/511)
فإن هذا بلاشك يخالف أهل الرغبات، وأهل الشهوات، فيدعو النَّاس إِلَى لومه -وهذا شيء طبيعي- وهذه هي المحبة الحقيقية: أن يطبق الإِنسَان السنة، وليس التعرض للوم هو المقصود بل المراد بهذا أن نفهم حقيقة محبة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التي قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَه [المائدة:54] فأول صفة: يحبهم ويحبونه.
من كان عاملاً بالسنة فقد تعرض للوم والأذى
ولما ذكر الله الآية السابقة قال في الأخير: وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ معنى ذلك: أن المحبة الحقيقية لله لا بد أن يتبعها لوم اللائم، ولو طبقت السنة في نفسك فقط لوجدت اللوم والأذى مع أنك لم تدع أحداً! فكيف إذا دعوت إِلَى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كما أمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وهذا مما ينبغي أن ينبه إليه وهو: أن أهل الانحراف والزيغ يريدون منك أن تكف عن دعوتهم، فيقولون لك إن كنت تدعوهم: لم يقل لك أحد لاتصل! بل صلِّ، واعفُ لحيتك، وقصر ثوبك.
فهم يريدون في هذه المرحلة، أن يكتفي الإِنسَان بإصلاح نفسه ويترك غيره، فإذا فعل الإِنسَان السنة وانهزم عن دعوتهم لا يقتنعون بهذا، بل يأتون إليه، ويقولون له: لماذا تفعل هذا الشيء فتعرض نفسك للنقد، ولشتيمة النَّاس ولكذا وكذا؟ ولا يرضون لك حتى تصبح مثلهم، وهذا هو شأن المنافقين وأتباعهم، فإن النَّاس في النفاق درجات كما قال الله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89] فهذا هو حالهم وشأنهم.(1/512)
العقل يعلم أن رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم في خبره عن الله تعالى، هذه قاعدة متفق عليها بين الْمُسْلِمِينَ، فلو أن أحداً قَالَ: إن الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير معصوم فيما يبلغ عن الله، لخرج من الإسلام.
وأصحاب الفرق الضالة لا يقولون هذا، ولكنهم لا يلتزمون بلازم إثبات العصمة له صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقولون: إنه معصوم؛ لكن خبره هذا عارض البراهين العقلية، أو القواطع النظرية، أو الكشوفات الربانية، أو العلم اللدني، وهذا كله يعارض كونه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوماً في خبره عن الله تعالى.
المقدمة والنتيجة
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [والعقل يعلم أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم في خبره عن الله - تعالى- لا يزيد عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره] هذه مقدمة ونتيجة بدهية، ما دام مُقراً بأن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوم عن الخطأ في البلاغ عن الله، فيجب عليه الانقياد، والإذعان، والتسليم دون أي منازعة، أو معارضة.
وأتى بمثال يوضح ذلك فَيَقُولُ: بناءً عَلَى القاعدة التي قد شرحناها مراراً والتي تقول: إنه إذا تعارض العقل والنقل، فإننا نقدم العقل، ويقدمون العقل لأنهم قالوا: إذا قدمنا النقل فإن ذلك قدح في العقل؛ لأن العقل هو الوسيلة والدليل الذي عرفنا به صحة النقل، وهذا الدليل عكسناه عليهم في المرة الماضية.(1/513)
فنقول: قد عملنا بالاضطرار -أي: ما يعلم بالتفكير بدون أدلة- لو أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا القُرْآن الذي جئت به، وهذه الحكمة "السنة" التي جئت بها، قد علمنا بعقولنا أن فيها ما يخالف ما استقر في عقولنا، وفيها ما يعارضه، ولو أننا قدمنا كلامك الذي تقوله عن الله أو من عندك عَلَى عقولنا، لكان هذا قدحاً في العقل وقدحاً فيما تأتي به، فالأولى لنا أيها الرَّسُول أن نقدم ما تقرر في عقولنا عَلَى ما جئتنا به من عند الله، فكان هذا هو تقديم العقل عَلَى النقل، فلو قال هذا أحد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو لأي رَسُول من الرسل لَمَا كَانَ مؤمناً أبداً.
وكذا لو قال أحد من الناس: أنا آمنت بك أيها النبي، وصدقت أن كلامك صحيح، لكن لا أقر لك بذلك كاملاً حتى أعرضه عَلَى إمامي، أو عَلَى فلان من الناس، أو أفكر فيه وأعرضه عَلَى عقلي فليس هذا بمؤمن.
ولهذا قلنا: إن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رَسُول الله والكلام نوعين: خبر وإنشاء، فلو قال الإِنسَان: أشهد أن لا إله إلا الله، فالصحيح: أن هذا إنشاء، وبهذا نعرف الفرق بين الإيمان وبين الشهادة في حقيقتها، وبين الدعاوى الباطلة، فالشهادة إنشاء، أي: أقر بذلك وألتزم بكل لوازمها، وبكل ما يترتب عليها.(1/514)
أما مجرد الخبر، فمن الممكن أن تجد إنساناً يهودياً أو نصرانياً، يقول لك: أنا قرأت القُرْآن وقرأت السنة فوجدت أن هذا دين من عند الله فإننا لا نقول: إن هذا قد أسلم، فإن هناك فرقاً بينه وبين شخص آخر يقول: أنا أشهد أن محمداً رَسُول الله، وأنا مؤمن بالقرآن، ومن شدة إذعانه يقول: أي أمر جَاءَ في القرآن، أو أي خبر، فأنا مستعد أن أتلقى الأخبار بالتصديق، وأتلقى الأوامر بالتنفيذ، وأتلقى النواهي بالوقوف والارتداع. فهذا هو المؤمن، وهذا هو الذي يحكم بإسلامه وبدخوله في دين الله، والأدلة عَلَى ذلك كثيرة في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
العقول متفاوتة والشبهات كثيرة
ثُمَّ قَالَ المُصْنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: [إذا العقول متفاوتة والشبهات كثيرة] .
يذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: أن هذه القاعدة التي يقولون لو كانت صحيحة لأمكن لكل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به الرسول، فمثلاً: لو أن إنساناً أتينا له بالوضوء فقَالَ: فكرت فلم أجد فيه حكمة. فقلنا له: الصلاة، قَالَ: الصلاة ما مناسبتها؟ ولماذا في هذه الأوقات؟ ولماذا عدد هذه الركعات؟ فنقول له: الزكاة، فَيَقُولُ: ليس من الضروري أن يخرج الإِنسَان هذه المبالغ ويتعب نفسه، فقلنا له: الصوم، قَالَ: تجويع وتعب، فالحج، قَالَ: هذا مجرد بيت مبني!
يقول المصنف: [العقول متفاوتة] المسألة الأولى: أن هناك أناساً يقولون: لم نستطع أن نفهم لماذا هذا الشيء كذا؟(1/515)
والثانية: [والشبهات كثيرة] فإذا ألقى الشيطان في نفس هذا شبهة، وألقى في نفس ذاك الآخر شبهة أخرى، فبمجموع الشبهات مع تفاوت العقول في الفهم، تكون الحصيلة: وهي قوله: [لأمكن لأي أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] وهذا انسلاخ من دين الإسلام، وهذا الذي وقع -كما ترون- في هذه الأزمنة من انتشار الإلحاد بين الْمُسْلِمِينَ، إلحاد يرد كل ما جَاءَ عن الله وعن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإذا تكلمت مع أحدهم تجد أن لديه كثيراً من الشبهات والأقوال في الزنى، أو الاختلاط، أو الخمر، أو اللحية، أو الإزار إذا أسبل، وهلم جرا.
لكل قوم شبة يتعلقون بها
وكما مر أن الأصنام نفسها ما عبدت إلا بشبهات، فقوم نوح قالوا: نصور صورهم فنتذكرهم، فإذا تذكرناهم عبدنا الله، والمُشْرِكُونَ في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعرب في ذلك الزمن ورثوا ذلك الشرك عن قوم نوح، وَقَالُوا: هَؤُلاءِِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18] ، وَقَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] وهكذا المُشْرِكُونَ في كل زمان ومكان، شبهات لا تنتهي، وعقول متفاوتة، فما الذي يضبط هذه العقول، وهذه الأهواء؟ فلو أننا قررنا هذه القاعدة التي يقولون وهي: تقديم العقل عَلَى النقل وجعلناه حكماً ومعياراً؛ لأمكن لكل أحد أن لا يؤمن بشيء مما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/516)
ثُمَّ سرد رَحِمَهُ اللَّهُ الآيات التي فيها بيان أن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالبلاغ المبين، ولهذا قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول لٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4] لأنه بلغتهم يفهمون كلامه ويقول: ِ مَا كَانَ َ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111] وقال: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] .
والآيات كثيرة في هذا الشأن، وواقع سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو هذا، فقد كَانَ يبين للناس بفعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من أوضح أنواع البيان، ويبين بأقواله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبتقريراته، فما ترك شيئاً من الدين إلا وقد بينه، وأعظم شيء في ذلك هو بيان ما يتعلق بعالم الغيب الذي لا تدركه العقول، ولا يمكن أن تبلغه الأفهام وهذا الذي أشار إليه المُصْنِّف.
ثُمَّ ذكر أن أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وعالم الغيب عموماً نلزمهم بهذا الإلزام العقلي، إما أن يكون الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بينه أو لم يبينه.
والثاني: أي: عدم الإبلاغ باطل.
وهذا المتفق عليه بين الْمُسْلِمِينَ أنه بلَّغ، وأنه معصوم في بلاغه، فهل هذا البلاغ كَانَ واضحاً جلياً مفصلاً؟ أم أنه بيَّن بألفاظ مجملة وعبارات محتملة، وقرر بتقريرات موهمة كما يقول نفاة الصفات؟! فبقيت القضية دائرة بين طرفي البيان هل هو بيان شاف كاف واضح؟ أم أنه جَاءَ ببيان مجمل، وعبارات محتملة، وتقريرات موهمة، فحارت العقول! واضطربت الأفهام في فهم هذه العبارات والكلمات والتقريرات التي جاءت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!
لقد جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان التام الشافي(1/517)
لقد جَاءَ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبيان الشافي الكافي الواضح الجلي بلا شك ولا ريب، ومن ذلك مثلاً ما يتعلق بالرؤية، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إنكم سترون ربكم عياناً) وقَالَ: (لا تضارون في رؤيته كما ترون هذه -أشار إِلَى الشمس- في رابعة النهار أو القمر في ليلة البدر) فالعبارة الواضحة والإشارة والمثال الواضح، كلها تلغي أي احتمال لأن يكون اللفظ مجملاً أو موهماً، ومن أوَّل مثل هذا فلا يُؤْمَن أن يؤول الصلوات الخمس بأنها ذكر الأئمة الخمسة، أو يؤول صيام شهر رمضان، بأنه ذكر أسماء ثلاثين رجلاً من الأئمة، كما يقول الباطنية وغلاة الروافض.
فَيَقُولُ: [وقد شهد له خير القرون بالبلاغ] وهم الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- والتابعون، الذين لم تكن فيهم هذه الاعتراضات عَلَى ما جَاءَ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل سلَّموا وأيقنوا وآمنوا وشهدوا له بالبلاغ [وأشهد الله] يعني: وأشهد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم في الموقف الأعظم -في حجة الوداع- ذلك المشهد العظيم، في أكبر اجتماع شهده الْمُسْلِمُونَ في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي بقعة مقدسة -في المشاعر- ويخطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أيام الحج، حتى أنه كرر الخطبة في منى، فَيَقُولُ: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغ وأشهد، ولم يبق ولله الحمد أي لبس في دين الإسلام، ولا فيما جَاءَ به.
فما علينا إذاً بعد هذا إلا أن نؤمن، وأن نستسلم وأن نذعن، ونتعلم هذا الدين، وكل ما علمناه من أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو من خبره عن الله أو من عنده، وما هو إلا وحي من الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - آمنا به كما قال الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً [الأنعام:115] .(1/518)
كلمات الله -سبحانه وتعالى- على نوعين
كلمات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى نوعين: صدق في الأخبار، وعدل في الأحكام، فليس هناك أي مجال لطاعن ولا منتقد.
من لم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد.
قال الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
[فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان] .
قَالَ المُصْنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
[هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين بل وفي غيرها بغير علم. وقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد 6002598> كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير [الحج:3-4] ، وقال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج 8-9] وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50] وقال تعالى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى [النجم:23] إِلَى غير ذلك من الآيات الدالة عل هذا المعنى.(1/519)
وعن أبي أمامة الباهلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أو توا الجدل) ثُمَّ تلا: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً الزخرف 58، رواه التِّرْمِذِيّ، وقَالَ: حديث حسن. وعن عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم) خرجاه في الصحيحين] اهـ.
الشرح:
يقول الطّّحاويّ - رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان] وهذا زيادة في التأكيد والتنبيه والتحذير من الخوض في دين الله بغير علم، ومن عدم الاقتناع والتسليم بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن من تتبع أو رام أمراً مما حظر علمه من أمور الغيب، كمعرفة كيفيات صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ومعرفة كيفية عذاب القبر ونعيمه، وأحوال يَوْمَ القِيَامَةِ، وأحوال الجنة والنار، وأمثال ذلك مما لا يستطيع الإِنسَان أن يدركه عَلَى حقيقته، فمن رام أن يعلم حقيقة ذلك، وتكلفه ولم يقنع بالتسليم، فإن هذا الفعل يصرفه عن أن يكون ذا توحيد خالص وإيمان صحيح، ومعرفة ويقين كما أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/520)
ولهذا جَاءَ المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- بالآيات الدالة عَلَى النهي عن الجدال في آيات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا هو الجدال المذموم الذي بسببه تفرقت الفرق، وكثرت الأهواء، وتباينت الضلالات، لأنه جدال بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فالمؤمنون إذا بلغهم شيء عن الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنوا وأذعنوا، أما الكفار فحالهم ما ذكر الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، ولهذا توعدهم بقوله تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً أي: مسئول عن كل ما يقوله اللسان، أو يجول في الفؤاد، أو تراه العين.
فالإِنسَان مسئول عن هذه الأعضاء التي ملكه الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إياها؛ فلا يجوز لأحد أن يَقْفُ ما ليس له بعلم، وأن يتكلف فوق ما أمره الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من التسليم والانقياد وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير وهذا حال كثير من النَّاس وفي الآية الأخرى يقول -سبحانه:- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ فالوعيد في الدنيا خزي وضلال، وفي يَوْمِ القِيَامَةِ عذاب الحريق، وهذا هو حال كل من أعرض عن دين الله، كما سيأتي إن شاء الله في أبيات عبد الله بن المبارك
بقدر المعصية يزداد الذل والخزي أو يقل(1/521)
كل من أعرض عن الله أو أعرض عن سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه بقدر معصيته وبقدر إعراضه يناله الذل، والخزي في الدنيا، ويناله العذاب يَوْمَ القِيَامَةِ، وهذه سنة الله التي لا تتخلف، يقول: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ لا أحد أكثر ضلالاً من هذا الذي اتبع هواه بغير هدى من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ فنفهم من هذا أنهما طريقان: الطريق الأول: طريق الحق بأن يأتي رَسُول من عند الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالكتاب المبين والهدى والعلم. والطريق الآخر: طريق ضلال وأهواء وأقوال شياطين، ووساوس باطلة، وخطرات كاذبة، هذه هي القسمة الثنائية في هذا الشأن.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أَحْمَد والتِّرْمِذِيّ عن أبي أمامة الباهلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثُمَّ تلا مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً أالزخرف:58] فهذا الهدى الذي في الحديث، ما أعظم انطباقه عَلَى واقع الأمة الإسلامية التي كانت في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء الراشدين، لا جدال ولا مراء في الدين، بل كانوا كما علمهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، -وكما مر في الحديث الماضي- لما خرج وهم يتجادلون في بعض آيات الله، غضب غضباً شديداً، ونهاهم عن ذلك فأخذوا هذا الحكم، وتقررت لديهم هذه القاعدة، أن لا يجادلوا ولا يماروا في أمر جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بل يستسلموا ويذعنوا ويوقنوا.(1/522)
فلما انحرفت الأمة الإسلامية، وقعت الفتن فيما بينهم، وظهر أهل النفاق وأهل الزيغ من البلاد المفتوحة، ومن الأعراب وأمثالهم من الكائدين لهذا الدين، الذين دخلوا فيه زوراً وكذباً، فبثوا السموم في هذه الأمة، ومالت الأمة إِلَى الترف في الحياة الدنيا، وفتحت عليهم الأموال، وسبوا الجواري من أطراف الأرض، وامتلأت خزائنهم بما أنعم الله عليهم به.
ونتيجة هذا الانحراف ظهرت الفرق وظهر الجدال، وأعظم شيء كَانَ الجدال فيه هو: في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وفي الأمور الغيبية التي لا يمكن للعقول أن تبلغها.
اليقين القلبي أولاً
لما ضل النَّاس عن الهدى وقعوا في هذا كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) يستعيضون عن الإيمان واليقين الذي محله القلب بالاقتناع العقلي الذي هو من أعمال الذهن، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقوم الاقتناع الذهني العقلي مقام اليقين القلبي أبداً، وهذا مما يجب أن نتنبه له!
ولا بد أن نعرف أننا عندما ندعو النَّاس لا ندعوهم إِلَى الاقتناع والتسليم العقلي، أو إِلَى نظريات عقلية مجردة، بل ندعوهم إِلَى اليقين والإيمان الذي يتبعه الانقياد والإذعان العملي، أما الاقتناع النظري فلا يترتب عليه إيمان ولا انقياد، ولا إذعان لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/523)
أما إذا أردنا أن نقنع النَّاس بأن الإسلام، لا يتعارض مع العلم، ولا مع الحضارة نعقد مؤتمراً -مثلاً- ونقرأ عليهم أحكام الإسلام فيجدون أنها تطابق وتوافق الحضارة فهذا ممكن ولا يناقش منهم أحد، وإن ناقش أحد أقنعناه وجادلناه بالعقل فيسكت، لكن هذا لن يؤدي الثمرة التي نريد؛ كأن نقنع الإِنسَان بضرورة أن يؤمن بالله وحده، وأنه لا خلاص له ولا نجاة من عذاب الله، ولا سعادة له في الدنيا إلا بأن يؤمن بما جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمسألة فيها دقة وهذا من لوازم هذا؛ ولكن هدف الدعوة ليس الاقتناع الذهني، وإنما هو الاقتناع اليقيني القلبي.
فهَؤُلاءِ المتكلمون، حولوا الأمر إِلَى قضايا نظرية، فَقَالُوا: لا بد أن نقنع الفلاسفة بأن عذاب القبر حق، فتجادلوا، فظهرت طائفة: تنكر عذاب القبر وقالت: نَحْنُ لا نستطيع إثباته بالعقل؛ لأن الفلاسفة يلزموننا، فلا نجد إلا أن نؤول النصوص، وأولوا الصفات بحجة أنهم لا يستطيعون أن يقنعوا الفلاسفة أن هذه الصفات حقيقية، وهكذا أتوا إِلَى كثير من الأحكام، فحرفوها لتوافق عقول المجادلين من الفلاسفة وأمثالهم، بينما هم يريدون الدفاع عن الدين وإثبات حقائقه.
ومن الجدل ما أضل(1/524)
فهذا هو تصديق قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) ثُمَّ تلا مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً [الزخرف:58] الآية، والذي ضربوه جدلاً هو عيسى عَلَيْهِ السَّلام: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف:57،58] الآية، ولما ذهب ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى الخوارج ليناظرهم وليقيم عليهم الحجة قالوا: لا تسمعوا لكلام ابن عباس فإنه من قريش وإن الله - عَزَّ وَجَلَّ- يقول: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ وهذه حقيقية؛ لأن قريشاً أُوتوا الجدل، ولهذا جادلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدالاً طويلاً، لكنهم في الإسلام أصبحوا قوة للدعوة، وإلزاماً للخصم بهذا الدين.
وهَؤُلاءِ القوم الذين اصطفاهم الله بأن جعل هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم، وجعل لغتهم هي اللغة التي نزل بها القرآن، وكفار قريش يعلمون أنه لا مقارنة، ولا وجهة للنسبة بين عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- وبين آلهتهم، ولكنهم يجادلون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98](1/525)
ويقولون: إن عيسى لا يدخل النار؛ إذاً آلهتنا لا تدخل النار، فهذا من الجدل بغير الحق، ومعروف أن عيسى -عَلَيْهِ السَّلام- لم يعبد وهو راض بالعبادة، بل دعاهم إِلَى عبادة الله وحدة لا شريك له حتى مات، ويَوْمَ القِيَامَةِ يقول عنه الله: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:116-117] أي: وهو حي -عَلَيْهِ السَّلام- (َلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم [المائدة:117] إِلَى آخر الآيات، فكان وهو حي يتبرأ من شركهم ومن عبادتهم في حياته، لأنه دعاهم إِلَى عبادة الله وحده، أما معبودات الْمُشْرِكِينَ وكل من عبد من دون الله وهو راضٍ بالعبادة، فإنه يحشر معهم، كما هو حال فرعون ومن معه الذين يجعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أئمة يدعون إِلَى النار، والعياذ بالله.
كما قال تعالى: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:98] ، لأنهم كانوا يعبدونه، وكان يدعوهم إِلَى عبادة نفسه، وكان راضياً بذلك، ويقول: إنه ربهم الأعلى، وأن له ملك مصر، والأنهار التي تجري من كذا وكذا، فيَوْمَ القِيَامَةِ يقدم قومه فيوردهم النَّار وبئس الورد المورود عافانا الله وإياكم من ذلك.
فهذا هو المقصود بهذه الآية: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً أنه عيسى عَلَيْهِ السَّلام.(1/526)
وفي حديث عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- قالت: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن أبغض الرجال إِلَى الله الألد الخصم) فيه أن النَّاس نوعان: نوع كريم متسامح خلوق، وهذا ينطبق عليه وصف هذا الرجل الذي يأتي يَوْمَ القِيَامَةِ بين يدي الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وكان تاجراً يتعامل مع الناس، فكان كل ما بقي بينه وبين أحد من النَّاس -كما يقال- قليل من الحساب: تجاوز عنه راضياً بالأمر الذي قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: (سمحاً إذا اشترى سمحاً إذا باع) فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول له: (قد تجاوزنَّ عنك بما كنت تتجاوز عن النَّاس) أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجزاء من جنس العمل، وهذا التجاوز: لا يعني الضعف والخور والجبن، عن الموقف الحق، لكنها الرقة والرفق والحكمة مع قول الحق كاملاً.
أما النوع الآخر: فهو الألد الخصم المعاند فتحتاج حتى تقنعه أن تبذل الجهد الجهيد في أمر بسيط، وتخاف إن قلت له كلمة أن يماطلك ويجادلك ويتهمك، ويذكرك بأخطاء سابقة، فهذا لا تحب أن تجالسه ولا تعرض عليه أي قضية، فإذا كَانَ هذا هو حاله في التعامل في أمور الدنيا، فكيف بالتعامل مع الله، وبالوقوف في مواقف الخصومة والعناد من الشرع؟!(1/527)
كما قال -عَزَّ وَجَلَّ-:وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ [البقرة:204] أي: إذا تكلم وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وإن قَالَ: الله يعلم أني لم أقصد إلا الحق والخير وكذا وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ هذا هو الذي نهى عنه الله ورسوله، لأن هذا الدين حنيفية سمحة، وعلى الإِنسَان أن يأخذه بالإيمان والتسليم والإذعان، وباليسر، وعلينا أن نجتنب التكلف والتشدد، حتى في طريقة أخذنا لهذا الدين، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أيها الناس! حجوا إن الله قد كتب عليكم الحج، فَقَالَ رجل: أفي كل عام يارَسُول الله؟ فَقَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قلت نعم لو جبت، إنما هلك من كَانَ قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم) .
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[ولا شك أن من لم يسلم للرَسُول نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، أو يقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جَاءَ به الرسول، فإنه قد اتخذه في ذلك إلهاً غير الله، قال تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية: 23] أي: عبد ما تهواه نفسه، وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قَالَ: عبد الله بن المبارك -رحمة الله عليه:
رأيت الذنوب تميتُ القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبارُ سوءٍ ورهبانها
] اهـ.
الشرح:
يقول الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ: [فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد] يشرح المُصنِّفُ هذه العبارة ويبين كيف يؤثر هذا العمل في توحيد صاحبه.(1/528)
فَيَقُولُ: [ولا شك أن من لم يسلم للرَسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقص توحيده فإنه يقول: برأيه وهواه، ويقلد ذا رأي وهوى] فلو فرضنا أن هناك أمراً من أمور الغيب، فالإِنسَان إما أن يتبع فيه الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيتحقق توحيد المتابعة، وإما أن يعارض كلامه بهوى ورأي، أو يكون المعرض تابعاً لقول أو هوى إنسان آخر، وعليه فمن عارض خبر النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأي نوع من أنواع المعارضة فإنه ينقص من توحيده، وبقدر خروجه عما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهو في هذه الحالة قد اتخذ من أطاع واتبع إلهاً، وهذا هو معنى قوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه فهو الذي لا يعمل ولا يقدم ولا يؤخر، ولا يستسلم إلا لما يأمر به الهوى، وداعي الشهوة، ثُمَّ يقول: [إنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق ... ] .
أتى بهذا الكلام من خلال أبيات الإمام المجاهد الثقة الحجةعبد الله بن المبارك -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وهو من هو في فضله وعبادته وجهاده!! وهو من أئمة الإسلام العظام، ويكفيه إمامةً وفضلاً أن يكون الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- يعظمه ويجله، ويثني عليه، ويستشهد بأقواله ويذكرها، ويذكر الإمام أَحْمَد أقواله معجباً بها ومثنياً عليها.
ومن عظمة شعر السلف الصالح، أنه أبيات معدودة، وكلمات محدودة، لكن ورائها المعاني والعبر والعظات يقول:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وهذا البيت تحقيق لما جَاءَ في الآيات، وفي الأحاديث كقوله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] الآية.
وقول النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء) .
الذنوب تميت القلوب
يقول الإمام: عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميتُ القلوب(1/529)
وهذا حق: فإن القلب بعد أن يكون كالسراج المنير المضيء بتقوى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- تأتي الذنوب عليه فتمرضه في أول الأمر، فإذا ازداد توارد الذنوب عَلَى القلب زادته مرضاً حتى يموت، فإذا مات القلب بهذه الذنوب فقل عَلَى صاحبه العفاء، فيصبح بعد ذلك لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، فهذه هي العبرة التي يجب أن تكون حاضرة في ذهن كل مسلم، أن الذنوب تميت القلوب، وقوله:
وقد يورث الذل إدمانها
"قد" هنا تفيد التحقيق، أي: أن الذنوب لا بد أن تورث الذل، وتكون سبباً في موت القلب.
أبى الله إلا أن يذل من عصاه
هذه حقيقة عبر عنها الحسن البصري -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فقَالَ: " أبى الله إلا أن يذل من عصاه" كل من عصى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ولو كَانَ في وسط صخرة صماء، فإن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يظهر لعباده المؤمنين، ولأوليائه الصالحين، من الذل في وجهه ما يعلمون به أنه عاص لله، وكل من أطاع الله، واتقاه ولو كَانَ أيضاً في صخرة صماء، لا أحد يراه ولا يعلمه، يظهر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأوليائه ولعباده الصالحين في وجهه وفي حياته من العزة، والهيبة، والوقار، ما يشعر به كل من رآه ومن عرفه من هَؤُلاءِ الصالحين.
ومن أدمن الذنوب واستسهلها، أصبح حاله كحال المنافق الذي أخبر عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يرى الذنب كذباب وقع عَلَى أنفه فَقَالَ به كذا، فهذا يموت قلبه، ويبلد إحساسه، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً، ثُمَّ يضرب عليه الذل.
الذنوب تميت القلوب
يقول الإمام عبد الله بن المبارك -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها(1/530)
فالذنوب والمعاصي تميت القلب، وإذا مات فلا خير في الحياة بعده، إذ ما هي إلا حياة بهيمية، حياة الحيوان وإذا كَانَ القلب حياً كانت الحياة الطيبة الزكية المطهرة، التي يريدها الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- من كل إنسان، والتي من أجلها أنزل إلينا هذا النور المبين، وأرسل إلينا هذا الرَّسُول العظيم، ليزكينا وليطهر قلوبنا، ولتكون حياتنا حياةً إنسانيةً تليق بالتكريم الذي كرم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- به بني آدم، واختصهم به دون بقية المخلوقات، أما إذا مات القلب، فإن الإِنسَان يكون حيواناً في صورة إنسان، حمار بالنهار جيفة بالليل، يقدح بالنهار قدح الحمير - يجمع ويجري ويلهث- وفي الليل جيفة هامدة.
فيجب أن يعلم الفرد والأمة بأكملها أن الذنوب تميت القلوب، وأن القلب إذا مات فلا خير في ذلك الفرد ولا في تلك الأمة، وأن الذل مضروب عَلَى كل من مات قلبه، وقد ضرب الذل عَلَى هذه الأمة الإسلامية اليوم؛ لأن قلوبها قد ماتت، لأنها انصرفت وانحرفت عما شرع الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فتحقق ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا يرفعه عنكم، حتى ترجعوا إِلَى دينكم) .
الذنب مقدمة لما بعده(1/531)
إن من أسباب موت القلب تتابع الذنوب فالذنب يورث الذنب، كما أن الحسنة تستدعي وتستتبع الحسنة، ومن أشد أخطار الذنوب، أن يذنب العبد ذنباً يكون بعده الطبع أو الختم عَلَى قلبه أو إماتته بالكلية كما قال تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [المائدة:13] فلما نقضوا الميثاق وتركوا ما أمرهم الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- به، ونقضوا ما عاهدوا الله تَعَالَى عليه من الإيمان والتقوى والصبر والجهاد؛ عاقبهم الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بعقوبتين: اللعنة، كما قال جل شأنه لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78،79] .
فعوقبوا باللعنة نتيجة الكفر والعصيان، والعقوبة الثانية عوقبوا بقسوة القلب قال - عز من قائل-: وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَة [المائدة:13] ومن قسوة قلوبهم أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه، هذه الآيات التي إذا قرأها الإِنسَان يرق قلبه، ويلين ويخشع لكنهم لقسوة قلوبهم أصبحوا يقرأونها ليحرفوها عن مواضعها، وليصرفوها وفق أهوائهم وشهواتهم وحظوظهم العاجلة الفانية، فهذا حال أهل الكتاب، وهذا حال كل من عصى الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يوشك أن يعاقبه الله تَعَالَى عَلَى هذا الذنب بذنب أعظم منه، يوشك أن يُعَاقب الإِنسَان عَلَى إدمان النظر إِلَى النساء بالزنى -والعياذ بالله- ويوشك أن يعاقبه عَلَى التدخين بشرب الخمر -عافانا الله وإياكم من ذلك- ويوشك أن يعاقبه عَلَى البدعة بالشرك، فكل ذنب هو وسيله ومقدمة لما بعده، وقد تقع العقوبة عليه بأن يرتكب ذنباً أكبر منه، نسأل الله تباك وتعالى السلامة والعافية.(1/532)
ومن هنا فإن المؤمن حريص كل الحرص عَلَى أن ينقي قلبه ويتعاهده ما استطاع وأن يراقب نفسه دائماً ويحاسبها، عَلَى ما فرط في جنب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ويستدرك قبل أن تنزل عليه العقوبة، فلا يدري ما هي هذه العقوبة، ولو أن العقوبات عَلَى الذنوب تختص بما يقع في الأرض، من الجدب والخوف، والنقص في الثمرات والأموال، ومن كل الفتن التي تقع، لكانت أهون! ولكن أشد منه وأغلظ أن تقع العقوبة نفاقاً في القلب أو كفراً بالله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بعد ذلك، وهذا ما جرى لأهل الكتاب من قبلنا، وما جرى للمنافقين أيضاً في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ يقول رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
فمن أراد أن يكون قلبه حياً الحياة الحقيقية، الحياة الطيبة فعليه بترك الذنوب والتمسك بما أمر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإن العز كل العز، والخير كل الخير، والسعادة كل السعادة في طاعة الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
الذنوب سبب للمصائب، وغفلة الناس عن هذا
فكل من ارتكب الذنوب والمعاصي وغفل عن أمر الله، فإنه يعاني من النكد والألم، ومن سوء الحياة وفسادها بقدر ما ارتكبه من المعاصي، والمصيبة الكبرى أن كثيراً من النَّاس لا يربطون بين نقص الأموال والأنفس والثمرات وقلة الأمن، وبين الإكثار من المعاصي والذنوب، كالربا والزنا والتبرج وشرب الخمر، والإعراض عن دين الله، والوقوع في البدع، والشرك والضلالات، ويفسرون كل ما يقع من النكبات والأزمات بعوامل مادية بحتة، وينسون هذه الحقيقة التي ذكرها الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وكررها مرات ومرات في القرآن، وبينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما الذي أهلك الأمم قبلنا جميعاً؟ أهو نقص الخبرات أو ضعف العوامل الاقتصادية أو قلة عدد السكان؟(1/533)
لا، بل بالإعراض عن دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وبالغفلة عن ذكره تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإذا قرأنا ما قص الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا من أخبار الأمم الماضية، وما أوصانا وأمرنا به، لوجدنا هذه الحقيقة بيضاء جلية ناصعة، فعلينا أن نعتني بقلوبنا، وأن نطهرها بتقوى الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وبذكر الله وبمداومة قراءة القرآن، والتقرب إِلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالأعمال الصالحة، واستغلال مواسم الخير ما استطعنا، ونحاول أن نحول هذه النفوس، من لوامة إِلَى مطمئنة بقدر ما يعيننا الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
ثُمَّ يأتي الشاهد من هذا الموضوع وهو قول الإمام عبد الله بن المبارك رَحِمَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
[فالملوك الجائرة يعترضون عَلَى الشريعة بالسياسيات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها عَلَى حكم الله ورسوله، وأحبار السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك، والرهبان وهم جهال المتصوفة، المعترضون عَلَى حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه عَلَى لسان نبيه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس.
فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة!
وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل!
وقال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف] اهـ.(1/534)
هذا الذي جَاءَ به المُصنِّفُ هنا ليبين لنا أصل الاعتراضات عَلَى الدين، ونحن نتكلم في مبحث وجوب التسليم لأمر الله وحكمه، ويأتي الاعتراض عَلَى دين الله، وشرعه، من ثلاثة مناهج وثلاثة طرق، وهذه الثلاثة هي أصل وأساس جميع الاعتراضات عَلَى دين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
سن القوانين، ونشأتها
الاعتراض الأول: منازعة أصحاب القوانين وأصحاب السياسات، وهَؤُلاءِ هم الذين بين الله تَبَارَكَ وَتَعَالَىحالهم في القُرْآن الكريم في مواضع منها قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً [النساء:60] وقوله: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ َ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65] وآيات سورة المائدة حينما تكلم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وتحدث عن اليهود وكيف أنهم تركوا حكم الله في التوراة، وتركوا إقامة التوراة والإنجيل.
ثُمَّ ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بعد ذلك حكم من لم يحكم بما أنزل الله فَقَالَ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47] فالاعتراض الأول: هو التحكيم أو التحاكم إِلَى غير دين الله، والرجوع إِلَى مصدر غير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى من الوحي.(1/535)
وقلنا: إن هذا الانحراف وقع في حياة الأمة الإسلامية بالتدريج، وكان أول ما ظهر، أنه عندما عجز بعض الفقهاء وبعض القضاة عن الاجتهاد عن الحكم في مسائل، أولم يحال إليهم الحكم بمسائل معينة من المنازعات والخصومات التي تقع بين الناس، أو أساءوا فهم بعض أمور الشرع والدين العامة فكانت النتيجة، أن ظن النَّاس أن الدين ناقص وعاجز عن الحكم في هذه الأمور.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في الطرق الحُكمية في البينة: فمن الأصول القطعية المقررة شرعاً، أنه لا حكم إلا ببينه، والبينة عَلَى المدعي، هذا أمر مقرر وقاعدة قطعية، لكن بعض الفقهاء فهموا أن البينة هي الشاهدان، فحصروا البينة في هذا، والمنازعات ووقائع الحياة تتعدد وتتوسع وتقع قضايا كثيرة جداً لا يمكن أن تثبت عن طريق الشاهدين مع قيام الدليل والحجة عَلَى أن الجاني فلان -مثلاً- لكن القاضي والفقيه لا يحكم بشيء إلا بوجود شاهدين! فأدى ذلك إِلَى أن يأتي الأمراء حتى لا يتركوا النَّاس بلا أحكام، فَقَالُوا: إذاً نَحْنُ نحكم في هذه المسائل من عندنا، فأصبحت تسمى سياسة، يقولون: هل قُتل فلان شرعاً؟ قالوا: لا لأننا لم نجد شاهدين، لكن قتل سياسة لأن الأمير رأى أنه يقتل؛ لأن البراهين قد قامت عَلَى أنه هو الجاني.
ويضرب ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- مثالاً عَلَى البينة فَيَقُولُ: لو أن إنساناً عَلَى رأسه عمامة، وفي يده عمامه وهو يجري، ووراءه إنسان ليس عَلَى رأسه عمامة وهو يصيح قائلاً: هذا أخذ عمامتي، يقول: فهنا البينة موجودة، فلا نحتاج أن نأتي بشاهدين عَلَى أن هذا سرق العمامة، لأن هذا بلا عمامة ويجري وراء إنسان هارب بيده عمامة، وأي إنسان يرى هذا المنظر يعلم أن هذا الإِنسَان سارق أو مختلس لكن بعض الفقهاء يقولون: لا بد من شاهدين.
ومثال آخر:(1/536)
إنسان كتب وثيقة أن لفلان عندي ألف ريال وخط فلان هذا معروف، قالوا: لا ينفع هذا الخط فلا بد من شاهدين، فمن أين يأتي بشاهدين؟!
فلما حصلت هذه الأخطاء عند بعض القضاة، اضطر الأمراء حينئذ إِلَى أن يقولوا: لا؛ بل نحكم بموجب الكتابة، ونحكم بموجب القرائن، ونحكم بموجب وقائع مساعدة وغلبة الظن وأمثال ذلك، فخرجوا قليلاً قليلاً وبدأ الانفصال فأصبح هناك شرع وهو ما يحكم به القضاة، وهناك سياسة وهي ما يحكم به الأمراء، وهذه وإن لم تكن مخالفة للشرع بل هي داخلة ضمن عموميات الشرع.
لكن الأمر اتسع حتى ظهر الياسق الذي سبق أن تكلمنا عنه وقلنا: إنه كتاب كتبه التتار الذي عَلَى ألواح من الفولاذ، وهو كتاب جنكيزخان وقد شرَّع فيه أحكام القتل والدماء وأمر أن يتوارثها أبناؤه، وتوارثها أمراؤه إِلَى أن جَاءَ هولاكو الذي دمر بغداد ودخل بلاد الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ دخل هَؤُلاءِ في الإسلام، وكان معهم هذا الكتاب يطبقونه عَلَى أنفسهم في الأمور العسكرية، وفي الأمور السياسية، وتركوا قضاة الْمُسْلِمِينَ يحكمون في الأمور الشرعية، فأدى ذلك إِلَى أن يقوم علماء الإسلام، ويبينوا حكم من تحاكم إِلَى غير دين الله، ومن تحاكم إِلَى هذا القانون المسمى بالياسق.
فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ- فتواه بتكفيره، وتكفير من تحاكم إِلَى هذا الكتاب، وأن التتار يجب أن يقاتلوا قتال ردة وكفر؛ لأنهم يتحاكمون إليه ولا يتحاكمون إِلَى دين الله، وأقبل عَلَى هذه الفتوى كثير من العلماء في ذلك الزمان، فكانت هذه أول واقعة في تاريخ الأمة الإسلامية أن يوجد قانون مكتوب يعارض به شرع الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ثُمَّ ما لبث أن اضمحل وانتهى.(1/537)
وعلى المستوى العالمي فيوجد هناك قوانين مكتوبة من قديم، وهنا ننبه إِلَى قضية مهمة، وهي أن البعض يقول: إن الصينيين القدماء، والأشوريين، والفينقيين والفراعنة، ودولة معين وسبأ في اليمن إلى آخر ذلك كَانَ يوجد عندهم قوانين مكتوبة، وهذا دليل كما يقولون: عَلَى تطور التشريع، وبداية التشريع عند الإِنسَان وقد سبق أن قلنا: إن هذا الكلام باطل، وإن هذه القوانين المكتوبة، إما أن تكون من بقايا شرائع الأنبياء، فإن هذه الأمم بعث الله تَعَالَى فيها أنبياء، وأنزل عليهم الكتاب ليحكم بين النَّاس فيما اختلفوا فيه، فكل أمة من الأمم لها دينها ولها كتابها وشرعها الذي لا يجوز أن تتحاكم إِلَى غيره، فإما أن تكون من بقايا شرائع الأنبياء، وإما أن يكونوا أحدثوا شرائع من عند أنفسهم معاندة وإعراضاً عن شرائع الأَنْبِيَاء.
وفي أوروبا ظهرت قوانين نابليون التي كتبت بشكل واضح مكتوب مخالفة لما كانت عليه أوروبا من التحاكم إِلَى رجال الدين أي: إِلَى النصرانية وشريعة التوراة، وكان هذا في بداية القرن التاسع عشر أي ألف وثمانمائة وأربعة، وقانون نابليون قانون مشهور إِلَى اليوم إذ هو من أكبر القوانين، وهو أيضاً مستمد في بعض جوانبه من القوانين الرومانية القديمة، التي لما بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الرومان يتحاكمون إليها، لكنها كانت بدائية بالنسبة للقوانين الحديثة التي افتتحت بقانون نابليون.
المقصود: أن هذا القانون نقل إِلَى الأمة الإسلامية، وأول ما نقل إِلَى مصر، فعرض الخديوي القانون عَلَى بعض العلماء فأقروه.
إذاً فالطريقة الأولى من الاعتراض هو القانون.
علماء السوء(1/538)
علماء السوء هم الباب الثاني من أبواب الفساد، فالخديوي لماجاء بالقانون عرضه علىبعض علماء السوء، فَقَالُوا: كل ما في هذا القانون من مواد لا تخرج عن المذاهب الأربعة، ولابد أن توافق أحد المذاهب الأربعة ولو بوجه من الوجوه، ولو برأي أو قول ضعيف في مذهب أَحْمَد أو الشَّافِعِيّ أو مالك أو أبي حنيفة، فلا مانع من أن يقرَّ في بلاد الْمُسْلِمِينَ، فأقر هذا القانون بناءً عَلَى ذلك، فاتفق أصحاب السياسة، وعلماء السوء عَلَى إقرار هذا القانون وإدخاله إِلَى بلاد الْمُسْلِمِينَ.
والدولة العثمانية أدخلت النظم الغربية شيئاً فشيئاً، وكان أول ما أدخل قانون القناصل ومحاكم القناصل، فقد كانت لأوروبا قناصل في العالم الإسلامي، وكان القناصل يحكمون بين رعاياهم فقط، ولكن أحكامهم وقوانينهم توسعت حتى أصبحت تحكم بين الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ جَاءَ السلطان سليمان، وكان من أكبر وأعظم السلاطين في الحرب والقوة العسكرية، لكنه أتى من باب الجهل بالدين، ومن باب أيضاً سكوت علماء السوء، فأدخل القوانين، ولهذا سماه الغربيون، سليمان القانوني، وأدخلها باسم "تنظيمات" تحاشياً من أن يُقال قانون، فيُقَالُ: القوانين كفر، أو القوانين لا تجوز، فسموها تنظيمات، وجعلوها أنظمة، نظام التجارة، حتى نظام العقوبات الجنائية، بدَّل فيه كثيراً من الأحكام عن غير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/539)
ثُمَّ استمر الوضع شيئاًَ فشيئاً حتى جَاءَ الأوروبيون الصليبيون الجدد -الذين يسمون المستعمرين- واحتلوا العالم الإسلامي وفرضوا القوانين بالقوة وألغوا الشريعة الإسلامية، ابتداءً من الهند، التي كانت تحكم بالشريعة الإسلامية، وكان ملوك المغول هم حكام الهند لكن كما سبق في البيت الأول، "وقد يورث الذل إدمانها" عندما أذنب الْمُسْلِمُونَ في الهند وأقاموا الأضرحة الكبيرة، وانحرفوا عن دين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعظموا الأولياء والموتى، وتركوا العقيدة الصحيحة، وتركوا الأكثرية تعبد البقر وهم يحكمونهم بشريعة الإسلام سُبْحانَ اللَّه!!.
أين أنتم تحكمون أمةً تعبد البقر وتعبد الأصنام، ولم تتحركوا لإدخالهم في الإسلام وقد حكمتم البلاد ثمانمائة سنة؟! فلما جَاءَ الاستعمار وقضى عَلَى المغول، ألغيت معها الشريعة الإسلامية نهائياً.
