سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (3)
مسألة في الصفات
تأليف : الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي
تحقيق
عبدالله بن يوسف الجديع
نُشر هذا التحقيق في العدد الأول (ص 281)
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا من يهد الله , فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله , صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .
أمابعد :
فهذه الرسالة ( مسألة في الصفات ) تضمنت حكاية مسألتين :
الأولى : رواية للحفاظ الخطيب , مسألة من مسائل الإمام أبي عبد الله أحمد ابن حنبل في العقيدة في كلام الله عز وجل وإنكار قول الجهمية .
والثانية : فتوى للخطيب في مسألة الصفات , ذكر فيها جملة عقيدة السلف في صفات الله عز وجل , وقرر فيها أن طريقة السلف هي الطريقة الوسط , كما قرر القاعدة السلفية :
الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات , فأثبت الصفات مع التنزيه , وأبطل التأويل .
وأنكر على أهل البدع طعنهم على أهل السنة والأثر بسبب روايتهم الأحاديث في الصفات , وبيَّن وجوب رد المتشابه إلى المحكم , والإيمان جملة بكل ذلك , والتسليم له .
ثم أتى على تقسيم الأحاديث الواردة في الصفات إلى ثلاثة أقسام , من جهة القبول والرد , وبيَّن أن ما ثبت منها يجري مجرى ما ورد في القرآن من ذلك , على الإثبات , ونفي التشبيه .(1/1)
وهذه الصفة تثبت كون الحافظ الخطيب على اعتقاد السلف , أهل السنة والحديث ,لا كما زعم بعضهم , فألحقه بأصحاب الأشعري , وإن كان قوله في الإثبات إجمالاً يوافق قول الأشعري في " الإبانة " , حيث جرى فيها على ذلك , فهذا لا يصلح أن يكون حجة على إلحاقه به , فالإثبات مذهب السلف قبل وجود الأشعري , والخطيب إمام أهل الحديث في وقته , فإلحاقه بهم هو الواجب الذي لا ينبغي سواه .
بل إنك ترى في المسألة الأولى في هذه الرسالة ما يبرئ الخطيب كلية من كونه على مذهب الأشعري , من أجل كون قضية اللفظ بالقرآن من أبرز ما خرجت به الأشعرية عن عقيدة السلف , أهل السنة والحديث .
أسأل الله عز وجل لي ولك العصمة من الضلالة , ولا حول ولا قوة إلا به .
وكتبه أبو محمد عبد الله بن يوسف الجديع
***
هذه الرسالة
النسخة المعتمدة في التحقيق :
اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة النسخة الوحيدة المحفوظة في دار الكتب الظاهرية بدمشق , ضمن مجموع رقم : (16) .
تحقيق القول في نسبة الرسالة للخطيب :
تضمّنت الرسالة مسألتين ـ كما ذكرت في الافتتاح ـ
الأولى : من رواية الحافظ ابن ناصر السلامي بإسناده إلى الخطيب رواية , والثانية : من رواية أبي طالب الصيرفي بإسناده على الخطيب من كلامه , وراوي النسخة التي اعتمدتها عنهما لم يتعين لي ؛ لأنها اتصلت برسالة (اعتقاد السنَّة ) للإسماعيلي , وكانت تلك من رواية الإمام موفق الدين ابن قدامة
ضمن جماعة آخرين من الأئمة , وقد وقعت رواية ابن قدامة للمسألة الثانية من هذه الرسالة في كتابه " ذم التأويل " (النص :15) كما رواه من طريقه الذهبي في " العلو "(ص: 185) عن أبي طالب الصيرفي بإسناده , وذكر جزءاً منها .
فاحتمل أن تكون من روايته احتمالاً قوياً .
وفي السماعات المثبتة ما يبين هذه الرسالة من رواية أبي الحسن علي بن أبي عبد الله بن علي المقَيَّر البغدادي , بإجازته من الحافظ ابن ناصر , ومن أبي طالب الصيرفي .(1/2)
وابن المقَيَّر هذا مسند مكثر صالح .