وكذلك دخل الاستعمار في بقية البلاد إلا من رحم الله - تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مثل وسط الجزيرة واليمن وأفغانستان وخراسان، وفي بعض الأطراف نسبة تقل أو تكثر، لكن الاستعمار حرص عَلَى أن يقضي عَلَى الشريعة الإسلامية قضاء باتاً، إلا البقية القليلة التي تسمى الأحوال الشخصية، لأن الأقطاب والمارون، والدروز كل منهم له أحوال شخصية خاصة فَقَالُوا: نجعل للمسلمين أحوالهم الشخصية ليس إقراراً للدين، لكن من باب أن هذه أمور خاصة جداً، وقد أُقرت جميع الملل عليها فليكن من ضمنها هَؤُلاءِ الْمُسْلِمُونَ، فهكذا أصبح الأمر، في ديار الإسلام، وأصبح التحاكم فيها إِلَى الطاغوت لا إِلَى ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.(1/540)
المدخل الثاني من مداخل الفساد هو مدخل الأحبار، والمقصود بالأحبار علماء السوء في جميع الملل، وفي هذا إشارة إِلَى ما يقع من ضعف وفساد في الدين سببه علماء السوء في جميع الملل، والأعصار، أما أهل الكتاب: فها أنتم تقرءون في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ الكثير مما صنعوا، ومما أفسدوا في دينهم ودين أتباعهم، فأهل الكتاب كانوا يكفرون ببعض ويؤمنون ببعض، وكانوا يخرجون أبنائهم وأتباعهم ويقاتلونهم ويظاهرون عَلَى إخراجهم، وإذا جاءوهم أسارى يفادونهم كما ذكر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذلك ولهذا قَالَ: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85] الآية فكان علماء السوء يبدلون ويحتالون عَلَى دين الله كما في قصة القرية التي كانت حاضرة البحر كما قال الله تَعَالَى: وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [الأعراف:163] فماذا فعلوا؟ وكيف المخرج؟ جَاءَ علماء السوء المفتون، وَقَالُوا: الأمر بسيط! ألقو الشِبَاك يوم الجمعة ولا تصطادوا يوم السبت ثُمَّ خذوها يوم الأحد.
تموت البقر فاحتالوا وَقَالُوا: اجمعوا الشحم وبيعوه عَلَى أنه زيت، فنحن لم نأكل التي حرم الله أكلها وإنما بعنا الزيت.(1/541)
فاليهودهم أهل الحيل، ولذلك يقول الإمام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في الفوائد: كل من آثر الدنيا عَلَى الآخرة فلا بد أن يقول في دين الله وشرعه بغير علم، وأن ينحرف عما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى؛ لأن الدين جَاءَ عَلَى خلاف حظوظ النَّاس وأهوائهم، وهَؤُلاءِ يقدمون الحظ الفاني، ويقدمون الدنيا ويؤثرونها عَلَى الآخرة، فلا بد أن يقولوا عَلَى الله بغير علم تحايلاً للوصول إِلَى ما يريدون وإلى ما يشتهون فيحتالون، ومن هنا قلدهم في هذه الأمة من قلد، وليس المذمومون يهود فقط، ولذلك عندما قُرأ عند حذيفة -رضي الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنه- قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] قال رجل ممن كَانَ عندحذيفة: هذه لليهودفانتبه حذيفة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- إِلَى قضية خطيرة يقع فيها كثير من الْمُسْلِمِينَ وهي أننا نحيل دائماً العيوب والأخطاء إِلَى علماء اليهود والنَّصَارَى وننسى أننا قد نقع في نفس الشيء قال حذيفة رضى الله تَعَالَى عنه: (نعم أبناء عم لكم اليهود، ما كَانَ من حلوة فهو لكم، وما كَانَ من مرة فهو لهم) إذا قرأنا في القُرْآن ثناءً ومدحاً قلنا: هذا لنا لأمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا قرأنا فيه ذماً وعيباً قلنا: هذا لليهودوالله تَعَالَى قَالَ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ [المائدة:78،79] .(1/542)
فإذا قيل لهم: مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، قالوا: هذه نزلت في اليهود، فكأن الذي لا يقيم التوراة والإنجيل يكفر ويعاقب، والذي لا يقيم القُرْآن يكون مؤمنا ويكرم ويعزز! لا، القُرْآن أعظم فإن الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قَالَ: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48] الآية. فالتمسك بالكتاب المهيمن يكون أقوى وعقوبة الانحراف عنه أغلظ وأشد.
وقد وقع في هذه الأمة من يسمون أهل الرأي، أو أهل القياس وهَؤُلاءِ قد شابهوا بعض المشابهة لأحبار اليهود والنَّصَارَى فإنهم ألفوا كتباً تسمى كتب الحيل، فيحتال مثلاً عَلَى عدة المطلقة، أو عَلَى أي نوع من أنواع الربا، أو عَلَى إرجاع المطلقة بتحليلٍ مثلاً، فأفسد علماء السوء في هذه الأمة أيضاً دين الْمُسْلِمِينَ كما أفسد أحبار اليهود دينهم، وانتشر البلاء وعم، ولهذا تجد أن كتب الرجال تنتقدهم مثل كتاب المجروحين لـ ابن حبان -رَحِمَهُ اللَّهُ- فقد كَانَ ضد أهل الرأي، وهو في ذلك تبع للإمام البُخَارِيّ والإمام أَحْمَد -رحمهما الله- فكان إذا ذكر رجلاً من أهل الرأي يقول فيه ما يستحق من الذم، وهو من أكثر من جمع أصحاب الرأي وما اعترضوا به عَلَى دين الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وهم مجرد أصحاب قياس ونظر، لكن اعترضوا عَلَى النصوص فردوها بحجة أنها تخالف القياس، فبدأ الانحراف بتعظيم القياس والرأي والهوى مقابل العمل بالسنة.(1/543)
ويذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في حياة الإمام أَحْمَد أنه كَانَ يدرس في بغداد عَلَى عامة النَّاس كتابين: كتاب الإيمان وكتاب الأشربة يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: كَانَ يفعل ذلك لأن أصحاب الرأي -وهم الفقهاء- كَانَ لهم انتشاراً في بغداد، فكان يدرس كتاب الأشربة ليبين خطأهم في أحكام النبيذ، وكتاب الإيمان لأنهم كانوا مرجئةً في الإيمان، فكان الأئمة يعالجون الواقع ويحاولون أن يصلحوا الناس.
ثُمَّ يقول المصنف: [إن أحبار السوء هم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرمه الله ورسوله وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك] فهذا مما يفسد الدين والواجب عَلَى المسلم أن يذعن لأمر الله، وأن ينقاد له، وأن يقول كما قال أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمعنا وأطعنا، فالأحاديث التي نقرأها اليوم ونتجادل فيها سمعها أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه وما اختلفوا فيها، كانوا يسمعون ويمتثلون فلذلك كَانَ خلافهم قليلاً.
فالله تَعَالَى أنزل إلينا شريعة سمحة فطرية تتعامل مع الإِنسَان في كل زمان، ومكان، في كل بيئة ببساطة، ووضوح ويسر، وهكذا يجب أن ننظر دائماً إِلَى هذا الدين، وإلى هذه الشريعة، ونحمد الله تباك وتعالى أنه أنزلها إلينا.
إذاً: فالذين يلغون ما اعتبره الشارع، أو يعتبرون ما ألغاه، أو يقيدون ما أطلقه، أو يطلقون ما قيده، هَؤُلاءِ من جنس النوع الثاني من أنواع الفساد وهو فساد الأحبار.
جهلة العباد(1/544)
الطريق الثالث: العباد الذين يعبدون الله عَلَى جهل فقد أفسدوا الدين، كما أن العلماء الذين يفتون بالضلال أفسدوا الدين، وكذلك الحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله أفسدوا الدين، وفساد الرهبان هو عن طريق: الأذواق والمواجيد، والكشوفات، والرؤى والأحلام، فعارضوا شرع الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بأمثال هذه الأمور.
ومعلوم قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً وجاء تائباً فَدُل عَلَى رجل عابد فذهب إِلَى أحد عباد السوء، وعباد الجهل، فقَالَ: إنني قد قتلت تسعة وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ قَالَ: لا أجد لك توبة، فقَالَ: ما دام أنه لا توبة لي فسوف أكمل بك المائة، فأكمل به المائة فلما ذهب إِلَى العالم البصير بالحق أفتاه بالحق، وقال له: إن التوبة لا تحجب، ولكن اذهب إِلَى أرض كذا، فإنها أرض خير، فذهب وكان ما قص رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من توبته وقبول الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لها.
فهَؤُلاءِ العباد الجهلة يفسدون الدين بظاهر أحوالهم ويتعبدون بغير ما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإذا قلت له: هذا الذكر لم يشرع أو لم يرد لا في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف فإنه يقول لك: نعم، ولكنا كوشفنا به إما في المنام كما هو عند البعض، أو بمخاطبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقظة، بل بعضهم يقول بمخاطبة الله جل جلاله له سماعاً.
ولهذا يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [والرهبان هم جهال المتصوفة المعترضون عَلَى حقائق الإيمان والشرع بالأذواق، والمواجيد، والخيالات، والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال الدين الذي شرعه عَلَى لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس] .(1/545)
والانحراف يقع بالتدريج، حتى في العبادات، فإن أول ما وقع الافتراق هو أنه وقع غلو بعض عبادة البصرة في التعبد، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في العبادة واضحة، فأم المؤمنينعَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْها- مثلاً تجزم بأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زاد عَلَى إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غيره، لكن لنفرض أن أحداً زاد وعمل ببعض الأدلة العامة، لكن لم يكن في السلف من يقوم الليل كله، أو يصوم النهار كله، ويصبح في العذاب الذي فعله هَؤُلاءِ العباد، وقد كَانَ السلف الصالح أخشع النَّاس قلوباً، ولن يخشع أحد من سماع القُرْآن أكثر من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً، ومع ذلك فلم يعهد عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا آية سقط أحدهم مغشياً عليه أو يموت، وإنما الذي روي من ذلك حالات قليلة لا تتناسب مع كثرة الصحابة وقوة إيمانهم.(1/546)
فلما ظهر الجيل الثاني والثالث: بدأ نوع من الضعف والنقص، فوجد من إذا سمع آية يغمى عليه أو قد يموت، وهو معذور عَلَى أية حال، وهذا من حسن الخاتمة - إن شاء الله- كما وقع لزرارة بن أوفى -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- فإنه لما سمع قول الله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] سقط وهو في الصلاة ومات فهذا من قوة الإيمان ومن حسن الخاتمة له -إن شاء الله-، لكن جَاءَ أناس فجعلوا مقياس التأثر من سماع القُرْآن هو أن يقع الإِنسَان وأن يغمى عليه، حتى أنهم أخذوا يفضلون بعض أئمة التصوف الذين كَانَ يغمى عليهم من الذكر، عَلَى أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبادة، فيقولون: أُولَئِكَ اشتغلوا بالجهاد واشتغلوا بكذا ولم يتفرغوا للعبادة، لكن هَؤُلاءِ الشيوخ تفرغوا للعبادة فكانوا إذا سمعوا الآية أو الحديث أو ذكروا الموت أو الآخرة يغمى عَلَى أحدهم وقد يموت، فيتوهم العامة أن هَؤُلاءِ أفضل من أولئك؛ لأن العوام لا يوجد عندهم إدراك لحقائق الأمور، فتبدأ هذه الأمور تدريجياً عند النَّاس فيتغير معيار العبودية الصحيح، ويتحول إِلَى أمور لم تشرع وليست هي الأساس وإنما يقع الانحراف قليلاً قليلاً.(1/547)
حتى إن بعض جهلة الصوفية فضل سماع القصائد والأشعار التي توقف القلب وتأتي بالذوق الإيماني -كما يقول- عَلَى سماع القُرْآن من سبعة أوجه، فذكر منها أنه يلين القلب، وأنه يحرك الساكن، وأنه يتكلم عن فناء الدنيا، والقرآن فيه الحديث عن الأحكام والحلال والحرام، أما الشعر فكله في الوجد، وكله في المحبوب، وهذا يجعله ذاكراً الله والآخرة، فهكذا يقع الفساد الكبير عندما يترك الإِنسَان الكتاب والسنة ويأخذ عن الزهاد والضُلال والعباد ويعارض به ما جَاءَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا ينظرون إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيف عبد الله؟ وكيف قام وصلى؟ وكيف أفطر وصام؟ وكيف زكى؟ وكيف كَانَ توكله وأصحابه صلوات الله عليهم أجمعين؟
بل إن الصوفية قد تجرأت حتى عَلَى الصحابة الكرام فمن ذلك أنه لما جاءت الغنيمة من البحرين وكثر الصحابة وامتلأ المسجد فتعجب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كثرتهم، وقَالَ: لعله بلغكم أن أبا عبيدة قدم بالمال من البحرين، فجاءوا من الأطراف يريدون العطاء والحاجة إِلَى المال، الحاجة إِلَى الإنفاق عَلَى العيال حاجة فطرية صحيحة ليس فيها اعتراض عَلَى دين الله، لكن هَؤُلاءِ الصوفية قالوا: هذا ليس توكلاً، التوكل أن تسير في البرية والخلاء بلا زاد، هذا أعلى درجة.(1/548)
والدرجة الثانية: أن يجلس في المسجد أو أي مكان آخر ولا يتعرض لأسباب الكسب، لهذا لما قيل للإمام أَحْمَد أو غيره، قيل: إن فلاناً عنده توكل، ويجلس في المسجد قَالَ: إنما توكل عَلَى المتصدقين، ولم يتوكل عَلَى الله، فهو يعلم أن المصلين سيأتون ويتصدقون بمال أو طعام، إذاً أين التوكل؟ فأفسدوا معنى التوكل وحقيقته، وكذلك أفسدوا معنى الصبر وأفسدوا معنى الرضا بالقضاء والقدر، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول: إلا ما يرضي ربنا عَزَّ وَجَلَّ) هكذا علمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصبر وعلمنا الرضا بالقضاء.
أما هَؤُلاءِ العباد الضلال الجهال فأحدهم مات له ابن فما رؤي أحد أكثر منه في ذلك اليوم تطيباً قَالَ: حتى أثبت أني راضٍ، فهل أمر الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- إذا مات ابنك أن تفعل هذا؟
وكذلك التواضع، فقد أمرنا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يتواضع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأقل الناس، ويسمع أحوالهم، ويرى أمورهم، هذا التواضع الذي علمنا إياه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمرنا به، لكن هم كيف تواضعهم؟ قال أحدهم لأحد المشائخ: جئنا نتعلم منك التواضع؟ قال له: خذ مخلاه-الذي توضع عَلَى الدواب- وضعها عَلَى عنقك واملأها بالجوز واحلق لحيتك وانزل إِلَى السوق وقل للناس: كل من لكمني لكمة أعطيته جوزه، فإذا لطموك كلهم وانتهى الجوز فإنك ترجع وقد تعلمت الخشوع والتواضع.
ومن طوامهم أيضاً أنهم قالوا: القتلى نوعان:
قتيل العدو، وقتيل الحبيب.
قتيل العدو هو: المسلم الذي جاهد الكفار فقتلوه.
وقتيل الحبيب هو: الذي قتله الحب، يذكر الله ويبكي بهذه المحبة الهائلة الهائمة ويموت في حالة الفناء، ويقولون: شتان ما بين قتيل الحبيب وقتيل العدو!
يقولون: هذا هو الفرق، إذاً: لا جهاد للأعداء، ولا قتال للكفار.(1/549)
وهناك أمثلة كثيرة جداً تطول لو أردنا أن نستعرضها كلها، وهذه نماذج لما أفسد به الرهبان الصوفية في الأمة، فتكون النتيجة كما قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عن هَؤُلاءِ الثلاثة: [فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة، وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل، وقال أصحاب الذوق -الصوفية -: إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع، قدمنا الذوق والكشف] ، هذه الثلاثة: هي أصل الضلالات في الاعتراض عَلَى دين الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وعلى شرعه.(1/550)
شرح العقيدة الطحاوية
كلام الله
فضيلة الشيخ د. سفر بن عبد الرحمن الحوالي
إثبات صفة الكلام من المواضيع الخطيرة الجليلة، فقد حدث فيها من الافتراق بين الأمة ما لم يحدث في أي موضوع آخر من موضوعات العقيدة، فقد كَانَ أكثر موضوعات العقيدة خلافاً هو موضوع الإيمان، وأكثر المجالات التي تصارعت فيها الفرق واختلفت فيها الآراء منذ أن ظهرت الخوارج إِلَى القرن الثاني.
فلما ظهر القول بخلق القُرْآن وإنكار كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أصبحت قضية الكلام هي أخطر وأكبر قضية اختلف فيها الناس، وتجادلت فيها الفرق، وتنوزعت فيها الآراء.
هل عرف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته التفلسف
لم يكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أصحابه يعرفون التفلسف والتمنطق والابتداع، وإنما كانوا يؤمنون بما أنزل الله ويتبعون ما جَاءَ من عند الله ويعلمون أن ربهم -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أجلَّ وأعظم من أن يكون صنماً لا يتكلم، كيف والهدى إنما نزل إليهم بكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟!
وكيف ذلك وهم إنما يحرصون عَلَى القرآن؛ لأنه كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟! فالله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول لنبيه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ [التوبة:6] وكيف ذلك والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يقول في حق اليهود: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] فالرب والإله المعبود الذي لا يتكلم ولا يهدي، يسمى جماداً وصنماً، فلا يستحق أن يعبد: كالأحجار التي يعبدها الكفار، والأشجار والنيران والأبقار وبقية الأوثان التي يعبدونها من دون الله لا تكلمهم ولا تهديهم سبيلاً.(1/551)
هكذا كَانَ العجل الذي عبده بنو إسرائيل فجاء أحفاد عبدة العجل ليعلِّموا الْمُسْلِمِينَ أن ربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا يُكلمهم ولا يهديهم سبيلاً: أما الكلام فقد أنكروه، وأما الهداية، فَقَالُوا: إن العقول تستقل بمعرفة الحق، والبراهين العقلية قائمة. وما جَاءَ في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موافقاً للبراهين العقلية قبلوه، وما جَاءَ مخالفاً لها ردوه فجعلوا لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى صفات العجل: لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] وهذا ظلم منهم وشرك لاتخاذهم إلهاً غير الله، والدليل عَلَى كذبهم في ذلك وإفكهم وأنهم مُشْرِكُونَ، حال هذا الإله الذي عبدوه وهو أنه لا يُكَلِّمُهُم وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ [الأعراف:148] .
أول من عرف عنه بدعة القول بخلق القرآن
ومنذ أن ظهر القول بخلق القرآن، اُمِتَحنت الأمة من أجلها امتحاناً عظيماً، وأَحدثَتْ من الانشقاق والاختلاف بين الْمُسْلِمِينَ ما لا يُرأب صدعه إِلَى قيام الساعة، ولا يزال الخلاف إِلَى الآن قائماً، وسيظل إلا أن يرجع أهل البدع والضلال إِلَى كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والتابعين لهم بإحسان، من القرون المفضلة المشهود لها بالخيريه عَلَى لسان نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث قال: (خير النَّاس قرني ثُمَّ الذين يلونهم ثُمَّ الذين يلونهم) لم تعرف عندهم هذه البدعة، ولم يقل بها أحد من السلف الصالح قط.(1/552)
وأول من أثرت عنه وعرفت عنه من المبتدعة رجل شاذ لا قيمة له في العلم، ولا في الفقه، ولا معرفة له بما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، يُقال له: الجعد بن درهم كَانَ في آواخر عصر الدولة الأموية، وكان مؤدباً لمروان بن محمد آخر ملوك بني أمية، وعندما انتهى حكمه سنة مائة واثنين وثلاثين هجرية وقامت الدولة العباسية، هرب إِلَى مصر، ثُمَّ قبض عليه وقتل هناك وكان يُلقب بمروان الحمار؛ لأنه واجه في عصره شدائد، فقد ثارت عليه البلاد من كل ناحية، واستولى العباسيون وغيرهم عَلَى أجزاء من الدولة، وكان يحارب ويجاهد ويكافح من أجل بقاء الخلافة، فلقبه المؤرخون بالحمار لكثرة تحمله وشدة جلده.
الحمار أستاذه الجعد بن درهم
لقد كَانَ مؤدب ومعلم مروان: هو الجعد بن درهم ولهذا لا نستغرب أن تسقط دولة مروان؛ لأن من كَانَ المبتدعة أساتذته وهم الذين يربونه؛ لم تكن عاقبته إلا الخسارة.
ولذلك يقال لمروان: مروان الجعدي، لأنه اشتهر به لكثرة ملازمته وتربيته له، والجعد بن درهم لما أن أظهر بدعة القول بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يتكلم، ولم يكلم موسى عَلَيْهِ السَّلام ولا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يكلم أحداً مطلقاً وأنكر أيضاً أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُ أو يُحَبُ، وأنكر أن يكون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى اتخذ إبراهيم، ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خليلين.
سند القول بخلق القرآن وفائدة في الأخبار المشهورة(1/553)
لقد أخذ الجعد بن درهم مسأله القول بخلق القُرْآن عن بيان بن سمعان أحد المبتدعة، وهو أخذها عن طالوت اليهودي وطالوت أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولبيد أخذها عن أحد اليهودباليمن، وليس من المهم معرفة أول من قال بها، ولا يشترط لمثل هذه القضية أن يكون لها إسناد صحيح؛ لأن أهل البدع لا يقبل حديثهم، ولاكلامهم، ولو نظرنا بالنظرة الحديثية وبالنقد الحديثي لم نقبل حديث الجعد ولا بيان ولا طالوت ولا لبيد فكلهم غير مقبولين عندنا في الحديث.
لكن مثل هذه الأخبار إذا نقلها علماء الإسلام وأظهروها، فإننا نأخذها لشهرتها كأي خبر تاريخي يشتهر فيؤخذ ما لم يوجد دليل عَلَى نفيه، وما لم يوجد دليل عَلَى ضده، وسند هذا الكلام ذكره شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وابن القيم والحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، وذكره قبلهم كثير ممن كتب في العقيدة عَلَى منهج السلف، ورووا ذلك بالأسانيد، وممن ذكر ذلك بالسند الخطيب البغدادي وأمثال هَؤُلاءِ العلماء الذين يذكرونها بالسند.
وقفة مع كلام الشيخ الأرنؤوط على هذا الاسناد
إذا أتى آت كالشيخ الأرنؤوط جزاه الله خيراً وقَالَ: إن هذا السند لم يذكره ابن كثير لا يعول عليه؛ لأن الحافظ الذهبي ترجم للجعد بن درهم في سير أعلام النبلاء (5/ 433) ، وذكر فيه أن إسناده في إنكار الصفات يرجع إِلَى اليهودبمثل ما ذكرنا.
وذكرالذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً أن خالد بن عبد الله القسري أحد ولاة بني أمية قتل الجعد بن درهم وضحى به في يوم الأضحى، عندما كَانَ النَّاس مجتمعين لصلاة العيد، فقام فيهم قائلاً: أيها النَّاس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعدِ بن درهم، فإنه أنكر أن الله كلمَّ موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، ثُمَّ نزل من عَلَى المنبر فذبحه.(1/554)
قال الشيخ الأرنؤوط: إن هذا السند غير ثابت، ولم يصلنا إسناد صحيح، وبناءاً عليه، فإن الرجل ربما قتل لأن القضية كانت سياسية، وليس من أجل العقيدة والابتداع، ويقول: إنه لم يعرف عن ولاة بني أمية أنهم كانوا يقتلون الرجل لأجل العقيدة، وإنما يقتلونه لأجل مخالفته لهم في السياسة والحكم.
قلتُ: وهذا الكلام احتمال لا دليل عليه وما دام أن الشيخ لم يأتينا بما يثبت أنه كَانَ بين الجعد بن درهم وبين خالد أو بين بني أمية قضية سياسية قتلوه من أجلها فيظل هذا مجرد احتمال، والاحتمالات لا نعمل بها مع ورود الخبر الذي نقله المؤرخون، مثل ابن عساكر والخطيب البغدادي في كتبهم، لا سيما وقد ذكر المؤرخون فيما بعد أنه قتل لهذا السبب وأن خالد بن عبد الله قَالَ: الكلام السابق، وعلى ذلك فإننا لا نستطيع رد هذا الكلام إلا بدليل، وليس هناك ثُمَّ دليل عَلَى أن السبب كَانَ قضية سياسية
وقفات مع خلفاء بني أمية
وأما القول بأن خلفاء بني أمية لم يكونوا يقتلون أحداً من أجل عقيدته، فهذا غير صحيح، فإن الدولة الأموية كانت بعد عصر الراشدين وقامت هذه الدولة مع وجود عدد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان عبد الملك بن مروان -على سبيل المثال- صنواً ونظيراً لسيد التابعين سعيد بن المسيب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، طلبا العلم معاً، وطلبا الحديث والفقه، وكان له ما كَانَ لسعيد من المكانة العلمية، لكنه انصرف في آخر أمره إِلَى الدولة وانشغل بتدبيرها، ثُمَّ كَانَ الوليد بن عبد الملك من بعده حريصاً عَلَى العلم وعلى الجهاد والدعوة، فالقصد أنه وجد في خلفاء بني أمية الكثير من أهل الفضل والتقوى والصلاح.
لا يطعن في معاوية إلا زنديق(1/555)
وإن من خلفاء بني أمية معاوية رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وهو صحابي جليل لا يطعن فيه إلا زنديق، وابنه يزيد بن معاوية كَانَ قائد الجيش الذي فتح القسطنطينية وقد صح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
(أول جيش من أمتي يغزو القسطنطينية مغفور له) .
الخلفاء الإثنى عشر وعمر بن عبد العزيز
وكذلك في بني أمية عمر بن عبد العزيز، ولا يستطيع أي مؤرخ أو عالم بالرجال أن ينكر فضله وحسن سيرته التي كانت مشابهة لسيرة جده عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وكان فيهم من الرجال الذين كانوا عزاً للإسلام ويشهد لذلك الحديث الصحيح المتفق عليه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا يزال هذا الدين عزيزاً ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش) والتفسير الأوجه والأولى والأصح أن يقَالَ: إن الإثنى عشر خليفة هَؤُلاءِ قد مروا، وهم الخلفاء الذين سبقوا، فمنهم الخلفاء الراشدون الأربعة ثُمَّ الذين من بعدهم من بني أمية قطعاً؛ لأن الفتوحات في عهد بني أمية توسعت، وعز الإسلام عزاً عظيماً لم يبلغه في أية مرحلة من المراحل، وكان الدين عزيزاً أيضاً مع وحدة الكلمة، والْمُسْلِمُونَ كلهم جميعاً منضوون تحت لواء خلافة واحدة.
بخلاف الحال في بني العباس فقد تفككت الخلافة في عهدهم.
فتوحات قتيبه بن مسلم(1/556)
أقسم قتيبة بن مسلم قائد جيوش الوليد بن عبد الملك في المشرق لما ولي القيادة أنه ليطأنَّ أرض الصين، وتوغل في بلاد ما وراء النهر إِلَى أن وصل إِلَى تركستان التي هي الآن خاضعة للصين فأرسل ملك الصين إليه وزراءه ووفده، وقالوا له: لا تدخل إِلَى أرضنا ونحن نرضيك بما تشاء وندفع لك من الجزية ما تشاء، فَقَالَ لهم: أقسمت أن أطأ أرض الصين قالوا: نَحْنُ نعطيك تحله اليمين، فذهب وفد ملك الصين وأخذوا تراباً من تراب الصين وحملوه وجاءوا به إِلَى قتيبة، فوطأه بقدمه ووقف عليه، وأخذ منهم الجزية وهم صاغرون، إذاً فهذا عز عظيم للإسلام.
وفي المغرب كَانَ موسى بن نصير وطارق بن زياد يريدان أن يفتحا الأندلس، ومنها ينطلقان فيفتحا جنوبأوروبا، ثُمَّ تكن حركة التفاف كبرى إِلَى أن يصلوا القسطنطينية التي هي اليوماسطنبول، وذلك عن طريق اقتحام أوروبا من الخلف حتى يصلوا إلىالقسطنطينية، ويلتقوا مع الجيش الذي جَاءَ من الشرق فيفتحوا هذه المدينة التي كَانَ فتحها نصراً وعزاً للإسلام، وكان الْمُسْلِمُونَ يتلهفون لفتحها دائماً فبلغ الإسلام قوة عظمى في عهد بني أمية وبهذا ينطبق عَلَى خلفائهم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يزال هذا الدين عزيزاً ما وليه اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(1/557)
ثُمَّ نقول: إن القول بأن بني أمية لا يقتلون الرجل من أجل العقيدة ليس بصحيح، فهذا الجهم بن صفوان تلميذالجعد بن درهم قتل من أجل عقيدته وبدعته، حتى أن سلم بن أحوز الذي كَانَ والي الشرطة في خراسان لما قُبض عَلَى الجهم وجيء به قَالَ: له الجهم اصفح عني، واعف، فَقَالَ سلم بن أحوز: والله يا جهم لا أقتلك لأنك ذو شأن عندي، ولكنني منذ أن سمعت بدعتك أقسمت بالله أنني لن أفلتك من القتل أبداً متى ما ظفرت بك، وكذلك قتل الجعد من أجل بدعته كما سبق، وهذا الموقف الذي وقفه خالد بن عبد الله أوسلم بن أحوز وأمثاله من ولاة بني أمية في محاربة أهل البدع هو الذي يجب أن يكون عليه الْمُسْلِمُونَ دائماً، وهذا موقف محمود مشكور لولاة بني أمية، فلا يليق بنا بعد ذلك أن نحاول أن نطعن فيهم أو أن نقول: إن العمل هذا لم يكن لوجه الله، أولم يكن لأجل العقيدة، فالواجب عَلَى كل من وُليّ أمر الْمُسْلِمِينَ، ورأى من يفسد الدين بالعقيدة الفاسدة، أن يعاقبه بذلك، وهذه قاعدة متفق عليها بين العلماء، ويدل عليها قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة) فالمفارق للجماعة لبدعة من البدع التي تخل بالدين وتهدمه يجب قتله؛ لأن في ذلك مصلحة وراحة وإقامة للدين.
مكانة قتال المرتدين من قتال الفرس والروم
قتال المرتدين أهم من قتال الروم والفرس، فقد أجمع الصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- عَلَى قتال الخوارج؛ لأنهم أهل بدع، وقتال أهل البدع أصل معروف مشهور عند علماء الْمُسْلِمِينَ قديماً وحديثاً.
ولا ينبغي لنا أن نخرج هذه الأعمال التي قام بها ولاة بني أمية عن هذا المجال، بل يشكرون عَلَى ذلك، وإن كانت لهم أخطاء أو عيوب، فإن المرء المسلم له حسنات وله سيئات والله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هو الذي يتولى الحساب وهو العليم بالسرائر.(1/558)
توضيح ما أشكل على الشيخ الأرنؤوط
وأما ما قاله الشيخ الأرنؤوط وغيره: كيف يكونالجعد أخذ هذه المقالة عن اليهودمع أن المشهور عنهم هو التشبيه والتمثيل، وأن الرافضة كانوا عَلَى التشبيه؛ لأنهم نقلوه عن اليهود، وفي التوراة المحرفة -الموجودة إِلَى الآن- كثيرٌ من التشبيه والتمثيل لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بخلقه الذي لا يليق بجلال الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟
فالجواب: أن الجعد بن درهم إنما نقل ذلك عن الفلاسفة اليهودلا عن الأحبار المتمسكين بالتوراة.
يوجد في كل أمة فلاسفتها، فكما أنه يوجد في الْمُسْلِمِينَ الفلاسفة الذين أنكروا حقائق الأسماء والصفات، فكذلك في اليهود والنَّصارَى، ويبين ذلك أنه لما طلب المأمون من ملك الروم أن يبعث له بما لديهم من كتب الفلسفة والمنطق وكتب اليونان وكتب الأوائل فاستاشار الملك بطانته فَقَالُوا: كيف نعطيهم تراثنا، فَقَالَ أحد الأساقفة وكان ذكياً لبيباً فطناً: ابعثوا بها إليهم فوالله ما تعلمها أصحاب دين إلا كانت وبالاً عليهم؟ وهذا هو الذي هدم دين موسى عَلَيْهِ السَّلام عندما دخل اليهود في الفلسفة وكان منهم الفيلسوف اليوناني المشهور أفلاطون وأفلاطين غيرأفلاطون فأفلاطون هو الفيلسوف اليوناني المعروف، وأما أفلاطين فإليك الحديث عنه.
أفلاطين ودخول الفلسفة في دين اليهود(1/559)
أفلاطين رجل يهودي أدخل الفلسفة في دين اليهود، وأخذ كلام أفلاطون وعدل ونقح وزاد فيه كما فعل ابن رشد وأمثاله في الإسلام ويسمى مذهبه الأفلاطونية الجديدة أو الأفلاطونية الحديثة، أما الأفلاطونية القديمة هي أفلاطونية أفلاطون والأفلاطونية الجديدة هي الأفلاطونية اليهودية وأفلاطين اليهودي كَانَ قبل ميلاد المسيح عَلَيْهِ السَّلام بأكثر من قرنين واليهود كَانَ فيهم المتمسكون بالتوراة، وهَؤُلاءِ فيهم التمثيل والتشبيه، ولكن المتفلسفين من اليهودأمثال أفلاطين وأشياعه ينكرون الصفات، وكانوا عَلَى مذهب اليونان، فعندما نقول: إن أصل إنكار الصفات عن اليهودلا يعني بالضرورة أنه منقول عن الأحبار المؤمنين بالتوراة، وإنما هو عن فلاسفة اليهود والشيء الآخر الذي يؤيد ذلك أن الجعد بن درهم -كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ - كَانَ من أهل حران من بلاد الشام، وهَؤُلاءِ كانوا عَلَى دين الصابئة، وما تزال الصابئة في تلك البقاع إِلَى اليوم، وهم -والله أعلم- كانوا قوم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الذين انحرفوا عن التوحيد، فقد كانوا يعبدون الكواكب، ثُمَّ دخلتهم الفلسفة، وأصبحوا يفلسفون العقائد والأمور بناءً عَلَى عبادة الكواكب، ومن فلاسفتهم من ينكر صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نفس المنهج اليوناني القديم.
نشأه الجعد بن درهم في بلاد الفلاسفة(1/560)
كان الجعد يعيش في بلاد الفلاسفة، وتعلم من فلاسفتها بدعة القول بخلق القرآن، ومما يذكر أن بعض المؤرخين والباحثين يقولون إن المعتزلة أخذوا القول بإنكار الصفات من النَّصَارَى، فانبرى بعض الباحثين الْمُسْلِمِينَ، وقَالَ: إن هذا من تشويه التاريخ الإسلامي أو كلما كَانَ لدينا رجل مفكر أو مبتكر أو عبقري يأتي الغربيون وينسبونه إِلَى اليهود والنَّصَارَى، وأخذ يدافع عنهم ويقول: إن المعتزلة أخذوا هذا من القرآن، وأرادوا أن ينزهوا القرآن، وهذا المدافع مخطئ وكلامه غير صحيح، بل المعتزلة فعلاً ومن كَانَ مع الجعد أو بعده أخذوا القول بأن كلام الله مخلوق عن النَّصَارَى لأن النَّصَارَىيعتقدون أو يسمون عيسى عَلَيْهِ السَّلام الكلمة، ولا غبار عَلَى التسمية؛ لأن ذلك جَاءَ في الكتاب، وجاء في الحديث الصحيح أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام هو كلمة الله، وهم يقولون: كما في إنجيليوحنا، وهو الإنجيل الذي كتب خصيصاً لإثبات ألوهية المسيح كما يعترف بذلك علماء النَّصَارَىالموجودين اليوم أن الكلمة -أي: عيسى عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ عند الله.
تناقض واضح في عقيدة النصارى
كان في البداية إطلاق الكلمة تعني عيسى عَلَيْهِ السَّلام. ثُمَّ أصبح عندهم هو الله فكيف كَانَ عند الله ثُمَّ هو الله؟ سُبْحانَ اللَّه هذا تناقض واضح في عقيدة النَّصَارَى، ولا يخفى ذلك عَلَى أي عاقل.(1/561)
فالنَّصَارَى يقولون: إن عيسى هو الكلمة، وهذه الكلمة مخلوقة، أي: أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام مخلوق إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ َ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] ، فعيسى عَلَيْهِ السَّلام كلمة الله بمعنى أن الله خلقه بكلمة منه كُنْ فَيَكُونُ، فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ الذي هو قوله كُنْ غير مخلوق، وإنما المخلوق هو عيسى عَلَيْهِ السَّلام أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فالأمر غير الخلق فكلمة كُنْ كلام الله وعيسى أو أي مخلوق آخر يقول له الله تعالى: كن فيكون، هو خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لكن القوم لما استمرؤوا أِن يسموه الكلمة، وهو في نفس الوقت يقولون: هو الله.
المعتزلة تناقش النصارى
وجاء بعض الْمُسْلِمِينَ المحتكون بعقائد النَّصَارَىمن أمثال المعتزلة فقال لهم النَّصَارَى: إن القُرْآن مخلوق، فَقَالَ المعتزلة: لا، إنه ليس بمخلوق، هذا كلام الله، فَقَالُوا: أنتم تقولون -أيها الْمُسْلِمُونَ-: إن عيسى كلمة الله، وتوافقون عَلَى أنه كلمة، وتقولون إن عيسى مخلوق!! ولنا نَحْنُ أن نقول: إن عيسى إله وذلك أنكم -أيها المعتزلة - تقولون: القُرْآن كلام الله غير مخلوق، بل هو من صفات الله، إذاً نَحْنُ وإياكم سواء! فما الذي تعيبون علينا.
أنكر المعتزلة ذلك، ثُمَّ قالوا: القُرْآن ليس كلام الله، القُرْآن مخلوق!! هكذا قال المعتزلة فِراراً من ذلك، وحتى لا يُقَالَ: إن القدماء متعددون كالنَّصَارَى، فالنَّصَارَى يقولون: في الأزل الآلهة القدماء -كما يسمونهم- متعددون وهم ثلاثة: الأب، والأبن، وروح القدس، أو الله، والكلمة، وروح القدس، هَؤُلاءِ كلهم قدماء.
أي: هَؤُلاءِ الثلاثة هم في الأزل، فَقَالَ النَّصَارَى للمعتزلة: إذا قلتم أيضاً: إن القُرْآن قديم، فقد صرتم مثلنا، إذاً فلماذا تنتقدوننا؟!(1/562)
فأجاب المعتزلة وَقَالُوا: إن الله خلق القُرْآن كما خلق آدم، وخلق الشجر والحجر، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا يتبين لنا كيف كَانَ تأثير اليهود والنَّصَارَى عَلَى عقيدة القول بخلق القرآن، وأن الذين اختلقوا وابتدعوا هذه البدعة إنما كانوا في الأصل من فروخ الصابئة واليهود والنَّصَارَى، ولم يأخذوا هذه المقالة من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من كلام الصحابة، ولا من كلام أحد من علماء الإسلام أبداً.
بل الثابت المنقول عن علماء الإسلام أن القُرْآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر الأئمة من ذلك نقولاً كثيرة طويلة منهم عَلَى سبيل المثال الإمام اللالكائي.
الإمام اللالكائي ينقل لنا أقوال السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق
لقد ذكر الإمام اللالكائي صاحبشرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإنه ذكر أسماء العلماء من الصحابة إِلَى عقود متأخرة طبقة طبقة في المدينة، وفي الكوفة، وبغداد والبصرة، وفي كل البلاد: من علماء الحديث، والرجال، والفقه، والتفسير أنهم يقولون: القُرْآن كلام الله، ومن قَالَ: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأنه كذَّب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وسوف نعرض بإذن الله الأدلة والأقوال مذهباً مذهباً ونبين بطلان تلك المذاهب.(1/563)
يوجد في كل أمة فلاسفتها، فكما أنه يوجد في الْمُسْلِمِينَ الفلاسفة الذين أنكروا حقائق الأسماء والصفات، فكذلك في اليهود والنَّصارَى، ويبين ذلك أنه لما طلب المأمون من ملك الروم أن يبعث له بما لديهم من كتب الفلسفة والمنطق وكتب اليونان وكتب الأوائل فاستاشار الملك بطانته فَقَالُوا: كيف نعطيهم تراثنا، فَقَالَ أحد الأساقفة وكان ذكياً لبيباً فطناً: ابعثوا بها إليهم فوالله ما تعلمها أصحاب دين إلا كانت وبالاً عليهم؟ وهذا هو الذي هدم دين موسى عَلَيْهِ السَّلام عندما دخل اليهود في الفلسفة وكان منهم الفيلسوف اليوناني المشهور أفلاطون وأفلاطين غيرأفلاطون فأفلاطون هو الفيلسوف اليوناني المعروف، وأما أفلاطين فإليك الحديث عنه.
أفلاطين ودخول الفلسفة في دين اليهود(1/564)
أفلاطين رجل يهودي أدخل الفلسفة في دين اليهود، وأخذ كلام أفلاطون وعدل ونقح وزاد فيه كما فعل ابن رشد وأمثاله في الإسلام ويسمى مذهبه الأفلاطونية الجديدة أو الأفلاطونية الحديثة، أما الأفلاطونية القديمة هي أفلاطونية أفلاطون والأفلاطونية الجديدة هي الأفلاطونية اليهودية وأفلاطين اليهودي كَانَ قبل ميلاد المسيح عَلَيْهِ السَّلام بأكثر من قرنين واليهود كَانَ فيهم المتمسكون بالتوراة، وهَؤُلاءِ فيهم التمثيل والتشبيه، ولكن المتفلسفين من اليهودأمثال أفلاطين وأشياعه ينكرون الصفات، وكانوا عَلَى مذهب اليونان، فعندما نقول: إن أصل إنكار الصفات عن اليهودلا يعني بالضرورة أنه منقول عن الأحبار المؤمنين بالتوراة، وإنما هو عن فلاسفة اليهود والشيء الآخر الذي يؤيد ذلك أن الجعد بن درهم -كما يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ - كَانَ من أهل حران من بلاد الشام، وهَؤُلاءِ كانوا عَلَى دين الصابئة، وما تزال الصابئة في تلك البقاع إِلَى اليوم، وهم -والله أعلم- كانوا قوم إبراهيم عَلَيْهِ السَّلام الذين انحرفوا عن التوحيد، فقد كانوا يعبدون الكواكب، ثُمَّ دخلتهم الفلسفة، وأصبحوا يفلسفون العقائد والأمور بناءً عَلَى عبادة الكواكب، ومن فلاسفتهم من ينكر صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نفس المنهج اليوناني القديم.
نشأه الجعد بن درهم في بلاد الفلاسفة(1/565)
كان الجعد يعيش في بلاد الفلاسفة، وتعلم من فلاسفتها بدعة القول بخلق القرآن، ومما يذكر أن بعض المؤرخين والباحثين يقولون إن المعتزلة أخذوا القول بإنكار الصفات من النَّصَارَى، فانبرى بعض الباحثين الْمُسْلِمِينَ، وقَالَ: إن هذا من تشويه التاريخ الإسلامي أو كلما كَانَ لدينا رجل مفكر أو مبتكر أو عبقري يأتي الغربيون وينسبونه إِلَى اليهود والنَّصَارَى، وأخذ يدافع عنهم ويقول: إن المعتزلة أخذوا هذا من القرآن، وأرادوا أن ينزهوا القرآن، وهذا المدافع مخطئ وكلامه غير صحيح، بل المعتزلة فعلاً ومن كَانَ مع الجعد أو بعده أخذوا القول بأن كلام الله مخلوق عن النَّصَارَى لأن النَّصَارَىيعتقدون أو يسمون عيسى عَلَيْهِ السَّلام الكلمة، ولا غبار عَلَى التسمية؛ لأن ذلك جَاءَ في الكتاب، وجاء في الحديث الصحيح أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام هو كلمة الله، وهم يقولون: كما في إنجيليوحنا، وهو الإنجيل الذي كتب خصيصاً لإثبات ألوهية المسيح كما يعترف بذلك علماء النَّصَارَىالموجودين اليوم أن الكلمة -أي: عيسى عَلَيْهِ السَّلام- كَانَ عند الله.
تناقض واضح في عقيدة النصارى
كان في البداية إطلاق الكلمة تعني عيسى عَلَيْهِ السَّلام. ثُمَّ أصبح عندهم هو الله فكيف كَانَ عند الله ثُمَّ هو الله؟ سُبْحانَ اللَّه هذا تناقض واضح في عقيدة النَّصَارَى، ولا يخفى ذلك عَلَى أي عاقل.(1/566)
فالنَّصَارَى يقولون: إن عيسى هو الكلمة، وهذه الكلمة مخلوقة، أي: أن عيسى عَلَيْهِ السَّلام مخلوق إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ َ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] ، فعيسى عَلَيْهِ السَّلام كلمة الله بمعنى أن الله خلقه بكلمة منه كُنْ فَيَكُونُ، فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ الذي هو قوله كُنْ غير مخلوق، وإنما المخلوق هو عيسى عَلَيْهِ السَّلام أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فالأمر غير الخلق فكلمة كُنْ كلام الله وعيسى أو أي مخلوق آخر يقول له الله تعالى: كن فيكون، هو خلق الله -عَزَّ وَجَلَّ- لكن القوم لما استمرؤوا أِن يسموه الكلمة، وهو في نفس الوقت يقولون: هو الله.
المعتزلة تناقش النصارى
وجاء بعض الْمُسْلِمِينَ المحتكون بعقائد النَّصَارَىمن أمثال المعتزلة فقال لهم النَّصَارَى: إن القُرْآن مخلوق، فَقَالَ المعتزلة: لا، إنه ليس بمخلوق، هذا كلام الله، فَقَالُوا: أنتم تقولون -أيها الْمُسْلِمُونَ-: إن عيسى كلمة الله، وتوافقون عَلَى أنه كلمة، وتقولون إن عيسى مخلوق!! ولنا نَحْنُ أن نقول: إن عيسى إله وذلك أنكم -أيها المعتزلة - تقولون: القُرْآن كلام الله غير مخلوق، بل هو من صفات الله، إذاً نَحْنُ وإياكم سواء! فما الذي تعيبون علينا.
أنكر المعتزلة ذلك، ثُمَّ قالوا: القُرْآن ليس كلام الله، القُرْآن مخلوق!! هكذا قال المعتزلة فِراراً من ذلك، وحتى لا يُقَالَ: إن القدماء متعددون كالنَّصَارَى، فالنَّصَارَى يقولون: في الأزل الآلهة القدماء -كما يسمونهم- متعددون وهم ثلاثة: الأب، والأبن، وروح القدس، أو الله، والكلمة، وروح القدس، هَؤُلاءِ كلهم قدماء.
أي: هَؤُلاءِ الثلاثة هم في الأزل، فَقَالَ النَّصَارَى للمعتزلة: إذا قلتم أيضاً: إن القُرْآن قديم، فقد صرتم مثلنا، إذاً فلماذا تنتقدوننا؟!(1/567)
فأجاب المعتزلة وَقَالُوا: إن الله خلق القُرْآن كما خلق آدم، وخلق الشجر والحجر، تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً، وبهذا يتبين لنا كيف كَانَ تأثير اليهود والنَّصَارَى عَلَى عقيدة القول بخلق القرآن، وأن الذين اختلقوا وابتدعوا هذه البدعة إنما كانوا في الأصل من فروخ الصابئة واليهود والنَّصَارَى، ولم يأخذوا هذه المقالة من كتاب الله، ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا من كلام الصحابة، ولا من كلام أحد من علماء الإسلام أبداً.
بل الثابت المنقول عن علماء الإسلام أن القُرْآن الكريم كلام الله غير مخلوق، وقد ذكر الأئمة من ذلك نقولاً كثيرة طويلة منهم عَلَى سبيل المثال الإمام اللالكائي.
الإمام اللالكائي ينقل لنا أقوال السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق
لقد ذكر الإمام اللالكائي صاحبشرح أصول اعتقاد أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فإنه ذكر أسماء العلماء من الصحابة إِلَى عقود متأخرة طبقة طبقة في المدينة، وفي الكوفة، وبغداد والبصرة، وفي كل البلاد: من علماء الحديث، والرجال، والفقه، والتفسير أنهم يقولون: القُرْآن كلام الله، ومن قَالَ: إنه مخلوق فقد كفر؛ لأنه كذَّب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وسوف نعرض بإذن الله الأدلة والأقوال مذهباً مذهباً ونبين بطلان تلك المذاهب.
بعد أن قتل الجعد وقتل الجهم أيضاً، وجاء عصر المأمون وترجمت الكتب أنشأ المأمون دار الحكمة لترجمة علوم اليونان، وعلوم الأوائل، وجاء المترجمون، وكان بعض مترجمي الدار من الزنادقة المشهورين مثل عبد الله بن المقفع الأديب والكاتب المشهور المعروف وأمثاله.(1/568)
فكانوا أيضاً ممن تشَّرب بتلك العقائد وآمن بها، فأخذوا يترجمون هذه الكتب ثُمَّ زينوا للمأمون أن يعتقد عقيدة خلق القُرْآن وقالوا له: إن لم تعتقد هذه العقيدة فإن النَّصارَى يفحموننا ويقولون: إننا نقول مثلهم بأن القدماء أو الآلهة متعددة، ونحن نقول إن الله وحده هو القديم.
دور بطانة السوء
زين رجال السوء للمأمون أن يعتقد القول بأن القُرْآن مخلوق حتى اعتقده واعتنقه وآمن به وكان له وزير يسمى أحمد بن أبي دؤاد وهو أبرز من زين له هذه البدعة، وكان من تلاميذ تلاميذ الجهم، فلما استقر المأمون على ذلك، لم يكتف بأن يعتقد البدعة؛ بل كتب أوامره إِلَى جميع الولاة في الدولة جميعاً أن يرغموا الناس، ويمتحنوهم عَلَى القول بخلق القرآن.
فمن قال به نجا، ومن لم يقل بذلك فإنه يجلد ويعذب ويضرب، حتى يقول بهذه العقيدة الضالة المبتدعة، ومن هنا عظمت المحنة عَلَى علماء الإسلام، وابتلوا في كل مكان بالحبس والسجن والأذى، واشتد الأمر، وعظم الخطب، ونكل بهم المبتدعة الذين ولاهم ابن أبي دؤاد، وكانوا شديدي الحقد عَلَى هَؤُلاءِ العلماء من أهل السنة الذين هم عَلَى العقيدة الصحيحة.
بلاء أهل السنة في هذه الفتنة
ومن لم يدن بهذه البدعة من الْمُسْلِمِينَ ناله بلاء عظيم ونكال كبير بسبب هذه الفتنة، ولم يبق من العلماء المشهورين إلا ثلاثة نفر، وكان الإمام أَحْمَد هو ثالثهم وأشهرهم، فأكثر العلماء تهربوا عن الجواب، أو جاملوا، وبعضهم سجن في بعض البقاع أو جلد، لكن لم يكن لهم من قوة التأثيرما كَانَ للإمام أَحْمَد.
فالإمام أَحْمَد كان في بغداد -العاصمة- وكان أكبر علماء الإسلام في عصره؛ لأن هذا الكلام كَانَ بعد وفاة الإمام الشَّافِعِيّ فقد قيل: إنه أدرك أول الفتنة.
لكن الامتحان الحقيقي كَانَ في آخر أيام المأمون، بدليل أن المأمون مات قبل أن يصل إليه الإمام أَحْمَد حين استدعاه.(1/569)
وكان الإمام أَحْمَد أكبر علماء الإسلام في الحديث، وكانت الأمة مُصغية الآذان لما يقوله الإمام أَحْمَد، فإن وافق الإمام أَحْمَد لم يبق أحد إلا وافق، وإن رفض فلا موافقة، وإن كَانَ في ذلك من الأذى ما فيه، ولهذا لما جيء بالإمام أَحْمَد وسجن جَاءَ إليه بعض النَّاس فقَالَ: يا إمام!
قد ابتُليتَ وعُذبتَ، وقد جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لك فسحة في قوله: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:10] فلماذا تعذب نفسك يا أَحْمَد؟!
الإمام أحمد يسترخص نفسه في سبيل الحق
لقد ضَرب الإمام أَحْمَد حتى انشقت خاصرته وخرجت أمعاؤه منها، من شدة ضرب السياط كل ذلك من أجل أن يقول: إن القُرْآن مخلوق، وهو يأبى أن يقول بدعتهم، وناظرهم بالحجة والبيان.
فلما أفحموا وعجزوا لجأوا إِلَى الضرب، وهذه حجة من لا يملك الحجة، وقد قال لهم الإمام أَحْمَد: تريدون أن أوافقكم عَلَى قولكم؟ قالوا: نعم.
قَالَ: اخرجوا فانظروا!
فخرجوا وإذا بالنَّاس أفواجاً وبأيديهم الأقلام، وعندهم المحابر والورق، فقالوا لهم: ماذا تنتظرون قالوا: ننتظر ما يقوله الإمام أَحْمَد فنكتبه.
فرجعوا إليه فَقَالَ لهم الإمام أَحْمَد: ماذا رأيتم؟
قالوا: رأينا النَّاس جالسين ينتظرون ما تقول، فيكتبونه.
قَالَ: والله لأن أموت أهون عليَّ من أن أُضل الناس؛ لأنه يعلم أن الكلمة التي سيقولها ستكتب وتؤخذ عَلَى أنها دين وتنتشر في الآفاق، والنَّاس لا يدرون أن الإمام أَحْمَد مُكَرَهَ؟! وأنه لا يرضى بذلك؟! وكيف يتدارك الأمر فيما بعد؟! هذا شيء غير مضمون.
ولذلك نفهم من هذا دقة فهم الإمام أَحْمَد، ففي حالة الإكراه يجوز للإنسان أن يقول كلمة الكفر، لكن إذا كَانَ الأمر يقتضي من الإِنسَان أن لا يقول الكفر وأن يقف موقف الحق، فإنه مهما أكره ومهما أوذي فإنه يجب ويتعين عليه أن لا يقولها.(1/570)
فالإمام أَحْمَد رأى أن الأمة كلها تريد أن تسمع ما يقول، فلابد حينئذٍ أن يثبت أمام هذه الضلالات ولو أدى الأمر إِلَى قتله، فيقتل ويُقَالَ: قتل؛ لأنه لم يوافقهم عَلَى كلامهم، فيبقى الحق حقاً ولو قتل من قتل في سبيل بقاء هذا الحق هكذا كَانَ رأي الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ -وقد رفعه الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذا الموقف وهذا الصبر.
لله درك يا أحمد
لقد قال كثير من علماء الإسلام: إن موقف الإمام أَحْمَد في المحنة كموقف أبي بكر الصديق يوم الردة وقد ذكرنا -سابقاً- أن المأمون لم يلتق بالإمام أَحْمَد لأن الإمام أَحْمَد دعا الله تَعَالَى أن لا يريه إياه، وفي الطريق جَاءَ الخبر بأن المأمون قد مات، وقد كَانَ الإمام أَحْمَد من قبل حدوث القول بخلق القُرْآن يتجنب السلاطين، فلا يدخل عليهم ولا يقبل هداياهم.
بل كَانَ ابنه صالح قاضياً وكان من أعدل القضاة وأعلمهم بالكتاب والسنة، وكان الإمام أَحْمَد لا يأكل من طعامه، قَالَ: لأنه يأخذ من أموال هَؤُلاءِ الظلمة، فهذا حال الإمام أَحْمَد أنه كَانَ لا يدخل عَلَى السلاطين حتى ولا في حال المودة؛ بل إن المتوكل الذي جَاءَ وأحيا السنة وأعادها، وزجر المبتدعة ونكل بهم وعذبهم حتى ماتوا ومنهم ابن أبي دؤاد، لم يكن الإمام أَحْمَد يدخل عليه، ولما أصر المتوكل عَلَى أن يزوره الإمام أَحْمَد ذهب إليه الإمام، واشترط عليه أن لا يحضر مجلسه، فكان يؤتى بالطعام فلا يأكله، وكان يواصل إلا أنه يشرب الماء، فبقي ثمانية أيام حتى كاد أن يهلك جوعاً، كما قال ابنه عبد الله وكان الذي تولى الخلافة من بعد المأمون المعتصم وهو الذي قام بتعذيب الإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ.
المعتصم رجل عسكري والمأمون رجل فلسفي(1/571)
لم يكن المعتصم مثل المأمون، فلقد كَانَ المأمون رجلاً فلسفياً متبحراً في العلم والجدال والفلسفة التي تعلمها، وكان يحضر في مجلسه العلماء من اليهود والنَّصَارَى والْمُسْلِمِينَ والفلاسفة فيتجادلون جميعاً ويشاركهم جميعاً، ويرى أن هذا من كثرة تمكنه وعبقريته وعقله، أما المعتصم فكان رجلاً عسكرياً، فقد كانت أمه تركية من الأتراك العسكر وتربى تربية عسكرية، ولم يكن يدرك هذه الأمور، فلم يكن يعرف إلا السوط، فلما تولى الخلافة وأراد أن يرفع الفتنة فزُين له الوزراء، وقالوا له: إنك إن فعلت ذلك تكون قد شهدت عَلَى من قبلك بالضلال.
فلا بد أن تستمر، وإلا يُقَالَ: إنه عجز منك وخور، كيف تترك رجلاً واحداً، ومن معه يعمل كل هذا العمل؟! فهل تعجز الدولة عن هَؤُلاءِ؟!
فلما زينوا له ذلك آذى العلماء وضربهم وعذبهم، واقتاد الإمام أَحْمَد بالقوة وأحضره إليه، وأخذ يحاول وينصح الإمام أَحْمَد كثيراً، ويقول: يا أَحْمَد! لا أريد عذابك، يا أَحْمَد! والله إني أكره أن أضرك، ويقول له: قل القُرْآن مخلوق، فيأبى الإمام، فيذهب الوقت الطويل في الاسترضاء، فيشتد الغضب بالمعتصم بعد ذلك فيأمرهم أن يضربوه، ويشتدوا في الضرب، وكان هذا حاله معه أياماً كثيرة.
فكانت هذه المحنة العظمى للأمة من أجل أن تقر وتوافق بأن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ مخلوق، وأنه ليس وحياً منزلاً من عند الله وأنه لم يتكلم به عَلَى الحقيقة.
المتوكل ونصره للسنة(1/572)
عندما تولى المتوكل بعد المعتصم انتصر الإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- بل انتصر الحق فانتصرت السنة عَلَى البدعة، ولقي المبتدعة من النكال والأذى من الأمة أكثر مما لقوا من المتوكل عندما رجع إِلَى السنة، فإن المعتزلة وأمثالهم قد شهر الله تَعَالَى أمرهم وفضحهم في جميع البلاد وأصبح الْمُسْلِمُونَ -حتى العوام منهم في الأقطار المتنائية- إذا علموا أن فلاناً من المعتزلة يكادون أن يرجموه بالحجارة، ويحتقرونه ويطردونه ويذلونه، ولهذا يجب أن ندرس حقائق التاريخ، وكيف تقاوم البدع؟
فإن في ذلك عبراً كثيرة جداً، وأعظم عبرة في هذا هي أن الإِنسَان لا يرد البدعة ببدعة، وهذا من منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنهم يردون البدعة بالسنة ويردون الآراء والأهواء والفلسفات يقول الله، وقول رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقوال الصحابة والتابعين وهذا هو منهجنا.
فلقد حاول القوم أن يتأولوا في الكلام، فتارة يقولون: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] أليس كذلك يا أَحْمَد؟
فَيَقُولُ: بلى.
فيقولون: أليس القُرْآن شيء؟
فَيَقُولُ: بلى.
فيقولون: إذاً القُرْآن مخلوق.
فيرد عليهم الإمام ويقول: ألم يقلِ اللهُ تباركَ وتعالى عن الريح: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] .
قالوا: بلى.
قَالَ: أليست الأرض شيء والسماوات شيء؟
فيقولون: بلى.
فَيَقُولُ: فهل دمرتها الريح؟
فيقولون: لا، وهكذا كَانَ يقاوم الحجة بحجة أقوى منها.
فيقولون -مثلاً-: يقول الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] أليست جعل بمعنى خلق؟
فَيَقُولُ: نعم.
فيقولون: ألم يقل الله: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون [الزخرف:3] أي: خلقناه؟(1/573)
وهكذا كانوا يحولون الأدلة والإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- يرد عليهم ردوداً قوية، لكنه لما جَاءَ إِلَى مسألة القول بخلق القرآن.
قالوا: لم لا توافق؟ هل عندك دليل عقلي؟
فَيَقُولُ: ائتوني بشيء من الكتاب أو السنة.
وهذا هو الذي نطالب به دائماً وأبداً، فكل من يأتينا ببدعة فإننا نطالبه بشيء من الكتاب أو بشيء من السنة، أما الجدليات والاستنباطات العقلية والتأويلات فهذه لا نهاية لها، حتى أنك تجد الذين عبدوا الأصنام والحجارة من دون الله عَزَّ وَجَلَّ ما عبدوها إلا بتأويل وتفلسف، وبظنون يحسبونها حججاً وهكذا لا تجد أحداً يعمل شيئاً إلا ومعه شيء من هذا القبيل، لكن هل هذه حجة حقيقية؟ أم حجة داحضة؟ نعرف ذلك عندما نطالبه بشيء من الكتاب أو من السنة، وهذا هو منهجنا فلا نرد البدعة ببدعة، وإنما نرد البدعة بالسنة ونرد الباطل بالحق هذه هي العبرة الأولى.
والعبرة الأخرى هي أن الإمامأَحْمَد لم يتنازل عن شيء من الحق -كما هو واضح في الموقف السابق.
لكن عبد الله بن سعيد بن كلاب اتخذ موقفاً وسطاً، فقَالَ: لا حاجة إِلَى أن نتشدد كما تشدد أَحْمَد، بل نقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام الله النفسي، أي: الذي في نفس الله غير مخلوق، والذي أنزله في القُرْآن مخلوق!
ولو قيل له من أين جئت بهذا الكلام يا ابن كلاب؟ وهل هذا في الكتاب أو في السنة أو قال به أحد من الصحابة؟
لقال لك: نريد أن نأخذ موقفاً وسطاً فنحل به المشكلة.
وعلى هذا أصبح أهل السنة يحاربون بدعتين بدعة المعتزلة، وبدعة ابن كلاب؛ لأنه أراد أن يتوسط، مع أن الأمر واضح لا وسط فيه ولا هوادة ولا تهاون؛ بل هو حق مثل الشمس، وهذه من العبر التي نستفيدها من هذا الموقف.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى:(1/574)
[وإنَّ القُرآنَ كَلامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَا بِلا كَيْفِيَّةٍ قَوْلاً، وأَنْزَلَهُ على رَسُوله وَحْياً، وصدَّقَهُ المؤمنونَ على ذلك حقّاً، وَأَيْقَنُوا أنَّه كَلامُ اللهِ تعالى بالحقيقَةِ، لَيْسَ بمخلُوقٍ كَكَلامِ البَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ، فَزَعَمَ أنَّه كلامُ البَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّه اللهُ وعابَه، وأَوْعَدَه بِسَقَرَ حَيْثُ قال تعالى: سَأُصلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] فلما أوعدَ اللهُ بسقر لِمَنْ قَاْلَ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] عَلِمْنَا وَأَيقَنَّا أنه قَوْلُ خالِقِ البَشَرِ ولا يُشْبِهُ قَوْلَ البَشَرِ] .
قال المصنف رحمه الله:
[هذه قاعدةٌ شريفةٌ، وأصلٌ كبيرٌ من أصولِ الدين، ضَلَّ فيه طوائفُ كثيرةٌ من الناس، وهذا الذي حكاهُ الطحاوي -رحمه الله- هو الحَقُّ الذي دَلَّتْ عليهِ الأَدِلَّةُ مِنَ الكِتاب والسُّنَّةِ لمن تَدَبَّرَهما، وشَهِدَت به الفِطْرَةُ السليمةُ التي لم تُغَيَّر بالشُّبُهَاتِ والشُّكُوكِ والآراء الباطلة.
وقدِ افْتَرََ الناسُ في مسألةِ الكلامِ على تسعة أقوال:-
أحدها: أنَّ كلامَ اللهِ هو ما يَفِيضُ على النفوسِ من معاني، إما مِنَ العقلِ الفَعَّالِ عندَ بعضهم، أو مِنْ غيرِه، وهذا قولُ الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنَّه مخلوقٌ، خَلَقهُ اللهُ مُنفصلاً عنه، وهذا قَوْلُ المُعتَزِلَة.
وثالثُها: أنَّهُ معنى واحدٌ قائمٌ بذاتِ اللهِ، هو الأمرُ والنَّهْيُ والخَبَرُ والاستخبارُ، إن عُبِّرَ عَنْهُ بالعربيةِ كانَ قُرآناً وإن عُبِّرَ عنهُ بِالعِبْرِية كانَ توراةً، وهذا قولُابنِ كُلَّابٍ وَمَنْ وافَقَه كالأشعري وغيره.
ورابعُها: أنَّه حروفٌ وأصواتٌ أزلِيَّة، مجتمعةٌ في الأزَلِ، وهذا قولُ طائفةٍ مِنْ أهلِ الكلام وَمِنْ أَهْلِ الحديث.(1/575)
وخامسُها: أنَّه حروفٌ وأصواتٌ، لكِنْ تَكَلَّمَ اللهُ بها بعدَ أن لم يَكنْ متكلِّماً، وهذا قولُ الكرَّامية وغيرهم.
وسَادِسُها: أن كلامَه يَرجعُ إلى ما يُحْدِثُه مِنْ عِلْمِهِ وإرادتِه القائم بذاته، وهذا يقولُه صاحبُ المعتبر، ويميلُ إليهِ الرازي في المطالبِ العالية.
وَسابِعُها: أنَّ كلامَهُ يَتَضَمَّنُ معنى قائماً بذاته هو ما خَلَقه في غيره، وهذا قولُ أبي منصور الماتريدي.
وَثْامِنُها: أنه مُشْتَرك بَيْنَ المعنى القديمِ القائم بالذات وبينَ ما يَخلُقُه في غيره من الأصوات وهذا قول أبي المعالي ومَنْ تَبِعَهُ.
وتاسعُها: أنَّه تعالى لم يَزَلْ متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيفَ شاء، وهو يَتَكلَّم به بصوت يُسْمَعُ، وأنّ نوعَ الكلام قديمٌ وإن لم يَكُن الصوتُ المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة] اهـ.
الشرح:
هذه تسعة أقوال في إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، وسوف نشرحها إن شاء الله واحداً واحداً.
لكن ينبغي أن نَعلمَ أنَّ هذهِ الأقوالُ ليستْ كلّها على درجةٍ واحدة من الأهمية ومن الانتشار، فبعضها آراء فردية، وبعضها اجتهادات شخصية لأناس قالوها، وروجعوا عنها وما أشبه ذلك، ولكن الأقوال في هذه المسألة التي عليها مدار الخلاف قديماً وحديثاً ثلاثة أقوال:
مذهب المعتزلة.
ومذهب الأشاعرة.
ومذهب أهل السنة التي هي المذاهب الثاني والثالث والتاسع.
وأما قول الصابئة والمتفلسفة فهو تابع لقضية فلسفية عميقة، قد لا يحتاج إليها أحدٌ إلا مَن تخصص في دراسةِ الفِرَقِ الزائغةِ الخارجةِ عن الملةِ مثل النصيرية أوالدرزية أو الباطنية الإسماعيلية عموماً.
وأما القول الرابع والخامس، فإنها قريبة من القول الثالث، وقد اندثر من قال بها، ولم ينسبها إلا أنه نسب الخامس إلى الكرامية وقد انقرضت.(1/576)
والقول السادس الذي يميل إليه صاحب المعتبر -وهو ابن ملكا - وكذلك الرازي، والرازي من أئمة الأشعرية وابن ملكا فيلسوف متحرر ليس بأشعري محض ولا بسلفي محض، وهو يندمج ضمن الأشعرية في الواقع وإن كان كل من الرجلين - أي ابن ملكا صاحب المعتبر والرازي - لم يؤسس مذهباً جديداً مستقلاً.
وكذلك القول السابع الذي هو قول الماتريدية، فهم في أكثر مذاهبهم المتأخرة مالوا إلى مذهب الأشعرية.
وأما القول الثامن فهو قول أبي المعالي الجويني أيضاً، وهو من أئمة الأشعرية.
فكأن المصنف -رحمه الله تعالى- فصَل الأقوال أو الخلاف الذي بين أئمة الأشعرية كـ الرازي وأبي المعالي وغيرهما وجعلها مذاهب وأقوال مستقلة، ولكن الذي استقرت عليه الآراء والذي عليه مدار الخلاف قديماً وحديثاً وعليه المعركة إلى اليوم في هذه المسألة هي ثلاثة أقوال كما سبق.
أصل جميع الضلالات
قبل أن نبدأ في شرح الأقوال ينبغي لنا أن نعرف قضية مهمة -وقد سبقت معنا في أول الكتاب ونعيدها الآن- وهي أصل جميع الضلالات، أو المنبع الذي نبعت منه هذه الضلالات جميعاً في باب الأسماء والصفات.
وهذا الأصل هو: أن المتكلمين وأولهم المعتزلة أرادوا أن يستدلوا عَلَى وجود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وجعلوا قضية وجود الله هي القضية المتنازع فيها مع أنها لم تكن عَلَى الإطلاق في القُرْآن محل النزاع والخلاف بين الأَنْبِيَاء وأممهم، وإنما النزاع في قضية الألوهية هل هي لله وحده؟ أم له مع غيره؟ أم لغيره من دونه؟
فأرادوا أن يستدلوا عَلَى وجود الله بالطريقة الفلسفية اليونانية وفي هذه المسألة كَانَ علماء اليونان وعلماء الإغريق ومن اتبعهم من الصابئة وعلماء المجوس وأمثالهم عَلَى رأيين:(1/577)
الرأي الأول: أن هذا العالم قديم، بمعنى: أن هذا العالم وهذا الكون أزلي لا أول لوجوده، أي جَاءَ بنفسه هكذا يقولون: إنه خلق من غير شيء وهَؤُلاءِ من الفلاسفة الذين ينكرون وجود الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وقد رد عليهم فلاسفة اليونان وعلماء الأغريق والصابئة وآخرون منهم فَقَالُوا: إن لهذا العالم خالقاً سموه واجب الوجود، أو ما أشبه ذلك.
وواجب الوجود موجود، وهذا العالم حادث، فواجب الوجود قديم لا أول لوجوده، وأما الكون والعالم، فهو حادث لوجوده أول، وأغلبهم يميل إِلَى أنه نشأ عنه كما تنشأ العلة عن المعلول، أي: أن النسبة بينهما مثل نسبة السبب إِلَى المسبب أو العلة إِلَى المعلول، أي: ليس له إرادة وليس له صفات أوجدت هكذا.
هذا هو مذهب الأكثرين من هَؤُلاءِ الفلاسفة الذين يثبتون وجود الله؛ لكنهم يريدون أن يثبتوا وجود الله، فأثبتوه علة تامة اقتضت معلولها وهو الكون، ولما أرادوا أن يبطلوا قول القائلين بأن العالم قديم وأزلي، قالوا لهم: الدليل عَلَى أن العالم حادث بعد أن لم يكن هو: أن الأعراض تلحق بهذا العالم، فالشمس تطلع وتغيب كما هو مشاهد، وتكون الصحة والمرض، وتكون الألوان والطعوم والروائح والأشياء المختلفة، فالتغير والأعراض التي تطرأ شيئاً بعد شيء عَلَى المخلوقات -كما يقول هَؤُلاءِ- دليل عَلَى أنها حادثة، وعلى أنها ليست قديمة؛ لأن القديم الموجود وجوداً أزلياً لا يمكن أن يلحق، وأن يطرأ عليه التغيير، هكذا قالت الفلاسفة.(1/578)
فلما جَاءَ المتكلمون وجاء المعتزلة وترجموا كتب أُولَئِكَ مالوا مع القول الذي يثبت وجود الله؛ لأن هَؤُلاءِ ليسوا منكرين لوجود الله، فأخذوه وأخذوا أدلة أُولَئِكَ بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موجود، وأن الكون حادث، وإن كانوا لا يقولون: مخلوق وخالق، وإنما يقولون: هو حادث وأزلي وقديم فقط، فَقَالَ لهم المتكلمون: نَحْنُ نستدل عَلَى أن هذا الكون حادث بأنه تطرأ عليه الأعراض والتغيرات عرض بعد عرض وحال بعد حال فهذا دليل عَلَى أن الكون غير قديم بل هو مخلوق، فلما جاءوا يطبقون هذا عَلَى صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وقع الخلاف.
فالفلاسفة الذين يثبتون وجود الله يثبتون أنه علَّةٌ تامة، ولا يصفونه بأي صفة ثبوتية وجودية، وإنما يصفونه بالسلوب والإضافات.
يقولون: ليس بجاهل، ولا ظالم، ولا ذليل، ولا يصفونه بأنه عالم حكم عدل عزيز، فلما انتقلت هذه إِلَى الْمُسْلِمِينَ من المعتزلة وأمثالهم جاءوا فأرادوا أيضاً أن يأخذوا نفس الشيء لئلا ينتقض عليهم أصلهم؛ لأنهم قالوا: إن ما تقوم به الأعراض والأحوال، وتحل به الحوادث -كما يسمونها- لا يمكن أن يكون قديماً، وأزلياً لا أول لوجوده وإنما هو حادث، ويقرؤون في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم متى شاء، وأنه يغضب، ويرضى، ويريد، ويشاء، ويختار، ويخلق، وفي الحديث الصحيح أنه ينزل، وأمثال ذلك.
فقالوا: هذه حوادث وأعراض وأحوال، فإذا قلنا: إن الحوادث والأعراض تحل بالله فهو حادث وليس بقديم؛ إذاً ليس هناك دليل لدينا عَلَى أن نثبت وجود الله، فأصبحنا كأننا ننفي وجود الله، فصاروا بين نارين:
إما أن يلتزموا القول بأن هذه فعلاً حوادث وأعراض تقوم بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فهو حادث مثل سائر الحوادث والعياذ بالله.
وإما أن يقولوا: لا تقوم به هذه الحوادث، والأعراض وينفون عنه هذه الصفات، فيكون إذاً قديماً وأزلياً.(1/579)
فاختار المعتزلة والمتكلمون القول الثاني، وَقَالُوا: نُجرده من الصفات، ونُثبِتُ وجوده، وأنه خالق هذا الكون خير من أن نجعل له صفات كما أن للمخلوقين صفات فإذا قلنا: إن البشر يغضب، ويرضى، وينزل، ويتكلم، وهذه أعراض وحالات وحوادث تحدث في كل إنسان، وقلنا: إن الله يتكلم، وينزل، ويغضب، ويرضى وهذه هي نفس الأعراض والأحوال.
إذاً: لابد أن ننفيها عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- فنفوا صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ليوافقوا قول الفلاسفة المثبتين لوجوده، أي: المثبتين بأن الكون حادث وليس بقديم فكانت أهم وأبرز صفة ظهرت في أثناء النقاش والجدال والمعركة الجدلية هي صفة الكلام، وكما ذكرنا أن للنصارى دوراً في إثارة هذه القضية؛ لأنهم يقولون: عيسى كلمة الله -كما يقول بعضهم- ومنهم من يقول: ن الكلمة مخلوقة، وبعضهم يقول: لا! إنه كلمة الله ولكنه إله مثل الله، أي: ذات مستقلة، فالآلهة الثلاثة لكلٍ منها ذات مستقلة.
فهَؤُلاءِ قالوا: إذا قلنا: إن القُرْآن كلام الله أيضاً، وقلنا: إنه ليس بمخلوق، فيلزمنا أن يكون ذاتاً مستقلة؛ لأنهم لا يفهمون من الصفة إلا أمراً عينياً متعيناً موجوداً، وليس صفة تقوم بشيء موصوف، فيثبتون الذات عَلَى أنها لا صفة لها، ويثبتون الصفات عَلَى أنها ذوات مستقلة منفصلة.
فإذا قلنا: إن لله تسعة وتسعين اسماً، فإنهم يتصورون أنها تسعة وتسعين ذات منفصلة مستقلة، وهكذا نظرت النَّصَارَىوالعياذ بالله إِلَى أن الآلهة ثلاثة منفصلة مستقلة، وهي في نفس الوقت واحدة.
فحصل من هذا وهذا أن نشأت قضية الجدل في صفة الكلام فَقَالُوا: إن كَانَ الله عَزَّ وَجَلَّ لم يكن متكلماً ثُمَّ تكلم، فقد حلت به الحوادث -هكذا رأت عقولهم والعياذ بالله- وما كَانَ محلاً للحوادث فهو حادث.(1/580)
وإذا قلنا لهم: إن الآيات والأحاديث في كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أنه كلم الملائكة قبل أن يخلق آدم وكلم آدم وكلم موسى وهذا كله كلام الله.
قالوا: لا، هذه مخلوقات أي أن القُرْآن مخلوق خلقه الله.
وَقَالُوا: إنما قلنا ذلك حتى ننزه الله أن يكون محلاً للحوادث فننفي عنه الكلام مع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بين لنا في بيان أجلى وأوضح من الشمس أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وكان عَلَى هذا البيان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصحابة رضوان الله عليهم، فليس كلامه ونظره ورضاه ورحمته ونزوله كنظر المخلوقين ورضاهم ورحمتهم ونزولهم ليس كمثله شيء أبداً، ولم يكن له كفواً أحد أبداً.
وإذا أثبتنا لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما أثبته لنفسه، فإننا لا نُثبِتُ له ما هو في حق المخلوقات من الأعراض، أو الحوادث، أو الأحوال، أو التغيرات، ومن فهم ذلك فإنما الفساد جاءه من قبل عقله وفهمه، وليس من نصوص الكتاب والسنة أبداً بالإضافة إِلَى أن أصل قضية إثبات وجود الله بهذه الطريقة التي سلكوها نَحْنُ في غنى عنها وعن استيراد كتب الفلسفة وترجمتها وفي غنى عن الرد عَلَى الفلاسفة المنكرين لوجود الله بالرد عَلَى منهج الفلاسفة الذين يثبتونه علة تامة لا صفاتَ لها عَلَى الإطلاق، كُلُّ هذا الكلام نَحْنُ في غنى عنه لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنور وبالهدى التام المستبين.(1/581)
وكما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ وقرره غيره من العلماء أيضاً: إن نفس أمة اليونان الدولة الرومية عموماً واليونان خاصة كانوا عَلَى دين الفلسفة وعلى الشرك حتى دخلت عليهم النصرانية المنحرفة سنة 325م فانتقلوا من الشرك ومن الوثنية الفلسفية إِلَى النصرانية، وهي عَلَى ما فيها من الشرك إلا أنها أفضل وأنسب حالاً لأن فيها آثاراً من كلام النبوة، أو آثاراً من الوحي الرباني، فانتقلوا من ذلك إِلَى ما هو أحسن حالاً وجاء الإسلام وأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفرقان الواضح فقضى عَلَى الأديان وأبطلها سواءً النصرانية أو غيرها، وإن كانت أفضل من الفلسفة اليونانية إلا أنها كفر وشرك.
وكُلُّ من دان بها بعد بعثة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو كافر كما هو في الكتاب والسنة إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ [آل عمران:19] ، وفي قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (والذي نفسي بيده لا يَسْمَعُ بي يَهُّودِيٌّ ولا نَصرَانيٌّ ثُمَّ لا يُؤمِنُ بي إلا دَخَلَ النَّار) فلا يقبل الله غير هذا الدين فكيف ينتكس ويرجع هَؤُلاءِ المتكلمون وغيرهم إِلَى ما كَانَ عليه هَؤُلاءِ المُشْرِكُونَ.(1/582)
هذا هو غاية ما يُرِيدُ هَؤُلاءِِ النَّاس أن يقولوه أو يدعو إليه، أما نَحْنُ فنبطل هذه القضايا جميعاً لأن لدينا - ولله الحمد- المنهج والبرهان الواضح، فلا حاجة بنا إِلَى الخوض في مسألة وجود الله عَلَى طريقتهم، ولا حاجة بنا إِلَى ترجمة كلامهم، ولا حاجة للمسلمين إِلَى الاستعانة بكلام المثبتين منهم ضد النفاة، فنحن نرد عَلَى الجميع، ولكن هذا الذي حصل ووقع تاريخياً، أن المعتزلة التزموا القول بأن ينفوا صفات الله تبعاً لنفي حلول الحوادث في ذات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- متبعين للقول بأن إثبات الصفات يستلزم إثبات لذوات متعددة -تعدد القدماء أو تعدد ذوات مختلفة- وبناءً عَلَى ذلك أنكروا أن يكون القُرْآن كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَقَالُوا: إنه مخلوق، وسيأتي تفصيل كلامهم إن شاء الله تَعَالَى في قولهم: إن إضافته إِلَى الله إضافة تشريف، أو -مثلاً- استدلالهم بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً [الزخرف:3] أواللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] وأمثال ذلك من الشبهات التي سنعرض لها إن شاء الله بالتفصيل.
للطوائف أقوال مختلفة في كلام الله نفصلها فيما يأتي:
قول الصابئة والمتفلسفة
وهَؤُلاءِ يقولون: إن كلام الله تَعَالَى هو ما يفيض عَلَى النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
فهَؤُلاءِ النَّاس يقولون: إنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يُوصفُ بأي صفة ثبوتية وجودية. إذاً فهو مجرد علة تامة نشأ عنها المعلول، ونشأت عنها المخلوقات، وليس أكثر من ذلك.
فكلام الله في نظرهم: هو الفيض الذي يفيضه العقل الكلي أو العقل الفعال.
ويقول بعضهم: إنه يفيض عَلَى النفس الكلية ثُمَّ النفس الكلية تفيضه عَلَى النفوس الجزئية.
ومنهم من يقول: العقل الكلي يفيضه عَلَى العقول الجزئية.(1/583)
وهذه المسألة مختلف فيها ولا يهمنا هذا الخلاف؛ بل الذي يهمنا أن كلام أفلاطون وأمثاله الذين قالوا: إن العلة التامة الذي هو "الله" عندهم -كما يسمونه- لمَّا كَانَ لا يتصف بأي صفة، إنما نشأ عنه الكون بهذه الطريقة، نشأ عنه أول ما نشأ العقل الفعال، أو العقل الكلي، وهذا العقل موجود في الفضاء، ثُمَّ أصبحت هذه العقول بعد ذلك عشرة كما فصلها بعضهم، فالعقل الأول خلق الثاني، والثاني خلق الثالث، إِلَى أن صارت عشرة، ثُمَّ بعد ذلك: العقول العشرة هي التي خلقت الفلك.
وبعضهم يقول: خلقت الأفلاك، والأفلاك هي التي تدير الكون -فنسأل الله السلامة والعافية- وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ [الجاثية:24] كلام لا صحة له ولا دليل عليه لا من نقل ولا من عقل وإنما هي تخرصات وافتراضات.
فكلام الله أو الوحي عندهم هو الفيض الذي يحصل من العقول أو من النفوس الكلية إِلَى العقول أو النفوس الجزئية، العجيب في هذا الأمر أن أبا حامد الغزالي وهو الذي كتب كتابهتهافت الفلاسفة في الرد عَلَى الفلاسفة وإبطال مذهبهم هو نفسه: يقول إن الوحي هو انتقاش العلم من العقل الكلي أو النفس الكلية في العقول الجزئية؛ لأن أبا حامد الغزالي الذي كتب ضدهم والذي اشتهر عنه أنه ضد الفلاسفة في مواضع من كتبه، يقول: إن الوحي هو الفيض الذي يحصل من العقل الكلي إِلَى العقل الجزئي، أو انتقاش العلم من النفس الكلية إِلَى النفس الجزئية، وما أشبه ذلك.
ولهذا لما تعرض لذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ قَالَ: "إن كثيراً ممن قرأ لأبي حامد وجدوا أن الرجل يتناقض فإنه يرد عليهم في أمور وهو يقول بها في بعض كتبه حتى أنشد بعضهم في ذلك فقَالَ:
يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لقيت معدياً فعدنان
"(1/584)
أي أنه: أحياناً يكون مع الفلاسفة، وأحياناً يكون مع المعتزلة ضدالفلاسفة، فَقَالَ في أول كتابالتهافت نَحْنُ نرد عَلَى الفلاسفة بكل قول، أي: بقول المعتزلة، وبقول الكرامية، وما أشبههم، ومعنى هذا أنه ليس لأبي حامد مذهب معين ثابت ينطلق منه من أول حياته إِلَى قريب من نهايتها. المهم أن يرد عليهم، ثُمَّ هو في موضع آخر يرد عَلَى المعتزلة، أو يرد عَلَى غيرهم، فكان يأخذ من كلامالأشعرية، ومن كلام المعتزلة، ومن كلام الكرامية، ويرد به عَلَى الفلاسفة ثُمَّ هو في نفس الوقت يرد عَلَى الأشاعرة في بعض المواضع وينتقدهم، ويرد عَلَى المعتزلة أيضاً ثُمَّ يوافقهم في بعض المواضع، مع أنه أكثر ما كَانَ يميل إِلَى الأشعرية، وهكذا كَانَ منهجه مضطرباً.
والذي يهمنا هنا أن نقول: كَانَ هذا المذهب هو مذهب الصابئة ومذهب المتفلسفة، والمنتسبين أيضاً إِلَى الإسلام من الفرق والطوائف التي اتبعتهم كالباطنية والإسماعيلية والنصيرية والدروز وأمثالهم.
والخلاف الذي بين الفلاسفة في تحديد هذه الأمور بالدقة هو أيضاً موجود بين الفرق الإسماعيلية والدروز.
وأيضاً وقع في هذه القضية أو تأثر بها أبو حامد الغزالي وهو ممن دخل في الفلسفة، ودخل أيضاً مع الباطنية، ثُمَّ ترك الطائفتين، ولكنه كما قال تلميذه الإمام أبو بكر ابن العربي دخل شيخناأبو حامد في الفلسفة ولم يستطع أن يخرج منها، فقد بقيت آثارها فيه، ولم يستطع أن يتجرد ويتخلى منها بالكلية.(1/585)
فهذا القول قول الصابئة والفلاسفة قول كفري يخرج من الملة لم يقل به إلا الخارجون عن الملة، وما وقع في كلام أبي حامد فهو من آثار ذلك مع أنه مؤمن مسلم، ويدافع عن الإسلام ولا يخرجه ذلك من الملة، ونريد التنبيه عَلَى هذا، وهذا قد يقوله من هو مسلم وإن كَانَ هذا القول في الأصل قولاً كفرياً لا يقول به أي مسلم فمن قال بالقول الأول فهو خارج من الملة ولا خلاف في ذلك أي أن المعتزلة والأشعرية والماتريدية وغيرهم يوافقوننا عَلَى أن من أثبت الكلام بهذه الصفة، ومن قَالَ: إنه هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مجرد علة تامة، أو أنه هو الذي خلق العقل الكلي، والعقل الكلي خلق سائر الكون، إِلَى غير ذلك، فإن هذا كافر وخارج عن الإسلام، وبعضهم ينتسب إِلَى الإسلام مثل ابن سينا، ولكن ابن سينا كان يظهر أنه شيعي رافضي، وهو في حقيقته فيلسوف لا يؤمن بأي دين من الأديان، ولو كَانَ فعلاً شيعياً فهو أيضاً حكمه كحكم الشيعة، هذا هو قول أُولَئِكَ القوم في مسألة كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قول المعتزلة
وتقول المعتزلة: إن كلام الله مخلوق، خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا هو القول الذي يجمع طوائفالمعتزلة عَلَى اختلافهم، وقد سبق أن ذكرنا السبب الذي أوقع المعتزلة في هذا الخوض.
ولما نشأ الخلاف بين المعتزلة وبين أهل السنة في هذه المسألة كما مرَّ معنا، وكانت الفتنة للإمام أَحْمَد رَحِمَهُ اللَّهُ ومن معه من علماء السنة، خرج القول الثالث، ولهذا يذكر العلماء من القواعد الأصولية: إذا اختلفت الأمة عَلَى قولين واستقر الخلاف بينهم عَلَى أحدهما، فالقول الثالث -الذي يحدث بعد ذلك- قول محدث مبتدع والقول الثالث -وسيأتي- كَانَ منبعه من هذه القضية.(1/586)
اختلاف أهل السنة والمعتزلة في الكلام، فيقول أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ غير مخلوق، وتقول المعتزلة هو كلام مخلوق، وعلى هذا استقر الخلاف، وكانت الفتنة والمحنة والأذى والعذاب.
قول ابن كُلاب
وعبد الله بن سعيد بن كُلاب المعروف بالقطان، وقد ذكر عقيدته أبو الحسن الأشعري في آخر كتابه المقالات، وذكر أنه رجل أوتي جدلاً، وكان له باع طويل في النظر، ومن مآثره: أنه رد عَلَى المعتزلة والفلاسفة رداً قوياً، وأفحم كثيراً منهم وألزمهم.
لكن ابن كُلاب أخطأ عندما لم يكن ينطلق في ردوده من الكتاب والسنة، وإنما من قوة عقله وتفكيره، فقوة الذكاء والعقل والتفكير والجدل لا تكفي وحدها أبداً، فانطلق يرد عَلَى هَؤُلاءِ ويجادلهم ويفحمهم، فلما رأى الأمة منقسمة بشأن القول بخلق القُرْآن إِلَى هذين القولين، فكّر فخرج بقول جديد ثالث، وهو قول باطل مبتدع، فقَالَ: نقول إن كلام الله عَلَى نوعين: كلام النفس وحديث النفس، أو المعنى القائم بالنفس وهذا نقول: إنه قديم غير مخلوق، وأما الكلام المركب من الحروف والأصوات الموجودة في المصاحف فهذا نقول إنه مخلوق.