وقد سمع الرسالة عليه جماعة بتاريخ : السابع من شعبان سنة ( 633 هـ )
ولا بن المقَيَّر بالرسالة إجازة أيضاً عن ابن المعالي الفضل بن سهل الإسفراييني , بإجازته عن الخطيب , كما في السماع آخر النسخة .
قلت : وأبو المعالي هذا صحيح السماع , لكنه اتهم بالكذب في لهجته(1) .
وهناك سماع آخر لجماعة , مؤرخ في : يوم السبت تاسع وعشرين من ذي الحجة سنة (730 هـ )
على الشيخة الصالحة أم عبد الله زينب بنت أحمد بن عبد الرحيم الصالحية , بإجازتها من الشيخة المسندة الفاضلة عجيبة بنت محمد بن أبي غالب الباقداري البغدادية , بإجازتها من أبي الفرج مسعود بن الحسن الثقفي , بإجازته من الخطيب .
وهذا إسناد ثالث للرسالة , لكنه ضعيف ؛ لأنهم تكلموا في إجازة الخطيب للثقفي ووهنوها (2) .
وفيما تقدم غنية في إثبات صحة هذه الرسالة عن الخطيب .
وقد تابع الحافظ أبو طاهر السلفي أبا طالب الصيرفي , فروى المسألة الثانية عن الزعفراني .
أخرج ذلك الذهبي في " سير أعلام النبلاء " : (18/283 ـ 284) و " تذكرة الحفاظ " : (3/1142 ـ 1143) وذكر المسألة إلى قوله ? كُفُوًا أَحَدٌ ? .
اسم الرسالة :
لم تسم الرسالة في أصلها المعتمد , فسميتها بمضمونها وابتداء جواب الخطيب : " أما الكلام في الصفات ... " .
التعليق على الرسالة :
لم أخل حواشي الرسالة من تعليق اقتضاه المقام , من تعريف برواتها وحكم على إسناد وتنبيه على فائدة , وإليك نصها .
***
نص الرسالة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
__________
(1) سبر أعلام النبلاء : (20/226) .
(2) انظر سير أعلام النبلاء :(18/285, 30/470) .(1/3)
أخبرنا الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي البغدادي(1) , قال : أخبرنا أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي(2) قراءة عليه , وأنا اسمع , في شوال سنة أربع وتسعين وأربع مئة , أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب :
أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى البزار(3) ـ بهمذان ـ حدثنا صالح بن أحمد الحافظ (4) , قال : سمعت عبد الله بن إسحاق بن سيامرد (5) يقول :
التقيت مع المروذي (6) لي بطرسوس , فقلت له : يا أبا بكر , كيف سمعت أبا عبد الله يقول في القرآن ؟ .
قال : سمعت أبا عبد الله (7) يقول :
القرآن كلام الله غير مخلوق , فمن قال : ( مخلوق ) , فهو كافر.
قلت : كيف سمعته يقول فيمن وقف ؟
قال : هذا رجل سوء , وأخاف أن يدعو إلى خلق القرآن .
__________
(1) المعروف بـ " السلامي " : (467 ـ 550 هـ) ثقة حافظ متقن , صاحب سنة , زاهد , وقد كان أشعرياً أول مرة , ثم انتقل إلى مذهب أهل السنة والحديث . ترجمته في سير أعلام النبلاء : (20/265) .
(2) يعرف بـ " ابن الطيوري " (411 ـ 500 هـ ) بغدادي ثقة ثبت , صحيح الأصول , مع استقامة في الدين , وحسن خلق , ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (19/213) .
(3) الهمذاني : (354 ـ 431 هـ) صدوق ثقة , رجل صالح , ترجته في سير أعلام النبلاء : (17/563) .
(4) التميمي الهمذاني: (303 ـ 384 هـ ) ثقة حافظ ثبت مصنف , ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (16/518) .