ومعنى قوله: خرجنا وسطاً لا مع أَحْمد بن حَنْبَل، ولا مع الذين عذبوا أَحْمد بن حَنْبَل، وهذا قول جديد.(1/587)
وقَالَ: إن هذا القول أفضل وأحسن لكي يجمع الناس، ولذلك تجدون الكوثرى في تعليقاته عَلَى كتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر يقول لو أن أهل السنة اتبعوا عبد الله بن سعيد بن كلاب لاستراحوا من الفتنة، واستراحوا من العذاب، ومما نزل بهم من الأذى، فإن المسألة بسيطة ولا تحتاج إِلَى نقاش وجدال، إنما الشد والأخذ والجدل هو الذي دفع بعضهم بتطرف المعتزلة في جهة وبتطرف أهل الحديث من جهة، وإلا فالمسألة بسيطة. حلها هذا الرجل، وجمع ووفق بين القولين، أي كَانَ ابن كلاب قام بعملية صلح بين الطرفين فكلامك أنت بأنه مخلوق صحيح، لأنه في المصاحف مخلوق، وكلامك أنت الآخر بأنه غير مخلوق وصحيح؛ لأن المعنى الذي في ذات الله غير مخلوق، وانتهت المشكلة ولا تحتاج إِلَى جدال!!
ولكن المسألة ليست قضية صلح بين فريقين اختلفا في الكلام وأصلح بكلام، بل المسألة دين واتباع، وهذا القول الثالث فيه من الابتداع في الدين ما الله تَعَالَى به عليم، عَلَى أي شيء بنى ابن كلاب هذا القول، وتبعه في ذلك الأشعرية، وما يزالون عَلَى ذلك إِلَى اليوم، بنى قوله عَلَى أن الكلام ليس هو الحروف والألفاظ والأصوات، إنما الكلام هو المعاني القائمة في النفس، والدليل أن الأخطل الشاعر النصراني يقول:
إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما جُعْلِ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
فَيَقُولُ: إذاً فالكلام حقيقته أنه في النفس، وأما الألفاظ فهي دليل أو تعبير عما في النفس، ولذلك فكلام الله عَزَّ وَجَلَّ هو ما في نفسه بناءً عَلَى هذا القول!!(1/588)
ويقول: هذا الكلام الذي في النفس معنى واحد قائم بالذات، فالخبر والنهي والأمر كُلُّ هذه المعاني سواء، فإذا عُبِّرَ عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ عنه بالعبرية فهو التوراة، وهكذا، فليس له حروف ولا أصوات، وليس هذا المسموع أو المقروء هو كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لأن المعاني القائمة بنفس الله لا يمكن لأحد أن يسمعها، ولا يمكن لأحد أن يقرأها ولا يحفظها، وما نسمع ونحفظ ليس كلام الله عَلَى مذهب الأشعرية الكلابية والعياذ بالله.
واختلفوا بعد ذلك في هذه الألفاظ الموجودة، أو الكلام الموجود في المصحف من الذي عبَّر به أو من الذي حكاه.
يقول الباقلاني كما في رسالته الموسومة بالإنصاف أو "رسالة الحرة" كما تُسمى وقد علق عليها الكوثري يقول: "إما أن جبريل هو الذي عبر بهذه الحروف والأصوات أو أنه مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" انظروا إِلَى الباطل والابتداع إِلَى أي شيء يؤدي، فعلى هذا فما نقرؤه وما نتعبد به في صلاتنا ونتلوه من نظم جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سُبْحانَ اللَّه! وأين كلام الله؟ قالوا: كلام الله: هو المعاني القائمة بالنفس فقط ومن هنا قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ: [فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه، وأوعده بسقر حيث قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ [المدثر:26] ، فلما أوعد الله بسقر لمن قال إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر] .(1/589)
يقول شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ "إن الأشعرية في هذا الباب قد وافقوا الْمُشْرِكِينَ في نصف قولهم" فانظر كيف كانت عبارته دقيقة لم يقل: إنهم مثل الْمُشْرِكِينَ الذين يقولون: إن القُرْآن كلام بشر؛ بل يقول: إنهم وافقوا الْمُشْرِكِينَ في نصف قولهم، فالمعاني من الله، وأما الألفاظ فهي من كلام البشر من جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعجباً لابن كُلاب يستدل بيت لشاعر نصراني في صفات الله، وأعجبُ مِنْ ذلك أنَّ البيتَ محرفٌ.
وذلك أن الأخطل لم يَقُل إن الكلام لفي الفؤاد، وإنما قال إن البيان لفي الفؤاد، فالرواية المشهورة في نقل الرواة الثقاة عن الأخطل أنه قال:
إنَّ البيانَ لفي الفؤادِ وإنَّما جُعلَ اللسانُ عَلَى الفؤادِ دليلاً
والأخطل شاعر نصراني لا نأخذ بكلامه في مسألة من أمر ديننا، أنزلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأوضحها في كتابه، وبينها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بياناً شافياً، واعتقدها الصحابة والتابعون ومن بعدهم، فلم يحوجنا الله عَزَّ وَجَلَّ في معرفة الحق إِلَى أن نلجأ إِلَى شاعر نصراني، ويجب أن نعلم أن من عقيدة النَّصَارَىالاعتقاد بأن كلام الله مخلوق، لا يُستغرب ذلك منهم؛ لأنهم يُؤلهون عيسى عَلَيْهِ السَّلام، ومنهم من يقول: مع أنه الكلمة فإنه مخلوق، ويفهمون كلمة عَلَى أنها صفة، فهذا لا يستغرب من النَّصَارَى، ولكن لم يحوجنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في مسألة العقيدة والدين إِلَى كلام أهل اللغة عامة، فضلاً عن كلام شاعر أو نصراني أو غير نصراني.
فالحق إذاً أن نأخذ ديننا من الكتاب والسنة، وما كَانَ عليه السلف الصالح لا ما يقوله هَؤُلاءِ وأمثالهم.(1/590)
ثُمَّ إن الأدلة كثيرة جداً في إبطال قولهم: إن الكلام هو كلام النفس، وإثبات أن الكلام إنما هو الألفاظ أو الأصوات أو الحروف في حق أيُّ إنسان يُقال ذلك، ولهذا لا يأتي في القُرْآن ولا في السنة الكلام النفسي إلا مقيداً كما قال الله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8] لو لم يقل الله تَعَالَى في أنفسهم، لفهمنا أنهم يصرحون بذلك لكن قوله: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ هنا مقيد بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل) .
فلو أن إنساناً خطرت له شبهة شيطانية وحدث بها نفسه، فهل نجعله مثل من تكلم بها، ودعا إليها، وجاهر بها؟
الجواب: ليس هذا مثل هذا عَلَى قول ابن كلاب إن الكلام هو ما في النفس،. ولهذا يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في معاوية بن الحكم السلمي لما تكلم في الصلاة: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام النَّاس إنما هي قرآن وذكر وتسبيح) فإذاً كَانَ حديث النفس كلاماً فكل مصلٍ يتحدث ويتكلم وعلى هذا فصلاة النَّاس باطلة، لأنه لا يخلو مخلوق إلا من عصمه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- من أنه يحدِّث نفسه ولو في فريضة من الفرائض أو أكثر في العمر، فإذاً لو كَانَ كلام النفس هو الكلام الحقيقي، فعلى هذا القول فكل واحد صلاته باطلة، لكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعتبر ما يدور في النفس كلاماً، ولم يُسم الشرع ولا العرف اللغوي ولا لسان العرب حديث النفس كلاماً.(1/591)
هذه بعض أدلة من أدلة كثيرة لا مجال للاستطراد فيها وقد يأتي بعضها بالتفصيل إن شاء الله في بيان بطلان مذهب الأشعرية الكلابية، وهو قولهم: إن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ هو المعاني، وأن حقيقة الكلام هو ما يقوم بالنفس، أو بالذات من المعاني، وأما الأصوات والحروف، فإنها مخلوقة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كغيرها من المخلوقات!!
قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث
أن كلام الله حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث، وهذا القول من الأقوال التي نشأت بسبب الضلال والاضطراب والجدل والمناقشات، فخاض بعض النَّاس بآراء لم يتبينوا أدلتها، ولم يعرفوا حقيقتها، فقالوا إذاً نقول كل كلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قديم، فهو عبارة عن حروف وأصوات أزلية قديمة في الأزل، وهذا المذهب تبين بطلانه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لمَّا نادى موسى وخاطبه كَلَّمَهُ بِكَلامٍ سمِعهُ موسى عَلَيْهِ السَّلام، ولما كَلَّمَ الملائكة عندما اعترضوا عَلَى خلق آدم كما قال تَعَالَى خالياً عنهم: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30] وجعلوا يسألون ويجيبهم الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فهل هذا الكلام في الأزل الذي لا بداية له؟ وهل كُلُّ كَلامٍ تَكَلَّمَ به الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أو أوحى به إِلَى نوحٍ، ثُمَّ هودٍ، ثُمَّ إبراهيمَ، ثُمَّ صالح، ثُمَّ موسى، ثُمَّ عيسى، ثُمَّ مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل كل هذا كلام قديم لا أول لوجوده، مجتمعة حروفه وأصواته في الأزل، أم أنها كلام يأتي بعد كلام؟ وفي القُرْآن ما يرد ذلك، ويدل عَلَى بطلانه بأنه ينزل كلام بعد كلام ويأتي به جبريل إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبلغاً ومؤدياً.(1/592)
فالقول هذا إذاً ليس بمذهب مشهور معروف، وإنَّما هو من ضمن الأقوال التي نشأت أثناء المعارك الجدلية والخلافية، ولم تُبنَ عَلَى أساس علمي صحيح سليم.
قول الكرامية
تقول الكرامية: إن القُرْآن حروف وأصوات، ولكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن مُتكلِّماً.
إذاً قد يُقَالَ: ما الفرق بين مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وبين مذهب الكرامية؟
الفرق أن الكرامية يقولون: إن الكلام كَانَ ممتنعاً عليه؛ أي: أنه لم يتكلم ولم يكن موصوفاً بكلام ولا بخلق ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا رزق، ثُمَّ تحولت من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي فحدثت له قدرة وإرادة وكلام، سُبْحانَ اللَّه! كيف تضل هذه العقول إذا انحرفت عن هدي الله عَزَّ وَجَلَّ فهذا الكلام الذي قالوه ما الدليل عليه: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:143] قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111] من الذي قال لكم أن الله عَزَّ وَجَلَّ كَانَ كذا ثُمَّ صار كذا، هل يوجد دليل في كتاب الله أو في سنة رَسُول الله أو في كلام أحد من الصحابة؟ لا يوجد أبداً إنما هذه أهواء وظنون وتخرصات.
إذاً: فالفرق: أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يقولون إن الكلام كَانَ مستحيلاً عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ تكلم! وإنما يقولون -والعبارة دقيقة ولابد أن نحفظها ونفهمها- " إنَّ كلامَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قديمُ النوعِ حادثُ الآحاد أي: أن نوع الكلام قديم أو أزلي النوع، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لم يزل متكلماً متى شاء كيف شاء، ولكنه متجدد الآحاد أنزل التوراة، ثُمَّ أنزل الإنجيل، ثُمَّ أنزل القُرْآن وقولهم: "ولكن نوع الكلام أزلي لا أول له".
أي: لم يكن الله عَزَّ وَجَلَّ في الأزل غير متكلم ثُمَّ ظهر وبدا له الكلام وتحول من الامتناع إِلَى الإمكان، كما تقول الكرامية.(1/593)
وقد سبق أن قلنا إن قولهم مندثر، فقد انقرضت هذه الفرقة ونسأل الله عَزَّ وَجَلَّ أن تندثر وتنقرض كل الضلالات، وأن يمحوها -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ببرهان السنة والحق إنه سميع مجيب.
قول ابن ملكا ويميل إليه الرازي في المطالب العلية
يقول صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي إن كلام الله يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته.
وابن ملكا هو صاحب كتاب المعتبر ويسمونه أبو البركات ابن ملكا كَانَ يهودياً ثُمَّ أسلم ويقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ إن كل إنسان من هَؤُلاءِ الفلاسفة يتأثر بالبيئة التي نشأ فيها فإن ابن رشد نشأ بين الأشعرية الكُلابية ومن هنا اشتد عليهم.
فإذا قرأتم كتب ابن رشد تجدون أنه اشتد عَلَى الأشعرية جداً، وابن سينا نشأ في بيئة كلامية اعتزالية فاختلفت وجهته، وأما أبو البركات ابن ملكا صاحب المعتبر، فإنه نشأ في بغداد، وفيبغداد كانت قوة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بعد أن أظهر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الإمام أَحْمد بن حَنْبَل وأيده بالحق، ودحر المعتزلة والمبتدعة وقهرهم وأذلهم، فبقيت في بغداد قوة عظيمة لأهل السنة إِلَى القرن التاسع الذين يسمونهم أحياناً الحنابلة، ويقولون في كتب التاريخ مثل الكامل لـ ابن الأثير -ومؤلفه متشيع.
ولذلك يقول: فتنة الحنابلة- يسميها فتنة- ويقول: في سنة كذا هجم الحنابلة عَلَى بغداد أو عَلَى الشوارع، فضربوا القيان، وكسروا القنان والخمور وأراقوها، وكسروا آلات اللهو وفعلوا وفعلوا -يتكلم عليهم- فبقيت لهم قوةٌ وبَقي لهم وجود، وابن ملكا نشأته في بغداد جعلته أقرب المتفلسفة إلى الحق، فهو يثبت من الصفات كثيراً مما ينفيه ابن رشد وابن سينا، فكتاب ابن ملكا موجود مطبوع طباعة هندية ولكنه نادر، والقليل من يهتم بمثل هذه الأمور أو يقرؤها.(1/594)
وأما الرازي فقد يطول الحديث عنه، وهو من أكبر أئمة الأشعرية بل هو إمام المتأخرين؛ لأن الأشعرية الكلابية لهم ثلاثة أئمة أبو الحسن الأشعري وهو أول من أسس المذهب قبل أن يرجع إِلَى السنة، ثُمَّ أبو بكر الباقلاني وهو من تلاميذ تلاميذه، ثُمَّ الفخر الرازي،.
وأحياناً يقول شَيْخ الإِسْلامِابْن تَيْمِيَّةَ وغيره من العلماء: قال الفخر، وكذلك الذهبي في الميزان في حرف الفاء يقول مثلاً ترجمة الفخر، هذا الفخر هو فخر الدين الرازي.
وأحياناً يقولون: هذا مذهب ابن الخطيب؟ وهو الفخر الرازي وهذه قد تخفى عَلَى البعض، فيقال هذا مذهب ابن الخطيب أو قال ابن الخطيب. فقد كَانَ أبوه خطيب الري فسمي ابنه ابن الخطيب، هذا مما ينبغي أن نعرفه عن الرازي.
ويعتبر الفخر الرازي متمكناً في العقليات والجدليات، كما يلاحظ في كتابه التفسير الكبير، ولكنه كَانَ مرتكباً لأخطاء كبرى في الأصول التي بنى عليها مذهبه، ومن أخطر الأصول التي جَاءَ بها الرازي ونقلها واتبعها واتخذها قدوة وهدى وإماماً من بعده: القول بأنه إذا تعارض العقل والنقل فإننا نقدم العقل.
ولهذا فإن شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ حينما ألف كتابه الكبير العظيم المشهور درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول رد عَلَى هذا المبدأ، وعلى هذا القانون، وقد قال به قبل الرازي أناس، ولكن الرازي هو أكثر من أشهر وأظهر هذا القانون، وعليه بنى عضد الدين الإيجي كتابهالمواقف، ثُمَّ بقي أصلاً من أصول القوم وهو من أخبث الأصول التي هدم بها الكتاب والسنة.
وكتب الرازي كتاباً آخر هو أكبر وأقوى كتاب في الشبهات في نفي صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو كتابأساس التقديس.(1/595)
وهو الذي نقضه شَيْخ الإِسْلامِ في كتابه نقض التأسيس، وهو الكتاب المعروف المطبوع وإن كَانَ المطبوع منه ما هو إلا جزء منه، وقد كَانَ الدكتور مُحَمَّد رشاد سالم رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وهو قد توفي منذ حوالي أسبوعين كما بلغنا يعمل في تحقيق هذا الكتاب، فيكون آخر ما حققه الدكتورمُحَمَّد رشاد سالم رَحِمَهُ اللَّهُ هو كتابنقض التأسيس، ونسأل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يكون قد أكمله ليخرج، لأن الموجود الآن ليس بكامل فشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ لما أراد أن يرد عَلَى شبهات منكري الصفات، رد ونقض أقوى كتاب جمعوه وألفوه كما يشهد لذلك ترجمة الرازي في كتاب طبقات الشافعية
لـ ابن السبكي، حيث جعله أعظم الأئمة وأثنى عليه بمدح عظيم.
أنه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
[وسادسُها: أن كلامه يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته وهذا يقوله صاحب المعتبر ويميل إليه الرازي في المطالب العالية]
وذكرنا أن صاحب المعتبر هو أبو البركات ابن ملكا البغدادي وأنه من الفلاسفة الذين يدعون إِلَى الفلسفة والكلام؛ لكنه كَانَ أقرب إِلَى السنة من أكثر الفلاسفة، كما بيّن ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في منهاج السنة يقول: إن الفلاسفة يتأثر كل واحدٍ منهم بحسب البيئة التي عاش فيها فابن رشد نشأ في بيئة كلابية أشعرية؛ ولهذا يكثر في كتب ابن رشد نقد الأشعرية بشدة، ومن ذلك نقدهللغزالي فلما كتب الغزالي تهافت الفلاسفة ردَّ عليه ابن رشد بكتاب تهافت التهافت.
أما ابن سينا فإنه نشأ بين المعتزلة والشيعة وذكرنا أن ابن سينا هو في أصله شيعي من الإثنى عشرية الرافضة؛ ولكنه في حقيقته باطني زنديق فهو من الشيعة الغلاة القرامطة العبيديين(1/596)
وأما أبو البركات ابن ملكا فإنه نشأ في بغداد حيث السنة والحديث، فتأثر بتلك البيئة فكان أخف المتفلسفة وأقربهم إِلَى منهج الحق والصواب بخلاف أُولَئِكَ الذين أوغلوا في التجديدات عَلَى طريقة الفلاسفة اليونان، وكتابه المعتبر هو في علم الكلام.
وأما الرازي فالمقصود به هنا: صاحبالمطالب العالية وهوفخر الدين الرازي عبد الله، ويُقال له ابن الخطيب أو ابن خطيب الري؛ لأن أباه كَانَ خطيبَ الري، ثُمَّ ورث الخطابة أيضاً بالري من بعده، فإذا جَاءَ في أحد الكتب قال الفخر أو قال ابن الخطيب، فالمقصود به هذا.
وإذا قيل: قال الرازي والرازي نسبة إلىالري، فمن كَانَ من العلماء أو المتكلمين أو الفقهاء من أهل الري فإنه يُقال له رازي، وهي نسبة من حيث اللغة خاطئة؛ لأن النسبة إِلَى الري ريي وليست رازي، ولكن هذا جرى عليه الاصطلاح.
وإذا قيل الرازي في علم الكلام أو الفلسفة خاصة فإنه يحتمل اثنين:
إما الفخر الرازي.
أو الطبيب أبو زكريا الرازي المشهور بالطب أكثر منه في علم الكلام، أو في التفسير أو في الدين، ولكن التمييز بينهما ممكن واضح بأمور:
أولاً: أنأبا زكريا الرازي الطبيب توفي سنة 311هـ، بينما الفخر الرازي توفي سنة 606هـ، فهناك ثلاثة قرون بينهما، فهذا مما يعين عَلَى معرفة صاحب القول.
ثانياً: أنه إذا كَانَ في موضوع الفلسفة البحتة الإلحادية وفي مجال الطب أو ما يسمى بالعلوم الطبية أو العلوم الطبيعية، إذا أطلق الرازي فهو الرازي الطبيب وقد كَانَ زنديقاً مُلحداً -نسأل الله السلامة والعافية- وهذا الذي يفتخر به الباحثون في العلوم أو في الطب، ويقولون: إنه ممن أسهم من الْمُسْلِمِينَ في تقدم البحث، فهذا هو الطبيب وليسالرازي فخر الدين المفسر المتكلم.(1/597)
وهو بلا شك مفخرة للإسلام في ظل حكم الإسلام وفي ظل حضارة الإسلام، أن ينبغ أي إنسان في أي مجال أو أن يخترع أو يكتشف أو يتفوق، حتى لو فرضنا أن هذا الإِنسَان يهودي أو نصراني؛ ولكنه نبغ في ظل الدولة الإسلامية أو العالم الإسلامي، واشتهر واخترع وابتكر، فهذا مفخرة للحضارة الإسلامية؛ لأن المكتشفين والمخترعين في الغرب، في ظل حكم الكنيسة النصرانية قبل القرن السادس عشر والسابع عشر كانوا يتعرضون للحرب والإعدام والصلب والسجن، وأمثال ذلك من العقوبات.
لكن في ظل سماحة الإسلام ويُسره تتقدم وتنمو، أو تترقى هذه العلوم من طب أو هندسة أو فيزياء أو رياضيات أو ما أشبه ذلك، وإن كَانَ المبدع فيها ليس مسلماً، فإن الفضل للإسلام وللحضارة الإسلامية، فابن سينا أوالرازي هذا الطبيب كلاهما كَانَ مُلحداً زنديقاً بلا شك؛ ولكن علمهم وأمثالهم هو من إنتاج الحضارة الإسلامية، أي: ما أبدعوه في جانب الرياضيات والطب وغيرها فالفضل يعود فيه للإسلام، ولا نتكلم في جانب الإلهايات والعقيدة؛ لأنه مردود عليهم قطعاً، والمقصود أن الرازي الذي هو فخر الدين الرازي صاحب التفسير الكبير وصاحب الأصول هو صاحبالمطالب العالية الذي ذكره المُصْنِّف هنا.
عيبان ظاهران في كتب الرازي
ومن عجائب الفخر الرازي التي ذكرها عنه العلماء أنه يورد الشبهة ويستدل لها، ثُمَّ لا يستطع أن ينقضها، ولهذا قال بعض العلماء: إنه يأتي بالشبهة نقداً، ويجعل الجواب عنها نسيئة، فالذي يقرأ كتبه قد يتشكك من إيراد الشبهات؛ ولكنه لا يجد الرد عليها، فالرازي كَانَ أولاً يطول النفس في الكتابة ثُمَّ ينقطع، فطول نفسه يذهب في إيراد الشبهات، فإذا أراد أن يُجيب كَانَ قد تعب فلا ينقض هذه الشبهات، ولهذا قيلت فيه هذه العبارة.(1/598)
وهناك ظاهرة أخرى موجودة وملحوظة في كتبه وهي التناقض والافتراض، وهذه تهمنا هنا فالرازي في موقفه من قضية الكلام -التي هي موضوع حديثنا- مضطرب ومتناقض في عدة كتب من كتبه وقد كتب أحد الباحثين بحثاً طويلاً بعنوان فخر الدين الرازي وآراءه الكلامية فأقر هذه النتيجة أن الرازي مضطرب متردد متقلب في موقفه من العقيدة ومن علم الكلام خاصة.
فمثلاً في بعض كتبه يقول: إن الكلام عَلَى نوعين: كلام قديم وهو المعاني القائمة بالنفس، وكلام حادث مخلوق وهو: الألفاظ والحروف والأصوات، وهذا هو مذهب الكلابية.
وفي بعض كتبه يصرح بأن القُرْآن مخلوق، وأن الكلام لا يمكن أن يكون إلا مخلوقاً، وهو بذلك يشبه المعتزلة فهو مرة أشعري ومرة معتزلي.
وفي كتب أخرى ينقض قول المعتزلة، وينقض قول الأشعرية، ويُقرر كلاماً من نوعٍ آخر، وهنا كما فيالمطالب العالية ذكر هذا الكلام: أن كلامه -تعالى- يرجع إِلَى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته فيقول الرازي: إن كلام الله لا يخلو أن يكون خبراً أو إنشاءً أمراً أو نهياً فمثلاً أمر الله في شيء ليس هو كلامه الذي يأمر به، وإنما إرادته وإخباره بأنه سوف يثيب من فعل كذا وكذا، ونهيه عن شيء هو إرادته وإخباره بأن من فعل كذا وكذا فسوف يعاقب، وهذا القول نقده الأشعرية أنفسهم الذين يدعون أن الرازي من أعظم أئمتهم وهو - كما قلنا - إمام المرحلة الثالثة من مراحل تطور المذهب الأشعري حتى أن الشركساني صاحب المقاصد ذكر ذلك وقَالَ: إن هذا القول ضعيف؛ بل قَالَ: وهذا ظاهر الضعف؛ لأن إرادة الثواب للمطيع الممتثل للأمر، أو إرادة العقاب لمرتكب النهي هذه لوازم الأمر والنهي أو من نتائجه، وليست هي الأمر والنهي فإذا هذا الوجه ظاهر الضعف.
وكما أشرنا إِلَى أن المذاهب الرئيسة هي الثلاثة التي ذكرناها:
مذهب المعتزلة.
ومذهب الأشعرية الكلابية.
ومذهب السلف.(1/599)
وقول الرازي يعد من فروع مذهب الأشعرية الكلابية، وإن كَانَ أراد أن يتفلسف فيه قليلاً، لكن المذهب نفسه فيه التناقض والاضطراب، وهذا الذي حصل ووقع للرازي من بدايته، فقد تأرجح الرازي بين كونه فيلسوفاً، وبين كونه معتزلياً، وبين كونه أشعرياً، وفي آخر عمره يقول في وصيته وفي بعض كتبه: إن منهج القُرْآن هو الصحيح، وهو صاحب الأشعار التي يقول فيها:
نِهَايةُ إِقْدَامِ العقولِ عِقَالُ وغَايةُ سعي العَالمِينَ ضلالُ
وَلم نستَفِد مِنْ بحثِنَا طوُلَ عُمرِنَا سِوَى أنْ جَمعنَا فيه قِيلَ وقالوا
هو الذي اعترف بذلك في قصيدة له ضمن أقسام اللذات، وأوصى عند موته بطريقة القرآن، وقَالَ: رأيت المناهج الفلسفية، والطرق الكلامية فما وجدتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ووجدت أفضل الطرق طريقة القُرْآن أقرأ في الإثبات قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:2،1] والرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] واقرأ في النفي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] فهو في آخر أمره رجع إِلَى مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وهذا ما حصللأبي حامد الغزالي، وحصل مثله للجويني الذي سيأتينا مذهبه وهو المذهب الثامن.(1/600)
وهذا الاضطراب الذي يقع فيه أكثر أئمة الأشعرية، ومنهم أبو الحسن الأشعري نفسه الذي انتقل من قول إِلَى قول؛ يدلنا عَلَى حيرة المتكلمين عموماً، ولا سيما المتكلم الذي يريد أن يوفق بين الفلسفة، والمنطق والكلام الذي هو كلام اليونان وأمثالهم؛ وبين الكتاب والسنة، فمن كَانَ لديه حظ من الكتاب السنة ومحبة للكتاب والسنة كما كَانَ هَؤُلاءِ، لكنه في الوقت نفسه لديه قناعة بصحة كلام الفلاسفة وأمثالهم؛ نجد أنه يضطرب ولا يزال عَلَى هذا الاضطراب حتى يتمحص في الأخير لأحدهما، فالجويني أبو محمد رجع إِلَى عقيدة السلف، وابنه أبو معاذ الجويني رجع إليها، وألف الرسالة النظامية، ومن قبل رجع أبو حامد الغزالي، والرازي؛ لكن بعضهم لم يرجع وإنما اضطرب وتخبط وتناقض، فهذا التناقض ظاهرة عامة.
ولذلك نجد هنا أن المذهب السادس، والسابع، والثامن، والرابع، هي في الحقيقة ترجع إِلَى المذهب الثالث، وهو المذهب الأشعري الكُلابي، وقد يكون السبب -والله أعلم- في هذه الحيرة أنه لضعف الحجج التي يحتج بها الأشعرية إذا أتي المعتزلي رد عليها ونسفها، فنتيجة لهذا الضعف يضطر أصحاب هذا المذهب أن يبحثوا عن تعليلات وعن تخريجات، ومن هنا كثرت الأقوال المتشعبة من هذا المذهب بل يمكن أن نعتبر منها أيضاً المذهب السابع الذي هو مذهب الماتريدية.
إذاً المذهب السادس لا يُخالف أصحابه في أن القُرْآن مخلوق، فهم يقولون: إنه مخلوق، وإنما كلامهم في وصف حقيقة الكلام النفسي، وكفى بذلك بدعة وضلالا نسأل الله السلامة والعافية.
السابع أنه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره
قَالَ المُصْنِّفُ رحمة الله:
[وسابعُها أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قولأبي منصور الماتريدي] .(1/601)
أبو منصور الماتريدي هذا رجل من الحنفية من أصحاب الرأي، عاش في بلاد ما وراء النهر، وتوفي في منتصف القرن الرابع حوالي سنة 350هـ، وهو إمام الطائفة والفرقة المسماه بالماتريدية، وهذه الفرقة أقرب شيء إِلَى الأشعرية، إلا أن بين الفرقتين خلافات أكثرها كلامي نابع من الاجتهادات الكلامية البحته، وليس في قضايا النصوص وفي معرفة الأدلة، المهم أن أبا منصور الماتريدي هذا ينتمي إِلَى الإمام أبي حنيفة بحكم أنه حنفي، ويدعي أن ما هو عليه من المذهب هو مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولهذا نجد أن المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ يقول في نفس البحث، بعد حوالي أربع ورقات أو خمس في آخرها، يقول لما ذكر كلام الإمام أبي حنيفة في الفقة الأكبر: [والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقرائتنا له مخلوقه، والقرآن غير مخلوق]
لما ذكر المُصْنِّف هذا قال في شرح هذا الكلام: ففهم منه -يعني من كلام أبي حنيفة - ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء.
وسيأتي هذا إن شاء الله ونشرحه في موضعه، والمقصود أن قول الماتريدي قد شرحه المُصْنِّف بعد هذه الصفحات في هذا الموضع، وهو أن كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى معنىً قائماً بنفسه تعالى، ولا يمكن أن يسمع ولا يتصور أن يسمع، فليت شعري يا أبا منصور فماذا سمع موسى عندما كلمه الله؟
ويقول: إن هذا خلقه الله، خلق الله الألفاظ وخلق الأصوات والحروف، وأما حقيقة الكلام النفسي فإنه لا يمكن أن يسمع لكن يطلق الكلام عند أبي منصور الماتريدي على المعنى الحقيقي الذي هو المخلوق، ولكن المخلوق يتضمن المعنى النفسي، وهذا هو الفرق بينه وبين المذهب الثامن.(1/602)
والمذهب الثامن يرى أن الإطلاق مشترك؛ فإذا قيل كلام الله، فإنه مشترك بين النفسي والحروف والأصوات بزعمهم، أما هذا فَيَقُولُ: كلامه هو ما خلقه في غيره لكنه يتضمن ما في نفسه، وليس عَلَى هذه الأقوال من دليل إلا الابتداع والظن واتباع الرأي، فيجهد الواحد منهم نفسه الليالي والأيام ليخرج برأي باطل، ولو أنهم اتبعوا الكتاب والسنة، وسألوا علماء الإسلام لما كَانَ نهاية فعلهم الوبال والضلال نسأل الله السلامة والعافية.
فهل سمعت أو قرأت لأحد ممن اشتغل بعلم السنة ولم يشتغل بقيل وقال، وإنما اشتغل بكلام الله وكلام رسوله، وكلام علماء السلف، مثل الإمامأَحْمد بن حَنْبَل ومالك والشَّافِعِيّ وأبي حنيفة والفضيل وعبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة وأمثال هَؤُلاءِ الأعلام، هل سمعت أحداً نشأ عَلَى كتبهم، وتربى عَلَى أقوالهم، وقرأ سيرهم وأحوالهم، شكى الاضطراب أو التناقض أو الحيرة، أو رجع عن ذلك -والعياذ بالله- إِلَى الفلسفة، أو إِلَى عكس ما كَانَ عليه؟ لا يوجد أبداً، وإنما يعيش الواحد منهم ويموت وهو مرتاح البال، مطمئن واثق من دين الله عَزَّ وَجَلَّ.
الثامن: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات
قَالَ المُصْنِّفُ رحمة الله:
[وثامنُها: وهو أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات وهو قول أبي المعالي ومن تبعه]
أبو المعالي هو الذي تمنى عند موته أن يموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور، وكان من بلدة نيسابور.
صحيح أن عقيدة عجائز نيسابور خير، وأفضل من عقيدة أهل الكلام وأهل الحيرة والضلال والشك -عافانا الله وإياكم- من ذلك؛ لكن أليس هناك ما هو أفضل من دين العجائز، أو عقيدة العجائز؟(1/603)
بلى عقيدة الراسخين في العلم، لماذا لا نتمنى أن نموت عَلَى عقيدة الراسخين في العلم؟ الذين قال قائلهم لو كشف لما ازددت يقيناً، وقال الآخر: لو أني رأيت الجنة والنَّار لما كَانَ إيماني بها أقوى من إيماني بها الآن، قيل: وكيف ذلك؟
قال لأني رأيتهما بعيني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يقول: مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى [النجم:17] ، ولو رأيتهما بعيني لربما زاغ بصري أو طغى، فسُبْحانَ اللَّه ما أعظم التمسك بالسنة، وما أبعده عن الشك والريب!
بل هو اليقين كله والطمأنينة كلها والخير كله؛ أما هَؤُلاءِ فتجد الحيرة والتخبط والتناقض، كما هو ظاهر في أقوالهم، ولو أننا نسترسل في حكاية أقوالهم وفي تفصيلها، لمللت وسئمت من كلام معقد لا طائل تحته، ولا دليل عليه -نسأل الله العافية- ولكن نحاول أن نشرح بقدر ما نفهم الفكرة في الجملة ونستوعبها.
وأبو المعالي الجويني هذا هو الملقب بإمام الحرمين وهو شيخ أبي حامد الغزالي، من أسباب خطأ الجويني في أول حياته أنه كَانَ جاهلاً بعلم الحديث، ولهذا يقول شَيْخ الإِسْلامِ إنه لما ألف كتاباً كبيراً في مذهب الشافعية -لأنه كَانَ شافعي المذهب- لم يأت فيه بحديث صحيح إلا حديثاً واحداً.
وهذا الحديث عزاه للبخاري وليس فيه؛ لكن لو سُئل في علم الكلام، أولو قرأت كتاب الإرشاد، وهو مطبوع، لوجدت أنه مطلع عَلَى علم الكلام، وعلى الأقوال وعلى هذه الفلسفات والأمور التي لا خير فيها، ولا ثمرة ترجى منها، ولهذا رجع الجويني في آخر الأمر إِلَى عقيدة السلف في الجملة، وذلك في الرسالة النظامية، وإن كَانَ هو يظن أن السلف يفوضون المعنى، لكن يكفي أنه هدم المذهب الأشعري الذي كَانَ عليه هو وأصحابه، وهو التأويل.(1/604)
وقَالَ: ""لما رأينا أن السلف والصحابة والتابعين ومن بعدهم مطبقون ومجمعون عَلَى عدم التأويل"" وهذه حقيقة، فلا يوجد أبداً في الصحابة ولا في التابعين مؤول عَلَى الإطلاق، قَالَ: ""وهم أزكى النَّاس وأعلم النَّاس وأحفظهم للدين"" هذا معنى كلامه، ""فلو كَانَ التأويل حقاً لسبقوا إليه ولكانوا أولى النَّاس به"" وهذا كلام صحيح.
فترك التأويل وقال في صفات الله: نثبتها ونفوضها، بينما التفويض عند السلف في الكيفية فقط، والسؤال عن ذلك بدعة، والله -عَزَّ وَجَلَّ- هو الذي يعلم ذلك، لكن نثبت المعنى، فالاستواء مثلاً معناه معلوم وهو: استقر، وعلا، وارتفع، وصعد، كما ذكر السلف، وهذا معنى معروف في لغة العرب؛ لكن الكيفية أمرها إِلَى الله في جميع الصفات، ونحن نجهل كيفية صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- مثلما نجهل ذاته، وصفاته فرع عن ذاته، وأما إثبات الصفات، ومعرفة معناها، فإننا نعرف معناها، ونرى آثار الرحمة، ونفرق بين الرحمة وبين الحكمة وبين العلم. لأن لكل منها معاني وآثار كل منها تختلف في لغة العرب.
والشاهد أن أبا المعالي فوّض بإطلاق، فقول أبي المعالي وهو القول الثامن، هو أن كلام الله مشترك، بين المعنى القائم بالنفس، وبين المخلوق الذي هو الحروف والأصوات، لا كما يقول الأشعرية أن الكلام فقط هو ما في النفس، فكأن أبا المعالي جدد كلام ابن كلاب، فابن كلاب يقول: هو ما في النفس فقط، وأما الحروف والأصوات فهي مخلوقة، مثل أي خلق من مخلوقات الله، لا يطلق عليها كلام الله، وأبو المعالي يطلق كلام الله عَلَى النوعين عَلَى كلام الله الذي هو ما في نفسه من المعاني، وعلى كلام الله الذي هو ما خلق.
التاسع: مذهب أهل السنة
المذهب التاسع هو الذي يهمنا، وينبغي أن نفهمه ونعرفه الآن بالجملة، ثُمَّ نأخذ تفصيله إن شاء الله قليلاً قليلاً في أثناء البحث. قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:(1/605)
[وتاسعها: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً، إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو يتكلم بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة]
مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الله يتكلم بصوت يسمعه من يريد اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أن يسمعهم ذلك الصوت، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم بما شاء في الأزل في ما لا أول له أو في ما لا نهاية له كما شاء، لا حجر عَلَى ذلك أبداً، وهذه العبارة رد عَلَى الكرامية أصحاب المذهب الخامس الذين قالوا: إن الكلام تحول من الامتناع الذاتي إِلَى الإمكان الذاتي، أي كَانَ ممتنعاً ثُمَّ تكلم ويتفلسفون في ذلك، كما ذكرنا في قضية حوادث لا أول لها، لكن مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتكلم كما يشاء في أي وقت شاء، وكذلك في الأزل فيما لا أول له، فالنوع قديم، وأما آحاد أو أعيان الكلام فإنها متجددة -مثلاً- أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما كلم موسى هل كلمه بما كلم به الملائكة لما خلق آدم؟ لا.
إنما تكلم مع الملائكة، ثُمَّ تكلم مع موسى، وهكذا نجد أن سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخاطب من شاء ويتكلم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما يشاء متى شاء، وأما الكيفية فكما قلنا في جميع الصفات: إن كيفية كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر لا يستطيع العبد أن يدركه، وإنما نثبت ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الكلام بالصوت الذي يسمعه المخاطب الذي يريد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مخاطبته وإعلامه وإفهامه به، كما سيأتي إن شاء الله في تفصيل الأدلة عَلَى ذلك، والمقصود أن نعلم أن هذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.(1/606)
قَالَ المُصْنِّفُ رحمة الله:
[وقولُ الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ: وإنَّ القُرْآن كلامٌ الله "إنّ" بكسر الهمزة عطفٌ عَلَى قولهِ: "إنّ الله واحد لا شريك له" ثُمَّ قَالَ: وإنَّ محمداً عبده المصطفى، وكسر همزة (إنّ) في هذه المواضع الثلاثة لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله.
وقوله: كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، رد عَلَى المعتزلة وغيرهم، فإن المعتزلة تزعم أن القُرْآن لم يبدُ منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يُحرِفوُن الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل.
فإنَّ المضافَ إِلَى الله تَعَالَى مَعَانٍ وأَعْيَان، فإِضَافةُ الأعيان إِلَى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره، فإن هذا كلُّه من صفاته، لا يُمكن أنَّ يكون شيء من ذلك مخلوقاً] اهـ.
الشرح:
القاعدة في اللغة العربية أن الهمزة بعد القول تكون مكسورة دائماً، وهذا يقول: [وإن القُرْآن كلام الله] هذا عطف عَلَى ما سبق في أول العقيدة، ثُمَّ يقول: [منه بدا بلا كيفية] أي نَحْنُ لا نفسر الكيفية ولا نعرفها وقوله: [بدا] يمكن أن تكون [بدأَ] من البدء، ويمكن أن تكون [منه بدا] أي ظهرَ، والذي مشى عليه المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هو أن كلمة بدا من بدا يبدو، وبعض العلماء يقول: "منه بدأَ وإليه يعود" فالعبارة هنا بعد ذكر [وإليه يعود] يترجح أن تكون بدأَ من البدء لأن البدأَ يقابله العودة، لكن الإمام الطّّحاويّ هنا لم يذكر كلمة [وإليه يعود] وإن كَانَ هو يؤمن بها، فبقي الأمر محتملاً للاحتمالين.(1/607)
والذي يبدوا لي أن المُصْنِّف اختار كلمة بدا أي ظهر، ولم يختر كلمة بدأ؛ لأن الحنفية شرحوا العقيدة الطّّحاويّ ة شرحاً ماتريدياً، وقد ألمحنا إِلَى ذلك فيما سبق، فإذا قَالَ: "منه بدأ" أي منه ابتدأ، فقد يفهم بعضهم أنه قبل ذلك لم يكن متكلماً، أو أنه ابتدأ الكلام، وأن جنس الكلام، أو نوع الكلام ليس بقديم، فحتى يزيل هذا الإشكال مال إِلَى قوله [منه بدا] مع أن هذا الإشكال له جوابه، وليس هذا موضعه، لكن فيما يبدو من اختيار المُصْنِّف أنه تعمد أن يختار "بدا" ولم يشر إِلَى "بدأَ" لأنه يقول: "وإلى هذا أشار الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بقوله: "منه بدا بلا كيفية قولاً" أي ظهر منه، ولا ندري كيفية تكلمه به.
وأكّد هذا المعنى في قوله "قولاً" فأتى بالمصدر المعرف للحقيقة؛ كما أكد الله تَعَالَى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ونجد أن المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ عندما يتكلم في أصحابه الحنفية يذكر أنهم قالوا: إن إطلاق الكلام عَلَى القُرْآن هو من قبيل المجاز، فكأنه أراد أن يأتي بمعنىً لا يحتمل الشبهة ولا الشك ولا المجاز، فقَالَ: [منه بدا] أي ظهر منه كما سيأتي.
شبهة المعتزلة والجواب عليها:
تقول المعتزلة إذا قلنا: إن القُرْآن كلام الله، لا يمنع أن يكون مخلوقاً.
ودليلهم أنهم قالوا: نَحْنُ نقول بيت الله والبيت مخلوق، وناقة الله والناقة مخلوقة، إذاً كلام الله مخلوق، وهذه شبهة تبدو قوية.
لكن -والْحَمْدُ لِلَّهِ- الجواب عليها واضح وسهل، فقد أجاب عليهاالسلف بأن ما يضاف إِلَى الله عَلَى نوعين: معانٍ وأعيان، الأعيان أي الأشياء الحسية، وهذه واضحة أنها مخلوقة، مثل بيت الله الكعبة، وناقة الله، وماء الله، وأي شيء نضيفه إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ من الأشياء الحسية فإن هذا يكون من الأعيان، وتكون الإضافة هنا للتشريف.(1/608)
وإذا أضيفت المعاني إِلَى الله تَعَالَى مثل حياة الله، حكمة الله، علو الله، عزة الله، فهي صفات، فإذا قلنا: حكمة الله فالمقصود بها صفة الله التي هي الحكمة، ورحمة الله أي: الصفة التي يتصف بها الله عَزَّ وَجَلَّ، وكلام الله أيضاً معناه الصفة التي يتصف بها الله، فهي ليست مخلوقة، وإلا للزم عَلَى كلام المعتزلة أن جميع صفات الله مخلوقة، لأننا نقول: رحمة الله، وعلم الله وحياة الله، فهل حياة الله مخلوقة والعياذ بالله؟ حتى هم لا يقولون ذلك؛ فعُلم أن قول المعتزلة هذا ظاهر الفساد وظاهر البطلان، ولا بد أن نفرق بين الأعيان وبين المعاني، فما أضيف إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ من الأعيان أي من الذوات فهذا يضاف للتشريف، فمثلاً كل النوق خلقها الله فكلها نوق لله، لكن عندما نقول: ناقة الله (بالذات) فهذه فيها إضافة تشريف، لأن هذه الناقة أخرجها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لتكون آية لثمود، فهي تختلف عن أي ناقة أخرى ولدت بطريقة طبيعية، كما شاء الله عَزَّ وَجَلَّ أن يطبع المخلوقات في التناسل والتتابع.