(5) النهاوندي , أبو عبد الرحمن قال الحافظ صالح بن أحمد : " سمعت منه مع أبي , وكان ثقة هيوباً ذا سنة , يحفظ ويذاكر , قدم علينا في سنة ثمان عشرة وثلاث مئة " .
(6) هو أحمد بن محمد بن الحجاج , أبو بكر , (000 ـ 275 هـ ) بغدادي إمام قدوة , رأس في الذب عن السنة والدعوة إليها, وهو أخص أصحاب الإمام أحمد به , ورأس طبقتهم , ولم يكن أحمد يقدم عليه أحداً . ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (13/173) .
(7) يعني أحمد بن حنبل .(1/4)
قلت له : يا أبا بكر , كيف سمعت أبا عبد الله يقول في اللفظ ؟
قال : من قال : لفظه في القرآن مخلوق فهو جهمي .
قلت أنا له : وأيش الجهمي (1) ؟ .
قال : شك في الله أربعين صباحاً (2) .
قلت : من شك في الله فهو كافر .
قال : نعم (3)
__________
(1) أي : من الجهمي الذي تنسب إليه هذه المقالة ؟ .
(2) روى عبد الله بن أحمد في " السنة " : (رقم 189 ) , بإسناد صحيح عن يزيد بن هارون قال :
" لعن الله الجهم ومن قال بقوله , كان كافراً جاحداً ترك الصلاة أربعين يوماً , يزعم أنه يرتاد ديناً وذلك أنه شك في الإسلام " .
قلت : والجهم بن صفوان رأس البدعة وإمام الضلالة , قبحه الله .
(3) إسناد هذه المسألة صحيح عن الإمام أحمد وأراد بمن وقف من يقول : ( القرآن كلام الله ) ويسكت , فلا يقول ( مخلوق) ولا (غير مخلوق) , وقد كان هذا يغني قبل ظهور بدعة القرآن , أما بعد ظهورها وانتشارها فلا يجوز السكوت , لما يجب من رد البدعة , وإظهار السنة , كما أن الساكت ربما أضمر اعتقاد الجهمية , فإنهم يقولون : ( القرآن كلام الله ) , وبدعتهم إنما هي بقولهم ( مخلوق ) , فإذا لم ينفها , فما الذي يميزه عنهم ؟ .
وأما قضية اللفظ , فإنما جهّم الإمام أحمد من يقول بها ؛ لأن أصحاب الضلالة بعد أن كشف الله عز وجل باطلهم فروا من القول ( القرآن مخلوق ) , يريدون به القرآن , وهو الإعتقاد الذي صارت إليه الأشعرية , حيث فروا من بدعة المعتزلة الصريحة إلى بدعة موهمة خلافاً لغيرهم , ذلك لأن الأشعرية يوافقون المعتزلة في أن القرآن العربي الذي يعرفه الخاصة والعامة , المؤلف من الحروف , المفتتح بالفاتحة والمختتم بالناس مخلوق , وهو مرادهم باللفظ , وغير المخلوق إنما هو معنى قائم في نفس الله , ليس بحروف وآيات .
وأنت ترى الإمام أحمد رحمه الله أنكر هذه البدعة , وهي في مهدها , قبل أن يوجد الأشعري .
وقد فصلت ذلك وبينته في كتابي " العقيدة السلفية في كلام رب البرية " فارجع إليه .(1/5)
.
***
أخبرنا الشيخ أبو طالب المبارك بن علي الصيرفي (1) ـ إذناً ـ قال : أخبرنا أبو الحسن محمد بن مرزوق بن عبد الرزاق الزعفراني (2) لي ـ قراءة عليه ـ وأنا اسمع في ربيع الأول من سنة ست وخمس مئة , قال : أخبرنا الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي البغدادي قال :
كتب إلي بعض أهل دمشق يسألني عن مسائل ـ ذكرها , ـ فأجبته عن ذلك ـ وقرأه لنا في جواب ما سئل عنه ـ فقال :
وقفت على ما كتب به الشيخ الفاضل , أدام الله تأييده وأحسن توفيقه وتسديده , وسكنت إلى ما تأدى إلي من علم أخباره , أجراها ... (3) لي على آثاره , وأجيبه بما أرجو أن يقع وفاق اختياره , وأسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق , لإدراك صواب القول والعمل , بمنه ورحمته .
أما الكلام في الصفات :
فإن ما رُوي منها في السنن والصحاح مذهب السلف ـ رضوان الله عليهم ـ إثباتها , وإجراؤها على ظواهرها , ونفي الكيفية والتشبيه عنها .
وقد نفها قوم , فأبطلوا ما أثبته الله سبحانه , وحققها من المثبتين قوم ,فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف .
والقصد إن ما هو سلوك الطريقة المتوسطة بين الأمور , ودين الله بين الغالي فيه والمقصر عنه .
والأصل في هذا :
أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات , ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله , فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل هو إثبات وجود ,لا إثبات كيفية , فكذلك إثبات صفاته , إنما هو إثبات وجود , لا إثبات تحديد وتكييف .
__________
(1) يعرف بـ " ابن خضير " (483 ـ 517 هـ ) . بغدادي صدوق مكثر , رجل صالح . ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (20/487) .
(2) الجلاب (442 ـ 517 هـ ) . بغدادي فقيه , محدث ثبت , ترجمته في : سير أعلام النبلاء : (19/471) .
(3) قدر كلمة لم أتمكن من قراءته .(1/6)
فإذا قلنا : لله تعالى يد , وسمع وبصر , فإن ما هي صفات أثبتها الله تعالى لنفسه , ولا نقول : إن معنى اليد : القدرة , ولا معنى السمع والبصر : العلم , ولا نقول : إنها جوارح , ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح , وأدوات للفعل .
ونقول : إنما وجب إثباتها ؛ لأن التوقيف (1) ورد بها , ووجب نفي التشبيه عنها ,لقوله تبارك وتعالى: ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ? [ الشورى : 11] وقوله عز وجل : ? وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ? [الإخلاص : 4] .
ولما تعلق أهل البدع على عيب أهل النقل برواياتهم هذه الأحاديث , ولبسوا على من ضعف علمه , بأنهم يروون ما لا يليق بالتوحيد , و لا يصح في الدين , ورموهم بكفر أهل التشبيه , وغفلة أهل التعطيل , أجيبوا بأن في كتاب الله تعالى آيات محكمات , يفهم منها المراد بظاهرها , وآيات متشابهات , لا يوقف على معناها إلا بردها إلى المحكم , ويجب تصديق الكل والإيمان بالجميع , فكذلك أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - جارية هذا المجرى , ومنزلة على هذا التنزيل , يرد المتشابه منها إلى المحكم , ويقبل الجميع .
فتنقسم الأحاديث المروية في الصفات ثلاثة أقسام :
منها : أخبار ثابتة أجمع أئمة النقل على صحتها ؛ لاستفاضتها وعدالة نقلتها , فيجب قبولها والإيمان بها , مع حفظ القلب أن يسبق إليه اعتقاد ما يقتضي تشبيه الله بخلقه , ووصفه بما لا يليق به من الجوارح والأدوات , والتغير والحركات .
والقسم الثاني :أخبار ساقطة بأسانيد واهية , وألفاظ شنيعة , أجمع أهل العلم (بـ) النقل على بطولها , فهذه لا يجوز الاشتغال بها , ولا التعريج عليها .
__________
(1) أي : نصوص الكتاب والسنة الصحيحة .(1/7)
والقسم الثالث : أخبار اختلف أهل العلم في أحوال نقلتها , فقبلها البعض دون الكل , فهذه يجب الاجتهاد والنظر فيها ؛ فإني لم أشتغل بها , ولا تقدم مني جمع لها , و لعل ذلك يكون فيما بعد , إن شاء الله (1) .
***
__________
(1) إسناد هذه المسألة صحيح إلى الحافظ الخطيب .(1/8)