وبيت الله مثلاً، كل البيوت بيوت الله، والمساجد (بالذات) بيوت الله فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36] لكن إذا قلنا: بيت الله فإن التشريف هنا يحصل للكعبة أول بيت وضع للناس، وهكذا مثلاً رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه ذات معينة مخلوقة فنقول: رَسُول الله هنا للتشريف صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أما إذا قلنا: حكمة الله، حياة الله، علم الله، ومنها كلام الله؛ فلا يمكن أن يكون هذا مخلوقاً وإنما هي صفات، ولذلك لا نضيف إِلَى الله إلا الحق لأننا إذا أضفنا إليه شيئاً فإن هذا يدخل ضمن ما يوصف به الله في الجملة، وهذه الشبهة الأولى من شبهات المعتزلة:
ونقضها قول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-:(1/609)
[والوصفُ بالتكلُّم مِنْ أوصافِ الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] .
فَكَانَ عُبَّادُ العِجْلِ مع كُفْرِهم، أَعْرَفُ باللهِ من المعتزلة، فإنَّهم لَمْ يقولوا لِموسى: وَرَبُكَ لا يتَكَلمَ، أيضاً.
وقال تَعَالَى عن العجل أيضاً: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه: 89] فعُلِمَ أَنْ نفي رَجع القولِ، ونفي التَكلِيم نقصٌ يُستَدلُ بِهِ عَلَى عْدَمِ ألوهيةِ العِجل] اهـ.
الشرح:
هذا أحد الأدلة البرهانية التي تؤمن بها العقول السليمة، والفطر القويمة، ومن خلالها نثبت أن الله عَزَّ وَجَلَّ متكلم، وهو أن الكلام وصف كمال، بخلاف الخرص فإنه وصف نقص وعيب وذم، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي كل ما كَانَ صفة كمالٍ بإطلاق أي لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالله تَعَالَى أولى به من المخلوقين، حتى لو كانت هذه الصفة في المخلوق.(1/610)
وقيدنا بقولنا: "على الإطلاق"؛ لأن من الصفات ما تكون كمالاً في المخلوق، وهي لا تليق بالخالق كالنكاح مثلاً فإن المخلوق الذي يتزوج أكمل من المخلوق العاقر، أو العقيم، أو الذي لا يتزوج؛ لكن هذا في حق الله -عز جل- يكون نقصاً، فلذلك قيدنا وقلنا "لا نقص فيها بوجه من الوجوه" أو "لا نقص فيها عَلَى الإطلاق" ومن ذلك أنه جل شأنه مُتَكلِّم؛ لأن صفة الكلام ممدوحة وهي كمال في حق المخلوق، والدليل عَلَى ذلك قوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] فدلت الآية عَلَى أن الإله الحقيقي يتكلم، ويأمر وينهى ويشرع، أما هذا الذي لا يتكلم ولا يهديهم سبيلاً فكيف يتخذُّ إلهاً؟
وهنا أمر دقيق نريد أن ننبه عليه وإن استطردنا لكنه مهم، وهو أن الذين يدخلون في قضية لم يرد فيها شيء من الكتاب والسنة ويتعبون أنفسهم فيها، وهي قضية التجسيم، فيقولون: ما ثبت أنه جسم فليس بإله، نقول: ففي هذه الحالة عباد العجل ألم يكن العجل جسداً موجوداً أمامهم؟ أما كَانَ يكفي الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو العليم أن يقول: ألم يروا أنه جسد، فما دام العجل جسداً إذاً فليس بإله.
وكذلك في صفة الدجال فقد كَانَ يمكن أن يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه ليس بإله لأنه جسم، والله ليس بجسم، ولكن الألفاظ المسكوت عنها في الكتاب والسنة، السكوت عنها له دلالته، وهذا دليل عَلَى أن الوحي من عند الله، والقرآن وكلام الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعظم الأدلة وأصدق البراهين.(1/611)
فلهذا لم يأت في القُرْآن والسنة لا إثبات الجسم ولا نفيه؛ بل هو أمر مسكوت عنه، ويجب علينا أن نسكت عنه ولا نخوض ولا نبحث فيه، ولا نتعرض لشيء مسكوت عنه، وإذا أثبتنا شيئاً لله فنثبت ما أثبته لنفسه ولا نزيد عليه، فلا نقول: جسم ولا غير ذلك من الزيادات، وإذا نفينا فننفي ما نفاه تَعَالَى عن نفسه في الجملة، ولا نقول: ليس بجسم، ولا بد أن نعلم أننا كلما تمسكنا بالوحي، فإننا نكون في عين اليقين، وبعيدين أيضاً عن كل شبهة، فالله عَزَّ وَجَلَّ أتى بدليل واضح بَيِّن عَلَى أن العجل لا يمكن أن يكون إلهاً فقال: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً [الأعراف:148] فالعجل له خوار لكن لا يتكلم بمعنى لا يهدي لا يقول كلاماً فيه هداية؛ فليس بإله.
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فكان عباد العجل مع كفرهم] بل هم من أكفر خلق الله عَزَّ وَجَلَّ، لأنهم عبدوا العجل والنبي بين ظهرانيهم، وقد دعاهم إِلَى التوحيد فليسوا مثل الأمم الجاهلة، هذا غاية الكفر؛ لكن مع كفرهم [كانوا أعرف بالله من المعتزلة] ومن نفاة كلام الله جميعاً [فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً] وإلا لأفحموا موسى عَلَى زعمهم، ولكنهم فهموا أن الله -عَزَّ وَجَلَّ- يتكلم، وأنه كلم موسى، كما هو معلوم في القرآن، ونقول: إن هناك مناسبة بين قوله تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ [الأعراف:148] وبين ما يعلمه قوم موسى ويفخرون به من هذه الميزة العظيمة، وهي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كلم موسى عَلَيْهِ السَّلام، وهذا لا شك مفخرة وميزة لكن كيف تثبتون أن الله كلم موسى نبيكم هذا ثُمَّ تعبدون العجل الذي لا يتكلم ولا يهدي؟! ومع ذلك فهَؤُلاءِ أعرف بالله من المعتزلة، ومن نفاة كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وإلا لقالوا إن ربك لا يتكلم أيضاً، فلو كَانَ عباد العجل معتزلة أو كلابية لقالوا: إن ربك لا يتكلم.(1/612)
فالمعتزلة والكلابية جعلوا الله -تعالى -عن ذلك علواً كبيراً- مثل العجل مع أن العجل له خوار، وهَؤُلاءِ أيضاً لم يثبتوا له شيئاً، ويقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن العجل: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً [طه:89] [فعلم أن نفي رجع القول، ونفي التكليم نقص يستدل به عَلَى عدم ألوهية العجل] فالإله الحقيقي -ولا إله إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يرجع القول ويتكلم ويقول، وأيضاً هو الذي يملك الضر والنفع فسُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عما تقوله المعتزلة علواً كبيراً.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وغايةُ شُبهتهُم أنهم يقولون: يَلزمُ مِنه التشبيه والتجسيم؟
فيُقال لهم: إذا قلنا: إنَّهُ تَعَالَى يَتَكلَّمُ كَما يليقُ بِجَلالهِ انتفتْ شُبهتُهم. ألا ترى أنه تَعَالَى قَالَ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [يّس:65] فَنحنُ نُؤمنُ أنَّها تكَلَّم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] وكذلك تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد عَلَى مقاطع الحروف.
وإلى هذا أشار الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: "منه بدا بلا كيفية قولاً"، أي ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به، وأكد هذا المعنى بقوله "قولاً"، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تَعَالَى التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز في قوله:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] . فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!
ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-: أُرِيدُ أَنْ تَقرأ:(1/613)
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى [النساء:164] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقالأبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى:
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ؟ فبهت المعتزلي!] اهـ.
الشرح:
شبهتهم متكررة قلّ أن يتركها أهل البدع في جميع صفات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهي أنهم يأتون بلوازم تخترعها عقولهم الكليلة القاصرة في حق الله تعالى، فيقولون يلزم كذا ويلزم كذا إِلَى غير ذلك. ونذكر ما حدث لابن فورك عند دخوله عَلَى المجاهد محمود بن سبكتكين الذي فتح أكثر بلادالهند.
فكان ذات مرة يتكلم وعنده أحد علماء أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فسأل عن علو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنكر ابن فورك ذلك وهو من أئمة الأشعرية في التأويل ألف كتاب مشكل الحديث وبيانه كله تأويلات.
فَقَالَ لمحمود وهو سلطان قائد عسكري فاتح لا يعرف علم الكلام ولا يعرف الأدلة واستنباطاتها: يلزمك إذا أثبتَّ له فوق أن تثبت له تحت، فَقَالَ له محمود السلطان بكل بساطة وهدوء: أنا لا يلزمني شيء؛ لأنه هو الذي أخبر أنه فوق، فأنا أقولُ بما أَخبرَ، أي إن كَانَ هناك ما يلزمني فيلزمه هو سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لأنه هو الذي قال ذلك، وهل بإمكان أحد أن يلزم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بشيء!
فيقول يا رب: أثبتَّ لنفسك العلو فيلزمك أن تثبت كذا عياذاً بالله!! فهذا هو الجواب الفطري الصحيح عَلَى جميع شبهاتهم وضلالاتهم، وكل الإلزامات، وكل الإيرادات التي يوردونها تنتفي وتنتهي عندما نقول: إن هذا كلام الله وكلام رسوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن أراد منكم أن يلزم فليلزمهما، أما نَحْنُ فلا يلزمنا شيء إلا أنه يلزمنا أن نؤمن بكلام الله ورسوله.
شبهة من قال: إن إثبات الكلام لله تعالى يلزم منه التشبيه والتعطيل(1/614)
إن أرباب الكلام من معتزلة وكلابية وأشعرية وجهمية يقولون: إن إثبات الصوت يلزم منه هواء يتردد في الرئة، ويلزم منه شفتان، ويلزم منه حنجرة وقصبة هوائية! سُبْحانَ اللَّه! من أين جئتم بهذه اللوازم؟
حتى الذين يؤمنون بإثبات صفة الكلام، ومنهم بعض الكُتّاب المعاصرين ردوا عليهم بأن قالوا: ونحن نثبت لله كلاماً، لكن من غير شفتين ولا لسان ولا قصبة هوائية ولا رئة ولا هواء ولا نفس، فأولئك أخطؤا في حق الله عَزَّ وَجَلَّ لما قالوا يلزم أن نثبت له هذا، والآخرون قالوا نثبت بلا كذا ... ، يكفيك أن تقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]
ومن الذي يرد في خاطره أو يجول في باله أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كالمخلوق في هذه الأمور، أو في هذه اللوازم، إلا من كَانَ ضعيف الإيمان أو ضعيف العقل أو جاءه الشيطان بشبهة، وهذا عليه أن يطردها لا أن يقرَّرها، وقولهم هذا دليل عَلَى أنهم لم ينفوا ولم يعطلوا الصفات إلا لمَّا خطر في أذهانهم التشبيه، فأول الأمر شبهوا، فلما وقع التشبيه في قلوبهم لم يجدوا إلا أن يدفعوه بالنفي والتعطيل، فَقَالُوا: ما دام أن الكلام لا يتصور إلا بالشفة واللهاة والقصبة الهوائية والرئه والهواء والنفس وكذا.. إلخ.
إذاً ندفع ذلك كله ونقول: إنه لا يتكلم أبداً، فنجعله أصم لا يسمع ولا يتكلم ولا يرى إِلَى آخر ما وصفوا الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى به، وما نفوا به صفاته.
الرد على هذه الشبهة
ولذلك يرد عليهم المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بقوله: [يُقالُ لهم إذا قلنا: إنه تَعَالَى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبههم] وكلامه -جل شأنه- يليق بجلاله، وكماله المقدس، وكلام المخلوقين يليق بهم. فكل شيء تكلم به، فإنه يتكلم بكلام يليق به، وعلى الصفة التي هو عليها دون أن نلزمه بصفة شيء آخر.(1/615)
ومن أوضح الأمثلة عَلَى ذلك أننا في هذا العصر نسمع من آلات التسجل كلاماً، وهي لا يوجد فيها اللسان ولا الشفتان ولا اللهاة ولا القصبة ولا النفس، وإنما هي آلات مخترعة ومع ذلك تحتفظ بالصوت وتردده وتخرج الكلام من جنس ما صنعه الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أو ما صنعه الإِنسَان عَلَى الكيفية التي أرادها الله، ووفّق الله الإِنسَان فصنعها عليها، ومن الممكن أن توجد بطريقة وبأشكال أخرى، وكذلك مسألة الاحتفاظ بالصوت، فقد كانت بدائية قديمة، والآن تطورت وسيلة الحفظ، ويمكن أن تتطور إِلَى أشكال أخرى، ومع ذلك الصوت يسمع منها وهذا في المخلوقات.
وضرب المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُه تَعَالَى هنا أمثلة منها تكليم الأعضاء يَوْمَ القِيَامَةِ: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يّس:65] .
فأعضاء الإِنسَان يَوْمَ القِيَامَةِ تتكلم وتنطق ويختم الله تَعَالَى عَلَى الأفواه، كما قال ذلك في سورة فصلت، وعندها يستغرب المجرمون الظالمون أن تشهد عليهم أعضاؤهم وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] فهو سبحانه أنطق كل شيء، وينطق كل شيء كما يشاء الله، ومتى شاء، فلو شاء لنطق الهواء، ولو شاء لنطقت الأرض، ولو شاء لأنطق أي شيء يريده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكذلك تسبيح الحصا والطعام وكلام الحجر، هذا كله من الآيات البينات التي أظهرها الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد عَلَى مقاطع الحروف، وهذه كلها من غير الأصوات المعروفة لبني آدم، فليس هناك صوت وليس هناك شفة ولا لهاة إِلَى آخر اللوازم التي قدروها.(1/616)
هذه الشبهة التي تلازمنا دائماً في عدة أبحاث؛ فنجدهم في الرؤية يقولون: يلزم من رؤية الله أن يكون جسماً، وأن يكون مقابلاً، ويلزم منه أن يكون منفعلاً سُبْحانَ اللَّه!
كل هذه شبهة واحدة يكررونها جميعاً فيلزمون ربهم تَبَارَكَ وَتَعَالَى بما يلزمون به المخلوق، فهم يقيسون عَلَى ما يرون من هذا المخلوق العاجز الضعيف الكليل، الذي لا يستطيع أن يتكلم أو ينطق إلا بالوسائل التي جعلها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له، والذي نردُّ به عليهم دائماً هو أن كلام الله يليق بجلاله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ولا يشبهه أحد من خلقه لا في كلامه ولا في غير ذلك من صفاته ويقول المُصْنِّف إن أبا جعفر الطّّحاويّويّ صرح بنفي الكيفية عندما قَالَ: [إن القُرْآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً] فأشار إِلَى أن الكيفية التي تتخيلها أو تتوهمها عقول البشر منفية عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
ثُمَّ قال المصنف: (قولاً) وكلمة قولاً هنا مهمة، فالإمام أبو جعفر الطّّحاويّويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- لما قال قولاً إنما يؤكد عَلَى حقيقة القول، وأن القُرْآن الذي هو كلام الله: هو هذا المتلو أو المسموع أو المحفوظ المكتوب بين الدفتين وليس الكلام المخفي وهذا احتراز جيد من الإمام ابن أبي العز -رَحِمَهُ اللَّهُ- عندما نبه إِلَى هذه الكلمة، لأنه سبق أن قلنا: إن بعض الماتريدية شرح العقيدة الطّّحاويّويّة عَلَى أساس أنهم حنفية والإمام أبو جعفر الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللَّهُ حنفي، فأولوها بما يوافق مذهبهم، لكن الإمام ابن أبي العز رَحِمَهُ اللَّهُ، هنا إذا مرت به كلمة حاسمة في الموضوع لا تحتمل التأويل أكدها ليرد عليهم، ولذلك يقول المُصْنِّف [أتى بالمصدر المعرف للحقيقة تأكيداً، كما أكد الله تَعَالَى في التكليم بالمصدر المثبت للحقيقة النافي للمجاز الذي يقطع أي احتمال في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]] .(1/617)
فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر المصدر المؤكد "تكليماً" أكد الحقيقة ونفى أي احتمال للمجاز أو التأويل أو التحريف.
كما تقول: رأيت فلاناً رؤيةً، أو شاهدته مشاهدة، فإنك تقطع بذلك احتمال أن تكون رأيته في المنام، أو رأيته عن طريق واحد بالإخبار، وتقول: كلمته كلاماً، فمعنى ذلك أنه مشافهة ولم تكلمه مثلاً في رسالة أو في كتاب خطي أو نحو ذلك.
ومع ذلك قال المعطلة: نقرأها وكلم اللهَ موسى تكليماً بنصب لفظ الجلالة (اللهَ) ، فيكون موسى هو الذي كلم اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فرد عليهم أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ بما جَاءَ في الآية الأخرى، وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فكيف يمكن أن يؤولوا هذه! مع العلم أن القُرْآن إنما يقرأ بالتلقي، بل حتى القراءات وإن كانت صحيحة الإسناد، ولكنها ليست متواترة لا يجوز أن نقرأ بها، وإنما هي كتفسير أو ما أشبه ذلك، كما هو معلوم في مباحث علوم القرآن.
وأولوها بتأويل آخر فَقَالُوا: إن التكليم: هو التجريح كما في لغة العرب: فيُقَالُ: فلان كَلَّمه أي جَرَّحه، فَقَالُوا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] أي جَرَّحه تجريحاً. ما معنى هذا الكلام ولماذا جرحه؟
إنما هي شهوة المروق من الحق، وشهوة التأويل الفاسد، وعدم انقياد قلوبهم وأسماعهم وعقولهم لما أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ولما قاله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولو انقادوا لله ولرسوله وصدقوا ما قاله الله ورسوله لما خطر لهم أن ولا أن يحرفوا كلام الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فلذلك عندما يذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى القصة التي وقعت لعمرو بن عبيد فقَالَ: لأبي عمرو ابن العلاء أحد القراء السبعة المعروفين المشهورين: أريد أن تقرأ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] بنصب اسم الله ل يكون موسى هو المتكلم لا الله.(1/618)
قال أبو عمرو: هب أن قراءة هذه الآية كذا وقرأتها كما تقول، فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] فبهت المعتزلي، فهذه القصة من ردود أهل السنة عَلَى المعتزلة، فهم يحاولون أن يؤولوا هذه الآيات بأي نوع من أنواع التأويل، وأن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ردوا كل وجه من هذه الوجوه ومنها هذا الوجه الذي أرادوا أن يقرؤها به، أو قالوا: لِمَ لا نقرأها به ردوه بما أثبته هنا وهي الآية الأخرى وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ وهي آية صريحة لا تحتمل أي تأويل، وكذلك لو قلنا من الناحية العقلية: وكذلك لو قلنا من الناحية العقليةوَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ما الميزة إذا كَانَ المراد أن موسى كلم الله أو خاطب الله أو دعا الله؟
فكل خلق الله يدعون الله عَزَّ وَجَلَّ، نَحْنُ جميعاً كلنا ندعو الله تعالى، فما الميزة لموسى عن غيره، لو تأملنا بأي وجه من الوجوه فإننا لا نجد لهَؤُلاءِ القوم حجدة ولا سنداً إلا الهوى واتباع الظن ولهذا كَانَ هذا الفاجر عمرو بن عبيد إمام المعتزلة يتمنى ويقول: وددت أنني أحك سورة تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] من المصحف والعياذ بالله؛ لأن المعتزلة كانواقدرية، فلم يستطع عقله القاصر أن يستوعب أن أبا لهب من أهل النَّار رغم أنه ما زال حياً ومخاطب بالدعوة كما قال تعالى، تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [سورة المسد] ؟ يقول: نزلت هذه السورة عَلَى أبي لهب وهو لا يزال حي ومخاطب بالدعوة، وفيها إخبار بأنه من أهل النار.
فجاءت الشبهة: هل أبو لهب مجبور، لماذا لم يقل: أنا آمنت؟(1/619)
يقول عمرو بن عبيد: كَانَ في إمكان أبي لهب أن يقول: أنا أؤمن، ومن آمن، فإنه يدخل الجنة، ولا يدخل النار، فيكون قد كذَّب بالقرآن والعياذ بالله.
فلم يستطع عمرو بن عبيد أن يَحُلَ هذا الإشكال، فليس فيه إلا أن يقول إنه مجبور ويدخل النار، أو يؤمن ولا يكذب القرآن، فهذا الجاهل المسكين لما أخذ يفكر في القدر ويفكر في هذه الآيات وأمثالها بعقله القاصر، ولم يسأل أهل الذكر وقع في هذا الضلال المبين، وهَؤُلاءِ لم يعرف عنهم أنهم سألوا أهل العلم لا عمرو بن عبيد ولا واصل بن عطاء، إنما كانوا في حلقة الحسن البصري رَحِمَهُ اللَّهُ فلما خرجوا عن قول الأئمة بقولهم بالمنزلة بين المنزلتين، طردهم الحسن البصري من حلقته، فاعتزلوا وسموا المعتزلة.
فلو أنهم اتبعوا كلام أهل العلم وسألوهم، أو سلموا أمرهم إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ وآمنوا بكتاب الله ما فهموا منه وما لم يفهموا، لما وقعوا في هذا التناقض. فلو أن المؤمن لا يؤمن بأي شيء من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا إذا استوعبه عقله وفهمه وعرف أنه غير متناقض لما آمن أحد، وأكثر الْمُسْلِمِينَ لا يستطيعون أن يدركوا معاني الآيات ولا معاني الأحاديث، ولا يستطيعون أن يردوا شبهة الملحدين.
ومع ذلك هم ولله الحمد عَلَى الإيمان الصحيح، فالثقة في مصدر الكلام هي وحدها تكفي، وهذا أمر يعرفه البشر حتى في حدود أمورهم الدنيوية، فكيف بمن يعترض عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وعلى كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ بعقله القاصر الكليل، ويقول كيف تنزل هذه الآيات؟ أو إذا لم يفهمها سيقول وددت لو أنني حككتها والعياذ بالله، فهم لا يبالون في سبيل إقرار بدعتهم وشبهتهم أن يؤولوا أو يحرفوا، أو أن يفكروا في أن يحكوا الآية من المصحف.(1/620)
وهذا من عدم الإيمان واليقين في قلوبهم، والحقيقة: أن الإِنسَان إذا تأمل في سير هَؤُلاءِ، كيف كانت حياتهم، وكيف كانوا يعملون لوجد أنهم أصحاب ضلالات، وأن الغالب عليهم أنهم متعمدون إفساد دين الْمُسْلِمِينَ، وإلا فلو أن الأمر شبهة أو خطأ أو لَبْس، لسألوا عنه أهل العلم ولديهم عقول تفكر، وتبحث عن الصواب؟ لكنها ما دامت مقرة بالفلسفات اليونانية القديمة وبكلام الصابئين والملحدين، وتريد أن تطعن في دين الإسلام، وأن توجه النقد إليه؛ فأقل ما يقَالَ: إنها تهدم بعضه وتثبت بعضه.
فتقر ما وافق هواها وفلسفاتها وعقولها، وتهدم ما تراه مخالفاً لها.
فمن هنا جاءتهم شهوة الهدم ومن هنا وقعوا في التخبط ووقعوا في الضلال.
ثبوت تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وكم في الكتاب والسنة من دليل عَلَى تكليم الله تَعَالَى لأهلِ الجنة وغيرهم قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قال رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بين أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقَالَ: السلام عليكم يا أهل الجنة وهو قول الله تعالى::سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إِلَى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجه وغيره.(1/621)
ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ ِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح، إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النَّار اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فلو كَانَ لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً، وقال البُخَارِيّ في صحيحه (باب كلام الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع أهل الجنة) وساق فيه عدة أحاديث، فأفضلُ نعيم أهلِ الجنة رؤيةُ وجهه تَبَارَكَ وَتَعَالَى وتكليِمه لهم، فإِنكارُ ذلك إِنكَارٌ لروح الجنَّة، وأعلى نعيِمها وأَفضلِه الذي ما طابت لأهلها إلا به] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أنه توجد في الكتاب والسنة أدلة كثيرة عَلَى تكليم الله تَعَالَى لأهل الجنة وغيرهم، وأما الحديث الذي رواه ابن ماجه عن جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فإنه حديث ضعيف كما علق عَلَى ذلك المحققان والشيخ إنما ذكره -والله أعلم- مع كثرة الأحاديث الصحيحة التي سيذكر بعضها إن شاء الله لعلاقته بالآية، لأن الآية واضحة بأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يقول لهم: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يّس:58] لأن الآية تدل عَلَى ذلك، فذكر هذا الحديث تفسيراً لها ولأنه توسم فيه إثبات أكثر من صفة لأنه قال فيه إثبات صفة الكلام، وإثبات صفة الرؤية، وإثبات صفة العلو، ففيه أنه اشتمل عَلَى إثبات هذه الثلاث الصفات.(1/622)
ولكن ما ذكره بعد ذلك واضح، وهو مثلاً قول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ ِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران:77] فنفى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى التكليم عن أُولَئِكَ القوم الذين يشترون بآيات الله وبعهده وأيمانهم ثمناً قليلاً عقوبة لهم، وبين أن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم، وإلا فإنه يقول لهم: اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] فيكلمهم، لكن لا يكلمهم كلام تكريم.
من أدلة تكليم الله عز وجل لمن يشاء من خلقه
لو قلنا عن الله تعالى: إنه لا يتكلم بالكلية، لاستوى في ذلك الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، والذين يعلمون الصالحات من الأَنْبِيَاء والصديقين.
ويدل عَلَى ذلك الحديث الصحيح الذي رواه الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ وهي أحاديث كثيرة كما ذكر المُصْنِّف هنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ".
ويقول لهذا المؤمن: ألم أعطك ألم أغفر لك؟ فيكلمه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حين يدنيه منه بكلام التكريم، وهذا يختلف عن الكلام الذي هو من جنس كلامه لأهل النَّار والعياذ بالله الذين لا يكلمهم، بمعنى: أنه لا يكلمهم كلام رضى، وإنما كلام الإهانة والسخط اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] .(1/623)
وقد ذكر الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في كتاب التوحيد من صحيحه ذكر عدة أبواب في بيان إثبات الكلام لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وقد ردَّ كذلك في كتاب الإيمان، وفي كتاب التوحيد، عَلَى أصناف المبتدعة والجهمية والزنادقة كما عنون لكتابه بذلك، فإنه رد عَلَى أصناف هَؤُلاءِ جميعاً بآيات وأحاديث صحيحة ثابتة، بمعانٍ عديدة مستنبطة، وتَعْجَب من دقته في الفهم، ومن دقته في الاستنباط، ومن ذلك أنه في مجال إثبات كلام الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عقد باباً لكلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأهل الجنة وباباً لقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وباباً لتكليم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى للملائكة، وذكر في كل باب من هذه الأبواب أحاديث صحيحة.
منها: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ إذا تكلم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالكلام سمعته الملائكة كسلسلة عَلَى صفوان، فتضع الملائكة أجنحتها خضعاناً لقوله ثُمَّ تختلف روايات الحديث فمنها، فيمر جبريل عَلَيْهِ السَّلام بأهل كل سماء فيفيقون فيقولون ماذا قال ربكم؟ قالوا الحق وهو العلي الكبير، وهذا الحديث هو تفسير لقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] فهذه الملائكة تصاب من وقع صوت كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليها بالخضعان -الإغماء- حتى تفيق بعد ذلك ويكون أول من يفيق جبريل، ثُمَّ يمر عَلَى كل أهل سماء فيخبرهم بما يسألون؟ ماذا قال ربكم؟ فيقولون: قال الحق وهو العلي الكبير، حتى يمر إِلَى السماء الدنيا فيقول ذلك، فيسمعه الجن والشياطين الذين كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع.(1/624)
ويذكر الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أيضاً في باب كلام الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى لأهل الجنة حديث (إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذا أَدْخَلَ أهل الجنة الجنة يناديهم) ، ومنها حديث آدم: (يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يا آدم يا آدم، فيقول لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لبيك وسعديك، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إِلَى النار) هكذا الرواية، وكما هو معلوم أن البعث إِلَى النَّار بأن يخرج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إِلَى النار، وواحداً إِلَى الجنة، ولذلك لما جزع أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك أخبرهم أن هَؤُلاءِ هم من قوم يأجوج ومأجوج نسأل الله العافية، وأن الأمة المحمدية ما هي في بقية الأمم إلا مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود.
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام البُخَارِيّ أيضاً في هذا الباب معلقاً (أنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ينادي عباده يَوْمَ القِيَامَةِ بصوت يسمعه من بَعُدْ كما يسمعه من قَرُبْ) ، وفي ذلك دليل عَلَى أن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ يختلف عن كلام جميع المخلوقين، فقوله: (يسمعه من بَعُدْ كما يسمعه من قَرُبْ) هذا خاص بكلامه جل شأنه (فيقول لهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أنا: الملك أنا الديان) حتى يسمع ذلك كل من في المحشر فتكون العبرة العظة لنا في هذه الحياة الدنيا، ولكل من يتكبر ويتجبر عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فحينما يقول يَوْمَ القِيَامَةِ (لمن الملك اليوم) ، فلا يجيب أحد من شدة الهول ومن كرب الموقف، فيجيب عَلَى نفسه، (لله الواحد القهار) نسأل الله أن يرحمنا.(1/625)
ومما أورد الإمام البُخَارِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- أيضاً في هذا الباب كلام الرب لجبريل في باب كلام الله مع الملائكة وأورد فيه الحديث الصحيح المعروف (إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا أحب عبداً، نادى جبريل، فَيَقُولُ: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه ... ) الحديث.
فهذا كلام من الله عزوجل يخاطب به جبريل، وجبريل يسمعه. وأورد أيضاً حديثاً آخر وهو حديث: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويصعدون إِلَى الجبار تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيسألهم -وهو أعلم بهم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون) وهذا خطاب بين الله تَعَالَى وبين الملائكة، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة الثابتة التي يخاطب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيها خلقه، كما خاطب الملائكة لمّا خلق آدم عَلَيْهِ السَّلام، وكما خاطب موسى عَلَيْهِ السَّلام، وكما يخاطب يَوْمَ القِيَامَةِ المؤمنين في الجنة ويخاطب الملائكة.
ومما ذكره الإمام البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أيضاً: خطاب الله تَعَالَى لأهل الجنة وهو: (إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إذا أدخل أهل الجنة الجنة يسألهم جل شأنه فَيَقُولُ: يا أهل الجنة فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول لهم الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين؟ فَيَقُولُ: أفلا أعطيكم ما هو أفضل من ذلك! فيقولون: وأي شيء أفضل من ذلك يا رب؟ فيقول أن أرضى عليكم فلا أحل عليكم سخطي أبداً) .
وهذا تفسير لقوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] فرضوان الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أكبر من كل نعيم نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يجعلنا وإياكم من أهل رضوانه وجنته.(1/626)
والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ أشار هنا إِلَى عدة مواضع ذكرها البُخَارِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى في صحيحه، وهي قوله باب كلام الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى مع أهل الجنة، وساق فيه عدة أحاديث قَالَ: [فأفضل نعيم لأهل الجنة هو رؤية وجهه تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وتكليمه لهم؛ فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به] وهذا حق، وسوف نأتي -بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَلَى مبحث إثبات الرؤية وهناك نأتي عَلَى هذه الأحاديث بالتفصيل.
ويتبين لنا أن رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هي أعظم نعيم في الجنة، وهي المزيد الذي يجعله الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كما قَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] فرؤية وجه الله تَعَالَى زيادةٌ عَلَى الجنة، فهي أعظم النعيم، فمن أنكر كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لأهل الجنة ورؤيتهم له فقد أنكر أعلى وأفضل نعيم في الجنة.
ولهذا قال أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كيف يرجو من ينكر رؤية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ويرد الآيات والأحاديث في ذلك أن يراه، وقد كَانَ في الدنيا ينكر ذلك؟ وكيف يرجو أن يدخل جنته؟ وأعظم نعيم في هذه الجنة هي رؤيته تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيزعم الإسلام والإيمان ويرجو أن يدخل الجنة وهو ينفي أعظم نعيم في الجنة جَاءَ التصريح به في كتاب الله وفي سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا عجيب في أمره.
والآن ننتقل إِلَى إحدى الشبهات في قولهم: إن القُرْآن مخلوق.
رد شبهتهم في الاستدلال بقوله تعالى: ((الله خالق كل شيء))
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وأما استدلالهم بقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] والقرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم "كل " فيكون مخلوقاً!! فمن أعجب العجب.(1/627)
وذلك: أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم "كل" وأدخلوا كلام الله في عمومها مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر [الأعراف:54] ففرق بين الخلق والأمر، فلو كَانَ الأمر مخلوقاً للزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إِلَى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل وهو باطل، وطرد باطلهم أن تكون جميع صفاته تَعَالَى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تَعَالَى الله عما يقولون علواً كبيراً] اهـ.
الشرح:
هذا الاستدلال حقاً عجيب، وهو مما ناظروا به الإمام أَحْمَد والكناني وغيره، يقولون: إن الله تَعَالَى يقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] أليس القُرْآن شيء؟
فيُقَالُ: نعم شيء.
فيقولون إذاً القُرْآن مخلوق، فيجعلونه مخلوقاً وهو كلامه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يتكلم به.
فيقول المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: إن هذا من أعجب العجب أن تقولوا إن أفعال العباد كلها خلقها العبد، وهي شيء، ولا تدخل في قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] وتقولون إن كلام الله شيء، ويدخل تحت قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] فهو مخلوق عندكم، انتقل من الرد عليهم بالأدلة العلمية المعروفة، إِلَى الرد عليهم من داخل مذهبهم، كما سبق أن أوضحنا.(1/628)
ونرد عليهم بأن كلمة "كل" هنا لا تعني كل المخلوقات بلا استثناء ولا عَلَى الإطلاق، ومن ذلك أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال عن الريح التي أرسلها وسلطها عَلَى عاد تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا [الأحقاف:25] فمعنى ذلك عَلَى كلامهم: أنها تدمر السموات والأرض والجبال وكل ما يطلق عليه شيء، والواقع أنها لم تدمر إلا ما أُمِرَتْ بتدميره، وما كلفت أن تدمره، فليس معنى كلمة (كل شيء) عَلَى الإطلاق الذي لا استثناء فيه، وكذلك في قصة بلقيس ملكة سبأ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23]
فهل معنى ذلك: أنها أوتيت من كل خزائن الدنيا وملكها؟ لا، إنما أوتيت من كل شيء يحتاجه الملوك، أي: أنها ملكة ومملكتها فيها كل شيء من لوازم الملك، فلها مملكة مثلما أن لسليمان عَلَيْهِ السَّلام مملكة، فالعموم في كلمة كل بحسب موضعها، وبحسب موقعه، لكن المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- عمد إِلَى الاستدلال عَلَى المعتزلة من واقع مذهبهم.
قول المعتزلة في خلق أفعال العباد والرد عليهم
تقول المعتزلة: إن الإِنسَان يخلق فعل نفسه، والله -عَزَّ وَجَلَّ- لم يخلق في الإِنسَان الشر، ولم يرد منه أن يفعل الشر، وإنما الإِنسَان هو الذي يخلق المعاصي ويخلق فعل نفسه.
ويقولون: إن هذا تنزيه لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا من توحيد الله، مع أن هذا هو الشرك؛ لأن إثبات خالقين ليس توحيداً وإنما هو الشرك، كما كانت الثنوية المجوس يثبتون إلهين، فقالوا أي المعتزلة: إن الإِنسَان يخلق فعل نفسه ويستدلون بقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء [الرعد:16] عَلَى أن القُرْآن مخلوق.
فيقال لهم: لماذا لم تدخلوا أفعال المخلوقات في عموم كل، وقد قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلق المخلوقات؛ وخلق أفعالهم، وكلمة كل شيء هنا تشمل أفعال المخلوقات وأنتم تنكرون ذلك.(1/629)
ومثل هذا فعل عمرو بن عبيد الذي كَانَ يظهر التنسك والزهد والعبادة الشديدة، فجاءه أعرابي فرآه في تلك الحالة
فقال له: إن ناقتي قد سرقت فادع الله أن يردها لي، فرفع عمرو بن عبيد يده
فقَالَ: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقة هذا الأعرابي، اللهم فارددها عليه، فالأعرابي عَلَى سذاجته لا يفهم شيئاً لكن بفطرته قَالَ: لا حاجة لي في دعائك
قال عمرو: ولِمَ؟
قَالَ: أخشى ما دام أنه لم يرد أن تسرق فسرقت أن يريد أن ترد فلا ترد.
فالعقل السليم الفطري يرد أقوالهم هذه جميعاً، فهم يريدون أن ينزهوا الله بأنه لا يريد الشر ولا يخلقه، فهذه السرقة مثلاً يقولون: لا يريدها الله ولم يقدرها، ولم يخلقها وإنما العبد هو الذي يفعل.
وأما أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فيقولون: إن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو خالق الإِنسَان، وخالق أفعاله، وأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعل للإنسان إرادة مخلوقه خلقها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك يُحاسِب ويجازي عَلَى نتيجتها، وهذا الرجل من شدة تمسكه بمذهبه لم يرد أن يتخلى عنه حتى وهو يدعو للأعرابي، وأراد الله عَزَّ وَجَلَّ أن يفضحه عَلَى يد ذلك الأعرابي الذي لم يتعلم علم الكلام، وليس هو من أهل العلم بالكتاب والسنة، وإنما توسم في عمرو بن عبيد الخير، ورأى فيه علامات الزهد، فطلب منه الدعاء، فبين له الأعرابي بعد أن سماع دعاءه أنه عَلَى هذا الأصل الفاسد عافانا الله وإياكم.
كلام الله غير مخلوق لأن بكلامه يكون الخلق
استدل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بدليل عقلي واضح عَلَى أن كلام الله عَزَّ وَجَلَّ غير مخلوق، وذلك لأن بكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكون الخلق: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يّس:82] وكما قال أيضاً: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:54] فهو يأمر ويخلق، فإذا كَانَ كلامه وأمره مخلوقاً فبم يكون الخلق؟(1/630)
فكلمة "كُنْ" إذا كانت مخلوقة تحتاج إِلَى أمر يخلقها، وهكذا تتسلسل إِلَى ما لا نهاية.
الفرق بين الخلق والأمر
إن الذي تقطع به العقول التي رزقها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الفهم الصحيح، أن الأمر غير الخلق، فخلق الله هو هذه المخلوقات التي خلقها سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مما نرى ومما لا نرى، وأمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وكلماته غير مخلوقة، بل بها يكون الخلق، وبها يكون الإخبار، وبها يكون الأمر والنهي.
وفي هذا قطع لشبهتهم هذه في قولهم: إن القُرْآن مخلوق، وإن كلامه كله مخلوق، وقد بين المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: أنه عَلَى ذلك تكون جميع صفات الله تَعَالَى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرها؛ لأنا إذا استدللنا بقوله تعالى: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:102] عَلَى أن كل شيء مخلوق، فعلمه شيء، وقدرته شيء، وإرادته شيء وهكذا، فتصبح كل صفات الله عَزَّ وَجَلَّ مخلوقة، وهذا كفر، وهم كذلك يقولون: هذا الكلام كفر.
فنقول لهم: وكلامه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة من صفاته، كسائر الصفات التي لا توصف بأنها مخلوقة؛ بل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له الخلق وله الأمر.
والآن ننتقل إِلَى شبهة من الشبهات التي يرددونها كثيراً، وهي قولهم: إن المُتكلّم هو من قام به الكلام لا من فَعَلَ الكلام.
رد شبتهتهم أن المتكلم هو من قام به الكلام لا من فعل الكلام
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وكيفَ يَصِحُ أن يكونَ مُتكلماً بكلام يَقُومُ بغيره؟ ولو صَحَّ ذلك لَلَزِمَ أن يكونَ ما أَحَدَثه مِن الكلام في الجمادات كلامه!(1/631)
وكذلك أيضاً ما خَلَقهُ في الحيوانات ولا يُفرَّقُ حينئذ بين نَطَقَ وأَنْطَقَ وإنَّما قالت الجُلُودُ أَنطَقَنَا اللَّهُ [فصلت:21] ولم تَقُلْ نطقَ الله؛ بل يلزم أن يكونَ مُتكلّماً بِكُلِّ كلامٍ خَلَقَهُ في غيرِه زوُراً كَانَ أو كذباً، أو كُفراً أو هذياناً!! تَعَالَى الله عن ذلك. وقد طرَّدَ ذلك الاتحادية فَقَالَ ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
ولو صَحْ أن يُوصَفَ أَحَدٌ بصفةٍ قامتْ بغيره لَصَحَّ أنْ يُقالَ للبصير: أعمى وللأعمى بصير! لأن البصيرَ قد قَام وصفُ العمى بغيره والأعمى قد قَامَ وَصفُ البصرِ بغيره، ولَصَحَّ أن يُوصَفَ اللهُ تَعَالَى بالصفاتِ التي خَلََقَها في غيره من الألوان والروائِح والطُّعُومِ والطول والقِصر ونحو ذلك] اهـ.
الشرح:
هذه شبهات ولكنها تبدوا لذى العقل السليم الناضج أنها لا تستحق أن يمارى ولا أن يجادل بها في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، ولكن شهوة الجدل، والاعتراض عَلَى الله ورسوله، وعدم التسليم والانقياد له، هي الدافع وراء هذه الشبهات، فأرادوا أن يأتوا بهذه الشبهة ليتخلصوا من إثبات صفة الكلام لله عَزَّ وَجَلَّ.
فَقَالُوا: إنَّ المتكلم ليس هو من فعل الكلام؛ ولكن المتكلم من يقوم به كلام غيره، فيقولون -مثلاً- في كلام الله لموسى: إن الشجرة هي التي نطقت وتكلمت، فكلام الله قام بالشجرة، فقالوا الشجرة هي التي تكلمت، أما الله عَزَّ وَجَلَّ فإنه لا يتكلم، ونفوا عنه الكلام، فالكلام عندهم ما يقوم بغير المتكلم.
ومعنى قول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وكيفَ يَصِحُ أن يكونَ مُتكلماً بكلام يَقُومُ بغيره؟] وهو المتكلم.(1/632)
نقول: هذا كلام الله قام بغيره [ولو صَحَّ ذلك لَلَزِمَ أن يكونَ ما أَحَدَثه مِن الكلام في الجمادات كلامه!] وغيرها كلامه، وبناءاً عَلَى كلامهم فإنه يمكن أن يكون كل كلام فإن الله هو الذي تكلم به وإنما قام بغيره، وعلى هذا لا يستقر للناس نظر ولا عقل.
وذكر المُصْنِّف أن الجلود تقول: أنطقنا الله، ولم تقل: نَطَقَ الله، فالله عَزَّ وَجَلَّ هو الذي انطقها وهي التي تتكلم، وعلى كلام المعتزلة وأمثالهم يكون الكلام كلامه والنطق نطقه قام بغيره، وهكذا الاتحادية أي: أصحاب الاتحاد الذين يقولون: إن الخالق والمخلوق متحدان في ذات واحدة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- يقول: طردوا ذلك، أي عمموه وجعلوه قاعدة مطردة، فهذا اللازم الذي نَحْنُ نلزم به المعتزلة والكلابية ينفي أن يكون كلام أي شيء هو ما قام في غيره، هذا جعلته الاتحادية هو الحقيقة، ولهذا الاتحادية يقولون: إن كل متكلم في الوجود هو الله، وقد جَاءَ المُصْنِّف بكلام ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
فكل متكلم عندهم هو الله، حتى أن هذا الخبيث الكافر ابن عربي قَالَ: لما قال فرعون أنا ربكم الأعلى كَانَ صادقاً.
فإنه ما تكلم إلا الله -والعياذ بالله- فهو الذي قال أنا ربكم الأعلى، وكلام موسى كلام مَن؟!
إذاً كَانَ كله كلام الله، فكيف يكون كلامفرعونهو كلام الله، وكلام موسى هو كلام الله، إذاً كلام الله يناقض بعضه بعضاً، وهذا المذهب واضح البطلان، وواضح التهافت، ومن وضوح بطلانه وفساده وكفر صاحبه وردته نستدل به عَلَى الكلابية والأشعرية والمعتزلة، لأنه يُلزم من كلامهم هذا الشيء، إلا أن يثبتوا أن كلامه جل شأنه هو الذي تكلم به سبحانه عَلَى الحقيقة، وكلام المخلوقات هو الذي خلقه فيها، وهو الذي أنطقها به، فالكلام كلامان كلام الله عزوجل غير مخلوق، وكلام المخلوقات وهو الكلام المخلوق.(1/633)
وذكر المُصْنِّف أيضاً بعض الأدلة العقلية التي لو تأملها العاقل لوجد أنها تقنعه يقول: لو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير أعمى وللأعمى بصير، لأن الإِنسَان هو بصير لكن العمى قام في غيره، فيصح أن يقال لك أيها المبصر: أنت أعمى، فإذا قلت له: أنا لست أعمى: فيقال لك: أليس فلان أعمى؟ فالعمى قام بغيرك إذاً أنت أعمى، أو العكس، وهذا الكلام لا يقوله عاقل. وهذا دليل عَلَى أن هَؤُلاءِ لا عقل لهم ولا نقل.
وقال أيضاً ولصح أن يوصف الله تَعَالَى بالصفات التي خلقها في غيره من الألوان والطعوم والروائح، والطول والقصر وهذا لازم ووارد، وهم يقولون إن من وصف الله بشيء منها فهو كافر، ويردون ما أثبت الله لنفسه من الصفات من أجل التنزيه، ويقولون مع ذلك: إن الكلام هو ما قام بغيره، فيقال لهم والعياذ بالله: إن هذه الطعوم والألوان والروائح وما في المخلوقات من الصفات نثبتها لله، فإذا قالوا: لا. كيف نثبتها لله؟ قلنا: هي له؛ ولكنها قامت بغيره كما تقولون في الكلام.
فالكلام صفة من صفات الله غير مخلوق، وكذلك سائر صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، فليس شيء من صفاته مخلوق أبداً، وما عداه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه مخلوق، وكلامهم مخلوق.
قال المصنف -رحمه الله-:
[وبمثلِ ذلك ألزَم الإمامُ عبد العزيز المكي بِشْرَاً المريسي بينَ يدي المأمون بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل وألزمه الحجة فقال بشر: يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
قال عبد العزيز تسألني أم أسألك؟
فقال بشر اسأل أنت وطمع فيَّ.
فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها:
إما أن تقول إن الله خلق القرآن -وهو عندي أنا كلامه- في نفسه أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟
قال: أقول خلقه كما خلق الأشياء كلها وحاد عن الجواب.(1/634)
فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة ودع بشراً فقد انقطع.
فقال عبد العزيز: إن قال خلق كلامه في نفسه فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون منه شيء مخلوقاً.
وإن قال خلقه في غيره، فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره، فهو كلامه فهو محال أيضاً؛ لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره هو كلام الله.
وإن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد ولا العلم إلا من عالم ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته، فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً علم أنه صفة لله.
هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة.] اهـ.
الشرح:
حدثت مناظرة بشر المريسي مع عبد العزيز الكناني في عهد المأمون بعد أن ظهرت بدعة القول بخلق القرآن وأراد المأمون ومن تبعه من الجهمية والمعتزلة أن يرغموا الأمة به.
والأمر -كما سبق- بدأ بالتدرج حتى اقتنع المأمون في الأخير باستخدام القوة وتعذيب من لم يعترف بأن القرآن مخلوق، ومن ذلك ما جرى للإمام أحمد رحمه الله، ومع أن الإمام أحمد لم يدرك المأمون ولم يناظره لأن الإمام أحمد حمل إلى المأمون وتوفي المأمون والإمام أحمد في طريقه إليه، وكانت المناظرة قبل أن يأخذ المأمون الأمة بالعزيمة والقوة ويرغمها إرغاماً.
ولهذا كان الكناني حُراً في مناظرته، بشكل لم يتوفر للإمام أحمد مثل ما جرى للكناني، فالإمام عبد العزيز بن يحي الكناني المكي المتوفي سنة 240هـ مشهور بتلمذته على يد الإمام الشافعي وتتلمذ على سفيان بن عيينة ومن كان متتلمذاً على يد الشافعي وسفيان -وهما من خيار السلف ومن أئمة أهل السنة والجماعة - فلا غرابة أن تظهر فيه هذه القوة في المناظرة وفي الحجة والبرهان.
وأما مُنْاظره فهو المبتدع الضال بشر بن غياث المريسي وقد سُئِلَ عنه الإمام أحمد فقال كان أبوه يهودياً.(1/635)
فماذا يتوقع من رجل كان أبوه يهودياً صباغاً في بغداد ثم ولد له بشر فدخل بشر في علوم الجدل وعلوم المنطق والفلسفة حتى برع في مناظرتها ومجادلتها، ولكنه كان متستراً مخادعاً، وكان يجالس العلماء والقضاة والفقهاء، وقد كفره كثيرٌ من علماء السلف منهم الإمام أحمد وقتيبة بن سعيد وغيرهما من الأئمة الذين حكموا بكفره وحرم الإمام أحمد الصلاة خلف بشر وما ذلك إلا لأنه كافر.
ومن أسباب كفره أنه يقول: إن القرآن مخلوق، وقد رد عليه الإمام عثمان بن سعيد الدارمي رداً مفحماً في كتابه المشهور، والعبرة التي نأخذها من رد الإمام عثمان على بشرٍ مهمة جداً؛ لأننا عندما نجد الشبهات التي رد عليها الإمام الدرامي ونقضها ونقدها في موضوع صفات الله تعالى نجد أن هذه الشبهات وهذه الأقوال هي التي تبناها الأشاعرة ووسعوها وعمموها.
ولذلك يقول شيخ الإسلامابن تيمية: إن من تأمل في كلام الدارمي وما رد به على بشر المريسي يعلم أن تأويلات الأشاعرة هي تأويلات بشر، وإذا عرفنا أصل هذا المذهب، وأنه يعود إلى بشر، فلا غرابة بعد ذلك أن نعلم مخالفته لأهل السنة والجماعة، ونعلم أن وراء التأويل في صفات الله تعالى والإلحاد فيها المؤامرة، والحقد والزندقة والنفاق، وليس هناك من حجة أو برهان علمي أو عقلي.
وقد ذكر الإمام الذهبي أنبشر المريسي لم يدرك الجهم بن صفوان وإنما أدرك تلاميذ جهم فتلاميذ جهم نقلوا التجهم إلى بشر فتلقفه بشر وكان الجهم بن صفوان مرذولاً مخذولاً وقتل بسبب مذهبه.
وأما بشر فإنه مُكنَّ له في أيام المأمون فتمكن، فتعود أصول وجذور البدع مثل بدعة التأويل وبدعة نفي الصفات، وبدعة الإرجاء في مسألة الإيمان إلى بشر ومن بشر تعود إلى جهم.(1/636)
فالحاصل أن الإمامعبد العزيز بن يحيى الكناني المكي لما بلغته مقالة القول بخلق القرآن قرر وعزم عزيمة العالم الذي يرى أنه لا بد أن يبرِّأ ذمته وأن يقيم الحجة وأنه لا يجوز له أن يكتم العلم: أن يرحل إلى بغداد ويناظر الخليفة ويقنعه ويقنع من في مجلسه، فذهب إلى بغداد وكانت المناظرة بين يدي المأمون وكان مما دار فيها مما يتعلق بالقرآن، هذه المسألة التي ذكرها الشيخ هنا، وهي أن بشراً وكذلك ضرار بن عمرو شيخ الضرارية وزميله يسمى برغوث من كبار المعتزلة المبتدعة ناظروا الإمام أحمد، وكان هؤلاء هم بطانة المأمون وحاشيته، وكأن هؤلاء كانوا يناظرون ويناقشون بالعقل والرأي والجدل وإلا فهل يعقل أن برغوثاً أوضراراً أو بشراً وغيرهم من النكرات يكون كالإمام أحمد في العلم أو في السنة، إن الذي يتميز به ضرار أو برغوث أو بشر أو أمثالهم بالحجة العقلية في نظرهم وأنهم قرؤوا كتب الأوائل ومنطقهم وفلسفتهم فيستطيعون بذلك أن يفحموا الإمام أحمد أو الكناني أو أي إنسان.
فلما تناظر عبد العزيز الكناني مع بشر بالقرآن وبالسنة أفحمه بطبيعة الحال لأن أولئك خلو من هذه الأمور جميعاً فعندئذ اقترح بشر وقال للمأمون: يا أمير المؤمنين ليدع مطالبتي بنص التنزيل، لا يناظرني بالقرآن ولا بالسنة، ويناظرني بغيره، يعني: بالجدل العقلي، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال.
فكان بشر واثقاً من نفسه ثقة قوية أنه في باب المناظرة بالعقل لن يستطيع الكناني ولا غيره أن يمشي معه ويجاريه، أما بالقرآن والسنة فنعم! لكن نريد أن نناظره بغير التنزيل فوافق الإمام الكناني
وقال: لا يمكن أن أُقِرَّ له أو أُظهرَ أنني لا أُحسن أيضاً المناظرة العقلية.
فقال له: نعم أوافق.
فقال: تسألني أم أسألك؟
فقال بشر: اسأل أنت وطمع فيَّ؛ لأنه قال ما الذي يمكن أن يسألني فيه؟(1/637)
فقال له الإمام الكناني: يلزمك واحدة من ثلاث، أي: لا بد لك أن تقر بواحدة من ثلاثة أمور قال ما هي؟
قال: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن في نفسه، وإما أن تقول: إن الله خلق القرآن في غيره، وإما أن تقول: إن الله خلق القرآن مستقلاً بنفسه، أي: أنه مخلوق آخر، فقال بشر: أقول خلقه كما خلق الأشياء كلها.
فهو يعلم أنه إذا التزم واحدة منها، فإن الجواب سيكون ضده، فحاد عن الجواب ولم يواجه، ولهذا سمى الإمام عبد العزيز الكناني كتابه كتاب الحيدة؛ لأنه كل مرة يمسك بشراً ممسكاً قويا فيحيد بشر عن الجواب ويمتنع وينقطع فيضطر المأمون إلى أن يتدخل ويقول: أجب أنت يا عبد العزيز فإن بشراً قد انقطع وأفحم وحاد عن الجواب.
فقال له عبد العزيز: إن التزم أن الله خلق القرآن في نفسه فهذا محال لأنه قد جعل الله محلاً للمخلوقات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فهم ينكرون صفات الله عز وجل بدعوى أن الله لا يكون محلاً للحوادث بزعمهم، فهم ينفون عن الله تعالى صفة الغضب والرضا والنزول والاستواء، ويقولون: إننا إذا أثبتناها فقد جعلنا الله محلاً للحوادث، فينفون هذه الأمور عن الله! فكيف يقولون: خلق القرآن في نفسه إذاً: قد جعلوه محلاً للحوادث فقال: هذا محال.(1/638)
الثانية: فإن قال خلقه في غيره، فيلزمه أن كل كلام في الدنيا هو كلام الله؛ لأن الله خلق كلام زيد في زيد وخلق كلام عمرو في عمرو وخلق كلام بكر في بكر، وكل إنسان يتكلم فإن الله هو الذي خلق كلامه فيه فإذا كان كلام الله هو ما خلقه في غيره فكل متكلم إنما يتكلم بكلام الله ولا فرق حينئذ بين القرآن وبين هذيان من الهذيان، وهذا الذي أشرنا إليه في الشبهة الماضية عندما قلنا: إنه لو صح أن يكون المتكلم متكلماً بكلام يكون في غيره لكان كل كلام في الدنيا هو كلام الله، كما لو كان يتكلم عمرو وننسب الكلام إلى زيد ونقول: هذا الكلام كلام زيد لكنه قام بعمرو، وهذا اللازم الذي فرت منه المعتزلة والأشعرية التزمه ورضي به الاتحادية كما قال كبيرهم ابن عربي:
وكُلُّ كَلامٍ في الوُجُودِ كلامُه سَوَاءٌ عَلَينا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وقال أيضاً: لمّا أن قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] قال: هذا كلام الله، والمعتزلة وغيرهم لم يكونوا ممن يقرِّ بكلام الاتحادية ولا يوافق عليه، فإذاً لا يستطيعوا أن يقولوا: إن الله خلق كلامه في نفسه، ولا أنه خلق الكلام في غيره، وإلا لزمهم أن يكون كل كلام هو كلامه تعالى.
وأما الثالثة فلو قالوا: إن الله خلق القرآن قائماً بنفسه منفصلاً فهذا محال، أي: أن كلامه هو كلامه، ومع هذا خلقه خلقاً منفصلاً كما خلق السموات والأرض والجبال وفلان وفلان من الناس خلقاً منفصلاً قائماً بذاته، فيكون القرآن منفصلاً قائما بذاته فيكون هذا محال؛ لأن الكلام لا يكون إلا من متكلم، والإرادة لا تكون إلا من مريد، والعلم لا يكون إلا من عالم، وأي صفة من هذه الصفات لا بد أنها متعلقة بذات، ولا يمكن أن تكون هذه الصفة ذاتاً مستقلة.(1/639)
فمثلاً نقول: إن علم عبد الله، هل يمكن أن يكون علمه شيئاً مستقلاً بذاته وعبد الله شيئاً مستقلاً بذاته ويكون علمه في الخارج لا يمكن ما دام أنه منسوباً إليه موصوفاً به، فإن الصفة لا تكون مستقلاً منفصلاً عن ذاته ولو أن المعتزلة تأملوا حقيقة في هذه الحجة لوجدوا أنها ملزمة وأنه ليس لهم وراءها أي شبهة، لكن القضية ليست قضية إقناع ولا حجة، هذه هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ومشكلة الدعاة مع المدعوين، ومشكلة أهل السنة مع المبتدعة دائما في كل زمان ومكان.
فالمسألة مسألة عناد واستكبار وتمرد وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ [النمل:14] فمهما جاءتهم من الآيات وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25] ومهما نوظروا به من الحجج فإنهم لن يهتدوا وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ [الحجر:15،14] فمهما يعطون: إن فتحت لهم في الأرض أنفاقاً فمشوا فيها، وإن عرج بهم في السماء، ولو رأوا الجنة والنار؛ لقالوا سحر محمد أعيننا فرأينا أشياء ثم لما ذهب عنا السحر ذهب ما كنَّا نرى، ليس هناك مجال لأن يقتنع من لم يرد أن يهتدي.
فمن لم يوطن نفسه على الاقتناع، وعلى قبول الحق فإنه لن يقتنع، ومن طمس الله بصيرته، وأعماها عن الحق، فإنه لن يقبل، ولهذا لم يقبل بشر، ولم يقبل المأمون نفسه بعد أن سمع هذه الحجة وبعد أن رأى كيف انقطع بشر واستيقن من كلام الإمام الكناني فاستمر في الأمر وأمر أتباعه بأن يأخذوا الناس بقوة الحديد والنار، وأن يعذبوا ويمتحنوا العلماء واحداً واحداً؛ لكي يقولوا راغمين صاغرين: إن القرآن مخلوق وإلا فالويل والعذاب الشديد لمن لم يقر بذلك.
ثم قال المصنف رحمه الله:(1/640)
[وعموم (كل) في كل موضع بحسبه ويعرف ذلك بالقرائن ألا ترى إلى قوله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25] ومساكنهم شيء ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح، وذلك لأن المراد: تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادةً، وما يستحق التدمير، وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام، إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها ولهذا نظائر كثيرة] اهـ.
الشرح:
إن مما يحتج به أهل البدع على أن القرآن مخلوق قولهم: إن القرآن شيء وقد قال تعالى اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر:62] إذاً: فالقرآن مخلوق وكلمة "كل" للعموم يدخل فيها كل شيء.
فنرد عليهم من القرآن نفسه لنبين لهم أن كلمة "كل" في كل موضع بحسبه، فلا يعني ذلك أنه إذا جاءت كلمة "كل" أنها تعني العموم والشمول المطلق الذي لا قيد فيه ولا استثناء على الاطلاق، وإنما بحسب القرائن فكل كلام يُقالُ عادة فإنما يقال ضمن قرائن في موضع معين، فالقرائن تدل على ما يريده المتكلم فمثلاً: كل الطلاب يتمتعون بالعطلة يفهم من ذلك أنهم الطلاب الذي يدرسون على نظام وزارة التعليم العالي أو نظام وزارة المعارف؛ لكن لو كان هناك طلاب في شركات يتدربون أو في أعمال أخرى لا يشملهم هذا، وبطبيعة الحال لا نحتاج إلى أن تستثنيهم لأن المقام ليس مقام الحديث عن كل طالب في الدنيا، وإنما الكلام عن الشيء المعروف والمشاهد، يقول الإمام الشافعي رحمه الله: ما فسدت عقول الناس إلا لما تركوا منطق العرب ومالوا إلى منطق أرسطو.(1/641)
فالعرب لهم منطق فطري يستدلون ويتكلمون بكلام معروف بقرائنه ولا يحتاج إلى أن يأتي أحد؛ فيقول: لا، هذا يكون عام أنت قصدت كل شيء، فأي إنسان من قريش ومن غيرهم نزل عليه القرآن اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا يمكن أن يرد في ذهنه أنه خالق صفاته؛ لأن صفاته شيء.
فهذه تأتي على منطق اليونان (منطق أرسطو) الذي هو منطق فاسد الفطرة، فمجرد الاحتمالات العقلية تتوارد على الذهن أمور كثيرة لكن المنطق الفطري السليم لا ترد عليه أمثال هذه الإشكالات.
ولذلك نستدل عليهم بالقرآن فنقول: إن الله تعالى قال في أصحاب الأحقاف: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] فالله تعالى لما سلط عليهم الريح العقيم ورأوا السحاب عارضاً فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24] كانوا يظنون أنه مطر وهذا من الاستهانة بعقوبات الله عز وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عندما يرى سحاباً عارضاً يتغير لونه صلى الله عليه وسلم ويخاف ويقول: (إن أمة قد ظنت أنه عارض ممطرها وكان عذاباً) .
فالمؤمن دائماً في قلبه وفي ذهنه الإحساس الدائم بأن هذا الكون بتدبير الله -عز وجل- وأن عقوبة الله قريب ممن يعصيه، فجاء العذاب ودمرهم ولم يبق إلا المساكن والآثار والديار الباقية بعد أن أصبحوا كأنهم أعجاز نخل خاوية فعندئذ يقول الله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فأخبر عن الريح أنها تدمر كل شيء بأمر ربها فلم تدمر المساكن بل بقيت ولم تدمر السماء ولا البحر ولا الصحراء وكل ما كان حولهم كلها باقية.(1/642)
إذاً: قوله تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ لا بد أن لها مفهوماً محدداً تحدده القرينة والواقع فيكون المعنى تدمر كل شيء كانت مأمورة بأن تدمره وأن تعاقبهم به، أو أي تفسير آخر يخرجها ولا يدخل فيها العموم والكلية المطلقة كالقول بأنها تدمر ما يقبل ويستحق التدمير.
وكذلك قوله تعالى حكايةً عن بلقيس وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ [النمل:23] فالهدهد لما أخبر نبي الله سليمان عليه السلام فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل: 23] بلقيس امرأة كانت تملك تلك البلاد التي لم يكن سليمان يعلم بها ووصفها الهدهد بقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النمل:23] فأوتيت كل شيء يلزم الملك أو يهيء لهم أو يستحقون به أن يكونوا ملوكاً فيريد أن يستثير سليمان عليه السلام إلى هذا الموضوع، فقال:أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ كأنه جاء بأمر جديد وغريب وأنها امرأة وأنها أوتيت من كل شيء ومع ذلك يعبدون شيئاً غير الله وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [النمل: 24] .
ولذلك وصفها بهذه الصفة التي جعلت سليمان عليه السلام يهتم بالموضوع ويبذل كل الوسائل لكي يعرف ما هي حقيقة هذه المرأة التي جاء الهدهد بنبئها وخبرها، فالمراد إذاً: أنها ملكة أوتيت من أمور الملك ولوازمه ما يحتاجه الملوك عادة غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها.
وقال: [ولهذا نظائر كثيرة] ، أي: أنه يوجد في القرآن وفي السنة وفي لغة العرب أن الكلمة العامة مثل "كل" وغيرها من ألفاظ العموم يكون عمومها بحسب الموضوع وبحسب القرينة.
ثُمَّ قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:(1/643)
[والمراد من قوله: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16] أي كل شيءٍ مخلوق وكل موجود سوى الله تَعَالَى فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إِلَى هذا المعنى عند قوله: ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه، بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم، فإذا كَانَ قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مخلوقاً لا يصح أن يكون دليلاً] اهـ.
الشرح:
بين المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ معنى العموم في قوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ حيث يقول إن الله تَعَالَى خالق كل شيء مخلوق كل ما سوى الله تَعَالَى فهو مخلوق، فالله خالق كل شيء سواه، فلا يدخل في ذلك صفاته تعالى، ويُقَالَ: إنها مخلوقة؛ لأن صفاته تَعَالَى ليست ذواتاً منفصلة مستقلة، وإنما هي صفات لذاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيقول إنه لا يدخل في العموم الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولكن يدخل فيه أفعال العباد ونص عَلَى هذا الكلام في هذا الموضع لأن المعتزلة يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه، وهم الذين يقولون: إن القُرْآن مخلوق فيجمعون بين قولهم: إن القُرْآن مخلوق وبين قولهم: إن العبد خالق لأنه يخلق فعل نفسه.
فَيَقُولُ: إذا كانت الآية عَلَى عمومها: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذاً: فهو خالق أفعال العباد؛ لأن أفعال العباد تدخل ضمن كل. فهذا مما يلزمكم ويفحمكم.
أما صفات الله عَزَّ وَجَلَّ ومنها كلامه، فإنها لا تدخل في عموم كل، لأن صفاته تَعَالَى لا يتصور انفصالها عنه، بل هو الموصوف سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بجميع صفات الكمال، كما تقدم في قوله [مازال بصفاته قديما قبل خلقه] .(1/644)
ثُمَّ قَالَ: [بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم] أي أنه دليل عليهم فإن قوله تَعَالَى في الآية نفسها اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ إذا كانت مخلوقة لا تصح أن تكون دليلاً.
وكما قلنا: إنه يلزم من ذلك التسلسل إِلَى ما لا نهاية؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] والخلق يكون بالأمر إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] فالله يأمر فيكون الخلق؛ فله الخلق وله الأمر، فإذا قلنا: إن كلامه وأمره مخلوق، فالأمر كله داخل ضمن الخلق فيحتاج إِلَى أمر آخر فكل أمر يتخيله فهو مخلوق، وإذاً جعلنا كلمة "كن" مخلوق.
فالله تَعَالَى إذا أراد: أن يقول للجبال: كوني أيتها الجبال فالجبال مخلوقة و"كن" مخلوقة فبأي شيء خلق "كن"؟ يحتاج إِلَى شيء آخر، وهكذا إِلَى ما لا نهاية. فلا بد: أن نقر بأن كلامه وأمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير مخلوق وإنما بها يكون الخلق.
ثُمَّ انتقل المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ إِلَى الشبه الأخرى وهي: استدلالهم بكلمة (جعل) عَلَى أن القُرْآن مخلوق.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:
[وأما استدلالهم بقوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3] ، فما أفسده من استدلال! فإن (جعل) إذا كَانَ بمعنى خلق يتعدى إِلَى مفعول واحد كقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام:1] وقوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31،30] .(1/645)
وإذا تعدى إِلَى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً [البقرة:224] وقال تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ [الإسراء:39] وقال تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً [الزخرف:19] ونظائره كثيرة فكذا قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:30] اهـ.
الشرح:
إن من يستدل عَلَى أن القُرْآن مخلوق بقوله: إن جعل تأتي بمعنى خلق، شبهته باطلة فاسدة؛ لأنهم يقولون: أليس جعل تأتي بمعنى خلق في لغة العرب؟
فيقول اللغويون لهم: نعم.
فيقولون: إن الله تَعَالَى يقول: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أي خلقناه قرآناً عربياً إذاً فالقرآن مخلوق.
يريدون أن يفحموا، ويلزموا بهذه الشبهة الواهية لمن تأملها وتدبرها، ويجاب عليهم بأن الفعل الماضي (جعل) يأتي في لغة العرب ناصباً لمفعولين، فإن أتى ناصباً لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق أو قريباً من معناها مثل قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور [الأنعام:1] جعل بمعنى خلق الظلمات والنور فـ"جعل" فعل ماضي والفاعل ضمير مستتر يعود إِلَى لفظ الجلالة، و"الظلمات" مفعول به وكذا قوله َجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] نفس الأولى "جعل" فعل ماضي و"نا" ضمير فاعل و"كل" مفعول به.
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِي [الأنبياء:31] رواسي مفعول به، وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً [الانبياء:31] أيضاً مفعول واحد.(1/646)
فمثل هذه المواضع تكون "جعل" بمعنى خلق؛ لكن هناك آيات تكون "جعل" فيها متعدية إِلَى مفعولين ولا يقول أحد إنها في هذه المواضع بمعنى خلق.
ولذلك نأتي بآيات قوية في الدلالة عَلَى هذا الشيء، لا يمكن للمعتزلي مهما مارى أن يقول إنها بمعنى خلق فقَالَ: إن قوله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91] هل يمكن أن تقول: قد خلقتم الله عليكم كفيلاً، لا يمكن لأي معتزلي أن يقرأ جعلتم في الآية هذه بمعنى خلقتم أبداً، فلفظ الجلالة مفعول أول وكفيلا مفعول ثاني فـ"جعل" هنا بمعنى: صير، فتنصب المفعولين، وتكون بهذا المعنى وقوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ [البقرة: 224] لا يمكن لأحد أن يقول: ولا تخلقوا الله، إنما معناه لا تجعلوه، ولا تتخذوه، ولا تصيروه، فلفظ الجلالة مفعول أول، وعرضة هو مفعول ثاني.
وكذلك قوله تعالى: الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ [الحجر:91] عضين أي أجزاء، فعضة أو عضو بمعنى جزء، فهَؤُلاءِ جعلوا القُرْآن أجزاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض أو قسموه فيما بينهم فمنهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن. فنحن وأنتم نتناظر في مسألة القُرْآن نفسه هل هو مخلوق أو غير مخلوق، فإذا كَانَ قوله "الذين" تعود إِلَى الكفار كما في آخر سورة الحجر الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآن آنَ عِضِينَ فالكفار هم الذين خلقوا القُرْآن وأنتم لا تقولون بهذا أبداً إذاً فـ"جعل" ليس بمعنى خلق إنما بمعنى: اتخذوه عضين، أو صيروه عضين، أي: جعلوه أجزاءً.(1/647)
وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ [الإسراء:29] فقوله: وَلا تَجْعَلْ ليس معناها ولا تخلق يدك، إنما معناها ولا تصير أو لا تتخذ يدك هذا هو المعنى القريب منها إذا كانت متعدية لمفعولين، وإذا كانت متعدية لمفعول واحد، فهو بمعنى خلق كقوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ [الأنعام:1]
والآية فيها عبرة ودقة، فلا يمكن أن يكون هذا من كلام البشر؛ لأنه خلق السموات والأرض والسموات والأرض، كما ترون جانب الخلق الحسي المشاهد عند الإِنسَان واضح فيها؛ لكن الظلمات والنور ليست أشياء يمكن للعقل أن يتصورها كمخلوقات محسوسة ملموسة أشبه ما تكون بالمعاني عَلَى الأقل في الذهن البشري.
في حسنا نَحْنُ البشر أن الظلمات والنور أشبه بالمعاني التي لا تنسب، ولا نستطيع أن نجعلها بنفس المستوى الذي هو للسموات والأرض، فهنا أتى بكلمة خلق، وهنا بكلمة جعل، ولله تَعَالَى في ذلك حكمة، وهكذا قد نظن وقد نتلمس الحكمة، ولكنَّ القُرْآن علمه عند الله عَزَّ وَجَلَّ، ومن قال فيه برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وقال تعالى: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً [الإسراء:39] معناها أي لا تتخذ مع الله إلها آخر وكذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَاد الرحمن إناثاً [الزخرف:19] ليس معناها أنهم خلقوا الملائكة ولكن صيروهم واتخذوهم أو اعتبروهم، فالملائكة مفعول أول وإناثاً مفعول ثاني: ونظائره كثيرة.(1/648)
فخلاصة ما سبق أن "جعل" في لغة العرب تأتي متعدية ناصبة لمفعول واحد، وتكون بمعنى "خلق"، وتأتي متعدية وناصبة لمفعولين، وتكون بمعنى اتخذ أو صير، ولم يأتِ ذكر في القُرْآن بأن "جعل" تتعدى إِلَى مفعولين إلا بالمعنى الثاني الذي هو بمعنى اتخذ وصير لا بمعنى خلق وإذا خرج ذلك فإنه تبطل الشبهة ويبطل الاستدلال الذي يستدل به المعتزلة ومن حذا حذوهم في هذا الباب.
والشبهة الثانية وهي قولهم: إن الله خلق الكلام في غيره. أي هو كلامه لكنه خلقه في غيره، وفي ذلك كلام المُصنِّفُ الآتي.
شبهة من يقول: إن الله خلق الكلام في غيره والرد عليهم
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] عَلَى أن الكلام خلقه الله تَعَالَى في الشجرة، فسمعه موسى منها وعموا عما قبل هذه الكلمة، وما بعدها فإن الله تَعَالَى قَالَ: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن [القصص: 30] والنداء: هو الكلام من بعد: فسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام النداء من حافة الوادي ثُمَّ قَالَ: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] أي: أن النداء كَانَ في البقعة المباركة من عند الشجرة.
كما يقول سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كَانَ الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] وهل قَالَ: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غير رب العالمين؟(1/649)
ولو كَانَ هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات:24] صدقاً إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله وقد فرقوا بين الكلامين عَلَى أصلهم: أن ذلك كلام خلقه في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله وسيأتي الكلام عَلَى مسألة أفعال العباد إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:
إن شبهة من يقول: إن كلامه هو ما يخلقه في غيره بينة البطلان وقولهم: إن خطاب الله لموسى عَلَيْهِ السَّلام هو أن الله خلق الكلام في الشجرة والشجرة هي التي خاطبت موسى عَلَيْهِ السَّلام ويستدلون بقوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] وقد نبه المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أنه يجب عليهم أن يتأملوا السياق من أوله ثُمَّ ما بعدها ليعلموا من هو المتكلم حقيقة، لأن أول الآية فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [القصص:30] والنداء هو الكلام عن بعد، فنودي موسى عَلَيْهِ السَّلام من شاطئ الوادِ الأيمن، فسمع موسى النداء من الشاطئ من عند البقعة المباركة من عند الشجرة فأنت عندما تقول: ناديت فلان من البيت. هل معنى ذلك أن البيت هو الذي ناداه؟ فالله تَعَالَى نادى نبيه موسى عَلَيْهِ السَّلام من تلك البقعة من الشجرة -أي من عند الشجرة- فـ"من" هنا تسمى ابتداء الغاية أي منها ابتداء أو سماع النداء إِلَى موسى عَلَيْهِ السَّلام.(1/650)
فالشجرة إذاً ليست متكلمة لا بكلام تكلمت به، ولا بكلام خلقه الله تَعَالَى فيها، وإنما هي الموضع الذي سمع منه الكلام، وهذا واضح فيقول المُصْنِّف إِلَى قوله: نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص: 30] فهل يمكن أن نقول الشجرة هذه العبارة؟ لا يمكن أبداً.
ولو قالت ذلك لكان قول فرعون (أنا ربكم الأعلى) وكلامها سواء!! بل كلام الإِنسَان الحي الناطق أولى بالقبول وأولى بأن يكون هو كلام الله أو أن يكون هو الحق والصدق من كلام الشجرة؛ لأن الإِنسَان يتكلم كما هو معلوم ففرعون أو غيره إنسان أعطاه الله الكلام فقوله: (أنا ربكم الأعلى) وقول الشجرة: إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30]
إذاً: كلاهما كلام الله!!
لكن ما الذي فعلته المعتزلة عكست الموضوع! فقالوا كلام فرعونخلقه فرعون في نفسه، وكلام الله خلقه الله في الشجرة، سُبْحانَ اللَّه! انحرفت العقول وضلت حتى أصبحت تثبت أن الإِنسَان هو خالق فعل نفسه، فكلمة فرعون (أنا ربكم الأعلى) هو الذي خلقها في نفسه، فلماذا لا يكون كلام الله هو الذي تكلم به عَلَى الحقيقة؟
فعلى قولهم هذا الكلام كلام الشجرة والله خلقه فيها فهو منها وهو كلام الله، وليس لله كلام إلا ما نطقت به الشجرة، فجعلوا الحق في موضع الباطل، والباطل في موضع الحق، عافانا الله من الضلالة، ولايكون هذا التفريق إلا إذا كَانَ مرجع الإِنسَان إِلَى الهوى والتحكم الذي لا دليل عليه، وهذا لا يمكن أن يضبط، وتجده يُجحف دائماً فيما كَانَ لغيره، ولكن ما كَانَ له فإنه يراه هو الحق وهو الصواب، ويعمي بصره عن قبول ما سواه.(1/651)
وهَؤُلاءِ النَّاس لم يستمدوا الحق من كتاب الله ولا من سنة رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأثبتوا أنفرعونإلهاً وأن كل إنسان هو خالق، والخالق هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من جهة.
ومن جهة أخرى: نفوا عن الخالق صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابه ومنها صفة الكلام التي وقع فيها الجدال.
حتى قيل إن من أسباب تسمية العلم بعلم الكلام لما وقع فيه من الكلام والجدل
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
هذه هي حصيلة ما جمعوه.
دعوة الفلاسفة والمفكرين إلى التفكير فيما ينفع
إن الذي يضع رجله في الماء لكي لا ينام، ليفكر ويستنبط، وهذا أمثاله لو صرفت عقولهم إِلَى التفكير لا نقول في القُرْآن أو في التفسير أو في الحديث فقد كفى الله الأمة بهذه العلوم، ولكن لو أنها صرفت في التفكير الدنيوي مثل الرياضيات والحساب، أو في الفيزياء أو في الصناعة أو في الهندسة وفي غيرها من العلوم التي تنفع الأمة الإسلامية لكان للمسلمين في ذلك خير كثير، ولكن العقول الجبارة الضخمة اشتغلت بالشبهات والمناظرات والمناقشات في ذات الله، التي نهينا أن نفكر ونشغل عقولنا فيها، والكفار لما بدأ عندهم ما يسمى بعصر النهضة، شغلوا أنفسهم بالتجارب فقالوا دعونا من القياسات والاستنتاجات التي كَانَ يقول بها اليونانيون.
يقول أرسطو: إذا سقطت كرتان من مسافة برج عالي فإن الكبرى منهما تصل الأرض قبل الصغرى هذا استنتاج عقلي.
يقول العقل: الكبير يكون أثقل.(1/652)
ويقول جاليلو: نجرب هذه قد لا تكون صحيحة فذهب ورمى كرتين فوقعتا عَلَى الأرض متساويتين فَقَالَ إن كلام أرسطو كلام غير صحيح. اعتبر الغربيون هذه الحادثة أول بداية النهضة وفي نظر كثير من الباحثين أن جاليلو اعتمد عَلَى التجربة الحسية وترك الاستنتاج العقلي المجرد، وهكذا لما عملت العقول، واستعملت فيما أذن الله أن تعمل فيه، وفيما شرع أن تشغل به وصلت إِلَى ماترون من التقنية لكن هَؤُلاءِ شغلوا عقولهم وعلومهم وأذهانهم بالشيء الذي أمرهم الله عَزَّ وَجَلَّ أن يكفوا عنه، وأمرهم أن يسلموا فيه لله تَعَالَى وأن يقولوا كما قالالسلف الصالح كما ذكر الله عن الراسخين في العلم آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7] آمنا بمحكمه وبمتشابهه بما علمنا وأدركنا وبما لم نعلم ولم ندرك بعقولنا.
فعقولنا أدركت بسهولة: أن الله هو الخالق الذي خلق الكون وآمنت به، فإذا جَاءَ العقل يوسوس كيف ينزل وكيف استوى.
نقول: كل من عند الله الذي قال هذه هو الذي قال هذه، وهكذا فالإِنسَان يؤمن بما جَاءَ من عند الله، ويكفيك أن هذا الكلام جَاءَ من عند الله، وبلّغه عنه رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزل به الروح الأمين من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ نقله أصحاب مُحَمَّد إلينا، ثُمَّ من بعدهم من الثقات الأثبات، فيكفينا أن ينقلوا ذلك، وإذا كَانَ الإِنسَان لا يؤمن بشيء إلا إذا عرضه عَلَى عقله أو نظر هل يقبله العقل أولا يقبله؟
فما أكثر الضلال حينئذ، فأي عقول هذه التي نتحاكم إليها؟ عقلي أم عقلك!.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[فإن قيل: فقد قال تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40والتكوير:19] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم.(1/653)
قيل: ذِكْرُ الرسول معرَّف أنه مُبَلِّغٌ عن مرسله، لأنه لم يَقُلْ: إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأه من جهة نفسه.
وأيضاً: فالرسولُ في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تُبَيِّن أن الإضافة للتبليغ، إذ لو أحدثه أحدُهُما امتنع أن يُحدِثَه الآخرُ.
وأيضاً: فقوله: رسول أمين، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه، ولا ينقص منه؛ بل هو أمين على ما أرسل به يبلغه عن مرسله.
وأيضاً: فإن الله قد كفَّر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر فمن جعله قول محمدٍ بمعنى أنه أنشأه فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً، لا من قاله مبلغاً ومن سمع قائلاً يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال: هذا شعر امرئ القيس، وَمَنْ سَمِعَهُ يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) قال هذا كلامُ الرسول، وإن سمعه يقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:2-4] قال هذا كلام الله، إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال لا أدري مِن كلام مَن هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذَّبه، ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له هذا كلام من؟ أهذا كلامك أو كلام غيرك] اهـ.
الشرح:
هذه الشبهة من الشبهات التي أثارها المبتدعة حول القرآن، وهي أحد الأقوال المشهورة في مذهب الأشعرية، ويقولون -كما قد سبق شرح مذهبهم-: إن القرآن الموجود بين أيدينا: هو عبارة أو حكاية عن كلام الله تعالى، وليس هو نفس كلام الله، وإنما كلام الله تعالى هو المعاني القائمة في نفسه، أو في ذاته ويستدلون بالبيت الذي ذكرناه سابقاً، وهو قول الأخطل الشاعر النصراني:
إنَّ الكلامَ لفِي الفؤادِ وإنَّما جُعْلِ اللسانُ على الفؤادِ دليلاً(1/654)
ويُردُّ عليهم أن الأخطل إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد) .
وثانياً: لاعبرة بقول الأخطل ولا بغيره في أمر من أصول الدين.
ويقولون: الكلام على معنيين: الكلام النفسي، أي: ما تنويه في نفسك أنت وتريده من المعاني والألفاظ التي تخرجها، فقالوا في حق كلام الله عز وجل: إن المعاني التي في نفس الله سبحانه وتعالى غير مخلوقة، لأنه من المُحال أن يحل في ذاته تعالى شيء من المخلوقات أو شيء من المحدثات، فيكون محلاً للحوادث، وأما الكلام المقروء المتلو المتعبد به المكتوب في المصاحف المحفوظ في الصدور فإنه مخلوق، هذا موجز لمذهب الأشعرية الذي هو في الأصل، مذهب عبد الله بن كُلاِّب الذي جاء به كمذهب وسط بين أهل السنة وبين المعتزلة، وراج هذا المذهب عند المتأخرين كثيراً.
وكان من أول من ذكر الإستدلال بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] وقال: إن معناه أن الذي عبر عن هذا الكلام هو: محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل هو القاضيأبو بكر الباقلاني المتوفي سنة (425) هـ، أو في أوائل القرن الخامس، إمام المذهب الأشعري، الذي أسس معظم القواعد المتبعة الآن، وانتشرت مؤلفاته في المغرب والمشرق، لأنه كان مالكي المذهب فانتشر مذهب الأشعرية في المالكية، وعلى هذا نص ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفترى فيما نسب إلى الإمام الأشعري قال: إن المذهب إنما راج وانتشر في أول القرن الخامس، لانتشار كتب القاضي ابن الطيب الباقلاني سنة (410هـ) .(1/655)
والباقلاني له رسالة اسمها رسالة الحرة، كتبها إلى إحدى الوجيهات أو سيدات في المجتمع في أيامه، ليبين عقيدته، وتسمى الإنصاف، وقد طبعت بعنوان "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به " بتحقيق محمد زاهد الكوثري، وذكر فيها الاستدلال بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] والآيات الكثيرة التي ورد فيها ذكر نزول القرآن كقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاه) أو (نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) على أنه ليس المقصود به نزول حركة وانتقال، لأن الحركة والانتقال هي من شأن الأجرام، أو الأجسام، وإنما هو نزول إعلام وإفهام، فأوّلَ كذلك مسألة النزول؛ لأنهم لا يؤمنون بالعلو.
ثم قال: فالقرآن هو الكلام النفسي الذي هو كلام الله سبحانه وتعالى، يقول: وأما الذي بين أيدينا فإنما عبَّر عنه جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انتشرت هذه المقالة في كثير من كتبهم، ولا تزال حتى اليوم، فالقرآن مخلوق بمعنى أنه كلام أو ألفاظ جبريل أو ألفاظ محمد صلى الله عليه وسلم، عبر به أحدهما عن كلام الله عز وجل النفسي، فالله خلق هذا الكلام فَعُبِّر عن كلامه به، فأحياناً يقولون عبارة وأحياناً يقولون حكاية، إلا أنهم يقولون كما نص على ذلك شارح كتاب الجوهرة بأنه يجب أن لا يُقال: إن القرآن مخلوق إلا في مقام التعليم فقط، ولا يُقال على العامة لأنه يُخشى أن يفهموا أن القرآن المخلوق هو كلام الله النفسي. وهذا لا يجوز، لكن إذا بينا لطلاب العلم أن مقصودنا بأن القرآن المخلوق هو هذا الذي في المصحف، فهذا لا بأس أن يُقال أو يُعلم.
هكذا نصوا على ذلك، واستدلوا بقوله تعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] في آية الحاقة وفي آية التكوير.
الرد عليهم من عدة أوجه(1/656)
ذكر المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- الشبهة السابقة، وأخذ يرد عليها من عدة أوجه: الوجه الأول: (أنه ذكر الرَّسُول معرَّف بأنه مبلِّغ عن مرسِله) فعندما نقول قال الرسول، أو هو قول رسول، فإن كلمة "رسول" تدل عَلَى أنه مبلِّغ، وليس بمنشئ للكلام، فإذا قلت: قال لي رَسُول فلان كذا وكذا، فمعنى ذلك: أنك تقول إن فلاناً قال لي عَلَى لسان رسوله كذا وكذا، وهذا معروف ومفهوم في كلام العرب.
الوجه الثاني: أن الرَّسُول في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقوله تَعَالَى كما في سورة الحاقةإِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول لٍ كَرِيمٍ [الحاقة:40] هو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي سورة التكوير: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول لٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20] هو جبريل؛ لأنه هو المطاع الأمين، وهو الذي له القوة عند ذي العرش سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ قال وَمَا صَاحِبُكُمْ أي: مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجْنُونٍ فالآيتان جاءتا بلفظ واحد إحداهما عن مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأخرى عن جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فعلى كلامكم: لو أن هذه الحروف من نظم جبريل، أو من نظم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! إذاً يكون كلٌ منهما قد تكلم بالقرآن أو نظَّم القرآن، وهذا غير صحيح، ولا يقبله العقل.(1/657)
فإنه لا بد أن يكون الناظم أو المتكلم أحدهما، فإما أن يكون جبريل هو الذي نظمه ورتبه وقاله، أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا لا يمكن أبداً؛ بل هو يدل عَلَى أن كلاً من جبريل ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هما إلا رسول، والذي تكلم به وقاله بهذا الترتيب المعروف المقروء هو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن جبريل بلَّغه من الله إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعه من جبريل ثُمَّ بلغه إلينا.
فهذا رَسُول من الله إِلَى مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورَسُول الله مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واسطة بيننا وبين جبريل عَلَيْهِ السَّلام، فالذي تلقاه من الله عَزَّ وَجَلَّ أمين حفظه لم يزد فيه ولم ينقص، وإلا لحصل له الوعيد الذي توعد الله به في سورة الحاقة، وفي سورة الإسراء وغيرهما.
فإذاً الإضافة هنا للتبليغ كما قال المصنف، لأنه لو أحدثه أحدهما أو تكلم به أو نظمه لامتنع أن يكون الآخر محدثاً وناظماً له.(1/658)
الوجه الثالث: قول المُصْنِّف فقوله: رَسُول لٌ أَمِينٌ دليل عَلَى أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه؛ بل هو أمين عَلَى ما أرسل به يبلغه عن مرسله، وهنا علق الشيخ الألباني كما علق الشيخأحمد شاكر في الطبعة القديمة، يقول الشيخ أحمد شاكر رَحِمَهُ اللَّهُ: (إن الآية التي ذكرها الشارح إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُول لٍ كَرِيمٍ جاءت مرتين في سورة الحاقة آية 40، وسورة التكوير آية 19، ثُمَّ قال في سورة التكوير: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثُمَّ أَمِينٍ يقول: فتعبير المُصْنِّف بقوله: "رَسُول أمين" فيه شيء من التساهل؛ لأنه لم يرد به حكاية التلاوة "بمعنى: ليس هناك آية تقول رَسُول أمين من الآيتين" وإنما أراد المعنى فقط، ولو وصف الرَّسُول بأنه أمين لكان أدق وأجود، وهذا معنى واضح.
فقوله: رَسُول أمين، المقصود وصف الله تَعَالَى للرَسُول بأنه رَسُول أمين دليل عَلَى أنه لا يزيد في الكلام، الذي يؤمر بتبليغه، ولا ينقص منه شيئاً، ولو كَانَ هو الذي ينشأ الكلام ويحدث الكلام من عند نفسه، لما كَانَ لهذه الصفة ميزة، فإن الإِنسَان لا يُقال عنه: إنه أمين في كلامه إلا باعتبار ما ينقل أو ما يتكلم به عن الغير، أما إذا تكلم عن نفسه فلا يقَالَ: إنه أمين فيما قال عن نفسه، وإنما يقال صادق أو ما أشبه ذلك.
الوجه الرابع: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- قد كفَّر من جعله من كلام البشر، ولا شك في كفر من قال ذلك، لكن ما الفرق بين القولين؟(1/659)
يقول شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ: إن الفرق بين هَؤُلاءِ -أي الأشعرية - الذين يقولون إن القُرْآن له معنيان: المعنى النفسي غير المخلوق، والثاني الذي في المصاحف، فهو مخلوق من كلام البشر، أو من كلام جبريل أو مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين الكفار الذين قالوا: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ، بمعنى: أن معناه وحروفه من كلام البشر، أي أن الله لم ينزل هذا القُرْآن ولم يتكلم به.
الفرق أن هذا القول من الأشعرية فيه مضاهاةٌ للمشركين في نصف قولهم، إذ أن الْمُشْرِكِينَ قالوا: اللفظ والمعنى من كلام البشر، وهَؤُلاءِ قالوا: اللفظ من كلام البشر، فقالوا نصف ما قاله المُشْرِكُونَ، ومعلوم باتفاقأهل السنة والأشعرية وغيرهم أن الْمُشْرِكِينَ كفار؛ لأنهم أدعوا أن هذا القُرْآن هو من كلام البشر، يقول الشيخ فمن جعله قول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمعنى: أنه هو الذي أنشأه وتكلم به من عنده فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول إنه قول بشر أو جني أو ملك.
ثُمَّ انتقل المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى الاستدلال بما هو معروف في كلام العرب، وهو: أن الكلام إنما هو كلام من قاله مبتدئاً لا كلام من قاله مُبلّغاً، فمن قَالَ: كلام مَنْ هذا؟ فإنّما يسأل عن الذي أنشأه وتكلم به وأستأنفه وابتدأه، لا من بلغه أو حكاه أو نقله، ويضرب لذلك أمثلة يقول ممثلاً بالمعلقة المشهورة التي هي أشهر الشعر عند العرب معلقة امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحومل
إلى آخر هذه المعلقة، فمن سمع قائلاً يقول هذا البيت، فإنه يقول هذا شعرامرئ القيس، وإن كَانَ معروفاً أن امرئ القيس توفي في الجاهلية، وإنما هو يعبر عما يسمعه الآن من قول، ولكن المقصود: أن هذا ليس هو كلام من ينطق به الآن، وإنما هو كلام من ابتدأه وقاله أولاً.(1/660)
وأيضاً: نفس القائل لو سمعناه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) أو (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) قلنا: هذا كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهل معنى هذا أن الإِنسَان الواقف أمامنا هو رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عياذاً بالله؟ لا. وإنما هو ينقل أو يحكي كلاماً عن غيره، فالكلام إذاً يطلق عَلَى من تكلم به مبتدئاً، أما هذا فهو ناقل لكلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إذاً ابتدأنا بالشاعر ثُمَّ انتقلنا إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والآن انتقلنا إِلَى درجة ثالثة.
ولو أن هذا القائل قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين أو تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] أو نحو ذلك، فنقول هذا كلام الله، ولا يعني أن الذي يتكلم وينطق بهذه الألفاظ هو الله عياذاً بالله، وإنما هذا كلام الله لأن الكلام لمن ابتدأه، وأما هذا الرجل فهو ينقل أو يحكي أو يقرأ كلام الله عَزَّ وَجَلَّ بلسانه، فالقرآن هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا يخرجه عن ذلك أن أحداً يقرأه أو يكتبه أو يسمعه.
ولهذا يُقَالَ: لو أن هذا الرجل الذي علم أن هذا كلام الله قَالَ: عندما سمعه لا أدري كلام من هذا وهو لا يدري حقيقة، فيأتي رجلٌ فَيَقُولُ: كيف لا تدري؟ وهذا المتكلم أمامك؟
فسيقول: أنا لم أقصد الذي ينطق به الآن، وإنما لا أدري الذي ابتدأ الكلام، فالذي يتكلم الآن أمامي واضح أعرفه، لكنه ليس من عنده، فهذا دليل فطري بدهي واضح عَلَى بطلان دعواهم وزعمهم.
قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ:(1/661)
[وبالجملة فأهل السنة كلهم، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون عَلَى أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وقد يطلق بعض المعتزلة على القُرْآن أنه غير مخلوق ومرادهم أنه غير مختلق مفترى مكذوب؛ بل هو حق وصدق، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق الْمُسْلِمِينَ، والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته؟ وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه، ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع، معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر، لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع، ولو تُرِك النَّاس عَلَى فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة، لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إِلَى بعض النَّاس أغلوطة من أغاليطة، فرقَّ بها بينهم وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة:76] اهـ.
الشرح:
يجب علينا أن ننتبه إِلَى هذه العبارة بدقة، لأنها قد تفهم عَلَى غير وجهها، وكان ينبغي للمصنف رَحِمَهُ اللهُ أن يفصّل فيها وأن يوضحها أكثر من ذلك، لأنه يقول "وبالجملة فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف، متفقون عَلَى أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم)(1/662)
فيريد المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ أن يقول إن الذين قالوا: إن كلام الله مخلوق بدون تحفظ، هم مخالفون لمجموع الأمة كلها، فإن أكثر الأمة يقولون: إن القُرْآن غير مخلوق، وإنما اختلفوا في مفهوم القُرْآن هل هو المعنى القائم بالذات، أو هو الألفاظ والمعاني معاً، أو الحروف والأصوات معاً، أو أنه بدا له الكلام بعد أن لم يكن متكلماً كما هو مذهب الكرامية.
ففي هذه العبارة إجمال: لأن أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم قد انقسموا إِلَى من يقول إن القُرْآن مخلوق اللفظ والمعنى، وهَؤُلاءِ هم المعتزلة، وإلى الذين يتبعون السلف والأئمة الأربعة وهَؤُلاءِ يقولون: إن القُرْآن كلام الله ألفاظه ومعانيه غير مخلوق، ثُمَّ حدث الرأي الثالث.
وقد نص العلماء عَلَى أنه إذا اختلف السلف الصالح فقالوا قولاً وخالفهم رجل أو طائفة فأحدثت قولاً بخلاف ما كَانَ عليه السلف، وأصبحت المسألة عَلَى قولين، فإنه لا يصح لأحد أن يأتي فيحدث قولاً ثالثاً.
ولهذا نقول: إن الذين قالوا بالفرق بين الكلام المعنوي أو النفسي، وبين الكلام اللفظي إنما هم مبتدعة أحدثوا بدعة جديدة، لكن المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- كأنه يريد أن يقول: إن أهل السنة هنا بمعنى ما يقابل المعتزلة كذا، وتطلق بما يقابل الشيعة، فيُقَالُ:: قالأهل السنة كذا، وقال الشيعة كذا، وذلك كما ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في منهاج السنة وفي غيره، لاشتهار الشيعة في مخالفة الحق وعدم اتباع السنة، فأصبح من لم يكن شيعياً فإنه من أهل السنة مع أنه قد يكون فيه من البدع ما الله به عليم.(1/663)
وكذلك أول ما حدث الأمر أيام فتنة الإمام أَحْمَد ومن معه من العلماء، كَانَ النَّاس يعرفون بأحد تعريفين، فيُقَالُ: هذا من المعتزلة، وهذا من أهل السنة، أي: من الذين ليسوا عَلَى مذهب المعتزلة، فابن كلاب ومن معه كانوا ضد المعتزلة، ولذلك لما أعلنأبو الحسن الأشعري توبته ورجوعه عن المعتزلة أعلنها بقوة، وانخلع وتجرد عن مذهب الجبائي وعن مذهب المعتزلة، واعتبر نفسه من أهل السنة مع أنه في تلك المرحلة لم يدخل في مذهب أهل السنة، وإنما دخل في عقيدة عبد الله بن سعيد بن كلاب التي هي برزخ بين السنة وبين الاعتزال، فيجب أن نتنبه إِلَى مقصود المُصنِّفُ بهذه العبارة.
وأما نزاع المتأخرين الذي أشار إليه هنا فيجب أن يُعتبر بدعة؛ لأنه لا يجوز إحداث قول ثالث، بل يجب أن يتبع كلام السلف الصالح وحدهم.
أقسام المذاهب في الحديث عن القرآن
وكلام المُصْنِّف فيه إشارة إِلَى الثلاثة المذاهب:
الأول: أنه معنى واحد قائم بالذات، وهذا كلام ابن كلاب.
الثاني: أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا هو مذهب الكرامية.
الثالث: أنه لم يزل مُتكلّماً إذا شاء ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وهذا هو مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ. وهو المذهب الحق في هذه الأقوال الثلاثة، أما قول الكلابية فهو مذهب مبتدع كمذهب المعتزلة.
وأما قول بعضالمعتزلة: إن القُرْآن غير مخلوق، بمعنى: أنه غير مختلق ولا مفترى، فيقول المصنف: إن هذا حق، فالقرآن غير مختلق ولا ريب أن هذا المعنى منتفٍ باتفاق الْمُسْلِمِينَ، فليس فيما قالوه جديد، وإنما النزاع والخلاف القائم في القُرْآن هل هو مخلوق خلقه الله مثل سائر المخلوقات؟ أو هل هو كلامه تكلم به عَلَى الحقيقة؟ هذا هو النزاع الحقيقي.
اعتراض المصنف على قول المعتزلة(1/664)
ويتعرض المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ في آخر الحديث إِلَى قضية مهمة منهجية، فَيَقُولُ: [إن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع، معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر، لم يتلقوه عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه] وهذا هو أساس البلاء والضلال والابتداع.
فالمعتزلة يقولون: إن البراهين العقلية تقطع بأنه يستحيل أن تقوم الحوادث بذات الله، فالعقل يدل عَلَى أن هذا القُرْآن ليس كلام الله، وليس عَلَى هذا القول دليل من الكتاب أو السنة، أو قول أحد من الصحابة أو التابعين.
وإنما يقولون: يدل عَلَى ذلك العقل والبراهين العقلية القطعية، وفي الحقيقة أن هذا العقل ليس هو عقل فلان ولا فلان من المعتزلة وغيرهم، إنما هذه العقول هي عقول الوثنيين الْمُشْرِكِينَ مناليونان، وهَؤُلاءِ نقلوا كلام اليونان وأدخلوه في كلام أهل الإيمان، فأفسدوا به العقول.
والمصنف رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يقول: [ولو تُرك النَّاس عَلَى فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع] أي: في كلام الله عَزَّ وَجَلَّ وفي توحيده، وفي القدر وغير ذلك من أمور العقيدة، لأنها واضحة ومعلومة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أكمل الله له الدين، فأعظم ما وضحه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أمور التوحيد والإيمان. والصحابة -رضوان الله تَعَالَى عليهم- هم أكثر النَّاس علماً وعقلاً وذكاءً وفهماً، وما تركوا شيئاً مما يقربهم إِلَى الله إلا وتلقوه عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إما سماعاً منه، وإما سؤالاً منهم له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم أكمل النَّاس إيماناً، ومن مارى في ذلك أو جادل فلا شك في ضلاله وزيغه وإلحاده.(1/665)
ويقول المصنف: [ولكن ألقى الشيطان إِلَى بعض النَّاس أغلوطة من أغاليطه] فالشيطان هو الذي سول لعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وابن كلاب وغيرهم أن يخرجوا عما كَانَ عليه السلف الصالح -رضوان الله تَعَالَى عليهم- وأن يقولوا بهذا: إما بالرد لكلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- ولكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإما بالتأويلات، وإلا فإن الفطرة القويمة والعقل السليم يقطع بأنه لا بيان أوضح من بيان الله عَزَّ وَجَلَّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ [المرسلات:50] .
فلا حديث بعد القُرْآن يؤمن به، ففيه الحجة والبرهان الساطع، والدليل الواضح في جميع ما اختلفت فيه الأمة من المسائل، ولكن وقع الشقاق والخلاف في الأمة لما أن ركضوا وراء الأهواء، وأخذوا يلوكون كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، ويقولون فيه كما يشاءون، ويتقولون عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يريدون، وإذا جاءهم من يقول هذا كلام رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كلام الصحابة أو التابعين، قالوا: هَؤُلاءِ حشوية ينقلون الكلام ولا يفهمون معناه ولا يعرضونه عَلَى عقولهم.(1/666)
وقد سبق أن أوضحنا أن الرد إِلَى العقول رد إِلَى الحيرة والضلال والشك، فأي عقل يرجع إليه النَّاس مع أن عقولهم تتفاوت في الأمور المشاهدة بالعين، فهذا يقول: إنه كبير، وهذا يقول: لا بل صغير، وهذا يقول: لونه كذا، وهذا يقول: لونه كذا، في شيء رأوه جميعاً بأعينهم، فكيف تحكم العقول في الأمر الذي لم تخلق لمعرفته ولا لاكتشافه، وإنما خلقت لتتلقى عن مصدر معلوم موثوق، ثُمَّ لتعتقد بعد ذلك ما يأتيها من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جعل هذه العقول آلة لفهم ما ينزل إليها من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولهذا فالمجنون ومن لا عقل له غير مؤاخذ؛ لأنه لا يفهم ما ينزل من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وما يقوله رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن العاقل الذي أعطي هذه الآلة ليفهم بها كلام الله مؤاخذ إن لم يتدبر ويتفقه كلام الله، ويعمل به ويمشي بموجبه.
وليس المعنى: أن ما جَاءَ في الوحي يعرض عَلَى العقل، فما قبله كَانَ صحيحاً وما رده كَانَ خطأً أو باطلاً، فيصبح العقل حَكَماً عَلَى ما جَاءَ في الوحي، فإن هذا لا يمكن ولا يليق بحكمة الله عَزَّ وَجَلَّ، لكن اللائق بحكمته أنه ينزل الهدى والحق والنور، ثُمَّ من رحمته بالإِنسَان أنه أعطاه الآلة التي يتدبر بها هذا الحق والهدى والنور، ويفهمه ويستنبط منه، ويجتهد في العمل به وفي تطبيقه، أما إذا كَانَ العقل نداً وخصماً، فيخطئ ويصوب، فليس هناك حكمة، ولا فائدة في إنزال الوحي إذا كانت العقول يمكن أن تدرك الحق والهدى والضلال، وتستقل بمعرفته من دون كلام الله وكلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا هو أساس التخبط والضلال.(1/667)
ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- تَعَالَى أن هنالك طائفة من المتأخرين المنتسبين إِلَى الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم والفضل يقولون: إنما نتلقى عن الأئمة أحكام الحلال والحرام، وأما ما يتعلق بمسائل الاعتقاد وأمور الإيمان والغيب، فهذا نأخذه من أهل الكلام مع إطباق الأئمة عَلَى ذم علم الكلام وأهله، كما هو منقول في هذا الكتاب عندما نقل كلام الأئمة رحمهم الله تعالى، ومنهم الإمام أبا حنيفة وصاحباه، والشَّافِعِيّ وغيرهم في ذم أهل الكلام، وقالوا ذلك في كتب الفتاوى الحنفية كالفتاوى الظهيرية وغيرها وقد نصت: عَلَى أنه إذا أوقف الرجل وقفاً وجعله لأهل العلم فإن أهل الكلام لا يدخلون فيه، لأن الإمام أبا حنيفة نص عَلَى أن علم الكلام ليس من العلوم الشرعية، وكذلك صاحباه.
فهكذا ينصون عليه في فتاواهم التي تقتفي أثر أئمتهم السابقين، ولكنهم مع ذلك يدَّعون ويزعمون أن الحق في أمور العقيدة ليس مع هَؤُلاءِ الأئمة، وأن هَؤُلاءِ الأئمة إنما كانوا عَلَى مذهب السلف الذي هو مجرد تفويض المعنى دون علم وفهم للصفات!
وليس الموضوع خاصاً بالصفات؛ بل بكل أبواب العقيدة؛ فهو متعلق بالإيمان، وبالقدر، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبغير ذلك من أبواب العقيدة، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.
ونجد أن كثير اً من المتأخرين من أتباع الأئمة قد خالفوا أئمتهم المتقدمين أعلام الهدى المجمع عَلَى الاقتداء بهم -وكما سبق- أن الانتساب عند المتأخرين أصبحت نسبة ثلاثية، فتجدهم يذكرون ثلاثة ألقاب فيقولون: فلان الحنفي مذهباً الماتريدي عقيدة الجنيدي أو القادري طريقة، فلان بن فلان الحنبلي مذهباً القادري طريقة الأشعري عقيدة، وكذلك المالكي وهكذا، فنجد أن هناك ثلاث نسب: نسبة في الفقه وهذه للإمام.(1/668)
والنسبة الثانية: في العقيدة وهذه للمتكلمين والنسبة الثالثة: في السلوك وطريقة العبادة: وهذه يجعلونها لأحد أئمة الطرق الصوفية الذي ارتضوه شيخاً لهم، مع أن الأمة عندما أجمعت عَلَى فضل الأئمة الأربعة ارتضوا الآخرين كالإمامالأوزاعي، وابن المبارك، والفضيل بن عياض، ووكيع بن الجراح، وعبد الرحمن بن مهدي، وسفيان بن عيينه، وسفيان الثوري، والطبري وأمثالهم من الأئمة الأجلاء، فعندما أجمعت الأمة عَلَى فضل هَؤُلاءِ الأئمة والاقتداء بهم لم تجمع عليهم لكونهم أئمة في الفقه فقط فقد يستنبطون أحكاماً دون أن يكون لهم منهج صحيح في العبادة، فلو أن لهم مخالفةً في أمورِ العقيدةِ لنُسِبوا إِلَى البدعةِ، ولُذِكَرَ ما عندهم من المخالفات في العقيدة، ولما كانوا أئمة يحتج بهم، ومجمعاً عَلَى فضلهم.
ولهذا لما أخطأ الإمامُ أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- في مسألة الإيمان بيِّن الأئمة ذلك الخطأ مع إجلالهم له وإجماعهم عَلَى فضله -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- وأنه من الأئمة الذين أجمعت عليهم الأمة، وكذلك الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لا يستطيع أحد أن يطعن في عبادته أو يقلل من تقواه وورعه وزهده، وكان مضرب المثل في عصره ثُمَّ يأتي بعده من يقول: إنه المالكي مذهباً القادري طريقة!!
وهل الإمام مالك -رَحِمَهُ اللهُ- لم يكن لديه من التعبد والزهد والتقوى ما يجعلك لا تجد فيه أسوة في هذا الجانب أبداً؟ وإنما تذهب إِلَى عبد القادر الجيلاني أو الشاذلي أوالجنيد أو إِلَى أي فلان كائناً من كان! هذا الإِنسَان من القرون المتأخرة الذين لا يمكن أن يبلغوا من الفضل والتقى والورع والزهد مبلغ أُولَئِكَ الأئمة.
وكذلك الإمام الشَّافِعِيّ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- كَانَ حجة في جميع العلوم حتى في اللغة والشعر ومع ذلك يقولون: لا نأخذ عن الشَّافِعِيّ في العقيدة، إنما نأخذ عنه الأحكام.(1/669)
فمثلاً فخر الدين الرازي الإمام المتأخر من الأشعرية كتب كتاباً فيمناقب الشافعي يُدافع فيه عن مذهب الشَّافِعِيّ في الفروع، ولكنه في الأصول: كمسألة الإيمان يرجح غير ما رجحه الشَّافِعِيّ، وما ذكره الشَّافِعِيّ هو الصحيح، ونقل الإجماع عليه من الأئمة، ومع ذلك يخالفه!
والعجيب أن أتباع هَؤُلاءِ الأئمة هم من المقلدين المتعصبين للإمام في مسائل نجد أن الأئمة رحمهم الله خالفوا فيها الدليل وهذا لا يستغرب أن أحداً من الأئمة كائناً من كَانَ يكون له فتوى أو رأياً فقهياً مخالفاً للحديث الصحيح، وقد ذكر شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- أسباب ذلك في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام وذكر من الأسباب أنه قد لا يبلغ الإمام الحديث، وقد يفهمه عَلَى غير وجهه أو قد لا يرى صحته وغيرها من الأسباب.
فالمهم أن الإمام قد يخطئ ويكون له بذلك أجر واحد عَلَى اجتهاده. يقول المصنف رحمه الله: أو يذهب إلى قول مخالف للحديث الصحيح، مع أن الأئمة رحمهم الله جميعاً نصوا عَلَى أنه إذا خالف قول أحدهم الحديث الصحيح: فإنه يجب علينا أن نأخذ بالحديث وأن يضرب بأقوالهم عرض الحائط، لكن أتباعهم خالفوهم في هذا الشأن، فيتعصبون لهم أشد التعصب في مسائل فقهية مرجوحة وضعيفة.
ومع ذلك فهم لا يأخذون بأقوالهم في العقيدة التي هي مسائل قطعية إجماعية لم يختلف فيها السلف ولم يختلف فيها الأئمة الأربعة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم أجمعين: كمسألة القُرْآن لم يختلف أحد من الأئمة الأربعة أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق وسنرى ماذا قاله الأتباع وماذا قال أئمتهم.
فمثلاً يأتي الحنفي فَيَقُولُ: إن شرب النبيذ حلال ما لم يسكر، وأن قليل الخمر الذي لا يسكر حلال.(1/670)
فيُقال له: إن هذا خلاف حديث النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن الأمر ليس مجرد الإسكار فقط بل الخمر قليلها وكثيرها حرام، كما قال النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ما أسكر كثيره فقليله حرام) (وكل مسكر خمر) ومع ذلك يقولون: لا، ويصرون عَلَى كلام الإمام.
وفي مذهب الحنفية: أنه إذا ضحك أحد في الصلاة يجب عليه أن يتوضأ، مع أن القهقهة لا تنقض الوضوء، ولم يثبت في ذلك حديث صحيح عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنَّ أبا حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- ذكر ذلك فاتبعوه وتمسكوا بقوله أشد التمسك، ولا يقرون بأن أبا حنيفة أخطأ في هذه المسألة، بل الكرخي -أحد أئمتهم المتأخرين- يقول: كل حديث أو قول ليس في مذهبنا فإن الدليل أو الحديث الدال عليه إما منسوخ أو ضعيف أو مؤول والعياذ بالله، ولو كَانَ في صحيح البُخَارِيّ، أو كَانَ غير منسوخ من شدة تعصبهم لكلام الأئمة.
وكذلك الشافعية يأتون مثلاً إِلَى أمور مرجوحة كمسألة اللمس أو المس. فمجرد ملامسة البشرة للبشرة عندهم تنقض الوضوء، مع أن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لمس ولمسته أمهات المؤمنين وقبَّل نسائه ولم يتوضأ) ومع ذلك فهم يقولون: إن مجرد اللمس ينقض الوضوء ويتحرجون من ذلك تحرجاً شديداً حتى أن الإِنسَان إذا توضأ يأخذ عَلَى يده أي شيء حتى لا يلمس يد زوجته وهو لا يقصد الشهوة ولا يقصد أي شيء، لكن هذا من شدة التمسك بالمذهب.
فنقول لهم: مع هذا التمسك الشديد في الأمور الفرعية أين التمسك بالأصول القطعية المجمع عليها؟ فالإِنسَان في المسائل الفقهية بين الخطأ أو الصواب ولكنه في أمور العقيدة بين الكفر أو الإيمان، وبين السنة أو البدعة، فأيهما أولى بأن نكون حريصاً عليه؟(1/671)
إنالسلف الصالح رضوان الله عليهم بينوا لنا ذلك، فالصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم اختلفوا في أحكام فقهية من الصلاة والغسل والوضوء والحج والمورايث وفي أمور معلومة، واختلافهم هذا رحمة بالنسبة لنا، لا كما يفهم بعض الذين ينسبون للنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث الموضوع (اختلاف أمتي رحمة) إنما هو من باب: أن ديننا يقبل الاجتهاد والنظر، ولو لم يختلفوا لما جاز لنا أن نجتهد إلا أن نقول كما قالوا، ولهذا فنحن نقول في مسائل العقيدة: إن الصحابة أجمعوا عليها فلا يجوز لنا أن نجتهد عَلَى الإطلاق، والصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- ومع اختلافهم في هذه المسائل فقد اتفقوا عَلَى محاربة أهل البدع.
فعندما ظهرت الخوارج قاتلهم أصحاب النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتالاً بالسيف، ولما ظهرت الشيعة وجاءوا إِلَى عَلِيّ وَقَالُوا: أنت هو، قَالَ: من هو؟ قالوا: أنت الله، فحفر الأخاديد وأحرقهم بالنار ولم يخالفه أحد من الصحابة إلا أن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: لو كَانَ الأمر إليَّ لقتلتهم بالسيف ولم أحرقهم لأن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (لا تعذبوا بعذاب الله)
فخالفه في الكيفية ولم يخالفه في نفس العمل أي: أنهم متفقون عَلَى أنهم يقتلون، واتفقوا كذلك عَلَى زجر القدرية وهجرهم وتبديعهم لهم والبراءة منهم، كما ورد عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فنجد أنهم مع اختلافهم في بعض الفروع فقد اتفقوا الاتفاق التام في العقيدة والأصول ومحاربة أهل الضلال والزيغ والابتداع.(1/672)
وورث الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الْمُسْلِمِينَ وأئمتهم وفضلائهم؛ ما كَانَ عليه الصحابة والتابعون في هذا الشأن، حتى نبغ هَؤُلاءِ المتأخرون وخالفوا في ذلك، وقالوا كما ذكر المصنف: نأخذ من الأئمة ونتلقى عنهم الأحكام فقط، وأما في أمور العقيدة وأصول الدين والإيمان فإننا نأخذها من المباحث العقلية التي حررها فلان، وفلان من أهل البدع ومن أهل الكلام، وهذا الذي من أجله أراد المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن يرد عَلَى مذهب الماتريدية الحنفية بكلام الطّّحاويّ وكلام الإمام أبي حنيفة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ-.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
[والذي يدل عليه كلام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللهُ-: أنه تَعَالَى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة -رضي الله عنه- في الفقه الأكبر فإنه قَالَ: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن عن موسى عَلَيْهِ السَّلام وغيره من الأَنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام وعنفرعون وإبليس، فإن ذلك كله كلام الله إخباراً عنهم، وكلام الله غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) انتهى.(1/673)
فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له من صفاته يعلم منه أنه حين جَاءَ كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى كما يفهم ذلك من قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ففهم منه الرد عَلَى من يقول من أصحابه: أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله: الذي هو من صفاته لم يزل رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً] اهـ.
الشرح:
في طبعة الشيخ الأرنؤوط أن المتن الذي نقله المصنف، نقله من نفس متن شرح الفقه الأكبر وقد سبق الحديث عن كتابالفقه الأكبر، ونسبته إِلَى الإمام أبي حنيفة صحيحة عند الحنفية، وأما إذا نظرنا إِلَى رجال السند فإنه يشك في نسبته إليه، بل لا يصح السند لأنه مروي من طريق أبي مطيع البلخي وهو الحكم بن عبد الله أحد فقهاء الحنفية في القرن الثالث، وهو ضعيف في الرواية؛ بل قد اتهم بأكثر من الضعف، ومع ذلك فهو من فقهاء الحنفية المعتبرين في الفقه، وهم يوثقونه، ويرون أن ما ينسبه إِلَى الإمام أبى حنيفة فهو كلام موثوق مقبول.
وكتاب الفقه الأكبر -على ما فيه من بعض الأخطاء التي هي من وضع أبي مطيع البلخي؛ إلا أن الذي يبدو عند التحقيق أن الكتاب له أصل عن الإمام أبي حنيفة، ولكن أبا مطيع البلخي أضاف إليه من عنده أشياء ونسبه كله للإمام أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى، ولو أن الحنفية -على ما في الكتاب من بعض المخالفات كما في مسألة الإيمان- التزموا بما فيه لكان أهون، ولكنهم ليسوا متمسكين بما في الفقه الأكبر مع أنهم يصححون نسبته إِلَى الإمامأبى حنيفة -رَحِمَهُ اللهُ- وليسوا أيضاً عَلَى ما في هذه العقيدة الطّّحاويّة (المتن) مع أن الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ من كبار أئمتهم المعتبرين المعدودين، وهم مع ذلك قد خالفوا هَؤُلاءِ الأئمة.(1/674)
مذهب الإمام أبي حنيفة في الكلام عن القرآن
يقول الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-كما في كتابه الفقه الأكبر: (والقرآن كلام الله في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقه، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القُرْآن حكاية عن موسى وغيره من الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم وعنفرعونوإبليس فإن ذلك كله كلام الله تعالى، إخباراً عنهم.
وكلام الله غير مخلوق وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عَلَيْهِ السَّلام كلام الله تَعَالَى فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا ويتكلم لا ككلامنا) اهـ.
هذا هو النص الموجود في الفقه الأكبر وفي شرحه للملا علي القاري أحد الحنفية المتأخرين المتوفي في القرن العاشر، وقد نقل المُصْنِّف هذا الكلام ليستدل به عَلَى أنه مطابق لما ذكره -أيضاً- الإمام الطّّحاويّ في المتن، فعندنا الإمامأبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- الذي أصَّل المذهب الذي يُنتسب إليه الأحناف المتوفي سنة (150هـ) ، والإمام الطّّحاويّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- المتوفي سنة 321هـ والإمام ابن أبي العز هَؤُلاءِ الثلاثة هم من عمد المذهب، الأول إمام المذهب، والثاني من الأئمة المشهورين في عصره، والثالث كَانَ من كبار قضاة الحنفية بل وغيرهم في زمانه؛ لأنه وُلي ما يُسمى "قاضي القضاة"، أي رئيس القضاء الأعلى في البلد في أيام المماليك.(1/675)
فهَؤُلاءِ الثلاثة يقولون قولاً واحداً وهو أن القُرْآن كلام الله غير مخلوق، ويخالفون في ذلك الماتريدية، وقلنا إن أبا منصور الماتريدي: رجل عاش في القرن الرابع في بلاد ما وراء النهر وينتسب إِلَى الإمام أبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في الفقه لكنه تعلق بعلم الكلام، وناظر المعتزلة وناقشهم وأكثر من مخالفتهم، وكان متأثراً بالمنهج الكلامي في الجملة، فخرج عن كثير مما قرره الإمام -أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ، وأصبح الأحناف ينتسبون إليه في العقيدة وينتسبون إِلَى الإمام أبي حنيفة في الفقه.
والمصنف يريد هنا أن يبين أن الحنفية مخطئون عندما يتبعون أبا منصور، ويتركون كلام الطّّحاويّ، والإمام أبو حنيفة الذي ينتسبون إليه، فيأتي من الفقه الأكبر بما يدل عَلَى مطابقته لكلام الطّّحاويّ؛ لأن بعض الحنفية يشرحون العقيدة الطّّحاويّة شرحاً ماتريدياً، ويؤولون الألفاظ والكلمات التي جاءت فيها، ولا يستغرب ذلك لأنهم قد أولوا الآيات، وأولوا الأحاديث، فلا يستغرب أن يؤلوا أيضاً كلام الإمام الطّّحاويّ أو كلام الإمام أبي حنيفة لكن من كَانَ له فهم وعقل سليم فإنه يستطيع أن يقارن الكلام ويفهم، فهذا النص الذي قرأناه واضح كل الوضوح، في مخالفته لكلام الماتريدية.
والشراح المتأخيرن الذين شرحوا عقيدة الطّّحاويّ، وَقَالُوا: إن الإمام أبا حنيفة وأبا جعفر الطّّحاويّ يقولان بالكلام النفسي، وذلك أن في هذا النص كلمة وهي قول الإمام: [فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] قالوا: ومعنى ذلك: أن الإمام أبا حنيفة يقول: إن الله تَعَالَى لما كلم موسى كلَّمه بالكلام الذي هو من صفاته في الأزل وليس هناك من صفاته في الأزل إلا الكلام النفسي، أما الكلام الذي هو حروف وأصوات مسموعة فهذا ليس في الأزل، فحرفوا كلام الإمام مع أن أوله واضح كل الوضوح، أن القُرْآن كلام الله في المصاحف مكتوب وفي القلوب محفوظ وعلى الألسن مقروء.(1/676)
وكذلك نص أكثر من مرة أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله، وهم يقولون: كلام الله هو الكلام النفسي فقط، أما الحروف فإنها مخلوقة.
فكلام الإمامأبي حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- واضح في الرد عَلَى هذا القول، لكنهم وجدوا هذه الكلمة فأخذوا يحرفونها ويحرفون بها بقية الكلام، فأتى الإمام هنا ليرد عليهم، ويقول: إن قوله: [ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو له صفة في الأزل] يُعلم منه: أنه حين جَاءَ موسى، كلمه الله تَعَالَى لا أنه لم يزل ولا يزال أبداً يتكلم؛ لأن كلمة (في الأزل) مضمونها أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- اتصف بهذه الصفة في الأزل، ولو كَانَ عَلَى كلامهم أن الصفة التي في الأزل كلم بها موسى، لكان لا يزال وما يزال أبداً وأزلاً ينادي يا موسى يا موسى يا موسى، وهذا لا يقول به عاقل.
وإنما لما جَاءَ موسى كلمه، وهنا تكون الخصوصية لموسى عَلَيْهِ السَّلام أنه سمع كلام الله، أما إذا كَانَ كلام الله هو ما في نفسه، والذي سمعه موسى كلاماً مخلوقاً خلقه الله، فإنه لا ميزة لموسى بكونه كليم الله؛ لأن الله خلق الكلام في عمرو وفي زيد وفي فلان وفلان وأنا أسمع كلام الله الذي خلقه في فلان وفلان عَلَى قولهم، فعلى هذا ليس هناك أي فرق بين موسى عَلَيْهِ السَّلام وبين أي إنسان آخر، إلا أن يكون موسى سمع كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وكلمه وليس بينه وبين موسى ترجمان ولا واسطة، فإذاً هذا الكلام يرد عَلَى قول الماتريدية، والحنفية المتأخرين عموماً.
فقولهم -كما يقول المصنف-: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء) فيقولون: من المُحال أن يسمع كلام الله، لأن كلام الله صفة أزلية قائمة بنفسه تعالى، فكيف يمكن لأحد أن يسمع شيئاً في نفس الباري جل شأنه؟(1/677)
لا يمكن هذا أبداً، فالإمام أبو حنيفة ينص عَلَى أن الله كلم موسى عَلَيْهِ السَّلام كما هو في القرآن، ويقول الماتريدي: إن الله يخلق صوتاً في الهواء فيسمعه المخاطب فيقول هذا كلام الله، فيقول المُصْنِّف رداً عليه: أين الدليل عَلَى أن الله خلق الصوت في الهواء؟ من كَانَ منكم حاضراً من أهل الكلام عندما كلَّم الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى موسى حتى تقولوا إن الله خلقه في الهواء! فهذا من التحريف والقول عَلَى الله بغير علم ومن الافتراء عليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فيقولون: لم يكن متكلماً ولكن حدث له الكلام بعد ذلك، فيقول المصنف: إن هذا الكلام من أبي حنيفة هو رد عَلَى أُولَئِكَ لأنه قَالَ: إنه القُرْآن كله كلام الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثُمَّ ذكر أنه كلم موسى بكلامه الذي هو له صفة وذكر أن الله تَعَالَى متصف بهذا الكلام في الأزل، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء، فهذا هو الرد عَلَى من يقول: إنه حدث له الكلام بعد أن لم يكن متكلماً تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
فاتضح بذلك أن كلام الإمام أبو حنيفة موافق لما عليه أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وكذلك الإمام أبو جعفر الطّّحاويّ وهو الذي رجحه هنا، وأن بقية الأقوال مرجوحة.
الرد على من زعم أن أبا حنيفة قال: (لفظي بالقرآن مخلوق)
أما قول الإمام أبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- في قوله: (القرآن كلام الله) حيث قَالَ: (لفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق) فهذه الكلمة لا بد أن تشرح وأن يعقب عليها؛ لأن الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: (ومن قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي. ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع) والإمام أبو حنيفة يقول هنا: (لفظي بالقرآن مخلوق) .(1/678)
فنقول: أولاً: أننا لا نستطيع أن ننسب إِلَى الإمام أبي حنيفة كل كلمة وردت في كتابالفقه الأكبر، وإنما الراجح المؤكد أنأبا مطيع البلخي أدخل كلمات كثيرة ضمن كلام الإمام أبي حنيفة ومن الأدلة عَلَى ذلك هذه الكلمة (لفظي بالقرآن مخلوق) ؛ لأن الكلام في قضية اللفظ: هل يُقال مخلوق أو غير مخلوق؟ لم يحدث إلا بعد حدوث الفتنة بفترة، أي: بعد سنة مئتين وعشرة هجرية.
والإمامأبو حنيفة -رَحِمَهُ اللَّهُ- توفي سنة مائة وخمسين هجرية، فلا يمكن أن يتكلم الإمام أبو حنيفة بشيء لم يكن قد وقع الخلاف فيه بعد، وإنما حدث هذا الكلام في بداية أيام المعتزلة الأوائل الذين كانوا قبله أو معاصرين له، فبدؤا يثيرون هذا الكلام بينهم، ولكن لم يصل الأمر إِلَى حد أن يتعمقوا في مسائل خلق القُرْآن وعدمها إِلَى أن يصلوا إِلَى القول بأن اللفظ مخلوق أو غير مخلوق، إذاً: لا يصح ذلك عن أحد من الأئمة قبل وقوع الفتنة.
ثانياً: أن هذه العبارة تحتمل معنىً خطأً ومعنىً صواباً والإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- يريد بقوله: "من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع" أن يقطع ويحسم المادة نهائياً فلا يقول أحد لفظي بالقرآن مخلوق أو غير مخلوق ولهذا قال بعضهم: حيَّرنا هذا الرجل ماذا نقول؟ إن قلنا: مخلوق لا يرضى، وإن قلنا: غير مخلوق لا يرضى إذاً ما الذي يرضيه؟!
نقول: إن الذي يرضي الإمام أَحْمَد -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ويرضي علماء السلف هو ما يرضي الله ورسوله وهو أننا نقف عند كلام الله ورسوله ولا نزيد عليه.(1/679)
فنقول: القُرْآن كلام الله غير مخلوق ونثبت لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا الكلام وننفي عنه ما أثبته له المبتدعة وغيرهم، ولا نجاوز ذلك إِلَى أن نتعمق في أمور أخرى هذا هو الأصل الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بذلك؛ لكن لما أن توسع النَّاس في هذا الكلام وتجادلوا واختلفوا فحينئذ لا بد أن نفهم ما الذي كَانَ يريده الإمام أَحْمَد بهذه الكلمة وما حكم من يقولها.
ذكر الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن الجهمية يقول أحدهم: لفظي بالقرآن مخلوق، وهم يريدون أن نقر بأن القُرْآن مخلوق؛ لأن الجهمية والمعتزلة والأشعرية -كلهم يسمون جهمية - لا يثبتون لله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- صفة الكلام، ويقولون: إن القُرْآن مخلوق، والقرآن هو ما نقرؤه ونحفظه ونكتبه، ومع ذلك يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق، ومعنى كلامهم أن القُرْآن مخلوق فيتوصل بهذه التورية إِلَى أن يقول عقيدته ويجاهر بها، فالإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ- تنبه لهذا فقَالَ: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
ولكن الآخرين الذين قالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق فهَؤُلاءِ وقعوا في بدعة أخرى، أرادوا أن ينزهوا كلام الله ولكنهم وقعوا في بدعة لم يقلها أحد من سلف الأمة؛ لأنه لم ينزه الله تَعَالَى بهذه اللفظة أحداً؛ لأن كلام البشر مخلوق، ولأن قراءة وكتابة البشر مخلوقة، فإذا قال السُني -الذي يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق- يقصد من ذلك: أن كلام الله تَعَالَى الذي أقرأه غير مخلوق، لكن يأتي الجهمي فَيَقُولُ: انظروا إِلَى هَؤُلاءِ الذين يقولون: إن حروفهم وأصواتهم أزلية وتعرفون أن الأشعرية 2000001>الجهمية - والمعتزلة يقولون: إن الحنابلة والحشوية يقولون: المداد قديم، والورق قديم، ولفظهم قديم وقد علق بعضهم في شرح عَلَى العقائد العضدية فقَالَ: فما بقي إلا أن يقولوا: إن الكاتب أزلي قديم.(1/680)
فهم يعيبون أهل السنة ويسمونهم حشوية؛ لأنهم يقولون إن قراءتنا للقرآن لا تنفي عنه أنه كلام الله ولا يخرجه من كونه كلام الله. وكلام الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أزلي قديم، فيقولون: أنتم تقولون حروفكم أزلية، والمداد المكتوب به أزلي، إذاً: كل شيء أزلي حتى الكاتب فأنتم خرجتم وجئتم بكلام لا يقبله أي عاقل عَلَى الإطلاق.
ومقصود أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ ليس هو هذا، وإنما مقصودهم: أن القُرْآن الذي نقرؤه نحن، سواء كَانَ مقروءاً بألسنتنا أو مكتوبا بأيدينا فهو غير مخلوق، ولا يعنون نفس الكتاب والمداد ونفس الحروف التي نخرجها من أفواهنا، وإنما يقصدون بذلك المضمون الذي هو القُرْآن نفسه كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فالإمام أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ- لا يريد هذا ولا ذاك، وإنما نقف حيث وقف السلف الصالح.
لكننا نفصل القول ونبين فنقول: من قال لفظي بالقرآن مخلوق ويقصد بذلك أن قراءته وحروفه أو أصواته مخلوقة، فهذا صحيح ومن قَالَ: لفظي بالقرآن مخلوق أي: أن القُرْآن مخلوق -ولا قرآن إلا هذا الذي نقرأه ونتلفظ به- وليس لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى صفة التكلم وإنما كلامه الذي خلقه فينا أو في الشجرة أو غيرها فهذا جهمي.
وكذلك الذي يقول: إنه غير مخلوق، نقول: إن كَانَ يريد بقوله: غير مخلوق، الكلام النفسي، فهو غير مخلوق فهذا الكلام صحيح، وإن كَانَ يريد به كلامه وأصواته وقراءته هو له، فهذا مردود؛ لأن القُرْآن يطلق ويراد به القراءة، ويطلق ويراد به ما في المصحف الذي هو كلام الله (المقروء) .
وكلمة قرآن في اللغة العربية: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرأ قرءاناً، وجاء ذلك في شعر العرب كقول أحدهم:
يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً(1/681)
أي يقطع الليل تسبيحاً وقراءةً؛ بل جَاءَ ذلك في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ حيث يقول الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] أي: قراءة الفجر، ليس المقصود هنا القُرْآن الذي هو كلام الله، بل قرآن الفجر: قراءته، وأيضاً منه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (زينوا القُرْآن بأصواتكم) أي: زينوا قراءتكم بالتجويد والترتيل، ويأتي القُرْآن بمعنى كلام الله كما قال الله تعالى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الواقعة:77] أي كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فالذي يقصد القراءة فالقراءة مخلوقة بلا شك، والذي يقصد القُرْآن الذي هو كلام الله فكلام الله غير مخلوق بلا شك.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
[وبالجملة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل عَلَى أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله، وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: أن المعتزلة قالوا: إن القُرْآن مخلوق، ثُمَّ قالوا بعد ذلك: إنه يتعلق بقدرته ومشيئته، أي أنه متى شاء خلق الكلام، ثُمَّ قالوا: إنه يتكلم متى شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، ومعنى هذا: أنه يخلق الكلام متى شاء شيئاً بعد شيء.
توضيح كلامهم وشرحه(1/682)
ولتوضيح كلامهم عندنا مقدمتان أولاً: قولهم: إن الكلام مخلوق، وثانياً: قولهم: إنه يكون شيئاً بعد شيء، وأنه متعلق بالقدرة والمشيئة؛ فنأخذ الصواب ونرد الخطأ، فأما قولهم: إنه تَعَالَى يتكلم متى شاء، ويكون كلاماً بعد كلام فهو صحيح، لكنهم اخطاؤا باعتباره مخلوقاً، أي: لما قالوا إنه مخلوق، والماتريدية والأشعرية لما عكسوا فَقَالُوا: إن الكلام هو ما في النفس فقط.
وبناءً عَلَى ذلك قالوا: إنه ما دام أنه في النفس فهو صفة له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مثل بقية الصفات التي نثبتها لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وأن الصفة لا تقوم إلا بالموصوف لا كما يقول المعتزلة: إن الصفة تقوم بغيره!
نقول لهم: إثباتكم أنه تَعَالَى موصوف بالكلام والتكلم وأنه صفة أزلية له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هذا حق لكنكم نفيتم الكلام الذي هو حروف وأصوات وقلتم: إن القُرْآن هذا المحفوظ والمقروء حكاية، أو عبارة عن كلام الله، أو دلالة عَلَى كلام الله النفسي، وليس هو كلام الله عَلَى الحقيقة، فنقول -كما نقول دائماً-: إن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا يظلمون أية طائفة ولا فرقة من الفرق؛ بل يبينون ما عندها من الخطأ وما عندها من الصواب، فهم شهداء لله قائمون بالقسط لا يحيفون ولا يجورون في أحكامهم. فلذلك نقول للمعتزلي قد أصبت في هذا، ولكنك أخطأت في ذاك ونقول للأشعري والماتريدي: أحسنت في هذا، ولكنك أخطأت في ذاك، ولا نقول: إنه يجب الأخذ بما في قول كُلٍ منهما بمعنى أننا لم نعرف الحق إلا عن طريقهما.(1/683)
فمقصود المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا أنه يجب الاعتراف أو الإقرار بما في قول أي منهما من الحق، وليس المعنى: أنه يجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب وأنه يجب علينا أن نتبع ما قالته المعتزلة أو الأشعرية من الصواب؛ لأننا في غنى فالحق والصواب لا يمكن أن يخرج عن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فما كَانَ صواباً لدى أية فرقة من الفرق فإنه موجود عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لكن ما عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ.. من الصواب ومن الحق لا يوجد عند أية فرقة من الفرق. فقول المصنف: [يجب الأخذ بما في قول كل منهما] أي الإقرار بصحته.
ولا نقول: كل كلام المعتزلة باطل، ولا كل كلام الأشعرية باطل، بل نقول: إثبات اتصاف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بالكلام صفة ذاتية وصفة أزلية، هذا حق كما قالت الأشعرية، وكما قالت الماتريدية ونقول: إن كونه تَعَالَى يتكلم متى شاء كيف شاء، وأن كلامه يأتي بعد كلام، وأن خطابه لموسى عَلَيْهِ السَّلام غير خطابه للملائكة، وغير خطابه لآدم، والقرآن غير التوراة والإنجيل والإنجيل غير التوراة وهكذا هذا أيضاً حق وصواب، فنأخذ الصواب ونرد الخطأ والباطل من أي كان، وهذا منه -رَحِمَهُ اللَّهُ- مشياً مع مذهب أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين هذا شأنهم ودينهم في كل أمر من الأمور، لا يجورون ولا يحيفون في أحكامهم رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم.
قيام الحوادث بالله من الألفاظ المجملة
قَالَ المُصْنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-:
[فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به.
قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تَعَالَى من الأئمة؟ ونصوص القُرْآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً مع صريح العقل] اهـ.
الشرح:
إذا قال أهل البدع: يلزم من إثبات أنه تَعَالَى يتكلم متى شاء كيف شاء أن تقوم به الحوادث وقيام الحوادث ممتنع(1/684)
فنقول لهم أولاً: إن كلمة قيام الحوادث كلمة مجملة وطريقة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ في أمور العقيدة في الدين: أنه إذا جَاءَ أحد بلفظ مجمل نقول له فصِّل ما تقول: فإن أتى بمعنى حسن قبلنا منه ذلك المعنى وقلنا: المعنى هذا صحيح ومقبول، ولكنَّ يجب أن تستخدم اللفظ الشرعي الصحيح فلا تقل: قيام الحوادث بالله تعالى، وقل كما قال الله -عَزَّ وَجَلَّ-: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] هذا الذي نقوله: ما قاله الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن قَالَ: أعني بقيام الحوادث أنه يغضب ويرضى ويضحك وينزل فنقول: هذا المعنى غير صحيح وغير مقبول عندنا،
والمصنف يقول لهم هنا: من أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى الصحيح الذي لا مشابهة ولا تمثيل فيه؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الذي وصف نفسه بأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى:11] وهو الذي أخبرنا عن نفسه أنه كلم الملائكة وكلَّم موسى ويكلم من يشاء من عباده -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فليس فيه تشبيه.(1/685)
فنقول: من الذي أنكر قبلكم هذا المعنى والنصوص وكلام الأئمة تدل عليه؟ هذه بدعة محدثة أول من أحدثها هم أهل الكلام؛ وإلا فغيركم من الأئمة ممن تقدمكم من أهل الفضل والتقى الذين يقتدى بهم كانوا عَلَى ما في القُرْآن والسنة وقرؤا الآيات والأحاديث في ذلك ولم ينكروا منها شيئاً أو يردوا أو يؤولوا أي شيء، فأنتم ابتدعتم في دين الله ما لم يأذن به الله، فنرد هذه الكلمة وهذا المعنى، فلا تقولوا: قيام حوادث ولا هذه أعراض والأعراض لا تلحق به ولا تقولوا: حيز ولا جوهر ولا عرض ولا كمية ولا غيرها من المصطلحات الكلامية، فهذا الكلام هذا كله مما أخذتموه عن الفلاسفة ومما لاتفهم عقولكم غيره، أما نَحْنُ فنؤمن بالله كما أخبر الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ونعلم أن العقول عاجزة عن إدراك حقيقة صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما أنها لا تدرك ذاته تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-:
[ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس، وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه؛ بل الذي أفهموهم إياه: أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها في حديث الإفك: (ولشأني في نفسي كَانَ أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى) ولو كَانَ المراد من ذلك كله خلاف مفهومه، لوجب بيانه، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره.(1/686)
فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا وكذلك سائر الصفات وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة وقد قال صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهل يقول عاقل: إنه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاذ بمخلوق؟
بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك) .
وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) .
وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا) كل هذه من صفات الله تعالى.
وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها وإنما أشير إليها هنا إشارة] اهـ.
الشرح:
ومما يبين أن القُرْآن غير مخلوق وأنه كلام الله: أن الأَنْبِيَاء جميعاً كما ذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: أخبروا أممهم بأن ربهم -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كلمهم، وبينوا ذلك للناس، وأن الوحي الذي أنزل عليهم إنما هو كلامه تَبَارَكَ وَتَعَالَى ولم يقل نبي من الأَنْبِيَاء حتى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كلام الله مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه وإنما كَانَ الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- يفهمون من قولهم: كلام الله أنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يتكلم كلاماً يليق بجلاله.
مقولة عائشة بعد نزول القرآن فيها بتبرئتها
ولقد فهمت أم المؤمنين عَائِِِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- كما جَاءَ في حديث الإفك الطويل أنها كانت تتوقع براءتها لأنها تعلم أنها بريئة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، وبرأها الله وطهرها، ولعن من رماها بالإفك قديماً أو حديثاً لعناً كبيراً، فعندما برأها الله لم تكن تتوقع أن ينزل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فيها قرآناً يتلى إِلَى قيام الساعة.(1/687)
ولم تكن تظن أن مسلماً يُؤمن بالله ورسوله يتهمها بالفاحشة عياذاً بالله، فربما وإن اتهمها المنافقون الذين اتهموها في عصره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكنها لا يمكن أن تتخيل أنه يأتي لهَؤُلاءِ المنافقين من يعقبهم ويخلفهم في هذا القول ويقتدي بهم وهو ينتسب إِلَى الإسلام وإلى أمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت ترى أن الأمر أقل وأحقر من أن ينزل فيها قرءاناً.
لكن العجيب أنه بعد أن أنزل الله فيها القُرْآن لا يزال الرافضة قبحهم الله ولعنهم يتهمون أم المؤمنين عَائِِِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْها ويكذِّبون كلام الله وينسبون إليها ما برأها الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى منه وهذا من أعجب العجب.
وليس العجب من شأنهم هم، فإن أعداء الإسلام من يهود ومجوس يفترون عَلَى الله ورسوله وأصحابه مثل ذلك وأعظم، ولكن أشدُّ العجب هو ممن يسمعهم يقولون ذلك في حق أم المؤمنين ويقرأ ذلك في كتبهم ومع ذلك يخطر بباله أن هَؤُلاءِ من أهل القبلة والعياذ بالله.
فتقول رَضِيَ اللهُ عَنْها: (لشأني في نفسي أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يتلى)
والشاهد مما في مقامنا هنا هو: أن الأَنْبِيَاء -صلوات الله وسلامه عليهم- علَّموا أممهم وعلموا أصحابهم أنه -جل شأنه- يتكلم بالوحي وأن هذا الكلام هو الذي يقرأ وهو الذي يتلى، فالآيات التي نزلت في براءتها في سورة النور مثلها في ذلك مثل سائر القرآن، كله كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- أنزله وحياً يُتلى، فنحن نتلوه ونقرأه وهو كلامه جل شأنه.
فلو أن ما تقوله الأشعرية وغيرهم هو الحق، لَمَا جاز للأنبياء أن يسكتوا عن بيانه؛ بل الواجب عليهم أن يقولوا للناس: إذا قرأتم آية فيها كلام الله، أو أن الله يتكلم، فأولوها بأنه خلقه، أو أن الشجرة هي التي تكلمت به أو غير ذلك!!(1/688)
وإن لم يقولوا أو يبينوا للناس هذا، فما بلغوا رسالة الله كما قال تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس [المائدة:67] فأمر الله تَعَالَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وحفظه وعصمه من النَّاس حتى لا يمنعه الخوف، فَيَقُولُ: لو بلغت لربما آذوني أو قتلوني. فالأذى يحصل لكنه ابتلاء ولم يصل إِلَى حد القتل؛ لكن الله -عَزَّ وَجَلَّ- أمره فقَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 7] فإن لم يقولوا ولم يفعلوا لكانوا كاتمين غير مبلغين للحق، وحاشاهم من ذلك وسيدهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الذي بلغ ما أنزله إليه ربه، فتركنا عَلَى البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
يقول المصنف: [ولا يعرف في لغة ولا عقل، قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام] سبق أن بينا ذلك وقلنا: المتكلم هو من فعل الكلام، أما إذا قلنا: إن المتكلم هو من قام الكلام بغيره، فأنا أتكلم الآن، ويمكن أن ينسب كلامي هذا إِلَى فلان والآخر إِلَى فلان لأنه قام الكلام بغيره، فهذا لا يقول به عاقل لكن كما قال الإمام أبو حنيفة: يتكلم لا ككلامنا، ويعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وكثيرٌ من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعددُ والتكثر والتجزي والتَّبَعُّضُ في الحاصل في الدّلالات، لا في المدلولِ، وهذه العبارات مخلوقة، وسميت "كلام الله" لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عُبِّرَ بالعربية فهو قرآن، وإن عُبِّرَ بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام، قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً.(1/689)
وهذا الكلام فاسد، فإن لازِمَهُ أن معنى قوله: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32] هو معنى قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة:43] . ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين! ومعنى سورة الإخلاص هو معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده وعلم أنه مخالف لكلام السلف.
والحقُّ أن التوراةَ والإنجيلَ والزبورَ والقرآنَ من كلام الله حقيقة، وكلامُ الله تعالى لا يَتَنَاهى، فإنه لم يَزَلْ يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يَزَالُ كذلك، قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً [الكهف:109] وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] .
ولو كان ما في المصحف عبارةً عن كلام الله وليس هو كَلامَ الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءة القرآن.
بل كلامُ الله محفوظ في الصدور مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر وهو في هذه المواضع كلها حقيقة.
وإذا قيل المكتوب في المصحف كلام الله فهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته، فُهم منه معنى صحيح حقيقي.
وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنى صحيح حقيقي.(1/690)
وإذا قيل: المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب] اهـ.
الشرح:
هذا المذهب الذي أشار إليه المصنف -رحمه الله تعالى- هو ما ذهب إليه كثير من متأخري الحنفية وهو أن كلام الله عز وجل معنى واحداً ولكن تختلف العبارات فيه، وقد سبق شرح هذا الكلام، فمتأخري الحنفية هم في الحقيقة على مذهب ابن كلاب والأشعري ولم يأتوا في هذا الباب بجديد، وإنما قد تختلف بعض العبارات في التعبير، ولكن الفكرة والغاية واحدة فهم يقولون: إن التعدد والتكثر والتجزء والتبعض حاصل في الدلالات لا في المدلول.
فدَلالة أو دِلالة أو دُلاله بتثليث الدال هي: الألفاظ، والمدلول هو: المعنى.
فيقولون: إن التبعض والتكثر حاصل في الدلالات في الألفاظ التي عُبِّر عنها، سواء قلنا الذي عبر عنها هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم أو أن الله -عز وجل- خلق التعبير عنها، لكنها في ذاتها شيء واحد، أي: أن كلام الله عندهم صفة ومعنى قائم في ذاته سبحانه وتعالى.
فمثلاً التوراة والإنجيل والقرآن هذه كتب مختلفة وعبارات متنوعة فآية الكرسي وآية الدين وسورة الإخلاص وتَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] إلى آخر هذه العبارات ألفاظها مختلفة، لكنهم يقولون: الأصل أن المعنى واحد ولا فرق فيه بين خبر ونهي ولا توراة ولا إنجيل ولا قرآن من حيث المدلول، أي: أن المعاني واحدة، لكن عند التعبير سواء كان المعبر هو جبريل، أو محمد صلى الله عليه وسلم، أو أن الله خلق هذا اللفظ الذي يعبر عن الكلام الذي في نفسه-أو في ذاته- عند هذا تختلف العبارات وتختلف الدلالات.(1/691)
فيقولون: العبارات مخلوقة، سواءً كانت خلقاً خلقه الله منفصلاًُ، أو من كلام جبريل أو محمد، فهي مخلوقة، ويقولون: سميت كلام الله؛ لأنها دالة عليه ومؤدية لمعناه، فيفهم كلام الله الذي هو المعنى النفسي القائم به من خلال هذه العبارات والحكايات والألفاظ الدالة عليه، وتسميتها كلام الله من قبيل المجاز، فالكلام شيء واحد، والعبارات مختلفة، وكلها مخلوقة، ويطلق عليها كلام الله على سبيل المجاز؛ لأنها تدل على كلام الله عز وجل، هذا ملخص مذهب الحنفية المتأخرين، وهو مذهب غيرهم كالأشاعرة وأمثالهم.
الرد على من يقول بأن كلام الله معنى واحد
لقد رد المُصْنِّف هنا عليهم بردود سهلة لكل ذي عقل وبصيرة، فَيَقُولُ: [وهذا الكلام فاسد فإن لازمه أن معنى قوله وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى هو معنى قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَب [المسد:1] .
وهذا القول لا يقول به عاقل ولا دليل عليه مطلقاً، فليس هناك من داع يدعو إِلَى هذا القول إلا مأزق كلامي أو أغلوطة ألقاها الشيطان في أنفسهم وعجزوا عن جوابها؛ حتى لا يثبتوا أن الحوادث تحل بالله وهذا يقتضي المماثلة والمشابهة وغيرها من التعليلات؛ فهل معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين؟! من المعلوم أن آية الكرسي أفضل وأعظم آية في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، وهي تتعلق بصفات الله تعالى، وآية الدين تتعلق بالأحكام، وكذلك هل معنى سورة الإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هو نفس معنى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ وبينهما من الفرق ما يعرفه كل عاقل! فهما مختلفتان تماماً في المعنى واللفظ، فلا حاجة إِلَى هذا القول الذي يظهر لمن تأمله سقوطه وبطلانه.(1/692)
وأما التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وكلام الله جملة فبين المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ أن هذه الكتب جميعاً هي كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهو تَبَارَكَ وَتَعَالَى لم يزل يتكلم بما شاء متى شاء وكيف يشاء، يتكلم مع ملائكته الذين يصعدون كل يوم إليه -جل وعلا- بأعمال العباد فيسألهم عنها وهو بهم أعلم، ويتكلم بالأمر الذي يريد أن يقضيه مع من شاء من ملائكةٍ آخرين. فتخر الملائكة صعقاً من خشيته وهيبته، ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يتكلم مع من يشاء من عباده، فقد تكلم الله بالتوراة وبالإنجيل وبالقرآن وتكلم فيما مضى ولا يزال يتكلم.
والتكلم: صفة فعلية لله عَزَّ وَجَلَّ، لكن عَلَى كلامهم أنه معنى واحد في الأزل موجود، وإنما تختلف العبارات، إذا فكيف يمكن الجمع بين هذا الذي ثبتت به النصوص، وبين قولهم: إنه معنىً واحد؟ لا يمكن هذا!! لكنهم لو اتبعوا كلام الله ورسوله وآمنوا بأن هذه النصوص هي الحق والصواب، وأن الله تَعَالَى يتكلم بما شاء متى شاء كيف شاء، لما وقعوا في هذه الخلط. ويستدل المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- عَلَى ذلك بقوله تعالى: قُلْ لَوْ كَانَ َ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً فكلمات الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لا تتناهى، فكيف يجعلون لها معنىً واحداً فقط؟!
وأيضاً قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27] فهذا دليل آخر عَلَى أنها لا تتناهى، فكيف تكون معنى واحداً؟(1/693)
ثُمَّ يستدل ببعض الأدلة الفقهية العقلية فَيَقُولُ: [ولو كَانَ ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله؛ لما حرم عَلَى الجنب والمحدث مسه] لأنه لو كَانَ مجرد معنى كلام الله عَزَّ وَجَلَّ فهو إذا كَانَ معنىً مخلوقاً مثل سائر المعاني، ومثل كلام البشر الآخرين، فلماذا اختص وحده بأنه يحرم عَلَى الجنب والمحدث أن يمسه؟ لو جئنا بإنسان وكتب عن معنى من معاني سورة من السور كما يفهمها هو في ورقة.
فإن هذه الورقة يمكن لأيِّ إنسان أن يمسها ولو كَانَ جنباً؛ لأنه ليس فيها كلام الله، إنما فيها المعاني التي يدل عليها كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فهناك فرق بين حقيقة نفس كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، وبين معانيه التي يدل عليها، ويقول أيضاً: [لو كَانَ ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم عَلَى الجنب والمحدث قراءة القرآن] وبالأخص الجنب.
فنفس الدلالة واحدة، أي: لو كَانَ هذا القُرْآن مجرد معانٍ، فإن المعاني يجوز أن يقرأها الإِنسَان أو يمسها عَلَى آية حال كان؛ لكن حقيقة كلام الله المقروء الذي في المصحف فإنه لا يقرأ، ولا يمس إلا عَلَى طهارة كما هو مذهب المُصْنِّف ورجحه هنا.
كلام الله حقيقة وليس مجازاً
فالمقصود بهذا الكلام الاستدلال به عَلَى أن القُرْآن كلام الله حقيقة، وأما المعاني فهي معاني هذا الكلام، وليس ما في المصحف هو معنى الكلام والمدلول هو في ذات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- كما يذهب إِلَى ذلك الخلف عموماً، ويقول: [بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف كما قال ذلك أبو حنيفة في الفقه الأكبر] .(1/694)
أراد المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- أن يرد عَلَى من يقول: إنه يطلق عَلَى القُرْآن كلام الله عَلَى سبيل المجاز وليس عَلَى الحقيقة، وأن يقرر: بأن القُرْآن في هذه الثلاث الحالات -حالة كونه في المصاحف مكتوباً، أو بالألسن مقروءاً، أو في الصدور محفوظاً- هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الحقيقة، فهو حقيقة في الثلاث الحالات، لكن الإطلاقات تختلف.
ولو قلنا: إن فيه خط فلان مثلاً فيكون المعنى حقيقياً وليس مجازياً، ويفيد أن هذا الخطاط كتب كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- وهو أيضاً كلام الله عَلَى الحقيقة؛ لأنه ينسب إِلَى من قاله مبتدءاً، وهو الله عَزَّ وَجَلَّ.
فنقول: هذا كلام الله؛ لأنه هو الذي قاله وتكلم به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا كلام حقيقي لا مجاز فيه، ونقول: هذا خط فلان وهو حقيقي لا مجاز فيه لأننا نعني عملية رسم المصحف نفسها.
وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به فهم منه معنىً صحيحاً حقيقياً، أن هذا كلام الله، وفيه مداد، وقد كتب به، فهذا معنى حقيقي؛ لأن هذه الحروف كتبت بمداد معين، فالمعنى إذاً حقيقي وليس هناك مجاز في هذه الحالات الثلاث.
بعض إلزامات أهل البدع لأهل السنة في مسألة الكلام. والرد عليهم
قال المصنف: [وإذا قيل: المداد في المصحف] وأتى بها المُصْنِّف لأن الأشعرية والماتريدية ومن نحا نحوهم، يقولون لأتباع السلف نلزمكم بأحد قولين:
إما أن تقولوا مثل قولنا: إن القُرْآن مخلوق.
وإما أن تقولوا بكلام الحلولية.
فأنتم إذاً حلولية! لأنكم تقولون: إن ما في المصحف كلام الله.
إذاً كلام الله الذي هو صفة الله يحل في المصحف فهذه شبهة شيطانية ألقاها عَلَى أولئك، ولكنَّ ردها من أسهل وأبسط ما يمكن، فقد تطرق لها المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا.
فَيَقُولُ: إذا قيل: المداد مخلوق؟
نقول: نعم مخلوق.
وإذا قيل: المداد في المصحف.
فنقول: نعم صحيح.
فيقولون: كلام الله في المصحف؟
نقول: نعم.(1/695)
يقولون: إذاً فكلام الله مخلوق؟
نقول: لا.
يقولون: لماذا فرقتم بينهما؟
نقول: "في" كلمة الظرفية تختلف من كلمة إِلَى كلمة، ومن معنى إِلَى معنى، وكلها حقيقة.
فإذا قلنا: المداد في المصحف فالظرفية هنا حقيقة؛ لأن الظرف في اللغة العربية هو الوعاء أو المكان أو الزمان فالظرفية كأنها شيء يحويه أو يستوعبه، ويكون حالّاً فيه مكاناً أو زماناً، والمداد الذي هو الحبر في المصحف لأن هذا القُرْآن الذي هو كلام الله كتب بمداد، إذاً هذا إطلاق حقيقي بالنسبة للمداد، لكن هذا الإطلاق يختلف عن قولنا: القرآن: فيه السماوات والأرض، وفيه: محمد، وعيسى عليهما السلام ونحو ذلك.
وقولنا: فإن معنى هذا: أن فيه لفظ السماوات، والأرض وفيه كلمة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيه كلمة عيسى عَلَيْهِ السَّلام أو فيه خبرهما، فهنا كلمة "في" موجودة لكن لها هنا معنى وهو معنى حقيقي، ولها هناك معنى آخر.
فإذا قلنا: القُرْآن فيه كلام الله فهذا معنى ثالث، أي هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- مثلما لو جئنا بكتاب مثلاً: ديوان شعر فقلنا هذا الكلام فيه شعرامرؤ القيس أو هذا شعر امرؤ القيس فالكلام صحيح في كلا الحالتين؛ لأنه ديوانه الذي فيه شعره، فالذي قاله مكتوباً في هذا الديوان، فلو قلت: هذا كلام امرؤ القيس فالكلام صحيح ولا مجاز فيه، فيتبين بذلك أن كلمة "في" تختلف بحسب الإطلاق.
فالظرفية تختلف من معنى إِلَى معنى آخر، وكون المداد بالمصحف، لأن الورق يحويه فهو ظرف له حوى المداد، ففيه القُرْآن وفيه السماوات والأرض، أي: فيه "كلمة السماوات والأرض" وليست نفس السماوات والأرض بحقيقتها في المصحف، لكن المداد نفس حقيقة المداد موجود في المصحف، وهذا المعنى حقيقي وذاك المعنى حقيقي، ولكن يختلف عن هذين المعنيين بمعنى أنه هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فعلى هذا فالكلمة تختلف من إطلاق إِلَى إطلاق.
الفرق بين القراءة والمقروء(1/696)
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
من خط كاتب معروف، لقال هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كل شيء حقيقة، وهذا حبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى] اهـ.
الشرح:-
أتى المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بمثال ليبين ويوضح به الفرق بين القراءة والمقروء، فيطلق كلام الله عَلَى المقروء وعلى القراءة، وذكر هذا المثال الذي فيه عدة معانٍ كلها حقيقة ليس فيها مجاز، وهي البيت المشهور عن لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وهي التي قال فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أصدق كلمة قالها لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل) ، فَيَقُولُ: لو أن إنساناً وجد هذا البيت، مكتوباً في ورقة، فقَالَ: هذا كلام لبيد، فالكلام هذا حقيقة؛ لأنه شعره الذي قاله وأنشأه وابتدأه، مثلما نقول في القرآن: إن هذا كلام الله لأنه هو الذي قاله، وتكلم به وابتدأه، وإن قال شخص هذا خط أحد الطلاب أو المدرسين مثلاً كتب هذه الكلمة من كلام لبيد، ووضعها في ورقة فهذا إطلاق حقيقي أيضاً وليس فيه مجاز، ولذا قَالَ: [وهذا كل شيء حقيقة] .
معناها أصدق كلمة قالها شاعر، وهي كلمة يشير إِلَى اللفظة ولا يشير إِلَى كل الأشياء التي خلقها الله في هذه الورقة، فكلمة كل شيء حقيقة فعلاً، لأنه أراد اللفظ وأراد الكلام، ثُمَّ يقول: [وهذا خبر حقيقة] أي أن أحد علماء البيان أو البلاغة قَالَ: هذا خبر حقيقة، وقصد البلاغي أن قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
ليس استفهاماً، ولا نهياً، ولا أمراً، وإنما هو خبر حقيقة وليس مجازاً، فانظروا كيف اختلفت الإطلاقات مع أن الشيء واحد وكلها حقيقة ليس فيها مجاز.(1/697)
فالمقصود أن العبارات تتعدد في التعبير عن شيء واحد، وتكون كلها حقيقة لأن الإطلاقات تختلف باختلاف النظر ففي حالة ننظر إِلَى المعنى، وفي حالة ننظر إِلَى اللفظ، وفي حالة ننظر إِلَى الكلام من حيث الذي أنشأه أول مرة، وفي حالة ننظر إِلَى الكلام من حيث الذي كتبه وهكذا، فحسب تعدد هذه الحالات يتعدد الكلام، وجميع الحالات حقيقي.
إذاً: كلام الله عَزَّ وَجَلَّ هو كلام الله حقيقة في حالة كونه مكتوباً أو محفوظاً أو مقروءاً، ولا خلاف في ذلك، ولله الحمد وليس مجازاً في أي حالة من الحالات.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً [الإسراء:78] وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (زينوا القُرْآن بأصواتكم) وتارة يذكر ويراد به المقروء قال تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن آنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] وقال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن آنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] ، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن هذا القُرْآن أنزل عَلَى سبعة أحرف) إِلَى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة عَلَى كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني، وذهني، ولفظي، ورسمي، ولكن الأعيان تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان، والفرق بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في رق منشور أو لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون: واضح.(1/698)
فقوله عن القرآن: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:196] أي ذكره ووصفه والإخبار عنه كما أن محمداً مكتوب عندهم، إذ القُرْآن أنزله الله عَلَى محمد، لم ينزله عَلَى غيره أصلاً، ولهذا قَالَ: في الزبر، ولم يقل في الصحف، ولا في الرق؛ لأن "الزبر" جمع "زبور" والزبر هو الكتابة والجمع.
فقوله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ويبين كمال بيان القُرْآن وخلوصه من اللبس وهذا مثل قوله: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ [الأعراف:157] أي: ذكره بخلاف قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] أو فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:22] أو فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة:78]
لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل الكون والاستقرار والحصول ونحو ذلك، أو يقدر: مكتوب في كتاب أو في رق، والكتاب: تارة يذكر ويراد به محل الكتابة وتارة يذكر، ويراد به الكلام المكتوب، ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه، فإن تلك إنما يكتب ذكرها، وكلما تدبر الإِنسَان هذا المعنى وضح له الفرق] اهـ
الشرح:
القرآن في الأصل مصدر، والمصدر تارة يذكر ويراد به القراءة، وتارة يذكر ويراد به المقروء، وهذا موجود في كلام العرب، فالقرآن بمعناه الاصطلاحي الذي هو كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- المقروء فهذا لم يعرف إلا بعد نزول الوحي عَلَى نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن كلمة قرآن موجودة في كلام العرب من قبل. ويقصدون بها القراءة، وكلمة قرأ قرآناً، أو قرأ قراءةً مترادفتان، فالمعنى واحد ومن ذلك قول الشاعر:
ضحوا بأشمط عنوان السجود له ويقطع الليل تسبيحاً وقرآناً(1/699)
فهذا الشاعر يتكلم أو يصف أمير المؤمنين عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لمَّا قتله أُولَئِكَ الثوار الفجرة الظلمة المعتدون، وذلك أنهم قتلوه رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ والمصحف بين يديه وهو يتلو كتاب الله، أي: يقطع الليل قراءة.
وهذا البيت جارٍ عَلَى كلام العرب قبل نزول القُرْآن أنه بمعنى: القراءة، وإن كَانَ الشاعر قالها في الإسلام، فالمقصود أن في لغة العرب يطلق القُرْآن عَلَى القراءة؛ لكن بعد نزول القرآن، وتسميته بهذا الاسم غلبت عليه كلمة القُرْآن عند الناس، وصار في أذهانهم أن المقصود به هو كلام الله، أي: ما في المصحف، وأما من حيث اللغة، فيصح أن تستخدم كلمة القُرْآن بمعنى القراءة، فنقول مثلاً: هذا قرآني لهذا الشيء أي: قراءتي لهذا الشيء ولا حرج في ذلك من حيث اللغة، ولا من حيث الشرع، وليس هذا محرماً؛ لكن لاشتهار القُرْآن حتى أصبح علماً عَلَى كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- فلا تستخدم هذه الكلمة لغيره؛ لأنها أهملت من الاستعمال لغيره.
ومن حيث الشرع فقد جَاءَ ذلك أيضاً في القرآن، كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً [الإسراء: 78] أي: قراءته، وليس المقصود هو المصحف الذي هو كتاب الله وإنما قراءة القرآن، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (زينوا القُرْآن بأصواتكم) أي: زينوا قراءتكم للقرآن بأصواتكم بأن يقرأه الإِنسَان محسناً مجوداً مرتلاً.
وتارة يذكر ويراد به المقروء، وهذا هو الغالب، وهذا الذي يطلق عليه القرآن، والقرآن بمعنى المقروء الذي هو كلام الله الذي نقرأه، فقوله تَعَالَى:فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن آنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98] أي: إذا ابتدأت تقرأ القرآن، فالقرآن هنا بمعنى المقروء الذي سوف تقرؤه من كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، ابدأه بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.(1/700)
وقوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن آنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] ومعروف أنه سماع المقروء، ومعناها إن قرأ أحد كلام الله عزوجل فأنصت له واستمع، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إن هذا القُرْآن أُنزل عَلَى سبعة أحرف) معناه: إن هذا القُرْآن يقرأ، أو مقروء عَلَى سبعة أحرف، تقرؤونه بسبعة أحرف، المقصود هنا هو المقروء، وهناك آيات وأحاديث تدل عَلَى أن هناك فرقاً، بين القُرْآن بمعنى القراءة، وبين القُرْآن بمعنى المقروء.
أنواع الوجودات
انتقل المُصْنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى التفريق بين الأعيان وبين المعاني أو الكلام من حيث وجودها أو ظرفيتها في الشيء كما عبر في آخر الكلام السابق، والمراد بهذه المعاني الأربعة؟
يقول: إن الحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي، والكلام هذا قد يبدوا أنه صعب لكنه في الحقيقة سهل وبسيط إن شاء الله.
فبين أن الأشياء لها عدة وجودات وجود عيني، ويعني به: وجود العين الحقيقية ذاتها، فمثلاً الجبل وجوده العيني هو المشار إليه عندما تقول: هذا جبل وهو أمامنا، ونحن عَلَى الطبيعة فوجوده هنا اسمه للوجود العيني، والوجود الآخر وجود ذهني، كأن أقول لك: أنا في ذهني جبل معين أتخيله وأتصوره، فهذا تصور ذهني لذات جبل ما، والوجود اللفظي هو عندما أقول: جبل، فأنا لم أقل: شجرة ولا زيد ولا عمرو، وإنَّما قلت: جبل.
وعندما أشير إليه وأقول: هذا جبل فأنا أقصد هذه الألفاظ أي: "جيم وباء ولام" حتى لا يشتبه عندك أني أقول مثلاً جمل، فوجوده هنا وجود لفظي، وهناك وجود آخر يسمى الوجود الرسمي، يعني: الرسم والخط والكتابة كأن أكون كتبت كلمة جبل، فأقول لك هذا جبل، معناه: هذا رسم أو شكل كلمة جبل.(1/701)
فنجد في كل إطلاق أن المعنى يختلف؛ لكن في المجموع الكلام كله صحيح وكله حقيقي، وليس فيه مجاز يقول: لكن الأعيان الحقيقية الخارجية تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فالكلام كأنه مر بأربع تعيينات في الوجود وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي وكتابتها في المصاحف هي المرتبة الرابعة.
يقول: [وأما الكلام، فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة؛ بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان] .
والمقصود أن الكلام ليس مخلوقاً متشخصاً قائماً بذاته نشير إليه، فنقول: هذا هو الكلام، وإن أشرت فلا بد أن أشير فقط إما إِلَى الوجود اللفظي الذي أتكلم به، وإما أن أشير إِلَى الوجود الرسمي الذي هو الكتابة أو الحروف، فأقول لك: هذا كلام فلان أي: هذا كلام فلان الذي نطق به، أو هو مكتوب، فلا واسطة بين هذا وذاك بوجود حقيقي بذاته، كما قال هاهنا في الأخيرة: إن الكتاب يذكر تارة ويراد به محل الكتابة، ويذكر تارة ويراد به الكلام المكتوب.
ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتابة، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، فعندما أريد أن أكتب (جبل) إما أن أرسمه -كلمة جبل اكتبها- فهذا عين موجود في الخارج، لكن لا يمكن أن نقول: إن كتابة الجبل أو كتابة السماء أو كتابة الأرض أو كون السماء أو كون الجبل في كتاب، معناه ذكر حقيقتها العينية، لا؛ بل نقطها وحروفها، أما الكلام فإن حقيقته هي التي تكتب يعني الكلام نفسه يكتب؛ لأنه ينطق به اللسان فيكتب في الكتاب كما هو فيطلق عَلَى المكتوب، ويطلق عَلَى المنطوق، فهذا واضح المخالفة للأعيان.(1/702)
وإذا قالوا: إنكم تقولون بالحلول فنقول: لا نقول به؛ لأن هناك فرقاً بين الأعيان والذوات المتعينة في الخارج وبين الكلام فالكلام هو اللفظ وهو المكتوب، وليس هناك وجود له خارجي متشخص، فإذا قلنا: كتبنا كلام فلان فيعني ذلك أننا نقلناه من لفظه الذي تكلم به إِلَى الواقع لكن الأعيان إذا قلت: كتبت الجبل أو كتبت السماء أو كتبت زيداً فمعنى ذلك أننا كتبنا اللفظ أو الاسم الذي يدل عَلَى زيد أو السماء أو الجبل، فكتبت الوجود الرسمي الذي عبرنا عنه بالوجود اللفظي، والذي هو في الحقيقة تعبير عن شخصية حقيقية موجودة.
فهم عندما يقولون: القُرْآن عبارة عن كلام الله وهذا المكتوب أو هذا الملفوظ ليس هو كلام الله وإنما كلام الله شيء أخر، فهم الذين تصوروا وافترضوا أن القُرْآن ذات متشخصة موجودة في الخارج، فلما أردنا أن نذكرها ونضعها في المصحف كتبنا وجودها اللفظي أو وجودها الرسمي، وهذا واضح البطلان، فإن القُرْآن أو الكلام بالجملة ليس له وجود عيني متشخص، وليس له ذات خارجية حقيقية، وإنما هو مباشرة من المتكلم إِلَى الورق، وهذا هو المقصود من هذه العبارات أيضاً.
وقفة مع قوله: ((وإنه لفي زبر الأولين))
إن المخالفين لعقيدة أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ الذين يقولون: إن القُرْآن مخلوق، ويقولون: لقد جَاءَ عن القُرْآن أنه في زبر الأولين، وأنه في رقٍ منشور، وأنه في لوح محفوظ، وأنه في كتاب مكنون، إذاً كيف تطلقون هذا وهو حلول.
فنقول: أنتم لا تفهمون معاني كلام الله عَزَّ وَجَلَّ، فالإطلاقات تختلف فكل إطلاق في كل موضع له معنى غير المعنى الذي أطلقناه عليه في الموضع الأخر.(1/703)
فقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء:196] لا يعني أن نفس الكلام والقرآن موجود في كتب الأولين أو في صحفهم أو في زبرهم، إنما معنى ذلك أنه يوجد فيها خبره وذكره كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عن نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل [الأعراف:157] وكذلك يجدون خبر القُرْآن مكتوباً عندهم في زبر الأولين، وفي صحف الأولين.
وأما كونه في رقٍ منشور، أو لوح محفوظ، أو كتاب مكنون، فيكون هنا بحسب العامل، ومعلوم في اللغة العربية أن الظرف يُقدر له عامل، فالعامل قد يكون عاما -الأفعال العامة- مثل الكون والاستقرار والحصول، فمثلاً إذا قلنا: مُحَمَّد في المسجد، أي: مُحَمَّد مستقر في المسجد، أو مُحَمَّد حاصل في المسجد، فغالباً كلمة "في" الظرفية تختلف بحسب العامل، فقد يكون العامل عاماً "الكون والاستقرار"، وهذا هو الغالب فبإمكانك في أي وقت من الأوقات تجد كلمة "في" أن تقدر: كائن أو يكون أو يستقر أو يحصل، وعلى كلا المعنيين ليس جائزاً أن تقدر متعلقاً عَلَى فعل الكون العام، فمثلاً تقول: القُرْآن في اللوح المحفوظ أي موجود ومستقر وحاصل وكائن في اللوح المحفوظ....الخ هذه حقيقة، فتقدر فعل أخص بأن تقول: القُرْآن مكتوب في اللوح المحفوظ أو في رق منشور هذا أيضاً معنى صحيح، إِلَى أن يقول: [أن الكتاب تارة يذكر ويراد به محل الكتابة] أي: ظرف الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب نفسه أو الكلام المقروء.
فمثلاً: إذا قلنا: أنهينا قراءة شرح العقيدة الطّّحاويّة أي أننا قرأنا الكلام الذي كتب في هذا الكتاب، وإذا قلت هذا هو كتاب العقيدة الطّّحاويّة وهذا شرح فلان للعقيدة، فمعنى ذلك: أنه المحل الذي يحوي هذا الكتاب وهو الظرف الذي حصل فيه.(1/704)
فَيَقُولُ: فالتفريق واجب بين كتابة الكلام في الكتاب وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، أما كتابة الكلام، فلا فرق بين اللفظ وبين الرسم، وأما كتابة الأعيان، فلا تكتب الحقائق ذاتها - الجبل - الشجرة- مُحَمَّد - حسين - عمرو- بمعنى لايوضع هو بنفسه في الورق، وإنما يكتب خبره أو رسمه أو أي معنى من هذه المعاني.
فالخلاصة: أن القُرْآن هو كلام الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الحقيقة، والله تَعَالَى تكلم بالتوراة، وتكلم بالإنجيل وبالقران وبالزبور ويتكلم بالأمر وبالنهي وبالخبر ويكلم من شاء كيف شاء في الماضي، والحاضر، والمستقبل فالأمر يعود إِلَى مشيئته وإرادته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وليس شيئاً من كلام الله مجازاً، ولا يطلق عَلَى القُرْآن في أي حالة من الحالات أنه مجاز، سواء كَانَ محفوظاً في الصدور، أو متلواً بالألسن، أو مكتوباً في الأوراق ولكن الإطلاقات تختلف.
ونرد عَلَى الذين يقولون: بأن هذا يقتضي الحلول بما سبق أن أوضحناه من اختلاف معنى الظرفية ومعنى الحالية واختلاف الإطلاقات التي تطلق عَلَى القرآن، فتارة يطلق عَلَى القراءة، وتارة عَلَى المقروء، وتارة يطلق عَلَى فعل العبد، وتارة عَلَى كلام الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولا معارضة بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في اللوح المحفوظ، وفي الكتاب المكنون، والرق المنشور، وبين كون الذي قرأه فلان أو الذي سمعه فلان، فهذه كلها عَلَى الحقيقة، وإنما تختلف من حال إِلَى حال بأن يكون المقصود في موضع خبره، وفي موضع كتابته، وفي آخر قراءته عَلَى المسموعة، وأمثال ذلك من الإطلاقات.
قال المصنفابن أبي العز:(1/705)
[وحقيقة كلام الله تَعَالَى الخارجية: هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه، فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه، والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يُقَالَ: ليس في المصحف كلام الله، ولا: ما قرأ القارئ كلام الله، وقد قال تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة: 6] وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله، والآية تدل عَلَى فساد قول من قَالَ: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تَعَالَى قال: حَتَّى يَسْمَعَ كَلام، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله، والأصل الحقيقية.
ومن قَالَ: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله، أو حكاية كلام الله، وليس فيها كلام الله، فقد خالف الكتاب والسنة، وسلف الأمة وكفى بذلك ضلالاً] اهـ.
الشرح:
حقيقة كلام الله تَعَالَى الخارجية هي ما يُسمعُ منه جل شأنه، أو من المبلغ عنه، مثلما يسمع منه جبريل -عَلَيْهِ السَّلام- أو سمع منه آدم أو الملائكة أو موسى أو نحو ذلك، ويُسمع منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بلا واسطة، أو يسمع عنه بواسطة المبلغ كما نقرأ القرآن، أو كما سمع النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القُرْآن من المبلغ الذي هو الروح الأمين جبريل عَلَيْهِ السَّلام.(1/706)
فالكلام هنا وهنا حقيقة ككلام الله تَعَالَى مسموع معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم، وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها وليس في شيء منها مجاز فهذه الفقرة لإيضاح أنه ليس فيه مجازاً، كما تقوله متأخرة الماتريدية والحنفية والأشعرية يقول المصنف: [والمجاز يصح نفيه] وهذه قاعدة مهمة وهي من أهم الأمور التي نستدل بها عَلَى إبطال المجاز، وأنه ليس في القُرْآن مجاز، وسيأتي إيضاحه إن شاء الله.
الرد على القائلين بالمجاز في كلام الله
إن البلاغيين الذين قالوا بالمجاز يعلمون أن أول من أحدثه وتكلم به هم المعتزلة بخلاف كلمة المجاز في لغة العرب قبل ذلك، فإنها تطلق بمعنى مكان العبور، أي: معبر تجوز منه وتعبر منه إِلَى مكان آخر، هذا أصله في اللغة.
ويقولون مثلاً: إذا دخل رجل كريم: دخل البحر، بمعنى الرجل الكريم أو الكثير العلم شبه بالبحر لكرمه أو لغزارة علمه، والمجاز يجوز نفيه، فيجوز أن يأتي أحدٌ ويقول هذا ليس بحراً، ولكنه رجل، وكلام هذا المعترض لنا صحيح، وكلام المتكلم صحيح مجازاً لكن كلام النافي صحيح وهذا هو الذي يهمنا؛ لأنه نفى ما قلته أنت عَلَى سبيل المجاز، وأثبت الشيء عَلَى حقيقته لأن هذا الرجل ليس بحراً، أي ليس ماءاً وإنما هو رجل.(1/707)
إذاً: المجاز يجوز نفيه، فهذه القاعدة يجب علينا أن نعرفها لنرد بها قول من يقول: إن في القُرْآن مجاز ولا سيما في آيات الصفات، فإذا جَاءَ أحد وقال في معنى قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] أن المعنى: نعمه وإفضاله، والقرينة الدالة عَلَى ذلك قوله تعالى: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] وهذه قرينة تدل عَلَى أن المقصود هو الإنفاق، وجاء آخر عَلَى مذهبهم، وقَالَ: ليس لله يدان، وهذا هو حقيقة مذهب الذين ينفون صفات الله عزوجل، لكن لو جَاءَ أحدٌ من علماء السلف من أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ وقال لنا معنى قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة: 64] أن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كريم ينفق كيف يشاء ويعطي ويتفضل عَلَى عباده، فنجد مثل هذا الكلام.
فيأتي المبتدعة ويقولون: إذاً لسنا نَحْنُ الذين أولنا، بل حتى -مثلاً- ابن جرير الطبري ومجاهد وعكرمة وابن عباس يقولون مثل قولنا.
فنقول لهم: لابد أن تعرفوا الفرق بين من نَظَرَ إِلَى معنى الآية بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة: 64] وأن: معناها الإنفاق والتكرم والإنعام، والتفضل، ولكن هل اعتبر ذلك مجازاً ونفى الصفة؟ هل ابن عباس ومجاهد والطبري نفو الصفة؟
الجواب: لا، إنهم لم ينفوا الصفة، أما أنتم فإنكم تعبرون بالمعنى عَلَى أساس أنه مجاز وتنفون الحقيقة فتقولون: ليس له يد.(1/708)